على نفسه الرحمة لعباده، وأوجب عليهم في مقابلتها الشكر لما أفاضه عليهم من نعم الخلق والقوى والقدر وغير ذلك، كذلك جعل بين ذوي اللحمة سب أأوجب به على الأعلى رعاية الأدنى، وعلى الأدنى توقير الأعلى، فصار بين الرحم والرحمة مناسبة معنوية ولفظية، ولذا عظم شكر الوالدين وقرنه بشكره، فقال: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ} [سورة لقمان، الآية: 14] تنبيها على أنهما السبب الأخير في الوجود. قال الطيبيئ: والتحقيق فيه أنّ العرش منصة لتجلي صفة الرحمانية قال تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [سورة طه، الآية: 5] ولما كان للرحم تعلق باسم الرحمة جعلها عند العرس الذي هو منصة الرحمة. قوله: (حافظاً مطلعاً (لأنه من رقبه بمعنى حفظه كما قاله الراغب، أو اطلع ومنه المرقب للمكان العالي الذي يشرف عليه ليطلع على ما دونه. قوله: (أي إذا بلغوا الخ) قيده به لما سيأتي في قوله:
{فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [سورة النساء، الآية: 6] وقوله: الذي مات أبوه هذا أصل معناه لغة لانفراده، وجمع على يتامى وان لم يكن فعيل يجمع على فعالى بل على فعال وفعلاء وفعل وفعلى، نحو كرام وكرماء ونذر ومرضي، فهو إمّا جمع يتمي جمع يتيم إلحاقا له بباب الآفات والأوجاع فإنّ فعيلا فيها يجمع على فعلى ووجه الشبه ما فيه من الذل والانكسار المؤلم، وقيل لما فهي من سوء الأدب المشبه بالآفات كما جمع أسير على أسرى ثم على أسارى بفتح الهمزة أو هو مقلوب يتائم فإن فعيلا الاسمي يجمع على فعائل كأقيل وأقائل، وقل ذلك في الصفات لكن ييم جرى مجرى الأسماء كصاحب وفارس، ولذا قلما يجري على موصوف ثم قلب، فقيل يتامى بالكسر ثم خفف بقلب الكسرة فتحة فقلبت الياء ألفا وقد جاء على الأصل في قوله:
" طلال حسن في البراق اليتائم
قوله: (والاشتقاق يقتضي وقوعه الخ (لانفراده عن أبيه، وعرف اللغة خصه بمن لم يبلغ،
وفي الكشاف من استغنى عن الكافل، ومراده البلوغ أيضا لكته خرج مخرج الغالب، والا يلزم أن يسمى من كبر مجنونا " يتيما، وقد تردد فيه بعضهم لكن جزم النحرير بعدمه، وأما قوله صلى الله عليه وسلم " لا يتم بعد البلوغ " فليس لتعليم اللغة بل الشريعة فلا يدل على عدم الإطلاق لغة أما عدم الإطلاق شرعا وعرفا فمما لا نزاع فيه، والآية بظاهرها تقتضي إما إطلاق اليتامى على الكبار أو إثبات الأحكام للصغار، فاحتاجت إلى التوجيه، فذهب صاحب الكشاف إلى التجوّز في الإيتاء باستعماله في لازم معناه وهو تركها سالمة لأنها لا تؤتي إلا إذا كانت كذلك، أو أن اليتامى بمعناه اللغوي الأصلي فهو حقيقة، وارد على أصل اللغة، فما قيل اللفظ إذا نقل في العرف يكون في أصله مجازاً وهو هنا كذلك، فلا مقابلة بينه وبين الاتساع إلا أنّ العلاقة في الاتساع الكون، وفي هذا الإطلاق والتقييد غفلة عما تقرّر في المعاني، أو مجاز باعتبار ما كان أوثر لقرب العهد بالصغر والإشارة إلى وجوب المسارعة إلى دفع أموالهم إليهم حتى كان اسم اليتيم باق بعد غير زائل، وهذا المعنى يسمى في الأصول بإشارة النص، وهو إن يساق الكلام بمعنى وبضمن معنى آخر وهذا في الكون نظير المشارفة في الأول، ومنه علم انقسامهما إلى قسمين، وفي قوله: قبل أن يزول عنهم هذا الاسم أي قبل أن يتحفق زواله، والا فقبل زواله لا يؤتى.
قوله: (أو لغير البلغ والحكم مقيد فكأنه الخ) رد هذا بأنه قال في التلويح أنّ المراد من قوله تعالى: {وَآتُواْ الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ} وقت البلوغ فهو مجاز باعتبار ما كان فإن العبرة بحال النسبة لا مجال التكلم، فالورود للبلغ على كل حال، ومثله قول الآخر تقديرا لقيد لا يغني عن التجوّز إذ الحكم على ما عبر عنه بالصفة يوجب اتصافه بالوصف حين تعلق الحكم به وحين تعلق الإيتاء له لا يكون يتيما فلا بد من تأويله بما مرّ.
(قلت) هذه المسألة وان كانت مذكورة في التلويح لكنها ليست مسلمة وقد تردّد فيها الشريف في حواشيه، والتحقيق أنّ في مثله نسبتين، نسبة بين الشرط والجزاء وهي التعليقية وهي واقعة الآن ولا تتوقف على وجودهما في الخارج، ونسبة إسنادية في كل من الطرفين وهي غير واقعة في الحال بل مستقبلة، والمقصود الأولى وفي زمان تلك النسبة كانوا يتامى حقيقة ألا تراهم قالوا في نحو عصرت هذا الخل في السنة الماضية أنه حقيقة مع أنه في حال العصر عصير لا خل لأنّ المقصود النسبة التي هي تبعية فيما بين اسم الإشارة وتابعه لا النسبة الإيقاعية بينه وبين العصير، كما حققه بعض الفضلاء، وقد مر تحقيقه في أوائل البقرة فتأمله فإنه من معارك الإفهام(3/97)
ومزالق الإقدام، وقد ترك المصنف رحمه الله تأويل الإيتاء بالحفظ، وقال في الإنصاف إنه أقوى لقوله بعد آيات: {وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى حَتَّىَ إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ} الخ فإنه يدل على أنّ الآية الأولى في الحض على حفظها لهم ليؤتوها عند بلوغهم ورشدهم، والثانية في الحض على الإيتاء الحقيقي عند حصول البلوغ والرشد، ويقويه أيضا قوله عقب الأولى: {وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ} الخ فهذا كله تأديب للوصي ما دام المال في يده، وأما على التأويل الآخر فمؤدي الآيتين واحد، لكن الأولى مجملة والثانية مبينة لشرط. قوله: (ما روي أنّ رجلاَ من غطفان الخ) تتمته كما في الكشاف فدفع ماله إليه فقال صلى الله عليه وسلم: " ومن يوق شح نفسه ويطع ربه هكذا فإنه يحل داره " يعني ج! هـ فلما قبض الفتى ماله أنفقته في سبيل الله فقال عليه الصلاة والسلام: " ثبت الآجر وبقي الوزر " قالوا: يا رسول الله قد عرفنا أنه ثبت الآجر فكيف بقي الوزر وهو ينفق في سبيل الله فقال: " ثبت أجر النلام وبقي الوزر على والده " وهذا رواه الثعلبي عن مقاتل والكلبي ووزر. بأنّ كسبه من غير حله أو منع حقوق الله: أو المراد بالوزر حسابه والأجر إنما يكون إذا لم يكن مغصوباً علم صاحبه، ووجه التأييد أنها نزلت في البلغ كما ترى ومو الوجه الأول. قوله: (ولا تستبدلوا الحرام من أموالها بالحلال من أموالكم الخ) يعني المراد بالخبيث
الحرام وبالطيب الحلال، لكن المراد على الأوّل لا تأكلوا ذلك الحرام الذي هو مال اليتيم مكان الحلال من أموالكم، فليس المراد في هذا الوجه أخذ مال اليتيم واعطاء ماله، بل أكل مال اليتيم، وترك ماله على حاله فالطيب حينئذ هو أكل ماله الذي تركه بحاله وفي الوجه الثاني هو حفظ مال اليتيم فاختلف الطيب والخبيث في الوجهين، فالتفعل بمعنى الاستفعال كالتعجل والاستعجال، قال الزمخشريّ: وهو غير عزيز والاختزال بإعجام الخاء والزاي الاقتطاع. قوله: (وقيل لا تأخذوا الرفبع من أموالهم وتعطوا الخسيس مكانها) وهذا تبديل، وليس بتبدل وفي الكشاف وقيل: هو أن يعطي رديئا ويأخذ جيداً وعن السدي أن يجعل شاة مهزولة مكان سمينة، وليس هذا بتبدل وإنما هو تبديل إلا أن يكارم صديقا له فيأخذ منه عجفاء مكان سمينة من مال الصبي، اص. وهذا المقام مما كثر فيه الكلام فهل الإبدال والتبدل والتبديل والاستبدال بينها فوق في المعنى، والاستعمال أم لا فقيل التبديل تغيير الشيء مع بقاء عينه، والإبدال رفع الشيء ووضمع غيره مكانه، فإذا استعملت بالباء دخلت على المتروك، وقيل: الباء تدخل على المأخوذ في التبديل، وحكي في الاستبدال خلاف، وقال المحلي إنها في الإبدال تدخل على المأخوذ في الاستعمال العرفي، وقال الدميري: في التبديل الباء تدخل على المتروك، لكن حكى الواحدي أنها تدخل على المأخوذ ويشهد له قوله الطفيل لما أسلم:
وبدل طالعي نحسي بسعدي
قال النحرير: وللتبديل استعمال آخر يتعذى إلى المفعولين بنفسه كقوله: {يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} [سورة الفرقان، الآية: 70] والى المذهوب به المبدل منه بالباء كقوله: {وَبَدَّلْنَاهُم بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ} [سورة سبأ، الآية: 6 ا] وآخر يتعدى إلى مفعول واحد، نحو بدلت الشيء أي غيرته ومنه: {فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ} [سورة البقرة، الآية: 81] وقال المدقق في الكشف أنّ حاصل الفرق أنه إذا قيل تبدل الكفر بالإيمان، أريد اتخذ الكفر بدله، فالمأخوذ هو ما عدى إليه الفعل بلا واسطة، وإذا قيل بدله به أريد غيره به، فالحاصل ما أفضى إليه الفعل بالباء، كما قال في تفسير قوله تعالى: {لاَّ مُبَدِّلِ لِكَلِمَاتِهِ} [سورة الأنعام، الآية: 15 ا] لا أحد يبدّل شيئا من ذلك بما هو أصدق، ونقل الأزهري عن ثعلب بدلت الخاتم بالحلقة إذا أذبته وجعلته حلقة، وبدلت الحلقة بالخاتم إذا أذبتها وجعلتها خاتماً، وأبدلت الخاتم بالحلقة إذا نحيت هذا وجعلت هذا مكانه، وحقيقته أنّ التبديل تغيير صورة إلى أخرى، والإبدال تنحيته فاتفقا على دخول الباء على الحاصل، عكس التبدل والاستبدال وعن المبرّد أنه استحسنه لما نقله إليه الزاهد وزاد عليه أنه يستعمل بمعنى الإبدال أيضا، ومنه يظهر أنّ من زعم أنّ التبديل أعم من التبدل لأن الثاني تغيير خاص، فقد وهم، فإن قلت فقد أعضل عليك قوله تعالى: {وَبَدَّلْنَاهُم بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ} [سورة سبأ، الآية: 6 ا] قلت الكلام فيما إذا كانت الباء صلة ثانية للفعل أما إذا تعدى بنفسه إلى العوضين كما في قوله تعالى:
{فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} [سورة الفرقان، الآية: 70] أو إلى العوض وصاحبه كما في قوله: {أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا} [سورة الكهف، الآية: 81] فليس مما تحل فيه لا قضاء الفعل إلى الماخوذ بلا واسطة، وخروج الباء(3/98)
عن التكميل، فإن ذكوت لبيان المعوّض عنه فباء المقابلة تصلح للمأخوذ والمتروك، واعتبر بقولك بعت هذا بدرهم، وجواب مخاطبك اشتريت به، فالدرهم مأخوذك ومتروك مخاطبك، وظهر من هذا أنّ بدل له ثلاث استعمالات، بدلت الخاتم بالحلقة وهو المبحث، وبدلت الخاتم حلقة إذا جعلت الحلقة بدله، وبدلت زيداً خاتماً بثوب إن أعطيته الخاتم بدلاً عن الثوب، فاعتبره واستبصره، ثم إنّ كلامه اعتراض على قول السدي، وما قبله لأن المتروك عنده الخبيث وهو المهزول، أو الرديء وتركه على المكارمة مع الصديق بأن يكون للصبي دين على صديق الولي فيأخذ الوليّ منه رديئا مكان جيد مكافأة له على سابق صنع له أو إثابة تصحيحا لهما، والأشبه أنّ الكلام على إطلاقه، وإذا أعطى رديئاً وأخذ جيدا من مال الصبيّ يصدق أنه تبدل الجيد بالرديء للصبي وبدل لنفسه، وظاهر الآية أنه أريد البدل للصبي، لأنّ الأولياء هم المتصرفون في أموالهم فنهوا عن بغ بوكس من أنفسهم ومن غيرهم وما ضاها ولا يضر أنه تبدل لنفسه أيضا باعتبار آخر، لأن المتبادر إلى الفهم النهي عن تصرف لأجل الصبي ضارّ سواء عامل الولي نفسه أو غيره، واشتبه على المصنف للغفول عن اختلاف الاعتبار، فأوّله بما لا إشعار للفظ به، فإن ذهب إلى التأويل لا محالة، فالأولى أن يقال المهزول هو الطيب والسمين هو الخبيث ضربه مثلاً للحرام والحلال اهـ، وهذا زبدة الكلام في هذا المقام فاختر لنفسك ما يحلو، والرفغ بمعنى النفيس، وأصل معناه العالي المرتفع وإنما ضعفه كما مرّ وأشار إليه لدخول الباء على المأخوذ وهو شأن التبديل لا التبدّل وقد عرفت ما فيه. قوله: (ولا تثلواها مضمومة إلى أموالكم الخ (يعني أنّ إلى التقدير متعلقه مضمومة وهو يتعذى بإلى، أو لتضمين اكل معنى الضم، وقيل: إلى بمعنى مع وفي الكشف لو حمل الانتهاء في إلى على أصله على أن النهي عن أكلها مع بقاء مالهم كأنّ أموالهم جعلت غاية لحصلت المبالغة، والتخلص عن الاعتذار وهذا ما ارتضاه الفراء في تفسيره، وقال: لا تكون إلى بمعنى مع إلا إذا ضم شيء إلى آخر كقوله: لذود إلى الذو ابل، وقد مرّ وفسر ا! ل بالإنفاق إشارة إلى أن المراد به الانتفاع والتصرف فعبر عنه بأغلب أحواله، وقوله: {ولا تسووا بينهما} إشارة إلى أن المراد بالمعية مجرد التسوية بينهما في الانتفاع أعم من أن يكون على الانفراد، أو مع ماله فهو جواب عن السؤال الواقع في الكشاف المجاب عنه ثمة بأن المعية تدل على غاية قبح فعلهم حيث أكلوا أموالهم مع الغني عنها تقبيحاً لما كانوا عليه فلا يلزم القائل بمفهوم المخالفة جواز أكل أموالهم وحدها، والسؤال لا يرد إذا فسر تبدل الخبيث بالطيب
باستبدال أموال اليتامى بماله وأكلها مكانه فإنه يكون نهبا عن أكلها وحدها وهذا عن ضمها، وليس الأوّل مطلقاً حتى يرد سؤال بأنه أي فائدة في هذا بعد ورود النهي المطلق. قوله: (الضمير لدل الخ) وقيل للتبدل وقيل لهما، وقوله: ذنبا عظيماً فسر الكبير بالعظيم، وهذا لا ينافي ما قيل إن العظيم فوق الكبير إما لأن الكبير بمعناه عنده أو أن تنكيره للتعظيم والحوب الذنب العظيم، وقيل: هو مطلق الذنب، ويكون بمعنى الوحشة والصعب. قوله: (أي {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ} الخ) تفسيره بما ذكر لبيان الربط بين الشرط والجزاء، وقدم هذا الوجه لأنه أرجح مما بعده لمناسبة ما قبله وما بعده، وارتباط الشرط بالجزاء أتم إرتباط، والقرينة على أن المراد من لا تقسطوا في اليتامى المتزوّج بهن، الجواب فإنه صريح فيه والربط يقتضيه، وتفسير النساء بغير اليتامى لدلالة المعنى واشارة لفظ النساء وقوله: (طاب لكم طاب) يكون بمعنى مالت له النفس واستطابته، وبمعنى حل وبالثاني فسره الزمخشريّ وظاهر تصريح المصنف به في الثالث أنه فيما قبله بالمعنى الأوّل، وفسره الزمخشري فيها بالحل، واعترض عليه الإمام بأنه في قوّة أبيح المباح، وأيضا يلزم الإجمال حيث لا يعلم المباج من الآية، وآثر الحمل على المستطاب، ويلزم التخصيص وجعله أولى من الإجمال، وأجاب في الكشف بأن المبين تحريمه في قوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [سورة النساء، الآية: 23] الخ إن كان مقدم النزول فلا إجمال لأن المعنى فانكحوا ما بين لكم حله ولكنه مقيد بالعدّة المخصوصة فليس في قوّة أبيح المباح لإفادة الزيادة ولا إجمال ولا تخصيص، وتعريف الموصول للعهد وألا فالإجمال المؤخر بيانه أولى من التخصيص بغير المقارن لأنّ تأخير بيان المجمل(3/99)
جائز دون بيان التخصيص عتد أكثر الحنفية، والأمر لو كان للإباحة لا يلغو معه طاب إذا كان بمعنى حل لأنه يصير المعنى أبيح لكم ما أبيح هنا لأنّ مناط الفائدة القيد وهو العدد المذكور، وقيل: إنه للوجوب أي وجوب الاقتصار على هذا العدد، وقوله: أن يتحرّج من الذنوب أي يبعد ويخرج
منها يقال تحرّج إذا فعل ما يخرج به من الإثم والحرج وقوله: {فخافوا} الخ لم يقل لقبحها كما في الكشاف لإيهامه الاعتزال والقول بالحسن والقبح العقليين وان احتمل الشرعي، والوجه الثالث أبعدها، ولذا أخره ولكن قرينة الحال توضح ربطه كما أشار إليه، وفظيره ما إذا داوم على الصلاة من لا يزكي يقول له إن خفت الإثم من ترك الصلاة فخف ترك الزكاة، ويتامى جمع يتيمة، وأصله يتائم، ولا كلام فيه وتركه المصنف رحمه الله هنا اكتفاء بما مرّ.
قوله: (وإنما عبر عنهن بما ذهاباً إلى الصفة الخ) ما تختص أو تغلب في غير العقلاء،
وهو فيما إذا أريد الذات أما إذا أريد الوصف فلا كما تقول ما زيد في الاستفهام، أي أفاضل أم كريم وكرم ما شئت من الرجال، يعني الكريم أو اللثيم ونحو.، كما ذهب إليه العلامة والسكاكي وغيرهما وان أنكره بعضهم والمراد بالوصف هنا ما أريد ثمّ من البكر والثيب، أو ما لا حرج ولا تضييق في تزوجها، وقد خفي معنى الذهاب إلى معنى الصفة هنا على من قال: المراد الوصف المأخوذ من المذكور بعدما إذ معنى ما طاب الطيب، وهو صادق على العاقل وغيره، والسؤال لا يسقط به وقوله: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} ذهاباً للوصف ولكون المملوك لبيعه وشرائه، والمبيع كثره ما لا يعقل كان التعبير بما فيه أظهر، وقوله: وقرئ {تُقْسِطُواْ} الخ قسط يقسط قسوطا جار ومنه قوله تعالى: {وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا} [سورة الجن، الآية: 5 ا] وأقسط يقسط ضدّه بمعنى عدل ومنه قوله تعالى: {إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [سورة المائدة، الآية: 42] فإن قرئ من الثلاثيّ فلا مزيدة وهو ظاهر. قوله: (معدولة عن أعداد مكرّرة الخ) هذه الصيغ ممنوعة من الصرف على الصحيح وجوز الفراء صرفها وفي سبب منعها أقوال. أحدها: مذهب سيبويه والخليل أنه العدل والوصف، وأورد عليه أنّ أسماء العدد الوصفية فيها عارضة وهي لا تمنع الصرف، وأجيب بأنها وان عرضت في أصلها فهي نقلت عنها بعد ملاحظة الوصف العارض! فكان أصليا في هذه دون أصلها وفيه نظر.
الثاني: قول الفراء إنها منعت للعدل والتعريف بنية الألف واللام ولذا لم تجز إضافتها
ولا دخول أل عليها.
الثالث: أنها معدولة عن اثنين اثنين وثلاثة ثلاثة فعدلت عن ألفاظ العدد وعن المؤنث
إلى المذكر ففيها عدلان: وهما سببان، والرإبع أنه مكرّر العدل لأنه عدل عن لفظ اثنين، ومعنا. لأنها لا تستعمل في موضح يستعمل فيه إذ لا تلي العوامل وإنما تقع بعد جمع معنى إما
خبراً أو حالاً أو وصفاً، وشذ أن تلي العوامل، وأن تضاف وقوله وقيل لتكرير العدل هو مذهب الزمخشريّ، وردّه أبو حيان بأنه لم يقل به أحد من النحاة، وليس من المذاهب الأربعة في شيء، وأجيب بأنه المذهب الرابع، وهو منقول عن ابن السراج، فلا وجه لقول أبي حيان لم يقل به أحد، ولو قال لا نظير له صح، وأشار المصنف رحمه الله لضعفه من غير بيان لوجهه وتكراره بخروجه عن وزنه وافراده بوزن آخر مكرّر معناه، وعبر عن العدل في المعنى بعدلها عن تكرارها، وقريب منه ما ذكره النحرير. قوله: (منصوبة على الحال من فاعل طاب) وهو ضمير ما، ويعلم منه جواز الحالية منها، وقد مرّ أنه لا يباشر العوامل ولا يضاف، ولم يسمع من العرب إدخال الألف واللام عليه، كما صرح به أبو حيان رحمه الله وخطأ الزمخشري في قوله: تنكح المثنى والثلاث والرباع، ولذا قال النحرير إنه لا بد للزمخشريّ من إثباته والاستشهاد عليه، والقول بأنه غفلة غفلة، ولهذا ذهب بعض النحاة إلى أنه معرفة، فلا يكون عنده حالاً، وقوله: بين هذه الأعداد أي بعضها لا مجموعها، والمراد المعدودات وذروا الجمع أي اتركوا الجمع بين النعحماءالحرائر، والمقنع ما يقنع، ويكتفي به وهو بفتح الميم مصدر، وبمعنى الرضا أريد به المرضي، ويستوي فيه الواحد وغيره، فيقال شاهد مقنع وشهود مقنع، وقدم تقدير اختاروا على انكحوا مع أنه المتبادر مما قبله لدلالته على جواز العزوبة فتأمّل، وقوله: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} إشارة إلى أنّ الخطاب للأحرار لأنّ العبد لا يحل له أكثر من اثنتين. قوله: (ومعناها الإذن لكل ناكح الخ) قال الزمخشريّ فإن(3/100)
قلت الذي أطلق للناكح في الجمع أن يجمع بين ثنتين أو ثلاث أو أربع فما معنى التكرير في مثنى وثلاث ورباع قلت الخطاب للجميع فوجب التكرير ليصيب كل ناكح يريد الجمع ما أراد من العدد الذي أطلق له كما تقول للجماعة اقتسموا هذا المال وهو ألف درهم درهمين درهمين وثلاثة ثلاثة وأربعة أربعة ولو أفردت لم يكن له معنى فإن قلت فلم جاء العطف بالواو دون، أو قلت كما جاء بالواو في المثال الذي حذوته لك ولو ذهبت تقول اقتسموا هذا المال درهمين درهمين أو ثلاثة ثلاثة أو أربعة أربعة أعلمت أنه لا يسوغ لهم أن يقتسموه إلا على أحد أنواع هذه القسمة، وليس لهم أن يجمعوا بينها فيجعلوا بعض القسم على تثنية وبعضه على تثليث، وبعضه على تربيع وذهب معنى تجويز الجمع بين أنواع القسمة التي دلت عليه الواو وتحريره أنّ الواو دلت على إطلاق أن يأخذ الناكحون من أراد وانكاحها من النساء على طريق الجمع إن شاؤوا مختلفين في تلك الأعداد وان شاؤوا متفقين فيها محظوراً عليهم ما وراء ذلك ا!.
وحاصله أن أبيح لكل واحد أن يأخذ ما أراد من هذه العدة، ولا يتجاوزها لمانما تفيد هذا المعنى صيغة العدل والعطف بالواو لأنه حال فلو أفرد وقيل اقتسموا هذا المال درهما وثلاثة وأربعة لم يصح جعله حالاً من المال الذي هو ألف درهم بخلاف، ما إذا كرّر فإن المقصود فيه
الوصف، والتفصيل في حكم الانقسام أي مفصلاً ومنقسما إلى درهم درهم، وأو لأحد الأمرين أو الأمور والإباحة إنما تكون من دليل خارجي والحال بيان لكيفية الفعل، والقيد في الكلام نفي لما يقابله فمعنى أو أن يكون الاقتسام على أحد هذه الأنواع غير مجموع بين اثنين منها، ومعنى الواو أن يكون على هذه الأنواع غير متجاوز إياها إلى ما فوقها، وهذا معنى قوله محظورا عليهم ما وراء ذلك دفع لما ذهب إليه البعض من جواز التع تمسكا بأنّ الواو للجمع فيجوز الثنتان والثلاث والأربع وهي تسع، وذلك لأنّ من نكح الخمس أو ما فوقها لم يحافظ على القيد أعني كيفية النكاح، وهي كونه على مذا التقدير والتفصيل بل جاوزه إلى خماس وسداد، والسنة بينت أنّ هذا هو المراد كقوله صلى الله عليه وسلم: " اختر أربعاً وفارق سائرهن " وغيره من الأحاديث الصمحيحة ولا مخالفة بينه وبين كلام المصنف في المآل كما توهم، وإنما وقعت في بعض العبارة كقوله: لم يكن له معنى، وقول المصنف كان المعنى تجويز الجمع فلو قيل معنى لم يكن له معنى يعني يصح قصده لأنه يفيد جواز الجمع، وجواز التسعة وهو غير صحيح كان المال واحداً، والبدرة بفتح الموحدة وسكون الدال والراء المهملتين عشرة آلاف درهم، وقوله: لذهب تجويز الاختلاف فكان يجب الاجتماع على هذه الإعداد وما قيل إنه لا يلتفت إليه الذهن لأنه لم يذهب إليه أحد لا عبرة به لأنّ الكلام في الظاهر الذي هو نكتة العدول، وفي بعض الحواشي هنا خبط وخلط تركناه لأنه تطويل بغير طائل، وحسبك من القلادة ما أحاط بالعنق. قوله:) ولو ذكرت بأو) رد لما قيل إنّ الواو بمعنى أو قال ابن هشام: نقلاَ عن الأصفهاني القول بأنها بمعنى، أو خطأ لأنّ الإعداد على قسمين قسم يقصد ضم بعضه إلى بعض كقوله: {ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} [سورة البقرة، الآية: 96 ا] وقسم لا يقصد به ذلك بل هو للتقسيم كما هنا وفيه نظر. قوله: (سوّى بين الواحدة الخ (إشارة إلى أن أو للتسوية والعدد في السراري يؤخذ من السياق ومقابلة الواحدة ومؤن جمع مؤنة، والقسم بفتح فسكون معروف وقوله: أي التقليل الخ هو مستفاد من واحدة والعدد المذكور، ويجوز أن تكون الإشارة إلى الجميع، وقوله: أقرب إشارة إلى أن أدنى من الدنوّ بمعنى القرب، ومن صلة القرب لا تفضيلية. قوله: (يقال عال الميزان إذا مال الخ) يعني أصل معناه الميل المحسوس، ثم نقل إلى الميل المعنوي، وهو الجور وقوله وعول الفريضة أي نصيب الورثة، وهو العول المعروف في
علم الفرائض مأخوذ من الجور لتقليل أنصبة الورثة، ولذا يقال فريضة عائلة وفريضة عادلة والسهام انصباء الورثة المقدّرة لهم. قوله: (وفسر بأن لا تكثر عيالكم الخ) تفسيره بأن لا تجوروا منقول عن عائشة رضي الله عنها، وهو المشهور وهذا التفسير منقول عن الإمام الثافعي رضي الله عنه، وقد خطأه فيه كثير من المتقدمين لأنه إنما يقال من كثرة العيال أعال يعيل إعالة ولم يقولوا عال يعول(3/101)
ولأن الأحسن المطابق لقوله قبله: لا تعدلوا أن يكون بمعنى لا تجوروا، وردّ. في الكشاف بأنه من قولك عال الرجل عياله يعولهم كقولهم مانهم يمونهم إذا أنفق عليهم لأن من كثرت عيأله لزمه أن يعولهم وفي ذلك ما تصعب عليه المحافظة على حدود الشرع وكسب الحلال، ومثله أعلى كعباً وأطول باعا في كلام العرب أن يخفى عليه مثل هذا فسلك في تفسيره طريق الكناية فاستعمل الإنفاق وأراد لازم معناه، وهو كثرة العيال، وذكر في الكشف أنه لا حاجة إلى هذا فإنّ الكساتي رحمه الله نقل عن فصحاء العرب عال يعول إذا كثر عياله وممن نقله الأصمعي والأزهري، وهذا التفسير منقول عن زبد بن أسلم وهو من أجلة التابعين وقراءة طاوس مؤيدة له! لا وجه لتشنيع من شنع عليه جاهلا باللغات والآثار، وقد نقل الدوري إمام القراء أنها لغة حمير وأنشد:
وأنّ الموت يأخذكل حي بلا شك وان أمشي وعالا
أي وان كثرت ماشيته وعياله، وأمّا ما قيل إن عال بمعنى كثرت عياله يائيّ وبمعنى جار
واوي فليست التخطئة في استعمال عال بمعنى كثرة العيال بل في عدم الفرق بين الماذتين فرد أيضاً بحكاية ابن الأعرابي وغير. عال يعول بهذا المعنى، وعال يعيل بمعنى افتقر فعال له معان مال وجار وافتقر وكثرت عياله ومان وأنفق وأعجز يقال عالني الأمر أي أعجزني ومضارعه يعيل فهو من ذوات الواو والياء على اختلاف المعاني فان قلت عال بمعنى مان لا دلالة له على كثرة المؤنة حتى يكنى به عن كثرة العيال قلت قال الراغب: أصل معنى العول الثقل يقال عاله أي تحمل ثقل مؤنته، والثقل إنما يكون في كثيره لا في قليله فالمراد بلا تعولوا وبقوله ما نهم كثرة ذلك بقرينة المقام والسياق لأنه ليس المراد نفي المؤنة والعيال من أصله لأنه لو تزوّج واحدة كان عائلاَ، وعليه مؤنة فالكلام كالصريح فيه واستعمال أصل الفعل في الزيادة فيه غير عزيز فلا غبار عليه كما توهم. قوله: (ولعل المراد بالعيال الأرّواج الخ) أي على تفسيره تعولوا بتكثر عيالكم وعيال جمع عيل بتشديد الياء فإن كان ذلك إشارة إلى التقليل واختيار الواحدة فعدم كثرة الأزواج فيه ظاهر، وان كان للتسري فعدم كثرة الأزواح صادق على عدمهن بأن لا يكون لكم أزواج، ولا كثرة وان كان العيال بمعنى الأولاد فعلى الأول ظاهر فلذا أخره المصنف
رحمه الله وجعله مشبهاً به وعلى الثاني فلأنه مظنة قلة الأولاد إذ العادة على أن لا يتقيد المرء بمضاجعتهن ولا يأبى العزل عنهن، وهذا معنى قوله لجواز العزل الخ أي عادة فلا يرد عليه أنّ مذهب الشافعي جواز العزل عن الحرائر والإماء مع أنّ في بعض شروح الكشاف ما يدل على أنّ فيه خلافا عنده فلعل المصنف رحمه الله تعالى مال إلى المنع كما هو مذهب أبي حنيفة رحمه الله. قوله: (مهورهق الخ) يعني الصدقة كالصداق بمعنى المهر والقراءة بفتح الصاد وسكون الدال أصلها ضم الدال، فخفضت بالتسكين وضمهما باتباع الثاني لضم الأول كما يقال ظلمة وظلمة وهو المراد بالتثقيل وقوله: على التوحيد أي قرئ صدقتهن بضمتين مع الإفراد. قوله: (عطية الخ) أي النحلة حقيقتها في اللغة العطية بغير عوض! ، فإن قلت كيف يكون بلا عوض، وهو في مقابلة البضع والتمتع به، قلت قالوا لما كان لها في الجماع مثل ما للزوج في اللذة أو أزيد وتزيد عليه بوجوب النفقة والكسوة كان المهر مجانا لمقابلة التمتع بتمتع أكثر منه، وقيل: إنّ الصداق كان في شرع من قبلنا للأولياء بدليل قوله تعالى: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ} [سورة القصص، الآية: 27] الخ ثم نسخ فصار ذلك عطية اقتطعت لهت فسمي نحلة، ومن فسره بالفريضة نظر إلى أنّ هذه العطية فريضة، ونصبه على المصدر لملاقاته الفعل معنى كقعدت جلوساً، وقوله: أو منحولة أي معطاة منكم ومن فسره بالديانة أخذه من النحلة بمعنى الملة، ومولياتهم بفتح الميم وتشديد الياء أي من كن في ولايتهم.
ثنبيه: قال العلائي: في قواعده في الصداق عوضية عن البضع من وجه وهبة من وجه لحرمتها لكن المغلب أيهما فقيل المغلب الأوّل، وقيل الثاني ومأخذه الآية لأنّ النحلة العطية بلا عوض وحجة الثاني أنه يردّ بالعيب ولها حبس نفسها حتى تقبضه وأنه يثبت فيه الشفعة ويضمن لو تلف ورجح المصنف رحمه الله الأوّل لاقتضاء الوضع له فقدّمه، وفي قوله نظر إلى مفهوم الآية بحث لأنه قد يقال(3/102)
إنه منطوق على الوجه الأخير لأنّ معنى كونه ديانة مشروع اللهمّ
إلا أن يريد ما يقتضيه قوله فإن طين لكم المؤيد بالأمر. قوله: (الضمير للصداق الخ الما كان الظاهر منها لرجوعه إلى الصدقات أوّله بأنّ الصدقات بمعنى الصداق لصدقه على القليل، والكثير أو أنه عائد على الصداق الدّي في ضمن الجمع لأنّ المعنى آتوا كل واحدة منهن صداقاً أو أنّ الضمير راجع لما قبله باعتبار أنه وضحع موضع اسم الإشارة أي ذلك فلذا أفرد وذكر وهو في اسم الإشارة كثير لأنّ الإشارة إلى أمور متعددة دفعة واحدة كثيرة فلذا نزل الضمير منزلته فلا يقال إنه تطويل للمسافة فليجعل الضمير مؤوّلاً بما ذكر ابتداء، ولذا قال: رؤبة ذلك وهو من أهل اللسان فلا وجه لما قيل إنّ قول رؤبة لا يدل على ما ذكر لجواز أن يريد أنّ الضمير مؤوّل كما يؤوّل اسم الإشارة مع أنه لا يعلم من كلامهم وجهه والنكتة فيه فلا بدّ من بيانه والبيت:
فيها خطوط من سواد دويلق كأنه في الجلد توليع البهق
وهو من أرجوزة له والتوليع تلميع البلق على اسنطالة وذكر قول رؤبة في جواب السائل
له هلا قلت كأنها أو كأنهما، وإنما ذكره ليتعين التوجيه إذ لولاه احتمل أن يكون ذلك لرعاية الخبر، وقوله: ولذلك وحد يعني أنّ التمييز كما قاله النحاة: حقه مطابقة المميز وهو هنا جمع وتوضيحه إنّ التمييز إن اتحد معناه بالمميز وجبت المطابقة نحو كرم الزيدون رجالاً كالصفة والخبر والحال دمالا فإن كان مفرداً غير متعدد وجب إفراده نحو كرم بنو فلان أبا إذ المراد أن أصلهم واحد متصف بالكرم فإن تعدد، وألبس وجب خلفه بظاهر نحو كرم الزيدون آباء إذا أريد أن لكل منهم أبا كريما إذ لو أفرد توهم أنهم من أب واحد والغرض خلافه وإن لم يلبس جاز الأمران، ومصححه عدم الإلباس كما هنا فإنه لا يتوهم أن لهن نفساً واحدة ومرجحه أنه الأصل مع خفته ومطابقته لضمير منه، وهو اسم جنس والغرض هنا بيانه والواحد يدل عليه كقولك عشرون درهما، وما قيل إنه مخالف لقول ابن الحاجب إنّ التمييز إن لم يكن اسم جنس ويراد نفس المنتصب عنه يطابقه لا محالة فيجب تقييد كلامه بأنه إذا لم يقصد به بيان الجنس، وهو وهم منه فإنّ النفس ليس المراد بها الذات حتى يكون عين ما قبله، والذي أوقعته في الغلط لفظ نفس المشتركة وقيل إنّ فائدة التمييز الإشارة إلى أنه لا اعتداد بهبة الأولياء. قوله: (والمعنى فإن وهبن لكم الخ) يعني لما كان لا بد من طيب النفس جعل مبتدأ وركنا من
الكلام للدلالة على ذلك ولو قيل عن طيب لوقع فضله وقوله: وعداه بعن يعني أصله أن يتعدى بالباء كقوله:
وما كان نفسا بالفراق تطيب
لأنه ضممن معنى التجافي، والتباعد فوصل بصلته فإن قلت الصواب أن يقتصر على التجافي متعد بنفسه ولا يتعدى بعن إلا إذا كان بمعنى المغفرة نحو تجاوز الله عن سيئاته قلت إمّا أن يكون مقصوده أنه ضمن معنى التجافي فقط، والتجاوز بيان لمعناه أو كون التجاوز لا يتعدّى بعن مطلقا غير مسلم عنده، ولذا استعمله كثير من الفضلاء متعديا بها مطلقا، وقد صرح به الإمام التبريزي في شرح ديوان أبي تمام، وقوله: بعثا لهن على تقليل الموهوب هو يفهم من شيء، ومن كونه من الصداق لا كله حتى نقل عن الليث رحمه الله أنه لا يجوز تبرعها إلا باليسير ولا فرق بين المقبوض وما في الذمة إلا أن الأوّل هبة والثاني إبراء، ولذلك تعامل الناس على التعويض فيه ليرتفع الخلاف. قوله: (فخذوه وأنفقوه) يعني أنّ الأكل عبارة عن التملك كما مرّ، وفي نصب هنيئا مريئا وجوه أحدها أنه صفة مصدر محذوف أي أكلا هنيئا، الثاني أنه منصوب على الحال من فاعل كلوه أي مهنا سهلاً، الثالث أنه حال منصوب بفعل مقدر محذوف وجوبا كقولك أقائماً، وقد قعد الناس وقال الزمخشريّ: قد يوقف على فكلوه، ويبتدأ هنيئا مريئا على الدعاء، وعلى أنهما صفتان أقيمتا مقام مصدرين أي هنأ مرأ ورد بأنه تحريف لكلام النحاة فإنّ المصادر الدعائية كسفياً ورعيا لا ترفع الظاهر، وهذا قد رفعه في قول كثير:
هنيئا مريئا غيرداء مخامر
فإن غير فاعله ورد بأن سيبويه، قال: هنيئا مريئا صفتان نصبهما نصب المصادر المدعوّ
بها بالفعل غير المستعمل(3/103)
إظهاره المختزل لدلالة الكلام عليه، وفيه تأمّل ومريئا لا يستعمل إلا تابعا لهنيئا وهو صفة له أو منصوب بعينه، وقيل إنه يجيء غير تابع، وقد أسقط المصنف رحمه الله قول الزمخشرفي: على الدعاء لما مرّ، ولأنّ الدعاء لا يكون من الله حتى أوّلوه فما قيل إنه قصر في تقرير كلام الكشاف سهو، وقوله: يتأثمون قال النحرير في الصحاح: نأثم تحرّج عن الإثم كف، وحقيقة تأثم وتحرج تجنب الإثم والحرج، ولا يخفى عليك حال ما قيل يتأثمون يخرجون من الإثم من تأثم، خرج من الإثم كتحرّج خرج من لاحرج، ولا وجه له فإنّ مراده
ما ذكره بعينه، وأنّ المراد السلب فلا وجه للرد، وعلى القول الثاني في تفسير هنيئا مريئاً لا يكون اتباعا. قوله: (نهى للأولياء الخ (هذا بيان لمحصحل المعنى وضمير أموالهم للذين والدليل على أن الخطاب لهم قوله: {وَارْزُقُوهُمْ} الخ وحينئذ فاضافة الأموال للأولياء للملابسة لكونها في أيديهم وتصرّفهم ورجحه با! الكلام السابق يدلّ عليه وهو قوله: {وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ} وكذا ما بعده، وأوّل قوله التي جعل الله لكم قياما بأنها من جن! ذلك، والا فلا قيام لهم بمال اليتيم وعدل عما ارتضاه الزمخشرّي من أنّ إضافتها لأنها من جنس ما يقيم به الناس معايشهم، كما قال: {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ} [سورة النساء، الآية: 29] يعني أن المراد بالمال جنسه مما به تعيش الناس فنسبته إلى كل أحد كنسبته إلى الآخر، لعموم النسبة وإنما المخصوص بواحد دون واحد شخص المال فجاز أن ينسب حقيقة إلى الأولياء كما ينسب إلى الملاك، والدليل على ذلك وصفه بما لا يختص بمال دون مال، كما أنّ المراد بالنفس في الآية جنسها مما يقال له نفس، فإنّ الشخص لا يقتل نفسه بل غيره، وقال الإمام إجراء للوحدة النوعية مجرى الوحدة الشخصية، فالمال وان كان مالهم لكنهم كأنهم أنتم بحسب الماهية، والنوع فالزمخشريّ، اعتبر النوعية في المضاف وهو المال والإمام اعتبرها في المضاف إليه وهو معنى بديع إلا أنّ المصنف رحمه الله جنح إلى أنّ السياق يأباه ففيه ردّ له معنى، وقوله: خوّله بالخاء المعجمة أي أعطاه وقوله: (ينظر إلى أيديهم) أي ينظر ويحتاج إلى ما في أيديهم مما أعطاه لهم لينفقوا عليه فالإضافة حقيقية وسماهم سفهاء لأنه شأن الأولاد والنساء فليس المراد ظاهره بل أريد بهم أهله، وقوله: وتنتعشون أي تحيون وتقومون، وقوله: يؤوّل إشارة إلى دفع ما ارتضاه الزمخشري، وقراءة قيماً كان قياسها قوما بالواو كعوض لكنه اتبع فعله وقياماً في الإعلال، وقوله: قواماً وهو ما يقام به أي ليس بمصدر بل هو اسم تشبيه بالآلة كما مر. قوله: (واجعلوها مكاناً لررّقهم الخ) يعني لم يقل منها لئلا يجعلوا بعض أموالهم رزقا لهم بل أمرهم
أن يجعلوا الأموال، ظروفا للرزق حتى يكون الإنفاق من الربح لا من نفس المال الذي هو ظرف، وهو تشبيه للربح الحاصل من المال بالشيء المظروف فيه المتمكن وفيه إشارة إلى أنه هو المقصود من ذلك المال. قوله: (عدة جميلة تطيب بها نفوسهم الخ) العدة كالزنة لوعد، والمعروف ما عرف بالحسن عقلا أو شرعا والمنكر خلافه، وهو ما أنكر كذا في الكشاف، وليس هذا إشارة إلى المذهبين في الحسن والقبح هل هو شرعيّ، أو عقليّ كما قيل لأنه لا خلاف بيننا وبينهم في الصفة الملائمة للغرض! ، والمنافرة له التي يعبر عنها بالمصلحة والمفسدة وأن منها ماً مأخذ. العقل وقد يرد به الشرع وإنما الخلاف فيما يتعلق به المدح والذم عاجلاً والعقاب والثواب آجلا هل هو مأخذه الشرع فقط أو العقل على ما حقق في الأصول، فلا يرد عليه أنّ الأولى الاقتصار على الأوّل فإن كان قول معروف إمّا واجب أو مندوب أو مباج وكل منها حسن شرعا كما صرح به في الأصول. قوله: (اختبروهم قبل البلوغ الخ) هذا مذهب أبي حنيفة والشافعي، والنص ظاهر في قولهما لما تدل عليه الغاية، وقال مالك إنه بعد البلوغ وقوله: (صلاح الدين الخ) المعتبر فيه عند الشافعي صلاح الدين، والتصرف في الدنيا وعند أبي حنيفة المعتبر الثاني فقط وقوله: (بأن يكل) الخ بيان لأنّ الاختيار بمجرد تفويض ذلك لا بتسليم المال وهذا بناء على أنّ الصبي لا يصح كونه مأذوناً له في التجارة ومذهبنا على خلافه. قوله: (حتى إذا بلغوا حدّ البلوغ) يعني أنّ النكاج كناية عن ذلك، وهو أن يحتلم أو يبلغ بالسن فمذهب(3/104)
الشافعي ما ذكره وعند أبي حنيفة فيه خلاف فقيل ثماني عشرة في الغلام وسبع عشرة للجارية ولم يفرّق المصنف بينهما، وقيل خمس عشرة فيهما وعليه الفتوى وقوله: (خمسة عشر سنة) بتأويل السنة بالعام والا فالقياس خمس عشرة، ومعنى قوله يصلح للنكاح أي لثمرته لأنّ المقصود منه التوالد ولا يكون بدونه وقوله: (إذا استكمل الولد) الخ رواه البيهقي، وقال: إسناده ضعيف. قوله: (فإن أبصرتم منهم رشدا الخ) أصل معنى الإيناس النظر من بعد
مع وضع اليد على العين إلى قادم ونحوه مما يؤنس به، ثم عم في كلامهم قال الشاعر:
آنست نبأة وأفزعها القناص عصرا وقد دنا الإمساء
أي أحست أو أبصرت كما فسره به أهل اللغة ثم استعير للتبين أي علم الشيء بينا إذ
الرشد مما يعلم ولا يبصر وهي استعارة محسوس لمعقول أن أريد بالإيناس تلك الحالة المحسوسة وان أريد الإبصار فمعقول لمعقول مستلزم لتشبيه الرشد بالشيء المحسوس كذا في شرح الكشاف، ويمكن تنزيل كلام المصنف رحمة الله عليه بأن يكون اقتصر على بيان حقيقته، ويحتمل أن يكون شبه الرشد المحقق المتبين بالمحسوس المشاهد على طريق الكناية، ثم أثبت له الإبصار تخييلا، وقوله: وقرئ أحستم أي بحاء مفتوحة وسين ساكنة وأصله أحسستم بسينين نقلت حركة الأولى إلى الحاء، وحذفت لالتقاء الساكنين إحداهما على غير القياس، وقيل إنها لغة سليم وانها مطردة في عين كل فعل مضاعف اتصل بها تاء الضمير أو نونه والإحساس أيضا على هذه القراءة استعارة. قوله: (من غير تأخير عن حدّ البلوغ الخ) التعقيب مأخوذ من الفاء ولم يفسر الرشد، وهو معرفة التصرّف وحفظ المال عندنا وعند الشافعي صلاج الدين والمال، وقيل الرشد بالضم في الأموو، لدكيوية والأخروية وبالفتح في الأخروية لا غير، والراشد والرشيد يقال فيهما.
تنبيه: في قواعد ابن عبد السلام رحمه الله: الأحكام مبنية على ظاهر الأمر حتى يظهر ما
يبطله ولو شذد في ذلك بطلت المعاملات، وهذا يشكل على شرط الشافعي في الرشد حسن التصرّف في المال والصلاح في الدين حتى لا يرتكب كبيرة، ولا يصرّ على صغيرة بإجماع المسلمين حتى جوزوا معاملة المجهول، وقبول عتاقه وهداياه وهو يأباه والآية لا تدل على ما ذكر والعجب من قول الإمام في النهاية إذا بلغ الغلام ولم يظهر ما يخالف رشده أبطل حجره اص.
(وفيه بحث اللفرق بين الولي والناس المعاملين فتأمل. قوله:) ونظم الآية الخ (في حتى الداخلة على إذا قولان أشهرهما أنها حرف غاية دخلت على جملة شرطية وهي حرف ابتداء تدخل على الجمل وهو الذي ارتضاه المصنف تبعا للزمخشريّ، والثاني وهو مذهب الزجاج وبعض النحاة أنها حرف جر وإذا متمحضة للظرفية وليس فيها معنى الشرط، وقدر بعضهم في
النكاح حده أو وقته وقيل لا حاجة إليه لأنّ المعنى صلحوا للنكاح وكون إذا شرطية غير جازمة هو المشهور، وقيل: إنها ليست بشرط وإن إطلاقه عليها ليس حقيقة، وقوله: وهو دليل الخ يقتضي تقدم إيناس الرشد مع تأخره في النظم بناء على أنّ الشرط المعترض على شرط آخر يعتبر مقدما في الحكم فلو قال إن شتمتني فإن دخلت الدار فأنت طالق لا بد لوقوع الطلاق من تقدم دخول الدار على الشتم وسيأتي تحقيقه في قوله تعالى: {وَلاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِي} أسورة هود، الآية: 34] الآية، وقول أبي حنيفة رحمه الله مبني على عدم الحجر بالسفه عنده وقدر الزيادة بسبع لما ذكره، وقوله: يميز بعدها أي يبلغ سن التمييز، وفي نسخة يتميز أي ينفرد في مضجعه ونحوه. قوله: (مسرفين ومبادرين الخ) المبادرة المسارعة وهي لأصل الفعل هنا وتصح المفاعلة فيه بأن يبادر وأخذ مال اليتيم، واليتيم يبادر منه وأشار إلى أنه منصوب على الحالط، وقيل: إنه مفعول لأجله والجملة معطوفة على ابتلوا الأعلى جواب الشرط لفساد المعنى لأنّ الأوّل بعد البلوغ وهذا قبله، ويكبروا بفتح الباء من باب علم في السن وأمّا بالضم فهو في القدر والشرف، فإذا تعدّى الثاني بعلى كان للمشقة نحو كبر عليه كذا، ومعنى مبادرة الكبر إتلافه قبله لئلا ينزعه منه إذا كبر، وتخصيص اكل الذي هو أساس الانتفاع وتكثر الحاجة إليه يدل على(3/105)
النهي عن غيره بالطريق الأولى لذلك.
قوله: (بقدر حاجته وأجرة سعيه الخ) أمّا ا! ل فلأنه رأس الانتفاع فلا يؤمر به ولا يباح
ما لم يكن له حق، وأمّا الاسنعفاف فلأنه مبالغة في العفة ولا يتحقق بمجرّد الامتناع عما لا حق له فيه أصلاَ وأهل اللغة وان قالوا عف واستعف وتعفف بمعنى لكن في استعف مبالغة من جهة دلالة السين على الطلب كأنه يطلب ذلك من نفسه، ويبالغ فيه وزيادة العفة عنه فلا ينافي أنه لطلب مأخذ الاشتقاق وليس من التجريد في شيء بالمعنى الذي عرفوه به واعتراض الانتصاف بأن تلك متعدية، وهذه قاصرة خال عن التحصيل لأنّ كلا من بابي فعل واستفعل يكون لازما ومتعدياً وكل من عف واستعف لازم البتة كذا قيل وهو مخالف لكلام النحاة فإن استفعل إذا كان للطلب أو للنسبة كاستخرجت المال، واستحسنت زيدا واستقبحته يكون للتعدية، وقد اعترف به نفسه في البقرة في استرضعوا فالأولى دفعه بما قاله السكاكي: من أنه يحذف مفعوله كثيراً، وقد يلتزم فالمعنى استعف نفسه وحينئذ يلزمه أن يكون تجريداً ليتغاير الطالب والمطلوب منه فلا يصادف ردّه محزه مع أنه اعتبار بليغ لطيف، ثم إنّ قوله وأجرة كأنه مذهب الشافمي لا مذهبنا كما صرح به الجصاص في الأحكام، وقال: ليس له أجرة لأنهم أباحوه له في حال الفقر والإجارة لا تختص به والوصي لا يجوز له أن يستأجر نفسه لليتيم ومن أباج له ذلك لم يجعله أجرة، واختلفت الرواية عنه في جواز القرض! من ماله ويشهد لجوازه قول عمر رضي الله عنه إني أنزلت نفسي من مال الله مني منزلة مال اليتيم إن استغنيت
212
صورة انساء / الآية: 7
استعففت، وان افتقرت أكل بالمعروف وقضيت، وقد قيل إن الأكل منه بالمعروف منسوخ ومذهب الشافعي أن ما زاد على أقل أجره ونفقته حرام. قوله: (وعته الخ) رواه أبو داود والنساتي وابن ماجه عن ابن عباس رضي الله عنهما والتأثل اتخاذه أثلة أي أصلا والمراد جامع منه، وآخذ للقنية، يقال: مال موئل ومجد موثل أي مجموع وأثلة وأصل، ومعنى وقاية ماله به أن يترك ماله ويأكل مال اليتيم. قوله: (وإيراد هذا التقسيم الضى) يعني أنه خص الأكل منه بالمعروف فدل على أنه ليس له عدة من النفقة والأخذ وهو يدل على أنّ هذا النهي وما قبله للأولياء لا لغيرهم لأنهم المنهيون عنه. قوله: (ووجوب الضمان) يعني إذا أنكر القبض وقوله: أنّ القيم أي الوصي القائم على مال اليتيم لا يصدق بقوله بدون بينة، وإنما قال ظاهره لأنه يعلم مما قبله أنه للاحتياط وعندنا لئلا يلزمه اليمين لكن المتبادر هذا، ولا يقوم حجة على أبي حنيفة رحمه الله. قوله: (محاسباً الخ الا يخفى موقعه هنا لأنّ الوصي يحاسب على ما في يده، ثم أشار إلى أنّ المحاسبة نهي عن مخالفة حدود الله لأنه يحاسب كلا بما عمل فليحذره، وفسره الزمخشريّ بالكافي في الشهادة عليكم، وتركه المصنف لأنه موافق لمذهب أبي حنيفة رحمه الله تعالى في عدم لزوم البينة. قوله: (يريد بهم الخ) أي يريد بالرجال والنساء والأقربون المتوارثين بالقرابة أي الذين يرث بعضهم بعضا فهو يشمل الوارث والموروث، ولو كان تفسيراً للأقربين كما قيل لقال الموروثين وقوله: بدل مما ترك باعادة العامل إذا كان الجار والمجرور بدلاً من الجار والمجرور فلا إعادة فيه لكنه سبق لمثله وجه، وكان وجهه أنه لو أبدل المجموع لا بدلت من من من واتحاد اللفظ في البدل غير معهود فكان هو الحامل لهم على القول بأنّ المجرور مبدل والجارّ معاد حتى استدلوا بمثله على أن البدل في نية تكرار العامل فافهم. قوله: (نصب على أنه مصدر مؤكد الخ) أي بتأويله بعطاء ونحوه من المعاني المصدرية والا
فهو اسم جامد، ونقل عن بعضهم إنه مصدر وكلام المصنف رحمه الله تعالى يحتملهما، والحالية إما من الضمير المستتر في قل وكثر أو في الجار والمجرور والواقع صفة أو من نصيب لكون وصفه بالظرف سوّغ مجيء الحال منه، ولذا لما لم يذكر المصنف رحمه الله تعالى وصفه في التفسير قدمه على ذيه لأنّ الحال من النكرة يلزم تقديمها، أو من الضمير المستتر في لهم قيل، وهو مراد المصنف رحمه الله تعالى، ولذا قدمه على نصيبا ولم يذكر. إشارة إلى أنها حال موطئة والحال في الحقيقة وصفها، وهو وجه وجيه إذ لا يلزمه مجيء الحال من المبتدأ أو عمل الظرف من غير اعتماد، وقوله على الاختصاص أراد به القطع من التبعية بفعل مقدّر وهو مما اصطلح عليه الزمخشريّ كما بينه شراحه فيما مرّ(3/106)
فلا يرد عليه أنه نكرة وقد نصوا على اشتراط تعريف المنصوب على الاختصاص وقوله: (مقطوعاً) تفسير لمفروضا وفيه نظر لا يخفى واشارة إلى أنه بمعنى الواجب القطعي، ولذا لم يسقط حقه بالإسقاط كما هو كذلك عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى، وقيل: إنه يحتمل أن يكون بمعنى مقدرا ففي كونه دليلاَ خفاء، وفيه نظر. قوله: (روي أن أوس بن الصامت الخ) هذا خطا في الرواية تبع فيه الزمخشريّ فإنّ أوس بن الصامت بن أصرم بن قهر بن ثعلبة الأنصاري الصحابي رضي الله تعالى عنه شهد بدر أو المشاهد كلها وبقي إلى زمن خلافة عثمان رضي الله عنه وليس في الصحاية من اسمه أوس بن الصامت غيره، وأوس اسم جماعة منهم مذكورون في الاستيعاب وغيره، وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: إن هذا الحديث روا. مقاتل في تفسيره فقال إن أوس بن مالك توفي يوم أحد وترك امرأته أم كحة، وبنتين إلى آخر القصة، وقال: في موضع آخر من الإصابة اختلف في اسم الميت فقيل أوس بن ثابت، وقيل أوس بن مالك وقيل ثابت بن قيس، وأما المرأة فلم يختلف في أنها أم كحة بضم الكاف وتشديد الحاء المهملة وهاء تأنيث إلا ما حكى أبو موسى المديني عن المستغفري، أنه قال فيها أم كحلة بسكون المهملة، وبعدها لام والا ما روي عن ابن جريج إنها بنت كحة فيحتمل أن تكون كنيتها وافقت اسم أبيها، وفي رواية ابن جريج أنها أم كلثوم اص. وقيل الذي في الكتب المعتبرة والروايات الصحيحة أوس بن ثابت أخو حسان استشهد باحد وأما أوس بن صامت فاستشهد في خلافة عثمان رضي الله عنه، وهو خطأ أيضاً لأنه لو كان أخا حسان من أبيه ثابت لم يكن ابن العم وارثا مع وجود الأخ وأيضاً ليس من الأوس المذكور من إخوته ولا أعمامه من يسمى عرفطة ولا خالداً وان كان أوس بن ثابت أخو حسان قتل يوم أحد كما في الاستيعاب وإنما سبب غلطه لفظ ثابت المشترك، وروي
بالزاي المعجمة بمعنى جمع وقبض، ومسجد الفضيخ بالضاد والخاء المعجمتين قال شراح الكشاف: لعله المسجد الذي كان يسكنه أصحاب الصفة لأنهم كانوا يرضخون فيه النوى والرضخ والفضخ من واد واحد ولا يوجد الفضيخ في اللغة إلا بمعنى لنبيذ المتخذ من البسر المفضوخ أي المشدوخ المرضوض وقيل إنه اسم لموضع بالمدينة كان يفضخ فيه البسر اص.
(قلت) عجبت من هؤلاء بأجمعهم وعدم اهتدائهم إلى المراد منه وفي تاريخ المدينة للشريف السمهودي مسجد الفضيخ مسجد صغير شرقيّ مسجد قباء على شفير الوادي على نشز من الأرض مردوم وهو مربع ذرعه بين المشرق والمغرب أحد عشر ذراعا ومن القبلة للشام نحوها روى ابن شيبة عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال حاصر النبي ع! يير بني النضير فضرب قبته قريباً من مسجد الفضيخ ست ليال فلما حرمت الخمر خرج الخبر إلى أبي أيوب ونفر من الأنصار رضي الله عنهم وهم يشربون فيه فضيخا فحلوا وعاء السقاء وهراقوه، وفيه فبذلك سمي مسجد الفضيخ، وكان ذلك قبل اتخاذه مسجداً أو قبل العلم بنجاسة الخمر ولأحمد وأبي يعلى عن ابن عمر رضي الله عنهما أنّ النبي صلى الله عليه وسلم اثى بفضيخ فثربه فيه فسمي مسجد الفضيخ وقيل إنه يعرف اليوم بمسجد الشمس ولم أره اهـ فانظر خبطهم فيما مرّ وأنا أعجب من السيوطي رحمه الله تعالى مع سعة حفظه كيف تابعهم فيه، وأخرح ابن حبان في تفسيره عن ابن عباس رضي الله عنهما هدّا الحديث بطوله، وسماه أوس بن ئابت أيضا، وقال ترك ابنتين وابنا صغيرا وسمي ابني عمه خالداً وعرفطة، وقال فيه فأعطى المرأة الثمن وفسم ما بقي للذكر مثل حظ الأنثيين يعني من الأولاد إذ لا ميراث لابني العم معهم، وليس فيه ذكر مسجد الفضيخ وسويده مصغر بسين مهملة علم وعرفطة بضم العين المهملة والراء المهملة والفاء والطاء المهملة علم وهو في الأصل اسم شجر وقوله:) أو قتادة الخ) شك من الراوي في اسمهما وعرفجة بعين مهملة مفتوحة وراء ساكنة مهملة وفاء وجيم علم أيضا، وهو اسم شجر أيضاً ويذب من الذب بالذال المعجمة الموحدة المشددة المنع والحماية والحوزة المقرّ وما يجب أن يحفظ ويحمي، وقوله: ولم يبن أي لم يبين الله نصيب كل على التقديرين وإنما بين في المواريث الآتية وقوله: (وهو دليل الخ) وهو هنا بيان لإجمال بالتفصيل والحنفية أيضا قائلون بجواز تأخيره كما مرّ. قوله. (ممن لا يرث (بقرينة ذكر الورثة قبله(3/107)
وقوله ثم اختلف في نسخة أي على القول بالوجوب والصحيح إنه لا يجب وقوله:) أو ما دل عليه القسمة) أي
المقسوم أو المال، والبلغ جمع بالغ وفي نسخة الباقي ومن الورثة بيان له وقوله: (ولا يمنوا عليهم) المراد أنّ القول المعروف ليس معه من والا فعدم المن ليس قولأ، والقول بالنسخ قول ابن المسيب وغيره من السلف وعدمه قول ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فقال يرضخ لهم وفيها تفسير آخر غريب عن سعيد بن جبير أنّ المراد بأولي القربى هنا الوارثون وأنهم يعطون أنصباءهم من الميراث إذا حضر بعض الورثة، وكان وارث آخر صغيراً أو غائبا فإنه يحبس نصيبه فلا يمسك نصيب الكبير الحاضر حتى يكبر الآخر أو يحضر. قوله: (أمر للأوصياء الخ) فيتصل بقوله: وابتلوا اليتامى وما بينهما اعتراض! واستطراد كذا قيل لكن كون قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللهُ} الخ بيانا لإجماله يقتضي أنه ذكر قصداً لا استطراداً فالأولى إنّ هذا وصية للأوصياء بحفظ الأيتام بعد ما ذكر الوارثين الشاملين للصغار والكبار على طريق التتميم كذا قيل في بيان ارتباط النظم، ولا يخفى ما فيه من التكلف فالأظهر إنه مرتبط بما قبله لأنّ قوله: (للرجال الخ) في معنى الأمر للورثة أي أعطوهم حقهم دفعاً لأمر الجاهلية، وليحفظ الأوصياء ما أعطوه ويخافوا عليهم كما يخافون على أولادهم ومفعول بخش أمّا الله بدليل قوله فليتقوا الله أو على أولادهم بدليل قوله: {خَافُواْ عَلَيْهِمْ} كما أشار إليه في الوجه الآتي ولو ذكره هنا لكان أولى ليعلم منه تقديره فيما بعده. قوله: (أو للحاضرين المريض الخ) هذا هو الوجه الثاني فليس الأمر للأوصياء إذ لو كان كذلك لقال وليخشوا فتعريف الموصول للعهد لما عرف منهم أنهم كانوا يحضرون عند المريض، ويحثونه على الوصية ويذكرون أنّ أولاده لا يغنون عنه شيئا في الآخرة، وإنما النافع له ما يصرف في الخيرات فيكون أوّل الكلام للأوصياء، وما بعده للورثة وهذا للأجانب بأن لا يتركوه يضرهم فضلا عن أمره بما يضر وأن يخافوا على أولاده كما يخافون على أولادهم فهو متصل بما قبله وقوله: (بأن يخشوا) الخ بيان لمعموله كما مرّ. قوله: (أو للورثة الخ) هذا هو الوجه الثالث وعليه فاتصاله بما قبله ظاهر لأنه حث على الإيتاء لهم وأمرهم بأن يخافوا من حرمانهم ما يخافون من حرمان ضعاف ذريتهم وقوله: (أو للموصين) هذا هو الوجه الرابع وهو أبعدها ولم يذكره الزمخشري، ولذا أخره المصنف رحمه الله تعالى فالمراد من الذين المرضي، وأصحاب الوصية أمرهم بعدم الإسراف في الوصية خوفاً
على ذرّيتهم الضعاف، والقرينة عليه أنهم هم المشارفون لذلك، ويكون التخويف من أكل مال اليتامى بعده تخويفاً عن أخذ ما زاد من الوصية فيرتبط به ويكون متصلا بما قبله تتميمأ لأمر الأوصياء، والورثة بأمر المرضي الموصين. قوله: (ولو بما في حيزه جعل صلة الخ (يعني أن الصلة يجب أن تكون قصة معلومة للمخاطب ثابتة للموصول كالصفة فأشار إلى أن مضمون الشرطية قصة معلومة، وأشار إلى أنه لا بدّ من حمل تركوا على المشارفة ليصح وقوع خافوا خبراً له ضرورة أنه لا خوف بعد حقيقة الموت، وترك الورثة، وقال النحرير: الظاهر أن لو بمعنى إن وهذا جار على الوجوه كلها فقوله في المغني إنه أؤله بشارفوا لأن الخطاب للأوصياء وإنما يتوجه إليهم قبل الترك لأنهم بعد. أموات لا وجه له وإنما وجهه صحة كون الجواب خافوا كما قال النحرير. قوله: (وفي ترتيب الأمر عليه إشارة إلى المقصود الخ) أي جعل مرتباً على الوصف المذكور في حيز الصلة المشعر بالعلية كما مز إشارة إلى أن المقصود من الأمر إذ لا يضيعوا اليتامى حتى تضيع أولادهم، وأنه السبب في ذلك والترحم جاء من ضعف الذراري الماقتضي له وتهديد لهم بأنهم إن فعلوه أضاع الله أولادهم، فضمير عليه للحال أو الوصف والمراد بالأمر الأمر باللام في قوله وليخش، والحاصل أنّ المقصود منه مراعاة الضعفاء واليتامى والخوف عليهم وهو علة الأمر بالخشية. قوله: (أمرهم بالتقوى التي هي غاية الخشية الخ) يعني أن الخشية بمعنى الخوف مبدأ لتقوى الله مقدمة عليها طبعاً فلذا قدّمت وضعاً ليوافق الوضعالطبع، ولما لم ينفع الأول بدون الثاني لم يقتصر عليه مع استلزامه له عادة، ثم فسر القول بالمعروف بوجوه تناسب الوجوه السابقة في الأمر بالخشية ناظرة إليها والأخير مبني على الأخير كما ترى. قوله:(3/108)
(ظالمين أو على وجه الظلم) في نصب ظلماً وجوه الحالية وإليه أشار بقوله ظالمين والمفعولة لأجله المصدرية وقوله: على وجه الخ قيل إنه إشارة إلى أنه تمييز، وقيل إلى المصدرية وأن أصله كل ظلم ومعنى أكل الظلم أن يكون على وجهه. قوله: (ملء بطوئهم) في الكشاف يقال أكل فلان في بطنه وفي بعض بطنه قال:
كلوأفي بعض بطنكموتعفوا فإن زمانكم زمن خميص
قال النحرير: المظروف المفعول أي المأكول لا الفاعل كما إذا حلف ليضربنه في المسجد وسيأتي تفصيله في سورة الأنعام وحقيقة الظرفية المتبادر منها الإحاطة بحيث لا يفضل الظرف على المظروف فيكون الأكل في البطن ملء البطن وفي بعض البطن دونه، وإذا قيل للجماعة كلوا في بعض البطن كان غاية في القلة فإن قلت هذا ينافي قول الأصوليين إنّ الظرف إذا جز بفي لا يكون بتمامه ظرفاً بخلاف المقدرة فيه فنحو سرت يوم الخمس لتمامه وفي يوم الخميس لغيره.
(قلت) قيل هذا مذهب الكوفيين، والبصريون لا يفرقون بينهما كما بين في النحو والظاهر أن ما ذكره أهل الأصول فيما يصح جرّه بفي ونصبه على الظرفية، وهذا ليس كذلك لأنه لا يقال أكل بطنه بمعنى في بطنه فليس مما ذكره أهل الأصول في شيء، وهو مثل جعلت المتاع في البيت فهو صادق عليه وعدمه لكن الأصل فيه الأوّل كما ذكروه فاعرفه، وكذا ما يمنع دخول في عليه فهو من قبيل قاله بفيه مما يفيد التأكيد المناسب للملء، والجار والمجرور متعلق بياً كلون أو حال من ناراً لتقدمه عليه. قوله:) ما يجرّ إلى النار ويؤوّل إليها الخ) جعل النار مجازاً مرسلا من ذكر السجب وإرادة المسبب، وجوّز فيه الاستعارة على تشبيه ما أكل من هذا بالنار لمحق ما معه وهو بعيد وأبو بردة بضم الباء وسكون الراء ودال مهملة، وفي نسخة برزة كواحدة البروز وهو المصحح فالأولى كأنها تصحيف والحديث المذكور روأه ابن حبان وابن أبي شيبة، وهو مؤيد لما فسر به لاحتراق أجوافهم في قبورهم ويحتمل أنه إشارة إلى أنه يجوز حمله على ظاهره فتأفل. قوله:) سيدخلون نارا وأي نار الخ) هذا بيان للمعنى المراد منه وحقيقته ما أشار إليه بعده، وأصل الصلى القرب من النار فاستعمل في لازم معناه، وظاهر
كلامه أنه متعد بنفسه وقيل: إنه يتعدى بالباء فيقال صلى بالنار، وذكر الراغب أنه يتعدّى بنفسه تارة وبالباء أخرى وسعيراً بمعنى مسعراً وموقداً، وتوله: وأي ناراً لتعظيم مستفاد من التنكير. قوله:) يأمركم ويعهد إليكم الخ) الوصية كما قال الراغب: أن يقدم إلى الغير ما يعمل فيه مقترنا بوعظ من قولهم أرض واصية متصلة النبات، وهي في الحقيقة أمر له بعمل ما عهده إليه فلذا فسرها المصنف رحمه الله تعالى بما ذكر وقوله: (في شأن) قدر المضاف ليصح معنى الظرفية، وقيل في بمعنى اللام وقوله: وهو إجمال الخ بيان لموقع الجملة فإنها مفسرة للوصية التي في ضمن الفع! فلا محل لها من الإعراب ولا حاجة إلى تقدير قول أي قائلا ونحوه وجوّز فيها أن تكون مفعولاً ليوصي لأن فيه معنى القول فيحكي به الجمل على أحد المذهبين المعروفين. قوله: (أي يعدّ كل ذكر بأنثيين الخ) إنما قيده بقوله: حيث اجتمع الصنفان أي من الذكور والإناث يعني واتحدت جهة إرثهما لأنه قد ينقص الذكر عن الأنثى في بعض الصور، وهذا أغلبي أيضا لتساوي الذكور والإناث من أولاد الأم كما سيأتي فمان كان المراد بيان حكم اجتماع الابن والبنت على الإطلاق، وهو الظاهر لم يحتج إلى تقييد أصلاً فتأمّل. قوله: (وتخصيص الذكر بالتنصيص! على حظه الخ) يعني أنّ الآية نزلت لبيان المواريث رداً لما كانوا عليه من توريث الذكور دون الإناث ومقتضاه الاهتمام بالإناث وأن يقال للاثنين مثل حظ الذكر لكنه عكس هنا فأشار إلى أنّ حكمته إنّ الذكر أفضل ففعل ذلك لفضله، ولأنّ ذكر المحاسن أليق بالحكيم من غير ولذا قال تعالى: {إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} [سورة الإسراء، الآية: 7] فلذا قدم ذكر الإحسان وكرّره دون الإساءة فلذا جعل الأوّل صريحا ونصاً والثاني ضمنا وعدل عن مقتضى الظاهر، وفضله معلوم من الخارج أو من تضعيف حظه، أو أنه مقتضى الظاهر، والمقصود هنا أن الذكور أولى فيكفي للأولوية تضعيف نصيبهم وهو كالقول بالموجب وقيل المقصود بالبيان تنقيص حظ الذكور عما كانوا عليه وذلك يقتضي التنصيص عليهم، وهو(3/109)
قريب مما قبله، وتقدير ما قدره تصحيح معنى لا إعراب. قوله: (أي إن كان الأولاد نساء خلصا الخ) يعني أنّ الضمير راجع للأولاد مطلقا فيفيد الخبر حينئذ من غير تأويل، أو للمولودات أو البنات التي في ضمن مطلق الأولاد وليس الخبر عينه حتى لا يفيد الحمل كما توهم لأنّ المراد نساء خلصا إلى آخره وإذا كان فوق اثنتين صفة فهو محل الفائدة، فإن قلت على الوجه الأوّل يلزم تغليب الإناث على الذكور قلت يجوز ذلك مراعاة للخبر
ومشاكلة له وهو معنى ما قيل إذا عاد الضمير على جمع التكسير المراد به محض الذكور في قوله عليه الصلاة والسلام رب الشياطين ومن أضللن كعوده على الإناث فلأن يعود على جمعه الشاملى للإناث بطريق الأولى، فلا يرد عليه إنه هناك للمشاكلة المفقودة هنا، وجوز الزمخشرقي أن تكون كان تامّة والضمير مبهم مفسر بالمنصوب على أنه تمييز ولم يرتضه النحاة لأنّ كان ليس من الأفعال التي يكون فاعلها مضمرا يفسره ما بعده لاختصاصه ببابي نعم والتنازع، ولذا تركه المصنف رحمه الله ولا يرد على كون فوق اثنتين خبرا ثانيا إنه يلزم أن لا يفيد الخبر لما مرّ، وقوله: زائدات إشارة إلى أنّ الفوقية هنا ليست حقيقية بل بمعنى زيادة العدد وأضمر فاعل ترك لدلالة الكلام عليه ومثله سائغ شائع، وأظهر منه ضمير كانت. قوله: (واختلف في الثنتين الخ الما دل الحديث الصحيح الذي رواه أحمد بن حنبل والترمذيّ وأبو داود وابن ماجه عن جابر رضي الله تعالى عنه قال: جاءت امرأة سعد بن الربغ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله هاتان ابنتا سعد قتل ابوهما يوم أحد وإن عمهما أخذ مالهما ولم ياع لهما مالاً ولا يثكحان إلا ولهما مال فقال صلى الله عليه وسلم " يقضي الله في ذلك " فنزلت آية الميراث فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عمهما فقال: " أعط لابم! ي سعد الثلثين وأعط أمّهما الثمن وما بقي فهو لك " فدل ذلك على أن حكم البنتين وأنّ لهما الثلثين مفهوم من النص بطريق الدلالة أو الإشارة لأنه حكم به بعد نزولها، ووجه إنهما لما استحقتا معه النصف علم أنهما إذ انفردتا عنه استحقتا أكثر من ذلك لأنّ الواحدة إذا انفردت أخذت النصف بعدما كانت معه تاخذ الثلث ولا بد أن يكون نصيبهما مما يأخذه الذكر في الجملة، وهو الثلثان لأنه يأخذه مع البنت، وليس هذا بطريق القياس بل بطريق الدلالة أو الإشارة، فيكون قوله: فإن كن نساء الخ بيانا لحظ الواحدة وما فوق الثنتين بعدما بين حظهما، ولذا فرعه عليه إذ لو لم يكن فيما قبله ما يدل على سهم الإناث لم تقع الغاية موقعها وهذا مما لا غبار عليه، وقيل لما تبين أن للذكر مع الأنثى ثلثين وللذكر مثل حظ الأنثيين فلا بد أن يكون للبنتين الثلثان في صورة والا لم يكن للذكر مثل حظ الأنثيين لأنّ الثلثين ليس بحظ لهما أصلاً لكن تلك الصورة ليست صورة الاجتماع إذ ما من صورة يجتمع فيها الثلثان مع الذكر، ويكون لهما ثلثان فتعين أن تكون صورة الانفراد.
(ثم ههنا سؤال) وهو أنّ الاستدلال دوري لأنّ معرفة أنّ للذكر الثلثين في الصورة
المذكورة موقوفة على معرفة حظ الأنثيين لأنه ما علم من الآية إلا أنّ للذكر مثل حظ الأنثيين، فلو كان معرفة حظ الأنثيين مستخرجة من حظ الذكر لزم الدور، والجواب أنّ المستخرج هو الحظ المعين للأنثيين وهو الثلثان، والذي يتوقف عليه معرفة حظ الذكر هو معرفة حظ الأنثيين مطلقاً فلا دور وأنت في غنى عن هذا بما بيناه لك من غير تكلف، وأما ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فنظر إلى ظاهر النظم ولعله لم يبلغه الحديث لأنه لما لم يكن لهما حكم الجماعة كان لهما حكم الواحدة إذ لا قائل بغيرهما وفيه أنه لو استفيد من قوله فوق اثنتين إنّ حالهما ليس حال الجماعة بناء على مفهوم الصفة فكذلك يستفاد من واحدة أنّ حالهما ليس حال الواحدة لمفهوم لعدد، وان فرق بينهما بأنّ النساء ظاهر فيما فوقهما فلما أكذبه صار محكماً في التخصيص بخلاف إن كانت واحدة، وأورد أنه إنما يتم على كونه صفة مؤكدة لا خبراً بعد خبر، وأجيب بأنه على هذا مؤكد أيضاً وبأنه لما تعارض النصان عنده جعل لهما نصيبا من النصيبين وجمهور الصحابة رضي الله عنهم على خلافه لما مرّ وكلام المصنف رحمه الله ينزل عليه. قوله: (ويؤيد ذلك الخ) جعله مؤيداً، ولم يجعله دليلاَ مستقلا لعدم الحاجة إليه ولأنه قبل إنّ القياس(3/110)
لا يجري في الفرائض والمقادير كما شرحناه في اللمعة والحاصل أن هذا قياس على البنت مع أخيها أو على الأختين والأوّل لأنها لما استحقت الثلث مع الأخ فمع البنت بطريق الأولى، والثاني أنه ذكر حكم الواحدة والثلاث فما فوقها من البنات، ولم يذكر حكم البنتين وذكر في ميراث الأخوات حكم الأخت الواحدة والأختين ولم يذكر حكم الأخوات الكثيرة فيعلم حكم البنتين من ميراث الأخوات وحكم الأخوات من ميراث البنات لأنه لما كان نصيب الأختين الثلثين كانت البنتان أولى بهما لأنهما أقرب منهما، ولما كان نصيب البنات الكثيرة لا يزيد على الثلثين فبالأولى أن لا يزداد نصيب الأخوات على ذلك. قوله: (ولأبوي الميت) يعني أنّ الضمير راجع إلى ما فهم من الكلام كضمير ترك السابق، ولكل واحد بدل بعض من كل ولذا أتى معه بالضمير ما وقع لصاحب الانتصاف من أنه بدل كل، والمناقشة فيه غلط منه كما ذكره أبو حيان وغيره لأنه مبني على أن كل عمومها شمولي، وقوله: منهما يأباه، ولم يقل لكل واحد من أبويه السدس لفوات الإجمال والتفصيل الذي هو أوقع في الذهن ولم
يقل لأبويه السدسان للتنصيص على تساويهما إذ فيه يحتمل التفاضل، وان كان خلاف الظاهر فإنه يكفي نكتة للعدول، وقوله: غير أن الأب الخ إشارة إلى أحوالا الأب الثلاثة كما هو مقرّر، ودفع لما يتوهم أنه يأخذ مع البنت أكثر من السدس لأنه ليس بجهة واحدة وتعدد الجهات منزل منزلة تعدّد الذوات، وقوله: فحسب أي فقط وهو مأخوذ من التخصيص الذكرى كما تدل عليه الفحوى، وإنما فسر به ليخرج ما إذا كانا مع أحد الزوجين كما سيبينه، وفي الكشاف معناه فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فح! سب فلأمّه الثلث مما ترك، كما قال: لكل واحد منهما السدس مما ترك لأنه إذا ورثه أبواه مع أحد الزوجين كان للأم ثلث ما بقي بعد إخراج نصيب الزوج لا ثلث ما ترك إلا عند ابن عباس، والمعنى أن الأبوين إذا خلصا تقاسما الميرإث للذكر مثل حظ الأنثيين انتهى، وهو بعينه كلام المصنف رحمه الله لا زيادة فيه إلا إيضاح أنّ المراد بالثلث ثلث ما ترك وهو الكل لا ثلث الباقي ولا الأعمّ لقوله قبله السدس مما ترك، دمانما نقلته لك لترى العجب ممن قال قوله: وورثه أبوا. فحسب إشارة إلى دفع ما ذكره صاحب الكشاف لما أشكل عليه من أنه لا فائدة لقوله وورثه أبوا. لأنه في بيان حكم الأبوين في الإرث مع الولد ومع عدمه، فكما أنه لا حاجة في قوله: ولأبويه لكل واحد منهما السدس إلى التقييد، بقوله: إن ورث أبواه لا حاجة إليه في قوله فإن لم يكن له ولد فلأمه الثلث إلى آخر ما أطال به من غير طائل، فانظر ما جرّه قلة التأمّل إليه وكتابة محشوّ بمثل هذا لكنا أضربنا عن أكثرها فإن لم يقيد بقوله فحسب حمل الثلث على الأعم من ثلث الكل أو ثلث ما بقي لكونه خلاف المتبادر ويلزمه لغوية قوله وورثه أبواه لكنهم بينوا له فائدة كما سيأتي، ومنه يعلم إنه إذا لم يكن قوله وورثه أبواه للتخصيص يكون في الكلام الباس، ولذا رجحوه وان رجح شراح السراجية خلافه، وفيه نكتة أخرى وهي الإشارة إلى أنّ إرثه بالعصوبة، وهي تقتضي عدم التعيين والتحديد. قوله: (وعلى هذا ينبني الخ) يعني إنه ليس داخلا في النظم ولكنه مستنبط منه وضمير فرضه لأحد الزوجن، وقوله: يفضي إلى تفضيل الأنثى على الذكر في مسألة الزوج معها ظاهر، وأما الزوجة فلا.
أما الأول: فلأنها لو جعل لها مع الزوج ثلث جميع المال والمسألة من ستة لاجتماع نصف وثلث فللزوج ثلاثة وللأم اثنان على ذلك التقدير فيبقى للأب واحد وفيه تفضيل الأنثى وإذا جعل لها ثلث ما يبقى كان لها واحد وله اثنان.
وأمّ الثاني: فلأنه لو جعل لها مع الزوجة ثلث الأصل والمسألة مع أثني عشر لاجتماع
ربع وثلث فللزوجة ثلاثة وللأم أربعة ثلث الكل بقي خمسة للأب فلا يلزمه تفضيلها عليه ولذا
ذهب الإمام للفرق بينهما فهذا التعليل لا يفي بالمراد بل لا يستقيم وإن وجهه شراح السراجية لكن على مسلكهم في أنّ المراد بالثلث الأعئم يكون ذكر قوله وورثه أبواه إشارة إلى أنّ الثلث ثلث ما ورثاه سواء الكل أو الباقي، ولو حمل على ثلث الكل في هذه الصورة لخلا المذكور عن الفائدة، اللهم إلا أن يقال إنّ المراد إنه يفضي إليه في إحدى الصورتين وابن عباس رضي الله عتهما لا يفرق بينهما فيلزمه التفضيل في الجملة بخلاف ما ذهب إليه أبو بكر الأصمّ، وهو(3/111)
غير مذكور في الكتاب.
قوله: (بإطلاقه يدل على أن الأخوة) أمّا دلالته على الردّ إلى الثلث فظاهرة وأما قوله:
وان كانوا لا يرثون فمان أراد أنه من مدلول الآية فوجهه أنه معطوف على ما قبله، وهو مقيد بوراثة الأبوين فقط وقد زيد عليه الأخوة فقط من غير رفع القيد فيبقى على حاله، وفيه نظر وان أراد أنه معلوم من خارج فلا كلام فيه، وأما ما قيل إنه من كون الولد فيما سبق وارثاً هنا فليس بشيء وهذا بناء على أنّ المحجوب يحجب كما بين في الفرائض، وأبن عباس رضي الله عنهما يخالف فيه فيعطيهم السدس الذي حجبوها عنه. قوله: (والجمهور على أن المراد بالأخوة الخ) يعني المراد بهم ما فوق الواحد مطلقا ذكوراً واناثا ومختلطين من أيّ جهة كانوا من الأبوين أو أحدهما وابن عباس رضي الله عنهما اشترط ما فوق الاثنين وأن لا يكونوا خلص إناث لأنّ حقيقة الجمع ثلاثة، وهو جمع أخ فلا يشمل الأخت إلا بطريق التغليب والخلص لا ذكور معهم فيغلبون كما حاج عثمان رضي الله عنه في ذلك لكن أكثر الصحابة على خلافه، ولم ينكروه حين قضى به قبل عثمان فلذا جعله إجماعا، وصيغة الجمع قيل إنها حقيقة فيما فوق الاثنين مطلقاً، وقيل في المواريث والوصايا ألحقت بالحقيقة كما صرّح به في الأصول وهو مراد الزمخشري هنا فلا يرد عليه ما قيل إنه مخالف لما قاله النحاة: وصرّح به في كتبه. قوله: (وقرأ حمزة والكسائي فلامه بكسر الهمزة اتباعاً للكسرة) . أي كسرة اللام وقيل إنه اتباع لكسرة الميم، وهو ضعيف لما فيه من اتباع حركة أصلية لحركة عارضة وهي الإعرابية، ولذا قال المصنف رحمه الله التي قبلها تنبيهاً على اختيار خلافه وليس لغة فيه كما قيل. قوله: (متعلق بما تقدمه من قسمة المواريث كلها الخ) المراد بالمواريث كلها ما سبق برمته فإنه سيعيده فيما
يأتي وقوله: (أي مذه الخ) بيان لمحصل المعنى والتعلق المعنوي لا الإعرابي فإنه متعلق على هذا بقوله يوصيكم، وقيل إنه متعلق بقوله: (فلأمه السدس الخ) فالعامل فيه الجار والمجرور الواقع خبرا لاعتماده ويقدر لما قبله مثله كالتنازع، وقيل متعلق بمحذوف أي استقز ذلك بعد وصية الخ والاً وّل أولى. قوله: (وإنما قال بأو التي للأباحة دون الواو الخ) المراد بالإباحة التسوية وعدم اختلاف الحكم متعلقة بالأمرين جميعا، أو بأحدهما سواء كان ذلك في الأمر أو غيره ومنهم من اشترط فيها تقدم الأمر، وعبارة المفصل تشعر بعدم الاتفاق عليه واشترط في الهادي تقدم أمر أو تشبيه فيقال عليه إن قوله: {يُوصِيكُمُ} خبر مراد به الأمر كما فسره المصنف وغيره أي أعطوا الخ بعد الوصية أو الدين إن كان أحدهما أو كلاهما ولا يلزم جواز التقديم على أحدهما فقط كما في جالس الحسن أو ابن سيرين لأنّ معنى الإباحة هنا التسوية في الوجوب وفي جالس الحسن التسوية في الجواز وأو تكون للإباحة أو التسوية فيما هو مقتضى الأمر، وبالجملة فالمقام مقام أو دون الواو إذ لا تفيد سوى وجوب تقديم الأمرين إذا وجدا جميعاً دون ما إذا وجد أحدهما إذ ربما يكون وجوب التقديم أثرا للاجتماع فلا يتحقق عند الانفراد فكلمة أو للتسوية بينهما في الوجوب قبل القسمة وان كان الدين مقدماً عند عدم وفاء التركة بهما. قوله: (وقدم الوصية على الدين الخ الما كان تقدم الدين أمراً مقرّرا كان الظاهر تقديمه لكن أولاً تقتضي ترتيبا فقدمت الوصية لأنها تشبه الميراث من وجوه كتعلقها بالموت وكونها تؤخذ بلا عوض فلذلك كانت تشق عليهم فربما فرّطوا فيها فقدمت اهتماماً بشأنها لذلك فقوله: شاقة بيان لوجه الشبه، وقوله: مندوب إليها الجميع بخلاف الدين مع ندرته أو ندرة تأخيره إلى الموت قيل على من ذكره من الحنفية إن هذا مذهب الشافعي، فإنّ الوصية عنده أفضل مطلقا كما في الروضة، وأما غيره فيقول لا يندب إليها إذا كانت الورثة فقراء لا تغنيهم التركة ويمكن دفعه بأنّ المراد أنّ الشارع سنها للجميع لقوله صلى الله عليه وسلم: " حق على كل مسلم عنده شيء أن لا يبيت إلأ ووصيتة مكتوية عنده " فتخلفها العارض لا يضر كونها مندوبة للجميع بحسب الأصل، والتوصيف بقوله يوصي بها إما للتعميم لأنّ الوصية لا تكون إلا موصى بها، أو المراد تعتبر الوصية بها بأن تكون من الثلث فلا يقال إنه لا فائدة فيه، وقوله: بفتح الصاد أي مخففا وقرئ أيضا بالتشديد، ولم يذكرها المصنف رحمه الله(3/112)
بقي هنا إن
صاحب الانتصاف قال: إنّ الآية لم يخالف فيها الترتيب الشرعي دمان السؤال غير وارد رأسا لأنّ أوّل ما يبدأ به إخراج الدين ثم الوصية، ثم اقتسام ذوي الميراث فانظر كيف جاء إخراج الميراث آخرا تلو إخراج الوصية، والوصية تلو الدين فوافق قولنا قسمة المواريث بعد الوصية، والدين صورة الواقع شرعا ولو سقط ذكر بعد وكان الكلام أخرجوا الميراث والوصية والدين لأمكن ورود السؤال المذكور يعني أنه ذكر الميراث أوّلاً، ثم ذكر أنه بعد الوصية ناصا على بعديته لها فيقتضي تعقيبه لها، ثم ذكر بعدية الدين مؤخرة عن بعدية الوصية لما بينهما من المفاضلة فحاصل المعنى من بعد وصية، أو وصية بعد دين فلا حاجة إلى شيء مما تقدّم وهو دقيق جداً، ولا يرد عليه ما قيل إنّ الآية واردة في حكم الميراث أصالة لأنها بيان لقوله تعالى: {لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ} [سورة النساء، الآية: 7] الخ فكان ذكر الوصية والدين كالاستطراد وذكر من بعد إمارة عليه، فكأنهما حكم واحد في كونهما مقدّمين على الميراث، والظاهر تقدم الدين على الصوية فيرد السؤال ا!. قوله: (أي لا تعلمون من أنفع لكم ممن يرثكم الخ) أيّ هنا إما استفهامية مبتدأ وأقرب خبره والفعل معلق عنها فهي سادّة مسد المفعولين وعليه المصنف رحمه الله، أو موصولة بمعنى الذي وأقرب خبر مبتدأ محذوف، والجملة صلته وهو مفعول أوّل مبني على الضم لإضافته، وحذف صدر صلته، والثاني محذوف وهذا ذكره أبو حيان، والآباء والأبناء عبارة عن الورثة الأصول والفروع فيشمل البنات والأمّهات والأجداد والجدّات، كما أشار إليه المصنف رحمه الله وهو على هذا الوجه الأوّل تأكيد لأمر القسمة وردّ لما كان في الجاهلية، وعلى الثانية المراد المحتضرين وهو حث لهم على تنفيذ وصاياهم، فهو تأكيد لما قبله ونفعاً تمييز، وقوله: روي الخ أخرجه الطبراني وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه ع! ي! قال: " إذا دخل الرجل الجنة سأل عن أبويه وزوجته وولده فيقال إنهم لم يبلغوا درجتك فيقول يا رب قد عملت لي ولهم فيؤمر بإلحاقهم به " وتفسيره أقرب نفعاً بأنفع لكم دون أقرب نفعاً فضلا عن النفع تفسير بلازم معناه المراد، وقوله: ولا تعمدوا إلى آخره إشارة إلى ما كان منهم في الجاهلية. قوله: (فهو اعتراض مؤكد لآمر القسمة الخ) إشارة إلى ما ذكره الزمخشرقي من أن هذا التوجيه غير ملائم للمعنى، ولا مجاوب له لأن الجملة اعتراضية فينبغي
أن تؤكد ما اعترضت بينه وتناسبه، وليس بوارد لأنه ذكر قبلها وبعدها الوصية وأمر الإرث فيصح مراعاة كل منهما وهو ظاهر. قوله: (مصدو مؤكد الخ) أراد بالمؤكد المؤكد لنفسه نحو هذا ابني حقا وهو الواقع بعد جملة لا محتمل لها غيره وهنا كذلك لأن ما قبلها مفروض عليهم معين من الله وإذا كان مصدر يوصي بمعنى يفرض من غير لفظه فهو مؤكد أيضا لكن غير التأكيد المصزج به لأنّ الأوّل مؤكد لمضمون الجملة، وهذا مؤكد لعامله وفعله لكن أورد عليه أن المصدر إذا أضيف لفاعله أو مفعوله أو تعلقا به يجب حذف فعله كما صرح به الرضى إلا أن يفرق بين صريح فعله وما تضمنه فتأمل، وفسر العليم والحكيم بما يناسب المقام ويتم به النظام، وقيل فريضة حال لأنه ليس بمصدر. قوله:) أي ولد وارث الخ) يعني أنّ المراد بالولد ما يشمل الذكر والأنثى والصلبي وغيره سواء كان من هذا الزوج أو غيره، ولذا قال لهت: ولم يقل لكم. قوله: (فرض للرجل لحق الزواج الخ) الزواج كالقتال مصدر واستثنى أولاد الأم والمعتقة لاستواء الذكر والأنثى منهم، ثم بين أنّ الزوجات المتعددة يشتركن في ذلك ولا تعطي كل واحدة ربعا أو ثمناً، وفسر الرجل بالميت لا الوارث لتوصيفه بأنه موروث منه، وقوله: من ورث معلوما ومجهولاً أي هو مأخوذ من الثلاثي لا المزيد لاحتماله يقال ورث منه مالاً وورثه مالاً وكأنّ المصنف رحمه الله جعل الأولى هي اللغة، والثانية من الحذف والإيصال. قوله:) وهو من لم يخلف ولدا ولا والدا أو مفعول له والمراد بها ترابة الخ) يعني أنه على كون الرجل هو الميت فيورث من ورث الثلاثيّ، وكلالة لها أربعة معان نفس القرابة بغير الأصلية والفرعية، والوارث الذي ليس بولد ولا والد والميت الذي ليس أحدهما، والمال الموروث مز غير أحدهما، وترك هذا المصنف رحمه الله لعدم شهرته وعلى الوجوه يختلف إعرابه فإن كان
الوارث فهو(3/113)
مجهول أورث وهي في الأصل مصدر بمعنى الكلال والإعياء نقل إلى تلك القرابة لضعفها، ثم وصف بها من ذكر مبالغة أو بتقدير مضاف. قوله: (قال الأعشى الخ) هو من قصيدة مدح بها النبيّ صلى الله عليه وسلم لما أراد الوفادة عليه فصدّه كفار قريش بأنّ له تكاليف لا يقدر عليها كتحريم الخمر وقصيدته معروفة وأوّلها:
ألم تغتمض عيناك لليلة أرمدا وبت كما بات السليم مسهدا
والبيت في وصف الناقة السابقة في قوله:
وأتعابي العيس المراقيل تعتلي
وبعده:
متى ماتناخى عند باب ابن هاشم تراحى وتلقى من فواضله ندا
فضمير لها للناقة لا للفرس كما قيل ولا أرثي بمعنى أشفق، وأرق لها من كلالة أي إعياء والحفا بالحاء المهملة رقة أسفل الخف من كثرة السير، وقوله: فاستعيرت يعني بحسب الأصل وبعد النقل صارت حقيقة، وقوله: ليست بالبعضية فيه قصور، وكان عليه أن يقول ولا الأصلية لكته تركه لشهرته، وقوله: من قرابتي بناء على أنه مصدر أطلق على الأقرباء لما ذكره ولا عبرة بتخطثة الحريري في الدرة من قال: هو من قرابتي وأنّ الصواب من ذي قرابتي لقوله:
وذو قرابته في الحيّ مسرور
لأنه مجاز شائع وقد استعملوه كذلك، وذهب ابن مالك إلى أنه اسم جمع لقريب كصحابة فلا شاهد فيه حينئذ. قوله: (واكتفى بحكمه عن حكم المرأة الأن تقييد المعطوف عليه تقييد للمعطوف، وإن كان ليس بلازم وإنما فعل كذلك لأنّ توحيد الضمير بعد أو لا بد منه حتى أنّ ما ورد على خلاف ذلك مؤوّل عند الجمهور كقوله تعالى: {إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقَيرًا فَاللهُ أَوْلَى بِهِمَا} [سورة النساء، الآية: 135] وأتى به مذكراً لأنك بالخيار بين أن تراعي المعطوف أوالمعطوف علبه فراعى المتقدم منهما ويجوز أن يكون الضمير لواحد منهما والتدّكير للتغليب. قوله: (سوّى بين الذكر والأنثى الخ) لأنّ الأولاد الأم في القسمة والاستحقاق سواء للواحد
السدس، ولما زاد الثلث على السوية لأنّ وراثتهم بواسطة الأم ومحض الأنوثة فنظر فيه إلى الأصل وأصل الإدلاء إرسال الدلو في البثر لإخراج الماء فتجوّز به عن الاتصال النسبي. قوله:) ومفهوم الآية أنهم لا يرثون الخ) ذلك إشارة إلى السدس، أو الثلث وفي كونه مفهوما من الآية نظر قال بعض الفضلاء الظاهر أنه بناء على أنّ الوالد يعني الذي دل عليه الكلالة يتناول الوالدة سواء كانت له أو لأبيه، كما أنّ الولد يتناول الابن وابن الابن وان سفل والبنت وبنت الابن وان سفلت، وفيه أن تناول الولد لأنه اسم جنس غير صفة، وأمّا الوالد الذي هو صفة مؤنثة والدة ففي تناوله لها كلام فكون ما ذكر مفهوما ممنوع اهـ ولك أن تقول أنه غلب عليه حتى ألحق بأسماء الأجناس ولذا لا يوصف به فيقال الرجل الوالد وهذا بيان لحكمة تسوية الشارع فلا يرد أن من أدلى بواسطة ذكر كبني العلات ينبغي التسوية بينهم ونحوه كما قيل به، وفي قوله أكثر من ذلك نكتة في وجه التعبير باسم الإشارة وهي أنه لا يقال أكثر من الوأحد حتى لو قيل أوّل بأن المعنى زائد عليه فلذا عبر به أي أكثر من المذكور ولم يؤت بعنوان الوحدة فتنبه لما فيه من الدقائق. قوله (وهو حال من قاعل يوصي الخ) قيل عليه إن فيه فصلا بين الحال وصاحبها بأجنبي وهو قوله: (أو دين) فلا بدّ من تقدير كما في الوجه الذب بعده، وهو يلزم ذلك أو يوصي به حالة كونه غير مضار، وأجيب بأنه ليس بأجنبي محىت ر لشبهه بالوصية أو هو تابع بغتفر فيه ما لا يغتفر في غيره، وعلى قراءة المجهول يقدر فعل مهطوم يدل عليه المذكور على حذ قوله تعالى: {يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ} [سورة النور، الآية: 36] رجال في قراءة المجهول ولا يصح أن يكون حالاً من الفاعل المحذوف في المجهول لأنه ترك بحيث لا يلتفت إليه فلا يصح مجيء الحال منه ويصح في غير أن يكون صفة مصدر أي إيصاء غير مضار قيل والمفهوم من الآية أنّ الإيصاء لقصد الإضرار لا يستحق التنفيذ إلا أنّ إثباته مشكل فلو علم بإتراره لا ينفذ، وهذا مما لم نره في الفروع فانظره. قوله: (مصدر مؤكد الخ (ذكروا في نصبه وجوها، إمّا أنه مصدر يوصي مؤكد له أو منصوب بمضارّ على أنه مفعول به إمّا بتقدير مضاف أي أهل وصية أو على المبالغة لأنّ المضارّة ليست للوصية بل لأهلها، ويشهد له قراءة الإضافة بإضافة اسم الفاعل لمفعوله لأنها بمعنى في ولم يثبتها(3/114)
الجمهور، ووقع هنا وجه ذكره في الدر المصون وهو أنه منصوب على الخروج قال وهذه عبارة تشبه عبارة الكوفيين، ولم يبين المراد
منها وقد وقعت هذه العبارة في قوله تعالى: {بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ} في تفسير البغوي، وسأل عنها الناس ولم أر من فسرها إلا أنه وقع في همع الهوامع في المفعول به أنّ الكوفيين يجعلونه منصوبا بأعلى الخروج ولم يبينه فكان مرادهم أنه خارج عن طرفي الإسناد فهو كقولهم فضلة فانظره في محله وقوله: (والله عليم الخ) تهديد ووعيد على ذلك وأنّ عدم العقوبة ليس للعفو بل تأخيره لحكمه ستكون، وقول المصنف رحمه الله أو وصية منه أي وصية من الله في حق الأولاد بأن لا يدعهم عالة بالإسراف في الوصية ونحوه. قوله:) شرائعه الخ) يعني أنّ الحدود هنا استعارة شبهت الأحكام بالحدود المحيطة بشيء في أنه لا يتجاوزها أحد، ومراعاة اللفظ والمعنى فيما كان لفظه مفردا ومعناه مجموع كمن معروف وجعل الخلود حالاً مقدرة لأنه بعد الدخول لكن الفرق بين المثال وما نحن فيه ملاقاة أوّل الحال للعامل وعدمها، ثم إنّ الصفة ونحوها إن اتصف بها متبوعها وكان فاعلها فالأصل استتار الضمير ويجوز إبرازه والا فللنحويين فيه مذهبان وجوب الإبراز مطلقا، والثاني إن وقع لبس وجب إبرازه وإلا جاز إبرازه واستتاره والمشهور الأوّل، وعليه المصنف رحمه الله والزمخشري وإذا أبرز الضمير فهل هو فاعل أو الفاعل مستتر وهذا تأكيد له احتمالان ذكرهما في شرح التسهيل. قوله: (أي يفعلنها الخ) أي أن حقيقة الإتيان الذهاب فعبر به عن الفعل، وصار حقيقة عرفية فيه كما استعمل فيه المجيء ونحوه وأصل معنى الفاحشة ما اشتد قبحه فاستعمل كثيراً في اك نا لأنه من أقبح القبائح، وشناعتها بمعنى قباحتها، ووقع في نسخة بشاعتها وهو قريب منه. وقوله: (ممن قذفهن) أي رماهن وهو مما لزم من الكلام. قوله: (يستوفي أرواحهن الموت الخ (إشارة إلى
دفع ما يتوهم، من أنّ المتوفى الموت فيكون معناه يميتهن الموت بأنّ التوفي ليس بمعناه المشهور وهو الموت بطريق المجاز أو الكناية بل هو على أصله لغة، وهو الاستيفاء للأرواج على الاستعارة بالكناية بتشبيه الموت بشخص يستوفيها، أو هو على حذف مضاف أي ملائكة الموت أو على جعل التجوّز في الإسناد بإسناد ما للفاعل الحقيقي إلى أثر فعله كما تقول جاد عطاؤه بالغني فلا وجه لما قيل لا يصح جعل الإسناد هنا مجازيا لأنّ الموت ليس من الملابسات التي يسند إليه الإماتة مجازا، والحبس المذكور إن كان عقوبة للزنا فهو منسوخ بالجلد أو الرّجم وان كان للمجلودات بعد الجلد يكون حفظا عن صدور مثله مرّة أخرى، والحد معلوم من شيء آخر، وقوله: لتعيين الحد الخ على الوجه الأوّل، وقوله: أو النكاج على الثاني، واللذان إذا كان للزاني والزانية فهو تغليب وعلى التشديد يلتقي ساكنان على حده كدابة وشابة والتمكين زيادة المد على ألف وتشديد النون لغة، وليس مخصوصاً بالألف كما قيل، بل يكون مع الياء كما قرئ به وهو عوض! عن ياء الذي المحذوفة إذ قياسه اللذيان واعلم أنّ قوله: اللذان يأتيانها مبتدأ ما بعده خبره، والفاء زائدة فيه لتضمن معنى الشرط وهل يجوز نصبه على الاشتغال فقيل بمنعه لأنه حينئذ يقدر له عامل قبله وأسماء الشرط والاستفهام، وما تضمن معناها لا يعمل فيها ما قبلها لصدارتها وقيل: يجوز ويقدر متأخراً مطلقا أو في الشرط والاستفهام الحقيقي دون ما تضمن معناه لأنه لا يعامل معاملته من كل وجه، والإغماض مجاز عن الستر والترك وأصله غض البصير، وقوله: هذه الآية إشارة إلى واللذان يأتيانها منكم الخ والسحاقات، من السحق وهو مباشرة المرأة للمرأة، وهذا التفسير للإصفهاني والقرينة عليه تمحيض التذكير والتأنيث. قوله: (أي أنّ قبول التوبة الخ) يعني أنّ التوبة مصدر تاب الله عليه لا تاب هو نفسه ومعناه القبول، وعلى وإنّ استعملت للوجوب حتى استدلّ به الواجبية عليه فالمراد أنه لازم متحقق الثبوت البتة بحكم سبق العادة وسبق الوعد حتى كأنه من الواجبات،
كما يقال واجب الوجود وهو ردّ على الزمخشريّ. قوله: (ملتبسين بها سفهاً الخ) إشارة إلى أنه حال وأنّ المراد بالجهل السفه بارتكاب ما لا يليق بالعاقل لا عدم العلم فإن من لا يعلم لا يحتاج إلى التوبة والجهل بهذا المعنى حقيقة(3/115)
واردة في كلام العرب كقوله:
فنجهل فوق جهل الجاهلينا
وحتى ينزع بمعنى يكف ويترك وهو وارد في الأثر عن أبي العالية أن أصحاب رسول الله
صلى الله عليه وسلم كانوا يقولون كل ذنب أصابه عبد فهو جهالة. قوله: (من زمان قريب أي قبل الخ) أي يتوبون في زمن الحياة الذي هو قريب منه قبل حالة اليأس، وحملها على التبعيض لا الابتداء كما قيل به لأنها إذا كانت لابتداء الغاية لا تدخل على الزمان على القول المشهور، والذي لابتدائه مذ ومنذ، وسلطان الموت حضوره وقوّته وغلبته فهو بالمعنى المصدري أو المراد بقربه أن لا ينهمك فيه ويصر عليه فإنه إذا كان كذلك يبعد عن القبول، وإن لم يمتنع قبول توبته وقوله: الذي هو ما قبل الخ ناظر إلى الأوّل وما بعده إلى الثاني قوله صلى الله عليه وسلم: " إن الله سبحانه وتعالى يقبل توبة عبده ما لم ينرغر " أصل معنى الغرغرة ترديد الماء في الفم إلى الحلق وغرغرة المريض تردّد الروح في حلقه على التشبيه، وهو حديث حسن صحيح أخرجه الترمذفي وابن ماجه وابن حبان والحاكم. قوله: (وعد بالوفاء الخ) دفع لتوهم الاستدراك فيه لأنه جعله أوّلاً لازماً أي الأوّل وعد بتنجيز قبول التوبة، وهذا بيان لأن الوفاء به محقق قيل ويحتمل أنه من المذهب الكلامي كأنه قال: التوبة كالواجب على الله، وما هو كالواجب عليه كائن لا محالة فهو كائن فأولئك يتوب الله عليهم كالنتيجة له. قوله:) سؤ! بين من سؤف الخ (لما كان يختلج في الوهم أنه لا معنى لنفي قبول التوبة بالنسبة إلى من لم يتب ومات على الكفر صرف
النظم عن ظاهره كما قيل إنّ المراد بالتوبة المغفرة كما يقال تاب الله على فلان بمعنى عفا عنه، وأشار إلى أنّ المراد من الذين يعملون السيئات ما يشمل الفسقة والكفرة فسوّى بين المسوّف منهما وبين من مات على الكفر في عدم الاعتداد بأمر المسوّف لأنه والعدم سواء، ويحتمل أنه حذف من الثاني لدلالة الأوّل أو اشتراك المتعاطفين في القيد، والمراد بالذين يعملون السيئات العصاة أي لا توبة لمسوف التوبة ومسوّف الإيمان إلى حضور الموت، واعلم أنّ هذا كله بناء على أنّ توبة اليأس كإيمان اليأس في عدم القبول، وقد قيل: إنّ توبة اليأس مقبولة دون إيمانه لأنّ الرجاء باق، ويصح منه الندم والعزم على الترك وقال الإمام: إنها لا تقبل، واستدلّ عليه بآيات ونقل في البزازية عن فتاوى الحنفية أنّ الصحيح أنها تقبل بخلاف إيمان اليأس وإذا قبلت الشفاعة في القيامة، وهي حالة يأس فهذا أولى لكن هذه الآية صريحة في خلافه. وقوله:) وبالذين يعملون السيئات المنافقون الخ (جعل عمل السيئات من غيرهم في جنب عملهم بمنزلة العدم فكأنهم عملوها دون غيرهم ولا يخفى لطف التعبير بالجمع في أعمالهم وبالمفرد في المؤمنين على هذا، وأمّا أن التوبة هنا من الله لا من العبد فينافي التسوية فليس بشيء فتأمله! اووجه تضعيف القول الأخير أن المراد بالمنافقين إن كان المصرّين على النفاق فلا توبة لهم يحتاج إلى نفيها والا فهم وغيرهم سواء. قوله: (لا يعجزه عذابهم ش شاء) مأخوذ من كون العذاب حاضراً مهيأ لهم عنده، والعتاد العدة وهي ما يعد ربهيأ، أو التاء مبدلة من الدال وهو ظاهر. قوله: (كان الرجل إذا مات الخ) أخرجه ابن جرير وعضلها بمعنى منعها من التزوّج وأصله من العضل المعروف، والمراد من الإرث أخذ صداقها وعلى الثاني أخذ الزوجة نفسها بطريق الإرث، وحاصل الوجهين أن النساء يجوز أن يكون مفعولاً ثانيا والمفعول الأوّل محذوف فيحمل على أن ترثوا أنفسهن كما تأخذون الميراث، وأن يكون مفعولاً أوّل فيحمل على أن ترثوا أموالهن، وقرئ لا تحل لكم أن ترثوا بالتاء لأنّ أن ترثوا بمعنى الوراثة كما قرئ لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا لأنه بمعنى المقالة وهذا عكس تذكير المصدو المؤنث لتأويله بأن
233
والفعل فكل منهما جار في الكلام الفصيح والكره بالفتح والضم، قيل هما بمعنى كالضعف والضعف وقيل الأوّل الإكراه وهو المراد بالمشقة في كلام المصنف رحمه الله كما أشار إليه الراغب، والثاني بمعنى الكراهية وإليهما أشار بقوله: كارهات أو مكرهات. قوله:) عطف على أن ترثوا الخ) فيه وجهان أحدهما أنه مجزوم بلا الناهية، وعطف جملة النهي على جملة خبرية إمّا بناء على جوازه وقد قيل إنه مذهب سيبويه أو أنّ الأولى في معنى النهي إذ معناها لا ترثوا النساء كرها فإنه غير حلال لكم وجعله أبو البقاء(3/116)
على النهي مستأنفا، والثاني أنه منصوب معطوف على ترثوا وأيدت بقراءة ابن مسعود رضي الله عنه ولا أن تعضلوهن، وردّ هذا الوجه بأنك إذا عطفت فعلاً منفيا بلا على مثبت وكانا منصوبين فالناصب يقدّر بعد حرف العطف لا بعد لا فإذا قلت أريد أن أتوب ولا أدخل النار فالتقدير أريد أن أتوب وأن لا أدخل النار فالفعل يطلب الأوّل على سبيل الثبوت والثاني على سبيل النفي، والمعنى أريد التوبة وانتفاء دخول النار وكذا لو كان الفعل المسلط عليهما منفيا كما هنا، ولو قدرته لا يحل لكم أن لا تعضلوهن لم يصح إلا أن تجعل لا زائدة لا نافية وهو خلاف الظاهر.
وأمّا تقدير اًن بعد لا فغير صحيح فإنه من عطف المصدر على المصدر لا الفعل على
الفعل، فقد التبس عليهم العطفان وفرق بين أريد أن تقوم وأن لا تخرج ولا أن تقوم، ولا أن تخرج ففي الأوّل أثبت إرادة وجود قيامه وانتفاء خروجه، وفي الثاني نفي إرادة وجود قيامه ووجود خروجه فلا تريد لا القيام ولا الخروج، وهذا فيه غموض! لا يفهمه إلا من تمرّن في العربية.
ورد بأنّ المثال الذي ذكره أعني أريد أن أتوب الخ تقدير أن فيه قبل لا لازم فإنه لو قدر
بعدها فسد المعنى والتركيب، وامّا هنا فتقدير أن بعد لا صحيح فإنّ التقدير لا يحل لكم ميراث النساء ولا عضلهن، وهو عطف على أن ترثوا ولا مزيدة لتأكيد النفي، وقد صرح به الذاهبون إليه كالزمخشريّ وابن عطية والمصنف رحمهم الله، وفي الكلام محذوف تقديره ولا تعضلوهن من النكاح إن كان الخطاب للأولياء والعصبات، أو لا تعضلوهن من الطلاق إن كان الخطاب للأزواج، والأوّل هو المراد هنا فإن قلت على هذا كيف يلتئم قوله: لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن مع أنّ العصبة ما آتاها شيئاً وإنما منعها التزوّج لتفتدي بما ورثت من زوجها أو تعطيه صداقا أخذته من غيره، قلت: المراد حينئذ بما آتيتموهن ما آتاه جنسكم، وقوله: عضلت الدجاجة ببيضا أي تعسر خروجه، وكذا عضلت المرأة بالولد. قوله: (وقيل الخطاب مع الأزواج) ولا لتاكيد النفي كما في الوجه الأوّل لا للنهي كما في الوجه الثاني والمراد بالخطاب ما في ترثوا وتعضلوا. وقوله: (كانوا يحبسون النساء) بيان لقوله: {لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ} الخ. وقوله:
(أو يختلعن) الخ بيان لقوله: {وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ} وعلى الوجه الذي بعده الخطاب الأوّل للأولياء ولا تعضلوهن للأزواج، ولا يرد عليه أنه لا يخاطب في كلام واحد اثنان من غير نداء، فلا يقال قم واقعد خطابا لزيد وعمرو، بل يقال: قم يا زيد واقعد يا عمرو كما في شرح التلخيص لأنّ الجملة الثانية مستأنفة وليست من هذأ الكلام، ولهذا قال: تم الكلام مع أن القاعدة ليست مسلمة كما سيأتي، وأمّا على تقدير العطف فلا يلزم عليه عطف الإنشاء على الخبر كما مرّ. قوله: (إلا أن يأتين بفاحشة مبينة الخ (قرئ في السبعة بالفتح، والكسر وعلى الثاني فهو من بين اللازم أو مفعوله محذوف، أي مبينة حال صاحبها وقرئ مبينة بكسر الباء وسكون الياء، وهي كالتي قبلها واختلفوا في الاستثناء فقيل منقطع وقيل متصل إما مستثنى من ظرف زمان عاثم أي لا تعضلوهت في وقت من الأوقات إلا وقت إتيانهن أو من حال عامّة أي في حال من الأحوال إلا في هذه الحال أو من علة عافة أي لا تعضلوهن لعلة من العلل إلا لإتيانهن الخ كما بيته المصنف رحمه الله، فإن قلت كيف يتصوّر تقدير لعلة من العلل بعد ذكر علة مخصوصة وهي لتذهبوا قلت: يجوز أن يكون المراد العموم وذكر فرد منه لنكتة لا ينافيه أي للذهاب أو غيره أو العلة المعينة المذكورة غائية، والعامة المقدرة باعثة على الفعل متقدّمة عليه في الوجود، ولذا فسر المصنف رحمه الله تعالى المستثنى بما هو منها كالنشوز، والمراد بالإجمال فعل الجميل كما في قول المتنبي:
أنا لفي زمن ترك القبيح به من أكثر الناس إحسان واجمال
قوله: (فلا تفارقوهق الخ) إشارة إلى بيان الجواب الدّي أقيم علته مقامه، وقوله: فاصبروا الآتي إجمال له، وعشى لكونها الإنشاء الترجي لا تصلح للجوابية فلذا أوّلوه بما ذكر، وقوله: وهو خير لكم إشارة إلى أنّ جملة ويجعل الله فيه خيراً كثيراً حالية لتأويلها بالاسمية، والمعروف فيه تقدير المبتدأ لأن المضارعية الحالية لا تقترن بالواو كما قرّره النحاة، لكن في شروح الكشاف أنّ الزمخشرقي جوّزه في مواضع من(3/117)
الكشاف كتابة فقيل: لو لم يذكر الواو هنا لا التبس بالصفة لشيئا وهذا مخالف لمذهبه في جواز إدخال الواو بين الصفة وموصوفها،
فلذلك جوّز هنا إدخال الواو في المضارع إذا وقع حالاً وان خالف النحاة، وقال فخر المشايخ: إنه قد يجامع الواو كقوله: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ} [سورة البقرة، الآية: 44] فإن قيل: لم لا يجوز تقدير وأنتم تنسون أنفسكم فتكون الجملة اسمية قيل: لا يستقيم، هذا فيما نحن بصدده إلا على التعسف بأن يقال: أصله والله يجعل فيه خيراً، ثم حذف المبتدأ وأظهر فاعل يجعل ورد بأنه بتقدير المبتدأ غايته وقوع المظهر موقع المضمر، إذا قدروا لله يجعل، وأمّا الاعتذار بأنه أتى بالواو لئلا يلتبس بالصفة فليس بشيء لأنه إذا كان مذهب المصنف امتناع الواو في الحال وجوازها في الصفة توكيداً للصوقها كان دخول الواو بالالتباس أولى بعدم الالتباس فتحصل في المسألة ثلاثة مذاهب، منع الدخول على المضارع إلا بتقدير مبتدأ وجوازه مطلقا والتفصيل بأنه إن تضمن نكتة كدفع إيهام حسن والا فلا ولا يخفى أن تقدير المبتدأ هنا خلاف الظاهر، وما ذكره لا يرفع التعسف، وقوله: أصلح دينا أي من جهة الدين ويصح أن يكون دينا مقابل الآخرة. قوله: (جمع الضمير لأنه الخ) يعني أنه من وضع المفرد مكان الجمع وهو كثير حيث يراد الجنس، وعدم التعيين وأما كونه يقال هو زوج وهما زوجان فشيء آخر غير هذا، ومن ظنه يدل على أنه موضوع للجمع فقد وهم، وجعل القنطار كناية عن الكثرة وهو ظاهر. قوله: (استفهام إنكار وتوبيخ الخ) أشار بقوله: باهتين إلى أنه مصدر منصوب على الحالية بتأويل الوصف، وقوله: ويحتمل الخ أي مفعول لأجله، وهو كما يكون بالعلة الباعثة كقعدت عن الحرب جبناً يكون بالعلة الغائية أيضاً، وقوله: يبهت بفتح الياء أي يحيره ويدهشه. وقوله: {وَآتَيْتُمْ} أي آتى أحدكم وضمير إحداهن للمضاف إليه مكان. وقوله: (وصل إليها بالملامسة) بناء على أن تقرير المهر يكون بذلك لا بمجرّد الخلوة. وقوله: (وهو حق الصحة الخ) فالعهد مجاز عنه ووصفه بالغلظ لعظمه وفي الكشاف قالوا: صحبة عشرين يوما قرابة.
(قلت) بل قالوا:
صحبة يوم نسب قريب وذمّة يعرفها اللبيب
وقوله: (أو ما أوثق الله فعليه إسناد الأخذ إليهن مجازيّ وقوله عليه الصلاة والسلام: " اخذتموهن " الخ) أخرجه مسلم من حديث جابر رضي الله تعالى عنه بلفظ: " اتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن " والمراد بأمانة الله أي بسبب أن جعلهم الله أمانة عندكم وكلمة الله أمره أو العقد. قوله: (وإنما ذكر ما دون من الخ) يعني أن ما إذا كانت واقعة على من يعقل فضد من جوزه مطلقا لا كلام وكذا من جوزه إذا أريد معنى صفة مقصودة منه، وليس المراد ما تضمنه الصلة كما مرّ وقيل: ما مصدرية والمراد مثل نكاح آبائكم أو نكاج آبائكم والمراد منكوحاتهم بتأويله بالمفعول. قوله: (بيان ما نكح الغ (المراد بالوجهين الموصولية والمصدرية وظاهره أن من بيانية قبل أو تبعيضية والبيان معنوي، ونكتة البيان مع عدم الاحتياج إليه إذا المنكوحات لا يكن إلا نساء قيل التعميم. توله: (اس! مناء من المعنى اللارّم الخ) يعني أنّ النهي للمستقبل وما قد سلف ماض فكيف يستثنى منه فيل: إنّ الاستثناء متصل بالتأويل الذي ذكره على إرادة المبالغة فقيل: هو متصل أو منقطع، والمختار أنه متصل لأنه لو لم يدخل فيه لا تحصل المبالغة المذكورة وسيأتي ما قيل من أنه منقطع، والمعنى لكن ما سلف منه قبل لا تعاقبون وتلامون عليه لأنّ الإسلام يهدم ما قبله فيثبت به أحكام النسب وغيره وأما التقرير عليه فلم يقل به أحد من الأئفة، وقد ردّ القول بأنهم أقرّوا عليه أوّلاً، ثم أمروا بمفارقتهن، والزمخشريّ ذكر هذا التوجيه في إلا ما قد سلف الآتي وتركه هنا، وقال شراحه إنما اختاره هناك وتركه هنا لأنه ذيل هنا بقوله: إنه كان فاحشة فيقتضي أنه غير معفوّ بخلافه ثمة فإنه ذيل بقوله: إنه كان غفوراً رحيما، فاقتضى هذا التأويل وهو متجه والمصنف خالفه وأشار إلى وجه المخالفة بأن التذييل لتعليل النهي بقطع النظر عن الاستثناء فلم يره متجها وفيه نظر. قوله: (أو من اللفظ للمبالغة الخ) يعني أنه من باب تأكيد الشيء بما يشبه نقيضه كما في بيت النابغة وهو من تعليق الشيء بالمحال كقوله تعالى: {حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} [سورة الأعرأف، الآية: 40] والمعلق على المحال محال فيقتضي ما ذكر من(3/118)
التأكيد والتعميم لأنه لا شيء من المحال بواقع. قوله: (ولا عيب الخ) هو من قصيدة للنابغة الذبياني أوّلها:
كليني لهمّ يا أميمة ناصب وليل أقاسيه بطيء الكواكب
والحلائل جمع حليلة وهي الزوجة لحلها له أو حلولها عنده والفلول جمع فل وهو كسر
في حد السيف، وقيل: إنه مصدر بمعناه وتكسر حد السيف من شدة القتال ممدوج فالمعنى إن يكن فيهم عيب فهو هذا، وهذا لا يتصوّر أنه عيب فلا يتصوّر أن يكون بهم عيب. قوله: (علة للنهي الخ) تقدّم وجه ذكر المصنف لهذا وعلى انقطاع الاستثناء يحتمل أنه خبر وهذا النكاح كان يسمى في الجاهلية نكاح المقت ويسمى الولد منه مقتياً، والمقت البغض والكراهة، وقوله: سبيل من يراه إشارة إلى أنه تمييز محوّل عن الفاعل، وذم طريقه مبالغة في ذم سالكها وكناية عنه والضمير المستتر في ساء يعود على النكاج المذكور، وجوّز أن يكون ساء من باب بئس وضميره عائد على التمييز والمخصوص بالذم محذوف فقوله: سبيل من يراه إشارة إلى المخصوص المقدّر. قوله: (ليس المراد تحريم ذاتهن الخ الما كانت الحرمة واخواتها إنما تتعلق بأفعال المكلفين أشار المصنف رحمه الله إلى أنه على حذف مضاف بدلالة الفعل، ثم تعيين المحذوف موكول إلى القرينة كالنكاح والشرب والأكل ونحوه وقيل: إنه مضمن معنى المنع وانّ تعلقه بالأعيان أبلغ. وقوله: (لآنه معظم الخ) إن كان المراد بالنكاج الوطء بعقد فظاهر، وان كان المراد العقد فالمراد ثمرته من الجماع والاستمتاع، ولما كان ما بعده وما قبله بصدده لو لم يكن المراد هذا كان تخلل أجنبي بينهما من غير نكتة. قوله: (وامهاثكم الخ (يعني المراد بها الأصول والفروع ليشمل الجدات وبنات الأولاد، وكذلك الباقيات أي العمات والخالات يشملها من الجهات الثلاث، وفسر العمة والخالة بما ذكره ليشمل أخت الأب والجدّ وأخت الأم والجدّة. قوله: (وأمرها على قياس النسب الخ) أمرها بفتح الهمزة وسكون الميم
أي أمرها كائن على قياس النسب، وقيل: إنه بفتحتين وراء مشددة بمعنى أجراها يعني أن المرضعة أم وزوجها أب. وقوله: " يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب " أخرجه البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها وعن ابن عباس رضي الله عنهما. قوله: (واستثناء أخت ابن الرجل وأم أخيه من الرضاع الخ الفظ أخيه بالياء والتاء صحيح قال الفقهاء: حكم الرضاع حكم النسب مطلقا إلا في صور هاتين الصورتين وأخريين أم النافلة وجدة الولد فإنّ كلا منهما يحرم من النسب لأنّ أم النافلة أي ولد الولد زوج الابن وجدة الولد أم الزوج ولا يحرمان من الرضاع كمن أرضعت ولد ولدك وأم أجنبية أرضعت ولدك، وقال المحققون: إنهما غير داخلين في الأصل ليصح الاستثناء قيل: وهو أولى مما قيل إنه مستغنى عنه لأنه لا نسب في هذه الصور بل مصاهرة وفرق بينهما وكأنّ من أخرجها أدخل المصاهرة في النسب لتعلقها به في الجملة، وقد صرح شارح المنهاج بأنّ بعض الشافعية استثناها وبعضهم لم يستثنها. قوله: (لحمة كلحمة النسب) أي اتصال كاتصاله وهي مستعارة من لحمة الثوب المعروفة ووجهه أن في النسب جزئية وكذا هنا لكون اللبن جزأه أو كجزئه وقد صار جزءاً منه فأشبه النسب بخلاف المصاهرة فإنها أمر عارض بالزواج، ورت وربي بمعنى والربيب فعيل بمعنى مفعول أي مربي ولما ألحق بالأسماء الجامدة لحوق التأنيث له، والا ففعيل بمعنى مفعول يستوي فيه الذكر والمؤنث. قوله: (ومن نسائكم متعلق بربائبكم الا بقوله: أثهات نسائكم وربائبكم كما سيأتي، وقوله: واللاتي بصلتها يعني بصلتها دخلتم بهن ولو قال: مقيدة للحكم فقط لكان أظهر إذ تقييد اللفظ، وإن كان المراد منه أنه عام فخص به فالحكم الشرعي مقيد به أيضا إذ لا كبير فائدة فيه. وقوله:) قضية للنظم) أي لأجل قضاء النظم به، ومنهم من فسر اللاتي بصلتها بقوله اللاتي في حجوركم وجعل من نسائكم اللاتي دخلتم بهن داخلاً في صلتها، وأورد عليه أنه يجوز أن يكون حالاً من ربائبكم فلا يتم كلامه، وهو تكلف والأوّل أولى وجعل الصلة والموصول صفة
تسمح لأن الصفة إنما هو الموصول وهو سهل 0 قوله: (ولا يجوز تعليقها بالأمّهات أيضاً الخ) أي تعليق من نسائكم بهما، لأنه يلزم في من استعمالها في معنيين مختلفين البيان وابتداء الغاية وما يقال جميع معاني من راجعة(3/119)
للابتداء على ضرب من التأويل لا أنه معنى كليّ صادق عليها بالحقيقة وأيضا إنها إذا كانت بيانا كانت حالاً من نسائكم فيختلف عاملا الحالين، ولا قائل به فإن أريد الاتصال تناول اتصال الأمهات بالنساء لكونها، والدات لهن والربائب بالنساء لكونهن مولودات منهن فحينئذ يصح تعلقه بالأمهات والربائب جميعا حالاً منهما وتظهر فائدة اتصال الأمهات بالنساء بعد إضافتها إليها من جهة زيادة قيد الدخول لكن الاتفاق على حرمة أمهات النساء مدخولات بهن أو غير مدخولات يأباه فمن ثمة علق بالربائب فقط. قوله: (فإني لست منك ولست مني) هو للنابغة، وصدره:
إذا حاولت في أسد فجورا
قال الأعلم إنه قاله لعيينة بن حصن الفزاري، وكان قد دعاه تومه إلى نقض حلف بني
أسد فأبى عليه، وأراد بالفجور نقض الحلف، وقيل تمامه:
إذا ما طار من مالي الثمين
والثمين بمعنى الثمن وهو خطاب لزوجته بأنها إذأ أخذت من إرثه الثمن انقطع الاتصال
بيننا فمنك بكسر الكاف ولست بالكسر على هذه الرواية. قوله: (على معنى أن أمهات النساء الخ) أي متصلة بالنساء المدخول بهن بالأصلية والفرعية، وقيل عليه إنّ تركيبه مع الربائب في غاية الفصاحة وحسن النظم وأما مع أمهات فلا فإنّ تقديره وأمهات نسائكم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن ولا وجه له وفيه نظر. وقوله: (لكن الرسول صلى الله عليه وسلم) الخ الحديث أخرجه الترمذفي بمعناه والمروفي عن علي رضي الله عنه أخرجه ابن أبي حاتم ووجه الفرق كما في الانتصاف أنّ المتزوّج بالبنت لا يخلو عن محاورة، ومراجعة مع أمها بعد العقد وقبل الدخول فحرمت بالعقد لينقطع شوقه من الأم لمعاملتها معاملة المحرم، ولا كذلك عكسه إذ لا تحصل مظنة الخلطة بالربيبة إلا بعد الدخول، وعن الإمام أن البنت إذا أبدلت بالأم وأوثرت عليها لم تلحقها مشقة
وغيرة كما تلحق البنت إذا أوثرت بأمها لشفقة الأم وحنوها كما قال المتنبي:
إنما أنت والد والأب القا طع أحنى من واصل الأولاد
واختلاف العاملين ظاهر لأنّ أحدهما المضاف والآخر من. قوله: (وفائدة قوله في حجوركم الخ) يعني أن القيد ليس معتبرا لأنه إنما يعتبر إذا لم يكن لذكره فائدة أخرى، وهي هنا ما ذكر من مشابهتهن للولد بما ذكر وتناول الأمهات للبعيدة فيه نظر، وقوله: دخلتم معن الستر يريد أنّ الباء للتعدية وفيها معنى المصاحبة كما صرح به الكشاف، وهو الفارق بين التعدية بالباء والهمزة، وقوله: لمس المنكوحة بل الأجنبية أيضا أو بمعنى مع فهو وجه آخر. قوله:) تصريح بعد إشعار الخ) يعني أنّ تقييد الحكم بقيد يفيد انتفاءه عند انتفائه فالتصريح بانتفائه بعده تعيين له دون غيره فلا يقاس عليه أمر آخر كاللمس والنظر إلى الفرج وهو ردّ على أبي حنيفة رحمه الله، ومن قال في تفسيره: أي لقياس الربائب على أمهات النساء في كون الربائب محرمة مثلهن على الإطلاق فقد أخطأ لعدم الوقوف على مراده، قال المحقق: الدخول بهن كناية عن الجماع صريح في أنّ مدلول الآية كون الحرمة مشروطة بالجماع ولهذا قال اللمس ونحوه يقوم مقام الدخول، وما ذكر من الآثار إنما يدل على ثبوت الحرمة بتقدير اللمس لا على تناول الآية إياه وحمل الدخول على حقيقته فلم يبق إلا القياس ولا سبيل إليه مع صريح قوله: (فإن لم تكونوا الخ) .
(أقول) يعني ما ذهب إليه أبو حنيفة رحمه الله مما لا مجال له لأنّ صريح الآية غير مراد
قطعا بل ما اشتهر من معناها الكنائي فما قاله: إن أثبت بالقياس فهو مخالف لصريح نص الشرط، وإذا جاء نهر الله بطل نهر معقل وان أثبتوه بالحديث وهو غير مشهور لم يوافق أصولهم، ويدفع بأنه من صريح النص لأنّ باء الإلصاق صريحة فيه لأنه يقال: دخل بها إذا أمسكها وأدخلها البيت كما أشار إليه النسفي، فإن قلت هب أنّ الكناية لا يشترط فيها القرينة
المانعة عن إرادة الحقيقة لكن لا يلزم إرادته كما حقق في المعاني فلا دلالة للآية عليه، قلت: هو وإن لم يلزم إرادته لكن لا مانع منه عند قيام قرينة على إرادته والآثار المذكورة كفى بها قرينة على ذلك فلذا أدرجوه في مدلول النظم فالمعترض غافل أو متغافل فإن قلت هب إنك أدخلت اللمس في صريحه فكيف يدخل نحوه فيه قلت هو داخل بدلالة النص، ثم إنّ(3/120)
ما ذكر من كون الشرط مانعا مما ذكر ممنوع فإنه مبني على اعتبار مفهوم الشرط ونحن لا نقول به مع أنه غير عام، ولو سلم عمومه فقط خص ما فيه بعض المحرمات النسبية فيجوز تخصيصه بعد ذلك بالحديث فتأمل، وفيه كلام في بعض شروح الهداية فإن أردته فانظره، وقوله: ما لبس بزنا هو مذهب الشافعي وعندنا تحرم المصاهرة به. قوله: (احتراز عن المتبنين الخ (المتبني بصحيغة المفعول المتخذ ابنا، وذكر بعضهم فيه خلافا للشافعي رحمه الله والمنقول عنهم أنّ ذكر الأصلاب لإحلال حليلة المتبني لا لإحلال حليلة الابن من الرضاع ولا حليلة ابن الابن كمذهبنا بلا خلاف. قوله: (والظاهر أن الحرمة غير مقصورة على النكاح (فيشمل التسرّي وقوله: حرّمتهما الخ ذكره في الموطأ وقوله: مخصوصة الخ أي في غير الأختين. قوله: (ما اجتمع الحلال والحرام الأغلب الحرام) قالوا: هذه القاعدة مقرّرة، ولم يخرج عنها إلا بعض أمور نادرة لكن الكلام في كونه حديثاً فقال العراقيّ: لا أصل له وقال السبكي رحمه الله: في الأشباه إنه حديمث ضعيف، رواه جابر رضي الله عنه وكذا قال الزركثيّ وقد عورض الحديث المذكور بما رواه ابن ماجه والدارقطني عن ابن عمر رضي الله عنهما لا يحرّم الحرام الحلال، وجمع بينهما بأنّ المحكوم في الأوّل إعطاء الحلال حكم الحرام تغليبا واحتياطاً لا صيرورته في نفسه حراما وغلب الحرام بمعنى أنّ تركه أرجح كما في الحديث: " دع ما يريبك إلا ما لا يريبك ". قوله: (استثناء من لارّم المعنى الخ (قد تقدّم الكلام في هذا التركيب، وما فيه من
الوجوه وهل هو متصل أو منقطع وأنّ بينهما فرقاً يؤخذ من التذييل واليه يشير قول المصنف رحمه الله لقوله: إنّ الله كان غفوراً رحيماً، وأمّا قصد التأكيد والمبالغة هنا فلا يناسب قوله: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا} ولذا تركوه ولم يتعرضوا له هنا لأنّ الغفران والرحمة لا يناسب تأكيد التحريم فلو اقتصر على الوجه الثاني لكان أولى. قوله: (ذوات الآزواج الخ (وأصل معناه لغة المنع وحصنت المرأة عفت وأما أحصن، فجاء في اسم فاعله محصنة ومحصنة بالكسر والفتح وقال ابن الأعرابيّ: كل أفعل اسم فاعله بالكسر إلا ثلاثة أحرف أحصن وألفج إذا ذهب ماله وأسهب كثر كلامه وقد قرأ السبعة غير الكسائي المحصنات في جميع القرآن بفتح الصاد وقرأها الكسائي بالكسر إلا في هذه الآية فإنه فتحها وحكى أبو عبيدة إجماع القراءة على فتحها في هذه المواضع، وقال: من فتح ذهب إلى أنّ المراد ذوات الأزواج أي أحصنهن أزواجهن ومن كسر ذهب إلى أنهن أسلمن فأحصن أنفسهن، والإحصان في المرأة ورد في اللغة فاستعمل في القرآن بأربعة معان:
الإسلام والحزية والتزوّج والعفة وزاد الرافعيّ العقل لمنعه من الفواحش كذا بخط العلائيّ وتفصيله في غير هذا المحل، والإحصان من الحصن ومنه درع وفرس حصان لكونه حصيناً لراكبه.
قال الشاعر:
إنّ الحصون الخيل لا مدر القرى
ويقال حصان للعفيفة، ويقال: امرأة محصن بالكسر إذا تصوّر حصنها من نفسها وبالفتح
إذا تصوّر من غيرها والمحصنات بعد قوله: حرمت بالفتح لا غير وفي سائر المواضع بالفتح والكسر لأن اللواتي حرم التزوّج بهن المتزوّجات دون العفيفات وفي سائر المواضسع يحتمل الوجهين كذا قال الطيبي: وقال أبو البقاء: القراء السبعة على فتح الصاد هنا فقول المصنف رحمه الله هنا (وقرأ الكسائي الخ أليس على ما ينبغي لأنه متفق على الفتح هنا، وفي نسخة في غير هذا الحرف فلا إشكال وبعض الناس أوردها وفسرها بما أفسدها، والمحصنات معطوف على فاعل حرمت. قوله: (أحصنهن التزويج) إشارة إلى توجيه الفتح وأنه اسم مفعول لا اسم فاعل على خلاف القياس كما مرّ. قوله:) {إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} الخ اللعلماء هنا ثلاثة أقوال ترجع إلى معنيين في المحصنات.
أحدها: أن المراد به المزوجات أي هن حرام إلا على أزواجهن والمراد بالملك مطلق
ملك اليمين فكل من انتقل إليه ملك أمة يبيع أو هبة أو سباء أو غير ذلك، وكانت مزوجة كان
ذلك الانتقال مقتضيا لطلاقها وحلها كمن انتقلت إليه وهو قول ابن مسعود وجماعة من الصحابة رضي الله عنهم.
والثاني: تخصيص الملك بالسباء خاصة فإنه المقتضي لفسخ النكاح وحلها للسابي دون غيره، وهو قول عمر وعثمان وجمهور الصحابة والتابعين والأئمة الأربعة كما سيأتي.
والثالث: إنّ المحصنات أعم من العفائف والحرائر(3/121)
وذوات الأزواج والملك أعم من
ملك اليمين وملك الاستمتاع بالنكاح فرجع معنى الآية إلى تحريم الزنا وحرمة كل أجنبية إلا بعقد نكاح أو ملك يمين، وهذا مروي عن بعض الصحابة واختاره مالك رحمه الله في الموطأ. قوله: (يريد الخ) هذا هو القول الثاني في الآية كما مرّ، وهو الماثور وقوله لقول أبي سعيد الخ إشارة إلى ما روي في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبئ صلى الله عليه وسلم بعث يوم حتين سرية فأصابوا حياً من العرب يوم أوطاس فهزموهم وقتلوهم واصابوا لهم نساء لهن أزواج فكان أناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم تأثموا من غشيانهن من أجل أزواجهن فأنزل الله عز وجل هذه الآية وهي غزوة من غزواته صلى الله عليه وسلم واليوم بمعنى الوقعة والقتال ووقعة حنين في المعجم وفيها قال صلى الله عليه وسلم: " اليوم حمى لوطيس حين استعرت الحرب ". قوله: (من اللاتي سبين ولهن أزواج الخ) يعني أنّ الآية مخصحوصة بذوات الأزوأج المسبيات، بدليل سبب النزول لأنّ ملك اليمين لا يزيل النكاج بالاتفاق كما لو باع جارية مزوجة أو انتقل ملكها عمن زوجها بأرث أو هبة لكن هل مجرد السبي محل لذلك، أو سببها وحدها فعند الشافعي رحمه الله مجرد السبي موجب للفرقة ومحل للنكاح وعند أبي حنيفة رحمه الله سبيها وحدها حتى لو سبيت معه لم تحل للسابي. قوله: (فنزلت الآية (يعني من قوله: ( {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ} الخ الا قوله:) {وَالْمُحْصَنَاتُ} الخ) إذ لا يتم بدون ما قبله ويحتمل ذلك بأن يقدر له عامل، وهو خلاف الظاهر ولم يذكره أحد من المعربين لا يقال: هذا قصر للعام على سببه وهو مخالف لما تقرر في الأصول من أنه لا يعتبر خصوص السبب، لأنا نقول ليس هذا من قصر العام على سببه لمانما خص لمعارضمة دليل آخر، وهو الحديث المشهور عن عائشة رضي الله عنها أنها لما
اشترت بريرة، وكانت مزوجة أعتقتها، وخيرها النبيّ صلى الله عليه وسلم من زوجها مغيث فلو كان بيع الأمّة طلاقا ما خيرها فاقتصر حينئذ بالعامّ على سببه الوارد عليه لما كان غير البيع من أنواع الانتقالات كالبيع في أنه ملك اختياري مترتب على ملك متقدم بخلاف السباء فإنه إنشاء ملك جديد قهري فلا يلحق به غيره كذا حققوه، وبيت الفرزدق هذا من قصيدة له والحليل الزوج واسناد الإنكاج إلى الرماح مجاز وحلال صفة ذات تجري على إعرابه وذكر لأنه مصدر أو خبر مبتدأ محذوف أي هي حلال، ولمن يبنى بها أي يدخل عليها متعلق بحلال، ولم تطلق صفة بعد صفة أو خبر بعد خبر وهو ظاهر. قوله: (وإطلاق الآية والحديث حجة عليه) إطلاق الآية والحديث غنر مسلم قال في الأحكام المروي إنه: لما كان يوم أوطاس لحقت الرجال بالجبال وأخذت النساء فقال المسلمون: كيف نصنع ولهن أزواج فأنزل الله {وَالْمُحْصَنَاتُ} الآية وكذا في حنين كما ذكره أهل المغازي، فثبت أنه لم يكن معهن أزواجهن فإن احتجوا بعموم اللفظ قيل لهم قد اتفقنا على أنه ليس ب! ، م وأنه لا تجب الفرقة بتجدد الملك فإذا لم يكن كذلك علمنا أنّ الفرقة لمعنى آخر، وهو اختلاف الدارين فلزم تخصيصها بالمسبيات وحدهن وليس السبي سبب الفرقة بدليل إنها لو خرجت إلينا مسلمة أو ذمية ولم يلحق بها زوجها وقعت الفرقة بلا خلاف وقد حكم الله به في المهاجرات في قوله {وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} فلا يرد ما ذكره المصنف عند التحقيق، وأوطاس بفتح الهمزة أفعال بطاء وسين مهملتين واد بديار هوازن كانت فيه تلك الوقعة. قوله: (كتاب الله الخ) إمّا منصوب على أنه مصدر كتب مقدراً بمعنى فرض وهو مصدر مؤكد ولا ينافيه الإضافة كما توهم وذهب الكسائي إلى أنه منصوب على الإغراء، واستدل به على جواز تقديم المفعول في باب الإغراء، ورد بأنه منصوب على المصدرية وعليكم متعلق بالفعل المقدر وجملة كتب مؤكدة لما قبلها. قوله: (عطف على الفعل المضمر (تبع فيه الزمخشري حيث جعله في قراءة المعلوم معطوفاً على كتب المعلوم وفي قراءة المجهول معطوفا على حرمت المجهول، وقيل عليه إنّ ما اختاره من التفرقة غير مختار لأنّ جملة كتب لتأكيد ما قبلها وهذه غير مؤكدة، فلا ينبغي عطفها على المؤكدة بل على الجملة المؤسسة خصوصا مع تباينهما بالتحليل والتحريم وفيه نظر لأنّ تحليل ما سوى ذلك مؤكد لتحريمه معنى وما ذكره أمر استحساني رعاية لمناسبة(3/122)
ظاهرة. قوله: (ما سوى المحرمات الثمان الخ الا يخفى
زيادتها على ثمان ولذا وقع في نسخة المحرمات المذكورة بدون ثمان ولا خفاء فيها، وأما هذه فتوجه بأنه جعلها أصنافاً يدخل بعضها في بعض وهي الأصول حقيقة أو حكماً كالرضاع والفروع حقيقة أو حكماً كارضاع والربائب وفروع الأصول حقيقة أو حكما كالأخوات نسباً ورضاعا، وفروع الجذ والجدة كالعمات والخالات وفروع فروع الأصول كبنات الأخ والأخت وأصول النساء والأختان وذوات الأزواج ونحو ذلك من الاعتبارات التي تلف نشرها باعتبار مدار الحرمة ونحوه، وكذا عدها النووي رحمه أدلّه تعالى في منهاجه الفرير فإن أردت تحقيقه فراجع شروحه، وأشار إلى جواب سؤال وهو أنّ المحرمات لا تنحصر في هذه بأن ما عداها مخصوص من الحل بدليل إمّا الحديث أو الكتاب كما زاد على الأربع، وقوله: والجمع بين المرأة وعمتها وخالتها وكذا الجمع بين كل امرأتين أيتهما فرضت ذكرا لم تحل له الأخرى كما بين في الفروع. قوله: (مفعول له والمعنى أحل لكم الخ) قيل تقدير الإرادة بيان للمعنى والا فلا حاجة لحذف اللام إلى تقدير الإرادة وهو مفعول له لما دل عليه الكلام من قوله: حرّمت وأحل ويرد عليه أنّ شرط المفعول اتحاد فاعل المعلل والعلة وفاعل التحليل والتحريم الله وفاعل الابتغاء المخاطبون، فلذا جعله على حذف المضاف فالحاجة داعية إليه لا كما قال وقيل: إنه من خبايا دسائسه الاعتزالية فلا ينبغي للمصنف رحمه الله تعالى متابعته، وليس كما قال: وأما كونه يلزم تخلف إرادته تعالى لأنّ منهم من لا يبتغي ذلك، وهو مذهبهم فمد فرع بأنّ الإرادة هنا بمعنى الطلب مطلقاً وكثيراً ما تستعمل له، واعتذر عن الأوّل بأنّ ألاتحاد المذكور مشروط في غير أنّ وأن ومن التعسف ما قيل إنه يحتمل أنه مفعول به وضمير له لا حل ولا وجه له، وقوله: تبتغوا النساء إشارة إلى مفعوله المقدر، وقوله: بأموالكم لا يناسب ما سيأتي. قوله: (ويجوز أن لا يقدر مفعلو تبتغوا إلى آخره) هذا ما ارتضاه الزمخشري والمصنف رحمه الله تعالى خالفه فيه وجعل الأجود تقديره عامّا لأنهم وجهوا أرجحيته بأنه أبلغ لأنه بين ما يحل مما يحرم ليكون الطلب بالأموال أي صرفها وإخراجها في وجوه الطلب حال كونكم محصنين غير مسافحين ومصلحين غير مفسدين، والقصد إلى الفعل من غير تقدير مفعول يتناول إعطاء المهور الحرائر وأثمان السراري والإنفاق عليهن وغيرها، وقيل: لأن هذا المقدر يفهم من قوله: غير مسافحين فيكون تكرارا مستغنى عنه ولا يخفى ما فيه من التكلف، وما فعله المصنف رحمه الله تعالى أحسن وقوله: إرادة أن تصرفوا إشارة إلى أن الابتغاء بالمال عبارة عن صرفه واخراجه. قوله: (أو بدل الخ) جعله بدلاً ما الموصولة، وهي بمعنى أحل من النساء وما بمعنى المبدل بدل اشتمال لأنّ الحل والحرمة متعلقان بالأفعال والرابط له عموم
المفعول فإن كانت ما عبارة عن الفعل، كالتزوّج والنكاح ونحوه فهو بدل كل من كل، والزمخشريّ لم يرتض البدلية لأنها على تقدير المفعول المرجوح عنده. قوله: (واحتج به الحنفية الخ (وجه الاحتجاج تخصيص المال، وهو ظاهر فيما ذكروه ولا حجة فيه لأنّ التخصيص لأنه الأغلب المتعارف فيه قيل ويؤيده ما في البخاري ومسلم وغيرهما أنه صلى الله عليه وسلم سألى رجلاَ خطب الواهبة نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم: " ماذا معك من القرآن " قال: معي سورة كذا وكذا وعددهق قال: " تقرؤهق عن ظهر قلبك " قال: نعم، قال: " اذهب فقد ملكتها لك بما معك من القرآن " وأجيب بأن كون القرآن معه لا يوجب كونه بدلاً، والتعليم ليس له ذكر في الخبر فيجوز أن يكون مراده زوجتك تعظيماً للقرآن ولأجل ما معك منه، وفسر الإحصان بالعفة لأنه المناسب واختار الزجاج هنا أنّ المراد بمحصنين ناكحين وعاقدين التزوبج، وقال الفرّاء: إنه بمعنى متعففين عن الزنا يقول: أن تبتغوا الحلال إما بالتزوج أو التسرّي، وهو قول ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وهو أعم معنى، وأصل السفح الصب فكنى به عن الزنا لأنّ الغرض! منه صب المنيّ لا النسل وغيره من فائدة التزوج. قوله: (فمن تمتعتم به الخ) يشير إلى أنّ ما بمعنى من للعقلاء لأنه أريد بها الوصف كما مرّ، وأنّ استمتع بمعنى تمتع والسين ليست للطلب بل للتأكيد وضمير به راجع لما باعتبار لفظه، ومن على هذا بيانية لما وهي متعلقة بمقدر هو حال من ضمير به وما إما موصولة أو شرطية(3/123)
وعلى الوجه الأخير ما لما لا يعقل بمعنى أي شيء ومن للابتداء متعلقة باستمتع وهو بمعنى تمتع أيضا وسكت عنه لعلمه مما قبله، وما فيها الوجهان والعائد من الخبر أو الجواب على اشتراطه على كونها بمعنى من ضميرهن الراجع إليه باعتبار معناه، فإن كانت بمعنى أيّ شيء فهو مقدر أي لأجله أو عليه وقوله: أو مصدر مؤكد أي فرض ذلك فريضة فهي مصدر كالقطيعة بمعنى القطع. قوله: (فيما يزاد على المسمى أو يحط عنه الخ (الفريضة هنا الشيء المقدر كما في فريضة الميراث ففي التيسير هذا مذهب الشافعي رحمه الله، ومذهبنا أنه لا يشترط تراضيهما في غير الزيادة، ويصح الإبراء والهبة
برضاها وحدها فهذا مخصوص وكذا في أحكام الجصاص مع زيادة تفصيل. قوله:) وقيل نزلت الآية في المتعة الخ) أي آية فما استمتعتم هذه 0
(اعلا (أنّ نكاح المتعة جوّزه النبيّ عت! هـ في صدر الإسلام، ثم نسخ بلا خلاف الآن فيه لا
حد من الفقهاء ولا قائل به سوى الشيعة، وأما المنقول عن ابن عباس رضي الله عنهما فيها فإنه رجع عنه وقيل: إنه إنما أجازه للمضطر لا مطلقا، روي أن سعيد بن جبير قال له: أتدري ما صنعت بفتواك فقد سارت بها الركبان وقيل فيها الشعر كقوله:
قدقلت للشيخ لماطال مجلسه ياصاج هل لك في فتيا ابن عباس
هل لك في رخصة الأطراف آنسة تكون مثواك حتى مصدر الناس
فقال: إنا لله وأنا إليه راجعون، والله بهذا أفتيت ولا أحللت إلا مثل ما أحل الله الميتة
والدم وقياسه على الميتة لا وجه له أيضاً، وقيل: إنّ النسخ وقع فيها مرات وأنها لم تبح إلا في السفر لا في الحضر. قوله: (غنى واعتلاء الخ) الطول بالضم ضدّ القصر والفتح أصله الفضل، والزيادة ومنه الطائل فأطلق على الغنى لأنه زيادة المال والقدرة أيضاً والاعتلاء ليس بالغين المعجمة افتعالاً من غلو السعر بل بالمهملة من علا إليه وطال إليه إذا ناله ووصل إليه وذكر الطيبي رحمه الله أنه يتعدّى بالى، وعلى فالطول الغنى والقدرة على المهر أو القدرة على الوطء بأن يكون تحته حرة، فالظاهر أنه أراد بالاعتلاء القدرة لأنّ القادر لتمكنه من المقدور عليه، كأنه فوقه معتل عليه فإذا كان أن ينكح مفعول طولاً فمعناه ينال النكاح ويقدر عليه إما بالغنى أو بالتمكن من الوطء، وقوله: يبلغ به نكاح المحصنات بيان للفعل المقدر الذي هو صفة وهو إشارة إلى أنه لا بد من تقدير إلى أو على أي طولاً وزيادة إلى أن ينكح أو طولاً على أن ينكح من طال عليه أي غلبه، كما نقل عن حواشي الكشاف، وقوله: يعتلي أي يرتفع إلى نكاح
المحصنات إشارة إلى وجه جعله منصوبا بطولاً أو جعل الطول بمعنى الاعتلاء أي الغلبة فتأمل، وفسر المحصنات بالحرائر لأنه يؤخذ من مقابله وهي المصونات عن ذل الرق. قوله: (فظاهر الآية حجة للشافعي رحمه الله الخ) لاًن حمل طول نكاح المؤمنات على ملك فراس الحرّة، وحمل النكاج على الوطء خلاف الظاهر لما في سورة النور من أن النكاج بمعنى الوطء لم يستعمل في القرآن، ولذا جعله تأويلاً من أبي حنيفة وحمل قيد المؤمنات على الأفضل، وهو أيضا غير قائل بالمفهوم كما حمل عليه قوله: {الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ} لأنّ نكاج المحصنات لا يتوقف على الإيمان بالاتفاق، وفيه نظر لما سيأتي في كلام المصنف رحمه الله، وقيل عليه إن ثصت قرينة وهي قوله: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ} وليس في الفتيات مثله ورد بأنه حيث ذكر في محل لا للتقييد جاز في الآخر ذلك. وقوله. (ومن أصحابنا الخ) هو قول آخر للشافعية فعلى الأوّل لا يجوز نكاح الأمة الكافرة مطلقاً ولا يجوز نكاج الأمة للقادر على حرّة مطلقاً وعلى هذا يجوز نكاح الأمة المؤمنة للقادر على غير مؤمنة للعلة المذكورة فقوله: (من حمله أيضاً على التقييد (أي حمل وصف المحصنات بالمؤمنات أيضاً على التقييد، وقوله: وما فيه أي ما في رق الولد من المهانة أي الذلة، ونقصان حق الزوج باستخدام سيدها لها وقوله: (أنتم وأرقاؤكم الخ (يريدان من هنا للاتصال. قوله: (واعتبار إذنهم مطلقاً الخ) وجه الاحتجاج كما في الكشاف أنه اعتبر إذن الموالي لأعقدهم ووجه ما ذكره المصنف أنّ عدم الاعتبار لا يوجب اعتبار بالعدم فلعل العاقد يكون هو المولى أو الوكيل فلا يلزم جواز عقدها، وأعاد الأمر(3/124)
بانكحوا مع فهمه مما قبله لأنّ المفهوم منه الإباحة وهذا للوجوب فلا إطناب. قوله: (أي أذوا إليهن مهورهن بإذن أهلهن الخ الما كان المهر للسيد قدر
المضاف، أو القيد بقرينة ما قبله فإذا أذن لها في أخذه جاز، وفي قوله: بالمعروف وجوه تعلقه بآتوهن أي آتوهن مهورهن بالمعروف أو حال أي ملتبسات بالمعروف غير ممطولات أو متعلق بانكحوهن أي انكحوهن بالمعروف أي بالوجه المعروف باذن أهلهن ومهر مثلهن، وأما أن فيه حذفاً أي بإذن أهلهن كقوله تعالى: {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ} [سورة الأحزاب، الآية: 35] ومثله كثير فلا يرد عليه ما قيل إنّ العطف لا يوجب مشاركة المعطوف المعطوف عليه في القيد المتأخر، وإنما هو ظاهر في القيد إذا تقدّم وكذا تقدير الموالي لا بد له من شاهد ولا بد حينئذ من نكتة لاختيار آتوهن على آتوهم مع تقدم الأهل، وقال النحرير: فيه تأكيد إيجاب المهر واشعار بأنه حقهن من هذه الجهة وأنما تأخذه الموالي بجهة وإنما تأخذه الموالي بجهة ملك اليمين وقول مالك رحمه الله يوجب كون الأمة مالكة مع أنه لا ملك للعبد فلا بد أن تكون مالكة له يداً كالعبد المأذون له في التجارة، لأنّ جعلها منكوحة إذن لها فيجب التسليم إليهن فإن حملت الأجور على النفقات استغنى عن اعتبار التقدير وكذا إن فسر بالمعروف بما عرف شرعا من إذن الموالي، ومحصنات غير مسافحات إما حالان من مفعول آتوهن فهو بمعنى متزوّجات أو من مفعول فانكحوهن فهو بمعنى عفائف، وما بعده تفسير له والمسافحة المجاهرة بالزنا والمتخذة الخدن بمعنى الصديق المستسرة به كذا فسروه به فلا يرد عليه أنه لا وجه له. قوله: (عفائف) فسره به لأنّ العفة أحد معاني الإحصان وأما حمله على المسلمات وان جاز خصوصاً على مذهب الجمهور الذين لا يجيزون نكاج الأمة الكتابية لكن هذا الشرط تقدّم، في قوله فتياتكم المؤمنات فلذا رجح الجمهور أن المراد بالمحصنات العفيفات فقوله: غير مسافحات أكيد له ولا ينافيه كونه تقسيماً للزواني فإنهن كن قسمين أحدهما الفجور بمن آتاهن، والثاني من لها خدن يزني بها سرأ حتى يقال الحمل على التقسيم أقوى. قوله: (فإذا أحصن) قرأها نافع وغيره بضم الهمزة وكسر الصاد مجهولاً وآخرون بالفتح معلومأ، ومعنى الأوّل فإذا أحصن بالتزويج فالمحصحن لها الزوج، ومعنى الثاني فإذا أحصن فروجهن أو أزواجهن، وقد مرّ تحقيقه وقاء فإن جواب إذا وفعليهن جواب إن فالثرط الثاني وجوابه مترتب على وجود الأوّل ولو سقطت الفاء انعكس الحكم ولزم تقدم الثاني على الأوّل لأنه حال فيجب التلبس به أوّلاً وهو معروف في النحو. قوله: (بالتزويج) قد مرّ انّ للإحصان معاني يحمل على بعضها بحسب ما يقتضيه النظم، وهو لا يمكن حمله هنا على الحرّية ولا على العفة لمنافاة
معناها له، ولهذا ذهب الجمهور إلى أنّ المراد به هنا التزويج، وهو المأثور عن ابن عباس رضي الله عنهما وغيره فعليه لاتحد الأمة إذا زنت ما لم تتزوّج، وذهب كثير إلى أنّ المراد به الإسلام، وهو مروي عن عمر رضي الله عنه من طرق وابن مسعود وابن عمر واليه ذهب مالك وأبو حنيفة والشافعي وأحمد وغيرهم، وقيل: إنّ مأخذ القولين اختلاف القراءتين فمن فتح الهمزة أراد أي أحصن أنفسهن بالإسلام، ومن ضمها أراد التزوبج فإنّ أزواجهن أحصنوهن، والحق إن كلا من القراءتين محتمل لكل من المعنين واحتج المرجح للأوّل بأنه سبحانه شرط الإسلام بقوله: من فتياتكم المؤمنات فحمل ما هنا على غيره أتم فائدة وان جاز أنه تأكيد لطول الكلام وفي الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم سئل عن الآمة إذا زنت ولم تحصن فقال: " إن زنت فاجلدوها " الحديث والمراد بالإحصان فيه التزويج وفي الآبة الإسلام إلا أن الزهري قال الإحصان في الآية التزوّج إلا أن الحد واجب على الأمة المسلمة إذا لم تتزوّج بهذا الحديث فالمزوّجة محدودة بالقرآن وغيرها بالسنة لكن تفسير الإحصان هنا بالإسلام، قال بعض المحققين إنه ظاهر على قول أبي حنيفة من جهة أنه لا يشترط في التزويج بالأمة أن تكون مسلمة، وإنّ الكفار ليسوا مخاطبين بالفروع وهو يشكل على قول من يقول بمفهوم الشرط من الشافعية فإنه يقتضي أن الأمة الكافرة إذا زنت لا تجلد، وليس مذهبه كذلك فإنه يقيم الحد على الكفار. قوله: (من الحدّ الخ) يعني أن المراد من العذاب الحد كما في تلك الآية قيل، وهذا(3/125)
دفع لتوهم أنّ الحدّ لهن يزيد بالإحصان فسقط الاستدلال به على أنهن قبل الإحصان لا حد عليهن كما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما وطاوس، وعلم من بيان حالهن حال العبيد بدلالة النص فلا وجه لما قيل إنه خلاف المعهود، لأنّ المعهود أن يدخل النساء تحت حكم الرجال بالتبعع! وكان وجهه إن دواعي الزنا فيهن أقوى وليس هذا تغليباً، وذكرا بطريق التبعية حتى يتجه ما قاله ووجه التخصيص لو كان ما ذكر لا يدل على حكم العبيد أنّ الكلام في تزوّج الإماء فهو بمقتضى الحال. قوله: (لمن خاف الوقوع في الزنا الخ) أي لغلبة شهوته، وقلة تقواه والتفسير الآخر قريب منه وعليهما فهو شرط آخر لجواز تزوّج الإماء كما هو مذهب الشافعي وهو عند أبي حنيفة ليس بشرط وإنما هو إرشاد للأصلح. قوله: (وصبركم الخ) إشارة إلى ا!
إن مصدرية وقيد العفة مأخوذ من الصبر الذي هو خير فإنه لا يكون إلا مع العفة والحديث المذكور في مسند الديلمي والفردوس عن أبي هريرة رضي الله عنه وهو كقوله:
ومن لم يكن في بيته قهرمانة فذلك بيت لا أباً لك ضائع
وقوله:
إذالم يكن في منزل المرء حرة تدبره ضاعت مصالح داره
قوله: (لمن لم يصبر الخ) إنما عبر بالمغفرة فيه تنفيراً عنه حتى كأنه ذنب. قوله: (ما تعبدكم به من الحلال والحرام الخ) إشارة إلى مفعول يبين المقدر، وفيه ربعل للآيات السابقة باللاحقة إنّ ما قبله في النساء والمناكحات وما بعده في الأموال والتجارات، وهذه قد توسطتهما كالتخلص من أمر إلى آخر يناسبه وذكر السنن من حسن التخلص. قوله: (وليبين مفعول يريد الخ) هذا التركيب وقع في كلام العرب قديماً كقوله، أريد لأنسي ذكرها، وخرجه النحاة على مذاهب فقيل مفعول يريد محذوف أي تحليل ما حلل وتحريم ما حرّم ونحوه واللام لام التعليل أو العاقبة أي ذلك لأجل التبيين ونسب هذا لسيبويه فمتعلق الإرادة غير التبيين وإنما فعلوه لثلا يتعذى الفعل إلى مفعوله المتأخر عنه باللام، وهو ممتنع أو ضعيف وقيل: إنه إذا قصد التأكيد جاز من غير ضعف، وسمي صاحب اللباب اللام فيه لام التكملة وجعلها مقابلة للام التعدية، وأما جعل الفعل مؤوّلاً بالمصدر من غير سابك على أنه مبتدأ والجار والمجرور خبره أي إرادة الله كائنة للتبيين فتكلف، وان ذهب إله بعض البصريين فكان مذهبهم عدم اشتراط السابك، ومذهب الكوفيين أنّ اللام هي الناصبة من غير تقدير إن ولذا قيل على ما ذهب إليه المصنف تبعاً للزمخشريّ من أنه مفعول واللام زائدة إنه مخالف لمذهب البصريين والكوفيين معاً مع أن أن لا تضمر بعد اللام إلا وهي لام تعليل أو جحود وقد جوّز في الآية أن يكون يبين ويهدي تنازعا في سنن وهو حسن وكون اللام لتأكيد الاستقبال لأنها لا تكون إلا لما يستقبل بنفسه، أو بإضمار أن وكي بعدها والإرادة لا تكون أيضاً إلا لمستقبل أي إنه يلزم استقبال تعلقها ومتعلقها فلا يرد أنّ إرادة الله قديمة. قوله: (كما في قول قيس بن سعد رضي الله عنهما الخ) وسبب هذا الشعر كما في كامل المبرد، وغيره إنّ عظيم الروم بعث إلى معاوية
رضي الله عنه بهدية مع رسولين أحدهما جسيم طويل جداً، والآخر أيد قوي ففطن معاوية رضي الله عنه لمراده فقال لعمرو بن العاص رضي الله عنه أما الطويل فإني أجد مثله فمن للأيد فقال: أرى له أحد شخصين محمد ابن الحنفية أو عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما فقال: أجل برّدت قلبي، ثم أرسل إلى قيس رضي الله عنه وعرفه الحال فحضر فلما تمثل عند معاوية لما أراد نزع سراويله، ورمى بها إلى العلج الطويل فلبسها فنالت ثندوته وأطرق مغلوبا فلام الحاضرون قيساً على نزعها بين يدي معاوية وتبذله عنده وقيل له هلا ذهبت وبعثت بها فقال: أردت لكيما يعلم الناس أنها سراويل قيس والوفود شهود
وأن لا يقولوا غاب قيس وهذه سراوبل عاد أودعته ثمود
واني من القوم الثمانين سيد وما الناس إلا سيد ومسود
وبد جميع الخلق أصلي ومنصبي وجسمي به أعلو الرجال مديد(3/126)
وحضر محمد ابن الحنفية، وعلم ما يراد منه فخير العلج بين أن يقعد ويقوم العلج ويعطيه يده فيقيمه أو يقعد العلج، ويقوم محمد ويعطيه يده فيقعده فاختار العلج الحالتين فغلبه محمد وأقام العلج وأقعده، وكذا أخرجه ابن عساكر في تاريخه فاللام وكي زائدة في البيت لتأكيد معنى الاستقبال أو يوجه بما مرّ وما ذكره من تقدير المفعول مرّ شرحه. قوله: (مناهج من تقدّمكم الخ) يشير إلى أنّ السنن كالسنة بمعنى الطريقة وكون هذا طريقة من قبلهم أي من نوعها وجنسها في بيان المصالح، وان لم تكن منفعة وقيل: إنّ هذا الحكم كان كذلك في الأمم السالفة وفيه نظر. قوله: (ويغفر لكم ذنوبكم الخ الما كانت التوبة ترك الذنب مع الندم والعزم على عدم العود، فإسنادها إلى الله تعالى لا بد من تأويله أشار المصنف رحمه الله إلى أنه بمعنى المغفرة مجازاً لتسببها عن التوبة أو بمعنى، الإرشاد إلى ما يمنع عن المعاصي على الاستعارة لأن التوبة تمنع عنها كما أنّ إرشاده تعالى كذلك أو عن حثه تعالى عليها لأنه سبب لها عكس الأوّل، أو الإرشاد إلى مكفرها على التشبيه أيضا، وقال الطيبي رحمه الله: أنّ قوله تعالى: (دبتوب من وضع المسبب موضع السبب) وذلك لعطفه ويتوب على قوله: {وَيَهْدِيَكُمْ} الخ على سبيل البيان كأنه قيل: {لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ} ويرشدكم إلى الطاعات فوضعموضعه ويتوب عليكم. قوله:) كرر للتثيد والمبالنة (لم يجعله الزمخشرفي تكريراً لأنه فسر يتوب أوّلاً بقبول التوبة والإرشاد إلى الطاعات ليناسب المعطوف عليه، وهو يبين وفسره
هنا بأن يفعلوا ما يستوجبون به قبول التوبة لتقابل إرادته إرادة أن قيلوا ميلا عظيما فيجب تعاطف الجملتين المشتملتين على تقابل المريد والمراد أعني والله يريد أن يتوب عليكم، ويريد الذين يتبعون الشهوات الخ فلا يكون تكريراً للإرادة الأولى كما ذهب إليه بعضهم مع زيادة تقوي الحكم، ثم إنه إنما يتمشى على كون ليبين لكم مفعولاً كما مرّ والا فلا تكرار لأنّ تعلق الإرادة بالتوبة في الأوّل على جهة الغلبة، وفي الثاني على جهة المفعولية فلا تكرار لاختلاف المتعلقين. قوله: (يعني الفجرة الخ) أي الفسقة لأنهم يدورون مع شهوات أنفسهم من غير تحاس عنها فكأنهم بانهماكهم فيها أمرتهم الشهوات باتباعها فامتثلوا أمرها واتبعوها فهو استعارة تمثيلية، وأمّا المترخص فلم يتبع الشهوات وإنما اتبع الشرع، وتحليل الأخوات لأب لأنهم لم يجمعهم رحم، وبنات الأخ والأخت تياساً على بنات العمة والخالة بجامع أن أمّهما لا تحل فكانوا يريدون أن يضلوا المسلمين بما ذكر، ويقولون لم جوّزتم تلك ولم تجوّزوا هذه، وبين عظمه لأنّ المراد به الاستحلال. قوله: (كإحلال نكاح الأمة (أخرج ابن أبي شيبة عن مجاهد إنّ مما وسع الله به على هذه الأمة جواز نكاح الأمة والنصرانية واليهودية ولم يرخص لغيرهم، والشرعة بالكسر الشريعة والسمح الجواد وهي سمحة والسهل اللين وهو المراد، والحنيفية المائلة إلى الصواب كما مرّ. قوله: (لا يصبر عن الشهوات الخ (فالضعف معنوي عبارة عما ذكر، وقوله: ثمان آيات الخ في شرح الكشاف في ثمان لغات، ثماني بالياء وثمان بحذفها وكسر النون وثمان بإجراء الإعراب على النون، وقوله: مما طلعت إلى آخره أي من الدنيا وما فيها وهذه الثلاثة أي الآيات من قوله: {يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ} إلى هنا لما فيها من التيسير والتخفيف عن هذه الأمة، والتجاوز عن سيئاتها وهو ظاهر، والقمار بكسر القاف مصدر قامره مقامرة إذا غلبه في رهان شرط فيه المال فأخذه منه وهو حرام معروف.
فائد جليلة:
وقع هنا في الكشاف ذكر حديث ما أيس الشيطان لعنه الله من بني آدم إلا أن أتاهم من
قبل النساء، وقال النحرير رحمه الله: فيه إشكال من جهة دلالته على أنه لا ييأس إلا في حال الإتيان من قبل النساء، والمقصود العكس وهو أنه لا ييأس البتة في تلك الحال، والجواب بأن التقدير ما فعل الشيطان شيئاً عند يأسه من إغواء بني آم إلا أن أتاهم من قبل النساء ليس دفعاً للإشكال بل بيانا لما يعرفه كل أحد من أنه المقصود، وان أراد أن أيس في معنى ما فعل عند اليأس، وأتاهم من قبيل تنزيل الفعل منزلة المصدر فلا بدّ من بيان جهة التجوّز، وقد يجاب بأنّ ما بعد إلا في موقع الوصف لحين محذوف أي ما أيس حينا إلا موصوفا بأنه يأتيهم فيه من قبل النساء فيكون قصراً لزمان اليأس(3/127)
على وصف الإتيان ونفيا أن يكون له زمان ينفك عنه من غير تعرض لنفي اليأس في غيره ودل بحسب المقام على أنّ الإتيان لإزالة اليأس فصار الحاصل أنه كلما أيس أتاهم من قبلهن، والأقرب ما ذكر بعض الأفاضل أنه في موضع الحال وأنّ النفي والاستثناء لما دل على لزوم الثاني للأوّل كالشرط استعمل فيه وأريد أنه كلما أيس من جميع جهات إتيانهم أتاهم من قبل النساء (أقول) :
سهم أصاب وراميه بذي سلم من بالعراق لقد أبعدت مرماك
لا حاجة إلى ما ذكروه كله مما لا نظير له فإنه تمثيل لشدة إغواء النساء وانقياد الناس لهن
بزمام الهوى فالشيطان إذا أيس من إضلال أحد بذاته وفضول نزغاته فلم يقده بحبائل الحيل إلى مهاوي الزلل سلط النساء عليه ليضللنه فإنهن حبائل الشيطان كما في الأثر فيفعلن فهو في حال إضلال النساء له آيس من إضلاله بغير واسطتهن، وكم من مر لا يقبل يلقي بواسطة آخر فيقبله منه من لم يكن قابلاً له قبل فإنّ معهن من الحسن شافعا لا يرد، ومن الكيد ملحا لا تمل، ولذا قال تعالى: {إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} مع ما في قوله: {إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا} [سورة النساء، الآية: 76] فيكون الاستثناء في الحديث على ظاهره مستثنى من أعم الأحوال والأوقات زمان بأسه من الإغواء بلا واسطة منهت فافهمه فإنه بريء من التكلفات بعيد من الشبهات. قوله: (استثناء منقطع الخ) أراد أن التجارة لما لم تكن من الباطل لم يجز الاتصال فجعل منقطعآ لتخلفه عن اتحاد الحكم بل عن جملة الكلام السابق فتعتبر المخالفة في الحكم، والمغايرة المعنوية بين الكلامين ليصح الاستدراك وحينئذ إن حمل على استدراك النهي عن المحرم بالإرشاد إلى المحلل يقدر لكن اقصدوا أمر إرشاد لأن لا تأكلوا في معنى لا تقصدوا أكلها وان حمل على استدراك المؤاخذة المدلول عليها بالنهي، برفعها لأنّ التجارة مباحة لا مأمور بها قدر ولكن كون تجارة عن تراض منكم غير منهيّ عنه، والأرجح هو الأوّل لظهور المقابلة، والمقصود على الوجهين بيان حاصل المعنى لا أنه مرفوع على الأوّل منصوب على الثاني كما
في بعض الحواشي فإنه فاسد لأنه منقطع منصوب أبدا ولو جعل متصلا على نحو ما سلف لكان وجهاً ولا تخصيص في الآية للتفصي عن الباطل بها، وتفسير الباطل بأنه ما لا عوض فيه، ثم ارتكاب التخصيص أو النسخ تحريف لكتاب الله يستعاذ منه كذا أفاده المدقق في الكشف، وفي الدر المصون إنه لا بد من حذف مضاف تقديره إلا في حال أو وقت أن تكون الأموال أموال تجارة، والحاصل أنّ الاستثناء المنقطع بتقدير لكن وهو مخالف لجنس ما قبله وحكمه والأوّل ظاهر وليس المراد (لا تاكلوا الآموال بالباطل) إلا التجارة فلكم أكلها بالباطل كما إذا قلت لا تأخذ أموال الناس بغير حق إلا الحربيين فلك أخذها بغير حق بل هو من حكم مفهوم من الكلام، وهو عدم القصد إليه المفهوم من عدم ا! لأو النهي فيكون هذا مقصودا، أو غير منهي عنه فهو بيان معنى لا إعراب كما توهم فافهمه فإنه من مشكلاته. قوله: (وبجوز أن يراد بها الانتقال مطلقاً الخ) أي انتقال المال من الغير بطريق شرعي سواء كان تجارة أو إرثاً أو هبة أو غيرها من استعمال الخاص وارادة العام لتظهر صحة الحصر ولكونه بعيداً قال: ويجوز كذا الوجه الذي بعده، وهو أبعد منه لجعل الأكل بمعنى الصرف، وعلى قراءة النصب كان ناقصة واسمها ضمير الأموالط أو التجارة على أن الخبر مفيد بالقيد وهو على حد قوله:
إذا ى ن يوماً ذا كواكب اشنعا
أي إذا كان اليوم يوما الخ والضمير راجع إلى ما يفهم من الخبر، وسيأتي تحقيقه. قوله:
(بالبخع كما تفعله جهلة الهند الخ) البخع بالباء الموحدة والخاء المعجمة والعين المهملة قتل النفس غما ومراده به مطلق القتل، والموقوف في قتل الهند أنفسها طرحها في النار كما قال الشاعر:
والهند تقتل بالنيران أنفسها وعندنا أنّ ذاك القتل يحييها
وهذا هو الصحيح، وما قيل: كما هو في بعض النسخ الجوع والبجع بباء موحدة وجيم والنخع بنون وخاء معجمة لا يلتفت إليه، وما روي عن عمرو رضي الله عنه رواه الحاكم
وأبو داود وصححه وارتكاب ما يؤدي الخ أعم من التهلكة وتفسيره بارتكاب الذلة بعيد وان كان حسنا كما قال:(3/128)
إذا ما أهان امرؤ نفسه فلا أكرم الله من يكرمه
قوله: (وقيل المراد بالأنفس الخ) ما قبله على أنّ الأنفس حقيقة والقتل إما حقيقيّ أو مجازي وهذا بالتجوّز في النفس بأن يراد بها غيرهم من أهل الملة لأنهم كشيء واحد فأطلق النفس عليه بطريق التشبيه كما في الحديث: " المؤمنون كالنفس الواحدة إذا لم يعضد تداعي سائره بالحمى والسهر " فكأنه قيل لا يقتل بعضكم بعضا، وهذا وجه حسن اختاره كثير من المفسرين. قوله: (ريثما) بالراء المهملة والياء التحتية المثناة والمثلثة بمعنى مقداره وساعته والريث في الأصل مصدر راث بمعنى أبطأ إلا أنهم جعلوه ظرفا كمقدم الحاج قال أبو عليّ رحمه الله: في الشيرازيات، وهذا المصدر خاصة لما أضيف إلى الفعل في كلامهم كقوله:
لا يمسك الغيث إلا ريث يرسله
صار مثل الحين والساعة، ونحوهما من أسماء الزمان وما زائدة بدليل سقوطها في كلامهم كثيراً ويجوز أن تكون مصدرية، والنفس في هذه الآية، والمال في التجارة واستبقاء أي طلباً لحياتهم وبقائهم. وقوله: (تستكمل الخ) إشارة إلى أنّ البقاء في الدنيا إنما طلب لتكميل النفس، والاستعداد للبقاء السرمدي. قوله: (أي أمر ما أمر الخ) يعني أنه تذييل لجميع ما قبله، وقوله معناه وقع في نسختي بدون عطف ولعله أو معناه فيكون تذييلا لقوله: {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ} لأنه تعالى عظمت رحمته وشفقته عليكم إذ لم يكلفكم قتل الأنفس في التوبة كما كلفه بني إسرائيل. قوله: (أو ما سبق الخ) أشار بما إلى وجه إفراده وتذكيره، وافراط التجاوز تفسير العدوان، واتيان ما لا يستحق تفسير الظلم فلذا عطفه بالواو وأو من سهو الكتاب، وقد
تقدم معنى الصلاة. وقوله: (من حيث الخ) إشارة إلى المجاز في الإسناد وشاة مصلية بمعنى مشوية. قوله: (وقرئ كبير الخ) يعني جن! الذنب الكبير فيطابق القراءة المشهورة ويحتمل أن يراد الشرك، وقوله: صغائركم أخذه من المقابلة وقد مر أنّ السيئة إذا أطلقت يراد بها ذلك، وقوله: ونمحها إشارة إلى أنه ليس المراد بالغفر الستر بل المحو فإن قلت في حديث مسلم:! الصلوات الخمس مكفرة لما بينها ما اجتنبت الكبائر " قلت: أجيب عنه بأجوبة أصحها أن الآية والحديث بمعنى واحد لأنّ قوله: ما اجتنبت الخ دال على بيان الآية لأنه إذا لم يصل ارتكب كبيرة وأيّ كايرة، ووجه المعارضة أنّ الصلاة إذا كفرت لم يبق ما يمفره غيرها. قوله: (واختلف في الكبائر الخ) أي في حدها وعدها وهل هي محصورة أو غير محصورة، وهل هو معنى حقيقيّ أو إضافي يختلف بالإضافة إمّا على طاعة أو معصية أو عقاب فاعلها، لا يقال: يجوز أن يكونا متساويين فلا تنحصر المعصية في الصغيرة والكبيرة، لأنا نقول تكون صغيرة أو كبيرة بالقياس إلى طاعة أخرى ضرورة امتناع تساوي جميع الطاعات، والفرار من الزحف بمعنى الهرب من جيش الكفار من غير مقتض، وفيه تفصيل في محله وعد حديث النفس أصغر الصغائر إذا صمم عليه قبل فعله، وأئا إذا لم يصمم فوسوسة لا إثم فيه فلا إشكال فيه كما توهم، وقد مرت الإشارة إليه. وقوله: (فمن عق له الخ) الظاهر أنّ المراد به ما عدا الكفر فلا يرد ما قيل إنه يقتضي أنّ مجتنب الكفر يكفر عنه جميع ذنوبه ويغفر له من غير توبة. قوله: (ولعل هذا مما يتفاوت الخ) هذا مما لا شبهة فيه ولذا قيل حسنات الأبرار سيئات المقرّبين
وقال الشاعر:
لايحقر الرجل الرفيع دقيقة في السهوفيها للوضيع معاذر
فكبائر الرجل الصغير صغائر وصغائر الرجل الكبيركبائر
ومثله كثير وقوله: ألا ترى الخ تنظير لا تمثيل فلا يقال إنه إذا لم يكن خطيئة كيف يطابق
ما قبله والحديث المذكور رواه الطبرانيّ وصححه. قوله: (الجنة الخ) هو على الضم إمّا مصدر ومفعول يدخلكم محذوف أي يدخلكم الجنة إدخالاً أو مكان منصوب على الظرف عند سيبويه، وعلى أنه مفعول به عند الأخفش وهكذا كل مكان مختص بعد دخل فيه الخلاف وعلى الفتح فقيل منصوب بمقدر أي ندخلكم فتدخلون مدخلاً، ونصبه كما مرّ أو أنه كقوله. {أَنبَتَكُم مِّنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا} . قوله: (من الأمور الدنيوية الخ) قيد بالدنيوية لأنّ الأخروية تمنيها حسن، ومعربة بضم الميم صفة ذريعة ويجوز فتح ميمها، وقوله: من غير طلب(3/129)
أي مباشرة خارجية لأسبابه وأما الطلب المذكور في تعريف كل تمن فمجرد أمر ذهنيئ، فلا غبار عليه وما قدر بكسب إذا اشتغل بتمنيه كان بطالة وتضييعاً للخطر النصيب الذي قدر له كسبه، وما قدر بغير كسب لا محالة من وقوعه فتمنيه ضائع ومحال لأنه لا بد من حصوله في وقت معين فقبله يكون ضائعاً وبعده يكون محالاً لأنه تحصيل الحاصل فهما بالنظر لوقتين والا فهما متنافبالت، وجعل المصنف رحمه الله المقتضي للمنع كونه ذريعة للتحاسد، وصاحب الكشاف جعا! النهي عن التمني كناية عن التحاسد، وسيأتي في قول المصنف رحمه الله أن المنهيئ هو الحسد إشارة إليه ولكل وجهة والفرق بين التمني والدعاء ظاهر لا يشتبه أحدهما بالآخر كما توهم 0 قوله:) بيان لذلك الخ (أي للنهي عن التمني لأنه قدر لكل نصيب، وقوأسه: ومن أجله إشاكأة إلى أن من سببية، وقوله: وجع!! بالماضي المجهول توجيه لأنّ أنصباء الميراث ليس تفاوتها يكسبهم وقيل: إنه بصيغة المصدر عطف على النصيب.
قوله: (بيان لذلك الخ) أي للنهي عن التمني لأنه قدر لكل نصيب، وقوله: ومن أجله إشارة إلى أنّ من سببية، وقوله: وجعل بالماضي المجهول توجيه لأنّ أنصباء الميراث ليس تفاوتها يكسبهم وقيل: إنه بصيغة المصدر عطف على النصيب. قوله: (وهو يدل على أنّ المنهئ الخ) وجه الدلالة الأمر بالسؤال من فضله لا بطلب ما عند الغير ليزول عنه، ويأتي له وهو المنهيّ عنه وأما الغبطة فلا نهي عنها، وقوله: بما يقر به أي يقرب ذلك المتمني إليكم. قوله: (روي أنّ أم سلمة الخ (أخرجهأ ا (الترمذي والحاكم وصححا 5 وهذا متمني غير جائز لأنه ما قدر الله خلافه بحسب الاستعداد أو هو تمن لأن ينكشف علمهن الآن ولذا قال: واسألوا الله من فضله أي اسألوه ما يليق بكم من بعض فضله وما يقر بكم من فضله ويسوقه إليكم، وحاصله افعلوا ما تصلون به لرضوانه فالباء في قوله بما سببية فلا يرد أنه محمود فانه عليم حكيم. قوله:) أي ولكل تركة الخ الا بد من تقدير مضاف إليه ملفوظ أو مقدر فقيل تقديره لكل إنسان وقيل: لكل مال، وقيل: لكل قوم ففيه على هذا وجوه الأوّل أنه على التقدير الأوّل معناه لكل إنسان موروث، وهو الميت الذي قدره المصنف رحمه الله جعلنا موالي أي ورّاثا مما ترك ففي ترك ضمير كل، وهنا تم الكلام ويتعلق مما ترك بموالي لما فيه من معنى الوراثة أو بفعل مقدر وموالي مفعول أوّل لجعل بمعنى صير، ولكل هو المفعول الثاني قدم على عامله ويرتفع الوالدان على أنه خبر مبتدأ محذوف كأنه قيل ومن الورّاث، فقال هم الوالدان والأقربون وهو معنى قول المصنف رحمه الله إنه استئناف، والثاني أن التقدير لكل إنسان موروث جعلنا ورّاثاً مما تركه ذلك الإنسان الموروث ثم بين الإنسان بقوله الوالدان، كأنه قيل: ومن هذا الإنسان الموروث فقيل الوالدان والأقربون واعرابه كما قبله وإنما الفرق بينهما أن الوالدان والأقربون في الأوّل وارثون، وفي الثاني موروثون وعليهما فالكلام جملتان ولا ضمير محذوف في جعلنا وموالي مفعول أوّل ولكل ثان وهذا لم يذكره المصنف رحمه الله، والثالث أنّ التقدير ولكل إنسان وارث مما تركه الوالدان والأقربون جعلنا موالي أي موروثين
فالمولى الموروث، ويرتفع الوالدان بترك وما بمعنى من والجار والمجرور صفة ما أضيف إليه كل والكلام جملة واحدة وهو بعيد، ولهذا لم يذكره المصنف رحمه الله، والرابع أنّ التقدير ولكل قوم فالمعنى: ولكل قوم جعلناهم موالي نصيب مما تركه والداهم وأقربوهم فلكل خبر نصيب المقدر مؤخراً وجعلناهم صفة قوم، والعائد الضمير المحذوف الذي هو مفعول جعل وموالي إما ثان أو حال ومما ترك صفة المبتدأ المحذوف الباقي صفته كصفة المضاف إليه وحذف العائد منها، ونظيره لكل خلق الله إنسانا من رزق الله أي لكل، واحد خلقه ألله إنسانا نصيب من رزق الله وهو الوجه الأخير في كلام المصنف رحمه الله، والخاس! تقدير لكل مال أي لكل مال أو تركه مما تركه الوالدان والأقربون جعلنا موالي أي ورّاثا يلونه ويحوزونه، ولكل متعلق بجعل ومما ترك صفة كل وإليه أشار المصنف بقوله: بيان الخ الوالدان فاعل ترك فهو كلام واحد، قيل: وفيه الفصل بين الصفة والموصوف بجملة عاملة في الموصوف نحو بكل رجل مررت تميمي وفي جوازه نظر، ورد بأنه جائز كما في قم إ " تعالى: {قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} [سورة الأنعام، الآية: 4 ا] ففاطر صمفة الله وقد فصل بينهما باتخذ العامل في غير فهذا أولى وإليه يشير قوله مع الفصل الخ، وما قيل: إنّ العامل لم يتخلل بل المعمول قد تقدم فجاء التخلّل من ذلك فلم يضعف إذ حق المع! س ل التاً خر عن عامله، وحينئذ يكون الموصوف مقروناً بصفته فتكلف مستغنى عنه بما مرّ(3/130)
والسادس أن يكون لكل مال مفعولآ ثانيا لجعل، وموالي مفعول أوّل والإعراب كما مرّ، وهذا زبدة ما في الآية، وقد ارتضى المصنف رحمه الله بعضها وترك بعضا منها وبما ذكرناه اتضح كلامه. قوله: (على أنّ من صلة موالي الخ) قيل المولى يشبه أن يكون في الأصل اسم مكان لا صفة لتكون من صلة له، وأجيب بأنّ ذلك لتضمته معنى الة عل كما أشار إليه بقوله لأنهم في معنى الورّاث والمصنف غير قوله: لأنهم بقوله لأنه لدقيقة وأيضا من المورّثين من لا موالي له بل له مولى واحد، وأجيب بأنه بحسب التوزيع الجنسي يعني لكل الآحاد شيئا من جنس الموالي قل أو كثر بمعنى أن من لا وارث له يجوز المال مولاه انتهى. وقوله:) قي المولى) أنه ليس صفة مخالف لكلام الراغب فإنه قال: إنه بمعنى الفاعل والمفعول أي الموالي والموالي لكن وزن مفعل في الصفة أنكره
قوم، وقال ابن الحاجب في شرح المفصل إنه نادر فإمّا أن يجعل من النادر أو مما عبر عن الصفة فيه باسم المكان مجازاً لتمكنها، وقرارها في موصوفها ويمكن أن يجعل في المفعول كناية كما يقال المجلس السامي فتأمّل. قوله: (وفيه خروج الأولاد الخ) فإن الأولاد لا يدخلون في الأقارب عرفا، ولذا قيل: إنه بمعناه اللغوي فيدخلون لكنه يتناول حينئذ الوالدين أيضا أو ذكر الوالدين لشرفهم والاهتمام بشأنهم، وترك ما عداهم اعتمادا على تفصيل آية المواريث وظهور أمرهم، وقوله: ولكل قوم الخ مر أنه خبر مقدم والمبتدأ مقدر مؤخر قامت صفته مقامه، وهي مما ترك وأورد عليه أنّ فيه جعل الجارّ والمجرور مبتدأ بتقدير الموصوف، وأنّ لكل قوم من الموالي جميع ما ترك الوالدان والأقربون لا نصيباً وإنما النصيب لكل فرد، وأجيب بأنه ثابت مع قلته كقوله: {وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ} [سورة الصافات، الآية: 164] ومنا دون ذلك وأن ما يستحقه القوم بعض التركة لتقدّم التجهيز والدين والوصية وأما حمل من على البيان للمحذوف فبعيد جداً.
(أقول) فيه خلل من وجهين، الأوّل إنّ ما ذكره لا شاهد له فيه لأنهم ذكروا في متون النحو أنّ الصفة إذا كانت جملة أو ظرفا تقام مقام موصوفها بشرط كون المنعوت بعض ما قبله من مجرور بمن أو في والا لم تقم مقامه إلا في شعر كذا في التسهيل وغيره وما ذكره داخل فيه والآية ليست كذلك الثاني أنه ليس المراد بقيامها مقامه أن تكون مبتدأ حقيقة بل المبتدأ محذوف، وهذا بيانه فلا وجه لاستبعاده نعم ما ذكروه وان كان مشهوراً ليس بمسلم فإن ابن مالك رحمه الله صرح بخلافه في التوضيح في حديث الإسراء فجعل الموصوف محذوفاً في السعة بدون ذلك الشرط فالحق أنه أغلبيّ لا كليّ فاعرفه. قوله: (موالي الموالاة كان الحليف يوزث السدس الخ) كان الرجل يعاقد الرجل فيقول دمي دمك، وهدمي هدمك، وثأري ثأرك، وحربي حربك، وسلمي سلمك، وترثني وأرثك، وتطلب بي وأطلب بك، وتعقل عني وأعقل عنك، فيكون للحليف السدس. وقوله: (فنسخ الخ) قال النحرير: فيه نظر لأنه لا دلالة فيها على نفي إرث الحليف لا سيما والقائلون به إنما يورّثونه عند عدم العصبات وأولي الأرحام، ومذهب أبي حنيفة رحمه الله في مولى الموالاة وشروطه مبسوط في محله والإيمان هنا جمع يمين بمعنى اليد اليمنى لوضعهم الأيدي في العهود، أو بمعنى القسم وكون العقد هنا عقد النكاح خلاف الظاهر إذ لم يعهد فيه إضافته إلى اليمين والخطاب حينئذ للأولياء. قوله: (وهو
مبتدأ الخ) فيه وجوه.
الآوّل: أنه مبتدأ وجملة فآتوهم خبره والفاء زائدة.
والثاني: أنه منصوب على الاشتغال قيل: وينبغي أن يكون مختاراً لئلا يقع الطلب خبرا لكنهم لم يختاروه لأنّ مثله قلما يقع في غير الاختصاص وهو غير مناسب هنا، ورد بأنّ زيدا ضربته إن قدر مؤخرا أفاد الاختصاص وان قدّره مقدما فلا يفيد. ولاخفاء أنّ الظاهر تقديره مقدما فلا يلزم الاختصاص الذي ذكره.
والثالث: أنه مرفوع عطفا على الولدان فإن أريد بالوالدين أنهم موروثون عاد الضمير من فآتوهم على موالي وان أريد أنهم وارثون جاز عود. على موالي وعلى الوالدين وما عطف عليهم، قالوا: ويضعفه شهرة الوقف على الأقربون دون إيمانكم، وأمّا جعله منصوبا عطفا على موالي فتكلف، وترك تفسير المعاقدة بالتبني الذي ذكره في الكشاف لأنه لا يوافق المذهب. قوله: (جملة مسببة الخ) مسببة بصيغة المفعول والتأكيد الحاصل من السبب، والمسبب المتلازمين لا ينافي العطف بالفاء ومفعول عقدت محذوف على جميع القراآت، وإنما(3/131)
جعل الحذف تدريجيا ليكون من حذف العائد المنصوب فإنه كثير مطرد. وقوله: (تهديد الخ) قيل إنه أبلغ وعد ووعيد. قوله: (قيام الولاة على الرعية الخ) أي كقيامهم عليهم بالأمر والنهي، ونحوه وليس مرإد. أنه استعارة، والوهبي ما فضلهم الله به والكسبيّ الإنفاق الآتي وقوله: بسبب الخ إشارة إلى أنّ الباء سببية وما مصدرية وقوله: (بالنبوّة) على الأشهر أو المراد الرسالة والإمامة تشمل الصغرى والكبرى، والولاة تولي أمرهن في النكاح، أو المراد به ولاية القضاء ونحو. واقامة الشعائر كالآذان والإقامة الخطبة والجمعة وتكبيرات التشريق عند أبي حنيفة رحمه الله، والمراد بالشهادة في مجامع القضايا مهماتها التي من شأنها أن تفصل في المحافل كالحدود ونحوها مما لا تقبل فيه شهادة النساء، ومنهم من فسره بجميع الأمور ولا وجه له، والتعصيب
أي كونه عصبة بنفسه والاستبداد بالفراق الاستقلال بالطلاق وهو ظاهر. قوله: (في نكاحهن كالمهر الخ) خصه لأنه هو الذي به التميز وسعد بن الربيع صحابيّ معروف رضي الله عنه أحد نقباء الأنصار، وقصته هذه أخرجها أبو داود وغيره في حديث مرسل قبل وأمره باقتصاص زوجته كان باجتهاد منه صلى الله عليه وسلم، وأراد به التعزير وأمر به المرأة ليكون أردع له والا فلا خلاف في أنه لا قصاص فيما لا ينضبط، واعلم أن القصاص في اللطمة وقع في الأحاديث حتى عقد المحدّثون له بابا إلا أنه مشكل لاًنّ المذاصب الأربعة على خلافه حتى قيل: إنه مجمع عليه وان شذت فيه رواية عن بعض أصحاب أحمد وقول السعد أنه باجتهاد النبيّ صلى الله عليه وسلم أو تعزير فيه أنّ اجتهاده إذا لم يتغير حكمه لا يسوغ مخالفته لا سيما وقد عمل به من بعده كعمر كما نقله ابن الجوزي في مناقبه فادّعاء عدم الخلاف فيه مشكل جدا، ونشزت المرأة ونشصت بمعنى لم تطع زوجها، وكون اسم أبيها ما ذكره المصنف رحمه الله تعالى قول وقيل: إنها بنت محمد بن مسلمة كما في التيسير، وهو دليل على أنّ للرجل تعزير زوجته وتأديبها ومعنى قانتات خاشعات مطيعات لله ومن إطاعة الله إطاعة الزوجة. قوله: (لمواجب الغيب الخ) مواجب جمع موجب، اسم مفعول أي ما يوجبه غيبة الزوج أي تحافظ عليه. قوله: (وعته عليه الصلاة والسلام الخ) أخرجه ابن جرير عن أبي هريرة رضي الله عنه لكنه بلفظ مالك ونفسها ورواه الحاكم مالها والمراد ماله كما تفسره الرواية الأخرى لكنه إضافة إليها لكونه في يذيها وهي المتصرفة فيه، وفيه إشارة إلى أنه ينبغي أن تحفظه كما تحفظ مالها، ولا حاجة إلى ما قيل إنّ أكثر الروايات ماله فلعل رواية الحاكم تحريف فإنّ الراوي واحد فيهما، والمراد بأسرارهم ما يقع بينهم في الخلوة، ومنه المنافسة والمنافرة واللطمة المذكورة، ولذا قيل: إنّ هذا أنسب بسبب النزول
وفيه نظر. قوله: (بحفظ الله إياهن الخ) معنى قوله بالأمر على حفظ الغيب أي بسبب الأمر والمحافظة على حفظه وهي مصدرية على هذا وموصولة في الذي بعد. ويصح أن تكون موصوفة. قوله: (وفرئ بما حفظ الله بالنصب الخ الا بد من تقدير مضاف على هذه كدين الله وحقه لأنّ ذاته تعالى لا يحفظها أحد، وما موصولة أو موصوفة ومنع المصنف رحمه الله تعالى كغيره المصدرية الخلوّ حفظ حينئذ عن الفاعل لأنه كان يجب أن يقال بما حفظن الله، وأجيب عنه بأنه يجوز أن يكون فاعله ضميراً مفردا عائداً على جمع الإناث لأنهن في معنى الجنس كأنه قيل من حفظ الله وجعله ابن جني كقوله:
فإن الحوادث أودى بها
أي أودين ولا يخفى ما فيه من تكلف الإفراد وشذوذ ترك التأنيث فإنه كان ينبغي أن يقال
بما حفظت، وأودت فمنعه بناء على أنه لا يليق بالنظم الكريم لا أنه غير صحيح أصلا فحفظ إذا أسند للأمر إسناده مجازي لسببه وعلى حفظ الله إياهن عن الخيانة وتوفيقهن لحفظ الغيب الحفظ حقيقة وعلى الوعد والوعيد على المحافظة والخيانة الحفظ مجاز عن سببه، وجمع السلامة هنا للكثرة أما المعرّف فظاهر وأما المنكر فلأنه حمل عليه فلا بد من مطابقته له في الكثرة، فإذا قلت الرجال قائمون لزم كون قائمين للكثرة لأنّ كل واحد منهم قائم وهذه فائدة حسنة أفادها في الدرّ المصون، وقوله ة من النشز يسكون الشين وفتحها وهو المكان المرتفع ويكون بمعنى الارتفاع أطلق على الترفع أي الإباء عن الطاعة وظاهره ترتبه على خوف النشوز، وإن(3/132)
لم يقع وإلا لقيل نثزن، ولذا فسر في التيسير تخافون بمعنى تعلمون لأنّ الخوف يرد بهذا المعنى، وقيل المراد تخافون دوام نشوزهن، أو أقص مراتبه كالفرار منه في المراقد وقيل: إنّ في الكلام مقدراً وأصله واللاتي تخافون نشوزهن ونشزن وقول الفرّاء إنه بمعنى الظن مردود. فوله: (في المراقد فلا تدخلوهن تحت اللحف الخ) اللحف بضمتين جمع لحاف، وهو دثار النوم قيل إنّ ما عدا التفسير الثاني لا تساعده العبارة فإنها تدلى على الهجران مع كونهما في المضاجع فلو كانت العبارة عن المضاجع لصح تفسيره فلا بد من حمله على الثاني، أو على الأمر بأن يوليها ظهره في المضجع، وكذا حمله على المبايت ودفعه بأنه حال عن الفاعل ولا
يخفى أنّ في فيل إنها للسببية فالمعنى اهجروهن بسبب المضاجع أي تخلفهن عن المضاجعة كذا قال أبو البقاء: وقيل إنها للظرفية، واهجروا بمعنى اتركوا والمضاجع بمعنى مضاجعهن أي اتركوهن منفردات في مضاجعهن وعليه فلا يرد ما ذكر رأساً؟ ولا حاجة لجوابه، وكأنّ المراد بالمبايت أخص من المضاجع والمراقد وهو هجر حجرهن ومحل مبيتهن من البيت والا فلا فرق بينه ويين ما قدمه، والمبرّح الشديد والشائن الذي فيه شين وعيب كنقص، وجراحة وكسر عضو وما! يقرب منه فالشائن بمعجمة ونون كذا في النسخ، وكونه بزاي هوز بمعنى شديد غليظ أظنه تحريفاً. قوله: (والأمور الثلاثة مرتبة الخ) الترتيب مأخوذ من السياق. والقرينة العقلية لأنها تنصح، ثم تهجر ثم تضرب إذ لو عكس استغنى عما قبله والا قالوا: ولا تدل على ترتيب، وكذا الفاء في فعظوهن لا دلالة لها على غير ترتيب المجموع دون غيره كما قيل، وفي الكشف الترتيب مستفاد من دخول الواو على أجوبة عختلفة في الشدة، والضعف مرتبة على أمر مدرّج فإنما النص هو الدال على هذا الترتيب. قوله: (والمعنى فأرّيلوا عنهن / الئعرض الخ) بغى هنا بمعنى ظلم فهو لازم، وسبيلاً منصوب على نزع الخافض وأصله بسبيل أي لا تظلموهن بطريق من الطرق بالتوبيخ اللساني والأذى الفعلي، وغيره أو بمعنى طلبءفهو متعد وسبيلاً مفعوله أي لا تطلبوا سبيلاً وطريقاً إلى التعدي عليهن، والجار والمجرور متعلق بتبغوا أو صفة سبيلاً قدم عليه فصار حالاً والمعنى على كل حال لا تتعرّضوا لهن بما يؤلمهن. وقوله: " التائب من الذنب) الحديث أخرجه ابن ماجه والطبراني والديلمي عن أنس، وابن عباس رضي الله تعالى عنهم. قوله: (فاحذروه فإنه أقدر عليكم الخ) أي المراد بوصفه تعالى بالعظمة والعلوّ ما يلزمه من تمام القدرة، وارتباطه بما قبله أنّ المراد منه أنّ قدرته عليكم أعظم من قدرتكم على من تحت أيديكم منهن فينبغي الخوف منه وأن لا يبغي أحد أو أنه مع القدرة التامّة يعفو وأنتم أحق بذلك، أو أنه قادر على الانتقام منكم غير راض بظلم أحد. قوله: (خلافاً بين المرأة وزوجها
الخ) الشقاق المخالفة والمنافرة لأنّ كلا منهما يكون في شق وجانب غير شق الآخر أو هو من شق العصاب بمعنى العداوة، وضمير بينهما للزوجين لأنهما وإن لم يجر ذكرهما صريحاً فقد جرى، ضمنا لدلالة النشوز الذي هو عصيان المرأة زوجها والرجال والنساء عليهما. قوله:) وإضافة الشقاق إلى الظرف الخ الما كانت بين من الظروف المكانية التي يقل تصرّفها، والإضافة إليها تقتضي خلافه وجه بأنه للملابسة بين الظرت ومظروفه نزل منزلة الفاعل أو المفعول وشبه بأحدهما فعومل معاملته في الإضافة إليه، وأصله شقاقاً بينهما أي أن يخالف أحدهما الآخر فأقيم البين مقام واحد منهما فالنسبة الإسنادية أو الإضافية مجازية ولم يلتفتوا إلى كون الوصل غير ظرف بمعنى المعاشرة ولا إلى كون الإضافة بمعنى في لضعفهما، والخوف هنا كالذي في تخافون نشوزهن وقد مرّ. قوله: (فابعثوا أيها الحكام الخ) الحكمان لا يخلوان من أن يكونا وكيلين مطلقا أو وكيلين في الصلح، أو شاهدين فإن كانا وكيلين في الجمع والتفريق فلهما ذلك وإلا فهو مخالف للكتاب والسنة، وما نقل عن علي رضي الله تعالى عنه في ذلك مؤوّل وكذا قول مالك رحمه الله تعالى، وقال: ابن العربي: المالكي في الأحكام إنهما قاضيان لا وكيلان فإنّ الحكم اسم في الشرع له، وقال الحسن: شاهدان قال علماؤنا إن كانت الإساءة من الزوج فرّقا بينهما، دمان كانت منهما فرّقا على بعض ما أصدقها، وقوله: وسطا بمعنى عدل والقول بالتحكيم، هو الصحيح عندنا كما بين(3/133)
في الفروع، وذات البين العداوة وقوله: يتخالعا لما كانا هما المباشرين قال: يتخالعا والا فالظاهر تخالعا، وفي نسخة يتخالفا بالفاء وهو من تحريف النساخ وان تكلف تصحيحها ووجد الصلاح بالمجهول وفي نسخة وجدا مثنى معلوم. قوله: (الضمير الآوّل للحكمين الخ) محصل الاحتمالات في
ضميري التثنية أربعة عودهما للحكمين أو للزوجين، أو الأوّل للحكمين، والثاني للزوجين وعكسه ذكر منها ثلاثة وترك الرابع، وجوّزه الإمام وهو أن يكون ضمير يريدا للزوجين وضمير بينهما للحكمين أي أن يرد الزوجان إصلاحاً يوفق الله بين الحكمين حتى يعملا بالصلاح، ويتحراه بمعنى يقصده ومبتغاه مطلوبه، وقوله: بالظواهر والبواطن ليس نشرا ولفاً وفرّع عليه ما فرّع للالتئام، وقيل: إنه لف ونشر مرتب فأورد عليه أنّ الأولى أنّ العليم هو العليم بالظاهر والباطن والخبير هو العالم ببواطن الأمور كما فسروه به، ولذا أكد لخفائه وفيه نظر. قوله: (صنماً أو غيره الخ) يعني أنّ شيئا هنا مفعول به أو مصدر، ووجه تعقيب هذه الآية لما قبلها بين فإنه لما أرشد إلى معاملة الزوجين ثمة ببيان جميع المعاملات قدم الأمر بالعبادة ونفي الشرك لأنه لا يعتد بهذه الأمور إلا بعد ذلك. قوله: (وأحسنوا بهما إحساناً الخ) ظاهره أنّ الجار والمجرور متعلق بالفعل المقدر فلا يكون مقدّما من تأخير ويجوز تعلقه، بالمصدر فتقديمه للاهتمام وهذا بيان للمعنى، وأحسن يتعذى بإلى واللام والباء قال تعالى: {أَحْسَنَ بَي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ} [سورة يوصف، الآية: 00 ا] وقيل: إنه مضمن معنى لطف، وفسر القربى بالقرابة وأصلها مصدر بمعنى القرب، وهو في المكان والزمان ويكون في النسب ويقال للحظوة قربة قال تعالى: {أَلا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَّهُمْ} أسورة التوبة، الآية: 99] وأعاد الباء هنا ولم يعدها في البقرة لأنّ هدّا توصية لهذه الأمّة فاعتنى به وأكد وذلك في بني إسرائيل والقربى الثانية مكانية أو نسبية، أو بمنزلتها من أخوة الإسلام، وقرئ بالنصب أي نصب الجار وصفته على قطعه بمعنى أخص! ، وليس هو الاختصاص النحوي ومرّ القطع في العطف في سورة البقرة ومن قال: أي قرئ ذا القربى فقد وهم لأنه خلاف المنقول والجنب بضمتين صفة كناقة سرح، وقوله: لا قرابة له أي حقيقية أو حكمية كأخوّة الدين كما مرّ والحديث المذكور أخرجه
البزار وابن سفيان في سنديهما، وأبو نعيم في الحلية ولم يذكر الجار القريب نسباً الغير المسلم قيل إشارة إلى أنّ حق القرابة إنما يعتبر مع الإسلام. قوله: (الرفيق في أمر حسن الخ) قدمه وأخر تفسيره بالمرأة لأنه خلاف الظاهر، ومختال من الخيلاء وهو التكبر والتيه. قوله: (بدل من قوله من كان الخ) أي بدل كل من كل، وفي التيسير هو صفة لمن لأنه بمعنى الجمع، وقيل عليه إن جعلت موصوفة فهي نكرة لا يصح أن توصف بالموصول، وإن جعلت موصولة فصحة وصف الموصولات لم نعثر عليه وهذا عجيب منه فإنه مذهب الزجاج وتبعه كثير من النحاة قال الرضي ة لا يقع من الموصولات وصفا إلا ما فيه أل كالذي، وأما وقوع الموصول موصوفاً فلم أعرف له مثالاً قطعياً، بلى قال الزجاج: إن الموفون صفة لمن آمن اهـ، وكذا ذكره في البحر ورجحه وقد مرّ مثله. قوله: (تقديره الذين يبخلون الخ (خبره المقدر قوله أحقاء بكل ملامة وأخره ليكون بعد تمام الصلة، وأحقاء جمع حقيق كأصدقاء جمع صديق ومنهم من قدره مبغضون وغيره مما يؤخذ من السياق، ووقع في نسخة مقدما والنسخة الأولى هي الصحيحة وإنما حذف لتذهب نفس السامع كل مذهب، وفرق الطيبي رحمه الله تعالى بين كون خبر أو مبتدأ بأنه على الأوّل متصل بما قبله مفيد لأنّ هذا من أحسن أوصافهم التي عرفوا بها، وعلى الثاني هو منقطع جيء به لبيان بعض أحواله، والوجه الأوّل، وفي البخل أربع لغات فتح الباء والخاء، وبهما قرأ حمزة والكساتي وضمهما وبها قرأ الحسن وعيسى بن عمرو بفتح الباء وسكون الخاء وبها قرأ قتادة وبضم الباء وسكون الخاء وبها قرأ الجمهور. قوله: (وضع الظاهر فيه موضع المضمر الخ) تبع الزمخشري هنا في تفسير الكفار بمن كفر النعمة وجعله ذماً لهم بكتمان نعمتهم وما آتاهم من فضل الغني، وفي الحديث: " إذا أنعم الله على عبد نعمة أحب أن
يرى أثر نعمتة عليه) وبنى عامل للرشيد- قصرا بحذاء قصره فنمّ به عنده فقال الرجل: يا أمير المؤمنين إنّ الكريم يسره أن يرى أثر نعمته فأحببت أن أسرك بالنظر إلى آثار نعمتك، فأعجبه كلامه(3/134)
لأنه أنسب بما قبله وما بعده من البخل إذ البخل- وكتمان النعمة توأمان، وأشار بما بعده إلى جواز حمله على ظاهره، وهو وان كان ظاهرا بحسب اللفظ لكنه بعيد عن السمياق وقوله: (تنصحا) بمعنى تكلفا للنصح، واظهارا للغش في صورته، وأما على ما بعده فقيل في وجه المناسبة إنهم بخلوا بما عندهم من نعمة العلم وأمروا أتباعهم بذلك أو هم بمنزلة الآمرين بذلك لعلمهم باتباعهم لهم وذكر ضمير التعظيم في اعتدنا أيضاً للتهويل لأنّ عذاب العظيم عظيم، وغضب الحليم وخيم والمراد بنعمة الله الجنس، فلا يقال الظاهر نعم الله، وجعل البخل والإخفاء إهانة للنعمة لأنه في الأكثر لجحودها أو عدم الاعتداد بها أو لأنه يشبه الإهانة لأنه فعل ما لا يليق بها: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [سورة الضحى، الآية: اا] وكونها نزلت في اليهود أخرجه أبن إسحق وابن جرير بسند صحيح عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وكذا ما بعد. أخرجه ابن أبي حاتم لكن سنده ضعيف. قوله: (لأنّ البخل والسرف الخ) المراد بالسرف التبذير لأنه في غير محله وقوله: (خبره محذوف الخ) أي قرينهم الشيطان، وليتحروا أي يقصدوا بالحاء المهملة. قوله: (تنبيه على أنّ الشيطان الخ) أي تنبيه على الخبر المقدر كما تقدّم وعدل عن الظاهر لتعينه، والمراد التنفير عن اتباعه، قيل: والمراد بأعوانه الداخلة قبيلته وبالخارجة الناس التابعون له، أو الداخلة في الإنسان قواه النفسانية وهواه، والخارجة صحبة الأشرار وقيل الأولى النفس والقوى الحيوانية، والخارجية شياطين الإنس والجن وساء بمعنى بض من أفعال الذم الملحقة بالجامدة ولذا قرنت بالفاء، ويحتمل أن تكون على بابها بتقدير قد كقوله: {وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ} [سورة النمل، الآقي: 90 لح. قوله: (أي وما
الذي عليهم أو أيّ تبعة تحيق بهم الخ) أشار إلى وجهي ماذا من كون ما استفهامية وذا بمعنى الذي موصولة وكون المجموع كلمة اسنفهام بمعنى أي شيء والتبعة الوبال والضرر وقوله: (بسبب الإيمان الخ) إشارة إلى أنّ جملة ماذا بمعنى جواب الشرط مسبب عنه لكونه بمنزلته في الدلالة عليه، ولو قيل إنها هنا بمعنى إن وقيل: إنها مصدرية وقيل إنها جملة مستأنفة جوابها مقدر أي حصلت لهم السعادة ونحوه. قوله: (وهو توبيخ لهم على الجهل بمكان المتقعة الخ) أي بالمنفعة وموقعها يعني أنّ السؤال بحسب الظاهر عن الضرر المترتب على ذلك ومعلوم أنه لا ضرر فيه فالمقصود توبيخهم على اجتناب ما ينفع كما يجتنب عما يضر كما يقال للعاق ما ضرك لو كنت باراً وهو أسلوب بديع كقوله:
ما كان ضرّك لومننت وربما من الفتى وهو المغيظ المحنق
ولولا هذا لم يستقم لأنه معلوم أنّ كل منفعة فيه فلا معنى للاستفهام بأنه أفي ضرر فيه والضرر مستفاد من على ويؤدّي بهم ضمن معنى يصل بهم والا فهو متعد بنفسه، ووجه التنبيه المذكور ظاهر. قوله: (وإنما قدم الإيمان الخ (المراد بالاية الأخرى والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس ولا يؤمنون بالله الخ، والتحضيض بضادين معجمتين بمعنى الحث، يعني أنّ عدم الإيمان ثمة ذكر لتعليل ما قبله من وقوع مصارفهم في دنياهم في غير محلها كما أشار إليه فيما سبق بقوله: ليتحرّوا الخ ولو قيل لأنّ المراد به الإسراف الذي هو عديل البخل فقدم لئلا يفصل بينهما على تقدير العطف لكان له وجه، وهنا ذكر للتحريض فينبغي أن يبدأ فيه بالأهم فالأهم، وثمّ بالفتح اسم إشارة وترسم بالهاء السكتية أيضا، وكون ذكر علمه للوعيد مر تحقيقه. قوله: (لا ينقص من الأجر ولا يزيد الخ) الظلم كما قال الراغب: في مفرداته عند أهل اللغة، وضع الشيء في غير موضعه المختص به إما بنقصان أو بزيادة أو بعدول عن وقته أو مكانه اهـ، فمن قال إنه ليس معنى حقيقيا للظلم حتى يلزم عدم تحقق الظلم بوقوع أحدهما دون الآخر فالأولى
أن يقال إنّ الظلم الضر بما لا يستحقه فما ذكر تفصيل له بإيراد أنواعه لم يصب، ثم إنه جعل نفي أدنى ما يكون من الظلم كناية عن إعطاء الأجر والثواب بتمامه من غير نقصحان، وعن عدم زيادة في عقاب السيئة أدنى شيء فلولا أنّ ترك هذا الإعطاء والمنع ظلم لما صحت الكناية ويدل على القصد إلى هذا قوله: ( {وَإِن تَكُ حَسَنَةً} الخ) قال المحقق: هو لا يفعل الظلم لمنافاته الحكمة لا القدرة لأنّ الظاهر من قولنا فلان لا يفعل كذا في الأفعال التي هي اختيارية في نفسها، أنه تركه باختياره(3/135)
والقادر على الترك قادر على الفعل والتمدح بترك الفعل الاختياري لا يغون إلا حيث يمكن فعله بخلاف غير الاختياري مثل لا تاخذه سنة ولا نوم، فإنّ التمدح بتنزهه عنه وعدم اتصافه به مبناه على أنّ مدلول الكلام الترك لا عدم الاتصاف، وقد يقال: إن الظلم أي وضمع الشيء في غير موضعه ممكن في نفسه وقدرته تشمل جميع الممكنات ويتوجه مغ إمكان ظلمه كنومه، وأما استحالته في الحكمة فلأنها إتيان بالفعل على ما ينبغي، وعلى أن يتعلق به غرض صحيح والقبيح لا يكون كذلك بالنسبة إلى الغني المطلق، وعندنا أيضا أنه لا ينقص عن الأجر ولا يزيد في العقاب بناء على وعده المحتوم فإنّ الخلف فيه ممتنع لكونه نقصا منافيا للألوهية وكمال الغني وبهذا الاعتبار يصح إن يسمى ظلماً، وان كان لا يتصوّر حقيقة الظلم منه تعالى لكونه المالك على الإطلاق، فاحفظه ف! نه مهم ونزل عليه ما يقع من المصشف من أنه لا بد من ثواب المطيع وعقاب غيره وأنه ليس مبنيا على الاعتزال والأصلح وارتباطه لما فيه من تحقق الجزاء بما قبله من الحث على الإيمان والإنفاق ظاهر.
قوله: (وفي ذكره إيماء الخ) يعني لم يقل مقدار ذرّة ونحوه ل! شارة بما يفهم منه الثقل
الذي يعبر به عن الكثرة والعظم كقوله تعالى: {فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ} إلى أنه وان كان حقيرا فهو باعتبار جزائه عظيم ولذا رتبه على أخذه من الثقل. قوله: (وأنت الضمير لتأنيث الخبر الخ) في تأنيثه وجوه فقيل لتأويل المثقال بالزنة، وقيل: لأنّ المضاف قد يكتسب التأنيث من المضاف إليه إذا كان جزأه نحو:
كما شرقت صدر القناة من الدم
أو من صفته نحو لا تنفع نفسا إيمانها في قراءة ومقدار الشيء صفة له، أو هو لتأنيث الخبر أو الضمير عائد على المضاف إليه فإن قلت تأنيث الخبر إنما يكون لمطابقة تأنيث المبتدأ فلو كان تأنيث المبتدأ له لزم الدور قلت إنما ذاك إذا كان مقصوداً وصفيته والحسنة غلبت عليها الاسمية، فألحقت بالجوامد التي لا تراعي فيها المطابقة نحو الكلام هو الجملة. قوله: (وحذف النون من غير قياس الخ) وجه الشبه غنتها وسكونها وكونها من حروف الزوائد ولكثرة
دوره جاز فيه على خلاف القياس بشروطه وفيه مخالفة له أخرى، وهو عدم عود الواو المحذوفة لالتقاء الساكنين بعد حذفها. قوله: (يضاعف ثوابها الخ) مضاعفة نفس الحسنة بأن تجعل الصلاة الواحدة صلاتين مما لا يعقل، وما في الحديث من أنّ تمرة الصدقة يربيها الرحمن حتى تصير مثل الجبل محمول على هذا للقطع بأنها أكلت واحتمال إعادة المعدوم بعيد، وكذا كتابة ثوابها مضاعفاً، ومضاعفة الثواب بحسب المقدار كما اختاره الإمام وقيل بحسب المدة لأنّ الثواب منفعة دائمة وهو من أوصافه الذاتية فيتحقق في كل ثواب البتة، ويحسن عطف التفضل عليه بقوله: ويؤت من لدنه أجراً عظيما، وهو المضاعفة بحسب المقدار ولذا فسر الثواب بالمنفعة الخالصة الدائمة للتنبيه على هذا وفيه بحث. قوله: (وكلاهما بمعنى) هذا هو المختار عند أهل اللغة والفارسي.
وقال أبو عبيدة ضاعف يقتضي مراراً كثيرة وضعف يقتضي مرّتين، وردّ بأنه عكس اللغة
لأنّ المضاعفة تقتضي زيادة المثل فإذا شدد دلت البنية على التكثير فيقتضي ذلك تكرير المضاعفة وقد مرّ فيه تفضيل. قوله: (ويعط صاحبها من عنده الخ) إشارة إلى أنّ لدن بمعنى عند هنا وإن فرق بينهما بأنّ لدن أقوى في الدلالة على القرب، ولذا لا يقال لدفي مال إلا وهو حاضر بخلاف عند، وتقول: هذا القول عندي صواب ولا تقول لديّ ولدني كما قاله الزجاج رحمه الله تعالى وفيه نظر لأنه شاع استعمال لدن في غير المكان كقوله: {مِن لَّدُنَّا عِلْمًا} [صورة الكهف، الآية: 65] ومحصل تفسيره إنّ الأجر مجاز عن التفضل لأنه قال يضاعفها والمضاعفة هي الأجر، فوجب حمل هذا على معنى زائد على الأجر، وهو التفضل ولذا قرن معه من لدنه، وهذا القول يقتضي تقدير الثواب وأنه بالاستحقاق لا بالتفضل، وتسميته بالأجر تسمية له باسم مجاوره، وقيل عليه إنه تعسف إنما يصار إليه إذا قدر مضاف أي يضاعف ثوابها وأما إذا جعلت الحسنة نفسها مضاعفة كما صرّح به في الأحاديث، وترك الأجر على ظاهره ليعلم أنّ الأجر تفضل منه وأنه من لدنه لا باستحقاق العمل كما هو مذهب أهل الحق فأيّ حاجة لنا إلى ارتكاب هذه التعسفات، والعجب من القاضي وصاحب التقريب والانتصاف كيف لم ينبهوا عليه ولم ينتبهوا له، وهو(3/136)
ليس بوارد لأنه جار على المذهبين كما في الكشف أما على مذهب المعتزلة فظاهر كما قرّره وأما على مذهب أهل الحق فالمراد بالأجر التفضل كما ذكره والمراد بمقابلة العمل الثواب الموعود به فلو عده تعالى به وهو الذي لا يخلف الميعاد صار كأنه حق له وذلك أيضاً بمقتض الكرم كما قيل، وعديم الكردين وقد صرّح به المصنف رحمه الله تعالى بقوله على ما وعد والمعترض! غفل عنه لا بطريق الوجوب كما ذهب إليه المعتزلة نعم حمل الأجر على ما ذكر لا يخلو من بعد والداعي إليه عدم التكرار ولذا ذهب كل إلى وجه
فيه، وقال الإمام إن ذلك التضعيف يكون من جنس اللذات الموعود بها في الجنة وأما هذا الأجر العظيم فهو اللذة الحاصلة عند الرؤية والاستغراق في المحبة والمعرفة، وبالجملة فذلك التضعيف إشارة إلى السعادات الجسمانية وهذا الأجر إشارة إلى السعادات الروحانية. قوله: (فكيف حال هؤلاء الخ (الفاء فصيحة أي إذا كان كل قليل، وكثيريجازي عليه فكيف حال هؤلاء وكيف في محل نصب على الظرفية على القول الأصح لا الحالية فهو خبر مبتدأ محذوف هو حالهم، وهو العامل في الظرف ولذا قدر والا كان يكفي كيف هؤلاء لأنه سؤال عن الحال وعامله استقرّ أو مستقرّ وذلك هو العامل في إذا، وهو المراد بالظرف في كلام المصنف رحمه الله تعالى، وقيل: إنه في محل نصب بفعل محذوف وهو العامل فيها أي كيف تصنعون أو يكون حالهم، وهذا ما قرّره صاحب الدرّ المصون، وهو أولى من جعله متعلقا بمضمون الجملة من التهويل والتفخيم المستفاد من الاستفخام وأما كونه متعلقا بكيف فمما لا ينبغي. قوله: (تشهد على صدق هؤلاء الشهداء الخ) المراد بالشهداء الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فكان المناسب إبدال قواعدهم بشرائعهم لكنه قعد على طريق القافية، وعلى القول بأنه إشارة إلى الكفرة يكون شهادته تقوية لشهادة أنبيائهم عليهم الصلاة والسلام، وقد مرّ تفصيل معنى الشهادة فيه، وإنما أقحم صدق لأنّ شهد إذا تعذى لأحد الخصمين تعدى بعلى في الضرر وباللام للنفع وان تعدّى للأمر المشهود عليه تعدى بعلى مطلقا فلذا قدره ليكون من الثاني إذ لو كان من الأوّل لقيل لهؤلاء، ومن لم يتفطن للفرق قال: على متعلق بشهيداً مضمناً معنى التسجيل لئلا يلزم الشهادة عليهم لا لهم، وكأنه الداعي إلى جعله إشارة إلى الكفرة. قوله: (بيان لحالهم حينئذ (تسوّي تجعل مستوية والباء إما بمعنى الملابسة، أو على أو مع أو للتعدية وتسوية الأرض بهم إما كناية عن دفنهم والباء للملابسة أي تسوّي الأرض ملتبسة فبهم، وقيل للسببية أو بمعنى على وعلى الوجهين الأخيرين هي صلة، قال في الأساس: ساويت هذا بهذا وسوّيته به، ولا قلب إذ لا فرق بين سوّيتهم بالأرض! والتراب وسوّيتهما بهم، وقيل: معناه لو تعدل بهم الأرض! أي يؤخذ ما عليها منهم فدية، وقرئ بالتخفيف مع ضم التاء، وفتحها وعلى
الأوّل {الَّذِينَ كَفَرُواْ وَعَصَوُاْ الرَّسُولَ} واحد نوعا، وعلى الثاني نوعان ويشملهما الذين لكن في الصلة إشارة إلى تنويعهم فلا يلزم عليه حذف الذين، وقد صرّج المصنف بأنه غير جائز في قوله تعالى: {وَالَّذِي جَاء بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ} [سورة الزمر، الآية: 33] حيث قال: إذا كان الجائي هو الرسول صلى الله عليه وسلم والمصدق أبو بكر رضي الله تعالى عنه يقتضي إضمار الذي وهو غير جائز كما قيل للفرق بين المفرد والجمع مع أنّ في المسألة خلافا للفراء، وما نسب لحمزة والكسائي هو قراءة نافع، وابن عامر وحمزة والكسائي قرآ بالفتح والتخفيف كما في الدر المصون فليحزر النقل فيه، ثم إنه قال: وتسوية الأرض بهم أو عليهم دفنهم أو إن تنشق وتبلعهم أو أنهم يبقون ترابا على أصلهم من غير خلق. قوله: (ولا يقدرون على كتمانه) قيل هو على الوجه الأول عطف على قوله تسوّى بهم الأرض فقوله أي يوذون تفسير للآية على وجه العطف لأنه جعل لا يكتمون في حيزيوذ.
(وههنا شيء) وهو أنّ قوله: ولا يقدرون على كتمانه إن كان تفسيراً للآية على وجه العطف فما الحاجة إلى تقدير القدرة مع أنه فسر بأنهم لا يكتمون وان كان تفسيرا للآية على وجه الحال فالعطف عليه بقوله، وقيل للحال غير مستقيم، وقوله: ولا يكذبونه عطف على لا يكتمون الله حديثا على سبيل البيان والتفسير لأنّ المراد بالكتمان جحدهم بأنه ربهم حتى أدى إلى أن ختم أفواههم وتكلمت جوارحهم بتكذيبهم فافتضحوا، لذلك وتمنوا أن(3/137)
تسوى بهم الأرض ولم يكذبوا.
(أتول) بل هو عطف على يودّ، وقوله: لأنه الخ مما لا يفهم من الكشاف أصلا وان جوّزوا عطفه على تسوّى أيضاً، وقوله: ولا يقدرون بيان للمعنى بأنهم لا يقدرون على الكتمان أي عدم كتمانهم ناشئ من عدم قدرتهم لا أنهم يقدرون ولا يكتمون، وليس مراده إنه محتاج إلى تأويله فقوله ههنا شيء ليس بشيء، وقد جوّز في الدرّ المصون فيه ستة أوجه لا! الواو إفا للحال أو للعطف وهو إما عطف على مفعول يود أي يوذون تسوية الأرض! بهم وانتفاء كتمانهم ولو مصدرية في موضع مفعول يودّ لا شرطية ويكون حينئذ، لا يكتمون عطفا على مفعول يوذ المحذوف، ويجوز أن يكون عطفا على جملة يوذ فأخبر عنهم بالودادة وأنهم لا يقدرون على الكتم ولو مصدرية أو شرطية جوابها محذوف، ومفعول يوذ محذوف أيضأ، ولا يكتمون عطف
على الجملة الشرطية وان كانت حالية فهي إما حال من ضمير بهم، والعامل تسوّي، ويجوز في لو الوجهان، أو من الذين كفروا والعامل يودّ. قوله: (لا تقوموا إليها وأنتم سكارى الخ) يعني أنّ المراد بقربها القيام لها، والثلبس بها والمعنى لا تصلوا لكن نهى عن القرب مبالغة، وشمول السكر للنوم وسكر الخمر مخالف لجمهور المفسرين وسبب النزول وأنه خلاف الظاهر لما فيه من الجمع بين الحقيقة، والمجاز أو عموم المجاز واطلاق السكر على غير الخمر يستعمل مقيداً في الأغلب كسكرة الموت، وقيده بعلم ما يقوله وهو كناية عن علم ما يصحدر عنه من قول وفعل بيانا لحد السكر، وخصه لأنه سبب النزول ولأنّ القراءة مع أنها أعظم الأركان ومناجاة الرحمن الخلط فيها ربما أدّى إلى الكفر بخلاف الأفعال، وعبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنه صحابيّ معروف والمأدبة بفتح الدال وضمها الطعام الذي يدعى إليه وأدب القوم بأدبهم دعاهم إليه، وثملوا بالثاء المثلثة بمعنى سكروا وقوله: فقرأ عبد الخ أي بحذف لا في سورة الكافرين. قوله: (وقيل أراد بالصلاة مواضعها الخ) فهو مجاز من ذكر الحال، وإرادة المحل بقرينة قوله: (إلا عابري) فانه يدل عليه بحسب الظاهر وجعل المنهي عنه السكر وافراط الشرب لا قربان الصلاة لأنّ القيد مصب النفي، والنهي ولأنه مكلف بالصلاة مأمور بها والنهي ينافيه لكنه لا مانع عن النهي عنها للسكران مع الأمر المطلق إلا أنّ مرجعه إلى هذا والحاصل أنه مكلف بها في كل حال، وزوال عقله بفعله لا يمنع تكليفه، ولذا وقع طلاقه ونحوه ولو لم يكن مأموراً بها لم تلزمه الإعادة إذا استغرق السكر وقتها وقد نص عليه الجصاص في الأحكام وفصله فمن قال: لا دليل على ما ذكره غفل عن المسألة. قوله: (والسكر من السكر الخ) السكر بفتح السين وسكون الكاف حبس الماء وبكسر السين نفس الموضع المسدود وقيل: السكر بضم السين وسكون الكاف السد والحاجز كالجسر قال:
فما زلنا على السكر نداوي السكر بالسكر
والحاصل أنّ مادته تدل على الانسداد ومنه سكرت أعينهم أي انسدت. قوله:) سكارى بالفتح الخ) قراءة الجمهور سكارى بضم وألف، وهو جمع تكسير عند سيبويه واسم جمع عند غيره لأنه ليس من أبنية الجمع والأرجح الأوّل وقرأ الأعمش سكرى بضم السين على أنه صفة كحبلى وقع صفة لجماعة أي وأنتم جماعة سكرى كما حكي، كسلى وكسلى وقرأ النخعي
سكرى بالفتح وهو إما صفة مفردة صفة جماعة كما مرّ أو جمع تكسير كجرحى وإنما جمع سكران عليه لما فيه من الآفة اللاحقة للعقل، وقد تقدم الكلام عليه في أسارى في البقرة وقراءة سكارى بفتح السين جمع سكران كندمان وندامى. قوله: (عطف على قوله وأنتم سكارى الخ) جعله عطفا على الجملة الحالية مع الواو لئلا يلزم دخول، واو الحال على الحال المفردة، وأعاد لا لأنّ كلا منهما مانع منها وفيه تأمل قال النحرير هذا حكم الإعراب وأما المعنى ففرق بين قولنا جاء القوم سكار! ، وجاؤوا وهم سكارى إذ معنى الأوّل جاؤوا كذلك والثاني جاؤوا وهم كذلك باستئناف الإثبات ذكره عبد القاهر يعني بالاستثناف أنه مقرّر في نفسه مع قطع النظر عن ذي الحال وهو مع مقارنته له يشعر بتقرّره في نفسه، ويجوز تقدمه واستمراره ولذا قال السبكي رحمه الله تعالى في الأشباه لو قال لله عليّ أن اعتكف صائما لا بد له من صوم يكون لأجل ذلك النذر من غير سبب آخر فلا يجزئه(3/138)
الاعتكاف بصوم رمضان، ولو قال وأنا صائم أجزأه فافهمه فإنه فرق دقيق وانظر وجه التفرقة بين الحالين هنا والنكتة فيه ووجهه، أنّ الحال إذا كانت جملة دلت على المقارنة وأما اتصافه بمضمونها فقد يكون قد لا يكون نحو جاء زيد وقد طلعت الشمس، والحال المفردة صفة معنى فإذا قال دلّه عليّ أن أعتكف وأنا صائم نذر مقارنته للصوم، ولم ينذر صوما فيصح في رمضان، ولو قال صائما نذر صومه فلا يصح فيه وهذه المسألة نقلها الأسنوي في التمهيد ولم يبين وجهها، والنحرير ذكرها من غير نقل كأنها من بنات فكره ولم نر لأئمتنا فيها كلاما فأعرفه فإنه مما يعض عليه بالنواجذ. قوله: (والجنب الذي أصابه الجنابة الخ) بيان اسنواء المفرد المذكر وغيره فيه لتوجيه عطفه على الجمع وهي اللغة الفصيحة فيه، وفيه لغة أخر! تجمعه، وتثنيه واجراؤه مجرى المصدر معاملته معاملته في شموله للواحد وغيره لأنّ من المصادر ما جاء على وزنه كالنكر والنذر لا أنه مصدر في الأصل بمعنى الجنابة وأصله من التجنب بمعنى البعد. قوله: (متعلق بقوله ولا تجنباً الخ (أي هو استثناء منه لا منه ومما قبله، وكونه استثناء من أعم الأحوال أي أحوال المخاطبين المجنبين ولهم أحوال جمة ما عدا حال السفر فنهوا عن قربان الصلاة إلا في حال السفر يعني: {لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى} أي وأنتم جنب على تقدير من التقادير وفي حال من الأحوال إلا في حال السفر قال الزمخشريّ: إلا عابري سبيل استثناء من عامّة أحوال المخاطبين،
وانتصابه على الحال فإن قلت كيف جمع بين هذه الحال، والحال التي قبلها قلت كأنه قيل لا تقربوا الصلاة في حال الجنابة إلا ومعكم حال أخرى تعذرون فيها وهي حال السفر، وعبور السبيل عبارة عنه يعني لا عن المرور في المسجد كما في القول الآخر، ثم قال ويجوز أن لا يكون حالاً و! ن صفة لقوله: " جنباً " أي ولا تقربوا الصلاة جنباً غير عابري سبيل أي جنبا مقيمين غير معذورين اهـ، وقيل في تقرير كلامه إنّ السؤال للاستفسار عن كيفية جعلهما من فعل واحد أهما على سبيل الاستقلال أو الاجتماع وعلى تقدير الاجتماع أكل منهما معتبر في الأخرى أم ذلك من جانب واحد وعلى الأخير ما ذاك وكيف هو، وحاصل الجواب أنهما على الاجتماع واعتبار الثانية في الأولى أي لا تصلوا في حال الجنابة كائنين على حال من الأحوال إلا مسافرين، والمراد نفي ما يقابل السفر، ولا صحة للاستقلالط مثل لا تصلوا جنباً ولا تصلوا إلا عابري سبيل، وقوله: ولكن صفة ربما يشعر بأنه استثناء مفرع في موقع الصفة أي ولا جنباً موصوفاً بصفة إلا مسافراً لكن قوله جنبا غير عابري سبيل أي جنباً مقيمين يدل على أنه جعل إلا بمعنى غير صفة لجنباً لكونه جمعا منكراً، كقوله: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ} [سورة الأنبياء، الآية: 22] لكن مثل هذا إنما يصح عند تعذر الاستثناء، ولا تعدّر هنا لعموم النكرة بالنفي كما تقول ما لقيت رجالاً إلا مسافرين، والأوجه أن يجعل مفرّغا ويكون قوله جنباً غير عابري سبيل بياناً للمعنى لا تقديراً للإعراب وقد يرجح الأوّل أي أنها بمعنى غير بأنه لا يفيد الحصر فلا يرد المريض إشكالاً بخلاف الثاني فإنه يفيد حصر جوازه صلاة الجنب في وصف كونه مسافراً، وكذا جعله حالاً وجوابه منع عدم إفادة الأوّل الحصر فإنّ معناه لا تصلوا جنباً غير مسافرين، والمريض الجنب غير مسافر فيكون قوله: وان كنتم مرضى تخصيصا للحكم وتعميماً للعذر سواء أكان حالان أو صفة أو بمعنى غير، وقوله: غير معذورين صفة لمقيمين إما على سبيل التخصيص واما على سبيل البيان والقصد أنّ عابري سبيل كناية عن مطلقا المعذ وربن.
(أقول) معنى كلام العلامة أنه يجوز فيه وجهان أن يكون استثناء مفرغا من حال متداخلة
عامّة أو من صفة للنكرة مقدرة لأنه يجوز التفريغ في الصفات، ويحتمل الوجه الثاني أنه صفة والا بمعنى غير والوجه الأوّل لا يحتمل غير التفريغ لأنه لو كان مستثنى من جنبا لأنه بمعنى جنبين لقال مستثنى من ذوي الجنابة لا من عامّة الأحوال وفي كلام الشاوج المحقق إجمال مخل، وما ذكره من الشرط في التوصيف بإلا ذكره ابن الحاجب وقد خالفه فيه النحاة كما في المغني.
(وههنا أمور ينبغي التنبه لها) وهو أنّ الحصر يقتضي أنه لا يرخص فيه لغير المسافر
وليس كذلك وأنه على تقدير تأويله فما الداعي إلى العدول عن الظاهر بأن يقال إلا عابري سبيل أو مرضى فاقدي الماء يعني حساً أو حكماً، وأنه لم لم يقدم حتى(3/139)
تغتسلوا على الاستثناء هو الظاهر، أما الأوّل فإنّ المراد بغير عابري السبيل غير معذورين بعذر شرعي إما بطريق
الكناية أو بإيماء النص ودلالته، والداعي إلى عدم التصريح أنه أبلغ وأوكد منه لما فيه من الإجمال والتفصيل ومعرفة تفاضل العقول والإفهام، وأنّ المراد أوّلاً بيان غير المعذورين والاستثناء إيماء إليه وفيما بعده بيان حال المعذورين والمقصود هو صحة الصلاة جنبا ولا مدخل لقوله: حتى تغتسلوا فيه ولذا أخر، وإنما ذكر تنبيها على أنّ الجنابة إنما ترتفع بالاغتسال، ولولا ذلك كان ذكره لغواً وبما ذكر علم كلام المصنف رحمه الله فنزله على ما مر. قوله: (وفيه دليل على أنّ التيمم لا يرفعا الحدث) هذا مما وقع فيه الخلاف عندنا وعندهم أيضاً، ووجه الدلالة كما قال الجصاص: أنه سماه جنبا مع كونه متيمما ومن لا يراه يقول لم يوصف الجنب بأنه متيمم، وإن كان يعلم ذلك من الآية المتصلة به فيجوز أن يكون وصفه بالجنابة قبل التيمم فإن محصل معنى الآية لا تقربوها جنبا حتى تغتسلوا، إلا عابري سبيل فاقربوها بلا اغتسال بالتيمم لأنّ المعنى فاقربوها جنبا بلا اغتسال بالتيمم فالرفع، وعدمه مسكوت عنه، ثم استفيد كونه رافعاً من خارج وقيل هو من قوله حتى تغتسلوا. قوله: (ومن فسر الصلاة الخ) على أنه مجاز أو بتقدير مضاف، وربما يرشحه أنه قيل لا تقربوا مع أن لا تصلوا أخصر لأنّ حقيقة القرب والبعد في المكان وليس من استعمال لفظ الصلاة في حقيقته ومجازه، والموجب للعدول عن الظاهر توهم لزوم جواز الصلاة جنباً حال كونه عابر سبيل لأنه مسحنى من المنع المغيا بالاغتسال، وليس بلازم لوجوب الحكم بأنّ المراد جوازها حال كونه عابر سبيل أي مسافراً بالتيمم لأنّ مؤدي، التركيب لا تقربوها جنبا حتى تغتسلوا إلا حال عبور السبيل فلكم أن تقربوها بغير اغتسال، نعم مقتضى ظاهر الاستثناء إطلاق القربان حال العبور لكن ثبت اشتراط التيمم فيه بدليل آخر وليس ببدع، وعلى هذا فالآية دليلهما على منع التيمم للجنب المقيم في المصر ظاهرا، وجوابه أنه خص حالة عدم القدرة على الماء في المصر من منعها كما أنها مطلقة في المريض، والإجماع على تخصيص حالة القدرة حتى لا يتيمم المريض القادر على استعمال الماء وهذا للعلم بأنّ شرعيته للحاجة إلى الطهارة عند العجز عن الماء فإذا تحدد في المصر جاز وإذا لم يتحقق في المريض لا يجوز، وقوله وقال أبو حنيفة الخ نحو منه في الكشاف لكن المذكور في فقه الحنفية منع الدخول في المسجد مطلقا وكذا نقله الجصاص في الأحكام إلا أنه نقل عن الليث أنه لا يمرّ فيه إلا أن يكون بابه إلى المسجد، وهو قريب منه وذكر أنه صح أنه رخصة لعلي رضي الله عنه وكرم وجهه خاصة. قوله: (غاية النهي الخ) وجه التنبيه المذكور أنه إذا وجب تطهير البدن فتطهير القلب أولى، أو أنه إذا لم يقرب مواضع
الصلاة من به حدث فلأن لا يقرب القلب الذي هو عرش الرحمن خاطر غير طاهر ظاهر. قوله: (مرضاً يخاف معه الخ (ليس مراده أن المرض مخصص بصفة مقدرة بل بيان للحكم المأخوذ من الآية، وتحقيقه فلا يرد عليه أنه لا حاجة إلى هذا التقييد لأنه مأخوذ من قوله فلم تجدوا كما سيأتي في تفسيره، وجعله راجعاً إلى غير المرضى لا وجه له، واعادة على سفر على أحد التفسيرين تتميم للأقسام ولأنّ الاستثناء كني به عن العذر كما مرّ ولأنّ هذا الحكم مطلق شامل للحدثين والأوّل للجنب فقط والمرض المانع تمكنه من الوصول له ككونه مقعداً. قوله: (فأحدث الخ) يعني أنّ الغائط المكان المطمئن أي المنخفض وهو الغيط أيضا وبه قرأ ابن مسعود رضي الله عنه، ولذا استعملوه بمعنى البستان ثم إنه كني به عن الحدث المعروف لأنه مما يستحيا من ذكره لا إنّ في الكلام مقدراً بهما توهم، وفي ذكر أحد فيه دون غيره إشارة إلى أنّ الإنسان ينفرد عند قضاء الحاجة كما هو دأبه وأدبه. قوله: (استدل الشافعئ رضي الله عنه على أنّ اللمس الخ) لأنّ الحمل على الحقيقة هو الراجح لا سيما في قراءة من قرأ لمستم إذ لم يشتهر في الوقاع كالملامسة، وفي الكشف ورجح بعضهم الحمل على الوقاع في القراءة الأخرى ترجيحا للمجاز المشهوو وعملاً بالقراءتين إذ لا منافاة، وآخرون إنها على الحقيقية أيضاً دالة على حدث اللام! والملموس وقد نقله صاحب الإتقان وحسنه. قوله: (فلم تتمكنوا من استعماله الخ) المراد بالممنوع غير(3/140)
الممكن لمانع ما، وقوله: في غالب الأمر لأنه تد يفقد الماء في الحضر أيضا وما يحدث بالذات هو الغائط وما بالعرض الملامسة، ولم يذكر العذر في الحدث الأصغر لأنه مندرج في اكبر ومعلوم منه بالطريق الأولى ففي النظم إيجاز لطيف. قوله: (فتعمدوا شيثاً الخ) إشارة إلى أنّ صعيداً مفعول به وقيل إنه منصوب بنزع الخافض أي بصعيد، وفسر الطيب بالطاهر ومنهم من فسره بالمنبت، وكون الصعيد بمعنى التراب عليه أكثر
أهل اللغة، وقوله: {فَتَيَمَّمُواْ} جزاء للشرط والضمير راجع إلى جميع ما اشتمل عليه ولا حاجة إلى تقدير جزاء لقوله تعالى: {جَاء أَحَدٌ مَّنكُم} وكون التبعيض ظاهراً في مسحت منه أي ببعضه هو المتبادر وهو يقتضي التراب، والحنفية يحملونه على الابتداء أو الخروج مخرج الأغلب، وقيل: الضمير للحدث المفهوم من السياق، ومن للتعليل أو لابتداء الغاية، وقوله: من وجه الأرض تفسير على المذهبين. قوله: (واليد الخ) اليد مشتركة بين معان من أطراف الأصابع إلى الرسغ، والى المرفق، والى الإبط وهل هو حقيقة في واحد منها مجاز في غيره أو حقيقة فيها جميعا رجح بعضهم الثاني ولذا ذهب إلى كل منها بعض السلف هنا لكن مذهبنا ومذهب الشافعيّ والجمهور أنه إلى المرفقين، والرواية التي أشار إليها حديث أبي داود وهو وان قيل ضعيف لكنه مؤيد بالقياس على الوضوء الذي هو أصله وإنه أحوط، وقوله: فلذلك يسر الأمر إلى آخره قيل لو فسر العفو بالميسر من العفو بمعنى السهل لكان أنسب كما في التيسير ولا يخفى أنّ العفو الضقرون بالمغفرة يقتضي خلافه فهو كالتعليل لقوله: {وَإِن كُنتُم مَّرْضَى} الخ والعفو والغفران يستدعيان سبق جرم وليس في تلك الأعذار ما يشم منه رائحته فلا يصح إجراؤه على ظاهره فوجب العدول إلى تجعله كناية عن الترخيص، والتيسير لأنه من توابعه ويؤيده مجيء قوله: {مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ} [سورة المائدة، الآية: 6] في المائدة بعده وأدمج فيه أنّ الأصل فيها الطهارة الكاملة وأنّ غيرها من الرخص من العفو والغفران. قوله: (من رؤية البصر الخ (يعني الرؤية إما بصرية وتعديتها بإلى حملا لها على نظر أو علمية وضمن معنى الانتهاء أي ألم ينته علمك إليهم، وقوله: حظا يسيراً أخذ القلة من التنوين وأما حمله على التكثير والكتاب على القرآن فخلاف الظاهر. قوله: (يختارونها) يعني أنه استعارة أو مجاز مرسل في لازم معناه إما للاختيار أو الاستبدال وعلى كل فمتعلقه محذوف، وقوله بعد تمكنهم إشارة إلى دفع ما يتوهم من أنهم ليس لهم هدي فيستبدلوه بأن التمكن جعل بمنزلة
حصوله أو أنه حاصل لهم بالفعل لعلمهم به وتحققه عندهم، وان لم يظهروه والتمكن والحصول لف ونشر مرتب للاختيار والاستبدال، وعلى القيل المراد بالضلالة تحريف التوراة أي اشتروها بمال الرشا، وقوله: فاحذروهم الخ يعني أنّ الجملة للتأكيد وبيان التحذير والا فأعلميته معلومة. قوله: (والباء تزاد الخ) الباء تزاد بعد كفى كثيراً في الفاعل وقد تزاد في المفعول أيضا، ووجه زيادتها هنا تأكيدا لنسبة بما يفيد الاتصال وهو الباء الالصاقية وهو المراد بالاتصال الإضافي لأنّ حروف الجر يسميها بعض النحاة حروف الإضافة لإضافة معنى متعلقها لما بعدها وايصاله إليه وليس هذا معنى آخر كما توهم. قوله: (بيان للذين أوتوا نصيياً الخ (ولا يرد اعتراض با! الاعتراض بجملتين مختلف فيه كما قيل لأنّ الخلاف إذا لم يكن عطف وفيه هي كجملة واحدة بلا خلاف فما قيل ظاهره أنّ كلا منها جملة مصدرة بالواو الاعتراضية لا أن تكون الأولى اعتراضية والأخريان عطفا عليها ليس كما ينبغي، وقوله: ويحفظكم إشارة إلى أنه إذا كان متعلقا بالنصر وصلة له فتعديته بمن لتضمنه معنى الحفظ أو الائتقام كما أن تعديته بعلى لمعنى الغلبة، وأما جعله خبراً الخ فقد مر أنّ المبتدأ إذا وصف بجملة أو ظرف، وكان بعض اسم مجرور بمن أو في مقدم عليه يطرد حذفه والفرّاء يجعل المبتدأ المحذوف اسماً موصولاً يحرفون صلته أي من يحرفون فلا وجه لقول النحرير: لم يقدر المحذوف موصوفا بالظرف لأنّ الشائع في مثل هذا المقام تقديم الخبر نحو من المؤمنين رجال صدقوا الخ والبصريون لا يجيزون حذف الموصول وابقاء صلته وفيه خلاف لكن يؤيده ما في مصحف حفصة رضي الله عنها من يحرفون، ومن جعله مؤيد الحذف المبتدأ فقد وهم، وقال: هنا عن(3/141)
مواضعة وفي المائدة من بعد مواضعه والمراد واحد وفرق بينهما بعض شراح الكشاف. قوله: (جمع كلمة الخ) أراد الجمع اللغوي وهو ما يدل على ما فوق الاثنين مطلقاً.
وأما النحاة فيسمونه اسم جنس جمعي ويفرقون بينه وبين اسم الجمع، ويجعلون علامته
غلبة التذكير فيه كقوله: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} [سورة فاطر، الآية: 0 ا] فلا يرد عليه أنه قول ضعيف مخالف لكلام النحاة، وأمّا أنه اختار أنه جمع وأنّ تذكيره بتقدير بعض فمما لا حاجة إليه، وتخفيف كلمة بنقل كسرة اللام إلى الكاف. قوله: (أي مدعوّا عليك بلا سمعت الخ) يعني أنه يحتمل الذم والمدح ولذا ذكروه نفاقا منهم فالمدح هو الوجه الأخير والذم من
وجوه، الأول أنّ مسمع متروك المفعول الثاني من غير أن يجعل كناية عن مقيد والمعنى اسمع مدعوّاً عليك بلا سمعت مجابا فيك هذه الدعوة بحيث يصح أنك غير مسمع يعني المقصود به الدعاء لئلا يتناقض اسمع وغير مسمع، وقيل: هو حال وحاليته باعتبار أنّ دعاءهم لما قدروا إجابته صار كأنه واقع مقرّر وأيضا الدعاء إنشاء لا يقع حالاً فلذا أوّلوه بما ذكر فافهمه، واليه أشار المصنف رحمه الله بقوله: أي مدعوا الخ الثاني أنه متروك المفعول مجعول ذلك المطلق كناية عن المقيد. بمفعول مخصوص هو جواباً يوافقك كقوله:
شجو حساده وغيظ عداه أن يرى مبصر ويسمع واعي
كناية لمطلق الرؤية والسسصاع عق رؤية الآثار وسماع الإخبار الدالة على اختصاصه باستحقاق إطلاقه والى ترك المفعول من غير أن يقدّر أشار الزمخشريّ بقوله: غير مجاب إلى ما تدعو إليه وقوله: فكأنك لم تسمع شيئاً، والى كونه كناية عن المقيد أشار بقوله: غير مس! مع جوابا يوافقك، أو على أنه محذوف المفعول للعموم كقد كان* منك ما يؤلم أن كل أحد والمعنى غير مسمع شيئاً لأنّ ما! عدا الجواب االموافق بالنسبة إليه بمنزلة العدم، فإذا لم يسمعه فكأنه لم يسنع شيئاً وهذا مراد المصنف رحمه الله بقوله أو اسمع غير مجاب إلى ما تدعو إليه الثالث أنه محذوف المفعول المخصوص بقرينة الحال اًي غيبر مسمع كلا ما ترضاه وبخعله الزمخشريّ بمعنى نابيا سحعك ص المسموع لكونه غير مرضى عندك، وأورد عليه أن أسمع غير مسمع كلاما رضاه معنى تام لا يحتاج إلى جعل عدم السقاع كناية عن نبوّ السمع، ولا يشعر بالقصد إليه فالأولى أنّ غير مسمع في هذا الوجه أيضا متروك المفعول لكن لما كان الأمر بالسماع حال كون المخاطب غير مسمع كالتناقض جعل كونه غير مسمع عبارة عن كونه نابي السمع عن المسموع، ولزمه كون المسموع كلاما لا يرضاه فصح أن يؤمر بأن يسمع حالة كونه غير مسمع، والمصنف رحمه الله لما حذفه كان إشارة إلى تقدير المفعول بلا اشتباه، ثم لما كان نبوّ سمع المخاطب عن المسموع لكراهته في قوّة كون المسموع مما ينبو عنه سمعه لا فرق بينهما إلا بحسب الإضافة، والاعتبار جوّز في هذا الوجه المبنيّ على النبوّ كون غير مسمع مفعول اسمع بتقدير موصوف أي كلاما ولزم اعتبارا حذف المفعول الأوّل أعني المخاطب دون الترك، لأنّ نبوّ سمعه وعدم رضاه إنما هو بكون الكلام غير مسمع إياه لا كونه غير مسمع على الإطلاق، وحاصل الوجه الثاني عند الؤمخشرفي، كالمصنف اسمع غير مجاب إلى ما تدعو إليه بمنزلة من لم يسمع شيئا، والثالث اسمع نابي السمع عن المسموع لكونه غير مرضيّ، إذا سمع كلاما ينبو عنه السمع ولذلك كان الفرق بينهما ظاهرا، وأمّا السؤال بأنه لم لا يجوز في الوجه الثاي أيضا أن يكون غير مسمع مفعول اسمع فمبنيّ على توهم أنه لا فرق بينهما إلا بكون
المفعول المقدّر جوابا يوافقك أو كلاما لا ترضاه، وليس كذلك ولا يخفى عليك أنه إذا قيل اسمع جواباً غير مسمع بمعنى كونه غير موافق للمخاطب لم يستقم إلا بأن يجعل عدم سماعه عبارة عن نبوّ السمع عنه، وكان هذا هو الوجه الثالث لا الثاني وقوله: {غَيْرَ مُسْمَعٍ} إياك إشارة إلى تقدير المفعول الأوّل على هذا الوجه، وقوله: فيكون مفعولاً به أي غير مسمع، وعلى ما قبله هو حال وقولهم: أسمعه بمعنى سبه كذا قال الراغب: وكان أصله أسمعه ما يكره فحذف مفعوله نسياً منسياً وتعورف في ذلك. قوله: (وراعنا انظرنا (أو اسمع كلامنا، وهو مشابه لكلمة سب عندهم إما لأنها من الرعونة أو لأشياعهم يعنون راعينا تحقيرا له بأنه بمنزلة خدمهم وعان غنمهم، وقوله: نفاقاً لأنه مما يحتمل الذم والمدح لا ينافي قولهم سمعنا وعصينا لأنه(3/142)
مجاهرة لإنفاق لاحتمال أنهم قالوه فيما بينهم أو لم يقولوه لكن أشبهت حالهم من يقوله، وأيضاً المجاهرة بالعصيان لا تنافي نفاقهم بإيهام الدعاء له وعدم إظهار سبه. قوله:) فتلا بها وصرفا للكلام الخ) الفتل والليّ يكون بمعنى الانحراف والالتفات والانعطاف عن جهة، إلى أخرى كما في قوله تعالى: {إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أحَدٍ} [سورة آل عمران، الآية: 153] ويكون بمعنى ضم إحدى نحو طاقات الحبل على الأخرى فأشار المصنف رحمه الله إلى أنه يجوز أن يكون من الأوّل ومعناه، صرف الكلام عن جانب المدح إلى جانب السب أو المراد أنهم يضمون أحدهما إلى الآخر، والحامل عليه كله النفاق وهو مفعول لأجله أو حال وظاهر كلامه الأوّل، وفسر الطعن بالاستهزاء وأصله الوخز والوقيعة من طعن بالرمح. قوله: (ولو ثبت قولهم هذا الخ) بأن قالوا: {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} مكان سمعنا وعصينا واسمع فقعل مكان اسمع غير مسمع وانظرنا مكان راعنا، واسم كان ضمير المصدر المؤوّل وقوله: {خَيْرًا لَّهُمْ وَأَقْوَمَ} أي مما طعنوا وفتلوا ولا يخفى موقع أقوم في مقابلة الفتل، وجعله فاعل ثبت المقدر لدلالة أنّ عليه إذ هي حرف توكيد وثبت حل في محله وهو مذهب المبرد، وقيل: إنه مبتدأ لا خبر له
قليل التشكي للمهم يصيبه
أو إلا قليلاً منهم آمنوا، أو سيؤمنون (تكأكا اللإين أولؤأ آمتب ة اينوأ بما ترتآ شلإقا
يتا محكم ين تتلي آن تظعش وضهأ تزدئا غل+ آتارتآ) من تبل أن نمحو تخطيط صورها، ونجعلها على هيئة أدبارها يعني الأقفاء، أو ننكسها إلى، ورائها في الدنيا أو في الآخرة، وأصل الطمس إزالة الأعلام الماثلة، وقد يطلق بمعنى الطلس في إزالة الصورة، ولمطلق القلب، والتغيير، ولذلك قيل معناه ممن قبل أن نغير وجوها، فنسلب وجاهتها واقبالها
وقيل خبره مقدر. قوله: (1 لا إيماناً قليلأ الخ) قليلاً جوّز فيه أن يكون منصوبا على ألاستثناء من لعنهم الله أي لعنهم الله إلا قليلاً منهم آمنوا فلم يلعنوا أو من فاعل لا يؤمنون، والقليل عبد الفه ابن سلام رضي الله عنه وأضرابه، وكان الوجه فيه الرفع على البدل لأنه من كلام غير موجب. أو هو صفة مصدر محذوف أي إلا إيمانا قليلاً لأنهم وحدوا وكفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم وشريعته فالإيمان بمعنى التصديق لا الإيمان الشرعي، أو أنّ المراد بالقليل كما ورد في قول الشاعر، قليل التشكي بمعنى لا تشكي، له والمراد أنهم لا يؤمنون إلا إيمانا معدوما أمّا على حد لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى أي إن كان المعدوم إيمانا فهم يحدثون شيئا من الإيمان فهو من التعليق بالمحال، أو أن ما أحدثوه منه لما لم يشتمل على ما لا بد منه كان معدوما انعدام الكل بجزئه واستعمال القلة في العدم لعدم الاعتداد به ودخوله بقلته طريق الفناء وبهذا التقرير سقط، ما قيل أنّ القلة وإن استعملت في العدم في قولهم قلما يقول ذلك أحد، وأقل رجل يفعل ذلك غير أنّ التركيب الاستثنائي يأباه إذا قلت لم أقم إلا قليلاً إذ معناه انتفاء القيام إلا القليل، أما أنك تنفي، ثم توجب ثم تريد بالإيجاب بعد النفي نفيا فلا لأنه يلزم أن تكون إلا وما بعدها لغوا لأنّ النفي فهم مما قبله فأي فائدة فيه. قوله: (قليل التشكي للمهم يصيبه (كثير الهوى شتى النوى والمسالك
هو من الحماسة وقائله تأبط شرا وقيل أبو كبير الهذلي أي هو كثير الهم مختلف الوجوه والطرق لا يقف أمله على فن واحد بل يتجاوزه إلى فنون مختلفة صبور على النوائب لا يكاد يتشكى منها فاستعمل لفظ قليل وأراد به نفي الكل وقوله: (إلا قليلاَ منهم آمنوا (إشارة إلى أنه مستثنى من لا يؤمنون ومرّ ما فيه. قوله: (من قبل أن نمحو تخطيط صورها الخ (المراد بتخطيط الصور ما صوره الباري بقلم قدرته في الوجه من الحاجب والأنف ونحوه وطمسها أن تسوّي وتجعل كإدبارها أي ما خلفها، وهو القفا فإنه لا تصوير فيه فحينئذ يكون الطمس والردّ على الأعقاب واحداً فلا يناسب عطفه بالفاء إلا أن يؤوّل نطمس بنريد الطمس أو يجعل من عطف المفصل على المجمل، وقوله: أو ننكسها الخ أي نجعل العيون وما معها في القفا فنقلب صورهم وهذا إما مسخ في الدنيا أو أنه يكون في الآخرة لتشهيرهم. قوله:) وأصل الطمس إزالة الاعلام الماثلة الخ) الماثلة بالثاء المثلثة بمعنى المنتصبة في الطرق علامة لها
والماثلة تحريف من الناسخ، وهذا المعنى مشهور في اللسان واللغة كقوله: طامس الإعلام مجهول، من قال: لم نجده في اللغة لا يحتاج إلى الجواب والطلس محو النقوس والصور ولذا أريد به مطلق التغيير سواء كان عن هيئة له أو صفة، والطمس بمعنى التغيير راجعة على إدبارها كناية عن إخراجهم من ديارهم إلى أذرعات أرض الثام وبنو النضير من يهود المدينة وإذا فسر الطمس بالطبع على حواسها والختم عليها فهو استعارة كما مرّ. قوله: (أو نخزيهم بالس! خ الخ) أصل معنى اللعن الطرد والإبعاد وهو عقوبة وخزى فلذا فسره به وأما إرادة المسخ فلأنه إخراج(3/143)
عن خلقتهمم وجنسهم فكأنه طرد لكنه بعيد، وقد يطلق اللعن ويراد به الدعاء به وهو معنى قوله على لسانك الخ وأصحاب السبت اليهود. قوله: (أو للذين على طريق الالتفات الأنه بعد تمام النداء مقتضى الظاهر الخطاب، وأمّا قبله فالظاهر الغيبة وبجوز الخطاب لكنه غير فصيح كقوله:
يا من يعز علينا أن نفارقهم
وقوله: (وعطفه الخ الأنه هو أو قريب منه فلا يليق عطفه بأو، ومن حمل الوعيد الخ أي
في قوله نطمس الخ قال: إنه سيقع لهم أو وقوعه مشروط بعدم إيمان أحد منهم وغير قول الزمخشريّ مشروط بالإيمان إلى قوله مشروطا بعدم إيمانهم لاحتياجها إلى التأويل بأن الوعيد مشروط ومعلق بالإيمان وجوداً وعدما فإن وجد الإيمان لم يقع وألا وقع وقد وجد فلم يقع، وقيل: إنه على حذف مضاف أي بعدم الإيمان للقرينة العقلية. قوله: (بإيقاع شيء الخ (يعني المراد بالأمر معناه المعروف أو هو واحد الأمور والمراد الوعيد أو ما قضى، وقدر مفعولاً بمعنى نافذآ واقعا في الحال أو كائنا في المستقبل لا محالة فيقع ما أوعدتم به فاحذروه. قوله: (لأنه بت الحكم على خلود الخ) قيل الأولى الاقتصار على الوجه الأوّل لأنّ الثاني مبني على
أن فعل الله مبني على استعداد المحل وهو مذهب الفلاسفة، والشرك يكون بمعنى اعتقاد أن لله شريكاً وبمعنى الكفر مطلقا، وهو المراد هنا وقد صرّح به في قوله تعالى في سورة: لم يكن بقوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا} [سورة البينة، الآية: 6] فلا يبقى شبهة في عمومه. قوله: (وأوّل المعتزلة الخ) ردّ على الزمخشري فيما تعسفه هنا، وتقريره كما قال النحرير: إنه لا خفاء في أنّ ظاهر الآية التفرقة بين الشرك وما دونه، بأنّ الله لا يغفر الأوّل البتة ويغفر الثاني لمن يشاء ونحن نقول بذلك عند عدم التوبة فحملنا الآية عليه بقرينة الآيات والأحاديث الدالة على قبول التوبة فيهما جميعا ومغفرتهما عندهما بلا خلاف من أحد لا يقال حقيقة المغفرة الستر وترك إظهار الأثر والمؤاخذة على ما هو باق كالمعصية المتصف بها الشخص تاب أو لم يتب، وهذا لا يتصوّر في الشرك إلا على تقدير عدم التوبة عنه بالإيمان إذ هو مع الإيمان يزول عنه بالكلية ولا يبقى حتى يغفر، وإنما المغفرة بالنسبة إليه ترك التعيير بما سلف منه، وهما معنيان مفترقان لا يقع اللفظ عليهما فلا حاجة في الآية إلى التقييد بعدم التوبة إذ لا مغفرة للشرك الباقي البتة بخلاف ما دونه لمن يشاء، لأنا نقول الزائل بالإيمان هو الكيفية الحاصلة في النفس والاعتقاد الباطل، وأما كونه قد أشرك فمساو لكونه قد زنى.
وأما المعتزلة فلا يقولون بالتفرقة بين الشرك، وما دونه من الكبائر في أنهما يغفران بالتوبة
ولا يغفران بدونها فحملوا الآية على معنى إن الله لا يغفر الإشراك لمن شاء، أن لا يغفر له وهو غير التائب ويغفر ما دونه لمن يشاء أن يغفر له وهو التائب فقيد المنفي بما قيد به المثبت على قاعدة التنازع لكن من يشاء في الأوّل المصرّون بالاتفاق، وفي الثاني التائبون قضاء لحق التقابل، وليس هذا من استعمال اللفظ الواحد في معنيين متضادّين لأنّ المذكور إنما تعلق بالثاني، وقدر في الأوّل مثله والمعنى واحد لكن مفعول المشيئة يقدر في الأوّل عدم الغفران وفي الثاني الغفران بقرينة سبق الذكر، فإن قيل لا يخفى أنه لا بد في من يشاء من عائد على الموصول، وهو في المثبت تقديره من يشاء الله أن يغفر له والمنفي لا يتوجه إليه، قلنا مراده التوجه إلى لفظ من يشاء ثم الحمل على ما يناسب من المعنى، وعبارته توهم أنّ العائد إلى الموصول ضمير الفاعل كما قيل وليس كذلك ولقائل أن يقول بعد تسليم ما مز لا جهة لتخصيص كل من القيدين بما ذكر لأنّ الشرك أيضا يغفر للتائب، وما دونه لا يغفر للمصرّ من غير فرق بينهما وسوق الآية ينادي على التفرقة ويأخذ بكظم المعتزلة حتى ذهب البعض منهم إلى أنّ ويغفر عطف على النفي والنفي منسحب عليهما فالآية للتسوية بينهما لا للتفرقة وهو من تحريف كلامه تعالى. قوله: (إذ ليس عموم آيات الوعيد بالمحافظة الغ (يعني أنه ترك المفعول
الأوّل للمحافظة على عمومه فإن حذفه يفيد ذلك فذكر أنه لا وجه للمحافظة عليه في أحدهما دون الآخر وأما كونه من التنازع كما قرّره النحرير فغير متوجه مع اختلاف متعلق المشيئة(3/144)
فيهما وما ذكره لتوجيهه تعسف لا يصلح ما أفسده الدهر. قوله: (ونقض لمذهبهم الخ (رذه صاحب الكشف فقال: وما قاله بعض الجماعة من أنّ التقييد بالمشيئة ينافي وجوب التعذيب قبل التوبة ووجوب الصفح بعدها لم يصدر عن ثبت لأنّ الوجوب بالحكمة يؤكد المشيئة عندهم، وأيضا فإنه أشار بتمثيله بأنّ الأمير يبذل القنطار لمن يشاء، ولا يبذل الدينار لمن لا يشاء بأنّ المشيئة بمعنى الاستحقاق وهي تقتضي الوجوب، وتؤكده كما قاله المدقق فلا يرد ما ذكره رأسا ووجه إلزام الخوارج يفهم من التقابل فافهم. قوله:) ارتكب ما يستحقر دونه الآثام) هذا من جعله عظيما بعظمته وأنه أكبر الكبائر يقتضي التخليد به دون غيره. قوله: (والافتراء كما يطلق على القول يطلق على الفعل وكذلك الاختلاق) الافتراء من الفرى وهو القطع، ولأنّ قطع الشيء مفسدة له غالبا غلب في الإفساد واستعمل في القرآن في الكذب والشرك والظلم كما قاله الراغب: فهو ارتكاب ما لا يصح أن يكون قولاً أو فعلا فيقع على اختلاق الكذب وارتكاب الإثم كما هنا وهو مشترك فيهما، وقيل الأظهر أنه حقيقة في اختلاق الكذب أي تعمده مجاز في افتعال ما لا يصح مرسل أو استعارة، ولا يلزمه الجمع بين الحقيقة والمجاز هنا لأنّ الشرك أعم من القولي والفعلي لأنّ المراد معنى عام وهو ارتكاب ما لا يصح كما أشار إليه المصنف رحمه الله تعالى. قوله: (يعني أهل الكتاب الخ) أحباء جمع حبيب بمعنى محب أو محبوب، وقوله: إلا كهيئتهم فيه تجوّز أي إلا بصفتهم من أنه لا يكتب عليهم ذنب لأنّ أعمال! ليلنا تكفر ما في النهار وعكسه، وتزكية النفس مذمومة عند الله وعند الناس إلا لغرض صحيح كالتحدث بالنعمة ونحوه، وقوله دون تزكية غيره أي تزكية غيره لا يعتد بها إذا خالفت تزكيته فلا ينافي قبول التزكية من الناس كما مرّ والتزكية في الأصل التطهير والتبرئة من القبيح فعلاً كقرله: {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا} [سورة الشمس، الآية: 9] وقوله: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا}
[سورة التوبة، الآية: 103] وأما قولاً فظاهر. قوله: (بالذم أو العقاب الخ) أو لا يظلمون إذا زكوا بزيادة أو نقص في وصفهم، والفتيل مثل يضرب للحقارة كالنقير للنقرة التي في ظهر النواة والقطمير وهو قشرة النواة الرقيقة، وقيل الفتيل ما خرج بين إصبعيك وكفيك من الوسخ وجعل المصنف رحمه الله تعالى الإضراب ببل إيطاليا لإبطال تزكية أنفسهم واثبات تزكية الله، وقيل بل للإضراب عن ذمّهم بتزكيتهم أنفسهم إلى ذمهم بالبخل والحسد اللذين هما شر خصلتين وفوق رذيلة ما في التزكية من العجب والكذب، وهذا إنما يتم أن لو ارتبط قوله: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ} الخ بقوله: {بَلِ اللهُ يُزَكِّي مَن يَشَاء} وهو بعيد لفظا ومعنى إذ هو مرتبط بقوله ألم تر الخ ولا داعي لما ذكره وقوله: (في رّعمهم الخ) المراد في تزكيتهم أنفسهم وهي بما ذكر كما مرّ. قوله: (لا يخفى الخ) إشارة إلى أنه من أبان اللازم لا المتعدي وظهور الذنب بين غيره من الذنوب عبارة عن كونه عظيما منكراً. قوله: (نزلت في يهود الخ) يهود ممنوع من الصرف للعلمية والعجمة، وهو من الإعلام التي يتعاقب عليها تعريفان تعريف باللام وغلبة العلمية كاليهود ويهود والمجوس ومجوس وقد جوّز تنوينه لأنه أريد التنكيو والوصفية وحيى بالتصغير تصغير حيّ علم يهودي معروف، وكذا كعب وقوله: يحالفون بالمهملة أي يعاقدون. قوله: (والجبت في الأصل اسم صنم الخ) قال الراغب: الجبت والجبس الرذيل الذي لا خبر فيه وقيل التاء بدل من السين كما في قوله:
عمرو بن يربوع شرار النات
أي الناس وهو قول قطرب لأنّ مادة ج ب ت مهملة وغيره يجعلها مادّة مستقلة وأطلق
على كل معبود غير الله، وكذا الطاغوت وقد مرّ وقوله: لأجلهم يشير إلى أنّ اللام ليس صلة القول، ولو كان صلة! قال أنتم أهدى الخ وفسر السبيل بالدين لأنه يعبر به عنه وهو الطريق
المستقيم وفي نفي النصر بيان لخفيتهم، في استنصارهم بمشركي قريش. قوله: (أم منقطعة ومعنى الهمزة الخ) أم المنقطعة مقدرة ببل والهمزة أي بل أكان الخ والهمزة المقدرة التي أشار إليها المصنف رحمه الله تعالى معناها الإنكار أي لا يكون لهم ذلك. قوله: (أي لو كان لهم نصيب من الملك الخ) قيل أي لا نصيب لهم من الملك لعدم استحقاقهم حرمانه بسبب أنهم لو أوتوا نصيباً منه لما آتوا أحدا أقل(3/145)
قليل مته، ومن حق من أوتي العملك الإيثار وهم ليسوا كذلك فالفاء في فإذا للسيية، والجزائية لشرط محذوف هو إن حصل لهم نصيب لا لو كان لهم نصيب كما قدّره المصنف رحمه الله تعالى تبعاً للزمخشري لأنّ الفاء لا تقع في جواب لو سيما مع إذا والمضارع، وما قيل أنّ لو ههنا بمعنى إن وعدم وقوع الفاء في جواب لمو المستعار لمعنى أن ممنوع فتكلف، وتعسف إذ لا داعي لتقدير لو ثم تأويلها بأن مع أنّ وقوع الفاء في جوابها حينئذ غير معلوم، ومجرّد المنع في الأمور العقلية لا يسمع. قوله: (ويجوز أن يكون المعنى الخ) أي الفاء إمّا جواب شرط أو عاطفة، ومعنى الهمزة إنكار المجموع من المعطوف، والمعطوف عليه بمعنى لا ينبغي أن يكون هذا الذي وقع، وهو أنهم قد أوتوا نصيباً منه ويعقبه منهم البخل بأقل القليل، وفائدة إذا زيادة الإنكار والتوبيخ حيث يجعلون ثبوت النصيب الذي هو سبب للإعطاء سبباً لهم فقوله: وأنهم لا يؤتون عطف على أنهم أوتوا فعلى الأوّل الإنكار مخصوص بالجملة الأولى أي كون لهم نصيباً من الملك وعلى هذا إلى مجموع الأمرين، والهمزة للإنكار بمعنى لم كان، وعلى الأوّل معناه لم يكن هذا مسلكه في الكشاف، والمصنف رحمه الله تعالى خالف فجعل الإنكار فيهما بمعنى لم يكن، ومعنى قوله: على الكناية أنه يلزم من عدم إعطائهم القليل لا أن يكون لهم ملك فالإنكار بحسب الظاهر، وان كان بمعنى لم يكن فمآله إلى أنه لم يكن ولا يكون فنفي إعطاء القليل، وأريد نفي لازمه، وهو الملك. قوله:) وإذا إذا وقع الخ الأنه شرط في أعمالها الصدارة فإن نظر إلى كونها في صدر جملتها نصبت، وإن نظر إلى العطف وكونها تابعة لغيرها أهملت وتراءة النصب شاذة منقولة عن ابن مسعود وابن عباس رضي الله تعالى عنهم. قوله: (بل أيحسدون الخ) يعني أم هنا منقطعة مقد بعدها
الهمزة الإنكارية كما مرّ، وفسر الناس بالنبي مح! فه وأصحابه رضي الله تعالى عنهم لحسدهم لهم على الدين أو حسد، والعرب إذ بعث منهم النبيّ ع! ي! ، ونزل القرآن بلسانهم أو حسدوا جميع الناس حيث نازعوا في نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم التي هي إرشاد لجميع الخلق فهو مجاز على هذا، وقوله: كمالهم ورشدهم بالنصب بدل من الناس يدل اشتمال أو منصوب بنزع الخافض، وبخسهم بالتشديد في الخاء المعجمة يليها سين مهملة، وقوله: كان بينهما تلازما لما كان في نفس الأمر لا تلازم بينهما أتى بكان لذلك إذ رلث بخيل لا يحسد وحسود لا يبخل، وقوله: النبوّة والكتاب راجع إلى تفسير الناس بالنبيّ-! بم وأصحابه وجعل النبيّ منهم راجع إلى تفسيره بالعرب، وأبناء عمه لأنهم من إسحق، وهو من إسماعيل وإذا كان كذلك فلا فائدة في الحسد سوى الاعتراض على الحكمة الربانية، وترك تفسير الحسد باستكثار نسائه مع ما كان لسليمان وداود عليهما الصلاة والسلام من أكثر بكثير من ذلك لبعده، وعدم ما يدل عليه مع جعل الناس فيه بمعنى النبيّ صلى الله عليه وسلم، والحسد بمعنى الطعن والذم. قوله:) وقيل معناه الخ) ضمير به لإبراهيم صلى الله عليه وسلم فهو تسلية له عليه الصلاة والسلام، ويوهن بالتشديد بمعنى يضعف وكذا يعجلوا وقوله: كالبيان بيان لوجه ترك العطف. قوله: (بأن يعاد ذلك الجلد بعيته الخ (إشارة إلى دفع ما يقال إنّ الجلد الثاني لم يعص فكيف يعذب بأنه هو العاصي باعتبار أصله فإنه لم يبدل إلا صفته لا مادّته الأصلية فلا يكون التعذيب إلا للجلود العاصية فإنّ الاختلاف في الصورة فقط أو في النضج وعدمه أو أنه يعاد بعد العدم بناء على جواز إعادة المعدوم بعينه أو أنّ العذاب إنما هو على النفس الحساسة، واعادة ذلك لتجديد عذابها وتقويته وقوله: (والعذاب في الحقيقة الخ)
فالمعذب هو العاصي لا غيره مع أنه لا يسأل عما يفعل واليه أشار بما بعده. قوله: (فيناناً لأجوب فيه الخ) فينان بمعنى متصل منبسط فيعال من الفنن بفاء، ومثناة تحتية ونونين بينهما ألف كأنه كثير الأفنان، وقيل فلان من الفين وليس بواضح ولا وجه لانصرافه حينئذ، ولأجوب بضم الجيم، وفتح الواو جمع جوبة بمعنى فرجة ولا تنسخه بمعنى لا تزيله، والظليل صفة اشتقت من الظل لتكيده كما هو عادتهم في يوم أيوم، وغيره. وقيل: إنه اتباع. قوله: (خطاب يعم المكلفين الخ) غير عبارة الكشاف وقيل: نزلت لأنّ عموم الحكم لا ينافي(3/146)
خصوص السبب، وهو مراد الزمخشري أيضا كما ذكره شراحه. قوله: (فلوى علئ كرم الله وجهه الخ) في الكلام حذف، وايجاز يعني فنزل فسأله عليّ رضي الله تعالى عنه اًن يفتح الباب فأبى وروى بعض الشيعة أن النبيّ صلى الله عليه وسلم حمل عليا رضي الله تعالى عنه على عاتقه حتى صعد سطح الكعبة وأخذ المفتاح، وقال: قد خيل لي أني لو أردت لبلغت السماء قيل: وهو مخرّج في بعض كتب الحديث وسدانة الكعبة بكسر السين المهملة خدمتها وتولي أمرها كفتح بابها، واغلاقه يقال سدن يسدن سدانة فهو سادن والجمع سدنة.
(أقول) هكذا ذكره الثعلبي والبغوي، والواحدي رحمهم الله تعالى لكن قال الأشموني: المعروف عند أهل السير أن عثمان بن طلحة أسلم قبل ذلك في هدنة الحديبية مع خالد بن الوليد وعمرو بن العاص كما ذكره ابن إسحق وغيره وجزم به ابن عبد البر في الاستيعاب، والنووي في تهذيبه والذهبي وغيرهم، وما ذكر من أنّ السدانة في أولاد عثمان
يخالف قول ابن كثير في تفسيره أنّ عثمان دفع المفتاح إلى أخيه شيبة فهو في يد ولده إلى اليوم وهو الصحيح. قوله: (وإذا حكمتم الخ) في التسهيل الفصل بين العاطف والمعطوف إذا لم يكن فعلا بالظرف والجار والمجرور جائز، وليس ضرورة خلافاً لأبي عليّ كما هنا وكما في قوله: {وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً} [سورة البقرة، الآية: 201] وإذا كان فعلاً لم يجز والحجة ما ذكر من الآيات، وقيل الممتنع إذا كان العاطف على حرف ويجوز في غيره، والكلام عليه مفصل في محله. قوله: (أي وأن تحكموا بالإنصاف والسوية الخ) السوية إشارة إلى حقيقة العدل، وفي هذا العطف كلام، وهو أنه هل يجوز الفصل بين حرف العطف والمعطوف بالظرف كما هنا فإنّ أن تحكموا معطوف على أن تؤدّوا وقد فصل بينهما بإذا ثم إن الظرف أن تعلق بما بعد أن فما في حيز الموصول الحرفي لا يتقدم عليه، وان تعلق بما قبله لا يستقيم المعنى لأن تأدية الأمانة ليس وقت الحكومة، ولذا ذهب أبو حيان رحمه الله تعالى إلى أنه متعلق بمقدر يفسره المذكور أي وأن تحكموا إذا حكمتم بالعدل بين الناس أن تحكموا لتسلم مما ذكر ومن أجاز التقدم والفصل لا يأباه وكلام المصنف محتمل له وقوله: (ولأنّ الخ) قول مقابل لعموم الخطاب السابق وسماه أمانة لأنه لم يرد الله نزعه منه، ولأنه أخذه بصورة حق فليس بغصب لأنه بأمره صلى الله عليه وسلم، وقوله: أو يرضى بحكمكم إشارة إلى جواز التحكيم. قوله: (أي نعم شيئاً يعظكم به الخ) في التسهيل فاعل نعم ظاهر معرف بالألف واللاء أو مضاف إلى المعرف بها، وقد يقوم مقامه ما معرفة تامّة وفاقاً لسيبويه، والكسائي لا هـ وصولة خلافاً لابن السراج والفارسي، ولا نكرة مميزة خلافاً للزمخشري والفارسي في أحد قوليه يعني ما عندهما في محل نصب على التمييز، وأعترض عليه بأنّ ما مساوية للمضمر في الإبهام فلا تميزه لأنّ التمييز لبيان جنس المميز، وأجيب بمنع كونها مساوية لأنّ المراد بها شيء عظيم والضمير لا يدل على ذلك وقال النحرير وجه وقوع ما الموصولة فاعل نعم أنها في معنى المعرف باللام، والمخصوص بالمدح محذوف سواء كانت منصوبة على التمييز للضمير المستتر المبهم الذي هو فاعل نعم وبعظكم صفة لها أو مرفوعة على أنها فاعل ويعظكم صلة لها، وأما ما قيل أنّ ما تتميز بمعنى شيثاً أو فاعل بمعنى الشيء ويعظكم صفة محذوف هو المخصوص بالمدح فيعيد بل غير مستقيم فيمن يجعل المخصوص خبر مبتدأ محذوف لبقاء الجملة الواقعة خبر إنّ خالية عن العائد على أنّ جعل ما بمعنى الشيء المعرف من غير صلة ليس بشيء وفيه تأمل ومن
الغريب ما قيل إنّ ما كافة. قوله: (يريد به أمراء المسلمين الخ) اختلف السلف في أولي الأمر المأمور بإطاعتهم فقيل هم أمراء السرايا، وهو جمع سرية طائفة من الجيش يبلغ أقصاها أربعمائة تبعث إلى العدوّ سموا بذلك لأنهم يكونون خلاصة العسكر، وخيارهم من الشيء السريّ أي النفيس ووجه التخصيص أنّ في عدم إطاعتهم ولا سلطان، ولا حاضرة مفسدة عظيمة وقيل: أولو الفقه والعلم ووجه التخصيص أنهم هم الذين يرجعون إلى الكتاب والسنة، وحمله كثير على ما يعم الجميع لتناول الاسم لهم لأنّ للأمراء أمر تدبير الجيش والقتال، وللعلماء حفظ الشريعة، وما يجوز وما لا يجوز فأمر الناس بطاعتهم ما عدلوا بقرينة ما قبله، وكانوا عدو لأمر مبين موثوقا بديانتهم وأمانتهم، وقيل: الأظهر أنّ المراد بهم الحكام(3/147)
كالقضاة والأمراء لأنه أمر أولاً بالعدل ثم خاطب من له تنفيذ الأمر بذلك، ورجح بعضهم أنّ المراد العلماء لما قدمناه، وقوله: ما داموا على الحق إشارة إلى أنه لا تجب طاعتهم فيما خالف الشرع لقوله صلى الله عليه وسلم: " لا طاعة لمخلوق في معصية الله " ولا في المباج أيضا لأنه لا يجوز لأحد أن يحرم ما حلله الله، ولا أن يحلل ما حرمه الله، وبعض الجهلة يظن أنّ طاعة أولي الأمر لازمة مطلقا، ولو في المباح، والناس على ما حقق الجصاص على خلافه، وفي التعبير بأولي الأمر دون الحكام إشعار وقوله: (لقوله سبحانه وتعالى لخ) فإن العلماء بل المجتهدين هم المستنبطون المستخرجون للأحكام.
قوله: (أنتم وأولو الأمر منكم الخ) يعني الخطاب عام للمؤمنين مطلقا، وخصص الشيء
بأمر الدين بدليل ما بعده ووجه التأييد أن للناس، والعامّة منازعة الأمراء في بعض الأمور، وليس لهم منازعة العلماء إذ المراد بهم المجتهدون والناس ممن سواهم لا ينازعونهم في أحكامهم، والمراد بالمرؤس على وزن المفعول العامة التابعة للرائس والرئيس فإذا كان الخطاب في تنازعتم لأولي الأمر على إلالتفات صح إرادة العلماء لأن للمجتهدين أن ينازع بعضهم بعضا مجادلة ومحاجة فيكون المراد أمرهم بالتمسك بما يقتضيه الدليل. قوله:) بالسؤال عنه في زمانه
الخ (ظاهره أنه لا يجوز الاجتهاد بحضوره صلى الله عليه وسلم، وهو مختلف فيه كما قدمناه ووجه الاستدلال والجواب ظاهر.
أمّا الآوّل: فللحصر في الكتاب والسنة.
وأما الثاني: فلأن المقيس مردود إلى الكتاب والسئة لاستناده إليه، واستنباطه منه لكن قوله: إنما يكون بالتمثيل والبناء عليه المراد منه أنّ المختلف فيه غير المعلوم من النص مردود إليه ورده إليه إنما يكون بهذا الطريق فلا يرد عليه أنه لا وجه للحصر والمختلف بصيغة المفعول كالمشترك، والآية دالة على جميع الأدلة الشرعية فالمراد بإطاعة الله العمل بالكتاب وإطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم العمل بالسنة، والرذ إليهما القياس، وعلم من قوله فإن تنازعتم أنه عند عدم النزاع يعمل بما اتفق عليه، وهو الإجماع فلو ذكره لكان أولى. قوله: (ذلك أي الردا لو حمل على جميع ما سبق على التفريع لحسن، وقوله: عاقبة أصل معنى التأويل الرجوع إلى المآل والعاقبة ثم استعمل في بيان المعنى المراد من اللفظ الغير الظاهر مته، وكلاهما حقيقة وارد في القرآن، وأن غلب في الثاني في العرف، ولذا يقابل التفسير، والى هذين المعنيين أشار المصنف رحمه الله، وقوله أحسن تأويلاً من تأويلكم بمنزلة قولك زيد أحسن وجهأ من وجه عمرو لا أحسن من عمرو وإن كان مرجع أحسن وجها إلى أحسن وجهه. قوله: (عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما الخ) هذا الحديث أخرجه ابن أبي حاتم من طرق، وكذا رواه غيره، وقوله
مكانكما أي اجلسا اسم فعل أو متعلق بمحذوف أي الزما، وضرب عنقه لأنه أظهر نفاقه وزندقته، وقوله: حتى برد أي مات، وهو كناية عنه للزوم انطفاء الحرارة الغريزية له وقوله: فسمي الفاروق، والذي سماه به النبيّ صلى الله عليه وسلم كما صرّح به في الكشاف. قوله: (والطاغوت الخ) يعني الطاغوت إما أن يجعل علما لقيا له كالفاروق فهو حقيقة، وكذا إن كان اسماً للكثير الطغيان مطلقاً فإن كان بمعنى الشيطان فهو استعارة أو حقيقة، والتجوّز في إسناد التحاكم إليه بالنسبة الإيقاعية بين الفعل ومفعوله بالواسطة، وقيل: إنه مجاز مرسل بالتسمية باسم السبب الحامل عليه، واستدل على هذا الوجه بما بعده لأنهم إنما أمروا أن يكفروا بالشيطان لا بكعب، وقوله: ويؤثر لأجله أن يختار لأجل الباطل ما يختاره. قوله: (ويريد الشيطان الخ (عطف على الجملة الحالية وضع فيه المظهر موضع المضمر على معنى يريدون أن يتحاكموا إلى الشيطان، وهو بصدد إرادة إضلالهم وعلى الأوّلين يكون ضمير به للطاغوت باعتبار الوصف لا الذات أي أمروا أن يكفروا بمن هو كثير الطغيان أو شبيه بالشيطان، وقرئ بها وبهن لأنّ الطاغوت يكون للواحد، والجمع فإذا أريد الثاني أنث باعتبار معنى الجماعة، ولذا ورد تذكيره وتأنيثه، وقد مرّ تفصيله. قوله:) وقرئ تعالوا بضا اللام الخ) في الكشاف، وقرأ الحسن تعالوا بضم اللام على أنه حذف اللام من تعاليت تخفيفاً كما قالوا ما باليت به بالة، وأصلها بالية كعافية وكما قال الكساني في آية أنّ أصلها آيية فاعلة فحذفت اللام فلما حذفت وقعت واو الجمع بعد اللام من تعال فضمت(3/148)
فصار تعالوا نحو تقدموا ومنه قول أهل مكة تعالى بكسر اللام للمرأة في شعر الحمداني:
تعالي أقاسمك الهموم تعالي
والوجه فتح اللام انتهى. يعني أنّ فيه لغة بحذف لامه اعتباطا بالمهملة أي لغير علة لأنّ المحذوف لها كالموجود فتصير اللام كاللام فتضم كآخر الكلمة قبل واو الجمع وهذه لغة مسموعة فيه أثبتها ابن جني، وان كانت ضعيفة فلا عبرة بمن لحن الشاعر فيها كابن هشام،
واذا قرى بها فقد انقطع النزاع، وأصل معناه طلب الإقبال إلى مكان عال ثم عم، والشعر المذكور لأبي فراس الحرث بن أبي سعيد ابن عم سيف الدولة، وهو من الفصحاء الذين يجعل قولهم بمنزلة روايتهم، ويستأنس به وقد كان أسرته الروم فسمع هدير حمامة تنوح فقال:
أقول وقد ناحت بقربي حمامة أيا جارتا هل بات حالك حالي
معاذ الهوى ما ذقت طارقة النوى ولا خطرت منك الهموم ببالي
أتحمل محزون الفؤاد قوادم إلى غصن نائي المسافة عالي
أيا جارتا ما أنصف الدهر بيننا تعالي أقاسمك الهموم تعالي
تعالي تري روحا لد! يّ ضعيفة تردّد في جسم يعذب بالي
أيضحك مأسور وتبكي طليقة وبسكت محزون ويندب سالي
لقد كنت أولى منك بالدمع مقلة ولكن دمعي في الحوادث غالي
قوله: (هو مصدر أو اسم للمصدر) كونه اسم مصدر عزاه مكي إلى الخليلى رحمه الله
لكنه غير ظاهر وإن لم يكن على المصنف فيه عهدة كما توهم، لأنّ فعولاً مصدر قياسي في اللازم كدخل دخولاً بالاتفاق وهذا لازم لأنّ صدّ يكون متعديا، ومصدره الصدود، وفي المتعدّي كلزمه لزوما، ودفنه دفونا فلا وجه لكونه اسم مصدر إلا أن يدعي أنه متعد حذف مفعوله أي يصدون المتحاكمين، ولا حاجة إليه وكونه مصدراً هو الصحيح لما ذكرنا ولذا قدمه المصنف رحمه الله، وقوله: يصدون في موضع الحال أي إن كانت رأي بصرية والا فهي مفعول ثان وقوله: (يكون حالهم) إشارة إلى أنّ في الكلام مقدراً هو العامل في كيف وإذا ويحلفون حال من فاعل جاؤوك، وقوله: ما أردنا إشارة إلى أنّ إن نافية، وقوله: والتوفيق أي لم نرد بالمرافعة لغيرك عدم الرضا بحكمك بل أن تصلح بين هذين الخصمين، وعلى القول بأنه لحكاية أصحاب القتيل إذ المجرّد الظرفية دون الاستقبال. قوله: (أي عن عقابهم لمصلحة
في استيقائهم) أي عدم قتلهم واهلاكهم، ورجح النحرير الوجه الثاني، ويلزمه الإعراض عن طلبهم دم القتيل لأنه هدر وليس وجها آخر كما قيل. قوله: (أي في معنى أنفسهم) في نسخة شأن أنفسهم وهما بمعنى، وفي إعرابه ومعناه وجوه أحدها أنه متعلق بقل، ومعناه أمّا قل لهم خاليا لا يكون معهم أحد لأنه أدعى إلى قبول النصيحة، ولذا قيل النصح بين الملا تقريع، وأئا قل لهم في شأن أنفسهم، ومعناها قولاً بليغاً يبلغ ما يزجرهم عن النفاق، والظرفية على الأوّل حقيقية، وعلى الثاني من ظرفية اللفظ للمعنى ويؤثر فيهم عطف تفسيري ليبلغ منهم يعني يتمكن منهم من جهة الإبلاغ، والثاني تعلقه ببليغاً وسيأتي. قوله: (أمره بالتجافي الخ (التجافي بمعنى التجاوز من تجافي بمعنى تباعد، وهو بناء على أحد معنى الإعراض! والنصح من الوعظ، وتعليق الظرف ببليغا ذهب إليه الزمخشري، ولم يرتضه المصنف رحمه الله لأنه مذهب الكوفيين، والمشهور مذهب البصريين أنّ معمول الصفة لا يتقدم على الموصوف لأنّ المعمول إنما يتقدم حيث يصح تقدم عامله عندهم، وقيل: إنه يصح إذا كان ظرفاً دون غيره، وقوّاه بعضهم وقيل إنه متعلق بمقدر يفسره المذكور، وفيه بعد. قوله: (والقول البليغ في الآصل الخ (أي في أصل وضعه لغة لا اصطلاحا كما تقرّر في المعاني، وهذا معناه إذا أخذ من البلاغة على ما ارتضاه من تعلق إذا بقل وأما إذا تعلق ببليغا فهو من البلوغ أي يبلغ أنفسهم، ويؤثر فيها، ولم يتعرّضى له المصنف رحمه الله تعالى لمرجوحيته عنده.
قال الراغب البلاغة تقال في وجهين.
أحدهما: أن يكون بذاته بليغاً وذلك يجمع(3/149)
ثلاثة أوصاف أن يكون صوابا في وضع لغته وطبقا للمعنى المقصود به وصدقا في نفسه فمتى اخترم وصف من ذلك كان ناقصا في البلاغة. والثاني: أن يكون بليغا باعتبار القائل، والمقول له، وهو أن يقصد القائل به أمراً ما فيورده على وجه حقيق أن يقبله المقول له، وقل لهم في أنفسهم قولاً بليغاً يصح حمله على المعنيين، وقول من قال: قل لهم إن أظهرتم ما في أنفسكم قتلتم، ومن قال: خوّفهم بمكاره
تنزل بهم إشارة إلى بعض ما يقتضيه عموم اللفظ اص. قوله: (بسبب إذنه الخ) يعني أنّ الإذن بالطاعة بمعنى الأمر والرضا بها مجازاً، وفسر بالتيسير، والتوفيق أيضاً، وقوله: وكأنه احتج أي ذكر دليلاً على كفر من لم يرض بحكمه وتصويب قتله واهدار دمه ولا حجة في الآية لما يقوله المعتزلة من أنه لا يريد إلا الخير وأنّ الشر ليس بإرادته لأنّ المعنى إلا ليطيعه من أذن له في الطاعة وأرادها منه وأمّا من لم يأذن له فيريد عدم إطاعته فلذا لا يطيعه، ويكون كافراً. قوله: (وإنما عدل عن الخطاب الخ) أي لم يقل، واستغفرت تفخيما لشأن رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث عدل عن خطابه إلى ما هو من عظيم صفاته على طريقة حكم الأمير بكذا مكان حكمت، وتعظيم الاستغفار من جهة إسناده إلى لفظ ينبئ عن علوّ مرتبته من جهة التعلق بالرسالة، وفسر التوّاب بقابل التوب لما مرّ. قوله: (ولا مزيدة لتثيد القسم الخ الا تذكر قبل القسم كثيراً فقيل إنها ردّ لمقدر أي لا يكون الأمر كما زعمتم، وقيل مزيدة لتأكيد النفي في الجواب ولتأكيد القسم إن لم يكن نفي وارتضى الزمخشرقي وتبعه المصنف رحمه الله أنها لتأكيد القسم مطلقا لتكون على نمط واحد لأنها زيدت في النفي والإثبات، وقال في الانتصاف أنها لم تزد في القرآن إلا مع صريح فعل القسم، ومع القسم بغير الله نحو: {لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ} [سورة البدد، الآية: ا] قصداً إلى تأكيد القسم وتعظيم المقسم به كأنه قيل إعظامي له كلا إعظام لاستحقاقه فوق ذلك وهذا لا يحسن في القسم بالله ولم يسمع زيادتها مع القسم بالثه إلا إذا كان الجواب منفياً فدل ذلك على أنها معه زائدة موطئة للمقسم عليه الواقع في الجواب، ومنه يعلم الفرق بين المقامين والجواب عن قول المصنف والزمخشريّ أنه لا فارق بينهما فافهم فإنه معنى بديع. قوله: (فيما اختلف بينهم واختلط الخ) التشاجر المنازعة والمخاصمة، وأصل ماذته للاختلاط لأنهم لما بينهم تختلف أقوالهم، ويختلط بعضهم ببعضهم، وتتعارض أقوالهم، وفسر الحرج بالضيق لأنّ
أصل معناه كما قال الراغب: اجتماع أشياء، ويلزمه الضيق فاستعمل فيه ثم قيل حرج إذا قلق وضاق صدره ثم استعمل أيضاً في الشك لأنّ النفس تقلق منه، ولا تطمئن له واليه أشار المصنف رحمه الله وسيأتي في سورة الأعراف. قوله: (وينقادوا لك انقياد الخ) تفسير التسليم بالانقياد والإذعان إشارة إلى أنه ليس أمرا وراء التصديق المعتبر في الإيمان، وهو ترك الآباء والجحود على ما هو الحق، وعلى هذا فالحق تفسير الحرج بضيق الصدر لشائبة الكراهة، والإباء بدليل أنّ بعض الكفرة كانوا يستيقنون الآيات بلا شك، لكن يجحدون ظلما وعتوّا فلا يكونون مؤمنين، وأما تفسيره بالشك فيلائم القول بأنّ الإيمان هو المعرفة، والاعتقاد هكذا قال النحرير فتأمله. قوله: (تعرّضوا بها للقتل الخ) يعني أنّ المراد بالقتل إمّا مباشرة ما يؤدّي إليه أو حقيقته، وفي أن هذه قولان فقيل مفسرة، وقيل مصدرية، ولا يضرّه زوال الأمر بالسبك لأنه أمر تقديري، وكون الكتابة في معنى الأمر لا يضرّه تعديه بعلى حتى يقال الصواب تأويله بأوحينا لأنه لم يخرج عن معناه ولو خرج فتعديته باعتبار معناه الأصلي جائزة كما في نطقت الحال بكذا في تعديته بالباء مع أن دلّ يعذي بعلى كما تقرّر في محله، والقراءة بكسرهما على الأصل في التخلص من التقاء الساكنين، وضمهما لاتباع الثالث، والتفرقة لأنّ الواو وأخت الضمة، وقوله إجراء لهما أي للنون والواو مجرى همزة الوصل الساقطة في اتباع الثالث، وليس هذا مغايراً للاتباع السابق بل تنوير له، فليس علة أخرى كما توهم. قوله:) 1 لا ناس قليل الخ) يعني أنه على قراءة الرفع لأنه غير موجب بدل من ضمير فعلوه المرفوع ودلالته على القصور لعدم بذل النفس والامتثال، والوهن بمعنى الضعف. قوله: (والضمير للمكتوب الخ)
إشارة إلى أنه راجع للمكتوب الشامل للقتل، والخروج لدلالة الفعل عليه(3/150)
أو هو عائد على القتل والخروج، وللعطف بأو لزم توحيد الضمير لأنه عائد لأحد الأمرين ولذا اعترض! على الإمام الرازي في جعله الضمير عائداً إليهما معاً بالتأويل لنبوّ الصناعة عنه. قوله: (أو على إلا فعلا قلبلاَ) قيل عليه الوجه الأوّل لتوافق القراءتين معنى، ولأنّ لفظ منهم صفة قليلاً فإن كان بمعنى ناساً قليلاً أفاد التوصيف وإن كان بمعنى فعلا قليلاَ، كان زائدا لا حاجة إليه كقولك ما ضربوا زيداً إلا ضرباً قليلاً منهم. قوله: (نزلتا في حاطب بن أبي بلتعة وضي الله عنه الخ) حاطب فاعل من الحطب بمهملتين صحابى بدري وبلتعة بفتح الباء الموحدة وسكون اللام والتاء المثناة الفوقية والعين المهملة، وهذا الحديث أخرجه الستة بلفظ خاصم الزبير رضي الله عنه رجلا من الأنصار ولم يسموه.
وقال الطيبي: تسمية حاطب بن أبي بلتعة خطأ، وهو صحابي بدريّ شهد له بالإيمان في سورة الممتحنة فهو أجل قدراً من أن يصدر عنه ما يغير خاطر رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أنّ الرجل المذكور من الأنصار، وحاطب بن راشد لخمي حليف قريش، ويقال إنه من مذحج وقيل من أهل اليمن وأكثر أنه حليف لبني أسد بن عبد العزى كما في الاستيعاب فليس أنصاريا، وقيل عليه إنّ تسمية حاطب بن أبي بلتعة أخرجها ابن أبي حاتم من مرسل سعيد بن المسيب بسند قوي، وتعقب بأنه من المهاجرين لا من الأنصار وقول القرطبي رحمه الله: إنه من الأنصار نسباً لا ديناً إن كان منافقا، ويحتمل أنه غير منافق وإنما صدر منه ذلك لبوادر الغضب خطا وليس بمعصوم ينافي ما نقل عن الاسنيعاب.
وقال ابن حجر حكى الواحدي بلا سند أنه ثعلبة بن حاطب الأنصاري، وحكى ابن بشكوال عن ابن مغيث أنه ثابت بن قيس بن شماس، ولم يأت بشاهد، والشراح بشين معجمة مكسورة وراء مهملة، وجيم بعد ألف جمع شرح، وهو مسيل الماء، والحرّة أرض ذات حجارة سود والجدر بفتح فسكون الدال المهملة الجدار الصغير، والمراد ما يحفظ المزرعة ويسميه أهل مكة الموز والمرز كأنه معرب لأنه بالفارسية بمعنى الحذ كمعز ولدّا لم يذكر في اللغة فاحفظه.
وقوله: (لأن كان (بفتح الهمزة أي ذلك الحكم والقضاء لأجل أنه ابن عمتك لأنّ أمه
صفية بنت عبد المطلب وأن مصدربة لا مخففة من الثقيلة، وكان حكمه عليه الصلاة والسلام أوّلاً بطريق اللطف به واعطائه فوق حقه فلما صدر منه ذلك أتم حق الزبير رضي الله عنه، وللقصة تتمة في الكشاف يعلم منها وجه مناسبة ذكرانا كتبنا الخ وتركها المصنف فكأنها لم تثبت عنده. قوله: (جواب لسؤال مقدّر الخ) اعلم أنّ النحاة قالوا إنها حرف جواب وجزاء، وهل هذان المعنيان لا زمان لها أو تكون جوابا فقط قولان الأوّل قول سيبويه رحمه الله، والثاني قول الفارسي فإذا قال قائل: أزورك غداً فقلت إذن أكرمك فهي جواب وجزاء، وإذا قلت إذن أظنك صادقا كانت جوابا فقط فقد التزموا فيها أن تكون جوابا، واستشكله ابن هشام بأنه إن أريد به جواب الشرط كما هو الظاهر من الجزاء، وقولهم: لا بد قبلها من شرط ملفوظ أو مقدر بطل استعمالها في نحو إذن أظنك صادقا بعد قول القائل أنا أحبك وهذا لا مجازاة فيه.
(قلت) وكذا يبطله اقترانها بالواو وأخواتها وتوسطها في الكلام، وان أريد به ما يراد بقولهم نعم حرف جواب فهم لم يعدوها منها ومقتضا. صحة الاقتصار عليها كنعم وأخواتها، وبالتفسير الأوّل يفصح كلام الفارسي، وبالثاني قول شارح الحماسة في قوله:
إذن لقام بنصري معشر خشن
قال سيبويه إذن حرف جواب وجزاء فيكون هذا القائل قدر أن سائلاً سأله فقال ماذا كانوا يصنعون فقال إذن لقام بنصري الخ. فهو جواب لهذا السائل، وجزاء للتهييج على فعله، ثم قال ويجوز أن يكون أجاب بجوابين مثل لو كنت حراً لاستقبحت ما يفعل العبيد لاستحسنت ما يفعل الأحرار، وابن جني رحمه الله يجعله بدلاً من الجواب، ويجوز أن تكون اللام جوابا لقسم مقدّر، وهو يقتضي أنّ الجواب بالمعنى اللغوي لا الاصطلاحي، وهو مخالف لكلامهم، وقد قيل عليه أنه تطويل بلا طائل، وليس المراد بالجواب أحد هذين المعنيين بل مرادهم أنّ إذن لا تكون في كلام مبتدأ بل في كلام مبني على شيء تقدمه ملفوظ أو مقدر سواء كان شرطا أو كلام سائل أو نحوه كما أنه ليس المراد بالجزاء المصطلح بل ما يكون مجازاة لفعل فاعل سواء السائل وغيره، وبه اندفعت الشبه بأسرها، وهذا(3/151)
كلام حسن فعلى هذا هي جواب الشرط السابق مقرونا باللام، واذن مقحمة للدلالة على أنه مترتب على جوابه، وما فيه من التثبيت، وتقدير السؤال تحقيقا لذلك المعنى، وأيضا حاله كما حققه في الكشف، والا فلو كان جوابا بالسؤال مقدّر لم يكن لاقترانه بالواو وجه، واظهار لو ليس لأنها مقدرة بل لتحقيق أنها جواب للشرط لكن بعد اعتبار جوابه الأوّل، وهذا شرح لكلام العلامة، والمصنف بما لا غبار عليه فما قيل إنه يقدر سؤال إذن لآتيناهم الخ جواب له متضمن لما يكون هذا جزاء عليه، وهو الثبات على الإيمان، وليس المعنى أنها أبدا جزاء شرط لكن احتيج إليه فقدر لأجل اللام مع أن السؤال بعد التثبيت مستغنى عنه فالأوجه تقدير قسم كما قاله المرزوقي سابقا، يحتمل أن يكون
هذا عطفاً على لكان خيراً لكن التعليق بالتثبيت أنسب فلذا جعله جواب شرط محذوف على أن الواو للاستئناف أو لعطف هذه الجملة على الشرطية، وإلا فلما تعذد الجواب بدون عاطف كما مرّ فمعه أولى وجواب السؤال بالمعزى عن العاطف أحرى والقول بأنه مع كونه جواب سؤال مقدّر معنى عطف على لكان خيرا لهم لفظاً بعيد جداً كلام مشوش مخالف لما حققه النحاة، وما استبعده هو التحقيق الذي لا عدول عنه بعد تنقيح كلام النحاة في هذه المسألة، وللشراح هنا خلط وخبط كثير. قوله: (يصلون بسلوكه الخ) وفي نسخة يصل من غلط الكاتب يعني يتقرّبون به إلى الله، ويفتح عليهم به معرفة غوامض كثيرة من العلوم الإلهية.
والحديث المذكور أورده أبو نعيم في الحلية عن أنس رضي الله عنه، وحمل الصراط
على المراتب بعد الإيمان فلا حاجة لتأويله بالزيادة أو الثبات كما في الكشاف. قوله: (مزيد ترغيب في الطاعة الخ) مرافقة مفعول الوعد، ومن بيانية تبين الموصول أو العائد عليه قيل وعلى جعله حالاً من اللذين يؤوّل بمقارنين للذين ليجري على قاعدة الحال من المضاف إليه،
والحث على عدم التأخر لجعلهم ممدوحين بكونهم معهم، وهم راجع للأربعة أقسام والصديق مبالغة الصادق، ومراقي النظر تخييلية ومكنية، وكذا أوح العرفان، وأوج في كتب الحكمة أنها كلمة هندية معرب أود ومعناها العلو، وفسر الشهداء بمعناه المعروف وعلى ما بعده جعله من الشهادة أي المشاهدة، وحاصل الثاني أنّ العارف بالله إمّا أن تكون معرفته عن مشاهدة بالحقيقة مع قرب واتصال أو مع بعدما وانفصال أو للصور المنطبعة في مرآة العقل التي معه أو البعيدة عنه، وهذا مما لا شبهة فيه لمن ألقى السمع وهو شهيد اللهم أشرق علينا ذرّة من أنوار معرفتك تخلصنا من ظلمات الهيولى. قوله: (في معنى التعجب ورفيقاً نصب على التمييز أو الحال الخ) في الكشاف فيه معنى التعجب كأنه قيل وما أحسن أولئك رفيقا ولاستقلاله بمعنى التعجب قرئ حسن بسكون السين يقول المتعجب حسن الوجه وحسن الوجه وجهك بالفتح والضم مع التسكين يعني أنّ فعل المضموم العين كحسن، وقصر يراد به إنشاء المدح أو الذم، والتعجب فيعامل معاملة ذلك الباب كما هنا لكن قال أبو حيان رحمه الله إنّ ما ذكره الزمخشري تخليط بين مذهبين نإنه اختلف فيه هل هو لا مبالغة فيه في المدح، والذم فيجعل من باب نعم ويجري مجراها أو فيه تعجب فيجري عليه أحكام التعجب وهو لفق كلامه منهما، والمصنف رحمه الله تركه فلا يرد عليه شيء.
وسيأتي لهذا تفصيل في أوّل سورة الكهف، والنظم محتمل لأن يكون أولئك إشارة إلى
من يطع، والمعنى حسن رفيق أولئك المطيعين فالرفيق النبيون، ومن بعدهم والتمييز غير المميز، ومحتمل لأن يكون إشارة للنبيين وبقية الفرق الأربع ورفيقاً تمييز هو عين المميز، ويجوز فيه الحالية، ولم يجمع لأنّ فعيلاً يستوي فيه الواحد وغيره أو اكتفاء بالواحد عن الجمع لفهم المعنى وحسنه وقوعه في الفاصلة أو لأنه بتأويل حسن كل واحد منهم أو لأنه قصد بيان الجنس بقطع النظر عن الأنواع كما في الكشاف. قوله: (روي أنّ ثوبان الخ) روا. البيهقي في شعب الإيمان وغيره، وفي الاستيعاب هو أبو عبد الله ثوبان بن مجدّد من أهل السراة، والسراة موضع بين مكة، واليمن أصابه سبي فاشتراه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعتقه، ولم يزل معه إلى
أن توفي عليه الصلاة والسلام، وقوله: (فذاك) أي فذاك الذي أخاف حين لا أراك وروي فحين منصوباً. قوله: (إشارة إلى ما للمطيعين الخ (يعني أنه إشارة إلى جميع ما قبله أو إلى(3/152)
ما يليه، وقوله: واستحقاق أهله أي بحسب الوعد كما مرّ تحقيقه فليس مبنيا على مذهب المعتزلة. قوله: (والحذر الخ) أي مصدر أن بمعنى، وهو الاحتراز عما يخاف، وأخذ حذره من الكناية، والتخييل بتشبيه الحذر بالسلاح وآلة الوقاية، وليس الأخذ مجازاً ليلزم الجمع بين الحقيقة، والمجاز في مثل فليأخذوا حذرهم وأسلحتهم إذ التجوّز في الإيقاع، والجمع فيه كما صرّج به في الكشف، وتبعه المحقق النحرير فإن كان الحذر كل ما يصونك معنى كالحزم أو آلة كالسلاج كما نقله الراغب فهو حقيقة. قوله: (فاخرجوا إلى الجهاد الخ) أصل معنى النفر الفزع كالنقرة ثم استعمل فيما ذكر وثبات منصوب على الحال لأنه بمعنى متفرّقين جماعة جماعة والثبة الجماعة جمع جمع المؤنث وأعرب إعرابه على اللغة الفصيحة، وفي لغة نصبه على الفتح ولامها محذوفة معوّض عنها التاء، وهل هي واو من ثبا يثبو أي اجتمع أو من ثبيت عليه بمعنى أثنيت عليه بذكر محاسنه وجمعها قولان وثبة الحوض وسطه واوية، وجمع جمع المذكر السالم أيضا، وان لم يكن مفرده سالما ولا مذكراً لأنه اطرد فيما حذف آخره ذلك جبرا له كما يجمع جمع مذكر سالم كثبين وقلين وعدين، وان لم يكن عاقلاً، وفي ثائه حينئذ لغتان الضم والكسر، وكوكبة واحدة جماعة واحدة كما في القاموس مجاز من قولهم كوكب الشيء لمعظمه، وقوله: (والآية وإن نزلت الخ) قيل عليه مع قوله حذركم، وتفسير النفر بالخروج للجهاد كيف تكون مطلقة فالظاهر أن يقال فيها إشارة لذلك.
قوله: (الخطاب لعسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الخ) العسكر معلوم من مجموع ما قبله والتبطئة
إمّا لأنفسهم بالتخلف أو لغيرهم كما فعل أبيّ، وقوله: أو ثبطوا أي عوّقوا وفي نسخة يبطؤون غيرهم كما يبطئ وجعله منقولأ من بطأ المنقول من بطؤتطويل للمسافة فإنه يصبح أن يكون تثقيلاً لبطؤ أو بطأ ابتداء فإنه مسموع أيضا، وبعد التثقيل قيل إنه لازم، وقيل: إنه متعد بالتثقيل مفعوله محذوف لعدم الفائدة في ذكره واللام الأولى لام التأكيد التي تدخل على خبر إن أو اسمها إذا تأخر والثانية جواب قسم، وقيل زائدة وجملة القسم، وجوابه صلة الموصول وهما كشيء واحد فلا يرد أنه لا رابطة في جملة القسم كما لا يرد أنها إنشائية فلا تقع صلة، ولا صفة لأن المقصود الجواب، وهو خبرفي فيه عائد، وجوّزوا في من أن تكون موصوفة فصح استدلال بعض النحاة بهذه الآية على أنه يجوز وصل الموصول كما يصح الوصف بجملة القسم، وجوابه إذا عريت جملة القسم من عائد نحو جاء الذي أحلف بالثه لقد قام أبوه وان منعه بعضهم، وأمّا تقديره مشتملاً على عائد كحلف فلا حاجة إليه كما قيل، وقرئ ليبطئن بالتخفيف. توله: (كده تنبيهاً على فرط تحسره الخ (ولم يؤكد القول الأوّل وأتى به ماضيا إئا أنه لتحققه غير محتاج إلى التأكيد عنده أو لأن العدول عن المضارع للماضي تأكيد، ومراعاة المعنى بعد اللفظ وعكسه جائز كما سيأتي، وقوله: للتنبيه متعلق بقوله اعتراض وفسر الشيهيد بالشاهد إذ هم لا يعتقدون شهادة قتلاهم، ولو اعتقدوها لم يعذوا الخلاص منها نعمة والدال على التحسر تمني ما فات فإنه تحسر، وتأكيد قوله يدذ على فرطه، وقد خفي هذا على من قال أنه لا يظهر وجهه فكأنه لأنّ تحقق هذا القول منهم لا محالة لا يكون إلا للاضطراب، ولما خفي كون قولهم يا ليتني الخ سبب مشابهتهم بمن لم يكن له موذة حتى قيل إنها متصلة بالجملة الأولى بينه بقوله: وإنما يريد أن يكون معهم لمجرّد المال الذي هو مراده بالفوز. قوله:) أو داخل في المقول الخ (فيكون كل ما بعده مقولاً له، وقوله: تضريبا أي تحريكا لهم وتعريضا قال الراغب: التضريب التحريض كأنه حث على الضرب في الأرض، وفي نسخة تضريبا وتحسيراً واغراء. قوله: (وقيل إنه متصل بالجملة الأولى الخ) أي قال قد وفي الدر المصون أنه
قول الزجاج، وتبعه الماتريدي ورذه الراغب، والأصفهاني وتابعهم المصنف رحمه الله بأنه إذا كان متصلاً بالجملة الأولى فكيف يفصل به بين أبعاضى الجملة الثانية، ومثله مستقبح قال وهو تفسير معنى لا إعراب فإنهم ذكروا أيضا أنه من متعلقات هذه الجملة معترض فيها، ولم يزد عليه.
(قلت) الظاهر أنهم أرادوا أنها معترضة بين أجزاء هذه الجملة، ومعناها صريحا متعلق بالأولى وضمنا بهذه فإن لم يكن نفي للمودّة في الماضي فيحمل على زمان قولهم قد أنعم الله الخ. والمعنى أنه يقول(3/153)
يا ليتني كنت معهم لأفوز بعدما كان يسره ما يسوءكم أو قد يسوءه ما يسركم، وشأن العدوّ أن يسره ما يسوء ويسوأه ما يسر والأوّل يفهم من تقدم إظهار عدم المودّة حال الحزن والثاني من الحسد والتحسر حال السرور فافهم. قوله: (وكأن الخ) هذا قول وقيل: إنها لا تعمل إذا خففت وأمّا عملها في غير ضمير الشأن فشاذ، وقراءة التأنيث ظاهرة، والتذكير للفصل ولأنها بمعنى الوذ ويا إذا دخلت على حرف أو فعل قيل إنها للتنبيه، وقيل للنداء والمنادى محذوف، وهو معروف في النحو. قوله:) وقرئ بالرفع على ثقدير فأنا أفوز (أي على الاستئناف كما في إعراب السمين وغيره والقطع عن العطف والجوابية أو على العطف على خبر ليت فيكون داخلاً في المتمني فما قيل إذا جعل أفوز خبر المبتدأ محذوف فالجملة الاسمية عطف على جملة التمني ولا إشعار بدخول الفوز تحت التمني بل المعنى على الأخبار بأنهم كانوا يفوزون على تقدير الكون معهم، ولا أرى لهذا المعنى احتياجا إلى تقدير المبتدأ بل يحصل بمجرّد عطف أفوز على جملة التمني، وليس مبنيا على تناسب المتعاطفين فإن التمني بالفعلية أشبه ولأنهم يفعلون ذلك إذا قصد الاستئناف غير متجه لما عرفت، وأمّا لزوم عطف الخبر على الإنشاء فجوابه مشهور، ثم إق قوله كان لم يكن الخ لتشبيه حالهم بحال عدم المودّة يشعر بثبوتها فيما بينهم فإمّا أن يكون بناء على الظاهر أو تهكماً بهم. قوله: (أي الذين يبيعونها الخ) شرى يكون بمعنى باع، واشترى من الأضداد فإن كان بمعنى يشترون فهم المنافقون الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة أمروا بترك النفاق، والمجاهدة مع المؤمنين، والفاء للتعقيب أي ينبغي بعدما صدر منهم من التثبيط، والنفاق تركه والجهاد، وان كان بمعنى يبيعون فالذين المؤمنون الذين تركوا الدنيا واختاروا الآخرة أمروا بالثبات على القتال، وعدم الالتفات إلى التثبيط والفاء جواب شرط مقدر أي إن صدهم المنافقون فليقاتلوا. قوله: (وعدله الأجر العظيم غلب أو غلب) الأوّل مجهول، والثاني معلوم على ترتيب النظم ولو عكس صح ووجه
التكذيب أنه عد عدم حضوره نعمة مع أنّ النعمة في خلافه. قوله: (وإنما قال فيقتل أو يغلب الخ) يعني لم يقل فيغلب أو يغلب لأنّ المغلوبية تصمدق بما إذأ فرّ وكرّ تنبيهاً على أنه ينبغي أن يكون همه أحد الأمرين إمّا إكرام نفسه بالقتل والشهادة أو إعزاز الدين واعلاء كلمة الله بالنصر، وقيل معناه أنه لم يلتفت إلى الثالث، وهو من لا يغلب، ولا يغلب بل يتفرقان متكافئين إشارة إلى أنه ينبغي الثبات إلى أحد الأمرين مع عدم المشاركة في الأجر على هذا التقدير وقوله، وأن لا يكون قصده الخ وجه التنبيه أنه سوى بين القتل والغلبة، وهو في أمر مشترك بينهما، وهو كونهما في سبيل الله وسبيل الله الطريق المستقيم، والدين القويم كما في البخارفي أنه سئل عن المقاتل في سبيل الله فقال: " من قاتل لتكون كلمة الثه هي العليا فهو في سبيل الله " وليس هذا وجهاً آخر كما توهم، ومن قال: إنه يفهم من سبب النزول، وأنهم كانوا يقصدون ذلك لم يصب. قوله: (حال والعامل فيها الخ) المقصود من الاستفهام الأمر والحث على الجهاد، ولا تقاتلون جملة حالية أي مالكم غير مقاتلين، وهذه الحال هي المقصودة بالإفادة ولذا قيل إنها لازمة، والعامل فيها الاستقرار المقدر أو الظرف لتضمنه معنى الفعل ونيابته. قوله:) عطف على اسم الله الخ) قيل إنه ضعيف، ولذا تركه الزمخشريّ لأن خلاص المستضعفين سبيل الله لا سبيلهم، وفيه نظر وإذا عطف على سبيل ففي الكلام مضاف مقدر أي خلاص، وإذا نصب فبتقدير أعني أو أخص، وقوله: أعظمها أي من أعظمها ولكن ترك من للحث، والمبالغة المستفادة من تخصيصه بالذكر والمستضعفون الذين طلب المشركون ضعفهم، وذلهم أو الضعفاء منهم والسين للمبالغة، وسيأتي من هم. قوله: (بيان للمستضعفين وهم الخ) المراد بالصد منعهم عن الخروج والهجرة، وقوله: وأن دعوتهم الخ أي أنهم كانوا يدعون معهم، ولذلك دخل في الإجابة لأنهم مبرؤون من الآثام مقبولون عند الله، وقوله: حتى يشاركوا
بصيغة المجهول أي وردت السنة باشتراكهم في الدعاء لاستنزال الرحمة على الاستسقاء واستدفاع البلاء كالوباء والقحط لأنه أمر باخراج الصبيان فيه قيل والآية تدلط على صحة إسلام الصبيّ إذ لولاه لما وجب تخليصهم، ودفع بأنّ التخليص لا يختص بالمسلمين بل(3/154)
يشمل من يتبعهم، والولدان على الأوّل جمع وليد ووليدة بمعنى ولد، وقيل: إنه جمع ولد كورل وورلان وأمّا على كونه بمعنى العبيد، والإماء فجمع وليد ووليدة بمعنى عبد وجارية على التغليب لأنه ورد بهذا المعنى في اللغة وان كانت الوليدة غلبت على الجارية. فقوله: وهو جمع وليد كان الظاهر أن يقول ووليدة كما في الكشاف فكأنه اعتبر التغليب في المفرد فتأمّل. قوله: (فاستجاب الله دعاءهم الخ) إشارة إلى دفع ما يقال إنّ الدعاء إن كان بمجموع الأمرين لم يستجب وان كان بأحدهما لا على التعيين فالظاهر العطف بأو بأنه على التوزيع فلذا عطف بالواو أو هو لمجموعهما، والمقصود منه الخلاص وقد حصل وعتاب بالتشديد ابن أسيد بفتح الهمزة، وكسر السين وكان حين ولاه على مكة ابن ئماني عشرة سنة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى أسيداً في الجنة، وهو مات كافراً فانتبه وقال: " أوّلتة بابنه عتاب " فشهد له بالجنة وكأنّ الحكمة في ذلك مع وجود كبار الصحابة إظهار عزة الدين وغلبته حتى لا يخشى من أحد فيليها من المؤمنين الكبير والصغير، وفي الانتصاف في الآية نكتة حسنة، وهي أن كل قرية ذكرت في القرآن نسب إليها ما لأهلها مجازاً كقوله: {وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ} [سورة النحل، الآية: 112] الآية وفي هذه عدل إلى الإسناد
الحقيقي لأهلها لأنّ المراد مكة فوقرت عن نسبة الظلم إليها تشريفا لها به شرّفها الله. قوله:) فيما يصلون به إلى الله (وفي ظرفية أو بمعنى اللام، وسبيل الطاغوت الكفر والمراد بأولياء الشيطان الكفرة المجاهرون، والمراد بالذين كفروا قبله هم المنافقون، وكذا الفريقين فيقوله مقصد الفريقين المؤمنون، والمنافقون كما قيل ولا يؤبه بالمجهول بمعنى لا يبالي به كيعبأ، وأضعف شيء هو الشيطان، والتفضيل في الضعف مأخوذ من كان المفيدة للاستمرار لأنّ استمرار الضعف لزيادته، ولو كان قليلاً لانقطع، وقيل: إنه من صيغة ضعيفاً، وفيه نظر لأنها لا تفيد المبالغة، والذين قيل لهم كفوا عن القتال مع الكفار هم المؤمنون الذين كانوا بمكة لأنهم أمروا به ما داموا بمكة، وكانوا يتمنون أن يؤذن لهم فيه فنزلت، ولذا فسر أبو منصور، والزمخشريّ الخشية بأنها ما ركز في طبع الإنسان من كراهة ما فيه خوف هلاكه لا أنها كراهة لأمر الله وحكمه اعتقاداً. قوله: (وإذا للمفاجأة الخ) وهي ظرف مكان كما تقرر في النحو وقيل ظرف زمان، وجوز فيها أن تكون خبراً لمبتدأ هنا فيخشون صفة أيضاً. قوله: (من إضافة المصدر إلى المفعول الخ) قال النحرير ليس المصدر من المبنيّ للمفعول بحيث تكون الإضافة إلى ما هو قائم مقام الفاعل كقوله تعالى: {وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ} [سورة الروم، الآية: 3] أي مغلوبيتهم وذلك لأنه حينئذ لا يكون لإضافة الأهل إليهم كبير معنى بمنزلة قولك مثل أهل مخوفية الله بل المعنى مثل أهل الخائفية من الله وهم الخائفون فليتنبه للفرق بين المصدر المبنيّ للمفعول، والمضاف إلى المفعول وقوله وقع موقع المصدر أي خشية كخشية الله أو هو حال من فاعل يخشون ويقدر مضاف أي حال كونهم مثل أهل خشية الله أي مشبهين بأهل خشيته، وقيل إنها حال من ضمير مصدر محذوف أي يخشونها الناس كخشية الله وقوله منه أي من الله وإنما ذكر لأنه لو لم يذكر احتمل كونه بسبب معنى آخر فلا يقال لا حاجة له. توله: (وإن جعلته مصدرأ فلا الخ) أي التمييز في المعنى، والمجرور بمن التفضيلية يكون مانعا من الموصوف بأفعل التفضيل فالمعنى على تقدير الحالية أنهم أشد خشية من غيرهم بمعنى أنّ خشيتهم أشد من خشية غيرهيم، وهو مستقيم، وعلى تقدير المصدرية المعنى أن خشيتهم أشد خشية من خشية غيره بمعنى أن خشية خشيتهم أشذ ولا يستقيم إلا على طريقة جد جده على ما ذهب إليه أبو علي وابن جني ويكون كقولك زيد أجد جداً بخلاف ما إذا قلت أو أشذ خثية بالجر، فإنّ معناه تفضيل خشيتهم على سائر الخشيات إذا فصلت واحدة واحدة، وذكر ابن
الحاجب رحمه الله أنه يجوز أن يكون من عطف الجمل أي يخشون الناس كخشية الله أو يخشون الناس أشد خشية على أنّ الأوّل مصدر، والثاني حال وقيل عليه إن حذف المضاف أهون من حذف الجملة، وأو في بمقتضى المقابلة، وحسن المطابقة واعترض أيضا بأنّ التمييز بعد اسم التفضيل قد يكون نفس ما انتصب عنه لا متعلقا به كقوله: {فَاللهُ خَيْرٌ حَافِظًا}(3/155)
[سورة يوسف، الآية: 64] فهو والجر أي خير حافظ سواء، والله هو الحافظ في الوجهين، والخشية ههنا تكون نفس الموصوف، ولا يلزم أن يكون للخشية خشية بمنزلة أن يقال أشد خشية بالجر لكن جواز هذا فيما إذا كان التمييز نفس الموصوف بحسب المفهوم، واللفظ محل نظر
(قلت) هذا سؤال قوفي واتحاد اللفظ مع حذف الأوّل ليس فيه كبير محذور، وقد عضده
النقل عن سيبويه قال في الانتصاف: ذكر سيبويه رحمه الله جواز قولك زيد أشجع رجلاً وأشجع رجل مع أنّ رجلاً واقع على المبتدأ ولو جعل خشية المذكور منصوبا على المصدرية مفسراً للمصدر المقدر لا تمييزاً لم يكن منه مانع لكنهم لم يذكروه مع وضوحه، وقريب منه أن يكون خشية منصوبا على المصدر، وأشذ صفته قدمت عليه فانتصبت على الحالية، وفيما نقله عن الكتاب بحث يعلم من مراجعة عبارته، وعلى عطفه على اسم الله فهو مجرور بالفتحة لمغ صرفه فقوله: كخشية أشد خشية منه بالإضافة، وقوله: منه الضمير لله، ولا أشد خشية عند المؤمنين من الله فلذا جعله على الفرض! ، ومن جعل الضمير للفريق تعسف، وتكلف ما لا حاجة إليه بناء على ظنه أنه لغو، والمعنى كخشية من كانت خشيتهم منه أشد من خشية الله فافهم، وقد مرّ في البقرة في قوله: {فَاذْكُرُواْ اللهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا} [سورة البقرة، الآية: 250] كلام يتعلق به فراجعه، وقوله: (اللهم الخ) توجيه للعطف الممنوع وأشار به لضعفه، ولذا نادى الله مستغيثا به، واللهم يتجوّز به عما ذكر. قوله: (ولا أخرتنا إلى أجل قريب) كالبيان لما قبله ولذا لم يعطف، وتوصيفه بالقريب للاستعطاف أي أنه قليل لا يمنع من مثله، وهو سؤال عن الحكمة لا اعتراض! ، ولذا لم يوبخوا عليه، والفتيل مثل للتحقير، وقد مز تفسيره وفسر الظلم بمعناه اللغوي، وهو النقص، وقوله: متاع الدننا قليل جواب لهم ببيان الحكمة بأنه كتب عليهم ليعوضوا عن هذا البقاء القليل ببقاء أكثر من الكثير مع أنّ الأجل مقدّر لا يمنع منه عدم الخروج إلى القتال، وفيه رد على
المعتزلة. قوله: (قرئ بالرفع على حذف الفاء الخ الما كان الجواب إذا كان مضارعاً فحقه الجزم وجوبا إن كان الشرط مضارعاً وجوازاً إن كان ماضيا لأنه لما لم يظهر أثره في الشرط مع الفاء مطلقاً، وفصل سيبويه رحمه الله بين أن يكون ما قبله يطلبه كقوله:
يا أقرع بن حابس يا أقرع إنك أن يصرع أخوك تصرع
فالأولى أن يكون على التقديم والتأخير أي إنك تصرع أن يصرع أخوك، وبين أن لا
يكون كذلك فالأولى حذف الفاء، وجوز العكس في الصورتين، وفي شروح الكشاف نقل الإطلاق عنه في التقديم وهذا ما ذكر في مفصلات العربية، وقيل: إن كانت الأداة اسم شرط فعلى إضمار الفاء ومن يقوله: لا يسلم أنه ضرورة كما قاله الرضي والا فعلى التقديم والتأخير، وعلى تقدير الفاء لا حاجة إلى تقدير مبتدأ حتى تكون اسمية كما في البيت الآتي، وترك توجيه الكشاف بأنه على توهم الشرط ماضيا فيكون كعطف التوهم لما فيه من التعسف إذ شرط التوهم أن يكون ما يتوهم هو الأصل أو مما كثر في الاستعمال حتى صار كالأصل كما في الانتصاف، وما قيل: إنّ كون الشرط ماضياً، والجزاء مضارعا إنما يحسن في كلمة إن لقلبها الماضي إلى معنى الاستقبال فلا يحسن أينما كنتم يدرككم الموت إلا على حكاية الماضي، وقصد الاستحضار فيه نظر ظاهر. قوله:) من يفعل الحسناث الخ) هو من شعر لعبد الرحمن بن حسان بن ثابت وقيل لكعب بن مالك الغنوي وهو:
من يفعل الحسنات الله يشكرها والشربالشرعند الله مثلان
ويروي سيان:
فإنما هذه الدنيا وزهرتها كالزاد لا بد يوما أنه فان
وفي شرح أبيات الكتاب للنحاس أنّ الأصمعيّ قال إنّ البيت غيره النحاة، والرواية من
يفعل الخير فالرحمن يشكره، وكفى بسيبويه سنداً للرواية الأولى. قوله: (أو على أنه كلام مبتدأ الخ) قيل عليه أنه ليس بمستقيم معنى، وصناعة أمّا الأوّل فلأنه لا يناسب اتصاله بما قبله لأن قوله: {وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً} المراد به في الآخرة فلا(3/156)
يناسبه التعميم، وأمّا الثاني فلأنه يلزم عليه عمل ما قبل اسم الشرط فيه، وهو غير صحيح لصدارته، والجاب أنه لا مانع من تعميم، ولا
تظلمون فتيلاً للدنيا، والآخرة أو يكون المعنى لا ينقصون شيئا من مدة الأجل المعلوم لا من الأجور به ينتظم الكلام كما قاله النحرير، ومرإده باتصاله بما قبله اتصاله به معنى لا عملا على أن يكون أينما تكونوا شرطا جوابه محذوف تقديره لا تظلموا، وما قبله دليل الجواب فهو مرتبط به معنى لا عملا وهو ظاهر وقوله: {يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ} جملة مستانفة والجمهور على قراءة مشيدة بفتح الياء اسم مفعول بمعنى مرفوعة أو مجصصة، وقرى بكسرها على التجوّز كعيشة راضية، والبروج الحصون من التبريج وهو الإظهار، وبروج النجوم منازلها مأخوذ منه، وتفسيره بها هنا تكلف لا داعي له، وهو منقول عن الإمام مالك فهو كقول زهير:
ولو نال أبواب السماء بسلم
قوله: (كما تقع الحسنة والسيئة الخ) يعني أنها تطلق على هذين المعنيين في القرآن، والكلام إمّا أن يكون مشتركا بينهما اشتراك المعنى أو اشتراك الرجل بين إفراده، ولما كان بين قوله كل من عند الله، وبين قوله من الله ومن نفسك بعده معارضة بحسب الظاهر حملها بعضهم في كل منهما على أحد المعنيين لئلا يقع التعارض بينهما والعلامة، والمصنف حملاهما على النعمة، والبلية فيهما بمقتضى سبب النزول، ومناسبة المقام لذكر الموت والسلامة قبله، ولأنّ لفظ الإصابة الأكثر استعماله فيه، وهما من هذا القبيل، ودفعا التعارض بما سيأتي، وقوله: وأرسلناك للناس من رسولاً يناسبه حمل الثاني بما يتعلق بالتكليف من الطاعة، وال! ية، ولذا غير أسلوبه إذ عبر فيه بالماضي، وسيأتي ما يدفعه، وقال الراغب: الفرق بين من عند الله، ومن الله أنّ من عند الله أعم منه إذ هو يقال فيما يرضاه مما أمر به، ونهى عنه، ويسخطه، ومن الله لا يقال إلا فيما يرضاه ويأمر به ولذا قال الراغب إن أصبت فمن الله وان أخطأت فمن الشيطان ثم بين تشاؤم اليهود على عادتهم كما تال تعالى: {يَطَّيَّرُواْ بِمُوسَى وَمَن مَّعَهُ} [سورة الأعراف، الآية: 131] . قوله: (أي يبسط ويقبض الخ) رد عليهم بأنه القابض الباسط فلا فاعل سواه ولا واسطة سوى أنفسكم دون النبيّ صلى الله عليه وسلم كما زعموا فتمام الرد عند قوله: {وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ} [سورة النساء، الآية: 79] فاندفع ما قيل إنهم لم يجعلوه فاعلاً بل تشاءموا به فلا يكون هدّا رداً عليهم. قوله: (يوعظون به وهو القرآن الخ) يفقون بمعنى يفهمون فالمراد بالحديث حديث مخصوص أو المطلق جعلوا بمنزلة البهائم الذين
لا يفهمون أو المراد كل ما حدث، وقرب عهده كالحادث كما فسره به الراغب فالمراد أنهم لا يعقلون صروف الدهر وتغيره حتى يعلموا أنّ له فاعلاً حقيقيا بيده جميع الأمور. قوله: (يا إنسان الخ) يعني أنّ الخطاب عام لكل من يقف عليه لا للنبيئ صلى الله عليه وسلم كقوله:
إذا أنت أكرمت الكريم ملكته
ويدخل فيه المذكورون دخولاً أوليا وفسر من الله بالتفضل المذكور لما ذكره وقد مر ما
قاله الراغب فيه، والحديث المذكرر أخرجه الشيخان. قوله: (لأنها السبب الخ) فظهر اختلات جهتي نفي السيئة واثباتها من حيث الإيجاد والسبب والى الأوّل ينظر قوله: كل من عند الله أن يبسط ويقبض، والى الثاني قوله: لأنها السبب، وقوله الحسنة إحسان وامتنان، وهي أحسن، وفي نسخة امتحان أي امتحان بها لينظر هل يشكر أم يكفر ويبطر، ولا ينافي أن يكون في النقمة أيضا امتحان بأن يصبر أولاً لكن المنظور إليه المجازاة كما صرح به في الحديث، والمراد بالسبب ما يوجد الشيء عنده بإرادته، وخلقه فهو سبب عادي، والحسنة لما كانت تارة بسبب ما يصدر عنه من الجميل، وتارة بمحض التفضل لم تسند إلى سببها، والمراد بالمعاصي ما يشمل الهفوات. توله: (ما من مسلم يصيبه وصب ولا نصب الخ (الوصب المرض، والنصب المشقة والتعب أو الداء، والحديث المذكور أدخل فيه حديثاً آخر لما أخرجه الشيخان عن عائشة مرفوعا " ما من مصيبة تصيب المسلم إلا كفر الله بها عنه حتى الشوكة يشاكها " وأخرج البخارقي عن أبي سعيد الخدرفي رضي الله عنه صلى الله عليه وسلم قال: " ما يصيب المؤمن من نصب ولا وصب حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله من خطاياه " وأخرج الترمذي عن أبي موسى رضي الله عنه أنه عليه الصلاة والسلام قال: لا يصيب عبداً نكبة فما فوقها أو ما دونها إلا
بذنب، وما يعفو الله عنه أكثر ويشاكها مجهول لكنه غير متعد لمفعولين(3/157)
ولذا قيل إنّ الضمير للشوكة بمعنى المصدر فهو مفعول مطلق. قوله: (لا حجة فيهما لنا وللمعتزلة) أي لا حجة في أن الخير والشر من الأفعال بخلقه وإرادته، ولا في أن المعاصي ليست كذلك على ما علم من الخلاف بيننا وبين المعتزلة لأنّ إحدى الآيتين بظاهرها لنا، والأخرى لهم فلا بد من التأويل، وهو مشترك الإلزام ولأن المراد بالحسنة، والسيئة النعمة، والبلية لا الطاعة، والمعصية والخلاف في الثاني، وأما الإمام فاختار تفسيرهما بالمعنى الأعم كما فصله الطيبي، ومنهم من قال إنه استفهام تقديره أفمن نفسك هو مبتدأ. قوله:) حال قصد بها التثيد الخ) إذا تعلق برسولأ يكون تقديمه للاختصاص الناظر إلى قيد العموم أي مرسلا لكل الناس لا لبعضهم كما زعموا فهو رد عليهم في اختصاص رسالته بالعرب، ولذا رجح هذا الوجه في الكشاف لا بناء على أنّ الحال المؤكدة يجب حذف عاملها كما قيل لأنّ هذه مؤكدة لعاملها، والفرق بينهما مر في سورة آل عمران، وأمّا نصبه على أنه مفعول مطلق فإمّا لأنّ الرسول يكون مصدرا كما في قوله:
لقد كذب الواشون ما فهمت عندهم بشيء ولا أرسلتهم برسول
أي برسالة أو لأنّ الصفة قد تستعمل بمعنى المصدر مفعولاً مطلقا كما استعمل الشارع خارجاً بمعنى خروجا. قوله: (ولا خارجاً الخ) الشعر للفرزدق قاله، وقد حلف عند الكعبة لا يقول شعراً فيه هجاء ونحوه فترك الشعر وأقبل على قراءة القرآن ومنه:
ألم ترني عاهدت ربي وأنني لبين رتاج قائما ومقام
على حلفة لا أشتم الدهرمسلما ولا خارجا من فيّ زوركلام
أضمر الفعل قبل خارجا كأنه قال: ولا يخرج خارجا موضع خروج وعطف الفعل المقدر
وهو لا يخرج على قوله لا أشم الذي هو جواب القسم، والرتاج باب الكعبة، وعلى هذا خرجه سيبويه رحمه الله، وان احتمل تقدير ولا أكون ونحوه وقوله والتعميم أي لا التأكيد كما في الأوّل فإنّ التعميم مستفاد من الناس إذ التعريف فيه الاستغراق كما صرح به في قوله: إلا كافة للناس، وهو متعلق بالفعل لا الحال فلا دخل للحال في العموم بخلافه على الثاني فلا يرد
عليه أنّ التعميم مقصود على كل حال، وقوله: بنصب المعجزات إشارة إلى أنّ في الشهادة استعارة هنا ومنهم من عممه أي شهيداً على كل ما مرّ مما صدر منهم، وأمّا جعل الشهادة من قوله، وأرسلناك للناس رسولاً ففيه تأمّل. قوله: (لأنه عليه الصلاة والسلام في الحقيقة مبلغ الخ) يعني أنّ طاعة المبلغ لطاعة الإمام، وليست له بالذات حثى يتوجه ما توهموه ويدل عليه التعبير بالرسول ووضعه موضع الضمير للإشعار بعليته، وقارف أي تعاطي يقال قارف كذا إذا تعاطى ما يعاب به ولم يقل ومن تولى فقد عصاه للمبالغة كما سيأتي، وما ذكره من الحديث قال العراقي رحمه الله لم أقف عليه. قوله: (تحفظ عليهم أعمالهم الخ) كونه عليه البلاغ لا محاسبتهم بمعنى فأعرض عنهم كما يدل عليه ما بعده فهذا سبب للجزاء قائما مقامه كما في الكشاف، وليس وجهاً آخر لأن الحفظ إنما يكون عما يضر فهو بمعنى لا يدفع ضررهم، وهو جزاء من غير تأويل لأنه خلاف الظاهر، والظاهر أنّ المراد بالرسول هنا نبينا صلى الله عليه وسلم بدليل الخطاب لا العموم، والخطاب لغيره معين فلا التفات فيه، وقال حفيظاً بصيغة المبالغة لأنه حافظ بالتبليغ، وقيل هو مفعول ثان لتضمين أرسلنا معنى جعلنا، ولا حاجة إليه. قوله:) وأصله النصب على المصدر) يعني أنه مبتدأ أو خبر وكان أصله النصب كما يقول المحب سمعا وطاعة لكته يجوز في مثله الرفع كما صرح به سيبويه ونقله في الكشاف للدلالة على أنه ثابت لهم قبل الجواب. قوله: (أي زورت خلاف الخ) بتقديم الزاي المعجمة على الراء المهملة، وهو الظاهر من التزوير وهو ترويج المراد وابرازه في صورة الحق وجوّز فيه تقديم المهملة على المعجمة كما في الفائق في هذه اللفظ لما وقعت في كلام عمر رضي الله عنه وهو بمعناه أيضاً، وجوّز في فاعل تقول أي يكون ضمير المؤنث الغائب للطائفة وأن يكون ضمير المذكر المخاطب للنبيّ صلى الله عليه وسلم والعدول إلى المضارع للاسنمرار وعائد الموصول محذوف عليهما. قوله: (والتبييت الخ) التبييت قصد العدوّ وليلاً وفي غفلته، وتدبير الفعل بالليل والعزم(3/158)
عليه ومنه تبييت نية
الصيام، والإدغام هنا على خلاف الأصل، والقياس قال الداني: لم تدغم تاء متحركة غير هذه حتى قيل إنها ساكنة من بياء وتبياه إذا تعمده قال:
باتت تبي حوضها عكوفا مثل الصفوف لاقت الصفوفا
وقوله: بعده يبيتون يأباه ولهذا لم يلتفتوا له مع أنه غريب، وهذا يردّ ما قيل إنه لم يسمع
إلا في تولهم حياك وبياك أي اعتمدك بالتحية مع أنه قيل أصله بوأك بالهمز أي أنزلك، وأمّا جعله من بيت الشعر فبعيد لكن لا لقول النحرير إنه اصطلاح محدث لأنّ الراغب أثبته لغة. قوله: (يثبتة في صحائفهم الخ) والقصد لتهديدهم على الأوّل وتحذيرهم من النفاق لأنّ الله يظهره على الثاني. قوله: (قلل المبالاة الخ) يعني أنه كناية عن قلة المبالاة بهم لأنه يعرض! عما لا يبالي به، وهذا بناء على أنه مأمور بالقتال، والثاني يكون قبل الأمر به فتكون منسوخة، وقوله: سيما محذوف لا جوّزه الرضي، وقال أبو حيان: إنه لا يوجد في كلام فصيح يحتج به، ولا مانع منه للقرينة الدالة على حذفها إذ المعروف في استعمالها ذلك، وقوله: يكفيك مضرتهم وقع في نسخة معرتهم بالعين والصحيح الأولى. قوله: (يتأملون في معانيه الخ (يعني أصله التأمّل في إدبار الأمور وعوقبها ثم استعمل في كل تأمّل سواء كان نظراً في حقيقة الشيء وأجزائه أو سوابقه، وأسبابه أو لواحقه وأعقابه، وان دل الاشتقاق على أنه النظر في العواقب والأدبار خاصة وعن الزمخشرفي أنّ في الآية فوائد كوجوب النظر في الأدلة وترك التقليد والدلالة على صحة القياس إلى آخر ما ذكره، وقيل في ارتباط هذه الآية أنه لما جعل الله شهيداً كأنه قال شهادة الله لا شبهة فيها ولكن من أين يعلم إن ما ذكرته شهادة الله محكية عنه. فقال أفلا يتدبرون الخ وحمل من عند الله على أنه كلامه الموحى لا على أنه مخلوقه كما فعله الزمخشرفي في حواشيه. قوله: (من تناقض المعنى وتفاوت النظم الخ) في الكشاف لكان الكثير منه مختلفاً متناقضا قد تفاوت نظمه وبلاغته، ومعانيه فكان بعضه بالغأ حد الإعجاز، وبعضه قاصراً عنه يمكن معارضته، وبعضه إخباراً بغيب قد وافق المخبر عنه، وبعضه إخباراً مخالفأ للمخبر عته، وبعضه دالاً على معنى صحيح عند علماء المعاني، وبعضه دالاً على معنى فاسد
غير ملتئم فلما تجاوب كله بلاغة معجزة فائتة لقوي البلغاء، وتناصر صحة معان، وصدق أخبار علم أنه ليس إلا من عند قادر على ما لا يقدر عليه غيره عالم بما لا يعلمه أحد سواه.
قال بعض المدققين حد الإعجاز مرتبته لا نهايته كما في عبارة المفتاح إذ لو كان بمعنى
نهايته لم يصح قوله يمكن معارضته، وأورد عليه أنّ قوله فكان بعضه بالغاً حذ الإعجاز يفيد ئبوت قدرة غيره تعالى على الكلام المعجز، وأجيب بأنه جعل اللازم على كونه من عند غير الله قصور البعض عن حذ الإعجاز على سبيل التنزل وارخاء العنان، وهو من الطريق المنصف كما في الكشف، ويحتمل أنه من التعليق بالمحال للإلزام، وبهذا يندفع أن الكثرة في النظم صفة الاختلاف
والاختلاف صفة الكل، وقد جعل الكثرة صفة المختلف، والاختلاف صفة الكثير، وذلك لأنه جعل اللازم كون الكثير مختلفا على سبيل التنزل، لمارخاء العنان، وحمل نسبة الكثرة إلى الكل في ظاهر النظم على معنى اختلاف كثير، ونفي كلام المصنف ما يخالفه في ذلك كما قيل، وسيأتي تحقيقه، وبهذا اندفع قول النحرير ظاهر النظم أنّ الكثرة صفة الاختلاف، وقد جعلها صفة للمختلف من غير ضرورة فإن كون البعض مخالفاً للبعض صفة الكل، ولا معنى لتخصيصه بالكثير منه، وانّ قوله فكان بالغا الخ على تقدير كون القرآن من عند غير الله مشكل يفضي إلى جواز ظهور المعجزة على يد الكاذب بل ربما يقدح في إعجاز القرآن حيث جاز للغير، ولو بحسب الاتفاق الإتيان بما هو في مرتبته من البلاغة، وهو طرفها الأعلى، وما يقرب منه على ما هو حذ الإعجاز، ولا محيص سوى أن يحمل على الفرض! ، والتقدير أي لو كان فيه مرتبة الإعجاز ففي البعض خاصة على أن يكون ذلك القدر مأخوذاً من كلام الله كما في الاقتباس ونحوه، ولا يخفى بعده، وقوله: بعض أخباره المستقبلة خص المستقبلة لأنّ المعجز الأخبار عن المغيبات فلا يرد ما قيل الأولى ترك التقييد.
(وأنا أقول الما كان محصل كلام العلامة أنّ المراد بالاختلاف الاختلاف(3/159)
في الإعجاز وعدمه، وهو اختلاف في أمرين لم يكن الاختلاف كثيراً بل المختلف فلذا أوّل به، والمصنف رحمه الله أشار إلى أنّ الاختلاف بالتناقض، وتفاوت النظم والفصاحة، وعدمها، وسهولة المعارضة وصعوبتها، والمطابقة للخارج وعدمها، والموافقة للعقل، وعدمها فعذد أنواعا منه إشارة إلى أنّ الكثرة في الاختلاف نفسه لا في المختلف لأنه لا داعي إليه كما مرّ لكن عدم الاختلاف فيما ذكره لا يدل على كونه من عند الله لجواز صدور كلام غير معجز ليى فيه شيء من هذا الاختلاف عن البشر كالأحاديث النبوية فلا يتضح الاستدلال الواقع في النظم، ولهذا حصره الزمخشرفي فيما مرّ ليكون دليلاً واضحا وقد شعر بهذا، وحاول دفعه بأنه وان جاز مثله لكن الاستقراء دل على خلافه، وفيه نظر والاستقراء غير تام. قوله: (للتنبيه على أن اختلاف ما سبق من الأحكام الخ) جواب عن توهم أنّ النسخ فيه اختلاف مثل قوله: قبيل هذا كفوا أيديكم
مع كتب علينا القتال، وكل من عند الله، وما أصابك من سيئة فمن نفسك فلا يرد أنه إن أراد ما سبق من القرآن فغير ظاهر لأنه لم يسبق قريباً أحكام متناقضة وان أراد بما سبق ما كان قبل نزول هذه الآية مطلقا فلا وجه لإلرادها هنا. قوله: (مما بوجب الآمن أو الخوف الخ) وجه التأويل ظاهر لأن الأمن والخوف نفسهما ما لم يجيا بل ما يقتضيهما، وقوله: لعدم حزمهم بحاء مهملة وزاي معجمة أي لا لفساد ونفاق وغيره، والتخويف في إذاعته مفسدة ظاهرة وكذا الظفر لأنّ العدوّ يستعد له فيقوّي شوكته. قوله: (والباء مزيدة) في الكشاف يقال أذاع السرّ وأذاع به، ويجوز أن يكون المعنى فعلوا به الإذاعة، وهو أبلغ يعني أنه إذا جعل لازما يكون بمعنى فعلوا به الإذاعة، وهو أبلغ لأنه يقتضي تأثيره في المذاع، وكونه ثبت، وقرّ فيه سواء كانت الباء للتعدية أوبمعنى في على حد قوله:
تجرج في عراقيبها نصلي
وأمّا أن يكون مضمنا معنى التحدث فإن قيل أنه يكون لازماً، ومتعدياً فأظهر. قوله:
(ولو رذوا ذلك الخبر الخ) مرجع الضمير الخبر المفهوم من الكلام ولو أرجعه إلى الأمر لكان أظهر، وضمير رأيه للرسول صلى الله عليه وسلم، وذكر في تفسير الاية ثلاثة أوجه مبني الأوّل على أنّ مجيء الأمر وصول خبر السرايا إليهم، ورذه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وأولى الأمر إلقاؤه إليهم وإخبارهم به من غير إذاعة، والعلم معرفة تدبيرة، والمصلحة فيه، ومبني الثاني على أن مجيء الأمر اطلاعهم على ما بالرسول صلى الله عليه وسلم، وأولي الأمر من الأمن أو الخوف من قبل الأعداء، وردّه إليهم ترك التعرّض له أو جعله بمنزلة غير المسموع، والعلم معرفة كيفية التدبير، ومبني الثالث على أنّ مجيء الأمر سماع خبر السرايا من أفواه المنافقين، وردّه إليهم تركه موقوفاً إلى السماع منهم، والذين يستنبطونه هم المذيعون، والعلم معرفتهم بما ينبغي في ذلك الأمر من الإذاعة، وعدمها واستنباطهم إياه من الرسول صلى الله عليه وسلم وأولي الأمر تلقيهم ذلك من قبلهم فمن على هذا
ابتدائية والظرف لغو متعلق بيستنبطون، وعلى الأوّلين تبعيضية أو بيانية تجريدية، والظرف حال، وإطلاق أولي الأمر على كبار الصحابة لكونهم المرجع فيه أو المظهر له، والاستنباط أصله استخراح الشيء من مأخذه كالماء من البئر والجوهر من المعدن، والمستخرج نيط بالتحريك فتجوّز به عن كل أخذ وتلق. قوله: (بإرسال الرسول صلى الله عليه وسلم الخ) خصه لأنه هو المانع عن الضلال ولأجل صحة الاستثناء لأنه اختلف في قوله إلا قليلا فقيل مستثنى من قوله: أذاعوه أو لعلمه واستدلّ به على أنّ الاستثناء لا يتعين صرفه لما تبله لأنه لو كان مستثنى من جملة اتبعتم فسد المعنى لأنه يصير عدم اتباع القليل للشيطان ليس بفضل الله، وهو لا يستقيم، ومن صرفه إليه كما هو المتبادر خص الفضل لأنّ عدم الاتباع إذا لم يكن بهذا الفضل المخصوص لا ينافي أن يكون بفضل آخر، ثم اختلفوا فمنهم من فسره بما ذكره المصنف رحمه الله تعالى، والمعنى لولا بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم وانزال القرآن العظيم لاتبعتم الشيطان فكفرتم إلا القليل منكم فإنهم ما اتبعوا الشيطان، وما كفروا ولا أنكروا بعثه، ولا قرآنه كمن اهتدى إلى الحق في زمن الفترة كقس بن ساعدة وأضرابه، وقيل المراد به النصرة، والمعونة أي لولا تتابع النصرة(3/160)
والظفر لاتبعتم الشيطان، وتوليتم إلا القليل منكم من المؤمنين من أهل البصيرة الذين يعلمون أنه ليس مداراً لحقية على النصر في كل حين قال الإمام رحمه الله تعالى، وهذا أحسن الوجوه لارتباطه بما بعده وحذف المصنف رحمه الله تعالى قول العلامة التوفيق من قوله إرسال الرسول عليه الصلاة والسلام وانزال الكتاب، والتوفيق لأنه أشكل على بعض شراحه وإن أجيب بأنّ المراد به توفيق خاص نشأ مما قبله، وأما الإطلاق ودفع الشبهة بأنّ عدم الفضل والرحمة على الجميع لا يلزم منه العدم عن البعض فتكلف، وفي الآية وجوه أخر نحو عشرة فصلها في الدرّ المصون، وفي قوله: (تفضل) إشارة إلى ثبوته بفضل آخر غير المنفي، وبه تمام الدفع، ونفيل بالتصغير، وزيد هذا ممن تعبد في الجاهلية بالدين الحق، وكذا ورقة لكن اختلف في إسلامه كما في أوّل شرح البخاري، ومنكم ضميره عام فتأقل. قوله: (أو إلا اتباعاً قليلاَ الخ) فهو على هذا استثناء مفرّغ من المصدر، وهو منصوب على أنه مفعول مطلق، والمعنى مستقيم عليه أي اتبعتموه كل اتباع إلا اتباعا قليلاً بأن يبقى على إجراء الكفر وآثاره والا البقاء القليل النادر بالنسبة إلى البعض حتى ربما أن يكون ذلك بدون التوفيق، وقصد الإطاعة بل بمجرّد الطبع، والعادة كذا قرّره النحرير. قوله: (أن تثبطوا وتزكوك وحدك (يثير إلى أنّ الفاء في جواب شرط
مقدّر، وقوله: إلا فعل نفسك لأنّ التكليف يكون بالأفعال لا بالذوات، وقوله: لا يضرّك الخ. إشارة إلى أنه مجاز أو كناية عن عدم ضرر ذلك فلا يرد أنه مأمور بتكليف الناس فكيف هذا، وقيل: إنه كان مأموراً بأن يقاتل وحده أولاً، ولهذا قال الصديق رضي الله تعالى عنه في أهل الردّة أقاتلهم وحدي، ولو خالفتني يميني لقاتلتها بشمالي وليس كذلك، وبدر الصغرى كانت غزاة بعد أحد خرجوا لمواعدة أبي سفيان رضي الله تعالى عنه، ولم يكن فيها قتال والقصة مروية عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، ولم يلو على أحد لم ينظره كما في الأساس، وقرإءة الجزم قيل فيها إنه مجزوم في جواب الأمر، وهو بعيد، والظاهر أنّ لا للنهي جازمة أي لا تكلف أحد الخروج إلا نفسك، وعلى قراءة النون المعنى ما ذكره. قوله: (فخرج عليه السلام وما معه إلا سبعون الخ) قال البقاعي الذي في السير أنهم كانوا ألفاً وخمسمائة، وما ذكر. المصنف غلط تبع فيه الزمخشري، ولم ينبه عليه أحد من أصحاب الحواشي اللهم إلا أن يقال إنه أراد الركبان منهم، وهو محتاج إلى النقل أيضاً. قوله: (لا أنا لا نكلف أحدا إلا نفسك) يعني أنّ نفسك مفعول ثاني بتقدير مضاف لا في موقع المفعول الأوّل أي لا نكلف أحداً إلا نفسك، ولا مانع منه أيضاً أي لا نكلف أحدا هذا التكليف إلا نفسك، والمراد من التكليف مقاتلته وحده، ولذا وقع في نسخة أو لا يضرّك مخالفتهم لأنا لا نكلف الخ. والتحريض الحث من الحرض، وهو ما لا تعبد به، والتفعيل فيه للسلب، والإزالة كقذيته وتفسير الذين كفروا بقريش لأنه المروفي، والمراد العموم، وعسى من الله تحقيق، وقد فعل، والبأس النكاية كالبؤص، والتنكيل التعذيب، وأصله التعذيب بالنكل، وهو القيد فعمّ، والمقصود التهديد أو التشجيع. قوله: (راص بها حق مسلم الخ) فسر كون الشفاعة حسنة بما ذكره وأدرج فيها الدعاء لأنه شفاعة معنى عند الله، وخص كونها بالغيب لأنه ادعى للإخلاص، وظهر مقحم للتأكيد والحديث المذكور رواه مسلم وغيره. قوله: (وهو ثواب الشفاعة الخ)
التسبب بالجرّ معطوف على الشفاعة وقوله: (مساو لها في القدر) إشارة إلى وجه اختيار النصيب في الحسنة، والكفل في السيئة، ونكنة ذلك أنّ النصيب يشمل الزيادة لأنّ جزاء الحسنات يضاعف، وأما الكفل فأصله المركب الصعب فاستعير للمثل المساوي فلذا اختير إشارة إلى لطفه بعباده إذ لم يضاعف السيئات كالحسنات، وقيل إنه، وان كان معناه المثل لكنه غلب في الشر وندر في غيره كقوله تعالى: {يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ} [سورة الحديد، الآية: 28، فلذا خص به السيئة تطرية، وهربا من التكرار، ومن بيانية أو ابتدائية.
وقال الراغب المعنى من يعن غيره في فعلة حسنة يكن له منها نصيب ومن يعنه في سيئة
ينله منها شدة. قوله: (مقتدرا) اختلف في تفسيره فقيل مقتدراً، وهو مروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما والبيت المذكور لأحيحة الأنصاري، وقيل للزبير بن عبد المطلب(3/161)
والضغن الحقد يقول رب ذي حقد عليّ كففت السوء عنه مع القدرة عليه، وإذا كان بمعنى شهيداً وحافظا من القوت الحاضر الذي به حفظ البدن فأصله مقوت فأعل كمقيم، وهذا على التفسير الثاني وقيل عليهما. قوله: (الجمهور على أنه في السلام) ، ويدل على وجوب الجواب لصيغة الأمر، وقال الجمهور لما سيأتي أنه في الهبة، ووجوب الجواب للمسلم هو الصحيح لكن على الكفاية، وقوله: فإن قاله أي ورحمة الله زاد أي المجيب، وبركاته، ولا زيادة على ذلك كما ورد في الحديث، وقوله: إمّا الخ إشارة إلى أنه واجب مخير إذ بالزيادة المسنونة يقع ذلك الواجب. قوله: (لما روي أنّ رجلاَ قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم الخ) أخرجه أحمد والطبراني عن سلمان الفارسي، وهذا تعليل الجمهور على أنه في السلام لقوله فأين ما قال الله الخ لا
للوجوب إذ لا دلالة في الحديث عليه، وتوله: فرددت عليك مثله إنما كان مثله مع أنه لم يقل إلا وعليك لأنّ عطفه على كلامه يقتضي اشتراكهما فيما ذكر فكأنه قال: وعليك ذلك. قوله: (وهذا الوجوب على الكفاية الخ) نقل السيوطي أنّ الأصح من مذهب الشافعي رحمه الله تعالى وجوب الردّ حال الخطبة، وقيل: إنه مستحب، وقيل مباج، وأما القارئ ففي روضة النووي أنّ الأولى ترك السلام عليه فإن سلم عليه كفاه الردّ بالإف ر! والأظهر أنه يرذ باللفظ وقوله، ونحوها كالأكل والصلاة، وحال الآذان، والإقامة، والجماع. قوله:) ومنه قيل أو للترديد الخ) ضمير منه للحديث أو لجميع ما مرّ، ومن تعليلية أو ابتدائية لأنه نشأ منه كما يقولون، ومن ههنا يقال كذا يعني قيل إنّ الأمر بالأحسمن فيما إذأ أتى المسلم ببعض التحية، والأمر بالرد فيما إذا أتى بتمامها إذ لا أحسن منها حتى يؤتى به، ولما كان عينه جعل كأنه رذ إليه ما أخذ منه، وقوله: وذلك إشارة إلى أنه أي السلام عليك، ورحمة الله وبركاته تمام التحية لأنّ السلام دعاء بالسلامة عن أقسام المضار وحصول المنافع من الرحمة أي الأنعام وثباتها أي المنافع، وقيل: إنه راجع لها، وللسلامة والثبات من قوله وبركاته لأنّ البركة كما حققه الراغب رحمه الله تعالى ثبوت الخير الإلهي في الشيء لأن مأخذ اشتقاقه يدل على اللزوم كالبرك لصدر البعير، ومنه بركة الماء لغير الجاري منه. قوله: (والتحية في الآصل مصدر الخ! يعني أصل معنى حياك الله جعلك حياً ثم استعمل لما ذكره من الدعاء بالحياة كقولهم عمرك الله وقوله: فغلب بالتخفيف، والتشديد، وقيل: معناه البقاء، والملك، ومنه التحيات لله. قوله:) وقيل المراد بالتحية العطية (أي الهبة، ولذا قال على المتهب لأنّ التحية تطلق على الهدية، وهي هبة، والثواب عوضر الهبة، والشافعي رحمه الله تعالى له في أكثر المسائل قولان فما تاله ببغداد قوله القديم وما قاله بمصر. قوله: الجديد يعني أن قوله القديم، وهو ضعيف عندهم أنه لا بد في الهبة من العوض أو الرذ على مالكها، قوله: الجديد كمذهبنا، وأعلم أنهم قالوا لو قال السلام عليك ورحمة الله وبركاته فقال: عليك السلام فقط أجزأه لكنه خلاف الأولى، وظاهر الآية، وكلام المصنف رحمه الله تعالى خلافه، وفي الكشاف من قال لآخر أقرئ فلاناً السلام وجب عليه أن يفعل، وعن أبي يوسف رحمه الله تعالى لا يسلم على لاعب الشطرنج، والنرد والمغني، والقاعد لحاجته ومطير الحمام، والعاري من غير عذر في حمام أو غيره، وذكر الطحاوي أن المستحب رذ السلام على الطهارة، ويتيمم لرذه ويسلم الرجل على امرأته لا الأجنبية، ويسلم الماشي على القاعد، والراكب على الماشي، وراكب الفرس على راكب الحمار، والصغير على الكبير،
والأقل على أكثر، وعنه صلى الله عليه وسلم: " إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا وعليكم) أفي وعليكم ما قلتم، ولا يبدأ ذميّ بسلام فإن بدأ فقل وعليك ورخص! بعضهم في بدئهم بالسلام إذا دعت إليه داعية، ولا يسلم عليهم في كتاب، ولا غيره فإن فعل قال: السلام على من اتبع الهدى، وجوابه بقوله، وعليك روي بالواو و " ركها كما فصله الطيبي، وقوله: وقيل المراد بالتحية العطية هو قول لأبي حنيفة رحمه الله تعالى قيل لأنّ السلام قد وقع فلا يردّ بعينه فلذا حمل على الهدية وأجيب بأنه مجاز كقول المتنبي:
قفي تغرم الأولى من اللحظ مقلتي بثانية والمتلف الشيء غارمه(3/162)
وقوله: (على التحية) إشارة إلى دخول ما قبله فيه دخولاً أوّليا.
قوله: (مبتدأ وخبر) إشارة إلى أنّ اللام قسمية لأنّ لام التأكيد لا تدخل خبر المبتدأ، والخبر وان كان مو القسم، وجوابه لكنه في الحقيقة الجواب فلا يرد وقوع الإنشاء خبراً، ولا أنّ جواب القسم من الجمل التي لا محل لها من الإعراب فكيف يكون خبرا مع أنه لا امتناع من اعتبار المحل، وعدمه باعتبار جهين. قوله: (ليحشرنكم الخ الما كان الجمع لا يتعدى بإلى أشار إلى توجيهه بأنه بمعنى الحشر، وهو يتعدى بها قال تعالى: {لإِلَى الله تُحْشَرُونَ} ومن لم يتنبه له اعترض عليه بأنّ معنى الجمع في ليجمعنكم أظهر منه في ليحشرنكم فيكون تفسيره به تفسيرا بالأخفى مع أنّ الحشر للجمع في القيامة أخص، وأعرف في لسان الشرع فلا يتوجه كونه أخفى أيضا، وقوله: أو مفضين إليه جواب آخر أي عدى بإلى لتضمين معنى الإفضاء المتعدي بها أو إلى بمعنى في كما أثبته أهل العربية. قوله: (فهو حال الخ) يعني الجملة إما حال من اليوم، وضمير فيه راجع إليه أو صفة مصدر محذوف أي جمعا لا ريب فيه، والضمير للجمع. قوله: (إنكار أن يكون أحد الخ) يعني الاستفهام إنكارفي، والتفضيل باعتبار الكمية في أخباره الصادقة لا الكيفية فإنها لا يتصوّر فيها تفاوت إذ صدقه مطابقته، وهي لا تزيد فلا يقال في حديث معين أنه أصدق من آخر إلا بتأويل، وتجوّز ونفي الأصدقية وانكارها يفيد نفي المساواة أيضا كما في قولهم: ليس في البلد أعلم من زيد، وهي قاعدة مرّ
تحقيقها، ولا حاجة إلى تأويل أصدق بأظهر صدقاً كما توهم، وامتناع الكذب، وكونه في حقه محالاً ثابت شرعا، وعقلاً لأنه إما لحاجة أو لغيرها، وهو الغنيّ المطلق، والغير إما عدم العلم، وهو العليم الذي لا يعزب عن علمه مقدار ذرّة، واما قصداً، وهو سفه لا يليق بجناب عزته ثقدس، وتعالى فإن قيل هذا إنما يتم في الكلام النفسي فلم لا يجوز في اللفظي بأن يخلق الأصوات، والحروف الدالة على معنى غير مطابق لا من حيث إنه كلام للغير، ويتعلق بقدرته، وارادته على ما هو المذهب من أنه خالق لكلام العباد صدقها، وكذبها فإنه لا يوجب كونه متكلماً وكاذبا بل من حيث إنه يكون كلاما له ومنسوباً إليه لا إلى الغير كاللفظي من القرآن أجيب بأنه أيضاً نقص لكونه تجهيلاً وإن لم يكن جهلا، ولو سلم ففي الامتناع الشرعي كفاية ولا يخفى أنّ الجواب هو الثاني، وأما الأوّل فليس بشيء. قوله: (فما لكم تفرّقتم في أمر المنافقين الخ) يعني أنّ المقصود إنكار عدم اتفاقهم على كفرهم ثم ذكر سبب النزول، وفيه خمسة أقوال أصحها ما روي عن زيد فالأوّل هو ما رواه الشيخان عن زيد بن ثابت رضي الله تعالى عنه، والاجتواء بالجيم من قولهم اجتويت البلد إذا كرهت الإتامة فيها وان كنت في نعمة وأصل معناه كراهيتها لو خامتها المقتضية للجوى وهو المرض دأء الجوف إذا تطاول، والبدو بمعنى البادية خلاف الحضر والحاضرة، وكونها نزلت في المتحلفين عن غزوة أحد فيه نظر. قوله: (أو في قوم هاجروا ثم رجعوا الخ) في الكشاف، وقيل:؟ ، نوا قوما هاجروا من مكة ثم بدا لهم فرجعوا وكتبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا على دينك، وما- خرجنا إلا لاحتواء المدينة، والاشتياق إلى بلدنا فهم من مشركي مكة، والذي في الحديث الأوّل من غيرهم فلا وجه لما قيل إنه القول الأوّل فلا معنى لإعادته، وقوله: معتلين أي مظهرين لعلة ذلك ووجهه، والحديث الآخر أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما. قوله:) وفئتين حال عاملها الخ) في الدرّ المصون فيه وجهان أحدهما أنه حال من ضمير لكم المجرور، والعامل فيه الاستقرار أو الظرف لنيابته عنه، وهذا القول الأوّل الذي ذكره المصنف
رحمه الله تعالى، وهدّه الحال لازمة لا يتم الكلام بدونها، وهذا مذهب البصريين في هذا التركيب وما شابهه، والثاني وهو مذهب الكوفيين أنه خبر كان مقدرة أي ما لكم في شأنهم إذ كنتم فئتين ورذ بالتزام تنكيره في كلامهم نحو ما لهم عن التذكرة معرضين، وكون العامل الجملة بتمامها لكونها فعلا تأويلاً أي افترقتم لا يخفى أنه مخالف للبصريين والكوفيين، وعمل الجملة مما لا نظير له، ولا داير إليه، وأمّا ما قيل على الأوّل أنّ كون ذي الحال بعضا من عامله غريب لا يكاد يصح عند الأكثرين فلا يكون معمولاً له، ولا يجوز اختلاف العامل في الحال(3/163)
وصاحبها فمن فلسفة النحو. قوله: (حال من فئتين (أي كان صفة له لتأويله بما ذكره فلما قدّم انتصب حالاً أو هو حال من الضمير، والعامل فيه يعلم مما تقدّم، وفيه وجوه أخر في الإعراب. قوله: (ردّهم إلى حكم الكفرة الخ) ما موصولة أو مصدرية، والباء سببية، واختلف في معنى الركس لغة فقيل الرذ كما قال أمية بن أبي الصلت:
فاركسوا في جحيم النار أنهم كانوا عصاة وقالوا الإفك والزورا
أي ردّوا فالمعنى حينئذ رذهم إلى الكفر بعد الإسلام بكسبهم، وهو الوجه الأوّل، وقيل الركس قريب من النكس، وحاصله أنه رميهم منكسين فهو أبلغ من التنكيس لأنّ من يرمي منكسا في هوّة قلما يخلص منها، فالمعنى أنهم بكسبهم الكفر قلب الله حالهم، ورماهم في حفر النيران، وهذا هو الثاني، وقيل: الرك! الرجيع، وفي الحديث: " أنه صلى الله عليه وسلم أتى بروثة فقال أنها ركس " وقيل الأركاس الأضلال، ومنه:
وأركستني عن طريق الهدى وصيرتني مثلا للعدا
قوله: (أن تجعلوه من المهتدين (لأنّ الهداية المتعدية إيصاله، وجعله مهديا، وما قيل:
إنّ المصنف رحمه الله تعالى جعل أن تهدوا بمعنى جعلهم من المهتدين أي وصفهم بالاهتداء، ولم نجده في اللغة بهذا المعنى فلا وجه له. قوله: (ولو نصب على جواب التمني الخ) كذا في الكشاف، وقيل عليه المنقول أن التمني إذا كان بالحرف كليت ينصب جوابه، وأمّا إذا كان
بالفعل كوذ فلم يسمع من العرب، ولم يذكره النحاة وردّ بأنهم لم يريدوا التمني المفهوم من وذ بل المفهوم من لو بناء على أنها للتمني، وفيه نظر، ولا يرد أنه إخبار عن التمني فكيف ينصب في جوابه لأنه لا يمكن أن يكون حكاية لتمنيهم مع جوابه، والأصل لو تكفرون كما كفرنا فنكون نحن وهم سواء، وتكفرون حكاية بالمعنى، وتكونون غلب فيه الخطاب على الغيبة. قوله: (فلا توالوهم الخ) أي لا تتخذوهم أولياء كما في سائر المسلمين، وقوله: حتى يؤمنوا إشارة إلى أنّ الهجرة لله ورسوله صلى الله عليه وسلم مستلزمة للإيمان، ولا يعتدّ بها بدونه، وكانت الهجرة فرضا في صدر الإسلام كما في التيسير، وسبيل الله الطريق الموصلة إليه وهي امتثال أوامره وترك نواهيه، وقوله الظاهر بالهجرة، وفي نسخة المظاهر أي المقوّي، وقوله: أو عن إظهار الإيمان إن أراد إظهار الإيمان بالهجرة فالتفسيران واحد، دمان أراد الإطلاق فهو مخالف لما عليه المفسرون لكن قد يقال إنه علم من قوله حتى يهاجروا قبله فلا حاجة لتكريره، وقوله: رأسا أي بالكلية دائماً، وهذا إمّا من المضارع الدال على الاستمرار أو من التكرار المفيد للتأكيد، وحيث وجدتموهم يعني في الحل والحرم، والأمر بالأخذ لتقدّمه على القتل عادة، والمراد قتلهم ولو بدون أخذ. قوله:) استثناء من قوله فخذوهم الخ) قال الطيبي: أي من الضمير في فخذوهم لا من الضمير في ولا تتخذوا وان كان أقرب لأنّ اتخاذ الوليّ منهم حرام مطلقا، وقوله: والقوم هم خزاعة أي الذين كان بينهم، وبين النبيّ عقي! شنآن كما عرف في السير، والمراد بالاتصاف الانضمام والالتجاء إليهم لا اتصالهم به نسبا على الصحيح، وزيد مناة علم، ومناة اسم صنم أضيف إليه كعبد مناة، وقوله واح بمعنى صالح وصفة قوم بينكم وبينهم ميثاق قيل: وفي قوله عطف على الصلة لطف إيهام فإنّ الصلة يصلون فهي صلة لفظا ومعنى، والظاهر أن المصنف رحمه الله لم يقصده وإنما هو اتفاقي. قوله: (والأول أظهر لقوله
الخ الا شبهة في أنّ عطفه على الصلة أرجح رواية، ودراية لأنه لو عطف على الصفة لكان لمنع القتال سببان الاتصال بالمعاهدين، والاتصال بالكافين، ولو عطف على الصلة كان السببان الاتصال بالمعاهدين، والكف عن القتال لكن قوله: فإن اعتزلوكم يقرّران أحد السببين هو الكف عن القتال لأنّ الجزاء مسبب عن الشرط فيكون مقتضياً للعطف على الصلة فإنه لو عطف على الصفة كان أحد السببين الاتصال بالكافين لا الكف عن القتال فإن قلت لو عطف على الصفة تحققت المناسبة أيضاً لأنّ سبب منع التعرض حينئذ الاتصال بالمعاهدين، والاتصال بالكافين، والاتصال سبب للدخول في حكمهم وقوله: (فإن اعتزلوكم) يبين حكم الكافين لسبق حكم المتصلين بهم.
(قلت) في شرح الكشاف أنه جائز لكن الأوّل(3/164)
أظهر وأجرى على أسلوب كلام العرب لأنهم إذا استثنوا بينوا حكم المستثنى تقريراً، وتوكيداً فيقولون ضرب القوم إلا زيدا فإنه لم يضرب فلو عطف على الصفة كان مثل ضرب القوم إلا جار زيد فإن زيدا لم يضرب حتى يعلم منه أنّ جاره لم يضرب مع ما فيه من فك الضمائر، وقال الإمام جعل الكف عن القتال سببا لترك التعرض أولى من جعل الاتصال بمن يكف عن القتال سبباً لأنه سبب بعيد على أن المتصلين بالمعاهدين ليسوا معاهين لكن لهم حكمهم بخلاف المتصلين بالكافين فإنهم إن كفوا فهم هم والا فلا أثر له. قوله: (وقرئ بنير العاطف على أنه صفة بعد صفة الخ) يرد عليه أنه إذا كان قوله فإن اعتزلوكم يأبى عن عطفه على الصفة، ويجعله مرجوحا، فبطريق الأولى كونه صفة فلم قدّمه هنا، وقد أخره في الكشاف، ويدفع بأن له مرجحا هنا، وهو وقوع الجملة بعد النكرة بدون عاطف فإنه في مثله المعهود إنه صفة فقد عضده معنى آخر فتأمّله وعلى الاستئناف يكون جواباً لسؤال أي كيف وصلوا إلى المعاهدين كذا قيل، والصواب أن يقدر كيف كان الميثاق بينكم، وبينهم كما يؤخذ من الدرّ المصون، وقيل إنّ الأولى تخريج هذه القراءة على حذف العاطف لأنه على الوصفية يقتضي أنه لا بد من اجتماع الوصفين في عدم التعرض لهم، وليس بشيء كما يؤخذ مما مرّ في تقدير السؤال. قوله: (أو بيان ليصلون الخ) قيل عليه البيان لا يكون في الأفعال، وفي الكشاف أو بدلاً وأورد عليه أنه ليس إياه، ولا بعضه، ولا مشتملا عليه وجوابه أنّ الانتهاء إلى المعاهدين، والاتصال بهم حاصله الكف عن القتال فصح جعل مجيئهم إلى المسلمين هكذا بيانا أو بدلاً، وكونه لا يجري في الأفعال لا يقول به أهل المعاني، وهكذا يعلم حال كون حصرت بيانا لجاؤوكم. قوله: (حال بإضمار قد الخ) ويؤيده قراءة الحسن حصرة، وقيل: إنها جملة دعائية ورد بأنه لا معنى للدعاء على الكفار بأن لا يقاتلوأ قومهم بل بأن يقع بينهم اختلاف وقتل، وإذا كان صفة للحال لا حاجة إلى تقدير قد، وما قيل إنّ المقصود بالحالية هو الوصف لأنها حال موطئة فلا بد من قد سيما عند حذف
الموصوف فما ذكر التزام لزيادة الإضمار من غير ضرورة غير مسلم. قوله: (وحصرات) فيه نظر فإنه يجوز أن يكون صفة لقوم سببية لاستواء نصبه وجره، وقد يجاب عنه بأنّ الوصف الرافع لظاهر يوحد أو يجمع جمع تكسير، وجمعه جمع تصحيح قليل فهذا يؤيد الحالية، وفيه نظر وبنو مدلج قوم معروفون من العرب بالقيافة، والحصر بفتحتين ضيق الصدر من الجبن. قوله: (أي عن الخ (أي هو على تقدير الجارّ أو مفعول له مقدر له مضاف، وقوله: بأنه قوّى قلوبهم يعني أنّ التسليط عليهم معناه ما ذكر، والمقصود الامتنان على المؤمنين بأنّ تركهم القتال بسبب أن الله لم يسلطهم، وقذف في قلوبهم الرعب. قوله: (فلقاتلوكم) اللام جوابية لعطفه على الجواب ولا حاجة لتقدير لو وسماها مكيّ، وأبو البقاء لام المجازاة والازدواح، وهي تسمية غريبة وفي الإعادة إشارة إلى أنها جواب آخر مستقل، والسلم بفتحتين الانقياد، وقركما بسكون اللام مع فتح السين، وكسرها، وكأنّ إلقاء السلم استعارة لأنّ من سلم شيئاً ألقاه، وطرحه عند المسلم له وعدم جعل السبيل مبالغة في عدم التعرّض لهم لأنّ من لا يمرّ بشيء كيف يتعرّض له. قوله: (هم أسد الخ) هاتان قبيلتان، وقيل الآية في حق المنافقين، ومرّ تفسير أركسوا وتحقيقه، وقوله: وينبذوا إليكم العهد فسر السلم هنا بالعهد، وهو قريب من الأوّل لما سيأتي، وثقف بمعنى وجد والتمكن من الشيء في قوّة وجدانه، وقوله: مجرّد الكف يعني بدون المعاهدة التي يكون له بها ذمة، وجوز في السلطان أن يكون بمعنى الحجة ومصدراً بمعنى التسلط. قوله: (وما صح له وليس من شأنه) ما كان وما ينبغي يستعملان بمعنى لا يليق، ولا يصح والمراد بنفي الصحة نفي الإمكان دون الصحة الشرعية، والمقصود منه المبالغة، والا فالقتك لا يخرج عن الإمكان، وقيد القتل بغير
حق لأنه هو المنفيئ. قوله: (فإنه على عرضته ونصبه على الحال الخ) معنى كونه على عرضته بضم فسكون وضاد معجمة أي لا يزالون يقعون فيه اضطراراً لأنهم يحاربون، ولا يخلو المقاتل من خطا فلذا ترك القصاص فيه دفعا للحرج وفي نصبه وجوه، وذكر المصنف منها ما ذكر، وتقديره الحال بقوله: في شيء من الأحوال لأنّ الحال في معنى الظرف، وقريب منها كما صرّحوا به فلا يقال إنه يقتضي أنه ظرف لا حال ألا ترى أنّ معنى(3/165)
جئت، والشمس طالعة ووقت طلوع الشمس واحد، وكونه نفيا في معنى النهي ظاهر لأن الشارع إذا قال لا ينبغي كذا فقد نهى عنه. قوله: (والاستثناء منقطع الخ) قال النحرير توهم بعضهم أنه استثناء منقطع لأن المتصل يدل على جواز القتل خطأ وأنّ للمؤمنين ذلك فاختار الزمخشرفي أنه على أصل الاستثناء المتصل، وهو مفرّغ مفعول أو حال أو صفة مصدر مقدر، ولا يلزم جواز القتل خطأ شرعا لأن معناه أن من شأن المؤمن أن لا يقتل إلا خطأ.
(أقول) إن الداعي إلى جعله منقطعا إن ما كان بمعنى لا يصح شرعا، وهذا غير صحيح شرعاً أيضاً، وحينئذ فلا يصح جعله توهما لأنه دائر مع المراد من ما صح نعم كون الاستثناء المفرغ يكون متصلا ومنفصلا لم يذكروه، والظاهره كونه متصلا دائماً فتأمله، وقوله: لا يضامه القصد أي لا يقارنه وقوله، والاستثناء منقطع أبتداء كلام، وليس متعلقا بقيل كما قيل إنه لو جعل متصلا فسد المعنى لأنه لا يطلب من المؤمن ترك القتل في كل حال إلا في حال الخطأ فيلزم أن يكون القتل حال الخطأ مطلوبا، وليس كذلك وما عرّف به الخطأ هو الخطأ الشرعي مما هو حقيقيّ أو في حكمه، وقصة عياش رواها ابن جرير ولها تفصيل في الكشاف، وقوله: ولم يشعر به أي بإسلامه، وقوله: حارث بن زيد وقع في العنكبوت الحرث بن هشام. قوله: (فعليه أو فواجبه الخ) الفاء إمّا جوابية أو زائدة على وجهين، وتحرير إمّا فاعل أي يجب عليه أو مبتدأ خبره محذوف أي فالواجب تحرير الرقبة، والتحرير الاعتاق وأصل معناه جعله حراً أي
كريما لأنه يقال لكل مكرم حز ومنه حر الوجه للخد واحرار الطير، وكذا تحرير الكتاب من هذا أيضا، والرقبة من التعبير بالجزء عن الكل، والنسمة بفتحتين للإنسان، وقيل ة إنها تكون بمعنى الرقيق، وهو المراد هنا قال الراغب أنها في المتعارف اسم للمماليك كما يعبر بالرأس، والظهر عن المركوب فيقال فلان يربط كذا رأسا وكذا ظهرا. توله: (ضحاك بن سفيان الخ) أشيم بشين معجمة وياء تحتية مثناة، والضبابي بضاد معجمة وباء موحدة، وهذا الحديث رواه أصحاب السنن، وهو كما ذكر ووقع في بعض النسخ تحريف من الناسخ والضحاك قال هذا لعمر رضي الله عنه حين قال إنما الدية للعصبة. قوله: (سمي العفو عنها صدقة حثا عليه الخ (لا بدع فيه فإنه لما لزمه وصار في ذمّته صار العفو كهبة الدين لمن هو عليه خصوصا وكل معروت سماه الشارع صدقة كما في حديث الصحيحين الذي ذكره المصنف رحمه الله. قوله:) وهو متعلق بعليه) أي المقدر في قوله فعليه تحرير رقبة أي فعليه تحرير رقبة وتسليم دية إلى أهله في جميع الأحيان إلا حين أن يتصدق أهله بالدية فحينئذ تسقط الدية، ولا يلزم تسليمها وليس فيه دلالة على سقوط النحرير حتى يلزم تقدير عليه آخر قبل قوله ودية مسلمة كذا قال النحرير. قوله: (فهو في محل النصب على الحال الخ) تبع فيه الزمخشري، وقد أورد عليه أنه مخالف لكلام النحاة لأنّ أن والفعل لا يقع حالاً كما صرح به سيبويه رحمه الله لأنّ أن للاستقبال، وهي تنافي الحال، ولو مقدرة، ولا يصح نصب أن والفعل على الظرفية لأنه مخصوص بما المصدرية، والمصدر الصريح فالصواب أنه في محل نصب على الاستثناء المنقطع، وفي وقوع هذا المصدر ظرفا خلاف للنحاة، وقد جوّزه بعضهم كما ذكره ابن مالك، وقوله:) ولم يعلم إيمانه) قيل إنه مذهب الشافعي رحمه الله لا مذهبنا فانظره، وقوله: ولأنهم محاربون معناه أنّ
بينهما اختلاف الدار لأنّ المؤمن منا ولو تركه لكان أولى. قوله:) ولعله فيما إذا كان المقتول الخ) يعني لا يلزم دية بقتل شخص من قوم ومعاهدين إذ يجوز أن يكون غير معاهد، ولا مؤمّن إلا إذا كان معاهد فيلزم الدية للعهد أو سملما، وله وارث مسلم فالظاهر أن يقول أو كان مسلماً، وله وارث مسلم إذ المسلم لا يرث من الكافر ففي عبارته تقصير، وقوله: فعليه الخ إشارة إلى ما مرّ من وجوه الإعراب. قوله: (توبة نصب على المفعول له أي شرع الخ) إنما قدر شرع مجهولاً أو معلوما ليتحد فاعل المعلل، والمعلل ولولاه لجعل العامل الصيام(3/166)
والحالية من الضمير المجرور. قوله: (لما فيه من التهديد العظيم) أي لما في النظم أو الوعيد، وأهل السنة في هذه الآية على أنّ المقصود التغليظ في الزجر فلا حاجة إلى تأوبلها أو تؤول بالحمل على المستحل أو الخلود المكث الطويل، وخلاف المعتزلة في ذلك معروف، ومقيس كمنبر علم. قوله: (سافرتم الخ) ضرب في الأرض بمعنى سافر، وخصه المصنف رحمه الله بالسفر للغزو
لدلالة السياق، والسباق عليه، وقوله: فاطلبوا الخ إشارة إلى أنّ صيغة التفعيل هنا بمعنى الاستفعال كما صرّج به الزمخشريّ، وأهل العربية، وقوله: وثباته إشارة إلى القراءة الآتية وأنهما بمعنى أي لا تعجلوا وتحرّوا وتأملوا، وتحية الإسلام السلام، وكان للجاهلية تحية أخرى كانعم صباحا والقاؤها التلفظ بها، والقاء السلم أي الانقياد إظهاره استعارة كما مرّ، وقوله: متعوّذاً أي ملتجئا إلى إظهار ذلك خوف القتل، وقراءة الكسر قراءة الجمهور والأخرى مروية عن عليّ رضي الله عنه، وقوله: سريع النفاد مأخوذ من تسميته عرضا. قوله: (أي أؤل ما دخلتم الخ) حصن الدماء عدم سفكها، والمواطأة الموافقة، وقوله: فإنّ بقاء ألف كافر لأنه قد لا يأثم به بخلاف القتل، وجعل الأمر مكرّرا لكنه متغاير باعتبار ترتبه على ما ذكر من حالهم المقتضية له فهو آكد، وقيل: إنه غير مكرّر لتقدير الأوّل تبينوا أمر من تقتلونه، والثاني تبينوا نعمة الله عليكم. قوله: (فلا تتهافتوا الخ) التفاوت الوقوع والتساقط، وفي الدرّة أنه لا يستعمل إلا في الشرّ، وفدك بفتح الدالط قرية بخيبر، وألجأ غنمه إلى عاقول أي ساقها، والعاقول الغار وأسامة بن زيد وغنيمة تصغير غنم للتقليل وقوله، وقال ودّ لو فرّ أي ليس إتيانه بكلمة التوحيد إلا لينجو بها حتى يفرّ بأهله وماله منا. قوله: (وفيه دليل على صحة للمان المكره الخ) وجه الدلالة أنه مع ظنهم أن إسلامه لخوف القتل، وهو إكراه أنكر عليهم قتله فلولا صحة إسلامه لم ينكر ووجه الدلالة على خطا المجتهد أمره بالتثبت المشعر بأن العجلة خطأ ووجه العفو عنه مأخوذ من السياق، وعدم الوعيد على ترك التثبت، ومن المؤمنين حال كما ذكره،
ومن فيه إمّا بيانية أو تبعيضية. قوله: (بالرفع صفة للقاعدين الخ) قرئ غير بوجوه ثلاثة فالرفع على أنه صفة القاعدون، وهو وان كان معرفة، وغير لا تتعرف في مثل هذا الموضع لكنه غير مقصود به قاعدون بعينهم بل الجنس فأشبه النكرة فصح وصفه بها قيل والأحسن أن يعرب بدلاً منه لأنّ أل موصولة، والمعروف إجراؤه في المعرف بالألف، واللام، وبينهما فرق وجوّز الزجاج في الرفع الاستثناء فتأمّل، وقيل غير معرفة هنا لأن المعرفة لا توصف بالنكرة وان أريد بها الجنس، وإنما توصف بجملة فعلية مضارعية، والنصب على الحالية، وهو نكرة لا معرفة كما قيل، وأما أنّ النكرة لا تبدل من المعرفة إلا موصوفة فأكثري لا كليّ أو غير للاستثناء ظهر إعراب ما بعدها عليها وابن أتم مكتوم صحابي أعمى مشهور رضي ألله تعالى عنه، وقوله: فغشى رسول الله صلى الله عليه وسلم الخ. أي عرض له ونزل عليه، وكان في بعض أحيانه لا يتمثل له الملك وإنما يصيبه برحاؤه حتى كان مغشى عليه وكان يثقل بدنه فيه، وترضها بمعنى تكسرها، وسرّى مجهول مشدد الراء بمعنى انكشف عنه ذلك الحال وقوله: (وعن زيد (رواه البخاري وأصحاب السنن، ومثل الضرر أو هو داخل فيه عدم الاستطاعة المالية ونفي الاستواء، وان كان معلوماً للحث على الجهاد ليأنفوا عن تركه كقوله: {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [سورة الزمر، الآية: 9] كما ذكره الزمخشري، ويعلم من نفي المساواة بين المجاهد بالمال، والنفس نفيها بين المجاهد بأحدهما ونفي المساواة يستلزم التفضيل لكن لم يكتف بما فهم ضمناً فصرّح به بعده اعتناء به، وليتمكن أشد تمكن ولذا لم يعطف جملتها لأنها مبنية موضحة له كما سيأتي في الكشاف أن يكون جواب سؤال(3/167)
أي ما بالهم لا يستوون، والأنفة بفتحتين الترفع وعدم الرضا به. قوله:) على
التقييد السابق الخ (لأنه مبين له والمبين عين المبين فيقيد بما قيد به من الإيمان، وعدم الضرر لكنه ترك للعلم به مما مرّ قيل ولأنه أعيد معرفة، وإنه إشارة إلى ردّ ما سيأتي من تغاير القاعدين فيهما وفيه نظر، وتضمن الدرجة التفضيل لأنها المنزلة والمرتبة، وهي تكون في الترقي والفضل فوقعت موقع المصدر كضربته سوطاً أي بسوط.
قوله: (المثوية الحسنى) المثوبة الثواب، وقدرها للتأنيث في الحسنى وقوله: (وإنما التفاوت الخ) قيل هذا يقتضي تفضيل المجاهدين على أولي الضرر باعتبار العمل، ولا محذور فيه مع أنّ قوله لا يستوي القاعدون غير أولي الضرر يقتضي تساوي أولي الضرر والمجاهدين إلا أن يقال التساوي لا يلزم أن يكون من كل الوجوه فالتساوي في النية، والعزم على بذل المال، والنفس لو قدر يكفي فيه كما في الحديث أنه لما رجع من تبوك قالءكييه: " لقد تركنا بالمدينة أقواماً ما قطعنا وادياً ولا وطئنا موطئاً إلا شركونا في دّلك " ولذا قال النيسابوري أنهما متساويان فتأمّل. قوله: (نصب على المصدر الخ (فضل بمعنى أعطي الفضلى، وهو أعمّ من الأجر لأنّ الأجر يكون في مقابلة أمر فأريد به الأخص لأنه في مقابلة الجهاد فلذا جعلهما بمعنى أو هو أعم لكن نصب المفعول لتضمنه معنى الإعطاء، ويكون ذلك الإعطاء فضلا أي زيادة على أجر غيرهم لبقاء معناه الأصلي فلذا قال، وأعطاهم زيادة، وفيه وجه آخر ذكره بعيدة، وهو أنه صفة درجات النكرة قدمت عليها فانتصبت على الحال، وأورد عليه أنه كيف يكون صفة لدرجات، وهو لا يطابقه لأفراده وأجيب بأنه مصدر في الأصل يستوي فيه الواحد، وغيره فيجوز نعت الجمع به. قوله: (كل واحد منها بدل الخ (تسمح فيه بجعل المعطوف على البدل بدلاً، والمراد أنّ كلا منها يصلح لأن يكون أجرا، ونصبه على المصدر لتأويله، ولذا مثل له بأسواطا وعلى هذا الوجه جعل ما بعده منصوبا بفعل مقدر أي غفر لهم مغفرة، ورحمهم رحمة لأنه وان صح عطفه على أجراً من جهة المعنى لكن فيه تخلل ذي الحال بين الأحوال المتعاطفة.
تنبيه: إن قلت لم نصبه السبعة هنا إذا لم يرفعه إلا الحسن في تراءة شاذة وقرأ ابن عامر
في الحديد وكل وعد الله بالرفع مع أنّ حذف العائد في نحو زيد ضرب مخصوص بالشعر عند ابن الشجري.
قلت: أجابوا عنه بأنّ قبله فعلية هنا وهي قوله فضل الله الخ. بخلاف ما في الحديد فلذا
رفعه ابن عامر ونصب هنا كما في أمالي ابن الشجري إلا أنّ قوله حدّف العائد مخصوص بالشعر غير صحيح مع منافاته لما قرّره. قوله: (كرر تفضيل المجاهدين الخ (في الكشاف فضل الله المجاهدين جملة موضحة لما نفى من استواء القاعدين، والمجاهدين كأنه قيل ما لهم لا يستوون فأجيب بذلك والمعنى على القاعدين غير أولي الضرر لكون الجملة الأولى بيانا للجملة المتضمنة لهذا الوصف، ثم قال أما المفضلون درجة واحدة فهم الذين فضلوا على القاعدين الأضراء، وأمّا المفضلون درجات فالذين فضلوا على القاعدين الذين أذن لهم في التخلف اكتفاء بغيرهم لأنّ الغزو فرض! كفاية.
(أقول) هذا من مشكل هذا الكتاب لتناقضه فإنه قال فيما سبق أن المفضلين درجة الذين ذكرهم الله هم المفضلون على القاعدين غير أولي الضرر وقال ثانياً إنّ معناه على القاعدين الإضراء، وهذا هو الذي نقله المصنف رحمه الله رابعاً بصيغة التمريض، وأيضا مفهوم الصفة أو الاستثناء في غير أولي الضرر يدلان على التساوي بين المجاهدين، والإضراء، كذا سبب النزول صريح في أنّ المقصود استثناء قوم لم يقدروا على الجهاد، وإثبات المساواة لهم فكيف يفضلوا عليهم درجة، وأيضاً لأوجه لو عد غير الإضراء بالجنة إذ لا عمل لهم ولا نية، والجواب عما عدا التناتض بأنّ المساواة في النية، وما عدا العمل أو أنهم لما فهموا من نفي الاستواء البون البعيد قيد بغير أولي الضرر يعني أنّ البون البعيد بينهم، وبين غير أولي الضرر، وأما هما فبينهما فرق يسير ودرجة واحدة، ولذا تممه بقوله وكلا الخ إشارة إلى تساويهما في غير تلك الدرجة، وبأنّ وعد غير الإضراء لكون تخلفهم بالإذن، وفيه نظم أحوال عيال المجاهدين، وحفظ المدينة، وأما التناقض فقد دفع بوجوه متكلفة لا يمكن تطبيقها على كلامه إلا بارتكاب أمور يمجها السمع(3/168)
وقد فصلها النحرير في شرحه وأشار إلى أنه لم يرض بشيء منها، وعندي أنّ أقرب ما يقال في التوفيق أنّ ضرر أولي الضرر قسمان قسم مانع لتكليف الجهاد بالذات كالعمى، والزمانة ونحوه من العاهات، ومنه أخذ الضرير لفاقد البصر، وهو كناية كما ذكره الراغب، وجمعه أضرّاء، وقسم عارض يعسر معه الغزو كمرض أهل، وما شاكله فالمراد بغير أولي الضرر القسم الثاني لأنه المتبادر من الضرر ويعلم منه القسم الأوّل بالطريق الأولى، وهو المراد بالمصرّج به في النظم فينطبق على سبب النزول، وإذا نفى قد يقصد نفيه بهذا المعنى فقط فيصح حينئذ أن يكون الإضراء، وما في حكمهم غير ذوي الضرر لأن ضررهم ليس بعرضيئ وبصح أن يقال المراد بالقاعدين من غير أولي الضرر الإضراء بقرينة تسويتهم في وعد المثوبة، وجعل التفاوت بينهم درجة واحدة، وأمراً يسيراً، وقد يقصد بنفيهم نفي ما يلزمه، ويعلم حكمه منه بالطريق الأولى بقرينة جعل التفاوت بينهم بدرجات كثيرة، وتخصيص! غيرهم بالرحمة، والغفران، وهذا أقرب من جعل أوّل كلامه مبنيا على وجه، وآخره
على آخر، وهو أن يكون قوله تعالى: {فَضْلُ اللَّهِ} الخ. جملة استئنافية فإنه لما حكم بالتفاوت بين المجاهدين، والقاعدين غير الإضراء كان سائلاَ يقول فما حال المجاهدين بالنسبة إلى الإضراء، وغيرهم فذكر فضل، وفضل لتفصيل تفضيلهم، وأنه فضلهم على الإضراء درجة، وعلى غير الإضراء درجات لأنه ليس في كلامه ما يدل عليه، والمصنف رحمه الله لما رأى ما فيه تركه، واختار أنّ القاعدين مقيد في الجميع بقيد واحد وأنه كرّر فيه التفضيل للتأكيد، وذكره مرة مجملاً لإيهام الحسنى فيه ووحد الدرجة في الإجمال وجمعها في التفصيل مع زيادة الرحمة، والمغفرة والأجر العظيم، ومن الإجمال والتفصيل أنه نفى عنهم المساواة فاقتضى ذلك التفضيل، ثم صرّح به. قوله: (وقيل الأوّل ما خوّلهم الخ) يعني بعض المفسرين لم يجعل التفضيل مكرّرا وغاير بينهما بأن جعل الأوّل مالهم من الفضل الدنيوي والثاني الأخروي، ولذا وحد الأوّل وجمع الثاني لأنّ الأجر الدنيوي قليل في جنب الأخروي وخوّلهم بخاء معجمة وواو مثذدة، ولام بمعنى أعطاهم، وأصله إعطاء الخول والعبيد وقوله: (وقيل المراد بالدرجة الخ) يعني المراد بالتفضيل الأوّلط رضوان الله ونعيمه الروحاني، والثاني نعيم الجنة المحسوس. قوله:) وقيل القاعدون الخ) هذا ما ذكره الزمخشريّ، وقد مرّ ما فيه، وقوله: اكتفاء بغيرهم لأنه فرض كفاية كما مرّ وارادة جهاد النفس يأباه السياق، وسبب النزول، ولذا أخره، وقال المحدثون هذا لا أصل له، وقوله: يفرط منهم أي يصدر عنهم، وأصل معناه السبق فتجوز به لمطلق الصدور. قوله: (يحتمل الماضي الخ (وعلى الأوّل ترك التأنيث لأنّ فاعله غير مؤنث حقيقي، وعلى الثاني هو لحكاية الحال الماضية، وبهذا الاعتبار كان
ظالمي أنفسهم بمعنى الحال، وإضافته لفظية فوقع حالاً وأصله تتوفاهم فحذفت إحدى التاءين تخفيفاً، وفسر توفي المجهول بتمكن من الاستيفاء أي القبض، والأخذ وقوله في حال ظلمهم إشارة إلى أنه حال كما مرّ، وكانت الهجرة واجبة في صدر الإسلام ثم نسخت بعد الفتح، وفي الحديث لا هجرة بعد الفتح أي فتح مكة، وقيل إنها تجب الآن من بلد لم يقم فيه شعائر الدين كما في الكشاف، وهو مذهب سيدنا مالك وسيأتي، وفي كتاب الناسخ والمنسوخ أنها كانت فرضا في صدر الإسلام فنسخت وبقي ندبها وبه يجمع بين الأحاديث كالحديث الذي ذكره المصنف رحمه الله، وقوله: نزلت في ناس الغ رواه الطبري. قوله: (توبيخاً لهم (إشارة إلى جواب ما قيل السؤال لا يطابق الجواب لأن الظاهر كنا في كذا أو لم نكن في شيء فأشار إلى أن محصل السؤال توبيخهم على ترك الهجرة، والجواب اعتذار عنه بعجزهم. قوله: (تكذيباً لهم الخ (فإنهم كانوا قادرين على الهجرة فكذبوهم أو قصدوا توبيخهم، وهما متقاربان وقطر بمعنى جانب، والهجرة إلى الحبشة هي الهجرة الأولى للصحابة، وهي معروفة في السير والحبشة كالحبش بفتحتين جنس من السودان أطلقت على محلهم مجازاً كما هنا. قوله: (لتركهم الواجب) يعني الهجرة، ومساعدة الكفار بالإقامة معهم، وفي خبر أن هنا أقوال منها ما ذكره المصنف رحمه الله، وقيل: هو محذوف تقديره هلكوا ونحوه، والمراد بقالوا أي الأول لأن ما بعده جواب، ومراجعة لا يصح(3/169)
معنى كونه خبراً فمن قال لو جعل الخبر قالوا الثاني لم يحتج إلى تقدير عائد فقد وهم، وقوله: مستنتجة أي واقعة موقع النتيجة التي تعطف بالفاء. وتهاجروا منصوب في جواب الاستفهام. قوله: (مصيرهم الخ (يعني أنّ ساء من باب نعم كما مرّ والمخصوص بالمدح مقدر كما ذكره، وقد مرّ مثله والحديث المذكور أخرجه الثعلبي عن الحسن مرسلالم 2 (، واستوجبت معناه وجبت، وحقيقته طلبت له الوجوب، وروي معلوماً
ومجهولاً ووجه دلالة الآية ظاهر، ولذا قيل حكم الندب باق فيها، وقوله: رفيق أبيه إبراهيم عليه الصلاة والسلام بناء على أنّ الخطاب للعرب، وأكثرهم ولد إسماعيل لمج! ، وأمّا جعل ضمير أبيه للنبيّ صلى الله عليه وسلم فليس بشيء وخصا بالذكر لأنّ كلا منهما له هجرة قال تعالى حكاية عن إبراهيم صلى الله عليه وسلم إني مهاجر إلى رني وهو أوّل من هاجر، والهجرة من بلاد الكفار، وبلاد لا يقام بها شعائر الإسلام واجبة كما نقله ابن العربي المالكي رحمه الله قال وكذا البلاد الوبية. قوله: (استثناء منقطع الخ) في هذا الاستثناء قولان أحدهما أنه متصل، والمستثنى منه أولئك مأواهم جهنم إلا المستضعفين، والثاني أنه منقطع لأنّ الموصول، وضمائره والإشارة إليه بأولئك لمن توفتة الملائكة ظالما لنفسه من العصاة بالتخلف كما قاله المفسرون، وهم القادرون على الهجرة فلم يندرج فيهم المستضعفين فكان منقطعاً، ومن الرجال الخ حال من ألمستضعفين أو من الضمير المستتر فيه. قوله: (وذكر الولدان الخ) قد تدمنا معنى الولدان، وهذا دفع لسؤال يتوهم، وهو أن الولدان بمعنى الصغار غير المكلفين فما فائدة إخراجهم من الوعيد والتهديد فإن كانوا بمعنى العبيد والإماء فلا إشكال، والا فالقصد إلى المبالغة في وجوب الهجرة والأمر بها حتى كأنها مما كلف به الصبيان أو المراد بهم من قرب عهده بالصغر مجازاً كما مرّ في اليتامى. أو أن تكليفهم عبارة عن تكليف أوليائهم بإخراجهم من ديار الكفر أو المراد التسوية بين هؤلاء في عدم الإثم، والتكليف أو أنّ العجز ينبغي أن يكون كعجز الولدان. قوله: (صفة للمستضعفين الخ) المراد بالتوقيت التعيين بأن يكون للعهد لأنّ المراد به الجنس وهو في المعنى كالنكرة توصف بما توصف به، وفي الكشاف أنّ أل هذه حرف تعريف للجنس، وهو بناء على أنّ الداخلة على اسم الفاعل الذي لم يقصد به الحدوث ليست موصولة، وقيل الأولى أن تجعل بيانا للمستضعفين وكلمة الأطماع عسى ويترصد ليس من مدخول النفي، وتعليق قلبه
لأنه من شأن المترجي. قوله: (متحوّلأ من الرغام الخ) أي هو اسم مكان يتحوّل إليه أو يسلكه. قوله: (وقرئ يدركه بالرفع) وخرجه ابن جني كما نقله السمين على إضمار هو أي ثم هو يدركه فالاسمية معطوفة على الفعلية الشرطية قال: وعلى ذلك حمل يون! رحمه الله قول الأعشى:
إن تركبوا فركوب الخيل عادتنا أو تنزلون فإنا معشر نزل
أي أو أنتم تنزلون.
) قلت) فالاسمية في محل جزم وان لم يصح وقوعها شرطا لأنهم يتسمحون في التابع
وانما قدروا المبتدأ ليصح رفعه مع عطفه على الشرط المضارع، وجعل الفعل خبرا تسمح شائع لأن الخبر الجملة، وما قيل على تقدير المبتدأ يجب جعل من موصولة لأنّ الشرط لا يكون جملة اسمية إذ لو جعلت شرطية لم يحتج إلى تقدبر، والأولى أن يرفع على توهم الموصولية خبط، وغفلة عن كلامهم وخرجها الزمخشرفي على وجه آخر، وهو أنه نوى الوقف فنقل حركة الهاء إلى ما قبلها كقولهن:
من عنزيّ سبني لم أضربه
ثم أجرى الوقف مجرى الوصل فضم الهاء اتباعاً، وحركها، وتركه المصنف رحمه الله
لأنه مما بابه الشعر. قوله: (وبالنصب على إضمار أن الخ) هي قراءة شاذة عن الحسن البصري رحمه الله، والنصب بعد الواو يكون في جواب الأمور الثمانية كما فصل في النحو، وما عداها قالوا إنه ضرورة والنصب في الآية جوّزه الكوفيون لأمور أخر، وهو أن الفعل الواقع بين الشرط، والجزاء يجوز فيه الرفع والنصب، والجزم إذا وقع بعد الواو والفاء كقوله:
ومن لايقدم رجله مطمئنة فيثبتهافي مستوى القاع يزلق(3/170)
وقاسوا عليهما ثم فليس ما ذكر في البيت نظيرا للآية. قوله: (وألحق الخ) هو من شعر
سأترك منزلي لبني تميم وألحق بالحجاز فأستريحا
وفي الكشف وجهه أنه مستقبل مطلوب فجرى مجرى الأمر، ونحوه وكذلك المقصود
من الآية الحث على الخروج، وهو في الآية أقوى لأنّ الشرط شديد الشبه بغير الموجب، وقيل: إنه من عطف المصدر على المصدر المتوهم مثل أكرمني، وأكرمك أي ليكن منك إكرام ومني، وهذا الشعر للمغيرة الحنظلي وروي لأستريحا فلا شاهد فيه، ومعنى الآية أنّ من هاجر لله، ولرسوله صلى الله عليه وسلم فأدركه الموت في طريقه فأجره على الله، وكذا كل من سار لأمر فيه ثواب. قوله: (الوقوع والوجوب الخ) يعني أصل معناهما السقوط قال تعالى: {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} [سورة الحج، الآية: 36] ثم استعملا بمعنى وهو اللزوم، والثبوت، ومنهم من لم يفهم هذا وظنه مشكلاً قال الراغب الوقوع هنا تأكيد للوجوب فأعرفه والوجوب على الله بمقتضى وعده وتفضله مذهبنا لا الوجوب العقلي الذي ذهبت إليه المعتزلة. قوله: (والآية الكريمة نزلت الخ) أخرجه ابن جرير عن سعيد بن جبير رضي الله عنه، واختلف في اسمه فقيل ضمرة بن جندب، وقيل جندب بن ضمرة وصحح هذا في ألاستيعاب، وفي الإصاية وفي اسمه عشرة أقوال منها ضمرة ابن القيس صحابيّ كان أعمى وله مال وسعة، وهذه نزلت فيه خاصة كما رواه ابن حجر في الإصابة، وقيل: نزلت في أكثم بن صيفي لما أسلم، ومات، وهو مهاجر قاله ابن الجوزي رحمه الله، وكان بلغه هذا النهي وهو بمكة لما بعث النبيّ صلى الله عليه وسلم بهذه الآية إلى مسلمي مكة فقال لبنيه احملوني فإني لست من المستضعفين، واني لأهتدي الطريق واني لا أبيت الليلة بمكة فحملوه على سرير متوجها إلى المدينة، وكان شيخاً كبيراً فمات بالتنعيم، ولما أدركه الموت أخذ يصفق الخ، والتنعيم اسم موضع قريب من مكة، وقوله: هذه لك إشارة إلى اليمين وهذه إلى الشمال لا على قصد اعتقاد الجارحة لله بل على سبيل التصوير، وتمثيل مبايعة الله على الإيمان، والطاعة بمبايعة رسول الله صلى الله عليه وسلم إياه، وقيل: إشارة إلى البيعة والصفقة، والمعنى أنّ بيعته كبيعة رسول الله صلى الله عليه وسلم لا كبيعة الناس، ولما بلغ خبر موته الصحابة رضي الله عنهم قالوا: ليته مات بالمدينة فنزلت هذه الآية. قوله: (ونفي الحرج فيه الخ (هذا مما اختلفوا فيه هل القصر عزيمة فلا يجوز الإتمام أم رخصة فيجوز ذهب أبو حنيفة رحمه الله إلى الأوّل مستدلاً بأنّ الرباعية فرضت أوّلاً ركعتين ركعتين، ثم زيد عليها في الحضر، وأقرّت في السفر كما رواه
الشيخان عن عائشة رضي الله عنها، وذهب الشافعي رحمه الله إلى الثاني وأنه رخصة فيجوز الإتمام والإتيان بالعزيمة، وظاهر قوله فليس عليكم جناح معه، وأجابوا عن الحديث بأنه لو كان على ظاهره لما جاز لعائشة رضي الله عنها إتمامها مع أنه روي عنها مع أنه خبر واحد لا يعارض القرآن الصريح في أنها كانت زائدة عليه إذ القصر معناه التنقيص، والحديث مخصوص بغير المغرب، والصبح وحجية العامّ المخصوص مختلف فيها وقد خالفت عائشة رضي الله عنها روايتها، وإذا خالف الراوي روايته في أمر لا يعمل بروايته فيه، وقيل قولها فرضت الصلاة ركعتين الفرض هنا بمعنى البيان، وقد ورد بهذا المعنى {فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [سورة التحريم، الآية: 2] وقال الطبري معناه فرضت لمن اختار ذلك من المسافرين فإن قيل هل يوجد فرض بهذه الصفة قلنا: نعم كالحاج فإنه مخير في النفر في اليوم الثاني، والثالث وأيا فعل فقد قام بالفرض، وكان صواباً، وقال النووي رحمه الله المعنى فرضت ركعتين لمن أراد الاقتصار عليهما فزيد في الحضر ركعتان على سبيل التحتم، وأقرت صلاة السفر على جواز الإتمام، وثبت دلائل الإتمام فوجب المصير إليه جمعا بين الأدلة، وحديث عائشة رضي الله عنها أخرجه النسائي، والدارقطني وحسنه والبيهقي، وصححه والتمسك بظاهر الآية يقتضي أنّ الإتمام أفضل عنده، وحديث عمر رضي الله عنه أخرجه النسائي، وابن ماجه. قوله:) ولقول عائشة رضي الله عنها الخ) أخرجه الشيخان، وقد مرّ ما فيه وا! النظم ولفظ القصر، وعمل الراوي يخالفه، والعبرة به عند الحنفية فقد تعارض رأيها وروايتها فلا يعمل بها، وقد قيل إنها أوّلت ما روت فلا تعارض بينهما قال(3/171)
ابن حجر رحمه الله، والذي يظهر لي في جمع الأدلة أنّ الصلاة فرضت ليلة الإسراء ركعتين ركعتين إلا المغرب ثم زبدت عقب الهجرة إلا الصبح كما رواه ابن خزيمة وابن حبان، والبيهقي عن عائشة رضي الله عنها وفيه وتركت الفجر لطول القراءة، والمغرب لأنها أوتر النهار، ثم بعدما استقرّ فرض الرباعية خفف منها في السفر عند نزول الآية، ويؤيده قول ابن الأثير رحمه الله أنّ القصر كان في السنة الرابعة من الهجرة، وهو مأخوذ من قول غيره أنّ نزول آية الخوف كان فيها، وقيل القصر كان في ربيع الآخر من السنة الثانية ذكره الدولابي، وقال السهيلي: أنه بعد الهجرة بعام أو نحوه، وقيل: بعد الهجرة بأربعين يوماً فعلى هذا قول عائشة رضي الله عنها: " فأقرت صلاة السفر " أي باعتبار ما آل
إليه الأمر من التخفيف لا أنها استمرّت منذ فرضت فلا يلزم من ذلك أنّ القصر عزيمة انتهى، ويدل على أنه رخصة حديث صدقة تصدّق الله بها عليكم الآتي وأما أنّ حديث عائشة رضي الله عنها غير مرفوع لأنها لم تشهد فرض الصلاة فغير مسلم لجواز أنها سمعته من النبيئ مج! يوو، ويرد على ما جمع به ابن حجر رحمه الله أنها لو كانت قبل الهجرة ركعتيى لاشتهر ذلك، وعلى كل حال فهو أمر صعب. قوله: (فإن صحا الخ الا يخفى أنهما صحيحان مخرّجان في السنن فلا يليق التردّد فيه كما مرّ، والمراد بالآوّل حديث عمر رضي الله عنه فقوله تامّ أي مجزئ إجزاء التام الغير المقصود والثاني حديث عائثة رضي الله عنها يعني أنّ ذكرها الركعتين لا ينفي الزيادة بناء على أنّ العدد لا مفهوم له ولا يخفى بعده، ثم أشار إلى جواب أبي حنيفة رضي الله عما في النظم مما يدل على خلاف مذهبه. قوله: (أربعة برد عندقا الخ) برد بضمتين جمع بريد، وهو اثنا عشر ميلاً كل ميل اثنا عشر ألف قدم، والفرسخ ثلامة أميال وكانوا يبنون ربطاً في الطريق يسمونها السكك بين كل سكتين اثنا عشر ميلا، وثمة بغافى معلمة بخلاف الأذناب، ويسمون كل واحد منها بريداً وهي كلمة فارسية أصلها بريده دم أي محذوف الذنب، ثم سمي الراكب به، والمسافة، وزيادة من في الإثبات مذهب الأخفش، وغيره يأباه، ومن عنده تبعيضية لأنّ المقصور بعض الصلاة، وهي الرباعية. قوله: (شريطة باعتبار النالب الخ الما كان ظاهره أن القصر إنما يكون في حال خوف العدوّ أشار إلى أنه شرط جرى على الغالب فلا مفهوم له كما في الآية المذكورة أو أنّ ثبوته في الأمن ثابت بالسنة وقوله: (كراهة الخ) يعني أنه مفعول له بتقدير مضاف وهو ضمير الفتنة، وذكر باعتبار الخبر أو لأنه مصدر. قوله: (لا يعتبر مفهومها الخ) قال المحقق الفناري في فصول البدائع فيه بحث لأنه ورد في الحديث أنّ عمر
رضي الله عنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم كيف تقصر ونحن آمنون فقال له صلى الله عليه وسلم: " صدقة تصدّق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته " فإن كان له مفهوم، ولذا أشكل على عمر رضي الله عنه فكيف يقال لا مفهوم له، وان لم يكن له مفهوم فكيف أشكل على عمر رضي الله عنه، وهو من أهل اللسان، وأجاب بما محصله أنّ له مفهوما، ولكن لما كان الغالب في السفر هو الخوف جعل النادر كالمعدوم كما يدل عليه جوابه صلى الله عليه وسلم، ولذا قال المصنف لم يعتبر مفهومها ولم يقل لا مفهوم لها فاعرفه فإنه من دقائق هذا الكتاب. قوله: (ثعلق بمفهومه الخ التقييده بكونه فيهم، وبين أظهرهم، وهي على خلاف القياس فيقتصر فيها على مورد النص، والجمهور على خلافه لما ذكر. المصنف رحمه الله، وممن خصها بحضرته أبو يوسف رحمه الله كما نقله الجصاص في كتاب الأحكام والنوويّ في شرح المهذب فقول النحرير أنه لم يوجد في كتب الفقه، والخلافيات قصور في التتبع، وحضرة الرسولءجير إمّا بمعنى حضوره في عهده أو هو مقحم للتعظيم، وتجاه العدوّ بالضم بمعنى في مقابلته. قوله: (أي المصلون حزما الخ) الحزم بالمهملة الاحتياط فعلى هذا الضمير للمصلين، والمراد بالأسلحة ما لا يشغل عن الصسلاة كالخنجر والسيف فإن كان الضمير للطائفة الأخرى فلا تقييد، وهو خلاف الظاهر، ولذا أخره. قوله: (أي غير المصلين الامتناع أن يكون الحارسون حال سجود المصلين هم المصلين أنفسهم وفيه نظر إذ لا دلالة على أنّ ذلك حال السجدة بل بعد الفراغ منها على ما قيل إنّ مراده بغير المصلين الفارغون من السجود والذاهبون إلى العدوّ، والحق أنّ الإظهار في طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك دليل على(3/172)
أنّ الطائفة الأولى قد فعلوا، والثانية يصلون معه لا منفردين كذا قال النحرير، وقيل عليه أن ظرفية إذا تدل على أن الحراسة وقت السجود إلا أن يقال وقت السجود ممتدّ وقوله: (فغلب المخاطب (أي النبيّ عتمرو على الغائب، وهو من معه، وأصله من ورائك وورائهم.
قوله: (ظاهره يدل على أنّ الإمام يصلي الخ) في كيفية صلاة الخوف روايات، وطرق
مفصلة في الفقه، والحديث أشار إليها المصنف رحمه الله وصلاته صلى الله عليه وسلم ببطن نخل، وهو اسم مكان رواها الشيخان. قوله: (جعل الحذر) وهو التحرّز الخ يعني اق الحذر أمر معنوفي لا يتصف بالأخذ إلا إذا جعل استعارة بالكتاب إذ شبه بما يتحصن به من الآلات، وأثبت الأخذ له تخييلا، ولا يضر عطف الأسلحة عليه للجمع بين الحقيقة، والمجاز لأنّ التجوّز في التخييل في الإثبات، والنسبة لا في الطرف على الصحيح، ومثله لا بأس فيه بالجمع كما في قوله تعالى: {تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ} حيث جعل الإيمان لتمكنهم فيه بمنزلة المقرّ، والمسكن لكنه قدم فيه الحقيقي بخلاف ما نحن فيه وفيه بحث لأنه يلزم فيه التصريح بطرفي المكنية لأن الحذر منزل منزلة السلاح، ولذا قيل إنه وأمثاله من المشاكلة، وليس استعارة، ويدفع بأنه لم يشبه بالسلاح بل بما يتحصن به، وهو أعم فتأمّل، وقد تقدم أن للحذر معنى آخر، وهو ما يدفع به فلا تجوّز فيه فتذكره. قوله: (تمنوا أن ينالوا منكم غرّة الخ) الغرّة بالكسر الغفلة عن العدوّ، والشدّة والجملة بمعنى، وهو الوثوب للقتال دفعة واحدة، وقوله، وهذا مما يؤيد الخ لأنه لم يرخص فيه إلا بعذر وأمرهم بالحذر بعد إلقاء السلاح، ولذا لم يضمه إليه كما في الذي قبله لأنه محل الخوف. قوله: (وعد للمؤمنين بالنصر الخ الما كان الغالب من حال أن الواقعة بعد
الأمر، والنهي أن تكون للتعليل وتغني غنى الفاء، وهو لا يظهر هنا أشار إلى توجيهه بأنه لدفع الوهم الناشئ من الأمر قبله لتقوي قلوبهم ويعلموا أن التحرز في نفسه عبادة كما أن النهي عن إلقاء النفس في التهلكة لذلك لا للمنع عن الإقدام على الحرب، ولدّا فسر العذاب بمغلوبية العدوّ، وقتلهم ليتم به الالتئام، وقوله: فيتوكلوا إشارة إلى أن ما ذكر لا ينافي التوكل كما في الحديث أعقلها وتوكل. قوله: (أديتم وفرغتم منها) هذا التفسير على مذهب أبي حنيفة رحمه الله من أنه لا يصلي حال المحاربة فالقضاء بمعنى الأداء قال الأزهريّ: القضاء على وجوه مرجعها إلى انقطاع الشيء، وتمامه فكل ما أحكم عمله، وأتم وختم أو أدى أو أوجب أو أعلم أو أنفذ أو أمضى فقد قضى فهو مشترك بين هذه المفهومات، وقوله: (او إذا أردتم (الخ تفسير له على مذهبه من الصلاة حال المحاربة، والمسايفة بالفاء مفاعلة من السيف أي المقاتلة به، والمقارعة المقاتلة بالرماح والمراماة بالسهام، ومثخنين بمعنى مجروحين مثقلين بالجراح من أثخنه المرض أثقله وأوهنه. قوله: (فعدّلوا واحفظوا الخ أليس المراد بإقامة الصلاة إعادتها كما هو أحد قولي الشافعيّ، وعلى القول الآخر فسرت الإقامة بالإعادة. قوله: (فرضاً محدودا لأوقات الخ (يعني كتابا بمعنى مكتوبا مفروضاً وموقوتا محدوداً ووجه الدلالة على أن المراد بالذكر الصلاة لا ظاهره كما هو تفسير أبي حنيفة رحمه الله أنه تعليل للأمر بالذكر فلو لم يكن بمعنى الصلاة لم يلتئم، وكونها واجبة يؤخذ من كتابتها فإنها بمعنى الفريضة، وهي والواجب بمعنى عند.. قوله: (إلزام لهم وتقريع الخ) وهو من بليغ النظام، وقد وقع مثله في كلامهم،
وبدر الصغرى من غزواته ع! ي! معروفة في السير. قوله: (نزلت في طعمة بن أبيرق(3/173)
الخ (طعمة بفتح الطاء المهملة، وكسرها رواية وسكون العين المهملة، وفي القاموس أنه بضم الطاء، وفي كتب الحديث أنه مثلث الطاء، والكسر أشهر وأبيرق تصغير أبرق والحديث رواه الحاكم والترمذقي عن قتادة وبنو ظفر بفتح الظاء المعجمة، والفاء حيئ من الأنصار، وقوله: وخبأها أي الدرع لأنها مؤنشة سماعية وقوله فسألوه، الفاء فصيحة أي فانطلقوا وأتوه فسألوه أن يجادل عن المسلم لأنّ الحال شاهدة له إذ السرقة في يد اليهودي، واليهود متهمون بالزور وعداوة الأنصار، وقوله: فهمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أي هم بأن يحكم بظاهر الحال اعتماداً على صدقهم لا أنه علم براءة اليهودي، وهم بخلافه فإن مقامه صلى الله عليه وسلم أجل وأعلى من ذلك، وفي إمضاء شهادة اليهود على طعمة، وهو مسلم ما يحتاج إلى التأويل. قوله: (بما عرّفك الله الخ) يعني أراك متعد هنا لاثنين أحدهما العائد المحذوف، والثاني الكاف أي بما أراكه الله، وهي من رأى بمعنى عرف المتعدي لواحد فعدى بالهمزة لاثنين، وقيل إنها من الرأي من قولهم رأي الشافعيّ كذا، وجعلها علمية يقتضي التعدي إلى ثلاثة مفاعيل، وحذف اثنين منها أي بما أراكه الله حقاً، وهو بعيد، وأمّا جعله من رأي البصرية مجازاً فلا حاجة إليه. قوله: (أي لأجلهم الخ (يعني أنّ اللام ليست صلة خصيما بل تعليلية ولا تكن عطف على أنزلنا بتقدير قلنا وجوّز! فه على الكتاب لكونه منزلاً وهو خلاف الظاهر. قوله: (للبراء) البراء إمّا مفرد بمعنى 1 بريء أو جمع بريء وباؤه مثلثة قال السهيلي في الروض الأنف براء بضم الباء جمع برئ ايه! م جمع على فعال أو جمع، وأصله برآه ككرماء فحذفت إحدى الهمزتين للتخفيف ووزنه فهاء، وانصرف لأنه أشبه فعالاً، وزعم بعضهم أنه من باب فرير وفرار، وليس بشيء وقال ابر النحاس البصريون لا يعرفون ضم الباء فيه، وأنما هي مكسورة ككرام، وأمّا براء بالفتح كسلام فمصدر اص.
فما قيل البراء بالضم كالهراء لأنّ المراد به اليهودي لكن الأصح الفتح على أنّ المراد به
الجمع تقول تبرّأت منه، وأنا براء لا يثنى، ولا يجمع لكونه في الأصل مصدرا مثل سماع، وذلك لتقابل الجانبين، ويجوز في العبارة برآء على صيغة الجمع ككرماء لا يخفى ما فيه من القصور. قوله: (مما هممت به الخ) أي في أمر طعمة وبراءته لظاهر الحال، والهتم بالشيء خصوصاً إذ يظن أنه الحق ليس بذنب حتى يستغفر منه لكن لعظم النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعصمة الله له وتنزيهه عن توهم النقائص أمره بالاستغفار لزيادة الثواب، وارشاده إلى التثبت وأنّ ما ليس بذنب إذا خطر بباله بالنسبة لعظمه كالذنب فلا يرد على المصنف رحمه الله شيء كما توهم، وقال النيسابوريّ: قال الطاعنون في عصمة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لولا أنه صلى الله عليه وسلم أراد أن يخاصم لأجل ذلك الخائن لما ورد النهي عنه ولما أمر بالاستغفار، وأجيب بأنّ الأمر بالشيء لا يقتضي حصول المنهي عنه بل ثبت رواية أنّ قوم طعمة التمسوا منه صلى الله عليه وسلم أن يدرأ عن طعمة، ويلحق السرقة باليهودي فتوقف وانتظر الوحي ولعل القوم شهدوا بسرقة اليهودي، وبراءة طعمة، ولم يظهر للنبيّ صلى الله عليه وسلم ما يقدح في شهادتهم بالقضاء على اليهودي فأطلعه الله على حقيقة الحال أو لعل المراد، واستغفر لأولئك الذين برّؤوا طعمة. قوله: (يخونونها فإن وبال خيأنتهم يعود عليها الخ) يعني أنّ خيانة الغير جعلت خيانة لأنفسهم لأنّ وبالها وضررها عائد عليهم فهو مجاز عن ذلك، وقوله: أو جعل المعصية خيانة ظاهرة أنّ معنى يختانون يعصون وبكسبون الإثم فأنفسهم مفعول له لأنه بمعنى يظلمون أنفسهم، وظلم النفس معروف في عمل المعاصي، وقيل الخيانة مجاز عن المضرة ولا بعد فيه. قوله: (مبألنة في الخيانة الخ) يعني المراد بالمبالغة الإصرار لأنه كتكرّر الفعل، وقوله: روي الخ رواه الطبراني في معحمه من حديث قتادة رضي الله عنه، وقوله: ليسرق أهله كقوله:
يا سارق الليلة أهل الدار
والمراد متاعهم. قوله: (يستترون منهم حياء (فسر الاسنخفاء من الناس بالاسنتار لأجل الحياء، والخوف، وفسر الاسنخفاء من الله بالاسنحياء لأنّ الاستخفاء منه تعالى محال فلا فائدة في نفيه ولا معنى للذم في عدمه بخلاف الاسنخفاء من الناس كما قالوا في أنّ الله لا يستحيي أنه مجاز مع أنّ سلب الاستحياء ليس بمحال، ويصح أن يكون مشاكلة. قوله: (لا يخفى عليه سرهم الخ)(3/174)
يعني المراد بالمعية هنا التهديد بأنه يعاقبهم فليحذروه، وقوله: يدبرون لما كان أكثر
التدبير مما يبيت عبر به عنه، ومعنى يزوّرون يزينون، ويجوز تقديم الراء المهملة فيه كما مرّ، ومعنى لا يفوت عنه شيء كمال قدرته فالإحاطة هنا استعارة. قوله: (جملة مبينة الخ الما كان الأخبار عن الضمير باسم الإشارة نحو أنت هذا بحسب الظاهر لا فائدة فيه جعلت الإشارة إلى موصوف بصفة يبينه ما يقع بعده فأولاء بمعنى المجادلين وبه تتم الفائدة وقد مرّ الكلام فيه، وكونه صلة مذهب لبعض النحاة في كل اسم إشارة يجوز أن يكون موصولاً والجمهور على أنه مخصوص بماذا، وعليه فالحمل ظاهر. فوله: (محامياً الخ) أصل معنى الوكيل الموكل الذي الأمور موكولة له، ولما كان من هو كذلك يحفظ ما وكل إليه ويحميه استعمل في لازم معناه فلذا فسره بما ذكر وأم هذه، ونظائرها مما وتع بعده اسم استفهام منقطعة، وقيل عاطفة كما نقله في الدر المصون، وكأنه مراد من قال إنها لا متصلة ولا منقطعة. قوله: (ثبيحاً يسوء به غيره) أخذه من مقابلته لظلم النفس الغير المتعدي، وتفسيره بما دون الشرك لأنّ السوء يستعمل فيه وقد قوبل بالظلم المستعمل في القرآن بمعنى الشرك كقوله تعالى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [سررة لقمان، الآية: 131] وجعله بمعنى الصغيرة لأن الإساءة تستعمل ثعناه، وبمعنى الذلة، وكون الاستغفار بمعنى التوبة ظاهر، وقوله: وفيه حث في نسخة.، وهو بمعناه وتفسيره الخطيئة، والإثم بما ذكر مأخوذ من المقابلة، والتغاير بينهما ولأنّ اآثم كما ذكره الزمخشريّ في سورة الحجرات الذنب الذي يستحق صاحبه العقاب، وهمزته بد من الواو من، وثم يثم أي كسر كأنه يكسرها بإحباطه، وقد يستعمل في مطلق الذنب كقوله: {كَبَائِرَ الْإِثْمِ} [سورة الشورى، الآية: 37] كما في الكشف. قوله: (ووحد الضمير الخ) اختلف النحاة في هذا الضمير فقيل يعود على إثما، والمتعاطفان بأو يجوز عود الضمير فيما بعدهما على المعطوف عليه نحو: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا} وعلى المعطوف نحو:
{وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا} وقيل يعود إلى الكسب على حد اعدلوا هو، وبعضهم أوجب إفراده لأنه يعود على أحد الأمرين لا على التعيين كأنه قيل ثم يرم بأحد الأمرين، وقيل في الكلام حذف أي يرم بها وبه، والثالث هو المشهور، ولذا اختاره المصنف رحمه الله. قوله: (بسبب رمي البريء الخ (في الكشاف لأنه يكسب الإثم آثم وبرمي البريء باهت فهو جامع بين الأمرين فقيل في معناه أنه إشارة إلى أنّ في التنزيل لفاً ونشراً غير مرتب لأنه أتى في التفسير بالترتيب، والأسلوب من باب تكرير الشرط، والجزاء نحو من أدرك الصمان فقد أدرك المرعى فينبغي أن يحمل تنكير بهتانا واثما على التفخيم، والتهويل، وفي ثم دلالة على بعد مرتبة البهتان من ارتكاب الإثم نفسه، وقيل: إنّ في ترتب الجزاء على الإثم، ثم الرمي به أو بهما إشكالأ، وكذا في مغايرة احتمال الإثم، والبهتان أعني الاتصاف بهما لكسب الإثم، والرمي به ووجه التقصي عن الأوّل أنّ المراد بالإثم في جانب الجزأء ما يعم الخطيئة أيضا تغليبا أو نظراً إلى أنّ الرمي بالخطيئة إعظام لها وادراج في حكم الآثام أو إلى أنه يطلق على مطلق الذنب كما مرّ، وعن الثاني بأنّ تغاير المفهوم يجب له تغاير المعنى أو أن التفخيم الحاصل من التنكير يعطي التغاير أو أنه على أسلوب من أدرك الصمان ولا إشعار في كلام المصنف رحمه الله بهذا، وفيه بحث ومعنى كلام المصنف رحمه الله أنه لا تجاد سببهما الواقع في الجزاء سوّى بينهما في ترتب ذلك على أحدهما لا على التعيين، والعطف بأو المفيدة لذلك وان كان أحدهما وهو الكبيرة أو العمد أعظم من الآخر، وهو الصغيرة أو ما لا عمد فيه فتأمّل. قوله: (بإعلام ما هم) وفي نسخة هموا وقوله: (وجمعه للتعظيم (كذا وقع في نسخ، وهو سهو لأنه إنما يتوجه لو كان النظم عليكم، وليس كذلك، ولذا وقع في بعضها إسقاطه برمته، وأمّا الجواب بأن المراد جمعه في مثله مما وقع فيه مجموعا كقوله: {وَلَوْلاَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ} [سورة النساء، الآية: 83] فتكلف لا دلالة في كلامه عليه. قوله: (أي من بني ظفر) هذا بالنظر إلى المعنى والمآل، وإلا فلا ذكر في الكلام لبني ظفر، ولا دلالة عليهم يخصوصهم حتى يرجع إليهم الضمير فهو راجع للذين يختانون على أن المراد بهم بنو ظفر لمشاركتهم طعمة في الإثم لنصرته، وأما كون نزول الآية فيهم دليلاً على ذكرهم فبعيد، وضمير يضلوك للطائفة. قوله: (وليس(3/175)
القصد الخ (قال! الراغب إن قيل قد كانوا هموا بذلك فكيف هذا، ولولا تقتضي امتناع الجواب أجيب بوجهين أحدهما أن القوم كانوا مسلمين لم يهموا بإضلاله، وإنما كان ذلك عندهم صواباً، والثاني أنه نزل الهتم لانتفاء أثره منزلة العدم فجعل كأنه منفي كقولك فلان شتمك، وأهانك لولا أني تداركت ذلك تنبيها على أنّ أثر فعله لم يظهر، وقيل: إن الجواب محذوف أي لأضلوك إذ هموا بذلك وقوله: (مع علمهم بالحال) أي أو بالخائن سواء كان
بعضهم أوكلهم لأنهم لو لم يعلموا لم يتحقق الإضلال، وقوله: لأنه أي همهم يعني أنه لعدم أثره وعوده بالوبال عليهم كانوا أضلوا أنفسهم، وقوله: في موضع النصب على المصدر أي أن من زائدة وشيء كان منصوبا على المصدرية، وأمّا قوله شيئاً من الضرر فماً خوذ من شيء، وتنكيره لا أنّ من تبعيضية وقوله: (وعلمك ما لم تكن تعلم الخ) قيل هذه الآية أبلغ من قوله في سورة أخرى ما لم يعلم لأنّ معناها ما لم يكن فيك قابلية لعلمه، ولذا فسره بما ذكر، وقد مرّ تحقيقه. قوله: " ذ لا قضل أعظم من النبوّة (قيل: إنه مبنيّ على أن النبوّة أعظم من الرسالة أو على ترادفهما فتأئل. قوله: (من متناجيهم الخ) النجوى تكون مصدراً بمعنى التناجي، والحديث الذي يتناجى به، ويسر، وتطلق على القوم المتناجيق كما في قوله: {وَإِذْ هُمْ نَجْوَى} إمّا مجازا كرجل عدل أو حقيقة على أنه جمع نجيّ كما نقله الكرماني، وعلى هذين المعنيين يترتب اتصال الاستثناء واحتياجه إلى التقدير، وعدمه ا 1 فعلى الأوّل في كلام المصنف هو متصل، وعلى الثاني كذلك بتقدير مضاف أو منقطع، وياللم حال إعرابه من ذلك ويكفي في الاتصال صحة الدخول وان لم يجزم به فلا يرد عليه ما توهم أنه مثل جاءني كثير من الرجال إلا زيداً، ولا يصح فيه الاتصال لعدم الجزم بدخوله في الكثير ولا الانقطاع لعدم الجزم بخروجه، ولا حاجة إلى التكلف في دفعه، وأتا جعله متعلقاً بما أضيف إليه النجوى بالاستثناء أو البدل فخلاف الظاهر، وقال النحرير أنه لا معنى له، وفيه تأمّل. قوله:) والمعروف الخ (قيل لو اقتصر على ما استحسنه الشرع لكان أولى إذ كل ما يستحسنه الشرع لا ينكره العقل. قوله: (بني الكلام على الأمر الخ الما كان، ومن يفعل تذييلا لقوله: (إلا من أمر بصدقة) الخ
فينبغي أن يكون مطابقا للمذيل، ولا مطابقة بين آمر الفعل، وفاعله ظاهراً فلذلك أوّلوه بجعل القرينة الأولى كناية عن الفاعل ليحصل التطابق بالطريق الأولى أو تجعل الثانية كناية عن الأمر لشموله، وتناوله إياه وبيانه أنه لما وصف الأمر بالخيرية علم أنّ فاعله كذلك بالطريق الأولى فلذا قال فيه فسوف نؤتيه أجراً عظيما لأن فاعله أولى بمضاعفة أجره، وتعظيم ثوابه أو أنه عبر عن الأمر بالفعل إذ هو يكنى به عن جميع الأشياء كما إذا قيل حلفت على زيد، وأكرمته، وكذا وكذا فتقول نعم ما فعلت إلا أنه يحتاج إلى نكتة العدول عن يأمر، وهو أخصر لما ذكر فتأمّل، ويجوز جعل ذلك إشارة إلى الأمر بصدقة أو معروف أو إصلاح فيكون معنى من أمر، ومن يفعل الأمر واحداً والمصنف رحمه الله اختار الشق الأوّل لظهوره ولك أن تقول إنه لا حاجة إلى جعله تذييلا بل لما ذكر الآمر استطرد ذكر تمثيل أمره، وهذا لا تكلف فيه. قوله: (وقيد الفعل بأن يكون الخ) المرضاة الرضا، وظاهر كلامه أن الرياء محبط لثواب الأعمال، وبه صرح ابن عبد السلام، والنوويّ.
وقال الغزاليئ: إذا غلب الإخلاص فهو مثاب، والا فلا، وفي دلالة الآية على ما ذكره المصنف رحمه الله نظر لأنه أثبت للمخلص أجرا عظيما، وهو لا ينافي أن يكون لغيره ما دونه، ولذلك دفعه المصنف رحمه الله بأنّ عظمته بالنسبة إلى أمور الدنيا أو لأجر آخر وقوله: (يخالفه الخ) تفسير للمشاقة بأنها بمعنى المخالفة، وقوله: من الشق يجوز فيه الفتح والكسر. قوله: (ظهر له الحق الخ) قيل الأنسب تفسيره بظهور الحق فيما حكم به النبيّ صلى الله عليه وسلم وقوله: (غير ما هم عليه) إشارة إلى أنّ السبيل كناية أو مجاز عما ذكره. قوله: (نجعله والياً الخ) أي نصله، ونجعله متوليا أي مباشراً لما هو فيه من الضلال قيل ولو اقتصر عليه لكان أولى لأنّ تأويل أمثاله بالتخلية مبنيّ على الاعتزال وعدم خلق الضلال أو كان عليه عطفه بأو إشارة إلى مذهبهم، وجعل نصله مجازاً عن الإدخال لما مرّ، وقوله: {جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا} إشارة إلى تقدير المخصوص بالذم، ولو قدر التولية لصح. قوله: (والآية تدل على حرمة مخالفة(3/176)
الإجماع
الخ) فتكون حجة لأنّ الشافعيّ رحمه الله استدل بها على حجيته قال المزنيّ رحمه الله: كنت عند الشافمي يوما فجاءه شيخ عليه لباس صوف وبيده عصا فلما رآه ذا مهابة استوى جالساً، وكان مستندا لأسطوانة فاستوى، وسوى ثيابه فقال له: ما الحجة ف! ب دين الله قال كتابه قال، وماذا قال سنة نبيه قال، وماذا قال اتفاق الأمّة قال: من أين هذا الأخير أهو في كتاب الله فتدبر ساعة ساكتاً فقال له الشيخ أجلتك ثلاثة أيام بلياليهن فإن جئت بآية والا فاعتزل الناس فمكث ثلاثة أيام لا يخرج وخرج في اليوم الثالث بين الظهر والعصر وقد تغير لونه فجاءه الشيخ وسلم عليه، وجلس، وقال: حاجتي فقال: نعم أعوذ بالله من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم قال الله عز وجل: {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ} الخ الآية لم يصله جهنم على خلاف المؤمنين إلا واتباعهم فرض قال صدقت، وقام وذهب.
وروي عنه أنه قال: قرأت القرآن في كل يوم، وفي كل ليلة ثلاث مرات حتى ظفرت
بها، وأورد الراغب عليه أنه لا حجة فيها على ما ذكره بأن كل موصوف علق به حكم فالأمر باتجاعه جمون في مأخذ ذلك الوصف فإذا قيل اقتد بالمصلي فالمراد في صلاته فكذا سبيل المؤمنين يعني به سبيلهم في الإيمان لا غير فلا دلالة في الآية على اتباعهم في غيره ورد بأنه تخصيص بما يأباه الشرط الأوّل ثم إنه إذا كان مألوف الصائمين الاعتكاف تناول الأمر باتباعهم ذلك أيضاً فكذلك يتناول ما هو مقتضى الإيمان فيما نحن فيه فسبيل المؤمنين، وان فسر بما هم عليه من الدين يعم الأصول، والفروع الكل، والبعض على أنّ الجزاء مرتب على كل من الأمرين المذكورين في الشرط لا على المجموع للقطع بأنّ مجرد مثاقة الرسول كافية في استحقاق الوعيد معنى على أنّ ترك اتباع سبيل المؤمنين اتباع لغير سبيل المؤمنين لأنّ المكلف لا يخلو من اتباع سبيل البتة، وعلى أنه ليس المراد بالمؤمنين آحاد الأمّة، ولا المجتهدين إلى انقراض الدنيا بل المجتهدون في عصر إلى غير ذلك من القيود كما بين في الأصول، وبهذا علم مراد المصنف رحمه الله، وما أشار إليه فتدبر.
تنبيه: قرّر الفخر هذا الدليل بأنه عطف اتباع سبيل غير المؤمنين على مثاقة الرسول،
وهي حرام فتلزم حرمته لأنه لا يصح أن يقال من زنى، وأكل الحلوى فارجموه.
وقال ابن الحاجب اتباع سبيل المؤمنين يحتمل مناصرتهم والاقتداء بهم في الإيمان والعمل، والعمل بظاهر الآيات إنما ثبت بالإجماع فيلزمه الدور بخلاف القياس وقريب منه قول الأصفهانيّ اتباع سبيلهم لما احتمل ما ذكر، وغيره صار عاما، ودلالته على فرد من أفراده غير قطعيّ لاحتمال تخصيصه بما يخرجه مع ما فيه من الدور كما مرّ، وأجاب عن الدور بأنه إنما يلزم لو لم يقم عليه دليل آخر، وعليه دليل آخر، وهو أنه مظنون يلزم العمل به لأنا إن لم نعمل به وحده إمّا نعمل به، وبمقابله أو لا بهما أو بمقابله، وعلى الأوّل يلزم الجمع بين
النقيضين، وعلى الثاني ارتفاعهما، وعلى الثالث العمل بالمرجوج مع وجود الراجح، والكل باطل فيلزم العمل به قطعا، وبقي عليه إيرادات ذكرها ابن التلمسانيّ مع أجوبتها ونطاق الكلام يضيق عنه المقام فانظره إن أردت. قوله: (كرره للتثيد الخ) يعني ما ذكره سابقا في أوائل هذه السورة كرره إما تأكيداً أو لتكميل قصة طعمة بالوعد بعد الوعيد أو أنّ لها سبباً آخر في النزول، وهي قصة الشيخ المذكور التي رواها الثعلبيّ عن ابن عباس رضي الله عنهما قيل، وهذا هو الظاهر لأن التأكيد مع بعد عهده لا يقتضي تخصيص هذا الموضع فلا بد له من مخصص، وهربا حال واني لنادم بالكسر جملة حالية أو معطوفة على أني شيخ الخ، ويجوز فتحها عطفا على أني لم أشرك إلا أنه لا يحسن لإيهامه العطف على أني أعجز. قوله: (فإنّ الشرك أعظم الخ) وفي معناه نفي الصانع، وفيه إشارة إلى أن المراد استعظامه، وقوله: دعوى التبني بتقديم الباء الموحدة أي بقولهم نحن أبناء الله، وأحباؤه لا بجعلهم الملائكة بنات الله كما قيل لأنها في حق اليهود كما مرّ. قوله: (كان لكل حئ صنم الخ) تسميتهم الأصنام إناثاً لأنهم كانوا يجعلون عليها الحلي، وأسماؤها مؤنثة، وقد ردّ بأن منها ما اسمه مذكر كهب! ، وود وسواع، وذي الخلصة، وقيل إنه باعتبار الغالب، وفيه نظر ثم استشهد على تسمية ما اسمه مؤنث أنثى بقوله: في لغز مشهور في القراد:(3/177)
وما ذكر فإن يكبر فأنثى شديداً الأزم ليسى له ضروس
وروي فإن يسمن بدل فإن يكبر المشهور في الرواية، ووجه تسميته أنثى أنه يقال له حلمة بالحاء المهملة، واللام وزن تمرة، وهي ما عظم من القراد كما في الجوهري والأزهري، وتفرد الزمخشريّ في المستقصى بتفسيره بالصغير منه، ويرده هذا البيت، والأزم بمعنى العض بالفم وضروس جمع ضرس، وفي قوله: يعبدونه إشارة إلى أنّ الدعاء هنا بمعنى العبادة لأنّ
من عبد شيئا دعاه في حوائجه، ويصح أن يكون المراد ظاهره وتأنيث العزى ومناة ظاهر واللات لأنها فعلة من لوي كما سيأتي في سورة النجم فإن كانت تاؤه أصلية فهو مؤنث سمافي وقوله: (والجمادات تؤنث) فيه نظر لأنّ التذكير فيها كثير، ومراده أنها تشبه المؤنث، ولعله تعالى ذكرها بهذا الاسم يعني إناثا وقوله: (جمع أنثى كرباب وربى) كحبلى الشاة إذا ولدت أو مات ولدها، وفي التمثيل به نظر لأنهم قالوا إن جمعه رباب بالضم، وأنه أحد ما جاء من الجموع على فعال بالضم لكنه مثل به في الدر المصون أيضاً فلعل فيه لغة أخرى بالكسر، وقراءة أنثا بضمتين جمع أنيث، وقيل: إنه مفرد لأن من الصفات ما جاء على فعل بضمتين، وقوله: (وثنايا بالتثقيل) أي بضمتين، والتخفيف أي تسكين الثاني وأثنا بهما أي بالتخفيف والتثقيل، وقلب الواو المضمومة همزة كوجوه، وأجوه فإنه قياسيّ 0 قوله: (لأنه الذي أمرهم بعبادتها الخ) فيعبدون بمعنى يطيعون أو الكلام على المجاز، وأصل مادة م رد للملاسة، والتجرد فالمريد إمّا لتجرّده للشر أو لتشبيهه بالأملس الذي لا يعلق به شيء، ولا يعلق بخير أي لا يحصل له، ولاتباعه، ولعته الله بمعنى طرده وأبعده عن رحمته، وقيل: المراد باللعنة قعاى ما يستحقها به من الاستكبار عن السجود، ونحوه كقولهم أبيت المثعن أي ما فعلت ما تستحقه به. قوله: (جامعاً بين لعنة الله الخ) لأنّ الواو ال! -----: -الصفات تفيد مجرد الجمعية دون المغايرة، ويجوز أن يكون لعنه الله مستأنفا للدعاء، وقال: لأتخذنّ جمله مستطردة، ولعنه الله معترضة ودلالة هذا القول على فرط عداوته ليقيده بإضلالهم المهلك لهم. قوله:) وقد ير! ن سبحانه الخ) أي أقام البرهان على رسوخه في الضلال المعلوم من قوله: (بعيدا بقوأء: أن
يدعون الخ) لأنّ هذه الجملة مبنية لوجه ما قبلها، ولذا لم يعطف عليه، واستدل على جهلهم بعبادة المنفعل الذي لا يقتضي العقل عبادته بأنه إنما هو عبادة للشيطان لأنه الأمر بها، وموالاة المنهمك في الضلال الملعون الذي هو شديد العداوة لكم فضلا عن عبادته أتبح من كل قبيح، وأصل معنى الفرض القطع، ولذا أطلق على القدر المعين لاقتطاعه عما سواه، والأماني مخفف ومشدد جمع أمنية، وهي ما يتمنى. قوله: (ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام) مفعول آمرنهم محذوف أي آمرنهم بالضلال، وقوله: فليبتكن الخ. تفصيل له، وتفسير والبتك القطع، والشق، والبتكة القطعة من الشيء، وهو إشارة إلى ما كانت الجاهلية تفعله من شق أذن الناقة إذا ولدت خمسة أبطن، وهي البحيرة من البحر، وهو شق الأذن ثم تسيب فلا تركب، ولا يحمل عليها، وكذا السائبة هي التي تسيب فلا تستعمل، ولا ترد عن حوض وعلف، وتنفصل في محلة، وتحريم ما أحل الله بجعل استعمالها ممنوعاً منه، واعتقاد عدم حله، وشق الأذن فيها مذكور في مفردات الراغب، وغيره فلا يرد ما قيل إنه غير مذكور في القاموس، والصحاح فإنه من القصور. قوله: (وإشارة إلى ثحريم كل ما أحل الخ) يعني ليس المراد بمقول الشيطان خصوص ما ذكر بل هو عبارة عن كل ما يشاؤونه من أفعال الجاهلية وإشارة إلى تحريمهم ما أحله لأنه بشق أذنها يحرم استعمالها، وهو حلال، وتنقيص ما أوجده الله كاملاً بالفعل كفقء العين وشق الأذن أو بالقوة كتغيير الفطرة التي كانت بالقوة فيهم إلى خلافها. قوله: (ويندرج فيه الخ) الحامي بالمهملة فحل الإبل الذي يحميها إذا طال مكثه حتى بلغ نتاج نتاجه فيحمي ظهره ولا يركب، ولا يجز وبره، ولا يمنع من مرعى، والوشم بالمعجمة غرز الجلد بإبرة ثم حشوه بكحل أو نحوه، وهو معروف، والوشر بالراء المهملة أن تحد المرأة أسنانها، وترققها
تشبيهاً بالشواب، واللواط مصدر كاللواطة ومي معروفة، والسحق مساحقة النساء، وعد عبادة النيرين منه لأنهما لم يخلقا لذلك. قوله: (وعموم اللفظ يمنع الخصاء الخ) قال النوويّ: لا يجوز خصاء حيوان لا يؤكل في صغره، ولا في كبره، ويجوز خصاء المأكول(3/178)
في صغره لأن فيه غرضا، وهو طيب لحمه، ولا يجوز في كبره، وخص من تغيير خلق الله الختان، والوشم لحاجة ونحوهما، والجمل الأربع من قوله: قال إلى هنا حكاية ما قاله بأيّ لغة كان مما لا يعلمه إلا الله أو أنه قدر قوله لذلك، ولا قول، وإنما هو ذ! ؤ لما وقع منه. قوله: (بإيثاره ما يدعوه إليه الخ) يعني أنّ المراد بولايته اتباعه، وقيد من دون الله ليس احترازياً كما توهم بل بيان لأنّ اتباعه ينافي متابعة أمر الله فافهم وقوله: ضيع 1 رأس ماله لأنه أعظم الخسران، وأهونه عدم الفائدة مع بقاء رأس المال، وأولياء الشيطان أهل الضلال أو جنده. قوله: (معدلاً ومهرباً الخ) يعني المحيص اسم مكان أو مصدر ميميّ من حاص يحيص إذا عدل وولى، ويقال محيص ومحاص، وأصل معناه كما قيل الروغان، ومنه وقعوا في حيص بيص وحاص باص أي في أمر يعسر التخلص منه، ويقال حاص يحوص أيضاً حى وصاً وحياصا، وعنها لا يتعلق بيجدون لأنه لا يتعدى بعن فهو ظرف مستقر كان صفة لمحيصا فلما قدم عليه انتصب على الحال، ولا يتعلق بمحيصا لأنه إن كان اسم مكان فهو لا يعمل لأنه ملحق بالجوامد، وان كان مصدراً فمعمول المصدر لا يتقدم عليه، ومن جوّز تقدمه إذا كان ظرفا أو جاراً ومجروراً جوّزه هنا. قوله: (فالأوّل مؤكد لنفسه الخ (التأكيد بالمصدران كان لمضمون جملة لا يحتمل غيره يسمى تأكيداً لنفسه نحو له عليّ ألف عرفاً إذ معنى الجملة التي قبله لا تحتمل غير الاعتراف، وكذا قوله سندخلهم جنات هو الوعد إذ ليس الوعد إلا الأخبار عن إيصال المنافع قبل وقوعه فيكون وعد الله تكيداً لنفسه فإن احتملت غيره فهو تأكيد لغيره لأنّ مضمون الجملة مغاير له، ولو احتمالاً كقولك زيد قائم حقاً فإن الجملة الخبرية تحتمل الصدق، والكذب، والحق والباطل، وكذا حقاً هنا بالنسبة لما قبله من الخبر بقطع النظر عن قائله، وعاملهما محذوف أي
وعدهم الله وعداً وأحقه حقاً، وليس حقا تأكيداً للوعد حتى يقال إنه خبر حقيقة أو متضمن للخبر. قوله: (ويجوز أن ينصب الموصول الخ (يعني أنه مرفوع مبتدأ وخبر، ويجوز في محله النصب على الاشتغال جوازا مرجوحا لأنّ المعطوف عليه اسمية ولأنّ التقدير خلاف الأصل وقوله ووعد الله الخ أي يجوز أن ينتصب وعد الله بقوله: سندخلهم على أنه مصدر له من غير لفظه لأن معناه ما ذكر وحقا حال منه. توله:) جملة مؤكدة بليغة الخ) يعني أنه توكيد ثالث لقوله ة سندخلهم لأنّ الجملة تذييل للكلام السابق، والتذييل مؤكد للمذيل والمبالغة، والبلاغة من الاستفهام، وتخصيص اسم الذات الجامع، وبناء أفعل وايقاع القول تمييزاً، وكل ذلك إعلام منه بأنّ حديثه صدق محض، وانكار إن قول الصدق يتعلق بقائل آخر أحق منه فالواو اعتراضية، وجعلها عاطفة مع ما في عطف الإنشاء على الخبر لا حاجة إلى ما فيه من التكلفات فلا يقال كيف تكون مؤكدة، وهي معطوفة. قوله: (والمقصود من الآية الخ) المواعيد الشيطانية في قوله: يعدهم الخ ووعيده الكاذب الذي غرّهم حتى استحقوا الوعيد مقابل بوعد الله الصادق الذي أوصلهم إلى السعادة العظمى، ولذا بالغ فيه، وأكده حثا على تحصيله. قوله: (أي ليس ما وعد الله من الثواب الخ) في ليس ضمير مستتر اختلف في مرجعه فقيل يعود على الوعد بالمعنى المصمدي أو بمعنى الموعود فهو استخدام، وهذا مختار المصنف رحمه الله، وقيل: إنه الإيمان المفهوم من الذين آمنوا، وقيل يعود على ما تحاوروا فيه بقرينة سبب النزول، وأتانيئ مشذد وقرئ بالتخفيف، وقوله: أيها المسلمون إشارة إلى أن الخطاب على هذا للمسلمين لا للمشركين كما سيأتي، وفي قوله ليس الإيمان بالتمني إيجاز بديع لأنه يحتمل أنه إشارة إلى تفسير آخر، وهو أنّ الضمير راجع للإيمان المفهوم مما قبله كما ذكره غيره، ويحتمل أن يكون 5! اده أنه قيل في الأثر هذا، وهو تأييد لما قبله، وهذا أقرب، وفي الكشاف وعن الحسن ليس إلإيمان بالتمني، ولكن ما وقر في القلب، وصدقه العمل أن قوما ألهتهم أمانيّ المغفرة حتى خرجوا من الدنيا، ولا حسنة لهم، وقالوا: نحسن الظن بالله، وكذبوا لو أحسنوا الظن بالله لأحسنوا العمل له، وهذا أخرجه ابن أبي شيبة موقوفا على الحسن، وأخرجه البخاري في تاريخه عن أنس رضي الله عنه مرفوعا: " ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي ولكن هو ما وقر في القلب " فأمّا علم القلب فالعلم النافع، وعلم اللسان(3/179)
حجة الله على بني آدم، ووقر بمعنى أثر
أو بمعنى ثبت من الوقار، وباء بأمانيكم كباء زيد بالباب ليست زائدة والزيادة محتملة وان نفاها النحرير. قوله: (روي أنّ المسلمين الخ) أخرجه ابلأ جرير عن مسروق مرسلا وقوله: يقضي على الكتب المتقدمة أي يثبت حقيبتها ويبين ما لا 1يعمل به فيها مما نسخ فكأنه قضى عليها. قوله: (ويدل عليه تقدّم ذكرهم) يعني قوله: أن يد! عون من دونه إلا إناثا، وما بعده، وما روي عن أبي بكر رضي الله عنه أخرجه أحمد وابن حبان، والحاكم، واللأواء الشدّة كالقحط، وليس المراد بعمل السوء ما يصيبه من المصائب، وأن المراد بجزائه ثوابه عليه لأنّ ما بعده غير مناسب له بل المراد أنّ الصدّيق رضمي الله عنه فهم من الجزاء عذاب القيامة فبين له النبيّ! يئ أنه ليس المراد به ذلك بل الجزاء يكون بكل ما يضرّ المرء في الدنيا أيضاً من المصائب فهو أعم من الدنيوي، والأخروي، ولذا قال المصنف رحمه الله عاجلا أو آجلا، وذاك إشارة إلى الجزاء المفهوم من الكلام. قوله: (بعضها أو شيئاً منها الخ) يعني أنّ من تبعيضية لأنّ أحداً لا يمكنه عمل كل الصالحات، وقيل هي زائدة، وهو ضعيف، ومن الثانية بيانية، وهي مع متعلقها حال من ضمير يعمل، ويصح أن تكون حالاً من الصالحات أي صالحات كائنة،
وصادرة عمن ذكر فمن ابتدائية، وقيل عليه أنه ليس بسديد من جهة المعنى، وقيل: الظاهر تقدير كائنا لا كائنة لأنه حال من متعلقها، وفيه نظر إذ المعنى الصالحات الصادرة من الذكر، والأنثى، ولا شك في صحته إلا أنه ركيك كما لا يخفى فلا وجه للتخطئة فيه. قوله: (حال شرط الخ) شرط بصيغة المجهول، وضمير بها للحال لأنها مؤنثة سماعية، واستدعاء بمعنى طلب، والثواب ما تضمنه فأولئك يدخلون الجنة، والضمير في لا اعتداد به للعمل، وضمير دونه للإيمان، وضمير فيه لاستدعاء الثواب أو للثواب نفسه. قوله:) بنقص شيء من الثواب الخ) النقير نقرة في ظهر النواة منها تنبت النخلة بضرب بها المثل في الشيء القليل والحري بفتح الحاء والقصر كالحريّ الخليق والحقيق، ومنه بأخرى أن يكون ذاك، وأنه لحري بكذا والحري أيضا الساحة، وفي الكلم النوابغ حري غير مطور حري أن يكون ممطور، مطور بمعنى يزار ويقصد، وقوله: لأنّ المجازي أرحم الراحمين ردّ على الم! ضزلة بأنّ ذلك بفضله، ورحمته لا واجب عليه كما زعموا وأمّا تسمية عدمه ظلماً فلأنه كالواجب بسبب الوعد ففي تخلفه خلف في الوعد فأطلق الظلم، وأريد خلف الوعد، وعليه ينزل ما ورد من أمثاله، وهذا إشارة إلى وجه تخصيص عدم تنقيص الثواب بالذكر دون ذكر عدم زيادة العقاب لأنه يعلم بالطريق الأولى لأنّ الأذى في زيادة العقاب أشد منه في تنقيص الثواب فإذا لم يرض بالأول، وهو أرحم الراحمين فكيف يرضى بالثاني مع أنّ المقام مقام ترغيب في العمل الصالح فلا يناسبه إلا هذا واليه أشار بقوله عقيب الثواب. قوله: (أخلص! نفسه لثه الخ (إشارة إلى معنى أسلم وأن وجهه مجاز عن ذات نفسه، ويصح أن يكون الوجه بمعنى التوجه، وقوله: لا يعرف الخ جملة حالية أي في حال توحده وقوله: (وقيل بذل الخ) يعني الإسلام بمعنى الانقياد، والتذلل بالسجود، ووجه كون الاستفهام يدل على ما ذكره لأنه غير حقيقي، والمراد منه النفي، وصرف نفسه بكليتها الطاعة الله أعلى المراتب فلا يرد عليه أن مآله للتوحيد، وهو مشترك بين المؤمنين كما توهم وقوله: (الموافقة الخ) تقييد أو تبيين. توله: (اصطفاه وخصصه بكرامة الخ) يعني أنه استعارة تمثيلية لتنزهه تعالى
عن صاحب، وخليل، وأما الخليل وحده فاسنعارة تصريحية ثم صار علماً عليه-لجيرو، ولم يقل اتخذه الله لما ذكر. قوله: (والخلة من الخلال الخ) هذا بيان لتسمية الصديق خليلا بوجوه الأوّل أنه من خلال الشيء بالكسر وأثنائه فإنه أي الخلة وذكره باعتبار الخبر، وهو ودّ أي مودّة تتخلل النفس، وتخالطها مخالطة معنوية لا حسية كما قال:
قد تخللت مسلك الروح مني
ولذا سمي الخليل خليلا. 1!
أو من الخلل لأنّ كلا يصلح خلل الآخر، وش!! خلله. أو من الخل بالفتح لأنهما على طريقة، ويترافقان في نسخة يتوافقان أو من الخلة با.، وهي الخصلة، والخلق فسمي خليل الله لتخلقه بأخلاق الله فقد علمت أنّ في وجه التسمية وجوهاً بعضها عام، وبعضها خاص، وبقي وجه آخر يؤخذ من قوله من عند خليلي(3/180)
الله الآتي، وهو المشاكلة. قوله:) والجملة استئناف الخ الم يرتض ما في الكشاف من أنها اعتراضية لأنّ الاعتراض يكون في أثناء الكلام أو بين كلامين متصلين، وهذا ليس كذلك، ولذا قال شرّاحه أنه بمعنى التذييل في كلامه، وجعلها حالية خلاف الظاهر، والعطف على ما قبلها لا يصح إلا بتكلف كما لا يخفى وقوله: (والإيذان) بأنه أي الأعلام، والبيان لأنّ اتباع ملته في غاية الحسن لأنّ الملل وضعإلهي فمن جاءت على يده إذا كان خليلا للواضع فما بالك بما شرعه على يده. قوله: (روي أنّ إبراهيم عليه الصلاة والسلام بعث الخ الم يصحح الحفاظ هذه الرواية، وقالوا: والمرويّ ما أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم أنّ أوّل جبار في الأرض كان نمروذ وكان الناس يخرجون يمتارون من عنده الطعام فخرج إبراهيم عليه الصلاة والسلام يمتار معهم فلما مرّ بهم نمروذ جعل يسألهم من ربكم فيقولون أنت حتى أتى إبراهيم عليه الصلاة والسلام فسأله فقال: {رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ} [سورة البقرة، الآية: 258] على ما قص الله فرده بغير ميرة فرجع إلى أهله ومرّ بكثيب
من رمل فقال: ألا آخذ من هذا فآتي به أهلي حتى يطمئنوا فأتى به ووضعه ثم نام فقامت امرأته، وفتحته فإذا هو أجود طعام فصنعت له نه، وقرّبته له فقال عليه الصلاة والسلام من أين هذا فقالت: من الطعام الذي جئت به فعرف أنه من الله، وأخرج نحوه ابن أبي شيبة وليس فيه شيء من ذكر الخليل، وأزمة بفتح فسكون بمعنى شدة، والمراد بها هنا القحط، ويمتار بمعنى يطلب الميرة، وهي الطعام، ولينة بكسر فسكون، وفي نسخة بفتح اللام، وتشديد الياء قال النحرير هي اسم موضع بقرب الطائف، وقيل ماء بطريق مكة، ولا! وجه له، والظاهر من كون خليله بمصر أن يكون قريباً منها بالأرض المقدّسة فالظاهر أنها لينة بالتشديد بمعنى ذات رمل، ونحو. لا حجارة بدليل ما في الرواية الأخرى أنه مرّ بكثيب من رمل، والغرائر جمع غرارة بالكسر، وهي وعاء معروف، وحوّارى بضم الحاء وتشديد الواو وألف بعدها راء مفتوحة ثم ألف مقصورة دقيق شديد البياض جود نخله من قولهم حور الطعام بمعنى بيض، والبطحاء أرض يجري فيها السيل منبطحة، واختبزت بمعنى اتخذت الخبز، وغلبته عيناه مجاز بمعنى غشيه النوم بغتة وساؤة زوجته عليه الصلاة والسلام. قوله: (خلقاً وملكاً الخ) يعني أنّ اللام للاختصاص، والاختصاص مراد به ذلك هنا، وأشار بقوله: يختار الخ إلى أنه متصل بقوله، واقخذ الله إبراهيم خليلاً لأنه بمعنى اختاره، واصطفاه كما مرّ أي هو مالك لجميع خلقه فيختار من يريده منهم كإبراهيم عليه الصلاة والسلام وأشار بما بعده إلى ما اختاره الزمخشريّ من أنه متصل بقوله ومن يعمل من الصالحات، وأنه كالتعليل لوجوب العمل، وما بينهما من قوله: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا} اعتراض. قوله: " حاطة علم وقدرة الخ) يعني أنّ حقيقة الإحاطة في الأجسام فإذا وصف بها سبحانه وتعالى، فالمراد بها مجازا شمول علمه وقدرته، والمقصود من ذكره التخويف بأنه يجازيهم على أعمالهم لأنّ الحاكم العدل القادر إذا علم شيئا أعطاه حكمه، وقد مرّ أنه حيث استعمل في القران فهذا هو المراد منه كما نبهوا عليه. قوله: (في ميراثهق الخ) بيان للمعنى أو تقدير للمضاف، والداعي أنّ الفتوى، والاستفتاء ليس في ذواتهن بل في الأحوال فحمل على ما ذكر للقرينة الدالة عليه. قوله: (إذ سبب نزولها لخ) قالوا هذا شيء لم يوجد في شيء من كتب الحديث، وردل! ي في الصحيحين، وغيرهما عن عائثة رضي الله عنها قالت: كان الرجل يكون عنده اليحيفة، وهو وليها ووارثها قد شركته في ماله حتى العذق
فيرغب أن ينكحها، ويكره أن يزوّجها رجلاً فيشركه في ماله بما شركته فيعضلها فنزلت هذ " الآية لكنه وقع في مستدرك الحاكم وغيره ما يقرب منه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان أهل الجاهلية لا يورّثون المولود حتى يكبر ولا يورثون المرأة فلما كان الإسلام قال تعالى: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاء} الخ وعن سعيد بن جبير رضي الله عنه قال: كان لا يرث إلا الرجل الذي قد بلغ لا يرث الصغير، ولا المرأة شيئا فلما نزلت المواريث في سورة النساء شق ذلك على الناس، وقالوا: أيرث الصغير والمرأة كما يرث الرجل فسألوه صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى: {وَيَسْتَفْتُونَكَ} الآية وعيينة تصغير عين من المؤلفة قلوبهم، وحصين تصغير حصن علمان منقولان، وتصغير(3/181)
الثاني تحريف من النساخ، والمعروف فيه التكبير لا غير. قوله: (يبين لكم الخ) يعني أنّ الفتوى مجاز مرسل عما ذكروا المبهم الذي لا يعلم حاله. قوله: (عطف على اسم الله الخ) يعني أنه مرفوع معطوف على الجلالة أو ضميرها المستتر،، ومثله لا يعطف عليه لكونه كالمعدوم إلا بفاصل من تأكيد، ونحوه ليكون معطوفا عليه صورة، وقد وجد هنا، وأورد على الأوّل أنه إما من عطف مفرد على مفرد أو جملة فإن كان الأوّل لزم تثنية الضمير مع تقدم الخبر بأن يقال يفتيانكم، ومثله يحتاج إلى سماع من العرب كنحو زيد قائمان وعمرو وان كان من عطف الجمل فهو وجه آخر سيذكر.
(كلت الما كان الأوّل توطئة، وهما في حكم شيء واحد لا مانع من أفراد الضمير فتأمل، وقوله: من قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللهُ} ونحوه إشارة إلى أنّ ما يتلى المقصود به آية المواريث. قوله: (والفعل الواحد ينسب إلى فاعلين الخ) يعني أنّ الفعل الواحد إذا نسب إلى فاعلين مختلفين باعتبار واحد كالقيام به، والصدور منه، والتسبب، وغير ذلك فالأمر ظاهر نحو جاءني فلد وعمرو وأما باعتبارين مختلفين بأن يكون أحدهما فاعلاً حقيقياً للفع! ل كالله هنا، والآخر سببياً ككلامه المتلو الذي هو فاعل مجازي فيجوز، والجمع بين الحقيقة، والمجاز في المجاز العقلي سائغ شائع كما مرّ. قوله: (ونظيره أغناني زيد وعطاؤه) قيل المعنى أنه أسند إلى شيئين، والمقصود إسناده إلى الثاني وإنما ذكر الأوّل للتوطئة نحو أعجبني زيد وكرمه.
وقيل إن المسند إليه بالحقيقة شيء واحد هو المعطوف عليه باعتبار المعطوف لا أنّ المسند إليه هو المعطوف، وأنما ذكر المعطوف عليه لمجرّد التوطئة، وفيه بحث لأنّ مآل ما رده وما ارتضاه واحد في التحقيق.
وأما ما قيل: إنه تجريد فلا وجه له إلا أن يقال كان الظاهر أن يقال أعجبني زيد كرمه
على أنه بدل اشتمال وبه يتم المقصود فلما عدل عنه إلى العطف بين الصفة والموصوف والقصد إلى تفسير الإسناد إلى الأوّل كان كالتجريد لكن إذا أسند شيء إلى الذات نفياً أو إثباتاً وهو يتعلق بأحوالها إيراد إسناده أما إلى جميعها أو إلى ماله شدة اختصاص بها فهنا لما أسند الإعجاب إلى ذاته كأنه ادعى أنّ جميع صفاته تعجبه، ومنها الكرم فيكون ذكره بعده كادعاء مغايرة الكرم لها بل لنفسه فيكون تجريدا، ويكون أبلغ من البدلية والأوّل لم يقصد به التوطئة بل ذكر لهذه النكتة. قوله: (أو استئناف معترض لتعظيم المتلوّ الخ) يجوز أن يكون لتعظيم المتلوّ نفسه أو لتأكيد أمر اليتامى لأنّ ما هذا شأنه يحافظ عليه لفظاً، ومعنى لكن في بعض النسخ المتلوّ عليهم فكأنه فهم من كون الله أفتاهم بذلك الاعتناء بشأنهم فهذا أنسب بالمقام، ووقع في بعض الحواشي لتعظيم المتلوّ بدون عليهم، وهو ظاهر ويحتمل إرجاع هذه النسخة إليها بجعل عليهم متعلقا بتعظيم أي لجعله عظيما عليهم، والمراد بالاستئناف ليس المعنى المصطلح عليه فلا ينافي الاعتراض، وعلى عطفه على الضمير المستتر لا يحتاج إلى تقدير عاند أي عنده كما توهم وإنما حمل الكتاب على هذا المعنى لأنه لو أريد معناه المتبادر لم يكن فيه فائدة إلا أن يتكلف له، ومنهم من جعل خبره محذوفا كيفتيكم ويبين لكم. قوله:) ويجوز أن يتتصب الخ) تقديره، ويبين بالواو إشارة إلى أنه معطوف على جملة يفتيكم أو معترضة ولذا ذكروا قسم فلا يرد أنّ الظاهر أقسم بدون واو. قوله: (ولا يجورّ عطفه على المجرور الخ) هذا وجه منقول عن محمد بن أبي موسى قال: أفتاهم الله فيما سألوا، وفيما لم يسألوا وارتضاه في البحر، ودفع الفساد المذكور بأنّ العطف على المجرور من غير إعادة الجارّ جائز عند الكوفيين كقوله: {وَاتَّقُواْ اللهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ} كما مرّ بأنّ المراد بما يتلى، والمتلوّ المتلوّ حكمه، وأمره فيهن أو الأعم كما مرّ قال النحرير: الاختلال من حيث اللفظ حيث عطف على الضمير المجرور، ومن حيث المعنى حيث صار المعنى يفتيكم في حق ما يتلى عليكم من الكتاب مع أنه غير داخل في الاستفتاء.
فان قيل: لم لا يجوز أن يكون فيهن بمعنى الصلة أي في حقهن، ومعناهن، وفيما يتلى بمعنى الظرف قلنا كفى بهذا اختلالاً مع أنّ المناسب حينئذ فيما يتلى عليكم من الكتاب لا في الكتاب، وقيل: إنّ الواو بمعنى مع. قوله: (صلة يتلى إن عطف الخ) يجوز على هذا الوجه أن يكون بدلاً من فيهن أيضا كما في الكشاف إلا أنّ المصنف رحمه الله تركه لما فيه من الفصل
بين البدل، والمبدل منه، وقوله: (وإلا) أي وان لم(3/182)
يعطف فبدل لا غير كما في الكشاف، وقيل عليه أنه يجوز تعلقه على تقدير يبين أيضا، وعلى جعله قسما.
(أقول) أما على جعل ما يتلى مبتدأ، وفي الكتاب خبر فلا يتعلق به لما يلزم من الفصل بالخبر بين أجزاء الصلة إلا أن يجعل بدلاً من في الكتاب كما في البحر، وأمّا على القسمية فلأنه لا معنى لتقييد القسم بالمتلوّ بذلك ظاهرا وأمّا على تقدير نصبه يبين فالظاهر جواز تعلقه به إلا أنه تركه في الكشاف، وتبعه المصنف رحمه الله فالعهدة على المتبوع لكنه لا يظهر لتركه وجه. قوله: (أو صلة أخرى ليفتيكم الخ الما ورد على هذا أنه لا يتعلق بشيء واحد حرفا جرّ بمعنى بدون اتباع جعل في الثانية سببية كما في قوله صلى الله عليه وسلم إنّ امرأة دخلت النار في هرّة كما تقول كلمتك اليوم في زيد أي بسببه، وكان الظاهر أن يمثل بجئتك في يوم الجمعة في أمر زيد لكنه أشار إلى أنه لا فرق بين الحرف الملفوظ، والمقدر ومنهم من غفل عنه فجعله منالاً لمجرّد كون في سببية، ويرد على المصنف رحمه الله أنه على الوجه الأوّل أيضا يلزم تعلق حرفي جر بمعنى به وهو في الكتاب، وفي يتامى النساء إلا أن يؤول بما مرّ. قوله: (وهذه الإضاقة بمعنى من الخ) جعلها أبو حيان على معنى الأم.
وقيل عليه أنّ النحاة ذكرول! ضابط الإضافة البيانية أن تكون إضافة جزء إلى كل بشرط صدق اسم الكل على الجزء، ولا شك في أن يتامى النساء كذلك، واحترز بالقيد الأخير عن مثل يدزيد.
قال السفاقسي ليس كلهم متفقين على هذا فقد قال السيرافي وابن كيسان: أن كل بعض أضيف إلى كل هو بمعنى من وزاد غيرهما قيد صحة الإخبار عن الأوّل بالثاني فيد زيد بمعنى من عندهما.
(قلت) من عندهما تبعيضية كما صرّج به في شرح التسهيل، وأشار إليه في سورة لقمان، وبعض الناس لم يعرفه فتعسف فيه كما مرّ في إضافة سورة الفاتحة، ومنشأ الخلاف أنّ من لامقدرة لا تكون إلا بيانية أو تبعيضية. قوله: (وقر! ييامي بياءين الخ) أي جمع أيم وسيأتي تفسيره في أيامى النساء، والعرب تبدل الهمزة ياء كثيراً. قوله:) في ان تنكحوهن أو عن أن تنكحوهن) أورد عليه أنّ أهل العربية ذكروا أنّ حرف الجرّ يجوز حذفه باطراد مع أن، وأن بشرط أمن الليس بأن يكون متعيناً نحو عجبت أن تقوم أي من أن تقوم بخلاف قلت أن تقوم لا
يجوز فيه الحذف لاحتمال إلى أن تقوم أو عن أن تقوم، والآية من هذا القبيل وأجيب بأنّ المعنيين هنا صالحان لما ذكر في سبب النزول فصار كل من الحرفهبن مراداً على سبيل البدل ومثله لا يعد لبساً ثل إجمالاً كما ذكره بعض " المحققين، وجوز فيه تقدير في. قوله: (والواو تحتمل الحال والعطف) أي واو وترغبون، وإذا كانت حالية تقدر مبتدأ أي، وأنتم- ترغبون لأن الجملة المضارعية الحالية لا تقترن بالواو فإن قلنا بجوازه كما مز فلا تقدير، والعطف يصح أن يكون على النفي، والفعل الذي هو صلة اللاتي أو على المنفي وحده والمعنى صحيح فيهما. قوله: (وليس فيه دليل على جواز تزويج اليتيمة) أي ليس في نظم الآية ما يدلّ عليه كما هو مذهب أبي حنيفة، والمراد لغير الأب، والجد فإنّ الشافعي يقول به أيضاً، ووجه الدلالة أنه ذكر نكاح اليتيمة فاقتضى جوازه، وهو يقول إنما ذكر ما كانت تفعله الجاهلية على طريق الذمّ والنهي فلا دلالة فيه عليه مع أنه لا يلزم من الرغبة في نكاحها فعله في حال الصغر، وقوله: والعرب الخ. أي كانوا يورّثون كبار الرجال دون غيرهم كما مرّ، ويجوز فيه حينئذ الجز، وهو الظاهر، وجوّز النصب عطفاً على محل الجارّ والمجرور. قوله: (أي ويفتيكم أو ما يتلى عليكم) هذا مبني على الإعرابين السابقين، وقوله: هذا إذا جعلت في يتامى صلة لأحدهما أي أحد الفعلين يفتيكم، ويتلى فإن كان بدلاً وعطف على المتبوع فهو في محل نصب، ولا مانع من تقدير الجرّ أيضاً حينئذ، وقوله: على موضع فيهن بناء على أنّ المحل لمجموع الجارّ وا لمجر ور.
وقد قيل التحقيق أنه للمجرور وحده، وقوله: نصبهما أي نصب المستضعفين، وأن تقوموا وإنما منع العطف على البدل لأنّ المراد بالمستضعفين الصغار مطلقأ الذين منعوهم عن الميراث، ولو ذكوراً فلو عطف على البدل لكان بدلاً، ولا يصح فيه غير بدل الغلط، وهو لا يقع في فصيح الكلام فتدبر وللنحرير هنا كلام لا يخلو من إشكال. قوله: (وهو خطاب للائمة الخ) أي تقوموا خطاب للحكام أو للقوّام بالتشديد جمع قائم أي الأولياء والأوصياء أو الخطاب من قوله: يفتيكم إلى هنا، والنصفة بفتحتين الأنصاف(3/183)
وجوز في أن تقوموا أن يكون مبتدأ خبره مقدر أي خبر ونحوه، وجعله على تقدير يأمركم منصوبا مع ا! أمر يتعذى بالباء، وفي محل أن، والفعل بعد حذف حرف الجرّ للنحاة مذهبان قيل إنه مجرور، وقيل: إنه منصحوب بناء على
أنه شاع تعدية أمر بنفسه كقوله:
أمرتك الخير فافعل ما أمرت به
قوله: (وعد لمن آثر الخير) بالمد أي اختاره واشارة إلى الاحتراز من الرياء. قوله:
(توقعت) قال النحرير الخوف وقع في كلام العرب بمعنى التوقع، ولا مانع من حمله على الحقيقة، وان امرأة خافت اشتغال على حد قوله وان أحد من المشركين استجارك، وتقريره في النحو، وقدر بعضهم هنا كانت لاطراد حذفها بعد أن، ولم يجعله من الاشتغال، وهو مخالف للمشهور بين الجمهور، والمخايل بالخاء المعجمة جمع مخيلة، وهي العلامة، والإمارة وقوله: تجافياً مرّ تحقيقه، والنشوز يطلق على كل من صفة أحد الزوجين. قوله: (أن يتصالحا بأن تحط الخ) إنما صدر بقوله: لا جناح لنفي ما يتوهم من أن ما يؤخذ كالرشوة لا يحل، وفي الآية قراآت ذكر المصنف رحمه الله بعضها، وعلى أنها من الإصلاج جوّز في صلحا وجوه مفعول به على جعله بمعنى يوقعا الهلحا أو بواسطة حرف أي بصلح، والصلح بمعنى ما يصلح به، وبينهما ظرف ذكر تنبيهاً على أنه ينبغي أن لا يتطلع الناس على ما بينهما فليسترا، ويكون ذلك فيما بينهما أو كائناً بينهما على أنه حال، وعلى المصدرية فهو مصدر محذوف الزوائد أو من قبيل أنبتها الله نباتا، وجعل بينهما مفعولاً على أنه اسم بمعنى التباين، والتخالف أو على التوسع في الظرف لا على تقدير ما بينهما كما قيل. قوله: (وقرئ يصلحا (أي بالفتح، والتشديد، وهي قراءة لليثي والجحدري شاذة، وأصله يصطلحا فخفف بإبدال الطاء المبدلة من تاء الافتعال صادا، وأدغمت الأولى فيها لا أنه أبدلت التاء ابتداء صاداً وأدغم لأن تاء الافتعال يحب قلبها طاء بعد الأحرف الأربعة. قوله: (من الفرقة وسوء العشرة الخ) والمفضل عليه جعل له خيرية على سبيل الفرض! ، والتقدير أي إن يكن فيه خير فهذا أخير منه، وإلا فلا خيرية فيما ذكر.
قال الرضي إذا قلت أنت أعلم من الجماد فكأنك قلت: إن أمكن أن يكون للجماد علم
فأنت أعلم أو أنه اسم إما مصدر أو صفة، ولذا سمع جمعه على خيور إذ اسم التفضيل لا يجمع كذا، ونقل عن الزمخشري أنه ورد خيور في كلام فصيح فاقتديت به فهو قياس واستعمال أي ما ذكرت في جمعه موافق للقياس، والاستعمال من العرب، وهو بمعنى الخيرات، وقيل: أشار بالقياس إلى مقابله، وهو الشرور وقوله: (وهو اعتراضر الخ) أي جملة معترضة بين ما قبلها، وما بعدها من قوله وان تحسنوا الخ. قوله:) وأحضرت الأنفس الشح) حضر متعد لواحد وأحضر متعد لاثنين والأوّل هو الأنفس القائم مقام الفاعل، والثاني الشح لأنّ الأولى في باب أعطى إقامة الأوّل مقام الفاعل وان جاز إقامة الثاني أيضا فأصله حضرت الأنفس الشح، ثم أحضر الله الأنفس الشح، ويحتمل أن أصله حضر الشح الأنفس، والقائم هو الثاني، وقول المصنف رحمه الله تعالى جعلها حاضرة صريح في الأوّل، وقول الزمخشري، ومعنى إحضار الأنفس الشح أن الشح جعل حاضراً لها صريح في الثاني، وجعله من باب القلب خلاف الظاهر والمعنى عليهما واحد أي أنها لكونها مطبوعة عليه كأنه حاضر عندها لا يفارقها. قوله: (ولذلك اغتفر عدم تجانسهما) أي أنّ كلاً من الجملتين اعتراضية، والواو واو الاعتراضى لأنه يجوزم تعذد الاعتراض على الأصح فلا يرد أنه لا مناسبة بين خيرية الصملح، والمطبوعية على الشح مع التخالف بالاسمية والفعلية. قوله: (والأوّل للترغيب الخ) المماكسة بتقديم الكاف على السين معناها المشاحة كما في القاموس، ووقع في نسخة المماسكة من الإمساك، وهو البخل، والصحيح الأوّل. قوله: (أقام كونه عالماً الخ الم يقل مجازاتهم لأنّ علم الله، وقدرته يستعملان في القرآن كناية عن المجازاة لأنّ الإحسان والاتقاء يقتضي الإثابة فلذا اقتصر عليها فلا يقال الأولى أن يقول مقام مجازاتهم. قوله: (وهو متعذر) أي محال عادة واليه أشار بقوله أي لا يقع ميل البتة لأنّ المحال العادي هو ما لا يقع، وقوله: (كان رسول الله
صلى الله عليه وسلم الخ) حديث صحيح أخرجه أصحاب السنن عن عائشة رضي الله تعالى عنها وصححوه، وقوله: هذا قسمي بفتح القاف وسكون السين، وهذه قسمتي في نسخة، والصحيح الأولى رواية(3/184)
في الحديث والمراد بما تملك هو المحبة وميل القلب الغير الاختياري، وحديث من كانت له امرأتان صحيح أخرجه أصحاب السنن، وجزاؤه من جنس عمله. قوله: (ما لا يدرك كله الخ) أقول هذا من قواعد فقهاء الشافعية كقولهم: الميسور لا يسقط بالمعسور أي هل يجب البعض المقدور عليه أم لا فيه خلاف عندهم كمن حفظ بعضى الفاتحة، وكما لو كان في بدنه نجاسة، وعنده ماء يكفي غسل بعضها وقال الإمام الرازي الضابط أن كل أصل له بدل فالقدرة على بعضه لا حكم لها فهو كالعاجز، وما لا بدل له يأتي ببعضه وتفصيله أنه إما وسائل أو مقاصد والأوّل مغتفر، والثاني إن كان له بدل كالقنوت، والوضوء عدل إلى بدله، ومحل الخلاف عندهم غيره، وفيه كلام في فقههم، ولم يحضرني الآن كلام فقهائنا. قوله: (ببدل أو سلوا الخ) البدل أن يجد كل منهما زوجا، والسلو أن ينسى كل ما كان بينهما، وهذا إشارة إلى أنه ليس المراد بالغنى الغنى المالي، وهكذا قوله غناه، والآية معناها من ترك شيئا لله عوّضه الله خيراً منه. قوله: (والكتاب للجن! ل الخ الم يحمله على التوراة لأنّ التعميم أكثر فائدة وان صح الأوّل أيضا لأنهم أشد الخصوم، ممؤكيد الأمر بالإخلاص لعله لأنّ معنى قوله: {وَإِن تُصْلِحُواْ وَتَتَّقُواْ} أصلحوا واتقوا الله في السرّ، والعلانية، وقيل: إنه ما في قوله: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله} فإنه يتضمن الإخلاص ولا يخفى بعده، وقيل: زيادة أن لعموم الوصية أبلغ
في الأمر بالإخلاص، وقد قيل الأمر المراد قوله: اتقوا واياكم عطف على مفعول وصينا، وفصل لما بينه، وبين العامل من الفاصل، ولم يقدم ليتصل لمراعاة الترتيب الوجودي. قوله: (بأن اتقوا الله ويجورّ أن تكون أن مفسرة (يعني أن مصدرية بتقدير الجار، ومحلها نصب أو جرّ على المذهبين أو تفسيرية مفسرة للوصية بأنها قوله اتقوا الله، وشرطها ما فيه معنى القول دون حروفه كوصينا هنا. قوله: (وقلنا لهم ولكم الخ (يعني أنه معطوف على وصينا بتقدير قلنا، ولم يذكر قول الزمخشري أنه معطوف على اتقوا لأنه لا وجه له، وان أوّلوه قال السعد هذا بحسب ظاهر المعنى، وبحسب تحقيق الإعراب الشرطية تتعلق بفعل محذوف على ما تعلق به إن اتقوا لأنّ الشرطية لا تقع بعد أن المصدرية أو المفسرة فلا يصح عطفها على الواقع بعدها سواء أكان إنشاء أم إخباراً، والفعل وصينا أو أمرنا أو غيره فظهر أن سبب العدول عن العطف على اتقوا كونه إنشاء والشرطية خبر، وكون الوصية، والأمر لا يتعلق به الشرطية اهـ وقوله: (لهم ولكم) إشارة إلى أن في الكلام تغليبا. قوله: (لا يتضرّر بكفركم ومعاصيكم الخ) ظاهر قوله: كما لا ينتفع بشكركم أن الكفر بمعنى كفران النعمة كما يشير إليه قوله حميداً فينبغي أن يكون مراده الكفر الذي هو ضد الإسلام ولكنه أيضا فيه كفران نعمة الخالق الموجد له. قوله: (راجع إلى لهوله يغن الله كلاً من سعته) فإنه إذا وكلت، وفوّضت إليه فهو المغني لأنّ من توكل على الله كفاه، ولما كان ما بينهما تقريرا له لم يعذ فاصلا وقيل: إنه لا حاجة إلى هذا فإنه إذا كان مالك الملك كفت وكالته عمن سواه ممن لا يقدر على شيء إلا بإقداره وقوله: (يفنكم) لأنّ إذهابه يكون بمعنى إفنائه، وبمعنى جعله ذاهبا من مكان لآخر، والمراد الأوّل، وهو الأشهر، وقوله: (دل عليه الجواب (أي يراد ذهابكم. قوله: (أو خلقاً آخرين مكان الآنس (يعني أن الكلام يحتمل أنّ المعنى جميع بني آدم فالآخرين الذين هم بدل عنهم جنس آخر غير الناس، ويحتمل أن يكون نوعا منهم كالعرب فيكون آخرين نوعا آخر من بني آدم، وأورد على الأوّل أن آخر
وأخرى وتثنيتهما، وجمعهما كغير إلا أنه خاص بجنس ما تقدمه فإذا قلت اشتريت فرساً، وآخر لم يكن إلا من جنس ما تقدم أي وفرسا آخر فلو عنيت حماراً آخر لم يجز بخلاف غير فإنها أعم لما هو من جنسه، وغيره وقل من يعرف هذا الفرق قيل، ولم يستند فيما ذكره إلى نقل، ويرد عليه إشكال آخر، وهو أنّ آخرين صفة موصوف محذوف، والصفة لا تقوم مقام موصوفها إلا إذا كانت خاصة به نحو مررت بكتاب أو يدل عليه دليل، وهنا ليست بخاصة فلا بد أن يكون من جن! الأوّل لتحصل الدلالة على الموصوف المحذوف.
(قلت) ما ذكره غريب فإنه نقله الحريري في درته عن النحاة، ولم يخص ذلك بحذف
بل، ولو ذكر موصوفه(3/185)
لا بد أن يكون من جن! ما قبله حتى نقل ابن هشام في تذكرته عن ابن جني أنه لا بدّ من اتحادهما في التذكير، والتأنيث لكن المبرد لا يشترطه إلا أنّ ابن هشام نازع في اشتراطه واستدل بقوله:
وكنت أمشي على ثنتين معتدلأ فصرت أمشي على أخرى من الشجر
وأنها قد تذكر من غير تقدم شيء آخر يقابلها، وتحقيقه ما في المسائل الصغرى للأخفش
في باب عقده له قالط فيه أعلم أنّ آخر إنما يكون من جنس ما قبله تقول أتاني رجل، وأتاك آخر أو وأتاك رجل آخر أو أتاني رجل وأتاك إنسان آخر، ولو قلت: أتاني رجل وامرأة أخرى لم يكن كلاما، ولو قلت: أتاني صديق لك وعدو لك آخر لم يحسن، وربما جيء بآخر توكيدا، ولو لم تقل آخر استغنيت عنه فإن قلت: فهل لا يجوز جاءني صديق لك وعدو لك آخر بحمله على الإنسان قلت: هذا قبيح أن تحملهما جميعاً على المعنى إنما تحمل الأوّل على المعنى إذا كان الكلام قد مضى، ولو قلت: هذا الرجل، ورجل آخر لو لم تقل فيه آخر استغنيت من أجل العطف لأنه لا يظن أنّ الثاني هو الأوّل كما في غير العطف، ولو قلت: جاءني زيد وعمرو آخر لم يجز، وقد يجوز ما امتنع بتأويل كرأيت فرسا وحمارا آخر نظر الدابة قال امرؤ القيس: إذا قلت هذا صاحب ورضيته وقرّت به العينان بذلت آخرا
اص وحاصله أنه لا يوصف به إلا ما كان من جنس ما قبله لتتبين مغايرته في محل يتوهم
فيه اتحاده، ولو تأويلا، ومثله قوله عز وجل: {إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ} وهذا ما عليه استعمال العرب ومن لم يقف على هذا خبط فيه خبط عشواء. قوله: (بليغ القدرة الخ) أخذه من صيغة فعيل فإنها للمبالغة، وقوله: هو خطاب لمن عادى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى الأوّل كان عامّاً وقوله: (لما روي) أنه لما نزلت يعني قوله: د إن تتلوا لا قوله {إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ}
فإنّ المنقول في الأثر الأوّل حتى نسب من ذهب إلى الثاني إلى السهو كما أخرجه ابن أبي حاتم وابن جرير، وقوله: قوم هذا يعني فارس. قوله: (كالمجاهد يجاهد للفنيمة) هذا على التمثيل لا الحصر، وإنما مثلوا به لأنّ ثواب الدنيا، والآخرة معا قلما يجتمع في غير الجهاد والجزاء ليس هذا المذكور لأنه غير مسبب عما قبله فالجواب مقدر أقيمت علته مقامه أي فليطلبه، فإنّ عنده ثواب الدارين أو أنه مؤوّل بما يجعله مترتباً عليه، لأنّ مآله إلى أنه ملوم موبخ لتركه الأهم الأعلى الجامع لما أراده مع زيادة لكن من يشترط العائد في الجواب يقدره، ولذا قال الزمخشرفي المعنى فعند الله ثواب الدنيا والآخرة له إن أراده حتى يتعلق الجزاء بالشرط فلا بد من تقدير الجزاء أي فقد خسر فعند الله ثواب الدنيا، الاخرة وطالبهما رابح، وظاهر كلام المصنف رحمه الله تعالى أنّ طلب الغنيمة مع نية الجهاد في سبيل الله لا يضرّ وإنما الضار طلب الغنيمة فقط، ولا بعد فيه وقيل إنه لا أجر له، والتفسير الثاني يناسبه لأنه يقتضي عدم اجتماعهما، وقيل: يعتبر الغالب والأسبق. قوله: (عارقاً بالأغراض الخ) إنما فسره بهذا لأنه تذييل لقوله: {مَّن كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا} وليس فيها مسموع، ولا مبصر فلذا جعل الصفتين عبارة عن اطلاعه على غرض المريد للدنيا أو الآخرة، والاطلاع عبارة عن الجزاء، وليس مراده إرجاع صفة السمع والبصر إلى العلم حتى يخالف المقرّر في الكلام، ولذا قيل إرادة الثواب إما بالدعاء أو السعي والأوّل مسموع، والثاني: مبصحر فلذا ذيلها بقوله: سميعاً بصيراً، ولا يخفى أنّ ما فعله المصنف رحمه الله تعالى أبلغ لأنّ الاطلاع على نفس الإرادة، والغرض! اطلاعا كالمحسوس أقوى من الاطلاع على آثاره إلا أن في إطلاق العارف على الله شيء لأنهم صرحوا بأنه تعالى يقال له عالم، ولا يقال له عارف لكنه في نهج البلاغة أطلقه عليه تعالى، وقد ورد في غيره أيضا، ولعل النوبة تفضي إلى تحقيقه. قوله: (مواظبين) إشارة إلى أنّ القيام المواظبة كما في قوله تعالى: {يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ} (أي يديمونها خصوصاً، وقد ذكر بصيغة المبالغة، وجعلهم شهداء دلّه تعظيما لمراعاة العدالة، وأنهم بالحفظ لها يصيرون من شهداء الله. قوله: @@@
(بأن تفرّوا عليها الخ) يعني الشهادة مجاز عن الإقرار لأنّ شهادة المرء على نفسه لم تعهد، ولذا فسرها ببيان الحق ليشمل الإقرار، ولك أن تقول أنّ المقصود به المبالغة لا حقيقتها، والظرف أعني على أنفسكم كما يجوز(3/186)
أن يجعل مستقرّاً واقعا خبر كان المقدرة يجوز تعلقه بمحذوف هو الخبر أي وإن كنتم شهداء على أنفسكم أي ولو كانت الشهادة وبالأعلى أنفسكم، وكان في الأصل صلة الشهادة، ومتعلق المصدر قد يجعل خبراً عنه فيصير مستقرّاً مثل الحمد لله ولا يجوز في اسم الفاعل ونحوه، ولو على أصلها أو بمعنى إن، وهي وصلية وقيل جوابها مقدر أي لوجب عليكم أن تشهدوا عليها، ولما كانت الشهادة إما على النفس، واما على الأقربين عطف الأوّل بأو، والثاني بالواو لأنهما قسم واحد، وأما ما قيل إنّ المحذوف في أمثاله لا يكون الأعين الملفوظ ليدل عليه فيقدر في نحوكن محسنا، ولو لمن أساء إ أليك، ولو كنت محسنا لمن أساء إليك ولو قدر ولو كان الإحسان فليس بجيد فمما لا وجه له وقوله: (بيان الحق) إشارة إلى أنّ الشهادة مجاز عما ذكر فتشمل الإقرار كما مرّ، وليس فيه جمع بين الحقيقة، والمجاز. قوله: (أي المشهود عليه الخ) يعني أنّ الضمير راجع لما فهم من السياق أي لا تتركوا الشهادة جور الغنى المشهود عليه أو قرابته، ولا تتركوها ترحما لفقره أو المراد ما يعم المشهود له، وعليه وقوله: (فلا تمتنعوا الخ) إشارة إلى أن الجزاء محذوف، وقوله: فالته أولى بهما واقع موقعه أي إن يكن أحد هذين لم تمتنع الشهادة لأنّ الله أولى بالجنسين، وأنظر لهما من غيره وسيشير إليه بقوله وهو علة الجواب أقيم مقامه. قوله: (والضمير في بهما راجع الخ الما كان الحكم في الضمير العائد على المعطوف بأو الإفراد لأنه لأحد الشيئين أو الأشياء فلا تجوز فيه المطابقة تقول زيد أو عمرو أكرمته، ولو قلت: أكرمتهما لم يجز فلذا قيل كيف ثني الضمير في الآية فأج! بوا بأن ضمير بهما ليس عائداً على الغنيّ، والفقير المذكورين بل على جنسهما المدلول عليه بالم! كورين، والتقدير أن يكن المشهود عليه غنيا أو فقيراً فليشهد عليه فالله أولى بجنسي الغنيّ والفمير، وهذا الضمير ليس عائداً من الجواب إذ الجواب محذوف، ويشهد له قراءة أبيّ رضي الله تعالى عنه أولى بهم كذا قرّره المعربون وظاهره أنّ أفراد الضمير في مثله لازم، ولو كان جائزا لم يحتج إلى التوجيه، وأما احتمال أنه بيان لوجه العدول عن الظاهر، وأن كان كل منهما جائزاً كما صرّج به الرضي فلا يتم إلا بأنه للقصد إلى أولويته بالتعميم وأن لا يتوهم أنه بالنسبة إلى واحد فقط، ووجه شهادة قراءة الجمع أنها تعين أنّ المراد
الجنس لا كل واحد ولاهما، وفي الآية أقوال ذكرها المعربون. قوله: (لآن تعدلوا الخ الما كان المصدر مفعولأ له، وعلة لاتباع الهوى المنهي عنه فإما أن يكون بمعنى العدول عن الحق فيكون علة من غير تقدير، وان كان بمعنى العدل فيقدر مضاف، وهو كراهة العدل، ولو جعل علة للنهي نفسه قدر المضاف إذا كان من العدول ولم يقدر إذا كان من العدل على العكس أي أنهاكم كراهة العدول، أو للعدل قيل، وهو أولى. قوله: (وإن تلووا ألسنتكم عن شهادة الحق الخ) الظاهر أنّ المراد من الليّ أداء الشهادة على غير وجهها الذي تستحقه، والإعراض تركها ثم أشار إلى أنه يصح أن يكون في حق الشهود، والحكام، وليهم حيئدّ الحكم بالباطل. قوله: (وقرأ حمزة وابن عامر وإن تلوا) يعني بواو مفردة ما قبلها مضموم، وقوله: (وإن وليتم) بصيغة الماضي ليس لأنّ المضارع بمعناه بل لتحقيق لفظه، وأنه من اللفيف المفروق من الولاية بمعنى مباشرة الشهادة، وقيل: إنّ أصلها تلووا بواوين ايضاً نقلت ضمة الواو بعد قلبها همزة أو ابتداء إلى ما قبلها ثم حذفت لالتقاء الساكنين فهي بمعنى الأولى. قوله: (خطاب للمسلمين الخ) يعني أمر المؤمنين بالإيمان تحصل للحاصل فيؤوّل آمنوا باثبتوا ودوموا وإن أريد بالذين آمنوا المنافقون لأيمانهم ظاهرا فآمنوا بمعنى أخلصوا الإيمان، وأشار إليه بقوله: بقلوبكم وان أريد مؤمنو أهل الكتاب فالمراد آمنوا إيمانا عامّا، وقراءة نزل لأنه نزل منجما في ثلاث وعشرين سنة بخلاف غيره من الكتب، والكتاب الأوّل القرآن، والثاني الجنس الشامل لما سواه لا التوراة. قوله: (أي ومن يكفر بشيء من ذلك) قيل في توجيهه لأنّ الحكم المتعلق بالأمور المتعاطفة قد يرجع إلى كل واحد، وقد يرجع إلى المجموع، والتعويل على القرائن، وهنا قد دلت القرينة على الأوّل لأنّ الإيمان بالكل واجب، والكل ينتفي بانتفاء البعض(3/187)
ليس من جعل الواو بمعنى أو في شيء فليتأمّل، ولا
يحتاج إلى ما ذكر من أنّ الكفر ببعضه كفر بكله وان كان له وجه بل يكفي أنّ الكفر ببعضه ترك للإيمان بكله، وقرق بين الكفر بكل واحد، وعدم الإيمان بكل واحد، ولا يرد عليه أنه خلاف الظاهر لأنه كقولك ما جاءني زيد وعمرو وبكر يقصد أن الجائي أحدهم لأنه فرق بينهما كما أشار إليه بالأمر بالتأمّل لأنه لا تلازم فيما ذكره بخلاف ما نجن فيه فإن قلت: لم ذكر في الإيمان ثلاثة أمور الإيمان بالله والرسل والكتب، وفي الكفر خمسة الكفر بالله، والملائكة والكتب والرسل، واليوم الآخر، وقدم في الإيمان الرسول على الكتاب وعكس في الكفر.
قلت: أجاب الإمام عنه بأنّ الإيمان بالله، والرسل والكتب متى حصل الإيمان بالملائكة، واليوم الآخر، وأما الغمر فربما يزعم الإنسان أنه! ؤمن بالله والرسل، والكتب وينكر الملائكة، واليوم الآخر ويؤوّل ما ورد فيه، وان في مرتبة النزول عن الخالق إلى الخلق كان الكتاب مقدما على الرسول، وفي مرتبة الخروج من الخلق إلى الخالق يكون الرسول مقدما على الكتاب قيل، وهذا ليس بشيء لأن ما ذكره في الكفر مناقض لما ذكره في الإيمان ففي الكفر أثبت الإيمان- بالله، والرسل، والكتاب مع إنكار الملائكة، والقيامة وذلك يأبى قوله: إنه متى حصل الإيمان بها الخ. والسؤال في الترتيب باق لأنه لم اعتبر الصعود في أحد الجانبين فالحق في الجواب أن كل ما اعتبر في الكفر بحسب النفي اعتبر في الإيمان بحسب الإثبات والإيماق بالرسل، والكتب يستلزم الإيمان بالملائكة، والقيامة بخلاف الكفر، وليس النظر في الترتيب إلا إلى التفنن في الأساليب، وفيه بحث لأن مآل ما ذكره راجع إلى ما قاله الإمام عند التحقيق. قوله: (بحيث لا يكاد يعود إلى طريقه) كما هو شأن الضالّ البعيد المسافة عن مقصده، ولم يقل بحيث لا يعود لأنّ من الكفرة من يسلم كثيراً، ومنهم من غفل عنه فقال: ما قال، وليس بعد الحق إلا الضلال. قوله: (يعني اليهود آمنوا بموسى الخ (قدم في الكشاف التفسير الثاني، ورجحه ثم قال، وقيل هم اليهود آمنوا بالتوراة وبموسىءشبر ثم كفروا بالإنجيل، وعيسى صلى الله عليه وسلم، ثم ازدادوا كفراً بكفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم فقيل إنّ المصنف استدرك عليه بما ذكره فإنه لا يظهر فيما ذكر. تكرار الإيمان والكفر، ثم أورد عليه إن الذين ازدادوا كفراً بمحمد صلى الله عليه وسلم ليسوا بمؤمنين بموسى صلى الله عليه وسلم ثم كافرين بعبادة العجل ثم مؤمنين بالعود، ثم كافرين بعيسى تخير مثلا بل هم إما مؤمنون بموسى صلى الله عليه وسلم، وغيره أو كفار لكفرهم بعيسى صلى الله عليه وسلم، والإنجيل فالصحيح هو التوجيه الثاني، وكان عليه أن يقدمه كما في الكشاف.
أقلت) أما ترجيح الثاني فلا كلام فيه، وأما عدم صحة الأوّل فغير مسلم لأنه إن أريد بالذين قوم بأعيانهم تعين الثاني، وان أريد جنس ونوع باعتبار عد ما صدر من بعضهم كأنه
صدر من كلهم صح الأوّل، والمقصود استبعاد إيمانهم لما استقرّ منهم ومن أسلافهم فافهم. قوله: (إذ يستبعد الخ) يعني المراد في النظم أنّ من هذا حاله لا يرجع عن الكفر، ويثبت على الإيمان فلذلك لا يغفر له لا أنّ الله لا يغفر له على كل حال، وقوله: ضربت معتل من باب علم بمعنى اعتادته ولهجت به، وهو يتعدى بالباء، وقد يتعدى بعلى باعتبار أنه تمرس عليه، وأصله في تعويد الكلاب على الصيد. قوله: (وخبر كان في أمثال ذلك محذوف الخ) المراد بأمثاله ما يسميه النحاة لام الجحود، وهي الداخلة لفظا على فعلى مسبوق بكان الناقصة منفية بلم أو لتأكيد النفي، وهي زائدة عند الكوفيين وعند البصريين أنها غير زائدة متعلقة بخبر محذوف تقديره مريداً أو قاصداً ونفي إرادة الفعل أبلغ من نفيه، وهي اللام الواقعة بعد كون منفيّ ماض معنى لا لفظا، وبعدها أن مضمرة وجوباً، وهو ظاهر كلام المصنف، وزعم ابن خروف أنه لا يلزم كونه كونا كقوله ما يريد الله ليجعل وخالفه النحاة، وقيل: إنها تقع في الإيجاب، والذي ذهب إليه ابن مالك الأوّل قال في الألفية:
وبعد نفي كان حتماً أضمرا
أن أي. قوله: (يدل على أنّ الآية في المنافقين الخ) يريد بالآية قوله: {إن الذين آمنوا ثم كفروا} فيكون هذا تفسيراً آخر، وتكرر الإيمان ظاهراً، والكفر باطنا، وكون بشر(3/188)
استعارة تهكمية هو المشهور، وفيه احتمالات أخر مر تحقيقها، وقوله: مكان أنذر أحسن من قول الزمخشريّ مكان أخبر لأنّ التهكمية تكون في استعارة الضد لضده، والأخبار ليس ضدا له لأنه أعم، ولك أن تقول إنه مجاز مرسل فهو وجه آخر في التهكم. قوله: (على الذم الخ) متعلق بهما بدليل ما بعده ولم يجعله منصوبا على اتباع المنافقين لوجود الفاصل فلا يرتكب بغير ضرورة، وجوزه المعرب فيحتمل أنه سكت عنه لظهوره، وقوله: لا يتعزز الخ. يعني ليس
المراد أن العزة ثابتة لله بل أنها مختصة به يعطيها من يشاء لأنه المناسب لما قبله، ويعلم منه ثبوتها له بالطريق الأولى، ولا يؤبه بمعنى لا يعبأ، ويعتد بها وان ظن في الدنيا أنّ لهم عزة فهو دفع لما يتوهم، وقرأ عاصم نزل يعني معلوماً، والاستفهام للإنكار أو التعجب، وجوز كون عليكم نائب الفاعل، وأن تفسيرية، وهو خلاف الظاهر. قوله: (والمعنى أنه الخ (أي اسمها ضمير شأن مقدر لا أنكم كما قيل لأن أن المخففة لا تعمل في غير ضمير الشأن إلا لضرورة عند أبي حيان، وعند ابن عصمفور وابن مالك جائز وهو الصحيح، والجملة الشرطية خبر، وهي تقع خبراً في كلام العرب. قوله: (لتقييد النهي الخ) لأنّ الشرط قيد للجواب، وهذا قيد له، وقيد القيد قيد، والمعنى لا تقعدوا معهم وقت كفرهم واستهزائهم بالآيات، وضمير غيره راجع لحديثهم بالكفر والاستهزاء، وقيل للكفر والاستهزاء لأنهما في حكم شيء واحد. قوله:) هازئاً معانداً غير مرجوّ) أي غير مرجوّ إسلامه وعناده يعلم من كفره بالآيات المعجزة عند سماعها واستهزائه بها، ومن هذا حاله لا يرجى فلاحه فلا يقال إنه لا دلالة في الآية عليه، وقوله: (ويؤيده الناية) أي تؤيد كونه قيداً للنهي لأنّ مفهومها يقتضي أنهم لم ينهوا عن مجالستهم إذا خاضوا في غيره. قوله: (أو الكفر الخ) لأنّ الرضا بالكفر كفر وفي الكشف قال مشايخ ما وراء النهر الرضا بالكفر مع استقباحه ليس بكفر وإنما يكون كفراً مع استحسانه قالى تعالى حكاية عن موسى ولمجت: {واشدد عل قلوبهم فلا يؤمنوا} [سورة يونس، الآية: 88] قصد الزيادة عذابهم وعلى تقدير كونهم منافقين فهم كفرة مثلهم في الحقيقة فلا يحتاج إلى تأويل، ويؤيده قوله بعده أنّ الله جامع المنافقين الخ، وسيأتي تفصيله في سورة يونس، ولذا لم يعطف لأنه مبين لما قبله. قوله: (وإذن ملناة الخ) لأنّ شرط عملها النصب في الفعل أن تكون في صدر الكلام فلذا لم يجىء بعدها فعل، ومثل خبر عن ضمير الجمع مع إفراده لأنه في الأصل مصدر فيستوي فيه الواحد المذكر وغيره، ولما لم يتعين عند المصنف مصدريته قال كالمصدر أي في الوفوع على القليل، والكثير أو لأنه مضاف لجمع فيعم، وقد يطابق ما قبله كقوله
تعالى: {ثم لا يكونوا أمثالكم} والجمهور على رفعه، وقرئ بالنصب فقيل إنه منصوب على الظرفية لأنّ معنى قولك زيد مثل عمرو أنه في حال مثله، وقيل إنه إذا أضيف إلى مبنيّ اكتسب البناء، ولا يختص بما المصدرية الزمانية كما توهم بل يكون فيها نحو مثل ما أنكم تنطقون، وفي غيرها كقول الفرزدق:
إذ هم قريش واذ ما مثلهم بشر
ولما شرط ابن مالك رحمه الله في التسهيل في، اكتساب المضاف البناء أن لا يقبل التثنية، والجمع كدون وغير وبين قال إنّ مثل لا يصح فيه ذلك، وأعرب حالاً من الضمير المستتر في حق في قوله إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون، ومن النحويين من خالفه في هذا الشرط. قوله: (ينتظرون الخ (التربص معناه الانتظار للشيء، وظاهره أنّ مفعوله مقدر والجار والمجرور متعلق به وكلام الراغب يقتضي أنه يتعدى بالباء لأنه من انتظر بالسلعة ذلإء السعر ورخصه، وجعله مبتدأ خبره الجملة الشرطية لا يخلو من تكلف، ولذا أخره المصنف رحمه الله تعالى ومظاهرين من المظاهرة، وهي المعاونة وأسهموا بمعنى اجعلوا لنا سهما وعطاء، والحرب سجال مثل بمعنى يغلب ويغلب صاحبها تارة له، وتارة عليه، وأصله في السقي من البئر يجعل لكل طالب للماء نوبة في إدلاء دلوه. قوله: (والاستحواذ الاستيلاء الخ) كان القياس فيه استحاذ استحاذة بالقلب لكنه صحت فيه الواو، وكثر ذلك فيه، وفي نظائر له حتى ألحق بالمقيس وعد فصيحا، وقال أبو زيد أنه قياسي فعلى كل حال لا يرد على فصاحة القرآن كما حقق في المعاني. قوله: (وإنما سمي ظفر الس! لمين فتحاً الخ) في الكشاف لأنّ ظفر المسلمين أمر عظيم تفتح لهم أبواب السماء(3/189)
حتى ينزل على أوليائه، وأما ظفر الكافرين فما هو إلا حظ دنيء، وقوله: تفتح لهم أبواب السماء تفسير لقوله من الله بأمر يخصه، والا فكل فتح من الله ومنه يعلم حال ما قيل من أنه تمثيل، وتخييل لعظيم قدره والا فالطفر ليس مما ينزل من السماء، ويحتاج إلى فتح أبوابها واشعار النصيب هنا بالخسة لأنه لم يجعله فتحاً، ونصرة تامة بل قسما منها كما كان
كذلك، وقوله: سريع الزوال أي في نفسه لا باعتبار أنه دنيوي فإنه لا يخصه أو المراد ذلك فإنّ أمرهم في النصر إنما هو في هذه الدار، ونصر المؤمنين في الدنيا، والآخرة كما ذكر بعده، وقوله: حينئذ أي في الآخرة، وحين الحكم، ويكون التعبير بالمستقبل على حقيقته وعلى الثاني فهو لتحققه، ولو أبقى على إطلاقه ليشمل الدنيا، والآخرة لكان أولى، وتسمية الحجة سبيلا لأنها موصلة للغلبة. قوله: (واحتج به أصحابنا على فساد شراء الكافر المسلم الخ) يعني أنّ الشافعية استدلوا بالآية على أنه لا يصح العقد فيه لأنه لو صح لكان له عليه يد وسبيل بتملكه، ونحن نقول يصح ولكن يمنع من استخدامه، ويؤمر بإزالة يده، وبيعه قال الجصاص في الأحكام يحتج بظاهره في وقوع الفرقة بين الزوجين بردّة الزوج لأنّ عقد النكاح ي! ثبت للزوج سبيلا في إمساكها في بيته، وتأويتها، ومنعها من الخروج وعليها طاعته فيما يقتضيه عقد النكاج، والمؤمنين والكانرين شامل للإناث، وكذا الكافر إذا أسلمت امرأته واحتج به أصحاب الشافعيّ رحمه الله تعالى في إبطال شراء الذميّ للعبد المسلم لأنه بالملك يستحق ال! سبيل عل! يه، وليس كما قالوا لأنّ الشراء ليس هو الملك، والملك يتعقبه وهو السبيل فلا يستحق بصحة الشراء السبيل عليه لأنه ممنوع من استخدامه، والتصرف فيه! إلا بالبيع، والإخراج عن ملكه، فلم يحصل له سبيل عليه. قوله: (وهو ضعيف لأنه لا ينفي أن يكون الخ) أي لا ينفي أن يكون السبيل إذا عاد إلى الإيمان قبل مضيّ العدة، وفيه أنه حين الكفر لا سبيل له، ونفي السبيل بوقوع الفرقة، وبعد وقوع الفرقة لا بد لحدوث الوصلة من عوجب، وهو غير ظاهر فإن كان العود يكون الارتداد كالطلاق الرجعي والعود كالرجعة فلا ضعف فيه على أنه إذا كان السبيل في الاخرة أو بمعنى الحجة لا متمسك به لأصحابنا ولا للشافعية كما ذكره بعض المتأخرين، وقوله: (سبق الكلام) فعل معلوم من السبق بالباء الموحدة وجوز فيه أن يكون مجهولاً من السياق بالياء المثناة التحتية، والكسل الفتور والتثاقل، وبجوز في جمعه الضم، والفتح وقرئ كسلى بالإفراد. قوله: (والمراآة مفاعلة الخ) يعني أنّ المراآة مفاعلة من الرؤية إما بمعنى التفعل لأنّ فاعل بمعنى فعل وارد في كلامهم كنعمه وناعمه، وقد قرئ يرأون، وهو يدل عليه أو أنهم لفعلهم في مشاهد الناس يرون الناس، والناس يرونهم، وهم يقصدون إن ترى أعمالهم، والناس يستحسنوها فالمفاعلة في الرؤية متحدة وإنما الاختلاف في متعلق الإراءة فلا يرد أنّ اممرلمفاعلة لا بد في حقيقتها من اتحاد الفعل، ومتعلقه. قوله: (إذ المرائي لا يفعل إلا بحضرة
من ييرائيه الخ) بين وجهه بناء على أن الذكر بمعناه المتبادر منه، وأخر كونه بمعنى الصلاة إشارة إلى أنّ الأول الأولى، والزمخشريّ عكس لأنّ الكلام كان في الصلاة، وترك كون المراد بالقلة العدم كما في الكشاف لأنه يأباه الاسنثناء كما في الدر المصون واليه أشار النحرير فإنه مشكلى وردّ بأنّ معناه، ولا يذكرون الله إلا ذكراً ملحقاً بالعدم لأنه لا ينفعهم، ولا يخفى ما فيه فإنّ القلة بمعنى العدم مجاز، وجعل العدم بمعنى ما لا نفع فيه مجاز آخر، ومع ما فيه من التكلف ليس في الكلام ما يدل عليه وقوله: (وقيل الذكر فيها) أي المراد بالذكر الذكر الواقع في الصلاة. قوله:) حال من واو يراؤون كقوله ولا يذكرون) أي هي حال كما أنها جملة حالية أيضا وقيل عليه أنه ضعف لأنّ المضارع المنفي بلا كالمثبت في أنه لا يقترن بالواو أو في فصيح الكلام فهي عاطفة لا حالية، وفيه نظر وقوله: (أو واو يذكرون) بالجر عطف على واو يراؤون، ونصبه على الذم بفعل مقدر على أنه كالنعت للمنافقين إذا قطع. قوله: (والمعنى مرددين الخ) من الذبذبة، وأصلها كما قال الراغب صوت الحركة للشيء المعلق ثم استعير لكل اضطراب، وحركة أو تردّد بين شيئين، وعلى قراءة الكسر مفعوله محذوف كما ذكره أو فعلل بمعنى تفعلل لازم، وعلى الإهمال معناه ما ذكر أيضاً، وهو مأخوذ من الدية(3/190)
بالضم، وتشديد الباء بمعنى الطريق يقال هو على دبتي أي طريقتي وسمتي قال الشاعر:
طهاهذربان قل تغميض عينه على دية مثل الخنيف المرعبل
وفي الحديث " اتبعوا دية قريش " والمعنى أنهم يأخذون تارة طريقاً، وتارة أخرى لتحيرهم، وفي هذه الصيغة وأمثالها نحو كبكب كلام في التصريف ليس هذا محله، وذلك إشارة إلى الإيمان، والكفر المدلول عليه بذكر الكافرين، والمؤمنين كما أشار إليه المصنف، ولذا أضيف بين إليه، ويصح أن يكون إشارة إلى المؤمنين، والكافرين فيكون ما بعده تفسيراً له على حد قوله:
إلالمعيّ الذي يظن بك الظن كان قد رأى وأن سمعا
قوله: (لا منسوبين إلى المؤمنين الخ) يشير إلى أنه حال من المستتر في مدّبذبين، وأنّ
هؤلاء الأوّل إشارة إلى المؤمنين، والثاني إلى الكافرين وأنّ إلى متعلقة بما يتعدى بها كمنسوبين أو واصلين أو صائرين لأنه أيضاً يتعدى بها يقال صار إلى كذا كما مرّ. قوله: (ونظيره الخ) أي أنّ المراد بالضلال عدم الهداية، وبالسبيل الوصول إلى الحق كما أنّ المراد في الآية من لم يهده الله فلا هداية له ودينهم بمعنى عادتهم، ودأبهم وأراد به بيان ارتباطه بما قبله قيل، ويجوز أن يريد بالذين آمنوا المنافقين وفسر السلطان بالحجة التي هي إحدى معنييه، وبمعناه المعروف، ولذا جاز تذكيره وتأنيثه. قوله:) وهو الطبقة التي في قعر جهنم الخ) ضمير هو راجع للدرك الأسفل لا للدرك وحده لأنه شامل لما فوقه، والدرك كالدرج إلا أنه يقال باعتبار الهبوط، والدرح باعتبار الصعود، ولذا قيل لو قال في تفسيره بعضها تحت بعض لكان أنسب. قوله: (ثلاث من كن فيه فهو منافق الخ (هذا الحديث أخرجه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه وثلاث مبتدأ ومن كن فيه صفته، ومن إذا الخ خبره بتقدير مضاف أي خصال من والأحسن أن تجعل ثلاث خبراً مقدما، وهذا مبتدأ مؤخراً أو مبتدأ محذوف الخبر وخصال من إذا مفسر له كذا قيل، وعندي أنّ المعنى ليس على ما ذكر، وليس إعرابه كذلك بل ثلاث مبتدأ ومن كن فيه بدل اشتمال منه، وقوله: فهو منافق خبر لأنّ الخبر يكون عن البدل لأنه المقصود بالنسبة تقول زبد عينه حسنة على الصحيح الفصيح كما حقق في العربية، والمعنى من كان فيه هذه الخصال الثلاثة فهو منافق، وقوله من إذا الخ خبر مبتدأ محذوف، والجملة مفسرة لما قبلها كأنه قيل من هو فقال هو الذي إذا الخ، وهذا الحديث روي من طرق، وعلى وجوه ففي الصحيحين: " أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة
من النفاق حتى يدعها إذا أوتمن خان وإذا حدث كذب وإذا وعد غدر وإذا خاصم فجر " وقال المحدثون فيه أنه مخصوص بزمانه ع! ي! لاطلاعه بنور الوحي على بواطن المتصفين بهذه الخصال فأعلم أصحابه بإماراتهم ليحترزوا عنهم، ولم يعينهم حذراً عن الفتنة، وارتدادهم ولحوقهم بالمحاربين، وقيل ليس بمخصوص، ولكنه مؤوّل بمن استحل ذلك، أو المراد أن من اتصف بهذه فهو شبيه بالمنافقين الخاص، وأطلق ذلك عليه تغليظا، وتهديداً له، وهذا في حق من اعتاد ذلك لا من ندر منه أو هو منافق في أمور الدين عرفاً، والمنافق في العرف يطلق على كل من أبطن خلاف ما يظهر مما يتضرر به وان لم يكن إيمانا وكفرا، وليس المراد الحصر بل هذا صدر منه صلى الله عليه وسلم باقتضاء المقام، ولذا ورد في بعض ثلاث وفي بعض أربع. قوله: (والتحريك أوجه الخ) يعني أنّ الفتح أكثر، وأفصح لأنه ورد جمعه على أفعال وأفعال في فعل المحرك كثير مقيس ووروده في الساكن نادو كفرخ، وأفراخ وزند وأزناد، وكونه استغنى بجمع أحدهما عن الآخر جائز لكنه خلاف الظاهر فلا يندفع به الترجيح وقوله: يخرجهم منه أي من الدرك فسره به لأنّ نصرة من دخلها يكون بذلك، وقوله: لا يريدون بطاعتهم إلا وجهه أي لا رياء الناس، ودفع الضرر كما في النفاق، وفسر المعية بعدهم من جملتهم في الدنيا، والآخرة وقوله: فيساهمونهم فيه أي يقاسمونهم، ولولا تفسيره بهذا لم يكن له في ذكر أحوال من تاب عن النفاق معنى ظاهراً. قوله: (أيتشفى به غيظاً أو يدفع به ضرا) التشفي إزالة ما في النفس من ألم الغيظ وغيظا تمييز، وقوله: بكفره متعلق بيعاقب لا بالمصر لأنه يتعدى بعلى. قوله: (لأن إصراره الخ) هذا(3/191)
تمثيل بأن الإصرار كمرض! مهلك فإن عالجه المريض، وامتثل أمر الطبيب فاحتمى عن النفاق والآثام ونقى نفسه بشرية الإيمان، والشكر في الدنيا بريء، والا هلك هلاكا لا محيص عنه بالخلود في النار ولبعض الناس هنا كلام يتعجب منه. قوله: (وإنما قدم الشكر لأنّ الناظر الخ) يعني كان الظاهر تأخير الشكر لأنه لا يعتد به إلا بعد الإيمان، والواو وان لم
تفد الترتيب لكن تقديم ما ليس مقدماً لا يليق بالكلام الفصيح فضلا عن المعجز، ولدّا تراهم يذكرون لما يخالفه وجها، ونكتة، وهي هنا ما ذكره المصنف رحمه الله كغيره، وتوضحيحه أنّ العارف بالله أبا إسماعيل الأنصاري قال الشكر في الأصل اسم لمعرفة النعمة لأنها السبيل إلى معرفة المنعم، وله ثلاث درجات لأنه إذا نظر إلى النعمة كالخلق والرزق ينبعث منه شوق إلى معرفة المنعم، وهذه الحركة تسمى باليقظة، والشكر القلبي، والشكر المبهم لأن منعمه لم يتضح له تعييبه، وإنما عرف منعماً ما فهو مبهم عليه فإذا تيقظ لهذا وفق لنعمة أرفع منها، وهي المعرفة بأنّ المنعم عليه هو الصمد الواسع الرحمة المثيب المعاقب فتتحرك جوارحه لتعظيمه، ويضيف إلى شكر الجنان شكر الأركان، ثم ينادي على ذلك الجميل باللسان فالمذكور في الآية هو الشكر المبهم، وهو مقدم على الإيمان. قوله: (مثبباً يقبل اليسير الخ) قال الإمام الشاكر في وصفه تعالى بمعنى كونه مثيبا على الشكر، وقوله: عليماً أي هو عالم بجميع الجزئيات، والكليات فلا يعزب عن علمه شيء فيوصل الثواب كاملا إلى الشاكر. قوله: الا يحب الله الجهر بالسوء) قال الطيبي لما فرغ من إيراد بيان رحمته وتقرير إظهار رأفته جاء بقوله: لا يحب الله الجهر بالسوء تتميما لذلك، وتعليما للعباد التخلق بأخلاق الله.
(قلت) الظاهر أنه لما ذكر الشكر على وجه علم منه رضاه به، ومحبة إظهاره تممه بذكر
ضده فكأنه قال إنه يحب الشكر واعلانه، ويكره السوء، وما ذكره لا محصل له، ولا تتم به المناسبة، وفيه احتباك بديع. قوله: (1 لآجهر من ظلا بالدعاء الخ) اختلف في هذا الاستثناء على وجوه منها ما ذكر هنا أنه متصل بتقدير مضاف مستثنى من الجهر، ومما لا حاجة إليه ما قيل إنه تعالى لا يحب الدعاء الخفيّ أيضاً على غير الظالم فتخصيص الجهر لا داعي له إلا سبب النزول المذكور لأنّ الدعاء الخفيّ على غير ظالم لا يصدر من عاقل إذ الدعاء إمّا للتشهي أو لرجاء القبول، وكلاهما غير متصوّر فيه وإنما ذكرنا هذا لتقيس عليه أخواته مما تركناه، وقوله: ضاف بمعنى نزل عليهم ضيفاً، ومصدره الضيافة، أمّا ما يفعله رب المنزل فهو الإضافة مصدر أضاف، ولذا قيل إنّ استعمال الضيافة بمعنى الإضافة غلط وقوله: (وروي الخ) هذا حديث أخرجه عبد الرزاق، وابن جرير عن مجاهد مرسلا. قوله: (وقرئ من ظلم على البناء للفاعل الخ) على هذه القراء الاستثناء منقطع، والمعنى لكن الظالم يحبه، وقدّره المصنف رحمه الله يفعل ما لا يحبه الله، وهو بيان لمحصل المعنى، ومراده أنّ الظالم يحبه فيفعله، وله تقديرات أخر، وهو منصوب، وترك ما ذكره الزمخشرفي من أنه منقطع مرفوع بالإبدال من فاعل
يحب حيث قال: ويجوز أن يكون من ظلم مرفوعا كأنه قيل لا يحب الله الجهر بالسوء إلا الظالم على لغة من يقول ما جاءني زيداً لا عمرو، بمعنى ما جاءني إلا عمرو، ومنه لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله لأنّ منهم من ردّه، ومنهم من قال لا يظهر له معنى قيل إنه غير صحيح لأنّ المنقطع قسمان قسم يتوجه إليه العامل نحو ما فيها أحد إلا حمار، وفيه لغتان النصب، والبدل وقسم لا يتوجه إليه العامل، والآية من هذا القسم إذ لا يصح أن يكون غير الظالم بدلاً من الله لأنّ البدل في هذا الباب بدل بعض حقيقة أو مجازاً، ولا يصح واحد منهما هنا، وكذا ما ذكره من المثال والآية، ولا نعلم هذا لغة، ولم يذكره غير سيبور رحمه الله فإنه أنثد أبياتاً في الاستثناء المنقطع منها:
عشية لاتغني الرماح مكانها ولا النبل إلا المشرفيّ المصمم
ثم قال، وهذا يقوّي ما أتاني زيداً لا عمرو وما أعانه إخوانكم إلا إخوانه لأنها معارف ليست الأسماء الآخرة بها، ولا منها انتهى بحروفه قال أبو حيان: وليس البيت كالمثال لأنه قد يتخيل فيه عموم على معنى السلاح، وأمّا زيد فلا يتوهم فيه عموم، ولا يمكن تصحيحه الأعلى أنّ أصله ما أتاني زيد، ولا غيره فحذف(3/192)
المعطوف لدلالة الاستثناء عليه، وكذا الآية الأخرى، ورد بأنه لو كان التقدير ما ذكره في المثال لكان الاستثناء متصلاً، وأنّ المراد جعل المبدل منه بمنزلة غير المذكور حتى كان الاستثناء مفرع، والنفي عام إلا أنه صرح بنفي بعض أفراد العام لزيادة اهتمام بالنفي عنه أو بكونه مظنة توهم الإثبات فيقولون ما جاءني زيد إلا عمرو، والمعنى ما جاءني إلا عمرو، فكذا ههنا المعنى لا يحب الجهر بالسوء إلا الظالم وذكر لزيادة تحقيق نفي هذه القضية عنه فإن قيل ما بعد إلا حينئذ لا يكون فاعلا، وهو ظاهر فتعين البدل وهو غلط قلنا بل إنما يكون غلطا لو لم يكن هذا الخاص في موقع العام، ولم يكن المعنى ما جاءني أحد إلا عمرو فإن قيل فيكون لفظ الله مجازاً عن أحد، ولا سبيل إليه قلنا لا يحب الله مؤول بلا يحب أحد وواقع موقعه من غير تجوّز في لفظ الله، ولهذا لم يجز الإبدال فيما إذا تعذر التأويل مثل لا عاصم اليوم إلا المرحوم، ويتعين الانقطاع كذا قيل، وفيه أنّ المستثنى منه إذا كان عاماً فإمّا بتقدير لفظ كما ذكره أبو حيان، وامّا بالتجوّز في لفظ العلم، وكلاهما مرّ ما فيه، ولا طريق آخر للعموم فما ذكره المجيب لا بد من بيان طريقه اللهم إلا أن يقال إنّ الاستثناء من العلم يشترط فيه أن يكون صاحبه أحق بالحكم بحيث إذا نفى عنه يعلم نفيه عن غيره بالطريق الأولى من غير تقدير، ولا تجوز فيقال هنا مثلا إذا لم يحب الله الجهر به، وهو الغنيّ عن جميع الأشياء فغيره لا يحبه بطريق من الطرق فتأمّله أو يقال يقدّر في الكلام ما ذكر لكنه عذ منقطعاً بحسب المتبادر، والنظر إلى الظاهر، وأمّا أنه ليس بلغة فكفى بثقل سيبويه سنداً له، ولا مانع من جعله على قراءة المعلوم متعلقا بالسوء أي الأسوء من ظلم فيحب الجهر به، ويقبله، وفي الإعراب له تفصيل فانظره.
قوله: (سميعاً لكلام المظلوم) الظاهر تعميم السمع، والعلم لكنه فسره بما ذكره لأنه
تذييل لما قبله فيقتضي تخصيصه به، وقوله، وهو المقصود إنما كان مقصوداً لأنّ ما قبله في ذكر السوء، والجهر به فمقتضى السياق لا يحب ألله الجهر بالسوء إلا من ظلم فإن عفا المظلوم عنه، ولم ياع على ظالمه فإنّ الله عفو قدير لكنه ذكر قبله إبداء الخير، واخفاء. توطئة للعفو عن السوء لأنه يعلم من مدح حالي الخبر السر، والعلانية أنّ السوء ليس كذلك جهراً واخفاء فينبغي العفو عنه، وتركه قال النحرير بعد الأعلام بأنه لا يحب الجهر بالسوء إلا جهر المظلوم حث على العفو بقوله: أو تعفوا عن سوء بعدما جوّز الجهر بالسوء، وأذن فيه وجعله محبوبا حيث استثناء من لا يدبئ، وإنما حث عليه لأجل الحث على الأحب الأفضل، وذكر إبداء الخير، واخفاءه بقوله: إن تبدوا خيرا أو تخفوه تشبيباً أي توطثة، وتمهيدا للعفو من شبب بثين معجمة، وباءين موحدتين في قصيدته إذا قدم على الغرض من المدح الغزل، ووصف الحسن، والجمال وإنما عطفه باو مع دخوله في الخير بقسميه للاعتداد به، والتنبيه على منزلته، وكونه من الخير بمكان مرتفع، وكانّ المراد بكون الجهر محبوبا أنه غير مكروه فيتناول المباح، والا فترك المندوب لا يكون أحب، وأفضل، وليس المراد أنه حينئذ هو المقصود، وأنه من قبيل، وملائكته، وجبريل لأنّ مثله يعطف بالواو لا بأو، ولذا حمل المصنف رحمه الله الخير على الطاعة، والبرّ مما هو عبادة، وقربة فعلية لتغاير العفو فالمراد بالتوطئة أنه ذكر ما هو مناسب له، وقدّم عليه وإنما المقصود بالسياق العفو. قوله: (ولذلك رنب عليه الخ) أي لو لم يكن الغرض هو العفو فقط، وكان إبداء الخير، وإخفاؤه أيضا مقصوداً بالشرط لم يحسن الاقتصار في الجزاء على كون الله عفوا قديرا. قوله: (فأنتم أولى بذلك) لأنّ القادر إذا عفا فغير القادر أولى إذ قد بضطرّ إلى العفو والاقتداء بسنة الله أولى بكم فلا يقال إنه تعالى لا يتضرر بالعصيان، ونحن نتأذى بالظلم فكيف يكون عفو المتأذى أولى وقوله: (وبعدما رخص) إشارة إلى أنّ الانتقام رخصة غير محبوبة، إلا فلا يكون العفو أحب لأنّ ترك المندوب لا يكون أحب إذ استثناء الجهر أفاد به أنه غير مكروه لا أنه محبوب كما مرّ فتأمّل. قوله: (بأن يؤمنوا بالله ويكفروا برسله) يعني أنّ التفريق في اعتقاد الحقية لأحدهما دون الآخر لا يصح مع أنّ حقية أحدهما تستلزم حقية الآخر فالذين يكفرون بالله، ورسله هم الذين خلص كفرهم الصرف بالجميع، والذين يفرقون بينه وبين رسله هم الذين آمنوا بالله، وكفروا برسله لا عكسه، وإن قيل إنه(3/193)
يتصوّر في النصارى لإيمانهم بعيسى صلى الله عليه وسلم، وكفرهم بالله لجعلهم له شريكاً ولذا فإنّ
الكفر بالله شامل للشرك، والإنكار ولا يخفى بعده، والذين يؤمنون ببعض ويكفرون ببعض هم الذين آمنوا ببعض الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وكفروا ببعضهم كاليهود فهذه أقسام متقابلة كان الظاهر عطفها بأو، ولذا قيل إنها بمعنى أو أو الموصول مقدر بناء على جواز حذفه مع بقاء صلته. قوله: (طريقاً وسطا بين الإيمان والكفر الخ) الوسطية مستفادة من بين والإيمان، والكفر تفسير لذلك لأنه يشار به لمتعدد كما مرّ، ولذا أضيف إليه بين قيل، وهذا رأجع إلى يريدون الأوّل، وما بعده إذ الذين كفروا الأؤل من كفر بهما ليجمع جميع الأقسام، ولو فسر بالأعم، وجعل ما بعده مفسراً له صح، وقو! له: كالكافر بالكل قال النحرير لما سبق من أنّ طريق الإيمان هو المعجزة فالكفر بالبعض اإنكار لها، وتكذيب، وهو يستلزم الكفر بالجميع وقوله: فماذا بعد الحق إلا الضلال إشارة إلى أنه لا واسطة بينهما. قوله: (هم الكاملون في الكفر الخ) اعتبر الكمال ليكون الخبر مفيداً، وليصح الحصر، وقد يقال هو مستفاد من توسيط الفصل، وتعريف الجنس. قوله: (مصدر مؤكد لغيره) قد قدمنا الفرق بين المؤكد لغيره والمؤكد لنفسه، وعامله محذوف على هذا ومذكور على ما بعده، وقوله: يقينا محققاً دفع لما قيل عليه أنه كيف يكون الكفر الباطل حقاً بأن حقاً ليس هو مقابل الباطل بل المراد به ما لا شك فيه، وأنه مقطوع به، وأشار بقوله محققا إلى أنه بمعنى اسم المفعول، ولذا وقع صفة. قوله: (أضدادهم ومقابلوهم الخ) يعني أنّ المؤمنين المذكورين مقابل وصف الذين كفروا بالله ورسوله بأقسامهم، وهو بيان للمعنى واشارة إلى ما فيه من الطباق، وقيل: إنه بيان لأنه هو الخبر المقدّر، والظاهر أنّ الخبر قوله: أولئك الخ وقوله: وإنما دخل بين الخ. مرّ تفصيله في قوله لا نفرق بين أحد من رسله. قوله: (الموعودة) إشارة إلى أنّ الإضافة للعهد، وقوله: (وتصديره بسوف لتثيد الوعد الخ) أي الموعود والذي هو الإيتاء لا الأخبار بأنه متأخر إلى حين بناء على أنّ المضارع موضوع للاستقبال فدخول حرف الاستقبال عليه لا يكون إلا لتأكيد إثباته كما أن لا يفعل لما
كان لنفي الاستقبال كأن لن يفعل لتأكيد ذلك، وهذا معنى قول سيبويه بل يفعل نفي سوت يفعل وان كان ظاهر عبارته أنه لنفي التأكيد، وقوله: لا محالة بيان للتأكيد، وتلوين الخطاب المراد به الالتفات من التكلم للغيبة، والتلوين جعله لوناً بعا- دون للتطرية، وهو كالتفنن أعئم من الالتفات، وقوله: بتضعيف حسناتهم إشارة إلى تعلقه بقوله سوف نؤتيهم أجورهم، وأنهم يزادون على ما وعد والسعة رحمته. قوله: (قالوا إن كنت صادقاً الخ (لما كان أتى بكتاب، وهو القرآن، ومنهم من يعلمه، ومنهم من يسمع به فلا بد أن يكون ما سألوه تعنتا مخالفاً له إمّا بكونه جملة، وهو منجم أو بكونه بخط سماويّ أو معاينة نزوله أو ذكرهم بأعيانهم فما فسره به مدلول عليه بقرينة الحال فلا يقال إنه من أين أخذ هذا التقييد، ولا قرينة عليه، وأفا كون تنزل دالاً على التدريج كما مرّ فكيف يكون ما سألوه جملة فليس مطلقا أو مطرداً كما مر، وقوله: إن كنت صادقا رواه الطبري بمعناه. قوله: (جواب شرط مقدّر الخ (يعني أنّ الفاء في جواب شرط مقدر والجواب مؤوّل كما أشار إليه، والتقدير إن استكبرت هذا، وعرفت ما كانوا عليه تبين لك رسوخ عرقهم في الكفر فلا يرد عليه أنّ سؤال ا! بر فيما مضى لا يترتب على استكباره صلى الله عليه وسلم، وقيل إنها سببية والتقدير لا تبال ولا تستكبر فإنهم قد سألوا موسى-تجيح! أكبر! ت ذلك، وقرأ الحسن رحمه الله أكثر بالمثلثة. قوله:) وإن كان من آبائهم الخ (الهدى بالسكون السيرة، والطريقة واسناد ما للأصل إلى الفرع من قبيل إسناد ما للسبب للمسبب فسقط ما قيل أنّ الآخذ بمذهب الفاعل الحقيقيّ لم يعد من ملابساته في كتب المعاني لكن صاحب الكشاف اعتبره في هذا المقام أيضاً، وقد يجعل من إسناد فعل البعض إلى الكل بناء محلى كى (أالاتحاد نحو قومي هم قتلوا أمما أخر فيكون المراد بضمير سألوا جميع أهل الكتاب لصدور أنسؤال عن بعضهم، واقترحوه بمعنى ابتدعوه واخترعوه. قوله:) أي أرناه نره جهرة الما كانت ا! جهرة صفة الرؤية كما في كتب اللغة لا الإراءة اقتضى ذلك تقف ير ما ذكره، وأشار إلى أنه صفة مصدر رأى رؤية(3/194)
لا قولاً جهرة، وسؤالاً جهرة كما قيل، ويحكح أن يكون حالاً من مفعول أرنا الأؤل أي مجاهرين، ومعاينين ولا وجه لما قيل إنّ تقديره بعيد عن الفهم، والظاهر أنه مصدر الإراءة في الحقيقة إمّا من لفظه بتقدير إراءة عيان أو من غير لفظه أي رؤية عيان، ويحتمل الحائية من المفعول الثاني أي معايناً على صيغة المغعول، ولا لبس فيه لاستلزام كل منهما الآخرفلا يربتا اط
إنه يتعين أنه حال من الثاني لقربه منه. قوله: (نار جاءت من قبل السماء فأهلكتهم) أشار بهم إلى أنّ أخذتهم مجاز عما ذكر، وقوله وذلك لا يقتضي الخ ردّ على الزمخشرفي لأنه ينكر الرؤية لأن إنكار طلب الكفار لها في الدنيا تعنتاً لا يقتضي امتناعها مطلقا وهو ظاهر. قوله: (والبينات الخ) أي لا يصح إرادة التوراة لأنها نزلت بعد ذلك كما سيأتي فالمراد المعجزات أو الحجج الواضحة، وقوله: (تسلطا) إشارة إلى أنه مصدر، وأنّ مبيناً من أبان بمعنى ظهر وقوله: (مل) بضم الميم، وبكسر الطاء المهملة، وتشديد اللام بمعنى مثرف قيل إن السلطان المبين كان قبل العفو لأنّ قبول القتل كان توبة لهم، ولا محذور فيه لأنّ الواو لا تقتضي الترتيب، ولو فسر التسلط بما بعد العفو من قهرهم حتى انقادوا له، ولم يتمكنوا من مخالفته لم يرد عليه شيء. قوله: (وقرأ ورش عن نافع لا تعدّوا الخ) يعني بفتح العين وتشديد الدال وروي عن قالون تارة سكون العين سكوناً محضاً، وتارة إخفاء لفتحة العين فأمّا الأولى فأصلها تعتدوا لقوله: {اعتدوا منكم في السبت} [سورة البقرة، الآية: 65] فإنه يدل على أنه من الاعتداء وهو افتعال من العدوان فأريد إدغام تائه في الدال فنقلت حركتها إلى العين وقلبت دالاً وأدغمت، وهذا واضح، وأمّا السكون فشيء لا يراه النحويون للجمع بين ساكنين على غير حدهما والإخفاء، والاختلاس أخف منه وقرأ الأعمش تعتدوا على الأصل. قوله:) على ذلك وهو قولهم سمعنا وأطعنا) في الكشاف، وقد أخذ منهم الميثاق على ذلك، وقولهم: سمعنا وأطعنا، ومعاهدتهم على أن يتموا عليه ثم نقضوه بعد قيل، وقولهم معطوف على الميثاق فيتحد كلامه، وكلام المصنف، ولذا صرح به ومآل كلام المصنف يخالفه لأنه جعل الميثاق الغليظ معاهدتهم معاهدة مؤكدة على السمع والطاعة، والمصنف رحمه الله جعله نفس قولهم سمعنا وأطعنا لأنه ميثاق ووجه كونه غليظاً قيل يؤخذ من تعبيره بالماضي، وفيه تأمّل. قوله: (فخالفوا ونقضوا
الخ) يشير إلى أنّ في الكلام مقدراً وأنّ الجار والمجرور متعلق بمقدر، وهو ما ذكر وفي الكشاف وما مزيدة للتأكيد فإن قلت بما تعلقت الباء، وما معنى التأكيد قلت إمّا أن تتعلق بمحذوف كأنه قيل فبما نقضهم ميثاقهم فعلنا بهم ما فعلنا، وإمّا أن تتعلق بقوله حرّمنا عليهم على أنّ قولهم فبظلم من الذين هادوا بدل من قوله فبما نقضهم ميثاقهم، وأمّا التوكيد فمعناه تحقيق أنّ العقاب أو تحريم الطيبات لم يكن إلا بنقض العهد، وما عطف عليه، وظاهره أنّ زيادة ما للتأكيد، وأنّ معنى التأكيد الحصر، وهو مشكل لأنّ الحصر إنما يفيده التقديم على العامل الملفوظ أو المقدّر، وكذا قيل في تأويله كما مرّ في نظيره إنّ في كلامه تقديراً يعني، وأمّا التوكيد، والتقديم على العامل، ولا يخفى أنّ عبارته هنا منادية على خلافه، والحق عندي إبقاؤه على ظاهره، وأنّ مراده أنّ ما مزيدة لتأكيد السببية، وأنه سبب قويّ، وقوته تفيد الحصر لأنه لا يخلو إما أن لا يكون له سبب آخر أو يكون، وعلى الأوّل يتمّ المقصود، وعلى الثاني فلا يخلو إما أن يكون داخلاَ فيه فكذلك أو خارجاً عنه منضماً إليه فإمّا أن يكون له مدخل في السببية أولا فعلى الثاني لا حاجة للضم، وعلى الأوّل لا يكون قويا لاحتياجه إلى ما ضم إليه أو مستقلاً فيكون مثله في الاستقلال بالسببية وحينئذ لا يكون لجعل هذا سببا قويا وجه بحسب الظاهر، ولا بدع في إفادة التوكيد للحصر بمعونة المقام فافهم فإنه مما غفلوا عنه. قوله: (ويجوز أن تتعلق بحرمنا الخ) ترك قول الزمخشري أنه على هذا يكون قوله فبظلم بدلاً لما قيل عليه إنه جعله بدلاً، ولم يجعله معطوفاً على السبب الأوّل كما جنح إليه المصنف رحمه الله لظهور أنه متعلق بقوله حرمنا على معنى السببية، ولا يتأتى ذلك بعد جعل المتعلق، والسبب هو قوله فيما نقضهم إلا بأن يكون هو بدلاً كما في قولك بزيد بحسنه فتنت، ومبناه على أنّ الفاء في فبظلم تكرار للفاء في فيما نقضهم عطفا على أخذناش! م ميثاقا غليظاً أو جزاء لشرط مقدر أما لو جعلت للعطف على بما نقضهم كقولك(3/195)
بزيد وبحسنه فتنبت أو ثم بحسنه لم يحتج إلى جعله بدلاً ولا يخفى أنّ هذا الإبدال بعيد لفظا لطول اأغصل، ولكونه من إبدال الجار والمجرور مع حرف العطف أو الجزاء مع القطع بأنّ المعمول هو الجار والمجرور فقط، ومعنى لدلالته على أنّ تحريم بعض الطيبات مسبب عن مثل هذه الجرائم العظيمة، ومترتب عليها، وأيضا قيل عليه أنّ المعطوف على السبب سبب فيلزم تأخر بعض أجزاء السبب الذي للتحريم عن التحريم فلا يكون سببا، ولا جزء سبب إلا بتأويل بعيد لأنّ قولهم على مريم بهتانا! ظيما، وقولهم إنا قتلنا المسيح متأخر زمانا عن تحريم الطيبات فالأولى أن يقدر لعناهم كما ورد مصرحا به، وأمّا الجواب بأنّ الفاء تقارن البدل إذا طال الفصل كما ذكره الزجاج، وغيره وأنّ دوام التحريم في كل زمان كابتدائه فتكلف لا داعي إليه. قوله: (فيكون التحريم بسبب التقض الخ) عدل عن قول الزمخشريّ فلا يكون التحريم إلا بسبب النقض لما قيل عليه أنّ إفادة هذا التركيب الحصر مشكل لأنّ التركيب حينئذ من قبيل مررت بزيد وبعمرو، وقد اتفقوا
على أنه لا يجوز في مثله قصد التخصيص، وفيه بحث لأنه إنما يتجه لو كان الحصر مأخوذاً من التقديم أما لو كان من التأكيد كما سمعت فلا لأنه مثل إنما بزيد مررت وبعمرو. قوله: (لا بما دل عليه قوله بل طبع الله الخ) حاصله كما في الكشاف أن الجار لا يتعلق بطبع، ولا بلا يؤمنون مقدراً هو نفسه أو ما يدل عليه بقرينة قوله: {بل طغ الله عليها بكفردم فلا يؤمنون} [سورة النساء، الآية: 1155 وقوله: {مثل لا يؤمنون} أي كما أنه لا يصح تعلقه بما دل عليه طبع لا يصح تعلقه بما دل عليه لا يؤمنون، وهذا رد لأبي البقاء، وغيره ممن جوّز هذا، ووجهه أنه ردّ لقولهم قلوبنا غلف واضراب عنه فيكون متصلاً به معنى، ومتعلقاً به، وما هو متعلق بالمجرور. ولا يصح عمله في الجار لفظآ، ومعنى وما لا يعمل لا يفسر عاملا لأنّ المفسر قائم مقام المفسير فلا يجوز مثل بزيد المار على أنّ المار عامل في بزيد أو مفسر لعامله، وهذأ معنى قوله من صلة وقوله: (صلة) مضاف إلى وقولهم إذ المراد به لفظه، وإنما قرنه بالواو لدفع اللبس لأنه لو قال من صلة قولهم لتوهم أنه صلة ما قالوه كما هو المتبادر لا هذا اللفظ فلا غبار فيه، ولا يرد عليه أنّ قوله، وقولهم مضاف إليه صلة فكان الأولى من صلة قولهم بدون واو، وأنه يقتضي أنّ الجار معمول فالأولى فلا يتعلق به جاره وضمير جاره للمجرور وهو قولهم قال النحرير هذا التقدير لا يصح لتوقفه على أن يكون بل طبع الله متعلقا بذلك المحذوف عطفا عليه بمعنى بل طبع الله عليها بنفس كفرهم فكيف إذا انضم إليه النقض، والقتل ليكون قرينة على ذلك المحذوف لكن ليس الأمر كذلك لأنه متعلق بقولهم قلوبنا غلف رذاً له، وانكاراً كما يفصح عنه قوله تعالى: {وقالوا قلوبنا غلف بل لعنهم الله بكفرهم} [صورة البقرة، الآية: 88] فلا يكون متعلقا بذلك المحذوف ولا دليل عليه بل استطراد ناظر إلى قولهم قلوبنا غلف عطفا على مقدر أي لم يخلق قلوبهم غلفا بل طبع الله عليها، ولأبي حيان هنا كلام مختل في بيان هذا الوجه تركناه خوف الإطالة بغير طائل. قوله: (أو بما جاء في كتابهم) لتحريفه، وانكاره، وعدم العمل به. قوله: (أوعية للعلوم أو في كنة الخ) أي هو إما جمع غلاف بمعنى الظرف، وأصله غلف بضمتين فخفف اي هو أوعية للعلم في غنية بما فيها عن غيره أو جمع أغلف كقولهم: سيف أغلف أي في غلاف فيكون كقوله: {وقالوا قلوبنا في كنة مما تدعونا إليه} [سورة فصدت، الآية: 5] لا تعيه، ولا تسمعه للحجاب المانع من وصوله إليها خلقة. قوله: (فجعلها محجوية عن العلم أو خذلها الخ) الوجه الأوّل ناظر إلى تفسير الغلف الأوّل أي قالوا قلوبنا مملوءة بالعلم فأبطله بأنها مطبوع عليها أي محجوبة عن العلم لم يصل
إليها شيء منه كالبيت المقفل المختوم عليه، والثاني إلى الثاني لأنهم قالوأ إنها في كنة، وحجب خلقية فلا جرم لنا في عدم قبول الحق فأضرب عنه بأنه ليس أمراً خلقيا بل كسبي لأنهم بسبب كفرهم خذلهم الله، ومنعهم مما ذكر فلا يتدبرون، وقتلهم الأنبياء بغير حق مرّ تحقيقه. قوله: " لا قليلاَ منهم الخ) قيل في ردّ هذا الوجه قليلاً صفة مصدر أو زمان محذوف أي إلا إيماناً أو زمانا قليلاً، ولا يجوز نصبه على الاسنثناء من فاعل يؤمنون أي إلا قليلاَ منهم فإنهم يؤمنون لأنّ ضمير لا يؤمنون عائد على المطبوع على قلوبهم، ومن طبع على قلبه بالكفر لا يقع منه إيمان، والجواب(3/196)
أنّ المراد بما مز الإسناد إلى الكل ما هو للبعض باعتبار الأكثر فتأمّل أو المراد بالإيمان القليل التصديق ببعضه كنبوّة موسى صلى الله عليه وسلم، وهو لا يفيد لأنّ الكفر بالبعض كفر بالكل كما مرّ. قوله:) وهو معطوف على بكفرهم لأنه من أصباب الطبع) دفع لما يتوهم من أنه من عطف الشيء على نفسه، ولا فائدة فيه بوجوه منها أنه إن عطف على بكفرهم الذي قبله، وهو مطلق، وهذا كفر بعيسى فهو إشارة إلى أنّ الكفر المطلق سبب للطبع كالمخصوص فلذا عطف للإيذان بصلاحية كل منهما للسببية، وان عطف على فبما نقضهم فظاهر، وان عطف مجموع هذا، وما بعده على مجموع ما قبله لا يلزم المحذور أيضا لمغايرة المجموع للمجموع، وإن لم يغاير بعض أجزأئه بعضاً لأنّ النظر إلى المجموع كقوله: هو الأوّل والآخر والظاهر، والباطن أو يعتبر التغاير بين ما كفروا به في المواضع الثلاثة، ويصح أيقحاً عطف هذا المجموع على قوله: بكفرهم ذكره الإمام، وجميع المحققين. قوله: (أي بزصمهم الخ الما كان القائلون اليهود، وهم لا يقرّون برسالة عيسى صلى الله عليه وسلم أوّل بأنّ تسميته رسولاً بناء على قوله، وإن لم يعتقدوه أو هو استهزاء وتهكم، ومثل له بإطلاق الرسول، وكونه أرسل في الآية الأخرى أو أنهم لم يصفوه بذلك بل بغيره من صفات الذم فغير في الحكاية فيكون من الحكاية لا من المحكي أو هو كلام مستأنف معترض في البين لمدحه أي هو رسول الله صلى الله عليه وسلم. قوله: (روي أنّ رهطاً من اليهود الخ) أخرجه النسائي عن ابن عباس رضي الله عنهما، والقاء
الشبه أن يجعله الله في صورته متمثلا كتمثل جبريل عليه الصلاة والسلام بصورة دحية رضي الله عنه وقوله: (فقام رجل منهم) أي من أصحابه، وقبل ذلك وقوله: (وقيل كان رجلاَ) أي كان الملقى عليه الشبه أو المقتول رجلاً ينافق عيسى صلى الله عليه وسلم، ووقع في بعض نسخ الكشاف كان رجل بالرفع وهي أظهر من الأولى لاحتياجها للتأوبل، وأمثال ذلك مبتدأ من الخوارق خبره. قوله: (طيطانوس) اسم عبراني بطاءين مفتوحتين مهملتين بينهما مثناة تحتية ساكنة ثم ألف، ونون مضمومة تليها وسين مهملة، وفي نسخة ططيانوس بطاءين، ومثناة تحتية. قوله: (وإنما ذمهم الله الخ) أي أنه إذا ألقى عليه الشبه كان عندهم، وفي مبلغ علمهم عيسى عليه الصلاة والسلام فما ذكروه ليس كذبا يذم به لأنه على مبلغ علمهم فذمهم ليس بذلك بل بما تضمنه مما ذكره قوله: (وشبه مسند إلى الجار والمجرور الخ) إن أسند الفعل للجار والمجرور فالمراد وقع لهم تشبيه بين عيسى صلى الله عليه وسلم، ومن صلب أو هو مسند لضمير المقتول الذي دل عليه إنا قتلنا أي شبه لهم من قتلوه بعيسى أو الضمير للأمر، وشبه من الشبهة أي التبس عليهم الأمر ومن فسره بهذا بناه على أنه لم يقع ولا صلب أصلاً وإنما وقع إرجاف وأكاذيب، وليس المسند إليه ضمير المسيح صلى الله عليه وسلم لأنه مشبه به لا مشبه، والإرجاف أصل معناه الاضطراب ثم شاع فيما شاع من الكذب، وثم بالفتح اسم إشارة، وترسم بالها. قوله: (في شأن عيسى عليه الصلاة والسلام الخ) بيان للمعنى لأنّ الاختلاف ليس في ذاته بل في أمره، وقوله: فقتلناه حقا لا ينافي ما سيأتي من الشك لأنه بمعنى التردّد الواقع فيما بينهم لا أنّ كل أحد منهم شاك، وكذا قول من
سمع منه أنه يرفع والظاهر أنّ هؤلاء ليسوا من اليهود. قوله: (صلب الناسوت وصعد اللاهوت) هؤلاء الحلولية منهم القائلون بأن الله حل فيه وحين صلب انفصل عنه، وبقي جسمة قال الواحدي في شرح ديوان المتنبي يقولون لله لاهوت، وللإنسان ناسوت، وهي لغة عبرانية تكلمت بها العرب قديماً انتهى. قوله: (والشك كما يطلق الخ) أصل الشك أن يستعمل في تساوي الطرفين، وقد يستعمل في لازم معناه، وهو التردّد مطلقاً وان ترجح أحد طرفيه، وهو المراد هنا ولذا أكده بنفي العلم الشامل لذلك أيضاً بقوله: ما لهم به من علم الخ. قوله:) استثناء منقطع الخ) لأنّ الظن المتبع ليس من العلم في شيء فإن فسر العلم بما ذكره كان متصلا لكنه خلاف المشهور، ولذا أخره وممن ذهب إلى اتصاله ابن عطية رحمه الله، وأمّا ما قيل إنّ اتباع الظن ليس من العلم قطعاً فلا يتصوّر اتصاله. فعلم مما مرّ دفعه لأن من قال به جعله بمعنى الظن المتبع وفي ضمير قتلوه وجوه فالظاهر أنه لعيسى عليه الصلاة والسلام، والمعنى ما قتلوه قتلاً يقينا فيقينا صفة(3/197)
مصدر محذوف أو حال بتأويله بمستيقنين، ولا يرد عليه أنّ نفي القتل المتيقن يقتضي ثبوت القتل المشكوك لأنه لنفي القيد، والمقيد أو لنفي القيد، ولا مانع من أنه قتل في ظنهم فإنه يقتضي أنه ليس في نفس الأمر كذلك، وقيل هو راجع إلى العلم لمواليه ذهب الفراء، وابن قتيبة أي، وما قتلوا العلم يقيناً من قولهم قتلت العلم، والرأي، وقتلت كم اعلماً، وهو مجاز كما في الأساس، ويقال نحره علماً أيضاً ومنه نحرير للحاذق، وقال الأصمعي: نحرير كلمة مولدة وردّه الجواليقي وقال ورد في الشعر القديم كقوله:
يوم لا ينفع الرواغ ولا يف ط م إلا المشبع النحرير
وهي مشتقة من النحر كأنه نحر الأمور باتقانه كما يقال قتله خبراً قال:
قتلتني الأيام حين قتلتها خبراً فأبصرقاتلامقتولا
لأنّ من قتل فقد استعلى وغلب وتصرّف، وقيل: العلاقة التطهير بنفي الدماء،
والرطوبات، وهو بعيد، وقال الرضي في بحث المركبات النحر يكون بمعنى الإظهار لأنّ النحر يتضمنه ومنه قتلته خبراً، وقولهم للعالم نحرير لأن القتل، والنحر يتضمن إظهار ما في باطن الحيوان، وقيل الضمير للظن أي، وما قطعوا الظن يقيناً وهذا منقول عن ابن عباس رضي الله عنهما، والسدي، وقيل: إنه متعلق بما بعده أي بل رفعه الله رفعاً يقينا ورد بأنّ ما بعد بل لا يتقدم عليها والبيت المذكور لم أر من عزاه وبقنا بفتحتين بمعنى يقيناً. قوله: (أي وما من أهل الكتاب أحد إلا ليؤمنن به الخ) إن هنا نافية بمعنى ما وفي الجار والمجرور وجهان أحدهما أنه صفة لمبتدأ محذوف، والقسم مع جوابه خبر، ولا يرد عليه أنّ القسم إنشاء لأن المقصود بالخبر جوابه وهو خبر مؤكد بالقسم، ولا ينافيه كون جواب القسم لا محل له لأنه لا محل له من حيث كونه جواباً فلا يمتنع كونه له محل باعتبار آخر لو سلم أنّ الخبر ليس هو المجموع، والتقدير، وما أحد من أهل الكتاب إلا والله ليؤمنن به فهو كقوله: {وما معنا إلا له مقام معلوم} [صورة الصافات، الآية: 164] ورجح هذا الوجه والثاني واليه ذهب الزمخشري وأبو البقاء، والمصنف رحمه الله أنّ جملة القسم صفة موصوف محذوف تقديره وأن من أهل الكتاب أحدا لا ليؤمنن به، وقيل عليه إنّ الصواب هو الوجه الأوّل لأنه لا ينتظم من أحد والجار، والمجرور إسناد لأنه لا يفيد، وكونه لا فائدة فيه ليس بشيء إذ معناه كل رجل يؤمن به قبل موته من أهل الكتاب نعم معناه على الوجه الآخر كل رجل من أهل الكتاب يؤمن به قبل موته، والظاهر أنه هو المقصود، وأنه أتم فائدة، والاستثناء مفرغ من أعمّ الأوصاف. قوله: (ويعود إليه الضمير الثاني الخ) أي إلى أحد، وتزهق روحه بمعنى تخرج، وقال الراغب زهوق الروج خروجها أسفاً على شيء ويؤيد كون الضمير لأحد الذي يكون للجمع، وغيره كما مرّ أنه قرئ ليؤمنن بضم النون، وأصله يؤمنونن، وضمير الجمع لا يعود لعيسى عليه الصلاة والسلام ظاهرا ومعاجلة الإيمان مبادرته، وهو الصحيح، وفي نسخة معالجة الإيمان أي جبر نفسهم عليه، وتمرينها على الحق، والمراد بالاضطرار إيمان الناس، والإلجاء، وهو لا يفيد لأنه ملحق بالبرزح فينكشف لكل الحق، ويظهر له حتى يؤمن به كما هو حقه، وقصة الحجاج، واستشكاله هذه الآية بمن شاهد! ن! هم يقتل، ويحرق ونحوه، ولا يقز بذلك مفصلة في الكشاف، وقدّر أحد على قراءة الجمع، ولم يقدر جمعا صريحاً لشيوعه في الاستثناء ملفوظا
مراداً به الجمع فحمل المقدر عليه فتأمّل، ومعنى الوعيد أنّ ذلك الأمر الذي يتحرّزون عنه كائن لا محالة، وقراءة الجمع لا تعين ذلك الاحتمال في القراءة الأخرى إن قلنا بجواز تخالف القراءتين معنى، والا ففيه نظر ورجوع الضمير إلى عدم قتله خلاف الظاهر وان قيل به. قوله: (روي أنه عليه الصلاة والسلام ينزل الخ) هذا الحديث رواه أبو داود وابن حبان عن أبي هريرة رضي الله عنه دون قوله: فلا يبقى أحد من أهل الكتاب الخ. وروى هذه الزيادة ابن جرير، وصححه الحاكم عن ابن عباس رضي الله عنهما موقوقا، وكونه يمكث أربعين سنة استشكله الحافظ عماد الدين بن كثير رحمه الله بأنه ثبت في صحيح مسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه يمكث في الأرض سبع سنين، وجمع بين الروايتين بأن رواية مسلم لبيان مذة مكثه بعد نزوله من السماء، والرواية الأخرى لبيان مجموع إقامته قبل الرفع وبعده فإنه رفع، وهو ابن ثلاث، وثلاثين سنة فإذا نزل مكث سبع سنين فيكون مدة لبثه في الدنيا أربعين(3/198)
سنة، ولفظ مسلم يبعث الله عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام فيطلبه فيهلك أي الدجال ثم يلبث الناس بعد. سبع سنين ليس بين اثنين عداوة قال البيهقي ويحتمل أيضاً قوله ثم يلبث الناس بعد. أي بعد موته فلا تكون هذه الرواية مخالفة للرواية الأولى، ورجح هذا الجمع على الأوّل بأنّ الرواية ليست نصاً في لبث عيسى صلى الله عليه وسلم وتلك نص فيها، وقوله بعده وثم صريح فيه والرواية الأولى مشهورة مروبة من طرق كثيرة، ولم يخالفها غير رواية مسلم فينبغي تأويلها، ثم اختلف في محل دفنه عليه الصلاة والسلام، فقيل: يدفن في حجرة النبي صلى الله عليه وسلم وان محله فيها معدله، ورد فيه أثر وقيل في بيت المقدس، وقوله: ويوم القيامة الخ يدل على جواز تقدم خبر كان مطلقا أو إذا كان ظرفا لأن المعمول إنما يتقدم حيث يصح تقديم عامله، والضمير في يهون لعيسى عليه الصلاة والسلام، وقيل لمحمد صلى الله عليه وسلم، وهو خلاف الظاهر، ولذا لم يذكره المصنف رحمه الله. قوله: (فبأيّ ظلم الخ) أخذ التعميم من التنوين، وليس مراده أنّ له صفة محذوفة كما قيل، وترك ذكر الحصر لما مرّ، وقوله وعلى الذين هادوا الخ المحرّم هو ما سيأتي في الأنعام مفصلاً فإن قيل التحريم كان في التوراة، ولم يكن حينئذ كفر بعيسى، ومحمد عليهما الصلاة والسلام، وصد عن سبيل الله.
قيل المراد استمرار التحريم، وجعل الزمخشري الصد وا! ل ونحوهما بياناً للظلم قال
النحرير: رحمه الله هو لدفع ما يقال إنّ العطف على المعمول المتقدم ينافي الحصر مثل مررت بزيد وبعمرو، ومن جعل الظلم بمعناه كما في قوله تعالى: {ذلك جزيناهم ببنيهم} وجعل بصدهم متعلقاً بمحذوف فلا إشكال عليه.
(قلت) ومنه يعلم تخصيص ما ذكره أهل المعاني من أنه مناف للحر بالاتفاق إذ المراد إذا
لم يكن الحصر مستفاداً من غير التقديم، ولم يكن الثاني بياناً للأوّل كما إذا قلت بذنب ضربت زيداً، وبسوء أدبه أي لا بغير ذنب فافهمه فإنه من النفائس. قوله: (ناساً كثيرا (أي هو صفة مفعول صدّ مقدراً أو صفة مفعول مطلق فينتصب على المصدرية، وقيل إنه منصوب على الظرفية أي زماناً كثيراً، وإنما لم تعد الباء في أخذهم، ونحوه، وأعيدت في غيره لأنه فصل بين المعطوف والمعطوف عليه بما ليس معمولاً للمعطوف عليه، وحيث فصل بمعموله لم تعد، وجملة، وقد نهوا حالية ووجه الدلالة على أن النهي للتحريم أنه تعالى توعد على مخالفته، وهو ظاهر. قوله: (نصب على الماخ إن جعل يؤمنون الخبر) كما مرّ، وقد جؤز فيها أن تكون جملة حالية أيضاً، وليست مؤكدة لتقييدها بقيد ليس في الأوّل، ولعدم دلالتها على الرسوخ في العلم، وإليه أشار بقوله أن جعل الخ. وقد أشكل هذا على من قال: لا وجه لتقييد النصب بذلك الجعل فإنه منصوب على المدح مطلقا وخبط بعضهم في توجيهه، وما ذكره المصنف رحمه الله بعينه كلام الكسائي قال مكي من جعل نصب المقيمين على المدح جعل خبر الراسخين يؤمنون فإن جعل الخبر أولئك سنؤتيهم لم يجز نصب المقيمين على المدح لأنه لا يكون إلا بعد تمام الكلام لكن قال النيسابوري رحمه الله طعن الكسائي في القول بالنصب على المدح بأنه يكون بعد تمام الكلام، وهنا ليس كذلك لأنّ الخبر أولئك، والجواب أنّ الخبر يؤمنون ولو سلم فما الدليل على أنه لا يجوز الاعتراض بين المبتدأ وخبره، ولما رأى الزمخشرفي ما فيه لم يصرّح بما ذكره المصنف رحمه الله، وكان وجه ما ذكروه أنّ القطع في العطف في قوّة الاتباع لأنه الأصل فيه ومقتضى العطف على المبتدأ أن يكون الخبر المذكور بعده للمبتدأ، وما عطف عليه، وكذا الضمير العائد فيه، وبعد الأخبار عنه لا يصح قطعه لكن حكى ابن عطية رحمه الله عن قوم منع نصبه على القطع من أجل حرف العطف، والقطع لا يكون في العطف إنما ذلك في النعوت، ولما استدل النحاة رحمهم الله بقوله:
لايبعدن قومي الذين هم سم العداة وآفة الجزر
النازلين بكل معترك والطيبون معاقد الأزر
على جواز القطع فرق هذا القائل بأن البيت لا عطف فيه لأنه قطع فيه النازلين فنصب، والطيبون(3/199)
فرفع على قوله قومي، ولا وجه للفرق مع ما أنثده سيبويه للقطع مع حرف العطف من قوله:
ويأوي إلى نسوة عطل وشعثامراضيع مثل السعالى
فنصب شعثا، وهو معطوف، وقد تقدم لنا كلام في هذا في سورة البقرة، ولعل القطع
ليس مثل الاعتراض من كل الوجوه لما فيه من ملاحظة التبعية فلا يرد ما ذكره النيسابوري رحمه الله، وبعد كل كلام فما ذكره المصنف رحمه الله قاله السلف فالعهدة فيه عليهم فليحرر. قوله: (أو عطف على ما أنزل إليك الخ) هذا وجه آخر في إعرابه، وهو أنه مجرور معطوف على ما أنزل، والمعنى يؤمنون بالمقيمين، والمراد بالمقيمين حينئذ الأنبياء، والرسل صلوات الله وسلامه عليهم قيل، وليس المراد بإقامة الصلاة على هذا أداؤها بل إظهارها بين الناس، وتشريعها، وقيل المراد بالمقيمين الملائكة لقوله يسبحون الليل، والنهار لا يفترون وقيل المسلمون بتقدير مضاف أي وبدين المقيمين، وفيه أقوال أخر فقيل معطوف على ضمير منهم، وقيل ضمير إليك أو ضمير قبك، وهذا أبعدها، وفي الكشاف، ولا يلتفت إلى ما زعموا من وقوعه لحنا في خط المصحف وربما التفت إليه من لم ينظر في الكتاب، ولم يعرف مذاهب العرب فيما لهم من النصب على الاختصاص من الافتنان وغبى عليه أنّ السابقين الأوّلين الذين مثلهم في التوراة، ومثلهم في الإنجيل كانوا أنفذ همة في الغيرة على الإسلام وذب المطاعن عنه من أن يتركوا في كتاب الله ثلمة ليسدها من بعدهم وخرقا يرفوه من يلحق بهم اص.
وقيل عليه لا كلام في نقل النظم تواتر فلا يجوز اللحن فيه أصلاً وهل يمكن أن يقع في الخط لحن بأن يكتب المقيمون بصورة المقيمين بناء على عدم تواتر صورة الكتابة وما روي عن عثمان وعائشة رضي الله تعالى عنهما أنهما قالا إنّ في المصحف لحناً، وستقيمه العرب بألسنها على تقدير صحة الرواية يحمل على اللحن فى الخط لكن الحق رد هذه الرواية وإليه أشار بقوله: (إن السابقين الأولين الخ)
أقول: هذا إشارة إلى ما نقله الشاطبى رحمه الله فى الرائية وبينه شراحه وعلماء الرسم (العثماني بسند متصل إلى عثمان رضي الله تعالى عنه أنه لما فرغ من المصحف أتى به إليه فقال قد أحسنتم، وأجملتم أرى شيئا من لحن ستقيمه العرب بألسنتها، ولو كان المملي من هذيل، والكاتب من قريش لم يوجد فيه هذا.
قال السخاوي، وهو ضعيف، والإسناد فيه اضطراب، وانقطاع لأنّ عثمان رضي الله تعالى عنه جعل للناس إماما يقتدون به فكيف يرى فيه لحناً، ويتركه لتقيمه العرب بألسنتها، وقد كتب مصاحف سبعة وليس فيها اختلاف قط إلا فيما هو من وجوه القراآت، وإذا لم يقمه هو، ومن باشر الجمع كيف يقيمه غيرهم وتأوّل قوم اللحن في كلامه على تقدير صحته عنه بأن المراد الرمز والإيماء كما في قوله:
منطق رائع وتلحن أحيانا وخير الكلام ماكان لحنا
أي المراد به الرمز بحذف بعض الحروف خطاً كألف الصابرين مما يعرفه القراء إذا رأوه،
وكذا زيادة بعض الحروف، والوجوه المذكورة في الرفع، وما عطف عليه ظاهرة، وعلى عطفه على ضمير يؤمنون تقديره المؤمنون يؤمنون هم والمقيمون الصلاة لا يؤمنون المقيمون حتى لا يصح الأخبار كما توهم إلا أنه لا يخفى أنّ غيره أولى منه وأقعد.
تنبيه: قد نخلنا النقول، وتتبعنا كلامهم ما بين معسول ومغسول فآل ذلك إلى أنّ قول عثمان فيه مذهبان أحدهما أن المراد باللحن ما خالف الظاهر وهو موافق له حقيقة ليشمل الوجوه تقديرا، واحتمالاً، وهذا ما ذهب إليه الداني، وتابعه كثيرون والرواية فيه صحيحة، والثاني ما ذهب إليه ابن الأنباري من أنّ اللحن على ظاهره، وأنّ الرواية غير صحيحة. قوله: (قدم عليها الإيمان بالأنبياء والكتب الخ) الإيمان بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام معلوم من الإيمان بما أنزل إليهم والإيمان بالكتب مصرح به، وما يصذقه إقامة الصلاة وايتاء الزكاة، وقوله: لأنه المقصود أي لأنّ الإيمان بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وما معهم هو المقصود في هذا المقام لأنه لبيان حال أهل الكتاب، وإرشادهم، وهم كانوا يؤمنون ببعض ذلك، ويتركون بعضه فبين لهم ما يلزمهم، ويجب عليهم، وأما الإيمان بالله، واليوم الآخر فهم قائلون به ظاهراً كما مرّ(3/200)
تحقيقه في أوّل البقرة، وقيل إنه تصريح بما علم ضمنا للتأكيد، وقيل تعميم بعد التخصيص لأنّ الإيمان بالله واليوم الآخر عبارة عن جميع ما يجب الإيمان به، وجمعهم بين الإيمان الصحيح، والعمل الصالح مأخوذ مما تقدّمه، وفي هذا كلام تقدم في سورة البقرة فانظره. قوله: (جواب لأهل الكتاب الخ) تد مرّ تفصيله فلا خفاء في كلامه كما توهم، ومن قال إنه تعليل لقوله: {الراسخون في العلم} [سورة النساء، الآية: 162] فقد أبعد المرمى ولم يدر أن هذا التفسير هو المأثور، وبدأ بنوج تهديداً لهم لأنه أوّل نبي عوقب قومه لا أنه أوّل شرع كما توهم وظاهره يدل على أنّ من قبل نوح لم يكن يوحي له كما أوحى لنبينا صلى الله عليه وسلم
لا أنه غير موحى إليه أصلا كما قيل. قوله: (خصهم بالذكر الخ) إن أراد بالتخصيص! ذكرهم لم يرد عليه شيء والا ورد عليه إنّ الأسباط ليسوا كذلك لكن الأمر فيه سهل. قوله: (وقرأ حمزة بورا بالضم الخ) والجمهور على فتحها والضم على أنه جمع زبر بكسر فسكون صفة بمعنى مزبور أي مكتوب أو زبر بالفتح، والسكون كفلس وفلوس كما في الدرّ المصون، وعبارة المصنف تحتملهما، وقيل إنه مفرد كقعود، وقيل إنه جمع زبور على حذف الزوأئد. قوله: (نصب بمضمر) أي أرسلنا رسلا، وكذا رسلاً الآني، والقرينة عليه قوله أوحينا لاستلزامه الإرسال أو قصصنا إلا أنه منصوب بقصصنا بحذف مضاف أي قصصنا أخبار رسل، وفيه وجوه أخر، وقوله من قبل هذه السورة إشارة إلى المضاف المنوي، وهو ظاهر. قوله:) وهو منتهى مراتب الوحي الخ) أي الكلام بالذات أشرف أنواعه، وأعلاها وقد وقع للنبيّءشفه في الإسراء مع زيادة رفعة، وما من معجزة لنبيّ من الأنبياء إلا ولنبينا صلى الله عليه وسلم مثلها كما تصذى لبيانه بعض أهل الأثر مع زيادة له شرّفه الله تعالى، وتكليماً مصدر مؤكد قالوا إنه رافع للمجاز وفيه نظر لأته مؤكد للفعل فيرفع المجاز عنه، وأما رفعه المجاز عن الإسناد بأن يكون المكلم رسله من الملائكة كما يقال قال الخليفة: كذا إذا قاله وزيره، فلا مع أنه أكد الفعل والمراد به معنى مجازي كقول هند بنت النعمان في زوجها روح بن زنباع وزير عبد الملك بن مروان:
بكى الخز من روح وأنكر جلده وعجت عجيجا من جذام المطارف
أي بكى الخز من لبسه له لأنه ليس من أهله ولذلك صرخت المطارف من ليس جذام
لها، وهي قبيلة داوح فأكدت عج بعجيجا مع أنه مجاز لأنّ الثياب لا تعج، والقراءة المشهورة رفع الجلالة الشب! يفة وقرئ بنصبها في الشواذ، وهي واضحة أيضاً. قوله: (نصب على المدح (أي بتقدير أمدلأ أو أعني وقدمه لرجحانه عنده، والحال الموطئة هي التي يكون المقصود بالحالية وصفها كما هنا وعليه فهي حال من رسلاً الذي قبله أو ضميره قيل، ولا وجه للفصل حينئذ بينثفا بقوله، وكلم الله موسى، وجوّز فيه الزمخشري البدلية وتركه المصنف وحمه الله تعالى لأنّ اتحاد البدل، والمبدل منه لفظا بعيد وان كان المعتمد بالبدلية الوصف. قوله: (وفيه
تنبيه على أنّ يعثة الآنبياء عليهم الصلاة والسلام الخ) يشير إلى رد ما في الكشاف وأن العقل لا يكفي في ذلك حتى يكون إرسال الرسل للتنبيه عن سنة الغفلة فإنّ العقل قاصر عنه فلا بد من الشرع، وإرسال الرسل ومحل بسطه كتب الكلام، وقوله: بأرسلنا أي المقدر كما مر أو بقوله مبشرين ومنذرين يعني على التنازع، وقوله: ولا يجوز تعلقه بحجة لأنه مصدر يعني، ومعموله لا يجوز تقدّمه عليه ومن جوّزه في الظرف جوّزه هنا. قوله: (وخص كل نبي بنوع من الوحي والإعجازا لأنّ كل نبي غلب في زمنه شيء جعلت معجزته من جنسه كما غلب في زمن موسى عليه الصلاة والسلام السحر فجاء بالعصا، ونحوها مما يضاهيه، وفي زمن عيسى صلى الله عليه وسلم الطب فأبرأ اكمه والأبرص، وفي زمن نبينا عليه الصلاة والسلام البلاغة فجاء القرآن، واعترض على المصنف رحمه الله تعالى بأن هذا ينافي قوله: قبيل هذا إنه أعطى محمداً صلى الله عليه وسلم مثل ما أعطى كل واحد منهم فلا يختص أحد منهم بنوع بالنسبة إليه، ويجاب بأن اختصاص كل منهم بالنسبة إلى من قبله لا بالنسبة إلى من بعده فالاختصاص نسبي لا مطلق، وهو ظاهر أو أنّ المراد غير من ألقى إليه هذا. قوله: (استدراك عن مفهوم(3/201)
ما قبله فكأنه الخ (يعني أنّ أهل الكتاب لما سألوه صلى الله عليه وسلم إنزال كتاب من السماء كما أرادوا بعثنا ليقروا بحقية ما جاء به ورد قولهم بقوله: {أنا أوحينا} الخ. استدراك على ذلك فقال إن لم تلزمهم الحجة، ويشهدوا لك فالله يشهد وكفى به شهيداً، وشهادة الله إثباته لصحته بإظهار المعجزات كما تثبت الدعاوى بالبينات، وإذا ثبتت شهادته ثبتت شهادة الملائكة عليهم الصلاة والسلام لأنّ شهادتهم تبع لشهادته، وقوله: يبينه وقع في نسخة يثبته بالمثلثة، وهما بمعنى وقوله: (روي الخ) هو مروقي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما. قوله: (إنزله ملتبساً بعلمه الخاص به الخ) فالباء للملابسة، والإضافة تفيد اختصاصا خاصا به لا يليق بالبشر بل بخالق القوى والقدر. وذكر في تفسيره في الكشاف أربعة أوجه فقال معناه أنزله ملتبسا بعلمه الخاص الذي لا يعلمه غيره، وهو تأليفه على نظم،
وأسلوب يعجز عنه كل بليغ وصاحب بيان، وموقعه مما قبله موقع الجملة المفسرة لأة " بيان للشهادة وأنّ شهادته بصحته أنه أنزله بالنظم المعجز الفائت القدرة، وقيل أنزله، وهو عالم بأنك أهل لإنزاله إليك وأنك مبلغه، وقيل: أنزله بما علم من مصالح العبادة مشتملا عليه، ويحتمل أنه أنزله، وهو عالم به رقيب عليه حافظ له من الشياطين برصد من الملائكة، والملائكة يشهدون بذلك كما قال تعالى: في آخر سورة الجن فقيل عليه أنه جعل العلم بمعنى المعلوم، والمراد بالمعلوم التأليف والنظم المخصوص، وليس هذا من جعل العلم مجازاً عن النظم، والتأليف ولو جعل العلم بمعناه المصدري، ويكون تأليفه بياناً لتلبسه لا للعلم نفسه صح لكن فيه تجوز من جهة أنّ التأليف ليس نفس التلبس بل أثره، والباء على هذا تحتمل الآلية كما يقال فعله بعلمه إذا كان متقناً وعلى ما ينبغي فيكون وصفاً للقرآن بكمال الحسن، والبلاغة وأما في الوجه الثاني، والثالث فالعلم بمعناه والظرف حال من الفاعل أو المفعول، ومتعلق العلم مختلف، وهو كونك أهلاً أو مصالح العباد، وظاهر كلامه أنه على الثاني حال من الفاعل، وعلى الثالث من المفعول، ومبني قوله بما علم من المصالح على أنّ التلبس بالعلم تلبس بالمعلوم أو على أنّ العلم بمعنى المعلوم، وموتع الجملة على الوجهين تقرير للصلة، وبيانها أعني أنزل إليك، وأما على الرابع فحال من الفاعل، ومعنى العلم أنه رقيب عليه حافظ له، والملائكة رصد عليه تحفظه من الشياطين كقوله تعالى: {فإنه يسلك من بين يدبه ومن خلفه رصدا} ويشهدون على هذا من الشهود للحفظ اهـ محصله، وهو ردج على الطيبي إذ جعل العلم مجازاً عن التأليف المخصوص والعلاقة بين الفاعل، والفعل لأنّ الفاعل المتقن الحكييم لا يصدر عنه إلا الفعل المحكم البديع، والمصنف رحمه الله تعالى ترك الوجه الرابع، وهو أن تلبسه بعلمه حفظ له لأنه لا مساس له بهذا المقام. قوله: (فالجار والمجرور على الأوّلين حال الخ) ويحتمل أنه مفعولط مطلق على الوجوه أي إنزالاً ملتبسا بعلمه، وضمير بعلمه لله، وعلى الثالث للقرآن فلذا جعله فيه حالاً من المفعول، وجعل الجملة تفسيراً لما قبلها، وهي قوله أنزل إليك لأنها بيان لإنزاله على وجه مخصوص، والزمخشري جعله بيانا للشهادة، وكلام المصنف يحتمله أيضاً إلا أنه يخالفه في إطلاق التفسير فيها فتدبر. قوله: (أيضاً بنبؤتك الخ) كلام اصخ! ، وشروحه ظاهر في أنّ قوله بما أنزل متعلق بيشهد على أنّ الباء صلة والمشهود به هو 1 ما أنزله وهو الظاهر والمصنف رحمه الله تعالى حيث قال إنهم أنكروه، ولكن الله يبيته، ويقياره بما أنزل إليك من القرآن المعجز الدال على نبوّتك، وقال هنا والملائكة يشهدون أيضا بنجوّتك، ثم قال لعرفوا نبوّتك وشهدوا بها كما عرفت الملائكة، وشهدوا أشار إلى أنّ المشهود به هو النبوّة وأن تعلق بما أنزل تعلق الآلية أي يشهد بنبوّتك بسبب ما أنزل إليك لدلالته بإعجازه على صدقك ونبوّتك كذا قيل، وقيل: إنه بيان لمآل المعنى ومؤذاه فإن شهادته
بصحة ما أنزله من القرآن لإظهار المعجزات المقصود منه إثبات نبوّته فتأمّل. قوله: (وفيه تنبيه على أنهم يودّون أن يعلموا صحة دعوى النبوّة الخ (أي يعلم من سياق النظم أنّ أهل الكتاب في تعنتهم، وسؤالهم كانوا يودّون أي يحبون ويريدون أن يظهر لهم جلية الأمر عياناً ليؤمنوا وهم مخطؤون لأن هذا ليس طريقا للبشر في معرفة الحق والنبوّة بل مخصوص بالملائكة لأنهم يشاهدون ذلك فلذلك أثبتها الله لهم بالإعجاز المحتاج إلى التفكر، والتدبر، وفى كون الجاحدين المعاندين من أهل الكتاب(3/202)
يوذون ذلك نظر لا يخفى، وقوله: (جمعوا بين اتضلال والإضلال) من الصد عن سبيل الله، وأعرق من العرق بعين وراء مهملتين، وقاف بمعنى أقوى وأ د خل.
قوله: (وعليه يدل على أنّ الكفار الخ) أي على هذا الوجه النظم أو الآية تدلّ على أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة أما على ما قبله فلا دلالة لها لأنهم مخاطبون بالأصول، ومكلفون بترك الكفر، والظلم إذا كان بمعنى إنكار النبوّة أو صد الناس عن الدخول في الدين فهو كفر وهم مخاطبون بتركه بالاتفاق، وأمّا إذا كان أعم شاملاً لظلم أنفسهم بالمعاصي، وذكر أنه لا يغفر لهم ذلك دلت الآية على أنهم مؤاخذون به ومكلفون، ومخاطبون بوجوبه عليهم، ومنهم من أرجعه إلى الوجهين الأخيرين، وله وجه وإذا كان في تفسير الظلم وجوه كما ذكر. لم يتم الاستدلال، والمسألة مبسوطة في أصول الفقه، وفي الكشاف هنا كلام تركه المصنف رحمه الله تعالى لأنه مبني على الاعتزال الصرف، وقوله: لجري حكمه الخ. أي لا بالوجوب
كما يقوله المعتزلة والمحتوم بالحاء المهملة المقضي المقطوع به على مقتضى الحكمة، وقوله: حال مقدّرة أي منتظرة مستقبلة غير مقارنة لأنّ الخلود يكون بعد إيصالهم إلى جهنم، ولو قدر يقيمون خالدين لم يلتئم تقديره، والتعبير عنه بالهداية تهكم إن لم يرد بالهداية مطلق الدلالة وقوله: (ولما الخ) بيان لارتباط هذا بما قبله، ومناسبته له. قوله: (أي إيماناً خيرا لكم الخ) في نصب خيرا وجوه للنحاة فمذهب الخليل وسيبويه أنه منصوب بفعل محذوف وجوبا تقديره، وافعلوا أو وأتوا خيراً لكم، ومذهب الفراء أنه نعت مصدر محذوف كما ذكره المصنف رحمه الله تعالى، وأورد عليه أنه يقتضي أنّ الإيمان ينقسم إلى خير وغيره، ودفع بأنه صفة مؤكدة، وأن مفهوم الصفة قد لا يعتبر، ومذهب الكساتي، وأبي عبيد أنه خبر كان مضمرة والتقدير يكن الإيمان خيراً ورد بأن كان لا تحذف، واسمها دون خبرها إلا في مواضع اقتضته وأنّ المقدر جواب شرط محذوف فيلزم حذف الشرط، وجوابه إذ التقدير أن تؤمنوا يكن الإيمان خيرا، وهذا مبني على أنّ الجزم بشرط مقدر فإن قلنا بأنه بنفس الأمر، واخواته كما هو مذهب لبعض النحاة لم يرد، وكذا حذف كان، واسمها تخصيصه بمواضع لا يسلمه هذا القائل وقيل إنه منصوب على الحال نقله مكي عن بعض الكوفيين وأبو البقاء، وهو بعيد فما ذكره المصنف رحمه الله تعالى لا غبار عليه فإنه حكاية ما قاله النحاة في هذا التركيب فالاعتراض عليه بأنه مخالف لكلام ابن الحاجب ونحوه ساقط. قوله: (وإن تكفروا فهو غنئ عنكم الخ الما كان ملكه السموات والأرض، وما فيهما أمراً مقرّراً قبل كفرهم أشار إلى أن الجواب مقدر، وهذا دليله أقيم مقامه، وهو ظاهر إلا أنّ قوله المراد بما فيهما ما يشملهما لأن الكل مشتمل على إجزائه، وهي مظروفة فيه أيضاً، ومجموع الأجزاء هو عين الكل قيل عليه إن ظرفيتهما لما فيهما حقيقية، وظرفية الكل لأجزائه مجازية فيلزم الجمع بين الحقيقة، والمجاز وفيه نظر سيأتي. قوله: (الخطاب للفريقين الخ) الرشدة بالكسر وجوّز فيه في القاموس الفتح يقال في الولد هو لرشدة إذا كان حاصلا من نكاح لا زنا وسفاح، وضده هو لزنية، والتزنية هو أن ينسبه إلى أنه لزينة، ثون تخصيصه بالنصارى أوفق بما بعده لأنهم افتروا عليه الصاحبة، والولد
والتصريح بأمر عيسى صلى الله عليه وسلم يؤيده، وإن كان قوله: {ولا تقولوا على الله إلا الحق} قد يدخل فيه اليهود لافترائهم بتزنية عيسى عل! الصلاة والسلام، وما قالوه في عزير لكن ما بعده لا يساعده، والغلوّ مجاوزة الحد، ومنه غلوة السهم، وغلوّ السعر. قوله: " لا الحق يعني تنزيهه عن الصاحبة والولد) قيل الانقطاع في هذا الاستثناء أشبه لأنّ التزنية لا تكون مقولاً عليه بل له وفيه لأن معنى قال عليه افترى، وفيه نظر لأنّ الاستثناء مفرغ، وقد مرّ أنّ الانقطاع فيه غير معروف لكن المعنى يقتضي ما ذكره النحرير، وقيل الظاهر أنّ المراد بقوله، {ولا تقولوا على الله إلا الحق} إنه تنزبه عن كل ما لا يليق كالشريك، وقوله: إنما المسيح تنزيه عن الصاحبة، والولد فليتأمّل. قوله: (أوصلها إليها وحصلها) جملة ألقاها حال بتقدير قد، والإلقاء الطرح، وهوهنا مجاز عن الإيصال، وقوله: (ذو روح) إشارة إلى أنه على حذف مضاف أو استعمل الروح في معنى ذي الروح، واضافته إلى الله للتشريف أو لأنه بمحض قدرته(3/203)
من غير توسط المادة، وعلى القول الآخر هو استعارة تشبيهاً للمحى بالروح التي بها الحياة، وحاج بعض النصارى الواقدي بهذه الآية فقال إنها تدل على أن عيسى عليه الصلاة والسلام جزء من الله فعارضه بقوله تعالى: {وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعا منه} [سورة الجاثية، الآية: 13] فلو كان كذلك لاقتضى إنّ جميع الموجودات جزء منه فحجه، ومعنى كونه كلمة أنه حصل بكلمة كن من غير مادّة، وقال الغزالي رحمه الله تعالى لكل شيء سبب قريب، وبعيد فالأوّل المني والثاني قول كن، ولما دل الدليل على عدم القريب في حق عيسى صلى الله عليه وسلم إضافة إلى البعيد، وهو كلمة كن إشارة إلى انتفاء القريب، وأوضحه بقوله ألقاها بجعله كالمني الذي يلقى في الرحم فهو استعارة كما أشار إليه المصنف رحمه الله تعالى. قوله: (أي الآلهة ثلاثة الخ) يعني أن الظاهر أنهم يقولون بآلهة ثلاثة الله، وعيسى عليه الصلاة والسلام ومريم كما صرّح به في الآيات الأخر، وان نقل عنهم القول بالأقانيم فحكاية الله عنهم أوثق لكن قال الطيبي رحمه الله تعالى أن الحكيم الفاضل يحيى بن عيسى صاحب المنهاج في الطب كان نصرانياً فلما أسلم
وحسن إسلامه صنف رسالة في الردّ على النصارى قال فيها زعموا أنه تعالى جوهر واحد ثلاثة أتانيم أقنوم الأب، وأقنوم الابن وأقنوم روح القدس فهو واحد بالجوهر مختلف بالأقانيم، وقال بعضهم أنها أشخاص وذوات وقال بعضهم أنها خواص، وصفات فأقنوم الأب الذات، وأقنوم الابن الكلمة، وهي العلم وأنها لم تزل مولدة من الأب لا على سبيل التناسل بل كتوليد ضياء الشمس، وأقنوم روح القدس هو الحياة، وأنها لم تزل فائضة من الأب والابن، واختلفوا في الاتحاد فقالت اليعقوبية أنها بمعنى الممازجة كممازجة النار للفحم فالجمرة ليست ناراً خالصة، ولا فحمة، وهذا موافق لقولهم أنّ الله نزل من السماء ماء وتجسد من روح القدس، وصار إنساناً، ولذلك قالوا المسيح جوهر من جوهرين، وأقنوم من أقنومين وهذا هو القول باللاهوت، والناسوت، وظاهر قول نسطوراً أنّ الاتحاد على معنى الحلول، وأنّ الكلمة جعلته محلاَ، ولذا قالوا جوهران، وأقنومان إلى غير ذلك، وإذا تقرّر اختلافهم كذلك صح حينثذ أن يراد من قوله، ولا تقولوا ثلاثة، ولا تقولوا هو جوهر واحد ثلاثة أقانيم، وأن يحمل بقية الآيات على ما قالوه قال، وقولهم ثلاثة أي مستوون في الألوهية كما يقال في العرف عند إلحاق اثنين بواحد في وصف هم ثلاثة أي أنهما شبيهان به، والأقنوم بضم الهمزة بمعنى الأصل، وهي لغة يونانية، وجمعها أقانيم، وقوله: الهين من دون الله أي الهين غير الله فيكونون معه ثلاثة. فلا يقال إنه لا دليل فيها على التثليث المدعي. قوله: (لا تعدد فيه بوجه ما) ذاتا وغيره كالقول بالأقانيم وقوله: (تسبيحاً) إشارة إلى أنه منصوب على المصدر كما مر تحقيقه وقوله: (من أن يكون) إشارة إلى أنّ في الكلام حرف جر مقدر، وهو من أوعن كأنه قيل نزهوه من أن يكون أوعن أن يكون له ولد، وفي محل أن، والفعل حينئذ وجهان النصب، والجر يعني أنّ الولد يشابه الأب، ويكون مثله، والله منزه عن النظير والمثيل، وأيضا الولد إنما يطلب يكون قائما بعده مقامه إذا عدم، ولذا كان التناسل، والله تعالى باق لا يطرق ساحته الفناء فلا يحتاج إلى ولد وقوله: {له ما في السموات} الخ دليل آخر على نفي الولد لأنه مالك لجميع الموجودات، ولو كان له ولد لكان مثله في المالكية فلا يكون مالكا لجميعها، وكذا كفايته في الحفظ لأنّ الوكيل بمعنى الحافظ لأنّ من وكل إليه شيء يحفظه كما مرّ فإذا استقل في ذلك لم يحتج إلى الولد فإنّ الولد يعين أباه في حياته، ويقوم مقامه بعد وفاته، والله تعالى منزه عن كل هذا فلا يتصور له ولد عقلا، ويكون افتراؤه جهلاً وحمقا. قوله: (لن يأنف من نكفت الدمع الخ) الأنفة الترفع والتكبر والاستنكاف استفعال من النكف، وأصله كما قال
الراغب: من نكفت الشيء نحيته وأصله تنحية الدمع عن الخد بالأصبع، وبحر لا ينكف لا ينزح انتهى، ومنه قوله فلم ينكف لعينيك مد مع وقيل النكف قول السوء يقال ما عليه في هذا الأمر نكف، ولا وكف واستفعل فيه للسلب قاله المبرد: وفي الأساس استنكف منه، ونكف امتغ، وانقبض أنفاً وحمية، وقال الزجاج: الاستنكاف تكبر في تركه أنفة، وليس في الاستكبار ذلك. قوله: (من أن يكون الخ) إشارة إلى تقدير الجار لأنه يقال استنكف(3/204)
منه وعنه والعبودية لله شرف وأيّ شرف كما قال الشاعر:
ومما زادني شرفا وتيها وكدت بأخمصي أطأ الثريا
دخولي تحت قولك ياعبادي وجعلك خيرخلقك لي نبيا
قوله: (وروي أنّ وفد نجران الخ) هذا نقله الواحديّ رحمه الله تعالى في أسباب النزول عن الكلبيّ رحمه الله تعالى. قوله: (عطف على المسيح) هذا هو الظاهر، وفيه وجوه أخر، وهو أن يكون عطفاً على الضمير المستتر في يكون أو عبداً لأنه صفة، ولذا يقال هو عبد أبوه، ويكون وصفهم بكونهم عبداً لأنّ المراد، ولا كل واحد منهم أن يكون عبدا لفه لا هو له وصف مقدر بقرينة الملفوظ أي، ولا الملائكة أن يكونوا عبيداً لذ أو هو من عطف جملة على جملة، وعلى الوجوه السابقة من عطف مفرد على مفرد فهو فاعل فعل مقدر هو ومعموله كما صرح به، وقول المصنف رحمه الله تعالى أي ولا يستنكف الخ تقرير لمحصل المعنى، واشارة إلى تقدير متعلق الفعل معه نلا يرد عليه أنه يقتضي تقدير الفعل ومتعلقه فلا يكون معطوفا على المسيح بل من عطف الجمل كما مرّ وترك المصنف رحمه الله تعالى هذه الاحتمالات لأنّ المعنى على عطفه على المسيح بل إعادة لا تعين عطفه، ولذا قال صاحب التقريب أن غيره ليس بصحيح فتدبر. قوله: (واحتج به من زعم فضل الملافكة الخ) هذه المسألة مفصلة في الكلام، ووجه الاستدلال ظاهر لأنّ الذي تقتضيه قواعد المعاني وكلام
العرب الترقي من الفاضل إلى الأفضل فيكون المعنى لا يستنكف المسيح، ولا من هو فوقه كما يقال لن يستنكف من هذا الأمر الوزير، ولا السلطان دون العكس لكته قيل إنه لا يفيد إلا الفوقية في المعنى الذي هو مظنة الاستنكاف، والترفع عن العبودية، وهو هنا بزعم النصارى الروحانية التي فيه من جهة أنه لا أب له، وكمال القدرة، والتأييد الذي به يحيي الموتى، ونحوه، وهذا في الملائكة أقوى لأنهم لا أب لهم، ولا أمّ ولهم بإذن الله من قوة قلع الجبال، ومزاولة مضاعف الأعمال، والتصرف في الأهوال، والأحوال ما يقل في جنبه الأحياء، والإبراء وهم مع ذلك لا يستنكفون عن العبودية فكيف بعيسى صلى الله عليه وسلم ولا دلالة لهذا على الأفضلية المختلف فيها كما يشهد به الذوق إذ هي كثرة الثواب كما قرروه، وقد وجهوا كل ما ورد فيه ما يقتضي الأفضلية بنحوه، وأجروه على هذا النمط. قوله: (وجوابه أن الآية للرد على عبدة المسيح والملافكة الخ) يعني سوق الآية، وان كان للرد على النصارى لكنه أدمج فيه الرد على عبدة الملائكة المشاركين في رفع بعض المخلوقين عن مرتبة العبودية إلى درجة المعبودية، وادعاء انتسابهم إلى الله بما هو من شوائب الألوهية، وخص المقربون لأنهم كانوا يعبدونهم دون غيرهم وردّ هذا الجواب بأنّ هذا لا ينفي فوقية الثاني كما هو مقتضى علم المعاني، ولا ورود له لأنه يعلم من التقرير دفعه لأن المقصود بالذات أمر المسيح فلذا قدم، ولو سلم أنه لا ينفي الفوقية فهو لا يثبتها كما إذا قلت ما فعل هذا زيد ولا عمرو وهو يكفي لدفع حجة الخصم، وأما كون السياق، والسباق يخالفه فليس بشيء لأنّ المجيب قال إنه إدماج واستطراد. قوله: (وإن سلم اختصاصها بالنصارى فلعله أراد الخ) يعني أنّ مجموع الملائكة أفضل من عيسى، واخوانه من الأنبياء، والمرسلين، والكلام إنما هو في تفضيل الآحاد على الآحاد، وفي الانتصاف فيه نظر لأنّ مورده إذا بني على أنّ المسيح أفضل من كل واحد من آحاد الملائكة فقد يقال يلزمه القول بأنه أفضل من الكل كما أنّ نبينا محمداًءلمجحر لما كان أفضل من كل واحد من آحاد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كان أفضل من كلهم كما مر، ولم يفرق بين التفضيل على التفصيلى، والتفضيل على الجملة أحد ممن صنف في هذا المعنى، وقد كان طار عن بعض المعاصرين فضله بين التفضيلين، ودعوى أنه لا يلزم منه على التفصيل تفضيل على الجملة، ولم يثبت عنه هذا القول، ولو قاله أحد فهو مردود بوجه لطيف، وهو أنّ التفضيل المراد جل أماراته رفع درجة الأفضل في الجنة، والأحاديث متظافرة بذلك وحينئذ لا يخلو إمّا أن ترتفع درجة واحد من المفضولين على من اتفق أنه أفضل من كل واحد منهم أولاً ترفع درجة أحد منهم عليه لا سبيل إلى الأول لأنه يلزم منه رفع المفضول على الأفضل فيتعين الثاني، وهو(3/205)
ارتفاع درجة الأفضل على درجات المجموع
ضرورة فيلزم ثبوت أفضليته على المجموع من ثبوت أفضليته على كل واحد منهم قطعاً انتهى فقد علمت الفرق بين هذا، وبين ما مثل به، وكذا ما قيل في الجواب الآخر ونحوه من أنّ هذه الدلالة إنما تكون بعد سبق العلم بالأفضلية كما في حديث السلطان، والوزير دون مجرد النظر في التركيب كما في لا يفعله زبد ولا عمرو، وفي إثبات الأفضلية بهذا شبه دور، ولو سلم نفي أفضلية المجموع دون كل واحد من المقربين لا جنس الملك على جن! البشر المتنازع فيه، ورد بأنّ المدعي أنّ في مثل هذا الكلام مقتضى قواعد المعاني الترقي من الأدنى إلى الأعلى دون العكس أو التسوية، وقد عرفت أن الحكم في الجمع المعرف باللام على الآحاد سيما قبل الحكم بعدم الاستنكاف ومدعاه ليس إلا دلالة الكلام على أنّ الملك المقرب أفضل من عيسى صلى الله عليه وسلم، وهذا كاف في إبطال القول بأنّ خواص البشر أفضل من خواص الملك فالجواب الحق ما سبقت الإشارة إليه في صدر الكلام فاحفظه. قوله: (وهم الكروبيون الخ) في " كتاب الحبائك " قيل: ملائكة الحرمة هم الروحانيون بفتح الراء من الروح، وقيل الروحانيون بالضم والفتح مطلق الملائكة، والكروبيون ملائكة العذاب من الكرب قاله البيهقيّ وغيره وفي الفائق الكروبيون سادة الملائكة منهم جبرائيل، وميكائيل، واسرافيل، وهم المقربون من كرب إذا قرب وهو المراد هنا، وفي تذكرة التاج ابن مكتوم سئل أبو الخطاب بن دحية عن الكروبيين هل يعرف في اللغة أم لا فقال الكروبيون بفتح الكاف، وتخفيف الراء سادة الملائكة، وهم المقربون من كرب إذا قرب، وأنشد أبو عليّ البغدادي:
كروبية منهم ركوع وسجد
وقال الطيبي رحمه الله تعالى: فيه ثلاث مبالغات إحداها أنّ كرب أبلغ من قرب الثانية أنه
على وزن فعول من صيغ المبالغة الثالثة زيادة الياء فيه للمبالغة كأحمريّ، وقوله: باعتبار التكثير دون التكبير الأوّل بالمثلثة، والثاني بالموحدة، ومعناهما ظاهر وقوله، والنزاع فيه المشهور أنّ خواص البشر أفضل من خواص الملك فتأمل. قوله: (والاستكبار الخ) قد مر الفرق بينهما المنقول عن الراغب، ولكون التكبر يكون بالاستحقاق وصف الله عز وجل به. قوله: (فيجازيهم الخ) إشارة إلى أنّ المقصود من الحشر المجازاة، ولذا قال في تفصيله أنه تفصيل
للمجازاة العامة وهذا دفع لما يتوهم من عدم مطابقة المفصل للمجمل إذ المجمل لم يذكر فيه إلا المستنكفون فأشار إلى الجواب بوجهين الأول أنه تفصيل لما علم صريحاً وضمناً لأن المقصود سيحشرهم وجميع العباد فيكون لفاً ونشرا تقديريا، والثاني أنه تفصيل للجزاء، وأنه بتعديهم، وتحسرهم بما يشاهدونه من نعيم غيرهم.
وفي الكشاف فإن قلت التفصيل غير مطابق للمفصل لأنه اشتمل على الفريقين، والمفصل على فريق واحد قلت: هو مثل قولك جمع الإمام الخوارج فمن لم يخرج عليه كسا.، وحمله ومن خرج عليه نكل به، وصحة ذلك لوجهين أحدهما أن يحذف ذكر أحد الفريقين لدلالة التفصيل عليه ولأنّ ذكر أحدهما يدل على ذكر الثاني كما حذف أحدهما في التفصيل في قوله عقيب هذا فأمّا الذين آمنوا بالله واعتصموا به، والثاني، وهو أنّ الإحسان إليهم مما يغمهم فكان داخلاً في جملة التنكيل بهم فكأنه قيل، ومن يستنكف عن عبادته، ويستكبر فسيعذب بالحسرة إذا رأى أجور العاملين وبما يصيبه من عذاب الله، وقال النحرير الجواب هو الأوّل، والثاني غير مستقيم لأنّ دخول أما على الفريقين لا على قسمي الجزاء. قوله: (عني بالبرهان المعجزات الخ) لأنّ البرهان الحجة، وهي حجة قاطعة، والقرآن مبين طرق الهداية فهو نور على الاستعارة، ودلائل العقل الخ لف، ونشر مرتب. قوله:) ثواب قدّره الخ) إنما فسره بالثواب المقدر لعطف فضل عليه، والرحمة حقيقة والتجوّز في كلمة في لتشبيه عموم الثواب وشموله بعموم الظرف، ولو فسر بالجنة كما فسر. به بعضهم كان التجوّز في المجرور دون الجار، وأشار إلى أنّ تسمية الثواب رحمة لأنه بمقتضى الإحسان لا الوجوب عليه كما هو مذهبنا. قوله: (ويهديهم إليه الخ) هذا الضمير إمّا عائد على الله، ومعنى الهداية إليه الهداية إلى عبادته أو على جميع ما قبله باعتبار أنه موعود أو على الفضل، وصراطا مستقيما مفعول ثان بناء على تعدي هدى إلى(3/206)
مفعولين حقيقة أو بتضمين بعرفهم أو مفعول فعل مقدّر أو منصوب على الحال واليه متعلق بمقدر أي مقرّبين إلنه أو مقرّبا إياهم إليه على أنه حال من الفاعل أو المفعول، وقيل هو حال من صراطا، وليس لقولنا يهديهم إلى طريق الإسلام إلى
عبادتا. كبير معنى فالأوجه أن يجعل صراطا بدلاً من إليه، وقيل عليه أنّ قولنا يهديهم طريق الإسلام موصلا إلى عبادته معناه واضح، ولا وجه لكونه بدلاً من الجار والمجرور فتأمل. قوله: (حذف لدلالة الجواب الخ) وجهه ظاهر، وهو من التنازع، وأعمل الثاني، وفيه نظر وما روا 5 مروقي في السنة وقوله: وهي آخر ما نزل في الأحكام أي هذه الآية آخر آية نزلت متعلقة بالأحكام كما أنّ آخر ما نزل سورة براءة كما ذكره المحذثون. قوله: (وليس له ولد صفة له أو حال الخ) منع الزمخشريّ الحالية مطلقاً ولم يبين وجهه، ووجهه أنه إمّا حال من امرؤ، وهو نكرة مجيء الحال منها خلاف الظاهر إذ المتبادر في الجمل الواقعة بعد النكرات أنها صفات، وأمّا جملة هلك فمفسره لا محل لها من الإعراب على ما اشتهر في النحو وان جوّز بعضهم فيها أن تكون صفة والزمخشريّ لم يلتفت إليه لما بين جعله صفة، ومفسراً من التنافي لأنّ المفسر غير مقصود من الكلام، والصفة، وقيود المسند إليه محط الفائدة مع أن المفسر إذا كان مضارعاً ورد جزمه، وهو يعين كونه غير صفة، وأما جعله حالاً من الضمير المستتر كما قاله المصنف: وسبقه إليه أبو البقاء فقيل عليه أنّ المفسر غير مقصود حتى ادعى بعضهم أنه لا ضمير فيه لأنه تفسير لمجرد الفعل بلا ضمير وان ردّ بقوله تعالى: {قل لو أنتم تملكون} [سورة الإسراء، الآية: 05 ا] وفي البحر أنه ممتنع لأنّ المسند إليه في الحقيقة الاسم الظاهر الذي هو فاعل الفعل المحذوف فالذي ينبغي أن يكون التقييد له وإذا دار الاتباع والتقييد بين مؤكد، ومؤكد فالوجه أنه للمؤكد بالفتح إذ هو معتمد الإسناد، وقال السفاقسي أنّ هذا مرجح لا موجب، وأما إذا كان ليس له ولد صفة فلا يضر الفصل بينها وبين موصوفها بالمفسر لأنها تأكيد له، والفاء في فلها واقعة في جواب الشرط، وقوله: وابن الأمّ لا يكون عصبة لأنّ ذكورهم، واناثهم في القسمة، والاستحقاق سواء لإدلائهم بالام كما تقرّر في الفرائض وعلم بدليل آخر. قوله: (والولد على ظاهره) أي مخصوص بالذكر لا ما يشملهما فانه مشترك بينهما اشتراكا معنويا، وقد وقع في سياق النفي لأنّ الذكر هو المتبادر منه، وقد عضده الدليل، وفيه
نظر لما قيل إنه تخصيص من غير مخصص والتعليل بأنّ الابن يسقط الأخت دون البنت ليس بسديد لأنّ الحكم تعيين النصف، وهذا ثابت عند عدم الابن والبنت غير ثابت عند وجود أحدهما أما الابن فلأنه يسقط، وأما البنت فلأنها حينئذ تصير عصبة لا يتعين لها فرض نعم يكون نصيبها مع بنت واحدة النصف بحكم العصوبة لا الفرضية فلا حاجة إلى تفسير الولد بالابن لا منطوقا، ولا مفهوما، وأيضاً الكلام في الكلالة، وهو من لا يكون له ولد أصلاً ولا والد والولد مشترك معنويّ في سياق النفي فيعم فلا بد للتخصيص من مخصص، وكذا فيما بعده فتأمّل فالولد عند ابن عباس رضي الله عنهما عامّ لهما إذ لا ترث البنت مع الأخت عنده، وعند الجمهور ترث لكن ذلك بالعصوية بالغير، وقوله: (لا ترث النصف) أي بطريق الفرضية لا بد من هذا القيد، وهو مراد. إذ قد ترث البنت النصف كما إذا ترك بنتاً وأختاً كما نبه عليه بعض أهل الفرائض، وقوله: إن كان الأمر بالعكس أي إن ماتت وتركته. قوله: (ذكرا كان أو أنثى الخ) فإن قيل هما شرطان ذكر كل واحد منهما في حادثة فإن قام الدليل على أنّ المراد باحدهما الذكر لم يتبين أنّ المراد بالثاني الذكر قيل لش كذلك بل الكل شرط واحد لأنه ذكر أوّلاً إذا كان الأخ هو الميت فجعل للأخت النصف ثم قلب المسألة فجعل الأخت ميتاً والأخ هو الوارث فجعل له جميع المال فهذا يبين أنّ الشرط واحد وهو عدم الولد ثم المراد في أحد الموضعين الذكر دون الأنثى فكذلك في الاخر وفيه نظر. قوله: (والآية كما لم تدل على سقوط الأخوة بغير الولد الخ) عدم دلالتها على السقوط بغير الولد ظاهر للسكوت عنه، وكذا دلالتها على عدم السقوط به أي بغير الولد كالأب فإنّ الكلالة فسرت بمن لا ولد له ولا والد كما مرّ، وأمّا ما قيل إنه فيه بحث ظاهر لأنّ الإطلاق في جعله وارثا على تقدير عدم الولد دليلى ظاهر على عدم السقوط بالغير فمدفوع بأنه مسكوت(3/207)
عنه والسنة دلت على خلافه فقوله: وقد دلت السنة الخ جملة حالية مبينة لدفع هذا التوهم. قوله: (وكذا مفهوم قوله الله يفتيكم في الكلالة إن فسرت بالميث) إشارة إلى ما مرّ من الاختلاف في تفسيرها إذ حينئذ تكون الكلالة من لم يخلف ولداً ولا والداً، وأورد عليه أنّ التعرض لعدم الولد مع اشتمال مفهوم الكلالة على الوالد أيضاً يشير إلى أنّ المانع عن الإرث الولد لا الوالد، والا فتخصيصه بالنفي ليس بظاهر، وجوابه يعلم من الفرائض فإنه وقع الاتفاق عليه لكنه لا بد من نكتة لتخصيص! الولد بالنفي وما قيل إنه ذكر أحد الجزأين لينتقل الذهن منه إلى الجزء الآخر غير ظاهر فانظره. قوله: (الضمير لمن يرث بالأخوّة الخ) جواب سؤال مشهور، وهو أنّ الخبر لا بد أن يفيد غير ما يفيده المبتدأ، ولهذا لا يصح
سيد الجارية مالكها، وضمير التثنية دال على الاثنينية فلا فائدة في الأخبار باثنتين، وقد دفع بوجوه منها ما ذكره الأخفش من أنّ الأثنينية تدل على مجرّد التعدد من غير تقييد بكبر وصغر أو غير ذلك من الأوصاف فكأنه قيل إنهما يستحقان ما ذكر بمجرّد التعدد من غير اعتبار أمر آخر وهذا مفيد وردّ بأنّ ضمير التثنية يدل على ذلك أيضا فعاد السؤال.
وروى مكيّ عنه أيضا، وهو الذي ارتضاه الزمخشريّ، وتبعه المصنف رحمه الله بأنه
حمل على معنى من يرث وأنّ أصله، وتقديره إن كان من يرث بالأخوّة اثنتين، وان كان من يرث ذكوراً واناثا، وإنما قيل كانتا وكانوا المطابقة الخبر كما قيل من كانت أمك فأنت ضمير من لتأنيث الخبر كما ثني وجمع هنا وردّ بأنه غير صحيح، وليس نظير من كانت أمك لأنه صرح فيه بمن، وله لفظ، ومعنى فمن أنت راعي المعنى لأنه أم ومدلول الخبر فيه مخالف لمدلول الاسم بخلاف ما نحن فيه فإنّ مدلوليهما واحد ولم يؤنث في من كانت أمك لمرعاة الخبر إنما أنث لمعنى من إذ أريد بها مؤنث كما تقول من قامت، ولا خبر فيه، ولا يخفى وروده، وان قيل إنه تحامل عليه كما هو عادته، وقيل إنّ الخبر له صفة مقدرة بها تتم الفائدة أي فإن كانتا اثنتين من الأخوات ومثل ذلك جائز، وقيل اثنتين حال مؤكدة، والخبر محذوف أي له بدلالة قوله وله أخت عليه. قوله: (فنلب المذكر) بقرينة قوله رجالاً ونساء، وقيل هو اكتفاء. قوله: ( {يبين الله لكم ضلالكم} الخ) هذه الوجوه الثلاثة ذكرها قدماء المفسرين، وهي إبقاؤه على ظاهره، وتبيين الضلال والشر إرشاد إلى الهدى، والخير أو حذف مضاف أي كراهة أن تضلوا أو حذف الجارّ، ولا النافية ورجح الأوّل بأنه من حسن الختام، والالتفات إلى أوّل السورة وهو {يا أيها الناس اثقوا ربكم} فإنه أمرهم بالتقوى، وبين لهم ما كانوا عليه في الجاهلية، ولما تم تفصيله قال لهم إني بينت لكم ضلالكم فاتقوني كما أمرتكم فإنّ الشر إذا عرف اجتنب، والخير إذا عرف ارتكب، وقوله: (فهو عالم بمصالح العباد في المحيا والممات) إشارة إلى أنه عائد على ما مرّ من أمر الميراث، وما يتعلق بالأحياء، والأموات. قوله: (من قرأ سورة النساء الخ) هذا حديث موضوع مفترى على أني بن كعب رضي الله عنه كما ذكره
المحدثون ووجه تصدقه على كل وارث لأنه تلي ما يبنن الانصباء فكان له أجر ذلك وقوله: (وأعطى من الأجر كمن اشترى محرّرا) أي كأجر من اشترى عبداً ليحرّره فسماه محرّراً باعتبار المآل، وقوله: وبرئ من الشرك ليس معطوفاً على مدخول كإنما بل على مفهوم ما قبله أو على مقدر أي أعطاه الله هذا الثواب، وجعله بريئأ من الشرك، وآمناً من سوء الخاتمة وقوله: (وكان في مشيئة الله الخ) أي في تقديره وارادته معفوّا عنه مغفوراً له اللهم إنا نسألك حسن الخاتمة، والعفو والمغفرة، وأن توفقنا لفهم كلامك، وتشرح صدورنا بعوائد إحسانك وانعامك.
سورة المائدة
بسم الله الرحمن الرحيم
السورة مدنية إلا قوله: {كملت لكم دينكم} الخ فإنها نزلت في مكة، وفي عددها اختلاف فقيل مائة واثنان، وقيل ثلاث وعشرون. قوله: (الوفاء هو القيام بالعهد الخ) أي حفظ ما يقتضيه العهد، وهو يستعمل ثلاثياً، ومضاعفا، ومزيدا يقال وفى ووفي وأوفى بمعنى لكن في المزيد مبالغة ليست(3/208)
في المجرد وإليه أشار المصنف رحمه الله، وأصل معنى العقد الربط محكماً ثم تجوّز به عن العهود، وعقود المعاملات، وقوله: الموثق بالتشديد، والتخفيف. قوله: (قال الحطيئة الخ) هو شاعر معروف، والبيت من قصيدة له في مدح بني أنف الناقة قوم من العرب كانوا يعيرون بهذا اللقب فلما قال فيها:
قوم هم الأنف والأذناب غيرهم ومن يسوّي بأنف الناقة الذنبا
صاروا يفتخرون به قال شراح الكشاف وفي البيت إشارة إلى كون العقد بمعنى العهد مستعاراً من عقد الحبل على الدلو حيث رشح بذكر الحبل والدلو، وما يتعلق بهما، والعناج بوزن كرام حبل يشدّ في أسفل الدلو ثم يمتد إلى العراقي بفتح العين، والراء والقاف ليكون عونا لها وللوذم فإذا انقطعت الأوذام أمسكها العناج، والعرقوتان خشبتان معترضتان على الدلو الجمع عراقي، والأوذام السيور التي بين أذناب الدلو وأطراف العراقي، والكرب بفتحتين الحبل الذي يثد في وسط العراقي، ثم يثنى ويثلث ليكون هو الذي يلي الماء فلا يعفن الحبل الكبير، ويقال لمن يحكم أمراً وببالغ فيه يملأ الدلو إلى عقد الكرب وخص العقد بالجار لأنه هو المعروف بينهم في العقد لمن نزل بجوارهم وبه يتمذحون، والقصيدة كان سببها ذلك فلا وجه لما قيل لو قال لغيرهم لكان أبلغ، والمستعار في البيت عقد الحبل على الدلو، والمستعار له العهد والميثاق، وما بعده ترشيح، وإنما جعلوا المستعار ذلك، وان كان العقد فيه مطلقا لتبادره ولأنه لولا ذلك لم يترتب جواب إذا على الشرط، ومن غفل عنه قال لا وجه لتقييده بما ذكر. قوله: (وأصله الجمع بين الشيئين الخ) قال الراغب: العقد الجمع بين أطراف الشيء، ويستعمل في الأجسام الصلبة كعقد الحبل وعقد البناء. قوله: (ولعل المراد بالعقود الخ) أي
المراد بها ما يلزم الوفاء به أو يستحب مما عقده الله أو العباد كالمعاملات، والنذور لأنه جمع محلى باللام فيعم، والأمر في قوله أوفوا لمطلق الطلب ندبا أو وجوبا ويدخل فيه اجتناب المحرمات، والمكروهات، واختاره لأنه أوفق بعموم اللفظ، وأوفى بعموم الفائدة وقيل الحمل على تحليل الحلال أي اعتقاد حله، والعمل على وفقه وتحريم الحرام كذلك أظهر نظرا إلى ما يشعر به سوق الكلام من الإجمال، والتفصيل لا يقال السورة مشتملة على أمّهات التكاليف في الأصول، والفروع لا تختص بالتحليل، والتحريم، وكفى بقوله: {وتعاونوا على البر والتقوى واعدلوا هو أقرب للتقوى} فلا يلزم حصر المجمل على التحليل، والتحريم، ولو سلم فليكن من التفريع على الأصل لا التفصيل للمجمل كما تقول امتثلوا أوامر الله أقيموا الصلاة، وآتوا الزكاة، وصوموا رمضان لأنا نقول ما وقع في معرض! التفصيل هو التحليل، والتحريم وظاهر أن ليس جميع السورة كذلك، وأنّ المذكور بالتفصيل أوقع منه بالتفريع. قوله: (تفصيل للعقود الخ الما مرّ من عمومه، وشموله لها وإنه المتبادر لا التفريع والبهيمة من ذوات الأرواح ما لا عقل له مطلقاً أو ذوات الأربع، وقال الراغب أنه خص في المتعارف بما عدا السباع، والطير وفي العقود خمسة أقوال للمفسرين فقيل العهود، وقيل: حلف الجاهلية، وقيل ما عقد. الله وبعضهم مع بعض، وقيل النكاح، والشركة واليمين والعهد، والحلف والبغ، وقيل الفرائض، وقيل جميع ما ذكر ورجحه بعضهم واليه ذهب المصنف رحمه الله. قوله: (وإضافتها إلى الأنعام للبيان الخ) قيل البهيمة اسم جنس والأنعام نوع منه فإضافتها إليه كإضافة حيوان إنسان، وهي مستقبحة، وأجيب بوجهين أنّ المراد من البهيمة، والأنعام شيء واحد، وإضافتها إليها على معنى من البيانية أي البهيمة التي هي الأنعام كقوله: {فاجتنبوا الرجس من الأوثان} [سورة الحجر، الآية: 30، أي الرجس الذي هو الأوثان، ولا استدراك في ذكر عامّ وتخصيصه أو المراد بالبهيمة الظباء وبقر الوحش، ونحوهما، واضافتها إلى الأنعام لملابسة المشابهة بينهما، وجوّز النحرير في إضافة المشبه للمشبه به كونها بمعنى اللام على جعل ملابسة الشبه اختصاصاً بينهما أو بمعنى من البيانية على جعل المشبه نفس المشبه به، وفيه بحث لأنّ ذكر النوع أو الفرد بعد الجنس لا فائدة فيه، واضافته إليه لغو ومستهجنه كحيوان إنسان أو إنسان زيد، وقوله المراد من البهيمة والأنعام شيء واحد إن أراد قبل الإضافة فليس كذلك، وإن أراد بعدها فكذا إنسان زيد مع أنه بالآخرة يكون(3/209)
من إضافة الشيء لنفسه فالحق في الجواب أن يقال إضافة العام للخاص إذا صدرت من بليغ، وقصد بذكره فائدة فحسنة كمدينة بغداد فإنّ لفظ بغداد لما كان غير عربي
لم يعهد معناه أضيف إليه مدينة لبيان مسماه وتوضيحه، وكشجر الأراك لما كان الأراك يطلق على قضبانه أضيف لبيان المراد، وهكذا وإلا فلغو زائد مستهجن ولذا ترى النحرير يستحسنها تارة فيمثلها بشجر الأراك ويستقبحها أخرى فيمثلها بإنسان زيد وهنا لما كان الأنعام قد يختص بالإبل إذ هو أصل معناه، ولذا لا يقال النعم إلا لها أضميف إليه بهيمة إشارة إلى ما قصد به من العموم، وللنحاة في مثل هذه الإضافة اختلاف فمن اشترط العموم، والخصوص من وجه في الإضافة البيانية قال إنها لامية، ومن لم يشترطه قال إنها بيانية كما ذكره في شرح الهادي فلا يرد ما قيل اشترط في الإضافة بمعنى من كون المضاف إليه جن! المضاف كالفضة للخاتم، وههنا الأمر بالعكس، ومن في البهيمة من الأنعام لا تكون إلا بيانية، وفي خاتم من فضة بيانية أو تبعيضية أو ابتدائية وإذا كان من إضافة المشبه للمشبه به فالأمر ظاهر، وبهذا اندفع قول الإمام رحمه الله أنه لو قال أحلت لكن الأنعام لكان الكلام تاماً بدليل وروده في آية أخرى فأيّ فائدة في زبادة لفظ البهيمة، وكذا قوله إن لفظ البهيمة مفرد، والأنعام جمع فما الفائدة في ذكره لأنه قصد به بيان الجنس فلذا أفرد، وجمع الأنعام ليشمل أنواعها، وللعلامة جواب عنه تركناه لما فيه، وقوله: كل حيّ لا يميز أي ليس من شانه التمييز فلا يرد الصبيّ كما توهم، والاجترار افتعال من الجرّة بالكسرة، وهي ما يخرجه البعير من كرشه، وبعض الحيوانات من جوفه يتعلل به إلى وقت العلف وقوله: (وعدم الآنياب) جمع ناب، وهو سن يختص بسباع الحيوان ولذا يكنى عنها بماله ظفر وناب، وأخر قوله ونحوهما عن قوله المراد كما في الكشاف لأنه المحتاج للبيان فتأمّل. قوله ة) 1 لا محرم ما يتلى لخ) اختلف في هذا الاستثناء فقيل منقطع لأنّ المتلوّ لفظ، والمستثنى منه ليس من جنسه، والمصنف رحمه الله تبعاً للعلامة على أنه متصل مستثنى من بهيمة الأنعام بتقدير مضاف محذوف من ما يتلى عليكم، وهو محرم ليكون عبارة عن البهائم المحرّمة بقوله: {حرمت عليكم الميتة} الخ ونحوه أو من فاعل يتلى أي يتلي آية تحريمه لتكون ما عبارة عن البهيمة المحرّمة لا اللفظ المتلو قال النحرير، ولا يبعد اعتبار التجوّز في الإسناد من غير تقدير، وأمّا جعله مفرّغا من الموجب في موقع الحال أي إلا كائنة على الحالات المتلوّة فبعيد جداً، والمستثنى منصوب، ويجوز رفعه كما تقرّر في النحو. قوله: (حال من الضمير في لكم الخ) في الكشاف نصب على الحال من الضمير في لكم أي أحلت لكم هذه الأشياء لا محلين الصيد وعن الأخفش أن انتصابه عن قوله أوفوا بالعقود وقوله: {وأنتم حرم حال عن محلى الصيد} كأنه قيل أحللنا لكم بعض الأنعام في حال امتناعكم من الصيد وأنتم حرم لئلا نخرّج عليكم، والوجه هو الأؤل وإليه ذهب الجمهور، ولا يرد عليه ما قيل إنه يلزم تقييد إحلال بهيمة الأنعام بحال انتفاء حل الصيد، وهم حرم، وهي قد أحلت لهم
مطلقا، ولا يظهر له فائدة إلا إذا عنى بها الظباء وحمر الوحش، وبقره لأنه مع عدم اطراد اعتبار المفهوم يعلم منه غيره بالطريق الأولى لأنها إذا أحلت في عدم الإحلال لغيرها، وهم محرمون لدفع الحرج عنهم فكيف في غير هذه الحال فيكون بيانا لأنعام الله عليهم بما رخص لهم من ذلك، وبياناً لأنهم في غنية عن الصيد، وانتهاك حرمة الحرم، والعجب أنّ عبارة الكشاف صريحة فيه، ولم يعرّح عليه أحد من شراحه، وقد تنبه له في الكشف لكنه لم ينقحه. قوله: (وقيل من واو أوفوا) هذا قول الأخفش إنه حال من فاعل أوفوا، ولا يخفى ضعفه لما فيه من الفصل بين الحال وصاحبها بجملة ليست اعتراضية إذ هي مبينة، وتخلل بعض أجزاء المبين بين أجزاء المبين، ولا وجه للتقييد به مع أنهم مأمورون بالوفاء مطلقا، والتوجيه السابق لا يجري فيه كما لا يخفى ان قيل إنه أقرب معنى، وان كان أبعد لفظاً لأنّ جعله حالاً من ضمير لكم إنما يصح إذا أريد ببهيمة الأنعام الظباء، وأما إذا أريد الأنعام المستثنى منها البعض على ما صرح به ففيه تقييد الإحلال بهذه الحال وليس كذلك لما علمت من أنه على طرف الثمام، ثم تكلف له ما عبارته منادية على خلافه فقال: ويمكن دفعه(3/210)
بأن المراد بالأنعام أعم من الإنسي، والوحشيّ مجازاً أو تغليبا أو دلالة أو كيف شئت واحلالها على عمومها مختص بحال كونكم غير محلين للصيد في الإحرام إذ معه يحرم البعض، وهو الوحشيّ، وأما جعله حالاً من فاعل أحللنا المدلول عليه بقوله أحلت لكم، وششلزم جعل، وأنتم حرم أيضا حالاً من مقدر أي حال كونكم غير محلين الصيد في حال إحرامكم فليس ببعيد إلا من جهة انتصاب حالين متداخلين من غير ظهور ذي الحال في اللفظ، وترجيحه بأنّ التحليل، والتحريم شأن الثارع دون المكلفين ليس بشيء لأنّ معناه تقرير الحل، والحرمة عملاً، واعتقاداً، وهو سائغ في الكتاب، والسنة.
(أقول الا يخفى ما في هذا الوجه الذي رجحه من الضعف من جهة العربية فمانّ الفاعل
الذي ناب عنه مفعوله ترك نسيا منسياً، وقد نص النحاة على أنك لو قلت أنزل الغيث مجيباً لدعائهم على أنه حال من فاعل الفعل المجهول المتروك إذ تقديره أنزل الله الغيث حال إجابته لدعائهم لم يجز لا سيما على مذهب القائلين بأنّ المبنيّ للمفعول صيغة أصلية ليست محوّلة عن المعلوم، وأيضا لا وجه للتقييد كما أورده على الوجه الذي قبله مع أنّ محلى صيغة جمع كما هو في الرسم العثماني بالياء فكيف يكون حالاً من الله فكأنّ قائلة زعم أنه محل من غيرياء أو أنه رسم بالياء على خلاف القياس كما في البحر ولا يخفى حاله، ولأبي حيان هنا كلام طويل الذيل فيه تكلف وتعسف تركه خير منه. قوله: (وقيل استثناء وفيه تعسف أليس وجه التعسف فيه أن استعمال غير في الاستثناء غير ظاهر، ولا من تكرير ألاشثناء سواء ترادف أو
تداخل بل لفساد المعنى فيه إلا أن يتكلف له ما لا يليق بالنظم القرآني لأنّ المحلين لا يستثنون من البهيمة إن رجع الاستثناء من الأول بل من لكم فيصير المعنى أحلت البهيمة إلا المحلين وهو غير صحيح، وكذا استثناؤه مما قبله فتدبر. قوله: (يعني مناسك الحج جمع شعيرة وهو اسم ما أشعر الخ) قيل أقحم اسم لئلا يتوهم أنه وصف لاشتقاقه، وكونه على وزن الصفات لأنه لم يجر على موصوف، والشعار الإمارة، والعلامة، والأعلام جمع علم بمعناه، وقوله: (التي حدها) إشارة إلى أن تسميتها شعائر كتسميتها حدودا لأنّ الحدود تسمى شعائر أيضاً لما لها من العلامات، وقوله: ولا الشهر الحرام المراد به جنسه، وفسره الزمخشريّ بأشهر الحج لأنه المناسب للمقام، وّجذية بجيم مفتوحة، ودال مهملة ساكنة جمعه تجذيات بالتحريك وتجلإئة بوزن رمية، وجمنة تجدّايا ما يحشى تحت السرح، والرحل وخص الهدي بالذكر، وان كان داخلا في الشعائر لأنّ فيه نفعاً للناس، ولأنه مالي قد يتساهل فيه، وتعظيما له لأنه من أعظمها. قوله: (أي ذوات القلاند) وهي الإبل التي كان يجعل لها شعارا، وهي بعض الهدي خصت بالذكر تشريفا لها أو لا تقدير فيه، والنهي عن التعرض لها مبالغة في النهي عن التعرض له كما في قوله تعالى: {ولا يبدين زينتهن} فإنهن إذا نهين عن إظهار الزينة كالخلخال، والسوار علم النهي عن إبداء محلها بالطريق الأولى، ومن الغريب ما روي عن السدي في شرح أبي داود من أنّ المراد بالقلائد أصحاب الهدي قال: كان العرب يقلدون من لحاء شجر مكة فيقيم الرجل بمكة حتى إذا انقضت الأشهر الحرم، وأراد أن يرجع إلى أهله قلد نفسه، وناقته من لحاء الشجر فيأمن حتى يأتي أهله انتهى، ولحاء ككساء بلام وحاء مهملة قشر الشجر كلحيته. قوله: (ولا 7مين البيت الحرام قاصدين الخ) أي، ولا تحلوا أقواما آمّين، وبجوز أن يكون على حذف مضاف أي نعال قوم آمّين أو أذى قوم آمّين، وقرىء شاذاً، ولا آمّي البيت بالإضافة والبيت مفعول به لا ظرف، وأي يثيبهم تفسير لفضلاً ويرضى تفسير ورضواناً، وهو بناء على ظنهم إن كان في حق المشركين كما سيأتي. قوله: (والجملة في موضع الحال من
المستكن الخ (هذا رد على الزمخشرفي في جعله جملة يبتغون صفة لآمّين حيث قال في تفسيره أي لا تتعرضوا لقوم هذه صفتهم تعظيماً لهم، واستنكاراً لأن يتعرض لمثلهم، وتبعه أبو البقاء إذ اختار أنّ اسم الفاعل الموصوف لا يعمل لضعف شبهه بالفعل الذي عمل بالحمل عليه لا! الموصوفية تبعد الشبه لأنها من خواص الأسماء، وقد رد بوجهين الأول أنّ الوصف إنما منع من العمل إذا تقدم المعمول كقولك زيدا ضارب قومي فلو تأخر لم يمنع لمجيئه بعد الفراغ من مقتضاه كما صرح به صاحب اللب، وغيره. الثاني: أنّ الزمخشري لم يرد ما فهمه المعترض من(3/211)
أنّ جملة يبتغون صفة آمّين حتى يرد عليه ما ذكر إذ مراده أنّ آفين، ويبتغون صفتان لموصوف مقدر، وهو قوم دفعا لما يرد عليه من أنّ آمّين إذا كان مفعول لا تحلوا عمل غير معتمد إلا أنه يرد عليه أنه إذا جاز الاعتماد على الموصوف المقدر كان اشتراط الاعتماد لغواً فلا يمتنع العمل في شيء من الصور لأنه ما من اسم فاعل إلا ويصح أن يقدر له موصوف كما قيل.
(أقول) هذا زبدة ما هنا من القيل والقال، وليس بمتجه من وجوه الأوّل إن ما ادعاه الفاضل المحقق غير متعين لجواز أن يريد بيان حاصل معنى النظم، وأن لا تحلوا مؤوّل بلا تتعرضوا لأن الحل والحرمة لا تتعلق بالذوات، ولذا قدر في نحو أحل لكم النساء نكاح النساء ويجوز أن يريد ما فهمه المعرب بناء على أن الوصف المتأخر لا يمنع كما مر، وإن كان مثله يمنع مطلقاً كما توهمه صاحب الدرّ المصون حتى ذهب إلى عدم منعه قياساً على المصدر إلا أنه لا وجه له فقد قال في كتاب المواطن لا خلاف في جواز عمله إذا تأخر ولذا جزم به بعضهم هنا فهذا خطأ من المعترض، وغفلة ممن قبله وحاول دفعه بدليل آخر وأما اعتراضه على الزمخشريّ فيما نسبه إليه من الاعتماد على المقدّر بحديث اللغوية الذي سمعته فليس بشيء لأنّ النحاة صرحوا به كما قال في الألفية:
وقد يكون نعت محذوف عرف فيستحق العمل الذي وصف
وهو، وان توهمه وارداً غير مندفع ليس بشيء لأنه ليس كل اسم فاعل يصح أن يقدر له موصوف إذ يمنع منه موانع معنوية كعدم القرائن، وصناعية كما في نحو قولك ما ذاهب أخو! لأنه لا يصح أن يقدر له موصوف كرجل وشخص لعدم الرابط، وقد صرّحوا في باب النعت بأنّ الموصوف لا يحذف في كل موضع، وأنّ له مواطن يطرد فيها كان يكون الموصوف بعض اسم مجرور بمن أوفى قبله ولذا مثلوا له هنا بقوله تعالى: {ومن الناس والدواب الأنعام مختلف ألوانه} [سورة فاطر، الآية: 28] أي صنف مختلف ألوانه الخ. وإذا كانت الصفة جملة أو ظرفا لا يصح في غير هذا إلا ندوراً أو شذوذاً، وأما قول السهيلي رحمه الله تعالى طريقة حذفه هنا أن يكون الموصوف مندرجا في معنى اسم قبله نحو كم ضارب زيداً لدخوله في معنى كم، وفي غيره لا يجوز فقد قال أبو حيان رحمه الله تعالى: إنه مردود فقوله: إنّ جملة
- اه: 811ـ ءا. / -- / - لم،،
يبتغون صفة لمقدر فرار من السحاب للوقوف تحت الميزاب فإن قلت: كيف قال: إنه لو لم يقدر الموصوف كان عاملاَ بلا اعتماد مع دخول النفي عليه، وهو لا يختص بما كما صرحوا به قلت هو بناء على ما فهمه من أنّ معنى الاعتماد على النفي أن يسلط عليه، وينفي معناه لا أن يلي لفظه نحو ما قائم أبوك، وهذا ليس كذلك لأنّ تقديره لا تحلوا أمّين البيت فالمنفي الإحلال نعم هذا لا اعتماد عليه فإنه يكفي وقوعه في حيز النفي خصوصاً، والنفي منصب على القيد، وقد صرّحوا بأنّ اعتماده على معنى النفي مطلقاً صريحا كان أو مؤوّلاً، ولم يتعرّضوا هنا للاعتماد لظهوره، وهذا مما يتعجب منه فلا تكن من الغافلين. قوله: (وفائدته استنكار تعرّض من هذا شأنه) أي مطلقاً أو من المسلمين، والمانع له أنه طالب فضل الله، ورضوانه، وقوله: وقيل الخ. فيكون على هذا مخصوصا بالكفرة فالفضل التجارة، والرضوان بزعمهم ولو أبقى الفضل على ظاهره لأنه بزعمهم ضح لكنه لما أمكن حمله على ما هو في نفس الأمر كان حمله عليه أولى، وأورد على هذا التوجيه السابق أنه إذا كان آمّين البيت الحرام المسلمين فالتعرّض لهم حرام مطلقاً سواء كانوا آمّين أو لا فلا وجه لتخصيصهم بالنهي عن الإحلال، وفي المصباح ما تعرّضت له بسوء، وعرضت له بمعنى، وقيل ما صرت له عرضة بالوقيعة فيه، ولا تعرض له بسوء أي لا تعترض له فتمنعه باعتراضك أن يبلغ مراده بمعنى التعرّض للشيء أعم من أخذه، وقتله، وطرده فالإحلال بمعنى جعله حلالاً أو اعتقاد حله كناية أو مجاز عن التعرّض! له لأنّ المؤمن لا يتعرّض لما لا يحل له فلذا فسروه به هنا، وقول الزمخشري السباق قوم هذه صفتهم إشارة إلى أنّ التعليق بالمشتق يفيد علية مبدأ الاشتقاق فالظاهر أنّ العلامة، ومن تبعه أشاروا لهذا لا كما فهمه الفاضل المحقق فافهم. قوله: (إذ روي الخ) حطيم بن ضبيعة أتى من اليمامة إلى المدينة، ولم يسلم بعد عرض الإسلام عليه فلما خرح مرّ بسرح المدينة أي الإبل المسرحة للرعي فاستاقها، وتبعوه فلم يدركوه فلما(3/212)
خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم عام قضاء العمرة التي أحصر عنها سمع تلبية حجاح اليمامة فقال هذا الحطيم، وأصحابه فدونكموه، وكان قد قلد ما نهب من السرح، وجعله هديا فلما توجهوا لذلك نزلت هذه الآية وهذا الحديث أخرجه ابن جرير عن عكرمة وسمي الرجل الحطيم بن هند البكري فليحرّر.
قوله: (وعلى هذا فالآية منسوخة الخ) إن كان هذا مخصوصاً بالمشركين والمنع عن قتالهم، ودخولهم المسجد الحرام فإنهما نسخا فماذا كان للمسلمين، والمشركين، وخصوص
السبب لا يمنع عموم اللفظ فالنسخ في حق المشركين خاصة، وهو في الحقيقة تخصيص لكن لما كان المخصص متراخياً لا مقارنا سمي ناسخاً كما هو مذهب الحنفية فينبغي أن يحمل كلام المصنف رحمه الله تعالى على الأوّل لأنه شافعي لا يسمى مثله نسخاً فتدبر. قوله: (وقرئ تبتغون على خطاب المؤمنين) هذه قراءة حميد بن قيس الأعرج في الشواذ قيل، وهي قلقة لقوله من ربهم، ولو أريد خطاب المؤمنين لكان المناسب من ربكم، وربهم وقيل ترك التعبير بما ذكر للتخويف بأنه ربهم يحميهم، ولا يرضى بما فعلتموه، وفيه بلاغة لا تخفى، واشارة إلى ما مرّ من أنه الله رب العالمين لا المسلمين فقط فافهم. قوله: (إذن في الاصطياد بعد زوال الإحرام ولا يلزم من إرادة الإباحة الخ) قال الزجاح، ومثله لا تدخلن هذه الدار حتى تؤذي ثمنها فإذا أذيت ثمنها فأدخلها أي إذا أذيت أبيح لك دخولها، وهذه مسألة أصولية فقيل الأمر بعد الحظر يقتضي الإباحة واستدلّ بهذه الآية والمصنف رحمه الله تعالى لا يراه فلذا قال إنّ الأمر هنا للتوسعة، ورفع المنع، والصيد ليس مأموراً به فلا وجه للإيجاب فيه، ولا تكون الآية دليلاً على ما ذكر فإن كان ما يقتضي الإيجاب أو الاستحباب عمل به، ومن قال حقيقته الإيجاب قال إنه مبالغة في صحة المباح حتى كأنه واجب، وقيل إنّ الأمر في مثله لوجوب اعتقاد الحل، وفيه نظر، وتحقيقه في أصول الفقه. قوله: (وقدئ بكسر الفاء الخ) هذه قراءة شاذة منسوبة للحسن، وضعيفة من جهة العربية لأنّ النقل إلى المتحرّك مخالف للقياس وقيل إنه لم يقرأ بكسرة محضة بل أمال لإمالة الطاء، وأن كانت من اهـ عستعلية، وقرئ أحللتم بالهمزة لأنه يقال حل من إحرامه، وأحل بمعنى فقوله: وأحللتم معطوف على بكسر الفاء أي، وقرئ أحللتم. قوله: (لا يحملنكم أو لا يكسبنكم (يعني أن معنى جرم حمل كما نقل عن ثعلب، والكسائي يقال جرمه على كذا أي حمله عليه فعلى هذا يتعذى لواحد بنفسه، وهو الضمير هنا، إلى الآخر بعلى، وهو أن تعتدوا فتقديره على أن تعتدوا، ومحله بعد حذف الجار إما جر أو نصف على المذهبين أي لا يحملنكم بغض قوم على الاعتداء عليهم، وقال أبو عبيد والفراء: معناه كسب يقال جرم وأجرم بمعنى كسب، ومنه الجريمة وكسب يتعدى لواحد أيضاً، وقد يتعدّى لاثنين فكذا جرم يقال ك! سب ذنبا، وأكسبه ذنباً فعلى هذا أن تعتدوا مفعول ثان له، وأصل مادّته موضوعة لمعنى القطع لأنّ الكاسب ينقطع لكسبه، ومنه لا جرم وسيأتي تحقيقه. قوله: (شدّة بغضهم وعداوتهم الخ) الشنآن البغض أو شدته، وسمع في نونه الفتح والتسكين،
وفيهما احتمالان أن يكونا مصدرين شذوذا لأن فعلانا بالفتح مصدر ما يدل على الحركة كجولان، ولا يكون لفعل متعذ كما قاله سيبويه: وهذا متعد لأنه يقال شنأته، ولا دلالة له على الحركة، وقيل: إنّ في الغضب غليان القلب، واضطرابه فلذا ورد مصدره كذلك، وفعلان بالسكون في المصادر تليل نحو لويته ليانا بمعنى مطلته أو صفة لأنّ فعلان بالسكون في الصفات كثير كسكران، وبالفتح ورد فيها قليلاَ كحمار قطوان وتي! عدوان فإن كان مصدراً فإضافته إما على الفاعل أو المفعول أي أن يبغضكم قوم أو تبغضوهم، وجوّز المصنف رحمه الله تعالى الوصفية في السكران دون الفتح لندوره فيه كما أشار إليه وإذا كان وصفا فهو بمعنى بغيض أي مبغض بالكسر اسم فاعل كقدير بمعنى قادر واضافته بيانية أي البغيض من بينهم، وليس مضافا إلى فاعله أو مفعوله كالمصدر. قوله: (لأن صدوركم الخ) هذا على قراءة الفتح بتقدير اللام على أنه علة للشنان، وعلى قراءة الكسر إن شرطية، وما قبله دليل الجواب أو الجواب أو الجواب على القول بجواز تقدمه، والصحيح الأوّل، وأورد على قراءة الكسر أنه إن كان الصد المذكور(3/213)
ما وقع عام الحديبية فهو محقق متقدّم فكيف يقال إن صدّوكم، وهو يقتضي استقباله، وعدم تحققه وإن أريد ما بعد الفتح فلم يقع صد بعده فذهب قوم إلى أنّ الآية لم تنزل بعد الحديبية فإنه غير متفق عليه ولئن سلم فهو للتوبيخ على الصذ الواقع يوم الحديبية، والدلالة على أنه كان ينبغي أن لا يكون وقوعه إلا على سبيل الفرض، والتقدير لقو! هـ تعالى: {إن كنتأ قوماً مسرفين} وجوّز أن يكون بتقديران كانوا قد صدوكم وقوله، ومن قرأ يجرمنكم الخ. وقع في نسخة مقدماً والصحيح هذه، وما ذكره نظرأ إلى أنّ الأصل أن تكون الهمزة للتعدية، والا فيجوز أن يكون من جرمته ذنبا للمبالغة، ولم يجعل جرمت، وأجرمت من المتعدي إلى واحد، وأن تعتدوا على حذف الجار لأنه الواقع موقع المفعول الذي يكون بلا واسطة البتة. قوله: (على العفو والإغضاء الخ (الإغضاء عدم النظر إلى ما يكره، وفسر البرّ، والتقوى بهذا ليقابله بقوله، ولا تعاونوا الخ فإنه يدل على ذلك أو هو عام فالمراد بالبر متابعة الأمر مطلقا، وبالتقوى اجتناب الهوى، ولو عطف الثاني بأو لكان أظهر قال الطيبي، والثاني أظهر، وأولى لتصير الآية من جوامع الكلم، ويكون تذييلاً للكلام فيدخل في البر، والتقوى جميع مناسك الحج قال تعالى: {فإنها من تقوى القلوب} ، والعفو والإغضاء أيضا، وفي
النهي عن الإثم والعدوان عدم التعرّض لقاصدي البيت الحرام دخولاً أوّلياً وعلى الوجه الأوّل يكون عطفا على، ولا يجرمنكم من حيث المعنى لأنه من باب لا أرينك ههنا كأنه قيل لا تعتدوا على قاصدي المسجد الحرام لأجل أن صدكم قريش عن البيت الحرام، وتعاونوا على العفو والإغضاء، ومن ثمّ قيل الوقف على أن تعتدوا لازم لأن الاعتداء منهيّ عنه، والتعاون على البرّ، والتقوى مأمور به، والتشفي طلب شفاء الصدر بالانتقام. قوله: (ما فارقه الروح من غير تذكية الخ) والمراد حتف أنفه من غير سبب خارج عنه، والدم المسفوح الذي أسالوه، وأخرجوه بآلة والأمعاء جمع معى، وهي المصارين والإهلال رفع الصوت، والمراد به هنا ذكر ما يدّبح له، وقوله: {من وقذته} إذا ضربته أصله أن تضربه حتى يسترخي، ومنه وقذه النعاس أي غلب عليه، وإنما قال في تاء النطيحة أنها للنقل لأنها المنطوح مطلقا مذكراً كان أو مؤنثا ولأن فعيلاً بمعنى مفعول لا تدخله التاء، وفسر ما أكل السبع بما أكل منه أي أكل بعضه لأن ما أكل كله لا يتعلق به حكم، ولا يصح أن يستثنى منه ما أدركه وذكى. قوله: (وهو يدل على أن جوارح الصيد الخ) جوارج الصيد أعم من كلابه، وطيوره كالبازي، وهي في حكم السباع والحياة المستقرّة هي التي لا تكون على شرف الزوال قيل، وعلامتها أن تضطرب بعد الذبح لا وقت الذبح فإنه لا يحسب، وقوله: (من ذلك) أي ما ذكر قبله من المنخنقة إلى هنا إذ لا يحتمل رجوعه إلى ما قبله، وعلى هذا لا تقيد المذكورات بقوله فماتت، والا لم يصح الاستثناء منها، وقوله: (في الشرع لقطع الحلقوم) أي موضوعة له، وفي نسخة بقطع الحلقوم بالباء متعلق بالذكاة، والمريء مجرى الطعام، وتفصيل التذكية في الفقه. قوله: (النصب واحد الأنصاب) معطوف على الميتة، واختلف فيها فقيل هي حجارة كانوا يذبحون عليها فعلى على أصلها، ولعل ذبحهم عليها كان علامة على كونها لغير إدلّه، وقيل هي الأصنام لأنها نصبت لتعبد. وعلى على أصلها أو بمعنى اللام، والنصب بضمتين جمع نصاب، وقيل هو مفرد
وقرئ بضم النون وتسكين الصاد تخفيفأ، وقرى بفتحتين وفتح فسكون. قوله: (الاستقسام بالأزلام الخ) جمع زلم وهو القدح المضروب به لطلب ما قدر وقسم له، ولذلك سمي استقساماً، وقد بينه المصنف والغفل بضم الغين المعجمة، وسكون الفاء الذي لا سمت عليه لأنه أغفلت علامته، والمراد هنا أنه لم يكتب عليه قيل هذا من جملة الفأل، وقد كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يحب الفأل فلم صار فسقا، وحراما وأجيب بأنه كان استشارة مع الأصنام واستعانة منهم فلهذا صار حراما وأما أنه دخول في علم الغيب فلا نسلم أنّ الدخول في علم الغيب حرام، ومعنى استئثار الله بعلم الغيب أنه لا يعلم إلا منه، ولهذا صار استعلام الخير، والشرّ من المنجمين، والكهنة ممنوعا حراما بخلاف الاستخارة من القرآن فإنه استعلام من الله تعالى، ومن ينظر في ترتيب المقدمات أو يرتاض فهو لا يطلب إلا علم الغيب منه فلو كان طلب علم الغيب(3/214)
حراما لا نسد طريق الفكر والرياضة ولا قائل به، وقال الإمام رحمه الله تعالى لو لم يجز طلب علم الغيب لزم أن يكون علم التعبير كفراً لأنه طلب للغيب، وأن يكون أصحاب الكرامات المدعون للإلهامات كفاراً، ومعلوم أنّ كل ذلك باطل، وفيه أنّ ما ذكره من الاستخارة بالقرآن، وتبعه النحرير فقال إنهم أطبقوا عليه محل نظر فإنه لم ينقل فعله عن السلف، وقد قيل إن الإمام مالكا كرهه، ولم أر فيه نقلاً إلا أنه قال في فتاوى الصوفية نقلاً عن الزندوستي أنه لا بأس به، وأنه فعله معاذ، وعليّ رضي الله تعالى عنهما وروي عن عليّ كرم الله وجهه أنه قال: من أراد أن يتفاءل بكتاب الله فليقرأ قل هو الله أحد سبع مرّات وليقل ثلاث مرّات اللهم بكتابك تفاءلت، وعليك توكلت اللهم أرني في كتابك ما هو المكتوم من سرّك المكنون في غيبك ثم يتفاءل بأوّل الصحيفة اهـ، وفي النفس منه شيء.
وفي كتاب الأحكام للجصاص أنّ الآية تدلّ على بطلان القرعة في عتق العبيد لأنها في
معنى ذلك بعينه إذ كان فيه إثبات ما أخرجته القرعة من غير استحقاق لأن من أعتق أحد عبيده عند موته، ولم يخرجوا من الثلث، وقد علمنا أنهم متساوون في استحقاق الحرّية ففي استعمال القرعة إثبات حرّية غير مستحقة، وحرمانها من هو مساو له فيها كما يفعله صاحب الأزلام فإن قيل قد جاءت القرعة في قسمة الغنائم، وغيرها وفي إخراج النساء قيل له إنما القرعة فيها التطييب نفوسهم، والبراءة من التهمة في إيثار البعض، ولو اصطلحوا على ذلك جاز من غير قرعة وأما الحرّية الواقعة على واحد منهم فغير جائز نقلها عنه إلى غيره، وفي استعمال القرعة نقل للحرّية عمن وقعت عليه، واخراجه منها مع مساواة غيره فيها اهـ.
(أقول) هذا مذهب أبي حنيفة رحمه الله تعالى وأصحابه، والشافعيّ خالفهم فيه وروي فيه
أحاديث صحيحة، وله فيه تصنيف مستقل قرأناه رواية عن مثايخنا، ويؤيده وقوعها في القرآن من غير دليل ناسخ وأما القرعة في غير العتق فمتفق عليها. قوله: (وقيل هو استقسام الجزور الخ) هذا هو الميسر، وسيأتي بيانه، ورجح هذا بعض المفسرين، ولأنه يناسب ذكره مع محرمات الطعام فمعناه طلب قسم من الجزور أو ما قسمه الله له، وقوله: لأنه دخول في علم الغيب مرّ ما فيه، وقوله: أو إلى تناول ما حرّم أي إشارة إلى تناول المحرمات من المآكل المعلوم من سياق ما قبله فرجع إلى جميع ما قبله، وشمل الاستقسام. قوله: (أراد به الحاضر وما يتصل به من الآرّمنة الآتية) وأسقط قوله في الكشاف الماضية إذ لا معنى له هنا، وهو منصوب على الظرفية بيئس، وليست اللام فيه للعهد كما يقال: كنت بالأمس شابا، وأنت اليوم أشيب أو هي للعهد، المراد يوم نزول الآية الذي ذكره المصنف رحمه الله تعالى ورواه الشيخان عن عمر رضي الله تعالى عنه، واليأس عدم الرجاء، وأشار إلى تقدير مضاف فيه لأنّ اليأص ليس من نفس الدين بل من إبطاله أو غلبته بأن يغلبوكم عليه، وقوله: أن يظهروا عليكم راجع إلى الوجهين، وان كان على الثاني أظهر، وقوله: فلا تخشوهم متفرّع على اليأس، وإظهار الخشية فيه يفهم من نهيهم عن خثية غيره. قوله: (بالنصر والإطهار على الأديان كلها الخ (لأنهم بالنصر، والقوّة يجرون أحكام الدين من غير مانع، وبه تمامه أو المراد إتمام الدين في نفسه لبيان ما يلزم بيانه، ويستنبط منه غيره، وهذا رد على من قال إنّ الآية تبطل القياس، وإليه أشار بقوله، وقوانين الاجتهاد. قوله: (بالهداية والتوفيق الخ) أي بإتمام الهداية، والتوفيق بإتمام سببهما، والا فهما حاصلان قبل ذلك ومنار الجاهلية استعارة لأمورها من مناسكهم، وغيرها. قوله: (اخترته لكم الخ) يعني أنه نظر فيه إلى معنى الاختيار، ولذا عدى باللام، ومنهم من جعله صفة لدين قدم عليه فانتصب حالاً، والإسلام وديناً مفعولاً رضيت إن ضمن معنى صير أو دينا منصوب على الحالية من الإسلام أو تمييز من لكم فإن قيل ما وجه تقييد رضا الإسلام
بقوله اليوم لأنه معطوف على أكملت، وهو مرضيّ قبل ذلك وبعد. قيل المراد برضاه حكمه باختياره حكما أبديا لا ينسخ، وهو كان في ذلك اليوم وقوله: {وهو الدين عند الله لا غير} جملة حالية مقيدة للدلالة على ما ذكر فافهم. قوله: (متصل بذكر المحرّمات الخ) الاضطرار الوقوع في الضرورة، وقوله: وحرمتها من جملة الدين الخ إشارة إلى أنّ الاعتراض بذكر أمر الدين يؤكد(3/215)
حرمتها لأنها من جملته، والمخمصة المجاعة أي الجوع سمي بها لأنه يخمص له البطون أي تضمر والجنف معناه الميل كما مرّ والمراد بميله للإثم تجاوز محل الضرورة، والرخصة بالزيادة أو قصد أمر غير دفعها، وظاهره أنّ معنى قوله غير باغ، ولا عاد ذلك، وقد فسر الباغي في سورة البقرة بالمستأثر على غيره فكأنه أشار هنا إلى تفسير آخر له وقوله: {لا يؤاخذ بكله} أوّله به ليصح جعله جوابا لمن الشرطية مترتبا عليه، واشارة إلى أنه أقيم فيه سبب الجزاء مقامه لا أنه مقدر في الكلام، وإن كان لا مانع منه. قوله: (لما تضمن السؤال معنى القول الخ) يعني أنّ السؤال ليس مما يعمل في الجمل، ويتعدى بحرف الجرّ يقال سأل عن كذا فقيل إنه بتقدير مضاف أي جواب ماذا، واختار المصنف رحمه الله أنه ضمن معنى القول فحكيت به الجملة كما يحكي بالقول، وهو معلق لأنه وان لم يكن من أفعال القلوب لكنه طريق العلم فعلق كما يعلق، وقال لهم دون لنا الذي وقع في سؤالهم فمقتضى الحكاية ذلك حكاية بالمعنى لمناسبة غيبة يسألونك كما تقول أقسم زيد ليضربن ولو قلت لأضربن جاز وقوله والمسؤول الخ أي ليس عن مطلق ما أحل بل عن المطاعم لأنّ الكلام فيها، وقوله: ساً لوا عما أحل لهم أي هل هو جميع ما عدا المذكور أم فيه تفصيل فأجيبوا بأن له تفصيلا. قوله: (ما لم تستخبثه الطباع السليمة الخ) فالمراد بالطيب ما لم يستخبث لقوله، وبحل لهم الطيبات، ويحرم عليهم الخبائث، والمراد بمستخبثات العرب ما كانوا يأكلونه من الحشرات، وقوله: أو ما لا يدل الخ تفسير آخر للطيب، وهو بمعنى الحلال لأنّ الطيب يكون بمعنى الحلال، والحل إما بنص! أو قياس، ويدخل فيه الإجماع، ولا بد من استناده لنص، وإن لم
نقف عليه، وقال السليمة لأنّ الطباع جمع طبع، وهو ما طبع عليه الإنسان كما ذكره الأزهري فلا عبرة بمن أنكر كونه جمعا، وقال إنه واحد مذكر، ومن أنثه ذهب إلى الطبيعة، وقال ابن السيد: يجوز أن يكون جمع طبع ككلب وكلاب اهـ، وكأنه لم يقف على ما قاله الأزهري. قوله: (عطف على الطيبات إن جعل ما موصولة الخ) يصح على هذا أيضاً كونها مبتدأ، وجملة فكلوا خبره لكنه خلاف الظاهر. قوله: (وصيد ما علمتم الخ) أي مصيده لأنه الذي أحل فعطفه على الطيبات من عطف الخاص على العام وعلى تقدير الشرطية لا يكون عطفاً على الطيبات بل مبتدأ خبره الشرط، والجزاء على المختار، والجملة عطف على جملة أحل لكم، ولا يحتاج إلى تقدير مضاف، ونقل عن الزمخشري أنه قال بالتقدير فيه وقال تقدير. لا يبطل كون ما شرطية لأن المضاف إلى اسم الشرط في حكم المضاف إليه كما تقول غلام من يضرب أضمرب كما تقول من يضرب أضرب كذا قال النحرير، والظاهر أنه لا حاجة إلى جعل الصيد بمعنى المصيد لاًن الحل والحرمة يتعلقان بالفعل، وأنه لا حاجة إلى تقدير المضاف على جعلها شرطية كما أشار إليه المصنف رحمه الله بترك التقدير فيه لأنه على ذلك التقدير يصير الخبر خاليا عن ضمير المبتدأ إلا أن يتكلف بجعل ما أمسكن من وضع الظاهر موضع المضمر فليتأمل وقوله: (والجوارح كواسب الخ) من قولهم جرح فلان أهله خيرا إذا أكسبهم، وفلان جارحة أهله أي كاسبهم. قوله: (معلمين! ياة الصيد الخ) مؤدب الجوارج شامل للكلاب، وخص به الاشتقاق لأنه أكثر فيه، وقوله: ومضريها أصل معنى التضرية الإغراء، والحث وقد ضري بالصيد وأضراه عليه مرنه عليه ثم قيل لكل من اعتاد شيئا وقوله لأن كل سبع يسمى كلبا في شموله للطير نظر، ولا دلالة في تسميته الأسد كلباً عليه، وقوله من الكلب بسكون اللام أصالة أو مخففة كلب بفتحتين، وفيه على هذا استخدام في قوله فيه. قوله: (لقوله عليه الصلاة والسلام: " اللهتم سلط عليه كلبا من كلابك ") قال في الكشاف فأكله الأسد وسيأتي هذا في سورة النجم قاله صلى الله عليه وسلم في حق عتبة بن أبي لهب أو لهب بن أبي لهب وقد أذاه وسبه قال الطيبي رحمه الله: هذا حديث موضوع، وليس كما قال بل هو حديث صحيح أخرجه الحاكم في المستدرك من حديث أبي نوفل [بن أبي عقرب عن أبيه] قال كان لهب بن أبي لهب يسب النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال صلى الله عليه وسلم اللهمّ سلط عليه كلبأ من كلابك أو كلبك فخرج في قافلة يريد الشام فنزلوا
منزلاً فيه سباع فقال إني أخاف دعوة محمد صلى الله عليه وسلم فجعلوا متاعه حوله(3/216)
وقعدوا يحرسونه فجاء أسد فانتزعه وذهب به قال الحاكم، وهو صحيح الإسناد، وقوله: وانتصابه أي مكلبين، وقوله: وفائدتها المبالغة الخ. إشارة إلى أنها حال مؤكدة لعاملها، وهو علمتم. قوله: (حال ثانية (مؤكدة أيضاً أو استئنافية إن لم تكن ما شرطية والا فهي معترضة. توله:) من الحيل وطرق التأديب الخ) أي المراد بما علمهم الله ما ذكر وهو أعمّ من الوجه الثاني ولذا قدّمه لأنه أعمّ فائدة إذ التأديب شامل لما في إرساله وما معه، وقيل الأوّل يتعلق بكيفية التعليم، والحيل، وهي من الله أي بإلهام منه أو بالعقل الذي خلقه فيهم، والثاني بما في الاصطياد من الجزئيات التي يحل بها الصيد، وذلك بالشرع الذي علمه الله فعلى الأوّل الحال الثاني أعني تعلمونهن بمنزلة التفسير، والتفصيل للحال الأولى أي مكلبين وعلى الثاني قيد زائد، وقوله: بدعائه أي بنداء الصائد للكلب ونحوه. قوله: (لقوله عليه الصلاة والسلام الخ) رواه أصحاب السنن، وأوّله قال سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيد الكلب المعلم فقال إذا أرسلت كلبك المعلم، وذكرت اسم الله عليه فكل مما أمسك عليك فإن أكل منه فلا تأكل فإنما أمسك على نفسه قال أبو حنيفة، وأصحابه إذا أكل الكلب من الصيد فهو غير معلم لا يؤكل صيده، ويؤكل صيد البازي ونحوه، وان أكل وعليه إمام الحرمين من الشافعية، وقال مالك والليث يؤكل، وان أكل الكلب منه، وقال الشافعي رحمه الله: لا يؤكل إذا أكلا منه، والى المذاهب أشار المصنف رحمه الله، وقوله في الحديث: (إنما أمسك الخ) علة للنهي، وقوله: (والضمير لما علمتم الخ) هذا هو الأصح كما صرح به الحديث السابق، وقيل هو للأكل، وهو بعيد، وقوله:
فيؤاخذكم الخ إشارة إلى أنّ سرعة الحساب مجاز عن المؤاخذة على جميع الأفعال حقيرها، وجليلها لأنّ من سرع عليه الحساب، وسهل يحاسب على كل شيء ومن صعب عليه قد يحاسب على ما يهمه، ويترك غيره. قوله: (يتناول الذبائح وغيرها ويعم الخ) في البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما أنّ المراد بها الذبائح لأنّ غيرها لم يختلف في حله، وقوله والنصارى قيل فيه شيء فإنّ النصارى مثلثة، وأخرج عبد الرزاق عن النخعي عن عليّ كرم الله وجهه ورضي عنه أنه كان يكره ذبائح بني تغلب ونسائهم، وبقول هم من العرب، ورواه الشافعي عنه بإسناد صحيح، ولم يلحق بهم المجوس لأنهم ليسوا بأهل كتاب. قوله: (سنوا بهم سنة أهل الكتاب الخ) قال ابن حجر رحمه الله لم أجده بهذا اللفظ، وقد رواه مالك في الموطأ عن عمر رضي الله عنه أنه قال ما أدري ما أصنع في أمر المجوس فقال له عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه أشهد لسمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " سنوا بهم سنة أهل الكتاب " قال مالك رحمه الله يعني في الجزية، وعلم من تخصيص مالك الجزية أنه لا تؤكل ذبائحهم، ولا تنكح نساؤهم ورواه البيهقي عن الحسن بمعنى ما ذكره المصنف، وعبد الرزاق، وقال إجماع أكثر المسلمين عليه يؤكده فلا وجه لما قاله ابن حجر واعادة أحل لكم الطيبات للتأكيد، والتوطئة لما بعده وذكر اليوم لما مرّ. قوله: ( {وطعامكم حل لهم} الخ) فلا عليكم أصله لا بأس عليكم فحذف اسم لا، وهو مسموع من العرب كما ذكره النحاة، وفي الانتصاف لما كان الكفار غير مخاطبين بفروع الشريعة أولوا الآية بصرف الخطاب إلى المؤمنين أي لا جناج عليكم أيها المسلمون أن تطعموا أهل الكتاب وفي أمالي الإمام السهيلي رحمه الله تعالى قيل ما الحكمة في هذه الجملة، وهم كفار لا يحتاجون إلى بياننا فعنه جوابان أحدهما أنّ المعنى انظروا إلى ما أحل لكم في شريعتكم فإن أطعموكموه فكلوه، ولا تنظروا إلى ما كان محرّماً عليهم فإنّ لحوم الإبل، ونحوها كانت محرّمة عليهم ثم نسخ ذلك في شرعنا، والآية بيان لنا لا لهم أي اعلموا أنّ ما كان محرّما عليهم مما هو حلال لكم قد أحل لهم أيضا، ولذلك لو
أي أطعمونا خنزيراً أو نحوه وقالوا هو حلال في شريعتنا، وقد أباح الله لكم طعامنا كذبناهم، وقلنا إنّ الطعام الذي يحل لكم هو الذي يحل لنا لا غيره فالمعنى طعامهم حل لكم إذا كان الطعام الذي أحللته لكم، وهذا التفسير معنى قول السدي وغيره الثاني للنحاس، والزجاج والنقاش، وكثير من المتأخرين أنّ المعنى جائز لكم أن تطعموهم من طعامكم لا أن يبين لهم ما يحل لهم في دينهم لأنّ دينهم باطل لأنه لم يقل، واطعامكم بل طعامكم(3/217)
والطعام المأكول، وأمّا الفعل فهو الإطعام فإن زعموا أنّ الطعام يقوم مقام الإطعام توسعاً قلنا بقي اعتراض آخر، وهو الفصل بين المصدر وصلتة بخبر المبتدأ، وهو ممتنع بالإجماع لا يجيزون إطعام زيد حسن للمساكين، ولا ضربك شديد زيداً فكيف جاز وطعامكم حل لهم اهـ، وقوله وتبيعوه منهم يفيد أنه يجوز البيع لهم مطلقا، ولو كانوا من دار الحرب، وبه صرح الفقهاء لكن قالوا الأولى أن لا يباع لهم بخلاف السلاح، وما يعين على الحرب، وبعضهم يخطئ في الأوّل فاعرفه.
قوله: ( {والمحصنات} الخ) جعله بعثا على جواز الأولى بناء على نكاح الأمة الكافرة،
وأما المحصنات من الذين أوتوا الكتاب ففسره ابن عمر رضي الله تعالى عنهما بمن أسلم منهن، وقالوا إنه يأباه النظم ولم يرضوه، وهو بظاهره يتناول الحربيات وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لا يجوز نكاج الحربيات، وخص الآية بالذميات، واحتج له بقوله: {لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يواذون ما حاذ الله ورسوله} [سورة المجادلة، الآية: 22] والنكاج مقتض للمودة لقوله تعالى: {خليئ لكم من أنفسكم أرّواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودّة ورحمة} [سورة الروم، الآية: 21] قال الجصاص، وهذا عندنا إنما يدلّ على الكراهة، وأصحابنا يكرهون مناكحة أهل الحرب. قوله: (وتقييد الحل بإيتائها) أي الأجور، والمهور لا يجب تعجيلها فهذا القيد لا مفهوم له لأنه لتأكيد الوجوب لا للاحتراز أو المراد بالإيتاء التعهد والالتزام مجازاً، وهذا أقرب وإن كان المآل واحداً، وحمل المسافحة على إظهار الزنا لظهور مقابله في الإسرار لتبادره من الخدن وهو الصديى، وقيل الأوّل نهى عن الزنا، والثاني نهى عن مخالطتهن. قوله: (يريد بالإيمان شرائع الإسلام) على أنه مصدر أربد به المؤمن به كدرهم ضرب الأمير لأنّ الإيمان نفسه لا يكفر به، والكفر الإباء عنه، وجحوده والآية تذييل لقوله:
{اليوم أحل لكم الطيبات} تعظيما لشأن ما أحله الله وما حرّمه، وتغليظا على من خالف ذلك فيقتضي أن يراد بالإيمان أمور الدين. قوله: (أي إذا أردتم القيام الخ الما كان النظم إذا حمل على ظاهره يقتضي تأخير الوضوء عن الصلاة أو كونها قبلها أو متصلا بها بعد القيام، وكله غير مراد أوّلوه بتأويلين أن يكون القيام إلى الصلاة بمعنى إرادته فعبر عن السبب بالمسبب أو قصدها فعبر عن أحد لازمي الشيء يلازمه الآخر لا أنه من إطلاق اسم الملزوم على لازمه، والمسبب على سببه بناء على أن إرادة الشيء لازم، وسبب على أنه لو سلم فيكفي في تغاير الوجهين اعتبار العلاقتين، واختار الأوّل لما في الثاني من التكلف كذا قيل، وهو رذ لكلام العلامة حيث قال المراد بالقيام إلى الصلاة قصدها وعلى الأوّل قصد القيام إلى الصلاة والمصنف رحمه الله تعالى جعل الأوّل من باب إطلاق المسبب على السبب، والثاني من إطلاق الملزوم على اللازم، وقصد الشيء كما أنه لازم للقيام إليه سبب له فلا فرق في ذلك بينهما، وهذا إشارة إلى سؤال على الزمخشري، وهو وارد على المصنف أيضا، وهو أنه لا فرق بين الوجهين معنى إذ القصد، والإرادة متقاربان، والعلاقة وإن اعتبر فيها التغاير كما ذكروا يجوز فيها الاتحاد فترجيح أحد الوجهين، وجعله غير الآخر ليس تحته كبير معنى والنحرير حاول الجواب عنه، ولا طائل تحته، وقيل في الفرق بينهما أن الأوّل هو القصد إلى الانتصاب إلى الصلاة والثاني القصد إلى الصلاة ولا نظر إلى الانتصاب وبعد كل كلام لم يتضح كل الاتضاح. قوله: (والتنبيه على أن من أراد العبادة الخ) وجهه يؤخذ من التعليق على الإرادة فإن جوابها مقارن أو متصل، وما ذكره في الوجه الثاني من أن التوجه الخ. قيل عليه أنه يكفي في التعبير عن القصد بالقيام أنّ القيام يستلزم القصد، ولا دخل لكون التوجه مستلزماً له في التعبير بالقيام عن القصد إلا أن يقال أراد تأكيد استلزام القيام للقصد بأنّ القيام لا ينفك عن التوجه المستلزم للقصد وفيه تأقل. قوله: (وظاهر الآية يوجب الوضوء على كل قائم الخ (نظرا إلى عموم الذين آمنوا من غير اختصاص بالمحدثين، وان لم يكن في الكلام دلالة على تكرار الفعل لأنها لا تقتضيه على الصحيح، وإنما ذلك من خارج لكن الإجماع صرفها عن ظاهرها فإما أن تكون مقيدة أي، وأنتم محدثون بقرينة دلالة الحال، ولأنه اشترط الحدث في البدل، وهو
التيمم فلو لم يكن له مدخل في الوضوء مع المدخلية(3/218)
في التيمم لم يكن البدل بدلاً، وقوله فلم تجدوا ماء صريح في البدلية، وأما ما قيل إنه اشترط الحدث في البدل فيدل على هذا فغير ظاهر فإنه للضرورة، ولا ضرورة بدون الحدث وفقد الماء، وقيل إنه لا دلالة في الكلام على عموم الأحوال فيخص بالبعض أو أنه لا دلالة له على تخصيص الأفراد، ويجب على كل مؤمن الوضوء عند القيام، ولو مرّة وأوود عليه أنه لولا دلالة العبارة على عموم الأحوال لم يرد الإشكال، وفيه نظر وقيل الأمر للندب، ويعلم الوجوب للمحدث من السنة، وهو بعيد لإجماعهم على أنّ وجوب الوضوء مستفاد من هذ 0 الآية مع الاحتياج إلى التخصيص بغير المحدثين من غير دليل مع أنه لا ندب بالنسبة إلى المحدثين وأبعد منه أنه ندب بالنسبة إلى البعض ووجوب بالنسبة لآخرين وكون النبي غترو الخمس بوضوء وأحد أخرجه مسلم وغيره، وقوله عمدا فعلته أي بياناً للجواز، ويعلم منه أن تجديد الوضوء سنة، وقيل في الكلام شرط مقدر أي إذا قمتم إلى الصلاة الخ. إن كنتم محدثين وان كنتم جنبا، وهو قريب جدّاً. قوله: (وقيل كان ذلك أوّل الآمر ثم نسخ الخ) فيه أنّ أحمد وأبا داود وابن خزيمة، وابن حبان والحاكم، والبيهقي رووا عن عبد الذ بن الغسيل أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بالوضوء لكل صلاة طاهراً كان أو غير طاهر فلما شق ذلك عليه صلى الله عليه وسلم أمر بالسواك عند كل صلاة، ووضع عنه الوضوء إلا من حدث وحديث المائدة لا يعارضه لأنّ العراقي قال لم أجده مرفوعاً، وقد مرّ أنّ آخر ما نزل براءة. قوله: (ولا حاجة إلى الدلك الخ) الدلك عند الحنفية من الآداب، والواجب عند مالك رحمه الله تعالى لدّاته، وقيل لتحقق وصول الماء فلو تحقق لم يجب كما قاله ابن الحاج في شرح المنية. قوله: (الجمهور على دخول المرفقين الخ) وخالف في ذلك بعضهم كزفر، وأما أنها إذا كانت بمعنى مع أو متعلقة بمحذوف لم يبق معنى التحديد، ولم يبق لذكره مزيد فائدة لاشتمال اليد عليها فذكرها زائد ففيه نظر لأنه يدل على دخول المرافق صريحأ لأنّ اليد وان كانت إلى المنكب فليس ذلك مرادا هنا بل المراد بعضها لخروج ما فوق المرفق، وادخاله، ويعلم منه التحديد أيضاً، وما جنح إليه المصنف رحمه
الله تعالى أنّ التنصيص على الشيء لا يقتضي عدم غيره فتأمل. قوله: (وقيل إلى تفيد الغاية مطلقا الخ) اختلف أهل النحو والأصول في هذه المسائل فمن قائل بالدخول مطلقا، ومن قائل بالخروج مطلقاً، ومفصل بين أنّ صدر الكلام إن لم يتناول الغاية فذكرها لمد الحكم إليها فلا يدخل مثل أتموا الصيام إلى الليل، وان تناولها كما هنا فذكرها لإسقاط ما وراءها فيبقى داخلا تحت الحكم، وهذأ أيضاً ليس على إطلاقه إذ يدخل في مثل قرأت القرآن الخ بخلاف قرأته إلى سورة كذأ، والغاية ما ينتهي به الشيء فتطلق على الجزء الأخير وما يلاتيه، والمرفق بفتح الميم وكسر الفاء على الأفصح معروف. قوله: (الباء مزيدة وقيل للتبيعض الخ الما كان المسح متعدّيا بنفسه جعلها زائدة، ولظهوره قدمه أو هي دخلت في المفعول لتضمين معنى الإلصاق وهو شامل لمسح البعض والكل، ولا دلالة على أحدهما فحمل على التبعيض لتيقنه، وقيل إنّ الباء تفيد التبعيض سواء دخلت في الآلة نحو مسحت بالمنديل أو المحل نحو مسحت برأس اليتيم، ونقل عن أبي عليئ، وبه أخذ أبو حنيفة لكن ذهب إلى أنّ الأقل ليس بمراد لحصوله في ضمن غسل الوجه مع عدم تأدي الفرض به بالاتفاق فصار مجملاً بين بمسح النبي صلى الله عليه وسلم على الناصية فقدر بمقدارها، وهو الربع ومبناه على اشتراط الترتيب، والا فيجوز أن يكون عدم الاعتداد به لذلك. قوله: (نصبه نافع وابن عامر الخ) قرئ أرجلكم بالنصب والجرّ والرفع فالأوّل إما بالعطف على وجوهكم، وقيل على أيديكم بناء على أنّ العطف على الأوّل أو الثاني إذا تعدد المعطوف عليه لكته أورد عليه أنّ فيه الفصل بين المعطوف، والمعطوف عليه بجملة ليست اعتراضية، وقد التزمه أبو البقاء رحمه
الله تعالى، وقال إنه لا بأس به، وأما احتمال العطف على محل الجار، والمجرور فبعيد لفظا ومعنى. قوله: (وجرّه الباقون على الجوار الخ) حمل قراءة الجرّ على الجرّ الجواري، وأشار إلى الرذ على من تال إنه شاذ بابه الشعر مع أنه إنما ورد كثيراً في النعت وقليلا في التأكيد لا في العطف، وحرف العطف مانع من الجوار بأنه كثير في كلام(3/219)
العرب نظما ونثرا، ولا يختص بالنعت، والتأكيد إذ قد ورد في العطف كما أثبته النحاة حتى عقدوا له بابا على حدته لكثرته ولما فيه من المشاكلة، وقد كثر حتى تعدّوا عن اعتباره في الإعراب إلى التثنية والتأنيث، وغير ذلك لكن شرط حسنه عدم الإلباس مع تضمن نكتة، وهو هنا ليس كذلك لأن الغاية دلت على أنه ليس بممسوح إذ المسح لا يغني، والنكتة فيه الإشارة إلى تخفيفه حتى كأنه مسح، ومنهم من حمل النصب على حالة ظهور الرجل، والجرّ على حال استتارها بالخف حملا للقراءتين على الحالتين قيل وفيه نظر لأنّ الماسح على الخف ليس ماسحا على الرجل حقيقة، ولا حكما لأن الخف اعتبر مانعاً سراية الحدث إلى القدم فهي ظاهرة، وما حل بالخف أزيل بالمسح فهو على الخف حقيقة، وحكماً، ولأنّ المسح على الخف لا يجب إلى الكعبين اتفاقا كذا قيل-
(وفيه بحث الأنه يجوز أن يكون لبيان المحل الذي يجزي عليه المسح لأنه لا يجزي
على ساقه ثم إنه نقل هذا عن الكشاف وقد قال النحرير أنه لا دلالة في كلامه عليه. قوله: (وفائدته التنبيه الخ) في نسخة يقصد، وفي أخرى يقتصد، وهما بمعنى أي يخفف، وهذا يستفاد من صورة العطف لا من جعله معطوفا على الممسوح ليفيد ما ذكره كما قيل فإن قيل العطف على الممسوح لا للمسح يكون جمعا بين الحقيقة، والمجاز حيث أريد بالمسح بالنسبة إلى المعطوف عليه حقيقته وبالنسبة إلى المعطوف الغسل الشبيه بالمسح في قلة استعمال الماء قيل إنه إشكال قوي لا محيص عنه سوى الحمل على تقدير إعادة العامل في المعطوف مراداً به المعنى المجازي فتكون الأرجل معطوفة على الرأس في الظاهر، وهو من عطف الجمل في التحقيق أي {وامسحوا بأرجلكم} ولا يخفى أنه لا دلالة في الكلام على التجوّز في المحذوف مع ما في إضمار الجار من الضعف، وقيل إنه من قبيل علفتها تبناً وماء بارداً، وهو من المشاكلة ومن أهل البدع من جوّز المسح على الرجل بدون الخف مستدلاً بظاهر الآية، وللشريف المرتضى كلام في تأييده تركناه لإجماع أهل السنة على خلافه، وتمثيله بعذاب يوم أليم بجر أليم، وهو صفة العذاب لا اليوم، وحور عين في قراءة الجرّ معطوف على ولدان لا
على ما قبله مما طافوا به، وتغ في التمثيل بهاتين الآيتين أبا البقاء، وغيره وسيأتي فيهما كلام آخر. قوله: (وفي الفصل الخ (هذا مذهبه، وضمن الإيماء معنى التنبيه، والدلالة فلذا عداه بعلى، والقائل بعدمه لا يسلمه، ويقول بل هو لبيان الأولى، ويكفي مثله نكتة وقراءة الرفع على أنه مبتداً خبره محذوف كما ذكره المصنف رحمه الله تعالى، وقوله: فاغتسدوا أخذه من التطهر الدال على المبالغة في الطهارة. قوله: اليتصل الكلام الخ (قيل، ولئلا يتوهم نسخه لأن هذه السورة من آخر ما نزل. قوله:) أي ما يريد الأمر بالطهارة الخ (يريد أن! فعوله محذوف، واللام للتعليل لا زائدة لأنّ أن المصدرية لا تضمر بعد اللام الزائدة، وقوله: تضييقا مفعول له مبين للمعنى، والحرج الضيق. قوله: (لينظفكم الخ) يعني الطهارة هنا لغوية بمعنى التنظف أو معنوية بمعنى تكفير الذنوب لا بمعنى إزالة النجاسة فإنّ الحدث ليس بنجاسة، وهذا رذ على الحنفية على ما قيل فإنهم يقولون إنّ الحدث نجاسة وليس كذلك لأنه عندهم نجاسة حكمية بمعنى كونه مانعاً من الصلاة لا بمعنى كونه بحيث يتنجس الطعام أو الثوب الرطب بملاقاته أو تفسد الصلاة بحمل محدث أو جنب غسل موضع خروج النجاسة منه، وأثا تنجس الماء عند أبي حنيفة فلانتقال المانعية، والآثام إليه، وقيل معناه تطهير القلب عن دن! التمرد عن طاعة الله تعالى. قوله: (أو ليطهركم بالتراب إذا أعوزكم التطهير بالماء الخ) يقال أعوزني كذا بمعنى أعجزني والعوز بالفتح العدم، والمراد بالتطهير رفع الحدث، والمانع الحكمي، وأمّا ما نقل عن بعض الشافعية كإمام الحرمين من أنّ القول بأنّ التراب مطهر قول ركيك فمراده به منع الطهارة الحسية فلا يرد عليه أنه مخالف للحديث الصحيح: " جعلت لي الأرض! مسجداً وطهورا ". قوله: (لأنّ أن لا تقدر بعد المزبدة) هذا مخالف لكلام النحاة قال الرضي الظاهر أن تقدر أن بعد اللام الزائدة التي بعد فعل الأمر، والإرادة، وكذا في المغني، وغيره فلا سلف له في هذا القول، ووقوع هذه اللام بعد الإرادة، والأمر في القرآن، وكلام العرب شائع مقيس، وهو من مسائل الكتاب تال فيه سألته أي الخليل عن معنى أربد لأن يفعل فقال إنما
تريد(3/220)
أن تقول إرادتي لهذا كما قال تعالى: {وأمرت لأن كون أوّل المسلمين} [سورة الزمر، الآية: 2 ا] اهـ، واختلف فيه النحاة فقال السيرافي رحمه الله فيه وجهان أحدهما ما اختاره البصريون أنّ مفعوله مقدر أي أريد ما أريد لأن تفعل فاللام تعليلية غير زائدة الثاني أنها زائدة لتأكيد المفعول اهـ، وقال أبو عليّ في التعليقة عن المبرد أنّ الفعل دال على المصدر فهو مقدر أي أردت، وارادتي لكذا فحذف إرادتي، واللام زائدة اهـ وهو تكلف بعيد ففيه ثلاثة مذاهب أقربها الأوّل، وأسهلها الثاني، وهو من بليغ الكلام القديم كقوله:
أريد لأنسى ذكره كل ساعة
ووجه البلاغة فيه أن الجارّ دال على تعميم المراد، والمأمور به وأن لا يتخلف مراده، وامتثال أمره، وهذا مما يعرفه الذوق السليم، ولك أن تقول إن مراده أنها لا تزاد في غير الأمر، والإرادة. قوله: اليتم بشرعه الخ) يعني أن المراد بالنعمة نعمة الطهارة بقرينة المقام ومطهرة ومكفرة الظاهر فيه الفتح كقولهم الولد مجبنة ومبخلة أي سبب للبخل والجبن ويصح أن يكون على وزن اسم الفاعل مشدداً، والعزائم جمع العزيمة، وهي ضد الرخصة أي المعنى جعل الله نعمة الرخصة تتميماً لنعمة العزيمة. قوله: (والآية مشتملة على سبعة أمور الخ) والأصل الماء، والبدل التراب، والمستوعب الغسل، وغيره الوضوء، والمحدود بقوله: إلى المرافق والى الكعبين، وغيره ما سواه، وهذا ظاهر وقوله: بالإسلام يحتمل التعميم وهذا أولى. قوله: (يعني الميثاق الذي أخذه الخ) هو بهذا اللفظ أخرجه البخاري ومسلم في النهاية المنشط بالفتح مفعل من النشاط وهو ضد الكسل والمكره ما يكره فلا ينشط لعمله، وهذه المبايعة كانت بالعقبة الثانية سنة ثلاث عشرة من النبوة، والأولى في سنة إحدى عشرة
فقوله أو ميثاق ليلة العقبة أي الأولى، وقصتها معروفة، وبيعة الرضوان بالحديبية سميت بها لقوله تعالى: {لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة} [سورة الفتح، الآية: 18] وقوله: في إنساء نعمه بمعنى نسيانها، وهو مصدر أنسى المزيد فكأنّ من نسي أنسى نفسه، وذات الصدور أصل معناه صاحبه الصدور فتجوّز به عما فيها كما في قوله: ذا إنائك وأشار إلى أنّ المراد بعلمه مجازاته على ما علمه، وفضلا لا يكون في مثل هذا الموقع فيؤول هنا أو يدرج في مسامحات المصنفين لأنّ لها استعمالاً خاصاً بعد النفي ويمكن تأويل كلامه بما يوافقه، وهو واضح. قوله: (عداه بعلى الخ) قد سبق ما نقلنا من أنّ جرم يكون بمعنى حمل فيتعدّى للمفعول الأوّل بنفسه وللثاني بعلى أو بمعنى كسب فيتعدى لواحد ولاثنين وفسره المصنف رحمه الله بهما هناك، وهنا لما صرح بعلى تعين الأوّل فإن كان معنى حقيقياً فلا كلام، والا نعتبر التضمين والمصنف أشار إلى أنّ المختار عنده أنه غير حقيقي فتقديمه هناك لموافقته لما صرح به في النظم فما قيل جرم يجيء متعدياً إلى مفعول مثل جرم ذنباً، وليس هذا منه لأنّ مفعوله لا يكون إلا مكسوبا كالذنب لا الشخص، والى مفعولين، وظاهر أنّ هذا ليس منه لوجود حرف الجر فيما هو في موقع المفعول الثاني فاعتبر تضمين معنى الحمل ليصح كون معنى الأوّل هو الشخص، والثاني مع حرف الاستعلاء لا يخفى ما فيه من القصور بل الخلل كما يعلم مما مر ولما فتحت مكة أمر الله المسلمين أن لا يكافئوا كفار مكة بما سلف منهم وأن يعدلوا في القول، والفعل والحكم، وهو مراد المصنف بما ذكره. قوله: (أي العدل الخ) يعني أنّ الضمير راجع إلى المصدر الذي تضمنه الفعل، وهو إمّا مطلق العدل فيندرج فيه العدل مع الكفار، وهو المقصود بالآية لما مر في سبب النزول وان كان للعدل مع الكفار فظاهر وعلى الوجهين يتمّ قوله وإذا كان هذا العدل الخ فلا يرد قول النحير أنّ مبناه على أنّ ضمبر هو أقرب لخصوص مصدر اعدلوا المراد به العدل مع المشركين، وترك الاعتداء عليهم، وأمّا إذا كان لمطلقه فلا. قوله: (صرح لهم بالأمر بالعدل الخ) في الكشاف فصرح لهم بالأمر بالعدل تأكيداً، وتشديداً ثم استأنف فذكر لهم وجه الأمر بالعدل، وهو قوله: {هو أترب للتقوى} أي العدل أقرب إلى التقوى، وأدخل في مناسبتها أو أقرب إلى التقوى لكونه لطفاً فيها يعني أنّ أقربيته إلى للتقوى مناسبة الطاعة للطاعة فالتقوى نهاية الطاعة، وهو أنسب بها من غيره منها أو مناسبة إفضاء السبب إلى المسبب فهو بمنزلة الجزء الأخير من العلة فليس المراد أنه(3/221)
أقرب من غير العدل حتى يكون من قبيل الخل أحلى من العسل كما قاله الراغب: فتدبر. قوله:
(فيجارّيكم الخ) يعني كون خبير كناية عن المجازاة كما مر.
وقوله: (وتكرير هذا الحكم الخ) يعني قوله: {يا أيها الذين آمنوا كونوا قوّامين بالقسط}
إلى هاهنا مع تقدمه في سورة النساء بعينه لما ذكره أي لاختلاف المحكوم عليه بقرينة سبب النزول، والسياق والسباق كذا في حواشي القطب، وليس المراد بالحكم النهي عن الجور والأسر بالعدل وءافراد ا! كم لأنهما كحكم واحد كما قيل وثائرة فاعلة من ثارت ثائرة أي هاجت هائجة. قوله: (إنما حذف ثاني مفعولي وعد الخ الما كان الظاهر نصب مغفرة، وأجراً على أنه مفعول وعد كما وقع في سورة الفتح أشاروا إلى نكتة العدول عن الظاهر بأنّ مفعوله محذوف يفسره ما بعده أو متروك، ومعناه قدم لهم وعدا وهو ما بين بالجملة المذكورة بعده، وهي جواب سؤال مقدر أي أفي شيء وعده لهم أو القول مقدر أي وعدهم قائلا لهم مغفرة أو هو مفعول وعد باعتبار كونه بمعنى قال أو المراد حكايته لأنه يحكي بما هو في معنى القول عند الكوفيين، وفائدة الوعد بهذا القول إنه وعد من لا يخلف الميعاد بمضمونه فلا خلف فيه البتة فقد قال ذلك لهم، وفي حقهم فكان إخباراً بثبوته لهم، وهو أبلغ وقيل إنّ هذا القول يقال لهم عند الموت تيسير الهم وتهوينا لسكرات الموت عليهم. قوله:) هذا من عادته تعالى الخ (أن يتبع بدل من هذا وتطييب قلوبهم لجعل أصحاب النار هم الكفرة لا هؤلاء. قوله:) روي أنّ المشركين رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم) هكذا أخرجه مسلم عن جابر رضي الله عنه، وغيره من طرف أخر وعسفان كعثمان اسم مكان معروف على مرحلتين من مكة، وكان ذلك في السنة الخامسة من الهجرة وقد التقى المسلمون، والكفار، وافترقوا من غير حرب، ورأى هنا بصرية، وقاموا في موضع الحال بتقدير قد أو بدل من النبيّ، وأصحابه بتأويله بالمصدر مثل سمعته قال كذا،
وقوله: ألا كانوا بفتح الهمزة وتشديد اللام وهي كلمة تنديم كهلاً وما قيل معناه على أن لا كانوا ليس بسديد لأنّ لا لا تدخل على الماضحي من غير تكرير وهذا كان في غزوة ذات الرقاع وذي أنمار، ومعنى أكبوا عليهم هجموا عليهم، وهم في الصلاة بدون سلاح. قوله: (وقيل إشارة إلى ما روي الخ) هذا أخرجه أبو نعيم في الدلائل عن ابن عباس رضي الله عنهما، وابن إسحق والبيهقيّ لكن الذي في روايتهم أنّ القتيلين كانوا معاهدين لا مسلمين، وا! الخروج إلى بني النضير لا إلى قريظة والضمري بفتح فسكون نسبة إلى بني ضمرة حيّ من العرب وجحاس بكسر الجيم علم يهوديّ. قوله: (وقيل نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم الخ (هذا الحديث أخرجه الشيخان من حديث جابر ولا ينافي كون هذا سبب النزول مع أنّ سبب النزول يجوز تعدده قوله قوم فإنّ الجمع قد يطلق على الواحد كما في قوله: {الذين قال لهم الناس} [سورة آل عمران، الآية: 173] ولا حاجة إلى تكلف تقدير بعض أو أنه همّ بأمرهم فكأنهم هموا. قوله (بالقتل والإهلاك الخ) الإهلاك أعم من المباشرة التي بالقتل، والبسط مطلق المد فبسط اليد للبطش، وبسط اللسان للشتم فإذا استعمل فيهما فهو كناية عنهما فلا يكون يبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم جمعاً بين معنيين مختلفين للفظ واحد، وقوله: إن تمد إشارة إلى المعنى الذي به
قابل البسط، وقوله: فإنه الكافي إشارة إلى وجه انتظامه مع ما بعده. قوله: (شاهدا من كل سبط الخ) تقدم أنّ السبط في بني إسرائيل كالقبيلة في العرب والنقيب، والعريف الذي يجعل رأسا لقوم من الجيش لاً نه ينقب عن أحوالهم، ويفتشها ويعرفها من النقب في الحائط ونحوه أو هو بمعنى الكفيل لوفائهم بما أمروا به وأريحاء بالمد كرليخاء وكربلاء بلدة بالشأم، والكنعانيون أولاد كنعان بن سام بن نوح عليه الصلاة والسلام وهم أمة من الجبابرة ولغتهم تقرب من العربية وكالب بفتح اللام، ويوفنا بفتح الفاء وتشديد النون ويهوذا بذال معجمة بعدها ألف كلها أعلام غير عربية، وحمل المعية على النصرة بقرينة المقام(3/222)
وقيل الظاهر تفسيره بأنى أوفقكم للخير. قوله: (اي نصرثموهم وقويتموهم الخ (أصل معنى التعزير المنع والذب بالذال المعجمة بمعناه أيضا، وقيل أصله التقوية من العزر وهو والأرز من واد واحد وفي التقوية منع لمن قويته على غيره فهما متقاربان، ثم تجوز به عن النصرة لما فيها من ذلك وعن التأديب، وهو في الشرع ما كان دون الحد لأنه راح ومانع عن ارتكاب القبيح، ولذا سمي في الحديث نصرة في قوله صلى الله عليه وسلم انصر أخاك ظالما أو مظلوما، ونصرة الظالم تأديبه كما بيته النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقد سئل عنه قال الطيبي رحمه الله تعالى: فإن قلت الإيمان بالرسل مقدم على إقامة الصلاة وايتاء الزكاة فلم أخر ذكره في قوله: {لئن أقمتم الصلاة} الآية قلت هذه الجملة أعني قوله: {وآمنتم برسلي وعزرتموهم وأقرضتم الله قرضاً حسنا} كناية إيمائية عن المجاهدة ونصرة دين الله ورسله والإنفاق في سبيله كأنه قيل لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وجاهدتم في سبيلي يدل عليه قوله تعالى: {ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين} [سورة المائدة، الآية: 21] قال: أي لا ترتدوا على أدباركم في دينكم لمخالفتكم أمرر بكم، وعصيانكم نبيكم صلى الله عليه وسلم وإنما وقع الاهتمام بثأن هذه القرينة دون الأولين وأبرزت في معرض الكناية لأنّ القوم كانوا يتقاعدون عن القتال، ويقولون لموسىءلجز: {اذهب انت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون} [سورة المائدة، الآية: 24]
وقيل إنما قدمت لأنها هي الظاهر من أحواله الدالة على إيمانه، وفسر القرض بالإنفاق في سبيل الخير فهو استعارة لأنه لما وعد بجزائه والثواب عليه شبه بالقرض الذي يقضي بمثله، وفي كلام العرب قديماً الصالحات قروض. قوله: (ساذ مسد جواب الشرط) كذا في الكشاف أيضا، وقيل عليه إذا اجتمع شرط وقسم أجيب السابق منهما إلا أن يتقدمه وخبر فهو جواب القسم فقط وجواب الشرط محذوف واللام الأولى موطئه، والثانية جوابية وليس بشيء لأنّ مراده أنّ جواب الشرط محذوف، وهذا دال عليه فهو ساد مسده معنى لا أنه جواب له ويجوز أن يكون! فرنّ جوابا لما تضمنه قوله: {ولقد أخذنا ميثاق بني إسرائيل} [سورة المائدة، الآية: 12] من القسم وقيل إنّ جوابه لئن أقمتم فلا تكون اللام موطئة أو تكون ذات وجهين، وهو غريب وجملة القسم المشروط وجوابه مفسرة لذلك الميثاق المتقدم. قوله: (بعد ذلك الشرط المؤكد المعلق به الوعد العظيم (أي الشرط المؤكد بالقسم الذي علق به ما وقع في جوابه من الوعد العظيم، وهو قوله: {كفرق} الخ وعظمه ظاهر، وعدل عن قول الزمخشري بعد ذلك الشرط المؤكد المعلق بالوعد العظيم لأنه أورد عليه أنّ الوعد بتكفير السيئات وادخال الجنات جزاء للشرط والجزاء هو المعلق بالشرط لا الشرط بالجزاء فعبارة الكتاب على القلب، ولذا غيرها المصنف إشارة إلى أنها مقلوبة، وأجيب بأنه لم يرد بالتعليق المصطلح أي جعل أمر على خطر الوجود مرتبا ومقيدا حصوله بحصول شرط ومسببا عنه بل معناه اللغوي، وهو الارتباط به وقد جعل الشرط مرتبطا لوعد حيث أخبر بحصول الموعود بعد حصول مضمون الشرط، وقد وقع التعليق بهذا المعنى في كلام السيرافي وغيره، أو أنّ التعليق في الحقيقة من الجانبين لأنّ كلا منهما سبب للآخر من وجه فالشرط من جهة الوجود العيني، والجزاء من جهة الوجود العقلي أو بأن الوعد العظيم، وهو قوله إني معكم بالإعانة والنصرة والشرط متعلق به من حيث المعنى نحو أنا معتن بشأنك إن خدمتني رفعت محلك، وهو يرجع إلى جعل التعليق لغويا أيضا فلا حاجة إلى العدول عن الظاهر لهذا، وقيل ليس معنى كلامه ما فهموه من الشرط النحوي لظهور أن ليس المعنى من فكر بعد إقامة الصلاة وايتاء الزكاة والإيمان بالرسل بل بعدما شرطت هذا الشرط ووعدت هذا الوعد وأنعمت هذا الإنعام ولإخفاء في أنّ الضلال بعد هذا أقبح، وأظهر ولا حاجة إلى حمل الكفر على الارتداد خاصة بل يتناول البقاء على الكفر بعد هذا الإخبار والإعلام بمضمون الشرطية، ويدل على هذا أنه وصف الشرط بالمؤكد ومعلوم أنّ القسم ليس لتأكيد مضمون الشرط بل مضمون الجملة بل التحقيق أنه مؤكد للإخبار الذي تضمنه الجزاء كما صرح به السيرافي وهذا مع بعده، وتكلفه محصله أنّ المراد بالشرط الجملة
الشرطية أو جزاؤها ومعنى المعلق بالوعد المعلق مع الوعد، وفيه نظر آخر، وأما ما قيل إنّ(3/223)
المراد بتأكيد الشرط التعبير عن المستقبل بلفظ الماضي، وتعليق الوعد العظيم به وأنه خفي على النحرير فليس بشيء لأنّ كل ماض يقلبه الشرط مستقبلا ومثله لم يعدوه تأكيدا فتدبر. قوله: (ضلالاً لا شبهة فيه ولا عذر معه الخ) كونه لا شبهة فيه مأخوذ من سواء السبيل أي وسط الطريق وحاقه وهو ما يظهر غاية الظهور، وما كان كذلك لا عذر معه لا من قد والتعبير بالماضي كما قيل، وهذا جواب عما يقال إن الكفر قبل ذلك وبعده ضلال فما وجه التقييد، ومعذرة مصدر ميمي بمعنى عذر. قوله: (طردناهم) حقيقة اللعن في اللغة الطرد والإبعاد فاستعماله بالمعنيين الآخرين مجاز باستعماله في لازم معناه، وهو الحقارة بما ذكر لكنه لا قرينة في الكلام عليه. قوله: (لا تنفعل عن الآيات والنذر) النذر جمع نذير وتنفعل بمعنى تتأثر، وكون قسية مبالغة لكونه على وزن فعيل، وقوله: إنّ الدرهم القسي بمعنى الرديء من القسوة هو الظاهر، وقيل: إنه غير عربيّ بل معرّب وقوله: نصيبا وافيا يؤخذ من التنوين فإنه يفيد التكثير والتعظيم. قوله: (اس! شاف لبيان قسوة قلوبهم الخ) والحالية إما من مفعول لعناهم أو من المضاف إليه قلوبهم، وأما جعله حالاً من القلوب أو من ضميرها في قاسية كما قاله أبو البقاء فلا يصح لعدم العائد منه وجعل القلوب بمعنى أصحابها مما لا يلتفت إليه، والتعبير بالمضارع فيه للحكاية واستحضار الصورة، وقوله: وتركوا إشارة إلى أنّ النسيان بمعنى الترك وهو يستعمل بهذا المعنى كثيرا وقوله فزلت أي سقطت وضمير شؤمه للتحريف، وفي معنى ما روي عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قول الإمام الشافعيّ رضي الله عنه ورحمه:
شكوت إلى وكيع سوء حفظي فأرشدني إلى ترك المعاصى
وأخبرني بأن العلم نور ونور الله لا يهدى لعاصتي
وهذا رواه أحمد رحمه الله في مسنده. قوله: (خيانة الخ) يعني خائنة إما مصدر على
وزن فاعلة كالكاذبة أو اسم فاعل موصوفه المقدر فرقة فلذا أنث أو المراد به خائن والتاء للمبالغة وان كانت في فاعل قليلة ولذا أخره، وكون الخيانة دأب أسلافهم يعلم من وصفهم بالتحريف وما معه ودأبهم لأنه لا يزال يشاهده منهم فلا يرد ما قيل إنه لا دلالة في النظم على إسلافهم وقيل إنه مستفاد من جعل ضمير منهم لهم ولإسلافهم وجعل الاطلاع أعم من الاطلاع بالمشاهدة والأخبار وهو تكلف لا حاً جة إليه وكذا ما قيل إن ما يشاهد منهم علم أنهم ورثوه من أسلافهم، وقوله نسخ بآية السيف بناء على في أن هذه السورة منسوخاً وأنها نزلت قبل براءة وهو قول مشهور، وقوله فصلا عن العفو عن غيره مر الكلام في لفظه ومعناه فتذكره. قوله: (أي وأخذنا من النصارى ميثاقهم كما أخذنا ممن قبلهم الخ) في هذا التركيب وجوه ذكرها المعربون فقيل من متعلقة بأخذنا وتقديره، وأخذنا من الذين قالوا إنا نصارى ميثاقهم فيقدر مقدما ليعود الضمير إليه فهو راجع إلى الموصول أو هو عائد على بني إسرائيل الذين عادت إليهم الضمائر السابقة كقولك أخذت من زيد ميثاق عمرو أي مثل ميثاقه، وبهذا الوجه بدأ الزمخشريّ وعبارة المصنف رحمه الله ظاهرة في الأوّل وتحتمل الثاني، أو الضمير عائد على مبتدأ محذوف أخذنا صفته ومن الذين خبره أي من الذين قالوا إنا نصارى قوم أخذنا منهم ميثاقهم، أو المبتدأ من مقدرة موصولة أو موصوفة أي من أخذنا ميثاقهم بناء على جواز حذف الموصول وإبقاء صلته وهو مذهب الكوفيين، وتقدير قوم هو الذي أشار إليه المصنف رحمه الله بقوله وقيل الخ وما قيل إنّ قرينة هذا التقدير قوله تعالى: {ميثاقهم} إذ! ولاه لقيل الميثاق ووجهه على عدم التقدير تأكيد نسبة الميثاق إليهم من عدم الوقوف على المراد. قوله:) وإنما قال قالوا إنا نصارى الخ) أي كان الظاهر أن يقال ومن النصارى بدون إطناب، ولم يرد هذا التعبير عنهم به في غير هذا الموضع، وفي الكشاف إنما سموا أنفسهم بذلك اذعاء لنصرة الله وهم الذين قالوا لعيسى {نحن أنصار الله} ثم اختلفوا بعد نسطورية ويعقوبية وملكانية أنصارأ للشيطان لكن الذي في اللغة والتواريخ أن عيسى صلى الله عليه وسلم، ولد في سنة أربع وثلثمائة لغلبة(3/224)
الإسكندر في بيت لحم من القدس، ثم سارت به أمه إلى مصر ولما بلغ ثنتي عشرة سنة عادت
به إلى الثأم فأقام ببلدة تسمى الناصرة أو نصورية، وبها سميت النصارى ونسبوا إليها وقيل إنهم جمع نصران كندامي وندمان أو جمع نصريّ كمهريّ ومهاري والنصرانية والنصرانة واحدة النصارى، والنصرانية أيضا دينهم، ويقال لهم نصارى وأنصار، وتنصر دخل في دينهم وهذا وجه آخر في تسميتهم نصارى بدليل أنه يقال لهم أنصار أيضاً فلم يسمهم الله نصارى بل ذكر أنهم لقبوا بذلك أنفسهم وأفعالهم تقتضي نصرة الشيطان لا نصرة الله فعدل عن الظاهر ليصوّر تلك الحال في ذهن السامع ويقرّر عندهم أنهم ادّعوا نصرة دين الله نحو قوله تعالى {وراودته التي هو في بيتها} عدل عن اسمها لزيادة المراودة، وفي الانتصاف لما كان المقصود من هذه الآية ذمهم بنقض الميثاق المأخوذ عليهم بنصرة الله، وبما يدل على أنهم لم يوفوا بما عاهدوا عليه من النصرة عدل عن قوله النصارى إلى هذا فحاصل ما صدر عنهم قول بلا فعل.
(وعندي) أنه لو قيل في وجهه إنهم على دين النصرانية، وليسوا عليها لعدم علمهم بموجبها ومخالفتهم لما في الإنجيل من التثير بنبينا صلى الله عليه وسلم لكان أقرب من بيان وجه التسمية الذي ذكره. قوله: (فألزمنا الخ (أي أصل معنى الإغراء الإلصاق، ومنه الغراء المعروف فاستعمل في لازم معناه وهو الإلزام للعداوة بأن صاروا فرقا يكفر بعضهم بعضاً، والتسطورية هم الذين قالوا بأن أقنوم العلم اتحد بجسد المسيح صلى الله عليه وسلم بطريق الإشراق كاشراق الشمس من كوّة على بلور واليعقوبية قالوا: إنّ هذا الأقنوم اتحد بجسد المسيح صلى الله عليه وسلم وصار لحماً ودما، والملكانية قالوا انتقل أقنوم العلم إلى جسد المسيح صلى الله عليه وسلم وامتزج امتزاج الخمر بالماء وتفصيل هذا في الملل والنحل، وقوله: بالجزاء والعقاب إشارة إلى أنّ الأنباء مجاز عن وقوع ذلك وانكشافه لهم لا أنّ ثمة إخباراً حقيقة. قوله:) ووحد الكتاب لأنه للجنس) فيطلق على الوأحد والاثنين وما فوقهما وجملة يبين لكم حالية من رسولنا، وقوله: في التوراة متعلق بنعت محمد صلى الله عليه وسلم وآية الرجم وهذا معنى اسم الجنس، وهو اسم جامد يطلق على الواحد وما فوقه كالماء والتراب. قوله: (أو عن كثير منكم فلا يؤاخذه الخ) هذا مرويّ عن الحسن لكن قال النحرير: إنه مخالف
للظاهر لفظا ومعنى ووجهه أنّ الظاهر أنه كالكثير السابق، وفيه نظر لأنّ النكرة إذا أعيدت نكرة فهي متغايرة. قوله: (يعني القرآن الخ) فعلى هذا النور والكتاب واحد وتسميته نور الكشفة وإظهاره طرق الهدى واليقين، وقوله الواضح الإعجاز إشارة إلى أنّ المبين من أبان اللازم بمعنى ظهر وترك تفسيره بالمتعدي وابانته لما خفي لأنه يتكرّر حينئذ مع النور، وقد أشار إليه في الكشاف، وعلى تفسير النور بالنبيّ-ش! ر لظهوره بالمعجزات واظهاره للحق فالمبين حينئذ يحتمل وجهين الظاهر والمظهر ولا تكرار فيه وقوله: لأنّ المراد بهما واحد على التفسير الأوّل للنور وكونهما كالواحد لاتحاد ما بيناه على التفسير الثاني فهو لف ونشر مرتب. قوله:) طرق السلامة الخ) يعني أنّ السلام مصدر بمعنى السلامة أو اسمه تعالى وضع موضع المضمر ردا على اليهود والنصارى الواصفين له تعالى بالنقائص واستعارة الظلمة للكفر والنور للإسلام ظاهرة، وقوله: أنواع الكفر إشارة إلى وجه جمع الظلمات وتوحيد النور والمراد بالإذن الإرادة أو التوفيق كما مرّ وجهه. قوله: (طريق هو أقرب الطرق إلى الله الخ (كونه كذلك ظاهر وفيه نكتة وهو أنه إذا كان لمقصد طريقان أحدهما مستقيم والآخر غير مستقيم فلا بد أن يكون المستقيم أقرب واعتبر ذلك بالقوس والوتر وهذا يسمى بالشكل الحماري في الهندسة والمستقيم يتصل به، وغيره قد لا يتصل به فإنه قد يعوج تقعيراً وتحديباً وهو وجه دلالة الاستقامة على القرب. قوله: (هم الذين قالوا بالاتحاد منهم الخ) قال الزمخشرقي: معناه بت القول على أنّ حقيقة الله هو المسيح لا غير قيل كان في النصارى قوم يقولون ذلك وقيل ما صرحوا به، ولكن مذهبهم يؤدّي إليه حيث اعتقدوا أنه يخلق ويحيي ويميت ويدبر أمر العالم اهـ يعني لما حمل الشخصي على الشخصي مع ضمير الفصل والتأكيد اقتضى الاتحاد والفصل هنا لمجرّد التأكيد لحصول! القصر، بدونه ولأنّ القصر هنا(3/225)
للمسند إليه على المسند أي لا غير المسيح كقولهم الكرم هو التقوى، وأنّ الله هو الدهر أي الجالب للحوادث لا غير الجالب بخلاف زيد هو المنطلق فإنّ معناه لا غير زيد وقال الراغب: إن قيل إنّ أحدا منهم لم يقل الله هو المسيح وإن قالوا المسيح هو الله، وذلك أنّ عندهم أنّ المسيح من لاهوت وناسوت فيصح أن يقال المسيح هو اللاهوت، وهو ناسوت كما صح أن يقال الإنسان هو حيوان مع تركبه من العناصر ولا يصح أن يقال اللاهوت هو المسيح كما لا يصح أن يقال الحيوان هو الإنسان قيل إنهم قالوا هو المسيح على وجه آخر غير ما ذكرت، وهو ما روي أنه لما رفع عيسى صلى الله عليه وسلم اجتمع
علماء بني إسرائيل فقالوا: ما تقولون في عيسى صلى الله عليه وسلم فقال أحدهم أو تعلمون أحداً يحعي الموتى إلا الله قالوا: لا قال: أتعلمون أنّ أحداً يعلم الغيب إلا الله، قالوا: لا قال: أتعلمون أنّ أحداً يبرئ الأبرص والأكمه إلا الله قالوا: لا قال: فما الله إلا من هذه صفته أي حقيقة الإلهية فيه، وهذا كقولك الكريم زيد أي حقيقة الكرم في زيد وعلى هذا قولهم إنّ الله هو المسيح ابن مريم والمصنف رحمه الله تعالى أشار إلى أنّ القائلين بالاتحاد يقولون بانحصار المعبود في المسيح كما هو ظاهر النظم فلا يرد عليه شيء وتقريره ما سبق. قوله:) وقيل لم يصرح به أحد الخ) يعني أنهم كما زعموا أنّ فيه لاهوتا مع التصريح بالوحدة لزمهم أنّ الله هو المسيح والا فمجرد اتصافه بصفات الله إنما يناسب الحكم بأن المسيح هو الله أو إله وقرّر بعضهم كلام المصنف هنا بما لا مساس له به، وقوله وتفضيحاً لمعتقدهم أي لهم في معتقدهم ونسبة التفضيح إلى الاعتقاد فيه مبالغة حسنة. قوله: (قل فمن يملك من الله الخ) هذه الفاء عاطفة على مقدر أو جواب شرط مقدر أي ليس الأمر كذلك، أو إن كان كذلك (فمن يملك) الخ وقوله: (فمن يمنع الخ) إشارة إلى أن يملك مجاز عن يمنع أو يضمن معناه، ومن الله متعلق به على حذف مضاف لكن ذكر في الأحقاف في قوله: {فلا تملكون من الله شيئاً} [سورة الأحقاف، الآية: 8] أنّ معناه لا تقدرون على كفه من معاجلتي وتطيقون دفع شيء من عقابه وحقيقته من يستطيع إمساك شيء من قدرة الله تعالى إن أراد تعالى أن يهلكه فإذا لم يستطع إمساكه، ودفعه عنهم فلا يمكن منعهم منه فلذا فسر بالمنع أخذا بالحاصل وحقيقة الملك الضبط والحفظ ولذا يقال في تول الشاعر:
أصبحت لا أحمل السلاج ولا أملك رأس البعير أن يفرا
إن معناه لا أستطيع فهو بمعنى المنع أو القدرة مجازاً. قوله: (احتج بذلك على فساد قولهم وتقريره الخ (أي تقرير الدليل أن المسيح مقدور أي حادث تعلقت به القدرة بلا شبهة لأنه تولد من أم ولذا ذكرع الأمّ للتنبيه على هذا، وهو على فرض حياتها فلا يرد عليه أنها هلكت، ومقهور بالفناء من هذه صفته كيف يكون الها. قوله: (إزاحة لما عرض لهم من الشبهة
الخ) وهي أنه لا أب له وابراء ا! مه والأبرص وإحياء الموتى فالظاهر أن يقول، كما قال الزمخشري يخلق ما يشاء، أي يخلق من ذكر وأنثى ويخلق من أنثى من غير ذكر كما خلق عيسى ويخلق من غير ذكر وأنثى كما خلق آدم أو يخلق ما يشاء كخلق الطير على يد عيسى صلى الله عليه وسلم معجزة له وكإحياء الموتى وإبراء اكمه والأبرص وغير ذلك، فيجب أن ينسب إليه ولا ينسب إلى البشر المجرى على يده. قوله:) أشياع ابنيه الخ) يعني أنهم لم يدعوا أنهم أبناء ألله، وإنما قالوا عزير والمسيح ابنا الله فالمراد أشياع الابن وأتباعه أطلق عليهم أبناء تجوّزا إما تغليباً أو تشبيها لهم بالإبناء في قرب المنزلة كما يقول أتباع الملك نحن الملوك، وكما أطلق على أشياع أبي خبيب رضي الله عنه الخبيبون في قوله:
قدني من نصر الخبيبين قدي
على من رواه بالجمع قال ابن السكيت يريد أبا خبيب ومن كان على رأيه وهو لقب عبد
الذ بن الزبير رضي الله عنهما تصغير خب أي خداع أو خبب نوع من المشي وروي مثنى فقيل عبد الفه وابنه، وقيل وأخوه مصعب وبالجملة فالتمثيل لأنه لما جاز جمع خبيب وأشياع أبيه فأولى أن يجوز جمع ابن الله للابن وأشياع الابن بزعم الفريقين فاندفع أنهم لا يقولون ببنوة أنفسهم، ولم تحمل على التوزيع بمعنى أنفسنا الأحباء وأبناؤنا الأبناء بجمع الابنين لمشاكلة الأحباء لأن خطاب بل أنتم بشر يأباه ويدلّ على ادعائهم البنوة بأقي معنى كان والتمثيل بالخبيبين(3/226)
على المشهور، وقيل أصله الخبيبيون بالنسبة فخفف كما قيل الأعجمون في جمع أعجمي، فلا يكون شاهداً لما نحن فيه وعلى القول الثاني المراد بالأبناء المقربون فعطف الأحباء عليه كالتفسير. قوله: (فإن صح ما زعمتم الخ) يعني أنّ الفاء جواب شرط مقدر ويصح أن تكون عاطفة على مقدر كما مر، وقوله: بهذا المنصب أي المرتبة واستعمال القرب للمنصب بهذا المعنى وبمعنى الأصل لا بالمعنى المتعارف الآن فإنه مولد، وقوله: لا يفعل ما يوجب تعذيبه يعني الذنوب المصرج بها في النظم، وجعل في جملة عذاب الدنيا المسخ الوافع في أسلافهم واقتصر عليه الزمخشرقي، وقيل إنه الأولى إذ المسخ تعذيب البتة بخلاف البلايا والمحن فإنها
كثرت في الصلحاء كما قال المعرّي:
ولكنهم أهل الحفائظ والعلا فهم لملمات الزمان خصوم
وجعل عذاب الآخرة مس النار أياما معدودة تطهيرا لذنوبهم كما ادعوه ليتم الإلزام فلا
يقال إنه كان يكفي أن يقال إن كنتم أبناء الله وأحباءه فلم يعذبكم فإنهم معترفون بهذا العذاب بخلاف العذاب المخلد الذي أخبر به النيّ صلى الله عليه وسلم وشهد به الكتاب والحاصل أنه إذا قيل لو كنتم أبناءه وأحباءه لما عذبكم لكن اللازم منتف فربما منعوا انتفاء اللازم، وطالبوا بالحجة، وإذا قيل لم عذبكم في الدنيا بالمسخ وفي الآخرة بما تزعمون تم الإلزام على النهج المعتاد المشهور قال النحرير رحمه الله بقي هنا إشكال قويّ وهو أنه. إذا كان بمعنى نحن أبناء الله أشياع ابنيه فغاية الأمر أن يكونوا على طريقة الابن تحقيقاً للتبعية لكن من أين يلزم أن يكونوا من جنس الأب في انتفاء فعل القبائح، وانتفاء البشرية، والمخلوقية ليحسن الرد عليهم بأنهم بشر من جملة من خلق نعم ما ذكر من استلزام المحبة عدم العصيان، والعقاب ربما يتمشى لأنّ من شأن المحب أن لا يعصي الحبيب، ولا يستحق منه المعاقبة، وفيه مناقشة لأنه شأن المحبين والأحباء هم المحبوبون، وسيأتي الجواب عنها، وأجاب عن إشكال إثبات البشرية بأنه ليس إثباتا لمطلق البشرية ليجب أن يكون رد الدعوى بانتفائه بل هو إثبات أنهم بشر مثل سائر البشر، ومن جنس سائر المخلوقين منهم العاصي والمطيع، والمستحق للمغفرة، والعذاب لا كما ادعوا من أنهم الأشياع المخصوصون بمزيد قرب، واختصاص لا يوجد في سائر البشر، ولذا وصف بشر بقوله: ممن خلق حتى لا يبعد أن يكون يغفر لمن يشاء أيضاً في موقع الصفة على حذف العائد أي لمن يشاء منهم، وأما إشكال الجنسية فقيل في جوابه المراد أنكم لو كنتم أشياع ابني الله لكنتم على صفة ابنيه في ترك القبائح، وعدم استحقاق العذاب لأنّ من شأن الأشياع، والاتباع أن يكونوا على صفة المتبوعين الذين هم الأبناء، ومن شأن الأبناء أن يكونوا على صفة الأب فمن شأن الأشياع أن يكونوا على صفة الأب بالواسطة، وقيل هو على حذف مضاف أي لو كنتم أشياع ابن الله لكنتم من جنس أشياع الأب أعني أهل الله الذين لا يفعلون القبائح ولا يستوجبون العقاب، وقيل إنّ قولهم نحن أبناء الله يتضمن دعوتين إثبات الابن، وكونهم أشياعه وأحباء أبيه فرد عليهم الأمر أن جميعا بأنّ من ادعيتم بنوته لو كان ابناً لما جاز عليه القبيح، ولا صدر منه ولو على سبيل الزلة، ولم يؤاخذ، ولو بالمعاتبة، والأنبياء ليسوا كذلك، وما ادعيتم من كونكم الأشياع والأحباء لو صح لما عذبتم بل إذا بطلت البنوّة بطل كونكم أشياع الابن، وأحباء الأب بواسطة ذلك، وأنت خبير بأن قوله فلم تذنبون وتعذبون بالمسخ، وم! النار بيان لانتفاء اللازم مقدم على الشرطية فلا معنى لاختصاص جزاء البنوة بالمتبوعين الذين لا قطع بذنبهم، وعقابهم بل يقطت بخلافه، وكيف يصح هذا مع عموم خطاب الشرط، وارتكاب الجمع بين الحقيقة، والمجاز، وقيل المراد إبطال أن يكونوا أبناء حقيقة كما يفهم من ظاهر
اللفظ أو مجازاً كما فسره فيكون أوكد في إفادة المطلوب، وهذا مع بعده إنما يصح لو كان مع التعرض لإبطال ما ادعوا من كونهم أشياعاً، وبعد كل كلام فالمقام محتاج إلى تحرير، وتهذيب، والذي يظهر أنّ هذا كله تكلف، وضيق عطن، وأنّ اللائق أن يقال إنّ مرادهم بكونهم أبناء الله أنه لما أرسل إليهم الابن على زعمهم، وأرسل لغيرهم رسلا من عباده دل ذلك على امتيازهم عن سائر الخلق، وأنّ لهم مع الله(3/227)
مناسبة تامة، وزلفى تقتضي كرامة لا كرامة فوقها كما أنّ الملك إذا أرسل لدعوة قوم أحد جنده، ولآخرين ابنه علموا أنه مريد لتقريبهم، وأنهم آمنون من كل سوء يطرق غيرهم، ووجه الرد أنكم لا فرق بينكم، وبين غيركم عند الله فإنه لو كان كما زعمتم لما عدّبكم، وجعل المسخ فيكم، وكدّا على كونهم بمعنى المقربين المراد قرب خاص فيطابقه الرد، ويتعانق الجوابان فافهمه، وقول المصنف رحمه الله لنحو ذلك لأنّ ما سبق ليس هذا الكلام بعينه، وقيل على قوله فإن من كان بهذا المنصب الخ. وفي نسخة بهذه الصفة أن الأحباء هنا بمعنى المحبوبين فالأنسب أن يقال إنّ المحب لا يعذب المحبوب بهذه الأنواع المذكورة، وهذا مأخوذ من كلام النحرير، وقد يقال في دفعه إنّ من أحب الله محبة صادقة أحبه الله كما قيل ما جزاء من يحب إلا أن يحب.
قوله: (ممن خلقه الله تعالى) إشارة إلى تقدير العائد، وقوله، وهم من آمن الخ لأنهم
كفرة لا يغفر لهم بدون الإيمان كما علم من قوله: {إنّ الله لا يغفر أن يشرك به} إن قلنا بعمومه كما هو المعروف الىخهور ومن الغريب ما في شرح مسلم للنووي أنه يحتمل أنه مخصوص بهذه الأمة، وفيه نظر، وقوله: لا مزية لكم إشارة إلى أنه رد لما إدعوه. قوله: (كلها سواء في كونها خلقاً وملكاً له (فلا يتميز بعضهم بالبنوّة وغيرها وهذا بيان لأنه من تتمة الرد عليهم، وفسر الرجوع إليه بالمجازاة لما مر. قوله: (أي الدين وحذف لظهوره الخ) أي قدر مفعوله هذا لظهوره لأنه من المعلوم أن ما بينه الرسول صلى الله عليه وسلم هو الشريعة أو مفعوله ما كتمتم بقرينة قوله قبل هذا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون أو هو منزل منزلة اللازم أي يفعل البيان، ويبذله، ويعلم من عدم ذكر متعلقه عمومه لكل ما يلزم بيانه. قوله: (متعلق بجاءكم الخ) أشار
بذكر حين إلى أنه ظرف أي بعد فترة أو في حين فترة، والمراد بتعلقه يبين التعلق المعنوي لأنه حال فمتعلقه مقدر، والوجه هو الأوّل، وجوز أن يكون حالاً من ضمير لكم ومن الرسل صفة فترة، ومن ابتدائية أي فترة صادرة من إرسال الرسل عليهم الصلاة والسلام، وأن تقولوا مفعول لأجله بتقدير كراهة أن تقولوا، ونحوه وقيل إنه بتقدير اللام لعدم اتحاد الفاعل فيهما، والجواب أن المراد بجاءكم رسول علمتم ببعثة الرسل وفيه نظر، وقوله: تترى أي متتابعة متواترة. قوله:) متعلق بمحذوف أي لا تعتذروا بما جاءنا فقد جاءكم الخ (هذا المحذوف قال النحرير: إنه تفصح عنه الفاء وتفيد بيان سببه كالتي تذكر بعد الأوامر، والنواهي بياناً لسبب الطلب لكن كمال حسنها، وفصاحتها أن تكون مبنية على مقدر منبئة عنه بخلاف قولك اعبد ربك فالعبادة حق له، ومبني الفصيحة على الحذف اللازم بحيث لو ذكر لم يكن بذاك، وتختلف عبارة المقدر فتارة يكون أمرأ أو نهيأ كما في هذه، وتارة شرطا كما في قوله: {فهذا يوم البعث} وقوله:
فقد جئنا خراسانا
وتارة معطوفا عليه كما في قوله فانفجرت، وقد يصار إلى تقدير القول كما في الفرقان
في قوله تعالى {فقد كذبوكم بما تقولون} قال فيها الزمخشري: هذه المفاجأة بالاحتجاج، والإلزام حسنة رائعة وخاصة إذا انضم إليها الالتفات، وحذف القول، وجعل هذه الآية، والبيت من هذا القبيل يعني التقدير فقلنا إن صح ما ذكرتم فقد جئنا خراساناً، وكذا ما نحن فيه أي فقلنا لا تعتذروا فقد جاءكم قال في الكشف ثم إنه في المعنى جواب شرط مقدر سواء صرح بتقديره أولاً كما في لا تعتذروا الخ لا! الكلام إذا اشتمل على مرتبين ترتب أحدهما على الآخر ترتب العلية كان في معنى الشرط، والجزاء فلا تنافي بين التقادير المختلفة هذا، ولو سلم أنهما مختلفان فهما وجهان يجريان في الموضعين ذكر أحدهما هنا، والآخر هناك وكم من ذلك في هذا الكتاب، وهذا تحقيق بديع فاحفظه. قوله:) كان بينهما ستمائة الخ (وقيل أربعمائة، وبضع وستون سنة عن الضحاك، وقيل غير ذلك، والثلاثة من بني إسرائيل هم المذكورون في قوله تعالى: {فعززنا بئالث} كما سيأتي، وأما خالد بن سنان العبسي بالباء الموحدة فقد تردد فيه الراغب في محاضراته، وبعضهم لم يثبته وبعضهم قال إنه كان قبل عيسى ءش! هـ لأنه ورد في حديث: " لا نبي بيني وبين عيسىءشييهإ لكن في الكامل تاريخ ابن الأثير،
وغيره أن خالد بن سنان العبسي كان ثيباً من معجزاته أن ناراً ظهرت بأرض العرب فافتتنوا بها، وكادوا يتمجسون فأخذ خالد عصاه، ودخلها حتى توسطها(3/228)
وفرق! فطفئت وهو في وسطها، وقيل إنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال فيه: اذاك نبتي ضيعه قومه " لا! (وأتت ابنته النبيّ ك! هه، وآمت به وله قصة مفصلة في كتب الآثار، والصحيح أنه من الأنبياء، وأنه قبل عيسى تيخحيه. قوله:) حين انطمست آثار الوحي الخ (أحوج ما يكون إليه أي في حين هو أحوج أوقات كينونتهم إلى الرسول على طريقة أخطب ما يكون الأمير قائما. قوله: (ولم يبعث في أقة الخ (إشارة إلى الكثرة التي يفيدها جمع الكثرة المنكر، وليس هذا هو كلام موسى صلى الله عليه وسلم، ولذا غير أسلوب الخطاب إلى الغيبة. قوله:) وجعلكم ملوكاً (غير الأسلوب فيه لأنهم لكثرة الملوك فيهم، ومنهم صاروا كلهم كأنهم ملوك لسلوكهم مسلك الملوك في السعة والترفه فلذا تجؤز في إسناد الملك إلى الجميع بخلاف النبؤة فإنها، وان كثرت لا يسلك أحد مسلك الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، لأنها أمر إلهي يختص الله به من يشاء فلذا لم يتجوّز في إسنادها، وهذا هو الوجه اللائق ببلاغة الكتاب العزيز فقول المصنف منكم أو فيكم بيان لحاصل المعنى لا أنه مقدر فيه ذلك وعلى الوجه الثاني جعل إنقاذهم من القبطة، وتملكهم عليهم ملكأ فالتجؤز في لفظ الملوك، وعلى الأوّل في الإثبات للكل ما هو للبعض. قوله: (وقد تكاثر فيهم الملوك الخ (هذا أيضأ من كلام المصنف بيانأ للواقع لا من كلام موسى صلى الله عليه وسلم أو ما أدرج فيه لأنه لا يناسب ذكر عيسى لمجبم والمعنى أن موسى بم! ذكر لهم إنعام الله عليهم بجعلهم ملوكاً وأن تلك النعمة التي ذكرها استمزت فيهم زمانا طويلأ، وقوله:) حتى فعلوا الخ (إشارة إلى أنهم لكثرة اأسملوذ فيهم طغوا، وتجبروا حتى فعلوا مثل ذلك، وقيل معناه أنه تكاثر الملوك فيهم بعد قت!! يخحيى
كما تكاثر الأنبياء بعد فرعون، وحين قتلوا يحى انقطعت كثرة الأنبياء بشؤم فعلهم، وفي أكثر النسخ حتى قتلوا، وعلئ هذا فيكون المعنى تكاثرت الأنبياء، والملوك فيهم قبل قتل يحيى فلما قتلوا يحيى انقطع عنهم كثرة ما ذكر انتهى. قوله:) من فلق البحر الخ (هذا دفع لما يتوهم من تفض جلهم على أمّة محمد بأنّ اصمراد بما آتاهم أمر مخصوص بهم كفلق البحر، وتظليل الغمام لهم في التيه أو كثرة الأنبياء، والملوك، وهذا لم يؤته أحد غيرهم، ولا يلزم من تفضيلهم بوجه تفضيلهم من جميع الوجوه فإنه قد يكون للمفضول ما ليس للفاضل أو الألف، واللام في العالمين للعهد فالمراد عالمو زمانهم فلا يلزم المحذور أيضاً، وايتاء ما لم يؤت أحد وان لم يلزم منه التفضيل لكن المتبادر من استعماله ذلك فلذا أوّلوه بما ذكر قوله: (كأرض بيت المقدس الخ (في معناه أربعة أقوال كما ذكره المصنف، وسميت مقدسة أي مطهرة لتطهيرها من الشرك فإنها مقر الأنبياء، ومهبط الوحي والأردن بضم الهمزة وسكون الراء المهملة، وضم الدال المهملة، وتشديد النون، وما وقع في القاموس من أنها بتشديد الدال سهو منه، وهي كورة بالشأم. قوله: (قسمها لكم أو كتب في اللوح الخ (القسمة بمعنى التقدير فمعنى كتبها قدرها مجازاً أو المراد الكتابة في اللوج فهي حقيقة روي أن الله تعالى أمر الخليل عليه الصلاة والسلام أن يصعد جبل لبنان فما انتهى بصره إليه فهو له ولأولاده فكانت تلك الأرض مدى بصره، وقوله إن آمنتم الجمع بينه، وبين الآية الآتية بناء على أن التحريم فيها مؤبد، وهو أحد الوجهين كما سيأتي. قوله: (ولا ترجعوا مدبرين الخ (يعني أنّ على أدباركم حال من فاعل ترتذوا أي منقلبين ومدبرين، والأدبار جمع دبر، وهو ما خلفهم من الأماكن من مصر وغيرها، وقوله قيل الخ. إشارة إلى حمل الرجوع على الرجوع إلى مصر فالمراد بالارتداد الرجوع عن مقصدهم إلى غيره، وعلى القول الأخير المراد به صرف قلوبهم عما كانوا عليه من الاعتقاد صرفا غير محسوس وقوله ئواب الدارين إشارة إلى مفعوله
المقدر، وجوّز في فتنقلبوا الجزم بالعطف، وهو أظهر والنصب في جواب النهي على أنه من قبيل لا تكفر تدخل النار وهو ممتنع خلافا للكسائي. قوله:) متغلبين لا تتأتى مقاومتهم الخ (معنى تتأتى تمكن بسهولة تفعل من التأتي. قوله:) والجبار الخ (يعني أنه فعال صيغة مبالغة من جبر الثلاثي على القياس لا من أجبره على خلافه كالحساس من الإحساس، ومعناه القهر مع التعالي(3/229)
ولذا يقال للنخلة جبارة وإليه أشار المصنف رحمه الله تعالى بقوله، وهو الذي يجبر الناس على ما يريده أي يكرههم عليه، وقوله كالب، ويوشع بناء على ما ارتضاه من أنهما من قوم موسى ىيخيه لا من الجبابرة، وقوله: يخافون الله سبحانه وتعالى بناء على هذا أيضا، ويؤيده قراءة ابن مسعود يخافون الله، وقد يخافون العدوّ أيضاً، وتجوله: إذ لا طاقة لنا بهم تعليل لتعليق الدخول بخروجهم فإنه يقتضي أنهم لا يدخلونها ما داموا فيها فلا يرد عليه ما قيل إنه ليس علة للشرطية بل لعدم الدخول حتى يخرجوا منها فينبغي تعليقه عليه. قوله: (وقيل كانا رجلين من الجبابرة الخ (فعلى هذا الذين عبارة عز! الجبابرة، والواو ضمير بني إسرائيل وعائد الموصول محذوف أي يخافونهم، وعلى الأؤر كان الضمير، وهو الواو لبني إسرائيل أيضا إلا لأنه لا يحتاج إلى تقدير عائد لأنه هو العائد، ولذا قدروا المفعول فيه اسما ظاهرآ فالفارق بين الوجهين إنما هو قوله: (والراجع الخ لا وبحتمل على الأوّل إنّ الذين يخافون الله المؤمنون مطلقا فلا يكون الضمير لبني إسرائيل، وعلى هذا جؤز أيضا أن يكون التقدير من الذين يخافون الله أو يخافون العدوّ كما في الدر المصون. قوله: (ويشهد له أنه قر! الذين يخافون بالضم الخ (أيد الزمخشري هذا التأويل بقراءة يخافون مجهولأ وبقوله: أنعم الله عليهما كأنه قيل من المخوّفين، وهذه القراءة مروية عن ابن عباس رضي الله عنهما وعن مجاهد، وفي هذه القراءة احتمال آخر وهو أن يكون من الإخافة ومعناه من الذين يخوّفون من الله بالتذكرة والموعظة أو يخوّفهم، وعيد الله بالعقاب، ويحتمل وجهأ آخر، وهو أن يكون معنى يخافون أي يهابون، ويوقرون، ويرجع إليهم لفضلهم، وخيرهم ومع هذين الاحتمالين لا ترجيح في هذه القراءة لكونهما من الجبارين وأمّا قوله: {أنعم الله تعالى} الخ فكونه مرجحاً غير ظاهر لأنها صفة مشتركة بين يوشع وكالب، وغيرهما، ولذا تركه المصنف
مشتركة بين يوشع وكالب، وغيرهما، ولذا تركه المصنف رحمه الله. قوله:) بالإيمان والتثبيت الخ (المراد بالتثبيت التثبيت على الإيمان، وإنما زاده ليشمل كون الرجلين من بني إسرائيل، وقد جوّز في هذه الحالية أيضا بتقدير قد، وباغته بمعنى فاجأه والأصحار بالصاد، والحاء المهملتين البروز إلى الصحراء. قوله: (لتعسر الكر الخ (الكر التوجه إلى العدوّ في المقاتلة، ويقابله الفر كما قال امرؤ القيس:
مكر مفر مقبل مدبر معا
وقوله: أجسام لا قلوب فيها أي ليس لهم قلوب قوية وشجاعة بتنزيل قلب من لا يكون كذلك منزلة العدم، وقوله: من صنعه وفي نسخة صنيعه بمعنى إحسانه وإنعامه، وقوله: مؤمنين به، ومصذقين بوعده يعني المراد بالإيمان التصديق بالله، وما يتبعه من التصديق بما وعده، وإلا فإيمانهم محقق، ويصح أن يكون المراد به التهييج، والإلهاب. قوله:) نفوا دخولهم على التاكيد والتأبيد (التأبيد مستفاد من أبدا والتأكيد منه، ومن لن فإنها تفيد تأكيد النفي لكونها في مقابلة سوف يفعل كما مرّ مراراً، وقوله: بدل البعض لأن الأبد يعم الزمان المستقبل كله ودوام الجبابرة فيها بعضه، وقول الزمخشرقي ما داموا بيان للأبد يحتمل بدل الكل، وعطف البيان لوقوعه بين النكرتين وهذا بناء على تفسير الأبد بالظاهر منه أو بالزمن المتطاول. قوله:) قالوا ذلك استهانة بالله ورسوله (يعني ليس المراد أنه يذهب مع الله حقيقة كما ذكره الزمخشري، واستظهره بمقابلته بأنا هاهنا قاعدون فإن التقييد بهاهنا يقتضي أن المراد حقيقته فكذا ما يقابله، وقوله، وقيل الخ أي هو مبتدأ خبره محذوف، وهو خلاف الظاهر، ولذا مرضه، وقيل إنه يحتمل أن يكون من قبيل كل رجل، وضيعته. قوله:) قاله شكوى بثه وحزنه (أي مقال شكوى أو لأجل الشكوى فليس القصد إلى الأخبار، وكذا كل خبر يخاطب به علام الغيوب يقصد به معنى مناسب سوى إفادة الحكم أو لازمه فليس رذاً لما أمره الله به ولا اعتذاراً عن عدم
الدخول. قوله: (والرجلان المذكوران الخ) جواب عن هذا القصر مع أنهما معه أيضاً، وقوله: لم يثق عليهما ضممنه معنى يعتمد فلذا عداه بعلى، وتلون القوم مجاز عن تقلب آرائهم، وكون المراد بالأخ ما يشملهما بعيد لفظاً، ومعنى لأنّ إفراده محتاج إلى التأويل بكل مؤاخ لي في الدين أو بجنس الأخ، وأجيب بأنه ليس القصد بل بيان قلة من يوافقه تشبيهاً لحاله بحال من لا يملك إلا نفسه، وأخاه. قوله: (ويحتمل نصبه عطفاً على نفسي الخ) ذكروا في إعرابه وجوها شتى منها ما ذكره المصنف رحمه(3/230)
الله فنصبه إما عطف على اسم أن أو نفسي أو مرفوع بالعطف على فاعل أملك أو مبتدأ خبره محذوف أو مجرور بالعطف على الضمير المجرور المضاف إليه نفس، وكلها ظاهرة حتى العطف على الضمير المرفوع المتصل بلا تأكيد لوجود الفصل بالمفعول، ثم هذا لا يوجب الاتحاد في المفعول بل يقدر للمعطوف مفعول آخر أي وأخي إلا نفسه كما تقول ضربت زيداً وعمرا فلا يرد ما قيل إنه يلزم من ذلك أنّ موسى وهارون عليهما الصلاة والسلام لا يملكان إلا نفس موسى صلى الله عليه وسلم فقط، وليس المعنى على ذلك بل على أنّ موسى عليه الصلاة والسلام يملك أمر نفسه، وأمر أخيه، وليس من عطف الجمل بتقدير، ولا يملك أخي إلا نفسه كما توهم، وتحقيقه أنّ العطف على معمول الفعل لا يقتضي إلا المشاركة في مدلول ذلك ومفهومه الكلي لا الشخص! المعين بمتعلقاته المخصوصة فإنّ ذلك إلى القرائن، وكذا إذا عطف على اسم أنّ معناه أنّ أخي لا يملك إلا نفسه، وكذا العطف على الضمير المجرور من غير إعادة الجار، وقد تقدم الكلام فيه، وهو ضعيف على قواعد البصريين، وأجازه الكوفيون كما ذكره المصنف رحمه الله. قوله: (بأن تحكم لنا بما نستحقه الخ) هذا مبني على الاختلاف في أنّ موسى صلى الله عليه وسلم هل كان معهم في التيه ولكن ما كان ينالهم من
المشقة لا يناله كما كانت النار على إبراهيم برداً وسلاما أو لم يكن معهم، وهو مجاب الدعوة كسائر الرسل عليهم الصلاة والسلام، وهذه الجملة دعائية فعلى الأوّل المراد التفريق والتبعيد بينهما فهو بمعناه الحقيقي. قوله: (عامل الظرف إمّا محرّمة الخ) الظرف هنا أربعين سنة فعلى تعلقه بمحرّمة التحريم مؤقت فلا ينافي أنها كتبت لهم، وقوله: احتضر أي حضره الموت، وهو مجهول. قوله:) وإمّا يتيهون الخ) أفي عامله يتيهون وتاه يتيه ويتوه، وهو أتوه وأتيه مما تداخل فيه الواو، والياء من التيه ومعناه الحيرة، ولذا أطلق على المفازة تيه، وتيهاء لأنه متحير فيها فمعناه يسيرون متحيرين، وحيرتهم عدم اهتدائهم للطريق، وكون التحريم مطلقا أي يحتمل التأبيد وعدمه، وتوله، وقد قيل الخ بناء على أن المراد منه التأبيد، وقوله: فإذا هم للمفاجأة أي يسيرون، وبعد سيرهم يرون أنفسهم في المحل الذي ارتحلوا عنه كسير السواني لا ينقطع، وتظليل الغمام لهم مع عصيانهم، ومعاقبتهم بالحيرة من كرمه تعالى، واشارة إلى أنّ تهذيبهم إنما هو للتأديب كما يضرب الرجل ولده مع محبته له، ولا يقطع عنه معروفه، ولذا أنزل عليهم المن، والسلوى لئلا يهلكوا جوعا، وجعل حجر موسى صلى الله عليه وسلم معهم يتفجر منه الماء كما مرّ دفعاً لعطشهم، وجعل معهم عمود نور ولباسهم من شيء كالظفر لا يبلي وشعورهم لا تزيد إلى غير ذلك من الأنعام، وروحا بفتح الراء أي كان التيه وأموره راحة لهما، وعلى هذا فإظلال الغمام وما معه لأجلهما وقوله فيه أي في التيه وتأس مجزوم بلا الناهية بمعنى لا تحزن لموتهم أو لما أصابهم فيه من الأسى، وهو الحزن. قوله: (أوحى الله الخ) كان في شريعته تزوّج الأخ بالأخت التي لم تولد معه في بطن واحد جعل افتراق البطون بمنزلة افتراق النسب للضرورة، ولذا حرّم بعده إذ زال المقتضي، وكثر الناس، وإذا كان ذلك غير جائز فإنما أمره بتقريب قربان لعلمه أنه لا يقبل لا أنه لو قبل جاز والتوأمان الولدان في بطن واحد الذكر توأم، والأنثى توأمة، والمصنف رحمه الله استعمل توأم للتوأمة بتأويل الشخص، وتوأمة قابيل إقليماً وتوأمة هابيل كبودا قال والد شيخي، واعلم أنّ التوم بلا همز اسم لمجموع الولدين فأكثر في بطن واحد من جميع الحيوان وبهمز كرجل توأم، وامرأة توأمة مفرد تثنيته توأمان فالاعتراض! بأنه لا تثنية له، وهم لما علصت من الفرق بين التوم بلا همز، والتوأم بالهمز وأنّ التثنية إنما هي
للمهموز لا غير، وظاهر القاموس بل صريحه أنه اسم لمجموعهما، وأنّ التثنية إنما هي لتوأم، وتوأمة لا لتوم، وعبارته التوأم من جميع الحيوان المولود مع غيره في بطن من الاثنين فصاعداً ذكرا أو أنثى أو ذكرا وأنثى جمعه توائيم، وتؤام كرخال، وقوله بأن نزلت نار الخ. هذا كان علامة القبول، وكان أكل القربان غير جائز في الشرع القديم، وقوله، وفعل ما فعل هو قصته الآتية. قوله: (وقيل الخ) زيف هذا بقوله فبعث الله غرابا الخ. إذ كان الدفن معلوما إذ ذاك فتأمل. قوله: (ولذلك قال كتبنا الخ) وتوجيهه على الأخر أي من أجل أنّ الحسد صار سببا لهذا الفساد، وهو غالب على(3/231)
بني إسرائيل، وعن بعض المفسرين، إنما ذكر بني إسرائل دون الناس لأنّ التوراة أوّل كتاب نزل فيه تعظيم القتل، ومع ذلك كانوا أشد طغيانا، وتماديا فيه حتى قتلوا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، والمعنى بسبب هذه الفعلة كتبنا في التوراة تعظيم القتل وشددنا عليهم وهم بعد ذلك لا يبالون وسيذكر هذا المصنف رحمه الله تعالى بعد قوله، ثم إن كثيرا منهم بعد ذلك في الأرض! لمسرفون فلا حاجة إلى التبرّع به هاهنا. قوله: (اي ثلاوة ملتبسة بالحق الخ (ذكر في إعرابه ثلاثة أوجه أنه صفة مصدر اتل أو حال من المفعول، وهو نبأ ابني آدم وقدره الزمخشري نبأ ملتبسا بالحق ليتعين ذو الحال أو حال من فاعل اتل المستتر، وهو ضمير المخاطب، ثم الحق يطلق على معان أحدها المثبت الصحيح، وثانيها المطابق للواقع بمعنى الصادق، وثالثها المتضمن للغرص الصحيح لقوله تعالى في الأحقاف: {ما خلقنا السموات والآرض! وما بينهما إلا بالحق} [سورة الحجر، الآية: 85] أي خلقا ملتبسا بالغرض الصحيح، والحكمة وضده الباطل بمعنى العبث كما في قوله: {ما خلقت هذا باطلا،، ويكون صفة لما اشتمل على هذه المعاني، ومصدراً بمعنى الثبوت، والمطابقة وصحة الغرض، وهو هنا بالمعنى المصدري أو الوصفي، والباء فيه للملابسة كما أشار إليه بقوله ملتبسا، وعمل نبأ في الظرف لأنه مصدر في الأصل، والظرف يكفي فيه رائحة الفعل. قوله:) أو حال منه) فيتعلق بمحذوف سبقه إليه أبو البقاء ورده في الدرّ المصون بأنه يكون قيدا في عامله، وهو اتل المستقبل واذ لما مضى، ولذا لم يتعلق به مع ظهوره، وفيه تأمّل. قوله: (أو بدل على حذف مضاف) قال النحرير: ليصح كونه متلواً والا فمجرّد الظرف كاف في الإبدال لحصول الملابسة، وقيل عليه إنه غير صحيح لأنّ إذ لا يضاف إليها إلا الزمان نحو يومئذ ونبأ ليس بزمان، وهو بدل بعض من كل أو كل من كل، وما ذكرء المصنف من الكشاف إلا أنه ترك قوله يقال قرّب صدقة، وتقرّب بها لأنّ تقرّب مطاوع قرب قال الأصمعي تقربوا قرف القمع فيعتدي بالباء حتى يكون بمعنى قرب انتهى.
قال السمين قال الشيخ كذا قرّره الزمخشري وفيه نظر لأنّ إذ لا يضاف إليها إلا الزمان
قال الأصمعي: الخ. أي يكون قربا يطلب مطاوعا التقدير إذ قرباه فتقربا به وفيه بعد قال وليس
تقرب فيه مطاوع قرب لتفرّقه ولاتحاد فاعل الفعلين والمطاوعة مختلف فيها الفاعل يكون من أحدهما فعل ومن الآخر انفعال نحو كرته فانكسر فليس قرب وتقرب من هذا الباب فهو غلط فاحش ولا نسلم ما ذكره من القاعدة انتهى.
(أقول) فيما قاله أمور الأوّلأنّ قوله إذ لا يضاف إليها إلا اسم زمان غير مسلم ألا ترى
قول العلامة نبأ ذلك الوقت فإنه بمعنى نبأ إذ، ولا شبهة في صحته معنى، واعراباً، ولا فرق بينهما فإن منعه سماعاً فدونه خرط القتاد، ودعوى لزوم اختلاف فاعلهما غير مسلمة فإن حجتهم أنّ أحدهما فاعل، والآخر قابل، وهو مبني على قاعدة أصولية، وهو أنّ القابل لا يكون فاعلاً، وقد ردّها بعض الفضلاء ألا ترى أنّ الإنسان قد يقتل نفسه فيتحد القابل، والفاعل، ويؤيده قوله تعالى فيقتلون، ويقتلون فان كان الأصمعي أراد هذا لم يرد عليه ما قاله الشيخ، وقد يقال مراده بيان معناه لغة فاعرفه. قوله: (والقربان اسم ما يتقرّب به الخ) الحلوان بالضم أجرة الدلال، والكاهن، ومهر المرأة وما يعطي من رشوة، ونحو ذلك من الحلاوة لأنه يؤخذ بسهولة، وأراد " فعل تفضيل من الرداءة ضد الجودة وصاحب ضرع أي ماشية، والضرع يطلق عليها مجازاً من إطلاق الجزء على الكل. قوله: (لأنه سخط حكم الله الخ (حكم الله هو عدم جواز نكاح التوأمة، وقوله: لفرط الحسد أي على قبول القربان، وقوله قال: {إنما يتقبل الله من المتقين} يدل على أنه المراد لا أنه حسده على إرادة أخذ أخته الحسناء. قوله: (أتيت) إتيانه من قبله عبارة عن إصابة ما أصابه، وازالة حظه أي نصيب المحسود، ونعمته لأنّ شأن الحاسد ذلك وقوله فإنّ ذلك أي اجتهاده فيما ذكرء قوله: (وأنّ الطاعة لا تقبل إلا من مؤمن متق (في الكشاف قال له: إنما أتيت من قبل نفسك لانسلاخها من لباس التقوى لا من قبلي فلم تقتلني، ومالك لا تعاتب نفسك، ولا تحملها على تقوى الله التي هي إلسبب في القبول فأجابه بكلام حكيم مختصر جامع لم! ن، وفيه دليل على أنّ الله تعالى لا يقبل الطاعة إلا من
. ة من متق الخ يريد أن هذا الجواب وارد على الأسلوب(3/232)
الحكيم لأنه تلقاه بغير ما يتطلب، وبما 5، اهمّ منه من القتل، والإشارة بقوله، ولا تحملها على تقوى الله التي هي السبب في القبول) اكا أنه ينبغي للحاسد أن يرى ذلك، ويعتقده فيقول فيما لم يتقبل منه أنّ سبب عدم قبوله من، صور فاعل ذلك الفعل فيه لكونه غير واقع على نهج التقوى الصادرة من المؤمنين كعدم نيته! ا، لك، وقصده وجه الله بل حظ نفسه فالمراد بكون متقيا أنه متق في تلك الطاعة فلا يرد عليه ءا قيل كل متق أو عاص إذا فعل طاعة، وأخلص النية فيها قبلت منه كما قال الإمام القرطبي ط: أصحابنا المخلطون يعملون الحسنات، والسيئات إذا ثقلت حسناتهم دخلوا الجنة، ولا، صح الجواب بأن المراد من التقوى التقوى من الشرك التي هي أوّل المراتب، وقابيل آل أمره إ) ما الشرك إذ روي أنه هرب إلى عدن بعد قتل أخيه فأتاه إبليس لعنه الله، وقال له إنما أكلت 11-، ر قربان هابيل لأنه خدمها وعبدها فبنى له بيت نار وهو أوّل من عبد النار. قوله: (قيل كان هابيل أقوى منه ولكن تحرج عن قتله) أي تجنب الحرج والإثم فالتفعل للسلب هنا، االاستسلام الانقياد، والمراد به هنا عدم الممانعة والمدافعة وقوله: (لآنّ الدفع الخ) يعني أنّ ااقتل للانتصار، والمدافعة لم يكن مباحا في ذلك الوقت، وفي تلك الشريعة كما روي عن. حاهد رحمه الله تعالى، وإنّ الله أمر بالصبر عليه ليكون هو المتولي للانتصاف وقوله: (أو تحريا لما هو الآفضل الخ) الأفضل أكثر ثوابا وهو كونه مقتولاً لا قاتلا بالدفع عن نفسه بناء لحلى جوازه إذ ذاك، وهذا الحديث أخرجه ابن سعد في طبقاته.
واعلم أنه اختلف في هذا على ما بسطه الإمام الجصاص فالصحيح من المذهب أنه يلزم
ددع الفساد عن نفسه، وغيره وان أدى إلى القتل، ولذا قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنّ معنى ما أنا بباسط الخ. إن بدأتني بقتل فأنا لم أبدأك فالمعنى لم يثبت لي بسط اليد ووجه المعبير بالاسمية ظاهر حيحئذ وأما على قول مجاهد رحمه الله تعالى إنه لم يبح لهم الدفع فالآية. صسوخة، وهل نسخت قبل شرعنا أم لا فيه كلام، والدليل عليه قوله: {فقاتلوا التي تبغي} اصورة الحجرات، الآية: 91] وغيره من الآيات والأحاديث وقيل إنه لا يلزم ذلك بل يجوز،، استدل بهذا الحديث، ونحوه وأوّلوه بترك القتال في الفتنة، واجتنابها وأوّل الحديث يدل
عليه، وأما من مغ ذلك الآن مستدلاً بحديث: " إذا التقى المسلمان بسفيهما فالقاتل والمقتول في النار " فقد ردّ بأنّ المراد به أن يكون كل منهما عزم على قتل أخيه، وان لم يقاتله ويتقابلا بهذا القصد. قوله: (وإنما قال ما أنا بباسط يدي الخ) يعني أن هذه جواب القسم الموطأ له باللام لأنّ الجواب للسابق من القسم، والشرط كما مرّ لكنها لدلالتها على جواب الشرط كانت في المعنى جوابا له، ولو كانت جواب الشرط حقيقة لزمتها الفاء، وقد عدل فيها عن الفعلية إلى الاسمية وعبارة المصنف أحسن من قول الكشاف فإن قلت لم جاء الشرط بلفظ الفعل، والجزاء بلفظ اسم الفاعل، وهو قوله: لئن بسطت ما أنا بباسط قلت ليفيد أنه لا يفعل ما يكتسب به هذا الوصف الشنيع، ولذلك أكده بالباء لما فيه من المسامحة أو جعله جواب الشرط بخلاف قول المصنف رحمه الله تعالى جواب لئن فإنه صادق بجواب القسم، ثم بين أنّ العدول إلى الاسمية للمبالغة في أنه ليس من شأنه ذلك، ولا ممن يتصف به، ولم يقل وما أنا بقاتل بل بباسط للتبرّي عن مقدمات القتل فضلا عنه، ولذا قال المصنف رحمه الله تعالى رأسا أي تبريا عنه من أصله، وفي الانتصاف إنما امتاز اسم الفاعل عن الفعل بهذه الخصوصية من حيث إنّ صيغة الفعل لا تعطي سوى حدوث معناه من الفاعل لا غير، وأما اتصاف الذات به فذاك أمر يعطيه أسم الفاعل، ومن ثمة يقولون قام زيد فهو قائم فيجعلون اتصافه بالقيام ناشئا عن صدوره مته، ولهذا المعنى قيل لأجعلنك من المسجونين لتكونن من المرجومين عدولاً عن الفعل الذي هو لأسجننك لأرجمنك إلى الاسم تغليظاً يعنون أنهم يجعلون هذه لوقوعها، وثبوتها كالسمة، والعلامة الثابتة، ولا يقتصرون على مجرّد اتصافه بها، ولا فرق بين النفي، والإثبات لأنه لتأكيد النفي لا لمنفي تحى يرد أن نفي الحدوث أبلغ من نفي الثبوت كما قيل. قوله: (تعليل ثان للامتناع عن المعارضة والمقاومة الخ (المقاومة مفاعلة من القيام كني بها عن المدافعة لأنّ المتدافعين يقوم كل واحد منهما مقابلة الآخر، ولما كان كل(3/233)
منهما علة مستقلة لم يعطف أحدهما على الآخر إيذانا بالاستقلال، ودفعا لتوهم أن يكون جزء علة لا علة تائة، وقد أورد عليه بعض فضلاء العصر أنّ ذلك يقتضي بسط يده، والمذكور بقوله أني أريد تعليل لعدم البسط فكيف يشبه أمر المستبين فإنه يصدر من كل منهما هناك سب فتكون تبعة السبين على البادي وقد يقال أن قوله: {ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك} النفي فيه للقيد يعني إن بسطتها فللدفع لا للقتل دمان احتمل ترتبه عليه وعلى هذا يكون له أثمان إثم قتله، واثم ما صدر من الدافع لتسببه له، وكونه إثماً على حرمة الدفع عندهم ظاهر، وعلى غيره فلأنه فعل ما يأثم فاعله لو لم يكن دافعاً، وهذا أمر تقديري لقوله إن بسطت، وكذا في الحديث لأنّ ما شرطية أو موصولة فيها معنى الشرط، والى هذا أشار صاحب الكشف بقوله ليس هذا من قبيل ما ورد في الحديث لأنه لم يصدر الفعل إلا من طرف واحد فمن أين وجوب تحمل الظالم إثم فعله، ومثل إثم
صاحبه على فرض المقابلة بالإثم وليس بشيء لأنه لم يدّع وجوب التحمل ولا أنّ الحديث دال على هذا القسم بل إنما أراده هابيل وكأنه قال إني أريد أن يضاعف عذابك والإرادة لا تستدعي وجوب الوقوع انتهى ولما لم يفهمه بعضهم قال إنه ناشئ من عدم فهم المراد فتدبر. توله: (إرادة أن تحمل اثمي لو بسطت الخ) الداعي إلى هذا التأويل أنه يرجع القاتل بإثمه، وأما رجوعه بإثم المقتول إن أريد به إثم قتله فلا إثم له فيه، وان أريد إثمه مطلقا فقد علم أنه لا تزر وازرة وزر أخرى، وقد مرّ أنّ في الآية تأويلين للسلف فعلى ما تدمه المصنف رحمه الله تعالى يكون الدفع بالقتل، وغيره إثما ومعنى الآية إني لا أدفع لخوف ربي، ولو دفعت لكان إثمي، واثمك عليك أما إثمك فظاهر، وأما إثمي فلأنك كنت السبب له، وأنت الذي علمتني الضرب، والقتل لأنه أوّل فاعل له، ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من يعمل بها إلى يوم القيامة، وهذا على فرض وقوعه وتنزيله منزلة الواقع فيصح تنظيره بالحديث. قوله: (المستبان ما قالا فعلى البادئ) الحديث أخرجه مسلم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه والمستبان مبتدأ وما في ما قالا شرطية، والشرط، وجوابه خبر المبتدأ، وبجوز أن تكون موصوفة بدلاً من المستبان بدل اشتمال أو مبتدأ، وعلى البادي خبره أو خبر مبتدأ محذوف أي فهو على البادي، وما في ما لم يعتد مصدرية فيها معنى المدة، وهي ظرف لمتعلق على، والمعنى المستبان الذي قالاه من السب استقرّ ضرره على الذي بدأ بالسب مدة عدم اعتداء المظلوم ما لم يجاوز المظلوم حد ما سبه البادئ فإذا جاوزه استقرّ ضرر ما قال كل عليه لأن البادي كان سببا في سب صاحبه، وسب المجيب فيه إثم إلا أنه محطوط عنه ما لم يزب في المكافأة كذا قال الزمخشري: وقال النحرير: فإن قيل أيّ حاجة إلى هذا التكلف، وقد دل الحديث على اختصاص الجميع بالبادي عند عدم الاعتداء فلا يكون للمجيب شيء منه قلنا قد حمل الجميع على إثم البادي، ومثل إثم الصاحب فلا يدل على أنّ إثم الصاحب لا يقع عليه.
(بقي هاهنا بحث) ، وهو أن تقدير المثل محتمل في الآية كما ذكروا ما في الحديث فقد
ذكر الجميع بلفظ واحد، وهو ما قالا أي إثم ما قالا فلا مجال لحمله على ما تال البادي، ومثل إثم ما قال الآخر إلا بالتزام الجمع بين الحقيقة، والمجاز فالأقرب أن يحمل على ظاهره، ويجعل إثم غير البادي ذا جهتين جهة نفس السب، وهو من هذه الجهة ساقط عنه بالدليل وجهة الحمل عليه، وهو على البادئ لكون هذه الجهة من قبله على طريقة من سن سنة سيئة الخ. فلا يكون من حمل وزر نفس على أخرى، وأما أنّ غير البادي ليس له المعارضة بالمثل بل الرفع إلى الحاكم ليجري على البادي ما هو الحكم من الحد أو التعزير فذلك بحث آخر انته، وهذا ردّ على صاحب الكشف إذ قال حط الإثم عن المظلوم لأنه مكافئ غير صحيح لأنه إذا سب شخص لم يستوف الجزاء إلا الحاكم.
والجواب أنّ صريح الحديث يدل على ما ذكره جار الله، والجمع بين الحكم الفقهي، والحديث أنّ السب إما أن يكون بلفظ يترتب عليه الحد شرعا فذلك سبيله الرفع إلى الحاكم أو بغير ذلك، وحينئذ لا يخلو إما أن يكون بما يتضمن إسناداً أو تفاخراً بنسب، ونحوه مما يتضمن إزراء بصاحبه دون شتم كنحو الرمي بالكفر، والفسق فله أن يعارضه بالمثل، ويدل عليه حديث زينب، وعائشة رضي الله تعالى عنهما، وقوله(3/234)
صلى الله عليه وسلم: " دونك فانتصري " أو يتضمن شتما وذلك أيضاً يرفع إلى الحاكم ليعزر والحديث محمول على القسم الذي يجري فيه الانتصار وقوله: ما لم يعتد المظلوم يدلّ عليه لأنّ اشتغاله بما حقه الرفع إلى الحاكم اعتداء وهذا تفصيل حسن وقول النحرير: إنه بحث آخر لا وجه له لأنه أيّ بحث آخر في الحديث سوى أخذ الأحكام الشرعية منه. قوله: (وقيل معنى بإثمي بإثم قتلي الخ) وهذا ظاهر فإضافة الإثم إلى المتكلم لأنه نشأ من قبله أو هو على تقدير مضاف ولا حاجة إلى تقدير مثل ونحوه، واثم القاتل الذي لم يتقبل له قربانه عدم رضاه بحكم الله كما مرّ، ولا خفاء أنه لا يحسن المقابلة بين التكلم، والخطاب على هذا لأنّ كليهما اسم المخاطب، وقوله: وكلاهما في موضع الحال أي مجموعهما! ل واحد، وفيه تسمح. قوله: (بل قصده بهذا الكلام الخ الما كان إرادة الإثم من آخر غير جائزة كأن يريد زناه، ونحوه أوله بأنّ المراد أن لا يكون له نفسه إثم وهو لازم لإثم أخيه فأريد لازمه أو المراد بالإثم ما يلزمه، ويترتب عليه من العقوبة، ولا يخفى أنه لا يتضح حينئذ تفريع قوله فتكون الخ. قوله: (فسهلته الخ) قال الراغب معناه فسمحت له فزينته، وانقادت وسوّلت، وطوعت أبلع من أطاعت، وهو في مقابلة فأبت نفسه، وفسره المصنف رحمه الله تبعاً للزمخشريّ بسهلته، وذكر أنّ معناه التوسعة فتجوز به عما ذكر، وقراءة المفاعلة فيها وجهان أن يكون فاعل بمعنى فعل كما ذكره سيبويه رحمه الله، وهو أوفق
بالقراءة المتواترة أو أنّ المفاعلة مجازية بجعل القتل يدعو إلى نفسه لأجل الحسد الذي لحق قابيل وجعلت النفس تأباه فكل من القتل، والنفس كأنه يريد من صاحبه أن يطيعه إلى أن غلب القتل النفس فطاوعته. قوله: (وله لزيادة الربط الخ) أي كان يكفي طوعت نفسه قتل أخيه، وحفظت مال زيد ولكنها زيدت للتاً كيد، والتبيين كما في {ألم نشرح لك صدرك} ، وقيل إنه للاحتراز عن أن يكون طوعه لغيره ليقتله له أو حفظ المال لنفسه، وفيه نظر، وحراء بكسر الحاء، والمد يصرف، ولا يصرف جبل معروف، وقوله: ديناً ودنيا أخذ العموم من حذف المفعول. قوله: (حال من الضمير في يواري الخ) ، وقدم عليه لأنّ له الصدر وجملة كيف يواري في محل نصب مفعول ثان ليرى البصرية المتعدية بالهمزة لاثنين، وهي معلقة عن الثاني وقيل إنها علمية أي ليعلمه، ولو كان بمعنى ليبصره لم يكن لقوله كيف يواري موقع حسن، وأما على تقدير ليعلمه فهو في موقع المفعول أي فإنه يجاب عن السؤال بكيف يواري، وفيه نظر، والسوأة ما يسوءك نظر، ولذا يطلق على العورة، ويبحث بمعنى يحفر وأصل معناه يفتش، وليريه إمّا متعلق ببعث أو يبحث، والغرابان هما طائران معروفان، وقيل إنهما ملكان بصورة غرابين، ودفن المسلم، والكافر المعصوم فرض! كفاية وقوله: (ويستقبح الخ (بيان لوجه كونها سوأة، وفسر السوأة بجسد الميت وهو المراد، والزمخشرقي فسرها بالعورة، وما فعله المصنف رحمه الله أولى، وسميت سوأة لأنها تسوء ناظرها.
واعلم أنه قال في كتاب الأحكام إنّ في العورة أقوالاً فقيل هي الجسد كله وقيل ما بين
السرة والركبة وقيل إنها مثقلة، وهما القبل والدبر، ومخففة، وهي ما بين السرة، والركبة فلعل العلامة فسرها بالعورة حتى تشمل الأقوال نعم ما فعله المصنف أظهر. قوله: (كلمة جزع وتحسر) أصل النداء لمن يطلب إقباله من العقلاء وهو مجاز هنا عن الجزع، والتحسر كأنه ينادي موته، ويطلب حضوره بعد تنزيله منزلة من ينادي، ولا يطلب الموت إلا من كان في حال أشد من الموت فكني به ذلك وقوله: (والمعنى الخ) بيان لأصله والهلكة بفتحتين الهلاك، والاستفهام في أعجزت للتعجب، وأن أكون بتقدير عن أن أكون، وتعجبه عن عجزه عن كونه مثله لأنه لم يهتد إلى ما اهتدى إليه. قوله: (وليس جواب الاستفهام الخ) هذا ردّ على الزمخشريّ حيث جعله منصوبا في جواب الاستفهام، وقد سبقه إليه كثير من المعرين، وقالوا
إنه خطأ لأنّ شرطه أن ينعقد من الجملة الاسمية، والجواب جملة شرطية نحو أتزورني فأكرمك تقديره إن تزرني أكرمك، ولو قيل هنا إن أعجز عن أن أكون مثل الراغب أوار سوأة أخي لم يصح المعنى لأنّ المواراة تترتب على عدم العجز لا عليه، وقيل في توجيهه أنّ الاستفهام للإنكار بمعنى النفي، وهو سبب أي إن لم(3/235)
أعجز واريت، وقيل هو من قبيل أتعصي ربك فيعفو عنك بالنصب لينسحب الإنكار التوبيخي على الأمرين، ويشعر بأنه في العصيان، وتوقع العفو مرتكب لما يحالف العقل حيث جعل سبب العقوبة سبب العفو، ويكون التوبيخ على هذا الجعل فكذا هنا نزل نفسه منزلة من جعل العجز سبب المواراة دلالة على التعكيس المؤكد للعجز عما اهتدى إليه غراب، ومن يكن الغراب له دليلا كفى به خائبا خاسراً، والثاني مسلك المدقق في الكشف وزاد فيه فإن قلت الإنكار التوبيخي إنما يكون على واقع أو متوقع فالتوبيخ على العصيان، والعجز له وجه إما على العفو، والمواراة فلا قلت التوبيخ على جعل كل واحد سبباً أو تنزيله منزلة من جعله سبباً لا على العفو، والمواراة فافهم، وقد أشار إليه في سورة الزمر، و! ل عليه أنّ الثاني في نجاية البعد والأوّل غير صحيح لأنه لا يكفي في النصب سببية النفي بل لا بد من سببية المنفي ألا ترى أنّ ما تأتينا فتحدثنا مفسر عندهم بأنه لا يكون منك إتيان فتحدث لا بأن لم تأتنا فتحدثنا، والجواب عنه أنه فرق بين ما نصب في جواب النفي، وما نصب في جواب الاستفهام، والكلام في الثاني فكيف يرد الأوّل نقضاً، ولو جعل في جواب النفي لم يرد ما ذكره أيضا لأنه لا حاجة إلى أخذ النفي من الاستفهام الإنكاري مع وضوح تأويل عجزت بلم أهتد، وقد قال في التسهيل أنه ينتصب في جواب النفي الصريح، والمؤوّل، وما نحن فيه من الثاني فتأمّل، وقال ابن عرفة في تفسيره ما في سياق شيء له حكمه وتقدير شرط مأخوذ منه فالتقدير إن كنت مثل هذا الغراب أوار الخ، وهو كلام دقيق. قوله: (وقرئ بالسكون على فأنا أواري الخ (أي أنه مستأنف، وهم يقدرون المبتدا لإيضاح القطع عن العطف وأمّا تسكين المنصوب فكثير، ولا عبرة بقول أبي حيان أنه ضرورة. قوله: (نأصبح من النادمين على قتله الخ) أصبح هنا بمعنى صار، وكابد بمعنى قاسى، ولقي ما يؤلم كبده، وقوله: ما كنت عليه وكيلا أي أنا لم أكن مأموراً بحفظه، وقد مز أنّ الوكيل بمعنى الحافظ، وقوله: ومكث سني آدم عليه الصلاة والسلام، وعدم الظفر الخ بالجرّ عطف على ما كابد وهو تزوجه بتوأمته.
تنبيه: في الكشاف بعد هذا وروي أنه رثاه بشعر، وهو كذب بحت، وما الشعر إلا
منحول ملحون، وقد صح عن ابن عباس رضي الله عنهما أنّ الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كلهم معصومون من الشعر، والشعر المذكور هو قوله:
تغيرت البلادومن عليها فوجه الأرض مغبر قبيح
تغير كل ذي لون وشكل وقل بشاشة الوجه المليح
وقال الشراح المليح إن رفع فخطأ لأنه صفة الوجه المجرور، وان خفض فأقواء، وهو
عيب قبيح، وان كثر وقول من قال الوجه فاعل قل، وبشاشة منصوب على التمييز بحذف التنوين إجراء للوصل مجرى الوقف ألحن، وقيل إنّ آدم عليه الصلاة والسلام رثاه بكلام منثور بالسرياني فلم يزل ينقل إلى أن وصل إلى يعرب بن قحطان، وهو أوّل من خط بالعربية فنظر فيه فقدم، وأخر وجعله شعرا عربيا.
(قلت الا شك أن لوائح الوضع عليه لائحة لركاكته لكن ما استصعبوه من الأقواء، وترك التنوين ليس بصعب لما في أشعار الجاهلية، والشعراء من أمثاله مع أنه قد يخرج بأنه نعت جرى على المحل لأنّ الوجه فاعل المصدر، وهو بشاشة، وقيل إنه مرفوع، وقد سمع كالجر. قوله: (بسببه قضينا عليهم) سبب هو معنى أجل كما سيذكره والضمير راجع للقتل أو لما ذكر من القصة، وقضينا تفسير لكتبا ومن ابتدائية متعلقة بكتبنا، وقيل بالنادمين، وكتبنا استئناف، واستبعده أبو البقاء، والأجل بفتح الهمزة، وقد تكسر أصل معناه الجناية ولذا يقال بمعناه من جراك أي من جريرتك فلا يخفى حسن موقعه هنا، ثم اتسع فيه فاستعمل لكل سبب هكذا حققه أكثر اللغويين وجراً يمد وقصر وراؤه مشددة، وقد تخفف، وضمير أنه للشأن، ومن شرطية والباء في بغير للمقابلة متعلقة بقتل أو حال بمعنى متعدياً ظالما، وفساد بالجر معطوف على المضاف المحذوف أو على المذكور إن لم يقدر 0 قوله: (من حيث إنه هتك حرمة الدماء
الخ (يعني أنّ جميع الناس مشتركون في الكرامة على الله، والاحترام عند الله فمن قتل واحداً منهم فقد نفى كراهة الله وهتك حرمته(3/236)
وكذلك من قتل الجميع فيكون قتل واحد كقتل الجميع، وكذا إحياؤها بترك القتل كإحياء الجميع لإبقاء كرامة الله، وتوفير حرمته، والفائدة في هذأ التشبيه الترهيب، والرح عن قتل نفس واحدة لتصويره بصورة قتل جميع الناس، والترغيب، والتحضيض على إحيائها لتصويره بصورة إحياء جميع الناس ولأنه جرأ الناس فكان فعلهم متسببآ على فعله فكأنه صدر منه لما سنه من السنة السيئة، ولأنه يشبهه في استجلاب أصل غضب الله، وأدخل بعضهم في هذا التزوج لأنه يشبه الأحياء بالتناسب قال، وبه تتصل هذه الآية بقصة ابني آدم وهو تكلف من غير داع. قوله: (بعدما كتبنا عليهم هذا الشديد الخ (التشديد العظيم يؤخذ من قتل جميع الناس، وقوله: وبهذا اتصلت الآية، وفي أكثر النسخ القصة أي قصة ابني آدم بما قبلها من قصص بني إسرائيل، وعلى النسخة الأخرى المراد بالآية قوله: (من أجل ذلك الخ) اتصل بقصة ابني آدم، ويحتمل أن يريد بالآية قصة ابني آدم لأنها في حكم آية واحدة وفسر الإسراف بما ذكره ليشمل الفعل، ويعم ما لا يتعلق بالمال كما هو المتبادل منه. قوله: (أي يحاربون أولياءهما الخ) يدخل في أولياء الله، والمسلمين الرسول دخولاً أولياً، ولا ينافيه جعل محاربتهم بمنزلة محاربتهما لأنّ منهم من حارب الرسول حقيقة فلا حاجة إلى التنزيل في شأنه لأنه إشارة إلى تقدير مضاف أو إن ذكر الله للتمهيد، وجعل محاربة المسلمين حكم محاربة الرسول للتنبيه على أن ما ذكر في الآية في حكم قطاع الطريق شامل للقطاع على المسلمين بعد الرسول صلى الله عليه وسلم، ولو بإعصار لأنهم يحاربون الرسول حيث يحاربون من هو على طريقته، وأهل شريعته فلا يتوهم أنّ الحكم فيهم بطريق الدلالة أو القياس، وما يقال إنه إشارة إلى أنّ ذكر الرسول تمهيد على تمهيد كلام خال عن التحصيل كيف ولا ذكر للمسلمين بعده، وأيضا قطاع الطريق لو قتلوا، وفعلوا بأهل الذمة فحكمهم حكم غيرهم، وكان مرادهم أن ذكر الله تمهيد لذكر رسوله، وذكر الرسول تمهيد لقوله يسعون في الأرض فساداً لأنه هو المقصود، ولو اقتصر عليه لكفى وبهذا التقرير علم سقوط ما قيل على المصنف رحمه الله تعالى أنه خرج من كرمه الرسول نفسه فيقتضي أنّ بيان شأنه بطريق المفهوم، وليس كذلك، وقال الجصاص: يريد الذين يحاربون أولياء الله، ورسوله كقوله تعالى: {إن الذين يؤذون الله ورسوله} ويدلّ على ذلك أنهم لو حاربوا رسول الله لكانوا
مرتدين باظهار محاربة النبيّ صلى الله عليه وسلم، ومخالفته انتهى، وعليه فلا حاجة إلى التأويل، ولا يرد عليه شيء، وهو ظاهر، وأصلى معنى الحرب لغة السلب أي الأخذ، وقد يستعمل بمعناه يقال حربه إذا سلبه كما قاله الراغب: والمكابرة الهجوم جهرة واللصوصية بضم اللام مصدر بمعنى السرقة والمكابرة بهذا المعنى استعملها الفقهاء، وذكرها الجاحظ في كتاب اللصوص، وأهملها كثير من أهل اللغة فكأنها مولدة لم تثبت عندهم إلا أنّ الجاحظ ثقة، ولم يقل أنها مولدة. قوله: (اي مفسدين الخ (يعني أنه حال بتأويل المصدر باسم الفاعل أو مفعول له أو مصدر لسعي من معناه كقعدت جلوساً وفساد اسم مصدر بمعنى الإفساد حينئذ، وفي كلام المصنف رحمه الله تعالى إشارة إليه.
تنبيه: في الكشاف في قوله ليريه كيف يواري سوأة أخيه ليعلمه لأنه لما كان سبب تعلمه
فكأنه قصد تعليمه على سبيل المجاز قيل فهو استعارة تبعية في اللام حيث شبه ترتب التعلم على بحثه، وتسببه عنه بترتب ما يقصد بالفعل عليه، وكلامه صريح فيه، وان توهم أنّ مراده أنّ إسناد التعليم إلى الغراب مجازي لكونه سبباً، ولو أراد هدّا قال فكأنه علمه ثم بعد التجوّز في اللام هل الإسناد مجازي فيه تأمّل انتهى.
(أقول) يعني على استعارة اللام معناه أنه ببحثه تبين له مواراة أخيه حقيقة، وهذا في التأويل ظاهر أما إسناده إلى الغراب فلا يمكن أن يكون على الحقيقة، ثم إنه على إرجاع الضمير لله، وتعلقه ببعث لا بد فيه من التجوز في اللام لأنها للعاقبة، وكلامه مشعر بخلافه فتأمّل. قوله: (أن يقتلوا الخ) الإتيان بالتفعيل لما فيه من الزيادة على القصاص من أنه لا يسقط بعفو الولي، وكذا التصليب لما فيه من القتل، وإنما ضم إليه القتل لأنه لا يكون جزاء القتل وأخذ المال أقل من القتل وحده، وقوله: حتى يموت تنازع فيه يترك ويطعن، وقوله: تقطع الخ. هذا في أول(3/237)
مرّة فان عاد قطع الأخريان. قوله: (ينفوا من بلد الخ) اختلف في النفي فقال الحجازيون ينفي من موضحع إلى موضع.
وقال العراقيون: يسجن، ويحبس، والعرب تستعمل النفي بمعنى السجن لأنه يفارق بيته وأهله، وقال ابن عربي: فيه أقوال فقيل: ينفي لبلاد، وقيل: لبلد أبعد، وقيل: يطالبونه بالحد، والى الأول ذهب صاحب المحرر من الثافعية أيضاً كما قال الشاعر:
- اه- 511
خرجنا من الدنيا ونحن من أهلها فلسنا من الأموات فيها ولا الإحيا
إذا جاءنا ال! سجان يوماً لحاجة عجبنا وقلنا جاء هذا من الدنيا
واستدل له بأنّ المراد زجره، ودفع شره فإذا نفي إلى بلد آخر لم يؤمن ذلك منه، واخراجه من الدنيا غير ممكن ومن دار الإسلام غير جائز فإن حبس في آخر فلا فائدة فيه إذ بحبسه في بلده يحصل المقصود، وهو أشد عليه، وقوله: بحيث لا يمكنون من القرار في موضع المراد أنهم يشردون، ويفرقون بحيث لا يجتمعون في مكان كسرا لشوكتهم بالتفريق. قوله: (وأو في الآية الخ) أي هي للتقسيم، واللف والنشر المقدر على الصحيح، ومن قال بتخيير الإمام جعلها تخييرية، والأوّل علم بالوحي والا فليس في اللفظ ما يدلّ عليه دون التخيير ولأنّ فيها أجزية مختلفة غلظاً وخفة فيجب أن تقع في مقابلة جنايات مختلفة ليكون جزاء كل سيئة سيئة مثلها، ولأنه ليس للتخيير بين الأغلظ، والأهون في جناية واحدة كبير معنى، والظاهر أنه أوحى إليه هذا التنويع والتفصيل، وما قيل إنّ التخيير بالنسبة إلى الإمام، والحاكم فإنه يفعل ما يريد منها مع ملاحظة الجنايات، واستحقاقها صلح من غير تراض للخصمين مع بعده. قوله: (لهم خزي في الدنيا الخ) قال النووفي رحمه الله تعالى إذا اقتص منه، وعوقب كيف يكون مستحقا لذلك وقد قال النبيّ صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: " من ارتكب شيئاً فعوقب به كان كفارة له " فيقتضي سقوط الإثم عنه، وأن لا يعاقب في الآخرة، وأجاب بأنه يكفر عنه حق الله، وأما حقوق العباد فلا، وهنا حقان لله والعباد، وفيه نظر، وقوله: مخصوص الخ لأنّ القصاص لا يسقط بالتوبة، ثم إنهم لهم في الدنيا عذاب وخزي، وكذا في الآخرة فاقتصر في الدنيا على الخزي لأنه أعظم من عذابها، واقتصر في الآخرة على عذابها لأنه أشدّ من الخزي، وقوله: {لعظم ذنوبهم} راجع إلى عذاب الدنيا، والآخرة ووجه دلالة أنّ الله غفور رحيم عليه أنه لا يعفو عن حقوق العباد بل عن حقوقه، وقوله: يسقط بالنوبة الخ إشارة إلى مخالفته لغيره من القصاص.
تنبيه: قال شيخ والدي ابن حجر الهيثمي قول المصنف رحمه الله تعالى يسقط بالتوبة الخ
كلام ظاهر الفساد لأنّ التوبة لا دخل لها في القصاص أصلاً إذ لا يتصور له بقيد كونه قصاصاً
حالتا وجوب، وجوإز لأنا إن نظرنا إلى الولي فطلبه جائز لا واجب مطلقاً أو للإمام فان طلبه منه الولي وجب والا لم يجز من حيث كونه قصاصا والا جاز أو وجب من حيث كونه حدا، وأوله بعضهم بما لا يوافق المذهب فتأمّل.
وقال شيخنا ابن قاسم ادعاؤه الفساد ظاهر الفساد فإنه لم يدع ما ذكر، وإنما ادعى أنّ
لها دخلا في صفة القتل قصاصا وهي وجوبه، وقوله: (إذ لا يتصور الخ) قلنا لم ياع أنّ له حالتي وجوب وجواز بهذا القيد بل ادعى أن له حالتين في نفسه، وهو صحيح على أنه يمكن أنّ له حالتين بدّلك القيد لكن باعتبارين اعتبار الولي، واعتبار الإمام إذا طلب منه، وقوله: (إن نظرنا الخ) كلام ساقط ولا شك أنّ النظر إليهما يقتضي ثبوت الحالتين قصاصا، وقوله: فتأمّل تامّلنا فوجدنا كلامه نشأ من قلة التأمّ أنتهى. قوله: (وإنّ الآية في قطاع المسلمين الخ) قيل عليه المراد بالتوبة عن قطع الطريق، ولا تأثير لها في سقوط الحد بعد القدرة سواء كانت من الكافر أو المسلم، وأما إن توبة الكافر مسقطة لجميع ما كان قبل التوبة فمعلوم من غير هذا الموضع.
واعلم أن مراد المصنف رحمه الله تعالى ما فصله في كتاب الأحكام أنّ محاربة الله ذهب
قوم من السلف إلى أنها إنما تستعمل في الكفار فمن قال به حمل هذه الآية على أهل الردة ورده بأنه ورد في الأحاديث إطلاقها على أهل المعاصي أيضا وأنه لا خلاف بين السلف، والخلف في أن هذا الحكم غير مخصوص بأهل الردة، وإنه فيمن قطع(3/238)
الطريق، وان كان من أهل الملة وحكي عن بعض المتأخرين، ومن لا يعتد به أنّ ذلك مخصوص بالمرتدين وهو قول ساقط مردود مخالف للأمة، واجماع السلف، والخلف ويدل على أنّ المراد به قطاع الطريق من أهل الملة قوله تعالى: {إلا الذين تابوا} الخ ومعلوم أنّ المرتدين لا يختلف حكمهم في زوال العقوبة عنهم بالتوبة بعد القدرة كما يسقطها عنهم قبل القدرة، وقد فرق الله بين توبتهم قبل القدرة، وبعدها، وأيضا فإن الإسلام لا يسقط الحد عمن وجب عليه، وأيضا ليست عقوبة المرتدين كذلك، والآية وان نزلت في الكفار من العرينين أو غيرهم فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، ومراد المصنف رحمه الله تعالى رد هذا القول الذي ذهب إليه بعض
المفسرين لكن في عبارته إجمال، ومسامحة فلا يرد عليه ما أورده هذا المعترض. قوله: (أي ما تتوسلون به إلى ثوابه الخ) يشير إلى أن إلى متعلقة بالوسيلة، وهي صفة لا مصدر حتى يمنع تقدم معموله عليه وقيل إنه متعلق بالفعل، وقوله: (وفي الحديث الخ) إن أراد به أنه هنا بهذا المعنى فغير ظاهر لتعلق الجارية ولأنه ورد في الحديث كما رواه مسلم وغيره: " منزلة في الجنة جعلها الله لعبد من عباده وأرجو أن كون أنا فأسألوا لي الوسيلة " فهو يقتضي أنها غير المذكورة هنا لاختصاصها بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام، والجواب أنه بيان لبعض أفرادها بطريق التنظير لا التمثيل والأعداء الظاهرة ظاهرة، وأما الباطنة فالقوى الشهوية ونحوها. قوله: (واللام متعلقة بمحذوف الخ) أي لام ليفتدوا لا لهم لأنه خبر أن، وفي أنّ بعدلو مذهبان أحدهما ما اختاره المصنف رحمه الله تعالى أنها فاعل فعل مقدر، وضمير به لما في الأرض! ، ومثله وحد لما ذكره، واجراء الضمير مجرى اسم الإشارة مرّ تحقيقه في سورة البقرة. قوله: (أو لأن الواو في مثله بمعنى مع) فيتوحد حينئذ مرجع الضمير وهو ما في الأرض! المصاحب لمثله كما تقول جاء زيد، وهنداً ضاحكا ومعه يكون تأكيدا وهو حال كذا في الكشاف وجعل الناصب له ثبت المقدر بعد لو وهكذا حكم الضمير بعد المفعول معه إلا فراد وأجاز الأخفش أن يعطي حكم المتعاطفين فيثني ضميره، وقال بعض النحاة الصحيح جوازه على قلة ورد بأنه لا فائدة في قوله معه حينئذ إن كان الضمير لما، وان كان لمثل بأن يكون له مثلان فيفيد، وأما كون العامل فيه ثبت فليس بصحيح لأنّ العامل في المفعول معه وهو العامل في المصاحب له كما صرحوا به، وهو ما أو ضميرها وشيء منهما ليس عاملا فيه ثبت المقدر، وأما صحته على تقدير جعله لهم أو متعلقه على ما قيل وكلام المصنف رحمه الله تعالى محتمل له، ولذا أسقط ذكر العامل المذكور في الكشاف فممنوع أيضاً كما نقل عن سيبويه رحمه الله أنه قال، وأما هذا لك، وأباك فقبيح لأنه لم يذكر فعل، ولا حرف فيه معنى فعل حتى يصير كأنه قد تكلم بالفعل فصرح بأنّ اسم الإشارة، وحرف الجر والظرف لا يعمل في المفعول معه ومن العجائب ما قيل
إن المصنف رحمه الله تعالى أعرض عن كونه مفعولأ معه، وقال إنّ الواو بمعنى مع يريد أنه من قبيل كل رجل وضيعته ردّاً على ما قاله الزمخشريّ، وهو فاسد من وجوه لأنّ مثله يلزم فيه المطابقة، ولا يذكر الخبر ولم يقل، ولو افتدوا مع أنه أخصر لأنّ هذا أبلغ إذ معناه لو أنهم حصلوا ما في الأرض، وملكوه بقصد الفدية لم يقبل منهم ذلك فتأمل. قوله: (تمثيل للزوم العذاب الخ) قال القطب أي كناية عن لزوم العذاب فإن لزوم العذاب من لوازمه أن ما في الأرض! جميعاً، ومثله معه لو افتدوا به منه لم يتقبل منهم فلما كانت هذه الجملة بل هذه الملازمة لازمة للزوم العذاب عبر عنها بها فيكون كناية ولعل التمثيل يطلق على الكناية إذا كانت بالتمثيل، وقال النحرير لا يريد به الاستعارة التمثيلية بل إيراد مثال وحكم يفهم منه لزوم العذاب لهم أي لم يقصد بهذا الكلام إثبات هذه الشرطية بل انتقال الذهن منه إلى هذا المعنى، وبهذا الاعتبار يقال له كناية، ويمكن تنزيله على التمثيل الاصطلاحي بأن يقال حالهم في حال التقصي عن العذاب بمنزلة حال من يكون له أمثال ما في الأرض! ، ويحاول بها التخلص من العذاب فلا يتقبل منه، ولا يتخلص فقد علصت أن التمثيل هنا محتمل ثلاثة معان. قوله: (وقرئ يخرجوا (يعني مجهولاً ووجه المبالغة إفادة الاسمية الثبوت مع زيادة الباء للتأكيد، وقد مر له(3/239)
زيادة توضيح في ما أنا بباسط يدي إليك. قوله:) جملتان عند سيبوبه الخ) في الكشاف رفعهما على الابتداء والخبر محذوف عند سيبويه رحمه الله تعالى كأنه قيل، وفيما فرض عليكم السارق، والسارقة أي حكمهما ووجه آخر، وهو أن يرتفعا بالابتداء والخبر فاقطعوا أيديهما، ودخول الفاء لتضمنهما معنى الشرط لأنّ المعنى والذي سرق، والتي سرقت فاقطعوا أيدهما والاسم الموصول يضمن معنى الشرط، وقرأ عيسى بن عمر بالنصب وفضلها سيبويه على قراءة العامة لأجل الأمر لأن زبداً فاضربه أحسن من زيد فاضربه وهذا مما وقع فيه خبط في الكشاف هنا وفي سورة النور، وفي التفسير الكبير فيه كلام لا مساس له بهذا المقام مع طوله، والذي يبين لك مغزاه وان لم يفهموا كلام سيبويه رحمه الله ما في الانتصاف قال رحمه الله المستقري من وجوه القراآت أنّ العامّة لا تتفق فيها أبداً عن العدول عن الأفصح وجدير بالقرآن أن يحرز أفصح الوجوه وأن لا يخلو من الأفصح، ويشتمل عليه كلام العرب الذي لم يصل أحد منهم إلى ذروة فصاحته، ولم يتعلق بإهدابها، وسيبويه رحمه الله تحاشى عن اعتقاد عرائه عن الأفصح، واشتمال الشاذ الذي لا يعد من القرآن عليه، ونحن نورد كلام سيبويه لتتضح براءة سيبويه رحمه الله تعالى من عهدته قال بعد أن ذكر المواضع التي يختار فيها النصب أنه متى بني الاسم على فعل الأمر فذلك موضع اختيار النصب، ثم قال موضحا لامتياز هذه الآية عما اختار
فيه النصب، وأما قوله تعالى: {والسارق والسارفة} الآية {والزانية والزاني} [سورة النور، الآية: 2] الخ فإنّ هذا لم يبن على الفعل، ولكنه جاء على مثال قوله تعالى {مثل الجنة التي وعد المتقون} ، ثم قال فيها أنهار منها كذا يريد سيبويه رحمه الله تعالى تمييز هذه الآي عن المواضع التي بين اختيار النصب فيها، ووجه التمييز أنّ الكلام حيث يختار النصب يكون الاسم فيه مبنياً على الفعل وأما في هذه الآي فليس بمبني عليه فلا يلزم فيه اختيار النصب، ثم قال، وإنما وضمع المثل للحديث الذي ذكر بعده فذكر إخباراً، وفصصا فكأنه قال! ، ومن القصص مثل الجنة فهو محمول على هذا الإضمار، والله أعلم فكذلك الزانية، والزاني لما قال جل ثناؤه سورة أنزلناها وفرضناها قال في جملة الفرائض الزانية والزاني، ثم جاء فاجلدوا بعد مضيئ الرفع فيهما يريد لم يكن الاسم مبنياً على الفعل المذكور بعد بل بني على محذوف متقدم وجاء الفعل طارئا، ثم قال كما جاء:
وقائلة خولان فانكح فتاتهم
فجاء بالفعل بعد أن عمل فيه المضمر وكذلك: {والسارق والسارقة} أي، وفيما فرض! عليكم السارق، والسارقة، وإنما دخلت هذه الأسماء بعد قصص وأحاديث، وقد قرأ ناس والسارق والسارقة بالنصب، وهو في العربية على ما ذكرت لك من القوّة، ولكن أبت العامة إلا الرفع يريد أنّ قراءة النصب جاء الاسم فيها مبنياً على الفعل غير معتمد على ما قبله فكان النصب قويا بالنسبة إلى الرفع حيث يبنى الاسم على الفعل لا على متقدم، وليس يعني أنه قوي بالنسبة إلى الرفع حيث يعتمد الاسم على المحذوف المتقدم فإنه قد بين أنه يخرجه عن الباب الذي يختار فيه النصب فكيف يفهم منه ترجيحه عليه، والباب مع القراءتين مختلف، وإنما يقع الترجيح بعد التساوي في الباب، والنصب أرجح من الرفع حيث يبنى الاسم على الفعل، والرفع متعين لا أقول أرجح حيث يبنى الاسم على كلام متقدم، وإنما التب! على الزمخشري كلام سيبويه من حيث اعتقد أنه باب واحد عنده ألا ترى إلى قوله لأنّ زيداً فاضربه أحسن من زيد فاضربه حيث رجح النصب على الرفع حيث يبنى الكلام في الوجهين على الفعل، وقد صرح سيبويه بأن الكلام في الآية مع الرفع مبني على كلام متقدم، ثم حقق سيبويه هذا المقدر بأنّ الكلام واقع بعد قصص، واخبار، ولو كان كما ظنه الزمخشري لم يحتج إلى تقدير بل كان يرفعه على الابتداء، ويجعل الأمر خبره كما أعربه الزمخشري فالنصب على وجه واحد وهو بناء الاسم على فعل الأمر، والرفع على وجهين أحدهما ضعيف، وهو الابتداء، وبناء الكلام على الفعل، والآخر قوي بالغ كوجه النصب، وقد رفعه على خبر ابتداء محذوف دل عليه السياق وإذا تعارض! وجهان في الرفع أحدهما قوي، والآخر ضعيف تعين القراءة على القوي كما أعربه سيبويه رحمه الله ورضي عنه، وإنما نقلت كلامه برمتة لأنه كله كما قيل:
وما محاسن شيءكله حسن(3/240)
ولا عطر بعد عروس، وناهيك بمقام لم بفهمه مثل الزمخشري، والإمام ولنا فيه زيادة تحقيق في سورة النور. قوله: (وجملة عند المبرد الخ) هذا كلام ابن الحاجب بعينه، وكونه جملتين عند سيبويه لأنّ تقديره مما يتلى عليكم حكم السارق، والسارقة، وهذه جملة اسمية، وقوله: فاقطعوا جملة فعلية مفسرة لذلك الحكم، وأما المبرد فذهب إلى أنّ الفاء ليست هي التي يعمل ما بعدها فيما قبلها كما في وربك فكبر ليصح النصب بالتسليط لما بعدها، وإنما هي الفاء الجزائية الداخلة على الخبر لتضمن المبتدأ معنى الشرط بناء على أن اللام موصولة لا حرف تعريف كما في المؤمن، والكافر مما لم يقصد به معنى الحدوث، والمعنى الذي سرق، والتي سرقت فاقطعوا الخ. ومثل هذه الفاء يمنع العمل بالاتفاق، والأمر في هذا الموقع يقع خبراً للمبتدأ بلا تأويل، وليس من قبيل زيد فاضربه لكونه في الحقيقة شرطاً، وجزاء مثل أن سرط فاقطعوه كذا قال النحرير: نقلا عن المبرد وفيه نظر لأنّ هذه الفاء زائدة، وكونها تمنع العمل بالاتفاق لا يظهر وجهه، وأيضاً أنّ أل الموصولة قال الحلبي لا تقع في خبرها الفاء فليحرر هذا النقل فإنّ في النفس منه شيئاً وقوله لتضمنهما أي السارق والسارقة، وفي نسخة لتضمنها أي الجملة، والأولى أولى. قوله: (وقرئ بالنصب وهو المختار الخ) فيه بحث لأنه إن أراد أنه مختار عند القراء فليس كذلك لأنّ القراءة المتواترة على خلافه، وان أراد عند النحاة فقد عرفت أن سيبويه يقول إنّ الرفع أقوى، وإنه عنده ليس من باب الاشتغال، وان أراد عند المبرد فمذهب المبرد أن المبتدأ المتضمن معنى الشرط لا يحتاج خبره الأمرفي إلى تأويل، ولم يدخل السارقة في السارق تغليباً كما هو المعروف في أمثاله لأنه لبيان الحد الذي يحافظ فيه على ترك ما يدرأ الشبهة، وما ذكره في السرقة، وشروطها مما تكفلت به الفروع، وقوله) صلى الله عليه وسلم القطع الخ (أخرجه الشيخان عن عائشة ولفظه: " تقطع اليد قي ربع دينار فصاعداً ". قوله: (والمراد بالأيدي الإيمان، ويؤيده قراءة ابن مسعود رضي الله عنه الخ) وضع الجمع موضع المثنى إشارة إلى قاعدة ذكرها النحاة، وهي أنّ كل جزأين أضيفا إلى الكل لفظاً أو تقديرا، وكانا مفردين من صاحبهما
جاز فيهما ثلاثة وجوه الجمع، وهو الأفصح ثم الإفراد، ثم التثنية، واختلفوا أقي إلا آخرين أفصح فقيل الأوّل، وقيل الثاني، واحترزوا بالجزأين عما ليس بجزء نحو داريهما فإنه لا بد من تثنيته لا من اللبس، وكذا إن أفردا عن الإضافة كاليدين لذلك واحترزوا بالمفردين من نحو فقأت عينيهما فإنه لا بد من التثنية لإلباسه في الإفراد، وما نحن فيه من هذا القبيل فكان اللازم تثنيته على الأفصح فأشار إلى جوابه بأنّ اليد هنا بمعنى اليمين كما قرئ به فهي مفردة فلذا جمعت كالقلوب مع أنه لا لبس به فيجوز الجمع والإفراد كما ذكرنا، وما قيل إنّ اليمين من كل شخص! واحدة بخلاف اليد غير وارد لأنّ الدليل دل على أنّ المراد من اليد يد مخصوصة، وهي اليمين، وقد دل الشرع على ذلك أيضاً، والرسغ بضمتين وضم فسكون المفصل الذي بين الكف والساعد، والحديث دليل على معنى اليد، وانها اليد اليمين أيضا. قوله: (منصوبان على المفعول له) قال النحرير: وترك العطف إشعاراً بأنّ القطع للجزاء والجزاء للنكال والمنع عن المعاودة اهـ، وإنما ذكر هذا بناء على أنه لا يجوز تعدد المفعول له بدون عطف، واتباع لأنه على معنى اللام فيكون كتعلق حر في جر بمعنى بعامل واحد، وهو ممنوع، وقد صرّح به أبو حيان، واعترض على هذا الإعراب به فأشار المحقق إلى دفعه وقد سبقه إليه الحلبي ونقل عن بعض النحاة أنه أجاز تعدد المفعول له فلا يرد السؤال رأساً، وقد دفع أيضاً بأنّ النكال نوع من الجزاء فهو بدل منه، وعلى ما ذكره النحرير يكون مفعولاً له متداخلاً كالحال المتداخلة وهو حسن وإذا نصبا على المصدرية فهما إمّا مصدران لأقطعوا من معناه أو لفعل مقدر من لفظه، وقد جوّز فيه الحالية أيضاً. قوله: (من السراق) بتشديد الراء جمع سارق، ومن الغريب أنه نقل عن أبيّ رضي الله عنه أنه قرأ والسرق والسرقة بترك الألف وتشديد الراء فقال ابن عطية رحمه الله تعالى أنّ هذه القراءة تصحيف لأنّ السارق والسارقة كتبا بدون ألف في المصحف، وقيل في توجيهها إنهما جمع سارق، وسارقة لكن فاعلة لم ينقل فيه في جمع المؤنث السالم(3/241)
فعلة، ولم يسمع فعلة في الجمع أصلاً فلو قيل إنها صيغة مبالغة لكان أقرب فانظره، وقوله: إمّا القطع فلا يسقط بها ضمير بها للآخرة أي إذا لم يقطع في الدنيا لا يسقط حق العبد في الآخرة، وأن جاز سقوط حق الله، والتبعات حقوق العباد والمظالم، وقوله والعزم إشارة إلى أنّ الإصلاح هنا إصلاح النفس بالتوبة، وهي الندم، والعزم على عدم العود كما مر وأنه إذا تاب تاب الله عليه أي قبل توبته، وعموم
الخطاب لكل واقف عليه مرّ تحقيقه، وفي الأحكام لابن العربي أنه في شرع من قبلنا كان جزاء السارق استرقاقه وقيل كان ذلك إلى زمن موسى صلى الله عليه وسلم فعلى الأوّل شرعنا ناسخ لما قبله وعلى الثاني مؤكد للنسخ كما سيأتي في سورة يوسف. قوله: (قدم التعذيب على المغفرة الخ) يعني كان الظاهر عكسه لأنّ الرحمة سابقة على الغضب كما في حديث " سبقت رحمتي غضبي " وهنا عكس لأنّ التعذيب للمصرّ على السرقة، والمغفرة للتائب منها، وقد قدمت السرقة في الآية أولاً ثم ذكرت التوبة بعدها فجاء هذا اللاحق على ترتيب السابق أو المراد بالتعذيب القطع، وبالمغفرة التجاوز عن حق الله، والأوّل في الدنيا، والثاني في الآخرة فجيء به على ترتيب الوجود أو لأنّ المقام مقام الوعيد قالوا، وهذا أقرب. قوله: (أي صنع الذين يقعون الخ الما كانت ذواتهم لا تحزنه، وأنما يحزنه فعلهم أوّله بما ذكر، وهو إما بتقدير مضاف أو على أنّ الإسناد مجازي، وأنه أسند ما للفاعل إلى سببه أو أنه لا فاعل له حقيقي. قوله: (أكلط في إظهاره إذا وجدوا الخ) إنما قال ذلك لأنّ المنافقين كفرة، وذلك الإظهار بالأخبار والا كانوا مجاهرين لا تبال بهم كما فسره الزمخشرقي، وحزنه ليس لخوفهم بل شفقة عليهم حيث لم يهوفقوا للهداية. قوله: (خبر محذوف الخ (رجح عطف، ومن الذين هادوا على من الذين قالوا لأنه قرئ سماعين على الذم فهذا بيدل على أنها ليست بخير فسماعون حينئذ خبر مبتدأ محذوف، ولام للكذب للتقوية كما في قوله تعالى: {فعال لما يريد} [سورة البروج، الآية: 16، وأما تضمينه معنى القبول ففيه نظر فإنه يقتضي أنه إنما فسر بالقبول لتعديه باللام، وقد قال الزجاج يقال لا تسمع من فلان أي لا تقبل، ومنه سمع الله لمن حمده أي تقبل منه حمده، وكلام الجوهرقي يخالفه أيضا، ويقتضي أنه ليس مبنيا على التضمين، وعلى الوجه الأخير مفعوله محذوف، واللام للتعليل وضميرهم المقدر جوز فيه المصنف رحمه الله تعالى وجهين، وهما بمعنى لأن الذين يسارعون الفريقان وفي الكشاف أو للذين هادوا، وأورد على التضمين أيضا أن القبول متعد بنفسه كما في كتب اللغة يقال قبله كعلمه وتقبله، واللام بعد السماع بمعنى القبول بمعنى من كما في سمع الله لمن حمده، وتدخل على المسموع منه لا اأصمسموع. قوله:) والمعنى على الوجهين (
أي الوجهين السابقين في سماعون للكذب من كون اللام متعلقة به لتضمنه القبول دىاليه أشار بقوله مصغون لهم قابلون كلامهم، وكونها للتعليل، ومفعوله محذوف واليه أشار بما بعده، وزاد وجهاً آخر، وهو كون سماعون الثاني تأكيداً للأول، واللام متعلقة بالكذب ولا مغايرة بين الوجه الثاني هنا، وهناك كما توهم لأنّ المراد سماعون منك الكلام الصادر منك. قوله: (من بعد مواضعه الخ) في الكشاف يحرّفون الكلم يميلونه، ويزيلونه عن مواضعه التي وضعه الله فيها فيهملونه بغير مواضع بعد أن كان ذا مواضع فقيل معناه ما تال في سورة النساء، وأما من بعد مواضعه، ومقاره يعني أنه تنبيه على الفرق بين عن مواضعه، ومن بعد مواضعه فمانّ معنى الأول مجرّد الإمالة، والثاني الإزالة عن مواضعه، وهذا مراد المصنف رحمه الله تعالى بقوله أي يميلونه الخ فنزله عليه، ووجوه إعراب الجملة غنية عن البيان. قوله: (روي أن شريفاً من خيبر الخ) سماه شريفاً على زعمهم، وهدّا الحديث أخرجه البيهقي في الدلائل عن أبي هريرة رضي الله عنه، وليس فيه أنهما من خيبر، وزاد فيه في الكشاف أنّ ابن صوريا أسلم في هذه القصة، وتركه المصنف رحمه الله تعالى لأنه لم يصح إسلامه بل خلافه، والتحميم تسويد الوجه من الحممة،
وهي الفحمة، ويقال له تسخيم أيضاً، وقوله إن أوتيتم هذا المحرف أي المزال عن موضعه قال(3/242)
الطيبي رحمه الله تعالى إنه ليس بمقول لهم بل وضع موضع مقولهم كما مرّ في قوله: {إنا تقلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله} هو ظاهر، ولا وجه لما قيل ما المانع من أن يكون مقولهم فإنهم كانوا عالمين بالتحريف ومعترفين به فتأمّل، وقوله أنشدك الله قسم، وأقسم عليه بما هو من حال بني إسرائيل، وموسى صلى الله عليه وسلم مما يعرفه تأكيداً، وتحريضاً على عدم مخالفته، وقوله على من أحصن أي تزوّج لأنّ في جريان الإحصان الشرعي في الكافر ما هو مذكور في الفروع، وهو حجة على أبي حنيفة في اشتراط الإسلام إلا أن يقال كان ذلك قبل نزول الجزية أو كان على اعتبار شريعة موسى صلى الله عليه وسلم.
قوله: (من الله (أي شيثا آخر يخالفه من الله أو من بدلية، وقوله، وهو كما ترى نص
على فساد قول المعتزلة يعني في أنّ أفعال العباد خيرها، وشرها بإرادة الله، وهو رد على الزمخشريّ حيث وأى الآية صريحة في خلاف مذهبه فقال معنى من يرد الله فتنته من يرد تركه مفتونا، وخذلانه فلن تملك له من الله شيئا فلن تستطيع له من لطف الله، وتوفيقه شيئاً، ومعنى لم يرد الله أن يطهر قلوبهم لم يرد أن يمنحهم من ألطافه ما يطهر به قلوبهم لأنهم ليسوا من أهلها لعلمه أنها لا تنفع فيهم، ولا تنجع، ولا يخفى تعسفه فيه كما قال: في الانتصاف كم يتلجج، والحق أبلج هذه الآية كما تراها منطبقة على عقيدة أهل السنة في أنه تعالى أراد الفتنة من المفتونين، ولم يرد أن يطهر قلوبهم من دنس الفتنة ووضر الكفر لا كما تزعم المعتزلة من أنه تعالى ما أراد الفتنة من أحد، وأراد من كل الإيمان، وطهارة القلب، وأنّ الواقع من الفتن على خلاف إرادته، وأنّ غير الواقع من طهارة قلوب الكفار مراد أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها إلى آخر ما شنع به. قوله: (والضمير للذين هادوا الخ) قيل: الأوجه أن يجعل الضمير لأولئك على التقديرين وسماعون للكذب تأكيد لما مر قيل إق الظاهر أنه تعليل لقوله لهم في الدنيا خزى الخ. أو توطئة لما بعده أو المراد بالكذب هنا الدعوى الباطلة، وفيما مز ما يفتربه الأحبار، ويؤيده الفصل بينهما، وأصل معنى السحت المحو، والمحق أطلق على الحرام لأنه ممحوق البركة يقال! سحته وأسحته أي أهلكه وأذهبه والسحت بضمتين وضم فسكون
تخفيفاً وفتحتين اسم منه وأما بفتح فسكون فمصدر أريد به المسحوت كالصيد بمعنى المصيد. قوله: (لو تحاكم كتابيان إلى القاضي الخ) تحقيق المقام كما في كتاب الأحكام للجصاص رحمه الله تعالى أنّ هذه الآية ظاهرها التخيير، وهي معارضة لقوله تعالى: {وأن احكم بينهم بما أنزل الله} [سورة المائدة، الآية: 49] فذهب قوم إلى أنّ التخيير منسوخ بالآية الأخرى وأنه كان أوّلاً مخيراً ثم أمر بإجراء الأحكام عليهم، واليه ذهب كثير من السلف، ومثله لا يقال من قبل الرأي وقيل إنّ هذه الآية فيمن لم يعقد له ذمة، والأخرى في أهل الذمة فلا نسخ إلا أن يراد به التخصيص فتأمل لأنّ من أخذت منه الجزية تجري عليه أحكام الإسلام، وقد روي هذا عن ابن عباس رضي الله عنهما قال أصحابنا أهل الذمة محمولون على أحكام الإسلام في البيوع والمواريث، وسائر العقود إلا في بيع الخمر والخنزير فإنهم يقرون عليه، ويمنعون من الزنا كالمسلمين فإنهم نهوا عنه، ولا يرجمون لأنهم غير محصنين واختلف في مناكحاتهم فقال أبو حنيفة يقرّون عليها، وخالفه في بعض ذلك محمد وزفر وليس لنا اعتراض! عليهم قبل التراضي بأحكامنا فمتى تراضوا بها، وترافعوا إلينا وجب إجراء الأحكام عليهم، واعتبر أبو حنيفة تراضيهما بأحكامنا فلم يجز الحكم عليهما بمجيء الآخر، وخالفه محمد رحمه الله تعالى في هذا فلو أسلم أحدهما لزم الآخر حكم الإسلام، وهذا مما تحقيقه في الفروع فإن أردت تفضيله فراجع كتاب الأحكام للجصاص، والذب بالذال المعجمة الدفع. قوله: (بأن يعادوك لأعراضك عنهم الخ) يعني أنّ تعليق عدم الضرر بالأعراض باعتبار ما يترتب على عدم الحكم بما يوافق هواهم من العداوة المقتضية للتصدي لضرره فيصير مآل المعنى أن تعرض عنهم فعادوك، وقصدوا ضررك فالله يعصمك منهم، وقيل عليه إنّ المصنف رحمه الله فسر العصمة في قوله تعالى: {والله يعصمك من الناس} [سورة المائدة، الآية: 67] بعصمة الروج، وهي لا تنافي المضرة، وأجيب بأن مراده هنا بإيراد هذه العبارة عدم الضرّ مطلقاً، ولم يقصد حكاية ما في الآية، وقوله فيحفظهم، ويعظم شأنهم إشارة إلى أن المراد بالمحبة ما يلزمها من حفظه هنا، وتعظيمه كما هو شأن المحبوب، وبه يرتبط بما(3/243)
قبله وينتظم معه أتم انتظام إذ هي ميل القلب، وهو في حقه تعالى غير متصوّر. قوله: (تعجيب من يحميكم من لا يؤمنون به الخ (قيل الأولى أنه تعجيب من تحكيمهم، والتولي فإن شأن التحكيم الرضا بحكم الحكم كما تثير إليه كلمة ثم الاستبعاد به، وليس هذا بخارج عن كلام المصنف رحمه الله تعالى لقوله فيما بعد أنه داخل في
حكم التعجيب لكن سوقه ليس على ما ينبغي. قوله: (وإن جعلتها مبتدأ فمن ضميرها المستكن فيه) أي في الظرف، وهو عندهم لأنّ الحال من المبتدأ لا يصح عند سيبويه، وقيل رفعها بالظرف ضعيف لعدم اعتماده وهو سهو لأنها اعتمدت على ذي الحال كما في الدرّ المصون لكن قال النحرير جعل التوراة مرفوعا بالظرف المصدر بالواو محل نظر ووجه النظر أنها تجعله جملة مستقلة غير معتمدة أو أنه لا يقرن بالواو، ولم يلتفت إلى هذا النظر المعرب، وإنما أوّل تأنيث التوراة لأنه اسم أعجمي وتاء التأنيث إنما يعتبر تأنيثها في العربي فأشار إلى أنها بعد التعريب عوملت معاملة الأسماء العربية الموازنة لها والموماة المغارة والدوداة مهملا الأرجوحة للصبيان أو صوت حركتها، وتكون بمعنى الجلبة وقد ذكره الأزهريّ فقول الطيبي لم أجده في كتب اللغة لا وجه له. قوله: (وهو عطف على يحكمونك داخل في حكم التعجيب (لأنّ التحكيم مع وجود ما فيه الحق المغني عن التحكيم، وان كان محلاً للتعجب، والاستبعاد لكن مع الإعراض عن ذلك أعجب وضمير به للكتاب وقوله: لأعراضهم إشارة إلى أن عدم الرضا بحكم الله كفر وعلى الوجه الثاني فالكفر ظاهر، وقوله: يهدي إلى الحق إشارة إلى تفسيره، وبيان متعلقه واستعارة النور للمبين ظاهرة، ويصح في يهدي، ويكشف الياء، والتاء على أنّ الضمير للتوراة قال النحرير: وهو أولى والجملة بيان للجملة أعني فيها هدي. قوله: (يعني أنبياء بني إسرائيل الخ) يعني إن خص فهو ظاهر وان عم فالمراد ما لم ينسخ منها على القول بأنّ شريعة من قبلنا شريعة لنا، وأورد عليه أنّ قوله للذين هادوا صريح في تخصيصحها ببني إسرائيل، وكذا قوله الذين أسلموا فإنّ المراد الذين انقادوا لها ولم ينسخوا أحكامها، وفيه نظر لأنه غفلة عن كونه متعلقاً بانزل فإنّ تخصيص الإنزال بهم لا يقتضي تخصيص العمل والصفة مادحة لا مقيدة كما سيأتي نعم ما ذكره جواب عن الاستدلال بهذه الآية لا مانع من حملها على وجه آخر. قوله: (صفة اجريت على النبيين الخ) تبع في هذا الزمخشريّ بناء على ظاهر كلامه وقد قيل عليه أنّ المدح إنما يكون بالصفات الخاصة التي يتميز بها الممدوح عمن دونه والإسلام لأمم الأنبياء فلا يحسن مدح النبيّ به فالوجه أنّ الصفة قد تذكر لمدحها وتعظيمها في نفسها،
والتنويه بها كما قد يراد تعظيم الموصوف، وعلى هذا الأسلوب وصف الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بالصلاح، والملائكة بالإيمان بعثاً على الاتصاف بهذه الصفة ليثبت لهم حق أخوّة المشاركة فيها، ولذا قيل أوصاف الإشراف أشراف الأوصاف وقال حسان رضي الله تعالى عنه: ما إن مدحت محمداً بمقالتي لكن مدحت مقالتي بمحمد
فلو لم نذهب إلى هذا لخرجنا عن قانون البلاغة في ذكر الإسلام بعد النبوّة، ولذا عيب
على أبي الطيب قوله:
شمس ضحاهاهلال ليلتها درّ تقاصيرها زبرجدها
فنزل عن الشمس إلى الهلال وعن الدرّ إلى الزبرجد فمضغت الألسن عرض بلاغته، ومزقت أديم صنعته اهـ وفي المفتاح إشارة إلى هذا في قوله تعالى {الذين يحملون العرش} إلى قوله {ويؤمنون} الآية قال ووجه حسن ذكره إظهار شرف الإيمان وفضله، والترغيب فيه، وذكره في التلخيص أيضاً وأورد عليه الطيبي رحمه الله تعالى كلاما واهياً ولذا تركناه، وكان القائل بأنها مادحة لا يسلم ما ذكر واليه أشار المصنف رحمه الله تعالى بقوله مدحا لهم، وأنه لا يلزم ما أورده المعترض إذ قد قصد مع المدح فوائد أخر كالتنويه بعلو مرتبة المسلمين، والتعريض بغيرهم، وكلام المصنف رحمه الله تعالى مخالف لما ذكر، وقول الزمخشري على سبيل المدح قيل المراد به مدح الصفة نفسها، وقيل المراد أنها صفة أجريت عليهم على طريق المدح دون التخصيص أو التوضيح لكن لا بقصد المدح ليلزم ما ذكرتم بل يقصد التعريض، والهدى(3/244)
بفتح فسكون الطريقة. قوله: (متعلق بأنزل) المذكور في قوله أنزلنا سابقاً، ولا يضرّ تقدّم المفعول، وصفته لأنه ليس بأجنبي فلا يحتاج إلى القول بأنه أنزل آخر مقدراً كما قيل، وأما تعلقه بهدى ونور فيلزم عليه الفصل بين المصدر ومعموله، وقوله: وهو يدل أي تعلقه بيحكم لا بأنزلنا لأنه لا يلزم من إنزالها لهم اختصاصها بهم كما مرّ، وهو جواب عما مرّ، وأنبياء الذين هادوا لا ينافي كونهم أنبياء بني إسرائيل كما مرّ لأنه على تعلقه بيحكم لا بأنزلنا أو أنّ هذا وجه آخر يدل عليه متعلق اللام فتأمّل، والربانيون المنسوبون إلى الرب هم الزهاد وقد تقدّم تحقيقه. قوله: (بسبب أمر الله) الأمر يستفاد من السين الدالة على الطلب، وقوله: بأن يحفظوا بيان لحاصل المعنى، وان أوهم أنّ ما مصدرية كما جوّزه بعضهم وقال إنه أولى لعدم احتياجه إلى تقدير العائد لأنّ التبيين بمن يعين موصوليتها عنده فقوله من كتاب الله يقتضيه
وقوله بسبب أمر الله يقتضي أنّ ضمير استحفظوا راجع للنبيين والربانيين والأحبار وجوّز رجوعه للربانيين، والأحبار فإن كان المستحفظ النبيين تعين الثاني. قوله: (رقباء لا يتركون أن ينيروا الخ) شهداء جمع شهيد بمعنى مشاهد وعدّى بعلى لضمته معنى المراقبة، وجعل الزمخشري كانوا معطوفا على استحفظوا أي بسبب كونهم أي الربانيين والأحبار على كتاب الله شهداء، والعائد ضمير عليه، والغرض من بيان السببية أنّ الباء ليست مثلها في بها ليلزم تعلق حرفي جرّ بمعنى واحد بفعل واحد بل الأولى صلة كما في حكمت بكذا، وهذه سببية، وان دخلتا على شيء واحد بالذات، وهو كتاب الله، وقوله: يبينون يشير إلى أنّ الشهادة هنا مستعارة للبيان لأن الشاهد يبين ما يشهد عليه. قوله: (نهي للحكام أن يخشوا غير الله الخ) المراد بالحكام الحكام بأحكام الدين مطلقا أو باحكام التوراة فيكون حكاية عما قيل لهم ومعنى يداهنوا يحكموا بما يطلبون لأجلهم من المداهنة، وهي المصانعة والملاينة، وهو معنى مجازي كما في الأساس لأنّ السير ونحوه إذا دهن لأن، وقوله: تستبدلوا إشارة إلى أنه مجاز عما ذكر، ولولاه لدخلت الباء على الثمن، وقد مرّ تحقيقه، وقوله: (مستهيناً به الخ الا يقال كان الظاهر أن يقال أو طلبا لنفع ليوافق ما قبله قيل هذا لأنّ تقديم النفع على حكم الله إهانة له فلذا أدرجه فيه لأنه إنما خصه به ليظهر ترتب الكفر عليه لأنّ مجرد الحكم بخلافه لا يقتضي الكفر. قوله: (ولذلك وصفهم بقوله الخ الما وصف في هذه الآيات من لم يحكم بالكافرين، ثم بالظالمين، والفاسقين اختلفوا فيه فعند ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنها في أهل الكتاب، وأنّ قوله ومن لم يحكم بما أنزل الله مخصوص بهم، وأنّ الخطاب في قوله فلا تخشوا لهم، وعن الشعبي أنّ الآية التي فيها الكافرون في المسلمين، والخطاب في فلا تخشوا لهم، ويلزمه أن يكون المسلمون أسوأ حالاً من اليهود والنصارى إلا أنه قيل إنّ الكفر إذا نسب إليهم حمل على التشديد والتغليظ، والكافر إذا وصف بالظلم والفسق أشعر بعتوّه، وتمرّده فيه فمراد المصنف رحمه الله تعالى أنه لحكمهم بغيره وصفوا بهذه الأوصاف الثلاثة، وأن كان الموصوف واحداً
باعتبارات مختلفة فلإنكارهم حكمه وصفوا بالكافرين، ولوضعهم الحكم في غير موضعه وصفوا بالظالمين، ولخروجهم عن الحق وصفوا بالفاسقين أو أنهم وصفوا بها باعتبار أطوارهم، وأحوالهم المنضمة إلى الحكم فتارة كانوا على حال تقتضي الكفر، وتارة على أخرى تقتضي الظلم أو الفسق، وقوله: أو لطائفة معطوف على باعتبار أي أو كل واحدة من الصفات لطائفة مخصوصة فيكون قوله فأولئك هم الكافرون للمسلمين إما تغليظاً أو إذا استحلوا ذلك. قوله: (وفرضتا على ثيهود الخ) أي فكتبنا مجاز بمعنى قدرنا وفرضنا، وكان القصاص في شريعتهم متعيناً عليهم كما صرّح به شرح المواقف فقوله، ومن تصدق به فهو كفارة له مما زيد في شريعتنا بالنسبة إلينا فلا منافاة بينهما وفيها متعلق بكتبنا أو حال أو صفة مصدر ومحذوف، والجار والمجرور متعلق بمحذوف عامّ أو خاص أي مأخوذة أو مقتولة أو مقتصة وفي كل يقدر ما يتاسبه، وقرأ الكسائيّ العين وما عطف عليه بالرفع وحمزة وعاصم بنصب الجميع وأبو عمرو، وابن كثير وابن عامر بالنصب فيما عدا الجروح فرفعوها. قوله: (جمل معطوفة على أنّ وما في حيزها الخ) في توجيه الرفع اختلاف منه(3/245)
ما ذكره المصنف رحمه الله تعالى تبعاً للزمخشري قال أبو علي الفارسي: الواو عاطفة جملة اسمية على جملة أنّ النفس بالنفس لكن من حيث المعنى لا من حيث اللفظ فإنّ معنى كتبنا عليهم أنّ النفس بالنفس قلنا لهم النفس بالنفس فالجملة مندرجة تحت ما كتب على بني إسرائيل، وجعله ابن عطية على هذا القول من العطف على التوهم، وهو غير مقيس، وقال الزمخشري الرفع للعطف على محل أن النفس لأنّ المعنى وكتبنا عليهم النفس بالنفس إما لإجراء كتبنا مجرى قلنا، واما لأنّ معنى الجملة التي هي النفس بالنفس مما يقع عليه الكتب كما تقع عليه القراءة تقول كتبت الحمد لله، وقرأت سورة أنزلناها فقال أبو حيان هذا ثاني توجيهي أبي علي رحمه الله تعالى، إلا أنه جعله من العطف على المحل، وليس منه لأنّ العطف على المحل في مواضع ليس هذا منها لأنا لا نقول أنّ النفس بالنفس في محل رفع لأن طالبه مفقود بل أنّ وما في حيزها بتأويل مصدر منصوب ورذ بأنّ الزمخشري لم يعن أنّ أنّ، وما في حيزها في محل عطف عليه المرفوع حتى يرد عليه ما ذكر إنما عني إنّ محله الرفع قبل دخولها فروعي العطف عليه كما روعي في اسم أنّ المكسورة وقد سبقه إلى هذا الردّ أو البقاء، وجواز العطف على محل اسم أن المفتوحة كالمكسورة ذكره ابن الحاجب، وغيره من النحاة وهو الصحيح، وقد ردّ على ابن الحاجب قوله: إنه لم ينبه عليه بأنهم صرحوا به، وقالوا إنه أكثر ما يكون بعد علم أو ما في معناه كقوله:
والا فاعلموا أنا وأنتم بغاة مابقينافي شقاق
وبهذا علم أنّ قول النحرير: ولما كان العطف على المحل إنما يجوز في أن المكسورة
دون المفتوحة نزل المفتوحة هنا مع الاسم، والخبر منزلة جملة من المبتدأ، والخبر ليتبين كون أنّ مع الاسم في محل الرفع مبتدأ، وذلك إما بإجراء كتبنا مجرى قلنا أو بتجويز إيقاع الكتبة على الجملة حكاية مختل من وجوه.
أحدها: أن إنّ المفتوحة يعطف على محل اسمها كالمكسورة سواء في الجواز، والاختلاف، وزعم أنه لا يجوز.
والثاني: أنه لا فرق بين إجراء كتب مجرى قال، والحكاية بها فإنها لا تكون إلا بإجرائها مجرى القول.
الثالث: أنه لو كان مراده العطف على المحل لم يحتج إلى إجراء كتب مجرى القول،
ولا مساس له ولو أجرى مجرى القول للزم حكاية المفرد به، وفتح أن بعده، وكلاهما مخالف لمقتضى هذا الإجراء فتوجيهه بما ذكر بما مرّتعسف.
وقوله: على محل أنّ النفس يأباه لأنه حيمثذ على محل اسيم أن.
(وعندي) أن معنى كلامهم هنا ليس ما ذكروه بل مرادهم أن كتب ينصب مفعولاً، وليس
مما يعمل في الجمل فكيف صح أن يعطف على مفعوله جملة على قراءة الرفع، ولا بد من ملاحظة العطف عليه لأنه من جملة المكتوب عنده كما هو المتبادر من السياق، وكما دلت عليه قراءة النصب فوجهه بأنه أعمل في الجملة إما لتضمينه القول أو لأنه اعتبر فيه الحكاية لكونه بمعناه، ومما يحكى به، وهذا مبنيّ على الخلاف بين البصريين والكوفيين هل الحكاية تختص بالقول أو تجري في كل ما يفيد معناه فقول المصنف رحمه الله تعالى باعتبار المعنى يعني باعتبار معنى كتبنا، وما تضمنت من القول الذي يصحح وقوع الجمل بعدها حتى لو قيل كتبنا عليهم النفس بالنفس أو إنّ النفس بالكسر صح ذلك فلوحظ هذا، وبملاحظته يصير المعطوف عليه في معنى الجملة أيضا، ولما كان الوجهان المذكورأن في الكشاف متقاربين جعلهما المصنف قولاً واحدا فافهمه فانه مما تفرّد به كتابنا، وأظنك لا تراه في غيره فإنهم خبطوا فيه خبط عشواء. قوله: (أو مستأنفة) يعني أنّ هذه جمل اسمية معطوفة على الجملة الفعلية فالعين مبتدأ، أو بالعين خبره، وكذا ما بعده فيكون هذا ابتداء تشريع وبيان حكم جديد غير مندرج فيما كتب في التوراة، وقيل: إنه مندرج فيه أيضاً على هذا والتقدير وكذلك العيق بالعين الخ لتتوافق القراءتان.
قال الحلبي وهذا مراد الزمخشري بالاستئناف ومنهم من حمل الاستئناف على المتبادر
منه، وقال إنه جواب سؤال كأنه قيل ما حال غير النفس فقال العين بالعين الخ. قوله:) العين حاضية الثهاب / ج 3 لم م ا 3
مفقوءة بالعين الخ) أي يقدر كون خاص مناسب لما وقع خبرا عنه فإنّ الفقء بفاء وقاف، وهمزة إعماء العين، واخراجها لغة والجذع بجيم، وذال معجمة، وعين مهملة قطع الأنف(3/246)
وقد يستعمل لغيره والصلم بالصاد المهملة، واللام والميم قطع الإذن والقلع معروف في السن، ومنهم من قدر الكون المطلق، وقال إنه مرادهم، وكأنّ هذا بيان لمآل المعنى. قوله: (أو على أنّ المرفوع منها الخ) يعني أنّ العبن عطف على الضمير المرفوع المستتر في الجارّ والمجرور الواقع خبرا، والجار والمجرور بعدها حال، وضعف هذا الوجه بأنه يلزمه العطف على الضمير المرفوع المتصل من غير فصحل، ولا تأكيد، وهو لا يجوز عند البصريين إلا ضرورة، وأما قوله تعالى: {ما أشركنا ولا آباؤنا} [سورة الأنعام، الآية: 48 ا] فقال سيبويه رحمه الله تعالى أنه جاز للفصل بلا لإقامته مقام التوكيد، واعترض عليه أبو علي بأنّ هذا إنما يستقيم لو كان الفاصل قبل حرف العطف أما إذا وقع بعده فلا، وتنظير سيبوبه له بحضر القاضي امرأة غير متجه وردّه ابن عطية بأنّ الفصل معتبر بين المعطوف والمعطوف عليه وقد حصل هنا، وأجاب عنه المصنف رحمه الله تعالى بأنه مفصول تقديرا، إذ أصله النفس مأخوذة أو مقتصة هي بالنفس إذ الضمير مستتر في المتعلق المقدم على الجار والمجرور بحسب الأصل، وإنما تأخر بعد الحذف وانتقاله إلى الظرف، وهو يقتضي أنّ الفصل المقدر يكفي للعطف وفيه نظر وعلى هذا يقدر المتعلق عاما ليصح العطف إذ لو قدر النفص مقتولة بالنفس والعين لم يستقم المعنى وإنما جعلها حالاً مبينة، ولازمة لأنه لا معنى لقولنا العين مأخوذة حتى يقال بالعين وهو ظاهر وقيل على هذا أنه بعيد من جهة المعنى لأنه يكون المعنى أنّ النفس هي، والعين مأخوذة بالنفس حال كونها قصاصاً في العين اهـ، وهو مدفوع بأدنى تأمل. قوله: (أي دّات قصاص الخ الأنه مصدر كالقتال، وليس عين المخبر عنه فيؤوّل بأحد التأويلات المعروفة في أمثاله، وقوله: وقرأه الكسائي أيضاً أي كما رفع ما قبله، وأما غيره من القراء المذكورين فرفعه وحده، وقوله: على أنه إجمال للحكم أي لحكم الجروح بعد ما فصل حكم غيرها من الأعضاء لا أنه إجمال لما قبله كما يتوهم، وقيل عليه إنه لا اختصاص لكونه إجمالاً للحكم بقراءة الرفع، وقد يقال مراده تنبيها على أنه إجمال، وما قبله تفصيل فلذا ترك العطف عليه وأما ما قيل إنه إذا نصب كان الظاهر أنه لا يشمل ما قبله لتغاير المعطوف والمعطوف عليه بخلاف ما إذا رفع ففاسد معنى، ووجه القراآت ظاهر أما نصب الجميع فواضح، وأما رفع ما بعد لنفس فلأنها قسم آخر مقابل له لأنّ المتلف إما نفس أو غيرها، وأما رفع الجروح فلأنّ فيما قبل إزالة لنفس أو عضو
وهذا ليس كذلك.
تنبيه: قال ابن حنبل رحمه الله تعالى: لا تقتل الجماعة بالواحد لأنه تعالى قال: {النفس بالنفس} وأجيب بأنه تخصصه حكمته، وهي صون الدماء لأنه لو كان كذلك قتلوا مجتمعين حتى يسقط عنهم القصاص قال ابن العربي: وهو جيد إلا أنّ كون الحكمة مخصصة غريب. قوله: (من المستحقين الخ) أي من المستحقين للقصاص بدليل ما بعده. قوله: (وقيل للجاتي الخ) قال النحرير وهذا يدل على أنّ خبر المبتدأ مجموع الشرط، والجزاء حيث لم يكن العائد إلا في الشرط، وقيل: إنّ في الجزاء عائداً أيضا باعتبار أنّ هو بمعنى تصدّقه فيشتمل بحسب المعنى على ضمير المبتدأ فاستدلاله غير متين وليس بذاك لأنه مبنيّ على مذهب الأخفش الذي قررّناه في قوله تعالى: {والذين يتوفون منكم} [سورة البقرة، الآية: 234] الآية في سورة البقرة، وقوله يسقط عنه ما لزمه تفسير للكفارة على هذا الوجه. قوله: (وقرئ فهو كفارته له أي فالمتمدّق الخ) يعني أن ضمير على هذه القراءة للمتصدق لا للتصدق.
وقوله: (التي يستحقها) أخذه من الإضافة المفيدة للاختصاص، واللام المؤكدة لذلك، وكونها لا ينقص منها شيء لأن بعض الشيء لا يكون ذلك الشيء وهو تعظيم لما فعل حيث جعله مقتضياً للاسنحقاق اللائق من غير نقصان ثم لا خفاء في أن هذا يكون ترغيبا في العفو ونظره الزمخشري بقوله تعالى: {فأجره على الله} [سورة الشورى، الآية: 40] في الدلالة على تعظيم الفعل الذي استحق الأجر، وقيل الضمير يعود على المتححدق، ولكن المراد به الجاني نفسه، ومعنى كونه متصدّقاً إنه إذا جنى جناية لا يشعر بها أو لا تثبت فإذا اعترف كان اعترافه بمنزلة التصدق، وهذا منقول عن مجاهد رحمه الله تعالى، ومن الناس من لم يقف على هذا فتصلف بإيراده من عند نفسه. قوله: (وأتبعناهم على آثارهم الخ) قفينا من قفا يقفوا أي تغ، وتعلق الجاز به قالوا لتضمينه معنى جئنا به على آثارهم قافيا لهم فهو متعد(3/247)
لواحد بالباء، والتضعيف ليس للتعدية لتعديه لواحد قبل التضعيف قال تعالى: {ولا تقف ما ليس لك به علم} يقال قفا فلان أثر فلان إذا تبعه قال الزمخشريّ: إنه متعد لمفعولين أحدهما بنفسه، والآخر بالباء، والمفعول الأوّل محذوف، وعلى آثارهم كالسادّ مسذه لأنه إذا قفا به على أثره فقد قفاه به فنحا به إلى أنّ التضعيف عداه إلى الثاني بالباء، وتبعه المصنف رحمه الله كذا قيل وفيه نظر.
قوله: (مفعول ثان عدى إليه الفعل بالباء (قيل عليه هذا، وإن كان صحيحا من حيث إن فعل
تد جاء بمعنى فعل المجرّد كقدر، وقد إلا أن بعضهم قال إن تعدية المتعدي إلى واحد لثان بالباء لا تجوز سواء أكان بالهمزة أو بالتضعيف ورد بأنّ الصواب أنه جائز لكنه قليل، وقد جاء منه ألفاظ قالوا صك الحجر الحجر وصككت الحجر بالحجر، ودفع زيد عمراً ودفعت زيداً بعمرو أي جعلته دافعا له، وقد مرّ أنه لا حاجة إلى هذا ومصدقا حال من عيسى مؤكدة فإنه من لازم الرسول صلى الله عليه وسلم هـ قوله: (وقرئ بفتح الهمزة (قيل وجه صحته أنه اسم أعجمي فليس بأس بأن يكون على ما ليس من أوزان العرب وهو أفعيل أو فعليل بالفتح، وأمّا افعيل بالكسر فله نظائر كإبزيم وإحليل وغيره، وقوله: في موضع النصب لأنه جملة، وقوله عطف عليه أي على قوله فيه هدى، ونور وعطف الحال المفردة على الجملة الحالية، وعكسه جائز لتأوليها بمفرد ولو اتترنت بالواو كما تقدم. قوله: (ويجوز نصبهما على المفعول له الخ) أي كما يجوز فيه الحالية وعطفه على الحال، وجعله بمعنى هاديا يجوز أن يكون مفعولاً لأجله معطوفا على مفعول له آخر مقدراً نحو إثباتا لنبوّته، وارشاد ونحوه أو هو معلل لفعل محذوف عامل فيه أي وهدى، وموعظة للمتقين آتيناه ذلك، وعادة الزمخشرقي في أمثاله تقديره مؤخراً لأن حدّفه وابقاء معموله يقتضي الاهتمام بالمعمول، وقوله: وليحكم عطف عليه، وأظهرت اللام فيه لاختلاف فاعليهما لأنّ فاعل المقدر ضمير الله وفاعل هذا أهل الكتاب، وتدر عليه ليصح كونه علة لإيتاء عيسى صلى الله عليه وسلم ما ذكر. قوله: (وعلى الأوّل) أي كونه حالاً إذا لا تعطف العلة على الحال، وأمّا تجويز عطفه عليه لأنه في معنى العلة فضعيف وقراءة حمزة بلام الجرّ ونصب الفعل، وغيره قرأ بلام الأمر، وجزمه مع كسر اللام وتسكينها. قوله: (وقرئ وان ليحكم الخ (جوّزوا في موصولة الرفع، والنصب على أنه حال، والخبر كقوله كذا صححه شراح الكشاف، وهي موصول حرفيّ لأن حروف المصدر تسميها النحاة بذلك لأنها تتم بما بعدها، ووصلها بالأمر مذهب سيبويه رحمه الله، وأورد عليه أنه إن قدر هنا، وآتينا. الحكم زال الطلب بالكلية وان قدر وآتيناه الأمر بالحكم فليس للأمر لفظ، وماذة مذكورة يسبك منها، ويكون معنى أمرته بأن قم بالأمر بالقيام وأجيب بأنّ الزمخشرفي حققه في سورة نوج في قوله: {أن أنذر قومك} [سورة نوح، الآية: ا] إذ قال أن الناصبة للمضارع، والمعنى إنا أرسلناه بأن أنذر أي بأن قلنا له أنذر أي بالأمر بالإنذأر يعني أنه إذا سبقه لفظ الأمر، وما في معناه نحو رسصت لا يحتاج إلى تقدير القول لأنّ مال العبارات أعني أمرته بالقيام وأمرته بأن قم أو أن قم بدون الباء وأحد، وان لم يسبقه فلا بد من تقديره لئلا يبطل الطلب ففي ما نحن فيه يقدر وأمر نافلاً يحتاج إلى إضمار القول، ونيما تلاه يكون التقدير، وأنزلنا إليك قول احكم أي الأمر بالحكم
لأنّ المنزل الأمر بالحكم لا الحكم، ولو قيل: إنّ التقدير وأنزلنا إليك الأمر بالحكم، وأرسلناه بالأمر بالإنذار من دون إضمار القول، وليس من مدلول جوهر الكلمة بل من الأداة فيقدر المصدر تبعا وفي أمر المخاطب تحقيقا لكان حسنا، وهذا كما قدر في أن لا تزني خير عدم الزنا فيقدر مصدر من النفي وأمّا إذا صرّج بالأمر فلا يحتاج إلى تقدير مصدر الطلب أيضاً هذا، ولو قدر أمرته بالأمر بالقيام أي بأن يأمر نفسه مبالغة في الطلب لم يبعد عن الصواب، ولما فهم منه ما فهم من الأوّل، وأبلغ استعمل استعماله من غير ملاحظة الأصل، وهذا تدتيق بديع من إحسان صاحب الكشف، وبه اندفع كثير من الأسئلة على أن المصدرية، والتفسيرية كما في المغني، وشروحه، وهذا المصدر معطوف على الإنجيل أي آتيناه الإنجيل، والحكم به. قو! هـ: (عن حكمه أو عن الإيمان الخ) علق به عن لأن الفسق معناه الخروج كما مرّ، والخروج عن الإيمان(3/248)
إنما يكون بما يوجب الكفر، وهو الاستهانة بحكم الله فقوله إن كان تيد للتقدير الثاني. قوله: (والآية تدل على أنّ الإنجيل الخ (لأنه تعالى أوجب العمل بما في الإنجيل، وهذا مما اختلف فيه هل شريعة عيسى صلى الله عليه وسلم ناسخة لشريعة موسى عليه الصلاة والسلام، والإنجيل مشتمل على أحكام أم لا وهو مأمور بالعمل بالتوراة، وشريعة موسى-لمجب! المعروف الأوّل، ويشهد له هذه الآية وغيرها، وحديث البخاري: " أعطى أهل التوراة التوراة فعملوا بها وأهل الإنجيل الإنجيل فعملوا به "، وفي الملل، والنحل للشهرستاني جميع بني إسرائيل كانوا متعبدين بشريعة موسى صلى الله عليه وسلم مكلفين التزام أحكام التوراة، والإنجيل النازل على المسيح لا يختص! أحكاما، ولا يستنبطن حلالاً، وحراما ولكنه رموز وأمثال، ومواعظ، وما سواها من الشرائع، والأحكام فمحال على التوراة، وكانت اليهود لهذه القصة لم ينقاد والعيسى غ! رو اهـ وقوله:) وحملها الخ (أي تأويل هذه الآية بما ذكر، وقيل عليه إنه لا يقتضي نسخ اليهودية إلا إذا كان أهل الإنجيل جميع بني إسرائيل، وليس في الآية تصريح به فتأمّل. قوله: (فاللام الأولى للعهد والثانية للجنس (كون اللام الأولى للعهد ظاهر إذ المراد فرد معين من الكتب وأما كون الثانية للجنس فبادعاء أن ما عدا الكتب السماوية ليست كتبا بالنسبة إليها ويجوز أن يكون للعهد نظراً إلى أنه لم يقصد إلى جنس مدلول لفظ الكتاب بل إلى نوع مخصوص منه هو بالنظر إلى مطلق الكتاب معهود بالنظر إلى وصف كونه سماويا غايته أن عهديته ليست إلى حذ الخصوصية الفردية بل إلى خصوصية نوعية أخص من مطلق الكتاب، وهو ظاهر، ومن الكتاب السماوي حيث خص بما عدا القرآن، وذكر مثله في لفظ الكلمة. قوله: (ورقيباً على سائر الكتب بحفظه الخ) المهيمن في اللغة الرقيب قال:
إنّ الكتاب مهيمن لنبينا والحق بعرفه ذوو الألباب
والحافظ قال:
مليك على عرس السماءمهيمن لعزته تعنوالوجوه وتسجد
والشاهد أيضاً وهاؤه أصلية وفعله هيمن وله نظائر ببطر وحيمر وسيطر، وزاد الزجاجي
بيقر، ولا سادس لها، وقيل إنها مبدلة من الهمزة، ومادّته من الأمن كهراق، وقال المبرد وابن قتيبة أنّ المهيمن أصله مؤمن، وهو من أسمائه تعالى فصغر، وأبدلت همزته هاء، وخطئ فيه حتى نسب إلى الكفر لأنّ أسماء إلله تعالى لا تصغر، وكذا كل اسم معظم شرعا. قوله: (وقرئ على بنية المفعول) أي بفتح الميم وهي شاذة رويت عن مجاهد وابن محيصن، وعلى هذه القراءة لا يكون فيه ضمير، وضمير عليه يعود إلى الكتاب الأوّل، وعلى قراءة كسر الميم فيه ضمير يعود إلى الكتاب الثاني، ومحافظة الحفاظ بتوفيق الله لهم فهي محافظة من الله أيضا، وقوله: بحفظه عن التغيير أي بسبب أن القرآن محفوظ عن التغيير، وهو شاهد على صحة غيره من الكتب السماوية فكان رقيباً عليها دالاً على ما فيها من الأحكام والتوحيد، وليس المعنى أنه حفظ الكتب عن التغيير حتى يعترض بأنه وقع فيها ذلك كما نطق به القرآن فلا وجه لكونه حفظها منه كما توهم. قوله: (فعن صلة لا تتبع الخ الأن أهواءهم مائلة وزائغة عن السبياى المستقيم فاتباعها انحراف وميل أو هو حال متعلق بمائلاً أو عادلاً أو حال من أهواءهم أي منحرفة، وتقديره التضمين بما ذكر أحد الطرق فيه، وقد مرّ تفصيله في سورة البقرة فارجع إليه وقوله أيها الناس إشارة إلى عموم الخطاب الشامل لما مضى، ومن بعدهم. قوله: (وهي الطريق إلى الماء (وجه الشبه بينها وبين الدين ظاهر فهو استعارة تحقيقية، وقوله الأبدية إن كان من وجه الشبه يكون وجهه في المشبه أقوى، وقال الراغب سميت الشريعة تشبيها بشريعة الماء من حيث إن من شرع فيها على الحقيقة والصدقة روي، وتطهر، وأعني بالريّ ما قال بعض الحكماء كنت أشرب فلا أروي فلما عرفت الله رويت بلا شرب، وبالتطهير ما قال تعالى: {ويطهركم تطهيرا} [سورة الأحزاب، الآية: 33] والمنهاج الطريق الواضح، والعطف باعتبار
جمع الأوصاف، وقيل المنهاج الدليل الموصل إلى معرفة الدين. قوله: (واستدلّ به الخ الأنه الظاهر(3/249)
من جعله لكل شرعة لأنّ الخطاب يعم الأمم إذ المعنى لكل أمّة لا لكل واحد من أفراد الأمم فيكون لكل أمّة دين يخصه، ولو كان متعبداً بشريعة أخرى لم يكن ذلك الاختصاص قيل، والجواب بعد تسليم دلالة اللام على الاختصاص الحصري منع الملازمة لجواز أن نكون متعبدين بشريعة من قبلنا مع زيادة خصوصيات في ديننا بها يكون الاختصاص، وفيه أنه لا حاجة في إفادة الحصر لما ذكر مع تقدم المتعلق، وأيضا إنّ الخصوصيات المذكورة لا تنافي تعبدنا بشرع من تبلنا لأنّ القائلين به يدّعون أنه فيما لم يعلم نسخة، ومخالفة ديننا له لا مطلقاً إذ لم يقل به أحد على الإطلاق، ولذا جمع بين أضراب هذه الآية وبين ما يخالفها نحو اتبعوا ملة إبراهيم بأن الاتباع في أصول الدين، ونحوها. قوله: (جماعة متفقة على دين واحد الخ (قيده بذلك ليلا ثم ما قبله وجوز الزمخشريّ أن تكون الأمة بمعنى الملة بتقدير مضاف أي ذوي ملة وارتكبه وإن كان خلاف الظاهر لأنه أوفق بقوله تعالى: {لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا} [سورة العائدة، الآية: 48] والمعنى لو شاء أن يجعلكم أمة لجعلكم لكنه لم يشأ، وعبر عن ذلك بقوله ليبلوكم أي أراد ليبلوكم، وقدر أراد دون شاء ليصح تعلق اللام به، وتقدير مفعول شاء مأخوذاً من الجواب هو المطرد، وأمّا خلافه فقد ردّه بعضهم، وقد تقدّم بسط الكلام فيه، وأجبر بالهمز من الجبر والقهر أفصح من جبر. قوله: (من الشرائع المختلفة الخ) إشارة إلى أنّ اختلاف الشرائع ليس بداء بل لحكم الهية يقتضيها كل عصر، والزيغ العدول عن الحق، والتفريط في العمل إهماله والتقصير فيه، وحيازة فضل السبق لأنه يصير سالكا سنة يشرك من بعده في أجرها، والسابقون السابقون أولئك المقرّبون، وقوله انتهازاً للفرصة أي اغتنام ما يمكن قال:
انتهزالفرصة أنّ الفرصة تصميرأن لم تنتهزها غصه
وقوله: (تعليل الأمر الغ (قيل أي لطلبه لا للزومه لظهور أن ليس المعنى أنه يلزمكم الاستباق لأجل أنّ مرجعكم إلى الله بل إني آمركم به، أو أنه واجب عليكم لهذه العلة، وفيه نظر لأنه لا معنى للوجوب سوى اللزوم فما المانع من اعتباره. قوله: (استئناف فيه ثعليل الأمر بالاستباق) أي أنه جواب سؤال مقدر بعد ما قرّر أنّ اختلاف الشرائع لاختبار المطيع الناظر
للحكمة أو المعتقد أنّ لها حكمة، وغيره ممن يتبع هواه فعلة مبادرتهم إلى الطاعة أنّ مرجعهم إلى الآمر المثيب لمن أطاع المعاقب لمن عصى، وقيل إنها واقعة جواب سؤال مقدر أي كيف يعلم ما فيها من الحكم فأجاب بأنكم سترجعون إلى الله وتحشرون إلى دار الجزاء التي تنكشف فيها الحقائق، وتتضح الحكم فلهذا تضمن الوعد والوعيد وقوله للمبادرين والمقصريت لف، ونشر مرتب. قوله: (بالجزاء الفاصل) يعني أنّ الأنباء مجاز عن المجازاة لما فيها من تحقق ما ذكر. قوله: (عطف على الكتاب الخ) وقد مرّ تحقيق دخول المصدرية على الأمر ونون أن احكم فيها الضم والكسر، وأمرنا اسم مبتدأ وأن احكم خبره، ومن توهم أنه فعل وأن تفسيرية فقد أخطأ لأنه كما في الدر المصون لم يعهد حذف المفسر بأن قيل، ولو جعل معطوفا على فاحكم من حيث المعنى، والتكرير لإناطة قوله: {واحذرهم أن يفتنوك} كان أحسن، وهو تكلف لأن أن مانعة عن العطف كما في الكشف والحديث المذكور أخرجه ابن أبي حاتم، والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس رضي الله عنهما. قوله: (يعني ذنب التولي الخ) يعني المراد ببعض الذنوب بعض مخصوص، والتعبير به يقتضي أنّ لهم ذنوباً كثيرة مذا بعضها، والتعبير بالبعض المبهم لتعظيمه كما أن التنوين يذكر للتعظيم لكونه دالاً على تبعيض مبهم فكما دل التنوين عليه دل لفظ بعض عليه كما في بيت لبيد، والتعظيم هنا بمعنى عده عظيما مهولاً ويذكر للتعظيم الذي هو ضد التحقير، ولقد تلطف الشاعر في قوله:
وأقول بعض الناس عنك كناية خوف الوشاة وأنت كل الناس
وهو استعارة تمليحية لا تهكمية، ومن لم يدقق النظر قال بعض بمعنى كل، وهو من الأضداد. قوله: (أو يرتبط) هو من معلقة لبيد المشهورة التي أوّلها:(3/250)
عفت الديارمحلها فمقامها بمنى تأبد غولها فرجامها
وقبله:
أو لم تكن تدري نوار بأنني وصال عقد حبائل جذامها
ترّاك أمكنة إذا لم أرضها أويرتبط بعض النفوس حمامها
وترّاك صيغة مبالغة خبر بعد خبر أو بدل، وجذأم بجيم وذال معجمة بمعنى قطاع.
قال ابن النحاس في شرحه المعنى أني أترك الأمكنة إذا رأيت فيها ما أكره إلا أن يدركني الموت فيرتبط نفسي، ويحبسها والحمام الموت وقيل القدر الذي قدر وجزم يرتبط عطفا على أرض وقيل إنه مرفوع أو منصوب على معنى إلا أن وسكن تخفيفا أو ضرورة، ولا داعي إليه وقصد ببعض النفوس نفسه إلا أنه عبر به لتعظيمه حتى كأنه لا يمكن تعيينه. قوله: (الذي هو الميل والمداهنة في الحكم) مز أن المداهنة الموافقة، والملاينة وال! راد بالجاهلية الملة الجاهلية قدره لأجل التأنيث والمراد متابعة الهوى لأن الملة تطلق على الحق، والباطل وقدر بعضهم في قوله طلبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أي طلب بعضهم، وهم قريظة، وقيل بنو النضير على ما ذكره شراح الكشاف حيث قالوا بنو النضير إخواننا فإن تتلوا منا قتيلاً أعطونا سبعين وسقا من تمر، وان قتلنا أخذوا منا مائة وأربعين وسقا وأروش جراً حتنا على النصف من أروشهم فاحكم لنا بمالهم يعني بالتفاضل فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: " القتلى بواءدا أي سواء، وقولى: دزالمجوا رسول الله " أي من رسوق الله جمؤ أو ضمن معنى سألوا. قوله: (وقرئ برفع الحكم على أنه مبتدأ ويبغون خبره والراجع محذوف (وقيل الخبر محذوف، وهو صفته أي حكم يبغون قال ابن جني ليست هذه القراءة ضعيفة لكن غيرها أقوى منها، وقد حذف العائد من الخبر كما حذف من الصفة والصلة كقوله: قدأصبحت أم الخيارتدعي عليئ ذنباكله لم أصنع
وقال أبو حيان حسنه هناك الفاصلة فصار كالمشاكلة فقد علمت أنّ فيه خلافا وبعضهم منعه وقال إن هذه القراءة خطأ وليس كما قال، وهذه قراءة ابن وثاب والأعرج وأبي عبد
الرحمن، وقوله: (وقرئ أفحكم الجاهلية) يعني بفتحتين، وقراءة الخطاب على الالتفات. قوله: (اي عندهم واللام الخ) عندهم تفسير لقوله: {لقوم يوقنون} أي عند المؤمنين لا أحد أحسن حكما من الله، وليس مراده أنّ اللام بمعنى عندكما في الدرّ المصون فإنه ضعيف بل هو بيان لمحصل المعنى بدليل ما بعده، وإذا كانت للبيان تعلت بمحذوف كما في سقيا لك، وهيت لك أي تبين لك، وظهر أي مضمون الاستفهام الإنكاري الذي بمعنى النفي يذكر لقوم يوقنون كما أشار إليه المصنف، وقيل إنها متعلقة بحكما، وإنما لم يجعل اللام صلة لأنّ حسن حكم الله لا يختص بقوم دون قوم، وقيل هي على أصلها، وانها صلة أي حكم الله للمؤمنين على الكافرين أحسن الأحكام وأعدلها نقله الطيبي، وهذه الجملة حالية مقرّرة لمعنى الإنكار السابق. قوله: " يماء إلى علة النهي الخ) يعني أنها جملة مستأنفة تعليلا للنهي قبلها، وقال الحوفي إنها صفة أولياء، والأوّل هو الظاهر، وضمير بعضهم يعود إلى اليهود، والنصارى على سبيل الإجمال، والمعنى دال على أن بعض النصارى أولياء لبعض منهم، وبعض اليهود أولياء لبعض منهم، ولا حاجة إلى تقدير لأنّ اليهود لا يوالون النصارى كالعكس ويشير إليه قول المصنف رحمه الله لاتحادهم في الدين. قوله:) وهذا للتشديد الخ الأنه لو كان منهم حقيقة لكان كافراً، وليس بمقصود، وقوله: " لا تتراءى ناراهما " حديث أخرجه أبو داود والنسائي عن جرير بن عبد الله وهو أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث سرية إلى خثعم فاعتصم ناس بالسجود فأسرع فيهم القتل فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فأمر لهم بنصف العقل وقال " أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين " قالوا يا رسول الله، ولم قال " لا تراءى نارهما " وفي النهاية الترائي تفاعل من الرؤية يقال تراءى القوم إذا رأى بعضهم بعضاً، واسناد الترائي إلى النار مجاز كقولهم داري تنظر إلى دار فلان أي تقابلها، ودور متناظرة يقول ناراهما مختلفان هذه تدعو إلى الله، وهذه تدعو إلى الشيطان فكيف يتفقان " وثراءى " بتاء واحدة رواية، وأصلها تتراءى بتاءين حذفث
إحداهما تخفيفا، والمعنى لا ينبغي لمسلم(3/251)
أن ينزل بموضع إذا أوقدت فيه ناره تظهر لنار المشرك إذا أوقدها في منزله، ولكن ينزل مع المسلمين في دارهم وهذا المعنى الذي فسره به متعين وإلا لم يكن جوابا لسؤالهم، وفي الكشف إن ما وقع في الفائق من أنّ قوما من أهل مكة أسلموا، وكانوا مقيمين بها قبل الفتح فقال لمجرو: " أنا بريء من كل مسلم مع مشرك) فقيل لم يا رسول الله قال: " لا تراءى ناراهما " أي يجب أن يتباعد بحيث إذا أوقدت ناران لم تلح إحداهما للأخرى أظهر مما في النهاية، وقوله الموالي لهم أي جنس هؤلاء ولذا جمع ضميره. قوله: (أي الذين ظلموا أنفسهما لخ) هذا تعليل آخر يتضمن عدم نفع موالاتهم بل ترتب الضرر عليها، وقوله: (يعني ابن أبز الخ) هم المنافقون فالمرض بمعنى النفاق، وقوله: (يسارعون فيهم) عدي بفي، وأصل تعديته بعلى ولذلك فسره الزمخشرفي بينكمشون بمعنى يسرعون أيضا لأنه متعد بفي لكن تركه المصنف لكونه تفسيرا بالأخفى، وإنما عدل عنه إشارة إلى اختلاطهم بهم ودخولهم فيهم فعداه بها لتضمنه معنى الدخول والدائرة أصلها الخط المحيط بالسطح استعيرت لنوائب الزمان بملاحظة إحاطتها، واستعمالها في المكروه والدولة ضمذها، وقد ترد بمعنى الدائرة أيضا لكته قليل، وحديث عبادة أخرجه ابن جرير وابن إسحق وموالي بتشديد الياء جمع مولي مضاف لياء المتكلم. قوله: (يقطع شأفة اليهود الخ) أي يذهبهم بالكلية والشافة بشين معجمة، وهمزة، وقد تبدل ألفاً تخفيفا، وفاء كرأفة قال الفراء معناها الأصل، وبثرة في العقب تكوي فتذهب، وإذا تطعت مات صاحبها، وقال الأصمعيّ الشأفة النماء، والارتفاع، وفي المثل استأصل الله شأفته أي قطع أصله أو أذهب أثره كما تذهب تلك البثرة بالكي أو قطع
نماءه وارتفاعه، وقوله: يقطع مضارع بمثناة تحتية أو باء جارّة واسم. قوله: (أو الأمر بإظهار الخ) يعني أنّ الأمر إمّا بمعنى الشأن كما في التفسير الأوّل أو مصدر أمره بكذا إذا طلب منه، واستبطنوه بمعنى أخفوه، وقوله: أشعر على نفاقهم أي دل، ولذا عداه بعلى. قوله: (ويؤيده قراءة ابن كثير الخ الأنها ظاهرة في الاستئناف، وقوله: (على أنه الخ) بيان للاستئناف على الوجهين لكن في كون الاستئناف البياني يقترن بالواو نظر، ولذا جعله بعضهم متعلقا بالثاني فقط، ومعنى كون الأوّل مستأنفاً أنه معطوف على جملة الترجي، وليس مندرجا تحتها. قوله: (عطفاً على أن يأتي باعتبار المعنى الخ (لما كان العطف على خبر عسى أو مفعولها يقتضي أن يكون فيه ضمير الله ليصح الأخبار به أو ليجري على استعماله قدره بعضهم، ويقول الذين آمنوأ به أو هو من العطف على المعنى إذ معنى المعطوف عليه عسى أن يأتي الله بالفتح، ويقول الذين آمنوا فتكون عسى تامة لإسنادها إلى أن وما في حيزها فلا يحتاج حينئذ إلى رابط، وهذا قريب من عطف التوهم فكأنهم عبروا عنه بالعطف على المعنى تأذباً. قوله: (أو بجعله بدلاً الخ (يعني أن يأتي بدل من اسم الله وعسى تامة، وهي تامة إذا أسندت إلى أن، وما في حيزها فكذا إذا أبدلت منه كما قال الفارسي لأنه لو أخبر عنها حينئذ لكان الخبر للبدل كما مر، وأن وما معها بعد عسى لا يخبر عنها هذا تحقيق كلام الفارسي رحمه الله، وقد غفل عنه من اعترض عليه بأنها إنما تتم إذا أسندت إلى أن، وما في حيزها كما صرح به النحاة وقوله: مغنياً عن الخبر بما تضمنه من الحدث بيان لوجه أنها إذا أسندت لأن ومنصوبها لا يكون! ها خبر بأنها إنما احتاجت إليه لأنها تستدعي مسنداً ومسنداً إليه كسائر النواسخ، والجملة الواقعة بعد أن مشتملة عليه فلا تحتاج إلى الخبر، وتحقيقه في كتب النحو. قوله: (أو على الفتح الخ (فالمعنى حيسئذ فعسى الله أن يأتي بالفتح، وبقول المؤمنين فهو نظير.
للبس عباءة وتقرّ عيني
وهذا الوجه ذهب إليه ابن النحاس وأورد عليه أنه يلزم الفصل بين أجزاء الصلة بأجنبيّ
لأنّ الفتح حينئذ بمعنى أن يفتح وأن المعنى أن يأتي بقول المؤمنين، وهو ركيك، وأشار المصنف رحمه الله إلى دفع هذا بأنّ المراد عسى الله أن يأتي بما يوجب هذا القول من النصرة
المظهرة لحالهم، وقيل إنه عطف على يصبحوا على أنه منصوب في جواب الترجي إجراء له مجرى التمني قاله إبن الحاجب، وهذا إنما يجيزه الكوفيون، وهو قول مرجوج والأصح في نصب يصبحوا أنه بالعطف على يأتي، وسوّغه وجود الفاء السببية التي لا يحتاج معها إلى(3/252)
رابط كما في الدر المصون، والظاهر أنه لا حاجة في عطفه على يصبحوا إلى جعله منصوبا في جواب عسى لأنّ الفاء كافية في المعطوف، والمعطوف عليه لأنهما كشيء واحد، ومن غفل عن هذا قال: كفى للعائد أقسموا بالله فإنه من وضع الظاهر موضع المضمر، ومثل هذا الإشكال وارد في عطف فيصبحوا إلا أن يكون من قبيل لعلي أحج فأزورك، وما اعترض به أبو حيان رده السفاقسي كما هو ظاهر فانظره إن أردته.
قوله: (يقوله المؤمنون بعضهم لبعض الخ) يعني أن الاستفهام للتعجب والتبجح بتقديم
الجيم أي الافتخار أو بقوله المسلمون لليهود تفضيحا لهم، وللمنافقين أي الذين عاهدوكم على النصرة ما بالهم خذلوكم. قوله: (وجهد الإيمان أغلظها الخ) في الكشاف في سورة النور جهد يمينه مستعار من جهد نفسه إذا بلغ أقصى وسعها وذلك إذا بالغ في اليمين، وبلغ غاية أشدها وأوكدها وسيأتي تحقيقه هناك، وهو حال بتأويل مجتهدين فيه أو أصله يجتهدون جهد أيمانهم فالحال في الحقيقة الجملة، ولذا ساغ كونه حالاً كقولهم: افعل ذلك جهدك مع أن الحال حقها التنكير لأنه ليس حالاً بحسب الأصل أو هو متأوّل بنكرة أو هو منصوب على المصدرية لأنّ المعنى أقسموا أقساما مجتهداً فيه، وفي قوله لأنه بمعنى أقسموا تسمح أي لأنه بمعنى مصدر أقسموا. قوله: (وفيه معنى التعجب الخ) جعله الزمخشريّ تعجبا، وشهادة على كونه مقول القول فقط وقيل في توجيهه إنما خص به لأنه ليس للمؤمنين شهادة، وحكم بحبوط أعمالهم، والمصنف رحمه الله جعله على الوجهين لأنه لا بعد في التعجب على الوجهين، ولا في حكم المؤمنين باعتبار ما يظهر من حالهم في ارتكاب ما ارتكبوه واخبار النبيّ صلى الله عليه وسلم بذلك، وعلى الأوّل هي في محل نصب، وعلى الثاني لا محل لها وقيل إنها جملة دعائية، والتعجب من سياق الكلام لا من الصيغة أو منها، وقوله على الأصل أي يرتدد بفك الادغام لسكون الثاني
والأصل في المثلين إذا سكن ثانيهما الفك كما تقرّر في محله، والإمام اسم مصحف سيدنا عثمان رضي الله عنه كما مر، وكتب على الأصل ليعلم منه حال القراءة الأخرى فهو لا يخالفه كما توهم، وهذا غير متفق عليه لأنه قال في الدر المصون أنه في بعض مصاحف الإمام يرتد بدال واحدة ومصاحفه متعددة فقيل سبعة وقيل ثمانية كما مر. قوله: (وهذا من الكائنات التي اخبر الله ثعالى عنها الخ) قيل من شرطية، والشرط لا يقتضي الوقوع إذ أصله أن يستعمل في الأمور المفروضة فكيف يكون هذا إخباراً عن المغيبات كما هو أحد وجوه إعجاز القرآن، وأمّا وقوعه في زمن النبيّ صلى الله عليه وسلم فكان بعد نزول هذه الآية فلا يرد، والجواب أنّ الشرط قد يستعمل في الأمور المحققة تنبيهاً على أنها لا يليق وقوعها بل كان ينبغي أن تدرج في الفرضيات، وهو كثير، وقد علم من وقوع ذلك بعد هذه الآية أن المراد هذا، وذو الحمار بالحاء المهملة الأسود العنسي بالنون، وعنس قبيلة باليمن وعبس بالباء قبيلة غير هذه، وعنس جدهم نسبوا إليه، وقيل لهذا ذو الحمار لأنه كان له حمار يأمره بالسير والوقوف فيأتي ما يريد، وقيل إنه كان يقول له اسجد لربك فيسجد، وضبطه بعضهم بالخاء المعجمة كابن ماكولا، وغيره إما لأنه كان له طيلسان كالخمار أو لأنّ النساء كانت تجعل روث حماره في خمرهن ومسيلمة بكسر اللام تصغير مسلمة، ووقعة مسيلمة وتزوّجه بسجاج، وأكاذيبه الباردة مشهورة في التواريخ، وقاتله وحشيّ رضي الله عنه، وقيل هو وعبد الله بن زيد الأنصاري طعنه وحشي وضربه عبد الله بسيفه
وهو القائل:
يسائلني الناس عن قتله فقلت ضربت وهذاطعن
في أبيات وقوله فبعث إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم خالداً كذا في الكشاف، وهو خطأ وصوابه
بعث إليه أبا بكر رضي الله تعالى عنه، وفزارة وغطفان قبيلتان مشهورتان، وياليل بياءين، ولامين كهابيل صنم سمي هذا به وسجاح مبنيّ على الكسر كانت كاهنة ثم تنبأت ثم أسلصت وحسن إسلامها، وحطم كزفر وعلي يده أي يد أبي بكر رضي الله تعالى عنه، وحربه مع الخوارج عظيم طويل الذيل وجبلة بن الأيهم تقدمت قصته في سورة البقرة، والجمهور على أنه مات على ردته، وقيل إنه أسلم وروى الواقدي أنّ عمر رضي الله(3/253)
تعالى عنه كتب إلى أحبار الشام لما لحق بهم كتاباً فيه أنّ جبلة ورد إليّ في سراة قومه فأسلم فكرمته، ثم سار إلى مكة فطاف فوطىء إزاره رجل من بني فزارة فلطمه جبلة فهشم أنفه، وكسر ثناياه، وقيل قلع عينه ويدل له ما سيأتي فاستعدى الفزاريّ على جبلة إليّ فحكمت إمّا بالعفو وإمّا بالقصاص فقال أتقتص مني وأنا ملك وهو سوقة فقلت شملك، وإياه الإسلام فما تفضله إلا بالعافي فسأل جبلة التأخير إلى الغد فلما كان من الليل ركب مع بني عمه ولحق بالشام مرتداً وروي أنه ندم على ما فعل وأنشد:
تنصرت بعدالحق عاراللطمة ولم يك فيها لوصبرت لهاضرر
فأدركني فيهالجاج حمية فبعت لها العين الصحيحة بالعور
فيا ليت أمي لم تلدني وليتني صبرت على القول الذي قاله عمر
ووحشي معروف، وفي نسخة الوحشي، وهو خطأ من الكاتب. قوله: (قيل هم اليمن)
أي أهل اليمن لأنّ اليمن اسم بلادهم، وأبو موسى الأشعريّ رضي الله عنه من صميم اليمن، وهذا هو الصحيح كما أخرجه ابن أبي شيبة في مسنده، والطبراني والحاكم من حديث عياض ابن عمر الأشعري، وأما كونهم الفرس فقال العراقيّ رحمه الله لم أقف عليه، وهو هنا وهم، وإنما ورد ذلك في قوله تعالى في آخر سورة القتال: {وإن " تتولوا يستبدل قوماً غيركم} [سورة محمد، الآية: 38] كما أخرجه الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه فمن ذكره هنا،
وهم أيضاً وقوله وذووه يدل على صحة إضافة ذو إلى الضمير في السعة فلا يلتفت إلى من أنكره، والقادسية موضمع بقرب الكوفة حارب فيه سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه رستم الشقي صاحب جيش يزدجرد سمي بها لأنّ إبراهيم الخليل عشي! تقدس بها أي اغتسل، وتطهر، والنخع بفتحتين قبيلة، وكذا كندة وبجيلة. قوله: (من أفناء الناس (أي اخلاط قبائل شنى ليسوا قبيلة واحدة كمن قبلهم يقال هو من أفناء الناس إذا لم يعلم ممن هو الأزهري عن ابن الآعرابيّ أعفاء الناس وأفناؤهم أخلاطهم الواحد عفو وفنو، وعن أبي حاتم عن أمّ الهيثم هؤلاء من أفناء الناس، وتفسيره قوم نزاع من ههنا، ومن ههنا ولم تعرف أمّ الهيثم للافناء واحداً وهو بفاء ونون ممدود. قوله: (والراجع إلى من محذوف تقديره الخ (من الشرطية هنا مبتدأ واختلف النحاة في خبرها فقيل مجموع الشرط، والجزاء وقيل الجزاء فعلى الأوّل لا يحتاج الجزاء وحده إلى ضمير يربطه، وعلى الثاني يحتاج إليه فهو مقدر كما ذكره المصنف رحمه الله وقيل إنه مؤوّل بلا يضركم ارتداده أو الجزاء محذوف، وهذا مسبب عنه قائم مقامه أي فهو مبغوض مطرود، وسوف يأتي الله بمن هو خير منه، ولكل وجهة، وقدم محبة الله لأنّ محبة العبد بعد إرادة الله هدايته وتوفيقه لأنها ناشئة منها. قوله: (ومحبة الله للعباد الخ) تبع في هدّا الزمخشريّ إذ أنكر كون محب العباد دلّه حقيقية بل هي مجازية من باب إطلاق السبب على المسبب إذ لا تتصوّر المحبة الحقيقية هنا ورذ فيه على من اذعى ذلك من الصوفية في طرف العباد إذ الطرف الآخر لا نزاع فيه، وتد ردّه عليه، وأطنب فيه صاحب الانتصاف بما حاصله أنّ اللذة الباعثة على المحبة إما حسية، وهي ظاهرة أو عقلية كلذة الجاه، والرياسة ولذة العلوم، ولا علم ألذ وأكمل من معرفة الحق، والمحبة المنبعثة عنها محبة حقيقية متفاوتة بحسب تفاوت المعارف ألا ترى إلى قول النبيّ صلى الله عليه وسلم للأعرابي الذي سأله عن الساعة " ما أعددت لها ". قال ما أعددت لها كبير عمل، ولكن حب الله، ورسوله فقال عليه الصلاة والسلام: " أنت مع من أحببت " كيف غاير بين ا! محبة، والعمل وقال الغزالي رحمه الله بعد ما قرر أمر المحبة المحبون لله يقولون لمن أنكر عليهم ذلك أن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون. قوله: (واستعماله مع على الخ) يعني كان الظاهر أن يقال للمؤمنين كما يقال تذلل له، ولا يقال عليه للمنافاة بين التذلل والعلو ولكنه عداه بعلى لتضمنه معنى العطف والحنوّ
المتعدي بها. قوله: (أو التنبيه على أنهم مع علو طبقتهم وفضلها على المؤمنين خاضعون لهم (لما كان في هدّا خفاء اختلف فيه شراح الكشاف فقيل المراد أنه ضمن معنى الفضل، والعلو يعني أنّ كونهم أذلة ليس لأجل كونهم إذلاء في أنفسهم بل لإرادة أن(3/254)
يضموا إلى علو منصبهم، وشرفهم فضيلة التواضع، ولا يخفى أنّ مقابلته بالتضمين تقتضي أنه وجه آخر لا تضمين فيه، ولا يتأتى فيه التضمين لأنه لا تعانق بين المعنيين فلا وجه له، وقيل إنه استعار على لمعنى اللام ليؤذن بأنهم غلبوا غيرهم من المؤمنين في التواضع على علوهم بهذه الصفة مع شرفهم، وعلوّ طبقتهم، وقوله: {أعزة على الكافرين} تكميل لأنه لما وصفهم بالتذليل ربما توهم أنّ لهم في نفسهم حقارة فقال، ومع ذلك هم أعزة على الكافرين كقوله:
جلوس في مجالسهم رزان وإن ضيف ألمّ بهم خفوق
وهذا أقرب ما قيل لأنها مستعارة للام، ولكنه لوحظ معناها الأصلي كما يفهم من أبي
لهب أنه جهنمي وان قال النحرير أنه لا يعهد مثله، وأضعفها ما قيل إنه على هذا الجار، والمجرور وصف آخر لقوم وقوله: (مع علوّ الخ) تفسير لقوله على المؤمنين، وخاضعون تفسير لا ذلة، وفي نسخة خافضون. قوله: (أو للمقابلة الخ (أراد بالمقابلة المشاكلة لأنه اسمها أيضا يعني لما كانت العزة تتعدى بعلى وقد قارنتها عدت بعلى مثلها والمشاكلة يجوز فيها التقدم والتأخر كما بين في محله ويحتمل أن يريد أنّ الذلة لما كانت ضد العزة، وتقابلها عذيت تعديتها لأنّ النظير كما يحمل على النظيريحمل الضد على الضد كما عذوا أسز بالباء حملاً له على جهر وهذا مما صرح به ابن جني وغيره، وقيل إنه يحتمل أنّ الذلة معناها ع! م العزة فلذا عديت تعديتها كأنه قيل غير أعزة على المؤمنين، وهو قريب من الأوّل، وتد يقال إنه وجه للحمل، وجملة يجاهدون صفة أو حال من ضمير أو عزة أو مستأنفة. قوله: (أو حال بمعنى أنهم الخ) هذا مذهب الزمخشريّ في جواز اقتران المضارع المنفيئ بلا بالواو فإن النحاة جوّزوه في المنفي بلم، ولما، ولا فرق بينهما فلا يرد عليه ما قيل إنهم نصوا على أن المضارع المنفيّ بلا، وما كالمثبت في أنه لا يجوز أن تدخل عليه الواو لأنه بمعنى الاسم الصريح فجاء زيد لا يضحك بمعنى غير ضاحك كما أن معنى جاء زيد يقوم بمعنى قائما والفرق بين العطف والحالية أنه على الأوّل تتميم لمعنى يجاهدون مفيد للمبالغة والاستيعاب، وعلى الثاني تعريض بمن يجاهد، وليس كذلك، وفيه تأمل. قوله:) وحالهم خلاف حال المنافقين الخ) أورد عليه أن تعيير المنافقين يفيده العطف أيضا بلا فرق وأنّ خشية المنافقين لا تختص باليهود بل يخافون
- اه- 11، - 01. / - ط! / 3، 5
لوم المسلمين لو تخلفوا، أو على عدم اجتهادهم لو حضروا. قوله: (وفيها وفي تنكير لائم مبالغتان الأنه نفى عنهم مخافة اللوم من أيّ لائم كان، وبانتفاء الخوف من اللومة الواحدة ينتفي خوف جميع اللومات لأنّ النكرة في سياق النفي تعم فإذا انضم إليها تنكير فاعلها استوعب خوف جميع اللوّام فهذا تتميم كذا قيل إلا أنه قيل عليه كيف يكون لومة أبلغ من لوم مع ما فيها من الوحدة فلو قيل لوم لائم كان أبلغ، والجواب بأنها في الأصل للمرّة لكن المراد بها هنا الجنس، وأتي بالتاء للإشارة إلى أنّ جنس اللوم عندهم بمنزلة لومة واحدة ولذا فسروه بلا يخافون شيئاً من اللوم لا يدفع السؤال لأنه لا قرينة على هذا التجوّز مع بقاء الايهام فيه وقوله إشارة إلى ما تقدّم أي، وأفرده لما تقدم ومنهم من خصه ببعضها وهذا أولى، وقوله يمنحه ويوفق له إشارة إلى شموله للايتاء بالفعل، والقوّة، وقوله كثير الفضل يشير إلى أنّ معناه ذلك أو أنه في الأصل كان من الإسناد المجازي ثم غلب حتى صار حقيقية، وقوله بمن هو أهله أي أهل الفضل وخصه وان كان عليما بكل شيء لمناسبة المقام. قوله: (وإنما قال وليكم الله الخ) أي لما قال: {لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء} [سورة المائدة، الآية: 51] الخ ذكر عقبه من هو حقيق بالموالاة، وأفرد الولي ليفيد أنّ الولاية لله بالأصال وللرسول، والمؤمنين بالتبع فيكون التقدير كما نبه عليه شراح الكشاف، وكذلك رسوله والذين آمنوا ليكون في الكلام أصل وتبع لا أنّ وليكم مفرد استعمل استعمال الجمع ليلزمه ما لزم لو كان النظم أولياؤكم، والحصر باعتبار أنه الولي أصالة وحقيقة، وولاية غيره إنما هي بالاستناد إليه فلا يرد عليه أنه لو كان التقدير كذلك لتنافي حصر الولاية في الله ثم اثباتها للرسول تحر وللمؤمنين. قوله: (صفة للذين آمنوا فإنه جرى مجرى الاسم الخ) أي اسم جار مجرى غير الصفات فلذا يوصف، ومجرى الصفات باعتبار صلته فلذا وصف به(3/255)
والزمخشريّ لم يعربه صفة فقيل لأنّ الموصول، وصلة إلى وصف المعارف، والوصف لا يوصف إلا بالتأويل ولذا قيل إنه أجرى مجرى الأسماء كمؤمن، وكافر. قوله: (متخشعون في صلاتهم الخ الما كان الركوع غير مناسب للزكاة فسره بمعنى يشملهما وهو التذلل والتخشع كما في قوله:
لا تهين الفقير علك أن تركع يوما والدهر قد رفعه
وعلى الوجه الثاني ابقاؤه على ظاهره، ويكون في معين وقصة عليّ كرم الله وجهه
ورضي الله عنه أخرجها الحاكم وابن مردويه وغيرهما عن ابن عباس رضي الله عنهما بإسناد متصل قال أقبل ابن سلام ونفر من قومه آمنوا بالنبيّ صلى الله عليه وسلم فقالوا يا رسول الله إنّ منازلنا بعيدة، وليس لنا مجلس ولا متحذث دون هذا المجلس! ، وانّ قومنا لما رأونا آمنا بالله ورسوله وصدقناه رفضونا وآلوا على أنفسهم أن لا يجالسونا ولا يناكحونا ولا يكلمونا فشق ذلك علينا فقال لهم النبئ صلى الله عليه وسلم: إنما وليكم الله ورسوله ثم إنّ النبئ صلى الله عليه وسلم خرج إلى المسجد والناس بين قائم وراكع فبصر بسائل فقال: (هل أعطاك أحد شيئاً فقل نعم خاتم من فضة فقال: " من أعطاكه " فقال ذاك القائم وأومأ بيده إلى علي رضي الثه عنه ققال النبئ صلى الله عليه وسلم على أيّ حال اعطاك فقال وهو راكع فكبر النبئ صلى الله عليه وسلم ثم تلا هذه الآية) فأنشأ حسان رضي الله عنه يقول:
أبا حسن تفديك نفسي ومهجتي وكل بطيء في الهدي ومسارع
أيذهب مدحيك المحبر ضائعا وما المدح في جنب الاله بضائع
فأنت الذي أعطيت إذ كنت راكعا زكاة فدتك النفس يا خير راكع
فأنزل فيك الله خير ولاية وثبتها مثنى كتاب الشرائع
قوله: (واستدل به الشيعة على إمامته الخ) وجه الاستدلال أنه جعل الوليّ من يتصدق
وهو راكع، وذلك عليّ رضي الله عنه والوليّ الخليفة لأنه الذي يتولى أمور الناس فتكون الخلافة منحصرة فيه حقا له وليس بشيء لأنّ المراد بالوليّ ضد العدو، وهو الصديق ولو سلم
أنه ما ذكر فاللفظ عام، وسبب النزول لا يخصص وأرادة الجمع بالواحد خلاف الظاهر خصوصا وخلافة أبي بكر رضي الله عنه ثبتت بالأحاديث الصحيحة كما بين في محله. قوله: (فلعله جيء بلفظ الجمع لترغيب الناس الخ) فإذا كان لترغيب لا يختص! به أيضاً وذكروا في التعبير عن الواحد بالجمع أنه يكون لفائدتين تعظيم الفاعل وأنّ من أتى بذلك الفعل عظيم الشأن بمنزل جماعة كقوله تعالى: {إنّ إبراهيم كان أمة} [سورة النحل، الآية: 120] ليرغب الناس في الإتيان بمثل فعل وتعظيم الفعل أيضاً، حتى أنّ فعله سجية لكل مؤمن وهذا نكتة سرية تعتبر في كل مكان ما يليق به ووجه الاستدلال المذكور ظاهر، وقيل إنه كان قبل تحريم الكلام في الصلاة فإنه كان جائزاً، ثم نسخ وبأنه أشار إليه فاً خذه من إصبعه بلا فعل! هـ. وقوله:) وضع الظاهر موضع المضمر الخ) هذا مبني على أنّ جواب الشرط الاسمي في نحوه لا بد من اشتماله على ضميره كما مرّ فوضع الاسم الظاهر موضع الضمير للدلالة على علة الغلبة، وهو أنهم حزب الله كقوله تعالى: {وإنّ جندنا لهم الغالبون} [سورة الصافات، الآية: 173] . وقوله: (ومن يتول هؤلاء الخ) بيان أنه على هذا الوجه ذكر الله للتوطئة والتمهيد وعلى ما بعده من التنويه، والتشريف لا يلزم فيه ملاحظة التوطئة ففرق بينهما ووجهه أنه جعلهم مشاهير بهذا وعلما فيه حتى لا يتبادر إلى الفهم غيرهم إذا ذكر حزب الله. قوله: (لآمر حزبهم) أي أهمهم، وقيل الحزب جماعة فيهم شدة فهو أخص من الجماعة، والقوم. قوله: (نزلت في رفاعة بن زيد الخ) وترتب النهي على اتخاذهم لتعليقه بما هو في حكم المشتق ومن جر الكفار أبو عمرو والكسائي ويعقوب وهو أظهر لقرب المعطوف عليه ولأن أبيا رضي الله عنه قرأ ومن الكفار والكفار على هذا مخصوص بالمشركين، وقد ورد بهذا المعنى في مواضع من القرآن، ووجه
التخصيص ما ذكره وعلى قراءة النصب لا يكون المشركون مصرحا باستهزائهم هنا وان أثبت لهم في آية: {إنا كفيناك المستهزئين} [سورة الحجر، الآية: 95] إذا المراد بهم مشركو العرب ولا يكون النهي عليها معللاً بالاستهزاء بل نهوا عن(3/256)
موالاتهم ابتداء، وهذا معنى. قوله:) على أنّ النهي الخ (وقوله بترك المناهي خصه لوتوعه بعد النهي عن اتخاذهم أولياء فالمناسب تخصيص الإيمان بالوعيد، ومن عممه نظر إلى أنه تذييل، ومثله يورد بطريق العموم فافهم. قوله: (وفيه دليل على أنّ الآذان مشروع للصلاة) وفي الكشاف فيه دليل جملى ثبوت الأذان بنص الكتاب لأنه لما دلّ على أنّ اتخاذ المناداة هزؤوا من مكرات الشرع دل على أنّ المناداة من حقوقه المشروعة له، وان كان ابتداء مشروعيته بالسنة كما في قصة عبد الله بن زيد الأنصاري وما رأى في منامه، وهذا لا ينافي كون مشروعية الأذان أول ما قدموا المدينة، والمائدة متأخر نزولها، ولما كان ثبوته معروفاً جعله المصحنف رحمه أدلّه تعالى دليلاً على مشروعيته لا على ثبوته فلذا عدل عما في الكشاف، وان كان لا يمتنع اجتماع الأدلة الشرعية على حكم واحد لأنها أمارات لا مؤثرات وموجبات، وقوله فدخل خادمه في شروح الكشاف أنه جارية فإن الخادم يطلق على الذكر، والأنثى وترك قول الكشاف لا بالمنام، ونحوه من الاستشارة لأنه رد لما ورد من ذكر المنام، ونحوه لأنه إنما ثبت بوحي وافق ما ذكر كما بينه شراح الحديث، وسمي الأذان مناداة لقوله حيّ على الصلاة حيّ على الفلاج. قوله: (فإنّ السفه يؤدي إلى الجهل) المراد بالسفه خفة العقل، وعدمه وفسر تتقمون بتنكرون وتيبون إذ النقمة معناها الانكار باللسان أو بالعقوبة كما قاله الراغب لأنه لا يعاقب إلا على المنكر فيكون على حد قوله: ونشتم بالأفعال لا بالتكلم
فلذا حسن انتقم منه مطوعه بمعنى عاقبه، وجازاه، والا فكيف يخالف المطاوع أصله فافهم، ونقم ورد كعلم يعلم وورد بكسر القاف في الماضي، والمضارع، وهي الفصحى، ولذا قال المصنف رحمه الله تعالى، وهي لغة أي قليلة، وهي قراءة الحسن، ونقم بعدى بمن وعلى وقال أبو حيان أصله أن يتعدى بعلى ثم افتعل المبنى منه يعدى بمن لتضمنه معنى الإصابة بالمكروه، وهنا فعل بمعنى افتعل وجعل ما أنزل إلينا، وما أنزل من قبل أي قبلنا عبارة عن جميع الكتب السماوية، وهو ظاهر. قوله: (عطف على أن آمنا الخ) و! ما كان على هذا تقديره
هل تكرهون إلا إيماننا، وفسق أكثركم وهم لا يعترفون بأنّ أكثرهم فاسقون حتى ينكروه فلذا أولوه بأنه مستعمل في لازمه، وهو مخالفتهم فكأنه قيل هل تنكرون منا إلا أنا على حال تخالف حالكم حيث دخلنا في الإسلام، وخرجتم منه بالفسق بمعنى الخروج عن الإيمان أو أنه على تقدير مضاف أي اعتقاد أنكم فاسقون وهو ظاهر، وإنما قال أكثركم لأنّ منهم من أسلم كعبد الله بن سلام وأضرا به رضي الله عنهم، وقوله أي وما تنقمون منا كذا وقع في نسخ هذا الكتاب، والكشاف والا وجه ترك الواو وكذا وقع في نسخة، وكأن إشارة إلى أنهم نقموا عليه أمورأ أخر كما يفيده ما قبله من انكارهم الأذان، وغيره من أمور الدين فتأمل، وعلى هذا الوجه هو معطوت على المؤمن به بملاحظ معنى الاعتقاد أيضا فهو في المعنى كالوجه الذي قبله، والمراد بفسقهم كفرهم كما مر، وكما يلزمنا اعتقاد حقية ما نحن عليه يلزمنا اعتقاد بطلان ما يخالفه، والإيمان بأنه باطل، والوجه الرابع أنه مجرور بلام محذوفة ومعطوف على علة أخرى محذوفة، ومحله إما جر أو نصب أو هو منصوب بفعل مقدر منفي أو هو مبتدأ خبره محذوف، والجملة حال أي وفسقكم ثابت معلوم كذا قال في الكشاف فقدر الخبر مؤخراً، وقيل إنه لا بد من تقديره مقدماً لأنّ أن المفتوحة لا يقع ما معها مبتدأ إلا إذا تقدم الخبر ورد بأن كثيرا من النحاة خالف في هذا الشرط، وأنه يغتفر في الأمور التقديرية ما لا يغتفر في غيرها، وفي هذه الآية على احتمال الرفع والنصب، والجر وجوه كثيرة بلغت أحد عثر ترك المصنف رحمه الله تعالى منها وجوها كأنها لم يرض بها لما أوردوا عليها ككون الواو بمعنى مع لما قال النحرير: إنه لا يتم على ظاهر كلام النحاة من أنه لا بد في المفعول معه من المصاحبة في معمولية الفعل، وحينئذ يعود المحذور وهو أنهم نقموا كون أكثرهم فاسقين، وان قيل إنه على مذهب الأخفش الذي لا يئترط ذلك، وقيل عليه ما قيل وقيل إن آمنا بتقدير اللام وهذا معطوف عليه أي ما تنقمون علينا شيأ إلا لإيماننا وأنّ أكثركم فاسقون. قوله: (والآية خطاب ليهود الخ (أي لقوم من اليهود سألوه عما آمن به فتلا لهم {امنا بالئه وما أنزل إلينا وما أنزل إلى(3/257)
إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي
موسى وعيسى} (الآية وهذا رواه ابن جرير والطبراني عن ابن عباس رضي الله عنهما. قوله:) أي من ذلك المتقوم الخ (اختلف المفسرون في المخاطب بأنبئكم فذهب الأكثر
إلى أنه أهل الكتاب المتقدم ذكرهم وقيل الكفار مطلقا وقيل المؤمنون وكذا اختلفوا في معنى اسم الإشارة فقيل إشارة إلى الأكثر الفاسقين ووحد اسم الإشارة إلى لأنه يشار به إلى الواحد وغيره، وليس كالضمير أو لتأويله بالمذكور ونحوه وفي الكلام مقدر أي بشر من حال هؤلاء وجعله الزمخشرقي إشارة إلى المتقوم ولا بد من حذف مضاف قبله أو قبل من تقديره دين من لعنه، وقيل إنه إشارة إلى الأشخاص المتقدمين الذي هم أهل الكتاب يعني أن السلف شز من الخلف وعليه فلا يحتاج إلى تقدير والمنقوم إنما هو إيمانهم المذكور والاحتياج إلى حذف المضاف ظاهر على كون من لعنه الله خبراً عن ضمير ذلك، وأما على كونه بدلاً فليخرج من بدل الغلط لأن مثل أعجبني الحسن زيد بدل غلط قطعأ إذ لا اشتمال قيل ذكر الزمخشري أن المعنى عقوبتهم شر من عقوبة المسلمين بزعمهم، وقد غفل عنه المصنف رحمه الله تعالى: فأهمله ولو جعل مثوبة مفعولأله لأنبئكم أي أنبئكم لطلب المئوبة عند الله بهذا الأنباء لاقتضاء حكم لخلص عن التكلف، وهذا له وجه لكنه خلاف الظاهر، وأما الأول فليس المصنف رحمه الله تعالى غافلا عنه كما زعم بل لما أول شراً الثاني اكتفى به عن تأويل الأول لجريانه فيه. قوله:) جزاء ثابتاً عند الله (قال الراغب: الثواب ما رجع إلى الإنسان من جزاء أعماله سمي به يتصوّر أن ما عمله يرجع إليه كقوله: {ومن يعمل مثقال ذرة خبرا يره} أسورة الزلزلة، الآية: 7، ولم يقل ير جزاءه والثواب يقال في الخير والشر لكن الأكثر المتعارف في الخير وكذا المثوبة، وهي مصدر ميمي بمعناه وعلى اختصاصها بالخير استعملت هنا في العقوبة على طريقة: تحية بينهم ضرب وجيع
في التهكم وان كان ما في الآية استعارة لطيئ ذكر المشبه، وما في البيت تشبيهأ انتزع
وجهه من التضاد على طريقة التهكم لذكر الطرفين بطريق حمل أحدهما على الآخر لكن على عكس قولك مزيد أسد، والتحية مشبه به والضرب مشبه كذا قيل: وقد أسلفنا في سورة البقرة
التحقيق في هذا، وأنه ليس من التشبيه، والاستعارة في شيء كما صرح به الشيخ في دلائل الإعجاز فإن أردت تحقيقه فراجعه فإنه مما تفرد به كتابنا هذا. قوله:) بدل من شر على حذف مضاف (فيقدر أهل قبل ذلك أو دين قبل من كما أشار إليه المصنف رحمه الله تعالى بقوله أي بشر الخ وتقدم وجه الاحتياج إلى التقدير على البدلية، ولم ينبه عليه المصنف في الثاني حوالة على الأول لظهوره. قوله: (وهم اليهود الخ) أي من لعنه الله اليهود، وكذا الممسوخون منهم، والممسوخون خنازير من النصارى، وقيل المسخان وقعا في اليهود، ومشايخ قيل جمع شيخ على خلاف القياس، والتحقيق أنه جمع مشيخة، وهي جمع شيخ كمسيفة للسيوف ومعب! ة للعبيد، ومأسدة للأسود. قوله: (عطف على صلة من الخ (في هذه الآية أربع، وعشرون قرأءة ثنتان من السبعة وما عداهما شاذ فقرأ جمهورهم غير حمزة عبد فعل ماض معلوم، وفيه ضمير يعود لمن، وقرأ حمزة عبد الطاغوت بفتح العين، وضم الباء، وفتح الدال، وخفض الطاغوت على أنّ عبد واحد مراد به الجنس، وليس بجمع لأنه لم يسمع مثله في أبنية الجمع بل هو صيغة مبالغة، ولذا قال الزمخشري معناه الغلوّ في العبودية، وأنشد لطرفة شاهداً عليه:
أبتي لبيني أنّ أمكمو أمة وإن أباكمو عبد
أراد عبداً، وقد ذكر مثله الزجاج، وابن الأنباري قال ضمت الباء للمبالغة كقو! هم للفظن، والحذر فطن وحذر بضم العين فلا عبرة بمن طعن على هذه القراءة، ونسب قارئها إلى الوهم كالفرّاء، وأبي عبيدة وأما الشاذة فقراءة أبيّ رضي الله عنه عبدوا معلوما بضمير الجمع لمعنى من، وقرأ الحسن عباد جمع عبد وعبد بالإفراد بجر الطاغوت ونصبه إما على أنّ أصله عبد بفتح الباء فسكن أو عبدا بالتنوين فحذف كقوله.
ولا ذكر الله إلا قليلا
ونصبه عطفاً على القردة، وقرأ الأعمش والنخعي عبد مجهولاً مع رفع الطاغوت، وقرأ
عبد القه كذلك إلا أنه أنث فقرأ عبدت والطاغوت يذكر، ويؤنث كما مر، وهو معطوف(3/258)
على صلة من والعائد محذوف أي فيهم أو بينهم، وقرأ ابن مسعود رضي الله عنه عبد بفتح العين، وضم الباء وفتح الدال، ورفع الطاغوت كشرف كان العبادة صارت سجية له أو أنه بمعنى صار معبودا كأمر أي صار أميراً، وقرأ ابن عباس رضي الله عنهما عبد بضم العين، والباء وفتح
الدال، وجر الطاغوت فعن الأخفش أنه جمع عبيد جمع عبد فهو جمع الجمع عابد كشارف، وشرف أو جمع عبد كسقف وسقف أو جمع عباد ككتاب وكتب فهو جمع الجمع أيضا، وقرأ الأعمش عبد بضم العين، وتشديد الباء المفتوحة، وفتح الدال، وجر الطاغوت جمع عابد، وعبد كحطم وزفر منصوبا مضافا للطاغوت مفردا للمبالغة وقرأ ابن مسعود رضي الله عنه أيضا عبد بضم العين، وفتح الباء المشددة، وفتح الدال ونصب الطاغوت على حدّ ولا ذاكر الله، وقرأ بريدة، وعابد الشيطان بنصب عابد وجر الشيطان بدل الطاغوت، وقيل إنه تفسير وقرئ عباد كجهال، وعباد كرجال جمع عابد أو عبد وفيه إضافة العباد لغير الله، وقد منعها بعضهم، والأصح أنه أغلب، وقرئ عابد بالرفع على أنه خبر مبتدأ مقدر وجر الطاغوت وقرئ عابد وبالجمع والإضافة وقرئ عابد منصوبا وقرئ عبد الطاغوت بفتحات مضافا على أنّ أصله عبدة ككفرة فحذفت تاؤه للإضافة كقوله:
وأخلفوك عد الأمر الذي وعدوا
أي عدته كإقام الصلاة أو هو جمع أو اسم جمع كخادم وخدم بلا حذف ويشهد له قراءة
عبدة الطاغوت، وقرئ أعبد كأكلب، وعبيد جمع أو اسم جمع وعابدي جمع بالياء وقرأ ابن مسعود رضي الله عنه أيضاً، ومن عبدوا فهذه أربع وعشرون وقول المصنف رحمه الله (ومن قرأ الخ) أي مفردا منصوبا على وزن فاعل أو فعل كحذر أو جمعاً منصوباً والكل مضافة وقد سمعت أنّ منهم من نصب بعدها، ومر توجيهه فهو معطوف على القردة مفعول جعل أو على من لأنهم جوزوا فيها النصب بفعل مقدر أو بالبدلية من محل بشر، وقوله: وعبد صار معبودا أي بفتح العين وضم الباء فعل ماض ككرم ورفع الطاغوت وتقدم توجيهه. قوله:) ومن قرأ وعبد الطاغوت بالجر) أي على أنه مفرد أو جمع فهو معطوف على من المجرورة محلا على البدلية من شرّ وجعله عطفا على البدل لا على شر لأنه المقصود بالنسسبة، وقد مر تفسير الطاغوت بالشيطان، وأنه قرئ به، وقرأه حمزة بالنصب ومر توجيهها وقوله: والباقون يفتحها أي الباء على أنه ماض مبنيّ للفاعل كما مر، وقوله، وكل من أطاعوه الخ فالعبادة مجاز عن الطاعة. قوله: (جعل مكانهم شرا) أي أسند الشرارة إلى المكان وجعل شرا لأنّ التمييز في المعنى فاعل، واثبات الشرارة لمكان الشيء كناية عن إثباتها له كقولهم سلام على المجلس العالي، والمجد بين برديه كان شرهم أثر في مكانهم أو عظم حتى صار متجسما، ويجوز أن يكون الإسناد مجازيا
كجري النهر. قوله: (وقيل مكاناً منصرفاً) بصيغة المفعول كسائر أسماء الأمكنة، وهو ما ينصرفون إليه ليصيروا فيه فالكون بمعنى الصيرورة من المزيد يعني ليس المراد الكناية بل المكان محل الكون، والقرار الذي يؤول أمرهم إلى التمكن فيه كقوله شر منقلباً، وهو مصيرهم يعني جهنم، وبئس المصير والرارة بفتح الشين مصدر كالقباحة لفظاً ومعنى. قوله: (قصد الطريق الخ) قصد بفتح فسكون مجرور عطف بيان لسواء السبيل، وأصل معناه الوسط المستوي، وهو معنى القصد لأنه يستعمل في الاعتدال بين الإفراط والتفريط يعني أنهم أضل عن طريق الحق المعتدل لأنّ أهل الباطل بين مفرط كالنصارى إذ ادّعوا الألوهية لنبيهم جميرو ومفرط كاليهود إذا طعنوا في غير دينهم، والمراد به دين الإسلام والحنيفية. قوله: (والمراد من صينتي التفضيل) أي شر وأضل يعني أنّ التفضيل مقصود به الزيادة في نفسه من غير نظر إلى مشاركة غيرهم فيه وفيه وجوه فقيل إنه على زعمهم، وقيل إنه بالنسبة إلى غيرهم من الكفار.
وقال النحاس إن مكانهم في الآخرة شر من مكان المؤمنين في الدنيا لما لحقهم فيه من
مكاره الدهر وسماع الأذى، والهضم من جانبهم، واسنحسته بعضهم، ورجحوه على غيره من الوجوه. قوله: (أي يخرجون من عندك كما دخلوا الخ) التسوية بين دخولهم، وخروجهم لعدم انتفاعهم بحضورهم عنده صلى الله عليه وسلم وجعل الجملتين حاليتين لأنه يجوز تعددها جملة من غير عطف، ومن منعه يقول إنّ الواو عاطفة والمعطوف على الحال حال أيضاً، وباء بالكفر وبه باء الملابسة، والجار والمجرور حالان، ودخول(3/259)
قد لتفريب الماضي من الحال قال النحرير: دخلت قد لتقرب الماضي إلى الحال فتكسر سورة استبعاد ما بين الماضي، والحال في الجملة وإلا فقد إنما تقرب إلى حال التكلم، وهذا إشارة إلى ما قيل إنّ الماضي إنما يدل على الانقضاء قبل زمان التكلم، والحال مبينة لهيئة صاحبها قيد لعاملها فهي في حال وقوعه سواء كان ماضياً أو حالاً أو مستقبلا فهذا غلط نشأ من اشتراك لفظ الحال، وأجيب بأنّ الفعل إذا وقع قيد الشيء يعتبر مضيه، وغيره بالنظر إلى المقيد فماذا قيل جاءني زيد ركب يفهم منه تقدم الركوب على المجيء فلا بد من قد حتى تقز به إلى زمان المجيء فيقارنه، وله زيادة تفصيل في حواشي المطوّل، والرضي فارجع إليه، وذكروا لها نكتة أخرى هنا، وهي إنها تفيد ا!
المخاطب كان متوقعا المضمون الخبر، وفي الكشاف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم متوقعا لإظهار الله ما كتموه فدخل حرف التوقع وأورد عليه أن حرف التوقع إنما دخل على الدخول، والخروج بالكفر لا على إظهار نفاقهم، وأجيب بأنّ الأخبار بذلك إظهار له، والمناقشة باقية لأنها لتوقع المخبر به لا لتوقع الأخبار، وقيل: لا شك أنّ المتوتع ينبغي أن لا يكون حاصلا، وكونهم منافقين كان معلوما له صلى الله عليه وسلم فيجب المصير إلى المجاز، والقول بإظهار الله ما كتموه، ولم يقل، وقد خرجوا به لإفادة تأكيد الكفر حال الخروج لأنه خلاف الظاهر إذ كان الظاهر بعد رؤية النبيّ صلى الله عليه وسلم، وسماع كلامه أن يرجعوا عما هم عليه، وأيضاً أنهم إذا سمعوا قول النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأنكروه زاد كفرهم، وقوله والله أعلم إشارة إلى أن للنبي صلى الله عليه وسلم بذلك علما أيضا لكنه كعلم الله المطلع على السرائر، وقيل: فحينئذ كان المناسب أن يقول المصنف رحمه الله، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يعلمه فتأمّل، وقيل قوله ولذلك أي لظنه صلى الله عليه وسلم قال، والله أعلم لتضمته علم النبيّ صلى الله عليه وسلم أيضا لكن لا كعلمه تعالى لأنّ علمه ظني. قوله: (أي الحرام، وقيل الكذب لقوله عن قولهم الإثم) فإنه يدل على أنه متعلق بقولهم فلا يكون مطلق الإثم، ولا قرينة على خصوصية كلمة الشرك فتعين أن يكون المراد بقولهم آمناً من حيث كونه كذبا ليس عن صميم قلب أمّا إذا كان إخباراً فظاهر، وان كان إنشاء فلتضمنه الخبر بحصول صفة الإيمان لهم، وهذا هو الذي ارتضاه الزمخشري، والمصنف رحمه الله لما رأى تخصيصه هنا لا داعي إليه، وأنّ التخصيص فيما سيأتي لا يقتضيه بل ربما يقتضي خلافه لأنّ الأصل عدم التكرار لم يرتض ما جنحوا إليه، وإن كان لا تكرار فيه لأنه هنا بالنسبة إلى من فعلوه، وهناك بالنسبة إلى من لم ينه عنه نعى عليهم أوّلاً اتصافهم بسوء الاعتقاد، ثم عقبه بسوء الأعمال، وقال يسارعون في الإثم فعداه بفي، وهو يتعذى بإلى إشارة إلى تمكنهم فيه تمكن المظروف في ظرفه، واحاطته بأعمالهم. قوله: (لبئس شيئاً عملوه) إشارة إلى أن ما نكرة موصوفة وقعت تمييزاً للضمير المستتر في بئس الفاعل، والمخصوص محذوف أي بئس شيئاً عملوه هذه الأمور وجوّز جعلها موصولة فاعل بئس. قوله: (تحضيض لعلمائهم) بضادين معجمتين أي حث، وطلب وجعل الربانيين هنا علماء، وفيما مرّ زهاد المناسبة المقام، والزهاد في الأكثر علماء، والنهي إنما يكون منهم وكون لولا، وأخواتها مع المضارع للتحضيض، ومع الماضي للتوبيخ مما قرّره ابن الحاجب، وغيره. قوله: (أبلغ من قوله لبئسما كانوا يعملون الخ (أي لما تقرّر في اللغة، والاستعمال أنّ الفعل ما صدر عن
الحيوان مطلقا فإن كان عن قصد سمي عملا ثم إن حصل بمزاولة، وتكرّر حتى رسخ، وصار ملكة له سمي صنيعا، وصنعة وصناعة فلذا كان لصنيع أبلغ لاقتضائه الرسوخ، ولذا يقال للحاذق صانع، وللثوب الجيد النسج صنيع كما قاله الراغب: والتدرّب الاعتياد والتحرّي التوخي وقصد الأحرى، والأليق، والتروّي التفكر والتأمل من الروية، ووقع في نسخة تردّد يعني العود إليه مرّة بعد أخرى، وفي أخرى تروّد، وهي متقاربة معنى، والحسبة بكسر الحاء اسم بمعنى الاحتساب، وهو معروف وإنما كان ترك النهي أقبح من الارتكاب لأنّ المرتكب له في المعصية لذة، وقضاء وطر بخلاف المقرّ له، ولذا ورد أنّ جرم الديوث أعظم من الزانيين فإن قلت يلزم على هذا أن ترك النهي عن الزنا، والقتل أشد إثما منهما، وهو بعيد كما قيل قلت قيد(3/260)
الأشذية يختلف بالاعتبار فكونه أشد باعتبار ارتكاب ما لا فائدة له فيه لا ينافي كون المباشرة أكثر إثما منه فتأمل. قوله:) أي هو ممسك الخ) أي بخيل يضيق الرزق، وغل اليد وبسطها مجاز عن البخل والجود يعني فيمن لا تصح منه الحقيقة أصلاً كما هنا بخلاف يد زيد مغلولة أو مبسوطة فإنه كناية عن ذلك وقد مرّ الكلام فيه، وأنه قد لا تراعى هذه التفرقة كما جعل {الرحمن على العرش استوى} أسورة طه، الآية: 5] كناية عن الملك وفي قو! هـ، ولذلك يستعمل الخ. يقتضي أنه حيث يتصوّر منه ذلك مجاز مع أنه كناية فيحمل على ما إذا كان ثمة قرينة مانعة. قوله:
(جاد الحمى بسط اليدين بوابل شكرت نداه ثلاعه ووهاده)
جاد من الجود يقال جاد المطر فهو جائد والجمع جود كصاحب وصحب، والوهاد
بكسر الواو جمع وهدة، وهي ما اطمأن وانخفض من الأرض، والتلعة ما ارتفع منها وقال أبو عمر والتلعة مجاري ما ارتفع من الأرض إلى بطون الأودية، والندي العطاء، ولو قرئ يديه تثنية يد لصح وبسط بضمتين جمع باسط، والمراد بها السحاب، والوابل المطر الكثير. قوله:) ونظيره من المجارّات المركبة شابت لمة الليل (الشيب معروف، واللمة بالكسر ذؤابة مخصوصة قيل فيه نظر لأنه من مجاز المفردات فالشيب مجاز عن وضح الصبح، واللمة عن سواده أي أبيض ما كان أسود منه، وليس هذا بمتعين لجواز أن يشبه طروّ الصمبح على الليل بعروض! الشيب في الشعر الأسود. قوله: (وقيل معناه أنه فقير الخ (أيده بهذه الآية لأنّ قبض
اليد يقتضي إمكان بسطها لا عدم قدرته عليه والا لقيل شلت يده، والأوّل يقتضي البلاغة، وحسن الاستعارة لكنه جوّزه فيما بعده من غير تمريض له فانظر الفرق بينهما. قوله: (دعاء عليهم بالبخل والنكد الخ) ويجوز أن يكون خبراً والنكد بفتحتين هنا العسر وقلة الخير من نكدت الركية إذا قل ماؤها، والمطابقة على تقدير الدعاء بالبخل أو الفقر ظاهرة لنسبتهم ذلك إليه تعالى بخلاف الدعاء بغل الأيدي فإنّ المناسبة من حيث اللفظ فقط فيكون تجنيسا قال الزمخشري: ويجوز أن يكون دعاء عليهم بغل الأيدي حقيقة يغلون في الدنيا أسارى وفي الآخرة معذبين لإغلال جهنم، والطباق من حيث اللفظ، وملاحظة أصل المجاز كما تقول سبني سب الله دابره أي قطعه لأنّ السب أصله القطع قيل يعني تعتبر المطابقة في قوله تعالى: {يد الله منلولة} [سورة المائدة، الآية: 64] مع {غلت أيديهم} [سورة المائدة، الآية: 64، في إرادة الحقيقة في الثاني مع ملاحظة أصل المجاز، وهو غل اليد لا البخل الذي هو المراد منه لاستوائهما في التلفظ كما أن سب الله من حيث اللفظ مطابق لقولهم سبني الخ لأنّ المراد من سب الله قطع الدابر أي استأصله بقطع آخره وهذه مشاكلة لطيفة بخلاف قوله:
قالوا اقترح شيئانجدلك طبخه قلت اطبخوالي جبة وقميصا
ولا داعي إلى اعتبار المشاكلة هنا، وإنما هو تجنيس، ولذا تركها النحرير، وهو الظاهر وقوله: {مسخبين} الظاهر أنه بتشديد الحاء من سحبه إذا جرّه إذ لم يرد أسحبه، والمعروف فيه الثلاثي قال تعالى: {يسحبون في النار} [سورة القمر، الآية: 48، وهو معطوف على أسارى وهو حال. قوله: (ثني اليد مبالنة في الردّ الخ (لأنهم لما قالوا يده مغلولة ردّ عليهم بأن يديه مبسوطتان بالجود، والكريم إذا أعطى بيديه كان أكثر أو اليدان عبارة عن نعم الدنيا ونعم الاخرة أو عما ينعم به إكراما وما ينعم به استدراجا. قوله: (تكيد لذلك (أي لقوله يداه مبسوطتان الدال على نهاية الكرم، والجود ووجه التأكيد تعميم الأحوال المستفاد من كيف، ووجه الدلالة على الاختيار المشيئة، وأنه على مقتضى الحكمة التعليق بمشيئة الحكيم الذي لا يشاء إلا ما هو حكمة، ومصلحة وقوله: في ذات يد ذات معجمة أي في يد أو المراد به ما في اليد+ قوله:
(ولا يجوز جعله حالاً من الهاء الخ (تبع في هذا أبا البقاء رحمه الله، وقد ردّ بأنّ الممنوع مجيء الحال من المضاف إليه إذا لم يكن المضاف جزءاً أو كجزء أو عاملا، وهنا المضاف جزء من المضاف إليه فليس بممتنع، والفصل بالخبرين الحال، وصاحبها ليس بممتنع أيضا كما في قوله تعالى: {وهذا بعلي شيخا} [سررة هرد، الآية: 72] إذا قيل إنه حالط من اسم الإشارة، والعامل فيه التنبيه، وقوله إذ لا ضمير يعود من جملة ينفق كيف يشاء إلى ذي الحال، وهو اليد إن قيل إنه لا مانع من تقديره أي ينفق بهما نعم هو خلاف الأصل، والظاهر، وهو يقتضي المرجوحية لا الامتناع، والجملة على هذا مستأنفة(3/261)
وجوّز فيها الحالية، والخبرية على التقدير السابق، وقوله: ولا من ضميرها أي المستتر في مبسوطتان. قوله: (في فنحاص بن عارّوراء (أخرجه ابن حبان، وغيره عن ابن عباس رضي الله عنهما، وتقدّم ضبطه في آل عمران، وقوله وأشرك فيه الآخرون يعني أنه نسب القول إلى اليهود جملة، والقائل واحد لأنهم لما رضوا بقوله جعلوا قائلين كما يقال بنو فلان قتلوا قتيلا، والقاتل واحد منهم وقد مرّ تحقيقه. قوله: (أي هم طاغون الخ) لأنّ الزيادة تقتضي وجود المزيد عليه قبلها، ومثل له بما ذكره لأنه كان المتبادر أن يكون لأيمانهم، وازدياده لا لضده فلذا أوضحه بالمثال. قوله:) كلما أرادوا حرب الرسول صلى الله عليه وسلم الخ) يعني أن إيقاد النار هنا كناية عن إرادة الحرب لأنه كان عادتهم ذلك، ونيران العرب مشهورة منها هذه وضمير علإ 4 للرسول عتي! ، واطفاء النار على الأوّل عبارة عن دفع شرّهم، وعلى الثاني غلبتهم، والحرب عليه مطلقة، وفطرس الرومي بضم الفاء، وسكون الطاء المهملة، وضم الراء المهملة، والسين المهملة كذا ضبطه الخيالي رحمه الله، وفي نسخة نسطوس، وللحرب صلة أوقدوا أي متعلقة به واللام للتعليل، وقوله للفساد أي هو مفعول
لأجله، وقيل إنه حال. قوله: (قلا يجارّيهم إلا شرا) يعني عدم المحبة كناية عنه كما أنّ محبته عبارة عن أنعامه، وثوابه كما مرّ، وقوله: ولم نؤاخذهم إشارة إلى أنه ليس المراد به الستر وقوله، ولجعلناهم إشارة إلى معنى التعدية بالهمزة، وعظم معاصيهم يستفاد من منع دخول الجنة وكثرتها من جمع السيئات، وقوله: يجب ما تبله بالجيم أي يقطعه، ويرفعه بحيث لا يؤاخذ بشيء قبله غير حقوق العباد، وقوله: (وإنّ الكتابي الخ) إشارة إلى دفع ما يوهمه قوله: {إن الله لا يغفر أن يشرك به} الآية. قوله: (بإذاعة ما فيهما الخ) أصل الإتامة الثبات في المكان ثم استعير إقامة الشيء لتوفية حقه كما قاله الراغب، وتوفية حق الكتاب السماوي إظهار ما فيه، والعمل به فلذا فسره المصنف رحمه الله بما ذكر ثمّ أشار إلى أنّ إنزال الكتاب إلى قوم مجرّد وصوله إليهم أو إيجاب الإيمان، وان لم يكن الوحي نازلاً عليهم. قوله: الوسع عليهم أررّاقهم بأن يفيض الخ) المراد الانتفاع مطلقا، وخص اكل لكونه أعظمها ويستتبع سائرها كما مرّ في قوله: {يكلون أموال اليتامى} [سررة النساء، الآية: 10] وجعل من فوقهم، ومن تحت أرجلهم كناية عن أمور السماء والأرض! أو الأشجار العالية عليهم والزروع التي هي منخفضة أو الثمار على الأشجار والساقطة منها على الأرض! ، وجعله بمعنى الأمطار والأنهار التي تحصل بها أقواتهم بعيد من اكل. قوله: (عادلة غير غالية (معنى الاقتصاد الاعتدال، وغالية من الغلوّ، وهو الإفراط، وأمّا تفسير الاقتصاد بالتوسط في العداوة فغير مناسب لما بعد.، ولذا مر منه. توله: (أي بشى ما يعملونه الخ) في ساء مذاهب للنحاة فقيل إنها فعل تعجب كقضو زبد بالضم بمعنى ما أقضاه، وقيل إن النحاة لم يعدوا ساء من الأفعال التي استعملت للتعجب فقول
المصنف، والزمخشري إنّ فيه معنى التعجب أرادوا، وأنه مأخوذ من المقام بدليل تفسيرها ببئس فإنها تكون من باب المدح، والذم وتمييزها محذوف أي ساء عملا الذي كانوا يعملون أو ما نكرة تمييز، وقوله أو الإفراط في العداوة هو على التفسير الثاني للاقتصاد، والتعجب لما فعلوه، وقد عرفوا خلافه. قوله: (جميع ما أنزل إليك الخ الما كان معنى قوله فإن لم تفعل فإن لم تبلغ ما أنزل، وهو الرسالة صار ما-له إلى أن لم تبلغ فما بلغت، وهو لا فائدة فيه لاتحاد الشرط، والجزاء فلذا قيل المعنى فإن لم تبلغ جميع ما أنزل إليك فإنك لم تبلغ شيئا من أصلا لأنّ تقصيره في بعض ما أمر به يحبط باقيه كما أنّ من ترك ركناً من أركان الصلاة بطلت صلاته، واستدل به على أنه صلى الله عليه وسلم لم يكتم شيئاً من الوحي أصلا خلافا للشيعة إذ قالوا ترك بعضه تقية، وقال بعضهم أنّ هذا فيما يتعلق بالدين، ومصالح العباد، وأمر باطلاعهم عليه، وأما ما خص به صلى الله عليه وسلم من الأسرار كما روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنه قال: حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاءين أما أحدهما(3/262)
فبئئته، وأما الآخر فلو بئئته قطع هذا البلعوم أي عنقه، وأصل معناه مجرى الطعام، واليه أشار الحسن رضي الله تعالى عنه بقوله:
يارب جوهرعلم لو أبوح به لقيل لي أنت ممن يعبد الوثنا
وهو علم الحقيقة، والحكمة المسكوت عنها، وقد أشار إلى هذا المصنف رحمه الله تعالى، وهو يفهم من لفظ الرسالة فإنّ الرسالة ما يرسل إلى الغير، وهذا مذهب الصوفية رحمهم الله تعالى أو أنّ اتحاد الجزاء، والشرط المراد به المبالغة كما في شعري شعري، ومن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله أي فقد ارتكب أمراً عظيما، وقوله أو فكأنك بلغت شيئا منها كقوله: فكأنما قتل الناس جميعا قيل، والوجه هذا لأنه ربما يناقش في الأوّل، ووجه المناقشة أنّ الصلاة اعتبرها الشارع أمراً واحداً بخلاف التبليغ وهي غير واردة لأنه إذا ألزمه بتبليغ الجميع فقد جعلها كالصلاة، والإيمان فإنّ من آمن ببعض ما يلزمه الإيمان به دون بعض لا يعد مؤمناً، وأجيب بوجوه أخر منها أنّ المراد الحكم بالتبليغ لا نفس التبليغ أي إن تركت تبليغ ما أنزل إليك حكم عليك بأنك لم تبلغ أصلاً، وقيل أقيم السبب مقام المسبب أي لا ثواب لك، وقيل المراد بما أنزل القرآن، وبما في الجواب بقية المعجزات. قوله: (عدة وضمان من الله تعالى الخ) وإنما قال بعصمة روحه من القتل لئلا يورد عليه أنه صلى الله عليه وسلم شج يوم أحد حتى قيل إنها نزلت بعد ذلك فهو باق على عمومه، واستشكل بأن اليهود سمو. صلى الله عليه وسلم،
وأجيب بأنه ضمن له العصمة بسبب تبليغ الوحي فلا يمنع عنه بقتل ونحوه، وأما ما فعل به كيم وبالأنبياء عليهم الصلاة والسلام فللذب عن الأموال، والبلاد، والأنفس، ولا يخفى بعده قال الراغب رحمه الله تعالى: عصمة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، حفظهم بما خصوا به من صفاء الجواهر ثم بما أولاهم من الأخلاق والفضائل، ثم بالنصرة وتثبيت أقدامهم ثم بإنزال السكينة عليهم، وبحفظ قلوبهم، وبالتوفيق وقوله: (وعن أنس رضي الله تعالى عنه (قالوا هذا الحديث أخرجه الترمذي، والبيهقي وغيرها عن عائشة رضي الله تعالى عنها، وعن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه، ولم يسنده أحد عن أنس رضي الله تعالى عنه وأدم بهمزة ودال مهملة مفتوحتين بلا مذ وميم اسم جمع لا ديم، وهو الجلد المدبوغ وقوله: (ولعل المراد ال! أمر بيانه، وافشاؤه نشره، واظهاره. قوله: (حتى تقيموا التورية الخ (قد سمعت معنى الإقا! ة عن قريب، وقولى: نا! ط بوجوب الطاعة له أي إذا بعت إليهم وهذا يعلم من الطاعة فإف* تقتضي أمره لهم وهو لا يأمر من لم يبعث إليه فلا يقال إنّ النبيئ تكنن قد يبعث لقومه فقط كصا ورد في الحديث فكيف تجب على غيرهم طاعته، وفسر تأس بتحزن، وتتأسف، وأشار بقوله. (فإن ضرر الخ) إلى أنّ سبب الحزن خوف الضرر والمندوحة السعة، والمراد بها هنا الغني عنهم. قوله: (والصابؤون رقع على الابتداء وخبره محذوف الخ (يعني الخبر المذكور خبر إن، والصابئون مبتدأ خبره محذوف لدلالة الخبر الأول عليه فيكون حينئذ في نية التأخير، والتقدير
أن الذين آمنوا والذين هادوا من آمن منهم فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون، والصابؤون كذلك بناء على أنّ المحذوف في أن زيدا وعمرو قائم خبر الثاني لا الأوّل كما هو مذهب بعض النحاة، والى هذا أشار المصحنف رحمه الله تعالى، وقوله: حكمهم كذا كناية عن قوله: (من آمن الخ) واستدل عليه بالبيتين فإنّ قوله لغريب خبر أنّ، ولذا دخلت عليه اللام لأنها تدخل على خبر إنّ لا على خبر المبتدأ إلا شذوذاً، وكذا بغاة ما بقينا الخ خبر أنا، ولو كان خبر أنتم لقال ما بقيتم هذا تقرير ما ذكره المصنف رحمه الله تعالى تبعاً للزمخشري، وقال النحرير: إنما اختار هذا دون العكس، وهو أن يكون المذكور خبراً عن الثاني، وقد حذف من الأوّل لأنه أقيس حيث جعل السابق قرينة اللاحق، وقدم للاهتمام بالمقدم، وأوفق بالاستعمال كما في الشعر المذكور، وعورض بأن ترك الفصل بين المبتدأ، والخبر أنسب، والإلحاق بالأقرب أقرب، وهو أيضاً موافق للاستعمال كما في قوله: نحن بما عندنا البيت وإنما اعتبر نية التأخير ليسلم عن الفصل بين اسم إن وخبره، وليعلم أنّ الخبر ماذا، ثم قال وقد يقال اختار هذا في الآية خاصة أي كون الخبر للأوّل، والحذف من الثاني مع نية التقديم لأن الكلام(3/263)
مسوق لبيان حال أهل الكتاب فصرف الخبر المذكور إليهم أولى، والصابئون أشد الفرق ضلالاً كما ذكره العلامة فباعتبار ذكرهم متأخرا قدم لأنه لمزيد الاهتمام أولى، وبالدلالة على هذا الغرض أوفى، وأيضاً في صرف الخبر إلى الثاني فصل للنصارى عن اليهود وتفرقه بين أهل الكتابين لأنه حينئذ عطف على قوله، والصابؤون قطعاً نعم لو صح أنّ المنافقين، واليهود أو غل المعدودين في الضلال، والصابئين، والنصارى أسهل صح تعاطفهما وجعل المذكور خبراً عنهما، وترك كلمة التحقيق المذكورة في الأوّلين دليلاً على هذا المعنى. قوله: (فإتي وقيار الخ) هو لضابي بضاد معجمة، وباء موحدة بعدها همزة ابن الحرث البرجمي بالجيم قاله، وقد حبسه عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه في خلافته بالمدينة حين اسنعدى عليه والشعر هو هذا:
فمن يك أمسى بالمدينة رحله فإنى وقيا ربها لغريب
وما عاجلات الطيريدنين للفتى رشاداً ولاعن ريثهن يخيب
ورب أمور لا تضيرك ضيرة وللقلب من مخاشتهن وجيب ولاخيرفيمن لايوطن نفسه على نائبات الدهرحين تنوب
وفي الشك تفريط وفي الجزم قوّة ويخطئ في الجدّ الفتى ويصيب
ولست بمستبق صديقاولا أخا إذالم يعد الشيء وهويريب
وقيار اسم فرسه أو جمله وكان وطئ غلاماً فقتله فحبس بسببه، وقوله: فمن يك روي
بالفاء، وتركها مجزوماً وقيل إن غريب فيه خبر عن الاسمين جميعا لأن فعيلاً يستوي فيه الواحد، وغيره نحو والملائكة بعد ذلك ظهير ورده الخلخالي رحمه الله تعالى بأنه لم يرد للاثنين وإن ورد للجمع كفعول، وأجاب عنه ابن هشام بأنهم قالوا في قوله: (عن اليمين وعن الشمال قعيد (إن المراد قعيدان وهذا يدل على إطلاقه على الاثنين أيضاً فالصواب منع هذأ الوجه بأنه يلزم عليه توارد عاملين على معمول واحد، وهو أنّ والابتداء أو المبتدأ على الخلاف في رافع الخبر، ومثله لا يصح على الأصح خلافا للكوفيين. قوله: (وإلا فاعلموا الخ) هو لبشر بن أبي خازم بخله وزاء معجمتين الأزدي من قصيدة أوردها في الفضليات وقبله:
إذا جزت نواصي آل بدر فأدّوها وأسرى في الوثاق
والا فاعلموا أنا وأنتم بغاة مابقينافي شقاق
وكان قوم من آل بدر، وهم قوم من فزارة جازوأ على بني لام، وهم من طيّ فجزوا نواصيهم، وحبسوهم، وقالوا مننا عليكم، ولم نقتلكم فقال بشر ذلك، ومعناه أدّوا غرامة ذلك، والا فاعلموا أنا نطلبكم أبدا كما طلبتمونا فبغاة جمع باغ بمعنى طالب، وقيل إنه جمع باغ من البغي، والتعدّي، وأنتم بغاة جملة معترضة لأنه لا يقول في قومه إنهم بغاة وما بقينا في شقاق خبر إنّ فلا شاهد لما ذكره المصنف رحمه الله تعالى لأنّ ضمير المتكلم مع الغير في محله. قوله: (وهو كاعترا ضدل به الخ (يعني الصابئون، رخبره المحذوف يجري مجرى الاعتراض لكونه جملة في أثناء الكلام لقصد التاكيد أمّا في الآية فظاهر، وأما في البيت فلأنّ إثبات البغي للمخاطبين مع كونهم بادين في الجناية، واغلي! في الشرّ لا يقين بأن يرجعوا، ويعتذروا يؤكد ثبوته لنا مع كوننا بصدد الانتقام، ودفع نقيضه الضيم، والعار، ولم يجعله اعتراضا حقيقة بل كالاعتراض لأنه معطوف على جملة {إنّ الذين آمنوا} وخبرها، ويرد عليه ما قاله ابن هشام من أن فيه تقديم الجملة المعطوفة على بعض الجملة المعطوف عليها، وإنما يتقدم المعطوف على المعطوف عليه في الشعر فكذا ينبغي أن يكون تقديمه على بعض المعطوف عليه بل هو أولى منه بالمنع، وأما ما أجاب به عنه بأن الواو واو الاستئناف التي تدخل على الجملة المعترضة كقوله تعالى: {فإن لم تفعلوا ولن ثفعلوا فاتقوا النار} [سورة البقرة، الآية: 24] الخ، وهذه الجملة معترضة لا معطوفة فلا يتمشى هنا لأنه يفوّت نكتة التقديم من تأخير التي ذكروها لأنها إذا كانت معترضة لا تكون مقدمة من تأخير. قوله: (ويجوز أن يكون والنصارى معطوفا عليه) فيه تسمح، وهذا على القول(3/264)
الآخر للنحاة ولا يرد عليه شيء
سوى أنّ الأكثر الحذف من الثاني لدلالة الأوّل، وعكسه قليل لكته جائز، ولم يتعرّض! لهذا الوجه في الكشاف لكنه يعارضه ما مرّ، وقيل هو عطف على الصلة بتقدير مبتدأ أي وهم الصابئون، ولا يخفى بعده وان عذه هو أحسن الوجوه. قوله: (نحن يما عندنا الخ) هذا من قصيدة لرجل من الأنصار، وقيل لقيس بن الخطيم بالخاء المعجمة ابن عديّ وهو شاعر جاهلي وقيل لعمرو بن امرئ القيس الأنصاري وأوّله:
أبلغ بني جحجبى وقومهم خطمة أنا وراءهم أنف
لماننادون ماتسومهم الأهـ رراء من ضيم خطة نكف
الحافظ وعورة العشيرة لا يأتيهم من ورائنا وكف
يا مال والسيد المعمم قد يطرأ في بعض رأيه السرف
نحن بما عندنا وأنت بما عندك راض والرأي مختلف
جحجبى بفتح الجيمين بينهما حاء مهملة ساكنة، وآخره باء موحدة وألف مقصورة بطن
من الأنصار، وخطمة بفتح الخاء المعجمة، وسكون الطاء المهملة بطن من الأنصار أيضا، وأنف بضم الهمزة، والنون جمع آنف كضارب بمعنى محام مأخوذ من الأنفة، وهي الجمية وتسومهم بمعنى تكلفهم، والضيم الظلم، وخطة بمعنى شأن وأمر، ونكف بضم النون والكاف جمع ناكف بمعنى مستنكف، والوكف العيب أو الإثم أو الخوف أو المكروه أو النقص، والعورة ما لم يحم وكل مخوف، ومن ورائنا أي في غيبتنا، ومال مرخم مالك والمعمم ذو العمامة، وهو مما تتمدح به العرب، والشعر من المنسرج. قوله: (ولا يجوز عطفه على محل إنّ واسمها الخ) قال القطب: في شرح الكشاف لهم في العطف على المحل عبارتان فتارة يقولون العطف على محل إنّ واسمها، وتارة على محل اسم إن والمراد بالمحل ما كان قبل دخولها، وهو الرفع على الابتداء لأن اسمها لما لم يكن مرفوعا محلا إلا بسبب دخول أن جعلت مع اسمها شيئاً واحداً كما جعل لا التي لنفي الجنس مع اسمها أسماً واحداً، وجعلوا العطف على محلها مع اسمها، والتحقيق الأوّل لأنّ الاسم كان قبل مرفوعا بالابتداء فلما دخلت عليه لم تغير معناه بل أكدته، ولذا اختصت به هي، والمفتوحة على رأي دون أخواتها كليت، ولعل لتغييرها معناه، واختلفوا في غير العطف من التوابع فذهب الفراء ويونس إلى جوازه، وفيه مذاهب فأجازه بعضهم مطلقا، ومنعه بعضهم مطلقا، وفصل بعضهم فقال يمتنع قبل مضيّ الخبر، وبعده يجوز، وذهب الفراء إلى أنه إن خفي إعراب الاسم جاز لزوال الكراهة اللفظية نحو إنك وزيد ذاهبان، والا امتنع، والمانع ما ذكره المصنف رحمه الله تعالى تبعاً
للزمخشري من لزوم توارد عاملين، وهما إنّ والابتداء أو المبتدأ، على معمول واحد، وهو الخبر، وأورد عليه أنه إنما يلزم ذلك لو كان المذكور خبرا عنهما ليصير مثل إنّ زيدا وعمرو، قائمان وأما على نية التأخير، وامتناع مضي الخبر تقديراً يخكون المذكور معمول إن فقط، وخبر المعطوف محذوف كما في أنّ زيدا قائم، وعمرو عطفا على محل إن مع اسمها، وأجيب بان من آمن صالح الخبرية المجموع، والأصل عدم التقدير فلو ارتفع الصابئون بالعطف على المحل لزم المحذور فتعين الرفع على الابتداء، ولزم تقدير الخبر ونية التأخير، وهذا ليس بشيء لأنه لو قدر له خبر لكان جملة معطوفة على جملة، ولم يكن من العطف على المحل في شيء، ولا يلزم المحذور المذكور إلا إذا لم يقدر له خبر، ولا محيص إلا بالتزام صحة ذلك كما ذهب إليه الكوفيون أو القول بأنّ خبر إنّ مرفوع بما كان مرفوعاً به قبل دخولها، والعجب أنه مع ظهور ضعفه كي أوردوه، وأطال فيه مثل هؤلاء الفحول. قوله: (ولا على الضمير في هاد والعدم التثيد والفصل الخ) أما الأوّل فظاهر لأنه لا يعطف على الضمير المرفوع المتصل بدون فصل، وكذا الثاني لأنه لو عطف على الفاعل لكان التقدير هاد الصابئون فيقتضي أنهم هود، وليس كذلك، وهذا القول منقول عن الكسائي، وقد خطأه فيه الفراء والزجاج بما ذكر، ولذا قيل إن الكسائي يرى صحة العطف من غير فاصل فلا يرد عليه الاعتراض الأوّل(3/265)
وأما كون هاد بمعنى تاب كما في قوله تعالى: {إنا هدنا إليك} أسورة الأعراف، الآية: 56 ا] فلا يناسبه قوله من آمن منهم فتأمّل. قوله: (وقيل إنّ بمعنى نعم) التي هي حرف جواب، ولا عمل لها حينئذ فما بعدها مرفوع المحل على الابتداء والمرفوع معطوف عليه، وهذا مما أثبته بعض النحويين، وأهل اللغة، وخرجوا عليه قراءة أنّ هذان لساحران، ونحوه من الشواهد نعم إنه هنا لا يصح لأنها لم يتقدمها شيء تكون جوابا له، ونعم لا تقع في ابتداء الكلام على الصحيح، والجواب بأن ثمة سؤالاً مقدراً بعيد ركيك. قوله: (وقيل الصابئون منصوب بالفتحة الخ (قيل هذا القول فاسد فإنّ لغة بلحرث، وغيرهم الذين جعلوا المثنى دائما بالألف نحو رأيت الزيدان ومررت بالزيدان وأعربوه بحركات مقدرة إنما هي في المثنى وهذا القائل قاس الجمع عليه فألزمه الواو كما ألزم المثنى الألف فيعرب بحركات مقدرة، ومثله لا يجري فيه القياس، ولا ينبغي تخريج القرآن عليه ولكن المصنف رحمه الله تعالى تبع فيه أبا البقاء، ونقله مكي أيضاً، وقوله: وذلك أي تقدير الحركات على القول بأنه معرب بحركات مقدرة لا بالحروف كما يجوز فيه تقدير الفتحة على الياء يجوز تقديرها على الواو ولا يخفى ضعفه، وقوله، والجملة خبر أنّ على الوجه الأوّل أو خبر المبتدأ على الثاني، وعلى كل حال لا بد من تقدير العائد منها كما
ذكره، ومن هذه إمّا شرطية أو موصولة دخلت الفاء خبرها، ولو أخر حذف العائد عن البدلية أيضاً لكان أولى لأنه بدل بعض لا بد فيه من تقدير العائد كما تقرّر في العربية، وكان عليه أن يوجه أنّ من آمن منهم كيف يقع خبرا عن الذين آمنوا أو بدلاً لأنه يقتضي أنقسام المؤمنين إلى مؤمنين وغير مؤمنين فلذا أوّل في الكشاف وشروحه بأن المراد بالذين آمنوا الذين آمنوا باللسان فقط فيكون المعنى الذين آمنوا باللسان من أخلص منهم الإيمان فله كذا أو يؤوّل من آمن بمن ثبت على الأيمان فيصح في حق المؤمنين الخلص، وفي هذا شبه جمع بين الحقيقة، والمجاز، ودفع بأنّ الثبات على الإيمان ليس غير الإيمان بل هو وأحداثه فردان من مطلقه، والوجه الأول إذ في ضم المؤمنين إلى الكفرة إخلال بتكريمهم، وبما ذكر من النكتة في تقديم، والصابئون. قوله: (أو النصب على البدل من اسم إنّ وما عطف عليه) ذكروا في إعرابه ثلاثة وجوه الرفع على الابتداء، والنصب بدلاً من مجموع الذين آمنوا، وما بعده أو مما عطف فقط، والمصنف رحمه الله تعالى ترك هدّا، وكأنه لما قيل إنّ البدل من المعطوف يستلزم الإبدال من المعطوف عليه كما ذكره الزمخشري في قوله تعالى: {إذ أعجبتكم كثرتكم} [سورة التوبة، الآية: 25] وان قال النحرير أنه ممنوع قلو قال أو ما عطف عليه كان أشمل فإن قيل ما ذكر من الوجوه الثلاثة في محل من آمن هل يجري على تفسيري الدّين آمنوا أو لا قيل إن جعل أحداث الإيمان، والثبات عليه من إفراد الإيمان جاز إجراء الكل في كل من الوجهين، والأخص الرفع على الابتداء، والنصب على الإبدال في المجموع بما إذا أريد بالذين آمنوأ المنافقون، والنصب على الإبدال بما إذا أريد بهم خلص المؤمنين، واعلم أنه قال في الكشاف فإن قلت فأين الراجع إلى اسم إنّ قلت هو محذوف تقديره من آمن منهم كما جاء في موضع آخر فقيل هذا على تقدير البدل لا الخبر لوجود الراجع من قوله عليهم، وقيل في الردّ عليه المراد على تقدير ارتفاع من آمن على الابتداء إذ على تقدير كونه بدلاً فخبر أنّ هو قوله لا خوف عليهم وضمير عليهم عائد إلى اسم إق بلا حاجة إلى تقدير محذوف، والعجب ممن توهم العكس.
(قلت) مراد الطيبي رحمه الله أنه على تقدير البدل يحتاج إلى رابط لأنه بدل بعض، ولا
بد فيه من الضمير كما ذكره النحاة، والخبر عن بدل المبتدأ لا عن المبتدأ، ورابطه به موجود، وهو عليهم كما تقول زيد عينه حسنة فإنّ الخبر للبدل لا للمبتدأ على الأفصح الصحيح، وهو وهم لأنه يقتضي أنه إذا كان مبتدأ فالجملة لا تحتاج لرابط وليس كذلك لأن ضمير عليهم وهم لمن، وليس هو الموصول المبتدأ بل بعضه، وكذا الرادّ عليه، وأهم أيضا لأن قوله ضمير عليهم عائد على اسم إن خطأ لأنه على من سواء كان بدلاً أو مبتدا لأنّ من لا خوف عليهم ليس عين ما تقدم بل بعضه، وهذه غفلة عجيبة منهما. قوله:) وقرئ والصابئين وهو الظاهر) لعطفه على اسم إن من غير محذور، وقلبت الهمزة ياء على خلاف القياس، وقوله: بإبدال
الهمزة ألفا يعني من صبا فيصير كرمي(3/266)
واسم الفاعل منه صاب كرام وجمعه صابون كرامون، وصبا معناه مال لميلهم عن مقتضى الشرع، والعقل. قوله: (جواب الشرط والجملة صفة رسلاَ الخ) تسمية كلما كلمة شرط وقع من الفقهاء، وأهل المعقول وقال أبو حيان رحمه الله ليس كلمة شرط بل هو منصوب على الظرفية لإضافته إلى ما المصدرية الظرفية وقال السفاقسي رحمه الله، وغيره سموها شرطا لاقتضائها جواباً كالثرط الغير الجازم فهي مثل إذا ولا بعد فيه، وقيل على كونها صفة إنه لا يساعده المقام لأنّ الجمل الخبرية إذا جعلت صفة أو صلة يفسخ ما فيها من الحكم، ويجعل عنوانا للموصوف، وتتمة له، ولذا وجب أن تكون معلومة الانتساب له ومن هنا كانت قبل العلم بها أخباراً وبعده صفات، ولا ريب أن ما سيق له النظم إنما هو لبيان أنهم جعلوا كل من جاءهم من الرسل عرضة للقتل، والتكذيب حسبما يفيده جعلها استئنافا على أبلغ وجه وآكده لا بيان أنه أرسل إليهم رسلاً موصوفين بذلك، وهو تخيل لا طائل تحته فإنّ قوله، ولقد أخذنا ميثاق بني إسرائيل، وأرسلنا إليهم رسلاً مسوق لبيان جناياتهم، والنعي عليهم بذلك كما اعترف به هذا القائل، وهو لا يفيده إلا بالنظر إلى الصفة التي هي المقصود بالإفادة كما في سائر القيود لأنها مرمى النظر وأمّا كونها معلومة فلا ضير فيه فإنك إذا وبخت شخصاً، وقلت له فعلت كيت، وكيت، وهو أعلم بما فعل لا يضرّ ذلك في تقريعه، وتعييره بل هو أقوى كما لا يخفى على الخبير بأساليب الكلام فلا تلتفت إلى مثل هذه الأوهام. قوله: (وقيل الجواب محذوف دلّ عليه ذلك وهو استئناف البيان الجواب المحذوف وتقديره ناصبوه وعادوه، ولم يقدر استكبروا الملفوظ به في الآية الأخرى لأنه أدخل في التوبيخ على ما قابلوا مجيء الرسول صلى الله عليه وسلم الهادي لهم، وأنسب بما وقع في التفصيل مستقبحا غاية الاستقباح مذكورا بطريق الاستحضار، وهو قتل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فإنّ الاستكبار إنما تقضي إليه بواسطة المناصبة، وأمّا في الآية الأخرى فقد قصد إلى استقباح الاستكبار نظراً إليه في نفسه لاقتضاء المقام، وقد خالف المصنف رحمه الله الزمخشري إذ جعل هذا متعينا لأنه تفصيل لحكم إفراد الجمع الواقع في قوله: {أرسلنا إليهم رسلا، أي كلما جاءهم رسول من الرسل، والمذكور بقوله فريقاً كذبوا الخ يقتضي أنّ الجائي في كل مرّة فريقان فبينهما تدافع، وعلى تقدير قطع النظر عن أفراد هذا المانع لا يحسن في مثل هذا المقام تقديم المفعول مثل إن أكرمت أخي أخاك أكرمت لأنه يشعر بالاختصاص وتقدير الفعل مع النزاع في المفعول، وتعليقه بالشرط يشعر بالشك في أصل الفعل، وقيل: إنه لا بد من الفاء لأنّ محل تأثير الشرط
هو الفعل وتقديم المفعول يبعده عن المؤثر فيحوجه إلى رابط، ولأنه بتقديم المفعول أشبه الجملة الاسمية المفتقرة إلى الفاء كذا قرّره النحرير، وقيل فيه مانع آخر لأن المعنى على أنهم كلما جاءمم رسول! وقع أحد الأمرين لا كلاهما فلو كان جوابا لكان الظاهر أو بدل الواو، والمصنف رحمه الله لم ينظر إلى هذه الموانع أمّا الأوّل فلأنه لقصد التغليظ جعل قتل واحد كقتل فريق، وقيل المراد بالرسول جنسه الصادق بالكثير، وبؤيده كلما الدالة على الكثرة، وأما الثاني فلأنه لا تقتضي قواعد العربية مثله، وما ذكر من الوجوه أوهام لا يلتفت إليها، ولا يوجد مثله في كتب النحو، ومنه علم دفع الأخير.
(أقول) هذا عجيب منه مع تبحره يغفل عن مثل هذا، وقد قال في متن التسهيل، ويجوؤ
أن ينطلق خيرا يصب خلافا للفراء فقال شراحه أجاز سيبويه، والكسائي رحمهما الله تعالى تقديم المنصوب بالجواب مع بقاء جزمه، وأنشد الكسائي رحمه الله تعالى:
وللخيرأيام فمن يصطبرلها ويعرف لها أيامها الخيريعقب
تقدير. يعقب الخير، ومنع ذلك الفراء رحمه الله مع بقاء الجزم، وقال بل يجب الرفع
على التقديم والتأخير أو على إضمار الفاء، وتأوّل البيت بأنّ الخير صفة للأيام كأئه قال أيامها الصالحة، واختار ابن مالك رحمه الله هذا المذهب في بعض كتبه، ولما رأى الزمخشري اشتراك المانع بين الشرط الجازم، وما في معناه مال إليه خصوصا، وقوّة المعنى تقتضيه فهو الحق والمصنف رحمه الله نظر إلى الظاهر، وأنه لا حاجة إلى التقدير(3/267)
مع أن الآية الأخرى، وهي قوله تعالى: {أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقاً كذبتم وفريقاً تقتلون} [سورة الب! قرة، الآية: 187 تدلّ على التقدير دلالة ظاهرة.
قوله: (د إنما جيء بيقتلون موضع قتلوا الخ) يعني إن كذبوا على أصله، وعدل في يقتلون إلى المضارع لقصد الاستحضار، ولم يقصد الزمخشريّ وجه إلاستمرار الذي ذكره هناك، وهو أنهم بعد يحومون حول قتل محمد صلى الله عليه وسلم، لأنّ هذا خبر عن أسلافهم وإنما يستقيم ذلك في المخاطبين كما في تلك الآية، ولم يقصد ذلك في التكذيب لمزيد الاهتمام بالقتل، والمصنف رحمه الله تعالى ذكر الاستمرار، وأدخل المخاطبين فيه لأن ما صدر عن أسلافهم كأنه صدر منهم لارتضائهم واقتفائهم أثرهم، ولا منافاة بين استحضار الحال الماضية، والاستمرار لأنه لما قدر أنه شوهدت تلك الحال واستمرارها فيهم عبر عنها بالمضارع لذلك فلا يقال الظاهر أو تنبيهاً للمنافاة بينهما لكن الظاهر المغايرة بينهما لأنّ المراد إما حكاية الحال الماضية أو الاستمرار أي فريقاً تقتين حبعد لأنكم حول قتل محمد-لجببرو، واقتصر العلامة هنا على حكاية أسلافهم لقرينة ضطلؤا الغيبة، وترك تلك الآية على الاحتمالين لقرينة ضمائر
المخاطبين ليكون توبيخاً، وتعييراً للحاضرين بفعل آبائهم، ولذا عقبت هذه الآية بقصة عيسى عليه الصلاة والسلام فتأمل. قوله: (أن لا يصيبهم بلاء وعذاب الخ) يعني المراد بالفتنة هنا البلاء لا معناها المعروف وأن الخفيفة كما ذكر في النحو إن وقعت بعدما يفيد اليقين فهي مخففة من الثقيلة، وان وقعت بعدما لا يفيد يقيناً، ولا ظناً فهي مصدرية، وان وقعت بعدما يفيد الظن احتملت الوجهين لإجرائه مجرى العلم لقوّته، وتنزيله منزلة غيره لعدم إفادة اليقين، وحسب من هذا القبيل لأنها بمعنى قدر وظن، وهي تنصب مفعولين سدت إنّ وما بعدها مسدهما لاشتماله على مسند، ومسند إليه وقيل إن حسب بمعنى علم هنا، وانها لا تخفف إلا بعدما يفيد اليقين، واسمها ضمير شأن محذوف، وكان تامّة وقيل: إنّ المفعول الثاني محذوف هنا أي حسبوا عدم الفتنة كائنا، وهو منقول عن الأخفش رحمه الله تعالى ومذصب الجمهور ما ذكر، واعلم أنّ هذا كله إنما يتم إذا قلنا كلما شرطية وقد منعه أبو حيان، وقال إنها في معنا. فتعامل معاملته، وهو الحق. قوله: (ثم تابوا فتاب الله عليهم) أي قبل توبتهم، وأثابهم عليها وذلك إنما يكون بعد توبتهم فلذا قدره، وقوله: كرة أخرى عدل عن قول الزمخشريّ بطلبهم المحال، وهو الرؤبة لأنه مع ما فيه من الاعتزال تكلف لأنّ طلب الرؤية منهم لم يكن بعد عبادة العجل فإن طلبها كان من الذين كانوا مع موسى صلى الله عليه وسلم في الطور، وعبادة العجل كانت من المتخلفين عنه إذ ذاك، ولذا قيل إن ثم فيه حينئذ للتراخي الرتبي لا الزماني. قوله: (وقرئ بالضم فيهما على أنّ الله عماهم الخ) الظاهر أنّ عماهم في عبارة المصنف رحمه الله تعالى بالتشديد لأنه ثبت في اللغة عما يعميه أي صيره أعمى، والذي في عبارة الزمخشريّ مخفف فإنه قال على تقدير عماهم الله، وصمهم أي رماهم وضربهم بالعمى، والصمم كما يقال نزكته إذا ضربته بالنيزك، وهو رمح قصير معرب من مصغر نزه لكن قال أبو حيان إنه لم يسمع عماه وصمه، والزمخشريّ أعرف منه باللغة لكنه لغة قليلة كما ذكره المصنف رحمه الله تعالى، والمعروف تعديته بالهمزة، وقد يعدي بالتضعيف فعموا بضم العين، والميم وصموا بضم الصاد والميم مبني للمفعول ويصح أن تقرأ عبارة المصنف رحمه الله تعالى عماهم، وصمهم فتكون مطابقة لعبارة الزمخشريّ. قوله: (بدل من الضمير أو فاعل الخ) على البدلية الضمير إما عائد على ما قبله أو غير عائد عليهم بل على الكثير مفسر به لأنه في هذه الصورة يجوز عود الضمير
على المتأخر كما مر أو هو فاعل، والواو علامة الجمع لا ضمير، وهذه لغة لبعض العرب يعبر عنها النحاة بأكلوني البراغيث أو هو خبر مبتدأ محذوف واختلف في تقديره فقدره بعضهم العمي، والصم كثير منهم، ومنهم من قدره العمي، والصمم كثير منهم أي صادر منهم والظاهر الأوّل، ولذا اقتصر عليه المصنف رحمه الله تعالى. قوله: (وقيل مبتدأ والجملة قبله خبره الخ) وضعفه المصنف رحمه الله تعالى بأنّ الخبر الفعلي لا يتقدم على المبتدأ لالتباسه بالفاعل فلا يقال في زيد قام قام زيد على أنه مبتدأ، وخبر ورد بأن منع التقديم مشروط بكون الفاعل ضميراً مستترا(3/268)
فإنه لا يلتيس إذا كان بارزا فإن قيل إنه يلتبس بالفاعل في لغة أكلوني البراغيث أيضا قيل إنها لغة ضعيفة لا يلتفت إليها، وقد قالوا إنه لا يجوز تقديم الخبر فيما يصلح المبتدأ أن يكون تأكيدا للفاعل نحو أنا قمت فإن أنا لو أخر التيس بتأكيد الفاعل، وما نحن فيه مثله في الالتباس إلا أن الالتباس هنا بتابع آخر أعني البدل لكن النحاة صرحوا بجواز التقديم في مثل الزيد إن تاما، ولا التفات إلى اللغة الضعيفة لكن الجواز لا ينافي الضعف، وامتناع المثل يصلح وجها للضعف، ولذا قال المصنف رحمه الله لأنّ تقديم الخبر الخ، وقد أشار إليه الرضي فلا يرد ما ذكر. قوله: (والله بصير الخ) حمله على المجازاة لأنّ المطلع على من خالفه ينتقم منه، ويجازيه على ما فعل، ثم لا يخفى موقع بصير هنا مع قوله عموا، وقوله وفق أعمالهم منصوب على نزع الخافض أي على وفقها، ومقدارها. قوله: (أي إني عبد مربوب مثلكم الخ) أي مملوك مخلوق لأنّ الرب يكون بمعنى المالك والخالق، والمماثلة من العطف، وترتب العبادة على ذلك يؤخذ من التعليق بالرب، وقوله أو فيما يختصى به من الصفات رد على النصارى القائلين بحلول صفة العلم فيه، واعياء الموتى بالذات من عيسى صلى الله عليه وسلم. قوله: (يمنع من دخولها) يعني أنّ التحريم هنا مجاز مرسل أو استعارة تبعية للمنع إذ لا تكليف ثمة. قوله: (وما لهم أحد ينصرهم من النار) أي يمنعهم منها، وخصه ليناسب ما قبله، ولو أطلق لكان له وجه وجيه، وأشار بقوله أحد إلى أن القصد إلى التعميم ونفي الجنس لا نفي الجمع حتى يتوهم غيره، والظاهر أنه يلزم من نفي الجمع نفي الواحد لأنه إذا لم ينصرهم الجم الغفير
فكيف ينصرهم الواحد منهم، ونقل عن الزمخشرفي أنه بناء على زعمهم أنّ لهم أنصاراً كثيرة فنفي ذلك تهكما بهم، وقيل إنه من مقابلة الجمع بالجمع، وأذا كان من كلام عيسى صلى الله عليه وسلم وضع فيه الظاهر موضع ضمير الخطاب كما في الكشاف، وعليه أيضا فالمعنى لا ينصرهم بل يعاديهم فكيف غيره، وليس معناه كما قيل إنّ تعظيم عيسى صلى الله عليه وسلم صار سببا لكونهم ظالمين لا ناصر لهم فما حال من عظم مخلوقا نازل الدرجة. قوله: (وهو حكاية عما قاله النسطورية الخ) قد مر الكلام في معنى الأقانيم، وانّ منهم من قال بتجسمها، وهو الظاهر من كلام المصنف رحمه الله، وقوله ة وما سبق أي قوله إنّ الله هو المسيح. قوله: (وما في الموجودات واجب مستحق للعبادة الخ) أي ما من إله إلا وهو موصوف بالوحدة إذ التعدد يستلزم انتفاء الألوهية كما ثبت ببرهان التمانع فإذا نافى مطلق التعدد فما ظنك بالتثليث وقوله: (ومن حيث إنه مبدأ جميع الموجودات) تعليل لا تقييد لأنّ قيد الحيثية يستعمل للتعليل والتقييد والإطلاق كالإنسان من حيث هو إنسان قابل للعلم، وصنعة الكتابة فلا يرد عليه إنه تعالى مستحق للعبادة استحقاقا ذاتياً فالأولى ترك هذا القيد، وقوله متعال عن قبول الشركة إشارة إلى حصر الوحدة فيه على أبلغ وجه يفيد عدم قبوله للشركة فكما انتفى وجود الشركة انتفى إمكانها أيضا، وقوله ومن مزيدة للاستغراق قالوا في وجهه لأنها في الأصل من الابتدائية حذف مقابلها إشارة إلى عدم التناهي فاصل لا رجل لا من رجل إلى ما لا نهاية له، وبني اسمها لتضمن من لأنها الدالة على العموم كما ذهب إليه السكاكي قيل لو كان تقدير من يقتضي البناء بني المضاف وردّ بأنه فرق بين تقدير حرف، وتضمن معناه. قوله: (وإن لم ينتهوا عما يقولون ولم يوحدوا) ما قالوا هو التثليث، ونحوه من الكفر، والانتهاء له معنيان قبول النهي والفراغ، وبلوغ النهاية وعليهما فمعناه إن لم يرجعوا عما هم عليه إلى خلافه، وهو التوحيد والإيمان. قوله: (أي ليمسن الذين بقوا منهم على الكفر) يعني أنّ هذا إمّا من وضع الظاهر موضع المضمر فالمراد بالذين كفروا النصارى، ومن بيانية أو ليس منه، والذين كفروا بمعنى الثابتين على الكفر فمن تبعيضية فقوله وضعه موضع الخ مبني على الثاني، وقدم الأوّل لعدم مخالفته لمقتضى الظاهر. قوله: (تكريرا
للشهادة الخ) تعليل لوضع الظاهر موضع المضمر لما ذكر، وقوله: وتنبيهاً تعليل للوجه الآخر على اللف والنشر المشوس، ووجه التعقيب إذا فسر الذين كفروا بمن بقي على الكفر ظاهر، وكذا على الوجه(3/269)
الآخر لأنّ المعنى أن الكفار مستحقون للعذاب فينبغي الرجوع، والتوبة عن الكفر ليسلموا منه، وتوبة الكفار هي الإسلام فلذا فسرها بقوله بالانتهاء الخ، وكذا طلب المغفرة للكفر إنما يكون بتنزيها لله عما اعتقدو.، وقوله بعد هدّا التقرير، والتهديد تصريح بوجه التعقيب على إطلاق الكفر فافهم. قوله: (يغفر لهم الخ) إشارة إلى ارتباطه بما قبله، وقوله: تعجب من إصرارهم هو على تفسير الذين كفروا بمن بقوا على الكفر، وصرّح به لأنّ عدم التوبة يقتضي الإصرار، وترك الأوّل لظهوره إذ المعنى لا يبادرون إلى التوبة كقوله تعالى: {ألم يأت للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم} . قوله: (ما هو إلا رسول كسائر الرسل قبله الخ) يعني ليس كما يزعم النصارى بل هو كغيره من رسل البشر لأنّ ما اشتبه عليهم وقع ما هو أعظم منه لغير. من الأنبياء فإنه أحيا من مات من الأجسام التي شأنها الحياة، وموسى صلى الله عليه وسلم أحيا الجماد، ونبينا صلى الله عليه وسلم فإنه أحيا من مات من الأجسام التي شأنها الحياة، وموسى صلى الله عليه وسلم أحيا الجماد، ونبينا صلى الله عليه وسلم نطق له الحجر والشجر، وعيسى صلى الله عليه وسلم خلق من غير أب، وآدم صلى الله عليه وسلم خلق من غير أب وأم، وهذا أغرب. قوله: (وأمّه صديقة الخ) يعني أنّ هذه صيغة مبالغة كشريب كما صرح به النحاة، ومن غفل عنه قال لم يعدّوا فعيلاً من صيغ المبالغة، وكونه من الصدق أرجح ولذا قدمه المصنف رحمه الله لأنّ صيغ المبالغة القياس فيها الأخذ من الثلاثيّ لكن قوله، وصدقت بكلمات ربها يؤيد أنه من المضاعف، وعدل عن قول الزمخشريّ، وما أمّه أيضا إلا صديقة كبعض النساء لأنه ليس في النظم ما يفيد الحصر، وقال النحرير الحصر مستفاد من المقام، والعطف والأوّل ظاهر، وأمّا الثاني فيقتضي أنّ ما زيد إلا كريم، وأبوه شريف يصح أن يقال! إنه يصح ادّعاء الحصر في المعطوف، ولا بعد فيه وقوله كسائر النساء رد على النصارى، وما نسبوه لمريم. قوله: (ويفترقان إليه افمكار الخ) يعني أنه بين أولاً أقصى مراتب كمالهما، وأنه لا يقتضي الألوهية، وقدمه لئلا يواجههما بذكر نقائص البشرية الموجبة لبطلان ما ادعوا فيهما على
حد قوله تعالى: {عفى الله عنك لم أذنت لهم} [سورة التوبة، الآية: 43] حيث قدم العفو على المعاتبة له صلى الله عليه وسلم وكونهما من عداد المركبات مأخوذ من التغذي الذي يتولد منه الأخلاط التي يتركب منها البدن ومنها قوامه، والكائنة بمعنى المحدثة، والفاسدة بمعنى الفانية لأن الفناء بفساد التركيب، ومنه قولهم عالم الكون والفساد، وقوله: ثم عجب أي بين ما يتعجب منه الناظر لحالهم، والواقف عليها فإن المراد من الأمر بالنظر التعجب كما تقول انظر إلى زيد يسير إليّ مع إحسانه. قوله: (كيف يصرفون عن استماع الحق الخ) يعني أني هنا بمعنى كيف، ويؤفكون بمعنى يصرفون. قوله: (وثم لتفاوت ما بين العجبين الخ) ويصح أن يكون لبيان استمرار زمان بيان الآيات وامتداده. قوله: (يعني عيسى عليه الصلاة والسلام وهو وإن ملك الخ) محصله أنّ معنى الآية أتعبدون شيئا لا يستطيع مثل ما يستطيعه الله أو شيئا لا استطاعة له أصلا لأن كل ما يستطيعه البشر بإيجاد الله، واقداره عليه، وهو جواب لما يقال كيف يكون المراد بما لا يملك عيسى صلى الله عليه وسلم، وهو ضارّ لهم نافع بإحياء الموتى، وغيره فأجاب بأن ضره، ونفعه كالإبراء، والأحياء بأمر الله، وتقديره على أنه ليس كضر الله، ونفعه فلا وجه للاستدلال به على مدعاهم ولا ينافي نفيه فإنّ الملك، والاستطاعة بالذات أو الفرد العظيم منهما المخصوص بالله فعلى الأوّل النفع والضرّ على عمومه والتأويل في نفيه، وعلى الثاني مخصوص، ولا تأويل في نفيه عنه. قوله: (نظرأ إلى ما هو عليه في ذاته الخ) يعني المراد بما عيسى، وأمه فكان الظاهر من فأشار إلى أنه في أوّل أمره كان نطفة، ومضغة لا يعقل، وهو بعد ذلك لا عقل له في ذاته لو لم يخلق الله فيه القوّة العاقلة، وعبر به لأنه نفي عنه بعدها القدرة على الضر، والنفع لأنّ معنى يملك يستطيع، ويقدر فذكرت ما توطئة له ومناسبة معه،
وقوله رأسا يعني بالكلية أعم من الضرّ، والنفع أو أنه من جنس ما لا يعقل لكونه حيوانا أو جسماً فعبر عنه بما ليعم جنسه، ومن كان بينه، وبين غيره مشاركة وجنسية كيف يكون إلها، وقيل إنّ المراد بها كل ما عبد كالأصنام، وغيرها فغلب ما لا يعقل تحقيراً، وقوله: فيجازي عليها فهو القادر على الضر والنفع لا غيره، ولو صرح به لكان أنسب. قوله: (أي غلوا باطلاَ) يعني غير الحق صفة مصدر(3/270)
أي غلوا غير حق، ولوصيفه به للتوكيد فإن الغلو لا يكون إلا غير حق، وقيل إنه للتقييد لأنه قد يكون غير حق، وقد يكون حقا كالتعمق في المباحث الكلامية، والخطاب لأهلى الكتاب مطلقاً كما أشار إلى النصارى بقوله: فترفعوا عيسى عليه الصلاة والسلام، وإلى اليهود بقوله: (أو تضعوه الخ) والقول الثاني يخصه بالنصارى، والإهواء جمع هوى، وهو الباطل الموافق للنفس. قوله: (شايعهم) ، وفي نسخة يشايعهم والمشايعة المتابعة، وفسر ضلوا في الموضعين بما يدفع التكرار، وقوله عن سواء السبيل الظاهر تعلقه بالأخير فيكون المراد به الإسلام، وهو ظاهر كلام المصنف رحمه الله، وجعله النحرير متعلقا بالثلاثة فعليه يكون مراد المصنف رحمه الله بيان المراد به الأخير وأيلة بفتح الهمزة، وسكون الياء التحتية موضع قريب من بيت المقدص. قوله: (أي ذلك اللعن الشنيع الخ) ترك قول الزمخشريّ أي لم يكن ذلك اللعن الشنيع الذي كان سبب المسخ إلا لأجل المعصية، والاعتداء لأنه ليس في الكلام ما يفيد الحصر، وان قال النحرير: إنه استفيد الحصر من العدول عن جعله متعلقا بلعن إلى الجملة الاسنئنافية المقولة في جواب بأيّ سبب كان ذلك اللعن فوجب أن يكون ذلك هو السبب لا غير ليتم الجواب، وقيل الحصر من السببية لأنّ المراد منها السبب التام، وهو يفيد ذلك، وقد تقدم له ما يدل على ذلك في قوله فبما نقضهم ميثاقهم، وقوله: واعتدائهم ما حرم عليهم أي تجاوزهم إليه. قوله: (أي لا ينهي بعضهم بعضاً الخ الما
كان فعلوه يقتضي أنّ النهي عما وقع والنهي لا يتصوّر فيه، وإنما يكون عن الشيء قبل وقوعه أوّلوه بأنّ المراد النهي عن العود إليه، وهذا إما بتقدير مضاف قبل منكر أي معاودة منكر يفهم من السياق أو بأن المراد مثله أو فعلوه بمعنى أرادوا فعله كما في {فإذا قرأت القرآن فاستعد} [سورة النحل، الآية: 98] أو التناهي بمعنى الامتناع، والكف لأنّ أصل معناه بلوغ النهاية وبها الفراغ، وقيل إنما يتوجه هذا السؤال لو كان في الكلام دلالة على وقوع الفعل حال اعتبار تعلق الفعل به إذ لا خفاء في صحة قولنا كانوا لا ينهون يوم الخميس عن منكر فعلوه يوم الجمعة، وكذا الكلام فيما إذا أريد لا ينتهون، ولا يمتنعون فإن الانتهاء عما فعل لا يتصوّر فهو لا يصلح جواباً، وقيل الانتهاء عن الشيء عبارة عن أن لا يفعل مرة أخرى ولك أن تقدّر فعلوا مثله، ولو جعل المعنى في فعلوه بالنسبة إلى زمان الخطاب لم يحتج إلى تأويل ولسان داود وعيسى صلى الله عليه وسلم بمعنى لسانيهما كما مرّ، وأفرد لعدم اللبس إن أريد باللسان الجارحة وقيل المراد به الكلام، وما نزل عليهما. قوله:) تعجيب من سوء فعلهم الخ) يعني أنّ اللام هنا جواب فسم مقدر، وجعل التأكيد للتعجيب، وهو ظاهر لأنه يقتضي أنه تعجيب عظيم، ولا بأس به، وقيل الأولى أن يجعل التأكيد للفعل المتعجب منه. قوله: (لبئس شيئاً قدّموا الخ) قدموا إشارة إلى أنّ أنفسهم عبارة عن ذواتهم، وأعينهم، وتقديمهم له فعله في الدنيا قبل جزائه، وما نكرة تمييز، والمخصوص بالذم المصدر المؤوّل. قوله: (هو المخصوص بالذم والمعنى موجب سخط الله الخ الهم في إعرابها وجوه فقيل إن سخط الله مرفوع على البدل من المخصوص بالذم، وهو محذوف جملة قدّمت صفته، والتقدير بئس الشيء شيء قدّمته لهم أنفسهم، وهو سخط الله، ونقلوا هذا عن سيبويه رحمه الله، وقيل إن سخط هو المخصوص بالذم، واعرابه مذكور في النحو، وهو الذي اختاره المصنف رحمه الله تبعا للزمخشريّ، وقدر قبله مضافأ أي موجب سخطه لأنّ نفس سخط الباري باعتبار إضافته إليه ليس مذموما بل ما أوجبه من الأسباب، وهي ملاحظة حسنة، وهذا إنما يصح على جعل ما موصولة أو تمييزاً، وقيل هو في محل رفع بدل من ما إن قلنا إنها معرفة أو في محل نصب منها إن كانت تمييزاً ورد بأنه معرفة فكيف يبدل من التمييز أو من ضمير قدمته المحذوف وقيل إنه على تقدير الجار أي لأنّ سخط الله فالمخصوص محذوف، واليه أشار المصنف بقوله أو علة الذم الخ. قوله: (والخلود في العذاب) قيل عليه
إن تأويل الجملة بالمصدر يقتضي أنها مندرجة تحت حرف المصدر، وهو لا يوصل بالاسمية، ولا سبيل إليه، وكذا قوله لأن كسبهم السخط، والخلود إلا أن تجعل أن مخففة من الثقيلة، وبعدها ضمير شأن مقدّر أو معطوفة على ثاني مفعولي ترى وهي علمية فإنه جوّز فيها أن تكون علمية وبصرية بالنسبة إليهم، والى أسلافهم، ولا يخفى بعده، وأنه تعسف لا حاجة(3/271)
إليه فإنّ قوله وفي العذاب هم خالدون جملة حالية مقدرة، ومثله يفسر معناه بتأويل المصدر فإذا قلت جاء زيد، والأمير راكب معناه وقت ركوب الأمير، ولا يحتاج إلى حرف مصدري فإنه توجيه للمعنى، وكسب متعد بمعنى أولاهم السخط، والخلود، والحال قيد تنشأ من عاملها وتتسبب عنه نحو طلعت الشمس، وهي منيرة فتدبر، وقوله إذ الإيمان يمنع ذلك أي يمنع موالاة المشركين، وفسر الفسق بالخروج لما مرّ. قوله: (لشذّة شكيمتهم وتضاعف كفرهم الخ) يقال فلان شديد الشكيمة إذا كان لا ينقاد لأحد، وأصل معنى الشكيمة الحديدة التي توضعفي فم الفرس فإنه إذا كان حروفاً جعلت غليظة شديدة لتضبطه فلذا استعير للحمية والأنفة قال:
أنا ابن سيارعلى شكيمه إنّ الشراك قدمن أديمه
قال في الأساس، وهذا من الإيماض في الاستعارة إلى أصلها حيث جعل المزاولين للعدّ ملجمين، وتضاعف الكفر زيادته، والركون الميل، والتمرّن الاعتياد. قوله: (الذين قالوا إنا نصارى للين جانيهم الخ) في الانتصاف لم يقل النصار! مع أنه أخصر تعريضا بصلابة اليهود في الكفر، والامتناع عن الانقياد لأنّ اليهود لما قيل لهم ادخلوا الأرض المقدّسة قالوا: {فاذهب أنت وربك فقاتلا} [سورة المائدة، الآية: 24] ، والنصارى: {قالوا نحن أنصار الله} [سورة آل عمران، الآية: 52] فلذلك سموا نصارى فأستد إلى قولهم هنا تنبيهاً على انقيادهم، وهناك تنبيها على أنهم لم يثبتوا على الميثاق فهذا سره. قوله: (وإليه أشار بقوله ذلك بأنّ منهم قسيسين الخ) وجه الإشارة أن كون بعضهم له اهتمام بالعلم، والعمل وجملتهم لا يستكبرون عن الحق يقتضي كون جملتهم أقرب إلى الحق، وأهله وقيل إنّ مذهب اليهود أنه يجب إيصال
الثر إلى من خالف دينهم بأقي طريق كان من القتل، وغيره وهو عند النصارى حرام، ولذا ورد في الحديث: " ما خلا يهودي بمسلم إلا هتم بقتله ". قوله: (والفيض انصباب عن امتلاء الخ (يعني معناه تمتلئ من الدمع حتى تفيض لأنّ الفيض أن يمتلئ الإناء حتى يسيل ما فيه عن جوانبه فوضع الفيض موضع الامتلاء بإقامة السبب مقام المسبب أو قصد المبالغة فجعلت أعيهم بأنفسها تفيض من أجل البكاء، والدمع يكون مصدر دمعت العين واسما لما يسيل منها، وفي الانتصاف أنّ هنا ثلاث اعتبارات أبلغها هذه.
فالأولى: فاض دمع عينه، وهي الأصل.
والثانية: فاضت عينه دمعا حوّل الإسناد إلى العين مجازا، ومبالغة ثم نبه على الأصل، والحقيقة بنصب ما كان فاعلاً على التمييز، والثالثة فيها هذا التحويل، وابراز التمييز في صورة التعليل كما نحن فيه، وهو أبلغ لبعده عن الأصل، وعدم ذكر الفاعل فيه، ومن تعليلية، وقيل أراد أن الدمع على الأوّل هو الماء المخصوص، وعلى الثاني الحدث، وهو على الأول مبدأ مادي، وعلى الثاني سببيّ، وقد جوّز في سورة براءة في قوله تعالى: {تولوا أعينهم تفيض من الدمع حزنا} أن يكون من الدمع بيانا كقوله أفديك من رجل، وان كان الأكثر في هذا القسم من البيان أن يأتي منكرا ا!.
وما ذهب إليه ثمة من كون من بيانية، وأنها التي تدخل على التمييز مردود، وان كان الكوفيون ذهبوا إلى جواز تعريف التمييز، وأنه لا يشترط تنكيره كما هو مذهب الجمهور لأن التمييز المنقول عن الفاعل يمتنع دخول من عليه، وإن كانت مقدرة معه فلا يجوز تفقأ زيد من شحم فامتنع أن يكون تمييزا، وما ذهب إليه الزمخشري ثقة مخالف لكلامهم كما في الدر المصون فلا يصح قياسه على المثل الذي ذكره لأنه مفعول، وسيأتي بيانه في محله. توله:) من الأولى للابتداء والثانية لتبيين ما عرفوا الخ) أي من الأولى لابتداء الغاية، والثانية تحتمل البيانية، والتبعيضية كما قال الزمخشرفي: الأولى لابتداء الغاية على أنّ فيض الدمع ابتدأ ونشأ
من معرفة الحق، وكان من أجله، وبسببه، والثانية لتبيين الموصول الذي هو ما عرفوا، وتحتمل معنى التبعيض على أنهم عرفوا بعض الحق فأبكاهم، وبلغ منهم فكيف إذا عرفوه كله، ولم يتعرض لما يتعلق به الجاران لكن في كلامه إشارة إليه فمن الأولى متعلقة بمحذوف على أنه حال من الحق أي حال كونه ناشئا من الحق، واليه أشار بقوله على أنّ فيض الدمع ابتدأ ونشأ من معرفة الحق، ولا يجوز تعلقه بتفيض لئلا يتعلق حرفا جر بمعنى بعامل واحد فمان من في من الدمع(3/272)
ابتدائية إلا أن يقال إنها بيانية أو بمعنى الباء، وأما من الحق فعلى البيان متعلق بمحذوف، وعلى التبعيض بعرفوا، وهو معنى قوله عرفوا بعض الحق لا أنه إشارة إلى أنه مفعول به كما قيل، ويجوز أن تكون تعليلية أي فيض دمعهم بسبب عرفانهم، وفي كلامه إشارة إليه وقوله: (عرفوا كله) الأفصح عرفوه كله لأنّ كل المضافة للضمير لا تقع في فصيح الكلام إلا تأكيداً أو مبتدأ، ولا يعمل فيها ما قبلها.
قوله: (أو من أمته الذين هم شهداء) إشارة إلى قوله: {وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس} [سورة البقرة، الآية: 43 ا] وقد مرّ تفسيره وقوله استفهام إنكار، واستبعاد تحقيقا لإيمانهم كأنهم قالوا آمنا، ولا شبهة في إيماننا لأن عدم الإيمان في كمال الاستبعاد مع قيام الداعي، وهو الطمع في الدخول في زمرتهم، والانتظام في سلكهم والانخراط مع الصالحين بمعنى الانضمام معهم، والعذ منهم يقال انخرط فلان على القوم إذا جاءهم، ودخل معهم. قوله: (أو جواب سائل قال لم آمنتم الخ) قيل عليه أنّ علماء النحو، والمعاني صرحوا بأن الجملة الاستئنافية الواقعة جواب سؤال مقدر لا تقترن بالواو ولا بد فيها من الفصل إذ الجواب لا يعطف على السؤال وما قيل في الجواب عنه أنّ الواو زائدة، وقد نقل عن الأخفش إنها تزاد في الجملة المستأنفة أو هو عطف على جملة محذوفة هي الجواب المستأنف تقديره ما لكم لا تؤمنون، وقد جاءكم الحق، والرسول صلى الله عليه وسلم بين أظهركم لا يتوجه إلا ب! ثبات اقتران مثلها بالواو، وقد وقع مثله في الكشاف في مواضع، وكونها معطوفة على مقدر ينافي كونها جوابا، وقيل الظاهر عطفه بالواو، لأنّ كونه جوابا لا ينافي الاستفهام الإنكاري فتأمل. قوله: (ولا نوّمن حال من الضمير الخ) ما استفهامية مبتدأ ولنا خبره، ولا نؤمن جملة حالية، وهي حال لازمة لا يتم المعنى بدونها نحو فما لهم عن التذكرة معرضحين ولذا لا يصح
اقترانها بالواو في مالنا، وما بالنا لا نفعل كذا لأنها خبر في المعنى، وهي المستفهم عنها، وقوله وذكره توطئة وتعظيما هذا على الوجه الثاني وهو أنّ المراد بكتابه ورسوله لأنه هو الذي جاءهم من الحق لكن لما كان المقصود من الإيمان بهما الإيمان بالله قدم ذكره عليهما، وهي حال عاملها معنوفي وهو الجار والمجرور أو متعلقه. قوله: (ونطمع عطف على نؤمن الخ) قدر المبتدأ على تقدير الحالية لأنّ المضارع المثبت لا يقترن بالواو، وعلى العطف فهو عطف على المنفي أو النفي فإذا عطف على المنفي فظاهر وان عطف على النفي فالطمع ليس بمنكر، ولذا جعلوا الإنكار، والاستبعاد للجمع ينهما أي كيف نطمع في ذلك، ونحن غير مؤمنين، وقيل يحتمل أن يكون معطوفا على لا نؤمن بأن يكون عطفاً على النفي أي نجمع بين عدم الإيمان، وبين الطمع أو على المنفي أي لسنا نجمع بين الإيمان، وبين الطمع، وذلك الجمع بالدخول في الإسلام لأنّ المسلم هو الذي ينبغي أن يطمع في صحبة الصالحين، وما ذكر صاحب التقريب من أنه على الأول ورد الجمع على النفي، وعلى الثاني ورد النفي على الجمع يوهم أن الأول لجمع منفيين، وليس كذلك بل هو جمع، ونفي إثبات انتهى، وفيه أمران الأول أنه على المنفيّ لا حاجة إلى اعتبار الجمع لأنه إنما اعتبر في العطف على النفي لأنّ الطمع في إدخال الله لهم في زمرة الصالحين ليس بمنكر فلذا صرف الإنكار فيه إلى الجمع ليصير المعنى كيف يطمع في إدخال الله لهم في زمرة الصالحين مع عدم الإيمان، وأما إذا عطف على المنفي فإنكار نفي الطمع في إدخالهم في زمرتهم مستقيم من غير نظر إلى معنى الجمع الثاني أن ما جعله، وهما ليس كما قال: فإنّ معناه أنّ الجمع المنكر فيه اعتبر بعد تقرر النفي، وإذا عطف عليه بعد ما نفى فقد ورد الجمع الذي أفاده العطف على النفي أي طرأ عليه وجاء بعده، وإذا عطف على المنفي فالنفي وراد عليهما، وعلى الجمع ولا وهم فيه، وقول المصنف رحمه الله تعالى عطف على نؤمن ظاهر في عطفه على المنفي، ويحتمل الوجه الآخر. قوله: (والعامل فيها عامل الأولى مقيدا بها أو نؤمن) أي الظرف أو متعلقه، وشمى عاملاً معنويا عندهم، ولما ورد على هذا كما في البحر أن العامل لا ينصب أكثر من حال! واحدة إذا كان صاحبها مفردا دون بدل أو عطف إلا أفعل التفضيل على الصححيح لأنه كتعلق حرفي جر لأنه بمعنى في حال كذا، ولذا قيل إنه مبيّ على رأي من إجاز تعددها مطلقا أشار المصنف رحمه الله تعالى إلى أن الحال الأولى منه(3/273)
وهو مطلق، والثانية بعد اعتبار تقييده فعامله متعدد معنى كما في رزقوا منها من ثمرة، وأفعل التفضيل فكأنه قيل كيف عدم الإيمان في حال الطمع المذكور، وهذه حال مترادفة، ولزوم الأولى لا يخرجها عن الترادف، وإذا كانت من فاعل نؤمن فهي متداخلة، وقيل معنى كلام المصنف رحمه الله تعالى أنها لو جعلت حالاً مستقلة، ولم يعتبر التقييد كان المآل مآلنا، ونطمع، ولا إنكار، ولا استبعاد للطمع بدون عدم للإيمان، وعبارة المصنف رحمه الله
تعالى نائية عنه فانها توجيه للعمل لا لصحة المعنى، وما ذكره لازم أيضاً لأنه إنما ينكر الحال الثانية بعد إنكار الأولى لأنها لازمة بل هي معتبرة من إجزاء الجملة الأولى كما مر، وقيل إنّ في صحة قولنا ما لنا، ونحن نفعل كذا بالواو الحالية نظراً بالنظر إلى الاستعمال، وأنّ الحالين على الأوّل لا متداخلتين، ولا مترادفتين لعدم صحة ذكر الثانية بدون الأولى، وعدم كونها حالاً عما هي حال عنه، ولتسم هاتين حالين متلاصقتين فالحالان المتعاقبتان ثلاثة أقسام اهـ يعني أنّ الحال الواقعة بعد ما لنا، وما بالنا لا يصح اقترانها بالواو لأنها لازمة، والإنكار منصب عليها، وبها تمام الفائدة كما ذكره النحاة، وعليه قوله:
مابال عينك منها الماءينسكب
وقد ذكر مثل هذا في سورة آل عمران حيث اعترض على قول الكشاف ما باله وهو آمن،
وهذا من فوائده التي تفرّد بها لكنها كلمة حق أريد بها باطل لأنه مسلم في الحال الأولى المتوقف عليها تمام الكلام، وأما إذا جاء بعدها حال أخرى فضلة فالسماع فيها خلاف ما ذكره والدراية تقتضيه كقول جرير:
ما بال وجهك بعد الحلم والدين وقد علاك مثيب حين لا حين
وكقول الآخر وقد أنشده ابن الأعرابي:
وقائلة ما باله لا يزورها وقد كنت عن تلك الزيارة في شغل
وقد مر لنا كلام فيه في سورة آل عمران، وأما ما ذكره في تثليث الحال فقد علمت رده،
وكذا قوله ليست حالاً عما هي حال عنه لا وجه له. قوله: (اي عن اعتقاد من قولك الخ) في الكشاف بما تكلموا به عن اعتقاد، واخلاص من قولك هذا قول فلان أي اعتقاده، وما يذهب إليه، وقال النحرير: أوّل كلامه يشعر بأنّ القول حقيقة لكنه مقيد بأن يكون عن اعتقاد واخلاص، وآخره يشعر بأنه مجاز عن المذهب، والرأي والاعتقاد وبالجملة فالقصد إلى أنّ الإثابة ليست بمجرّد القول وأجيب بأن مراده أنه حقيقة لأنه الأصل وأنّ القول إذا لم يقيد بالخلو عن الاعتقاد يكون المراد به المقارن للاعتقاد كما إذا قيل هذا قول فلان لأنّ القول إنما يصدر عن صاحبه لإفادة الاعتقاد، وعبارته أحسن، ولذا عدل عنها. قوله: (أحسنوا النظر والعمل الخ) الأول مخصوص، والثاني عام أو الأول نظر إلى إفادة الحدوث، وتقدير معمول والثاني إلى إلحاقه بالأسماء، وعدم تقدير متعلق، والآيات الأربع هي من قوله، وإذا سمعوا إلى هنا، وقوله: (روي أنها نزلت الخ) هو حديث أخرجه ابن أبي شيبة، وابن أبي حاتم، والواحدي من طريق ابن شهاب عن سعيد بن المسيب، وأبي بكر بن عبد الرحمن بن الحرث
ابن هثام، وعروة بن الزبير رضي الله عنه مرسلاً فلا وجه لقول العراقي في التخريج أنه لم يقف عليه، وانكاره له، وكذا ما بعده أخرجه ابن جرير عن سعيد بن جبير. قوله: (عطف التكذيب بآيات الله الخ) المراد بالمصدقين من سبق ذكرهم لأنه تعالى أثابهم بما قالوه، وهو الصدق النافع فذكر هؤلاء بعدهم ليتم الوعد، والوعيد:
وبضدّها تتبين الأشياء
قوله: (أي ما طاب ولذ منه الخ الذا عطف تفسير لأنّ الطيب يستعمل في القرآن بمعنى الحلال، وبمعنى اللذيذ فأشار إلى أن المراد الثاني بقوله ما أحل الله، وتضمن ما قبله لما ذكر يفهم من مدحهم بأنهم رهبان، وجعل الحلال حراما لأنهم لا يقربون النساء، ولا يأكلون اللحوم، ويجعلونها محرمة عليهم ولا ينافيه أنه مدحهم بذلك لأنه كان في دينهم ممدوحا ورب ممدوح بالنسبة إلى قوم مذموم بالنسبة إلى آخرين فلا يرد عليه شيء كما توهم وجعل الاعتداء عبارة عن تحريم الحلال فيكون تأكيدا لقوله: {لا تحرموا} الخ، وفي التوجيه الثاني عن تحليل الحرام بعد النهي عن تحريم الحلال فهو تأسيس، وسيأتي جعله بمعنى النهي عن الإسراف في الحلال(3/274)
وقال النحرير إنه أشار في الكشاف إلى أربعة معان للاعتداء تجاورّ حد الشرع أو حد الاعتدال في الإنفاق أو الظلم على الإطلاق أو مقيداً بتحريم الطيبات. قوله: (ويجوز أن يراد به ولا تعتدوا الخ) فالمعنى لا تتجاوزوا الحلال إلى الحرام، وتحرموا ما أحل من قوله لا تحرموا طيبات الخ. وتحليل ما حرم الخ مستفاد من لا تعتدوا على هذا التفسير،
والمراد بتحليله تعاطيه أو اعتقاد حله وفيه تأمل. قوله: (داعبة إلى القصد) أي الاعتدال، وعدم الإسراف إشارة إلى درج المعنى الآخر في النظم. قوله: (روي أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم الخ) هذا الحديث رواه ابن جرير والواحدي في أسباب النزول عن مجاهد وعكرمة والسدي، وله شاهد في الصحيحين من حديث وقع بمعناه ورقوا بمعنى رقت قلوبهم من خشية الله وهو ضد القسوة، وعثمان بن مظعون بظاء معجمة، وعين مهملة صحابيّ يكنى أبا السائب جمحيّ أسلم بعد ثلاثة عشر رجلاً، وهاجر الهجرتين، وشهد بدراً وهو أول من مات من المهاجرين بالمدينة على رأس ثلاثين شهراً من الهجرة، وقيل بعد اثنين، وعشرين شهراً منها، ودفن بالبقيع رضي الله عنه، وفي كلام بعضهم، والذي رواه المحدثون أنّ عثمان بن مظعون، وعليآ وأبا ذر رضي الله عنهم هموا بأن يختصوا ويقتتلوا فنهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك ونزل فيهم الآية الآتية: {ليس على الذين آمنوا} والذي ذكره منتزع من عدة أحاديث، وأصله في الصحيحين، والودك بفتح الواو، والدال المهملة، والكاف الشحم والمسوح جمع مسح، وهو اللباس أي الغليظ من الملابس، والسياحة في الأرض عدم التوطن، والقرار والمدّ أكبر جمع ذكر على خلاف القياس للفرق بينه، وبين جمع الذكر ضد الأنثى، وقيل لا واحد له كعباديد وتتمة الحديث بمعنى ما ورد فيه لا رهبانية في الدين. قوله: (كلوا ما حل لكم وطاب الخ) إشارة إلى أنه إذا كان مفعولآيكون صفة للمأكول كما هو الشائع فيه فهو بمعنى ما حل لا
بالمعنى المصدري وقوله تقدمت عليه لأنه نكرة إشارة إلى أنه كان صفة، وصفة النكرة، إذا تقدمت صارت حالاً فلا يرد عليه أنه نكرة موصوفة يصح مجيء الحال منها، ولا يلزم تقدمه كما قيل، وقوله، ويجوز أن تكون مفعولاً أي صفة مفعول قائمة مقامه أي شيئاً مما رزقكم، ويحتمل أنه نفسه مفعول بتأويل بعض، وهو تكلف أو صفة مصدر أي أكلاً، والآية دليل لنا في شمول الرزق للحلال، والحرام إذ جعله تأكيداً خلاف الظاهر، وهو رد على المعتزلة وقوله: (وعلى الوجوه الخ) رد لما يوهمه كلام الكشاف من اختصاصه ببعضها. قوله: (هو ما يبدو من المرء بلا قصد الخ) أي ما يسبق إليه لسانه من غير نية اليمين هذا عند الشافعيّ رضي الله عنه، وعند أبي حنيفة رحمه الله تعالى لغو اليمين أن يحلف على أمر مضى يظنه كذلك فإن علمه على خلافه فهي غموس والأدلة على المذهبين مبسوطة في الفروع والأصول، وقيل على تعلق في أيمانكم بيؤاخذكم ففي للسببية كقوله إنّ امرأة دخلت النار في هرة، وقوله: أو حال منه أي من اللغو معطوف على صلة. قوله: (بما وثقتم الإيمان عليه الخ) يقتضي أنّ ما موصولة لتقدير العائد، وجعلها في الكشاف مصدرية قيل وهو أحسن لوقوعها في مقابلة اللغو، ولعدم الاحتياج إلى التقدير. قوله: (والمعنى ولكن يؤاخذكم بما عقدتم إذا حنثتم الخ) المراد بالمؤاخذة المؤاخذة في الدنيا، وهي الإثم، والكفارة لأنّ فيها عقوبة لا في الآخرة حتى يرد أنّ المؤاخذة ليست في وقت الحنث فالوجيه هو الثاني، وتعقيد الإيمان شامل للغموس عند الشافعية، وفيه كفارة عندهم، وأما عندنا فلا كفارة، ولا حنث فيقدر إذا حنثتم فكأنّ التقديرين إشارة إلى المذهبين، وقراءة التخفيف ظاهرة، وقراءة عاقد فاعل فيها لأصل الفعل وكذا قراءة التشديد لأنّ القراآت يفسر بعضها بعضا أو المبالغة فيها باعتبار أنها باللسان، والقلب لا أنه للتكرار- اللساني كما توهم. قوله: (فكفارة نكثه أي الفعلة التي تذهب إثمه الخ) منهم من جعل هذا الضمير عائداً على الحنث المفهوم من السياق، ومنهم من جعله عائداً على ما الموصولة بتقدير مضاف أي نكثه، ومنهم من جعله عائداً على العقد الذي في ضمن الفعل بتقدير مضاف، وظاهر كلام المصنف رحمه الله تعالى أنه قصد الثاني، ويحتمل غيره أيضا، وأما عوده على الإيمان لأنه
مفرد كالأنعام(3/275)
أو مؤول بمفرد فلا حاجة إليه، وما بني عليه سيأتي ما فيه، والفعلة بفتح الفاء المرة من الفعل، وفسره به توجيها للتأنيث، وإشارة إلى أنه بالمعنى المصدري لقوله إطعام، وتذهب من الإذهاب، وقوله وتستره إشارة إلى أنّ معنى التكفير لغة الستر، والمراد به المحو لأنّ الممحوّ لا يرى كالمستور. قوله: (واستدلّ بظاهوه على جواز التكفير بالمال الخ) قيده بالمال ليخرج التكفير بالصوم فإنه لا يكون إلا بعد الحنث عندهم لأنه عند العجز عن غيره، والعجز لا يتحقق بدون حنث، وقيد بعض الشافعية جواز تقديم المال بما إذا لم يكن الحنث معصية، وأطلقه بعضهم، وهو الصحيح، وعليه المصنف رحمه الله تعالى، وقاسوه على تقديم الزكاة على الحول ووجه الاستدلال بظاهر الآية أنه جعل الكفارة عقب اليمين من غير ذكر الحنث وقال: {ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم} [سورة المائدة، الآية: 89] ونحن نقول إنّ الآية تضمنت إيجاب الكفارة عند الحنث، وهي غير واجبة قبل الحنث فثبت أنّ المراد بما عقدتم الإيمان وحنثتم فيها، وقد اتفقوا على أن معنى قوله تعالى: {فمن كان منكم مريضاً أو على سفر فعدّة من أيام أخر} [سورة البقرة، الآية: 84 ا] فأفطر فعدة من أيام أخر فكذا هذا، وقوله على جواز التكفير إشارة إلى أنّ ما قدره أولاً من قوله إذا حنثتم قيد للوجوب، وكذا قوله كفارة نكثه فلا يقال إنه إذا كان التقدير ما ذكر كيف تكون الآية دليلا لهم فتأمّل. قوله. القوله صلى الله عليه وسلم من حلف على يمين الخ) هذا الحديث أخرجه مسلم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، وقيل عليه أن دلالة الفاء الجزائية على التعقيب من غير تراخ ممنوعة، وبعد التسليم الواقع في حيز الفاء مجموع التكفير والإتيان، ولا دلالة على الترتيب بينهما ألا ترى أن قوله: {إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع} [سورة الجمعة، الآية: 9] الاية لا يقتضي تقديم السعي على ترك البيع بالاتفاق، وأيضا فقد روي هذا الحديث فليكفر عن يمينه، ثم ليأت بالذي هو خير وروي رواية أخرى: " فليأت الذي هو خير ثم ليكفر " ورجحنا هذه بالشهرة، وجعلنا كلمة، ثم في الأخرى بمعنى الواو، وفيه بحث لأن إثبات الشهرة لا يسمع بغير نقل، وهم يجمعون بين الروايتين بأنّ إحداهما لبيان الوجوب، والأخرى لبيان الجواز، وأيضأ تقديمها تارة، وتأخيرها أخرى يدلّ على أنهما سيان. قوله: (من أقصده في النوع أو القدر الخ) اقصد أفعل تفضيل من القصد وهو الاعتدال، وقوله، ونصف صاع عند الحنفية أي
من البرّ وصاع من الشعير، وقوله ومحله النصب أي ومحل الجار والمجرور، وهو من أوسط، وإطعام مصدر ينصب مفعولين الأوّل منهما ما أضيف إليه وهو عشرة، والثاني محذوف أقيمت صفته مقامه أي طعاماً أو قوتا أو هو مرفوع على أنه بدل من إطعام أو خبر مبتدأ محذوف أي طعامهم من أوسط، وقيل على البدلية إنّ أقسام البدل لا تتصوّو هنا، وأجيب بأنه بدلط كل من كل بتقدير موصوف أي إطعام من أوسطه نحو أعجبني قرى الأضياف قراهم من أحسن ما وجد. قوله: (وأهلون كأرضون الخ) أرضون بسكون الراء هنا، ويجوز فتحها يعني جمع مذكر سالم على خلاف القياس لأن قياس مفرده أن يكون علما أو صفة وهذا اسم جامد كأرض! ، والذي سوّغه أنه استعمل كثيراً بمعنى مستحق فأشبه الصفة. قوله: (وقرئ أهاليكم الخ (هذه قراءة جعفر الصادق، وكان القياس فتح الياء لخفة الفتحة لكنه شبه الياء بالألف فقدر إعرابها، ولم يمثله كما في الكشاف بمعدي كرب لأنه نقل بالتركيب فخفف إلا أن يقال إن صيغته ثقيلة فأشبهت المركب، وهو إما جهح أهل على خلاف القياس كليال في جمع ليلة، وقال ابن جني واحدهما ليلاة وأهلاة قالوا، وهو يحتمل لئن يكون مراده أنّ له مفرداً مقدّرا هو هذا ويحتمل أنه سماع من العرب فيه، ومن قال إنه اسم جمع أراد به الجمع على خلاف القياس كما سيأتي. قوله: (عطف على إطعام أو من اوسط إن جعل بدلاً الغ) قيل وجهه أن يكون من أوسط بدلاً من الإطعام، والبدل هو المقصود، ولذلك كان المبدل منه في حكم المنحي فكأنه قيل فكفارته من أوسط ما تطعمون، وإعترض بأنّ العطف على البدل في موقع البدل ضرورة، وابدال كسوة منه لا يكون إلا غلطا، وهو لا يقع في التنزيل، وأجيب بالمنع بل قد ورد على ما سبق من أنه قد يعطف على البدل؟ ويكون المقصود الانتساب إلى ما انتسب إليه المبدل منه بجعله في حكم المنحي، وقد يجاب(3/276)
بأنه على طريقة:
علفتها تينا وماء باردا
والتقدير إطعام من أوسط ما تطعمون أو إلباس من كسوتهم وردّ بأنه حيئذ يكون عطفا
على المبدل منه لا البدل مع ما فيه من تغيير الكلام، والجواب أنّ المراد أنه بالنظر إلى ظاهر اللفظ عطف على البدل فإن قيل هنا وجه آخر، وهو عطفه على إطعام وجعل من أوسط صفة إطعام على ما هو الظاهر أو صفة مصدر محذوف أي إطعاما من أوسط أو مفعولاً به أي طعاماً من أوسط فما الباعث على هذا الوجه المتعسف أجيب بأنه اختار ذلك لتكون الكفارة فيما
يتعلق بالمساكين متلائمة إذ الكسوة اسم للثوب فيناسب أن يعتبر في جانب الإطعام المطعوم بخلاف الإعتاق فإنه جن! واحد فليكن باسم المعنى، وهو التحرير، ومن حاول رد الكل إلى نهج واحد ذهب إلى أنّ التقدير إطعام أو إلباس كسوة.
(أقول) ما ذكره مناف لما قرّره الأئمة وسلموه، ومثله لا يسمع، ثم إنه كيف يكون بدل
غلط، وهو يتوقف على كون الأوّل غير مراد معناه قطعاً، وهذا لا يصملح هنا لأنّ كلاً منهما مقصود، وكيف يعطف بدل غلط على غيره، ثم إنه كيف يتأتى ما ذكره من التناسب، وهو على البدلية صفة إطعام مقدّر فلا يخفى ما في كلامه من الاختلال فلا يعطف عليه إلا إذا قطع عما قبله وكان خبر مبتدأ محذوف، والمناسبة المذكورة لا يتكلف لأجلها مثل هذه التكلفات فلا وجه للتقليد فتأمّل، وأما بدل الاشتمال الذي ادعاه بعضهم فمما لا شبهة في عدم صحته. قوله: (وهو ثوب ينطي العورة الخ) تفسير للكسوة تبع فيه الزمخشريّ، وأورد عليه أنه مخالف لمذهبه فانها عندهم ما يسمى كسوة قميص أو إزار أو منديل أو مقنعة، والقدوة بالضم، والكسر من يقتدى به، والاقتداء نفسه كالكسوة فمانها مصدر واسم المكسوّ أيضا فالمناسبة بينها، وبين الإطعام حاصلة من غير التكلف السابق، وقوله: (جامع قميص الخ) كلامه ظاهر في أنّ كل واحد منها كاف وهو يخالف قول الكشاف، وعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما إزار أو قميص! أو رداء أو كساء، وعن مجاهد ثوب جامع، وهو ما يستر البدن على ما هو المتعارف، وجامع منون ما بعده بدل منه أو مضاف، والأوّل أولى. قوله: (أو كسوتهم) بكاف الجر الداخلة على أسوة بضم الهمزة وكرها أيضاً، وهي كما قال الراغب الحال التي يكون الإنسان عليها في اتباع غيره إن حسنا، وان قيحاً، وهو من الأسى وهو الحزن، وهو الإزالة نحو كربت النخل أزلت كربه وهذا أسوة هذا أي مثله فالكاف على هذه القراءة زائدة، ولذا قال المصنف رحمه الله تعالى كمثل ما تطعمون، وهذه قراءة سعيد بن جبير، وابن السميفع وهي شاذة، وهمزته بدل من واو لأنه من المؤاساة واليه أشار المصنف رحمه الله تعالى، وقوله والكاف في محل الرفع الخ ظاهر كلامه أنه خبر مبتدأ محذوف، ويحتمل أنه بيان للمعنى، ولذا قيل إنه ليس بمستقيم والأولى طعام كاسوتهم على الوصف فهو عطف أيضاً على من أوسط، وعلى هذه القراءة يكون التخيير بين الإطعام التحرير فقط وتكون الكسوة ثابتة بالسنة، وقيل إنها لنفي الكسوة، وفيه نظر، وقال السفاقسي قدر أبو البقاء أي مثل أسبوة أهليكم في الكسوة فلا تكون الآية عارية من الكسوة، وفيه نظر لأنه ليس في الكلام ما يدل عليه، وجوّز فيها النصب أيضا
على أحد الوجوه في إعراب من أوسط وجعله معطوفاً عليه، وشرط الشافعيّ رضي الله تعالى عنه في المعتق الإيمان، ودليله، والجواب عنه مفصل في محله. قوله: (ومعنى أو إيجاب إحدى الخصال الثلاث الخ) اختيار للمذهب المختار في الواجب المخير، وهو أنّ الواجب أحد الأمور لا على التعيين لا ما نسب إلى بعض المعتزلة أنّ الواجب الجمع، ويسقط بواحد وبعضهم الواجب معين عند الله وهو ما يفعله المكلف فيختلف بالنسبة إلى المكلفين وبعضهم أن الواجب واحد معين لا يختلف لكن يسقط به، وبالآخر وتفاوتها فدراً وتوابأ لا ينافي التخيير المفوض! تفاوته إلى الهمم، وقصد زيادة الثواب فإنّ الكسوة أعظم من الإطعام، والتحرير أعظم منها.
(وهاهنا بحث) وهو أنّ أو لأحد الشيئين أو الأشياء، وإنما تفيد التخيير بعد الطلب فقوله: كفارته إطعام خبر لفظاً طلب معنى لأنّ المقصود منه إيجاب ذلك، وحينئذ كيف تكون الفاء لتعقيبه إذ لو كان كذلك لاقتضى وجوبه قبل الحنث، ولا قائل به فإن قيل يقدر له تيد كما مرّ، لم يبق له دلالة على ما ذكروه فتأمّل، وقوله: واحدا(3/277)
منها لما مز من أنّ أو للتخيير. قوله: (والشواذ ليست بحجة عندنا الخ) تال في الأحكام قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، ومجاهد، وإبراهيم وتتادة هن متتابعات لا يجزي فيها التفريق فثبت التتابع بقول هؤلاء، ولم يثبت بالتلاوة لجواز أن تكون التلاوة منسوخة والحكم ثابتاً، وهو قول أصحابنا، وقالوا أيضا إنّ قراءته كروايته، وهي مشهورة فيزاد بها على القطعي فما ذكروه غير مسلم عندنا وقوله وحنثتم مرّ تفصيله. قوله: (بأن تضنوا بها ولا تبذلوها الخ) أصل معنى الضنة البخل، والمراد عدم البذل وللسلف في الحفظ هنا تفاسير فقال قوم معناه احفظوا أنفسكم عن الحنث فيها، وإن لم يكن الحنث معصية وقال آخرون معناه أقلوا من الإيمان لقوله تعالى، {ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم} ، وعليه قول الشاعر:
قليل الألاياحافظ ليمينه إذا بدرت منه الألية برّت
وقال توم راعوها لكي تودّوا الكفارة إذا حنثتم فيها لأنّ حفظ الشيء رعايته قالوا وهذا هو الصحيح أتا الأوّل فلا معنى له لأنه غير منهي عن الحنث إذا لم يكن الفعل معصية وقد قال صلى الله عليه وسلم: " فليأت الذي هو خير وليكفر " كما مرّ وقال تعالى: {قد فرض! الله لكم تحلة
أيمانكم} إسورة التحريم، الآية: 2] فثبت أنه غير منهيّ عن الحنث إذا لم يكن معصية فلا يجوز أن يكون احفظوا أيمانكم نهيا عن الحنث، وأما القول بأنه نهى عن الحلف فساقط واه لأنه كيف يكون الأمر بحفظ اليمين نهياً عن اليمين، وهل هو إلا كقولك احفظ المال بمعنى لا تكسبه، وأما البيت فلا شاهد فيه لأن معنى حافظ ليمينه إنه مراع لها بأداء الكفارة، ولو كان معناه ما ذكر لكان مكرّرا مع ما قبله، والى هذه الأقوال أشار المصنف رحمه الله تعالى، وفي الكشاف معنى آخر وهو أنّ المراد احفظوها، ولا تنسوا كيف حلفتم بها. قوله: (أي مثل ذلك البيان) يعني أنه إشارة إلى مصدر الفعل المذكور، وقد مرّ تحقيقه في البقرة في قوله: {وكلك جعلناكم أمّة وسطا} [سررة البقرة، الآية: 143] فتذكره، وقوله نعمة التعليم قدره مفعولاً بقرينة ما قبله، وقوله: أو نعمه جمع نعمة منصوب عطفا عليه فهو عام، والواجب شكرها مبينة لنعمه. قوله: (فإنّ مثل هذا التبيين يسهل لكم المخرج متة) في الكشاف لعلكم تشكرون نعمته فيما يعلمكم، ويسهل عليكم المخرج منه فقيل المجرور عائد على الحنث، وقيل المخرج منه فيما يعلمكم أي من التكليف، ولولا العائد لكان الأحسن أن تجعل ما مصدرية، وقيل إنه للشكر، وقوله: فإن الخ دليل على صحة إرادة نعمه الواجب شكرها يعني بمثل هذا التبيين يسهل الخروج من الشكر لأن شكر نعمة العمل مما يعرف من كلامه فتأمّل. قوله: (قدر تعاف عنه العقول الخ) قيل الرجز والرجس بمعنى، وهو الشيء القدر، وقيل ما تستقذره العقول، وقال الزجاج: إنه كل ما استقذر من عمل قبيح وأصل معناه الصوت الشديد، ولذا يقال للغمام رجاس لرعده، ولما كان فيه الإخبار عن متعدد بمفرد فإما أن يكون خبرآ عن الأوّل، وخبر الأخيرين مقدر أي رجس، وفسق وكفر، ونحوه أو في الكلام مضاف إلى هذه الأشياء والخبر له أي إنما شأن هذه الأشياء أو تعاطيها أو لا حاجة إلى تقدير لأنه يجوز الأخبار عن هذه الأشياء بأنها رجس كما قيل إنما المشركون نجس لأنه مصدر يستوي فيه القليل، والكثير، وهذا أحسن. قوله: الأنه مسبب عن تسوبله وتزيينه (يعني جعله عملا للشيطان مع أنها أعيان بعلاقة أن عمل الشيطان أي تزيينه سبب لها أو من للابتداء أي ناشئ من عمله، وإذا قدر التعاطي فقيل لا حاجة إلى التأويل، وفيه نظر. قوله.) الضمير للرج! أو لما ذكر الخ (رجوعه إلى الرج! لا يقتضي الأمر باجتناب الخمر فقط بل كان رجس، وعوده على جميع ما مرّ بتأويل ما ذكر أو
على التعاطي المقدر، وجوّز عوده إلى الشيطان، وهو قريب، وقوله: لكي تفلحوا مرّ تحقيقه في أوّل البقرة فتذكره. قوله: (كد تحريم الخمر والميسر الخ) وجه التأكيد المذكور ظاهر لأنهم كانوا متردّدين في التحريم بعد نزول آية البقرة ولذا قال عمر رضي الله تعالى عنه اللهم بين لنا فيها بيانا شافيا فلما نزلت هذه، وسمع فهل أنتم منتهون قال انتهينا يا رب وبحت بموحدة مفتوحة، وحاء مهملة ساكنة، وتاء مثناة بمعنى خالص! أي لا خير فيه أصلا أو الغالب عليه عدم الخير، والأمر بالاجتناب عن عينهما أي لا عن شربها، وفعله باعتبار الظاهر واحد(3/278)
الوجوه، والا فإذا رجع الضمير إلى التعاطي لا يكون كذلك. قوله: (وجعله سبباً يرجى منه الفلاح) ضمير جعله للاجتناب والسببية من لعل لأنها بمعنى ير ووجه المبالغة فيه باعتبار ظاهر الترجي وافادته أنه ذنب عظيم بعد ارتكابه لا يقطع بالفلاح بمجرّد الإقلاع عنه بل يرجى له ذلك. قوله: (وإنما خصهما لإعادة الذكر) أي الخمر والميسر هما المقصودان لأنهما هما اللذان صدرا منهم كما قال تعالى: {يسألونك عن الخمر والميسر} [سورة البقرة، الآية: 219] الآية، وقوله صلى الله عليه وسلم: " شارب الخمر كعابد الوثن " حديث رواه الترمذي بلفظ مد من الخمر وحمل على المستحل، ولا حاجة إليه، وهذا دليل على بعض المدعي أو جعل الأزلام بمنزلة الوثن، وهو بعيد وقيل إنهما لم يخصا بالذكر لأنّ معنى يصدكم عن ذكر الله بعبادة غيره، وهي الأنصاب وعن الصلاة بالاشتغال بالأزلام وهو تقدير من غير دليل، والشرارة بكسر الشين المعجمة الشر. قوله: (وخصر الصلاة من الذكر بالإفراد الخ (لأن ما يصد عن ذكره يصدّ عنها لأنّ الذكر من أركانها فأفردت بالذكر تعظيما لها كما في ذكر الخاص بعد العام. قوله: (والإشعار بأنّ الصادّ عنها كالصاذ عن الإيمان الخ) كأن وجهه أنّ الأوّل بيان لتعظيمها في ذاتها،
وهذا بيان لأنه غاية مراد الشيطان من شرب الخمر، ومنتهى آماله ذلك فيها، ولا أحب إلى الشيطان من إيقاعها في الكفر فلولا أن تركها يؤذي إليه لما كانت محط نظره، ولذلك سميت عماد الدين في الحديث لأن الخباء لا يقوم بلا عماد، والفارق بين الإيمان، والكفر الصلاة لأن التصديق القلبي لا يطلع عليه، وهذه أعظم شعائر المشاهدة في كل وقت ولذا طلبت فيها الجماعة ليشاهدوا الإيمان، ويشهدوا به فافهمه فإنه خفي على من قال إنه لا إشعار في النظم بما ذكر، وصدها عن الصلاة لأنها تشغلهم عنها، ولأنّ السكران لا يقرب الصلاة. قوله: (أعاد الحث على الانتهاء الخ الأنه فهم أولاً من قوله تعالى: {فاجتنبوه} مع ما معه من تأكيدات التحريم، وقوله: إيذانا بأن الأمر الخ. أي الشأن والحال أو الأمر الطلبي باجتنبوه بلغ غاية الظهور حتى لا حاجة إلى أمرهم به لظهور أدلته القاطعة للأعذار فلذا عبر بالاستفهام الإنكاري مع الجملة الاسمية، والفاء المعقبة الدالة على أنها قد ثبتت الصوارف عنها، وتبينت وجوه الفساد فيها حتى أن العاقل إذا خلي، ونفسه بعد ذلك لا ينبغي أن يتوقف في الانتهاء، وقوله: أو مخالفتهما أعم من التفسير الأوّل فيكون مؤكدأ لقوله: {أطيعوا الله} وعلى الأوّل مؤسس، ولذا قدمه وقوله وإنما ضررتم به أنفسكم إشارة إلى أنّ قوله: {فاعلموا} الخ جواب باعتبار لازمه المكنى به عنه. قوله:) إذا ما اتقوا الخ (تعليق نفي الجناح بهذه الأحوال ليس على سبيل اشتراطها فإن عدم الجناج في تناول المباح الذي لم يحرم لا يشترط بشرط بل على سبيل المدج، والثناء، والدلالة على أنهم بهذه الصفة، وسبب النزول ليس وجهاً آخر في معنى الآية، ودفع ما فيها من التكرار بل إشارة إلى أنّ الآية نزلت في المؤمنين عاقة، ويدخل فيهم هذه الطائفة أو في هذه الطائفة لكن الحكم عام، وقوله: اتقوا المحرم الخ إشارة إلى دفع التكرار في الآية، وسيأتي تفصيله. قوله: (روي أنه لما نزل الخ (أخرجه أحمد في مسنده عن أبي هريرة
رضي الله تعالى عنه، وهو في الصحيحين عن أنس رضي الله تعالى عنه. قوله:) ويحتمل أن يكون هذا التكرير الخ (قال الطيبي رحمه الله تعالى: المعنى أنه ليس المطلوب من المؤمنين الزهادة عن المستلذات، وتحريم الطيبات، وإنما المطلوب منهم الترقي في مدارج التقوى والإيمان إلى مراتب الإخلاص واليقين، ومعارج القدس، والكمال، وذلك بأن يثبتوا على الاتقاء عن الشرك وعلى الإيمان بما يجب الإيمان به وعلى الأعمال الصالحة لتحصيل الاستقامة التامّة التي يتمكن بها إلى الترقي إلى مرتبة المشاهدة، ومعارج أن تعبد الله كأنك تراه، وهو المعنى بقوله تعالى: {وأحسنوا} الخ وبه ينتهي للزلفى عند الله، ومحبته والله يحب المحسنين، وفي هذا النظم نتيجة من قوله! ليس الزهادة في الدنيا بتحريم الحلال، ولا إضاعة المال، ولكن الزهد أن تكون بما بيد الله أوثق منك بما في يديك، وهذا دفع للتكرير، وأنه ليس لمجرّد التأكيد لأنه يجوز فيه العطف بثم كما صرح به ابن مالك في قوله تعالى:
{كلا سوف تعلمون ثم كلا سوف تعلمون} [سورة التكاثر، الآية: 3] بل به باعتبار تغاير ما علق به مرّة بعد أخرى، والمصنف رحمه الله(3/279)
أشار أولاً إلى تغايرها بأنّ المراد بالأوّل اتقاء ما حرّم عليهم أولاً مع الثبات على الإيمان، والأعمال الصالحة إذ لا ينفع الاتقاء بدون ذلك، والثاني اتقاء ما حزم عليهم بعد ذلك من الخمر ونحوه، والإيمان التصديق بتحريم ذلك، والثالث الثبات على اتقاء جميع ذلك من السابق، والحادث مع تحري الأعمال الجميلة فالمراد بالأوتات الثلاثة زمان التحريم الأوّل الماضي، وزمان التحريم الثاني الذي هو بمنزلة الحال، وزمان الثبات على جميع ذلك في المستقبل. قوله:) أو باعتبار الحالات الئلاث) باًن يتقي الله، ويؤمن به في السرّ ويجتنب ما يضرّ نفسه من عمل، واعتقاد ويتقي الله ويؤمن به علانية، ويجتنب ما يضرّ الناس، ويتقي الله، ويؤمن به بينه وبين الله بحيث يرفع الوسايط، وينتهي إلى أقصى مراتب التقوى في الدرجة السالفة القابلة للقوى النفسانية ولما في هذه الحالة من الزلفى منه تعالى ذكر الإحسان فيها لأن الإحسان كما فسره النبيّ صلى الله عليه وسلم في حديث البخاري: االإحسان أن تعبد الله كأنك تراه ". قوله:) أو باعتبار المراتب الثلاث (أي مراتب التقوى الثلاث التي مرّ تفصيلها، ومن قال المراد به مبدأ السلوك أو مبدأ العمر فقد غفل عن مراده أو تغاير التقوى
باعتبار تغاير المتقي منه، وهو العقاب، والوقوع في حمى المحرمات، والتدنس بدنس الطبيعة والهيولى، وقوله فلا يؤاخذهم بشيء لأنه لازم المحبة فهو كناية كما في قوله: {وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه قل فلم يعذبكم} [سورة المائدة، الآية: 18] وكان الظاهر، والله يحب هؤلاء فوضع المحسنين موضعه إشارة إلى أنهم متصفون بذلك. قوله: (نزلت في عام الحديبية) مرّ أنّ الحديبية بالتخفيف، وأنّ منهم من شددها، وهي اسم مكان معروف، وهذا أخرجه ابن أبي حاتم عن مقاتل. قوله: (والتحقير في بشيء للتنبيه الخ (تدحض من أدحض أي أزل، وهو كناية عن إزالة الثبات، والتصبر، والتحقير، والتقليل من شيء وتنكيره قيل عليه إن هذه الصيغة بعينها وردت في الأموال، والأنفس من الفتن العظام كقوله تعالى: {بشيء من الخوف والجوع ونقص من الآموال والأنفس والثمرات} [سورة البقرة، الآية: 155] وهو إشارة إلى ما يقع به الابتلاء من هذه الأمور فهو بعض من كل بالإضافة إلى مقدوره تعالى فإنه قادر على ابتلائهم بأعظم مما ذكر ليبعثهم بذلك على الصبر، ويدل على ذلك أنه سبق الوعد به قبل حلوله لتوطين النفوس فإنّ المفاجأة بالشدائد شديدة الألم، وإذا فكر العاقل وجد ما صرف عنه من البلايا أكثر مما وقع فيه بأضعاف لا تقف عنده غايته فسبحان اللطيف بعباده.
(أقول) ما ذكره العلامة بعينه أشار إليه الشيخ في دلائل الإعجاز لأن شيء إنما يذكر لقصد التعميم نحو وان من شيء إلا يسبح بحمده، أو الإبهام، وعدم التعيين أو التحقير لادعاء أنه لحقارته لا يعرف، ولذا عيب على المتنبي قوله:
لو الفلك الدوّارأبغضت سعيه هموّقه شيء عن ا! ل وران
مع استحسانها في قول أبي حية النمري:
إذاماتقاضى المرءيوم وليلة تقاضاه شيء لايمل التقاضيا
وهنا لو قيل ليبلونكم بصيد تتم المعنى فإقحامها لا بد له من نكتة وهي ما ذكر، وأما ما
أورده من الآية الأخرى فشاهد له لا عليه لأنه المقصود فيه أيضا التحقير بالنسبة إلى ما دفعه الله عنهم كما صرّح به المعترض مع أنه لا يتم الاعتراض به إلا إذا كان ونقص معطوف على مجرور من، ولو عطف على بشيء لكان مثل هذه الآية بلا فرق، والعجب أنه مع ظهوره أورده الطيبي رحمه الله ولم يتنبه له. قوله: (ليتميز الخائف من عقابه الخ) هذا بيان محصل المعنى، ووجه التجوّز فيه ما سياتي من أنّ العلم مستعمل في لازم معناه، وهو وقوع المعلوم، وظهوره لأنّ علمه تعالى لا يتخلف عنه أو أنّ المراد من العلم المتعلق بالمعلوم، وضمير هو للعقاب أي والعقاب لم يقع بل منتظر على صيغة المفعول إن وقع منه إثم، وقوله لضعف قلبه أراد به قلة يقيته وألا فضعف القلب بالمعنى المعروف لا يناسب عدم الخوف فقوله ة وقلة إيمانه تفسير له، ومن موصولة، ويجوز أن تكون استفهامية أي جواب من يخافه، وبهذا علم ضعف ما قيل لفظ الله فاعل يعلم فلا يصح أن يكون معنى ما ذكر والا لاختل نظام الكلام، إلا أن يكون المراد من مجموع يعلم الله الخ(3/280)
ذلك، وقوله: بعد ذلك الابتلاء أي بعد إلابتلاء السابق، وما علم من حاله، وقيل المراد قدرة المحرم عليه فيما يستقبل فإن الابتلاء بغشيان الصيود قد مضى، وقوله: من لا يملك جأشه بالهمزة، وأصل معناه الصدر كما في الأساس ويطلق على القلب، وملك الجأس ضبطه بمعنى الصبر والتحمل، ويقال: ربط لذلك الأمر جأشا وهو رابط، وفي ضده واهي الجأس ومعناه ما ذكر وفسر العذاب الأليم بالوعيد لأنه ليس واقعاً البتة، ولا في حين الاعتداء والتقصير في أمر تسهل رعايته فوق التقصير فيما تصعب رعايته فلذا توعد عليه، وهذا يشبه حيتان أهل السبت، ولحوق الوعيد لا يحقق لحوق العذاب فما قيل إنه مناسب لمذهب المعتزلة باطل. قوله: (جمع حرام) بمعنى محرم، وان كان في الحل ومن كان في الحرم، وان كان حلالاً وهما سيان في النهي عن قتل الصيد، ورداح المرأة الئقيلة الردف والكثيبة العظيمة، وجمعه ردح بضمتين، وذكر القتل لما ذكر والذكاة بالذال المعجمة النحر والذبح. قوله: (وأراد بالصيد ما يؤكل لحمه الخ) هذا مذهب الشافعي رحمه الله من أنّ ما لا يؤكل من الصيد فلا جزاء على المحرم فيه، ومذهبنا كما في كتاب الأحكام إنه عام في جميع صيد البرّ إلا ما خصه الحديث الآتي ولا يقاس غير الخمس عليها، والمراد بها كل ما ابتدأ الإنسان بالأذى كالسبع والذئب بالإجملا فخص به ما خرج عنه فإن لم يبتدئه بالأذى فعليه
الجزاء، ولما لم يكن للخمس علة مذكورة لم يجز القياس عليها، وكونه غير ماكول اللحم لم تقم الدلالة عليه من فحوى الكلام، ولا ذكر لعلته فيه، ومن أصحابنا من يابى القياس في مثله لحصره بالعدد وكونه غير مأكول نفي، والنفي لا يكون علة. قوله: (خمس يقتلن الخ) رواه الشيخان ورواية " الحية " في مسلم وقوله: (مع ما فيه الخ) أي بالقياس عليه، وهو مذهبه، وقوله: هل يلغي أي يبطل حكمه، ولذا عبر بالقتل وهو الأصح من مذهب الثافعي أيضا. قوله: (ذاكرا لإحراد 4 عالماً بأنه حرام عليه الخ) وليس ذكر العمد للتقييد عند الجمهور بل إما لأنه المورد أو لأنه الأصل والخطأ ملحق به للتغليظ، والإشعار بأنه يستوي فيه العمد والخطأ، ووجه الدلالة أنه لا وبال ولا انتقام في الخطأ وهذا معنى قول المصنف رحمه أدلّه بل لقوله: (ومن عاد) الخ وقوله: (والخطأ ملحق به) فيه نظر فإنّ القياس لا يجري في الكفارات عندنا فالظاهر قول الزهري رحمه الله: نزل الكتاب بالعمد ووردت السنة بالخطأ وذهب سعيد بن جبير إلى أنه لا شيء في الخطأ عملا بظاهر الآية. قوله: (فطعنه أبو اليسر رضي الله عنه الخ) قالوا إنما هو أبو قتادة رضي الله عنه كما في الصحيحين من روايته، وهو الذي فعل ذلك وقد تبع المصنف فيه الكشاف وقال الطيبي أنه ليس في شيء من الأصول يعني أصولي كتب الحديث وأورد على قوله: (إذ روي اليئ) أنه يدل على أنّ قتلهم كان عن قصد، ولا يدل على أنه عن علم بأنه حرام لأنّ الحديث دل على أنّ حرمة الصيد المحرم علم بعد نزول الآية فلا يدل على أنّ قتلهم عن تعمد بما فسره به، وفيه نظر لأنه صرّج في الكشاف بأنه كان محرّما في الجاهلية أيضاً نكان معلوما، والمعلوم من الآية كونه قد شرعنا به، واعلم أنه عدل عن قول الكشاف في التعريف أن يقتله، وهو ذاكر لإحرامه أو عالم أن ما يقتله مما يحرم عليه قتله لأنه
ليس بمانع لأنه إذا رمى غير صيد أصاب صيدا، وهو ذاكر لإحرامه ينبغي أن يكون عمداً وليس به، وقد تكلف له ودفع آخرا بأن أو بمعنى الواو فلذا غيره المصنف رحمه الله. نوله: (برفع الجزاء والمثل قراءة الكوفيين الخ) الفاء إما جزائية أو زائدة في خبر الموصول قرأ أهل الكوفة فجزاء مثل بتنوين جزاء، ورفعه وفع مثل وباقي السبعة برفعه مضافا إلى مثل، ومحمد بن مقاتل بتنوين جزاء ونصبه ونصب مثل والسلمي برفع جزاء منوّنا ونصب مثل وقرأ عبد الله فجزاؤه برفع جزاء مضافاً لضمير، ورفع مثل فأما قراءة الكوفيين فواضحة لأن جزاء مبتدأ ومثل صفته والخبر محذوف أي فعليه جزاء مماثل لما قتله، وجوّز أبو البقاء مثل البدلية، والزجاج أن يكون جزاء مبتدأ ومثل خبر. إذ التقدير جزاء ذلك الفعل، أو المقتول مماثل لما قتله. قوله: (وعليه لا يتعلق الجار بجزاء) وأيضاً المصدر يعمل بمشابهة الفعل وبوصفه بعد الشبه، وأما كون المصدر بمعنى المجزى به فهو في حكم الصفة، فرد بأنه تفسير معنى لا تأويل إعراب فإنه جعل عين الجزاء مبالغة، والمقصود أنه مجزى به وفيه نظر، وإذا لم يتعلق(3/281)
به كان صفة له أخرى لوقوعه بعد النكرة، وأورد على ما ذكر أنه إنما يمتنع عمله في المفعول به، ويجوز في الجار والمجرور لأنه يكفيه رائحة الفعل كما صرّحوا به. قوله: (وقرأ الباقون على إضافة المصدر الخ) ولما قيل على هذه القراءة أنّ الجزاء للمقتول لا لمثله أوّلوها بوجهين أن يكون مثل مقحماً كما في قولهم مثلك لا يقول كذا على أنه كناية، أو المراد أن يجزي أي يعطي المثل جزاء له، وهذا أظهر وأقوى وفي كلام المصنف رحمه الله إنّ الإضافة إذا كانت للمفعول تعين المعنى الثاني فلا يلائمه الجواب الأوّل، وقيل إنه يفوت عليه أيضاً اشتراط المماثلة بين الجزاء، والمقتول فالأولى جعل الإضافة بيانية أي جزاء هو مثل ما قتلى فتتفق القراءتان معنى، وليس بوارد لأنّ جزاءه المحكوم به ما يقاومه ويعادله وهو يقتضي المماثلة خصوصاً على مذهب أبي حنيفة رحمه الله فتأمل. قوله: (وهذه المماثلة باعتبار الخلقة الخ) هذا هو المروي عن ابن عباس رضي الله عنهما ففي الظبية شاة وفي النعامة بعير، وهو قول مالك والشافعي ومحمد بن الحسن وما لا نظير له فيه القيمة كالعصفور، وقال أبو حنيفة وأبو يوسف المثل
هو القيمة يشتري بها هديا إن شاء وان شاء اشترى طعاما وأعطى كل مسكين نصف صاع، وان شاء صام عن كل نصف صاع يوماً وأيدوه بأنه قد ثبت المثل بمعنى القيمة في قوله تعالى: {فمن اعتدى عليكا فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم} [سورة اد ب! قرة، الآية: 94 ا] فإنّ المراد قيمة المغصوب بالاتفاق فوجب الحمل عليه، وهو عامل لما لا نظير له وفيه القيمة عندهم فيلزم عليهم استعمال المثل في معنييه ولا حاجة إليه، فإن قيل المثل اسم للنظير، وليس باسم للقيمة وإنما أوجبوا القيمة فيما لا نظير له بالإجماع لا من الآية قيل إنّ الله تعالى قد سمى القيمة مثلاَ في قوله: {فمن اعتدى عليكم} الخ، ويدل على أنها مراده أن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم روي عنهم في الحمامة شاة ولا تشابه بين الحمامة، والشاة فعلمنا أنهم أوجبوها على وجه القيمة فإن قيل إنما يسوغ حمله على القيمة لو لم يفسر، وقد فسر بقوله: من النعم فلا مساغ للتأويل قيل: إنما يكون تفسراً لو اقتصر عليه وأما إذا وصف به ما لا يحتمل التفسير من الصيام والطعام فلا فهو تفصيل للحكم كقوله: {فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم} [سورة المائدة، الآية: 89، الآية، وقوله: يهدي أي يذبح الهدي وفي نسخة يفدي، وقوله: وان لم تبلغ يخير أي إن زاد على نصف الصاع ما لم يبلغه يتصدق به أو يصوم له يوما. قوله: (واللفظ للأوّل أوفق الأن الظاهر من مثل ما قتل من النعم المماثلة في الخلقة والهيئة وهديا بالغ الكعبة يستدعيه، وأجيب بأنّ قوله يحكم به ذوا عدل يدل على أنّ المعتبر القيمة، ورد بأنّ القيمة كما تحتاج إلى نظر واجتهاد كذا مماثلة الخلقة لكن التقويم أحوج إلى ذلك فيعلم بالطريق الأولى، وقد مرّ أن المثل معروف في القيمة، وانّ ما ذهب إليه أبو حنيفة رحمه الله أشمل وغير محتاج إلى التكلف كما أشار إليه الزمخشري. قوله: (صفة جزاء الخ) أو حال من الضمير المستتر في خبره المقدر وهو عليه وقوله: وكما أنّ التقويم الخ) إشارة إلى جواب ما قيل من طرف أبي حنيفة إنّ التحكيم إنما يحتاج إليه في بيان القيمة، وقد مرّ الكلام فيه. قوله: (وقرئ ذو عدل على إرادة الجنس الخ) في الكشاف وقرأ محمد بن جعفر ذو عدل منكم أراد يحكم به من يعدل منكم، ولم يرد الوحدة فقيل: يعني لم يقصد أن العدل الواحد يكفي في الحكم بل قصد جنس العدل فإن من يكفي للاثنين كما يكفي للواحد لكن لا دلالة على التعيين، وهذا بعينه كلام الزجاج كما نقله الطيبي رحمه الله ومراده أن ذو يستعمل استعمال من للتقليل، والتكثير وليس المراد بها الوحدة بل التعدّد وأقله اثنان فما قيل عليه ليس في الآية لفظة صالحة لقصد التعدد صلاحية من لذلك، لا شبهة في عدم وروده عليه ومن فسر. بالإمام
فتوحيده فيها على أصله من غير تأويل هو ما في الكشاف، وهو بعينه كلام ابن جني. قوله:
(هدياً حال من الهاء في به أو من جزاء الخ) كونه من جزاء لأنه خبر عنده أو قدروا جبة جزاء وأما الزمخشري فلما قدر فعليه جزاء، وجعله حالاً لزمه أم! الحال من المبتدأ واعمال الظرف من غير اعتماد وكلاهما خلاف المنصور عند النحاة، وقيل فيه نظر لجوأز أن يعتبر الظرف معتمداً على المبتدأ يعني من قتله على القول بأنه خبر للشرط أو للموصول فكأنهم بنوا ذلك على اًنّ الواقع موقع الجزاء لو كان ظرفا(3/282)
والمرفوع فاعلاَ لم تجز الفاء كما في المضارع المثبت أو الماضي بدون قد إلا بتقدير المبتدأ كما ذكر في قوله: {فينتقم الله منه} [سورة المائدة، الآية: 95] فيكون التقدير هاهنا فهو عليه جزاء فيكون الظرف معتمداً على المبتدأ المحذوف، وفيه نظر، وقيل إنه إذا كان حالاً من جزاء فهو فاعل لفعل تقديره فيجب جزاء الخ، وإذا كان حالاً من ضمير به فهي حال مقدرة كما قاله الفارسي، ثم إنه أورد على النحرير أنّ الاعتماد على المحذوف ممنوع ولذا لا يعمل اسم الفاعل بدون لى* عتماد مع أنه لا بد له من موصوف محذوف، وليس بشيء لأنه فرق بين المبتدأ المقدر والموصوف المفروض فإنّ الأوّل في حكم الموجود بخلاف الثاني.
قوله: (وإن نوّن لتخصيصه بالصفة الخ الأنه نكرة لا تجيء الحال منها إلا إذا تخصصت
أو تقدمت، وفي حال الإضافة حال ظاهرة واعتبار المحل لأنه مضاف إلى المفعول كما مرّ واضافة الصفة لفظية فلذا وصف به النكرة والخلاف في المسالة المذكورة مبسوط في الفروع. قوله: (عطف على جزاء إن رفعتة الخ) وعلى قراءة النصب كما تقدم فهو خبر مبتدأ محذوف أي الواجب عليه كفارة، ويجوز أن يقدر فعليه أن يجزي جزاء أو كفارة فيعطف كفارة على أن يجزي فهو مبتدأ تقدم عليه خبره، وأو فيه للتخيير قال الطيبي: وليس من باب جالس الحسن أو ابن سيرين بل من باب قولك جالس السلطان أو الوزير أو العامي، ونقل عن الشافعي رحمه الله قول ضعيف إنه على الترتيب، ومنه تعلم أن التخيير على قسمين ما يكون المخير متساويا وما يكون المخير فيه تفاوت وبون بعيد، وقوله: عطف بيان مبني على مذهب الفارسي من أنه لا يختص بالمعارف، ومن قال: باختصاصه جعله بدلاً أو خبر مبتدأ محذوف. قوله: (بالإضافة للتبيين الخ) فالكفارة بمعنى المكفر به، وهي عامة تشمل الطعام، وغيره وكذا الطعام يكون كفارة وغيرها فبينهما عموم، وخصوص من وجه كخاتم حديد وما قيل إنّ الطعام ليس جنسا للكفارة فالإضافة لأدنى ملابسة لا بيانية ليس بشيء يعتد به. قوله: (والمعنى عند الشافعي
رحمه الله تعالى أو أن يكفر بإطعام مساكين الخ) فعنده يقوّم الهدي لأنه الواجب أوّلاً وعندنا يقوّم الصيد، وظاهر كلامه أنّ الكفارة والطعام بالمعنى المصدري، ولو أبقى على ظاهره لصح وله أن يتصدّق بما يبلغ المدّ عند الثافعي أيضاً. قوله: (أو ما ساواه من الصوم الخ) قال الراغب: العدل والعدل متقاربان لكنه بالفتح فيما يدرك بالبصيرة كالأحكام وبالكسر ما يدرك بالحواس، كالعديل فالعدل بالفتح هو التقسيط على سواء على هذا روي بالعدل قامت السموات تنبيهاً على أنه لو كان ركن من الأركان الأربعة في العالم زائداً على الآخر أو ناقصاً عنه على خلاف مقتضى الحكمة لم يكن العالم منتظماً، وهذا معنى دقيق بالتأمل فيه حقيق. قوله: (متعلق بمحذوف أي فعليه الجزاء أو الطعام الخ) أي متعلق بالاستقرار الذي تعلق به عليه المقدر وعدل عن قول الزمخشري إنه متعلق بجزاء، وان كان بناء على إعرابه، وهو لم يذكره لأنه إنما يتأتى إذا أضيف إلى مثل لأنه عطف عليه كفارة، ولا يعطف على المصدر قبل تمامه، ولا إذا نون ووصف لأن المصدر الموصوف بصفة متقدّمة لا يعمل، وفيه وجو. أخر كتعلقه بطعام أو بفعل مقدّر وهو جوزي. قوله: (ثقل فعله وسوء عاقبتة الخ) يثير إلى أنّ أصل معنى الوبال النقل ومنه الوابل للمطر الكثير والوبيل للطعام الثقيل الذي لا يسرع هضمه والمرعى الوخيم وضمير أمره على الوجه الأوّل لمن قتل الصيد، وعلى الثاني لله ولذا وصفه بالثدّة لأنه مخالفة لأمر القويّ الشديد البطش وأشار إلى أنه في الوجه الثاني مضاف مقدّر رأي وبال مخالفة أمر الله لأنّ أمر الله لا وبال فيه وإنما الوبال في مخالفته. قوله: (من قتل الصيد محرماً في الجاهلية الخ) وهو ذنب عظيم لأنهم كانوا على شريعة إسماعيل صلى الله عليه وسلم، والصيد محرّم فيها أيضاً كما ذكره الزمخشريّ فلا يرد عليه أنه لا ذنب في الجاهلية، أو قبل التحريم لأنه لا ذنب بدون التحريم، ولا تحريم في الجاهلية فكيف يتحقق العفو، وقيل المراد بالعفو أن لا إثم فيه. قوله: (1 لى مثل ذلك الخ) إنما ذكر المثل لأن العود إلى ذلك الفعل بعينه وقد وقع، وانقضى لا يتصور، وأما تقدير الميتدأ في فهو ينتقم فليصح دخول الفاء لأنّ الجزاء إذا وقع مضارعاً مثبتاً لم تدخله ما لم يقدر المبتدأ وكذا المنفي بلا فما قيل إنّ المضارع يجوز بدون(3/283)
الفاء فلا يكون للفاء فائدة فإذا جعلت اسمية ظهرت الفائدة مبني على القول بأنّ فيه وجهين، وهو أحد قول
النحويين في هذه المسألة لكن المشهور خلافه. قوله: (وليس فيه ما يمنع الكفارة عن العائد الخ) روي عن ابن عباس رضي الله عنهما والحسين وشريح أنه إن عاد عمدا لم يحكم عليه بكفارة حتى كانوا يسألون المستفتي هل أصبت شيئاً قبله قال نعم لم يحكم عليه، وإن قال لا حكم عليه والجمهور على خلافه وهو الصحيح لأنّ وعيد العائد لا ينافي وجوب الجزاء عليه، وإنما لم يصرح به لعلمه فيما مض مع أنّ الآية يحتمل أنّ معناها من عاد بعد التحريم إلى ما كإن قبله، والانتقام يحتمل أن يكون في الدنيا بالكفارة لكنه خلاف الظاهر، وكذا كون المراد ينتقم منه إذا لم يكفر. قوله: (ما صيد منه مما لا يعيش إلا في الماء الخ) يعني الصيد مصدر بمعنى المفعول، وطعامه ليس مصدرا بمعنى أكله وعطفه عليه من قبيل أعجبني زيد وكرمه بل هو بمعنى المطعوم، وضمير طعامه للصيد فمعنى إحلال الصيد الانتفاع به، وإحلال مطعومه إحلال أكله على حذف مضاف، وهو من عطف الخاص على العام عنده، وعند ابن أبي ليلى الصيد والطعام على معناهما، ولذا قدر المضاف في صيد البحر فقال صيد حيوان البحر بأن تطعموه، وضمير طعامه لحيوان البحر، وقوله: مما لا يعيش إلا في الماء مطلقا هو مذهب الشافعيّ رضي الله عنه، وخرح عنه الضفاع ونحوه. قوله: (لقوله عليه الصلاة والسلام في البحر الخ) أخرجه أصحاب السنن عن أبي هريرة رضمي الله عنه وصححوه " والحل ميتته " بكسر الحاء، وفتح الميم بلا واو عإطفة خبر بعد خبر، وما ذكر! من قولي أبي حنيفة رحمه الله مفصل في الفقه. قوله: (ما قذفه أو نضب عنه الخ) أي ما ألقاه البحر أو بقي بعد ذهاب الماء عنه والتقييد ماخوذ من مقابلته بالصيد لأنّ ما لم يصد منه يكون كذلك، ونضب بنون، وضاد معجمة، وباء موحدة من النضوب، وهو دهاب الماء فالطعام بمعنى المطعوم كما مر ومن فسره با! ل جعل الضمير للصيد بمعنى المصيد أو بمعنى المصدر والضمير راجع إليه بمعنى المصيد. قوله: (تمتيعاً لكم نصب على الغرض) بالغين والضاد المعجمتين أي هو مفعول لأجله، وفسره بتمتيعاً لا تمتيعا ليتحد فاعلاهما على ما عرف في النحو وفي الكشاف بعد ما ذكر هذا، وهو في المفعول له بمنزلة قوله تعالى: {ووهبنا له إسحق ويعقوب} نافلة في باب
الحال لأنّ قوله متاعا لكم مفعول له مختص بالطعام كما أنّ نافلة حال مختصة بيعقوب فخصص المفعول له يكون الفعل مسنداً لقوله طعامه، وليس علة لحل الصيد، دهانما هو علة لحل الطعام فقط، وإنما حمله عليه مذهبه، وهو مذهب أبي حنيفة رحمه الله تعالى من أنّ صيد البحر ينقسم إلى ما يؤكل، والى ما لا يؤكل وإنّ طعامه هو المأكول منه كنافلة، وهي ولد الولد حال مختصة بيعقوب لأنّ إسحز ولده لصحلبه فكذا متاعا إلا أنه أورد عليه أنه يؤدي إلى أنّ الفعل الواحد المسند إلى فاعلين متعاطفين يكون المفعول له المذكور بعدهما لأحدهما دون الآخر كقام زبد، وعمرو إجلالاً لك على أنّ الإجلال مختص بقيام أحدهما وفيه البأس، وأما الحال في الآية المذكورة فليست نظيره لهذا لأن فيه قرينة عقلية ظاهرة، وعلى غير مذهبه فلا يختص المفعول له بأحدهما، وهو ظاهر جليّ فلذا تركه المصنف رحمه الله تعالى فما قيل إن المصنف رحمه الله أشار بإطلاق الغرض، وعدم تخصيصه بما في الكشاف إلى ما فيه صرف العبارة عن ظاهرها بلا ضرورة من عدم تدبر مراده، والسيارة مؤنث سيار باعتبار الجماعة يقال رجل سائر وسيار وسيارة باعتبار الجماعة قاله الراغب: والمراد المسافرون، وإنما جعله قديداً بناء على الأغلب. قوله: (ما صيد فيه أو الصيد فيه الخ) يعني الصيد بمعنى المصيد، والمعنى مصيد البر، وهو خلاف البحر محرّم على المحرم، وهو يقتضي حرمت عليه مطلقا سواء اصطاده هو أو غيره، والإضافة لامية أو هو بالمعنى المصمدري، والإضافة لامية أو بمعنى في فيقتضي تحريم صيد المحرم نفسه لا صيد الحلال له، والمراد صيده حقيقة أو حكماً بأن أمره به أو أعانه عليه أو دله عليه، وإليه أشار بقوله مدخل والجمهور على هذا، وهو مذهبنا للحديث الذي ذكره، وهو حديث أخرجه أحمد والحاكم، وصححوه عن جابر رضي الله عنه قيل ولا دلالة له على الأوّل على حرمة مصيد الحلال مطلقاً بل حرمة مصيده في أوقات المحرم إن كان قوله(3/284)
ما دمتم قيد الصيد وعلى حرمة مصيده مطلقاً في أوقات كونه محرماً إن كان قيداً للتحريم، وأما قول الزمخشريّ لا دلالة له على تحريم صيدي الحلال لأنّ المفهوم المتبادر من حرم عليكم الصيد صيدكم فدفع بأنّ دلالة الآية عليه مدفوعة بأن السنة بينت المراد منه فلا عمل بدلالته، وفيه نظر لأنّ تحريم صيد البر للحلال معلوم أنه ليس عليه شيء فيه، وهذه قرينة ظاهرة على أنّ المراد ذلك فتدبر، وما دمتم قرئ بضم الدال من دام يدوم، وما
مصدرية ظرفية وقرى دمتم بكسرها كخفتم من دام يدام لغة فيها، وحرم بضمتين جمع حرام بمعنى محرم، وقرأ ابن عباس رضي الله عنهما حرم بفتحتين أي ذوي حرم بمعنى إحرام أو مبالغة فالحرم اسم المكان، والإحرام أيضاً. قوله: (سمي البيت كعبة لتكعبه) التكعب التربيع، ومنه تكعب الحسان، وقد يقال للارتفاع، ولهذا سميت الكعبة كعبة لكونها مربعة أو مرتفعة، ومنه كعب الرجل. قوله: (عطف بيان على جهة الماخ أو المفعول الثاني) أي أو هو المفعول الثاني لأنّ جعل بمعنى صيرينصب مفعولين لا بمعنى خلق أو حكم، وبين كما قيل لأنه خلاف الظاهر دمانما قال على جهة المدح لأنّ البيت الحرام عرف بالتعظيم عندهم فصار في معنى المعظم أو لأنه وصف بالحرام المشعر بحرمته وعظمته فذكر البيت كالتوطئة له، وهذا مع ظهوره خفي على من قال شرط عطف البيان الجمود، والجامد لا يشعر بمدح إنما يشعر به المشتق، وهو جمود منه. قوله: (انتعاشاً لهم الخ) أصل معنى الانتعاش الارتفاع والتحرك، ويقال نعشه إذا رفعه من عثار أو جبره في زلة، وأفتقار فمعنى سبب انتعاشهم أنه سبب إصلاح أمورهم، وجبرها ديناً ودنيا كما بينه المصنف رحمه الله تعالى لأنه كان مأمنا لهم، وملجأ ومجمعاً لتجارتهم، والعمار جمع عامر، وهو من يأتي بالعمرة ومنه تعلم أنّ التجارة في الحج ليست مكروهة. قوله: (وقرأ ابن عامر قيماً على انه مصدر الخ (يعني أنه مصدر كشبع، وكان القياس أن لا تقلب واوه ياء كعوض وعوج لكنها لما قلبت في فعله ألفا تبعه المصدر في إعلال عينه. قوله: (ونصبه على المصدر أو الحال) أي يقوم قيماً أو قائماً، وذلك على تقدير كون البيت الحرام مفعولاً ثانيا، ويحتمل البدلية. قوله: (الشهر الذي يؤدي فيه الحج الخ) فالتعريف للعهد بدليل قرنائه جمع قرين وهو ما قرن به من الهدي والقلائد وعلى الثاني المراد به الجنس الشامل لكل واحد منها لانتفاء دليل العهدية. قوله:) ذلك إشارة إلى الجعل أو إلى ما ذكر الخ) في إعراب ذلك وجوه.
أحدها: أنه خبر مبتدأ محذوف أي الحكم الذي قررناه ذلك أو مبتدأ خبره محذوف أي
ذلك الحكم هو الحق أو مفعول فعل مقدر أي شرع ذلك لتعلموا الخ فاللام متعلقة به، وهو أقربها وفي كلام المصنف رحمه الله تعالى إشارة إليه، والإشارة إلى الجعل المذكور أو إلى جميع ما ذكر. قوله: (فإنه شرع الأحكام لدفع المضار قبل وقوعها الخ) بيان لكيفية تعليل
قوله: (لتعلموا الخ القوله ذلك وأتى بالعام ليندرج تحته هذا العلم الخاص، ويمكن أن يكون المعنى إنما جعلنا الكعبة انتعاشا لهم في أمر دينهم ودنياهم أو ذكرنا حفظ حرمة الإحرام بمنع الصيد ليعلموا أنا نعلم مصالح دنياهم، ودينهم فيستدلوا بهذا العلم الخاص على أنه لا يعزب عن علمه تعالى مثقال ذرة في السموات والأرض، ويعلموا أنه تعالى عالم بما وراء ذلك كله. كذا في شرح الطيبي رحمه الله تعالى فما قيل لم نر ما يبين أنّ العلم بما ذكر دليل على أنه تعالى يعلم كل شيء وكلام المصنف رحمه الله تعالى لا يفي بالمقصود والذي سنح لي أنه تعالى لما كان مجردا بالذات، وبالفعل عن المادة، وعن التعلق بها كان النسبة إلى جميع الجزئيات بالنسبة إليه على السوية فإذا علم أنه تحقق عنده بعض الجزئيات كأحوال الكعبة علم أنه عالم بكلها إذ هي مستوية بالنسبة إليه تعالى، وكونه عالما ببعض دون آخر ترجيح بلا مرجح قصور وتكلف. قوله: (تعميم بعض تخصيص الخ) لأنّ الأوّل خاص بالموجودات غيره تعالى وهذا شامل له وللمعدومات، وقدم الخاص لأنه كالدليل على ما بعده، ووجه المبالغة من تعميم كل وصيغة عليم، وقوله: لمن هتك محارمه، وفي نسخة انتهك محارمه، وهتك المحارم رفع سترها، واتيانها، وانتهاك المحارم قريب منه، ولمن أقلع وفي نسخة انقلع بمعنى رجع، وقوله: تشديد في إيجاب القيام بما أمر أمر مبني(3/285)
للفاعل أي شدد عليهم في إيجاب امتثال ما أمر به لأنّ معناه أن ما أمر به، وهو الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم لم يقصر به فما وجه تقصيركم، ولم يأل جهدا في تبليغكم فأقي عذر لكم في الترك. قوله:) حكم عام في نفي المساواة عند الله) فإنه في أكثر أحسن كل شيء أقله، وهو ظاهر:
والناس ألف منهم كواحد وواحد كالألف إن أمر عني
والخطاب عام لكل ناظر بعين الاعتبار فإنه الصالح للخطاب، وفيه إشارة إلى غلبة أهل الإسلام، وان قلوا كما أنّ التوبة الواحدة تمحوا الألوف من الذنوب، وآثروا بالمد من الإيثار
أي قدموه على غيره واجعلوا له أثرة على غيره، وقوله: (راجين الخ) تقدم الكلام فيه، وأنّ الرجاء بالنسبة إلى المخاطبين لا بالنسبة إليه تعالى وحجاج جمع حاج أو حجيج وقد تقدم الكلام على هذه القصة وأنّ المسلمين أرادوا أن يوقعوا بحجاج اليمامة وكان معهم تجارة عظيمة فنهى الله عن المشركين القاصدين لحرم الله، وسمي ما معهم خبيثا، واليمامة بلاد وهي في الأصل اسم امرأة سميت بها. قوله: (الشرطية وما عطف عليها الخ) يعني ليس السؤال عنه مطلقاً منهياً عنه بل منه ما هو لازم كالسؤال عما لا يعلم من أمر دينه: " وطلب العلم فريضة " كما في الحديث بل السؤال عما لا حاجة إليه مما بين إذ ربما تجر كثرة السؤال إلى ما يورث الغم فليس النهي عن السؤال مطلقا بل عن أشياء إن تبدلهم تسؤهم، وهي التكاليف الصعبة. قوله: (وهما كمقدمتين الخ) قال الطيبي بعدما ذكرء
قلت: هذا النوع عند علماء البيان يسمى بالكناية الإيمائية فيفيد القطع بامتناع السؤال
وليس يوجد في الآية، وتقرير الزمخشريّ أقرب لما يفهم من دليل الخطاب، والتقييد بالوصف أن هناك سؤالاً لا يعمهم وهو ما لا يتعلق بالتكاليف الشاقة، والأمور التي إن ظهرت أوقعتهم في الحرج، والضيق وهذا أحسن لولا أنّ قوله أن تبدلكم يقتضي أن يخص السؤال بما في إخفائه مصالح للعباد، وفي إبدائه فساد فإن مقابل الإبداء الإخفاء، ويعضده ما روى البخاري، ومسلم في سبب نزولها عن أنس رضي الله عنه قال خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة ما سمعت مثلها قد فقال: " وتعلمون ما أعلم لضحكتم فليلاَ، ولبكيتم كثيرا) وفيه فقال رجل: قن أبي فقال. " فلان " فنزلت وفيه تأمل، وقوله: في زمان نزول الوحي تفسير لقوله حين ينزل القرآن. قوله: (وأشياء اسم جمع كطرفاء غير أنه الخ) في أشياء مذاهب خمسة:
أولها: وهو مذهب الجمهور، وهو أقربها، واليه ذهب الخليل، وسيبويه والمازني،
وكثر البصريين أنها اسم جمع لا جمع كطرفاء، وأصلها شيآء بهمزتين بينهما ألف ووزنها فعلاء فقدمت الهمزة الأولى التي هي لام الكلمة على الفاء لاستثقال همزتين بينهما ألف قبلهما حرف علة وهي الياء فوزنها حينئذ لفعاء والقلب كثير في كلامهم فلا يضر الاعتراض بأنه خلاف الأصل لأنه أهون الشرين، وحسنه يعلم مما يخالفه، ومنع الصرف لألف التأنيث.
الثاني: مذهب الفراء أنها جمع شيء بياء مشددة، وهمزة بوزن هين، ولين خفف كما
قالوا في ميت ميت، وجمع بعد تخفيفه على أشيآء بهمزتين بينهما ألف بعد ياء بزنة أفعلاء فاجتمع همزتان إحداهما لام، والأخرى للتأنيث فخففوه بقلب الهمزة الأولى ياء ثم حذفوا الياء الأولى التي هي عين الكلمة فصار وزنه أفلاء، وقيل في تصمريف هذا المذهب أنّ أصله أشيآء فحذفت الهمزة التي هي لام الكلمة لأنّ الثقل حصل بها فوزنها أفعاء، وعليهما مغ الصرف لهمزة التأنيث.
الثالث: مذهب الأخفش أن أشياء جمع شيء بوزن فلس، وفعلا يجمع على أفعلاء فجمع على أشيآء بهمزتين بينهما ألف بعد ياء ثم عمل فيه ما مر، ومنهم من عزا هذا المذهب للأخفش، وهو أمر سهل. ورده الزجاج بأن فعلاً لا يجمع على أفعلاء، وناظر المازني الأخفش في هذه المسألة فقال كيف تصغر أشياء قال: أقول أشيآ فقال المازوني: لو كانت أفعلاء لردت في التصغير إلى واحدها فقيل ش! آت، وإجماع البصرين أنّ تصغير أصدقاء إن كان لمؤنث صديقات، وان كان لمذكر صديقون فانقطع الأخفش، وتحقيقه أنّ المكسر إذا أصغر فإمّا أن يكون جمع قلة فيصغر على لفظه، وان كان جمع كثرة لا يصغر على لفظه فإن ورد منه شيء كان شاذاً بل يردّ إلى واحده فإن كان من غير العقلاء صغر، وجمع بالألف، والتاء، وان كان من العقلاء جمع بالواو، والنون(3/286)
فيقال في تصغير رجال رجيلون واسم الجمع يصغر على لفظه كقويم، ورهيط، وقال مكي رحمه الله تعالى يلزمهم أن يصغروا أشياء على شويآت أو على شييآت، ولم يقله أحد، وفي الدر المصون شويآت ليس بجيد فإنه ليس موضمع قلب ألياء واواً ألا ترى أنك تصغر بيتا على بييت لا بويت إلا أن الكوفيين يجيزون ذلك فيمكن أن يرى رأيهم قال أبو علي رحمه الله ولم يأت الأخفش عما مر بجوإب مقنع، والجواب عنه أن أفعلاء هنا جاز تصغيرها على لفظها، وان لم يجز في غيرها لأنها قد صارت بمنزلة أفعال فقامت مقامها بدلالة استجازتهم إضافة العدد إليها كما يضاف إلى أفعال وذكروا العدد المضاف إليها لذلك فقالوا ثلاثة أشياء فأقاموها مقام أفعال فلم يمنعوا تصغيرها على لفظها فلا تدافع بين التكثير والتقليل انتهى وهذا دليل من قال إنّ وزنها أفعال.
الرابع: قول الكسائيّ إنها جمع شيء على أفعال كضيف، وأضياف، وأورد عليه منع الصرف من غير علة، ويلزمه صرف أبناء، وأسماء، وقد استشعر الكسائيّ هذا الاعتراض وأشار
إلى دفعه بأنه على أفعال، ولكن كثرت في الكلام فأشبهت فعلاً فلم يصرف كما لم يصرف حمراء وقد جمعوها على أشاوى كما جمعوا عذراء على عذارى، وأشياوات كحمراء، وحمراوات فعاملوا أشياء وإن كانت على أفعال معاملة حمراء، وعذراء في جمعي التكسير والتصحيح ورد بأن الكثرة تقتضي تخفيفه وصرفه، وأيده بعضهم باًن العرب قد اعتبروا في باب ما لا ينصرف الشبه اللفظي كما مر في سراويل فيمن منعه مع أنه اسم أعجمي لشبه مصابيح وأجروا ألف الإلحاق مجرى ألف التاً نيث المقصورة، ولكن مع العلمية فاعتبروا مجرد الصورة، وله نظائر كثيرة.
الخامس: أنّ وزنها أفعلاء جمع شيء مزنة فعيل كنصيب، وانصباء وصديق، وأصدقاء حذفت الهمزة الأولى التي هي لام الكلمة، وفتحت الياء تسلم الألف فصارت أشياء بزنة أفعاء، وجعل مكي تصريفه كمذهب الأخفش إذ أبدل الهمزة ياء، ثم حذف إحدى الياءين، وحسن حذفها من الجمع حذفها من المفرد لكثرة الاستعمال، وعدم صرفه لهمزة التأنيث الممدودة، وهو حسن لولا أن التصغير يرد عليه كما ورد على الأخفش مع إيرادات أخر، وقيل في تصريفه حذفت الهمزة، وفعل به ما فعل ووزنه أفياء، وفي القول قبله أفلاء وقوله افياء غلط، والصواب أفعاء، وكأنها من الناسخ والحاصل أنها هل هي اسم جمع، وأصل وزنها فعلاء أو جمع على أفعلاء، ووزنه بعد الحذف أفعاء أو أفلاء أو أفياء أو أصلها! فعال قالوا، والأظهر مذهب سيبويه لقولهم في جمعها أشاوى فجمعوه على صحراء، وصحارى وكان القياس أشايا بالياء لظهورها في أشياء لكنهم أبدلوها واو شذوذاً كما قالوا جبيت الخراج جباوة فأشاوى عند سيبويه لفاعا، وعند أبي الحسن أفاعل لما جمع أفعلاء حذف الألف، والهمزة التي بعدها للتأنيث للتكسير كما حذفوهما من القاصعاء فقالوا قواصع فصار أشاوى، وقوله: كطرفاء هو اسم جمع لطرفة وهي شجر الأثل، وقد علمت من هذا التفصيل معنى كلام المصنف رحمه الله وماله وعليه، ولنا في ذلك قديماً:
أشياءلفعاءفي وزن وقدقلبوا لامالهاوهي قبل القلب شيآء
وقيل أفعال لم تصرف بلا سبب منهم وهذا الوجه الرذ إيماء
أوأشيآء وحذف اللام من ثقل وشيء أصل شيء وهي آراء
وأصل أسماء أسما وكمثل كسا فاصرفه حتما ولا تغررك أسماء
واحفظ وق!! للذي ينسى العلاسفها خفضت شياءوغابت عنك أشياء
قوله:) صفة أخرى (أي لأشياء والرابط ضمير عنها، والجملة خبرية، والمعنى لا تسألوا عن
أشياء لم يكلفكم الله بها كما في سبب النزول المذكور. قوله:) روي أنه لما نزلت الخ (بهذا يعلم
ارتبا! الآية بما قبلها، وهذا الحديث أخرجه ابن جرير عن أبي هريرة رضي الله عنه لكن فيه أن القائل عكاشة بن محصن رضي الله عنه، ولذا شك الراوي فيه كما أشار إليه في الكشاف، وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " يا أيها الناس قد فرض الله عليكم الحج فحجوا " فقال رجل: أكل عام يا رسول الله فسكت حتى قالها ثلاثا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لو قلت نعم لوجبت(3/287)
ولما استطعتم " ثم قال: " ذروني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم، واختلافهم على أنبيائهم فإذا أمرتكم بشيء ناتوا منه أستطعتم وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه " قال ابن الهمام رحمه الله: الرجل المبهم هو الأقرع ابن حابس كما في مسند أحمد، والدارقطني، ومستدرك الحاكم في حديث صحيح رووه على شرط الشيخين فقد علمت الأصح في اسمه، وكون الواقعة تعددت احتمال بعيد وقوله: لوجبت أي مسألتكم، وهي الحج في كل عام. قوله: (أو استئناف الخ) ، والضمير في عنها على هذا يعود إلى المسألة المدلول عليها بلا
تسألوا وإليه أشار المصنف، ويجوز أن تعود إلى أشياء أيضا كأنه قيل فما حالتنا في مساً لتنا هذه فقال عفا الله الخ. قوله: (وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما الخ) هذا الحديث بهذا اللفظ أخرجه الفريابي في تفسيره، وأخرج مسلم وغيره أنهم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أحفوه في المسألة فصعد ذات يوم المنبر، وقال: " لا تسالوتي عن شيء إلا بينته لكم " فلما سمعوا ذلك أرموا ورهبوا أن يكون بين يدي أمر قد حضر قال أنس رضي الله عنه فجعلت أنظر يمينا وشمالاً فإذا كل رجل لات رأسه في ثوبه يبكي فأنشأ رج! ، كان إذا لاحى يدعي إلى غير أبيه فقال يا رسول الله من أبي قال: " أبوك حذافة " ثم أنشأ عمر رضي الله عنه فقال: رضينا بالثه ربا وبالإسلام ديناً وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا نعوذ بالله من الفتن، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما رأيت في الخير والث! ر كاليوم قط إنه صورت لي الجنة والنار حتى رأيتها دون الحائط " وروى أحمد أن حذافة رضي الله تعالى عنه رجع إلى أف فقال ويحك ما الذي حملك على الذي صنعت قالت:
كنا أهل جاهلية وأهل أعمال قبيحة ويفرط بزنة يقعد بمعنى يسبق وما لا يعنيهم بفتح الياء بمعنى لا يهمهم وسؤال الرجال بقوله: أين أنا أي أين مآل أمري ومرجعي، وإلا فهو منافق متهكم، وقوله: يدعي بسكون الدال من الدعوة بالكسر. قوله: (الضمير للمسألة الخ) قال أبو حيان: لا يتجه هذا الأعلى حذف مضاف كما صرحوا به أي سأل أمثالها، وأمّا ما قيل إنه عائد على أشياء، وأنه غير متجه لفظا، ومعنى أمّا لفظاً فلأنه يتعدى بعن، وأمّا معنى فلان المسؤول عنه مختلف فإنّ سؤالهم غير سؤال من قبلهم. فغير وارد لأنه بتقدير مثل كما مر، وإذا رجع إلى المسألة يكون الضمير في موقع المصدر لا المفعول به بالواسطة حتى يلزم التعدية بعن فيحمل على الحذف، والإيصال، ولا بدون الواسطة كما في سألته درهما بمعنى طلبته منه لأنهم لم يسألوا تلك الأشياء بل سألوأ عنها، وعن حالها. قوله: (ولشر صفة لقوم فإنّ ظرف الزمان الخ) هذا هو المشهور بين النحاة، ولكن التحقيق إنه لا يكون خبراً عن اسم عين، ولا حالاً ولا صفة، ولا صلة إذا عدمت الفائدة فإن حصلت جاز كما إذا أشبهت العين المعنى في تجددها في كل وقت دون وقت نحو الليلة الهلال أو قدر قبله اسم معنى نحو اليوم خمر أي شرب خمر بخلاف زيد يوم السبت، ولذا قال في الألفية:
ولا يكون اسم زمان خبرا عن جثة وان يفد فأخبرا
وما نحن فيه مفيد لأن القوم لا يعلم هل هم ممن مضى أم لا وقد مرّ في قوله: {الذين
من قبلكم} أنه أعرب صلة والصلة كالصفة، وقال أبو حيان رحمه الله هذا المنع إنما هو في الزمان المجرّد عن الوصف أما إذا تضمن وصفا فيجوز كقبل وبعد فإنهما وصفان في الأصل فإذا قلت جاء زيد تبل عمرو فالمعنى جاء في زمان قبل زمان مجيئه أي متقدم عليه، ولذا وقع صلة للموصول، ولو لم يلحظ فيه الوصف، وكان ظرف زمان مجرّدا لم يجز أن يقع صلة ولا صفة قال تعالى: {والذين من قبلكم} ولا يجوز والذين اليوم وهذا تحقيق بديع غفلوا عنه، ومنه تعلم ما في كلام المصنف رحمه الله تعالى وأما كون الصفة الجار والمجرور الذي هو ظرف لا الظرف نفسه فوهم لأن دخول الجار عليه إذا كان من أوفى لا يخرجه عن كونه فيالحقيقة هو الخبر أو نحوه فتأمّله. قوله: (اي بسببها حيث لم يأتمروا الخ الما لم يكن كفرهم بنفس المسألة بل بالمسؤول عنه أجابوا بأنه على حذف مضاف أي بجواب المسألة أو الباء للسببية دون الصلة، وقوله: لم يأتمروا بما سالوا أي لم يمتثلوا ما أجيبوا به، ويفعلوه. قوله: (رد وإنكار لما ابتدعه أهل الجاهلية الخ) نتجت الناقة مبني للمجهول مسند إلى المفعول الأوّل أي وضعت حملها، ونتاجها(3/288)
ومعنى البحيرة ما ذكره المصنف رحمه الله تعالى من البحر، وهو
الشق لثق أذنها فهي نعيلة بمعنى مفعولة والتاء للنقل إلى الاسمية أو لحذف الموصوف، وما ذكر. المصنف رحمه الله تعالى هو المروي عن ابن عباس رضي الله عنهما إلا أنه ليس فيه قيد أن آخرها ذكر، وعن قتادة رضي الله عنه أنها إذا أنتجت خمسة أبطن نظر في الخامس فإن كان ذكراً ذبحوه وأكلوه، وان كان أنثى شقوا أذنها وتركوها ترعى ولا يستعملها أحد في حلب وركوب وغيره، وقيل البحيرة الأنثى التي تكون خامس بطن، وكانوا لا يحلون لحمها ولبنها للنساء فإن ماتت حلت لهن، وقيل البحيرة بنت السائبة وستأتي وكانت تهمل أيضاً وهذا قول مجاهد وجبير، وقيل: هي التي منع لبنها للطواغيت فلا تحلب وهو قول سعيد بن المسيب، وقيل: هي التي تترك في المرعى بلا راع وقيل التي ولدت خمس إناث فشقوا أذنها وتركوها هملاً، وقيل: هي التي ولدت خمساً أو سبعا وقيل عشرة أبطن فتترك هملا، وإذا ماتت حل لحمها للرجال دون النساء قاله الراغب وغيره وقيل هو السقب الذي إذا ولد شقوا أذنه وقالوا اللهم إن عاش فعبى وان مات فذكى فإذا مات أكلوه وجمع بين الأقوال بأن العرب كانت تختلف أفعالهم فيها. قوله: (وكان الرجل منهم يقول إذا شفيت الخ) هذا تفسير السائبة، وهي فاعلة من سيبته فهو سائب وهي سائبة أو بمعنى مفعول كعيشة راضية أي ذات رضا وكانوا إذا قدموا من سفر أو أصابتهم نعمة نذروا ذلك، وقيل: هي الناقة تنتج عشرة أبطن إناث فتهمل ولا يشرب لبنها إلا لضيف أو ولد وقيل ما ترك لآلهتهم، وقيل: ما ترك ليحج عليه وقيل هي العبد يعتق على أن لا يكون عليه ولاء ولا عقل ولا ميراث. قوله: (وإذا ولدت الشاة الخ (هذه هي الوصيلة وهي فعيلة بمعنى فاعلة لما سيأتي، واختلف فيها هل هي من جنس الغنم أو الإبل فقال الفرّاء: هي الثاة تنتج سبعة أبطن عناقين عناقين فإذا ولدت في آخرها عناقاً وجديا قيل: وصلت أخاها فجرت مجرى السابة، وقال الزجاج: هي الشاة إذا ولدت ذكراً كان لآلهتهم وان ولدت أنثى كانت لهم، وعن ابن عباس رضي الله عنهما: أنها الشاة تنتج سبعة أبطن فإن كان السابع أنثى لم ينتفع النساء منها بشيء إلا أن تموت فتأكلها الرجال والنساء، وكذا إن كانت ذكراً وان كان ذكرا وأنثى قالوا: وصلت أخاها فتترك معه ولا ينتفع بها إلا الرجال دون النساء فإن ماتت اشتركوا فيها، وقال ابن قتيبة رحمه الله: إن كان السابع ذكرأ ذبح وأكلوا منه دون النساء، وقالوا: {خالصة لذكورنا محرمة على أزواجنا} [سورة الأنعام، الآية: 139] وان كان أنثى تركت في الغنم وان كان ذكرا وأنثى فكقول ابن عباس رضي الله عنهما وقيل هي الشاة تنتج عشر أناث متواليات في خمسة أبطن فما ولدت بعده للذكور دون الإناث فإذا ولدت ذكرأ وأنثى معا قالوا وصلت أخاها فلم يذبحوه لمكانها، وقيل: هي الشاة تنتج خمسة أبطن أو ثلاثة
فإن كان جديا ذبحوه وان كان أنثى أبقوها وان كان ذكراً وأنثى قالوا وصلت أخاها هذا عند من خصها بالغنم، ومن قال: إنها من الإبل قال: هي الناقة تبكر فتلد أنثى، ثم تثنى بولادة أنثى أخرى ليس بينهما ذكر فيتركونها لآلهتهم، ويقولون: قد وصلت أنثى بأنثى ليس بينهما ذكر. قوله: (وإذا نتجت الخ) هذا معنى الحامي، واختل فيه أيضاً فقيل هو الفحل يولد لولده فيقولون قد حمى ظهره فيهمل ولا يطرد عن ماء ومرعى وقيل: هو الفحل يولد من ظهره عشرة أبطن فيقولون حمى ظهر، ويهملونه كذلك وعن الشافعيّ رضي الله عنه أنه الفحل يضرب في مال صاحبه عشر سنين وقيل هو الفحل ينتج له سبع أناث متواليات فيحمي ظهره، وقد عرفت أنّ منشأ الاختلاف مذاهب العرب فيها. قوله: (ومعنى ما جعل ما شرع ووضع الخ) كونه بمعنى ما شرع ذكره الزمخشري، والراغب وابن عطية لأنها هنا ليست بمعنى خلق ولا صير، وقيل: إنّ أحداً من أهل اللغة لم يذكر من معانيها شرع، وجعلها هنا للتصير والمفعول الثاني محذوف أي جعل البحرة مشروعه، وليس كما قال فإن الراغب رحمه الله: نقله عن أهل اللغة كما علمت وهو ثقة. قوله: (وفيه أنّ منهم من يعرف الخ الأنه قال أكثرهم، وهو ظاهر وقوله أو الآمر بالمد أي لا يعرفون إنّ الله هو الآمر المحلل والمحرّم، ولكنهم يقلدون ويصح قصره فتأمل. قوله: (الواو للحال والهمزة الخ) قال أبو البقاء: وجواب لو محذوف أي أولوا كانوا لا يعلمون يتبعونهم وذهب(3/289)
الراغب إلى أنّ الواو للعطف هنا، والهمزة للتعجيب من جهلهم أي يكفيهم ذلك، وان كان آباؤهم لا يعلمون فيفعلون ما يقتضيه علمهم، ولا يهتدون بمن له علم قيل: جعلوا الواو في مثله للحال وليس ما دخلته الواو حالاً من جهة المعنى بل ما دخلته لو أي، ولو كان الحال أنّ آباءهم لا يعلمون وفيه نظر ومن الغريب أنّ بعض المفسرين سمى هذه الهمزة همزة التوقف، وهي تسمية غريبة كما في الدار المصون وفي كون الجملة الاستفهامية الانشائية حالاً تأمل يحتاج إلى نظر دقنق، وقوله: فلا يكفي التقليد أي التقليد من غير أن يعلم
أنّ من قلده له حجة صحيحة على ما قلده فيه حتى قالوا إن للمقلد دليلاً اجماليا، وهو دليل من قلده وأوّل من فعل هذا عمرو بن لحيّ بن جمعة بن خندف. قوله: (أي احفظوها والزموا صلاحها الخ) يعني اسم فعل أمر نقل أمر نقل إلى ذلك مجموع الجار والمجرور لا الجار وحده كما قيل وهو متعد، وقد يكون لازما بمعنى تمسك كما في قوله صلى الله عليه وسلم: " عليك بذات الدين " وعلى قراءة الرفع فهو مبتدأ أو خبر أي لازمة عليكم أنفسكم، أو حفظ أنفسكم لازم عليكم بتقدير مضاف في المبتدأ، وهي قراءة شاذة لنافع وكون أسماء الأفعال موضوعة للألفاظ أو للمعاني محقق في النحو، وقول المصنف رحمه الله أسماً لالزموا ظاهر في الأوّل. قوله: (لا يضركم الضلال إذا كنتم مهتدين ومن الاهتداء الخ) أي ضلال غيركم لا يضركم إذا كنتم على الهدأية، ولما توهم من ظاهر الآية الرخصة في ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والأذن في ذلك ينافي الأمر به أشاروا إلى الجواب عنه بوجوه.
الأوّل: أنه للمنع عن هلاك النفس حسرة وأسفا على ما فيه الكفرة والفسقة من الضلال. والثاني: أنه تسلية لمن يأمر وينهى ولا يقبل منه عند غلبة الفسق وبعد عهد الوحي.
والثالث: أنه للرخصة في تركهما إذا كان فيهما مفسدة فوقهما.
والرابع: أنه للأمر بالثبات على الإيمان من غير مبالاة بنسبة الآباء إلى السفه حيث كانوا
على الكفر والضلال وأبناؤهم على الإيمان والهدى، والخامس أن الاهتداء لا يتم إلا بالأمر بالمعروف والنهي المذكور لأنّ تركه مع القدرة عليه ضلال، وجميع الوجوه تؤخذ من كلام المصنف رحمه الله فالأوّل من قوله لما كان المؤمنون يتحسرون الخ، والثاني يؤخذ من قوله حسب طاقته لأنه يثير إلى أنّ ما لا يطاق معفو عنه ومن عدم الطاقة كثرة الفسقة، وكذا الثالث والرابع من قوله وقيل كان الرجل الخ والخامس: وهو مما زاده على الكشاف من قوله ومن الاهتداء الخ فلم يترك شيئا من الكشاف كما قيل. وقوله: (من رأى منكا) الحديث الخ أخرجه مسلم عن أبي سعيد رضي الله عنه. قوله: (ولا يضركم يحتمل الرفع على أنه مستأنف الخ) أي هو إما مرفوع مستأنف لا تعلق به بالأمر، أو هو جواب للأمر والمعنى إن لزمتم أنفسكم لا
يضركم والضمة على الأول رفع وعلى هذا حرك لالتقاء الساكنين بالضم إتباعا لما قبله، وكذا على تقدير كونه نهيا وليس المراد في النهي نهي من ضل عن الضرر بل المعنى نهي المخاطبين عما يؤدي إلى الضرر من جهة من ضل كناية على طريقة قوله لا أرينك ههنا، وقراءة الفتح لتحريكه بالفتح تخفيفا لالتقاء الساكنين، وضاره يضيره ويضوره بمعنى ضره كذمّه وذامه. قوله: (وتنبيه على أنّ أحدا الخ الأنه يدل على أنباء كل شخص بعمله دون عمل غيره والمقصود من الأنباء المؤاخذة به. قوله: (أي فيما أمرتم شهادة بينكم) اعلم أنهم قالوا: ليس في القرآن آية أعظم إشكالاً حكما واعرابا وتفسيرا من هذه الآية والتي بعدها حتى صنفوا فيها تصانيف مفردة قالوا: ومع ذلك لم يخرح أحد من عهدتها، والشهادة لها معان منها الإحضار كقوله: {واستشهدوا شهيدين من رجالكم} [سورة البقرة، الآية: 282] ومنها القضاء نحو شهد الله أي قضى، ومنها أقرّ ومنها حكم ومنها حلف ومنها علم ومنها وصى كما في هذه الآية، وفيها قراآت متعدّدة فقرأها الجمهور برفع شهادة على أنها مبتدأ واثنان خبرها وجعلوها على حذف مضاف من الأول أي ذوا شهادة بينكم اثنان من الناس أو شهادة بينكم شهادة اثنين ليتصادق المبتدأ والخبر، ومنهم من جعل الشهادة بمعنى الشهود كرجل عدل أو الخبر محذوف، واثنان مرفوع بالمصدر الذي هو شهادة والتقدير فيما فرض عليكم أن يشهد اثنان، وهو قول الزجاج: وتبعه الزمخشريّ وإذا ظرف لشهادة أي ليشهد وقت حضور الموت أي أسبابه، وحين(3/290)
الوصية إما بدل من إذا أو نفس الموت أي وقوع الموت أي أسبابه حين الوصية أو منصوب بحضر أو شهادة مبتدأ خبره إذا حضر أي وقوع الشهادة في وقت حضور الموت حين الوصية على الوجوه السابقة ولا يجوز فيه أن يكون ظرفا للشهادة لئلا يخبر عن الموصول قبل تمام صلته كما مر أو خبره حين الوصية وإذا منصوب بالشهادة، ولا يجوز نصبه بالوصية، وان كان المعنى عليه لأنّ معمول المصدر لا يتقدمه على الصحيح، وأيضا يلزم تقديم معمول المضاف إليه على المضاف، وهو لا يجوز غير غير كقوله:
على الثاني لعبدي غير مكفور
لأنها بمنزلة لا واثنان على هذين الوجهين الأخيرين إما فاعل يشهد مقدرا أو خبر الشاهدان مقدراً أو شهادة مبتدأ أو اثنان فاعله سد مسد الخبر، وهو مذهب الفراء إلا أنه جعل المصدر بمعنى الأمر أي ليشهد فجعله من نيابة المصدر عن فعل الطلب، وهو ضعيف عند غيره لأنّ الاكتفاء بالفاعل مخصوص بالوصف المعتمد، وإذا وحين عليه منصوبان على الظرفية كما مر فهذه خمسة أوجه، وأما قراءة من نصبها فذهب ابن جني إلى أنها منصوبة بفعل مضمر اثنان فاعله أي ليقم شهادة بينكم اثنان، وتبعه الزمخشريّ، وأورد عليه أنّ حذف الفعل، وابقاء فاعله لم تجزه النحاة إلا إذا تقدم ما هو من جنس لفظه كقوله:
ليبك يزيد ضارع لخصومة
أو وقع في الجواب، وهذا ليس كذلك، وما ذكره من الاشتراط غير مسلم بل هو مسلم
بل هو شرط أكثرية أو الشهادة مصدر ناب مناب فعله، وقدير ليشهد أمراً دون أشهد لرفعه الظاهر أو يقدر يشهد خبرا وبينكم في قراءة من نون شهادة منصوب على الظرفية ومن جره اتسع فيه لأنه متصرف، ولذا قرىء بقطع بينكم بالرفع، وقال الماتريدي والرازي إنّ الأصل ما بينكم، وهو كناية عن التنازع والتخاصم، وحذف ما جائز كقوله وإذا رأيت ثمّ أي ما ثم وأورد عليه أنّ ما الموصولة لا يجوز حذفها، ومنهم من جوّزه، وإنما بسطنا القول فيه لأنه من المهمات فقول المصنف رحمه الله أي فيما أمر تم إشارة إلى أنّ شهادة مبتدأ خبره هذا المقدر، وهو أحد الوجوه السابقة، وجعل المراد من الشهادة الاشهاد في الوصية لأنها اللازمة لمن حضره الموت لا الشهادة نفسها لأنها على من أشهده. وقوله:) وقرىء شهادة الخ) أي على أنها مفعول ليقم بلام الأمر من أقامها إذا أدّاها على وجهها وبينكم منصوب على الظرفية، وأوّل حضور الموت بمشارفته لأنه لا وصية إذا حضر بالفعل، وإنما هي قبل ذلك، وإذا متعلقة بالشهادة، وهو أحد الوجوه فيها، وحين بدل منه، وقوله مما ينبغي غير قول الزمخشريّ دليل على وجوب الوصية لأنهم قالوا المراد بالوجوب الندب المؤكد طلبه الشبيه بالواجب، وفي تقدير ليقم ما مرّ من حذف الفعل، وابقاء فاعله فتذكره. قوله: (اثنان فاعل شهادة ويجوز أن يكون خبرها على حذف المضاف) قيل عليه إنه صرح بأن الشهادة بمعنى الاشهاد الذي هو فعل الموصي المختصر فلا يصح أن يكون اثنان فاعلاً لها بل لا بد أن يكون مفعولاً منصوبأ، والزمخشريّ لم يجعل الشهادة بمعنى الاشهاد بل حملها على معناها المتبادر منها، واثنان فاعل أي فيما فرض عليكم أن يشهد اثنان فلا يرد شيء (قلت) اضافته إلى الظرف ناطقة بأن الشهادة واقعة بينهم، وبمحضر منهم، وكذا تعلق حين الوصية بها فالمعنى شهادتهما بما أوصى به
بحضرتهما، وهي تستلزم الاشهاد، وإليه مآل المعنى كما إذا قلت شهد الزيدان بما أسمعهما عمرو من كلامه، وبهذا الاعتبار كان مأمورا لأنّ المخبر عنه في الحقيقة الوصية المشهد عليها، وهي فعله، ونظيره، وإن لم يكن مما نحن فيه {فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تضا! إحداهما فتذكر احداهما الآخرى} [سورة البقرة، الآية: 282] لأنّ المعلل به التذكير، والمعنى أن تذكر احداهما الأخرى إذا ضلت كما نبه على سره في كتب التفسير والعربية فليست الشهادة بمعنى الاشهاد مجازا حتى يرد ما ذكره المعترض، وتبعه كثير منهم، ولذا قال المراد، ولم يقل ومعناها أو هي مجاز عنه ونحو ذلك، وقد أشار إلى ذلك الزمخشريّ حيث قال بعد قوله في تفسير {شهادة بينكم} [سورة المائدة، الآية: 06 ا] فيما فرض عليكم أن يشهد اثنان يعني فاستشهدوا فلا فرق بين كلاميهما كما توهمه المعترض، وأما ما قيل إن الشهادة بمعنى الأشهاد الذي هو مصدر المجهول، واثنان قائم مقام فاعله، والنائب عن الفاعل يطلق عليه فاعل كثيرا عندهم فمع كون الكلام مناد على خلافه(3/291)
يقتضي الإتيان لمصدر الفعل المجهول بنائب فاعل، وهو اسم ظاهر مرفوع، وهذا وأن جوّزه البصريون كما في شرح التسهيل للمرادي في باب المصدر فقد منعه الكوفيون، وقالوا إنه هو الصحيح لأنّ حذف فاعل المصدر سائغ شائع فلا يحتاج إلى ما يسد مسد فاعله كفاعل الفعل الصريح، وحذف المضاف إما من المبتدأ أو الخبر كما مرّ، ووقع في النسخ هنا اختلاف ففي نسخة الأشهاد في الوصية، وفي أخرى بالوصية، وفي أخرى أو الوصية فيكون المراد بالشهادة الوصية، وسيأتي ما يتعلق به، والأخيرة ليست معتمدة، ولا تناسب الكلام فتأمّل. قوله: (من أقاربكم أو من المسلمين وهما صفتان الخ) التفسيران مبنيان على ما سيأتي. قوله: (ومن فسر الغير بأهل الذفة) بناء على أنّ منكم معناه من المسلمين، وفي كونه منسوخا، واجماعاً نظر أما الأوّل فلأنه قد سبق من المصنف رحمه الله تعالى في آية الوضوء أن القول بالنسخ في هذه السورة ضعيف لقوله صلى الله عليه وسلم المائدة آخر القرآن نزولاً فأحلوا حلالها وحرّموا حرامها، وأما الثاني فلأنّ ابن حنبل رضي الله تعالى عنه أجاز شهادة الكافر على المسلم في الوصية، وأبو حنيفة رحمه الله تعالى أجازها في بعض الصور المذكورة في الفقه فتأمل. قوله: (أي سافرتم فيها) لأنّ ضرب في الأرض! معناه سافر كما بين في كتب اللغة، وقوله أي قاربتم الأجل إشارة إلى أنه من مجاز المشارفة لأنّ الوصية قبل إصابته. قوله: (تقفونهما الخ) وقف يكون لازما ومتعديا قال الراغب: يقال وقفت القوم أقفهم وقفا، ووقفواهم وقوفا، وتصبرونهما من الصبر بالصاد المهملة بمعنى الحبس قال في
النهاية في الحديث: " من حلف على يمين صبر " أي ألزم بها، وحبس عليها، وكانت لازمة له من جهة الحكم. قوله: (صفة لآخران الخ) على الوصفية جملة الشرط معترضة فلا يضر الفصل بها، واختلف في الشرط هل هو قيد في أصل الشهادة أو قيد في آخران من غيركم فقط بمعنى أنه لا يجوز العدول في الشهادة على الوصية إلى أهل الذمة إلا بشرط الضرب في الأرض، وهو السفر فإن قيل هو شرط في اصل الشهادة فتقدير الجواب إن ضربتم في الأرض! فليشهد اثنان منكم أو من غيركم وان كان شرطا في العدول إلى آخرين من غير الملة فالتقدير فأشهدوا آخرين من غيركم أو فالشاهدان آخران من غيركم فقد ظهر أن الدالّ على جواب الشرط أما مجموع قوله اثنان ذوا عدل الخ، وأما آخران من غيركم فقص، وجملة أصابتكم معطوفة على الشرط، والى الثاني ذهب المصنف لظهوره. قوله: (صلاة العصر الخ (فالتعريف للعهد أو للجنس، وتصادم ملائكة الليل الخ لأنه يوكل بالمرء من يحفظه، ويكتب أعماله في النهار، وآخروه في الليل، وملائكة النهار يصعدون بعد العصر، وملائكة الليل تهبط بعده أيضا فيتلاقون حي! سذ فالتصادم مجاز عن التلافي، وهذا ورد مصرّحاً به في الحديث، واجتماع طائفتي الملائكة فيه تكثير للشهود منهم على صدقه، وكذبه فيكون أقوى من غيره، وأخوف. قوله: (إن ارتاب الوارث منكم الخ) قدر المض، ف أي ارتاب وارثكم لأنّ المخاطب الموصون والمرتاب الموصى له وجعله وارثا لأنه الأغلب، والمذكور في سبب النزول، والا فقد يكون الموصى له غير الوارث، ولو قدّر الموصي كان أسلم، وليس المراد بالوصية هنا الوصية التي لا تكون للوارث، وهو ظاهر، وقيل نزل ارتياب الموصى له منزلة ارتياب الموصي. قوله:) وإن ارتبتم اعتراض الخ (في الكشاف إن ارتبتم في شأنهما، واتهمتموهما فحلفوهما فالشرط مع جوابه المحذوف معترض لا الشرط وحده قيل قدر جواب الشرط ليكون الاعتراض هو الجملة الشرطية، ولو كان هو الشرط فقد لكان الجزاء مضمون القسم فلم يحسن توسيطه بين القسم، والجواب بل التقديم عليه أو التأخير، والمصنف رحمه الله تعالى لا بد له من ذلك أيضاً لأنه لا يخلو أن يكون للشرط جواب أو لا فإن لم يكن له جواب تكون أن وصلية، وهي مع أنّ الواو
لازمة لها ليس المعنى عليها، ولو قدر فإمّا مقدماً أو مؤخراً، وكلاهما ينافيان الاعتراض إلا أن يريد أنها مستغنية عن الجواب لسد ما أكدته مسدّه، وفي قوله اختصاص القسم بحال الارتياب، وقوله بعد ذلك وجوابه أيضاً محذوف ما يشعر بموافقة الكشاف فتأمّل فما تيل إنه رأى اعتراض! الشرط، ومنع عدم(3/292)
حسن التوسط المذكور وهم من قلة التدبر، وليس هذا من توالي القسم، والشرط المعهود لأنه إذا اتحد جوابهما، وهنا ليس كذلك، وقوله لا نحلف بالله كاذبا أي حلفاً كاذباً فلا ركاكة فيه، ثم إنهم قالوا لا نشتري لا يصلح جوابا للشرط، ولا دليلاً له، ولا مانع منه لأنه في معنى إن ارتبتم فلا ينبغي ذلك لأنا لسنا ممن يشتري ذلك بثمن قليل، وجوّز في ضمير به أن يرجع للقسم، وللشهادة لأنها قول أو لله قالوا، والتقدير بيمين الله، وأشار بقوله تستبدل إلى أن نشتري بمعنى نستبدل ليصح نصبه ثمنا، وقيل تقديره ذا ثمن، والأوّل أولى. قوله: (ولو كان المقسم له قريباً الخ) أشار إلى تقدير الجواب، والى أنها ليست وصلية
لأنّ المعنى ليس على ذلك، وهو ظاهر، وقوله: الشهادة التي أمرنا بإتامتها إشارة إلى أنّ الإضافة، والاختصاص فيها بالله لأنه أمر بها أو أنها لأدنى ملابسة. قوله: (وعن الشعبي أنه وقف على شهادة) أي بالهاء ثم ابتدا آلله بالمد، والجرّ وليس هذأ من حذف حرف الجرّ وابقاء عمله شذوذاً لأنه إذا كان بغير عوض، وفي الجلا أ، الكريمة ت حويض همزة الاستفهام عن واو القسم، وحينثذ إما أن تمد للفصل بين الهمزتين فيقال آالله أوف سهل الثانية، ويقال أيضاً ها الله وهل الجر بحرف القسم أو بالعوض قولان وإذا قيل الله بدود دلى كما رواه سيبويه أيضا فهل حذف من غير عوض فتكون على خلاف القياس أو الهمزة المذكورة همزة الاستفهام، وهي همزة قطع عوّضت عن حرفه، ولكنها لم تمد اختار الئاني في الدرّ المصون، وهو أولى من دعوى الشذوذ، وضمير بغيره في كلام المصنف رحمه الله تعالى إن كان للتعويض فهو القول الأوّل، وهو الظاهر، وان كان للمد احتمل الثاني، وقوله: إن كتمنا تفسير لإذا لا تقدير، وقراءة لملائمين بينها المصنف رحمه الله تعالى، وسيأتي تحقيقها في عاد الأولى. قوله: (فإن عثر فإن اطلع (لما كان كل عاثر ينظر إلى موضع عثاره فيعرف نعته ورد العثور بمعنى الاطلاع، والعرفان، وقال الغوري: عثرت إذا اطلعت على ما كان خفياً، وهو مجاز بحسب الأصل، وقال الليث إنّ مصدر هذا العثور ومصدر العثار العثرة وقال الراغب: مصدرهما واحد، وما قاله الراغب: هو الظاهر لأنّ اختلاف المصدر ينافي المجاز فتأمّل. قوله: (أي نعلاَ ما أوجب
إثماً الخ) فعلا بضمير التثنية، وقوله: فآخران في إعرابه وجوه قيل إنه خبر مبتدأ محذوف أي فالشاهدان آخران، والفاء جزائية، وجملة يقومان صفة آخران، وهو مرفوع بفعل مقدر أي فليشهد آخران، ومرّ ما فيه أو هو خبر مقدم موصوف، والأوليان مبتدأ مؤخر، أو هو مبتدأ أخبره من الذين أو هو مبتدأ، وخبره يقومان، وهو ظاهر كلام المصنف رحمه الله تعالى، والزمخشري، ولا يضرّ تنكيره وفيه أعاريب أخر هذه أحسنها، ومعنى كونهما شاهدين سيأتي في بيان معنى الآية. قوله: (من الذين جنى عليهم الخ) يشير إلى أن استحقاق الإثم عليهم كناية عن هذا المعنى، وذلك لأنّ معنى أ! تحق الشيء لاق به أن ينسب إليه فالجاني للإثم المرتكب له يليق أن ينسب إليه الإثم فاستحق الإثم بمعنى ارتكبه، وجناه فالذين استحق عليهم الإثم أي جنى عليهم، وارتكب الذنب بالقياس إليهم ففيه تضمين، وضمير استحق عائد إلى الإثم أو الإيصاء أو الوصية أو هو مسند للجارّ، والمجرور، وإنما استحق الإثم لأنّ أخذ ما يحصل بأخذه إثم يسمى إثما كما يسمى ما يؤخذ بغير حق مظلمة، ولذلك يسمى المأخوذ باسم المصدر، وعلى بمنزلتها في استحق على زيد مال بالسهمان أي وجب أو بمعنى في أو من أي استحق فيهم أو منهم قيل، والحق أنه مسند للإثم مشاكلة، والتضمين لقوله، ومعناه من الذين جنى عليهم، وذلك لابتناء قوله فإن عثر على قوله أنا إذا لمن الآثمين لأن المعنى إن كنا كثمنا الحق كنا من الجانين، ثم إن اطلع على أنهما خانا وجنيا على المشهود له واستحقا إثما بذلك فآخران يقومان مقامهما بالشهادة فكنى عن قوله خانا، وجنيا بقوله: استحقا إثما ليشاكل الكلام السابق، وهو إنا إذا لمن الآثمين، ولذا قال واستوجبا أن يقال إنهما لمن الآثمين، ثم عبر عن المشهود عليهم بقوله استحق عليهم الإثم ليشاكل التعبير عن الجانبين بأنهما استحقا الإثم، وفيه تأمل، وقوله: وهو أي الفاعل والأوليان أفعل تفضيل، ولذا فسره بالأحقان، وفي الكشاف معناه من الورثة الذين استحق عليهم الأوليان من بينهم بالشهادة أن يجرّدهما للقيام بالشهادة، ويظهروا بهما كذب الكاذبين.(3/293)
قوله: (وهو خبر محذوف الخ) أي على قراءة المجهول لأنّ الكلام فيها، والقراءة الأخرى وقعت فيما بين الكلام عليها، وتفصيل هذا لأنه من أهم المهمات، ومن تعلق هذه الآية أنه قرى اشحق مجهولاً، ومعلوما في السبعة، والأوّلين جمع أوّل جمع مذكر سالم، وقرأ الحسن الأوّلان تثنية أوّل، وابن سيرين الأوليين بياءين تثنية أولى منصوبا وقرئ الأولين بسكون الواو، وفتح اللام جمع أولى كالأعلين فقراءة الجمهور رفع الأوليان على أنه مبتدأ خبره آخران أي الأوليان بأمر الميت آخران كما مرّ أو خبر مبتدأ مقدر أيهما الأوليان كأنه قيل من الآخران فقيل هما الأوليان أو هو بدل من آخران أو عطف بيان، وهذا يلزمه عدم اتفاق البيان، والمبين في التعريف، والتنكير مع أنهم شرطوه فيه حتى من جوّز تنكيره لكن بعضهم لم يشترطه، وقد نص عليه الزمخشري في آل عمران أو هو بدل من فاعل
يقومان أو صفة آخران لكن فيه وصف النكرة بالمعرفة، والأخفش أجازه هنا لأنه بالوصف قرب من المعرفة، وقال أبو حيان أنه هدم للقاعدة المؤسسة لكن المتقدمين ارتكبوه في مواضع كما في مررت بالرجل خير منك في أحد الأوجه قاله في الدرّ المصون، وهذا عكس، ولقد أمر على اللئيم يسبني فإنه يؤوّل فيه المعرفة بالنكرة، وهذا أوّل فيه النكرة بالمعرفة إذ جعلت في حكمها للوصف، ويمكن أن يكون منه بأن جعل الأوليان لعدم تعينهما كالنكرة أو هو نائب فاعل استحق لكن على هذا لا بد له من تأويل إما بتقدير مضاف أي إثم الأوليين وقدّره الزمخشري انتداب الأوليين منهم للشهادة لاطلاعهم على حقيقة الحال، وهذا إعراب أبي عليّ الفارسي رحمه إلله تعالى، وتقدير الزمخشري أولى من تقدير الإئم لأنه لا يصح إلا بتأويل بعيد، وعلى غير هذا مرفوعه ضمير يعود على ما تقدم لفظاً أو سياقاً، وهو الإثم أو الإيصاء أو الوصية لتأويلها بما ذكر أو المال، وفي على في عليهم أوجه فقيل هي على أصلها كما مرّ أو بمعنى من أوفى، وأما قرإءة حفص بالبناء للفاعل فالأوليان فاعله، ومفعوله محذوف قدره بعضهم وصيتهما، وقدره الزمخشري أن يجرّد وهما للقيام بالشهادة، ويظهروا بهما كذب الكاذبين، وقدره ابن عطية مالهم، وتركتهم، وقراءة الأوّلين جمع أوّل المقابل للآخر فهو مجرور صفة الذين أو بدل منه أو من ضمير عليهم أو منصوب على المدح، ومعنى الأوّلية التقدّم على الأجانب في الشهادة لكونهم أحق بها، وأعرف كما مرّ، وقيل إنهم أوّلون في الذكر لدخولهم في يا أيها الذين آمنوا، وقرأ الحسن الأوّلان بالرفع على ما وجهناه به، والأوليين مثنى نصبه على المدح، وأما قراءة الأولين كالأعلين فشاذة لم تعز لأحد، وهو جمع أولى، واعرابه كالأوّلين والأوّليين، وقد مرّ الوجوه فيها وقوله:) وقرأ حمزة الخ) الأوّلين جمع أوّل منصوب، وقوله وقرى الأوّلين يعني تثنية أوّل، وبقية كلامه ظاهرة وقوله: بدل منهما تبع فيه الزمخشري، وقال النحرير: الضمير راجع إلى لفظ آخران فحقه أن يكون مفردا لأنّ لفظ المثنى كآخرين لفظ واحد، وقوله: أو خبر آخران فيه الأخبار عن النكرة بالمعرفة، وهو مما اتفق على منعه في مثله، وقوله: أو من الضمير في يقومان، وكون المبدل منه في حكم الطرح ليس من كل الوجوه حتى يلزم خلوّ الصفة عن الضمير على أنه لو طرح وقام هذا مقامه كان من وضع الظاهر موضع المضمر فيكون رابطاً.
واعلم إن استحق هنا فسر بطلب الحق وبحق، وغلب. قوله: (فيقسمان الخ) معطوف
على يقومان، والسببية فيها ظاهرة، ولشهادتنا جواب القسم، وفسر أحق بأصدق، والاعتداء بتجاوز الحق، والظلم بارتكاب الباطل بتنزيله منزلة اللازم أو بتقدير مفعول أي أنفسهم، وقيل
الفرق بينهما بالعموم والخصوص. قوله: (ومعنى الآينبن إنّ المحتضر اذا أراد الوصية الخ) اعلم إنهم اختلفوا في معنى الشهادة في هذه الآية فقال قوم هي الشهادة على الوصية في السفر، وأجازوأ شهادة الذمي على المسلم في هذه الصورة وبه حكم بعض الصحابة رضي الله تعالى عنهم، وإليه ذهب ابن حتبل، والآية ليست بمنسوخة عندهم لحديث المائدة.
وقال آخرون الشهادة هنا بمعنى الحضور من شهدت كذا شهوداً وشهادة إذا حضرته،
وقيل هي أيمان الوصي إذا ارتاب الورثة فلا نسخ عليهما أيضاً، والأخير قول مجاهد وبعض الصحابة، واليمين قد تسمى شهادة وبها فسر قوله تعالى: {فشهاثه أحدهم أربع شهادات بالله} [سورة النور، الآية: 6] لكنه(3/294)
بعيد لأنّ الشهادة إذا أطلقت فهي المتعارفة، وقوله: ولا نكتم شهادة الله صريح فيه فإنّ الإيمان لا تكتم وتأويل من غيركم بغير أقربائكم قال الجصاص لا وجه له لأنّ الخطاب توجه أوّلاً إلى أهل الإيمان فالمغايرة تعتبر فيه، ولم يجر للقراية ذكر ويدل عليه الحديث الآتي في سبب النزول، ثم إنّ الشهادة إذا حملت على الوصية هل تعم كل وصية أو تخص بما وقع في الحديث اختلف فيه، وهل هي منسوخة أو باق حكمها فقيل نسخت بقوله: {واستشهدوا شهيدين من رجالكم} فإنه آخر ما نزل، وقيل إنّ في هذه السورة ثماني عشرة فريضة لم ينسخ منها شيء.
واعلم أنّ الشهادة كيف تتصوّر هاهنا وشهادتهما إما على الميت، ولا وجه لها بعد موته، وانتقال الحق إلى الورثة، وحضورهم أو على الوارث المخاصم فكيف يشهد الخصم على خصمه فهذا يقتضي بالضرورة تأويل الشهادة فالظاهر أن تحمل في قوله شهادة بينكم على الحضور أو الإحضار أي إذا حضر الموت لمسافر فليحضر من يوصي إليه بإيصال ماله لوارثه مسملاَ فإن لم يجد فكافر، والاحتياط أن يكونا اثنين فإذا جاءا بما عندهما، وحصل ريبة في كتم بعضه فليحلفا لأنهما مودعان مصدّقان بيمينهما فإن وجد ما خانا فيه، وادّعيا أنهما تملكاه منه بشراء، ونحوه، ولا بينة لهما على ذلك يحلف المدعى عليه على عدم العلم بما ادعياه، وإنه ملك لمورثهما لا نعلم انتقاله عن ملكه، والشهادة الثانية بمعنى العلم المشاهد، أو ما هو بمنزلته لأنّ الشهادة المعاينة فالتجوّز بها عن العلم صحيح قريب، والشهادة الثالثة إما بهذا المعنى أو بمعنى اليمين كما مرّ فلا نسخ في هذه الآية على هذا، ولا إشكال، ولله الحمد مما أفاضه الله عليّ ببركة كلامه.
وما ذكر كله تكلف لم يصف من الكدر لذوق ذائق، وسبب النزول، وفعل الرسول مبين
لما ذكرنا عودا على بدء، وقول المصنف من ذوي نسبه أو دينه إشارة إلى الوجهين السابقين، وقوله يوصي إشارة إلى حمل الشهادة على الوصية، والتغليظ بالزمان، والمكان مذهب الشافعي، وهو عندنا لا يلزم بل يجوز للحاكم فعله.
وقوله: قإنه لا يحلف الشاهد هو المشهور، وقيل إنه إن لم يجد من يزكيه يجوز تحليفه احتياطا كما وقع في بعض كتب الفتاوى الحنفية، وقوله: ورد اليمين هو مذهب الشافعي أيضا، وعندنا لا تردّ اليمين، وليس في الآية دليل عليه لما ذكرناه، وقوله: أو لتغير الدعوى أي انقلابها بأنّ المدعى عليه صار مدعيا للملك، والوارث مدعى عليه فلذا لزمته اليمين لا للرد كما مرّ، وهو الصحيح، وقوله: (إذ روي الخ) استدل بسبب النزول على ما ذكره آخرا، وهو الصحيح. قوله: (روي أنّ تميماً الخ) أخرجه البخاري وأبو داود، والترمذي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بسند صحيح عن تميم الداري في هذه الآية قال يرى الناس منها غيري، وغير عدي بن بدّاء، وكانا نصرانيين يختلفان إلى الشام قبل الإسلام فأتيا الشأم لتجارتهما وقدم عليهما مولى لبني سهم يقال له بزيل بن أبي مريم بتجارة، وص مه جام من فضة يريد به الملك وهو أعظم تجارته فمرضى فاوصى إليهما، وأمرهما أن يبلغا ما ترث لورثته قال تميم فلما مات أخذنا ذلك الجام فبعناه بألف درهم، ثم اقتسمناه أنا وعدي بن بداء فلما قدمنا إلى أهله دفعنا إليهم ما كان معنا ففقدوا الجام فسألونا عنه فقلنا ما ترك غير هذا، وما دفع إلينا غيره قال تميم فلما أسلمت بعد قدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم تأثمت من ذلك فأتيت أهله فأخبرتهم الخبر وأدّيت إليهم خمسمائة درهم وأخبرتهم أنّ عند صاحبي مثلها فأتوا به رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألهم البينة فلم يجدوا فأمرهم أن يستحلفوه بما يعظم به على أهل ديته فحلف فأنزل الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا} الآية فقام عمرو بن العاص ورجل آخر فحلفا فنزعت الخمسمائة درهم من عدفي بن بداء كذا
قال الترمذي: فيا لجامع، ثم قال هذا حديث غريب وليس إسناده بصحيح، وأبو النضر الذي روى عنه محمد بن إسحق هذا الحديث هو عندي محمد بن السائب الكلبي يكنى أبا النضر، وقد تركه أهل العلم بالحديث، وهو صاحب التفسير سمعت محمد بن إسماعيل يقول محمد بن السائب يكنى أبا النضر ولا نعرف لسالم أبي النضر رواية عن أبي صالح مولى أم هانى رضي الله تعالى عنها، وقد روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما شيء من هذا على الاختصار من غير هذا الوجه حدّثنا سفيان بن وكيع قال حدثنا يحيى بن آدم عن أبي زائدة عن محمد(3/295)
بن أبي القاسم عن عبد الملك بن سعيد بن جبير عن أبيه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال خرج رجل من بني سهم مع تميم الداري وعديّ بن بداء فمات السهمي بأرض ليس بها مسلم فلما قدما بتركتة فقدوا جاما من فضة محوّصا بالذهب فأحلفهما رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم وجد الجام بمكة فقيل اشتريناه من تميم، ومن عديّ فقام رجلان من أولياء السهمي فحلفا بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما، وأنّ الجام لصاحبهم قال: وفيهم نزلت الآية وهذا حديث حسن غريب، وهو حديث ابن أبي زائدة، ومحمد بن القاسم كوفي قيل إنه صالح الحديث اهـ، وفي نور النبراس تميم الداري المذكور في هذه القصة نصراني من أهل دارين قاله مقاتل، وقيل هو تميم المعروف الداري منسوب إلى الدار، وهو بطن من لخم اهـ وبزيل بباء موحدة مضمومة وزاي معجمة مولى العاص بن وائل صاحب الجام، واختلف في ضبطه كما في كتاب المشتبه وبداء بياء موحدة، ودال مهملة مشددة ومد كشداد، ويقصر، وفي تفسير ابن مقاتل بنداء بنون قبل الدال، وهو غريب، وقال ابن حجر أنه اختلف في إسلامه، والمشهور إنه لم يسلم فقوله هنا، وبديل أي بدال مهملة هو ما في بعض النسخ، وفي الإصابة أنه بزيل، وقيل بريل براء مهملة بدل الدال، وبريل بن أبي مريم، وقيل ابن أبي مارية مولى عمرو بن العاصي، ولا خلاف في أنه مسلم مهاجري اهـ فقول النحرير: قيل الصواب براء مفتوحة بعد الباء المضمومة عندي لا يخفى ما فيه، وقوله: دوّن أي كتب، وقوله: السهميان إشارة إلى أنهما وارثان له لأنه من بني سهم، وتخصيص العدد يعني باثنين من الورثة، وقوله: فأتاهم جعل الاثنين جمعاً تسمحا. قوله: (أي الحكم الذي تقدّم أو تحليف الخ) أي المشار إليه الحكم السابق تفصيله في هذه القضية أو تحليف الشاهدين، وقيل المشار إليه الحبس بعد الصلاة، وأدنى معنى أقرب، والى مقدّرة قبل أن المصدرية، والوجه بمعنى الذات، والحقيقة أي أقرب إلى الإتيان بها على
حقيقتها من غير تغيير لها، والى هذا أشار بقوله على نحو ما حملوها الخ. وعلى وجهها حال من الشهادة، والتقدير ذلك الحكم الذي ذكرناه أقرب ان يأتوا بالشهادة على وجهها مما كنتم تفعلونه، وأقرب إلى خوف الفضيحة فيمتنعوا من ذلك فعلى هذا أو يخافوا عطف على أن يأتوا على حد قوله:
علفتها تبنا وماء باردا
قوله: (واتقوا الله واسمعوا ما توصون به الخ) توصون مخفف أو مشدّد واتقوا قيل إنه معطوف على مقدّر أي احفظوا أحكام الله وأتقوا الخ وحمل السمع على القبول، والإجابة لما أوصوا به لأنه أفيد وأنسب، ولو عمم لصح وقوله: (فإن لم تتقوا الخ) حمله على ما ذكر لاً نه تذييل لتلك القصة فلا بد لشموله لمن هي فيهم، وقوله: فقوله تفريع على تقدير متعلق الهداية طريق الجنة لأنها تتضح في ذلك اليوم ويحتمل عوده إلى ما قبله كله أي الاهتداء إلى الحجة أو طريق الجنة كائن يوم يجمع الخ. قوله: (بدل من مفعول واتقوا الخ) وهو الله فيكون مفعولاً به أيضا، وقيل إنه على هذا لا بدّ من تقدير مضاف أي اتقوا عذاب الله لاشتمال اليوم على العذاب لا على الله لتنزهه عن الزمان، والمكان وردّ بأنّ بينهما ملابسة بغير الكلية، والبعضية بطريق اشتمال المبدل منه على البدل لا كاشتمال الظرف على المظروف بل بمعنى أنه ينتقل الذهن إليه في الجملة، ويقتضيه بوجه إجمالي مثلاً إذا قيل اتقوا الله يتبادر إلى الذهن أنه من أي أمر من أموره، وأيّ يوم من أيام أفعاله يجب الاتقاء يوم جمعه للرسل أم غير ذلك.
(وفيه بحث الأنه اشترط فيه أن لا تكون ظرفية، وهذا ظرف زمان لو أبدل منه لا، وهم ذلك، وفي الدرّ المصون، والاشتمال لا يوصف به الله، وفيه نظر فتامّل، وعلى نصبه باذكر فهو مفعول به أيضاً. قوله: (أيّ إجابة أجبتم الخ) أي ماذا يتعلق بقوله: أجبتم على أنه مفعول مطلق له لكونه بمعنى أفي إجابة وماذا كله استفهام، وهذا الوجه أرجح الوجوه، ولذا قدمه وتقدير بماذا أجبتم على أن يكون السؤال عن الجواب لا الإجابة، والتقدير بأي شيء أجبتم فحذف حرف الجرّ، وانتصب ضعيف لأن حذف حرف الجرّ وانتصاب مجروره لا يجورّ إلا في الضرورة كقوله.
تمرّون الديار ولم تعوجوا
وكذا تقديره مجرورا والمقصود وأن كان واحدا في المآل لكن الاعتبار والتعبير مختلف،
وأمّا تقدير ماذا أجبتم به كما قيل على(3/296)
أنّ ما مبتدأ، أو ذا بمعنى الذي خبره وأجبتم صلته، والعائد محذوف أي به كما قاله العوفي ففيه أنه لا يجوز حذف العائد المجرور إلا إذا جر الموصول بمثل ذلك الحرف الجار واتحد متعلقاً هما كما تقرّر في النحو. قوله: (وهذا السؤال لتوييخ قومهم الخ الما كان على كل من السؤال، والجواب إشكال أمّا السؤال فلأنه تعالى علام الغيوب فما معنى سؤاله أجابوا بأنه لقصد التوبيخ للقوم كما يقع صريح الاستفهام لذلك، وتحقيق كونه مجازاً أو كناية، ومن أيّ الأنواع في شرح المفتاح، وأما الجواب فلأن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام قد نفوا العلم عن أنفسهم مع علمهم بما أجيبوا به فيلزم الكذب عليهم فاجابوا عنه بوجو..
الآوّل: إنه ليس لنفي العلم بل كناية عن إظهار التشكي، والالتجاء إلى الله بتفويض الأمر
كله إليه.
الثاني: أنه على حقيقته لكن على خصوص في الزمان، وهو أوّل الأمر لذهولهم من الخوف، ثم يجيبون في ثاني الحال، وبعد رجوع العقل إليهم، وهو في حال شهادتهم على الأمم فلا يكون قولهم لا علم لنا منافيا لما أثبت الله تعالى لهم من الشهادة على أممهم. الثالث: إنه إشارة إلى أنّ علمهم في جنب علم الله بمنزلة العدم مع تفويض الأمر إليه
تعالى.
الرابع: أنه ليس لنفي العلم بجوابهم عند التبليغ، ومدة حياة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بل كان منهم في عاقبة الأمر، وآخره الذي به الاعتبار، واعترض على هذا بأنهم يرون آثار سوء الخاتمة عليهم فلا يصح نفي العلم بحالهم، وبما كان منهم بعد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لا يقال هذا إنما يدل على سوء الخاتمة، وظهور الشقاوة في العاقبة لا على حقيقة الجواب بعد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فلعلهم أجابوا إجابة قبول، ثم غلبت عليهم الشقوة لأنا نقول معلوم أنه ليس المراد بماذا أجبتم نفس الجواب الذي يقولونه أو الإجابة التي تحدث منهم بل ما كانوا عليه في أمر الشريعة من الامتثال، والانقياد، وامتثال الأوامر، واجتناب النواهي أو عكس ذلك فإن قيل قول عيسى عليه الصلاة والسلام فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم الخ. يدل على عدم علمه بحالهم بعده قيل هو إثبات لقبائحهم على الوجه الأبلغ واعتذار بأنه لم يكن له المنع بعد التوفي واظهار أنه لا ذنب له في ذلك، ولا تقصير فلا يدل على نفي العلم بحالهم بعده بل على نفي القدرة على التعيين فقول المصنف لتوبيخ دفع لما يرد
على السؤال، وقوله: لا علم لنا بما كنت تعلمه دفع لما يرد على الجواب بأنه ليس المقصود نفي علمهم بما سئلوا عنه بل نفي العلم بجميع ما علمه تعالى من الظواهر، والبواطن، وأشار بقوله وفيه الخ، إلى جواب آخر كما مرّ، وقوله: إلى جنب علمك أي بالقياس، وبالنسبة إليه، ولا يخفى أنّ هذا ما-له إلى ما ذكره أوّلاً فكيف ضعفه ومرضه، وما قيل إنّ ظاهر هذا المعنى لا يناسب جواب السؤال المذكوو فإن حمل على أنّ المراد لا علم لنا إلى جنب علمك فيما قاله القوم فهو راجع إلى ما ذكره المصنفا رحمه الله لا يخفى ما فيه وقوله: (أو لا علا لنا بما أحدثوا بعدنا الخ) جواب آخر، وقد مرّ ماله، وعليه. قوله: (وقرئ علام بالنصب الخ) إذا تم الكلام عند قوله إنك أنت يكون على طريقة قوله أنا أبو النجم، وشعري شعري أي أنت المعروف بنهاية الكمال، واحاطة العلم حتى إن ما ذكرنا يدل على ذاتك مغن عن صفاتك، وبه يفيد الحمل، ويتم المعنى، وإليه أشار المصنف بقوله أي أنك الموصوف الخ. وقوله: منصوب على الاختصاص عنى به النصب على المدح الاختصاص الذي ذكره النحوبون فإنّ له شروطا ليست مستوفاة هنا، وترك قول الزمخشري أنه صفة لاسم أن لأنّ الضمائر لا توصف على الصحيح، ولذا أوّلوه بأنّ مراده بالوصف البدل، وهو يطلقه عليه كثيراً، وفيه كلام كثير كفانا المصنف مؤنته بتركه، وأما قراءة الغيوب بالكسر فإنه سمع في كل جمع على وزن فعول بالضم كبيوت كسر أوّله لئلا يتوالى ضمتان وواو، وهو مفصل في كتب النحو. قوله: (وهو على طريقة ونادى أصحاب الجنة الخ) يعني كلمة إذ وقال الماضي عبر بهما عما في المستقبل مجازاً لتحققه، وهذا البدل لتفسير المبدل منه، وايضاح لأن الجواب جواب توبيخ الكفر وردّ لا قبول، واليه أشار المصنف رحمه الله تعالى بقوله: (والمعنى أثه الخ) يعني اذكر إنعامي عليك، وعلى والدتك حين جعلك قومك لزينة، وإذا بدتك تعليل أو توقيت، وبروح القدس أي التطهير من هذه الوصمة بما آتيتك من المعجزات ففيه مزيد توبيخ لهم بما(3/297)
فعلوه مع ظهور المعجزاى المكذبة لهم.
قوله: (وقرىء آي! دتك) بالمدّ قال الزمخشريّ: وزنه افعل، وقال ابن عطية فاعل، وأمّا
أيد بالتشديد فوزنه فعل لا غير على الصحيح، ولا يحتاج في ثبوت هذه اللغة إلى سماع
المضارع نعم يحتاج إليه في كون وزنه أفعل أو فاعل كما قيل لأنه اكتفى بمضارع الآخر، ويكفي لثبوته القراءة به ومعناهما واحد، وقيل معناه بالمدّ القوّة، وبالتشديد النصر، وهما متقاربان لأنّ النصر قوّة. قوله: (بجبريل عليه الصلاة والسلام الخ) تقدّم الكلام عليه في البقرة، وأطلاقه على كلامه المذكور وهو ما أتي به من التوحيد، والشريعة على طريق التشبيه، وإضافته إلى القدس بمعنى التطهير المعنوي اختصاصية، وقوله ويؤيده أي يؤيد أنّ المراد بروح القدس الكلام قوله تكلم بعده لأنه كالبيان له. قوله: (والمعنى تكلمهم في الطفولة والكهولة الخ) أي قوله في المهد كناية عن كونه طفلاً صغيرا، وهي أبلغ من التصريح، وأولى لأنّ الصغير يسمى طفلاَ إلى أن يبلغ الحلم فلذا عدل عنه، وقوله على سواء هو إشارة إلى دفع أنّ التكلم في الكهولة معهود من كل أحد فما معنى ذكره مع التكلم في الطفولة الذي هو من الآيات بأنّ القصد إلى عدم تفاوت الكلام في الحالين لا إلى أن كلاً منهما آية.
وقال الإمام: إنّ الثاني أيضاً معجزة مستقلة لأنّ المراد تكلم الناس في الطفولة وفي الكهولة حين تنزل من السماء لأنه حين رفع لم يكن كهلاً، وهذا مبني على تفسير الكهل فإن عيسى عليه الصلاة، والسلام رفع ابن ثلاث وثلاثين، وقيل ابن أربع وثلاثين، ودلالته على التسوية عقلية لأن ذكر تكلم الكهولة ليس لأنه آية بل ليجعلهما على حد سواء، وهو ظاهر فما قيل لا دلالة على التسوية، والأولى أن يجعل وكهلا تشبيها أي تكلمهم كائنا في المهد وكائنا كالكهل في التكلم، وحينئذ ينهدم الاستدلال به على أنه سينزل ليس بشيء لأنّ ما ذكره يفيد التسوية أيضاً وكون التشبيه يؤخذ من العطف لا وجه له وتقدير الكاف تكلف، وفي كلام المصنف رحمه الله نظر بعد ما سمعت كلام الإمام في وجه الاستدلال به لأنه لا يجعله مذكور للتسوية بل لإثبات كلامه لهم في الكهولة، وهو إنما يكون بعد النزول على ما مرّ في معناها وأمّا إذا قصد التسوية فلا يقتضي ثبوت الكهولة إذ معناه تكلمهم طفلا كما تكلمهم لو كنت
كهلاَ. قوله: (سبق تفسيره الخ) وسبق الكلام عليه لكنه كرر باذني ها أربع مرّات وثمة مرّتين قالوا لأنه هنا للامتنان وهناك للاخبار فناسب تكواره هنا، وأنّ له زيادة تأييد بكؤنه مأذونا- من الله فيما فعله، والجمع في الطائر المراد به أنه اسم جمع كباقر لجماعة البقر، وسامر للقوم يسمرون، ونحوه، وإلا ففاعل ليس من أبنية الجمع، وقد صرّحوا به في النحو، وليس المراد أنه! مفرد أريد به مجازاً معنى الحمع ومعنى الآية علمتك الكتابة من غير معلم، والحكمة بحيث غلبت حكماء زمانك مع مهارتهم، وزدت عليهم بايجادك ذا اروح، ولم ينقادوا لك، وإنما قال باذني لأنّ تصوير الحيوان وجعله ذا روح لا يجوز ولا يليق به بغير اذن، رقؤله ما هذا إشارة إلى أنّ أن فيه نافية، وجعل الإشارة إلى عيسى صلى الله عليه وسلم للأخبار عنه بساحر، وأما جعل الإشارة إليه في القراءة الأولى، وجعل السحر بمعنى الساحر فلا حاجة إليه. قوله: (أي أمرتهم على ألسنة رسلي) إنما فسرءـ بهذ لأنّ الوحي مخصوص بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وهم ليسوا كذلك فجعل أمرهم وحيا لكونه بواسطة الوحي إلى رسلهم قال الزجاج: الوحي في كلام العرب ورد بمعنى الأمر كقوله:
الحمد دلّه النني استقلت
باذنه السماء واطمأنت
أوحى لها القرار فاستقرت
أي أمرها أن تقرّ فامتثلت فما قيك الأظهر أنّ المرد بالإيحاء إلهامهم الإيمان لا وجه له،
وانما قال برسلي، ولم يقل برسولي ليطابق ما بعده لأنّ / المراد بالرسل الوسل الذين في زمن عيسى صلى الله عليه وسلم أو من تقدمه لأنهم يجب الإيمان بهم، وبما جاؤوا به ما لم ينسخ، كأنه إشارة إلى أنّ الشريعة لموسى ىلجب! ر كما مرّ فافهم فسقط ما قيل الظاهر على لسان رسولي بدليك قوله، واشهد بأننا مسلمون، وكون أن مصدرية أو مفسرة! ، ودخولها على الأمر مرّ تحممه، وفسر مسلمون(3/298)
بمخلصون أو منقادون لأنه بهذا المعنى يطلق على من قبلنا، وفي العرف يختص بنا، وهو معنى آخر. وقوله: (فيكون تنبيهاً الخ) أي على جعله متعلقا بقالوا والمعية تفهم من كونهما في زمان واحد، وهو ظاهر. قوله: (لم يكق بعد عن تحقيق واستحكام معرف الخ) بعد سقط من نسخة إلى الآن أي حين تكلمهم بهذا لم يكن ما قالوه عن لحقيق منهم، ولا عن
معرفة بالله، وقدرته لأنهم لو حققوه، وعرفوه لم يقولوا هل يستطيع، ويقدر إذ لا يليق مثله بالمؤمن بالله، وتبع فيه الزمخشري في الجري على ظاهر الكلام من كون الحواريين شاكين في قدرة الله وفي صدق عيسى صلى الله عليه وسلم كاذبين في دعوى الإيمان والاخلاص، وذهب محيي السنة وغيره إلى أنهم كانوا مؤمنين، وسؤالهم للاطمئنان، والتثبت كما قال الخليل صلى الله عليه وسلم {أرتي كيف تحيي الموتى} [سورة البقرة، الآية: 260، وهل يستطيع سؤال عن الفعل دون القدر تعبيرا عن الفعل بلازمه أو عن المسبب بسببه، ومعنى إن كنتم مؤمنين إن كنتم كاملين في الإيمان، والاخلاص ومعنى، ونعلم أن قد صدفتنا علم مشاهدة، وعيان بعلم ما علمناه علم إيمان، وايقان بدليل إنّ المؤمنين أمروا بالتشبيه بالحواريين، وأجيب بأنّ الحواريين فرقتان مؤمنون هم خالص عيسى عليه الصلاة والسلام والمأمور بالتشبه بهم، وكافرون وهم أصحاب المائدة، وسؤال عيسى صلى الله عليه وسلم لنزول المائدة وإنزالها ليلزمهم الحجة وقال ابن عطية وغيره من المفسرين إنّ القول بكونهم غيره مؤمنين خارق للإجماع ولا نعلم خلافاً في إيمانهم، وأوّلوا الآية، وأجابوا عنها بما مرّ ونحوه، وقالوا صفة الحوارفي تنافي عدم إيمانهم، وهو الحق، وادّعاء أنهم فرقتان يحتاج إلى نقل، ولك أن تقول أنّ المصنف رحمه الله لم يذهب إلى ما ذهب إليه الكشاف، وأنّ مراده أن إخلاصهم الذي ادّعو. لم يكن محكما محققاً تحقيقاً لا تعتوره الأوهام، والوساوس الذي لا تضرّ المؤمن، ولا توقعه في مزلة الكفر فطلبوا إزالة ذلك طلب من يتثبت لانكارهم له، واستعظامه عندهم لا لشك منهم، ولكن خافوا أن يوقعهم الشيطان به في حبائله، وهذا تصرّف منه أخف من نسب الشك إليهم، ومخالفة ظاهر النظم كما يدل عليه ما سيأتي، وهذا هو النظر السديد عندي فتأمله. قوله: (وقيل هذه الاستطاعة على ما تقتضيه الحكمة والإرادة) فكأنهم قالوا هل إرادة الله، وحكمته تعلقت بذلك أولاً لاً نه لا يقع شيء بدون تعلقهما به قبل، وقوله: {اتقوا الله إن كنتم مؤمنين} [سورة المائدة، الآية: 57] لا يلائمه لأن السؤال عن مثله مما هو من علوم الغيب لا قصور فيه، وقد عرفت أنّ الجمهور أولوه كما مرّه قوله: (وقيل المعنى هل يطيع ربك الخ) فيستطيع بمعنى يطيع، ويطيع بمعنى يجيب مجازاً لأنّ المجيب مطيع، وذكر أبو شامة أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم عاد أبا طالب في مرض فقال له يا ابن أخي اح ربك أن يعافيني فقال: " اللهمّ اشف عمي) فقام كأنما نشط من عقال فقال يا ابن أخي إنّ ربك الذي تعبده ليطيعك فقال: " يا عم وأنت لو أطعته لكان يطيعك " أي يجيبك لمقصودك،
وحسنه في الحديث المشاكل فقد عرفت أنّ العرب استعملته بهذا المعنى، وفي الانتصاف قيل معنى يستطيع يفعل كما تقول للقادر على القيام هل تستطيع أن تقوم، ونقل هذا عن الحسن فعلى هذا يقون إيمانهم سالما عن الشك في القدرة والتعبير عن الفعل بالاستطاعة من التعبير عن المسبب بالسبب إذ هي من أسباب الإيجاد على عكس {إذا قمتم إلى الصلاة} [سورة المائدة، الآية: 6] وهذا التأويل الحسنيّ يعضد تأويل أبي حنيفة رحمه الله حيث جعل الطول المانع عن نكاح الأمة، وجود الحرة في العصمة، وعدمه أن لا يملك عصمة الحرّة، وان كان قادراً على ذلك فيباح له حينئذ الأمة، وحمل قوله: {ومن لم يستطع منكم طولاً أن ينكح المحصنات المؤمنات} على معنى، ومن لم يملك منكم، وحمل النكاح على الوطء فجعل استطاعة الملك بمعنى الملك حتى أنّ القادر غير المالك عادم الطول عنده فينكح الأمة، وكنت أستبعده حتى وقفت على تفسير الحسن هذا، وكانت عائشة رضي الله عنها تقول الحواريون أعرف بالله من أن يقولوا هل يستطيع ربك فنزهتهم عن أن ينسب إليهم مثل هذه المقالة الشيعة. قوله: (وقرأ الكسائي تستطيع ربك أي سؤال ربك) أي قرأها بالتاء خطابا بالعيسى صلى الله عليه وسلم، وربك منصوب على المفعولية، وبقراءته كانت تقرأ عائثة، ومعاذ وعليّ وابن عباس(3/299)
في جماعة من الصحابة رضي الله تعالى عنهم أجمعين وعلى هدّه القراءة فالأكثر أنّ فيها مضافاً مقدراً، وقيل لا حاجة إلى تقدير، والمعنى هل تستطيع أن ينزل ربك بدعائك، وهذا منقول عن الفارسيّ وفيه نظر وفي قوله هل تسأله ذلك إشارة إلى أنّ استطاعة السؤال هنا عبارة عن السؤال كما مرّ تحقيقه لأنّ قوله من غير صارف يأباه فتأمل. قوله: (والمائد الخوان إذا كان عليه الطعام من ماد الماء الخ) الخوان بضم الخاء، وكسرها، وفيه لغبة اخوان بهمزة مكسورة، وهو معرّب وقيل إنه عربيّ مأخوذ من تخوّنه أي نقص حقه لأنه يؤكل عليه فينقص، وهو بمعنى المائدة، وهي فاعلة من ماد يميد إذا تحرك أو من ماده بمعنى أعطاه فهي إما فاعلة بمعنى مفعول كعيشة راضية أو بجعلها للتمكن مما عليها كأنها بنفسها معطية كقولهم للشجرة المثمرة مطعمة، وتفسير المائدة بالخوان تفسير بالأعمّ لأنه لا يقال للخوان مائدة إلا وعليه طعام، والا فهو خوان كما لا يقال للقدح كأس إلا وفيه خمر، وله نظائر كثيرة ذكرها أهل اللغة. قوله: (بكمال قدرته وصحة نبوتي الا فرق بينهما في ابتغائهما، وإنما الفرق في تقدير متعلق الإيمان هل هو القدرة والنبوة
أو عدم تقديره، والمراد صادقين في الإيمان مطلقاً. قوله: (تمهيد عذر وبيان لما دعاهم إلى السؤال الخ) هذا! لا ينافي ما سبق من كونهم لم تكن معرفتهم مستحكمة لأنهم ليسوا معاندين ولا جازمين بخلافه فلهم أن يعتذروا عن طلبه بأنّ،: مرادنا أن نتيقن، ويزول وهمنا، وعلى التأويلات السابقة لا اشكال فيه فما قيل إنه رد لما في الكشاف من كونهم شاكين، ويدل عليه. قوله: (لما رأى أنّ لهم غرضاً صحيحاً الخ الا يرد عليه أنه كيف يتمشى مع تصريحه أولاً بما ذكره الكشاف، وتقديمه على سائر الأقوال، ولهذا اكترض عليه بأنه غير منايسب لصدر كلامه، ولذا قال بانضمام علم المشاهدة إلى علم الاستدلال ليكون عين اليقين، ولا بعد في مثله من بعض الحواريين إذ قد يكون منهم من قرب عهده ثم تمحض بذلك خلوصه، ؤكلامه لا يخلو من اغلاق وادماج، وقوله عليها من الشاهدين مثل قوله: وكانوا فيه من الزاهدين. وقوله: (إذا استشهدتنا) يشعر بأنّ على صلة الشاهدين لكن فيه تقديم ما في حيز الصلة، وحرف الجر وكلاهما ممنوع فلا بد من تعلقه بمحذوف يفسره من الشاهديبن إن جوّزنا تفسير ما لا يعمل للعامل، وقد جوّز تقدمه بعض النحاة مطلقاً وبعضهم في الظرف، وجوّز أن يكون حالاً من اسم كان أي عاكفين عليها على ما مرّ في قوله تعالى {قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة} ، والوجه الثاني لا اشعار فيه به، وقوله بكمالها إشارة إلى أنّ عندهم دليلاَ لكنه غير تام، وهذ يؤيد ما اخترنا في تفسير كلامه. قوله: (اللهم ربنا الخ) قالوا ربنا نداء ثان لا بدل ولا صفة لأنّ لفظ اللهم لا يتبع، وفيه خلاف لبعض النحاة ومن السماء إما صفة مائدة أو متعلق بالفعل. قوله: (أي يكون يوم نزولها عيدا الخ الما كان العيد اسماً للزمان في المتعارف لم يصح الاخبار عن المائدة به فقدر نزولها يوم عيد ليصح الحمل فإن قلنا إنّ معناه السرور لا يحتاج إلى التأويل، ولكن يكون جعلها نفسها سرورا مبالغة مجازاً في الاسناد، والعيد العائد مشتق من العود لعوده في كل عام بالفرح والسرور، وكل ما عاد عليك في وقت فهو عيد قال الأعشى:
فوا كبدي من لا عج الحب والهوى إذا اعتاد قلبي من أميمة عيدها
وهو واوي لكنهم قالوا في جمعه أعياد، وكان القياس أعواداً ففعلوا ذلك فرقا بين جمع
عيد وعود، وقد فصلنا الكلام فيه في شرح درة الغواص، ومنهم من أعرب لنا خبرا وجعل عيداً حالاً. قوله: (بدل من لنا باعادة العامل الخ) ظاهره أنّ المبدل منه الضمير، ولكن أعيد
الجار لأنّ البدل في قوة تكرار العامل وهو تحكم لأنّ الظاهر أنّ الجار والمجرور بدل من الجار والمجرور ثم إنّ ضمير الغائب يبدل منه وأمّا ضمير الحاضر، وهو المتكلم، والمخاطب فأجازه بعضهم مطلقاً، وهو ظاهر كلام المصنف، ومنعه قوم وفصل بعضهم فقال إن أفاد تأكيد أو إحاطة وشمولاً كما هنا جاز والا امتنع. قوله: (وقيل يثل منها أوّلنا وآخرنا) الآكل مأخوذ من المائدة، وقوله نريد أن نأكل منها، وكونها لأوّلهم، وآخرهم بأن يأكلوا منها جميعا من غير نقص، ولا تفاوت بين الأوّل، والآخر فيكون كقوله تعالى: {ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا} [سورة مريم، الآية: 62](3/300)
والظاهر على هذا أن يكون لنا خبراً أي تكون قوتاً لنا أو نافعة لنا أوّلنا وآخرنا، وإنما ضعفه لأنّ الظاهر منه عموم كل بني إسرائيل بذلك والواقع خلافه فتأمل، وقراءة أولانا وأخرانا تأنيث الأوّل والآخر باعتبار الأمّة أو الطائفة، وهي قراءة زيد وابن محيصن والجحدري، وهي شاذة، وما قيل من أنّ المراد الدار الآخرة لا يصح والجملة صفة عيداً. قوله:) وارزقنا المائدة الخ الو عمم لكان أولى، وعلى هذا فالمراد بالمائدة ما عليها لأنها كما تطلق على الخوان تطلق على ما عليه. قوله: (أي تعذيباً (يعني أنه اسم مصدر بمعنى التعذيب كالمتاع بمعنى التمتيع أو اسم جعل بمعنى المصدر كالنبات بمعنى الانبات فيكون مفعولأ به مبالغة فينتصب به على التشبيه بالمفعول وفي التوسع يتعدّى الفعل إلى مفعول آخر بنفسه من غير تقدير حرف، والمنصوب على التشبيه بالمفعول ثلاثة المصدر، والظرف، ومعمول الصفة المشبهة، وليس هو الحذف والايصال، ولذا قال أبو البقاء فيه وجهان النصب على السعة أو الحذف، والإيصال، والأوّل أقيس لأنّ حذف الجار لا يطرد في غير أنّ، وأن عند عدم اللبس، وقيل المراد بالسعة الحذف، والايصال أي أعذب بعذاب، والعذاب ما يعذب به وربما يؤيده ما بعد.. قوله: (الضمير للمصدر الخ) قيل عذاباً مفعول مطلق إذ لو جعل اسماً لما يعذب به لقيل بعذاب لأنّ التعذيب لا يتعذى إلى مفعولين، والحذف، والإيصال خلاف الظاهر فلا يرجع إليه مع ظهور المصدرية فعلى هذا يكون ضمير لا أعذبه في موقع المفعول المطلق كما في ظننته زيداً قائما، ويقوم مقام العائد إلى الموصوف فإنّ قوله لا أعذبه صفة عذابأ، ويجوز أن يجعل من قبيل ضربته ضرب زيد أي عذابا لا أعذب تعذيباً مثله فيكون مع كونه في موقع المفعول المطلق عائداً إلى الموصوف.
(اقول) هدّا مأخوذ من كلام أبي البقاء، وحاصله أنّ الصفة لا بد لها من عائد، وهذا
الضمير إذا كان مفعولاً مطلقا يكون عائداً على المصدر المفهوم من الفعل كما في ظننته زيدا قائماً إذ لا مرجع له غيره وحينئذ تخلو الصفة من العائد فأجاب عنه بجوابين الأوّل أنه مصدر واقع بعد النفي فيعم ويشمل العذاب المتقدم ويحصل الربط بالعموم، وأورد عليه أنّ الربط بالعموم إنما ذكره النحويون في الجملة الواقعة خبرا نحو زيد نعم الرجل فلا يقاس عليه الصفة فإن قدر مثل يكون الضمير راجعاً على العذاب المتقدم والربط به، وقيل الضمير راجع إلى من بتقدير مضافين أي لا أعذب مثل عذابه، ولا بد من هذا التقدير ليصح المعنى. قوله: (من عالمي زمانهم أو العالمين مطلقاً الخ) السفرة بالضم الطعام بوضع للمسافر ثم شاع فيما يوضع فيه، والمثلة بالضم المراد بها هنا العقوبة، وأصلها عقوبة فيها قطع الأنف، والاً طراف للتكيل وهي المنهي عنها، وقال الطيبي المثلة العقوية الغريبة كالمسخ. قوله: (بلا فلوس) جمع فلس، وهو ما على جلد السمك من القشور، وهو على طريق التشبيه، وليس بمعنى اللمع الفضي كما قيل، والكراث بضم الكاف وتشديد الراء ورائحته كرائحة البصل تنفر منها الملائكة، وأهل الزهد والجبن معروف، وهم بضم الجيم والباء، وتشديد النون في اللغة الفصحى، وفيه لغة أخرى تسكين الباء وتخفيف النون كضد البخل، ولذا قال الشاعر:
وقالوا تدرع للشجاعة والوغى فقلت دعوني آكل الخبز بالجبن
وإنما جعلت هذه معها لأنها مشهية، والعسل دافع لضرر السمك، والقديد اللحم اليابس، وقوله أحيي بفتح الياء الأولى، وسكون الثانية أمر أي كوني حية ذات ووح، وقوله اضطربت أي تحركت بحلول الروح فيها، وغبا أي يوما بعد يوم ليكون أشهى وأحب، وفاء الفيء أي فيء الزوال وفاء ماض أي وجد ظله، وقوله استعفوا أي طلبوا العفو، وفي نسخة
استغفروا، وقوله فلم تنزل الصحيح رواية خلافه، وهذا مرويّ عن الحسن. قوله: (وعن بعض الصوفية الخ) أن قال إن المقصود من الآية هذا فلا وجه له وان(3/301)
أراد أنه من البطون القرآنية فنعم، وتنزيل النظم عليه ظاهر. قوله: (توبيخ الكفرة وتبكيتهم الخ (يعني أنّ الاستفهام ليس حقيقياً، ولكن لا لتوبيخ عيسى صلى الله عليه وسلم بل لتوبيخ المتخذين، ولما كان هذا القول وقع من رؤسائهم في الضلال كان مقرّراً كالاتخاذ، وإنما المستفهم عنه صورة ممن صدر فلذا قدم المسند إليه لأنّ المستفهم عنه يلي الهمزة إلا لنكتة على المشهور عند أهل النحو والمعاني، ولام للناس للتبليغ، واتخذ بمعنى صير يتعدّى لاثنين، وقد يتعدى لواحد فالهين حال، ومن دون إما متعلق به أو بمحذوف صفة الهين وقيل التقديم لتقوية التوبيخ، وقوله وأمي دون مريم توبيخ على توبيخ أي مع أنك بشر تلد، وتولد قبل هذا، وقيل الاستفهام لاستنطاقه ليفتضحوا، وهذا ليس غير التوبيخ كما توهم. قوله: (ومعنى دون إما المغايرة الغ (لما كان معنى اتخذت فلانا صديقاً من دوني أنه استبدله به لا أنه جعله صديقاً معه، وهم لم يقولوا بذلك بل ثلثوا أوّلها بأن من أشرك مع الله غيره فقد نفاه معنى لأنه وحده لا شريك له منزه عن ذلك فاقراره بالله كلا اقرار فيكون من دون الله مجازاً عن مع الله أو المراد بمن دون التوسط بينهم وبين الله كما تقول اتخذ شفيعاً من دون السلطان أي بينك، وبينه فيكون الدون إشارة لقصور مرتبتهما عن مرتبته لأنهم قالوا هو كالشمس، وهذا كشعاعها، وهذا في الآخرة، ولذا ضعف ما قيل إنّ
أوّل من صلى المغرب عيسى صلى الله عليه وسلم شكر ألله حين خاطبه بقوله " نت قلت الخ، وكان ذلك بعد الغروب فالأولى لنفي الألوهية عن نفسه، والثانية لنفيها عن أمّه، والثالثة لاثباتها لله. قوله: (أي أنزهك تنزيها من أن يكون لك شريك الخ) إشارة إلى أنّ اتخاذهما إلهين تشريك لهما معك في الألوهية لا إفرادهما بذلك إذ لا شبهة في ألوهيتك، وأنت منزه عن الشركة فضلا عن أن يتخذ إلهان دونك على ما يشعر به ظاهر العبارة قيل: ويجوز أن يكون إشارة إلى أنّ من دون الله في موتع الصفة، والمعنى الهين سوى الله فيكون المجموع ثلاثة، وهذا إثبات للشريك فنزهه عنه، ومنه يعلم توجيه آخر لقوله من دون الله غير التوجيهين السابقين اللذين ذكرهما الراغب، وتبعه المصنف رحمه الله، وقوله أنزهك تنزيها إشارة إلى أنه منصوب على المصدرية كما مرّ تفصيله في سورة البقرة، وقوله من أن يكون لك شريك بيان لمتعلق المنزه عته، وقدره ابن عطية من أن يقال هذا، وينطق به قيل وهو أنسب بقوله ما يكون لي أن أقول الخ. قوله:) ما ينبني لي أن أقول قولاً لا يحق لي أن أقوله) إشارة إلى أن ما يكون بمعنى ما ينبغي، ولا يليق، وهو أبلغ من لم أقله وقوله لا يحق لي إشارة إلى أنّ لي متعلقة بحق مقدمة عليه، وبحق خبر ليس، وليس بمتعين لاحتمال لي أن يكون للتبيين فيتعلق بمحذوف كما في سقيا لك، وقد أعربه المعربون كذلك فلا حاجة إلى تكلف وجه آخر، ولا يرد عليه ما قيل إنه يقتضي تعلق لي بحق وتقديم صلة المجرور على الجار ممتنع فلا بد من تقدير متعلق يفسره الظاهر، وأما القول بأنّ الباء زائدة فلا يفيد إذ لا فرق في المنع بين الزائد، وغيره إلا أن يذهب إلى القول بالجواز كما ذهب إليه بعض النحاة. قوله: (إن كنت قلتة) المعنى على المضي هنا، وأن تقلب الماضي مستقبلاً فلذا قيل معناه إن صح قوله ودعو أي ذلك فقد تبين عملك به، وأجاب عنه ابن يعيش بجوابين الأوّل عن المبرد أنّ كان قوية الدلالة على المضيّ فلا تقدران على تحويلها إلى الاستقبال الثاني عن ابن السراج أن التقديران أقل كنت قلته قال: وكذ ما كان من أمثاله، وفي تذكرة ابن هشام رحمه الله أنّ هذين الجوابين ضعيفان.
قوله: (تعلم ما أخفيه في نفسي كما تعلم الخ) قال الزجاج: النفس في كلامهم لمعنيين بمعنى الروج، وبمعنى الذات وحقيقة الشيء، وليس مراده الحصر فيهما لأنّ لها معاني أخر، وإذا كانت بمعنى الذات فقد ورد إطلاقها على الله من غير مشاكلة كقوله: {وكتب على نفسه الرحمة} وغيره وأمّا بالمعنى الأوّل فلا تطلق عليه تعالى إلا مشاكلة، وهنا إن كان المراد الذات على كل حال فيهما فليست المشاكلة في إطلاقها بل في لفظ في حيث جعلت علم عيسى صلى الله عليه وسلم، في ذاته بمعنى في ذهنه، وعقله كقولك كان كذا في نفسي، وعلم الله لا يرتسم في عقل، ودهن ولا يتوقف على آلة، ولذا قال الطيبي رحمه الله لا بد من المشاكلة، وان أريد الحقيقة
والذات من حيث إدخال في الظرفية لأنّ المراد به من جانب العبد ما في الضمير، والقلب، وقال الراغب:(3/302)
يجوز أن يكون القصد إلى نفي النفس عنه فكأنه قال تعلم ما في نفسي، ولا نفس لك فأعلم ما فيها كقوله:
ولا ترى الضت بها ينجحر
ولذا قال في الكشاف في نفسي في قلبي، والمعنى تعلم معلومي، ولا أعلم معلومك،
ولكنه سلك بالكلام طريق المشاكلة، وهو من فصيح الكلام، وفي الدر المصون أنه تفسير ابن عباس رضي الله عنهما فما قيل في شرحه المعنى لا أعلم ما في ذاتك فعبر عن الذات بالنفس لقوله: {ثعلم ما في نفسي} [سورة المائدة، الآية: 16 ا] وأنت خبير بأن لا أعلم ما في ذاتك، وحقيقتك ليس بكلام مرضيّ بل المراد أنه عبر عن لا أعلم معلومك بلا أعلم ما في نفسك لوقوع التعبير عن تعلم معلومي بتعلم ما في نفسي لا يخفى ما فيه من الخلل بعد ما عرفت ما حققناه، واذأ علمت أن للنفس معنيين يطلق أحدهما على إلله من غير مشاكلة، وهو الحقيقة والذات، والثاني متوقف عليها علمت ما في كتب الأصول من الخبط كما في العضد، وشروحه. قوله: (كما تعلم ما أعلته (يعني علمهما على حد سواء عنده أو المراد أنه يعلم بالطريق الأولى، وقوله: في نفسك للمشاكلة جار على ما حققناه لأنه لم يقل إطلاق النفس مشاكلة لكن قوله، وقيل المراد بالنفس الذات صحيح لأنه يقتضي أنه عليه لا يحتاج إلى المشاكلة، وهو كذلك لما عرفت أن علمه ليس بانتقاس في ذأته لا لما قيل إنّ ما في ذاتك لا يخرجه عن المشاكلة إذ لا تطلق النفس بمعنى الذات عليه تعالى إلا مشاكلة كما في شرح المقاصد الشريفي فإنه ليس كذلك، وادعاء أنّ ما وقع في الآيات مشاكلة تقديرية من سقط المتاع. قوله: (تقر-لر للجملتين باعتبار منطوقه ومفهومه الإفادته الحصر بضمير الفصل إن قلنا لا يشترط فيه تعريف الطرفين أو أفعل التفضيل أو تعريف الطرفين المفيد لإثبات علم الغيب له تعالى، ونفيه عمن سواه فالإثبات تقرير لتعلم ما في نفسي لأنّ ما انطوت عليه النفوس من جملة الغيوب، والنفي تقرير للا أعلم ما في نفسك لأنه غيب، وغيرك لا يعلم الغيب، وهذا معنى قوله باعتبار منطوقه ومفهومه، وما قيل عليه من أنّ المفيد للحصر ضمير الفصل فيكون نفي العلم عن الغير أيضاً منطوقا إلا أن يريد نفي العلم عن نفسه، وهو مفهوم لكن لا يلايمه قوله: تصريح بنفي المستفهم عنه ليس بوارد لأن الصحيح أنّ مدلول الكلام الحصري الإثبات على الانفراد، ويلزمه النفي، وفرق بين الحصر بما والا، وإنما وبين غيرهما، ولذا لا يصحح العطف بلا النافية بعدهما دون غيرهما فهو مفهوم ولا منطوق فتأمّل. قوله: (تصريح بنفي المستفهم عنه الخ) وهو قوله للناس لأنّ المعنى ما قلت لهم إلا ما أمرتني به لا هذا، وما يدل
عليه قوله سبحانك الخ. قوله: (عطف بيان للضمير في به أو بدل الخ) قدم عطف البيان لسلامته عن الأشكال، وجوّز كونه بدل كل من كل رداً على الزمخشريّ لأنّ المبدل منه في حكم النسخ، والطرح فيلزم خلوا لصلة من العائد بطرحه وبين وجهه بأنه ليس كذلك مطلقا وقوله: مطلقاً يحتمل في كل حكم لأنه قد يعتبر طرحه في بعض الأحكام كما إذا وقع مبتدأ فإن الخبر للبدل في نحو زيد عيته حسنة، ولا يقال حسن فلولا اعتبار طرحه لزم أن يخبر عنه، ويحتمل أنه ليس كل بدل كذلك بلهو مخصوص ببدل الغلط فإنه يعتبر طرحه كما في شرح المفصل، ثم إنه اعترض على الزمخشريّ بتناقض كلامه فإنه صرح في المفصل بأنه ليس في حكم الطرح وأعرب الأوليان بدلاً من ضمير يقومان قبيل هذا مع أنّ الضمير عائد من الصفة إلى الموصوف، والجواب عنه، وإن شنع عليه شراح الكشاف أنّ هذا مذهب لبعض النحاة، ونقله الإسفندياري في شرح المفصل عن ابن السراج.
وقال في الدر المصون: إنّ الذاهبين إليه نصوا على أنه لا يجوز جاء الذي مررت به أبي
عبد الذ بجرّ أبي عبد الذ بدلاً من الهاء، وعللوه بأنه يلزم بقاء الموصوف بلا عائد، وأما كون المبدل منه، وهو الاسم الظاهر يصلح للربط فإنه عين المبتدأ ففيه خلاف لهم، وهذا دأب الزمخشريّ كما يعلم من تتغ كتابه وصرح به في الكشف في مواضع أنه يمشي على مذهب في آية ثم يذكر مذهبا آخر يخالفه في أخرى استيفاء للمذاهب، ومن لا يعرف مغزى كلامه يظنه تناقضاً منه، ولا يرد عليه ما قيل إنّ في المعنى أنّ عطف البيان في الجوامد بمنزلة النعت في المشتقات فكما أنّ الضمير لا ينعت لا يعطف عليه عطف بيان فإنّ كثيراً من النحاة جوّزوه، وليس متفقاً عليه، وقد أشار شراح المغني إلى رده، وجعله خبر مضمر أي، وهو أن اعبدوا(3/303)
الخ أو منصوبا بأعني مقدّراً ظاهر غني عن البيان. قوله: (ولا يجورّ إبداله من ما أمرتني به فإن المصدر لا يكون مفعول القول الخ) أي لا يجوز إبداله من ما الموصولة التي هي بدل من مفعول القول لأنّ مفعوله إمّا جملة محكية أو ما يؤدي مؤداها كقلت قصيدة أو ما أريد به لفظه حكاية، وليس هذا واحداً منها وقيل عليه العبادة، وان لم تقل فالأمر بها يقال لأنّ أن الموصولة مع فعل الأمر لا تقدر بالعبادة، ولكن بالأمر بها فكأنه قيل ما قلت لهم إلا الأمر بعبادة الله والأمر مقول بل قول على أنّ جعل العبادة مقولة ليس ببعيد على طريقة ثم يعودون لما قالوا أي للوطء الذي قالوا قولاً يتعلق به، ومثله كثير في القرآن، وفي الفرائد معناه ما قلت لهم إلا عبادته أي الزموا عبادته، وهو المراد مما أمرتني، والجملة بدل من ما لأنها في حكم المفرد وكله تعسف. قوله: (ولا ان تكون أن مفسرة لأنّ الأمو الخ) إشارة إلى أنّ ما مر على تقدير
المصدرية ورده بوجهين أحدهما أنّ الأمر المسند إلى الله لا يصح تفسيره باعبدوا الله ربي وربكم بل باعبدوني أو اعبدوا الله، ونحوه ورد بأنه يجوز أن يكون حكاية بالمعنى، وأن يكون ربي وربكم من كلام عيسى صلى الله عليه وسلم كما مر في قوله: {إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم} رسول الله فليس من الحكاية بل إدماج أو على إضمار أعني، ونحوه وهذا لا ينافي التفسير كما قيل، وإن كان خروجا عن مقتضى الظاهر وفي أمالي ابن الحاجب إذا حكى حاك كلاما فله أن يصف المخبر عنه بما ليس في كلام المحكي عته، وقال الدماميني رحمه الله ولا يمتنع أن يكون الله قال لعيسى قل لهم اعبدوا الله ربي، وربكم فحكاه كما أمره به ولا إشكال، والوجه الثاني أنّ القول لا يفسر بل يحكي به ما بعده من الجمل، ونحوها، وهو ظاهري لأنه إن أريد به أنه لا يقترن بحرف التفسير المقول المحكي فمسلم لأنّ مقول القول في محل نصب على المفعولية والجملة المفسرة لا محل لها كما ذكره أبو حيان هنا لكن المقول هنا محذوف، وهو المحكي، وهذا تفسير له أي ما قلت لهم مقولاً، وفي الانتصاف أجاز بعضهم وقوع أن المفسرة بعد لفظ القول، ولم يقتصر بها على ما هو في معناه. قوله: (إلا أن يؤوّل القول بالآمر الخ) نقل عن الزمخشريّ في حواشيه كان الأصل ما أمرتهم إلا ما أمرتني به فوضع القول موضمع الأمر جريا على طريق الأدب الحسن لئلابجعل نفسه، وربه معا آمرين، ودل على الأصل بإقحام أن المفسرة قيل ولابتناء جعل القول في معنى الأمر على هذه القرينة، والنكتة لم يكن لك أن تجعل كل قول في معنى فعل فيه معنى القول فتجعل أن مفسرة له.
(قلت) هذا ردّ لقول الانتصاف إنّ هذا التأويل لتقع أن المفسرة بعد فعل في معنى القول،
وليس قولاً صريحا، وحمل القول على الأمر مما يصحح المذهب الآخر في إجازة وقوعها بعد القول مطلقاً فإنه لولا ما بين القول، والأمر من التناسب المعنوي لما جاز إطلاق أحدهما، وارادة الآخر، والعجب أنّ الأمر قسم من القول، وما بينهما إلا عموم، وخصوص، وليس في هذا التأويل الذي سلكه إلا كلفة لا طائل وراءها ولو كانت العوب تأبى وقوع المفسرة بعد القول لما أوقعتها بعد فعل ليس بقول، ثم عبرت عن ذلك الفعل بالقول لأنّ ذلك كالعود إلى ما وقع الفرأر منه، وهم بعداء من ذلك انتهى، وقال ابن هشام فإن قيل لعل الامتناع من إجازته لأنه أمر لا يتعدى بنفسه إلى المأمور به إلا قليلا يعني كقوله:
أمرتك الخير فافعل ما أمرت به
فكذا ما أوّل به قلنا هذا لازم له على توجيه التفسيرية، وهو ليس بشيء لأنه لا يلزم من
تأويل شيء بشيء أن يتعدى تعديته كما صرحوا به لأنّ التعدية تنظر إلى اللفعل، ثم إنه قيل في جعل أن مفسرة لفعل الأمر المذكور صلته مثل أمرته بهذا أن قم نظر أما في طريق القياس فلأن أحدهما مغن عن الآخر، وأما في الاستعمال فلأنه لم يوجد، وفي ادعاء القياس نظر لأنّ الأوّل
لإبهامه لا يغني عن الثاني، والثاني لا يغني عن الأوّل وللتفسير بعد الإبهام شأن ظاهر. قوله: (رقيباً عليهم أمنعهم أن يقولوا ذلك الخ) إشارة إلى أنّ الشهيد، والرقيب هنا بمعنى، ولكن تفنن في العبارة ليميز بين الشهيدين، والرقيبين لأنّ كونه صلى الله عليه وسلم رقيباً ليس كالرقيب الذي يمنع، ويلزم بل كالشاهد على المشهود عليه، ومنعه بمجرّد القول، وأنه تعالى هو الذي يمنع منع إلزام بالأدلة، والبينات(3/304)
فإن قلت قوله: {فلما توفيتني} الخ بعد قوله: {وكنت عليهم شهيدا} الخ من قبيل ما مر في قوله قالوا لا علم لنا أي لا علم لنا بما كان منهم بعدنا إذالحكم للخاتمة، وقد رد هنا بأنه كيف يخفى عليه أمرهم، وقد رآهم سود الوجوه كما مر قلت: ليس هذا منه لأنه صلى الله عليه وسلم في صدد التنصل، والتبري عما نسب إليه واثباته لهم فأين هذا من ذاك فإن قيل إنه تعالى قبل توفيه هو المانع بالإرشاد لإرسال الرسل والبينات كما أنه كذلك بعد توفيه فلا تقابل بين قوله كنت أنت الرقيب، وقوله: كنت عليهم شهيداً على هذا التفسير فينبغي تفسيره بأني ما دمت فيهم كنت شاهدا لأحوالهم فيمكن لي بيانها، وبعد التوفي لا أعلم حالهم، ولا يمكنني بيانها قلت منعه من غير واسطة بل بالقول، والزجر، ومنع الله ليس كذلك فالتقابل واضح وتخصيصه بعد توفيه بالفعل بلا رسولط، والا فهو الهادي قبله، وبعده وهو ظاهر مما مر، وقوله: بالرفع إلى السماء إشارة إلى ما سبق من أنه لم يصلب، ولم يمت فلذا فسر التوفي برفعه، وأخذه من الأرض! كما يقال توفيت المال إذا قبضته. قوله: (ولا اعتراض على المالك الخ) وأما العباد فقد يعترض عليهم إذا فعلوا بمماليكهم ما لا يجوّزه الشرع لأنهم لا ملك لهم على الإطلاق، وقوله وفيه تنبيه لم يجعله معنى النظم لأنه ليس من منطوقه بل فيه إشارة إليه. قو! 4:) فلا هجز ولا استقباح الخ) وقع لبعض الطاعنين في القرآن من الملاحدة أن المناسب ما وقع في مصحف ابن مسعود رضي الله عنه بدل العزيز الحكيم العزيز الغفور لأنه مقتضى قوله، وأن تغفر لهم كما نقله ابن الأنباري رحمه الله تعالى، وأجاب عنه لسوء فهمه ظن تعلقه بالشرط الثاني فقط لكونه جوابه، وليس كما توهم بفكره الفاسد بل هو متعلق بهما، ومن له الفعلى،
والترك عزيز حكيم فهذا أنسب، وأدق وأليق بالمقام، وما في كلام المصنف رحمه الله تعالى يمكن إرجاعه إلى هذا أو هو متعلق بالثاني، وأنه احتراس لأنّ ترك عقاب الجاني قد يكون لعجزينا في القدرة أو لإهمال ينافي الحكمة فبين أن ثوابه وعقابه مع القدرة التامة، والحكمة البالغة، وليس كما قيل:
يجزون من ظلم أهل الظلم مغفرة ومن إساءة أهل السوء إحسانا
وقوله: لا عجز ولا اشقباح فإن كونه عزيزا غالبا ينفي العجز، وكونه حكيما ينفي استقباح فعله، ولذا قيل ليس قوله: إن تغفر لهم تعريضا بسؤاله العفو عنهم، وإنما هو لإظهار قدرطه على ما يريد وعلى مقتضى حكمه وحكمته، ولذا قال إنك أنت العزيز الحكيم تنبيها على أنه لا امتناع لأحد عن عزته فلا اعتراض! في حكمه وحكمته، ولم يقل الغفور الرحيم، وإن اقتضاهما الظاهر كما قال:
أذنبت ذنباعظيما وأنت للعفو أهل
فإن غفرت ففضل وان جزيت فعدل
قوله: (فإن المغفرة مستحسنة لكل مجرم الخ) في الكشاف ما قال إنك تغفر لهم، ولكنه
بني الكلام على أن غفرت فقال إن عذبتهم عدلت لأنهم أحقاء بالعذاب، وان غفرت لهم مع كفرهم لم تعدم في المغفرة وجه حكمة لأنّ المغفرة حسنة لكل مجرم في المعقول بل متى كان المجرم أعظم جرفاً كان العفو عنه أحسن يعني أنّ المغفرة، وان كانت قطعية الانتفاء بحسب الوجود لكنها لما كانت بحسب العقل تحتمل الوقوع واللاوقوع استعمل فيها كلمة إن فسقط ما يتوهم أن تعذيبهم مع أنه قطعيّ الوجود كيف استعمل فيه إن وأنما كان العفو أحسن لأنه أدخل في الكرم، وهذا لا ينافي كون العقوبة أحسن في حكم الشرع من جهات أخر، وعدم وقوع العفو بحكم النص، والإجماع، وفي كتب الكلام أنّ غفران الشرك جائز عقلاً عندنا وعند جمهور البصريين من المعتزلة لاًنّ العقاب حق الله على المذنب، وليس في إسقاطه مضرة فما ذكره في الانتصاف من أنّ هذا لا يوافق كلام أهل السنة، ولا المعتزلة ليس على ما ينيغي، وأما استعماله في الممتنع لذاته لنكتة أخرى فلا ينافي هذا، وبهذا التقرير علمت ما عني المصنف رحمه الله تعالى، وأنه ليس مخالفاً للكشاف كما توهم. قوله: (على أنه ظرف لقال وخبر هذا محذوف الخ) قراءة الجمهور بالرفع ظاهرة على الابتداء، والخبرية، وفراءة النصب خرجت على وجوه منها أنه ظرف(3/305)
لقال، وهذا مبتدأ خبره محذوف أي كلام عيسى مج! في يوم ينفع
الصادقين أو هذا جزاء الصادقين، ونحوه أو هذا حق تصديقا لعيسى صلى الله عليه وسلم وتكذيباً لأمته، والظرف خبره أي هذا الذي قاله عيسى صلى الله عليه وسلم واقع ينفع الخ أو هذا مفعول به للقول لأنه بمعنى الكلام القصص أو مفعول مطلق لأنه بمعنى القول. قوله: (وليس بصحيح لأن المضاف إليه معرب) قال الكوفيون: الظرف مبني على الفتح إذا أضيف إلى جملة فعلية، وأن كانت معربة، واستدلوا بهذه القراءة وغيرها، وأما البصريون فلا يجيزون البناء إلا إذا صدرت الجملة المضاف إليها بفعل ماض كقوله:
على حين عاتبت المشيب على الصبا
وخرجوا هذه القراءة على ما ذكره، ونحوه فادعاء عدم صحته على مذهبهم، وألحق بالماضي الفعل المنفي بلا كما ذكره النحرير: وتفصيله في النحو. قوله: (والمراد بالصدق الصدق في الدنيا فإن النافع ما كان حال التكليف) ، والعمل لا ينفع في الدار الاخرة مطلقا وهو إشارة إلى ما قالوه من أنّ الكفار لا يكذبون في الآخرة، ولذا قالوا وكنا نكذب بيوم الدين، وأورد عليه أنه ليس بمطابق لما ورد فيه لأنه شهادة بصدق عيسى صلى الله عليه وسلم فيما قاله جواباً عن قوله: (أأنت قلت للناس الخ) فالأخبار بأن صدق الصادقين في الدنيا ينفعهم في الاخرة لا يلائم ذلك، وأجيب بأنّ المراد الصدق المستمر بالصادقين في دنياهم إلى آخرتهم كما هنا فالنفع، والمجازاة تكون باعتبار تحققه في الدنيا، والمطابقة لما نحن فيه باعتبار تقرره، ووقوع بعض جزئياته في الآخرة، والمستمرّ هو الأمر الكلي الذي هو الاتصاف بالصدق، ولا يلزم من هذا أن يكون للصدق الأخروي مدخل في الجزاء ليعود المحذور ولا يحتاج إلى جعل الصدق الأخروي شرطا في نفع الصدق الدنيوي، والمجازاة عليه وقوله بيان للنفع يعني قوله لهم جنات إلى هنا تفسير للنفع، ولذا لم يعطف عليه. قوله: (تنبيه على كذب الخ) وجه التنبيه من تقديم الظرف لأنه المالك لا غيره فلا شريك له قيل، ويعلم منه تنزهه تعالى عن المكان. قوله: (وإنما لم يقل ومن فيهن الخ) لأنّ المعروف تغليب العقلاء لشرفهم على غيرهم، والوجه الأول مبني على اختصاصها بذوي العقول ف! طلاقها على ما يشملهم، ويجانسهم لنكتة، وهي الإشارة إلى قصور الجميع عن الربوبية لتجانسهم، والله لا يجانسه، ولا يثاكله شيء، وأنهم بمنزلة الجمادات في جنب عظمته، وكبرائه، والثاني إشارة إلى أنّ ما عامة للعقلاء، وغيرهم فاستعملت للعموم من غير تغليب لأنها لا تختص! بغير ذوي العقول بل تتناول الأجناس كلها
عقلاء، وغيرهم فكانت أولى بالعموم لمناسبتها لمقام إظهار العظمة، والكبرياء فما في ملكوته وتحت قدرته لا يصلح شيء منها للألوهية سواء فيه عيسى صلى الله عليه وسلم وأمه وغيرهما، والحديث الذي ذكره موضوع كما ذكره ابن الجوزي من حديث أبيّ رضي الله عنه المشهور. تمت سورة المائدة اللهم لا تحرمنا ببركتها من موائد كرمك، ولا تقطع عنا عوائد نعمك وصلى الله على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه الكرام في كل مبدأ وختام آمين.
تم الجزء الثالث ويليه الجزء الرابع أوله سورة الأنعام(3/306)
هو بعض حديث أبي بن كعب في فضائل الفرآن سورة سورة، وهو موضوع كما قال الأئمة الحفاظ ابن الجوزي وابن حجر والذهبي وغيرهم، وتقدم الكلام عليه في آخر سورة آل عمران.
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الأنعام
قطب هذه السورة يدور على إثبات الصانع، ودلائل التوحيد قال أبو إسحق الإسفرايني رحمه الله في سورة الأنعام كل قواعد التوحيد، ولما كانت نعمه تعالى مما تفوت الحصر إلا أنها ترجع إجمالاً إلى إيجاد وابقاء في النشأة الأولى، وإيجاد وابقاء في النشأة الآخرة، ولما أشير في الفاتحة إلى الجميع ابتدئت بالتحميد لأنها ديباجة نعمه المذكورة في كتابه المجيد ثم أشير في الأنعام إلى* الإيجاد الأوّل وفي الكهف إلى الإبقاء الأوّل وفي سبأ إلى الإيجاد الثاني، وفي فاطر إلى الإبقاء الثاني فلهذا ابتدئت هذه السور الخمس بالتحميد فقال جل ثناؤه: {الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ} . قوله: (غير ست الخ) وقيل غير اثنتين نزلتا في رجل من اليهود قال ما أنزل الله على بشر من شيء الخ. قوله: (أخبر بأنه سبحانه وتعالى حقيق بالحمد الخ) يشير به إلى إنها جملة خبرية وقد جوّز في هذه الجملة أن تكون خبرية وإنشائية، وذهب بعضهم إلى تعين الخبرية فيها، وبعضهم إلى تعين الإنشائية قال ابن الهمام في شرح البديع هي إخبار صيغة إنشاء معنى كصيغ العقود وبالغ بعضهم في إنكار كونها إنشائية لما يلزم عليه من انتفاء الاتصاف بالجميل قبل حمد الحامد ضرورة أن الإنشاء يقارن معناه لفظه في الوجود ويبطل من وجهين أحدهما أنّ الحامد ثابت قطعاً بل الحمادون، والآخر أنه لا يصاغ للمخبر عن غيره لغة من متعلق أخباره، اسم قطعا، فلا يقال لقائل زيد له القيام قائم فلو كان الحمد إخباراً محضاً لم يقل لقائل الحمد حامد وهما باطلان فيبطل ملزومهما، واللازم مما ذكره انتفاء وصف الواصف المعين لا الاتصاف، وهذا لانّ الحمد إظهار الصفات الكمالية الثابتة لا ثبوتها نعم يتراءى كون كل مخبر منشئاً حيث كان واصفا للواقع ومظهرأ له، وهو توهم وأن الحامد مأخوذ فيه مع ذكر الواقع كونه على وجه ابتداء التعظيم، وهذا ليس ماهية الخبر فاختلفت
الحقيقتان، وظهر أنّ الغفلة عن اعتبار هذا القيد جزء ماهية الحمد هو(3/307)
منشأ الغلط إذ بالغفلة عنه ظن أنه إخبار لوجود خارج يطابقه وهو الاتصاف، ولا خارج للإنشاء، وأنت تعلم أن هذا خارج عن المفهوم، وهو الوصف الجميل وتمامه، وهو المركب منه ومن كونه على وجه ابتداء التعظيم لا خارج له بل هو ابتداء معنى لفظه علة له انتهى قلت إن نظرت بدقيق النظر إلى ما قال فهذا كلام لا يخلو من اختلال فإنه لا يلزم في كل إنشاء صحة اشتقاق اسم فاعل صفة للمتكلم به منه بل إنما يكون إذا كان إنشاء لحال من أحواله كما فيما نحن فيه، ولا فرق فيه بينه وبين الخبر في ذلك، فكما يصح أن يقال حامد يقال لمن ضربت ضارب فإن لم يكونا كذلك لم يصح فيهما، وكما لا يقال لمن قال زيد قائم إنه قائم لا يقال لمن قال: اضحرب إنه ضارب وهذا لا يختص بالأمر، ألا ترى أنّ قوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ} [البقرة، الآية: 233] أنها خبرية لفظا وانشائية معنى لأنها لأمرهم بالإرضاع ولا يطلق عليه تعالى مرضحع، كذا نحو قاتله الله جملة إنشائية معنى خبرية لفظاً، ولا يقال لقائلها قاتل، وهذا تخيل فاسد والذي غرّه صيغ العقود، وقد علمت وجهه فيها وأنها لا تختص بها وما نحن فيه من قبيلها، فتأمّل منصفاً. قوله: (ونبه على أنه المستحق له الخ) يعني أنه أخبر أوّلاً أنه حقيق بالحمد باعتبار ذاته تعالى، ولذا لم يقل للمنعم ونحوه، ثم نبه على استحقاقه باعتبار الأنعام تنبيها على تحقق الاستحقاقين، وأعلم أن الحمد لغة الثناء بالجميل الاختياري تعظيما، وعرفا فعل ينبئ عن تعظيم المنعم فقد تضمن محموداً به ومحمودأ عليه، إن قلنا إنه مغاير للمحمود به، ومعتبر فيه كما يعلم تحقيقه من شرح المطالع وحواشيه، وأمّا المستحق للحمد فهو المحموإ، ولا يشترط فيه ذلك بل لا يصح، قال الفاضل الليثي المراد بالاستحقاق الذاتي استحقاقه تعالى الحمد بجميع صفاته وأفعاله كما أشار إليه الشريف في شرح الكشاف حيث قال: لما كانت صفاته عين ذاته أو مستندة إليها. وكانت أفعاله متفرّعة على صفاته كان استحقاقه العبادة لصفاته، وأفعاله راجعا إلى الاستحقاق الذاتي، أقول هذا مردود من وجهين، الأوّل أن المحمود لا يشترط فيه أن يكون اختياريا كما مرّ فحينئذ التعظيم، وهو الحمد العرفي الذي الحمد اللغويّ نوع منه، وأقصاه العبادة يضاف إلى الذات من غير تأويل بل هو الطرف الأعلى كما صرّج به في الإشارات في مقامات العارفين، وقال الرازي في شرحه: أعلم أنهم في ذلك ثلاث طبقات. فالأولى: في الكمال والشرف الذين يعبدونه لذاته لا لشيء آخر، والثانية: وهي التي تلي الأولى في الكمال الذين يعبدونه لصفة من صفاته، وهي كونه مستحقا للعبادة، والثالثة: وهي آخر درجات المحققين الذين يعبدونه لتستكمل نفوسهم بالانتساب إليه انتهى، والعجب كيف خفي مثله على هؤلاء الفحول، فإن قلت كيف يتصوّر تعظيم الذات من حيث هي قلت لو وقع ذلك ابتداء قبل التعقل بوجوه الكمال كان كذلك أما بعد معرفة المحمود بسمات الجمال، وتصوّره بأقصى صفات الكمال فلا بدع في أن يتوجه إلى تمجيده وتحميده
مرّة أخرى بقطع النظر عما سوى الذات بعد الصعود بدرجات المشاهدات، وإذا قال أهل الظاهر:
صفاته لم تزده معرفة لكننا لذة ذكرناها
فما بالك بهؤلاء وهم القوم كل القوم، الثاني أن ما استند إليه من كلام السيد السند غير
مفيد لمدعاه بل شاهد عليه لأن صاحب الكشاف قال: لما ذكر الحقيق بالحمد وأجرى عليه تلك الصفات اا! ظام تعلق العلم بمعلوم عظيم الشأن حقيق بالثناء، وغاية الخضوع وألاستعانة في المهمات فخوطب ذلك المعلوم المتميز بتلك الصفات فقيل إياك يا من هذه صفاته تخص بالعبادة، والاستعانة لا نعبد غيرك، ولا نستعينه ليكون الخطاب أدل على أنّ العبادة له لذلك التمييز الذي لا تحق العبادة إلا به، فقال الشريف: في أثناء تحقيقه ولما كانت صفاته إمّا عين ذاته أو مستندة إليها وحدها، وكانت متفرّعة عن صفاته الذاتية كان استحقاقه العبادة بصفاته وأفعاله راجعاً إلى الاستحقاق الذاني، أقول يريد قدس سرّه أنه لما تحصل من ضمير الحطاب الدال على تلك الصفات، ومن تقديمه الدال على الحصر أن استحقاق العبادة ليس إلا لذلك، والحال أنّ الاستحقاق الذاتي مقرّر بل هو المطلوب الأعلى فلا يصح الحصر، أجاب بأنه لا ينافيه إلا إذا كان مغايراً له رأسا، وأمّا إذا كان عينه أو راجعاً إليه فلا، فلذا جعل الاستحقاق الذاتي أصلاً وأرجع(4/2)
الاستحقاق بالصفات إليه ولو كان معناه ما ذكره المحشي لعكس، لأنه جعل الاستحقاق بالذات راجعا إلى جميع الصفات، وتسميته ذاتيا بنوع تأوّل، وقد اهتدى إلى هذا بعض الفضلاء فقال في شرح كلامه هذا إشارة إلى دفع سؤال مقدر، وهو أن العبادة هي الحمد فإذا كان استحقاقه إياها منحصراً في التمييز بتلك الصفات كما يدلّ عليه قول المصنف لا تحق العبادة إلا به لم يثبت الاستحقاق الدّاتي بالنسبة إليها انتهى، وتحقيق هذا المقام مما أفاضه وليّ الفيض عليّ وقد غفل عنه كثير منهم وأشار بقوله أخبر إلى خبريتها ولم يجعلها إنشاء، وان صح ولا بتقدير قول لما سيأتي، وأشار بقوله! حقيق إلى أن اللام للاستحقاق، وتحقيق هذا المقام في سورة الفاتحة، وقيل إنما جعلها خبرية لتكون حجة لأنّ الإنشاء لا يكون حجة إلا بملاحظة الإخبار فالحجة إنما هو الإخبار فلذلك قال: ليكون حجة، ولم يقل ليظهر كونها حجة، وأمّا كونها أصلا فمعارض! بكونها علما في الإنشاء إذ لا يمكن الحمد إلا بصيغة الأخبار، وما قيل في وجهه ليصح عطف، ثم الذين كفروا عليه فيه أنه يجوز عطفها على خلق السماوات أو جعلها الإنشاء الاستبعاد والتعجب، أتول إن اتصافه بكونه حقيقا بالحمد ثابت في نفس الأمر، ومدلول هذه الجملة مطابق له والسورة أنزلت لبيان التوحيد ورح الكفرة، والأعلام بمضمونها على وجه الخبرية يناسب المقام وجعلها لإنشاء الثناء لا يناسبه، وأمّا قوله ليكون حجة فمتعلق بقوله نبه لأن الحجة في النعم الجسام التي لا يوجدها غيره، وأمّا الإخبار باستحقاق الحمد فالحجة فيه تحتاج إلى تكلف بعيد، فان قلت كيف تكرن إنشائية ولها خارج
تطابقه، قلت تجعل لمجرّد الثناء كما في رب إني وضعتها أنثى للتحسر، ولذا قال بعضهم حمل الكلام على ظاهره من الإخبار مع احتمال الإنشاء بأن يكون المراد به ثناء أثنى الله به على نفسه كما قال الإمام لأن الإخبار أدل على الاستحقاق من إنشاء فرد منه ومن لم يفهمه اعترض عليه بأن كون لمقصود ثناء الله على نفسه لا يوجب كون الجملة إنشائية البتة، وأجاب بما لا طائل تحته، وفي التعبير بالتنبيه إشارة إلى أنه في غاية الظهور، وقيل إنما جعلها خبرية لما في حملها على الإنشاء من إخراج الكلام عن معناه الوضعيّ من غير ضرورة. قوله: (ليكون حجة على الذين هم بربهم يعدلون) عين تعلق الباء بيعدلون، وكون يعدلون من العدل دون العدول، ولم يقل على الذين يعدلون ليعمّ كلامه الاحتمالين لاقتضاء سياق كلامه ذلك هنا ألا ترى إلى تعريف المسند في قوله المستحق بلام التعريف الدالّ على التخصيص فتأثل. قوله:) وجمع السماوات دون الأرضر الخ (في المثل السائر من محسنات الكلام المؤاخاة بين الألفاظ فإذا جمع أحد المتقابلين ينبغي أن يجمع الآخر، ولذا عيب على أبي نواس قوله:
ومالك فاعلمن فيها مقام إذا اص! لت آجالاً ورز! ا
وقيل: كان ينبغي أن يقول وأرزاقا وكنت أرى أن هذا الضرب من الكلام واجب حتى مز
بي في القرآن ما يخالفه كقوله تعالى: {يَتَفَيَّأُ ظِلاَلُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالْشَّمَآئِلِ} [سورة النحل، الآية: 48] وقوله: {طَبَعَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ} [سورة النحل، الآية: 108] انتهى والزمخشريّ أشار في مواضع من الكشاف إلى أنه هو الأصل وأنه لا يعدل عنه إلا لنكتة وتبعه المصنف. قوله:) وهي مثلهن) إشارة إلى قوله تعالى {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} [سورة الطلاق، الآية: 62] قال المصنف في تفسيرها أي وخلق مثلهن في العدد من الأرض والظاهر منه التعدد الحقيقيّ، وقيل المراد الأقاليم السبعة. قوله: (لآن طبقاتها مختلفة بالذات الخ) وقال المصنف رحمه الله في سورة البقرة: جمع السموات، وأفرد الأرضى لأنها طبقات متفاضلة بالذات مختلفة بالحقيقة بخلاف الأرضين، ومراده واحد فيهما إلا أنه أجمل هنا فعمم في الاختلاف لما يشمل اختلافهما ذاتا، وحقيقة وقيل عليه إنه لا يوافق مذهب أهل السنة فإن الأجسام متساوية عندهم، وبه استدل على جواز قبول السماوات الخرق والالتئام وامكان المعراج، ولا مجال لإرادة الاختلاف الشخصيّ لأن الأرض أيضاً كذلك قال الله تعالى: {وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} [سورة الطلاق، الآية: 112 وقد جاء في الأحاديث النبوة أنه صلى الله عليه وسلم قال: " هل تدرون ما هذه قالوا: هذه أرض، هل تدرون ما تحتهأ قالوا: الله ورسوله أعلم قال أرضر أخرى وبينهما مسيرة خمسمائة عام حتى عدّ سبع(4/3)
ّأرضين بين كل أرضين مسيرة خمسمائة عام " أخرجه الترمذفي وأبو الشيخ عن أبي هريرة رضي الله عنه ورذ بأنه لا يلزم من كون
المصنف رحمه الله من الأشاعرة القائلين بتركب الأجسام من الجواهر الفردة المتماثلة أن يقول بعدم اختلاف الأجسام بالحقيقة لعدم المحيص لمن قال: بتجانس الجواهر الإفراد عن جعل الإعراض داخلة في حقيقة الجسم فتكون حينئذ جواهر مع جملة من الإعراض منضمة إلى تلك الجواهر والا كانت الأجسام كلها متماثلة في الحقيقة وإنه ضرورفي البطلان كذا في شرح المواقف، وقيل عليه أنه لا يخفى أنه يلزمهم القول بعدم الفرق بين الجواهر والإعراض في التجدد والبقاء ضرورة استلزام تجدد الجزء بتجدد الكل لكن المشهور من مذهبهم القول ببقاء الأجسام، وعدم بقاء الإعراض! فلزمهم القول بعدم اختلاف الأجسام فلا محيص إلا بأن يقال لعل المصنف رحمه الله لم يقل بتجدد الإعراض، أو بتماثل الجواهر الإفراد لعدم تمام دليل شيء فيهما، وهو غير وارد لأنّ عدم الفرق ظاهر المنع لأنه فرق بين تجدد الشيء بتجدد جزء منه وبين تجدده بجميع أجزائه وقولهم ببقاء الأجسام لا ينافيه لاحتمال أن يراد بالجسم ثمة ما يقابل الإعراض! لا ما تركب منهما أو المراد بها أعظم أركانه وأقواها نعم كون لدليل غير تامّ مسلم فتأمل. قوله: (متفاوتة الآثار والحركات (قيل هو إشارة إلى ما قيل أنّ السماء جارية مجرى الفاعل والأرض مجرى القابل فلو كانت السماء واحدة لتشابه الأثر وهو يخل بمصالح هذا العالم، وأمّا الأرض فهي قابلة والقابل الواحد كاف في القبول، وحاصله أنّ اختلاف الآثار دل على تعدد السماء دلالة عقلية، والأرض وان كانت متعددة لكن لا دليل عليه من جهة العقل فلذلك جمعها دون الأرض وأمّا دلالة اختلاف الحركات إلى جوانب مختلفة على ذلك فظاهرة وهذا يقتضي أنه استدلال على ظهور تعددها دون تعدد الأرض، والظاهر أنه ليس مراده بل المراد بعدما أثبت تعددهما بالنص بين أنه جمع أحدهما دون الآخر لهذه النكتة، وحينئذ فلا يرد أنه مبنيّ على أصول فلسفية لا ينبغي التفسير بها لأنه ليس بتفسير بل نكتة على أصول أهل المعقول بعدما بينها بوجه آخر، وقد فسر قوله متفاوتة الخ بمعرفة المواقيت، واضاءة النيران مما نطق به القرآن ودل عليه الأحاديث والآثار مما هو معلوم من الشرع تال تعالى: {) وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ} إلى قوله: {كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [سورة يس، الآية: 40] وقد فسر بكل من الكواكب وهو محسوس أيضا فيهما وفي الخنس {الْجَوَارِ الْكُنَّسِ} [سورة التكوير، الآية: 16] لكن كلامه في سورة البقرة لا يناسبه. قوله: (وقدّمها لشرفها وعلو مكانها) أي لتقدمها بالشرف لأنها محل الملائكة المقرّبين، وقبلة الدعاء ونحو ذلك والأرض وان كانت دار التكليف ومحل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فليس ذلك إلا للتبليغ لأنها ليست بدار قرار وقال النيسابوري: قال
بعضهم السماء أفضل لأنها متعبد الملائكة عليهم الصلاة والسلام، وما وقع فيها معصية ولهذا هبط آدم عليه الصلاة والسلام من الجنة، وقالت: اللهم لا تسكن في جواري من عصاك ولذا وقع ذكرها مقدّماً في الأكثر والسماوات مؤثرة والأرض متأثرة والمؤثر أشرف، وقال آخرون بل الأرض! أفضل لأنه تعالى وصف بقاعاً منها بالبركة كقوله: مباركا للعالمين، وردّ بأنه يدل على شرفها لا أشرفيتها، وهذا خلاف كاللفظي لا طائل تحته، وعلو مكانها ظاهر لأنها علوية والأرض! سفلية، ويحتمل العطف فيه أن يكون تفسيراً للشرف وتعليلاً له والمغايرة بأن يراد أنها بمنزلة العلة الفاعلة لأنّ الأرض! مستفيضة منها كما مرّ، قيل: من فسر المكان بالمرتبة ثم علل بكونها من الأرض بمنزلة العلة الفاعلة من القابل لم يصب في المعلل وأخطأ في التعليل، أما الأوّل فلكونه أعاده، وأما الثاني فلكون ما ذكره وجهاً للتقديم كما مر لا لعلو المرتبة كما زعم وهو تعصب منه لأنه على هذا يكون عطفاً تفسيرياً، ولا ضرر فيه وتفسير وجه التقديم وجه للتقديم فما المانع منه. قوله: (وتقدّم وجودها) هذا بناء على مختاره في البقرة لظاهر قوله تعالى: {وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} [سورة النازعات، الآية: 29] وان كان يعارضه ظاهر قوله تعالى: {خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} [سورة البقرة، الآية: 29] وكذا آية السجدة حتى تحير فيه كثير والمصنف رحمه الله تعالى جمع بينهما بأن، ثم ليست للتراخي في الوجود بل لتفاوت ما بين الخلقين وفضل خلق(4/4)
السماء على خلق الأرض كقوله تعالى: {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا} [سورة البلد، الآية: 17] أو هي لترتيب الأخبار، ولا بد لهذا من تتمة من الوجه الأوّل، وفي الكشاف لا تناقض فيه لأن جرم الأرض تقدم خلقه خلق السماوات فأما دحوها وبسطها فمتأخر وعن الحسن البصري خلق الله الأرض! في موضع بيت المقدس كهيئة الفهر عليها دخان وذلك قوله تعالى: {كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا} [سورة الأنبياء، الآية: 30] وهو الالتزاق انتهى واعترض عليه الإمام بأنّ الأرض جسم عظيم فامتنع انفكاك خلقها عن دحوها فإذا كان الدحو متأخراً عن خلق السماء كان خلق الأرض! أيضا كذلك وأجيب بالمنع لجواز أن يخلق الجسم صغيراً مندمج الأجزاء، ثم يبسط على مقدار ما يراد، وقال القاضي كغيره لا يندفع التناقض على تقدير كون، ثم للتراخي في الوقت في البقرة إلا أن يقدر لنصب الأرض! فعل آخر دل عليه أأنتم أشدّ خلقا مثل تعرف الأرض، وتدبر أمرها بعد ذلك وليستأنف بقوله دحاها لكنه خلاف الظاهر، ويمكن أن يدفع التناقض بأن معنى خلق قدر وأراد وقصد فلا تناقض، وأورد عليه أنّ قوله: {خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً} [سورة البقرة، الآية: 29] بيان نعمة أخرى مترتبة على نعمة سابقة، وهو خلقهم أحياء قادرين وهذه النعمة الأخرى إيجاد ما يتوقف عليه البقاء، ويتم المعاس، ولا يحسن عدّ القصد والتقدير نعمة أخرى، وفيه تأمّل وقد مر تفصيله في سورة البقرة. قوله: (والفرق بين خلق وجعل الذي له مفعول واحد الخ) جعل الزمخشري هذا الفرق بين الخلق، والجعل مطلقاً
سواء تعدى لواحد أو لاثنين، والمصنف خالفه وخصه بالجعل المتعدي لواحد والتضمين في كلامه ليس هو المصطلح بأن يضمن فعل النقل ونحوه كما توهمه بعضهم، ورذه صاحب الكشف وفسره بكونه محصلاً من آخر كأنه كان في ضمنه، وقيل الجعل يدل على شيئين أحدهما في ضمن الآخر بأن يكون تابعا له، وقيل بأن يكون السابق يتضمن اللاحق بالقوّة لا الفعل فمعنى الجعل إخراج المعنى من القوّة إلى الفعل، وقيل هو جعل شيء في ضمن شيء بأن يحصل منه أو يصير إياه أو ينقل منه، أو إليه وبالجملة فيه اعتبار شيئين وارتباط بينهما، وفي الخلق معنى الإيجاد بقدر وتسوية، وقيل عليه إنّ التضمين بالمعنى المذكور لا يناسب الصور الثلاث الأول إلا بتكلف بعيد لا حاجة إليه والأولى أنّ جعل أعم من خلق لأنه لا يقال فيما ليس بمخلوق والخلق لا يقال فيما ليس بموجود ونحوه في الكشف، وفيه تأئل.
وأعلم أنّ التضمين لغة جعل شيء في ضمن شيء كالظرف والمظروف أو جعله ضامنا له وملتزما له، وهو قريب من الأوّل واقتصر المصنف رحمه الله على أحد قسمي الجعل فإن أراد أنه هو الواقع في النظم والمحتاج إلى الفرق وأن جرى في غيره فهو ظاهر، وإن أراد ما في الكشاف وأن الفرق لا يتأتى في المتعدي لمفعولين، أو لا يطرد فيه فعليه منع ظاهر قيلي ومن تعرّض لتصيير شيء شيئا وجعله من التضمين في بيان مراد المصنف رحمه الله فقد ضل سواء الطريق، ولك أن تجيب عنه بأنه الإنشاء فيه معنى التصيير في الجملة وكذا النقل فيه معنى ذلك أيضا وفي الكشف تحقيقه أن الجعل بمعنى النقل من الصيرورة، إلا أنه من صار إليه لا من صار كذا، انتهى وهما متقاربان نهايته أنه تسامح في الإتيان متعديا خصوصا إن قلنا بالاحتمال الأوّل في كلام المصنف والأمر فيه سهل وفي الكشف الفرق بين الخلق والجعل أنّ التضمين واجب في الثاني، وتضمين النقل مخصوص به والإنشاء مشترك والتصيير في نحو خلقناكم أزواجا محتمل. قوله: (تنبيهاً على أنهما لا يقومان بأنفسهما كما زعمت الثنوية الخ) من الثنوية من ذهب إلى أنّ فاعل الخير النور وفاعل الشر الظلمة وهما في معتقدهما جسمان قديمان سميعان بصيران وسموهما بذلك على طريق النقل، وأورد على هذا أمور، الأوّل أنهما حينئذ ليسا بالمعنى الحقيقي المتعارف فمدعاهم الفاسد يبطل بمجرّد هذا، الثاني أنّ الرد يحصل بكونهما محدثين بقطع النظر عما اعتبر في مفهوم الجعل، ولو أتى بالخلق بدله حصل المقصود، الثالث أنّ الجعل المتعدي لواحد لا يقتضي كونه غير قائم بنفسه ألا ترى إلى قوله: {وَجَعَلَ لَكُم مِّن جُلُودِ الأَنْعَامِ بُيُوتًا} [سورة النمل، الآية: 80] {وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا} [سورة الرحمن، الآية: 20] إلى غير ذلك من الآيات والشواهد اللهم إلا أن يقال الجعل بمعنى الصنع
والعمل، فإذا تعلق بالأجسام كان باعتبار ما فيها من الصنعة، والعمل فمتعلقه في الحقيقة ما لا يقوم بنفسه وإنّ المتعارف(4/5)
فيهما ما يتبادر منهما وادعاء معنى آخر لا دليل عليه، ولذا جعله تنبيها لا دليلا فتأمل.
قوله: (وجمع الظلمات لكثرة أسبابها والاجرام الحاملة لها الخ) في نسخة وأفرد النور للقصد إلى الجنس يعني به ما قال الزمخشري إنه أفرد النور للقصد إلى الجنس كقوله: {وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا} [سورة الحاقة، الآية: 17] أو لأن الظلمات كثيرة لأنه ما من جنس من أجناس الاجرام إلا وله ظل وظله هو الظلمة بخلاف النور فإنه من جنس واحد، وهو النار وضمير لها في كلام المصنف أمّا للظلمات فيكون معنى كونها حاصلة لها أنها منشؤها أو لأسباب وهي كثاقة الأجسام وهذا أقرب وأورد عليه عود السؤال، وهو أنه لم أريد بالنور الجنس وبالظلمات أفرادها لا جنسها، وأنّ الظلمات كما تعددت فالأنوار أيضا تتعدد بحسب مباديها من الكواكب والنيرين والنار كما قال الزمخشري في قوله تعالى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً} [سورة البقرة، الآية: 17] إن النور ضوء النار وضوء كل نير وأجيب بأنه فعل ذلك ليحسن التقابل مع قوله خلق السماوات والأرض ولا يخفى أنه لا دلالة لكلام المصنف على هذا، وهذا جواب آخر مستقل وبأن مرجع كل نير إلى النار على ما قيل أنّ الكواكب أجرام نورية نارية، والشهب منفصلة من نور الكواكب فالمصنف رحمه الله تعالى لما رأى تقارب الجوابين جعلهما شيئا واحداً. قوله: (أو لآن المراد بالظلمة الضلال وبالنور الهدى الخ) في تأخيره إشارة إلى ترجيح الأوّل تبعا للإمام رحمه الله فإنه قال إنه أولى لأن الأصل حمل اللفظ على حقيقته ولأنّ الظلمات والنور إذا قرنا بالسماوات والأرض لم يفهم منهما إلا الأمر أن المحسوسان، وتعقب بأن المعنى أنه لما خلق السماوات والأرض! فقد نصب الأدلة على معرفته وتوحيده، ثم بين طرق الضلال وطريق الهدى بإنزال الشرائع والكتب السماوية {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِم يَعْدِلُونَ} فناسب المقام، ثم الاستبعادية إذ يبعد من العاقل الناظر بعد إقامة الدليل اختيار الباطل على أنه كلما ذكر الظلمات والنور في الكتاب الكريم أراد الضلال والهدى كقوله تعالى: {اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ} [سورة البقرة، الآية: 257] إلى غير ذلك، ولا يخفى أنّ قصاراه صحة ما ذكره لا أرجحيته والآية المذكورة لا ترد على الإمام بل تؤيد كلامه، ويدل على أنّ الهدى واحد والضلال متعدد قوله تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ} [سورة الأنعام، الآية: 53 ا] والدين الحق مجموع أمور يتحقق الضلال بمخالفة كل واحد منها وقيل: المراد به العقائد الحقة لا الفروع. قوله: (وتقديمها لتقدّم الإعدام على الملكات الخ) إذا تقابل شيئان أحدهما وجودقي فقط فإن اعتبر التقابل بالنسبة إلى موضوع قابل للأمر الوجودي إمّا بحسب شخصه أو بحسب نوعه، أو بحسب جنسه القريب أو البعيد فهما العدم، والملكة الحقيقيان، أو بحسب الوقت الذي يمكن
حصوله فيه فهما العدم والملكة المشهوران، وإن لم يعتبر فيهما ذلك فهما السلب والإيجاب فالعدم المشهور في العمي والبصر هو ارتقاع الشيء الوجودي كالقدرة على الأبصار مع ما ينشاً من المادّة المهيأة لقبوله في الوقت الذي من شأنها ذلك فيه كما حقق في حكمة العين وشرحها فإذا تحققت أن كل قابل لأمر وجودي في ابتداء قابليته واستعداده متصف بذلك العدم قبل وجود ذلك الأمر بالفعل تبين أن كل ملكة مسبوقة بعدمها لأنها وجود تلك الصفة بالقوّة، وهو متقدم على وجودها بالفعل، وقال: خاتمة المحققين: لا بد في تقابل العدم، والملكة أن يؤخذ في مفهوم العدمي كون المحل قابلا للوجودفي ولا يكفي نسبة العدمي إلى المحل القابل للوجودي من غير أن يعتبر في مفهوم العدمي كون المحل قابلا له، ولذا صرحوا بأنّ تقابل العدم والوجود تقابل السلب والإيجاب قال في الشفاء: العمى هو عدم البصر بالفعل مع وجوده بالقوّة وهذا لا بد منه في معناه المشهور انتهى فقول الفاضل المحشي فيه إن الجزئية غير مقيدة والكلية ممنوعة لتأخر الاعدام الطارئة عنها غير سديد، ثم قال: فإن قلت أراد كل ملكة يتقدمها العدم دون العكس قلت إن أريد تقدم العدم السابق مطلقاً، ولو في وقت عدم الموضوع فليس ذلك بعدم ملكة لأنه عدمها عن الموضوع القابل بأن يتحقق الموضوع ولا تتحقق الملكة لا بأن لا يتحقق الموضوع كما لا يخفى وان أريد تقدمه في وفت وجود الموضوع، فذلك غير متصوّر فيما لا تنفك الملكة عنه لكونها من لوازمه انتهى، وهو(4/6)
غير وارد أمّا إن أريد الملكة الحقيقية فظاهر، وأما إن أريد المعنى المشهور فلأنه يكفي وجود مادّة تقبل تلك الصفة، والملازمة المذكورة توهم يضره ولا ينفعه، ثم قال فإن قلت لم لا يكفي في المطلوب تقدّم بعض الإعدام على ملكاتها قلت معارض بتقدم بعض الملكات على إعدامها لتوقف تصوّر الإعدام على تصوّر ملكاتها، ولوجوديتها انتهى والفرق بين لزوم تقدم الشيء بنفسه ولزوم تقدم تصوّره ظاهر ألا ترى أن المفرد مقدم على المركب في الوجود لتقذ م الجزء على الكل مع أن المركب مقدم عليه في التصوّر، ولذا قدم تعريفه على تعريفه في المطالع ولك أن تقول عدم الملكة عدم مخصوص، والعدم المطلق في ضمنه وهو متقدّم على الوجود في سائر المحدثات، ولذا قال الإمام: إنما قدم الظلمات على النور لأنّ عدم المحدثات متقدم على وجودها كما جاء في حديث رواه أحمد والترمذي عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: " إن الله خلق الخلق في ظلمة، ثم رس عليهم من نوره " وفي أخرى: " ثم ألقى عليهم من نوره فمن أصابه نوره اهتدى، ومن أخطأه ضل فلذلك جف القلم بما هو كائن ") 1 (، فعلى ما ذكره الإمام الظلمة
في الحديث بمعنى العدم والنور بمعنى الوجود ولا يلائمه سياق الحديث، والظاهر ما قيل الظلمة عدم الهداية وظلمة الطبيعة والنور الهداية، والذي أرفعه فيه أنه اقتصر على رواية صدر الحديث، ثم إنه قيل الصواب أن يقال في وجه التقديم التقابل مع قوله: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ} [سررة الأنعام، الآية: 73] وكونها متقدمة في الخلق على النور على ما ورد في الأخبار الإلهية أنّ الله خلق الخلق في ظلمة، ثم رش عليهم من نوره فخلق النيرات لا يوافق ما مرّ من معنى الحديث الذي نطقت به الرواية، وقد بقيت هنا كلمات تركناها لعدم جدواها قوله: (ومن زعم أنّ الظلمة عرض يضادّ النور احتج بهذه الآية ولم يعلم أنّ عدم الملكة كالعمى ليس صرف العدم حتى لا يتعلق به الجعل) يعني أن الجعل ليس بمعنى الخلق، والإيجاد بل تضمين شيء شيئا وتصييره قائما به قيام المظروف بالظرف أو الصفة بالموصوف والعدم من الثاني فصح تعلق الجعل به، وان لم يكن موجودأ عينياً لأنه ذكر في الطوالع أنّ العدم المتجدد يجوز أن يكون بفعل الفاعل كالوجود الحادث هذا تحقيق كلامه، ولا يرد عليه شيء أصلاً فإنّ العدم إمّا مطلق صرف أو مقيد ومضاف كعدم الحياة أو عدم تقابل الملكة وقد مرّ تحقيقه ثمت، وقال النحرير الظلمة عدم النور فإن أجرى هذا على إطلاقه كان بين النور والظلمة تقابل الإيجاب والسلب إلا أنّ الحكماء يقولون هو عدم النور عما من شأنه فبينهما تقابل العدم والملكة وعند بعض المتكلمين هو عرض ينافي النور فبينهما تقابل التضاد انتهى، وما نقله عن الحكماء ليس بمتفق عليه فإنّ منهم من ذهب إلى الأوّل، وهو مذهب الإشراقيين كما في حكمة الإشراق وفي شرحه للعلامة الظلمة عدم الضوء عما من شأنه أن يستضيء على ما هو رأي المشائين أو عدم الضوء فحسب على ما هو رأي الأقدمين، وارتضاه بما هو مبسوط ثمت وقيل إذا كان الجعل بمعنى الخلق وليس الفرق بينهما إلا ما مرّ لا يصح تعلقه بالعدم إلا أن يعم الخلق غير الإيجاد، أو الإيجاد إيجاد الشيء ولو لغيره، فإن جعل أعم منه فإن كان الإثبات في نفس الأمر الذي هو أعم من الخارج واعدام الملكات ثابتة فيه، وأمّا العدم الصرف أمّا المطلق فلا تحقق له أصلا إلا إذا ثبت كونه ذاتيا للإعدام المضافة، وهو ممنوع لجواز كونه عرضا عامّاً لها ولا يلزم من ثبوت شيء ثبوت عرضه وأمّا المضاف، إلى غير الملكة فليس له ثبوت شبيه بالوجود الخارجي يرشدك إليه وضع الأسامي لإعدام الملكات كالظلمة والعمى دون غيرها انتهى وبما مر من تحقيق كلامه علمت أنه لا يرد عليه هذا والأحداث ليس بمعنى الإيجاد بل أعم منه والعدم مطلقا لا يصح إيجاده لأنه لا معنى للإيجاد إلا أحداث الوجود فلو أحدث فيه الوجود كان متصفاً به فيلزم اجتماع النقيضين نعم عدم الملكة عدم بالفعل ووجودب لقوّة كما مر نقله عن الشفاء مع أنهم صرحوا بأنّ العدم المطلق جزء من العدم المقيد، وقيل الجعل الإنشاء، وهو أعم من إيجاده بنفسه أو إيجاده في محل بأن جعل المحل متصفأ به، ولا يخفى أنّ الموجودات
قد تتصف بالإعدام فتأمّل. قوله: (عطف على قوله الحمد لله الخ) في الكشاف عطفه إما على قوله الحمد لله على معنى أنّ الله حقيق بالحمد على ما خلق لأنه(4/7)
ما خلقه إلا نعمة ثم الذين كفروا به يعدلون فيكفرون نعمته وأمّا غلى قوله: {خَلَقَ السَّمَاوَات} [سورة الأنعام، الآية: 73] على معنى أنه خلق ما خلق مما لا يقدر عليه أحد سواه، ثم هم يعدلون به ما لا يقدر على شيء منه انتهى، وهذا من غوامض هذا الكتاب لأنّ هنا احتمالات أن يكون كفروا من الكفر أو الكفران، ويعدلون من العدل بمعنى التسوية أو العدول بمعنى الانصراف وبربهم إمّا متعلق بكفروا أو بيعدلون على كل تقدير فهذه الجملة إمّ معطوفة على جملة الحمد دلّه أو على الصلة وقد جوّز بعض هذه الاحتمالات تصريحا ونفى غيرها تلويحاً لأنه جعله على عطفه على جملة الحمد من العدول والجار متعلق بكفروا وكفروا من الكفر لا الكفران وعلى عطفه على الصلة فيعدلون من العدل، والجارّ متعلق به مقدم من تأخير إمّا لتعظيم اسمه الجليل أو لرعاية الفاصلة، وكفروا مسكوت عن تفسيره فيه إشارة إلى احتماله للوجهين، والذي اقتضى ذلك أن الأرجح الأبلغ العدول عنه إلى غيره إن لم يكن خطأ عند البلغاء فهو أخوه، وبيان ذلك أنه يصير المعنى على الوجهين هكذا الحمد والثناء مستحق للمنعم بهذه النعم الجسام على الخاص، والعام فكيف يتأتى من الكفرة والمشركين المستغرقين في بحار إحسانه العدول عنه، ولا يخفى استبعاد انصراف العبد عن سيده ووليّ نعمته إلى سواه بخلاف التسوية فإنّ المنعم قد يساويه غيره ممن يحسن إلى غيره، وهذا على الوجه الأوّل، وعلى الثاني معناه المعروف بالقدرة على إيجاد هذه المخلوقات العظام التي دخل فيها كل ما سواه كيف يتسنى لهؤلاء الكفرة، أو لهؤلاء الجاحدين للنعم أن يسووا به غيره ممن لا يقدر عليها، وهم في قبضة تصرفه بخلاف العدول عنه فإنه قد يتصوّر لجهلهم بحقه وما يليق بعظمته إذ العدول لا ينافي عدم المعرفة بخلاف التسوية فإنه لا يسوي بين شيئين لا يعرفهما بوجه ما ولما كان العدول في الأوّل مستلزما لكفران نعمه رتبه عليه وجعله تفسيرا له، وليس إشارة إلى أن كفروا من الكفران وبربهم بتقدير مضاف أي بنعم ربهم كما قيل، وأمّا عطفه على الصلة المسوقة لذكر المحمود عليه، وهذا ليس كذا! كما أورده في الانتصاف فرذ بأنه إشارة إلى مزيد كرمه وواسع حلمه حيث أنعم على المطيع والعاصي فكأنه قيل ما أكرمه وأحلمه كما قيل:
إلهي لك الحمدالذي أنت أهله على نعم ماكنت قط لها أهلا
أزيدك تقصيراً تزدني تفضلاً كأني بالتقصير أستوجب الفضلا
كما سيأتي تحقيقه فما قيل إنه إشعار بأنّ الباء في الأوّل صلة كفروا ويعدلون من العدول، وفي الثاني يعدلون من العدل بمعنى التسوية وتقديم الصلة للاهتمام وتحقيق الاستبعاد وهذا تخصيص من غير مخصص لتأني التقديرين على كل من الوجهين، ووضع المظهر موضحع الضمير لبيان موقع الاستبعاد ولفظ الكتاب يوهم أنّ القرآن، ثم الذين كفروا به يعدلون وليس
كذلك لا وجه له لما عرفت من وجه التخصيص وظهور المخصص وأمّا قوله به فليس غلطا في التلاوة كما توهم، وإنما هو تنبيه على أنّ الموضع موضع الإضمار وايضاج أن كفروا ليس من الكفران، ثم قال وفذا العطف على الصلة ليس على قصد أنه صلة برأسه ليتوجه الاعتراض بأنه لا معنى لقوله الحمد لله الذي كان منه تلك النعم العظام، ثم من الكفرة الكفران وإنما لم يحمل، ثم على التراخي مع استقامته لكون الاستبعاد أوفق بالمقام (وأورد عليه أبحاث (الأوّل إنه لا وجه لضم ما لا دخل له في استحقاق الحمد إلى ما له ذلك، ثم جعل المجموع صلة في مقام يقتضي كون الصلة محموداً عليه، والثاني أنّ مبني كلامه على أن المعتبر في هذا الوجه كون المذكور في حيز الصلة نعما والواقع منهم كفران، وهو مخالف للكتابين من وجهين أحدهما كون الخلق نعمة، وثانيهما كون يعدلون من العدول لا من العدل بمعنى التسوية، والجواب أما عن الأوّل فلما مرّ من أنه إذا أنعم عليه مع ذلك اقتضى علو شأنه وعموم إحسانه للمستحق وغيره وهو تعظيم منبئ عن كمال استحقاقه، ولذا قال بعض الفضلاء إنه حمد على كمال جوده حيث ينعم بمثل هذه النعم الجليلة على من لا يحمده ويشرك به، وقد يقال وقوعه موقع المحمود عليه باعتبار معنى التعظيم المستفاد من إنكار مضمونه فكأنه قيل الحمد لله الذي جل جنابه عن أن يعدل به شيء لكن المحمود عليه يجب أن يكون جميلا اختياريأ وما ذكر ليس كذلك(4/8)
فلا بد من الرجوع إلى التأويل وأمّا عن الثاني فلأنها نعم لا يقدر عليها سواه كما نبه عليه بقوله:) العظام) فتضمن ذلك عظيم قدرته التي لا يساويه فيها أحد وذكره الكفران بيان لحاصل المعنى، ومآله لا تفسير لقوله يعدلون حتى لا يناسب ما في الكتابين، ثم إنه قيل عليه أيضاً إن ما ينتظم في سلك الصلة المنبئة عن موجبات حمده تعالى حقه أن يكون له دخل في ذلك الأنباء في الجملة، ولا ريب في أن كفرهم بمعزل عنه واذعاء أنّ له دخلا فيه لدلالته على كمال الجود كأنه قيل الحمد لله الذي أنعم المثل هذه النعم العظام على من لا يحمده تعسف لا يساعده النظام، وتعكيس يأباه المقام. كيف لا وسياق النظم الكريم كما تفصح عنه الآيات الآتية لتوبيخ الكفرة ببيان غاية إساءتهم في حقه كما يقتضيه الادعاء المذكور وبهذا اتضح أنه. لا سبيل إلى جعل المعطوف من روادف المعطوف عليه لما أنّ حق الصلة أن تكون غير مقصودة الإفادة، فما ظنك بما هو من روادفها، وقد عرفت أنّ المعطوف هو الذي سيق له الكلام قلت لا شك في أنه على هذا الوجه يراد الحمد دلّه الذي أنعم بهذه النعم الجسام على من لا يحمده، ولا تعسف فيه لبلاغته وادعاء العكس ممنوع فإنّ المقام مقام الحمد كما تفيده الجملة المصدر بها، وما بعده كلام آخر ولا يترك مقتضى مقام لأجل مقتضى مقام آخر إذ لكل مقام مقال وهذا على عادته في استسمان ذي ورم، ونفخه في غير ضرم، فإن قلت كيف يصح عطفه من جهة العربية والموصول لا يكون صلة كما صرح به الرضي في باب الأخبار بالذي قلت الذي وقع في الرضي، وقوعها صلة ابتداء لا بطريق التبعية فإنه يغتفر في التابع ما. لا يغتفر في غيره، ثم
إنه قيل الصواب في الجواب أن عطفه عليه ليس بقصد أنه صلة برأسه ولا لأنه جزء الصلة بل على أنه من روادفها عطف عليها بيانا لما لهم مع ذلك الصنع البديع، ومن الفعل الشنيع والصنع الفظيع، ويمكن أن يؤوّل بأنّ المعنى الحمد دلّه المنعم المستبعد مع إنعامه الكفران فيجوز أن يكون جزء الصلة انتهى وهذا مآل ما ذكره النحرير عند التأمل مع أنّ قوله ويمكن الخ يرد عليه ما أورده ثانيا بعينه، وما قيل فيه نظر لأنه تكلف بعيد وتغيير للنظم لا يرتكب إلا لضرورة ولا ضرورة هنا، ولأن قوله من الكفران لا يناسب أن يذكر بعد الحمد إذ لا علاقة له معه من قلة التدبر، وإذا انتقش في صحيفة ذهنك ما قرّرناه انمحى كل ما أوردناه. قوله: (ما خلقه نعمة (يشير إلى أنّ الحمد هنا في مقابلة النعمة لأنّ ما في حيز الموصول محمود عليه فلا يرد عليه أن الحمد لا يلزم أن يكون في مقابلة نعمة. قوله: (ثم الذين كفروا الخ الما كان المقام مقام الحمد ناسب التشنيع عليهم بعدم العمل بمقتضاه فلا يرد عليه أنّ كفرهم به تعالى لا سيما باعتبار ربوس! ط أشد شناعة وأعظم جناية مع عدولهم عن حمده عز وجل فجعل أهون الشرين عمدة في الكلام مقصوداً، بالإفادة واخراج أعظمهما مخرج القد المفروغ عنه مما لا عهدة له في الكلام السديد فكيف بالنظم التنزيلي. قوله: (ويكون بربهم تنبيهاً الخ) إشارة إلى النكتة في وضع الظاهر موضع المضمر، والرث في الأصل مصدر أو صفة بمعنى المربي المالك يختص به تعالى ولا يطلق على غيره إلا شذوذا أو مقيداً أو جمعا كما مر. قوله: (على معنى أنه خلق ما لا يقدر عليه أحد سواه الخ (هكذا في الكشاف، وهو بيان لما يقتضيه تباعد ما بين المتعاطفين وهو خلق هذه الأمور العظيمة التي لا يقدر عليها سواه وتسوية الكفرة به من لا يقدر على شيء، ولم يذكر أنّ خلق هذه من النعم لأنه لبيان المناسبة بين الجملتين مع قطع النظر عن ارتباطه بما قبله وكونه محمودا عليه أؤ اكتفى بالتنبيه عليه فيما مضى وكونه معلومأ مع وقوعه موقع المحمود عليه اقتصاراً على مقدار الكفاية وحذرا من شبه التكرار، فلا يرد عليه ما قيل أنه لم يعتبر في هذا الوجه كون خلق السماوات والأرض من النعم مع أنه أشار فيما سبق إلى اعتباره مطلقا بقوله ونبه على أنه المستحق له على هذه النعم الجسام، والصواب اعتباره هاهنا أيضاً لاقتضائه الإظهار في مقام الإضمار لا سيما في هذا الوجه لعطفه على الصلة، وقال أبو حيان: لا يصح هذا التركيب لأنه ليس فيه رابط يربط الصلة بالموصول إلا إذا خرج على نحو قولهم أبو سعيد الذي رويت عن الخدري يريدون عنه فيكون الظاهر وقع موقع المضمر فكأنه قيل، ثم الذين كفروا به يعدلون، وهذا من الندور بحيث لا يقاس عليه ولا يحمل عليه كتاب الله تعالى(4/9)
مع إمكان حمله مع الوجه الصحيح الفصيح، ولك أن تقول لا يلزم من ضعفه في ربط الصلة ابتداء ضعفه فيما عطف عليها كما في رب شاة وسخلتها، وأمّا ما قيل على ما
ذكرنا من الجواب الصواب لا يحتاج إلى الرابط فعجيب لأنه لم يقل أحد من النحاة إنّ المعطوف على الصلة، بثم يجوز خلوه عن الرابط وغاية ما ذكره أنه نكتة للربط بالاسم وهو ظاهر. قوله: (ما لا يقدر على شيء منه) قيل تبع فيه الكشاف، والظاهر حذف لفظ منه، ولم يقفوا على وجهه وهو في كلام الزمخشري ظاهر لأن المانع من التسوية عدم القدرة على شيء مما لا يقدر عليه غير الله لا عدم القدرة على الخلق مطلقاً إذ أفعال العباد مخلوقة لهم عند المعتزلة والمصنف رحمه الله تبعه في ذلك ليكون نكتة على جميع المذاهب لا غفلة عن مراده. قوله: (ومعنى ثم استبعاد عدولهم الخ) قال ابن عطية رحمه الله، ثم دالة على قبح فعل الذين كفروا لأنّ المعنى أنّ خلقه السماوات قد تقرّر وآياته قد سطعت وأنعامه بذلك قد تبين، ثم بعد هذا كله عدلوا بربهم فهذا كما تقول أعطيتك وأحسنت إليك ثم تشتمني أو بعد وضوج ذلك كله، ولو وقع العطف في هذا ونحوه بالواو ولم يلزم التوبيخ كلزومه بثم، قال أبو حيان: هذا الذي ذهب إليه ابن عطية من أنّ ثم للتوبيخ، والزمخشريّ من أنها للاستبعاد مفهوم من سياق الكلام لا من مدلول ثم ولا أعلم أحداً من النحويين ذكر ذلك بل ثم هنا للمهلة في الزمان وهي عاطفة جملة اسمية على اسمية أخرى فأخبر تعالى بأنّ الحمد له ونبه على العلة المقتضية للحمد من جميع الناس، وهي خلق السماوات والأرض والظلمات والنور، ثم أخبر أنّ الكافرين يعدلون فلا يحمدونه، وقيل الظاهر أنه لم يرد أنه موضوع للاستبعاد بل أراد أنه مستعمل فيه بطريق المجاز بمعونة المقام، وذلك لأنّ كل متباعد مستبعد ومتراخ عن خلافه فاندفع ما قال أبو حيان إنه لم يوضع لذلك بل هو مستفاد من سياق الكلام، وقد يجاب عنه بأنه أراد التراخي الرتبي وفيه أنّ مقتضى ذلك كون مدخوله أعلى مرتبة مما عطف به عليه وليس الأمر هنا كذلك أقول قوله متراخ ومتباعد في الجواب لا معنى له إلا أنّ بينهما بعد معنوقي وهو التراخي الرتبي بعينه فالجوأبان واحد، وما أورده وارد عليه، ثم ما أنكره من كون الأوّل أعلى رتبة لا وجه له، وقد صرّح ابن عطية رحمه الله بخلافه فيما سمعت لأنّ الأعلى في مثاله المعطوف عليه ونبه عليه بعض شراح الكشاف في غير هذا المحل وإذا شبه البون المعنوي بالبعد الزماني وعد هذا علاقة فما الفرق بينهما ومراد الزمخشرقي التراخي الرتبي وقال النحرير رحمه الله إنما لم يحمل ثم على التراخي مع استقامته لكون الاستبعاد أوفق بالمقام لأنّ التراخي الزماني معلوم فيه فلا فائدة في ذكره ومنه علمت أنّ الصواب أن يعذ كناية لا مجازاً لإمكان المعنى الحقيقي فيه وقوله استبعاد أن يعدلوا به ربما يشعر بأنه على الوجه الأوّل فقط ومراده جريانه فيهما لكته للاختصار اقتصر على أحدهما ليعلم الآخر بالمقايسة عليه، ثم قال: فإن قلت يرد على الفاضل وأبي حيان أن كفرهم وعدولهم لا يتراخى عن كونه حقيقياً بالحمد لاستمراره فإن جعل للتراخي في الأخبار كما يشعر به كلامه، ورد أنه لا تراخي بين الإخبارين كما في شرح التسهيل فلا بد من اعتبار التراخي الرتبي، والرجوع إلى ما قاله الزمخشريّ قلت كل ممتد يصح فيه التراخي باعتبار
أوّله والفور باعتبار آخره كما حققه النحاة. قوله: (والباء على الآوّل الخ) قد مز اعتراض الفاضل المحقق بأن الفرق المذكور تخصيص من غير مخصص، وقد مرّ دفعه بنحو ما قاله بعض المتأخرين الفضلاء وجه التخصيص! رعاية المناسبة بين ما عطف، بثم الاستبعادية وبين ما عطف عليه فإنه إذا قيل، ثم الذين كفروا به يعرضون عن حمده فيكفرون نعمته فإنّ من استحق جميع المحامد من قبل العباد فالإعراض عن حمده في غاية الاستبعاد، ولا يناسب حينئذ أن يقال ثم الذين كفروا يسوّون به غيره إذ لم يسبق صريحا ما يفيد امتناع التسوية بينه وبين غيره حتى يفيد استبعاد التسوية وكذا إذا قيل إنه خلق ما خلق مما لا يقدر عليه أحد سواه فالمناسب في الاستبعاد أن يقال، ثم الذين كفروا يسوّون به غيره الذي لا يقدر على شيء منه، لا أن يقال ثم الذين كفروا به يعرضون عن حمده انتهى، ولا يخفى اتساق أنّ من استحق جميع المحامد لأنعامه بالنعم الجسام(4/10)
لا يناسبه أن تكفروا نعمته، ومن خلق هذه المخلوقات العظام لا يسوي به غيره كما قال تعالى: حكاية عن الكفار {تَاللَّهِ إِن كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ، إِذْ نُسَوِّيكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [سورة الشعراء، الآية: 97-98] وأيد الاعتراض! الذي اعترض! به النحرير بأنه إذا قيل إنه تعالى مستحق للحمد على هذه النعم الجسام التي لا يقدر عليها أحد، ثم الذين كفروا يعدلون به غيره مما لم يكن منه مثل هذه فيجعلونها آلهة مثله ويثنون عليه بما أثنوا به عليه تعالى كان كلاما صحيحا منتظما، وكذا إذا قيل إنه تعالى خلق ما خلق نعمة لهم مما لا يقدر عليه أحد، ثم هم يعدلون عنه ولا يحمدونه مع أنه مقتضاه ذلك كان كلاما صحيحا منتظما هذا تقرير كلامه، على وفق مرامه، وقد خفي عليه وعلى من قلده ولا يخفى أنه تكلف وتخليط فإن العلامة راعى في وجه الاستبعاد أخذه من المتعاطفين، وهو أدخل في كل من الوجهين وغيره أخذه، مما بعده وما قبله، ولا يخلو من التعقيد لملاحظة قيود كثيرة والاحتياج إلى تقديرها وملاحظتها، ولدّا لم يعرج عليه أحد من شراح الكشاف، وأشار إلى الكشف إلى أن ما جنح إليه الزمخشري ظاهر من حاق النظم، ولولاه لما حسن موقع ثم وما ذكره تكلف يأباه جزالة النظم وسلاسة السبك والحق أحق أن يتبع، ومعنى تسويتهم له تعالى بها في اذعاء الألوهية والعبادة وبعضهم سلك في ردّه مسلكا آخر فقال أنه معطوف على الجملة السابقة الناطقة بما مرّ من موجبات اختصاصه تعالى بالحمد المستدعي لاقتصار العبادة كما حقق في سورة الفاتحة مسوق لإنكار ما عليه الكفرة، واستبعاده من مخالفتهم لمضمونها واجترائهم على ما يقضي ببطلانه بديهة العقل، والمعنى أنه تعالى يختص باستحقاق الحمد والعبادة باعتبار ذاته وباعتبار ما فصل من شؤونه العظيمة الخاصة به الموجبة لقصر الحمد والعبادة عليه ثم هؤلاء الكفرة لا يعملون بموجبه، ويعدلون به سبحانه أي يسوّون به غيره في العبادة التي هي أقصى غايات الشكر الذي رأسه الحمد مع كون كل ما سواه مخلوقا له غير متصف بشيء من مبادي الحمد، وكلمة ثم لاستبعاد الشكر بعد وضوح ما ذكر من الآيات التكوينية القاضية ببطلانه لا سيما بعد
بيانه بالايات التنزيلية، والموصول عبارة عن طائفة الكفار جرى مجرى الاسم لهم من غير أن يجعل كفرهم بما يجب أن يؤمن به كلاَ أو بعضاً عنواناً للموضوع، فإن ذلك مخل باستبعاد ما أسند إليهم صن الإشراك والباء متعلقه بيعدلون هذا هو الحقيق بجزالة التنزيل، وهذا مبنيّ على أنّ الحمد له دلالة على العبادة كما مرّ أن الزمخشري جعل إياك نعبد بيانا لقوله الحمد دئه وقد أوّله الشراح ثمة وهو لم يرتضه هناك فكأنه نسي ما قدمت يداه دماذا لم يلاحظ فيه ما ذكر لا ينتظم كلامه بوجه من الوجوه وهو من الأوهام الخيالية. قوله:) وصلة يعدلون الخ (لم يقدر ليعدلون في هذا الوجه مفعولاً بخلافه في الوجه الثاني بناء على ما نقل عن الزمخشرقي من أنه قال إنما ترك ذكر المعدول عنه ليقع الإنكار على نفس الفعل الذي هو العدول وأنه مما لا ينبغي أن يخطر ببال، وينبغي أن يجعل الفعل هاهنا كأنه غير متعد فلا يضمر له مفعول البتة وإنما لم يجعل في الوجه الثاني كذلك لأنه لا يحسن إنكار العدل بخلاف إنكار العدول قيل وفيه نظر ظاهر ووجهه أن مجرّد العدول بدون اعتبار متعلقه غير منكر ألا ترى أن العدول عن الباطل لا ينكر فالظاهر أن تذكر هذه النكتة في الوجه الثاني وإن حذفه إنما هو لأجل الفاصلة. قلت هذا وان تراءى في بادئ النظر لكته عند التحقيق ليس بوارد لأنّ العدول وان كان له فردان أحدهما مذموم وهو العدول عن الحق إلى الباطل وممدوج وهو العدول عن الباطل إلى الحق لكن العدول الموصوف به الكفار لا يحتمل الثاني فلتعينه لا يحتاج إلى تقدير متعلق وتنزيله منزلة اللازم أبلغ عند التأمل، بخلاف التسوية فإنها من النسب التي لا تتصور بدون المتعلق فلذا قدره ومنه تعلم أنّ تنزيل الفعل منزلة اللازم لا يكون أو لا يحسن إلا فيما ليس من قبيل النسب فأعرفه وقوله يعدلون بربهم الأوثان الأولى التعميم وقد اعترف المصنف رحمه الله بتضمن السورة الرذ على الثنوية، ئم إنّ حذف المفعول هنا ليقع الإنكار على نفس الفعل. قوله: (أي ابتدأ خلقكم الخ) إشارة إلى أنّ من ابتدائية، وقيل إنه يعني أنّ الخلق مجاز عن ابتدائه وأن كون الطين مبدأ لخلقهم باعتبار المادة الأولى فقوله، وإنّ آدم صلى الله عليه وسلم الخ بالكسر(4/11)
عطف على أنه للتفسير والتخصيص بعد التعميم، ويحتمل أن يكونا وجهين الأوّل إشارة إلى ما ذكره الإمام من أنّ الإنسان مخلوق من النطفة والطصث وهما من الأغذية الحاصلة من التراب بالذات أو بالواسطة، والثاني ظاهر ففي الآية ثلاثة وجوه وعلى الثالث تحتمل من التبعيضية ويكون قوله ابتدأ بيانا للواسطة فقط، وهو خلاف الظاهر، وفي الآية التفات لأنّ الخطاب وان صح كونه عافآ لكنه خاص بالذين كفروا، كما يقتضيه ثم أنتم تمترون ونكتته أن دليل الأنفس أقرب إلى الناظر من دليل الآفاق الذي في الآية السابقة والشكر عليه أوجب، وقد أشير في كل من الدليلين إلى المبدأ والمعاد وما بينهما. قوله:) ثم قضى الخ (قيل أي قدر وكتب فثم للترتيب في الذكر دون
الزمان لتقدمه على الخلق، وما ذكره ظاهر إن أراد بالقضاء والقدر ما وقع في الأزل ولكن لا حاجة إليه ولذا قيل الظاهر أنه بالمعنى الحقيقيّ وهو الترتيب بأن يراد بالتقدير والكتابة ما تعلم به الملائكة وتكتبه كما وقع في حديث الصحيحين: " إنّ أحدكم يجمع خلقه في بطن أمّه أرشين يوماً، ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله ملكاً ويؤمر بأربع. كلمات ويقل له اكتب عمله ورزقه وشقئي أم سعيد " الحديث) 1 (ومن أراد بسط هذا المقام فلينظر شروحه، وقيل إن كان قضى بمعنى أظهر فثم للترتيب الزمانيّ على أصلها وإلا فهي للترتيب الذكري.
قوله: (وأجل مسمى) في شرح الكشاف الأجل يقال بمعنى الوقت المعين لانقضاء شيء
ولم يقع فيه مجازاً كالموت ولمجموع المدة كالعمر وعليه تدور وجوه التفسير فنزل كلامه على كل مناسبة وقوله يطلق لآخر المدة ضمنه معنى يستعمل وإلا فالأصل تعديه بعلى، والواو هنا إمّا للحال أو للعطف. قوله:) وقيل الآوّل الخ) حاصل ما ذكره أربعة أوجه صريحة وواحد ضمنا فهي خمسة أحدها أنّ الأجل الأوّل أجل الموت والثاني أجل القيامة ووجه تقييد الثاني بكونه عنده أنه من نفس المغيبات الخمس التي لا يعلمها إلا الله والأوّل أيضاً وان كان لا يعلمه إلا هو قبل وقوعه كما قال {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} [سورة لقمان، الآية: 34، لكنا نعلمه للذين شاهدنا موتهم وضبطا تواريخ ولادتهم ووفاتهم فنعلمه سواء أريد به آخر المدة أو جملتها متى كان وكم مدة كأن كذا قيل، وقيل: إنه يعلم بالسن وانقراض الإقران قربا وبعدا، وان لم يتعين حقيقة أو الملائكة أطلعهم الله عليه وفيه نظر والثاني أنّ الأول ما بين الخلق والموت، والثاني ما بين الموت والبعث، ووجه التقييد بعنده في الثاني يعلم مما مز، والثالث كون الأوّل النوم والثاني الموت ولا يخفى بعده لأنّ النوم وان كان أخا الموت لكن لم يعهد تسميته أجلاً وان سمي موتا، ووجه تقييد الثاني بالنسبة إلى الشخص نفسه، والرابع كون الأوّل أجل من مضى وهو معلوم بخلاف من بقي ومن يأتي ووجه التقييد ظاهر، والخامس أنّ لكل شخص أجلين أجلا تكتبه الكتبة وهو يقبل الزيادة والنقص وأجلاً مسمى عنده لا يقبل التغيير ولا يطلع عليه غيره وسيأتي تحقيقه. قوله: (والاستئناف الخ (جوّز بعضهم أن يكون الاستئناف بمعنى جعله مبتدأ غير معطوف على ما قبله وآخرون إنه بمعنى كونه واقعا في ابتداء الكلام غير
مؤخر على ما هو المستفيض في كلامهم كما سيأتي، وردّ الأوّل بأنه يأباه قوله ولأن المقصود بيانه ولا وجه له لأنه لو عطف على ما قبله كان تابعا له، وهو ينافي كونه مقصوداً وهذا ظاهر غاية الظهور، ويؤيده أنّ الاستئناف بمعنى القطع شائع في كلامهم، وأمّا بمعنى التصدير فغير مشهور نعم هو على هذا الوجه يخلو عن الفائدة التي في كلام الكشاف، والظاهر عدم تركها، ومحصلها أنّ الظرف إنما يجب تقديمه إذا لم يكن ثمة مسوّغ آخر كالوصف هنا لكن النكرة الموصوفة بالمعروف فيها التأخير في استعمال البلغاء فيقولون عندي عبد كيس ولي ثوب جيد وفي ملكي كتاب نفيس لا يكادون يتركون تقديم خبره إلا لمقتف!! ، وهنا أوجب تقديم النكرة أنّ المعنى، وأفي أجل مسمى عنده ت! غيماً لشأن الساعة فلما- جرى فيه هذا المعنى وجب التقديم، قال الطيبي: هذا بيان لمعنى التنكير والتهويل فيه لا أنّ الكلام متضمن لمعنى الاستفهام كما ظن، وقيل ظاهر عبارة الكتاب أن هذا التعظيم مستفاد من الاستفهام المعتبر في معنى هذه النكرة كأنه لغرابته، وعظيم رتبته مما يسئل ويستفهم عنه والاستفهام يقتضي صدر الكلام وبه! ذا يندفع ما يقال أنه يكفي في إيثار التقديم الترجيح وأيّ حاجة إلى اعتبار الوجوب والإيجاب كما في عبارة الكتاب ولا يحتاج إلى تأويله بأنّ الراجح واجب في حكم البلاغة، وكلام الزمخشريّ يخالف قول السكاكي أنّ النكرة الموصوفة يجب تأخرها فلا يتأتى الجواب عنه بأنّ عدم الوجوب باعتبار الصناعة النحوية وما ذكره الزمخشرفي باعتبار استعمال البلغاء، ثم إنّ معنى كلام المصنف رحمه الله أنه قصد هنا التعظيم فقدّم للاهتمام بما قصد تعظيمه ولا ينافي كون التعظيم من التنكير أيضا فلا مخالفة بين كلامه وكلام الكشاف كما قيل وإنه أقرب منه لأنه لا يظهر دلالته على التعظيم إلا إذا لوحظ التنكير، وقال بعض الفضلاء فان قلت ليس قصد التعظيم للمبتدأ موجباً لتقديمه، ولهذا لم يعدّ في علم المعاني من الأحوال المقتضية له قلت قد أدرج المصنف الجواب عن هذا في أثناء تقريره بقوله إنّ المعنى وأيّ أجل مسمى عنده بمعنى أن أجلاً في معنى أفي أجل فكما أنّ أقي أجل واجب التقديم فكذا ما هو بمعناه، وأورد عليه قوله تعالى: {وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنطِقُ بِالْحَقِّ} [سورة المؤمنون، الآية: 62] فإنّ المعنى على أفي كتاب ولا يخفى أنّ ما قصد تعظيمه أهثم عند المتكلم والأهمية من مقتضيات التقديم كما صرّح به في متون المعاني، ثم أنّ المرجح قد يعارضه مرجح آخر خلافه فيجري كل منهما على حسب مقتضى مقامه ولذا قالوا إنّ النكات لا تتزاحم وفي شرح الكشاف هنا مباحث أخر تركناها خوف الإطالة، واذ قد تبين أنّ مراد الزمخشري بيان محصل المعنى لا أنّ ثمة استفهام مقدر اندفع ما اعترض به عليه من أنه لا يجوز أن يكون التقدير أفي أجل مسمى عنده لأن أيّ حينئذ صفة لموصوف محذوف تقديره وأجل أفي أجل مسمى عنده، ولا يجوز حذف الصفة إذا كانت أيا ولا حذف موصوفها، وإبقاؤها فلو قلت مررت بأيّ رجل تريد برجل أفي رجل لم يجز! مع أنه ردّ بأنه سمع ذلك كقوله:
إذا حارب الحجاج أيّ منافق علاه بعضب كلما هزيقطع
فإنهم قالوا تقديره منافق أيّ منانجق. قوله: (مثبت معين لا يقبل التغيير الخ) يوهم باعتبار المقابلة أنّ الأوّل يقبل التغيير والتأثير في تغييره إما من الخلق بالقتل ونحوه وهو ليس مذهب أهل السنة كما بين في محله أو من الخالق وهو أيضاً مما اختلفوا فيه فقيل الأرزاق والآجال مقدرة لا تتغير عما علمه الله، وأتا ما ورد في الأحاديث من أنّ صلة الرحم تزيد في العمر ونحوه، فقد قيل فيه إنّ المراد الزيادة بالبركة والتوفيق للطاعة أو هو بالنسبة لما يظهر للملائكة في اللوح المحفوظ وبه فسر قوله تعالى: {يَمْحُو اللهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [سورة الرعد، الآية: 39] وقيل المراد طوله ببقاء الذكر الجميل وهو ضعيف، وقال الماوردي وحمه الله قد تقرّر أنه تعالى عالم بالآجال والأرزاق وغيرها وحقيقة العلم معرفة المعلوم على ما هو عليه فإذا علم الله موت زيد في زمن كذا استحال موته قبله أو بعده وعلى هذا حمل قوله تعالى ثم قضى أجلا وأجل مسمى عنده كذا في شرح مسلم وهو وجه من وجوه هذه الآية ومعنى عنده أنه مستقل بعلمه وفيه إشارة إلى أن علمه حضوريّ ليس كعلمنا، وقيل الأجلان واحد والتقدير، وهذا أجل مسمى فهو خبر مبتدأ محذوف وعنده خبر بعد خبر أو متعلق بمسمى. قوله: (ولأنّ المقصود بيانه الأن الآية سيقت لبيان البعث وهو الدال عليه في الوجوه الثلاثة الأول وأما في الأخير فلأنه حينئذ ظاهر في الدليل إلا نفسي وفي نسخة ولأنه المقصود بيانه بالذات.
تنبيه: أعلم أنه قال في الكشاف فإن قلت الكلام السائر أن يقال عندي ثوب جيد ولي
عبد كيس، وما أشبه ذلك، فما أوجب التقديم قلت أوجبه أنّ المعنى وأقي أجل مسمى عنده تعظيماً لشأن الساعة، فلما جرى فيه هذا المعنى وجب التقديم، وقال النحرير: يعني أنه قدم لأنه قصد التعظيم فإنه مما يناسب الاهتمام التقديم، وظاهر عبارة الكتاب أن هذا التعظيم مستفاد من معنى الاستفهام المعتبر في مثل هذا المنكر كأنه لغرابته، وعظم رتبته مما يسأل عنه ويستفهم عن حاله، والاستفهام يقتضي صدر الكلام، وبهذا يندفع(4/12)
ما يقال إنه يكفي في إيثار التقديم الترجيح فأفي حاجة إلى اعتبار الوجوب والإيجاب كما في عبارته ولا يحتاج إلى تأويله بأنّ الراجح واجب في حكم البلاغة وقال بعض علماء العصر فيما قاله النحرير نظر لأنّ أيا هذه ليست للاستفهام إنما هي لمعنى آخره، وفي المغني إنها تكون شرطية ودالة على الكمال نعم يمكن(4/13)
أن يقال إنها منقولة من الاستفهام كما قاله الرضي: معتذراً عن ابن الحاجب لما لم يذكرها بأنها في الأصل استفهامية فمعنى رجل أفي رجل أنه عظيم يسأل عن حاله لأنه لا يعرفه كل أحد انتهى لكن لا شبهة في أن أياً هذه لا تقتضي الصدارة لانسلاخ الاستفهام عنها بالكلية، ولو اقتضت الصدارة لزم أن يقال برجل أقي رجل مررت، وهذا جليّ جداً وبهذا ظهر أنّ في
توجيهه سهواً ظاهر اهـ، وإذا أحطت خبراً بما ذكرناه وبما قاله أبو حيان في الاعتراض على الزمخشري بأنه إذا كان التقدير وأفي أجل مسمى عنده كانت أيّ صفة لموصوف محذوف تقديره وأجل أفي أجل ولا يجوز حذف الصفة إذا كانت أيا ولا حذف موصوفها وابقاؤها ولو قلت مررت بأقي رجل تريد برجل أفي رجل لم يجز، وقال المعرب بعد هذا لا نسلم أن ما ذكره الزمخشري من التقدير يلزمه عليه حذف الموصوف بل هي مبتدأ كقولك أيّ رجل عندك وأيّ رجل زيد انتهى، وهذا ما قالوه بأسرهم من المتقدمين والمتأخرين (وأنا أقول أليس فيه ما طبق المفصل وأصاب المحز، فإذا نظرت بعين البصيرة عرفت أنّ العلامة يريد أنّ النكرة المخبر عنها بالظم ف يلزم تقدم ظرفها، وإنما تخلف هنا لأنها قصد بها التعظيم، وما قصد به ذلك حقيق بالتقديم والتعظيم من التنكير والتنوين لأنه في معنى أفي أجل ونظره به لأنه واضح كثير ولم يرد أنّ فيه لفظ أي مقدرا، وهو ظاهر لغير أكمه البصيرة، ويؤيده أن القاضي وغيره ذكروا التعظيم ولم يذكروا أياً والنحرير وغيره فهموا أن فيه أيا مقدرة فورد عليهم أمور ارتكبوا التكلف لدفعها، والعلامة إذا عرج إلى سماء المعاني لم يتوكا على عصى، وإذا حكم على المعاني لم تقرع له العصى، فإن قلت: إذا كان وجوب التقديم فيما وضع للاستفهام وجواز عدمه إذا انسلح عنه فالظاهر أنه فيما حمل عليه ليس كذلك لأن الأصل ليس كالنائب قلت هذا مما يتراءى في بادئ النظر، وعند التحقيق الظاهر خلافه لأنّ الأصل تكفيه أصالته شاهداً فلا يضرّ تخلفه أحيانا بخلاف الطارىء فإنه محتاج للبيان لتبادر الذهن إلى المعنى الأصلي فتأمله فإنه حقيق بذلك. قوله: (استبعاد الخ (إشارة إلى أنّ ثم هنا يجري فيها ما مرّ، وقوله: وخالق أصولهم يحتمل أن يريد بأصولهم آباءهم وجمعها لتعذدهم أو لتعدد فروعهم إن أريد ما ذكر في قوله: خلقكم من طين لا الآباء ولا العناصر أو موادهم إذ يؤخذ هذا من الأرض المرادة وما فيها. قوله: (وإبقائها ما يشاء كان أقدر الخ) ما يشاء إشارة إلى الآجال، وأقدر بمعنى أظهر قدرة وهو كقوله تعالى: {أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [سورة الروم، الآية: 27] لأنّ من صنع شيئا وأوجد ماذته سهل عليه صنع مثله فيقاس عليه إعادته أو هو لزيادة استعداد القابل لما أفيض عليه من الصور أوّلاً والا فالقدرة القديمة بالنسبة إلى جميع مقدوراتها على السواء فمعنى التفضيل فيها ما ذكر إمّا على طريق التمثيل والقياس إلى القدرة الحادثة التي تتفاوت قدرتها أو بالقياس إلى القابل لا الفاعل بزيادة استعداده للقبول، وأمّا بالنسبة إلى الفاعل فالكل على السواء فهو إمّا كناية عن زيادة ذلك الاستعداد أو أفعل التفضيل من المبنى للمجهول مثل ما أشغله أي أكثر ما تتعلق به القدرة، وفي كلام المصنف رحمه الله إشارة إلى أن متعلق الامتراء تقديره تمترون في البعث، لا في الله فإنه لا يناسب ما تقدم من التصريح بكفرهم، وأن المعاد بضم الأجزاء واعادتها لا
بإيجاد بعد إعدام وتحقيقه في الأصول. قوله: (فالآية الأولى دليل التوحيد الخ) وجه دلالة الثانية ظاهر على تفسيره ووجه دلالة الأولى أنه إذا كان لا يليق الثناء والتعظيم بشيء سواه لأنه المنعم لا أحد غيره لزم أن لا معبود ولا إله سواه بالطريق الأولى، ولا حاجة إلى ملاحظة برهان التمانع وأن الآية إشارة إليه لأنها بالذات إنما تدل على وجود الصانع لا التوحيد وإنما أوقعه في هذا التكلف حمل الدليل على البرهان العقلي، أو مقدماته التي يتألف منها أشكاله والمصنف رحمه الله قلما يستعمله بهذا المعنى كما يعلم من تتبع كلامه، ولذا قال بعض الفضلاء كونها دليل التوحيد ظاهر على أن يكون يعدلون من العدل وأئا كونه من العدول فباعتبار إجراء الخلق والجعل على الله وذكر بربهم، ولذا قال بعض المدتقين إنه ميل إلى ترجيح كون يعدلون من العدل، وقد أشار إليه في مفتتح كلامه أيضا بقوله ونبه على أنه المستحق إلى قوله: ليكون حجة على الذين هم بربهم يعدلون لأنّ(4/14)
السورة مسوقة للردّ على أصناف المشركين، واعترض عليه بأنه غفلة عما زعم أنه تحقيق، وليس كما زعم والآية الثانية مستقلة في الدلالة على البعث إن فسرنا الأصول بالتفسير الأوّل، والا فهي غير مستقلة ومتعلق الامتراء عند المصنف رحمه الله البعث كما مرّ، وفي الكشاف إنه استبعاد لأنّ يمتروا فيه بعد ما ثبت أنه محييهم ومميتهم وباعثهم فيكون متعلقه وجوده تعالى وهو موجه بناء على أن الأجل المسمى بمعنى القيامة فإنها دالة على البعث، وجعل بعضهم دليل البعث من خلق السماوات والأرض على منوال قوله: {أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاء بَنَاهَا} [سورة النازعات، الآية: 27] وهو خلاف الظاهر. قوله: (وأصله المري الخ) قال الراغب رحمه الله المرية التردد في المتقابلين وطلب الإمارة مأخوذة من مري الضرع إذا مسحه للدرّ.
ومنه أخذ المصنف رحمه الله وقيل الامتراء بمعنى الجحد، وقيل الجدال، وعلى الوجه الأوّل وجه المناسبة أن الشك سبب لاستخراج العلم الذي هو كاللبن الخالص من فرث ودم. قوله: (الضمير دلّه (هذا قول الجمهور، وقال: أبو عليّ هو ضمير الشأن والله مبتدأ خبره ما بعده والجملة مفسرة لضمير الله وعلى هذا فإن تعلق الجارّ به فالحمل ظاهر الفائدة والا فهو على حد أنا أبو النجم وشعري شعري أي هو المعروف بالألوهية الأظهر من الخفي كما سيأتي تحقيقه. قوله: (متعلق باسم الله والمعنى الخ) في الكشاف متعلق بمعنى اسم الله كأنه فيل وهو المعبود فيها ومنه قوله: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاء إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ} [سورة الزخرف، الآية: 84] أو وهو المعروف بالإلهية أو المتوحد بالإلهية فيها أو وهو الذي يقال له الله فيها لا يشرك به في هذا الاسم غيره، وحاصله أنه لما توجه هنا أنّ الظرف لا يتعلق باسم الله لجموده، ولا بكائن
لأنه يكون ظرفاً دلّه وهو منزه عن المكان والزمان أجاب عنه بأربعة أوجه، ولذا قال النحرير: لا خفاء في أنه لا يجوز تعلقه بلفظ الله لكونه اسماً لا صفة، وكذا في قوله في السماء إله وفي الأرض إله لأنّ إلها اسم وان كان بمعنى المعبود كالكتاب بمعنى المكتوب فهو متعلق بالمعنى الوصفيّ الذي تضمنه اسم الله كما في قولك، هو حاتم في طيىء على معنى الجواد، والمعنى الذي يعتبر هنا يجوز أن يكون هو المأخوذ من أصل اشتقاق الاسم أعني المعبود أو ما اشتهر به الاسم من الألوهية وصفات الكمال، ودل عليه هو الله مثل أنا أبو النجم وشعري شعري أي المعروف بذلك في السماوات والأرض، أو ما يدل عليه التركيب الحصر! من التوحد والتفرّد بالألوهية، أو ما تقرّر عند الكل من إطلاق هذا الاسم عليه خاصة فهذه أربعة أوجه لا خفاء فيها وفي كيفيتها، وليس معناها أن يحمل لفظ الله على معناه اللغوي أو المعروف أو المتوحد بالإلهية أو يقدر القول انتهى، وفيه بحث لأنه لا وجه لجعله متعلقا بالجملة جميعها ولا نظير له، وان جعله متعلقأ بلفظ الجلالة فلا بد من أخذ ذلك المعنى منه فيلزمه الرجوع إلى ما قاله الشراح وسيأتي ما يصححه على بعد، والمصنف رحمه الله لما اختار سابقاً أنه اسم للمعبود اختار هنا تعلقه بالاسم الكريم باعتبار أنه في المعنى المراد منه ملاحظ فيه معنى الصفة والجار والمجرور يكفي في تعلقه مثل ذلك فلا حاجة إلى اعتبار معنى آخر خارج عنه، ولم يقل المعبود ليصح الحصر المستفاد من تعريف الطرفين لأنه عبد غيره لكنه بغير حق، ولأن معناه بعد الغلبة المعبود بحق لا مطلق المعبود كما فصل في أوّل الكتاب، وإذا اتضح المراد سقط الإيراد، فلا وجه لما أورد عليه من أن الاستحقاق قائم به، وليس فيهما، فلو كان المعنى هو المعبود فيهما كما في الكشاف لصح لأن عبادته واقعة فيهما إذ المراد هو المعبود بحق فيهما ولا حاجة إلى أنه كني عن المعبودية بحق بام! تحقاق المعبودية وكذا الأوجه لقوله لو أريد هو المحمود فيهما لكان مناسباً لفاتحة السورة والحاصل أن كلامه مبنيّ على الأصح عنده من كونه وصفاً في الأصل بمعنى المعبود بحق أو المحير للعقول، وأمّا عند جعله اسماً مطلقا على المعبود كصاحب الكشاف فبأن ضمن اسمه معنى الوصف المذكور لكفاية رائحة الفعل فيه كان يلاحظ فيه بعض لوازمه، وما اشتهر به أو ما اعتبر عند وضعه للمعنى، الأوّل كقوله:
أسد عليّ وفي الحروب نعامة
والثاني نحو هو حاتم في بلده والثالث ما نحن فيه على ما ذهب إليه صاحب الكشاف،
ثم إنه قيل لاختلاف مذهبهما في اسم الله اختلفت عبارتهما بزيادة لفظ المعنى وعدمها انتهى وفيه نظر. قوله: (لا غير) إشارة إلى الحصر المستفاد(4/15)
منه فقيل إنه مستفاد من تعريف المسند كما أشار إليه بقوله هو المستحق للعبادة بناء على كون أصله الإله وبذلك الحصر جوّز
الزمخشريّ تعلق الجار بمعنى اسم الله على تقدير المتوحد بالألوهية في السماوات والأرض وجوّز كون يعلم سركم وجهركم بيانا وتقريراً معللاً بأنّ الذي اسنوى في علمه السر والعلانية هو الله وحده، وهو ماخوذ من كلام الزجاج فإنه جعله ردّاً على المشركين حيث قال: المعنى هو المنفرد بالتدبير في السماوات والأرض خلافاً للمخذول القائل بأن المدبر فيهما غيره واليه أشار بقوله المتوحد بالألوهية فيهما، قال ابن الحاجب رحمه الله: وفائدة قوله أنا زيد الأخبار عما كان يجوز أنه متعدد بأنه واحد في الوجود وهذا إنما يكون إن كان المخاطب قد عرف مسميين أحدهما في ذهنه، والآخر في الوجود فيجوز أن يكونا متعدّدين فماذا أخبر المخبر بأحدهما عن الآخر كان فائدته أنهما في الوجود ذات واحدة فالإلهية بمعنى التدبير وهي المصحح للظرفية والتعلق به، وان توحده بذلك والحصر مستفاد من تعريف الطرفين سواء فيه الألف واللام وغيرهما كالعلمية كما يؤخذ من كلام الكشاف، وبه صرح ابن الحاجب وما وقع في بعض الكتب المعاني مما يقتضي أنّ التعريف المفيد للحصر إنما يكون بالألف واللام أو الموصولية يخالفه، ولكن الفضل للمتقدم والتوحد وإن استفيد من تعريف الطرفين، وهو يحصل بالمجموع لكنه نسبة بينهما يصح إسناده إلى الثاني لأنه متمم الفائدة فلذا صح تعلقه به باعتباره إذ لا وجه لتعلقه بالجملة فتأمل، فقول المحشي في وجه الحصر إنه بناء على كون أصله الإله غير مسلم، والذي غرّه ظاهر ما في كتب المعانيد، ولذا رد بعضهم تعلقه باعتبار معنى المتوحد فقال من غفل عن حصول معنى المتوحد من التركي! الحصري واعتبر معنى الحصر بعد التأويل بالمتوحد وقال إنما هو المتوحد في الإلهية لا غير لم يصب محزه، ثم إنه أورد على هذا الوجه أنّ التوحد بالألوهية أمر لا تعلق له بمكان من الأمكنة فلا معنى لجعله متعلقاً بمكان فضلاً عن جميع الأمكنة، واللازم من استواء السر والعلانية في علمه تعالى كون العالم هو الله تعالى لا وحدته نعم يلزم منه كونه هو الله دون غيره لكن أين هذا من التوحد الذي كلا منافيه، ويدفع بأن الألوهية تدبير الخلق كما عرفت وهو يتعلق بهما وبمن فيهما ومن تفرّد بتدبير جميع أمور أحد لزمه معرفة جميعها حتى يتم له تدبيرها فالجملة الثانية لازمة للأولى فلا وجه لما أورده فتدبر. قوله: (والجملة خبر ثان الخ) يعني على الوجهين ويجوز أن يكون كلاما مبتدأ بمعنى هو يعلم سركم وجهركم كذا قدرو. كما هو دأبهم في الجملة المستأنفة فقيل هو مستدرك، وقيل قد جرت عادته في مثله أن يقدر مبتدأ، ولا يظهر له وجه يعتد به تلت ليس هو أبو عذرته فإنه قدره كذلك قدماء النحاة وفي دلائل الإعجاز إنه يقدر ذلك فيما إذا كان المستأنف فعلاَ فاعله ضمير مستتر فإنّ الظاهر ارتباط الكلام مما قبله لعود ضمير منه عليه فاذا قدّر ذلك ظهر انقطاعه عما قبله فسلك به مسلك النعت المقطوع رفعاً وان لم يكن ثمة ضرورة ملجئة إليه، وعلى الابتدائية هل هو استئناف بياني جواباً لسؤال مقدّر كأنه لما قيل هو المعبود والمعروف بالألوهية الخ قيل ما شأنه فقيل يعلم سركم الخ أو استئناف نحوي من غير تقدير
سؤال، ورجحه الفاضل وغيره لأن تقدير السؤال تكلف. قوله: (ويكفي لصحة الظرفية كون المعلوم فيهما كقولك رميت الصيد قي الحرم إذا كنت خارجه والصيد فيه) وكتب الفاضل المدقق هنا نقلاً عن الإمام التمرتاشي في الإيمان أنه إذا ذكر ظرف بعد فعل له فاعل ومفعول، كما إذا قلت إن ضربت زيداً في الدار أو في المسجد فإن كانا معا فيه فالأمر ظاهر، وان كان الفاعل فيه دون المفعول أو بالعكس فإن كان الفعل مما يظهر أثره في المفعول كالضرب والقتل والجرح فالمعتبر كون المفعول فيه وان كان مما لا يظهر أثره فيه كالشتم فالمعتبر كون الفاعل فيه، فلذا قال: بعض الفقهاء لو قال إن شتمته في المسجد أو رميت إليه فشرط حنثه كون الفاعل فيه، وان قال إن ضربته أو جرحته أو قتلته أو رميته فشرطه كون المفعول فيه وهو محل الرمي الأول بمعنى إرسال السهم من القوس بنيته وذلك مما لا يظهر له أثر في المحل، ولا يتوقف على وصوف فعل الفاعل فيعد من قبيل الأوّل والرمي الثاني إرسالط السهم، أو ما يضاهيه على وجه يصل(4/16)
إلى المرمى إليه فيجرحه أو يوجعه ويؤلمه ولذلك يكون من القبيل الثاني، والإمام البزازي لعدم وقوفه على هذا الفرق الذي نبهوا عليه قال وفي كل فعل له أثر في المحلوف كالشتم والرمي يعتبر كون المحلوف عليه في المسجد لا الحالف والطحاوي جعل الرمي كالشتم وهذا في استعمال العرف، وأما في العربية فلم نر فيه تفصيلاً وكلامهم هنا يخالفه لأنّ العلم لا يظهر له أثر في المعلوم، ولذا قيل إنه لا يصح قياس النظم بالمثال لأنّ الرمي له أثر في المحل دون العلم، وقيل في وجهه إنّ العالم إذا لم يكن له مكان أصلا لم يصح نسبة علمه إليه بالحصول فيه لكن إذا كان علمه متعلقا بما فيه صار كأنّ العلم فيه فجاز جعله ظرفا له، وأمّا ما ذكره من المثال فوجهه أنّ الرمي شيء ممتد من انفصال ما به الرمي من السهم وغيره إلى آن الوصول إلى المرمى فبعض أجزاء ذلك الرمي الممتد لما وقع في الحرم جاز جعله ظرفاً له، ومن هذا ظهر صحة أن يقال رميت الصيد في الحل باعتبار ما وقع فيه من أجزاء ذلك الممتد، وأما إذا أريد بالرمي حدوثه، فالصحة منحصرة في هذا القول باعتبار جزئه الأوّل فقط فتأمل اهـ، وهو غير سديد إذ لا يوافق استعمال اللغة ولا العرف وما ذكره من كون الفاعل لا يحويه مكان لا يوافق ما مثل به المصنف رحمه الله وما تكلفه له لا وجه له مع ما في تعبيره من الخلل، ولهذا المقام تحقيق لعل الله يمن به في محله. قوله: (أو ظرف مستقر وقع خبرا الخ) إمّا خبر بعد خبر إن كان الله خبراً دمان كان بدلاً فظاهر، وقوله: كأنه فيهما الخ قيل يعني أنّ الآية الكريمة من التشبيه البليغ كزيد أسد والمعنى الله كائن في السماوات والأرض بحذف حرف التشبيه للمبالغة، وقال النحرير معنى كونه فيهما أنه عالم بما فيهما على التشبيه والتمثيل يعني الاستعارة التمثيلية شبهت حالة علمه بهما بحالة كونه فيهما لا! العالم إذا كان في مكان كان عالما به وبما فيه بحيث لا يخفى عليه شيء منه وفيه بحث إذ لا يظهر وجه الشبه الجامع
بينهما وقوله لأن العالم إذا كان في مكان لا يدل على ما اذعاه، ثم قال: ويجوز أن يكون كناية فيمن لم يشترط جواز المعنى الأصلي، ولا يستقيم هذا الكلام بدون هذا المجاز أو الكناية ورذ بأنه يستقيم إذا حمل على المبالغة كما مز انتهى، وما أورد على التمثيل ليس بوارد لأنه شبهت الحالة التي حصلت من إحاطة علم الله بهما وبما فيهما بحالة بصير تمكن في مكان فنظره وما فيه، والجامع بينهما حضور ذلك عنده، وجوز فيه أن يكون مجازا مرسلاً باستعماله في لازم معناه وهو ظاهر وأن يكون استعارة بالكناية بأن شبه بمن تمكن في مكان، وأثبت له ما هو من لوازمه وهو علمه به وبما قيه. قوله: (ويعلم سركم وجهركم بيآن وتقرير له الخ (يعني على كون الظرف خبرا، وهو كالقرينة له فلذا جعله بيانا لأنّ القرينة تبين المراد، ولما كان معنى كونه فيهما إحاطة علمه كان هذا تقريراً وتوكيدآ لدلالته عليه فلا وجه لما تيل الأولى أن يقول أو تقرير، وجوز الزمخشري كونه خبراً ثالثأ بناء على أنّ القرينة فيه عقلية، وهي أنّ كل أحد يعلم أنه تقدس وتعالى منزه عن المكان والزمان كما في قوله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ} [سورة الحديد، الآية: 4] إذ لم يردف بما يبينه فلا يرد أنه لو جعل خبراً انتفت القرينة. قوله: (وليس متعلق المصدر الخ (لأنّ معمول المصدر لا يتقدم عليه، والمراد بالمصدر السر والجهر فيكون من التنازع ويلزمه أيضا التنازع مع تقدم المعمول وفيه خلاف أيضا، وأمّا ما قاله ابن هشام رحمه الله من أنه إنما يمتنع تقدمه إذا قدر بحرف مصدري وفعل وهذا ليس كذلك فليس مما منعوه فقد رذه الشارح بأنّ تقديره ما يسرون وما يجهرون، وفيه نظر، ومنهم من يجوز تقدم الظرف لكنه قيل إنّ المصدر هنا بمعنى المفعول فلا يؤول بالموصول الحرفي والفعل، وقيل عليه إن هذا وإن صح لفظاً لا يصح معنى لأنّ أحوال المخاطبين لا معنى لكونها في السماء، والقول بأنّ المعنى حينئذ يعلم نفوسكم المفارقة الكائنة في السماوات أو نفوسكم المقارنة لأبدانكم الكائنة في الأرض خروج عن الظاهر، وتعسف لا يخفى قلت وهو وارد على المصنف رحمه الله أيضا لا من جهة أنه جعل المانع من جهة العربية فأشعر بصحته معنى بل على وجه تعلقه بالفعل، وجعل الظرفية باعتبار المفعول فإنه يقتضي أن سر المخاطبين في السماوات أيضا، ولذا تركه بعضهم اللهم إلا أن يقال إنه كناية عن إحاطة العلم بالخفيّ، والظاهر كقوله تعالى: {لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ} [سورة سبأ، الآية: 3] ، ولذا قال(4/17)
بعض المتأخرين لعل جعل سرهم وجهرهم فيها لتوسيع الدائرة، وتصوير أنه لا يعزب عن علمه شيء في أي مكان كان لا لأنهما قد يكونان في السماوات أيضا، وأمّا تعميم الخطاب للملائكة فتعسف مع أن السياق يقتضي أنه على هذا لا يحتاج إلى التأويل كما في الخبرية، فهذا صلح عن غير تراض.
قوله:) من خير أو شرّ الخ) رتب عليه قوله فيثيب الخ إشارة إلى أنّ علمه تعالى عبارة
عن جزائه فتنمّ مغايرته لما قبله، وقوله ولعله أريد بالسر والجهر الخ، قال خاتمة المدققين فإن قلت هذا إنما يظهر إذا لم يتعلق في السماوات بيعلم، وأمّا إذا تعلق به فلا إذ لا تكون السماوات ظرفاً لأحوال أنفس المخاطبين قلت الآية الكريمة حينئذ من تغليب المخاطبين على الملائكة وفيه بعد لا يخفى، وقد فسر السر بالنفوس والجهر بالأبدان، ثم قيل على تقدير تعلق الظرف بالفعل المذكور يكون المعنى يعلم نفوسكم المفارتة في السموات، ونفوسكم المقارنة لأبدانكم في الأرض، وفيه بحث فإنّ الخطاب على هذا يكون للمؤمنين، وقد يكون فيما قبل للكافرين فتفوت المناسبة والارتباط، ثم كيف يفعل إذا تعلق الظرف بالمصدر مع أنّ أبدان المخاطبين ليست في السماوات ولعل الأولى والله أعلم أن يقال المراد بالسر ما كتم عنهم من عجائب الملك، وأسرار الملكوت مما لم يطلعوا عليه وبالجهر ما ظهر لهم من السموات، والأرض فإضافة السر والجهر إلى ضمير المخاطبين مجازية، وفيه نظر، ومراد المصنف رحمه الله بيان المغايرة بين المتعاطفين أيضا كما أن منهم من دفعه باختصاص الأوّل بالأقوال وهذا بالأفعال، وقيل عليه أحوال الأنفس كيف تكون ظاهرة وأجيب بأنه باعتبار ما يدل! عليها من الجوارح كما تظهر آثار الغضب والفرح، وغيرها من الأحوال النفسية. قوله: (من الأولى مزيدة للاستغراق) قيل أي لتأكيده فإنّ النكرة في سياق النفي للاستغراق، ويحتمل عدمه احتمالاً مرجوحا كما في قولك ما رجل في الدار بل رجلان بجعل النفي عائداً إلى وصف الفردية خصوصأ، وأمّا إذا كان مع من الاستغراقية لفظا نحو ما من رجل في الدار أو تقديراً نحو لا رجل في الدار فهو نص في الاستغراق، ولا يحتمل عدمه لثونه لنفي الجنس بالكلية وهذا مخالف لما حققه ابن مالك في التسهيل من أنه إذا كانت النكرة بعدها لا تستعمل إلا في النفي العام كانت لتأكيد الاستغراق نحو ما في الدار من أحد وإذا كانت مما يجوز أن يراد بها الاستغراق ويجرز أن يراد بها نفي الوحدة أو نفي الكمال كانت من دالة على الاستغراق نحو ما جاءني من رجل فتأمل. قوله: (والثانية للتبعيض (وجعلها ابن الحاجب تبيينية فقال النحرير، ولا يستقيم إلا إذا كانت النكرة في النفي بمعنى جميع الإفراد لما صرحوا به من أنه لا بد من صحة حمل المبين على المبين، وما قاله من أنها لو كانت تبعيضية لما كانت الأولى استغراقية ممنوع لصحة قولنا ما يأتيهم بعض من الآيات من أفي بعض كان، ومبني كلامه على اعتبار التبيين والتبعيض بعد اعتبار النفي، وإفادة الشمول والإحاطة فيصح التبيين، ولا يصح التبعيض حينئذ لكن لا يخفى إمكان اعتباره بعد اعتبار التبعيض فتأمل انتهى، وفيه بحث فإنّ الشمول والإحاطة في أمثاله يكون على البدل لا الاجتماع حتى لا يصح التبعيض، وحاصله أن التناول لكل فرد الذي هو مدلول النكرة المنفية قد يستلزم الحكم على المجموع كما فيما نحن فيه فإنّ مآل المعنى إلى أنّ المجموع ليس إلا معرضا عنه لهم فبالنظر إليه جاز كون من بيانية، وتحقيقه أنّ هاهنا اعتبارين
أحدهما أن يلاحظ أوّلاً معنى آية منكراً ويلاحظ تعلق من آيات ربهم به ثم يسلط النفي عليه فحينئذ تكون تبعيضية البتة وثانيهما أن يسلط النفي عليه أوّلاً ثم يلاحظ تعلق من آيات ربهم به فحينئذ يجوز أن تكون تبيينية نظراً إلى لازم الحكم هذا ما قيل في تصحيح كونها بيانية لكنه خلاف الظاهر، ومع هذا لا وجه لقوله لو كانت تبعيضية لما كانت الأولى استغراقية لكونه في حيز المنع لأن الاعتبار على الوجه الثاني، ثم النظر إلى لازم الحكم ليس بأمر واجب وأيضا الاستغراق هاهنا لآية متصفة بالإتيان فهي وان استغرقت بعض من جميع الآيات. قوله:) أي وما يظهر لهم دليل قط الخ) يريد أن الآية في الأصل العلامة وتستعمل بمعنى الدليل، والمعجزة والآية القرآنية، واستعمال قط مع المضارع ليس بجيد لأن قط ظرف مختص بالماضي إلا أن يريد بقوله ما يظهر(4/18)
ما ظهر ولا حاجة إلى مثله ولما كان الإتيان، والمجيء يوصف به الأجسام فسره بيظهر استعمالاً له في لازم معناه مجازاً لا كناية كما قيل، والوجوه مرتبة الأعم فالأعم ولا حاجة إلى تقييد كل بغير الذي بعده لتتغاير الوجوه كما قيل المراد بالدليل دليل الوحدانية، أو البعث فيقابل المعجزة. قوله:) تاركين للنظر فيه غير ملتفتين إليه) لما كان حقيقة الإعراض في العنق وصرف الوجه عن شيء من المحسوسات فسره هنا بمعنى ترك النظر في الدليل والاعتناء به مجازاً، ولما كان المشهور في هذا المجاز عدم الالتفات أردفه به وقيل فسر الإعراض عن الدليل بترك النظر فيه، ثم قيده بعدم الالتفات إليه إشارة إلى أنه لا قدج فيه للتقليد لأنّ المقلد بتقليده المجتهد ملتفت إلى دليله ولا يخفى بعده ونبوّ المقام عنه، وذكر الضمير نظرا إلى الدليل أو القرآن كما يدل عليه ما بعده. قوله:) وهو كاللازم لما قبله الخ) فيه وجهان أحدهما أن الفاء سببية ما بعدها مسبب عما قبلها كما اختاره في البحر، وقوله: كأنه قيل الخ بيان يحصل به المعنى، والثاني أن هنا شرطا مقدراً تقديره كما في الكشاف، وغيره إن كانوا معرضين عن الآيات فقد كذبوا بالحق لما جاءهم، والأوّل ظهر وكلام المصنف رحمه الله مبنيّ عليه، وما قيل إن الفاء على هذا الوجه للسببية أفادت تسبب ما بعدها أعما قبلها فهي في المعنى جزائية لشرط مقدر تقديره لما كانوا معرضين كما ذكرد المصنف رحمه الله خلط، وخبط لأنّ لما جوابها الماضي لا يقترن بالفاء على الصحيح الفصيح ألا ترى أن المصنف رحمه الله أسقطها في بيان المعنى، والفاء الفصيحة لا تقدر جواب لما، ولم نسمع أحداً من النحوييون قدرها بذلك، وكيف يقدر للفاء ما يقتضي عدمها، بقي أنّ الزمخشريّ قال: إنه مردود على كلام محذوف أي متعلق به في معرض الجزاء، وهو يستعمل مردودا بمعنى الجزائية والتبعية كثيراً فقيل لأن الشرط سبب في الحقيقة للجزاء إذ المعنى إن كانوا معرضين عن الآيات فلا تعجب فقد كذبوا بما هو أعظم آية يعني القرآن، وهو أشد من الإعراض انتهى،
فقدر الفصيحة محذوفة بناء على جواز حذفها كما أشار إليه الزمخشري في تفسير قوله تعالى: {كَذَلِكَ يُحْيِي اللهُ الْمَوْتَى} [سورة البفرة، الاية: 73] إذ المعنى فضربوه فحيي فحذف ذلك لدلالة قوله كذلك يحيي الله الموتى، والعجب منه أنه تال: ثمة يعني حذف ضربوه المعطوف على قلنا شائع في الفاء الفصيحة، وهنا قد حذفت الفاء الفصيحة في فحيي مع المعطوف بها أيضا بدلالة قوله كذلك الخ انتهى، ورده بعض الفضلاء فقال: من زعم أن الفاء في فحيي فصيحة فقد غفل عن أنّ ذلك على تقدير أن تكون مذكورة وما تبلها محذوفا، وأما إذا حذفا معا وقدرا معاً كالذي نحن فيه فالفاء سببية محضة وليس بشيء لأنه متفق على صحة مثل هذا التقدير، وقد قدره هو هنا كذلك وصرج به الكرماني في مواضع من الحديث النبوي فإن كان محصل رذه أنها لا تسمى فصيحة فنزاع لفظيّ لأنها إذا حذفت لا تفصح عن محذوف فلا تسمى فصيحة، ومن سماها فصيحة أراد أنه لو صرح بها أفصحت عنه والأمر فيه سهل، وقد مز قي سورة البقرة تفصيله. قوله: (أو كالدليل عليه الخ) قيل هذا بناء على أنّ الفاء يكون ما قبلها مسببا عما بعدها، وعكسه وجعلها النحاة والأصوليون على هذا تعليلية نحو أكرم زيداً فإنه أبوك واعبد الله فإن العبادة حق، قال الرضي: وقد تكون فاء السببية بمعنى لام السببية وذلك إذا كان ما بعدها سببا لما تبلها نحو اخرج منها فإنك رجيم، ولم يذكر إنها تفيد الترتيب حينئذ ولما كانت الفاء للتعقيب والسبب متقدّم على المسبب لا متعقب إياه تكلف صاحب التوضيح لتوجيهه بأنّ ما بعد الفاء علة باعتبار معلول باعتبار، ودخول الفاء عليه باعتبار المعلولية لا باعتبار العلية، وردّ بأنها لا تتأتى في كل محل، وفي التلويح الأقرب ما ذكره القوم من أنها إنما تدخل على العلل باعتبار أنها تدوم فتتراخى عن ابتداء الحكم وفي قوله فتتراخى الخ تسمح إذ التراخي يناسب، ثم لا الفاء ومراده أنها تعقب آخره، وفي شرح المفتاح الشريفي فإن قلت كيف يتصوّر ترتب السبب على المسبب قلت من حيث إن ذكر المسبب يقتضي ذكر السبب انتهى، فقد علمت وجه الترتيب فيها على سائر الوجوه وهو الذي أشار إليه المصنف بقوله ولذلك رتب عليه بالفاء لكن ظاهر كلام النحاة، وغيرهم أن هذه الفاء تختص بالوقوع بعد الأمر، والوجه الأوّل يجري على الوجوه الثلاثة في تفسير الآية لتغاير الأعراض!(4/19)
والتكذيب وعبارة المصنف عندي تحتمل وجها آخر، وهو أن يكون فاعل رتب لفظ فسوف يأتيهم بمعنى أنه لما كان أمراً عظيماً يدل على ما هو عبرة رتب عليه الوعيد المذكور فتأمل. قوله: (أي سيظهر لهم ما كانوا به يستهزئون (لم يذكر النبأ في التفسير لأن إضافته بيانية أي النبأ الذي استهزؤوا به، وهو إخباره عن الوعد والوعيد كقوله: {وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ} [سورة ص، الآية: 88] أو لأنه جعل إتيان لنبأ كناية عن الظهور كقوله:
ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
وعلى الأوّل الإتيان وحده مجاز عن الظهور كما مر ولا وجه لادّعاء أنّ الإنباء مقحم،
وأنّ المعنى سيظهر لهم ما استهزؤوا به من الوعيد الواقع فيه أو من نبوّة محمد كي! ونحوه لأنه لا داعي لإقحامه. قوله: (والقرن الخ (اختلف في القرن هل هو زمان معين أو أهل زمان مخصوص، واختار بعضهم أنه حقيقة فيهما، وقد اختلف فيه السلف فقيل هو من الاقتران ومعناه الأمّة المقترنة في مدة من الزمان واليه أشار المصنف رحمه الله بقوله: من قرنت وقيل من قرن الجبل لارتفاع سنهم وقوله: أهل زمان بناء على ما مرّ لا على تقدير مضاف أو تجوّز، واختلف في تعيين الزمان فقيل مائة وعشرون سنة وقيل مائة وقيل ثمانون وقيل سبعون وقيل ستون وقيل ثلاثون وقيل عشرون وقيل المقدار الأوسط في أعمار أهل كل زمان، ولما كان على هذا لا ضابط له بضبطه قال الزجاج قيل معناه أهل عصر فيهم نبيّ أو فائق في العلم على ما جرت به عادة الله، ويحتمل أنه مائة لما ورد أنّ على رأس كل مائة مجدداً فلا يقال إنه تقييد بلا دليل، والرؤية هنا إمّا بصرية أو علمية وهذا أظهر لأنهم لم يعاينوا القرون الخالية، وكم استفهامية أو خبرية معلقة لما قبلها، وهي في محل نصب على أنها مفعول به لأهلكنا أو مصدر بمعنى إهلاك أو على الظرفية بمعنى أزمنة، ومن في من قرن بيانية أو تبعيضية أو مزيدة كما في إعراب أبي البقاء وغيره 0 قوله: (مكناهم الخ) استئناف بيانيّ كأنه قيل ما كان حالهم، وقال أبو القاء: إنها في موضع جر صفة لقرن لأنّ الجمل بعد النكرات صفات لاحتياجها إلى التخصيص، وجمع الضمير باعتبار معناه، وقيل عليه أنت خبير بأنّ تنوينه التفخيمي مغن له عن استدعاء الصفة على أنّ ذلك مع اقتضائه أن يكون مضمونه، ومضمون ما عطف عليه من الجمل الأربع مفروغا عنه غير مقصود لسياق النظم مؤذ إلى اختلال النظم الكريم كيف لا، والمعنى حينئذ ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن موصوفين بكذا وكذا وبإهلاكنا إياهم بذنوبهم وإنه بين الفساد انتهى وهذا غفلة منه أو تغافل عن تفسيرهم له بقولهم لم يغن ذلك عنهم شيئاً فالمراد به حقيقة الإهلاك، والا لزم التكرار وتفريع الشيء على نفسه وأما على هذا فلا يرد شيء مما ذكره أصلاً وما ذكره من أمر التنوين ليس بشيء. قوله: (جعلنا لهم فيها مكاناً) قال الزمخشريّ: معنى مكن له جعل له مكانا ومعنى مكنته في الأرض! أثبته فيها وقرّرته ولتقاربهما جمع بينهما في النظم هنا بمعنى أنهما وان تغايرا مدلولاً إلا أنهما اجتلبا للدلالة على السعة في الأموال والبسطة في الأجسام لأنّ التمكين فيها لا يكون إلا بذلك، وكذلك لا يجعل لهم مكاناً يتمكنون فيه كما أحبوا إلا بعدهما فاتحدا مقصوداً، وأمّا نكتة التخصيص فللإشارة
إلى زيادة سعة من قبلهم وقوتهم لأنّ مكنه أبلغ من مكن له، والمصنف رحمه الله أشار إليه بتفسير أحدهما بالآخر، وقد يقالى أنّ مراده أنهما بمعنى بناء على عدم الفرق المذكور، ففي التاج إنهما مثل نصحته ونصحت له، وقال أبو عليّ: اللام زائدة كما في ردف لكم وكلامه في سورة الكهف وكلام الراغب في مفرداته يؤيده والفرق بين التفسيرين أنّ الأول بمعنى ثبتناهم في الأرض بإطالة الأعمار في سعة ورفاهية، والثاني بأن جعلناهم متصرفين فيها ملكا وملكاً وهما متقاربان. قوله: (ما لم نجعل لكم من السعة وطول المقام) إشارة إلى ما مر من تفسير مكنا، وفي ما هذه وجوه لأنها إمّا موصولة صفة لمحذوف تقديره التمكين الذي لم نمكنه لكم والعائد محذوف أو نكرة أي تمكينا لم نمكنه وعليهما فهي مفعول مطلق، وقيل إنها مفعول به لأنّ مكنا بمعنى أعطينا وقيل هي مصدرية أي مذة عدم تمكينكم، وكلام المصنف رحمه الله محتمل لغير الأخير وتفسيره بالجعل المذكور لبيان المقصود الذي جعل كناية عنه كما في الكشف، ولا حاجة إلى جعله تجريداً كما قيل وقوله: يا أهل مكة إشارة إلى أنّ الخطاب للكفرة وقيل إنه لجميع الناس وقيل للمؤمنين. قوله: (أو ما لم نعطكا(4/20)
من القوّة والسعة) إشارة إلى أنّ مكناهم كناية عن إعطاء ما تمكنوا به من أنواع التصرف فقوله: {مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ} بمعنى ما لم نعط فما مفعول به وإليه أشار في الكشاف حيث قال والمعنى لم نعط أهل مكة نحو ما أعطينا عاداً وثمودا وغيرهم من البسطة في الأجسام والسعة في الأموال والاستظهار بأسباب الدنيا فلم يهمل موقع ما كما ظنه النحرير والوجه الأوّل ناظر إلى أنّ مكنا بمعنى جعلنا لهم مكانا وهو كناية عن السعة وطول المقام والثاني ناظر إلى أنه بمعنى التقرير والتثبيت وهو كناية عن القوّة المذكورة ويصح أيضا جعله مفعولاً مطلقاً على أنه بيان لمحصل المعنى، ثم إذا كانت ما بمعنى تمكينا فالمراد التثنية نحو ضربته ضرب الأمير وأشار في الكشاف إلى أنه من التشبيه المقلوب وهو أبلغ لأنّ تمكن عاد ونحوهم أقوى فالظاهر جعله مشبهاً به، وما قيل في بيان كلام المصنف رحمه الله هنا إنه من المكنة أي القدرة وما موصولة بحذف العائد وهي كالبدل من المكنة المدلول عليها بمكنا، وان جعلناه لمجرّد الإعطاء يكون مفعول أعطينا وما ذكر في الكشاف المعنى على عكسه، فإنّ المعنى أعطينا عاداً وغيرهم ما لم نعط أهل مكة انتهى يعلم ما فيه مما مر مع أنّ جعله من المكنة بضم فسكون بمعنى القدرة لا يصح لأنّ المكنة بهذا المعنى لا أصل لها في اللغة وان كانت شائعة في كلام العوام وجعل ما في تقريره صفة وقد صرّح أبو حيان بمنعه وأنه لا يوصف بغير الذي من الموصولات وقوله كالبدل لا يخفى ما فيه من الخلل، والعدد بالضم جمع عدة وهي السلاح ونحوه ولكم في النظم التفات ميز به بينهم وبين أهل مكة ليتضح مرجع الضميرين وهذه نكتة في الالتفات لم يعرّج عليها أهل المعاني وله وجه آخر وهو مواجهتهم بضعف حالهم تبكيتا لهم. قوله: (أي المطر أو السحاب الخ) السماء على هذين مجاز، وهو
مشهور، وعلى الآخر حقيقة والتجوّز في إشاد الإرسال إلى السماء لأن المرسل ماء السحاب واليه أشار بقوله فإنّ مبدأ المطر منها، والمظلة بلفظ اسم الفاعل، والمدرار مفعال كمنحار صيغة مبالغة يستوي فيه المذكر والمؤنث ومغزارا من الغزارة وهي الكثرة. قوله: (فعاشوا في الخصب والريف) الخصب بالكسر كثرة الزروع والثمار ضد الجدب، والريف هنا سعة المأكل والمشرب والاً رض القريبة من الماء ولا ينبغي تفسيره هنا بأرض فيها خصب وزرع ولم يقل أجرينا الأنهار كما قال أرسلنا السماء للدلالة على كونها مسخرة مستمرّة الجريان لا لأنّ النهر لا يكون إلا جاريا فلا يفيد الكلام لأنّ النظم حينئذ ناظر إلى كونه من تحتهم ولو كان ما ذكره صحيحا لما ورد في النظم كقوله: {تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} [سورة البقرة، الآية: 25] والظاهر أن جعلنا هنا بمعنى أنشأنا أوجدنا وهو مخصوص به تعالى فلذا غير الأسلوب وفاء فأهلكنا للتعقيب لا فصيحة لأنّ بذنوبهم لا يقتضي ما قدروه وهو فكفروا بل يأباه فتأمّل. توله: (وينشئ مكانهم آخرين الخ) يعني أنه تتميم لما قبله كما قال الزمخشري لأنه لا يتعاظمه أن يهلك قرنا ويخرب بلاده منهم فإنه قادر على أن ينشئ مكانهم آخرين يعمر بهم بلاده كقوله: {وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا} [سورة الشمس، الآية: 5 ا] وفيه إشارة إلى أنهم قلعوا من أصلهم، ولم يبق أحد من نسلهم لجعلهم آخرين، وكونهم من بعدهم. قوله: (مكتوباً في ورق) في نسخة في رق ويشير به إلى أنّ الكتاب بمعنى المكتوب والجارّ والمجرور صفة كتاب أو متعلق بنزلنا والقرطاس بكسر القاف، وضمها معرب مخصوص بالمكتوب، أو أعم منه ومن غيره. قوله: (فلا يمكنهم أن يقولوا إنما الخ) أي لا يحتمل أن يقولوا إذا ترك العناد والتعنت، واعترض با! اللمس هنا إنما يدفع احتمال كون المرئيّ مخيلاً، وأمّا نزوله من السماء فلا يثبت به، وأجيب بأنه إذا تأيد الإدراك البصري في النزول بالإدراك اللمسي في المنزل يجزم العقل بديهة بوقوع المبصر جزماً لا يحتمل النقيض، فلا يبقى بعده إلا مجرّد العناد مع أنّ حدوثه هناك من غير مباشرة أحد يكفي في الإعجاز كما لا يخفى. قوله: (وتقييده بالأيدي الخ) سواء كان اللمس مخصوصا باليد لقول الجوهري اللمس المس باليد أو أعم لقول الراغب في مفرداته المس إدراك بظاهر البشرة كاللمس، وهو ظاهر قول المصنف رحمه الله في سورة الجن اللمس المس مستعار
للطلب كالجس ووجه دفع التجوّز ظاهر كما في قولهم نظرت بعيني ويقولون بأفواههم وقيل في وجهه أن التنصيص على القيد المعتبر يفيد اعتباره فيكون تأكيداً للشيء لإعادة جزئه المقصود منه فكأنه إعادة له(4/21)
والتأكيد يعين الحقيقة كما ذكره أهل المعاني فما قيل إنه إنما قيد به لأنّ الإحساس باللصوق يكون بجميع الأعضاء ولليد خصوصية في الإحساس ليست لسائرها، وأما التجوّز باللمس عن الفحص فلا يندفع به إذ لا بعد في أن يكون ذلك لبيان مباشرتهم للفحص بأنفسهم بل يندفع لكون المعنى الحقيقي أنسب بالمقام انتهى غنيّ عن الجواب إذ لا قرينة تصرف عن المعنى الحقيقي بل قرينة التأكيد قائمة على خلافه، وكذا ما قيل إنّ فيه تجريداً حيث ذكر بأيديهم فمعنى قوله لدفع التجوّز لدفع فساد التجوّز، والا فقد وقع في التجوّز ومعنى سكرت الأبصار غمضت وأقفلت، وأمّا قول بعضهم تقييده بالأيدي لدفع التجوّز سواء كان اللمس أعم مما هو باليد كما هو المفهوم من الكتب الكلامية، أو كان المس باليد كما هو المتبادر من كتب اللغة فغفلة عما نقلناه عن الراغب، ولا يليق نقل اللغة من كتب الكلام. قوله: (إن هذا إلا سحر مبين) أي ظاهر كونه سحراً، وقيل المراد به تعنتا أنه ليس بمخيل وان كان السحر لا يكون إلا مخيلا وفيه نظر ووضمع الظاهر موضع المضمر إشارة إلى أنه قول نشأ من كفرهم أو لأنّ المراد به قوم معهودون. قوله: (هلا أنزل معه ملك يكلمنا أنه نبي الخ) يعني لولا هنا للتحضيض والمقصود به التوبيخ على عدم الإتيان بملك يشاهد معه حتى تنتفي الشبهة بزعمهم أي هلا أنزل عليه ملك يكون معه يكلمنا أنه نبيّ فأوجز في العبارة تعويلا على انفهامه وليس معه تفسيراً لقوله عليه فلا يتوجه ما قيل إنه جعل على بمعنى مع كقوله تعالى: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ} [سورة البقرة، الآية: 177] أو جعل المعية منفهمة منه لأنّ النزول ليس في حال المقارنة إلا أن يحمل على الحال المقدرة والداعي إلى هذا أنّ النزول عليه ليس مطلوبا لذاته بل ليكون معه نذيراً. قوله: (جواب لقولهم الخ) يصح في الخلل الجرّ عطفاً على ما في قوله لما والرفع عطفا على المانع والمراد بالمانع اقتضاء هلاكهم وبالخلل زوال قاعدة التكليف كما سيأتي. قوله: (والمعنى أن الملك لو أنزل بحبث عاينوه الخ) في الكشاف هنا ثلاثة وجوه أمّا لأنهم إذا عاينوا الملك قد نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم في صورته وهي آية لا شيء أبين منها وأيقن ثم لا يؤمنون كما قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلآئِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى} [سورة الأنعام، الآية: 11 ا] لم يكن بدّ من إهلاكهم كما أهلك أصحاب المائدة، وامّا لأنه يزول الاختيار الذي هو قاعدة التكليف عند نزول الملائكة، فيجب إهلاكهم وأمّا لأنهم إذا شاهدوا ملكاً في صورته زهقت أرواحهم من هول ما يشاهدون انتهى، وظاهره اختيار الوجه الأوّل من هذه الوجوه
الثلاثة بدليل قوله: فإن سنة الله قد جرت.. الخ ويحتمل الثاني أيضاً لجريان العادة بذلك في الذين احتضروا من الكفار كفرعون لعنه الله وقوله كما اقترحوه أي في صورته الأصلية قيل وأنت خبير بأنّ الوجه الثاني ينافي الوجه الأوّل لدلالة الأوّل على بقاء الاختيار وأنهم لا يؤمنون إذا عاينوا الملك، قد نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم في صورته، والثاني على سلبه وزواله وأنّ الإيمان إيمان يأس، وفي الانتصاف الوجه أن يكون سبب تعجيل عقوبتهم، بتقدير نزول الملك وعدم إيمانهم أنهم اقترحوا ما لا يتوقف وجوب الإيمان عليه إذ الذي يتوقف الوجوب عليه المعجز من حيث كونه معجز إلا المعجز الخاص، فإذا أجيبوا على وفق مقترحهم فلم ينجع فيهم كانوا حينئذ على غاية من الرسوخ في العناد المقتضى لعدم النظرة، وفي الكشف الاختيار تاعدة التكليف وهذه آية ملجئة قال تعالى {فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ} لما رأوا بأسنا فوجب إهلاكهم لئلا يبقى وجودهم عاريا عن الحكمة إذ ما خلقوا إلا للابتلاء بالتكليف وهو لا يبقى مع الإلجاء هذا تقريره على مذهبهم، وهو غير صاف عن الإشكال انتهى، وفيه إشارة إلى أنه ليس على قواعد السنة وكان وجه إشكاله أنه وقع في القرآن والواقع ما ينافيه كما مر في قوله تعالى: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ} [سورة البقرة، الآية: 259] الآية وترك المصنف رحمه الله الجواب الأخير وان كان منقولاً عن ابن عباس رضي الله عنهما لأنه لا يناسب قوله، ثم لا ينظرون فإنه يدل على إهلاكهم لا على هلاكهم برؤية الملك إلا بتكلف. قوله: (بعد نزوله طرفة عين) في الكشاف معنى، ثم بعد ما بين الأمر قضاء الأمر وعدم الإنظار جعل عدم الإنظار أشد من قضاء الأمر لأنّ مفاجأة الشدة أشد من نفس الشدة، وقيل في لفظ ثم إشارة إلى أنّ لهم مهلة قدر أن يتأملوا فيما نزل فيؤمنوا بالاختيار، وفيه أن قوله: {ثُمَّ لاَ يُنظَرُونَ} عطف على قوله لقضى ولا يمهل(4/22)
للتأمّل بعد قضاء الأمر.
قوله: (لجعلناه رجلاَ) فيه إشعار بأنّ الرسول لا يكون امرأة وهو متفق عليه وإنما اختلف
في نبوّتها. قوله: (جواب ثان إن جعل الهاء للمطلوب الخ) في الكشاف ولو جعلنا الرسول ملكاً كما اقترحوا لأنهم تارة كانوا يقولون لولا أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم ملك وتارة يقولون ما هذا إلا بشر مثلكم ولو شاء ربنا لأنزل ملائكة قال النحرير في شرحه يعني أنّ لهم اقتراحين أحدهما أن ينزل على محمد صلى الله عليه وسلم ملك في صورته بحيث يعاينه القوم فأجيبوا بقوله ولو نزلنا ملكا لقضى الأمر، والآخر أن ينزل إلى القوم ويرسل إليهم كان الرسول البشر ملك فأجيبوا بقوله ولو جعلناه أي الرسول المنزل إلى القوم ملكاً لجعلناه في صورة رجل وضمير جعلناه للرسول المنزل إلى القوم لا لمطلق الرسول سواء كان إلى محمد صلى الله عليه وسلم او إليهم لأنه ليس بلازم حي! حذ أن يجعل رجلاً إلا إذا خص بأن يعاينه القوم أيضا ليصح قوله لأنهم لا يبقون مع رؤية الملائكة في
صورهم والمراد بالمطلوب مقترحهم الذي اقترحوه في الآية السابقة وهو أن يكون معه ملك أنزل عليه، ولذا قيل عن كونه جوابا ثانياً إنه يأباه جعلناه ملكاً فإنّ المناسب حينئذ أن يقال ولو أنزلنا ملكاً لجعلناه رجلا قيل ولا يخقى اندفاعه بقول المصنف رحمه الله ولو جعلنا قريناً لك ملكاً وأيضاً لا فرق بين هذا وبين كونه جواباً لاقتراح آخر في كون المناسب ما ذكر لأنهم قالوا لو شاء ربنا لأنزل ملائكة ولا يخفى أن الفرق مثل الصبح ظاهر، ولا يضره التعبير بالإنزال فيهما، وعلى قوله إن جعل الهاء للمطلوب إنّ المطلوب أيضا ملك إلا أن يقال لو جعلنا المطلوب ملكيته ملكاً وأنت خبير بأنّ المطلوب هو النازل المقارن للرسول دل عليه قوله والمعنى ولو جعلناه قريناً لك ملكا فلا غبار عليه، ثم إن لزوم جعل الملك النازل رجلا لجعله ملكا كما هو مفهوم الآية الثانية ينافي لزوم هلاكهم له كما هو مفهوم الآية الأولى لتوقف الثاني على عدم الأوّل لأنّ مبناه على نزوله في صورته لا في صورة رجل فالوجه أن لا تكون الآية جواباً آخر بل جوابا عن اقتراح آخر حتى لا يلزم المنافاة وإنما قيده بقوله: يعاينوه لأنه إذا لم يطلب المعاينة لم يلزم تمثله رجلاً لكن لا يخفى أن هذا القيد معتبر أيضاً في رجوع الضمير إلى الرسول فالأولى أن يؤخر عن قوله أو الرسول ملكا ليصرف إلى الوجهين معاً قلت هذا كلام مختل فإنه على تقدير كونه جوابا آخر يكون جوابا على طريق التنزل والمعنى لو أنزلناه كما اقترحوا لهلكوا ولو فرضنا عدم هلاكهم فلا بذ من تمثله بشراً لأنهم لا يطيقون رؤيته على صورته الحقيقية فيكون الإرسال لغواً لا فائدة فيه وإنما لم يدّكر المعاينة في الوجه الثاني لأنّ كونه رسولاً لهم يقتضي ملاقاته لهم ومشافهتهم بما أرسل به وهو ظاهر. قوله:) دحية) بكسر الدال ويجوز فتحها كما نقل عن الأصمعيّ وا! مشهور الأوّل وهو دحية بن خليفة الكلبيئ الصحابيّ رضي الله عنه كان من أجمل الناس صورة، ولذا كان جبريلءش! هـ يتمثل في صورته أحيانا إذا جاء لرسول الله صلى الله عليه وسلم كما رواه أصحاب السنن ومعنى دحية رئي! الجند. قوله:) وإئما رآهم كذلك الإفراد من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام الخ (يصح في من أن تكون تبيينية وتبعيضية لأنّ الإفراد بمعنى المنفردين من بينهم بخصائص ليست لغيرهم وهم بعض الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أو الأفراد الذين هم أنبياء لا كلهم لأن منهم من لم يشاهدهم علر صورتهم الحقيقية، وقيل فيه خفاء قال النيسابوري رحمه الله أن نبينائلمجي! لما رأى جبريل علب الصلاة والسلام بصورته غشي عليه وجميع الرسل عليهم الصلاة والسلام عاينوا الملائكة في صورة البشر كأضياف لوط وابراهيم عليهم الصلاة والسلام وكالذين تسوّروا المحراب لكن هذ محتاج إلى نقل من الأحاديث الصحيحة وسيأتي أنه لم يره على صورته الحقيقية أحد غير النبي صلى الله عليه وسلم مرتين مرة في الأرض ومرة في السماء، وأشار المصنف رحمه الله في سورة النجم إل!
عدم تيقنه إذ حكاه وفي تخريج أحاديث الكشاف لابن حجر أنه لم يرد في شيء من كتب الآثار وناهيك به حافظاً فلا يرد ما ذكر على المصنف فمن قال إنها بيانية لا تبعيضية لأن الظاهر أن لكل منهم قوّة قدسية فقد أخطأ من وجهين لأنّ المخصوص بالإفراد رؤية صورة الملك الحقيقية بالقوّة القدسية لا القوّة نفسها.(4/23)
قوله: (وللبسنا جواب محذوف أي ولو جعلناه رجلاَ الخ) الداعي إلى هذا إعادة لام الجواب فإنها تقتضي استقلاله وأنه لا ملازمة بين إرسال الملك والتخليط فإنه ليس سببا له بل لعكسه ولا تكلف فيه كما أنه لا وجه لما قيل إنه لا حاجة إلى هذا التكلف لجواز عطف لازم الجواب عليه وجعل كل منهما جوابا نعم هو وجه آخر صحيح وقد يقال إنّ نكتة إعادة اللام أنّ لازم الشيء بمنزلته فكأنه جواب فاعرفه. قوله: (أي لخلطنا عليهم ما يخلطون على أنفسهم فيقولون ما هذا إلا بشر مثلكم) في الكشاف ولخلطنا عليهم ما يخلطون على أنفسهم حينئذ فإنهم يقولون إذا رأوا الملك في صورة إنسان هذا إنسان وليس بملك فإن قال لهم الدليل على أني ملك أني جئت بالقرآن المعجز وهو ناطق بأني ملك لا بشر كذبوه كما كذبوا محمداً صلى الله عليه وسلم فإذا فعلوا ذلك خذلوا كما هم مخذولون الآن فهو لبس الله عليهم ويجوز أن يراد وللبسنا عليهم حينئذ مثل ما يلبسون على أنفسهم الساعة فذكر فيه وجهين مبني الأوّل على أن يلبسون استقباليّ تقديري موقت بحين جعل الرسول ملكآ والثاني حاليّ تحقيقيّ وهو ما هم عليه حين إرسال محمد-! ي! إليهم ولبسهم على الأوّل التكذيب وقولهم إنه بشر وليس بملك، وعلى الثاني تكذيب محمدءجب! ونسبة الآيات إلى السحر، وما مصدرية وتحتمل الموصولية هكذا قزره النحرير وكلام المصنف رحمه محتمل للمعنيين لكنه ترك قوله: فإذا فعلوا ذلك خذلوا الخ لأنه مبنيّ على الاعتزال وعدم نسبة خلق القبيح إليه تعالى هذا ما في بعض الحواشي وبحتملى أنه اختار الوجه الأوّل وإسناد اللبس إليه تعالى لأنه بخلقه أو للزومه لجعله رجلا ومعنى قول الشارح في حين الجعل أن المراد به مستقبل ممتد وقد يعتبر الواقع فيه كأنه في زمان واحد وقد عبر بهذه العبارة النحاة كابن هشام ومثله مما لا يرتاب فيه، فمن اعترض! عليه بأن الصواب أن الاستقبال التقديري الموقت بما بعد جعل الرسول ملكا لا بحينه وإلا لكان حالاً تقديريا، وأمّا أنّ النظر إلى زمان الجعل والحكم لا إلى زمان التكلم فليس بمطرد كما صرحوا به، فإن قلت كيف صح أنه استقبالي تقديري موقت بحين الجعل ولو للشرط في الماضي والجواب مترتب على الشرط فيكون بعده لا معه في حين واحد قلت ما ذكرته هو الأصل في استعمالها وقد استعملت للاستقبال أيضا، ووردت في كلام العرب كذلك كقوله:
ولو أنّ ليلى الأخيلية سلمت ~ عليّ ودوني جندل وصفائح
لسلمت تسليم البشاشة أو زقا ~ إليها صدى من جانب إلقبر صائح
وأعلم أنّ بعض الفضلاء قال هنا أن المقرّر فيما بين القوم إن صدق العكس لازم لصدق الأصل فعلى ذلك التقدير يلزم من كذب اللازم كذب الملزوم فهاهنا عكس القضية الصادقة، وهي قولنا لو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا غير صادق، لأن عكسها لو جعلناه رجلا لجعلناه ملكاً وليس كذلك لأنه تعالى قد جعله رجلا ولم يجعله ملكا فكيف يكون قضية العكس وهو كاذب، والأوّل صدق محض فإن قيل إنه اصطلاح طرأ ولا يجب موافقة قاعدتهم لقاعدة اللغة قيل إنه تقرّر أنّ تلك القاعدة غير مخالفة لقاعدة اللغة وأنها مما لا خلاف فيه.
وأجيب بأنّ لو تستعمل في اللغة لمعنيين الأول: انتفاء الثاني لانتفاء الأوّل الثاني: أن
الخبر الأوّل لازم الوجود في جميع الأزمنة إذا كان نقيض الشرط أليق باستلزام الجزاء فيلزم وجود الجزاء على تقدير وجود الشرط وعدمه كما في نعم العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه، وقد صرح المحققون بأن الآية سواء جعل ضمير جعلناه للمطلوب أو للرسول إمّا من قبيل الأوّل أي ولو جعلنا قرينا لك ملكا يعاينوه أو الرسول المرسل إليهم ملكا لجعلنا ذلك الملك في صورة رجل، وما جعلنا ذلك الملك في صورة رجل لأنا لم نجعل القرين أو الرسول المرسل إليهم ملكا وأمّا من قبيل الثاني أي ولو جعلنا الرسول ملكاً لكان في صورة رجل فكيف إذا كان إنساناً وكل منهما لا يقبل العكس المذكور ولا ثالث فلا إشكال وليس محل البسط فيه، وإنما ذكرته لأنبهك فلا تكن من الغافلين. قوله:) تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم الخ (يصح في التسلية أن تكون بقوله ولقد استهزئ برسل من قبلك فقط، ويحتمل أنها به مع ما بعده لأنه(4/24)
متضمن أن من استهزأ بالرسل عوقب فكذا من استهزأ بك إن أصرّ على ذلك فلا تلتفت إلى من تكلف هنا ما لا حاجة إليه. قوله: (سخروا منهم) في القاموس هزأ منه وبه وسخر منه وبه، فهما متحدان معنى واستعمالاً فلا وجه لما قيل السخرية والاستهزاء بمعنى لكن الأوّل! قد يتعدى بمن والباء لكن في الدرّ المصون إنه لا يقال إلا استهزى به ولا يتعدى بمن، ثم قال الجارّ متعلق بسخروا والضمير راجع إلى الرسل وقيل إلى المستهزئين وقيل إلى أمم الرسل ومن للبيان، ويردّ الأول بأنه يؤول المعنى إلي فحاق بالذين سخروا كائنين من المستهزئين، ولا فائدة لهذه الحال لانفهامها من سخروا، والثاني بأنه يلزم إرجاعه إلى غير مذكور والجواب أنه مبنيّ على أنّ الاستهزاء والسخرية بمعنى وليس بلازم لأنّ من فسره بهذا يجوز أن يجعل الاستهزاء بمعنى طلب الهزء فيصح بيانه ولا يكون في النظم تكرار، قال الراغب رحمه الله: الاستهزاء ارتياد الهزء وان كان قد يعبر به عن تعاطي الهزء كالاستجابة في كونها ارتياداً للإجابة وان كانت قد نجري مجرى الإجابة انتهى، وأمّا رجوع الضمير إلى الأمم فقد ذكره الحوفي ورده أبو حيان بما ذكر وأجاب عنه في الدر المصون بأنه في قوّة المذكور. قوله: (فأحاط بهم الذي كانوا يستهزؤون به) فسر حاق بمعنى أحاط وفسره الفراء يعاد عليه
وبال أمره، وقيل دار وقيل نزل ومعنإه يدور على الإحاطة والشمول ولا يستعمل إلا في الشر قالط:
فأوطاً جرد الخيل عقر ديارهم وحاق بهم من باس ضربة حائق
وقال! الراغب أصله حق فأبدل من أحد حر في التضعيف حرف علة كتطنب وتطنيب أو
هو مثل ذمّة وذامة والمعروف في اللغة ما ذكره المصنف رحمه الله قال الأزهريّ: جعل أبو إسحق صاق بمعنى أحاط وكان مادته من الحوق وهو ما استدار بالكمرة وخالفه بعض أهل اللغة فقال إنه يائيّ بدليل حاق يحيق. قوله: (حيث أهلكوا لآجله الخ) قيل إنه يعني إن حاق بهم كناية عن إهلاكهم فإسناده إلى ما أسند إليه مجاز عقليّ من قبيل أقدمني بلدك حق لي على فلان، ولقد أغرب من بين المراد بقوله تعالى: {مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِؤُونَ} فقال من العذاب الذي كان الرسول يخوّفهم نزوله فلا تجوّز في الإسناد ولا في المسند إليه فإنه لا دليل على أنّ المراد بالمستهز! به هو العذاب بل المرسل، وبعد تسليمه فقد اعترف بأنّ المراد بالحيق بهم الإهلاك ومعلوم من مذهب أهل الحق أنّ المهلك ليس إلا الله تعالى فإسناده إلى غيره لا يكون إلا مجازا (قلت) ما رذه واستغربه هو ما اختاره الإمام الواحدي واستهزاؤهم بالرسل مستلزم لاستهزائهم بما جاؤوا به وما توعدوا به ومثله لظهوره لا يحتاج إلى قرينة وما توعدوا به هو العذاب، وحيقه بهم لا شبهة في أنه حقيقة، وأمّا تفسيره بالإهلاك فليس تفسير الحاق بل بيان لمؤدي الكلام، ومجموع معناه فلا يرد ما ذكره عليهم. قوله: (أو فنزل بهم وبال استهزائهم) نزل تفسير لحاق وقوله: (وبال) إشارة إلى أنه على تقدير مضاف كوبال وعقوبة، وما مصدرية والضمير للرسول الذي في ضمن الرسل أو هي موصولة، أو هو من إطلاق السبب على المسبب لأنّ المحيط بهم هو العذاب، ونحوه لا المستهزأ لكنه وضحع موضعه مبالغة كما قاله الطيبي. قوله: (عاقبة المكذبين الخ) العاقبة مآل الشيء مصدر كالعافية وكيف خبر مقدم لكان أو حال وكان تامة، وقوله كيف أهلكهم يميل إليه، وكي تعتبروا علة للأمر بالنظر، وعذاب الاستئصال من إضافة العام للخاص والاستئصال قلع الشيء من أصله وإنما فسر به لأنّ الإهلاك بدون الاستصال لا يختص بالمكذبين هذا، وقد قيل إنما عبر عنهم بالمكذبين دون المستهزئين إشارة إلى أن مآل من كذب إذا كان كذلك فكيف الحال في مآل! من جمع بينه وبين الاستهزاء وأورد عليه أن تعريف المكذبين للعهد وهم الذين سخروا فيكونون جامعين بينهما وقد اعترف به هذا القائل أيضا مع أنّ الاسنهزاء بما جاؤوا به يستلزم تكذيبه فتأمّل. قوله: (والفرق بيتة وبين قوله قل سيروا في الأرض فانظروا الخ) في الكشاف فإن قلت أيّ فرق بين قوله فانظروا وبين قوله ثم انظروا قلت جعل النظر مسببا عن السير في قوله: فانظروا فكأنه قيل سيروا لأجل
النظر ولا تسيروا سير الغافلين وأما قوله: {سِيرُواْ فِي الأَرْضِ ثُمَّ انظُرُواْ}(4/25)
فمعناه إباحة السير في الأرض للتجارة وغيرها من المنافع وايجاب النظر في آثار الهالكين، ونبه على ذلك بثم لتباعد ما بين الواجب والمباح قاله النحرير: يعني أنّ كليهما مطلوب لكن الأوّل للثاني وأمّا ثم انظروا فإنما لم يحمل على التراخي لأنّ واجب النظر آثار الهالكين حقه أن لا يتراخى عن السير، وقيل يجوز أن يكونا واجبين، وثم لتفاوت ما بينهما كما في توضأ ثم صل، وقال الراغب رحمه الله: قيل المراد بالسير المترتب عليه النظر إجالة الفكر ومراعاة أحواله كما روي في وصف الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أبدانهم في الأرض! سائرة وقلوبهم في الملكوت جائلة.
(وأورد عليه أبحاث) الأوّل أنّ واجب النظر لما كان حقه أن لا يتراخى عن السير كان المناسب حينئذ ترك لفظ يوهم خلاف المقصود وايراد لفظ يفيده بلا إيهام فإنه مما يجب مراعاته كما تقرر في المعاني، والثاني أن السير من حيث هو سير مباح إلا أن يقيد بقيد يفيد وجوبه فإذا قرن بفاء السببية أمكن حمله على الواجب لأن السير للنظر واجب كالنظر كما أن السير للتجارة مباح كالتجارة ف! ذا قرن بثم فلا وجه لحمله على الواجب إذ ليس في اللفظ ما يشعر به وبين السير والوضوء فرق لا يخفى على من له ذوق، وفي كلام النحرير إشارة إلى ضعفه ثم قال: والتحقيق أنه تعالى قالط هنا ثم انظروا وفي النمل {قُلْ سِيرُواْ فِي الأَرْضِ ثُمَّ انظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} [سورة النمل، الآية: 69] وفي العنكبوت: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ} [سورة العنكبوت، الآية: 20] وفي الروم: {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} [سورة الروم، الآية: 42] فلا بد من بيان وجه تخصيص هذه الآية بثم ولعله أن الفاء تدلّ على أن السير يؤدّي إلى النظر، فيقع موقعه بخلاف ثم ولذا وقعت الفاء في الجزاء فهنا لم يجعل النظر واقعاً عقب السير متعلقاً وجوده بوجوده بل بعث على سير بعد سير لما تقدمه من بعثهم على استقراء البلاد ومنازل أهل الفساد وأن يستكثروا من ذلك ليروا الآثار في ديار بعد يار إذ قال: {أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ} [سورة الأنعام، الآية: 6، الآية فقد دلّ الأوّل على أن الهالكين طوائف كثيرة، والثاني على أن المنشا بعدهم أيضاً كثيرون، ثم دعا إلى العلم بالسير في البلاد ومشاهدة آثار أهل الفساد مما يحتاج إلى زمان ومدة طويلة تمنع من ملاصقة السير بخلاف المواضحع الأخر وهو كلام أكثره واه لكن تحريره وتهذيبه يحتاج إلى تطويل فتأمله، ثم إن أبا حيان رحمه الله اعترض! على الزمخشري بأن ما ذكره متناقض لأنه جعل النظر مسبباً عن السير وهو سبب له، ثم جعل السير معلولاً له حيث قال كأنه قيل سيروا لأجل النظر وأجيب بأن النظر علة للسير باعتبار وجوده الذهني، ومعلول له باعتبار وجوده العيني كما في عامّة العلل الغائية فلا تناقض فإن السبب قد يكون مقدمة للمسبب غير مقصود في ذاته بل ليقع المسبب نحو سرت ففزت بلقائك
وسافرت إلى مكة فحججت، وقد يوقع قصداً من غير نظر إلى المسبب نحو ضربته فبكى وزنى فرجم وقد سبقه إليه بعض المفسرين فقال: هو مسبب وسبب باعتبارين فالنظر سبب في السير بمعنى العلة الغائية فهو سبب ذهنيّ والسير سبب وجودي موصل إلى النظر. قوله: (ولا كذلك هاهنا ولذلك قيل معناه إباحة السير للتجارة الخ) أو رد عليه أنه يأباه سلامة الذوق لأنه إقحام أمر أجنبيّ كبيان إباحة السير للتجارة بين الأخبار عن حال المستهزئين وما يناسبه وما يتصل به من الأمر بالاعتبار بآثارهم وهو مما يخل بالبلاغة إخلالاً ظاهر اهـ، وهذا هان تراءى في بادئ النظر لكنه غير وارد إذ هو غير أجنبيّ لأنّ المراد خذلانهم وتخليتهم وشأنهم من الإعراض عن الحق بالتشاغل بأمر دنياهم كقوله وليتمتعوا. قال العلامة: ثمة في تفسيره هو مجاز عن الخذلان والتخلية وأنّ ذلك الأمر متسخط إلى الغاية ومثاله أن ترى الرجل قد عزم على أمر وعندك أنّ ذلك الأمر خطأ وأنه يؤدّي إلى ضرر عظيم فتبالغ في نصحه واستنزاله عن رأيه فإذا لم تر منه إلا الأباء والتصميم حردت عليه وقلت أنت وشأنك وافعل ما شئت، فلا تريد بهذا حقيقة الأمر كيف والآمر بالشيء مريد له، وأنت شديد الكراهة متحسر ولكنك كأنك تقول له فإذ قد أبيت قبول النصيحة فأنت أهل ليقال لك إفعل ما شئت انتهى، ومنهم من ذهب إلى أن السير متحد فيهما، ولكنه أمر ممتد يعطف بالفاء تارة نظر الآخرة، وبثم نظراً لأوّله ولا فرق بينهما. قوله: (وهو سؤال تبكيت الخ) في الأساس بكته بالحجة غلبه وألزمه ما سكت به لعجزه عن الجواب عنه، والمقصود(4/26)
أنه تقريع لهم وتوبيخ. قوله: (ثقرير لهم) التقرير له معنيان الحمل على الإقرار والتثبيت بأن يجعله قاراً متمكنا ومنه تقرير المسألة وكلاهما مما نطقت به كتب اللغة كما ذكره الطيبي رحمه الله ومعناه على الثاني أنه تقرير للجواب لأجلهم أي نيابة عنهم كما في الكشف، وعلى لأوّل إلجاء إلى الإقرار بأن الكل له، لأن هذا من الظهور بحيث لا يقدر على إنكاره أحد كما قاله النحرير، وأفاد الإمام أن أمر السائل بالجواب إنما يحسن في موضع يكون فيه الجواب قد بلغ من الظهور إلى حيث لا يقدر على إنكاره منكر ولا على دفعه دافع وإليه أشار المصنف رحمه الله بقوله وتنبيه الخ قيل وفيه إشارة إلى أنهم تثاقلوا في الجواب مع تعينه لكونهم محجوجين، يعني أنه سألهم وأجاب عنهم لتعين الجواب فإنه لا يمكن خلافه فهو بمعنى قوله. {تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} [سورة آلى عمران، الآية: 64، وهو دقيق جداً. قوله: (كتب على نفسه الرحمة الخ) النفس هنا بمعنى الذات كما في قوله تعالى: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ} [سورة آل عمران، الآية: 28] وفي شرحي التلخيص والمفتاح في بحث المشاكلة أن منها قوله تعالى: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} [سورة المائدة، الآية: 16 ا] وكذا قال المصنف في المائدة، وأورد عليه أن معنى النفس ذات الشيء مطلقا كما في
الجوهري والكشاف ويؤيده هذه الآية فلا يحتاج إلى المشاكلة واعتبار المشاركة التقديرية غير ظاهر فلذا اختار قدس سره في وجه+ المشاكلة أنه لكونه عبر عن لا أعلم معلومك بلا أعلم ما في نفسك للمشاكلة لوقوع التعبير عن تعلم معلومي بتعلم ما في نفسي لكنه قدس سره قال في شرح الكشاف في وجه إطلاق النفس على القلب إن ذات الحيوان به تكون، وهذا التعليل كما قيل يشعر باختصاص النفس بذات الحيوان، وفيه نظر وتأمل.
(قلت) التحقيق كما مر أن جعل العلم في النفس يقتضي إنه علم بارتسام صورة تنتقش
في النفس، ومثله لا يوصف به الله تعالى فالمشاكلة ليست في لفظ النفس في الآية بل في ظرفية العلم لها فقول المصنف في المائدة الآية من المشاكلة، وقيل المراد بالنفس الذات ليس بظاهر إلا أن يقال النفس مشتركة بين معنيين أحدهما يطلق عليه تعالى، والآخر لا يطلق عليه وهي هنا بالمعنى الثاني بقرينة مقابلها فيحتاج إلى المشاكلة، وبهذا يصح أن يقال إنّ المشاكلة في النفس وبه يجمع بين التوجيهين ويتضح تلاقي الطريقين، ومن هذا ظهر أنه لا يتوجه ما قيل أما قوله: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي} فقد قيل إنه للمشاكلة وإن أريد به الذات، وليس بشيء لأنّ مبناه على أنه لولا قوله تعلم ما في نفسي لم يجز أن يقال، ولا أعلم ما في نفسك لعدم إذن الشرع في إطلاقه عليه تعالى ويبطله الآيتان ا! ، وأمّا ما مر من قول النحرير في وجه إطلاق النفس على القلب الخ. وما أورد عليه فغير وارد لأنه بيان لتجوّز آخر فيه وهو إطلاقه على القلب فتأمل. قوله: (التزمها تفضلاَ الخ) ردّ للوجوب عليه تعالى الذي هو مذهب الحكماء والمعتزلة، ولذا غير ما في الكشاف إلى ما ذكره وقوله: ومن ذلك الهداية الخ توجيه لارتباط الآية بما قبلها، وما بعدها ليأخذ الكلام بحجزه وهو ظاهر. قوله: (اسئشاف وقسم الخ) قيل هو استئناف نحوي لا بياني ومن حمله على الثاني وقال في بيانه كأنه قيل وماتلك الرحمة فقيل إنه تعالى. {لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} وذلك لأنه لولا خوف الحساب والعذاب لحصل الهرج والمرج وارتفع الضبط وكثر الخبط أورد عليه أنه إنما يظهر ما ذكر هل لو كانوا معترفين بالبعث وليس كذلك، ثم إنّ قوله إنه تعالى ليجمعنكم ليس بصحيح، وصوابه يجمعكم لفقد شرط لحوق النون في كلامه انتهى، وهو ردّ لما وقع في اللباب، وهو في الحقيقة تكلف لا يتوجه فيه الجواب إلا باعتبار ما يلزم التخويف من الامتناع عن المناهي المستلزم للرحمة وكلام المصنف رحمه الله لا يناسبه فلا ينزل عليه وأمّ المناقثة في العبارة فغير واردة لأنها المشاكلة ما وقع في النظم أو لحكايته، وقد وقع هذا التركيب في مواضع من القرآن وللنحاة فيه أقوال فذهب بعضهم إلى أنّ اللام بمعنى أن المصدرية وليست قسمية وهو بدل مما قبله بدل مفرد من مفرد، وردّه ابن عطية بأنه لا وجه لدخول النون حينئذ لأنه ليس من مواضعها واعتذر له أبو حيان بأنها
دخلته لكونه على صورة القسم، وقيل إنها قسمية مستأنفة كما مز وقيل إنه اجواب لقوله: {كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} لأنه يجري مجرى القسم وقوله: على إشراكهم واغفالهم النظر هو مأخوذ من مضمون الآيات السابقة. قوله: (مبعوثين إلى يوم القيامة الخ) أي(4/27)
هو متعلق بمبعوثين من بعث بمعنى أرسل لا بمعنى أهب فلا يحتاج تعديته بإلى إلى تضمين شيء آخر كالضم والانتهاء، ولا جعله حالاً إلى توجيه فإنّ من مات مرسل إلى يوم القيامة وفيه أنّ البعث يكون إلى المكان لا إلى الزمان إلا أن يراد بيوم القيامة واقعتها في موقعها كقولهم شهد يوم بدر أي واقعته، أو هو لغو متعلق بيجمع كما مرّ في سورة النساء. قال الزمخشريّ: فيها المراد جمع فيه معنى السوق والاضطرار كما تقول حشرت اليوم إلى موضع كذا فوصل الجمع بإلى إلى هذا المعنى كما قيل ليبعثنكم ويسوقنكم ويضطرنكم إلى يوم القيامة أي إلى حسابه، وبهذا اندفع ما مرّ من أنّ البعث يكون إلى المكان كما مرّ فتأمّل 0 قوله: (وإلى بمعنى في) كما ذكر. النحاة واستشهدوا بقوله:
فلا تتركني بالوعيد كأنني إلى الناس مطليّ به القارأجرب
وتأوّله بعضهم بتضمين مضافا أو مبغضا أو مكرهاً، وقال ابن هشام: لو صح مجيء إلى بمعنى في لجاز زيد إلى الكوفة بمعنى في الكوفة ولا يرد إلا إذا قيل إنه قياسيّ مطرد وقيل إنها بمعنى اللام وقيل زائدة. قوله: (وقيل بدل من الرحمة بدل البعض) على أنه جملة لا مفرد كما مز، وقد ذكر النحاة أنّ الجملة تبدل من المفرد ولم يتعرّضوا الأنواع البدل فيه، والمراد أنّ القسم وجوابه بدل، فلا يرد عليه أنّ الجواب لا محل له من الإعراب، وإذا كان بدلاً يكون في محل نصب فيتنافيان، واستغنوا عن ذكر القسم بهذه الجملة، لأنها مذكورة في اللفظ كما يقولون جملة القسم والمراد القسم وجوابه فيستغنون بذكر أحدهما عن الآخر لا سيما إذا كان محذوفا كما في الدرّ المصون. قوله: (لا ريب) حال من اليوم أو صفة لمصدر أي جمعاً لا ريب فيه، ويحتمل أنّ الجملة تأكيد لما قبلها كما مرّ في ذلك الكتاب لا ريب فيه، ثم إعلم أنّ ظاهر قول المصنف رحمه الله وانعامه ربما يفهم منه أنّ خطاب ليجمعنكم عام للمؤمنين والكافرين بعد كونه خاصا بالكافرين وربما يذهب إلى تخصيصه بما مرّ، وتفسير الأنعام بعدم استئصالهم، وتعجيل العذاب أو نعمة الإيجاد ونحوها وفيه بعد. قوله: (بتضييع رأس مالهم وهو الفطرة الأصلية الخ) هذا جواب عما يقال إنّ الخسران مترتب على عدم الإيمان وقد عكس في النظم فلما فسر الخسران بعدم الفطرة والعقل اندفع المحذور وظهر الترتب المذكور، وفي الكشاف فإن قلت كيف جعل عدم إيمانهم مسبباً عن خسرانهم، والأمر على العكس قلت معناه الدّين خسروا أنفسهم في علم الله لاختيارهم الكفر فهم لا يؤمنون، قال النحرير: هذا يشعر بانّ
الفاء تفيد السببية، وان لم تكن داخلة على الخبر عن الموصول مع الصلة، وقد سلم في الجواب السببية حيث اقتصر على تفسير الخسران بحيث يصح أن يجعل سابقاً على امتناعهم عن الإيمان، وسببا له وهو الخسران في علمه تعالى ولما كان هذا يكاد أن يخالف أصول المعتزلة حيث جعل العلم بأنهم لا يؤمنون سبباً لعدم الإيمان بحيث لا سبيل لهم إليه كما هو رأي أهل السنة أشار إلى دفعه بقوله: لاختيارهم الكفر ولو قال باختيارهم لكان أظهر في المقصود يعني أنّ علم الله تعالى بأنهم يتركون الإيمان، ويؤثرون الكفر صار سببا لامتناعهم عن الإيمان باختيارهم، وأمّا عند أهل السنة فقد صار ذلك سبباً لعدم إيمانهم بحيث لا سبيل إليه أصلاً، وبهذا يندفع ما قال الإمام الرازي: إنّ هذا يدلّ على أن سبق القضاء بالخذلان والخسران هو الذي حملهم على الامتناع من الإيمان، وذلك عين مذهب أهل السنة انتهى فقد علمت أنّ علم الله الأزلي بالأشياء قبل وقوعها كما هي يقتضي أن تقع على وفقه ولا تتخلف عنه، وبهذا الاعتبار صح أن يقال علم الله سبب أو علة لوقوعها فالاعتراض عليه بأنّ المعتزلة لا يجعلون علم الله تعالى سبباً للمعلوم أصلاً بل يقولون إنه تبع للمعلوم كما يعترف به الأشاعرة في إثبات صفة الإرادة فهذا التوجيه يخالف أصول المذهبين، والأولى أن يقال السبب هو اختيار الكفر لا العلم به وإنما أقحم العلم لتحقيق ذلك الاختيار، ويجوز أن تجعل الفاء لاستلزام الأوّل للثاني لا للسببية، وهذا الردّ بأنّ العلم تابع للمعلوم وهم، لأنّ معنى كونه تابعاً له أنّ خصوصية العلم وامتيازه عن سائر العلوم إنما هو باعتبار أنه علم بحقيقة ذلك لشيء، وهويته وهو لا ينافي كون المعلوم تابعا له في الوجود والتحقق(4/28)
وسيأتي تحقيقه إن شاء الله تعالى في سورة يونس، والفطرة الخلقة وخلقة الإنسان على الفطرة والسداد، وخلافها الآفة وجعلها رأس المال استعارة لطيفة كقول عمارة:
إذا كان رأس المال عمرك فاحترس عليه من الإنفاق في غير واجب
ثم إنه قيل إنّ كلام المصنف رحمه الله يقتضي أنّ خسروا هنا من الخسران بمعنى عدم الربح، وهو لا يصح لأنه لازم بل المراد أنهم نقصوا أنفسهم بتضييع! الفطرة التي يتوصل بها إلى الكمال وليس كما قال لأنّ خسر متعد قال تعالى: {خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [سورة الحج، الآية: اا] والذي غرّه ظاهر كتب اللغة ولا عبرة به مع وروده في الكلام الفصيح، وتضييع الفطرة تركها واتباع الهوى، وقيل: إنّ السؤال يدفع من أصله بأنّ سبق القضاء بالخسران سبب لعدم الإيمان وفيه أنّ السبب حينئذ يكون القضاء به لا نفسه، والتأويل بأن السبب هو الخسران في علم الله لا يجدي فإنه إذا حقق السبب فهو العلم به، وفيه ما فيه. قوله: (وموضع الذين نصب على الذم أو رفع على الخبر) أي أذمّ أو أريد أو أعني، وقيل إنه بدل من ضمير ليجمعنكم بدل بعض من كل بتقدير ضمير، أو هو خبر مبتدأ على القطع عن البدلية أيضاً فإن قلت كيف ذكروا قطعه هنا والقطع في النعت والضمير لا ينعت قلت قال
الرضي: استدل الأخفش بهذه الآية على الإبدال من الضمير، والباقون يقولون هو نعت مقطوع للذم إمّا مرفوع الموضع أو منصوبه ولا يلزم أن يكون كل نعت مقطوع يصح اتباعه نعتا، بل يكفي فيه معنى الوصف ألا ترى إلى قوله تعالى: {وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ، الَّذِي جَمَعَ مَالًا} ، [سورة الهمزة، الآية: 1] انتهى فإن قلت: يكفي جعله خبر مبتدأ مقدر أو معمول فعل مقدر ولا حاجة إلى ارتكاب ما ذكر قلت كأن الذي دعاه إليه أنّ مجرّد التقدير لا يفيد المدح والذم إلا مع القطع. قوله: (وأنتم الذين الخ) قدر ضمير الخطاب ليرتبط بما قبله، وهو يقتضي أنّ الخطاب قبله للكفرة وسبق الكلام فيه. قيل كان الظاهر أنتم بلا واو، وكان أصله أنه ذكر عام النصب والرفع فسقط من القلم المعطوف عليه أي أذم وأنتم ونحوه ويحتمل أنه إشارة إلى أنّ الجملة على هذا التقدير معترضة أو حالية وقد صرح الطيبي رحمه الله بأنها تذييل لما قبلها وفيه نظر. قوله: (والفاء للدلالة على أنّ الخ) المتبادر بناؤه على الوجه الأخير فعلى الأوّلين يجوز أن يكون لتعليل الخسران بعدم الإيمان، وأن يكون للتفريع فيفيد السببية على الوجوه كلها كما في الكشاف، وهذا دفع للسؤال الذي أورده الزمخشرقي بطريق آخر، وهو حمل الخسران واضاعة رأس المال على الجري على ما لا تقتضيه الفطرة كما مرّ تحقيقه ولم يعرّج عليه لمخالفته للأصلين بحسب الظاهر كما مر، وهذا صريح في أنّ سببيته إنما هي لأصل عدم إيمانهم وبحسب لقائه كان سببا لبقائه ولما كان الواقع هاهنا صيغة نفي الاستقبال في لا يؤمنون كان اللازم منه هو الثاني، ولذا قال: أدى بهم إلى الإصرار على الكفر فلا تنافي بين أوّل كلامه وآخره لأنّ المراد بعدم إيمانهم عدمه في المستقبل وهو عين الإصرار. قوله: (عطف على دلّه الخ) إمّا عطف مفردين على مفردين حذف أحدهما أو عطف جملة على جملة والمقصود دخوله تحت قل ليكون احتجاجا ثانيا على المشركين وقيل إنها مستأنفة وما موصولة لا غير. قوله: (من السكنى وتعديته بفي الخ) جعله من السكنى ليتناول الساكن والمتحرّك من غير تقدير يعني كما أنّ له ما في الأمكنة له ما في الأزمنة وتعديته مبتدأ وقوله بفي خبره ومنهم من جعل الخبر قوله كما الخ وجعل قوله بفي متعلقا بتعديته والمراد أنّ تعديته بفي على الأصل في الأمكنة المحدودة، ثم أجيز حذفها من نحو دخلت وسكنت، ونزلت حيث يقال دخلت الدار ونزلت الخان وسكنت الغرفة لكثرة الاستعمال وانتصاب ما بعدها على الظرفية، وقال الجرمي: إنه مفعول به، وردّ بأنها لازمة فإنّ غير الأمكنة بعد دخلت يلزمها في نحو دخلت في الأمر وفي مذهب أبي حنيفة وكثيراً ما يستعمل في مع الأمكنة أيضا نحو سكنتم في مساكن الذين وتجيء مصادرها على الفعول؟ كذا قال الرضي: وأورد عليه أنه يفهم منه لزوم في هذا المقام فإنّ الليل
والنهار ليسا من الأمكنة، والجواب عنه أنّ مراده بقرينة المثال الظرف المجازي وأيضا السكنى(4/29)
حق استعمالها في المكان وهنا قيل إنه شبه الاستقرار بالزمان بالاستقرار في المكان فاستعمل استعماله فيه ولك أن تقول إنه مشاكلة تقديرية لأنّ معنى له ما في السماوات والأرض ما سكن فيهما واستقر فلذا عدى تعديته، وإليه أشار المصنف رحمه الله بقوله والمعنى ما اشتملا عليه من قال قوله: وتعديته بفي يشعر بأنه يجيء متعدياً بنفسه أيضاً بناه على أنّ خبر تعديته قوله كما الخ كما مرّ. قوله: (أو من السكون الخ) فهو من الاكتفاء بأحد الضدين كما في قوله: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} [سورة النحل، الآية: 81] ولذا عطف المقدر بأو إشارة إلى التضاد وعدم الاتجماع ولو عطف بالواو صح، وإنما اكتفى بالسكون عن ضد. دون العكس لأنّ السكون أكثر وجودا، وردّ بأنه لا وجه للاكتفاء بالسكون عن التحرك في مقام البسط والتقرير، واظهار كمال الملك والتصرّف قيل وفي كلام المصنف رحمه الله إشارة إلى دفعه، فإنّ السكون مع ضده كناية عن جميع التغيرات والتصرفات الواقعة في الليل والنهار، فناسب المقام ورذ بأنه لو سلمت الإشارة المذكورة لا يندفع بها قوله لا وجه للاكتفاء بالسكون عن التحرك في مقام البسط، وفيه نظر، ثم إنه قيل إنّ ما سكن يعم جميع المخلوقات إذ ليس شيء منها غير متصف بالسكون حتى المتحرك حال حركته على ما حقق في الكلام من أنّ تفاوت الحركات بالسرعة والبطء لقلة السكنات المتخللة، وكثرتها وهذا كما قيل:
إذاهبت رياحك فاغتنمها فإنّ لكل خافقة سكون
قوله: (وهو السميع لكل مسموع الخ) التعميم من حذف المتعلق وكذا قوله: فلا يخفى
عليه شيء وفيه إشارة إلى أنّ المسموع والمعلوم شامل لجميع الموجودات إذ لا يخرح عنهما شيء، وهو راجع إلى المعطوف والمعطوف عليه أي يعلم كل معلوم من الأجناس المختلفة في السماوات والأرض وش! مع هواجس كل ما يسكن في الملوين من الحيوان وغيره، وكلام الزمخشريّ ينبئ بأنه من تتمة قوله وله ما سكن وهذه الجملة يحتمل أنها من مقول القول ومن مقول الله وقوله: (ويجورّ أن يكون وعيدا الخ) هو على الأوّل بيان لإحاطة اطلاعه بعد بيان إحاطة قدرته، وعلى هذا وعيد لهم على أقوالهم وأفعالهم، ولذا خص السمع والعلم. قوله: (1 نكار لاتخاذ غير الله ولياً الخ) قال السيد: إنكار الشيء بمعنى كراهته والنفرة عن وقوعه في أحد الأزمنة، وادّعاء أنه مما لا ينبغي أن يقع يستلزم عدم توجه الذهن إليه المستدعي للجهل به المفضي إلى الاستفهام عنه، أو نقول الاستفهام عنه يستلزم الجهل به المستلزم لعدم توجه الذهن إليه المناسب للكراهة والنفرة عنه وادعاء أنه مما لا ينبغي أن يكون واقعا، وقس حال
الإنكار بمعنى التكذيب عليه. قوله: (فلذلك قدّم وأولى الهمزة) في الكشاف أولى غير الله همزة الاستفهام دون الفعل الذي هو أتخذ لأنّ الإنكار في اتخاذ غير الله وليا لا في اتخاذ الولي مطلقاً فكان أولى بالتقديم ونحوه: {أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ} [سورة الزمر، الآية: 64] {آللهُ أَذِنَ لَكُمْ} [سررة يونس، الآية: 59] يعني كما قال النحرير: أولي غير الله همزة الاستفهام وقدم المفعول للاختصاص على ما ذكر في مواضع من الكشاف وجعل قوله: {آللهُ أَذِنَ لَكُمْ} [سررة يونق، الآية: 59] لإنكار أن يكون الله أذن لهم لا لنفس الإذن، فإنه قد كان من شياطينهم، وما ذكر في المفتاح من أنّ هذا للتقوّي دون الاختصاص لأنّ هذا الإذن منكر من أقي فاعل كان مبنيّ على أنه جعل الإنكار بمعنى لا ينبغي أن يقع والزمخشريّ جعله بمعنى لم يقع فصح الاختصاص انتهى. وفي الكشف إنه تمهيد لقوله: {أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ} [سورة يونس، الآية: 59] لأنّ أم مقطعة والهمزة فيها للتقرير، وأما إذا جعلت متصلة وهو وجه أيضاً فليس مما نحن فيه، والمصنف رحمه الله ترك التمثيل بهذه الآية إقا لأنه مع صاحب المفتاح أو لأنها ليست نصا في المطلوب، وأمّا كون ولي الهمزة مستلزما لتقديمه فلا ضير فيه كما توهم، ولا يصح في غير هنا الاستثناء لفظا لتقدمه على المستثنى منه ولتوجه الإنكار إلى اتخاذ أولياء ليس الله فيهم، وقيل لا خلاف بين الزمخشريّ والسكاكي وايراد ولدلّه أذن لكم} هنا يوهم أنّ تقديم اسم الله هاهنا على الفعل كما في الموضعين، وليس بذلك إذ المراد أنّ إيلاء هذا الاسم حرف الإنكار وبناء الخبر عليه دون العكس، وأن يقال أإذن الله لكم لأنه الأصل في الاستفهام لا سيما، وقد عطف عليه أم على الله تفترون وهي فعلية(4/30)
آذن بتقوية حكم إنكار أنّ الله هو الآذن لا حصول الإذن مطلقاً. ألا ترى كيف استشهد به لقوله لأنّ الإنكار في اتخاذ غير الله وليا لا في اتخاذ الوليّ، وكيف يوهم تقديم المعمول والتركيب من باب تقوّي الحكم مثله في قوله تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا} [سورة الزمر، الآية: 23] وقد قال فيه المصنف وايقاع اسم الله مبتدأ، وبناء نزل عليه فيه تفخيم لا حسن الحديث، وتأكيد لاستناده إلى الله وأنّ مثله لا يجوز أن يصدر إلا منه، فظهر أنّ المراد بالتقديم في قوله: فكان أولى بالتقديم الاهتمام دون التخصيص، واليه ينظر قول المفتاح فلا يحملى قوله: {آللهُ أَذِنَ لَكُمْ} [سورة يونس، الآية: 59] على التقديم فليس المراد أنّ الإذن يكون من الله دون غيره، لكن أجمله على ابتداء أمر مراد منه تقوية حكم الإنكار، ويردّ هذا برمّته أنّ العلامة صرح بخلافه في مواضع من كثافه، وكذا نقله عنه هذا القائل أيضا في تفسير قوله: {وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} [سورة الأحزاب، الآية: 4] ، قد قال فيما كتبه هناك إنّ مثل {اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ} [سورة الرعد، الآية: 26] عنده يفيد الحصر، فكلامه متناقض ولم يعرّج عليه أحد من شراح الكشاف، ومقتضى كلام النحرير أنّ القول بالحصر وعدمه دائر على تفسير الإنكار مع أنّ السكاكي لا يقول بإفادة أمثاله الحصر بوجه من الوجوه فكيف يتأتى التوفيق به فتأمّل، وقد وفق بينهما في عروس الأفراج بوجه آخر لا يعوّل عليه. قوله: (والمراد بالولئ المعبود لأنه رذ لمن دعاه إلى الشك) أي المراد به هنا
ذلك لأنّ تعريفه لا يعهد، وتيل إنّ! المشرك لم يخص عبادته بغير الله حتى يكون لرذه فالرد عليه " تخذ غير الله ولياً ويدفعه أنّ من أشرك بالله غيره لم يتخذ الله معبوداً لأنه لا يجتمع عبادته تعالى مع عبادة غيره كما قيل:
إذا صافى صديقك من تعادي فقد عاداك وانفصل الكلام
وقيل إنه لو فسر بالناصر لعلم أنه لا يتخذه معبوداً بالطريق البرهاني وقوله: رذ لمن دعاه
إلى الشرك لأنه ذكر في سبب النزول أنهم قالوا له صلى الله عليه وسلم: إن آباءك كانوا على ديننا، وإنما تركت ذلك للحاجة، فارجع عن هذا لنغنيك والكلام يحتمل أنه من الإخراج على خلاف مقتضى الظاهر قصداً إلى إمحاص النصح ليكون أعون على القبول كقوله تعالى: {وَمَا لِي لاَ أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [سورة ي! ، الآية: 22] . قوله: (وجره على الصفة الخ (وقيل على البدلية، ورجحه أبو حيان بأنّ الفصل فيه أسهل، وجعله بمعنى الماضي لتكون إضافته حقيقية، فتوصف به المعرفة، وهو ماض سواء كان كلاما من الله ابتداء أو محكياً عن الرسولءلمجب! ، لأنّ المعتبر زمان الحكم لا زمان التكلم فمن قال: والدليل عليه كون النبيّ صلى الله عليه وسلم مأمورا بهذا القول، ولا ينافيه كونه من الكلام القديم كما في قراءة فطر، ولو سلم فيجوز أن يكون من قبيل التعبير بالماضي عما سيوجد بناء على تحققه بالنظر إلى كونه قديما، وعلى حقيقته بالنظر إلى كونه من كلام الرسول صلى الله عليه وسلم انتهى. فقد تعسف لأنّ اسم الفاعل حقيقة في الحال والاستقبال فتأويله بالماضي، ثم تأويل الماضي بالمستقبل تكلف لا داعي إليه والنصب على المدح أو على البدلية من وليا لا الصفة لأنه معرفة وعلى قراءة فطر فهو صفة فتأمّل. قوله: (يرزق ولا يررّق) يعني المراد بالطعم الرزق بمعناه اللغوي وهو كل ما ينتفع به بدليل وقوعه مقابلا له في قوله تعالى: {مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ} [سورة الذاريات، الآية: 57، فعبر بالخاص عن العام مجازا لأنه أعظمه وأكثره لشدة الحاجة إليه واكتفى بذكره عن ذكره لأنه يعلم من نفي ذلك نفي ما سواه فهو حقيقة، وكلام المصنف رحمه الله يحتملهما يعني أنه خص هذا بالذكر، أو خص بالتعبير به عن جميع المنافع دون اللباس، وغيره لشدة الحاجة كما خص الربا بالأكل والمقصود مطلق الانتفاع. قوله: (وقرئ ولا يطعم بفتح الياء) أي وبفتح العين، وهي عن أبي عمرو وجماعة بمعنى يكل والضمير لله، وقرأ ابن أبي عبلة بفتح الياء وكسر العين. وقوله: (والمعنى) يعني معنى القراءة بالعكس، وهي قراءة يعقوب رحمه الله، فإن قيل الكلام مع عبدة الأصنام والصنم لا يطعم كما أنه لا يطعم أجيب بأنه ورد على زعمهم في إطعام الأصنام
وافرازهم لها حصة من الطعام، قيل: ولا مجال لأن يقال صح ذلك بالنظر إلى إطلاق غير الله تعالى فإن منه من يطعم(4/31)
كالمسيح من معبودات الكفرة فغلب لأن المسيح يطعم ألا ترى إلى إنزالط المائدة، فإن قيل المطعم حقيقة هو الله تعالى قلت بلى، ولكن النظر هنا ليس مقصوراً على الحقيقة ألا ترى إلى قوله ما هو نازل عن رتبة الحيوانية فإن إطعام الحيوانات بألبانها وبيوضها وصيودها المخلوقة لله تعالى، وهو يصح جوابا عن كلام الكشاف، وهذا ردّ على بعض أرباب الحواشي، إذ وجه كلام المصنف رحمه الله بما وجه كلام الكشاف مع ما في كلام المصنف مما يأبا. وليس كذلك، لأنه يصح أن يكون مراده " تخذ من هو مرزوق غير رازق وليا والكلام، وان كان مع عبدة الأصنام إلا أنه نظر إلى عموم غير الله وتغليب أولي العقول، لأنّ فيه إنكار أن تصلح الأصنام للألوهية بالطريق الأولى كما في الكشف فتقدير كلامه أنا لا أشرك به من يطعم ولا يطعم فكيف أشرك به من هو أحط مرتبة منه ولا مانع من حمله على الحقيقة بدليل تفسيره بيرزق فإنّ الله هو الرزاق، وقيل إنه كناية عن كونه مخلوقا غير خالق كقوله تعالى: {لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ} [سورة النحل، الآية: 20، ثم إنه قد مرّ أن لا يطعم مجاز عن معنى لا ينفع، فلا يرد السؤال رأسا. قوله: (وبنائهما للفاعل) بالجرج عطف على فتح الياء أو عكس الأوّل ووجهت إمّا بأن أفعل بمعنى استفعل كما ذكره الأزهري ومعنى لا يستطعم لا يطلب طعاما ويأخذه من غيره، أو المعنى أنه يرزق من يشاء ويمنع من لا يشاء كقوله: (لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت) والضميران لله ورجوع الثاني لغير الله تكلف يحتاج إلى التقدير. قوله: (لآنّ النبئ صلى الله عليه وسلم سابق أمّتة في الدين) أي في دينه لأنّ الشارع وكل نبيّ مأمور بما شرعه إلا ما كان من خصائصه وفيه إرشاد إلى أنّ كل آمر ينبغي أن يكون عاملاً بما أمر به لأنه مقتداهم كما قال تعالى حكاية عن موسى صلى الله عليه وسلم: {سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} [سورة الأعراف، الآية: 143] وسيأتي تحقيقه في آخر هذه السورة وقيل إنه للتحريض كما يأمر الملك رعيته بأمر ثم يقول وأنا أوّل من يفعل ذلك ليحملهم على الامتثال وإلا فلم يصدر عنه صلى الله عليه وسلم امتناع عن ذلك حتى يؤمر به. قوله: (وقيل لي ولا تكونن ويجورّ عطفه على قل الما لم يصح عطفه على أكون إذ لا وجه للالتفات، ولا معنى لقوله: أمرت أن تكونن أوّله بوجهين تقدير قيل لي وعطفه حينئذ على أمرت أي إني قيل لي: لا تكونن من المشركين بمعنى أمرت بالإسلام ونهيت عن الشرك قالوا: ومن الحكاية عاطفة للقول المقدر، وقيل: إنه معطوف على مقول قل على المعنى إذ هو في معنى قل إنى قيل لي كن أوّل مسلم ولا تكونن الخ قالوا ومن المحكيّ، والوجه الذي ذكره المصنف رحمه الله وهو عطف النهي على قل فأمر حاشية الثهاب / ج 4 / م 4
بأن يقول كذا ونهى عن كذا وجه ثالث، ولبعضهم فيه خبط هنا نحن في غنى عن ذكره، وقيل على هذا الوجه إنّ سلاسة النظم تأبى عن فصل الخطابات التبليغية بعضها عن بعض بخطاب ليس منها، وقيل يجوز أن يعطف على أني أمرت داخلا في حيز قل، والخطاب لكل من المشركين، ولا يخفى تكلفه وتعسفه. قوله: (مبالنة أخرى في قطع أطماعهم الخ) المبالغة الأولى تفهم من جعله أوّل! مسلم، فكيف يرجى منه خلافه ووجه التعريض فيه إسناد ما هو معلوم الانتفاء بأن التي تفيد الشك تعريضا، وجيء بالماضي إبرازاً له في صورة الحاصل على سبيل الفرض تعريضاً بمن صدر عنهم ذلك كما إذا شتمك أحد فتقول لئن شتمني الأمير لأضربنه قال النحرير في قوله تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [سورة الزمر، الآية: 65] ولا يخفى أنه لا معنى للتعريض بمن لم يصدر عنه الإشراك وان ذكر بالمضارع لا يفيد التعريض لكونه على أقله. وقوله: (لا معنى الخ) ردّ لتوهم أنّ التعريض نشأ من إسناد الفعل إلى من لم يصدر منه بل من يمتنع منه لا من صيغة الماضي، ووجهه أنه لا يتعارف التعريض بالنسبة إلى من لم يصدر عنه الفعل في الاستقبال فتأمّل. قوله: (والشرط معترض الخ) ما تقدم على أداة الشرط شبيه بالجواب معنى فهو دليل عليه وليس إياه خلافاً للكوفيين، والمبرد ولا يكون الشرط غير ماض! إلا في الشعر كما قرّره النحاة، ولم يخالف في لزوم مضيه إلا بعض الكوفيين، والتزم المضيّ طلباً للتشاكل لئلا يظهر فيه تأثير الأداة ثم إنّ النحاة صوّروه ومثلوه بما إذا تقدم الجزاء بجملته وبما إذا تقدم بعضه عليه كقوله:
يثني عليك وأنت أهل ثنائه ولديه إن هو يستزدك مزيد(4/32)
كما في شرح التسهيل للمرادي وما نحن فيه من القبيل الثاني والصحيح عند النحاة أنه
دليل الجواب والجواب محذوف وجوبا لوجود قائم مقامه كالاشتغالط بدليل عدم جزمه وتصديره بالفاء وافتراق معنييهما ففي التقدم بنى الكلام على الجزم، ثم طرأ التوقف وفي التأخر بنى الكلام من أوّله على التوقف فقوله جوابه محذوف جار على القول الأصح وتقديره أخف عذاب يوم عظيم، وقيل صرت مستحقا لعذاب ذلك اليوم، ثم إنه لما كان تعريضاً وكان المراد تخويفهم إذا صدر منهم ذلك لم يكن فيه دلالة على أنه يخاف هو مع أنه معصوم كما لا يتوهم مثله في قوله: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [سورة الزمر، الآية: 65] فلا يرد عليه ما قيل إنّ فيه بحثاً من وجوه، الأوّل إنّ الجواب هو أخاف قدم على الشرط، وهو إما جواب لفظاً ومعنى أو معنى فقط وعلى كل حالط فلا حاجة إلى التقدير للاستغناء عنه، الثاني أنه لا انتظام، لأن يقال إني أخاف إن عصيت صرت مستحقاً للعذاب عذاب يوم عظيم، ولو قدر الجزاء بعد مفعول أخاف صار كبيت الفرزدق، الثالث أن الآية دلت على أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم يخاف على نفسه الكفر والمعصية، وليس كذلك لعصمته ثم أجيب بأنّ الخوف تعلق بالعصيان الممتنع الوقوع
امتناعاً عاديا فلا يدل إلا على أنه يخاف لو صدر عنه الكفر والمعصية، وهذا لا يدل على حصول الخوف، وهذا الجواب لا يتمشى على ما ذكره المصنف رحمه الله تعالى بل على ما قلنا لا يقال على تقدير العصيان والكفر يكون الجواب هو استحقاق العذاب لا الخوف لأنا نقول لا منافاة بينهما فالخوف إمّا على حقيقته أو كناية عن الاستحقاق، وقيل معنى أخاف خوفه على أمّته وأنت في غنى عن هذا كله بما مرّ تقريره 0
قوله: (أي يصرف العذاب عته) فنائب الفاعل ضمير العذاب وضمير عته يعود على من، ويجوز عكسه ومن مبتدأ خبره الشرط أو الجواب أو هما على الخلاف، والجملة مستأنفة أو صفة عذاب ولظرف متعلق بالفعل أو قائم مقام فاعله وقوله والمفعول به محذوف وهو العذاب أو العائد، والمضاف الذي قدره هول أو عقاب ونحوه، أو اليوم عبارة عما يقع فيه كما مرّ في مالك يوم الدين، وتركه المصنف هنا، لأنه إذا جعل كناية عما يقع فيه احتاج إلى عناية تشصيصه بالهول، وعلى تجويز أن يكون يومئذ قائما مقام الفاعل فهل يحتاج إلى تقدير مضاف أم لا قيل لا بد منه لأنّ الظرف غير التامّ أي المقطوع عن الإضافة كقبل وبعد لا يقوم مقام الفاعل إلا بتقدير مضاف ويومئذ له حكمه، وفي الدرّ المصون إنه لا حاجة إليه، لأن التنوين لكونه عوضا يجعلى في قوّة المذكور خلافا للأخفش، وهذا مما يحفظ. قوله: (نجاه وأنعم عليه) إشارة إلى قول الزمخشريّ فقد رحمه الله الرحمة العظمى وهي النجاة كقولك إن أطعمت زبدا من جوعه فقد أحسنت إليه تريد فقد أتممت الإحسان إليه أو فقد أدخله الجنة لأنّ من لم يعذب لم يكن له بد من الثواب. قال النحرير: لما اتحد الشرط والجزاء احتيج إلى التاويل ليفيد فعلى الأوّل يكون من قبيل من أدرك الضمان فقد أدرك المرعى، ومن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى ألله ورسوله، ومن قبيل صرف المطلق إلى الكامل يعني إذا كان الجواب عين الشرط لفظاً ومعنى كما في الحديث أو معنى بحيث يكون لازما بيناً له أو مآل معناه مآله، وقيده الطيبي بما إذا كان الجزاء مطلقا فإنه يدل على عظم شأن الجزاء كقوله تعالى: {فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ} [سورة آل عمران، الآية: 185] أي فقد حصل له الفوز المطلق البليغ وكذا قوله: {رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ} [سورة آل عمران، الآية: 192] أي الخزي العظيم، وعلى الثاني من ذكر الملزوم وارادة اللازم لأنّ إدخال الجنة من لوازم الرحمة إذ هي دار الثواب اللازم لترك العذاب، ونقض بأصحاب الأعراف قيل ولأجل هذا ترك المصنف تفسيره بالجنة، ولك أن تقول قوله وذلك الفوز الخ حال مقيدة لما قبله والفوز المبين إنما هو بدخول الجنة لقوله تعالى: {فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ}
[سورة آل عمران، الآية: 185] . قوله:) ودّلك الفوز المبين أي الصرف أو الرحم الخ (يعني أنّ اسم الإشارة مراد به الصرف الذي في ضمن يصرف أو الرحمة، وذكر لتأويل المصدر بأن والفعل، والمصنف قدره الرحم لعدم احتياجه للتأويل، وهو بضم فسكون أو بضمتين كما في القاموس، وما قيل إنه نظير قوله صلى الله عليه وسلم " أن يجزي ولد والده إلا أن يجده مملوكاً فيشتربه فيعتقه " يعني بالشراء المذكور، وانّ(4/33)
اختلاف العنوان يكفي في صحة الترتيب والتعقيب ولك أن تقول إنّ الرحمة سبب للصرف سابق عليه على ما تلوّح إليه صيغة الماضي والمستقبل والترتيب باعتبار الإخبار فيها تكلف لأن السبب والمسبب لا بد من تغايرهما معنى، والحديث المذكور منهم من أخذه بظاهره، ومنهم من أوّله بأن المراد لا يجزيه أصلا وهو دقيق لأنه تعليق بالمحال! ، وأمّا كون الجواب ماضياً لفظاً ومعنى ففيه خلاف حتى منعه بعضهم في كان لعراقتها في المضيّ. قوله: (وأن يمسسك الله بضرّ) داخل في حيز قل والخطاب للرسول ع! ييه، أو عامّ لكل من يقف عليه، وهو كاللف والنشر فمس الضرّ ناظر إلى قوله إني أخاف وم! الخير إلى قوله من يصرف الخ وتقدم م! الضرّ على مس الخير لاتصاله بما قبله من الرهب الدال عليه إفي أخاف وقد مرّ الكلام في اللمس والمس هل بينهما فرق أم لا. قوله:) فلا قادر على كشفه) نفي القدرة أبلغ من نفيه لاستلزامه له، ولذا فسره به مع مناسبته لقوله فهو على كل شيء قدير، ولأن بعض الفرّ لا يكشف وقوله فكان قادراً على إدامته وحفظه في الكشاف فكان قادراً على إدامته أو إزالته وهو بيان لوجه ارتباط الجزاء بالشرط، وكلام المصنف قريب منه وتكلف بعضهم الفرق بينهما، وقيل إنّ الجواب محذوف، وقوله: {فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدُيرٌ} [سورة الأنعام، الآية: 17] تأكيد للجوابين لأنّ قدرته على كل شيء من الخير والشرّ تؤكد أنه كاشف الضر وحافظ النعم ومديمها، ومن قال إنه وهم فقد وهم إذ لا وجه لما ذكره. وقوله إذ لا تعلق له بالجواب الأوّل بل هو علة الجواب الثاني ظاهر البطلان إذ القدرة على كل شيء تؤكد كشف الضرّ وإنكاره مكابرة وقوله فلا يقدر غيره على دفعه قيل يشير إلى أنه الجواب وفيه نظر. قوله: (تصوير لقهره وعلوّه بالنلبة والقدرة (يعني أنه استعارة تمثيلية فلا يلزم الجهة، وقوله بالغلبة متعلق بعلوّه، ويحتمل أنّ الاستعارة في الظرف بأن شبه الغلبة بمكان محسوس، وقيل إنه كناية عن القهر والعلوّ بالغلبة والقدرة وهما متعلقان بالقهر والعلوّ على طريق اللف والنشر والحاصل أنّ قوله: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} عبارة عن كمال القدرة كما أنّ قوله: {وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} عبارة عن كمال العلم، وفوق منصوب على الظرفية معمول للقاهر أي
المستعلي فوق عباده بالرتبة والمنزلة والشرف والعرب تستعمل فوق لعلوّ المنزلة وتفوقها، ومنه يد الله فوق أيديهم. قوله: (في امره وتدبيره) في المواقف الحكيم ذو الحكمة، وهي العلم بالأشياء على ما هي عليه والإتيان بالأفعال على ما ينبغي، وقيل الحكيم بمعنى المحكم من الأحكام وهو إتقان التدبير، واحسان التقدير، وما ذكره المصنف رحمه الله تعالى بالثاني أنسب والقول بأنّ فوق زائدة مردود بأنّ الأسماء لا تزاد، والجواب بمعنى على لا يصحح زيادته كما توهم. قوله: (والشيء يقع على كل موجود الخ) عدل عن قول الزمخشريّ الشيء أعمّ العامّ لوقوعه على كل ما يصح أن يعلم ويخبر عنه فيقع على القديم والجرم والعرض! والمحال والمستقيم، ولذلك صح أن يقال في الله عز وجل شيء لا كالأشياء، وما ذكره من إطلاق الشيء على الله مذهب الجمهور واستدلوا بهذه الاية وقوله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [سورة القصص، الآية: 88] حيث استثنى من كل شيء ذاته ولأنه أعمّ الألفاظ فيشمل الواجب والممكن، ونقل الإمام أن جهما أنكر صحة إطلاق شيء على الله محتجا بقوله تعالى: {وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى} [سورة الأعراف، الآية: 180] فقال لا يطلق عليه إلا ما يدل على صفة من صفات الكمال والشيء ليس كذلك وقد مرّ أنّ الشيء مختص! بالموجود وأنه في الأصل مصدر استعمل بمعنى شاء أو مشىء فإذا كان بمعنى شاء صح إطلاقه عليه تعالى كما فصلناه ثمة. فائدة: قول الزمخشريّ والمحال والمستقيم أصل معنى المحال لغة ما أحيل وردّ عن
سننه فيكون بمعنى المعوج، ولذا قوبل بالمستقيم، ثم كني بهما عن الجائز والممتنع، وهذا هو استعمال العرب الفصيح وهي عبارة سيبويه، ومن لم يعرفه لعدم وقوفه على كلام العرب اعترض على المتبني قوله:
كأنك مستقيم في محال
وقال: كان الظاهر في معوج ولس كما قال. قوله: (أي الله كبر شهادة) فهو مبتدأ محذوف الخبر قيل وهو المطابق للسؤال وقد يجعل على العكس أي ذلك الشيء هو الله وليس بمطابق له لعدم صلاحية أكبر للابتداء لنكارته إلا إذا حمل على حذف موصوف له هو المبتدأ انتهى، وهذا خبط فإنه لم يقدر أكبر وإنما قدر ذلك الشيء وان كان عبارة عنه مع أنّ مذهب سيبويه رحمه(4/34)
الله إذا كان اسم استفهام أو أفعل تفضيل تقع مبتدأ يخبر عنه بمعرفة. قوله: (ويجورّ أن يكون الله شهيد هو الجواب الخ) قال الفاضل المحشي فيكون ذكره في موضع
الجواب لتضمنه الجواب لا لأنه مقصود أصليّ وأنت خبير بأنّ الظاهر في الجواب أن يذكر أن الله شهيد له ليخرج الجواب عما وقع في سبب النزول من السؤال فاللائق بالمقام هو الإخبار بأنّ الله شهيد له لينتج من الشكل الثاني أنّ ا! بر شهادة شهيد له فلا عبرة بكتم اليهود والنصارى شهادتهم ثم تأتك المقدمتان مصرّحتان في الوجه الأوّل الدّي جعل الله فيه جوابأ للسؤال. وقوله: {شَهِيدٌ} كلام مبتدأ، وقال الزمخشرقي الله شهيد بيني وبينكم هو الجواب لدلالته على أنّ الله تعالى إذا كان هو الشهيد بينه وبينهم فأكبر شيء شهادة شهيد له، وجعله شراحه من الأسلوب الحكيم لأنه عدل عن الجواب المتبادر إليه ليدل على أنّ أكبر شيء شهادة شهيد للرسول فإن الله أكبر شيء شهادة والله شهيد له فينتج اكبر شهادة شهيد له فلا عبرة بكتم من كتم، ووجه كونه من الأسلوب الحكيم أن السائل تلقى بغير ما يتبادر فكأنه غير ما يتطلب سواء أكان السائل النبيّ لمجيلى أو من ذكر في سبب النزول، والأوّل هو المراد لأنه لما أجاب عن سؤالهم التلقينيّ كان كأنهم أجابوه به وهذا من غريب أنواعه لأنه منتج للجواب المطلوب، ولم يذكروا مثله ولذا قال النحرير: إنه يشبه الأسلوب الحكيم ولعله مرادهم، وأمّا كونه جوابا للسؤال الواقع في سبب النزول وهو غير مذكور ففيه تأمّل لأنهم قالوا له جميه أرنا شاهداً من أهل الكتاب فعدل إلى ما ذكر فقد انكشفت لثام الأوهام فما قيل حاصله أنّ شاهدي هو الله، وقوله: لأنه سبحانه وتعالى الخ تصحيح لكون الكلام جوابآ لأقي شيء أكبر شهادة وفيه أنه ليس معنى قوله من هو من بين شهودي لأنّ المقام يأباه حتى يقال إذا كان الله الشهيد كان أكبر شيء شهادة بل معناه من أكبر شهادة لو شهد ليقولوا الله فيقول هو شاهدي وما ذكره الزمخشريّ أقرب إلى الصواب لأن الغرض من السؤال بأفي شيء أكبر شهادة أنّ شاهدي أكبر شهادة فقوله شهيد الخ تنصيص له والسؤال المذكور لا يحتاج إلى جواب لكونه معلوماً بينا عند الخصم أيضاً لحاصله أنّ الله الذي هو أكبر شهادة شهد بذلك فتأمّله، والمصنف قصد تطبيق الجواب على السؤال لكته غفل عما قلنا ثم إنّ هذا ليس من أسلوب الحكيم كما ظن أمّا بالنظر إلى أيّ شيء أكبر شهادة فلوحدة السائل ولا ينفعه كون الجواب من قبل المشركين وأمّا بالنظر إلى قولهم أرنا من يشهد لك فللموافقة بين السؤال والجواب فتأمّل (وهاهنا نكتة ينبغي التنبيه عليها) وهو أنّ المقابل للخير الشرّ وقد قابله بالضرّ وهو أخص منه وهذا من خفيّ الفصاحة كما قال ابن عطية للعدول عن تانون الصشعة وطرح رداء التكلف وهو أن يقرن بأخص من ضده ونحوه لكونه أوفق بالمعنى وألصق بالمقام كقوله تعالى: {إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى، وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى} [سورة طه، الآية: 118] ، فجاء بالجوع مع العرى وبالظمأ مع الضحو وكان الظاهر خلافه ومنه قول امرئ القيس:
كأني لم أركب جواد اللذة ولم أتبطن كاعبا ذات خلخال
ولم أسأل الزق الرويّ ولم أقل لخيلي كرّي كرّة بعد إجفال
وإيضاحه أنه في الآية قرن الجوع الذي هو خلوّ الباطن بالعرى الذي هو خلوّ الظاهر
والظمأ الذي فيه حرارة الباطن بالضحاء الذي فيه حرارة الظاهر كما قرن امرؤ القيس علوّه على الجواد بعلوّه على الكاعب لأنهما لذتان في استعلاء وبذل المال في شراء الراح ببذل الأنفس في الكفاح الرابح بسرور الطرب وسرور الظفر وكذا هنا آثر الضرّ لمناسبة ما قبله من الترهيب فإن انتقام العظيم عظيم، ثم لما ذكر الإحسان أتى بما يعمّ أنواعه، وفي شرح المتنبي للواحديّ تفصيل لهذا لكنها لما كانت فائدة جليلة تعرض لها المعرب هنا أحببنا أن لا يخلو هذا السفر عنها. قوله: (واكتفى بذكر الإنذار عن ذكر البشارة (لأنه المناسب للمقام، وأمّا كون الخطاب للكفار وليس فيهم من يبشر فقد ردّ بأنه ليس بمتعين إذ يجوز عمومه، وأن يكون لأهل مكة مطلقا سواء مسلموهم وكافروهم مع أنه يجوز تبشيرهم إن آمنوا وعملوا الصالحات وهو غير(4/35)
وارد لأنّ القائل بناه على كون الخطاب لكفارهم ومثله يكفي نكتة للاقتصار على الإنذار، وفي الدرّ المصون إنه على حد قوله: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} [سورة النحل، الآية: 81] ويمكن حمل كلام المصنف رحمه الله عليه ومحل من نصب على الضمير المنصوب أو رفع على الفاعل المستتر للفصل بالمفعول. قوله: (وسائر من بلغه من الأسود والآحمر) قال الحريريّ في الدرّة العرب تقول في الكناية عن العرب والعجم الأسود والأحمر لأنّ الغالب على ألوان العرب الأدمة والسمرة والغالب على ألوان العجم البياض والحمرة. قالوا: والمراد بالحمرة هنا البياض ومن قال الأسود والأبيض فقد خالف الاستعمال، ومراد المصنف رحمه الله جميع الناس لأن العجم من عدا العرب وأمّا تخصيصط بفارس فعرف الاستعمال. توله: (او من الثقلين) يعني الإنس والجن سميا بذلك لأنهما ثقلا الأرض وحمولتها أو لغير ذلك كما سيأتي في محله وهذا بيان لمعنى النظم هنا لا ترديد في كون رسالته للثقلين لأنه أمر مقرّر. قوله: (وفيه دليل على أنّ أحكام القرآن تعم الموجودين الخ) أي في قوله ومن بلغ إذ المراد به من لم يكن في عصره منهم ومن غيرهم لعموم من غير الموجود فلا يرد أنه إذا احتمل اللفظ معاني كيف يبقى دليلا، وقيل دلالته مخصوصة ببعض الوجوه وهو شمول الخطاب الشرعيّ لغير الموجود بطريق التغليب أو القياس أو غير ذلك مما هو مبسوط في أصول الفقه، وكون من لم تبلغه غير مؤاخذ مبنيّ على مذهبه في القول بالمفهوم قيل ولا دلالة على ذلك بوجه من وجوه الدلالة لأنّ مفهومه انتفاء الإنذار بالقرآن عمن لم يبلغه وذلك ليس عين انتفاء المؤاخذة، وهو ظاهر ولا مستلزما له خصوصا عند القائلين بالتحسين والتقبيح العقليين إلا أن يلاحظ قوله تعالى: {وَمَا
كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [سورة الإسراء، الآية: 15] الآية فلا يكون الدال عليه هذه الآية وفيه نظر ظاهر. قوله: (تقرير لهم مع إنكار واستبعاد) سبق أنّ التقرير بمعنى التثبيت أو الحمل على الإقرار، والإنكار يكون بمعنى التكذيب وأنه لم يفع وبمعنى أنه لا ينبغي وقوعه، والمراد هنا أنه تثبيت وتسجيل له وأنه مما لا يليق وفيه جمع بين معاني الاستفهام وهي معان مجازية لا يجمع بينها وان في ذلك التجوّز خفاء حتى قيل إنه لم يحم أحد حوله وأنه من أيّ أنواعه، وقد حققه السيد قدس سره في محله إلا أن يقال إنه يستعمل في أحد هذه المعاني وغيره مأخوذ من السياق فليتأمّل وجوز في هذه الجملة كونها مستأنفة واندراجها في المقول وأخرى صفة لآلهة قال أبو حيان رحمه الله: وصفة جمع ما لا يعقل كصفة الواحدة المؤنثة كقوله: {مَآرِبُ أُخْرَى} [سورة طه، الآية: 8 ا] ولله الأسماء الحسنى ولما كانت الآلهة حجارة وخشباً أجريت هذا المجرى تحقيراً لها وقوله: {مَآرِبُ أُخْرَى} أي بالذي تشهدون به أو شهادتكم بيان لمتعلقه المحذوف بقرينة الكلام. قوله: (بل أشهد أن لا إله إلا هو) الإضراب والشهادة مأخوذان من السياق أو أنه أمر بذكر. على وجه الشهادة فلا وجه لما قيل إنه لا معنى لاعتبار الشهادة فيه، وقيل إنه إذا كان في حيز إنما موصوف مؤخر فالمقصود قصره على تلك الصفة كما إذا قلت إنما زيد رجل عالم فماذا قصر على الوحدانية بمعنى التفرد في الألوهية أفاد ثنزهه عن الشريك وأنه لا إله إلا هو كما ذكره المصنف رحمه الله تعالى، وقيل عليه نفي الألوهية مستفاد من توصيف الإله بالواحد لا من كلمة القصة لأنها لا تفيد إلا قصره على الألوهية دون العكس وما كافة لا موصولة لمخالفته للظاهر والرسم، وما في تشركون موصولة عبارة عن الأصنام، وتحتمل المصدرية. قرله: (يعرفون رسول الله) التفات وكون حليته مذكورة في الكتب الإلهية مصرح به في القرآن في مواضع وأهل الكتاب ينكرونه عناداً ويؤولونه ويحرّفون بعضه، وهم الآن على ذلك من غير شبهة فلا وجه لما قيل إنه لا يخلو أن يكون ما يتعلق بتفاصيل حليته باقياً وقت نزول الآية أو لا بل محرّفا مغيراً، والأوّل باطل لأنّ إخفاء ما شاع في الآفاق محال وكذا الثاني لأنهم لم يكونوا حينئذ عارفين حليته كما يعرفون حلية أبنائهم فالوجه أن تحمل المعرفة على ما هو بالنظر والاستدلال. انتهى وتيل عليه إنّ الإخفاء مصرج به في القرآن كقوله: {تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا} ! سورة الأنعام، الآية: 91] واخفاؤها ليس باخفاء النصوص بل بفولهم إنه رجل آخر سيخرج وهو معنى قوله تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا(4/36)
أَنفُسُهُمْ} [سورة النمل، الآية: 4 ا] وليس للإخفاء ذكر في كلام المصنف رحمه الله تعالى وهو كلام حسن. قوله: (لتضييعهم الخ (قد مرّ قريبا تفسيره واعرابه إلا أن الاتباع لا
يتأتى هنا لأن المصنف رحمه الله تعالى فسره بأعم مما قبله فإن خص جاز، وتقديم به للحصر وإذا انحصر السبب في شيء لزم من فواته فواته. قوله: (ومن أظلم الخ) إنكار لاظلميتهم، وهو وان لم يدل على إنكار المساواة وضعا يدل عليه استعمالأ فإذا قلت لا أفضل في البلد من زيد معناه أنه أفضل من الكل بحسب العرف إذ يستفاد منه نفي المساواة، كذا في شرح المقاصد في بحث أفضلية الصحابة قال والسرّ فيه أنّ الغالب فيما بين شخصين الأفضلية والمفضولية لا التساوي فلذا دل على نفي الأفضلية لا المساواة انتهى. (قلت) بل هي وضعية لأنّ غير الأفضل إمّا مساو أو أنقص فاستعمل في أحد فرديه قال ابن الصائغ: في مسألة الكحل ما رأيت رجلا أحسن في عينه الكحل وان كان نصا في نفي الزيادة وهي تصدق بالزيادة والنقصحان فالمراد الأخير، وهو من قصر الشيء على بعض أفراده كالدابة انتهى. وقيل الاستفهام هنا للاستعظام الادّعائي وهو لا ينافي الإنكار وبقوله الادعائيّ سقط أن قاتل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أظلم فتأمّل. قوله: (وإنما ذكر أو وهم الخ) عدل عن قول الكشاف جمعوا بين أمرين متناقضين تكذبوا على الله بما لا حاجة عليه وكذبوا بما ثبت بالحجة البينة والبرهان الصحيح لما في التناقض من الخفاء كما بينه شرحه، فالنكتة في العطف بأو عنده التنافي بينهما وعند المصنف كون أحدهما كافياً في المطلوب والظاهر أنّ هدّا لا ينافي كون أو بمعنى الواو لأنه نكتة للعدول عن الظاهر فتأمّل. قوله: (فضلاَ ممن لا أحد أظلم منه) يعني أن ذكر عدم فلاح الظالمين يدل على أنّ الأظلم المذكور قبله لا يفلح بالطريق الأولى مع أنه أكمل إفراده فيدخل فيه دخولاً أوليا، وفضلا معناه والبحث فيه معروف، ومن أراد تفصيله فلينظر شرح المفتاح وكلام الثريف في شرح ديباجة الكشاف. قوله: (منصوب بمضمر الخ) في إعرابه وجوه منها أنه منصوب بمضمر يقدر مؤخراً وتقديره كأن كيت وكيت فترك ليبقى على الإيهام الذي هو أدخل في التخويف والتهويل وجوّز نصب باذكر مقدّراً وغيره مما فصل في الدرّ المصون. قوله: (أين شركاؤهم الخ) الإضافة فيه لأدنى ملابسة كما أشار إليه بقوله: شركاء لله لأنه لا شركة بينهم وإنما سموهم شركاء فلهذه الملابسة أضيفوا إليهم، ولما كان قوله تعالى: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ} [سورة الصاقات، الآية: 22] وغيره يقتضي حضووهم معهم في المحشر، وأبن يسئل بها عن غير الحاضر أجاب عنه بأنهم غيبوا عنهم حال السؤال اً وأنهم بمنزلة الغيب لعدم الفائدة
أو هو بتقدير مضاف أي أين نفعهم وجدوأهم، وفي الكشاف إنما يقال لهم ذلك على جهة التوبيخ ويجوز أن يشاهدوهم إلا أنهم حين لا ينفعونهم ولا يكون منهم ما رجوا من الشفاعة فكأنهم غيب عنهم، وأن يحال بينهم وبينهم في وقت التؤبيخ ليفقدوهم في الساعة التي علقوا بهم الرجاء فيها فيروا مكان خزيهم وحسرتهم وهي ثلاثة وجوه، الأوّل أن يقال لهم ذلك على سبيل التوبيخ كقوله: {وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاء} [سورة الأنعام، الآية: 94، والثاني أنه قيل لهم وهم يشاهدونهم تعييرا كما تقول لمن جعل أحدا ظهيره يعينه في الشدائد إذا لم يعنه وقد وقع في ورطة بحضرته أين زيد فجعلته لعدم نفعه وإن كان حاضراً كالغائب، أو يقال حين يحال بينهم بعد ما شاهدوهم ليشاهدوا خيبتهم كما قيل:
كما أبرقت قوماً عطاشاً غمامة فلمارأوها أقشعت وتجلت
وهو في الثاني مجاز وفي غيره حقيقة وقيل إنّ قوله ويجوز وأن يحال وجهان في تقرير التوبيخ لا وجهان مقابلان للتوبيخ لتصير الأوجه ثلاثة أي إنما قيل للمشركين أين شركاؤكم للتوبيخ والتقريع ثم إمّا أن يكون هذا التوبيخ مع حضور الشركاء ومشاهدة المشركين إياهم، وأمّا أن يكون في غيبتهم وايراد هذين الاحتمالين لئلا يسبق الوهم إلى أنّ ذلك القول لا يصح إلا في غيبة الشركاء وإنما يكون كدّلك لو كان المقصود منه السؤال هذا محصل كلام الشراح، والكل متفقون على أنّ السؤال لم يقصد به ظاهره لكن اختلفوا في الوجوه هل هي ثلاثة للتغاير إلاعتباري بينها أو وجهان لبيان التوبيخ والخلاف(4/37)
في ذلك سهل، فأمّ ما قيل عليه من أنّ هذا السؤال المنبي عن غيبة الشركاء مع عموم الحشر لها لقوله: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا} [سررة الصافات، الآية: 22] الآية وغيرها إنما يقع بعدما جرى بينها وبينهم من التبرىء من الجانبين وقطع ما بينهم من الأسباب حسبما يحكيه قوله تعالى {فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ} الخ ونحوه أمّا بعد حضورها حينئذ في الحقيقة وابعادها من ذلك الموقف وامّا بتنزيل عدم حضورها بعنوان الشركة والشفاعة منزلة عدم حضورها في الحقيقة إذ ليس السؤال عنها من حيث ذواتها بل من حيث هي شركاء كما يعرب عنه الوقف بالموصول، ولا ريب في أنّ عدم الوصف يوجب عدم الموصوف من حيث هو موصوف فهي من حيث هي شركاء غائبة لا محالة وان كانت حاضرة من حيث ذواتها أصناما كانت أو لا وامّا ما يقال من أنه يحال بينها وبينهم وقت التوبيخ ليفقدوهم في الساعة التي علقوا بها الرجاء فيها فيروا خزيهم وحسرتهم فربما يشعر بعدم شعورهم بحقيقة الحال وعدم انقطاع حبال رجائهم عنها بعد، وقد عرفت أنهم شاهدوها قبل ذلك وانصرمت عروة أطماعهم عنها بالكلية على أنها معلومة لهم من حين الموت والابتلاء بالعذاب في البرزخ، وإنما الذي يحصل في الحشر الانكشاف الجلي واليقين القوي المترتب على المحاضرة والمحاورة انتهى. فتخيل لا أصل له لأنّ التوبيخ مراد في الوجوه كلها ولا يتصوّر حينئذ التوبيخ إلا بعد تحقق خلافه مع أنّ كون هذا وقع بعد التبري في موقف آخر ليس في النظم ما يدل
عليه، ومثله لا يجزم به من غير نقل لاحتمال أن يكون هدّا في موقف التبري والإشعار المذكور لا يتأتى مع أنه توبيخ وامّا العلاوة التي ذيل بها كلامه فواردة عليه أيضا مع أنها غير مسلمة لاًنّ عذاب البرزخ لا يقتضي أن لا يشفع لهم بعد ذلك فكم من معذب في قبره يشفع له.
قوله: (ليفقدوها) قيل يرد عليه أنه حيمئذ ينكشف الحال عندهم ويعلمون أنه لا منفعة لهم
في آلهتهم بل مضرة نلا احتمال للتفقد، وهذا غريب فإنّ نسخ الكشاف والقاضي متفقة على أنّ العبارة ليفقدوها من الفقدان، وهو متعلق بيحال بينهم وبين آلهتهم، فيظهر لهم لفقدانهم إياها في تلك الساعة خيبة ظنهم وخسرانهم في تجارتهم لا من التفقد ليرد عليه ذلك ولو سلم فيجوز أن يتفقدوها لغاية خيرتهم وفرط دهشتهم فإنّ الغريق يتشبث بكل حشيش لا يجديه نفعا أو المعنى ليتفقدوها بحمل السؤال على التفقد لإظهار خيبتهم وخسرانهم لا لأنهم يتفقدنها ليطلبوأ منها الشفاعة. قوله: (ويحتمل أن يشاهدوهم ولكن لما لم ينفعوهم فكأنهم غيب عنهم) قيل هذا السؤال ظاهر في غيبة الشركاء، وقوله وما نرى معكم شفعاءكم الذين إلى قوله وضل عنكم ما كنتم تزعمون نص فيها فلا وجه لهذا الكلام، ويجوز أن يقال ذلك في موطن آخر، أو المعنى وما نرى معكم شفاعة شفعائكم 0 قوله: (فكأنهم غيب عنهم) بضم الغين المعجمة ليتشديد الياء اً وبفتحها مع التخفيف جمع غائب كخادم وخدم وقوله تزعمونهم شركاء إشارة إلى أن المفعولين محدّوفان وتقديرهما كما ذكره والزعم يستعمل في الباطل والكذب. قال ابن عباس رضي الله عنهما: كل زعم في القرآن فهو بمعنى الكذب وخص القرآن لأنه يطلق على مجرّد الذكر والقول ولكن يستعمل في الشيء الغريب الذي تبقى عهدته على قائله، فحذف المفعولان لانفهامهما من المقام. قوله: (أي كفرهم والمراد عاقبته الخ) أصل معنى الفتنة على ما حققه الراغب من الفتن وهو إدخال الذهب النار لتعلم جودته من رداءته ثم استعمل في معان كالعذاب والاختبار والبلية والمصيبة والكفر والإثم والضلال وليس شيئاً من ذلك عين قولهم المذكور واختار المصنف رحمه الله أنّ المراد به الكفر لأنّ الفتنة ما تفتتن به ويعجبك وهم كانوا معجبين بكفرهم مفتخرين به ويظنونه شيئا فلم تكن عاقبته إلا الخسران والتبري منه وليس هذا على تقدير مضاف بل جعل عاقبة الشيء عينه ادّعاء قال الزجاج: وتأويل الآية حسن لطيف لا يعرفه إلا من عرف معاني كلام العرب وتصرّفاتها، ومثلها أن ترى إنساناً يحب غاويا فإذا وقع في مهلكة تبرأ منه فيقال له ما كان محبتك لفلان إلا أن تبرأت منه وليس هذا من قبيل عتابك السيف ولا من تقدير المضاف وان صح فاحفظه فإنه من البدائع الروائع. قوله: (وقيل معذرتهم الخ) يعني الفتنة استعملت بمعنى العذر لأنها التخليص(4/38)
من الغش والعذر يخلص من الذنب فاستعيرت له أو المراد الجواب بما هو
كذب لأنه سبب الفتنة فتجوّز بها إطلاقا للمسبب على البب أو هو استعارة لأنّ الجواب مختص! بهم أيضا فقوله: {وَاللهِ رَبِّنَا} الخ على ظاهره وثم للتراخي في الرتبة لأنّ جوابهم هذا من أعظم التوبيخ السابق، وهذا هو الداعي إلى وضع الفتنة موضسع الجواب وعلى ما قبله قوله: {وَاللهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} كناية عن التبري وانتفاء التدين به وثم على ظاهره، والتفسيران الأخيران منقولان عن قتادة ومحمد بن كعب وتوجيههما بما مر وهو الذي ارتضاه الطيبي وهما متقاربان وقوله: {أو لآنهم قصدوا} الخ فيكون كالذي قبله معنى وتجوّزا، والتغاير اعتباري والحصر على الأوّل إضافي بالنسبة إلى جنس الأقوال أو ادّعائيئ وعلى الوجهين الأخيرين حقيقي. قوله: (وفت! هم بالرفع الخ) قرأ حمزة والكسائي يكن بالياء من تحت ونصب فتنتهم وابن كثير وابن عامر وحفص عن عاصم تكن بالتاء من فوق ورفع فتنتهم والباقون بالتاء من فوق أيضاً ونصب فتنتهم، وما ذكره المصنف رحمه الله هو طريق الثاطبي عن الداني، ومن لم يفهم كلامه قال إنه مخالف لحرز الأماني وفي طريق ابن الجزري في الطيبة قرئ يكن بالمثناة التحتية عن الكسائي وحمزة وشعبة بخلف عنه ويعقوب الحضرمي ونصب فتنتهم، والباقون بالفوقية وابن كثير وابن عامر وحفص بالرفع والباقون بالنصب ورفع فتنتهم ابن عامر وحفص وابن كثير، والباقون بالنصب ومن رفع أنث يكن هذا جميع ما قرئ به من الطريقين والخلاف بينهما في شعبة فلا يتوهم مخالفته وقراءة الأخوين أفصح وذلك أنّ فتنتهم خبر مقدم وأن قالوا اسم لأنه إذا اجتمع اسمان أحدهما أعرف جعل الأعرف اسما وغيره خبرا وان قالوا يشبه المضمر والمضمر أعرف المعارف، وفيه بحث ولم يؤنث الفعل لإسناده إلى مذكر، وأمّا قراءة ابن كثير ومن معه ففتنتهم اسمها ولذلك أنث الفعل لإسناده إلى مؤنث وأن قالوا خبرها وفيه إنك جعلت غير الأعرف اسماً والأعرف خبراً فليست في قوة الأولى وأما قراءة الباقين ففتنتهم خبر مقدم والا أن قالوا اسم مؤخر وسيأتي ما في إلحاق علامة التأنيث. قوله: (والنصب على أنّ الاسم أن قالوا والتأنيث للخبر كقولهم من كانت أفك) الذي حققه علماء العربية أن إلحاق علامة التأنيث الفعل إذا أسند إلى مذكر قد أخبر عنه بمؤنث ليس مذهبا للبصريين وهو ضرورة عندهم، والكوفيون يجيزون في سعة الكلام تأنيث اسم كان إذا كان مصدراً مذكرأ وكان الخبر مقدما كقوله:
وقد خاب من كانت سريرته الغدر
فلو قلت كانت شمسا وجهك أو كانت الغدر سريرتك لم يجز واستشهدوا عليه بهذه القراءة، وقال ابن مالك وهذا أولى من أن يقال أنث على معنى المقالة لأنه من قبيل جاءته كتابي وهو قليل خصوصاً وتأنيث المصدر إذا كان ملفوظا قد لا يراعى، وأمّ جعل المصنف له
تبعا للزمخشري من قبيل من كانت أمّك فقد رد بأنه ليس مما نحن فيه لأنّ من لفظها مذكر ومعناها مؤنث، ويجوز فيها مراعاة اللفظ والمعنى فليس تأنيثه لأجل الخبر لكنه في الدرّ المصون نقله بعينه عن أبي عليّ، وقال إنّ للتأنيث علتين مراعاة الخبر ومراعاة المعنى والنكات لا تتزاحم، فلا مانع من اعتبار هذه مرّة وهذه أخرى مع أنه قيل إنه مناقثة في المثال وليست من دأب المحصلين. قوله: (يكذبون ويحلفون الخ) فهو كما قيل:
ويكون أكذب ما يكون إذا حلف
واختلف في جواز الكذب على أهل القيامة فمنعه أبو عليّ الجبائي والقاضي، وذهب الجمهور إلى جوازه مستدلين بهذه الآية ونحوها فإنهم في القيامة حلفوا على أنهم ما كانوأ مشركين وهو كذب، واحتج المنكرون بأنّ حقائق الأشياء تنكشف حينئذ فإذا اطلع أهلها على الحقائق وعلى أنها لا تخفى عليه تعالى وأنه لا منفعة لهم في ذلك استحال صدوره عنهم، وأجابوا عن الآية بأنّ المعنى ما كنا مشركين في اعتقادنا وظنوننا وذلك لأنهم كانوا يعتقدون في أنفسهم أنهم موحدون متباعدون عن الشرك، ثم اعترضوا على أنفسهم بأنهم على هذا التقدير يكونون صادقين فيما أخبروا فلم قال تعالى: {انظُرْ كَيْفَ كَذَبُواْ} [سورة الأنعام، الآية: 24] يعني في قولهم ما كنا مشركين وأجابوا بأنه ليس المراد به أنهم كذبوا في الآخرة بل المراد انظر كيف كذبوا على أنفسهم في دار الدنيا، وأورد حجتهم وأجاب بأنهم لما عاينوا هول القيامة دهشوا(4/39)
وحاروا فقالوا ذلك القول الكذب وان لم ينفعهم كما حكى الله عنهم: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ} [سورة المؤمنون، الآية: 07 ا] مع أنه تعالى أخبر عنهم بقوله: {وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ} [سورة الأنعام، الآية: 28] وكذلك قالوا يا مالك ليقض علينا ربك وقد علموا أنه تعالى لا يقضي عليهم بالخلاص، وأجاب عما أجابوا به عن الدليل بأنّ قولهم المراد ما كنا مشركين عند أنفسنا تمحل وتعسف لمخالفته الظاهر، وحمل قوله انظر كيف كذبوا على أنفسهم على الكذب في الدنيا تحريف لكلام الله لأنّ ما قبله وما بعده ليس في أحوالها فتخلل أمر الدنيا تفكيك للنظم، ثم استدل بآية أخرى لا يتطرّق إليها التأوبل إلا بتكلف بعيد وهي قوله تعالى: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ} أسررة المجادلة، الآية: 8 أ] الآية وفي الانتصاف في هذه الآية دليل بين على أنّ الإخبار بالشيء على خلاف ما هو به كذب وان لم يعلم المخبر بمخالفة خبره لمخبره، ألا تراه جعل أخبارهم وتبريهم كذبا مع أنه تعالى أخبر أنهم ضل عنهم ما كانوا يفترون أي سلبوا علمه حينئذ دهشاً وحيرة فلم يرفع ذلك إطلاق الكذب عليهم. انتهى وفيه بحث، وقوله: (أيقنوا بالخلود) نظر فيه بأنه من أين يعلم أنهم موقنون بالخلود فليتأمّل. قوله: (تعسف يخل بالنظم) قال النحرير: التعسف الأخذ في غير الطريق لأنّ الآية لا تدل على
هذا المعنى بوجه ولا تنطبق عليه لأنها في شأن حشرهم وأمرهم في الآخرة لا في الدنيا بل تنبو عنه أشد نبوّ لأن أوّل الكلام ويوم نحشرهم وآخره وضل عنهم ما كانوا يفترون وذلك في أمر القيامة لا غير، وقوله يخل بالنظم لما فيه من صرف أوّل الآية إلى أحوال القيامة وآخرها إلى أحوال الدنيا ولك أن تدفع ذلك بأنّ المعنى انظر كيف كذبوا على أنفسهم في الدنيا بما ضل عنهم في الآخرة ولم ينفعهم فيها فلا يكون أجنبياً فتامّل، وقال بعض أهل العصر أنّ قول المصنف رحمه إدلّه أنه لا يوافق قوله انظر الخ ممنوع فإنهم لجهلهم وسوء نظرهم اعتقدوا ذلك مع بطلانه فيقولون ما نعبدهم إلا ليقرّبونا. قوله: (من الشركاء) على أن تكون ما موصولة، وجوّز أن تكون مصدرية أي ضل افتراؤهم كقوله ضل سعيهم، وقرئ ربنا بالرفع خبر مبتدأ محذوف وهو توطئة لنفي إشراكهم وفائدته دفع توهم أن يكون نفي الإشراك بنفي الألوهية عنه تقدس وتعالى ولا برد عليه أنّ المناسب له تأخيره. قوله: (ومنهم من يستمع الخ (أفرد ضمير من وجمعه نظرا إلى لفظه ومعناه، والاستماع بمعنى الإصغاء لازم يعدي باللام والى كما صرّح به أهل اللغة وقيل إنه مضمن معنى الإصغاء ومفعوله مقدر وهو القرآن وقوله: والذي: قسم والمراد الله وضميرها عائد إلى الكعبة الحاضرة في الذهن، وقوله: مثل ما حدثتكم كان يحدّثهم باً خبار العجم كرستم واسقيديار وأكنة جمع كنان كغطاء وأغطية لفظاً ومعنى لأنّ فعالاً بفتح الفاء وكسرها يجمع في القلة على أفعلة كأحمرة وأقذلة، وفي الكثرة على فعل كحمر إلا أن يكون مضاعفاً أو معتل اللام فيلزم جمعه على أفعلة كأكنة وأخبية إلا نادراً، وفعل الكن ثلاثيئ ومزيد يقال كنه وأكنه وفرق بينهما الراغب فقال: أكننت يستعمل لما يستر في النفس، والثلاثيّ لغيره وبيته هو الكعبة المشرفة. قوله: (كراهة أن يفقهوه الخ (أي على تقدير مضاف ومنهم من قدر لا فبه وفي أمثاله وسيأتي في سورة الإسراء تجويز المصنف رحمه الله أن يكون مفعولاً به لما دل عليه قوله: {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً} أي منعناهم أن يفقهوه أو لما دل عليه أكنة وحده من ذلك. قوله: (وقرا يمنع من استماعه) يمنع إلى آخره تفسير للوقر بالفتح
قال الزجاج الوقر بالفتح ثقل في السمع، وبالكسر حمل البغل ونحوه وبه قرأ طلحة وهو استعارة كأنّ آذانهم وقرت وحملت من الصمم، وقد مرّ تحقيق التجوّز فيه في سورة البقرة في: {خَتَمَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهمْ} [سورة البقرة، الآية: 7] وأنه يحتمل الاستعارة التصمريحية، والمكنية والمشاكلة كما بسطناه ثمة ومعنى يمنع من استماعه أنه يمنع من استماعه على ما هو حقه فلا يخالف قوله: {وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ} [سورة الأنعام، الآية: 25] ولذا قيل الأنسب لما تقدّمه أن يقول كراهة أن يسمعوه وقال المصنف رحمه الله في الإسراء لما كان القرآن معجزاً من حيث اللفظ والمعنى أثبت لمنكريه ما يمنع عن فهم المعنى وادراك اللفظ انتهى وأورد عليه أنهم ما عجزوا عن إدراك اللفظ المسموع على ما دل عليه ما مرّ في سبب النزول إنما عجزوا عن إدراك اللفظ المطبوع الشامل للخواص والمزايا وأجيب بأنّ(4/40)
مراده باللفظ هو اللفظ المعهود الموصوف بالإعجاز على ما ينادي عليه سياق كلامه لا نفس اللفظ مجرّدا فلا غبار عليه. قوله: (وأن يروا كل آية الخ) قيل لا بد من تخصيص الآية بغير الملجئ دفعاً للمخالفة بينه وبين قوله تعالى {إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِم مِّن السَّمَاء آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} فتأمّل. قوله: (أي بلغ تكذيبهم الآيات الخ) هذا بيان لمحصل المعنى لأنّ مآل عدم الفهم والاستماع التكذيب ولأنّ المجادلة هي القول المذكور فلا يقال إنه يقتضي أن يجادلونك هو الجواب، وأنّ الأنسب جعله غاية لجعله تعالى على قلوبهم أكنة وفي آذانهم وقرا أي بلغ بهم ذلك المنع من فهم القرآن إلى أن قالوا إن هذا إلا أساطير الأوّلين، وحتى إذا وقع بعدها إذا يحتمل أن يكون بمعنى الفاء وأن يكون بمعنى إلى والتقدير فإذا جاؤو 3 الخ، أو إلى أن جاؤوك، والمصنف رحمه الله اختار الثاني والغاية معتبرة في الوجهين وقوله غاية التكذيب أي أنّ تكذيبهم بلغ النهاية بهذا لأنه الفرد الكامل منه فهو نحو مات الناس حتى الأنبياء فاندفع ما توهم من أنّ التكذيب لا ينتهي بمجادلتهم واتضحت الغاية ومن لم يقف على مراده قال كون حتى جارّة مشكل جدّاً لأنه يقتضي انتهاء تكذيبهم في هذا الوقت والمشهور في النسخ إلى أنهم جاؤو 4 يجادلونك، ووقع في نسخة إن جاؤوك يجادلونك وقال المحشي عليها أنه بدل إذا بان للتنصيص على معنى الشرطية وحتى على الوجه الأوّل هي الابتدائية تقع بعدها جمل استئنافية لا محل لها من الإعراب سواء كانت اسمية أو فعلية وإذا منصوبة المحل على الظرفية بالشرط، أو الجواب على الخلاف في ذلك وشرطها جملة جاؤوك وجوابها يقول الخ ويجادلونك حال والمجادلة مطلق المنازعة والمخاصمة والقول المذكور فرد مخصوص منها فالكلام مفيد أبلغ إفادة كقولك إذا أهانك زيد شتمك فمن قال المجادلة لما كانت نفس قولهم إن هذا الخ كما يدل عليه جعله تفسيرا له كأن جعل يجادلونك حالاً ويقولون جوابا مفضيا إلى جعل الكلام لغواً إلا أن تؤوّل المجادلة بقصدها فقدوهم وأتى بما لا وجه له وتكلف ما لا حاجة إليه. قوله: (إلى أنهم
جاؤوك كجادلونك الخ) قيل عليه إنّ النحاة قالوا الغاية فيما إذا كانت الجملة الشرطية من إذا وجوابها هي ما تسبب من الجواب مرتبا على فعل الشرط فكان الوجه أن يقول إلى أن يقولوا إن هذا إلا أساطير الأوّلين في وقت مجيئهم مجادلين فتأمّل، وهذا يقتضي أن يجادلونك هو الجواب فلا يناسب ما بعده. قوله: (خرافات) أصل الخرافة ما اخترف أي اقتطف من ثمار الشجر ثم جعل اسما لما يتلهى به من الحديث وما وقع في الحديث من قوله صلى الله عليه وسلم: " خرافة حق فهو اسم رجل من عذرة استهوته الجق وكان يحدّث بما رأى فيهم فكذبوه وقالوا حديث خرافة فقال صلى الله عليه وسلم ذلك يعني أن ما حدّث به حق ") 1 (وفي المستقصي أنّ رجلا من خزاعة استهوته الجن فرجع إلى قومه وكان يحدّثهم بالأباطيل فكانت العرب إذا سمعت ما لا أصل له قالت حديث خرافة ثم كثر حتى قيل للأباطيل خرافات ونقل في الكشف عن العلامة في حواشيه عن العرب الخرّافات بالتشديد ويجمع أيضاً على خراريف وذكر مثله في ربيع الأبرار ولم أر ذكر التشديد مصححا في غيره والمعروف فيه التخفيف وأنه لا تدخله الألف واللام، ووقع في الحديث كما رواه البزار عن عائشة رضي الله عنها أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم " حدّث ذات ليلة نساءه حديثاً فقالت امرأة منهن هذا حديث خرافة فقال صلى الله عليه وسلم: أتدوون ما خرافة أن خرافة كان رجلأ من عذرة استهوته الجق فمكث فيهم دهرا ثم ردّوه إلى الإن! فكان يحدّث الناس بما رأى فيهم من الأعاجيب فقال الناس حديث خرافة " (2) وهو حديث مسند في بعض كتب الحديث. قوله: (ويجورّ أن تكون الجازة الخ) هذا قول الأخفش وتبعه ابن مالك رحمه الله في التسهيل وقال أبو حيان أنه خطأ وعليه فإذا خارجة عن الظرفية كما صرّحوا به وعن الشرطية أيضاً فلا جواب لها، والذي في النسخ الصحيحة أن يجادلونك على هذا حال ويقول تفسير له ووقع في نسخة بدل قوله حال
جواب وردّ بأنه ليس فيها حينئذ معنى الشرطية قطعا فكيف يكون لها جواب، ولذا جعله الزمخشري حالاً على هذا الوجه ثم إنه قال: إنه مطالب بالفرق بين الوجهين حيث خص الأوّل بكون(4/41)
الجواب يقولون والثاني بكونه يجادلونك وعلى ما صححناه لا يرد شيء من هذا ولا مخلص عنه إلا بأن يخرّح على قول الزجاج فيكون معنى كلامه ويجوز في حتى الابتدائية أن تكون الجارّة قال في المغني ولا محل للجملة الواقعة بعد حتى الابتدائية خلافا للزجاج وابن درستوبه زعما أنها في محل جرّ بحتى، ويرّده أنّ حروف الجرّ لا تعلق عن العمل وإنما تدخل على المفرد أو ما في تاويله، وأمّا ما قيل في توجيهه على النسخة المرجوحة من أنّ الواو في قوله ويجادلونك بمعنى أو عطفاً على قوله وهو يقول ومجيء الواو بمعنى أو كثير أو أنه على حذف مضاف أي حتى يوم إذا جاؤوك! ادلونك فلا يخفى بعده. قوله: (والأساطير الأباطيل) هذا معناه والمراد الأحاديث المسطورة، وأما لفظه فقيل لا مفرد له وقيل له مفرد، وجوّز فيه أن يكون أسطوراً وأسطيراً وأسطارا بكسر الهمزة مع الهاء وعدمها، وقيل إنه جمع جمع وقيل جمع جمع جمع وسطر مفرده بسكون الطاء وفتحها معروف في الكتابة وغيرها، وأسطورة بضم الهمزة كأحدوثه وأحاديث وأسطارة بكسرها وأسطارة بفتح الهمزة جمع سطر بفتحتين كسبب وأسباب. قوله: (ينهون عنه الخ) ضمير الجمع للمشركين والضمير المجرور أمّا للرسول ع! ي! ففيه التفات أو للقرآن لسبق ذكرهما ومعنى النهي عنه النهي عن اتباعه والإيمان به، أو ضمير الجمع لأبي طالب وأتباعه أو إضرابه ممن نهى عن أذيته منهم كما هو معروف في الأحاديث ولذا لم يقل المصنف رحمه الله أبو طالب كما في الكشاف، أو له فقط وجمع استعظاما لفعله حتى كأته مما لا يستقل به واحد، وقيل إنه نزل منزلة أفعال متعدّدة فيكون كقوله قفا عند المازني ولا يخفى بعده، ورذ هذا الإمام بأنّ جميع الآيات المتقدمة في ذمّ فعلهم فلا يناسبه ذكر النهي عن أذيته وهو غير مذموم وفيه نظر، وقول المصنف كأبي طالب يشير إلى عدم اختصاصه به على القول بأنّ هذا سبب النزول فلا يشكل جمعه ويشهد له قصة جياد وليس المراد بالاستعظام في كلامهم التعظيم بل عده عظيماً كما في قوله إن الشرك لظلم عظيم، فما قيل إنّ جمع ضمير المفرد للتعظيم في غير نون المعظم نفسه لم يوجد في كلام من يوثق به وأيضاً من فعل النأي لا يليق تعظيمه للتوعد عليه، وما يعقبه من قوله: {وإن يهلكوا إلا نفسهم} لا يناسبه مع ما فيه غير وارد، ولذا قيل التعظيم يكون بمعنى التشريف للفاعل وهذا في الأكثر للفاعل المتكلم، وقد يكون في غيره كما ذكره المرزوقي ويكون للفعل نفسه فيعذ كثيراً وكثيراً، وهذا الفرق بين تعظيم الفاعل وتعظيم غيره أشار إليه النحرير هنا وهو فائدة جليلة، وفي ينهون وينأون تجنيس بديع، والنأي البعد وهو لازم يتعدى بعن وئقل عن الواحدي أنه سمع تعديه بنفسه عن المبرد وأنشد:
أعاذل أن يصبح صديّ بقفرة بعيداً نآني زائري وقريني
قوله: (وقفوا) وقف يكون لازما ومتعديا بمعنى الوقوف المعروف وبمعنى المعرفة فيهما أيضاً، فقوله يوقفون على النار حتى يعاينوها أو يطلعون عليها من الاطلاع إشارة إلى أن الإيقاف لينظروا ما يهولهم أو يرفعوا على جسرها وهو الصراط فينظرونها وهو المعنى الأوّل، وقوله أو يدخلونها إشارة إلى المعنى الثاني فقد احتوى كلامه على الوجوه الأربعة المذكورة في الكشاف، وجعل لو شرطية على أصلها وقيل إنها بمعنى أن وترى بصرية أو علمية وحذف الجواب لتذهب نفس السامع كل مذهب فيكون أدخل في التهويل أي لرأيت أمراً مهولاً، والخطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم أو لكل واقف عليه وذكر الوقوف ليبين لزومه لأنه مصدر للازم إلا نادراً، ومصدر المتعدي الوقف وسمع فيه أوقف في لغة قليلة وقيل إنه بطريق القياس. قوله: (تمنياً للرجوع إلى الدنيا) إشارة إلى أن متعلق نردّ مقدر تقديره إلى الدنيا. قوله: (اس! شاف كلام منهم على وجه الخ) المراد بالإثبات الأخبار عنه، واثباته في الواقع وهو في مقابلة التمني الذي هو إنشاء، والمراد بالاستئناف والابتداء معناه المتبادر المعروف وهو قطع الكلام عما قبله بأن لا يعطف عليه فالواو كالزائدة أو قطعه عما في حيز التمني وعطفه على مجموع الكلام فإنهم قد يستعملونه بهذا المعنى كما ذكره صاحب المغني في حرف الفاء حتى أنهم سموا واو الحال واو(4/42)
الابتداء فمن حمله على الأوّل قال في تفسير كلام المصنف رحمه الله أي ابتداء كلام ليس عطفاً على ما قبله على وجه الأخبار، والى الثاني مال النحرير فقال معنى كونه استئناف كلام أن يكون معطوفا على التمني عطف أخبار على إنثاء، وهو جائز عند اقتضاء المقام، وأورد عليه أنّ عطف الأخبار على الإنشاء وعكسه لم يجوّزه في شرحه على التلخيص وأن اعتبار المقام إنما يكون بعد صحة أصل الكلام والحق أنّ هذا العطف إنما يصح فيما له محل من الإعراب وليس معنى الاستئناف ما ذكره، ويدفعه ما مرّ وأنّ من النحاة من جوّز. مطلقا ونقحهأ أبو حيان عن سيبويه.
قوله: (كقولهم دعني ولا أعود) يعني أنه خبر مستأنف وهو كلام يقوله من أذنب لمن يؤدّبه على ما صدر منه وفي شرح المفصل أنه رفع لتعذر النصب والجزم على العطف أمّا النصب فيفسد المعنى إذ المعنى حينئذ ليجتمع تركك لي وتركي لما نهيت عنه وقد علم أنّ
طلب هذا المتأذب لترك المؤدّب إياه إنما هو في الحال بقرينة ما عراه من ألمه وقصد المؤدّب الترك لما نهى عنه في المستقبل ولا يستقيم الجزم أما بالعطف على دعني فظاهر لأنه لا يعطف معرب على مبني ولا محل له فيعطف عليه، وأما جعله نهيا معطوفا على الأمر فإنه لا يلزم من النهي تحقق الامتناع ألا ترى إلى تناقض أنا لا أفعل كذا في كل وقت ثم أفعله وعدم تناقض أنا أنهي نفسي عن كذا في كل وقت ثم أفعله. قوله: (أو عطف على نرذ أو حال الخ (فالمعنى على تمني مجموع الأمرين الردّ وعدم التكذيب أي التصديق الحاصل بعد الردّ إلى الدنيا لأنّ الرذ ليس مقصودا لذاته هنا وكونه متمني ظاهر لعدم حصوله حال التمني وان كان التمني منصبا على الإيمان والتصديق فتمنيه لأن الحاصل الآن لا ينفعهم لأنهم ليسوا في دار تكليف فتمنوا إيمانأ ينفعهم وهو إنما يكون بعد الرذ المحال والمتوقف على المحال محال وفي قوله في حكم المتمني إشارة إلى هذا، فاندفع ما في هذا المقام من الأوهام، وقوله راجع إلى ما تضمنه التمني من الوعد سيأتي تحقيقه قريبا. قوله: (ونصبهما حمزة ويعقوب الخ) أي نصب نكذب ونكون كذا في الكشاف وردّه أبو حيان وغيره بأن نصب الفعل بعد الواو ليس على الجوابية لأنّ الواو لا تقع في جواب الشرط فلا ينعقد مما قبلها وما بعدها شرط وجواب وإنما هي واو مع تعطف ما بعدها على المصدر المتوهم قبلها وهي عاطفة يتعين مع النصب أحد محاملها الثلاثة وهي المعية وتمييزها عن الفاء صحة حلول مع محلها أو الحال كما أنّ الفاء المنصوب ما بعدها تقدر بالشرط وشبهة من قال إنها جواب نصب ما بعدها كما ينصب ما بعد الفاء وتميزها منها أن الفاء إذا حذفت انجزم الفعل بالشرط الذي تضمن الكلام معناه، وأجيب عنه بأن الزجاج سبق الزمخشري إلى هذه العبارة وكفى به قدوة وإذا اتضح المراد سقط الإيراد إذ مراده أنها واقعة في موقع بنصب فيه الجواب واليه أشار المصنف رحمه الله بقوله إجراء لها مجرى الفاء وترك تقديره بأن رددنا كما في الكشاف مع أن ابن الأنباري رحمه الله قال: إن الواو مبدلة من الفاء وأنها جوابية حقيقة ثم أنه قيل ما ذكره الزمخشري من معنى الجزائية أي إن رددنا لم نكذب فيه نظر فإن كان وجه النظر ما ذكرنا فقد مرّ جوابه وان كان وجهه ما نقل عنه أن ردّهم لا يكون سببا لعدم تكذيبهم فقد قيل عليه إنّ السببية يكفي كونها في زعمهم ليصح النصب على الجزائية، وردّ أنّ مجرّد الرذ لا يصلح لذلك فلا بد من العناية بأن يراد الردّ الكائن بعدما ألجأهم إلى ذلك إذ قد انكشفت لهم حقائق الأشياء، وقوله إجراء لها مجرى الفاء وجهه كما في شرح الرضي تشابههما في العطف وصرف ما بعدهما عن مقتضى الظاهر وقد مرّ تحقيقه والقراءة بالرفع إمّا على العطف أو الحالية أو الاستئناف والجملة معترضة ونصب الثاني على الجوابية بالنظر إلى المجموع، أو إلى الثاني وعدم التكذيب بالآيات مغاير للإيمان والتصديق
فلم يتحدا وقرئ شاذاً بعكس قراءة ابن عامر. قوله: (1 لإضراب عن إرادة الإيمان المفهوم من التمني الخ) يعني بل للإضراب عن تمنيهم الباطل الناشئ من إبداء ما يفضحهم وهو إن رددنا لم نكذب أي ليس ذلك عن عزم صحيح بل هو من إبداء ما افتضحوا به أي ليس الأمر كما قالوا من أنهم لو ردوا لآمنوا، وفي الكشاف بل بدا لهم ما كانوا يخفون من الناس من قبائحهم وفضائحهبم(4/43)
في صحفهم وبشهادة جوارحهم عليهم فلذلك تمنوا ما تمنوا ضجراً إلا أنهم عازمون على أنهم لو ردّوا لآمنوا وقيل إنه في المنافقين وإنه يظهر نفاقهم الذي كانوا يسرّونه، وقيل هو في أهل الكتاب وأنه يظهر لهم ما كانوا يخفونه من صحة نبوّة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو ردّوا إلى الدنيا بعد وقوفهم على النار لعادوا لما نهوا عنه من الكفر والمعاصي فهذه ثلاثة وجوه، الأوّل إنه في المشركين وإنه أظهر الله قبائحهم من غير الشرك أو الشرك الذي أنكروه في موقف آخر فتمنوا ضجرا ما تمنوا إلا عزما وقدمه لأنه الظاهر إذ ما قبله متعلق بهم فانهم في بعض المواقف جحدوا الشرك وقالوا: {وَاللهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} ففضحهم الله، والثاني أنه في المنافقين لأنهم الذين كانوا يخفون الكفر ولكنه لا يناسب ما قبله، والثالث أنه في أهل الكتاب مطلقاً أو علمائهم والذي أخفوه نبوّة خاتم الرسل صلى الله عليه وسلم، وقيل المراد بدا لهم وبال ما كانوا يخفون ولا يرد أنّ المناسب خفاؤه لا إخفاؤه لأنّ الإخفاء يستلزم الخفاء مع ما فيه من توبيخهم بقبيح وصفهم، وقدم المصنف رحمه الله كونه في المنافقين لملاءمته لظاهر الآية ولو أخره لكان أولى وترك الثالث لأنه ليس في السياق والسباق ما يدل عليه. قوله: (لا عزما الخ) أي ليس عزما معتذاً به لعلم الله بتخلفه لو عادوا كما يدل عليه قوله ولو ردّوا الخ ولا ينافيه تصميمهم عليه عند شدة الأهوال وقيل عزماً صحيحاً بإرادة نفس الطاعة والإيمان من حيث هو فإنه كان لخوف العقاب لا لذاته وفيه نظر، وقوله: فتمنوا ذلك بناء على أنّ ما سبق داخل في حيز التمني ظاهر وأما على الوجه الأخير ففيه تأمّل ثم إن هذا هل يدل على جواز الكذب يوم القيامة أم لا فيه كلام في شروح الكشاف وقد مرّ تفصيله. قوله: (بعد الوقوف والظهورا لسبق قضاء الله بذلك فانهم لخبث طينتهم ونجاسة حليتهم يذهلون عما رأوه فلا يرد أنّ العاقل لا يرتاب فيما شاهده حتى يعود إلى موجب العذاب الأليم، وأمّا أن المراد أنهم لو ردّوا إلى حالهم الأولى من عدم العلم والمشاهدة على أنه من إعادة المعدوم فلا يناسب مقام ذمّهم بغلوّهم في الكفر والإصرار وكونه جوابا لما مرّ من تمنيهم. قوله: (من الكفر والمعاصي) إشارة إلى ما مرّ في نصب ونكون وحده من أنّ عدم تكذيبهم بآيات الله تصديقهم بها وهو عين كونهم مؤمنين فكيف يقع جوابا له وقد دفع بأنا لا نسلم أنّ المراد به ذلك وليس عدم التكذيب بها عين التصديق ولا مستلزما له كمن
نشأ في شاهق جبل فإنه ليس بمكذب ولا مصدق لعدم بلوغها إياه ولو سلم فالمراد بقوله ونكون من المؤمنين من الكاملين في الإيمان وعدم استلزام انتفاء التكذيب لهذا الإيمان بين ويومئ إلى هذا قول المصنف رحمه الله من الكفر والمعاصي فافهم. قوله: (فيما وعدوا من أنفسهم (إشارة إلى دفع ما قيل التمني إنشاء والإنشاء لا يحتمل الصدق والكذب فكيف قيل لانهم لكاذبون فأجاب الزمخشرقي عنه بأنه بعض العدة فدخله ذلك باعتبار ما تضمنه كما تقول ليت لي مالاً فالأحسن إليك فلو رزق مالاً ولم يحسن إليه قيل إنه كذب عليه وصح أن يوصف بأنه كاذب، وقيل إنه ليس تكذيباً للتمني بل ابتداء أخبار منه تعالى بأنّ ديدنهم وهجيراهم الكذب، وأمّا قول الربعي أنّ التمني يحتمل الصدق والكذب محتجاً بقوله:
مني أن يكن حقاً يكن أحسن المنى والاف! ل! ا! از! أر! را
لأنّ الحق بمعنى الصدق وهو ضدّ الباطل والكذب فلا يخفى ما فيه مع أنه لو سلم فهو مجاز أيضا والمصنف رحمه الله اقتصر على أنّ الكذب عائد إليه باعتبار ما تضمنه من الخبر لظهوره إذ كل إنشاء يتضمن خبرا وهو المراد، وأمّا أن الوعد والوعيد هل هما من قبيل الخبر او من قبيل الإنشاء كما حقق في الأصول فإن كان مذهب المصنف رحمه الله الأوّل فكلامه هنا وفيما سبق ظاهر، وإن كان عنده إنشاء كما ذهب إليه الأكثرون فاستدلوا بأنه يتمدح بخلف الرعيد كما قال الشاعر:
واني وان أوعدت " ووعدته لمخلف إيعادي ومنجز موعدي
ولو كان خبراً لكان حنفه كذبا لا يتمدح به فمراده ما مز أو المراد بالكذب عدم الوفاء به
لا عدم مطابقته للواتع كما ذكره الراغب وأوّله به بعضهم هنا وفي قوله لما نهوا عنه إشارة أيضا إلى أن دأبهم العناد(4/44)
واللجاج حتى لو نهوا عن الحق فعلوه. قوله: (عطف على لعادوا) قيل عليه انه استئناف أو عطف على أنهم لكاذبون لا على عادوا ولا على نهوا إذ حينئذ حق قوله وانهم لكاذبون أن يؤخر عن المعطوف أو يقدّم على المعطوف عليه وأشار إلى جوابه من تال وتوسط فرله وانهم لكاذبون لأنه اعتراض مسوق لتقرير ما أفادته الشرطية من كذبهم المخصوص، ولو أخر لأوهم أنّ المراد تكذيبهم في إنكارهم البعث والمعنى لو ردّوا إلى الدنيا لعادوا لما نهوا نمه، ولقالوا الخ، وقريب منه ما قيل فائدة التوسط المبادرة إلى تكذيبهم في وعدهم عقيب قوله ا! ادوا لما نهوا عنه مسوقا لرذ وعدهم، وقوله أو على أنهم لكاذبون أو على خبران وكذبهم حيمئذ غير مختص بما وعدوا أو خاص به وإذا عطف على نهوا فالعائد محذوف أي لما قالو.. موله: (الضمير للحياة الخ) أي للحياة المذكورة بعده، وهو كثير في كلامهم كقول المتنبي:
هو الجد حتى يفصل العين أختها وحتى يكون اليوم لليوم سيدا
وقول المعرّي:
هو الهجر حتى ما يلمّ خيال
قال ابن مالك رحمه الله: الضمير يعود على متأخر لفظاً ورتبة في مواضع منها ضمير الشأن ويسمى ضمير المجهول والقصحة ومنها الضمير المرفوع بنعم وبئس وما جرى مجراهما والضمير المجرور برب العائد على تمييزه والمرفوع بأوّل المتنازعين على مذهب البصريين والضمير المجعول خبره مفسرأ له، كما هنا والضمير الذي أبدل منه مفسره نحو ضمربتهم قومك وفي هذا الأخير خلاف منهم من منعه ومنهم من أجازه وعليه أبو حيان في سورة البقرة واعترض على الزمخشري في تجويزه في غير هذه المواضع كما أجاز في قوله تعالى في الأحقاف: {فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا} [سورة الأحقاف، الآية: 24] كون الضمير راجعاً إلى عارضاً وهو حال أو تمييز وفي قوله: {فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} [سورة البقرة، الآية: 29] عودهن إلى سبع إلا أن يكون مراده أن سبع سموات بدل لكنه يصير النظم غير مرتبط، وخالف هذا في شرحه على التسهيل، فقد عرفت وجه عود الضمير هنا على متأخر وأنه مختار النحاة وأمّا كونه ضمير شأن، فلا يتأتى على مذهب الجمهور لأنهم اشترطوا في خبره أن يكون جملة وخالفهم الكوفيون فيه كما في التسهيل قيل ويحتمل أنه عبارة عما في الذهن وهو الحياة والمعنى أن الحياة إلا حياتنا الدنيا وقيل هو ضمير القصة، ورذ بأنه لا يفسر بمفرد فإن قلت الكوفيون يجوّزون تفسيره بالمفرد فليكن هذا على مذهبهم قلت إن كان مذهبهم ذلك مطلقاً صح ما ذكرت وإن قيد المفرد بكونه عاملا عمل الفعل كاسم الفاعل ونحوه نحو أنه قائم زيد لأنه يسد مسذ الجملة لما فيه من الإسناد كما في الدر المصون فلا يصح لأنه مثل هو زيد، وقد قال إنه لا يجيزه أحد من النحاة وفيه نظر وما ذكره من الاحتمال بعيد جداً أو المراد ليس في الأذهان إلا هذه الحياة المشاهدة كقولهم: {مَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} [سورة الأنعام، الآية: 29] . قوله:) مجاز عن الحبس! الما كان معنى الاستعلاء هنا غير متصوّر احتاج النظم إلى تقدير أو تجوّزوا لتجوّز إمّا في المفرد أو في الجملة على أنه استعارة تمثيلية وهو الأرجح عندهم وكلام المصنف رحمه الله يحتملهما ولم يجعلوه كناية لأن المشهور-فيها اشتراط إمكان الحقيقة، وهي غير ممكنة هنا وبهذا بطل ما قال بعض الظاهرية من أن أهل القيامة يقفون بالقرب من الله تعالى في موقف الحساب. قوله: (وقيل معناه وقفوا على قضاء ربهم الخ) فهو من الوقوف بمعنى الاطلاع، وفيه مضاف مقدر وهو متعذ بعلى أيضاً فلا حاجة إلى التضمين وجعله من القلب كما توهم وقوله:) أو عرّفوه) من التفعيل بتشديد الراء والضمير لله ولا يلزم من حق التعريف حق المعرفة فلا يقال كيف هذا، وقد قيل ما عرفناك حق معرفتك وهو ظاهر وجوّز عود الضمير على القضاء أو الجزاء، فلا
إشكال وهو أيضاً من الوقوف بمعنى الاطلاع لكنه لازم كما قيل وهذا متعد فتأمّل، وما قيل إنه بمعنى عرفوه بصفات لم يعرفوها بلا تقدير لا يناسب المقام. قوله: (والإشارة إلى البعث وما يتبعه (فالإشارة إلى جميع ما ذكر لا العقاب وحده ولا دلالة في قوله فذوقوا على ذلك كما قيل وقوله: كأنه جواب قائل الخ إشارة إلى أنه استئناف بياني وجوّز فيه أن يكون حالاً. قوله: (بسبب كفرهم أو ببدله) إشارة إلى أن ما مصدرية ويجوز فيها أن تكون موصولة بتقدير العائد لكن ما ذهب إليه المصنف رحمه الله أولى لعدم الاحتياج إلى التقدير سببية أو للتعويض كالدأخلة على الأثمان نحو اشتريت بكذا وكافأت إحسانه بضعفه على(4/45)
إنه استعارة تبعية وبعضهم جعل الباء للمقابلة وكلام المصنف رحمه الله يأباه لتغاير المقابلة، والبدلية كما في المغني لكنه قيل المقابلة أوفق بمذهب أهل السنة. قوله: (ولقاء الله البعث الخ (يعني أنه استعارة تمثيلية كما قال المصنف رحمه الله في سورة العنكبوت إنه تمثيل لحاله بحال عبد قدم على سيده بعد زمان مديد، وقد اطلع السيد على أحواله فإما أن يلقاه ببشر لما يرضى من أفعاله أو بسخط لما يسخط منها وفسره في العتكبوت بالجنة ومرّض ما هنا لأنه هنا مع منكري البعث وهناك عامّ، قيل روي عن عليّ رضي الله عنه وكرّم وجهه أنه نظم أبياتا على وفق هذه الآية وفي معناها وهي:
زعم المنجم والطبيب كلاهما لا يحشر الأموات قلت إليكما
إن صح قولكما فلست بخاسر أوصح قولي فالخسارعليكما
(قلت) لا أدري من أيهما أعجب الرواية أم الدراية فإنّ هذا الشعر لأبي العلاء المعري في ديوانه وهو:
قال المنجم والطبيب كلاهما ~ لا تبعث الأموات قلت إليكما
إن صح قولكما فلست بخاسر ~ أو صح قولي فالخسار عليكما
أضحى التقى والشرّ يصطرعان في ~ الدنيا فأيهما أبرّ لديكما
طهرت ثوبي للصلاة وقبله ~ جسدي فأين الطهر من جسديكما
وذكرت ربي في ضميري مؤنساً ~ خلدي بذاك فاوحشا خلديكما
وبكرت في البردين أبغي رحمة ~ منه ولا تريان في برديكما
إن لم تعد بيدي منافع بالذي ~ آتي فهل من عائد بيديكما
برد التقيّ وأن تهلهل نسجه ~ خير يعلم الله من برديكما
قال ابن السيد في شرحه: هذا منظوم مما روي عن عليّ رضي الله عته أنه قال لبعض من تشكك في البعث والآخرة إن كان الأمر كما تقول من أنه لا قيامة فقد تخلصنا جميعاً وان لم يكن الأمر كما تقول فقد تخلصنا، وهلكت فذكروا أنه ألزمه فرجع عن اعتقاده، وهذأ الكلام وان خرج مخرج الشك فإنما هو تقرير للمخاطب على خطابه وفلة أخذه بالنظر والاحتياط لنفسه مع أنّ المناظر على ثقة من أمره، وهو نوع من أنواع الجدل، وقوله إليكما كلمة يراد بها الرح والزجر ومعناها كفا عما تقولان وحقيقته قولكما مصروف لكما لا حاجة لي به انتهى ومن له معرفة بقرض! الشعر يعلم أنه شعر مولد.
تنبيه: هذا النوع يسمى استدراجاً قال في المثل السائر الاستدراج نوع من البلاغة استخرجته من كتاب الله تعالى وهو مخادعات الأقوال التي تقوم مقام مخادعات الأفعال يستدرج الخصم حتى ينقاد ويذعن وهو قريب من المغالطة وليس منها كقوله تعالى: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءكُم بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ وَإِن يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِن يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُم بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ} [صورة غافر، الآية: 28] ألا ترى لطف احتجاجه على طريقة التقسيم بقوله إن يك كاذبا فكذبه عائد عليه، وأن يصدق يصبكم بعض ما وعدكم به ففيه من الإنصاف والأدب ما لا يخفى فإنه نبي صادق فلا بد أن يصيبهم كل ما وعد به لا بعضه لكنه أتى بما هو أذعن لتسليمهم وتصديقهم لما فيه من الملاطفة في النصح بكلام منصف غير مشتط مشدّد أراهم إنه لم يعطه حقه ولم يتعصب له ويحامي عنه حتى لا ينفروا عنه ولذا قدم قوله كاذباً ثم ختم بقوله إنّ الله لا يهدي الخ يعني أنه نبيّ على الهدى ولو لم يكن كذلك ما آتاه الله النبوّة وعضده، وفيه من خداع الخصم واستدراجه ما لا يخفى انتهى. قوله: (لأن خسرانهم لا غاية له الخ) حمله الطيبي على أنه غاية للخسران على حد قوله: {وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ} [سورة ص، الآية: 78] أي إنك مذموم مدعوّ عليك باللعنة إلى يوم الدين فإذا جاء ذلك اليوم لقيت ما تنسى اللعن معه أي خسر المكذبون إلى قيام الساعة بأنواع من المحن والبلاء، فإذا قامت الساعة يقعون فيما ينسون معه هذا الخسران وذلك هو الخسران المبين، وفي الكشف ردّاً عليه لم يجعل من باب وانّ عليك لعنتي لأنّ الخسران الأشذ بعد قولهم ذلك حين استقرارهم في دار العذاب فلا وجه لجعله غاية(4/46)
الخسران مبالغة وليس بوارد لأنّ جعله غاية للخسران المتعارف بقرينة المقام يفيد أن ما وقع بعده أشدّ وأفظع منه حتى كأنه جنس آخر، وهو يلاقي ما ذكره ولا ينافيه، وقد غفل عن هذا من تابعه وما ذكره الطيبي وجه بديع فتأمّله. قوله: (بغتة) في نصبه وجوه منها أنه حال بمعنى مبغوتين وقيل إنه منصوب على أنه مفعول مطلق من معناه كرجع القهقرى، وقيل بفعل مقدر من غير لفظه أي أتتهم بغتة، وقيل من لفظه والبغتة والفجأة مجيء شيء سرعة لم يكن منتظرا والساعة غلبت على يوم القيامة كالنجم للثريا، وسميت ساعة لقلتها بالنسبة لما بعدها من الخلود أو لسرعة الحساب فيها على الباري. قوله تعالى: {*******فهذا أوانك} تعالى بفتح اللام
وسكون الياء كما مرّ قال سيبويه: كأنه يقول أيتها الحسرة هذا أوانك، وقال أبو البقاء: معناه يا حسرة احضري هذا أوانك وهو مجاز معناه تنبيه أنفسهم لتذكر أسباب الحسرة لأنّ الحسرة لا تطلب ولا يتأتى إقبالها وإنما المعنى على المبالغة في ذلك حتى كأنهم ذهلوا فنادوها كقوله: {يَا وَيْلَتَنَا} قيل والمقصود التنبيه على خطأ المنادي حيث ترك ما أحوجه تركه إلى نداء هذه الأشياء قال الطيبي: وهذا أقرب من قول الزمخشري لسلامته عن السؤال ولأنّ قوله: {وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ} مقارن لهذا التحسر وهو لا يناسب إلا الحشر ويعني بالسؤال قوله فإن قلت أما يتحسرون عند موتهم، قلت لما كان الموت وقوعا في أحوال الآخرة ومقدّماتها جعل من جنس الساعة وسمي باسمها ولذلك قال رسول الله-يخي! : " من مات فقد قامت قيامته " (1) أو جعل مجيء الساعة بعد الموت لسرعته كالواقع بغير فترة ووجهه أنه جعل الغاية تذكر التحسر لا نفسه فلم يرد السؤال عليه رأسا ومن لم يتنبه لمراده ظن أنه أهمل ما ذكره الزمخشري وضمه إليه. قوله: (قصرنا الخ (ما مصدرية والتفريط التقصير فيما قدر على فعله وقال أبو عبيد: معناه التضييع وقال ابن بحر معناه السبق ومنه الفارط للسابق فالمفرط سبقه غيره للفعل فالتضعيف فيه للسلب. قوله: (في الحياة الدنيا الخ) الضمير راجع إلى الحياة المعلوم من السياق وقوله أضمرت، وان لم يجر ذكرها أورد عليه أنّ عدم الذكر في كلامهم مثترك بينها وبين الساعة وعدمه في كلامه تعالى ممنوع فيهما لما سبق آنفاً وذكر جواب العلامة في شرح الكشاف وهو أنّ القائلين هذا القول هم الناهون عن اتباعه صلى الله عليه وسلم وهم كفار قريش، أو غيرهم فالحياة الدنيا مذكورة في قصة عن قوم آخرين وقد انتقل منها إلى قصة أخرى فلا يجوز عود الضمير منها إلى ما فرغ عنه بخلاف الساعة ولا يرد عليه كما توهم أنّ قول المصنف بعيد هذا وهو جواب لقولهم: {إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا} ينافيه لأنه لا مانع من ذكر مقالتين ثم التصريح بجواب إحداهما ألا تراه أظهر في الجواب، ولم يضمر لكونه كلاماً آخر نعم يرد عليه أنه إذا حكى كلامان لا مانع من أن يضمر في الآخر ما يعود إلى ما ذكر في الأوّل لأنهما باعتبار الحكاية كلام واحد، كما إذا قلت قال زيد أكرمت عمرا وقال بكر إنه أهانه ومثله كثير لا شبهة في صحته، ولك أن تقول! إن المراد إنها نكتة لا يلزم اطرادها فإن اعتبر المحكي أظهر وان اعتبرت الحكاية أضمر لا إنه يتعين الأوّل، وان كان قول الشارح لا يجوز يقتضي خلافه. قوله: (تمثيل الخ) الآصار جمع أصر كحمل لفظاً ومعنى والوزر أصل معناه الثقل أيضا ثم قيل
للذنوب أوزار وجعلها محمولة على الظهر استعارة تمثيلية وعلى الظهر بناء على المعتاد الأغلب كما في كسبت اً يديكم إذ الكسب في أكثر بالأيدي وقيل حملها على الظهر حقيقة وانها تحسم لما روي في الحديث هنا: " إنه ليس من ظالم يموت فيدخل قبره إلا جاءه رجل قبيح الوجه أسود اللون منتن الريح عليه ثياب دنسة فإذا ر! قال له: ما أقبح وجهك فيقول: كذا كان عملك قبيحا فيكون معه قي قبره فإذا بعث قال له: إني كنت في الدنيا أحملك باللذات والشهوات، وأنت اليوم تحملني، فيركب ظهره ويسوقه إلى النار " (1 (الحديث ولعل هذا تمثيل أيضا وقريب منه ما قيل، من قال بالميزان واعتقد وزن الأعمال لا يقول إنه تمثيل. قوله: (ألا ساء ما يزرون) ساء يحتمل هنا وجوها ثلاثة أحدها أن تكون المتعدية المتصرفة ووزنها فعل بفتح العين والمعنى ألا ساءهم ما يزرون وما موصولة أو مصدرية أو نكرة موصوفة فاعل له، الثاني أنها حوّلت إلى فعل بضم العين وأشربت معنى التعجب والمعنى ما أسوأ(4/47)
الذي يزرونه، أو ما أسوأ وزرهم على اهـ مالي ما، والئالث أنها حوّلت أيضا للمبالغة في الذمّ فتساوي بئس في المعنى والأحكام، والكلام في ما كما في قوله بئس ما اشتروا والفرق بين هذا الوجه والوجه الذي قبله أنه فيما قبله لا يشترط فيه ما يشترط في فاعل بض من الأحكام ولا هو جملة منعقدة من مبتدأ وخبر وإنما هو فعل وفاعل، والفرق بين هذين الوجهين والأوّل إنه متعدّ في الأوّل قاصر في هذين وإنه فيه خبر وفيهما إنثاء، واقتصر المصنف على أحدهما وقدر المخصوص بالمدح وذكر المولى ابن كمال اثنين منها فتوهم بعضهم أنه لم يفرق بينهما وهو الواهم لأنه قال المخصوص بالذم محذوف أي بئس شيئاً يزرون وزرهم أو الذي يزرونه، وجاء على وزن فعل متعدياً فتقديره ساءهم انتهى. قوله: (وما أعمالها إلا لعب ولهو الخ) أي ليست الأعمال المختصة بها إلا كاللعب واللهو في عدم النفع والثبات فخرج ما فيها من الأعمال الصالحة كالعبادة وما كان لضرورة المعاش، والكلام من التشبيه البليغ ولو لم يقدر مضاف وجعلت الدنيا نفسها لهواً ولعبا مبالغة صح بقي هنا نكتة وهو أنه جمع اللهو واللعب في آيات فتارة قدم اللعب كما هنا وتارة قدم اللهو كما في العنكبوت فهل لهذا التفنن نكتة خاصة أم لا فأبدى بعضهم لذلك نكتة وزعم أنها من نتاتج أفكاره، وليس كما قال فإنها مذكورة في درة التأويل وهو أبو عذرته في هذا الفن، ومحصل ما ذكراه أنّ الفرق بين اللهو واللعب مع اشتراكهما في أنهما الاشتغال بما لا يعني العاقل وبهمه من هوى أو طرب سواء كان حراما أم لا أنّ اللهو أعم من اللعب فكل لعب لهو ولا عكس فاستماع الملاهي لهو وليس بلعب، وقد فرقوا بينهما بأنّ اللعب ما قصد به تعجيل المسرة والاسترواح به واللهو كل ما شغل من هوى وطرب، وان لم يقصد به ذلك كما نقل عن أهل اللغة قالوا واللهو إذا أطلق فهو اجتلاب المسرة بالنساء كما قال امرؤ القيس:
ألا زعمت بسياسة اليوم أنني كبرت وأن لا يحسن اللهو أمثالي
وقال قتادة اللهو في لغة اليمن المرأة، وقيل اللعب طلب المسرة والفرج بما لا يحسن أن يطلب به، واللهو صرف الهمّ بما لا يصلح أن يصرف به وقيل إن كان شغل أقبل عليه لزم الإعراض! عن كل ما سواه لأن من لا يشغله شأن عن شأن هو الله فإذأ أقبل على الباطل لزم الإعراض! عن الحق فالإقبال على الباطل لعب والإعراض عن الحق لهو، وقيل العاقل المشتغل بشيء لا بد له من ترجيحه وتقديمه على غيره فإن قدمه من غير ترك للآخر فلعب وإن تركه ونسبه به فلهو فهذه وجوه أربعة في الفرق بينهما ما إذا عرفت هذا فهذا الكلام لما كان رذأ على الكفرة في إنكار الآخرة وحصر الحياة في الحياة الدنيا فهؤلاء طاعة داعي الجهل ليس لهم وفي اعتقادهم إلا ما عجل من المسرة بزخرف الدنيا الفانية قدم اللعب الدال على ذلك وتفم باللهو أو لما طلبوا الفرح بها وكان مطمح نظرهم وصرف الهم لازم وتابع له أو لما أقبلوا على الباطل في أكثر أقوالهم وأفعالهم قدم ما يدذ عليه، وعلى الأخير الاستغراق إنما يكون بعد التقديم فروعي فيه الترتيب الخارجي، وأفا في العنكبوت فالمقام لذكر قصر مدة الحياة بالقياس إلى الآخرة وتحقيرها بالنسبة إليها، ولذا ذكر اسم الإشارة المشعر بالتحقير وعقبت بقوله: {وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ} [سورة العنكبوت، الآية: 64] والاشتغال باللهو مما يقصر به الزمان، وهو أدخل من اللعب فيه وأيام السرور فصار كما قال:
وليلة إحدى الليالي الزهر لم تك غير شفق وفجر
وينزل هذا على الوجوه في الفرق كما مر، وان أردت التفصيل فطالع درّة التنزيل.
قوله: (وخلوص منافعها) أي عن المضارّ والآلام وقوله تنبيه على أنّ الخ لما خص أعمال الآخرة بالمتقين وهي في مقابلة أعمال الدنيا التي هي لعب ولهو علم أن ما ليس من أعمال المتقين ليس من أعمال الآخرة بل من أعمال الدنيا وأعمال الدنيا لعب ولهو فما ليس من أعمال المتقين لعب ولهو كذا أفاده النحرير ولزم منه بيان أنّ اللهو واللعب ما خالف أفعال المتقين، وترك بيانه لظهوره وعدم الاعتناء به فلا وجه لما قيل لو جعل المنبه(4/48)
عليه عكس هذا أنّ اللهو واللعب ما ليس من أفعال المتقين كان أظهر. وقوله: (وقرأ ابن عامر ولدار الآخرة) بإضافة الموصوف للصفة ومن لم يجوّزه تأوّله بتقدير ولدار النشأة الاخرة ونحوه أو أجرى الصفة مجرى الاسم كما سيأتي تحقيقه في سورة يوسف. قوله: (أفلا يعقلون أيّ الأمرين خير) ضمير الجمع قال الواحدقي للمتقين وهو معنى قول المصنف
رحمه الله خطاب المخاطبين لأنهم المخاطبون في الحقيقة والاستفهام حينئذ ليس للإنكار بل للتنبيه والحث على التأمّل، وقيل إنّ معنى قوله على خطاب المخاطبين به أي الذين وجه الكلام إليهم وهم الذين قالوا إن هي إلا حياتنا الدنيا فالاستفهام للتقرير والتحقيق أو الإنكار وفيه التفات ويشمل غيرهم بعموم الخطاب والتغليب كما هو معروف، وقيل على قوله وهو جواب الخ إنهم ينكرون الآخرة وهذا يدل على ترجيحها ولا وجه لأن ترجيحها يرذ ما ادّعوه على أبلغ وجه كما لا يخفى واعلم أن اللهو له معنيان أحدهما الهزل والثاني صرف النفس عن أمر إلى غير. ومادتهما واحدة وهو واوفي، وقال المهدوي الأوّل لامه: واو، والثاني ياء بدليل قولهم لهيان في الثاني وردّه أبو حيان بأنّ اللام في التثنية تقلب ياء ألا ترى قولهم شجيان في شجى، وهو واوي من الشجو (أقول) ما قاله غير مسلم لأنّ الراغب إمام أهل اللغة قال: يقال لهوت ولهيت، وقال في الدرّ المصون كلام الراغب هو الذي غرّ المهدويّ، وهو غريب منه فلا تكن من الغافلين. قوله: (معنى قد زيادة الفعل وكثرته) وكثرة العلم بكثرة المعلوم فإن في ليحزنك ويقولون دلالة على الاستمرار التجدّدي والأصل الأغلب في قد أن تستعمل للتقليل، وفهمه ابن مالك من قول سيبويه وتكون قد بمنزلة ربما قال الهذليئ:
قد أترك القرن مصفرّآ أنامله كأن أثوابه محت بفرصاد
كأنه قال: ربما هذا نص كلامه.! قال ابن مالك: إطلاقه إنها بمنزلة ربما يوجب التسوية بينهما في التقليل والصرف إلى المضيئ، وهو الصحيح، واعترض عليه أبو حيان بأنّ سيبويه رحمه الله لم يبين الجهة التي فيها قد بمنزلة ربما فلا يدل ذلك على التسوية وان كلامه يدل على التكثير لا التقليل لأنّ الإنسان لا يفخر بشيء يقع منه على سبيل القلة والندرة وإنما يفخر بما يقع منه على سبيل الكثرة فتكون قد بمنزلة ربما في التكثير انتهى. فأفاد أن قد في البيت للتكثير وأن كلام سيبويه رحمه الله دالّ على التكثير كما فهمه عنه الزمخشري وغيره لا كما فهمه ابن مالك ومن تبعه (قلت (فقد علمت اختلافهم في مراد سيبويه رحمه الله وفي قد في البيت وأنه محتمل للوجهين، والحق ما فهمه ابن مالك من أن مراده التقليل وانّ الشعر دليل عليه، فإن الفخر يقع بترك الشجاع قرنه وقد صبغت أثوابه بدمائه في بعض الأحيان وقول أبي حيان رحمه الله إنّ الإنسان لا يفخر إلا بما يصدر منه كثيراً غير مسلم، لأنّ ذلك فيما يكثر وقوعه، وأمّا ما يندر يفتخر بوقوعه نادراً لأن قرن الشجاع لو غلبه كثيرآ لم يكن قرنا له، لأن القرن المقاوم المساوي المعارض فلفظ القرن يقتضي بحسب دقيق االنظر أنه لا يغلبه إلا قليلاً والا لم يكن قرناً، ويتناقض أوّل الكلام وآخره ونحوه قول بعض النحاة في الردّ على من اسنشهد لتقليل قد يقولهم قد يجود البخيل ويصدق الكذوب بأن قد فيه للتحقيق لا للتقليل
والتقليل يستفاد من مجموع الكلام لا من قد فإنه إن لم يحمل على أنّ صدور ذلك لو كان كثيراً فسد المعنى وناقض آخر الكلام أوّله وقيل إنها هنا للتحقيق، وقيل إنها للتقليل أي ما هم فيه أقل معلوماته، وإذا استعملت للتكثير فهل هو بطريق الوضع أو استعارة أحد الضدين للآخر قولان. قوله: (ولكنه قد يهلك المال نائله) هو من قصيدة لزهير بن أبي سلمى يمدح بها حصن ابن حذيفة بن بدر الفزاري أوّلها:
صحا القلب عن سلمى وأقصر باطله وعرّى أفراس الصبا ورواحله
وهي من جيد شعره ومنها:
فمن مثل حصن في الحروب ومثله لإنكارضيم أولخصم يجادله
أخوثقة لايهلك الخمرماله ولكنه قديهلك المال نائله(4/49)
تراه إذا ما جئته متهللا كأنك تعطيه الذي أنت سائله
ولولم يكن في كفه غيرنفسه لجادبهافليتق الله سائله
قيل إنه يريد أنه جواد لا يسرف ولما كان السكر مظنة الإسراف خصه بالنفي، وقوله أخو
ثقة ظاهر في هذا المعنى وان خفي على من قال إنّ جوده ذاتيّ لا يحدث بالسكر، ثم لما كان الوصف بإفراط التوقي عن الإسراف المفهوم من ملازمة الثقة مظنة التفريط في الجود تداركه بقوله ولكنه الخ أي مال ذلك الممدوح يذهبه نائله أي عطاؤه يعني ما فيه من كمال الحزم وفرط الاحتياط قد يقتضي غلبة الجود على من طبعه عدم الإسرأف فعلى هذا قد على معناها الأصليّ، غير مستعارة لضدها كما في الكشاف وغيره.
(قلت) هذا تكلف يذهب رونق الشعر وماء الفصاحة والحق ما ذكره في الكشاف، وليس
معنى قوله أخو ثقة ما ذكره بل معناه إنه يثق به من يرجوه في الشدائد ويقصده في المضايق لأنه لا يخيب راجيا كما فسره به أئمة الأدب وشراح الحماسة فلا دلالة له على عدم الإسراف أصلاً ألا ترى قوله في قصيدة أخرى:
واذا سكرت فإنني مستهلك مالي وعرضي وافر لم يكلم
واذا صحوت فما أقصرعن ندا وكما علمت شمائلي وتكرمي
قوله: (وقرئ الخ) هي قراءة نافع رحمه الله وكلامه رحمه الله لا يوهم أنها شاذة كما
توهم. قوله: (فإنهم لا يكذبونك في الحقيقة (لما كان ظاهر النظم كالمتناقض لأنّ جحود آيات الله المنزلة على النبيّ صلى الله عليه وسلم المصدقة له تكذيب له فيما يدعيه من الشرائع وجهه في الكشاف بثلاثة أوجه الأوّل أنّ المراد بنفي تكذيبه استعظام تكذيبه، وأنه مما لا ينبغي أن يقع وجعله
تكذيبا لله تسلية لرسوله صلى الله عليه وسلم، الثاني أن المراد نفي التكذيب القلبي واثبات اللساني، الثالث أنهم ليس قصدهم تكذيبك لأنك عندهم موسوم بالصدق وإنما يقصدون تكذيبي والجحود بآياني، وهذا الوجه حكاه الكساتي وردّه الشريف المرتضى بأنه لا يجوز أن يصذقو. في نفسه، ويكذبوا ما أتى به لأنّ من المعلوم أنه ع! ييلى كان يشهد بصحة ما أتى به وصدقه وأنه الدين القيم والحق الذي لا يجوز العدول عنه فكيف يجوز أن يكون صداقا في خبره ويكون الذي أتى به فاسداً بل إن كان صادقاً فالذي أتى به صحيح وإن كان الذي أتى به فاسداً فلا بد أن يكون كاذبا فيه، وهذا تأويل من لم يحقق المعاني وسيأتي ما يؤخذ منه جوابه فتدبر وقيل إنهم لا يكذبونك فيما وافق كتبهم وان كذبوك في غيره وقيل جميعهم لا يكذبونك وان كذبك بعضهم وهم الظالمون المذكورون في هذه الآية فلا يكون من وضع الظاهر موضع المضمر وقيل لا يكذبونك كذبا ضارّاً لك وقال الطيبيّ الوجه هو الأوّل لقوله: {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ} [سورة الأنعام، الآية: 34] فإنه تسلية له صلى الله عليه وسلم فلا يناسب الوجهين الأخيرين، وفيه نظر وقوله في الحقيقة في شرح الهداية هذه العبارة تستعمل عند المحصلين فيما إذا دلّ لفظ بظاهره على معنى إذا نظر إليه يؤول إلى معنى آخر، والمراد بقوله في الحقيقة أن تكذيبهم إنما هو لي فهو كما في الوجه الثالث ويكون ما روي مؤيداً له لا وجها آخر وان كان معناه لا يعتقدون كذبك في الباطن فهو جواب آخر وكلامه محتمل لهما كما سيأتي بل ربما ينزل على الوجوه كلها ويكون هذا من إيجازه البديع كما هو عادته، وقوله: (روي الخ) تأييد لما في ضمنه فإن حمل على ظاهره يكون اقتصر على أحد الأجوبة لأنّ بعضها الأخر غير مرضيّ له أو غير مغاير له من كل الوجوه ففيه ردّ على الكشاف وسلوك طريق آخر وهو الظاهر فكلامه محتمل لوجوه من التخريج فتدبر، والفاء للتعليل فإنّ قوله قد نعلم الخ بمعنى لا تحزن كما يقال في مقام المنع والزجر نعلم ما تفعل، ووجه التعليل في تسليته له صلى الله عليه وسلم بأن التكذيب في الحقيقة لي وأنا الحليم الصبور فتخلق بأخلاقي، ويحتمل أن يكون المعنى إنه يحزنك قولهم لأنه تكذيب لي فأنت لم تحزن لنفسك بل لما هو أهمّ وأعظم. قوله: (يجحدون بآيات الله ويكذبونها) وفي نسخة يكذبونه والجحد كالجحود نفي ما في القلب ثباته أو إثبات ما في القلب نفيه، وقيل: الجحد إنكار المعرفة، فليس مرادفا(4/50)
للنفي من كل وجه وقدر التضمين بالعطف، وهو أحد طرقه كما قدروه في الرفث إلى نسائكم بالرفث والإفضاء وليس طريقة منحصرة في الحالية، كما يتوهم وقد مرّ تحقيقه لكنه كان الأظهر أن يقول ويكذبون بها كما في بعض النسخ، ألا ترى إلى قوله والباء لتضمين الجحود معنى التكذيب ولذا قيل حق التعبير ولكنهم يجحدون آياتنا مكذبين بها لتعدي الجحد بنفسه، وحص ن المضمر حالاً صلته الباء وليس متعينا كما عرفت، وقيل عليه أيضاً أن الجحد يتعدى بنفسه وبالباء كالتكذيب وهو ظاهر كلام الجوهري، والراغب فإنه قال يقال جحده حقه
وبحقه، وكذب وأكذب معنى عند الجمهور وقال الكساتي: العرب تقول كذبته بالتشديد إذا نسبت الكذب إليه وأكذبته إذا نسبت الكذب إلى ما جاء به دونه، ويقولون أيضا أكذبته إذا وجدته كاذبا كأحمدته إذا وجدته محمودا، وإليه أشار المصنف رحمه الله وقوله: (روي أنّ أبا جهل الخ) هذا الحديث (1 (أخرجه الترمذي والحاكم عن عليّ كرم الله وجهه وصححاه، وهذا إشارة إلى وجه آخر كما في الكشاف وهو الذي حمل الكسائيّ على تفسيره السابق وقيل ليس هذا إشارة إلى وجه وذاك إلى آخر كما يوهمه النظر في الكشاف والا فالوجه إيراده بالواو، وحاصل المعنى أنهم لا يكذبونك في نفس الأمر لأنهم يقولون إنك صادق ولكن يتوهمون أنه اعترى عقلك نوع خلل فخيل إليك أنك نبي وليس الأمر بذاك وما جئت به ليس بحق، أو مراده كما قال الطيبيّ رحمه الله: إنك لا تكذب لأنك الصادق الأمين ولكن ما جئت به سحر، ومنه علم جواب ما مرّ عن علم الهدي المرتضى. قوله: (للدّلالة الخ (الظاهر أنّ مراده أنّ الظلم إمّا مطلق فيفيد أنّ الظلم دأبهم وديدنهم وأنه علة الجحود لأنّ التعليق بالمشتق يفيد علية المأخذ كما يفهم من قولك الجواد يقري الضيف أنّ سبب قراه الجود، وان أريد ظلمهم المخصوص فهو غير الجحود وواقع به نحو ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل فيكون المبتدأ مشيراً إلى وجه بناء الخبر كقوله:
إن الذي سمك السماء بنى لنا بيتاً دعائمه أعز وأطول
وقيل إنه يشير إلى أن اللام إمّا موصولة واسم الفاعل بمعنى الحدوث فيفيد الكلام سببية الجحد للظلم أو حرف تعريف واسم الفاعل بمعنى الثبوت فيفيد سببية الظلم للجعد انتهى وفيه نظر. قوله: (وفيه دليل الخ) كما صزح به في الآية الأخرى وهي وأن يكذبوك فقد كذبت رسل من قبلك فما هنا كقول السيد لغلامه إذا أهين أنهم لم يهينوك وإنما أهانوني، وهذا يبين معنى قوله في الحقيقة السابق وليس وجها آخر كما توهم، وقيل المراد بقوله: لا يكذبونك في السر وقوله على تكذيبهم وايذائهم إشارة إلى أن ما مصدرية وأو ذوا عطف على كذبت أو كذبوا أو على صبروا، والإيذاء بصيغة الأفعال بمعنى الأذى أثبته الراغب وصاحب المصباح المنير،
وقوله في القاموس: أذاه أذى ولا تقل إيذاء خطأ والذي غرّه ترك الجوهريّ وغيره له وهو وسائر أهل اللغة لا يذكرون المصادر القياسية لعدم الاحتياج إلى ذكرها وقوله: (بوعد) كان الظاهر أن يقول بدله إلى وعد. قوله: (ولقد جاءك من نبأ المرسلين أي من قصصهم) القصص هنا كالنبأ لفظاً ومعنى ويصح أن يكون جمعا وفاعل جاء قال الفارسيّ هو نبأ ومن زائدة وهو على مذصب الأخفش المجوّز لزيادة من في الإثبات وقبل المعرفة وأيضا ليس المعنى على العموم بل المراد بعض نبئهم لقوله تعالى: {مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُم مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ} [سورة غافر، الآية: 78] ، والصحيح أنّ فاعله ضمير مستتر تقديره هو أي النبأ أو البيان لا أنّ الفاعل محذوف وهذا صفته أي نبأ من نبأ المرسلين لأنّ الفاعل لا يجوز حذفه هنا ورجح أبو حيان عوده على ما دلّ عليه الكلام السابق من تكذيب الرسل وإيذائهم وضرّهم وهو بعض أنبائهم ومن نبا حال من الضمير المستتر، والزمخشري فسره بقوله بعض أنبائهم وهو تفسير معنى لا إعراب وقيل إعراب لأنّ الحرف عنده يكون مسنداً إليه إذا أوّل باسم كما جعل من مبتدأ في قوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا} [سورة البقرة: الآية: 8] وقد مرّ تحقيقه وقوله فتأسق من الأسوة أي اقتد بهم، وفسر الكلمة بالوعد وهو ظاهر وكابدوا بالموحدة بمعنى قاسوا. قوله: (وإن كان كبر) هذا شرط جوابه الفاء الداخلة على الشرط الثاني وجواب الثاني محذوف تقديره فافعل وجعل الشرط الثاني وجوابه جواباً للاوّل(4/51)
كما أوضحه المصنف رحمه الله قال النحرير: وإنما أتى بلفظ كان ليبقى الشرط على المضيّ ولا ينقلب مستقبلاً لأنّ كان لقوّة دلالته على المضيّ لا تقبله إن للاستقبال بخلاف سائر الأفعال وهو مذهب المبزد والنحاة تؤوّله بتبين وظهر ونحوه. قوله: (فإن استطعت أن تبتغي نفقاً الخ) النفق السرب النافذ في الأرض وأصل معناه حجر اليربوع ومنه النافقاء لأحد منافذه ومنه أخذ النفاق، وقوله: (فتطلع لهم آية) وقد يجعل نفس النفوذ في الأرض والصعود إلى السماء آية ولم يرتضه المصنف رحمه الله هذا وقد ردّه أبو حيان رحمه الله بأنه لا يظهر من دلالة اللفظ إذ لو كان كذلك لكان التركيب فتأتيهم بذلك آية وأيضاً فأي آية في دخول سرب في الأرض! أمّا الرقيّ إلى السماء فيكون آية. قوله: (صفة لسلما الخ) فسر هذا وما بعده بأنّ المراد في شأنها وأمرها، وقيل لا يصح أن يكون من قبيل رميت الصيد في الحرم إذا كان خارجا عن الحرم كما توهمه النحرير والموهم وأهم لأنه لا معنى لسكون السلم في شأن السماء والنفق في شأن الأرض! بل المراد الظرفية الحقيقية،
وقوله لو قدر إشارة إلى أنّ أن بمعنى لو ليؤذن بأنّ فيه تعليق إسلام قومه بالمحال وأن الشرط لم يخرج عن المضيّ كما مرّ. قوله: (وجواب الشرط الثاني محذوف تقديره فافعل) قيل من الجائز أن يعبر عن هذا المحذوف تارة بالخبر وتارة أخرى بالإنشاء وفيه وجوه ثلاثة، أحدها أنّ المقدر أتيت بصيغة الخبر وينبئ عنه قوله لأتى بها لأنه جعل إن بمعنى لو ليؤذن بأن فيه تعليق إسلامهم بالمحال أي بلغت من حرصك على إيمانهم بحيث لو قدرت أن تأني بالمحال أتيت به والمراد المبالغة فيه، وئانيها تقدير فافعل أمراً وفيه نوع توبيخ وحاصله بيان حرصه على تأتي مطلوبهم واقتراحهم على أبلغ وجه لأنه إذا وبخه على طلب ما اقترحوه تعريضا كان توبيخهم أجدر وأنسب بقوله فلا تكونن من الجاهلين لصراحته في التعريض، وثالثها لفعلت على أنّ نفس ابتغاء النفق والسلم آية. قوله: (ولو شاء الله لجمعهم الخ) يشير إلى تفسير الآية على مذهب أهل السنة القائلين بعدم جواز تخلف الإرادة الإلهية عن المراد ومفعول شاء محذوف وهو جمعهم على الهدى والآية دليل ظاهر لهم والمعتزلة أوّلوها بأنّ المراد منها لجمعهم على الهدى بأن يأتيهم بآية ملجئة فالذي لم يتخلف هنا المشيئة القسرية لا مطلق المشيئة وهذا مراد من حمل المشيئة على مشيئة القسر خلافا لمن ظن مغايرتهما. قوله: (من الجاهلين بالحر ع على ما لا يكون) قيل لما أعلم الله نبيه صلى الله عليه وسلم أنه لا يتعلق بمايمانهم مشيئة نهاه عن كونه معدوداً من زمرة الجاهلين بالحرص عليه ولا شك في وقوع الحرص منه لمج! قبل هذا فليس النهي من قبيل ولا تطع الكافرين وهو ردّ لما في شرح الكشاف، وليس بصواب فإنّ الزمخشري فسره بالذين يجهلون ذلك ويرومون خلافه فقيد الجهل بهذا الحكم وهو أنه لا يجمعهم على الهدى على مثل هذه الحالة كما أنّ قوله: {وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ} [سورة الأحزاب، الآية: 48] ، لا يدل على أنه عليه الصلاة والسلام أطاعهم وقبل دينهم والمقصود لا ينبغي أن يكبر عليك إعراضهم والأقرب حالك من حال الجاهلين والمصنف رحمه الله سلك مسلكا آخر لم يحتج فيه إلى هذا وقد بين الفرق بين مسلكيهما في بعض الحواشي فلا معنى لخلط أحدهما بالآخر، ثم إنه لم يقل لا تكن جاهلاً بل من قوم ينسبون إلى الجهل تعظيماً لنبيه جم! هـ بأن لم يسند الجهل إليه للمبالغة في نفيه عنه وفي كلامهم إشارة إليه. قوله: (بالحرص الخ) عدل عن قول الزمخشري
الذين يجهلون ذلك أي يجهلون أن لا يفعل ذلك لخروجه عن الحكمة فإنه رمز إلى مذهبه. قوله: (إنما يجيب الخ) احتج ابن قتيبة في أدب الكاذب بقول الغنوي:
وداع دعايا من يجيب إلى الندا فلم يستجبه عند ذاك مجيب
على أنه يقال استجبتك بمعنى استجبت لك، ولذأ قال يعقوب يمكن أن يريد فلم يجبه،
ويدل عليه أنه قال مجيب ولم يقل مستجيب، فيكون أجرى استفعل مجرى أفعل كما قالوا استخلصه بمعنى أخلصه واستوقد بمعنى أوقد ومنهم من فرق بينهما بأنّ استجاب يدل على قبول ما طلب منه وأجاب أعثم من ذلك. قوله: (بفهم وتأمّل) فالمراد بالسماع فرده الكامل وهو سماع فهم وتأمّل بجعل ما عداه كلا سماع وتوله:(4/52)
{وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللهُ} [سورة الأنعام، الآية: 36] في الكشاف هو مثل لقدرته على إلجائهم إلى الاستجابة بأنه هو الذي يبعث الموتى من القبور يوم القيامة ثم إليه يرجعون للجزاء، فكان قادراً على هؤلاء الموتى بالكفر أن يحييهم بالإيمان وأنت لا تقدر على ذلك، وقيل معناه وهؤلاء الموتى يعني الكفرة يبعثهم الله ثم إليه يرجعون، فحينئذ يسمعون وأمّا قبل ذلك فلا سبيل إلى استماعهم، وهما وجهان: الأوّل أنّ المعنى حال قدرته خاصة على إلجائهم إلى الاستجابة كحال قدرته خاصة على بعث الموتى من القبور لكن على هذا ليس لقوله: ثم إليه يرجعون كبير دخل في التمثيل إلا أن يراد أنه إشارة إلى ما ترتب على الاستجابة من الآثار في الدنيا والآخرة، والثاني الموتى فيه مجاز عن الكفرة تشبيها لكفرهم وجهلهم بالموت فيكون استعارة تبعية كما قيل:
لايعجبن الجهول بزته فذاك ميت ثيابه كفن
وعلى الأوّل فالمفردات على حقائقها، وكلام المصنف محتمل فيحتمل أنه يريد الأوّل ويكون قوله فيعلمهم مرتب عليه بناء على أنه عند الآية الملجئة لا ينفع الإيمان كما مرّ، ويحتمل الثاني أيضا أي الكفرة يعلمهم حيث لا ينفعهم الإيمان، وقوله كالموتى ظاهر فيه، وذلك إمّا عند الموت أو عند الحشر وخص العلم الثاني لأنه أقوى ولأنه الدّي يترتب عليه الجزاء ا! بر من الخلود في العذاب الأليم فلا يرد عليه ما قيل أنّ إعلام الله إياهم ليس بعد البعث بل حين الموت، وقيل المعنى، وهؤلاء الكفرة يبعثهم الله في شركهم حتى يؤمنوا بك عند حضور الموت في حال الإلجاء ذكره القرطبي نقلا عن الحسن رحمه الله فقوله فيعلمهم الخ تفسير والفاء تدخل على المفسر لأنه بعد المفسر في الذكر والرتبة ولا يخفى أنّ البعث على هذا بمعناه اللغوي وليس في كلام المصنف رحمه الله إشارة إليه فحمل كلامه عليه تكلف بعيد، وقيل بعثهم هدايتهم إلى الإيمان وفيه رمز إلى أنّ هدايتهم كبعث الموتى فلا يقدر عليه إلا الله ففيه إقناط للرسول صلى الله عليه وسلم عن إيمانهم، وقوله: للجزاء إشارة إلى انّ الإرجاع عبارة عن الجزاء. قوله تعالى: {لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ} قيل مع كثرة ما أنزل عليه من الآيات لعدم اعتدادهم
بها عناداً كأنه لم ينزل عليه شيء أو آية مما اقترحوه، وهو رذ لمن أخذه مقابلا لها فلا يلزم أن يكون مساويا لها حتى تصح المقابلة. قوله: (آية مما اقترحوه الخ) دفع لما يشعر به من عدم تنزيل آية وتسليم ذلك اذعاء أنه مقدور له لكن لم يقع لعدم المشيئة بناء على الصارف، ووجه الدفع أن ما ذكروا عناد، أو المذكور في الجواب محمول على الآية الملجئة أو المعقبة للعذاب، ولا يخفى أنّ الجواب حينئذ لا يكون مطابقاً للسؤال إلا أن يحمل على الأسلوب الحكيم، وقيل عليه عدم اعتدادهم بالمنزلة استدعاء للملجئة ومن لوازم جحد الملجئة الهلاك على عادته تعالى فالمطابقة ظاهرة وبهذا ظهر أن قوله أو آية إن جحدوها هلكوا ليس وجها مغايرا لما قبله، ولا يخفى أنه غير وارد، أما الأوّل فلأنه لا يلزم من عدم الاعتداد عنادأ وتعنتا طلب الملجئ إذ يجوز أن يكون لطلب غير الحاصل مما لا يلجئ لجاجا وعنادأ فالجواب بالملجئ حيحئذ يكودط من الأسلوب الحكيم، أو يكون جواباً بما يستلزم مطلوبهم بطريق أقوى، وهو أبلغ نعم ما ذكره له وجه وأما ما ذكره من عدم التغاير فينافيه العطف بأوفى كلام المصنف فالظاهر أنّ الآية الأولى ما يكون مهلكا بنفسه إن ليم يؤمنوا كالجبل المرفوع عليهم والثانية ما لم يمكن جحده وإن لم يكن مهلكاً بنفسه، وقوله أن الله بفتح الهمزة وفيه إشارة إلى مفعول علم المقدر واستجلاب البلاء شامل للتأويلين في الآية، وقوله والمعنى واحد لأنه لم ينظر هنا إلى التدريج وعدمه فلا ينافي أنه فرق بينهما في غير هذا المقام. قوله: (تدب على وجهها (بالدال المهملة إشارة إلى أنّ المراد به معناها اللغوي لا العرفي وخرج بقوله على وجهها ما يدب في جوفها ولو أبقى على عمومه كان أولى. قوله: (يطير بجناحيه) هو تصوير لتلك الهيئة الغريبة الدالة على القوّة الباهرة والمقام مقام بيان كمال قدرته، وتوله: بالرفع والعموم يستفاد حينئذ من الوصف فقط، وقوله في الهواء ممدود ومن ظنه مقصوراً فقدوهم. قوله: (وصف به الخ) للقوم كلام في أنّ هذا من قبيل الصفة أو التأكيد أو عطف البيان قال النحرير: والأوّل هو الوجه ولا ينافيه كونه يفيد التأكيد كما في قوله تعالى: {لاَ تَتَّخِذُواْ إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلهٌ وَاحِدٌ} [سورة النحل، الآية: 51](4/53)
ونفخة واحدة وأمس الدابر وغيره وليس بين النحاة وأهل المعاني خلاف فيه كما قاله الطيبي، وقوله في التقريب أنهما صفتان دلالتهما على التخصيص أولى من التعميم ليس بشيء لأنّ التوكيد لا ينافي كونهما صفتين كما ذكرنا مع أنّ التعميم نوع من التخصيص كما صرّح به الطيبي وهو منزع حسن. قوله: (قطعاً لمجاز السرعة ونحوها) اختار بعض
المتأخرين أنّ وجه ذكره تصوير تلك الهيئة الغريبة الدالة على كمال القوّة والقدرة قال وقيل إنه لقطع مجاز السرعة، وقيل للتعميم ويرد عليهما إنه لو قيل ولا طائر في السماء لكان أخصر، وفي إفادة ذينك الأمرين من أظهر مع ما فيه من رعاية المناسبة بين القرينتين بذكر جهة العلوّ في إحداهما وجهة السفل في الأخرى، ورذ بأنه لو قيل في السماء يطير بجناحيه لم يشمل أكثر الطيور لعدم استقرارها في السماء، ثم إنّ قصد التصوير لا ينافي قطع المجاز والتعميم إذ لا مانع من إرادتها جميعا، وقطع مجاز الى ش عة لأنّ الطير أن يستعمل بمعنى السرعة كثيراً كما أنّ الطائر يستعمل مجازاً للعمل والنصيب كقوله طائره في عنقه فلما أكد ارتفع احتمال المجاز، وأما احتمال التجوّز وأنّ هذا ترشيح للمجاز فبعيد لا يلتفت إليه بدون قرينة ولم يذكر هذا في مقابله للإشارة إليه بقوله تدب الخ ولأنه يعلم بالعناية إليه ولأنّ التأكيد في هذا أظهر لكونه من لفظه مع ما ضم إليه من قوله بجناحيه، ولما كان المقصود من ذكرهما الدلالة على قدرته ببيان ما يعرفونه، ويشاهدونه من هذين الجنسين وشمول قدرته لهما وعلمه كان غيرهما غير مقصود بالبيان، ومن لم ينتبه لهذا ذكر هنا خرافات كاعتراضه بأنّ أمثال حيتان البحر خارجة عنهما وأجاب بإدخالها تارة في القسم الأوّل، لأنها تدب في الماء ودفعه بأن وصفه في الأرض ينافيه ورذه بأنّ المراد بها جهة السفل، ومقابل السماء وأخرى بإدخالها في الثاني لأنها تسبح في الماء كالسبح في الهواء وردّه بأنّ قوله يطير بجناحيه يدفعه وهذا كله مما ينزه عنه ساحة التنزيل ويبرأ منه لسان القلم لكنه ربما رآه خالي الذهن فظته شيئاً ومنهم من أورد العنكبوت، وأجاب عنه بما هو أوهى من بيوته. قوله: (أمثالكم) فإن قلت كيف يصح القصد إلى العموم الذي يفيده الوصف مع وجوب خروج المشبه به عنه قلت القصد أوّلاً إلى العامّ والمشبه به في حكم المستثنى بقرينة التشبيه كأنه قيل ما من واحد من إفراد هذين الجنسين بعمومها سواكم إلا أمم أمثالكم، ولك أن تدعي دخوله بوجه يظهر بالتأمّل، وقوله: (محفوظة الخ) يستفاد من التشبيه وقوله والمقصود الخ لأنه دال على ضبط أحوال المخلوقات وعدم إهمال شيء منها وهو يقتضي شمول القدرة وسعة العلم كما أشير إليه في قوله تعالى: {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا} [سورة هود، الآية: 6، وقال الإمام المقصود أنّ عناية الله لما كانت حاصلة لهذه الحيوانات فلو كان إظهار آية ملجئة مصلحة ما مغ عن إظهارها وهذا معنى قول المصنف كالدليل الخ، وقيل إنها دليل على أنه قادر على البعث والحشر والأوّل أنسب، وفي رسالة المعاد لأبي عليّ قال المعترفون بالشريعة من أهل التناسخ إنه تعالى قال وما من دابة الآية وهذا هو الحكم الجزم بأنّ الحيوانات الغير الناطقة أمثالنا وليسوا أمثالنا بالفعل بل بالقوّة فجوّزوا حلول النفس الإنسانية في غيره وهو مذهب فاسد ودليل كاسد. قوله:) وجمع
الأمم للحمل على المعنى) أي معنى الجمعية المستفاد من العموم، وذصب السكاير إلى أنّ الوصف المذكور دال على أنه أريد بهما الجنس دون الإفراد، ولذلك قال إنّ القصد من لفظ دابة ولفظ طائر إنما هو إلى الجنسين تقريراً له على معناه الأصلي وتجريداً عما عرض له في الاستعمال باعتبار التنوين والتنكير وإذا كان القصد منهما إلى الجنسين، فلا إشكال في الأخبار عنهما بقوله إلا أمم أمثالكم، كأنه قيل وما من جنس من هذين الجنسين إلا أمم ولا شك أنّ الجنس مفهوم واحد فلا يتصوّر حينئذ كون الوصف مفيد الزيادة التعميم، وفي الكشاف المقصود بهذين الوصفين زيادة التعميم والإحاطة كأنه قيل وما من دابة قط في جميع الأرضين السبع وما من طائر قط في جوّ السماء من جميع ما يطير بجناحيه إلا أمم قال الشريف قدس سرّه: توجيهه أنّ النكرة في سياق النفي تفيد العموم لكن جاز أن يراد بها دواب أرض واحدة أو طيور جوّ واحد فيكون استغراقاً عرفيا فلما ذكر(4/54)
وصفان نسبتهما إلى دواب أفي أرض وطيور أي جوّ على السواء اتضح أنّ الاستغراق حقيقي يتناول دواب جميع الأرضين وطيور جميع الآفاق فظهر أنّ الوصفين يفيدان زيادة التعميم والإحاطة لكن يرد عليه أن النكرة المفردة في سياق النفي تدل على كل فرد فرد فلا يصح الإخبار عنها بقوله أمم وكدّا لا يصح ذلك الأخبار، وان أريد بتلك النكرة النوع لأنّ كل نوع أمّة لا أمم وجوابه أنّ النكرة هاهنا محمولة على المجموع من حيث هو بقرينة الخبر، والى السؤال والجواب أشار في الكشاف وعليه المصنف أيضاً وبهذا التقرير تبين أنّ كلام الشيخين ليس بمتحد كما ذهب إليه كثير من شراح الكشاف وذهب فرقة منهم كالنحرير وصاحب الكشف إلى اتحادهما وأيده الفاضل الحفيد فقال وأنت خبير بأنّ زيادة من الاستغراقية لتأكيد العموم فيما يدخل عليه والإحاطة بأفراده نصا بحيث لا يحتمل غير ذلك عند أهل العربية جميعاً مع أنّ سوق الآية لبيان شمول قدرته لكل فرد للدابة والطائر كشمولها لإفراد الإنسان بلا تفاوت فمن حمل الوصف على بيان الجنس لم يرد الجنس مع عدم الصلوح للفردية بل قصد أنّ خصوص فرد أو نوع غير مقصود بل المقصود الجنس في جميع الإفراد إذ الوصف لا يختص بفرد أو نوع فالاستغراق حقيقيّ لا عرفيّ فبالضرورة مآل التوجيهين واحد بالإنصاف انتهى. وهو حق لا مرية فيه إلا مكابرة، ثم إنه بقي في كلام الشريف نظر من وجوه، الأوّل إنه ذكر أثي المراد من الجنس الماهية وإنه أمر واحد ثم ذكر إنه لا إشكالى في جمعية الخبر وهذان معنيان متنافيان مع أنّ دخول من يمنع من إرادة الماهية ولما استشعر هذا قال من متعلقه بالجنسية لا بكل واحد واحد وهو تكلف، الثاني أنه أورد على الزمخشري أنّ النكرة المفردة في سياق النفي تدلّ على كل فرد فرد وسلمه وهو وارد على السكاكي أيضا فكيف يخصه بمذهب الزمخشري، الثالث إنه قال إنّ النكرة هنا محمولة على المجموع من حيث هو، فإن أراد أنه لازم له فهو صحيح على المسلكين والا فكلام الزمخشري ناطق بخلافه، وهذا تحقيق المقام بما لا مزيد عليه وقد اغترّ بعضهم بكلام الشريف هنا فوقع فيما
وقع، وفي البحر الكبير أنّ هذا يقتضي أنه يجوز أن يقال لا رجل قائمون والقياس لا يأباه إلا أنه لم يرد إلا مع الفصل بينهما وهو كلام حسن. قوله تعالى: {مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ} التفريط التقصير وأصله أن يتعدّى بفي وقد ضمن هنا معنى أغفلنا وتركنا فمن شيء في موضع المفعول به ومن زائدة والمعنى ما تركنا في الكتاب شيئاً يحتاج إليه من دلائل الألوهية والتكاليف ويبعد جعل من تبعيضية والتقدير ما فرّطنا في الكتاب بعض شيء وان جوّزه بعضهم، هذا ما ارتضاه أبو حيان والزمخشرفي وعدل عنه المصنف رحمه الله لأنه لا يتعذى فجعل التقدير تفريطا فحذف المصدر وأقيم شيئا مقامه وتغ فيه أبا البقاء رحمه الله إذا اختار هذا وقال أنّ المعنى عليه لا على غيره فلا يبقى في الآية حجة لمن ظن أنّ الكتاب يحتوي على ذكر كل شيء، ونظيره لا يضرّكم كيدهم شيئا أي ضيرا، وأورد عليه في الملتقط أنه ليس كما ذكر لأنه إذا تسلط النفي على المصدر كان منفياً على جهة العموم ويلزمه نفي أنواع المصدر ونفي جميع أفراده وليس بشيء لأنه يريد أنّ المعنى حينئذ أن جميع أنواع التفريط منفية عن القرآن وهو مما لا شبهة فيه ولا يلزمه أن يذكر فيه كل شيء كما لزم على الوجه الآخر حتى يحتاج إلى التأويل فقول المصنف رحمه الله من أمر الدين الخ إشارة إلى التأويل لا حاجة إليه مع اختيار هذا الوجه كما إن نفي تعديه لا يضرّ من قال إنه مفعول به على التضمين كما مرّ، وأمّا ما قيل إن فرط يتعذى بنفسه لما وقع في القاموس فرط الشيء وفرط فيه تفريطا ضيعه وقدّم العجز فيه وقصر فلا نسلم أنه يتعدى بنفسه وتفرد صاحب القاموس بأمر لا يسمع في مقابلة الزمخشري وغيره مع أنه يحتمل أنّ تعديته المذكورة فيه ليست وضعية بل مجازية أو بطريق التضمين المذكور، وقرئ " فرطنا! بالتخفيف وهو والمشدد بمعنى واحد، وقال أبو العباس: معنى فرطنا المخفف أخرنا كما قالوا فرط الله عنك المرض أي أزاله، وقوله:) أمر حيوان أو جماد (دخل فيه النبات لأنه جماد وإدخاله في الحيوان لنموه تعسف على أن مثله يراد به التعميم كثيراً، وقوله: (أو القرآن) قيل هو لا يلائم ما قبله وما بعده ويدفع بأنّ المعنى لم نترك شيئاً من الحجج وغيرها إلا ذكرناه فكيف(4/55)
يحتاج إلى آية أخرى مما اقترحوه ويكذب بآياتنا فالكلام بعضه آخذ بحجز بعض بلا شبهة. قوله: (مفصلاَ أو مجملاَ) يشير إلى أنّ ما ثبت بالأدلة الثلاثة ثابت بالقرآن لإشارته بنحو قوله: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} [سورة الحشر، الآية: 2] إلى القياس وقوله: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} أسورة الحشر، الآية: 7] إلى السنة بل قيل إنه بهذه الطريقة يمكن استنباط جميع الأشياء منه كما سأل بعض الملحدين بعضهم عن طبخ الحلوى أين ذكر في القرآن فقال في قوله تعالى: {فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ} [سورة الأنبياء، الآية: 7] وقوله: وقد عدى بفي يعني فلا ينصب مفعولاً به، وليس مراده أنه كيف يتعلق به المجرور بها وبحرف
بمعناها مرّة أخرى لأنه لا يدلّ عليه الكلام حتى يصحح بأنه من قبيل أكلت من بستانك من العنب كما توهم. قوله:) ثم إلى ربهم يحشرون يعني الأمم كلها) إن كان المراد بالأمم ما ذكر في النظم وهم من سوى الناس لجعلها أمثالاً لهم المستلزم للمغايرة، كما مرّت الإشارة إليه فضمير العقلاء لإجرائهم مجراهم في الحساب والحشر ولا يلزم تعميم الدابة وإلا لزم جعلهم مثالاً لأنفسهم، وان رجع إلى ذلك باعتبار إطلاقه صح، ويكون الجمع للتغليب، ويكون قوله كما روي الخ بياناً لإنصاف غير الناس بعضهم من بعض فإنه المحتاج للبيان، وما قيل بعد تعميم ضمير يحشرون المقصود إن من يضبط أحوال الدواب وأعمالها فينصف بعضها كما روي إنه يأخذ للجماء من القرناء (1 (ويجازيها كيف يهملكم سدى يريد به مآل الآية ومحصلها فلا يرد عليه أنّ أوّل كلامه يناقض آخره فتأمّل، وهو حديث صحيح رواه الشيخان. قوله:) فينصف بعضها من بعض) ترك قول الزمخشري فيعوّضها وينصف بعضها من بعض لابتنائه على مذهبه من أنّ التعويض لا يختص بالمكلفين والمختص الثواب، وهو منفعة مستحقة دائمة على وجه التعظيم والعوض منفعة مستحقة غير دائمة ولا مقترنة بالتعظيم فالحديث عنده استشهاد للتعويض والاتصاف جميعا، وبعضهم جعله للإنصاف فقط، وقوله: (للجماء الخ) الجماء التي لا قرن لها في رأسها ضد القرناء، وهو إشارة إلى حديث مسلم لتؤدن الحقوق إلى أهلها حتى يقاد للشاة الجماء من الشاة القرناء، قال ابن المنير رحمه الله: وليس هذا جزاء تكليف، ومن ذهب إلى أنّ البهائم والهوام مكلفة لها رسل من جنسها فهو من الملاحدة الذين لا يعوّل عليهم كالجاحظ، وقوله: (وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما) يعني أنّ قوله إلى ربهم يحشرون مجموعة مستعار على سبيل التمثيا! للموت كما ورد في الحديث: " من مات فقد تامت قيامته ") 2 (فلا يرد عليه أنّ الحشر بعث من مكان إلى آخر، وتعديته بإلى تنصيص على أنه لم يرد به الموت مع أن في الموت أيضا نقلاً من الدنيا إلى الآخرة. قوله: (لا يسمعون (إشارة إلى أنه تشبيه بليغ على القول الأصح في أمثاله ووجه الشبه عدم الانتفاع بما يقال. قوله: (خبر ثالث الخ) قيل الظاهر أنه واقع موقع عمى أي لا يرون آيات الله وكون في الظلمات حالاً أبلغ من كونه خبراً ثالثاً فإنه يفيد أن صممهم وبكمهم مقيد بحال كونهم في ظلمات الكفر حتى لو
أخرجوا منها لسمعوا ونطقوا ولا يحتاج إلى بيان وجه ترك العطف فيه دون أخويه، وتدّر خابطون ولم يقدر متعلقه عاما لأنّ المراد من الخبط التعسف في السير كخبط عشواء، وهو أنسب وأبلغ لأنّ السائر في الظلمة ربما اهتدى بصوت فإذا كانوا كلهم صما وبكما لم يكن اهتداء أصلاً، وذكر في جمع الظلمات وجهين أحدهما أنه باعتبار ملل الكفر وأنواعه، والثاني أنّ المراد ظلمة الجهل وظلمة العناد وظلمة التقليد في الباطل، وأعلم أنّ للعلماء في إعادة الحيوانات ومحاسبتها قولين أشار إليهما المصنف رحمه الله فقيل إنه على ظاهره فيخلق فيهم عقولاً ويحاسبهم وينصف بعضهم من بعض ثم يعيدهم ترابا، وقيل: إنه تمثيل لعموم عدله ولا إعادة ولا حساب كما في سراج الملوك. قوله: (من يشا الله يضلله) هو دليل لأهل السنة على أنّ الكفر وغيره بإرادته تعالى، وأن الإرادة لا تتخلف عن المراد وقدمه لأنّ هذا محل الخلاف بيننا وبينهم ولو أخره لكان له وجه، وقوله: بأن يرشده إلى الهدى بيان لوجه التقابل بينه وبين قوله يضلله، ثم لم يكتف به، وقيده بقوله يحمله عليه لأنّ الإرشاد إلى الهدى عامّ للكل ولما كانت الآية دليلاً ظاهراً لأهل السنة أوّلها في الكشف بقوله يخذله ويخله وضلاله لم يلطف به لأنه ليس من أهل اللطف، ومن يثأ يجعله على صراط مستقيم أي يلطف به لأنّ اللطف يجدي عليه، وقوله من يشأ الله إضحلاله يشير إلى مفعوله(4/56)
المقدّر ومن مبتدأ خبره ما بعده، وأن من ليس مفعولاً مقدما ليسا لفساد المعنى كما أوضحه في الدرّ المصون وفيه إعراب آخر وهو أنه منصوب بفعل مقدّر بعده يفسره ما بعده أي من يشق يثأ إضلاله. قوله: (ومن يثأ يجعله على صراط مستقيم بأن يرشده الخ) قيل كان الظاهر ومن يشأ يهده وإنما عدل عنه لأنّ هداية الله وهي إرشاده إلى الهدى غير مختصة ببعض دون بعض وقال إنه ردّ على المصنف في تفسيره بقوله يرشده إلى الهدى ورذ بأنّ مراد المصنف بالإرشاد إرشاد مقارن للرشاد بدليل قوله ويحمله فإنه عطف تفسيره بقوله يرشده كما مرّ. قوله: (أرأيتكم الخ) تحقيق هذا التركيب وهو مشهور في التنزيل وكلام العرب أنّ الأخفش قال إنّ العرب أخرجته عن معناه بالكلية فقالوا أرأيتك وأريتك بحذف الهمزة الثانية إذا كانت بمعنى أخبر وإذا كانت بمعنى أبصر لم تحذف همزتها وشذت أيضاً فألزمتها الخطاب على هذا المعنى فلا تقول أبدا أراني زيد عمراً ما صنع وتقول هذا على معنى أعلم، وشذت أيضا فأخرجتها عن موضوعها بالكلية لمعنى أمّا بدليل دخول الفاء بعدها كقوله: {أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ} [سورة الكهف، الآية: 63] الاية فما دخلت الفاء إلا وقد خرجت لمعنى أمّا والمعنى أمّا إذ أوينا إلى الصخرة فالأمر كذا وكذا وقد أخرجتها أيضاً إلى معنى أخبرني كما قدمنا، وإذا كانت بمعنى أخبرني لا بد بعدها من اسم المستخبر عنه وتلزم الجملة بعد الاستفهام وقد تخرج لهذا المعنى وبعدها الشرط وظرف الزمان قاله أبو حيان
والزمخشري يخالف في بعض ما ذكر، وقال الكرمانيّ: إنّ فيه تجوّزين إطلاق الرؤية وارادة الإخإر لأنّ الرؤية سببه، وجعل الاستفهام بمعنى الأمر بجامع الطلب وقال سيبويه أرأيتك زيداً أبو من هو دخلها معنى أخبرني وأخبرني لا يعلق ولا يلغى، والجملة الاستفهامية بعد الاسم في موضع المفعول الثاني، وليس أرأيتك معلقا عنها واعترض على قوله لا يعلق بأنه سمع تعليقه في قوله تعالى: {أَرَأَيْتُكُم إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ} في آيات كثيرة مثلها تدلّ على التعليق ويخالف ما قاله، ولا يجوز أن تكون الجملة الاستفهامية جواب الشرط لأنه يلزمها الفاء، وقال ابن عصفور رحمه الله: إنّ المفعول حذف فيها اختصاراً والرؤية فيه علمية عند كثير وعليه المصنف رحمه الله خلافاً للرضمي إذ جعلها بصرية تبعاً لغيره والزمخشري كغيره جوّزهما فجعلها تارة بصرية وتارة علمية فهي منقولة من رأيت بمعنى أبصرت أو عرفت كأنه فيل " بصرته وشاهدت حاله العجيبة أو أعرفتها أخبرني عنها ولا تستعمل إلا في حال عجيبة، وقال الرضي: جملة الاستفهام مستأنفة لا محل لها بيان لحال المستخبر عنه كأنه قال المخاطب لما قال أرأيت زيداً عن أيّ شيء من حاله تسأل فقال ما صنع فهو بمعنى قولك أخبرني عما صنع وإنما قال ذلك لأنها عنده متعدية لواحد لأنها بصرية أو قلبية بمعنى عرف الذي يتعدّى لوأحد. قوله: (استفهام تعجيب) هذا لا ينافي كونها بمعنى أخبرني لما قيل إنه بالنظر إلى أصل الكلام والا فهو مجاز عن معنى أخبرني منقول من أرأيت بمعنى أبصرت أو عرفت كأنه قيل " بصرته وشاهدت حاله العجيبة أو أعرفتها أخبرني عنها فلا تستعمل إلا في الاستخبار عن حالة عجيبة لشيء، ووجه المجاز أنه لما كان العلم بالشيء سبباً للإخبار عنه أو الإبصار به طريقا إلى إحاطته علما والى صحة الإخبار عنه استعملت الصيغة التي لطلب العلم أو لطلب الإبصار في طلب الخبر، وعلى التقديرين فيه تجوّزان وشبه الاستعارة التبعية، وينبغي أن يسمى مثله مجازاً مرسلاً تبعيا ومن هاهنا ظهر مسألة لم تذكر في علم البيان فلا مخالفة بين كلام المصنف، وكلام الزمخشري كما تيل وأمّا قوله إنّ هذه المسألة مما لا يعرفه أهل المعاني فغريب منه لأنها مذكورة في شرح التلخيص للنحرير، وما قيل إنها للاسنخبار عن الشيء لعجيب فلما كانت للاستخبار كانت دالة على الاستفهام تعسف. قوله: (والكاف حرف خطاب كد به الضمير الخ) في عبارته تسمحات لأنّ مراده بالكاف لفعل كم لا الكاف وحدها والميم من تتمة ما قبلها، وقوله للتأكيد مع قوله أكد به لغو والظاهر جيء به للتأكيد وكونه خبراً بعد خبر وكون المراد أنه للتأكيد أبداً لا لغرض آخر خلاف الظاهر وكذا قوله لا محل له مع قوله حرف زائد وصرّح بالحرفية للإشارة إلى ما في قول الزمخشري إنه ضمير والفراء عكس هذا فقال الكاف ضمير مفعول(4/57)
والتاء حرف خطاب والكلام عليه مبسوط في المطولات. قوله: (لعدّيت الفعل إلى ثلاثة مفاعيل) بناء على أنها علمية وأق جملة الاسنفهام في
محل نصب على المفعولية لا مستأنفة ولا هو متعد لواحد بمعنى أبصر أو عرف كما مز، وقوله: وللزم الخ يعني أن يجمع المفعول لأن الضميرين معمولان لعلم فيلزم مطابقتهما لأنهما في الأصل مبتدأ وخبر. قوله:) بل الفعل معلق أو المفعول محذوف الأنها علمية عند المصنف، والتعليق إبطال العمل لفظا لا محلاً بأن يدخل الجملة ما يمنع من العمل في لفظها وليس محلاً يحل فيه جملة كما بين في النحو، والمفعول الثاني في باب علم يكون جملة لأنه خبر في الأصل فاذا قدر المفعول الأوّل لم يكن تعليقاً، وإذا لم يقدر كان تعليقا لأنّ الجملة الاستفهامية ساذة مسدّ مفعولية كما مرّ نقله عن ابن عصفور، فمن قال ليس هذا تعليقاً نحويا فقد وهم، وقوله تنفعكم الخ تقديره أتنفعكم فقدر أداة الاستفهام لأنّ كثرته بعدها قرينة عليه.
قوله: (ويدل عليه) أي على تقدير الهول لأنّ الدعاء لا يكون من نفس! الساعة التي لا يمكن دفعها بل من أهوالها وقال أبو البقاء مفعول أرأيتكم محذوف تقديره أرأيتكم عبادتكم الأصنام بدليل قوله: {أَغَيْرَ اللهِ تَدْعُونَ} . قوله: {أَغَيْرَ اللهِ تَدْعُونَ} في الكشاف تخصون ا-لهتكم بالدعوة فيما هو عادتكم إذا أصابكم ضرّ أم تدعون الله دونها والمصنف رحمه الله ترك بيان التخصيص هنا فقيل لأنه لإنكار دعوة غير الله لا لإنكار تخصيص الدعوة بغيره تعالى فتقديمه لأنّ الإنكار متعلق به وفيه نظر يعلم مما ستسمعه، وقوله: أن الأصنام بفتح الهمزة أي في أنّ الخ وقوله وجوابه محذوف وأمّا جواب الشرط الأوّل فقال الرضيّ إنه الجملة المتضمنة للاستفهام وردّه الدماميني في شرح التسهيل بأنّ الجملة الاستفهامية لا تقع جوابا للشرط بدون فاء، بل الاستفهامية مستأنفة وجواب الشرط محذوف مدلول عليه بأرأيت، وفيه بحث ذكرناه في حواشي الرضي. قوله: (بل تخصونه بالدعاء الخ (هذا وان أغنى عن قوله وتقديم المفعول الخ لكنه صرّج به لأنه يحتمل أنّ ألتقديم لرعاية الفواصل والتخصيص يستفاد من قوله: {وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ} وقوله إلى كشفه بيان لمحصل المعنى لأنه إنما يدعي لكشفه أو إلى تقدير مضاف والعائد إلى ما محذوف، وقوله: كما حكي الخ إشارة لقوله تعالى: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ} [سورة الإسراء، الآية: 67] فليس قوله بل إياه تدعون
على الفرض كما يتوهم. قوله: (إن شاء أن يتفضل الخ) اعلم أنّ الزمخشريّ جوّز في متعلق الاستخبار أن يكون تقديره من تدعون وأن يتعلق بقوله: {أَغَيْرَ اللهِ تَدْعُونَ} وأورد عليه أنّ قوله فيكشف ما تدعون مع قوله أو أتتكم الساعة يأباه فإن قوارع الساعة لا تنكشف عن المشركين، وأجيب بأنه تد اشترط في الكشف المشيئة بقوله إن شاء إيذاناً بأنه إن فعل كان له وجه من الحكمة إلا أنه لا يفعل لوجه أرجح من الحكمة وهو مبني على أصول المعتزلة، وفي البحر الكبير الأحسن عندي أنّ هول القيامة يكشف أيضا ككرب الموقف إذا طال موقفه كما ورد في حديث الشفاعة الحظمى في الفصل بين الخلائق إلا أنّ الزمخشري لم يذكره لأنّ المعتزلة قائلون بنفي الشافعة وقد غفل عن هذا من اتبعه، وخص السؤال بالثاني لأنه غير وارد على الأوّل على ما ذكره الطيبي وصاحب التقريب لأنه إن علق أرأيتكم بمن تدعون المقدر على أنه مفعول فالمعنى أخبروني من تدعون إن أتاكم العذاب أو أتتكم الساعة فيتم الكلام عنده، ثم إنه استأنف مقرّرا لذلك المعنى سائلاً عن الدافع في الدنيا وما شوهد منهم في الشدائد من دعائه تبكيتا لهم بقوله أغير الله تدعون أي أتخصون آلهتكم بالدعوة لا بل أنتم عادتكم أن تخضون الله بالدعاء عند الكرب، والشدائد فيكشف ما تدعون إليه وان علقه بالاستفهام في قوله أغير الله تدعون يكون هو الدال على الجزاء، والمعنى أخبروني إن أتتكم الساعة أدعوتم غير الله أم دعوتموه فيكشف ما تدعون إليه ودخلت الهمزة لمزيد التقرير وحينئذ يلزم كشف قوارع الساعة، وهي لا تكشف عن الكفار بخلاف الوجه الأوّل لأنّ قوله أغير الله تدعون منقطع عنه كما سبق فلا يتعلق كشف الضرّ بالقيامة، وقد ذكر العلامة وصاحب الكشف نحوأ من هذا، وأورد عليه أنّ فيه نظر الظهور أنّ المعنى على هذا التقدير أيضا أتدعون غير الله عند إتيان العذاب(4/58)
أو الساعة ويتوجه السؤال غاية الأمر أنه على الأوّل أظهر وليس كذلك لأنه إذا كان كلاما منقطعا لا يلزم أن يقدر ما ذكر بل ما يمكن كشفه بقرينة قوله: فيكشف فلا يرد ما ذكره، ثم إنّ المصنف رحمه الله جرى على احتمال عدم التقدير وأنه يتعلق بالآخرة وأشار إلى جوابه قال العلامة في شرح الكشاف وفي هذا الجواب ضعف لأنّ قوله: {إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ} [سورة النساء، الآية. 48] ليس معناه أنه لا يغفر إن لم يشأ حتى إن شاء غفر والا لم يكن بين الشرك وغيره فرق ويمكن أن يفرق بأن المغفرة في غير الشرك مشروطة بمشيئة محققة لأنها صلة في قوله لمن يشاء اهـ أي وهذا مشروط بمشيئة بخلاف لك لاقتضاء الحكمة له، ولقوله: {إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ} [سورة النساء، الآية: 48] وبديتم الجواب فتأمّل. قيل ولو جعل مفعول المشيئة نفس الكشف كما هو المعروف في أمثاله ثم قيده بالتفضل كان أولى، وفيه نظر. قوله:) وتنسون الخ) بين أوّلاً أنه مجاز عن الترك، وثانيا أنه لشدة الهول ينسونهم فيكون حقيقة ولا يلزم أن ينسى الله لأنّ المعتاد فيها أن يلهج بذكره وينسى ما سواه ومن في من قبلك زائدة بناء على جواز زيادتها في الإثبات المصنف لم يرتضه في غير هذا الموضع، وقيل بمعنى في وقيل
ابتدائية ورجحه بعض النحاة. قوله: (لما ركز في النقول الخ) أي لأجل ذكر الله أو دعائه المركوز في العقول أو لمركوزية الله تعالى في العقول على هذه الصفة أو لمركوزية ذكره بناء على هذا، وعلى هذين فما مصدرية، وقوله: على أنه القادر الظاهر من أنه القادر. قوله: (فكفروا وكذبوا) فالفاء فصيحة والزمخشري قدّر كذبوا فقط وهو أولى، وقوله: صيغتا تأنيث لا مذكر لهما أي لا مذكر لهما على أفعل كأحمر وحمراء كما هو القياس فإنه لم يقل أضرّ وأبأس صفة بل للتفضيل فإنّ البأس والضرّ مصدران وقوله يتذللون تفسير له لأنه من الضراعة وهي التذلل وعند المصائر يخشع المرء ويلين قلبه. قوله: (معناه نفي تضرّعهم) ذهب الهروي إلى أن لولا تكون نافية حقيقة بمنزلة لم وجعل منه فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها الأقوم يونس والجمهور حملوه على التوبيخ والتنديم، وهو بعيد الترك وعدم الوقوع ولذا ظهر الاستدراك والعطف بلكن فيفيد إنهم لا عذر لهم فيه واليه أشار المصنف بقوله مع قيام ما يدعوهم وليست لولا هنا تحضيضية، كما توهم لأنها تختص بالمضارع وهو معنى آخر غير التوبيخ كما في المغني. قيل ولو قال وعدم المانع لكان أولى لأنّ مجرّد وجود الداعي بدون عدم المانع غير كاف لاستحقاق التوبيخ. قوله: (أي لم يتضرّعوا ولكن الخ) قيل لأنه لما كان التضرّع ناشئاً من لين القلب كان نفيه نفيه، وقيل كان الظاهر أن يقال لكن يجب عليهم التضرّع فعدل إلى ما ذكر لأنّ قساوة القلب التي هي المانع تشعر بأنّ عليهم ما ذكر فكأنه قيل لكن يجب التضرّع، وقيل إنما حمل على قصد النفي دون التنديم ليحسن الاستدراك، وهذا معنى قوله استدراك على المعنى وقوله ولم يتعظوا بيان للمراد من النسيان هنا. قوله تعالى: {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} فإن قلت قد أسند الله هنا التزيين إلى الشيطان وأسنده إلى نفسه في قوله وكذلك زينا لكل أمّة عملهم، فهل هو حقيقة فيهما أو في أحدهما قلت وقع التزيين في النظم في مواضع كثيرة، فتارة أسنده إلى الشيطان كالآية الأولى وتارة إلى نفسه كالثانية وتارة إلى البشر كقوله: {زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلاَدِهِمْ شُرَكَآؤُهُمْ} [سورة الأنعام، الآية: 137] في قراءة، وتارة مجهولاً غير مذكور فاعله كقوله: {زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ} [سورة يون! ، الآية: 12] لأنّ التزيين له معان يشهد بها الاستعمال واللغة أحدها إيجاد الشيء حسنا مزينا في نفس الأمر كقوله: {زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا} [سورة الصافات، الآية: 6] والثاني جعله مزينا من غير إيجاد كتزيين الماشطة العروس، والثالث جعله محبوبا للنفس مشتهى للطبع وان لم يكن في نفسه كذلك فهذا إن كان بمعنى خلق الميل في النفس والطبع لا يسند إلا إلى الله كقوله: {إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ} [سورة النمل، الآية: 4] قال المصنف في تفسيرها زينا لهم أعمالهم القبيحة بأن جعلناها مشتهاة بالطبع محبوبة للنفس يعني والله هو الفاعل لهذا حقيقة لإيجاده له، ولغة ونحوأ لاتصافه بخلقه وإن كان بمجرّد تزويره وترويجه بالقول وما يشبهه كالوسوسة والإغواء كما أفصح عنه تعالى: {لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ} [سورة الحجر، الآية: 39] فهذا لا يسند إلى الله حقيقة وإنما يسند إلى الشيطان أو البشر كما مرّ، وقد أشار إليه المصنف رحمه الله في تفسير قوله: {وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ}(4/59)
فقال بأن وسوس لهم، وإذا لم يذكر فاعله يقدر في كل مكان ما يليق به، والذي تسكب فيه العبرات تحقيق تلك المقامات. قال الراغب في مفرداته زينه إذا أظهر حسنه إمّا بالفعل أو بالقول وقد نسب الله تعالى تزيين الأشياء في مواضع إلى نفسه وفي مواضع إلى الشيطان وفي مواضع ذكره غير مسمى فاعله وتزيين الله الأشياء قد يكون بإبداعها مزينة وايجادها كذلك وتزيين غيره للشيء تزويقه بفعلهم أو بقولهم وهو أن يمدحوه، ويذكروه بما يعرف منه انتهى. وقال صاحب الانتصاف في سورة آل عمران التزيين للشهوات يطلق ويراد به خلق حبها في القلوب وهو بهذا المعنى مضاف إلى الله تعالى حقيقة لأنه لا خالق كل شيء من جوهر ومن عرض قائم به كالحب وغيره محمود في الشرع المتصف به أولاً، ويطلق التزيين ويراد به الحض على تعاطي الشهوات والأمر به، وهو بهذا الاعتبار لا يضاف إلى الله تعالى منه إلا الحض على بعض الشهوات المحضوض عليها شرعاً كالنكاح الموافق للسنة وما يجري مجراه وأمّا الشهوات المحظورة فتزيينها بهذا المعنى الثاني مضاف إلى الشيطان تنزيلا لوسوسته وتحسينه منزلة الأمر بها والحض على تعاطيها انتهى. إذا عرفت هذا فاعلم أنّ المصنف رحمه الله قال في تفسير قوله تعالى: {زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} [سورة البقرة، الآية: 212] حسنها في أعينهم وأشربت محبتها في قلوبهم حتى تهالكوا عليها وأعرضوا عن غيرها والمزين على الحقيقة هو الله إذ ما من شيء إلا وهو فاعله ويدل عليه قراءة زين على البناء للفاعل وكل من الشيطان والقوّة الحيوانية، وما خلق الله فيها من الأمور البهية والأشياء الشهية مزين بالعرض يعني أنه إذا كان بمعنى الإيجاد أسند إلى الله حقيقة، وإلى غيره مجازا كما مرّ تحقيقه رواية ودراية، فما قيل عليه من أنّ التزيين هو التحسين المدرك بالحس دون المدرك بالعقل ولهذا جاء في أوصاف الدنيا وأوصاف الآخرة والمزين في الحقيقة هو الشيطان فإنه حسن الدنيا في أعينهم وحببها إليهم وقراءة زين على البناء للفاعل على الإسناد المجازيّ فإنه تعالى أمهل المزين فجعل إمهاله تزييناً أو زينها حتى استحسنوها وأحبوها ومن قال المزين الخ أخطأ في المدعي وما أصاب في الدليل أمّا الأوّل فلأنّ التزيين صفة تقوم بالشيطان والفاعل الحقيقي لصفة ما تقوم به تلك الصفة وليت شعري ما يقول هذا القائل في الكفر والضلال، وأما الثاني فلأنّ مبناه عدم الفرق بين الفاعل النحوي الذي كلامنا فيه والفاعل الكلامي الذي هو بمعزل عن هذا المقام (قلت)
المخطىء مخطئ من وجوه أحدها أنّ قوله المدرك بالحس ليس بصواب لأن تزيين الأعمال ليس مما يدرك بالحس فلا وجه لتخصيصه به، الثاني أنّ قوله والمزين في الحقيقة هو الشيطان إن أراد بالتزيين جعله مشتهى بالطبع وخلق ذلك فيه فباطل وان أراد الوسوسة ونحوها فالقاضي لا ينكره، ألا تراه قال في قوله تعالى: {وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ} [سورة الفتح، الآية: 12] الفاعل هو الله أو الشيطان، وكذلك قوله التزيين صفة تقوم بالشيطان فإنه يقال له أيّ معانيه أردت الثالث أنّ ما ذكره من عدم الفرق من بعض الظن وكيف يخفى على مثله وهو مقرر في الأصلين وإنما قصد الردّ على الزمخشري حيث فسره بما زعمه هذا القائل بناء على مذهبه في خلق العباد أفعالهم لا كما توهمه فقد فرّ من المطر ووقف تحت الميزاب، والحمد لله ملهم الصواب. قوله: (فلما نسوا ما ذكروا الخ (قيل هذه الآية الكريمة تؤيد مذهب من ذهب إلى أن لما ظرف بمعنى حين وليس فيه معنى الشرط إذ لا يظهر وجه سببية النسيان لفتح أبواب الخير،(4/60)
وحديث الاستدراج لا يدفعه لأنه يفيد الصحة اجتماع الفتح مع النسيان لا سببيته له فلا بذ من قبل الجمهور من الجواب انتهى. (قلت اللنحويين في لما مذهبان الأوّل أنها حرف وجود لوجود أو وجوب لوجوب، والثاني أنها ظرف بمعنى حين، وقال ابن مالك: بمعنى إذ وهو حسن لاختصاصها بالماضي والإضافة إلى الجمل، وردّ ابن خروف الظرفية بنحو لما أكرمتني أمى أكرمتك اليوم لأنها لو قدرت ظرفا كان عاملها الجواب والواقع في اليوم لا يكون في الأمس، وأوّله القائلون به بنحو لما ثبت إكرامك كما أوّل إن كنت قلت غير المبرد، وعلى كلا القولين ففيها معنى الشرطية وإنما الخلاف في حرفيتها واسميتها فلا بد من تأويل الآية بأنّ النسيان سبب للاستدراج المتوتف على فتح أبواب الخير وسببيته شيء لآخر تستلزم سببيته لما يتوقف عليه فاندفع الاعتراضى أو الجواب ما ذكر باعتبار ماله ومحصله وهو ألزمناهم الحجة ونحوه كما أشار إليه المصنف وتسببه عنه ظاهراً وإنه مسبب عنه باعتبار غايته وهو أخذهم بغتة، وقوله كل شيء المراد به التكثير لا التعميم والإحاطة وهو مستعمل بهذا المعنى كما مرّ وقوله ولم يتعظوا إشارة إلى أنّ النسيان مجاز عت الترك وعدم العمل والاتعاظ كما مرّ نحوه. قوله:) مراوحة عليهم الخ (بالراء والحاء المهملتين أي مناوبة من قولهم راوج بين العملين إذا عمل هذا مرّة وذاك أخرى كأنه يروج إلى أحدهما بعد الآخر أو يستريح إليه كما يفعل الأب المشفق بابنه في الملاينة والمخاشنة ليصلح حاله فعلى الوجه الأوّل هذا للتأديب وعلى الثاني للاستدراج، قال النحرير: والوجه هو الثاني، والأوّل مبنيّ على الاعتزال فتأمّل، وقوله:) أو مكراً بهم) أي استدراجا قال الراغب مكر الله إمهال العبد وتمكينه من أغراض! الدنيا، ولذلك قال أمير المؤمنين من وسع عليه في دنياه ولم يعلم أنه مكر به فهو مخدوع عن عقله. قوله:
(لما روي الخ) قال السيوطي: لم أقف عليه مرفوعاً إنما هو من تول الحسن أخرجه ابن أبي حاتم بزيادة أعطوا حاجتهم ثم أخذوا لكن روى أحمد والطبرانيئ والبيهقيّ في شعب الإيمان من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه مرفوعا: " إذا رأيت الله يعطي العبد في الدنيا ما يحب وهو مقيم على معاصيه فإنما هو استدراج " (1 (ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية والتي بعدها، وقوله: (ورت الكعبة) قسم يعني أنه لما سمع قوله تعالى فتحنا عليهم الخ أقسم إنما هو للمكر والاستدراج بهم مؤيد للتفسير الثاني. قوله: (وقرا ابن عامر الخ) قرأها الجمهور هنا مخففة وابن عامر مثقلة للتكثير، وقرأ ابن عامر أيضا في الأعراف لفتحنا، وفي القمر ففتحنا بالتشديد، وكذا قرئ فتحت يأجوج ومأجوج والخلاف أيضاً في فتحت أبوابها في الزمر في الموضعين وفتحت السماء في النبأ، فإنّ الجماعة وافقوا ابن عامر على تشديدها ولم يخففها إلا الكوفيون فقد جرى على نمط واحد في هذا الفعل، والباقون شدّدوا في المواضع الثلاثة المشار إليها وخففوا في الباقي جمعاً بين اللغتين هذا تحقيق النقل فيه وفي كلام المصنف رحمه الله إجمال تفصيله هذا. قوله: (أعجبوا) مبنيّ للفاعل من قولهم أعجبني هذا الشيء وأعجبت به وهو شيء يعجب إذا كان حسناً جدا كذا في تهذيب الأزهريّ أو مبنيّ للمفعول من قولهم أعجب إذا زهى وتكبر، وقوله: (والقيام بحق (أي حق المنعم وهو الشكر وقوله: (ولم يزيدوا على البطر) أي غاية الفرج والنشاط المفرطين وزاد الواو على عبارة الكشاف لما فيه من إيهام إنه جواب. قوله: (فإذا هم مبلسون الخ (إذا هي الفجائية وفيها ثلاثة مذاهب مذهب سيبويه رحمه الله تعالى إنها ظرف مكان ومذهب جماعة منهم الرياشي إنها ظرف زمان ومذهب الكوفيين إنها حرف فعلى تقدير كونها ظرف زمان أو مكان الناصب لها خبر المبتدأ أي أبلسوا في مكان إقامتهم أو في زمانها، والإبلاس له ثلاثة معان في اللغة جاء بمعنى الحزن والحسرة واليأس وهي معان متغايرة، وقال الراغب والإبلاس الحزن المعترض من شذة اليأس، ولما كان المبلس كثيراً ما يلزم السكوت وينسى ما يعنيه قيل أبلس فلان إذا سكت وإذا انقطعت حجته، وأيس وشس بمعنى، واليأس معروف. قوله: (بحيث لم يبق الخ (إشارة إلى أنه كناية عن الاستئصال لأنّ ذهاب آخر الشيء يستلزم ذهاب ما قبله وهو من دبره إذا تبعه فكان في دبره أي خلفه فالدابر ما
يكون بعد الآخر ويطلق عليه تجوّزاً، وقال أبو عبيد: دابر القوم آخرهم وقال الأصمعي: الدابر الأصل ومنه قطع الله دابره أي أصله. قوله: (نعمة جليلة يحق أن يحمد عليها) قال في الكشاف: فيه إيذان بوجوب الحمد عند هلاك الظلمة فهو عنده إخبار بمعنى الأمر تعليما للعباد قيل ويحتمل أنه تعالى حمد نفسه على هذه النعمة الجليلة وجعل المصنف رحمه الله الحمد على هلاك الظلمة، وبين أنه نعمة باعتبار ما ذكره، وفي الانتصاف ونظير الأوّل قوله تعالى: {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَرًا فَسَاء مَطَرُ الْمُنذَرِينَ} [سورة الشعراء، 1 لآية: 173] قل الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى فيمن وقف هاهنا وجعل الحمد على إهلاك المتقدم ذكرهم من الطاغين، ومنهم من وقف على المنذرين وجعل الحمد متصلا بما بعده من إقامة البراهين على وحدانيته تعالى وأنه جل جلاله خير مما يشركون، فعلى الأوّل يكون(4/61)
الحمد ختما، وعلى الثاني فاتحة وهو مستعمل فيهما شرعا ولكنه في آية النمل أظهر في كونه مفتتحا لما بعده وفي آية الأنعام ختم لما تقدمه حتماً إذ لا يقتضي السياق غيره. انتهى، وقوله: أصمكم وأعماكم يعني أخذهما مجاز عما ذكر لأنه لازم له وفيه دليل على بقاء العرض زمانين لأنّ الأخذ لا يكون إلا للموجود وهو كلام حسن. قوله: (أي بذاك) إشارة إلى ما مرّ تحقيقه في سورة البقرة في قوله تعالى: {عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ} [سورة البقرة، الآية: 68] من أنّ اسم الإشارة المفرد يعبر به عن أشياء عدّة وأن الضمير قد يجري مجراه لكنه في اسم الإشارة أشهر وأكثر في الاستعمال فلذا تأوّل الضمير به ولذا قال رؤبة في تفسير قوله:
فيها خطوط من سواد وبلق كأنه في الجلدتوليع البهق
أردت كان ذاك ففسر الضمير الراجع إلى ما تقدم باسم الإشارة قال الزمخشري: والذي حسن منه أن أسماء الإشارة تثنيتها وجمعها وتأنيثها ليس على الحقيقة وكذلك الموصولات ولذا جاء الذي بمعنى الجمع ومن غفل عن هذا قال إنّ هذا التأويل يجري في الضمير من غير حاجة إلى تأويل باسم الإشارة، وفي مجالس! النحاس إنه قيل لرؤبة ألا تقول كأنها فتحمله على الخطوط أو كأنهما فتحمله على السواد والبلق فغضب وقال كان ذاك بها توليع البهق فذهب إلى المعنى والموضع انتهى، ويحتمل إنه يريد أنه أفرد مراعاة للخبر لأنّ التوليع اجتماع لونين ولفظه مفرد ومعناه مثنى فتامّل، وأما قول بعضهم فإن قيل ما وجه اعتبار اسم الإشارة واقامة الضمير مقامه قلت للأشعار بأنّ الأمور المذكورة أمور ظاهرة فيكون الاحتجاح بها آكد فنا شيء من قلة التدبر. قوله: (أو بما أخذ وختم) يعني ضمير به راجع إلى المأخوذ والمختوم عليه الذي في ضمن ما مرّ لأنه بمعنى المسلوب منكم كما نقل عن الزجاج، وليس في الكلام ما
الموصولة لا ملفوظة ولا مقدرة حتى يقال في تفسيره إنّ الضمير على ظاهره لأن ما وان كان متعدّد المعنى مفرد اللفظ كما توهم وأمّا الوجه الثالث فظاهر وأما جعله راجعا إلى السمع وجعل ما بعده داخلاً معه في القصد فبعيد. قوله: (انظر كيف نصرّف الآيات الخ) انظر يفيد التعجب أيضاً مثل أرأيت وتصريف الآيات تكريرها على أنحاء مختلفة كتصريف الرياج، ثم إنّ المراد إمّا مطلق الدلائل أو الدلائل القرآنية مطلقا أو ما ذكر من أوّل السورة إلى هنا أو ما ذكر قبل هذا ذهب إلى كل بعض من أرباب الحواشي فلذا قيل هي المقدمات العقلية الدالة على وجود الصانع وتوحيده المشار إليها بقوله: {إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ} الآية وأمّا الترغيب فبقوله فيكشف ما تدعون إليه، وأمّا الترهيب فبقوله: {أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللهُ سَمْعَكُمْ} [سورة الأنعام، الآية: 46] الخ وبمكن أن يؤخذ في ضمن قوله: {إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ} فيكونان مذكورين في ضمن المقدمات العقلية وأمّا التنبيه والتذكير فبقوله: {وَلَقَدْ أَرْسَلنَآ إِلَى أُمَمٍ} [سورة النحل، الآية: 63] الخ وقيل غير ذلك، وقوله بعد تصريف الآيات وظهورها تقرير لكون ثم للاستبعاد كقوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا} [سورة الكهف، الآية: 57] وأنّ تعريف الآيات للعهد كما مرّ. قوله: (من غير مقدمة) أي إمارة متقدمة يعني بغتة من حيث الظاهر لا يقابل جهرة لأنّ مقابل الجهرة الخفية لكن لما كان معنى بغتة وقوع الأمر من غير شعور، فكأنها في معنى خفية حسن أن يقابل بها كما في شروح الكشاف وليس المراد أنه مجاز أو استعارة بل إنه لما قرب أحدهما من الآخر صح مقابلته به ومثله كثير كما وقع في الحديث " بشروا ولا تنفروا " (1 (ومقابل التبشير الإنذار لا التنفير فمن قال إنّ البغتة استعارة للخفية بقرينة مقابلة الجهرة وانها مكنية من غير تخييلية بل بقرينة المقابلة المذكورة، وهذه الاستعارة لم يذكرها أهل المعاني تعسف بما لا حاجة إليه، ولا يخفى ما فيه وأنه يلزمه أن يصح بل يحسن النور خير من الجهل على أنّ الجهل استعارة للظلمة بقرينة مقابلته بالنور، ومثله يمجه الذوق السليم، وفي بعض التفاسير لما كانت البغتة هجوم الأمر من غير ظهور إمارة وشعور به تضمنت معنى الخفية فصح مقابلتها بالجهرة، وبدأ بها لأنها أرح من الجهرة وإنما لم يقل خفية لأنّ الإخفاء لا يناسب شأنه تعالى وهو بيان لنكتة ترك المقابلة، وليس المراد بقوله تضمنت معنى الخفية إلا أنها مثلها في
عدم الشعور أي تضمنت ما في الخفية من ذلك المعنى ولو لم يرده لتناقض أوّل كلامه وآخره فمن اعترض عليه بأنّ البغتة ليست هنا(4/62)
من قبيل الخفية حقيقة لأن الإتيان وان كان بغتة على سبيل الجهر لا على سبيل الخفية كما توهمه ابن كمال لم يقف على مراده.
قوله: (وقرئ بنتة أو جهرة) يعني بفتح الغين والهاء على أنهما مصدران كالغلبة، وقال
ابن جني في المحتسب قرأ سهيل بن شعيب السهمي جهرة وزهرة في كل موضع محرّكا، ومذهب أصحابنا في كل حرف حلق ساكن بعد فتح أنه لا يحرّك الأعلى أنه لغة فيه كالنهر والنهر والشعر والشعر والحلب والحلب والطرد والطرد ومذهب الكوفيين أنه يجوز تحريك الثاني لكونه حرفا حلقيا قياسا مطردأ كالبحر والبحر، وما أرى الحق إلا معهم، وكذا سمعت من عامّة عقيل وسمعت الشجري يقول أنا محموم بفتح الحاء وليس في كلام العرب مفعول بفتح الفاء وقالوا اللحم يريدون اللحم، وسمعته يقول تغدوا بمعنى تغدوا وليس في الكلام تفعل بفتح الفاء، وقالوا سار نحوه بفتح الحاء ولو كانت الحركة أصلية ما صحت اللام أصلا اهـ وهي فائدة ينبغي حفظها ومنه تعلم حال بغتة وقرئ بالواو العاطفة. قوله: (ما يهلك الخ) يشير إلى أنّ الاستفهام في معنى النفي ولذا صح وقوع الاستثناء المفرغ بعده لأنّ الأصل فيه النفي وليس المراد أنّ هل نافية حقيقة لأنّ أرأيت بعده الاستفهام في الجملة، وقوله: هلاك سخط وتعذيب توجيه للحصر بتقييد الهلاك بما يتبادر منه والا فقد يهلك غيرهم لكنه رحمه منه ليجازيهم على ما ابتلاهم به بالثواب الجزيل. قوله: (ولذلك الخ) أي لكون المراد بالاستفهام النفي أو لأنّ المراد هلاك سخط وتعذيب صح الاستثناء المفيد للحصر لأنّ غير الظالمين يهلك كما مرّ قيل والمسألة نحوية لأنه في الاستثناء المفرّغ يقدر العموم بما يقدر في الإثبات بالنفي وفيما لم يقدر يجوز بالإثبات نحو قرأت إلا يوم الجمعة إذ يصح قرأت كل يوم إلا يوم الجمعة، وهاهنا يصح هلاك الظالمين إلا أنّ المعنى هاهنا على النفي لا إنه لولاه لم يصح الاستثناء المفرغ، وهذا منه بناء على تعين الاحتمال الثاني عنده. قوله: (1 لا مبشرين ومنذرين الخ (التخصيص لأنّ الجنة أعظم ما يبشر به، فلذا يتبادر من الإطلاق كما في العشرة المبشرة والنار أعظم ما ينذر به فلا يقال الأولى التعميم، وهما حالان مفيدان للتعليل أي لأجل التبشير والإنذار وأشار إليه المصنف بقوله ليقترج والاقتراج طلبهم الآيات والتلهي السخرية يقال تلهى به إذا سخر وتلعب وهذا إشارة إلى ارتباط هذه الآية بقوله: {وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ} [سورة العنكبوت، الآية: 50] وقوله ما يجب إصلاحه أي الإتيان به على وفق الشريعة أي
إصلاحه على الوجه المشروع في إخلاص العبادة وعدم الشركة فعلى متعلقة بإصلاح. قوله: (جعل العذاب ماساً) يعني نسبة المس إليه وجعله فاعلا له يشعر بقصد الملاقاة من جانبه وفعله وان لم يتعين ذلك، فما أورد عليه من أنّ المس ليس من خواص الإحياء حتى يلزم ما ذكر وإنما هو تلاقي الجسمين من غير حائل بينهما يمكن دفعه بالعناية فعلى ما ذكره المصنف فيه استعارة تبعية وجوّزها الطيبي، وفي الكشاف جعل العذاب ماساً كأنه حيّ يفعل بهم ما يريد، وفي البحر أنّ المماسة تشعر بالاختيار والعرض لا اختيار له ومراد العلامة أنه وصف العذاب فيه بوصف المعذب مبالغة كشعر شاعر وهو مبنيّ على قاعدة الاعتزال وعند أهل السنة لا مانع من أن يخلق الله فيها حياة واحساسا وقوله: (واستغنى) يعني حيث لم يقل العذاب الأليم أو العظيم ونحوه لأنّ تعريف العهد يفيد ما ذكر. قوله: (بسبب خروجهم الخ) إشارة إلى أنّ ما مصدرية وأصل معنى الفسق لغة الخروجي قال فسق الرطب إذا خرج عن قشره، ويقال لمن خرج عن حظيرة الشرع مطلقا بكفر أو غيره وأكثر ما يقال لمن خرج عن التزام بعض الأحكام لكنه غير مناسب هنا، ولذا فسره بمعنى يشمل الكفر لأنّ تعذيب الكافر بغير الكفر من ذنوبه وان صح لكن لا ينبغي أن يقال عذب الله الكافر بترك الصلاة مثلاً. قوله: (مقدوراته الخ) يعني الخزائن جمع خزينة أو خزانة وهي ما يحفظ فيه الأشياء النفيسة إما مجاز عن المقدورات أو هو بتقدير مضاف أي خزائن رزقه، وظاهر قول الزمخشري خزائن الله هي قسمه بين الخلق وأرزاقه أنّ الخزائن يحتمل أنه مضاف لمقدر، ويحتمل إنه مجاز عن المرزوقات من إطلاق المحل على الحال أو اللازم على الملزوم وكلام المصنف يحتمله وقيل إنّ التجوّز أولى لأنه لا بذ على التقدير من التجوّز أيضا فتأمّل. قوله: (ما لم يوح إلئ ولم ينصب عليه دليل (ما إما بدل من الغيب، أو عطف بيان مفسر له فإنه(4/63)
الذي لا يطلع عليه وفي قوله لم ينصب الخ إشارة إلى جواز اجتهاد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وما في كلام المصنف رحمه الله موصولة وجوّز جعلها مصدرية زمانية فالغيب عام مقيد بمدة عدم الإيحاء ونصب الدليل. قوله: (وهو من جملة المقول) هنا قولان ومقولان أي قل وأقول وكلام المصنف محتمل فيحتمل أنه أراد أنه من جملة مقول قل كما قيل إنه من مقول قل لا أقول ولذا احتيج إلى إعادة أقول في قوله: {وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ} فإنه على تقدير العطف على عندي خزائن الله لا حاجة إلى إعادته وإنما لم يكتف فيه بنفي القول للفرق بينه وبين قرينيه، وهو إنّ مفهومي عندي خزائن الله واني ملك معلومان عند الناس فلا حاجة إلى نفيهما إنما الحاجة إلى نفي ادعائهما تبرأ عن دعوى الباطل بخلاف مفهوم لا أعلم الغيب فإنه كان مجهولاً لا عندهم بل كان الظاهر من حاله عدم الاطلاع
عندهم على الغيب، ولذا نسبوه إلى الكهانة فالحاجة هنا إلى نفيه، ثم إنّ هذا النفي تضمن الجواب عن قولهم إن كنت رسولاً فأخبرنا بما يقع في المستقبل لنستعدّ له، ونفي دعوى الملكية تضمن جواب ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق اوو، ويحتمل أنه مقول أقول لأقل، ولذا قيل لو قال المصنف رحمه الله من جملة ما لا يقولى كان أوضح وكلمة لا حينئذ في لا أعلم مذكرة للنفي لا نافية ولم يجعل من مقول قل لأنّ المقصود نفي دعوى علم الغيب ودعوى مالكية خزائن الله ليكونا شاهدين على نفي دعوى الألوهية، وبهذا اندفع ما قيل على هذا الوجه من أنه يؤدّي إلى أنه يصير التقدير، ولا أقول لكم لا أعلم الغيب وهو غير صحيح ف! نه لا وجه لعدم صحته ولله درّ المصنف حيث أتى بما يشملهما على الحصر، ولا يخلو من مخالفة للظاهر في الجملة، وعند التأمّل لكل وجهة ولذا قال النحرير: إنه من جملة القول في الواقع ومحمول على هذا المعنى البتة لأنه لا فائدة في الإخبار بأني لا أعلم الغيب، وإنما الفائدة في الإخبار بأني لا أقول ذلك ليكون نصا لادّعاء الأمرين اللذين هما من خواص الإلهية ليكون المعنى إني لا أذعي الإلهية ولا الملكية ويكون تكرير لا أقول إشارة إلى هذا المعنى وكان المصنف رحمه الله أجمل في قوله المقول لجوازهما عنده وزعم السفاقسي أن كلام الزمخشريّ محتمل لهما أيضا فتأمّل. قوله: (من جنس الملانكة) قيل هو إشارة إلى ما ذكره أبو عليّ الجبائيّ من أنّ هذه الآية تدل على أفضلية الملائكة لأن المعنى لا أدّعي منزلة أقوى من منزلتي وقال القاضي عبد الجبار: إن كان الغرض! من النفي التواضع فالأقرب لزوم الأفضلية، وان كان نفي القدرة على أفعال لا يقوى عليها إلا الملائكة فلا وهو الأليق بالمقام، ولو سلم فتكفي الأفضلية بزعم المخاطبين، وعليه يتنزل كلام المصنف ويخرج عما في الكشاف من النزغة الاعتزالية قيل، وهو على الأوّل حقيقة وعلى الثاني مجاز مرسل عن القادر على أفعالهم أو تشبيه بليغ، وفيه نظر لأنّ المقصود نفي الملكية لا نفي شبهها فتأمّله. قوله: (تبرّأ عن دعوى الإلهية والملكية (وفي نسخة الألوهية جعل مجموع قوله: {عِندِي خَزَآئِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ} عبارة عن نفي الألوهية لأنّ قسمة الأرزاق بين العباد ومعرفة علم الغيب مخصوصان به تعالى ولذا كرّر في الملكية لفظ ولا أقول وتيل على الزمخشري إذ ذكر هذا بعينه إنه يهدم قاعدة استدلاله في قوله تعالى: {لَّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً لِّلّهِ وَلاَ الْمَلآئِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ} [سورة النساء، الآية: 172] ، على تفضيل الملك على البشر لأنّ الترقي لا يكون من الأعلى إلى الأدنى يعني من الألوهية إلى الملكية، ولا هدم لها مع إعادة لا أقول الذي جعله أمراً مستقلا كالإضراب، إذ المعنى لا أذعي الألوهية بل ولا الملكية ولذا كرّر لا أقول، وقيل مقام نفي الاستنكاف ينتفي فيه أن يكون المتأخر أعلى لئلا يلغو ذكره في مقام نفي الادعاء بالعكس فإن من لا يتجاسر على دعوى الملكية أولى أن لا يتجاسر على دعوى الإلهية الأشذ استبعاداً وأورد على هذا أنّ المراد لا أملك أن أفعل ما أريد مما تقترحونه وليس المراد التبري عن دعوى الإلهية، والا لقيل لا أقول لكم إني إله كما قيل ولا أقول لكم إني ملك وأيضا في الكناية عن
الألوهية بعندي خزائن الله ما لا يخفى من البشاعة بل هو جواب عن اقتراحهم عليه صلى الله عليه وسلم أن يوسع عليهم خيرات الدنيا، وقيل في دفعه وجه التبري أنّ قوله تعالى لا أقول في قوّة قول الرسول لا أقول لعدم توقفه في الامتثال وليس(4/64)
إضافة الخزائن إلى الله تعالى منافيا لهذه الكناية لأنّ دعوى الإلهية ليس دعوى أن يكون هو الله بل شريكا له في الإلهية، وفيه نظر لأنّ إضافة الخزائن إليه تعالى اختصاصية فتنافي الشركة إلا أن يكون المعنى خزائن مثل خزائن الله أو تنسب إليه، فتأمّل. قوله: (رذا لاستبعادهم الخ) يعني أنه بعد نفي الإلهية والملكية ألزمهم بالحجة العقلية على ما ادّعاه لأنّ حاصله أني عبد ممتثل أمر مولاه ويتبع ما أوحاه وأي عقل ينكر مثله كما يشير إليه قوله أفلا تتفكرون أي في أنّ اتباع ذلك لا محيص عنه ولذا قال اتبع ما يوحى إليّ، ولم يقل إني نبيّ، أو رسول تواضعاً منه صلى الله عليه وسلم والجاما لهم بالحجة وليس في كلامه نفي لتفضيل الملك بوجه من الوجوه كما قيل، ودفعه ما قدمناه وحاصل الردّ أنّ هذه دعواي وليست مما يستبعد إنما المستبعد إدعاء الإلوهية أو الملكية ولست أدّعيهما على أنّ مجرّد نفي هاتين لا يستلزم نفي الاستبعاد لجواز أن يذعي أمراً آخر مستبعداً. قوله: (للضال الخ) ذكر فيه ثلاثة وجوه مبناها على أنه تذييل لما مضى من أوّل السورة إلى هنا أو لقوله إن اتبع الخ أو لقوله لا أقول الخ والأوّل هو الوجه عندهم، ثم الثاني، وقوله: في تفسير قوله أفلا تتفكرون فتهتدوا الخ لف ونشر ناظر إلى هذه التفاسير على الترتيب فقوله تهتدوا راجع إلى الأوّل، وقوله: أو فتميزوا إلى الثاني، وقوله: أو فتعلموا إلى الثالث، والأفعال في عبارته منصوبة في جواب الاستفهام وقيل إنه غير مرتب وهو تكلف، وقابل المستحيل بالمستقيم كما قابله سيبويه بالمحال وكذا قال المتنبي:
كأنك مستقيم في محال
وهو استعمال العرب لأنّ أصل المحال من أحاله عن وجهه، وصرفه وهو في المحسوسات عين الاعوجاج ومن لم يعرفه اعترض عليه بأنّ الظاهر أن يقول:
كأنك مستقيم في اعوجاج
فالمستقيم هنا بمعنى الممكن، وفي بعض النسخ فتميزوا على أنه من تتمة تهتدوا وقوله:
أو فتعلموا ناظر إلى الأخيرين، وفي نسخة فتعلمون والأولى أولى. قوله: (كالألوهية والملكية (فإن قيل دعوى الملكية من الممكنات أي من دعوى الأمور الممكنة لأنّ الجواهر متماثلة يجوز أن يقوم بكلها ما يقوم ببعضها ولهذا ما قيل لآدم جمم ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين أقدم على اكل طمعا في الملكية مع أن النبيّ لا يطمع في
المحال، قلت أجاب عته شراح الكشاف بأنّ المقدمات على تقدير تمامها، إنما تفيد إمكان أن يصير البشر ملكا وأما أن يكون ملكا فلا لتمايزهما بالعوارض المتنافية بلا خلاف، وهذا كما قالوا إنّ كلا من العناصر يجوز أن يصير الآخر لا أن يكون، وعلى هذا ينبغي أن يحمل طمع آدم عليه الصلاة والسلام لو سلم كونه نبيا عند اكل، أو أنه لم يطمع في الملكية بل في الخلود، وقوله: (وجزمهم على فساد مدعاه) ضمنه معنى الحرص فلذا عداه بعلى فإن قلت: لم قال خزائن الله ولم يقل: لا أقدر على ما يقدر عليه الله قلت لأنه أبلغ لدلالته على إنه لقوّة قدرته كأنّ مقدوراته مخزونة حاضرة عنده. قوله: (المفرّطون) بتشديد الراء قيده به لأنه المناسب للإنذار ولقوله: لعلهم فخص بالذكر هؤلاء لأنهم الذين ينفعهم الإنذار ويقودهم إلى التقوى وليس المراد الحصر حتى يرد أنّ إنذاره لغيرهم لازم أيضا وقوله أو متردداً عطف على مقرّاً لأنه كافر أيضا وقوله: فإنّ الإنذار الخ بيان لوجه التخصيص، وينجع مضارع نجع كنفع لفظاً ومعنى، وأصله من نجع الدواء في المريض إذا أثر في برئه، والمراد بالفارغين منكر والحشر لأنّ أذهانهم خلت عن اعتقاده أو لأنهم فرغوا عن تداركه، وقوله لكي يتقوا بيان لمحصل المعنى لا إن لعل بمعنى كي، فإن المصنف لم يرتضه في كتابه هذا، وقد مرّ تفصيله وتحقيقه، وقوله في موضمع الحال لأن مجرّد الحشر لا يخاف ما لم يكن على هذه الحال، وفي الكشاف هنا كلام طواه المصنف لابتنائه على الاعتزال. قوله: (أمره بإكرام المتقين الخ (لأنّ النهي عن الشيء أمر بضده فالنهي عن طردهم كالأمر بتقريرهم وقوله: ترضية يقال رضاه بالتشديد كما يقال أرضاه، وقوله: هؤلاء الأعبد جمع عبد وقالوه تحقيرا لهم لأنهم موال مسهم الولاء والرق وليس تشبيها بالعبيد في الخرقة والحرفة كما قيل، أما عمار بن ياسر المذحجي رضي الله عنه فولاؤه مشهور، وأما صهيب بن سنان رضي الله عنه ويعرف بالرومي فهو نمريّ من العرب لكن أسره الروم وهو(4/65)
صغير فنشأ عندهم ثم قدمت به مكة فاشتراه عبدلذ بن جدعان وأعتقه، وخباب عدة من الصحابة منهم من مسه الرق ورق سلمان رضي الله عنه مشهور وتفصيله في الاستيعاب، وفي كلام المصنف رحمه الله خلط بين حديثين، وقد وقع مثله في الكشاف، وهذا الحديث) 1 (يروى من طرق عدة كما في تخريج أحاديث الكشاف وليس هو قول عمر في بعض طرقه فلا معنى لإنكاره بناء على أنه لا يليق بمقام النبوّة طرد المؤمنين لأجل غيرهم ظنا إنه ينافي في عصمته لأنّ الطرد لم يقع منه والذي همّ به أن يجعل لهم وقتا خاصا ولهؤلاء وقتاً خاصا ليتألف أولئك فيقودهم، إلى الإيمان والصحابة رضي الله عنهم يعلمون ما قصد فلا يحصل لهم إهانة وانكسار قلب منه صلى الله عليه وسلم. قوله: (والمراد بذكر الغداة والعشئ الدوام الخ) كما يقال فعله صباحا ومساء لما يداوم عليه، وقيل الغداة والعشيّ عبارة عن صلاتي الصبح والعصر لأن الزمان كثيراً ما يذكر، ويراد به ما يقع فيه كما يقال صلى الصبح ويراد بالصبح صلاته وكذا المغرب كما يعكس فيراد بالصلاة زمانها نحو قربت الصلاة أي وقتها، وقد يراد بها مكانها نحو: {لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى} [سورة النساء، الآية: 43] أي المساجد والدعاء على هذا مراد به حقيقته، أو المراد الدعاء الواقع في الصلاة فلا حاجة إلى ما قيل إنه مسامحة أو المراد الصبح والعصر وذكر الصلاة لبيان الدعاء وقد فسر الدعاء هنا بالصلوات الخمس وبالذكر وقراءة القرآن. قوله: (وقرأ ابن عامر يالغدوة) وكذا قرأه في سورة الكهف أبضا وهي قراءة الحسن ومالك بن دينار وأبي رجاء العطاردي وغيرهم، وغدوة وان كان المعروف فيها أنها علم جنس ممنوع من الصرف ولا تدخله الألف واللام، ولا تصح إضافته فلا تقول غدوة يوم الخميس كما قاله الفراء لكنه سمع اسم جنس أيضا منكراً مصروفا فتدخله اللام، وقد نقله سيبويه في كتابه عن الخليل، وذكره جمّ غفير من أهل اللغة والنحو فلا عبرة بقول أبي عبيد إنّ من قرأ بالواو وأخطأ وأنه اتبع رسم الخط لأنّ الغداة تكتب بالواو كالصلاة والزكاة وهو علم جنس لا تدخله الألف واللام والمخطئ مخطئ لما مرّ، وقد ذكر المبرد عن العرب تنكير غدوة وصرفه وادخال الألف واللام عليه إذا لم يرد غدوة يوم بعينه، ومن حفظ حجة على من لم يحفظ وكفى بوقوعه في القراءة المتواترة حجة فلا حاجة إلى ما قيل إنه علم لكنه نكر لأن تنكير علم الجنس لم يعهد ولا أنه معرفة ودخلته اللام لمشاكلة العشيّ كما في قوله:
رأيت الوليد بن اليزيد مباركا
إذ قال اليزيد لمجاورة الوليد ومنه تعلم أنّ المشاكلة قد تكون حقيقة. قوله: (يدعون ربهم مخلصين الخ) إشارة إلى أنّ المراد بالوجه الذات كما في قوله: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [سورة القصص، الآية: 88] على أحد التفاسير فيه وأنّ معنى إرادة الذات الإخلاص لها لأنه ذكر في الإشارات أنّ من الناس من أحال كون الله مراداً لذاته وقال إنّ الإرادة صفة لا تتعلق إلا بالممكنات لأنها تقتضي ترجيح أحد طرفي المراد على الآخر وذلك لا يعقل إلا في الممكنات، وقوله عليه أي الدعاء بالإخلاص. قوله: (ما عليك من حسابهم الخ) جوّز في ما هذه أن تكون تميمية وحجازية وفي شيء أن يكون فاعل الظرف المعتمد على النفي أعني عليك، ومن حسابهم وصف له قدم فصار حالاً ومن مزيدة للاستغراق لكن تشبيه الزمخشري بقوله إن حسابهم إلا على ربي الدال على الحصر بصريح النفي والإثبات يشعر بكون شيء مبتدأ، والظرف خبر فدم للحصر، وقوله: ليس عليك حساب إيمانهم يشير إلى تقدير مضاف أو إلى أنه المراد من النظم، أو أنّ الإضافة إليهم للملابسة المذكورة وأنّ حساب الإيمان إمّا بحسب المقدار أو بحسب الإخلاص، والضمير على هذا للمؤمنين كما يعلم من مقابله، ويجوز أن يكون الضمير للمشركين وضمير تطردهم للمؤمنين وضمير سؤالهم وايمانهم راجع إلى من، ولما مشددة حينئذ أو مخففة وما مصدرية. قوله: (فإن كان لهم باطن غير مرضئ الخ) قال أبو حيان كيف يفرض هذا وقد أخبر الله بإخلاصهم في قوله: {يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} واخباره هو الصدق الذي لا شك فيه وليس بشيء مع قوله كما ذكره المشركون. قوله: (فحسابهم الخ) هذا بعينه ما ارتضاه الزمخشريّ وأن الجملتين في معنى جملة واحدة تؤدّي مؤذي {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} وأنه لا بذ منهما والا فالأولى تكفي للجواب وفي قوله كما أنّ إشارة إلى أنّ الثانية مسلمة ظاهرة حتى إنها تدل على الأولى لجعلها مقيسا عليها ولم يجعل المعنى أنّ حسابهم(4/66)
ليس عليك بل علينا ليكون كقوله تعالى: {إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي} [سورة الشعراء، الآية: 13 ا] لأنّ المقصود دفع قدح المشركين في فقراء المؤمنين وهو بمجرد إن
حسابهم إلا على الله لا عليك ولا دخل للثانية فيه وجعلها للتأكيد ينافي العطف كما ذكره العلامة في شرح الكشاف وأما وجه أخذ إن. حسابهم عليهم من النظم، فهو إنه كان أصله عليك حسابهم على أنه تصر قلب فإذا نفي ذلك لزم ثبوت عكسه، ولا حاجة إلى اعتبار النفي أولاً ثم اعتبار الحصر ليفيد حصر انتفاء حسابهم على النبيّ صلى الله عليه وسلم فيلزم كون حسابهم على أنفسهم لا على النبيئ صلى الله عليه وسلم، وتفسير حساب الرزق بالفقر لأنه الذي يتوهم مضرته وقد روي أنهم قالوا له يتبعونك لأنهم لا يجدون ما بنفقون وقوله: ولا هم بحسابك أي ولا يؤاخذون أو هو معطوف على الضمير المستتر للفصل، واعلم أنه قدم خطابه صلى الله عليه وسلم في الموضعين تشريفا له والا كان الظاهر وما عليهم من حسابك من شيء بتقديم على ومجرورها كما في الأوّل وفي النظم ردّ العجز على الصدر كما في قوله عادات السادات، سادات العادات. قوله: (على وجه التسبب وفيه نظر) في قوله فتطردهم وجهان أحدهما أنه منصوب على جواب النفي بأحد معنيين فقط، وهو انتفاء الطرد لانتفاء كون حسابهم عليه وحسابه عليهم لأنه ينتفي المسبب بانتفاء سببه، وتوضيحه أن قولك ما تأتينا فتحدثنا بنصب فتحدثنا يحتمل معنيين انتفاء الإتيان وانتفاء التحديث كأنه قيل ما يكون منك إتيان فكيف يقع منك حديث وهذا المعنى هو المقصود هنا أي ما يكون منك مؤاخذة كل واحد بحسابه فكيف يقع منك طرد، وانتفاء التحديث وثبوت الإتيان كأنه قيل ما تأتينا محدثا بل غير محدّث، وهو لا يصح هنا وهم وان أطلقوا قولهم منصوب على الجواب فمرادهم هذا، وجوّز في الدرّ المصون أن يكون منصوبا جوابا للنهي، وأما قوله فتكون ففيم نصبه وجهان أن يكون منصوبا في جواب النهي أعني لا تطرد وأن يكون معطوفا على فتطردهم وجعله المعرلث أظهر من الأوّل ولما لم يصلح في المعنى جواباً للنفي إلا إذا قصد تسببه على الطرد قال الط! بي: وجه النظر الذي ذكره المصنف رحمه الله إنّ قوله: {مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم} الخ حينئذ مؤذن بأنّ عدم الظلم لعدم تفويض الحساب إليه فيفهم منه أنه لو كان حسابهم عليه وطردهم لكان ظالماً وليس كذلك لأن الظلم وضع الشيء في غير موضعه، وأجاب عنه بأنّ المراد به المبالغة في معنى الطرد يعني لو قدر تفويض الحساب إليك ليصح منك طردهم لم يصح أيضا فكيف والحساب ليس إليك فهو كقول عمر رضي الله عنه نعم العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه، وقيل بل وجه النظر أنّ الإشراك في النصب بالعطف يقتضي الإشراك في سبب النصب وهو توقف الثاني على الأوّل بحيث يلزم من انتفاء الأوّل انتفاؤه واً نه منتف كونه من الظالمين سواء لوحظ ابتداء أو بعد ترتبه على الطرد، وأما جعله مترتبا على نفس الطرد بلا اعتبار كونه مترتبا على المنفي ومنتفياً بانتفائه فيفوت وجود سببية النصب، وفي البحر هما منصوبان تقدمهما نهي ونفيان وكل منهما أهل أن يجاب به ولا يكون جواب واحد لمتناقضين فتطردهم جواب للنفي وتكون جواب النهي ولا يمكن عكسه لئلا يكون الجواب والمجاب واحداً ولا يستقيم أن يقول لا تطردهم فتطردهم، ويمكن أن يكون فتطردهم جوابا للنهي كما مرّ ويكون فتكون عطفا على الجواب فالجائز وجهان خاصة أحبهما الأوّل لا الثاني إذ كلاهما لا يناسب أن يجاب لأنه بصير معناه ما عليك كل منهم فتطردهم فيناسب وان أجيب بالثاني صار
المعنى مالك كل عليهم فتطردهم فمفهومه إن كانوا يحملون عنك كان طردك إياهم حسناً وهو خلف لا يجوز حمل القرآن عليه وهو وان خرج عن مختار البصريين لأعمال الثاني لا يضرّ لأنّ شرطه عندهم أن يكون المعنى مستقيما فيهما فان لم يستقم أعمل الأوّل اتفاقا كما في قوله، ولم أطلب قليل من المال انتهى. قوله: (ومثل ذلك الفتن الخ) يعني مثل ما فتنا الكفار بحسب غناهم وفقر المؤمنين حتى أهانوهم لاختلافهم في الأسباب الدنيوية فتناهم بحسب سبق المؤمنين إلى الإيمان وتخلفهم عنه حتى حسدوهم وقالوا ما قالوا لاختلاف أديانهم فشبه فتنا بفتن والزمخشري جعل ذلك إشارة إلى هذا الفتن المذكور وعبر عنه بذلك إيذانا بتفخيمه، ولدّا قال: ومثل ذلك الفتن العظيم(4/67)
كقولك ضربت زيداً ذلك الضرب ولا يلزم منه تشبيه الشيء بنفسه لأنّ المثل ليس بمراد، وإنما جيء به مبالغة كما يقال ذلك كذلك، كذا قرّره العلامة يعني أن التشبيه كما يجعل كناية عن الاستمرار لأنّ ماله أمثال يستمرّ نوعه بتجذد أمثاله كما أشار إليه شراح الحماسة في قوله: هكذايذهب الزمان ويفنى الى حلم فيه ويدرس الأثر
والاستمرار يقتضي التحقق والتقرر ويستلزمه، فجعل في أمثال هذا بواسطة الإشارة إلى البعيد عبارة عن تحقق أمر عظيم، وكونه عظيمأ مستفاد من لفظ ذلك المشار به إلى هذا الفتن القريب المذكور، وليست الكاف فيه زائدة، ومن قال الكاف فيه مقحمة أراد أنّ التشبيه غير مقصود فيه بل المراد لازمه الكنائيئ أو المجازي، وصاحب الكشاف لما في هذا الوجه من البلاغة والدقة اختاره وفيما ورد فيه كذلك وبعضهم لما رأى غموضه وتوهم فيه تشبيه الشيء بنفسه أوّله وتكلف لوجه التشبيه والمغايرة، وقال الطيبي: في شرح قوله وكذلك زينا في هذه السورة لما قال الزمخشري ومثل ذلك التزيين البليغ هذا على أن يكون المشار إليه ما في الذهن، وسيجيء بيانه في قوله تعالى: {هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ} [سورة الكهف، الآية: 78] والمبالغة إنما يفيدها الإبهام الذهني والتفسير بقوله زبن، وهو ما يعلمه كل أحد من المزين من هو انتهى. فعلى هذا المشبه به الأمر المقرّر في العقول والمشبه ما دلّ عليه الكلام من الأمر الخارجيّ، وهو تخريج لطيف إلا أنه يخالف ما نقل صاحب الكشف في سورة الدخان عن العلامة الزمخشري أنه قال: المعنى فيه أنه لم يستوف الوصف وأنه بمثابة ما لا يحيط به الوصف فكأنه قال الأمر نحو ذلك وما أشبهه.
(أتول) أراد أنّ الكاف مقحم للمبالغة وقد سلف إشارة إلى ذلك وأنّ هذا الإقحام مطرد
في عرفي العرب والعجم انتهى. فهو من باب الكناية وهو وجه بديع، وهذا مما من الله به علينا فاحفظه، فانك لا تجده في غير كتابنا هذا. قوله: (فتنا أي ابتلينا) إشارة إلى ما قدمنا من أنّ أصل معنى الفتن تصفية الذصب ونحوه ثم استعمل في الابتلاء والاختبار. قوله: (أي أهؤلاء من أنعم الله اليم) هذا بيان لمحصل المعنى وإنما أتى بمن الموصولة إشارة إلى أنّ إنثارهم إنما هو
لوصفهم بذلك وجعله سمة لهم لعدم اعترافهم بذلك واعتقادهم أنهم ليس عليهم آثار النعمة وهذا نحو ما تزره الخطيب في قوله:
إن الذين ترونهم إخوانكم يشفى غليل صدورهم إن تصرعوا
وليس مراده بيان التقدير والإعراب ليتقدم الخبر على المبتدأ فيفيد الحصر حتى يرد عليه أنّ المعنى على إنكار أن يكونوا مختصين بإصابة الحق دونهم كما قرّره، وإذا كان المعنى على ما ذكره يكون هناك من أنعم الله عليهم من بينهم يعرفونهم بكونهم كذلك، ولكن ينكر المتكلم أن يكونوا هؤلاء الفقراء وهو غير المعنى المراد، وانّ معنى الحصر مستفاد من قوله بيننا فإنه في موضع الحال من الضمير المجرور أي منفردين من بيننا، ولم يدر أن ما توهمه غير صحيح لفظا لأنّ المبتدأ والخبر إذا تعرّفا لم يجز تقديم الخبر فيه للبس مع ما في حذف الموصول وإبقاء صلته من ااضعف وان جوّزه بعض النجاة كما في الدرّ المصون، لكني أظن أنّ هذا التكلف لم يخطر ببال المصنف رحمه الله. قوله: (واللام للعاقبة الخ) قيل إنّ ما يترتب على فعل الفاعل من حيث ترتبه عليه فائدة ومن حيث وقوعه في طرفه غاية، ومن حيث كونه باعثا عليه غرض بالنسبة إلى الفاعل وعلة غائية بالنسبة إلى الفعل، ولأفعاله تعالى فوائد وغايات لأنّ أفعاله تعالى لا تعلل بالأغراض لما برهن عليه في الكلام، ثم إنه قد تشبه الغاية بالعلة الغائية من حيث إنها عاتبة له فتستعمل فيها اللام التعليلية على نهج الاستعارة التبعية، كاللام الداخلة على ثمرات أفعاله المسماة بالحكم، وليست هذه لام العاقبة عند الزمخشريّ ومن تابعه، وفي شرح المقاصد أنّ لام العاقبة إنما تكون فيما لا يكون للفاعل شعور بالترتب وقت الفعل أو قبله فيفعل لغرض، ولا يحصل له ذلك بل ضده فيجعل كأنه فعل الفعل لذلك الغرض الفاسد تنبيها على خطئه، ولا يتصوّر هذا في كلام علام الغيوب بالنظر إلى أفعاله، وان وقع فيه(4/68)
بالنظر إلى فعا! غيره كقوله: {لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} [سورة القصص، الآية: 8] إذ ترتب فوائد أفعاله تعالى عليها تنبيه على العلم التانم فبينهما مباينة ولم يعتبر ابن هثام وغيره فيها هذا القيد وجعلها لا ما تدل على الصيرورة والمآل مطلقاً فيجوز أن تقع في كلامه تعالى وعليه المصنف، والفرق بين لام العاقبة وهذه في كلامه تعالى من حيث إن ترتب الفائدة في الأولى لمجرّد الإفضاء لا السببية والاقتضاء بخلاف الثانية، ولهذا كانت لام عاقبة إن لم يرد الخذلان على طريقة المصنف رحمه الله، وسيأتي الكلام عليه قريبا وهذا مما من الله به وينبغي للطالب حفظه. قوله: (أو للتعليل على أنّ فتنا متضمن معنى خذلنا) الخذلان تركه على ما هو فيه من الغواية من غير إرشاد واغاثة فالفتن متضمن معنى الخذلان لأنه سبب لافتتانهم وهو سبب لذلك القول أو هو من إطلاق المسبب على السبب واللام في هذا للتعليل لأنه سبب مقتض له، وان لم يكن باعثا عليه وعلى ما قبله كان ابتلاء بعضهم ببعض لما مرّ مؤدّيا إلى
الحسد المؤذي إلى ذلك القول فاللام لام العاقبة والثاني هو المذكور في الكشاف بناء على مذهبه من أنّ الفتن أمر قبيح لا يسند إلى الله، فإن كان هذا نقلاً لكلامه وأخره إشارة إلى أنه ليس مذهبنا المرضيّ عنده فظاهر، وان كان بياناً لمعنى يحتمله النظم فالخذلان لا ينافي كون ذلك بإيجاده فكلام الزمخشريّ إشارة إلى نفيه وكلام المصنف وحمه الله ساكت عنه، وأورد هنا بعضهم سؤالاً، وهو فإن قيل التعليل هنا ليس بمعناه الحقيقي لأنّ أفعله تعالى منزهة عن العلل والأغراض فيكون مجازا عن مجرّد الترتب وهو في الحقيقة معنى لام العاقبة فلا وجه للترديد، وقيل هما مختلفان بالاعتبار فإن اعتبر تشبيه الترتيب بالتعليل كانت لام تعليل وان لم يعتبر كانت لام عاقبة وفيه إنّ العاقبة أيضاً استعارة فلا يتم هذا الفرق إلا على القول بأنه معنى حقيقيّ، وعلى خلافه يحتاج إلى فرق آخر فليتأمّل. قوله: (بمن يقع منه الإيمان والشكر الخ) الباء الأولى زائدة والثانية متعلقة بأعلم وفي الدرّ المصون العلم يتعدّى بالباء لتضمن معنى الإحاطة وهو كثير في كلام الناس نحو علم بكذا وله علم به وذكر الإيمان لأنّ الشكر على النعم الممنون بها عليهم وهي تفضيلهم في الدين، وذكره الخذلان على الوجه الثاني أو عليهما لأنه لارّم له، وتد أشرنا إلى ما فيه قريبا. قوله: (وصفهم بالإيمان بالقرآن الخ) الآيات تطلق على آيات القرآن وعلى الحجج وكل منهما صحيح هنا كما أشار إليه المصنف رحمه الله لكن كان الظاهر أو مكان الواو ولذا قيل المراد بالحجج هنا الحجج القرآنية، ثم إنه جوّز في الباء هنا أن تكون صلة الإيمان وأن تكون سببية أي يؤمنون بكل ما يجب الإيمان به بسبب نزول الآيات، وقوله: بعدما وصفهم بالمواظبة الخ إشارة إلى ما مرّ في تفسير الغداة والعشيّ، أمّا على الوجه الأوّل فظاهر، وأما على الثاني فلأن من واظب على هذين الوقتين مع كثرة تشاغل الناس عنهما لزمه المواظبة على غيرهما، وقوله بأن يبدأ بالتسليم أي وان كان في محل لا ابتداء به فيه إكراماً لهم بخصوصهم كما روي عن عكرمة والا فالسلام منه ليس مخصوصاً بهؤلاء. قوله: (ويبثرهم بسعة رحمة الله الخ) تفسير لقوله: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} والسعة مأخوذة من شمولها لمن أذنب في قوله إنه من عمل الخ، ولم يعطف على ما قبله لأنّ جملة السلام دعائية إنشاثية والذانا تعليل لقوله وصفهم الخ وفضيلتي العلم والعمل من قوله يدعون ويؤمنون، وقوله: (من الله بالسلامة) مبنيّ على الوجه الثاني في سلام، وقوله: (وقيل الخ) وجه آخر في المراد بالذين وهو حديث مرسل رواه الفريابي وغيره، وفاعل نزلت ضمير يعود
على هذه الآية وفي هذه الآية دليل على إطلاق النفس على الله من غير مشاكلة كما تقدم. توله: (اسمئناف الفا نحويّ أو بيانيّ، كأنه قيل وما هي وفي قراءة الفتح وجوه منها ما ذكره، وقيل إنه على تقدير اللام وقيل إنه مفعول كتب والرحمة مفعول له وقوله كعمر إشارة إلى ما روي سابقاً وأشار بمعنى رأى ذلك رأياً وروي أنه رضي الله عنه بكى عند نزولها وقال معتذراً ما أردت إلا خيرالم ا (. توله: (في موضع الحال الخ (الجهل له معنيان كما في الكشاف عدم العلم بالشيء أو بعاقبتة والمخاطرة من غير نظر إلى العواقب كما في قوله:
ونجهل فوق جهل الجاهلينا
ولذا تمتدح به العرب فعلى الأوّل المراد بها الهالة بمضارّ ما يفعله، وعلى الثاني السفه
من غير تقديره فعول وقوله وأصلح آي في توبته بان أتى(4/69)
بشروطها ولذا ذكر العزم على عدم العود مع أنه لا بد منه في التوبة، قيل وهذه الآية سيما على الوجه الثاني تقوّي مذهب المعتزلة حيث ذكر في مقام بيان سعة الرحمة أنّ عمل السوء إذا قارن الجهل ئم حصلت التوبة والإصلاح فإنه يغفر ولذا قيل: إنها نزلت! في عمر رضي الله عنه لما قال لرسول الله! ت: " لو أجبتهم لما قالوا لعل الله يأتي بهم " قاله حين لم يعلم المضرّة وتاب وأصلح وأورد عليه أنه تقرّر في الأصول أنّ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب فنزول الآية في حق عمر رضي الله عنه لا يدفع الإشكال (قلت) يريد أنّ اللفظ ليس عامّا وخطاب منكم لمن كان في تلك المشاورة والعامل لذلك منهم عمر رضي الله عنه فلا إشكال، وفسر ضمير بعده بالعمل أو السوء ولو فسره بالجهالة الملتبسة بالسوء كان أظهر، وقوله: ملتبساً بفعل الجهالة إشارة إلى أنه حال مؤكدة حينئذ. قوله: (فتحه من فتح الأوّل غير نافع الخ) ذكر فيها وجوه منها ما ذكره المصنف، ومنها أنها منصوبة بفعل مقدر أي فليعلم أنه، وقيل إنها تكرير للأولى للتأكيد وطول العهد، والجواب محذوف وهو بعيد، وأجاز الزجاج كسر الأولى وفتح الثانية، وهي قراءة الأعرج والزهراوي وأبي عمر والداني ولم يطلع على ذلك أبو شامة رحمه الله فقال: إنه محتمل إعرابي وان لم يقرأ به وليس كما قال. قوله: (وكذلك نفصل) قد مرّ الكلام على ذلك وقوله
في صفة المطيعين والمجرمين خالف فيه ما في الكشاف حيث قصره على الثاني لظاهر قوله سبيل المجرمين، والمصنف رحمه الله رأى الاقتصار عليهم لأنّ بيان أحوالهم أهنم هنا لما فيها من المفاسد التي يجب التنبيه عليها أو اكتفاء بذكر أحد الفريقين واستبان كتبين يكون لازما ومتعدياً، وقد دل قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ} [سورة الأنعام، الآية: 39] على أهل الطبع وقوله: {الَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُواْ} [سورة الأنعام، الآية: 51] على أهل إمارة القبول وقوله: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا} على المطيعين أو المفرطين قال النحرير: قوله فصلنا ذلك إشارة إلى تقدير متعلق لام لتستبين وقدره ماضيا نظراً إلى ما اقتضاه المعنى، وذكر تفصيل الآيات بلفظ المضارع لقصد الاستمرار وتناول الماضي والآتي، ومبناه على كونه من قبيل ضربت كذلك وهو على التشبيه ظاهر أيضا، وتذكير السبيل وتأنيثه لغتان مشهورتان وقوله بما نصب الخ راجع لصرفت، وأنزل راجع لزجرت على اللف والنشر المرتب، ولتستبين معطوف على مقدر هاليه أشار المصنف رحمه الله بقوله ليظهر الحق الخ. قوله: (عن عبادة ما تعبدون) تفسير لقوله إن أعبد فتدعودط إما بمعنى تعبدون لتضمن العبادة للدعاء أو بمعنى تسمونها آلهة، وقوله: تأكيد لقطع أطماعهم جعله تأكيداً لأنه يفهم من نهيه عما هم عليه المذكور قبله مع استمرار المضارع المنفي هنا والموجب للنهي كون ما هم عليه هوى باطل واستجهالهم من اتباع الهوى وترك الهدى، أو من قوله نهيت لأنّ من لم تنهه الأدلة فهو جاهل واليه جنح الزمخشري. قوله: (وتنبيه لمن تحرّى الحق الخ) قيل إنه ميل منه إلى مذهب الأشعري وغيره من أنّ إيمان المقلد غير صحيح في حق الآخرة كما تقرّر في الأصول، ولك أن تفول مراده بمن تحر 3، الحق من يقدر على الاستدلال، والمراد بقوله ولا يقلد التقليد الصرف كما يفعله الكفرة وأهل الاهواء. قوله: (أي في شيء من الهدى) قيل هو من المهتدين أبلغ من هو مهتد
فنفيه بالعكس فهو هنا لتأكيد الخفي لا لنفي التأكيد، واليه أشار المصنف بقوله في شيء من الهدي وهو معنى دقيق، وهو ردّ لما قيل إنّ في هذا التفسير نظراً لأنّ هذا الأسلوب في الإثبات يوجب أن يكون المدخول ليس ممن له حظ قليل في ذلك الوصف بل له حظوظ وافرة، وفي السلب يوجب أن يكون المدخول له حظ ما فيه وفي الكشاف في قوله تعالى: {لِعَمَلِكُم مِّنَ الْقَالِينَ} [سورة الشعراء، الآية: 168] قولك فلان من العلماء أبلغ من قولك فلان عاليم لأنك تشهد له بكونه معدوداً في زمرتهم معروفا بمساهمته لهم وعراقته في وصفه وأجيب بأن إفادة معنى الاستغراق في نفي الهدي ليست من هذا القبيل بل جواب لما دل عليه قل لا أتبع أهواءكم على سبيل التعريض كأنه قيل إن اتبعت أهواءكم ضللت وكنت منكم وممن انغمس وتوغل في الضلال ولا أكون من الهدى في شيء مثلكم، وهو يدل على أنه من زمرة المهتدين المساهمين فيه، وهو وأن كان له وجه لكن الأوّل أولى، وهذه الفائدة قد ذكرها ابن جني رحمه الله في الخصائص وقد بسطنا الكلام فيها في غير هذا(4/70)
المحل وقيل إنه يريد أنّ نفي كونه من المهتدين يستلزم نفي كونه في شيء من الهدى لأنّ الشخص بأدنى شيء يعدّ منهم، وقوله: وفيه تعريض بأنهم كذلك فهو كقوله تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [سورة الزمر، الآية: 65] كما تقرّر في المعاني. قوله: (والبينة الدلالة الواضحة الخ) هكذا فسرها الراغب على أنها من بان يبين بمعنى ظهر، ولذا قيل فالوضوح ليس مأخوذاً من التنكير كما قيل وقوله التي تفضل الخ إشارة إلى أنها من البينونة بمعنى الانفصال والمعنى الأصلي ملاحظ فيها وان صارت بمعنى الدليل، ولما قال في الكشاف بعد تفسيرها بما ذكر يقال أنا على بينة من هذا الأمر وأنا على يقين منه إذا كان ثابتاً عندك بدليل علم أنّ قيد الوضوح ليس في مفهومها فلذا قيل إنه مأخوذ من التنكير وبان بمعنى ظهر وبمعنى انفصل معنى آخر فلا ينبغي خلطهما، وقيل المراد القرآن فعطف الوحي عليه من عطف العامّ على الخاص والبينة ما به التبيين أو المبينة، وقوله من معرفته إشارة إلى تقدير مضاف في أحد الوجهين. قوله: (على بينة من ربر) إن قيل معناه على حجة من جهة ربي فعلى هذا من ربي صفة لبينة على معنى كائنة من ربي صادرة عنه، وضمير به للبينة لأنها بمعنى البيان والمثبت كما قاله الزجاج لا لربي إذ الفرق للتفرقة، والتفصيل بينه وبينهم، وذلك إني صدقت بالبينة وأنتم كذبتم بها بخلاف ما إذا قيل وأنتم كذبتم بربي وأمّا على الوجه الآخر فالمعنى من معرفة ربي فيعود الضمير على ربي لأنّ المعنى أني صدقت به وأنتم كذبتم به وعليه فالخبر مقدر يتعلق به على بينة ومن ربي أي على بينة لأجل معرفة ربي،
ويجوز أن بكون من ربي صفة بينة أيضاً ومن اتصالية أي بينة متصلة بمعرفة ربي أنا عليها كما في شروح الكشاف فنزل عليه كلام المصنف رحمه الله، وقوله باعتبار المعنى إشارة إلى تأويل البينة بما مرّ. قوله: (في تعجيل العذاب وتأخيره) قيل هو أولى من تخصيص الزمخشريّ بالتأخير ثم إنه قد سلك مسلك المصنف في تفسير يقضي وكأنه لم يقف على مراده من أنّ المقصود من قوله: إن الحكم إلا لقه التأسف على وقوع خلاف مطلوبه كما يشهد به موارد استعماله، وهو على التأخير فقط ثم أردفه بالقضاء بالحق فيهما تكميلا للخاص لإردافه بأمر عام كقوله: {الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [سورة الملك، الآية: ا] وهو أولى مما ذكره المصنف فلله درّ العلامة ما أدق نظره. قوله: (أي القضاء الحق الما كان القضاء يتعدّى بالباء لا بنفسه قالوا: إنّ الحق منصوب على المصدرية لأنه صفة صدر مصدر محذوف قامت مقامه أو يقضي ضمن معنى ينفذ أو هو متعدّ من قضى الدرع إذا صنعها كقوله: وعليهمامسرودتان قضاهما داود
فهو استعارة وقوله فيما يقضي ظرف ليقضي على المعنيين، وقوله: وأصل الحكم المنع
من حكمة لجام الفرس وقوله: من قص الأثر أي بالصاد المهملة المشدّدة قيل وهذه قراءة لا تناسب ما بعده فإنّ قوله خير الفاصلين يقتضي ذكر القضاء قبله والا لقيل خير القاصين وردّ بأنه قرئ بذلك فكأنّ هذه القراءة لم تبلغه وبأنّ القصص بمعنى القول وهو يوصف بالفصل كما في قوله تعالى: {إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ} [سورة الطارق، الآية: 13] ، وغيره فيناسبه مع أنّ معنى يقصه أنه بينه بياناً شافياً وهو عين القضاء، وقضى الأمر بمعنى قطع، وقطع الأمر بينه وبينهم كناية عن إهلاكهم. وقوله: (يؤخذ الخ) أي يهلك ويؤخر هلاكه وفسر عنده بما هو في قدرته لأنه يشترط فيها الحضور بالفعل ولذا قد يراد بها العلم أيضا وجعله في المعنى استدراكا لأنّ مآله لو قدرت أهلكتكم، ولكن الله أعلم بمن يهلك من غيره وله حكمه في عدم التمكن منه. قوله:) خزائنه جمع مفتح بفتح الميم الخ) هو بالفتح المخزن والخزانة والكنز لأنه مما يفتح فكأنه محل الفتح، والمفتاح والمفتح بكسر ميمي ما آلة الفتح وسمة في العنق والفخذ قيل والأنسب جعله بمعنى الكنز على أنّ مفاتح الغيب من قبيل لجين الماء، وأخر الزمخشري تفسيره بالخزائن لعدم
تبادره من لفظ المفاتح، وعليه فهو استعارة مكنية وتخييلية شبه الغيب بأمور تحفظ وتصان، وأثبت لها المخازن تخييلاً، والمقصود أنّ علمها مخصوص به لأنه يلزم من علم المخازن علم ما حفظ فيها، ولذا لم يعطف عليه جملة لا يعلمها إلا هو لاتحادهما معنى فهي مؤكدة، وقال الإمام المراد على هذا التفسير أنه القادر على جميع الممكنات كما في قوله: {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ} [سورة الحجر، الآية: 21] ، والخزائن والمخازن متقاربان بأن معنى لكن الأولى لغة القرآن الفصيحة فلذا فسر النظم بها ثم أشار بعد إلى أنهما بمعنى فلا يقال لو قال مخازنه لكان أنسب(4/71)
بما بعده والأمر فيه هين. قوله: (مستعار الخ) يعني أنها مكنية وتخييلية إذ شبه الغيب بالأشياء المستوثق منها بالأقفال وإثبات المفاتيح تخييل كإظفار المنية، وأمّا جعلها تمثيلية فبعيد، وكذا جعل المفاتح بمعنى لعلم وجعله قرينة المكنية بناء على أنه لا يلزم أن يكون حقيقة كما تقرّر في ينقضون عهد الله أو هو استعارة مصرحة والإضافة إلى الغيب قرينتها، وهذا أسلم من التكلف، وجوّز فيه أن يكون مجازاً مرسلا فإنّ كونه مفاتح الغيب مستلزم للتوصل إليه، وتأييد قراءة مفاتيح ظاهر، ولذا قيل إنّ مفاتح جمع مفتاح كما قيل في جمع محراب محارب وجوّز الواحدي في مفتح بفتح الميم أن يكون مصدرا بمعنى الفتح. قوله: (والمعنى أنه المتوصل الخ) الظاهر أنه تفسير للوجه الثاني وينتقل منه إلى معنى الأوّل كما خصه به الزمخشرفي وجعله تفسيراً لهما ينبو عنه اللفظ، وقوله إنه المتوصل الحصر من تقديم الخبر، والمراد بالتوصل إحاطة العلم والإحاطة تؤخذ من لام الاستغراق، ووجه اختصاصها به تعالى أنه لا يعلمها كما هي ابتداء إلا هو، وقيل المراد بالغيب المغيبات الخمس، وفي الانتصاف لا يجوز إطلاق المتوصل على الله إذ لم يرد إذن به مع إيهامه بتجدد الوصول، وما في صيغة التوصل من الإشعار بأنه وصل بعد تباعد عن نيله ولا يدفعه ما قيل إنه يراد به الاستمرار التجددي ولذا أشار النحرير إلى أنه مرتضى عنده وهو غير وارد على المصنف رحمه الله لأنه وصف به العلم ولم يطلقه على الله. قوله: (فيعلم أوقاتها) فيه إشارة إلى ربطها بما قبلها وهو ظاهر وقوله وفيه دليل الخ أورد عليه أنّ علمه تعالى ليس بزمانيّ فلا قبلية ولا بعدية بينه وبين الأشياء الواقعة في الأزمنة وأجيب بأنه عند من جوّز كون علمه زمانيا لا إشكال فيه ومن منعه وهو الصحيح تأوّل القبلية والبعدية بأنها بالنظر إلى وجود المعلوم دون العلم أو بالنظر إلى تعلقه الحادث، وقيل لا شك في تقدم ذاته تعالى وعلمه على المصنوعات غايته أن ذلك التقدم ليس بزمانيّ بل بنوع من التقدم كتقدّم أجزاء الزمان بعضها على بعض كما حقق في محله يعني
أنّ قبل هنا مجاز عن مطلق التقدم، وهو وجه حسن. قوله: (عطف للأخبار الخ) أي هو معطوف على قوله: {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ} الخ لأنّ قوله لا يعلمها إلا هو كالتأكيد لها فلا يصح عطفه عليه لأنه لا يصلح للتأكيد ولو كان علمه لها على وجه التفصيل والاختصاص لأنّ علم الغيب والشهادة متغايران، فلا يؤكد أحدهما الآخر، نعم من لم يجعلها مؤكدة يجوزه فيكونان مستأنفتين لتفصيل علمه وشموله ولا تعلق له بما قبله، ويصح أنّ المجموع مؤكد لاشتماله على مضمون ما قبله لأنه ليس توكيداً اصطلاحياً، وجعل المعرب الجملة الأولى حالاً فلا مانع من العطف عنده والمصنف رحمه الله لم يتعرّض! لذلك فكلامه يحتملهما. قوله: (ألا يعلمها) حال من ورقة وجاءت الحال من النكرة لاعتمادها على النفي والتقدير ما تسقط من ورقة إلا عالماً بها لصحة التفريغ في الحال أو نعت لها بناء على جوازه فيه كما في قوله تعالى: {وَمَا أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ} [سورة الحجر، الآية: 4] ومن في من ورقة زائدة في الفاعل وما بعده معطوف عليه، وقرئ بالرفع عطفاً على المحل وسيأتي وقوله مبالغة في إحاطة علمه بالجزئيات ردّ على الفلاسفة في قولهم إنه لا يعلمها وهو قول باطل، إلا أنّ المحقق الطوسي أنكره وقال إنهم لم يفهموا كلامهم، وله فيه رسالة جليلة. قوله: (بدل من الاستثناء الأوّل بدل الكل الخ) قال أبو البقاء رحمه الله: إلا في كتاب إلا هو في كتاب مبين، ولا يجوز أن يكون استثناء يعمل فيه يعلمها لأنه يصير المعنى وما تسقط من ورقة إلا يعلمها إلا في كتاب فينقلب المعنى من الإثبات إلى النفي فإذا يكون الاستثناء الثاني بدلاً من الأوّل أي ولا تسقط من ورقة ولا حبة ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين وما يعلمها إلا هو، وهذا معنى قوله في الكشاف إنه كالتكرير وقيل أي من جهة المعنى على ما بين وأما من جهة اللفظ فهو صفة للمذكورات كما أنه لا يعلمها إلا هو صفة لورقة، وأمّا ما يقال إنه تأكيد للاستثناء الأوّل أو بدل وإنه ليس استثناء من لا يعلمها اللزوم كونه نفياً من الإثبات لكون لا يعلمها إلا هو إثباتاً من المنفي فمما لا ينبغي أن يصفي إليه المحصل، ا! فهو اسنثناء من أعمّ الأوصاف والمعنى ما تسقط من ورقة بوصف إلا بأنه يعلمها وكذا حال إلا في كتاب والحصر إضافيّ بالنسبة إلى غير العلم، والذي جنح إليه إنه إن دخل في حيز العطف لم تصح البدلية والا فلا لتخلل العطف(4/72)
وفصله بين البدل والمبدل مع أنه قيل عليه إنّ صفة شيء كيف تكون تكرير الصفة شيء آخر معنى، ووجه كونه بدلاً أنّ قوله ولا رطب ولا يابس معطوفان على ورقة ليشاركاها في صفتها أعني لا يعلمها إلا هو فكأنه قيل ولا رطب ولا يابس إلا يعلمها، ولا يخفى أنه تكلف لا
حاجة إليه وأنّ ما أورده غير وارد لأنّ الورقة داخلة في الرطب واليابس فلا تغاير بحسب المعنى فصح ما ذكره وسيأتي له تفصيل في سورة يونس.
قوله: (أو بدل الاشتمال) ولا يصح أن يكون بدل كل من كل لعدم اتحادهما وهو ظاهر، وأما ما قيل أنّ اللوح محل معلوماته فيؤول إليه فتكلف لا حاجة إليه مع صحة الاشتمال، وكذا ما قيل إنه حينئذ يصح أن يكون بدل كل من حيث إنّ كونها في اللوج كناية عن كونها معلومة له لأنه خلط بين التفسيرين بجعلهما واحداً والكلام ناطق بخلافه، وقال الزجاج: إنه تعالى أثبت المعلومات في كتاب من قبل أن يخلق الخلق كما قال إلا في كتاب من قبل أن نبرأها وفائدة ذلك أمور أحدها اعتبار الملائكة موافقات المحدثات للمعلومات الإلهية، وثانيها تنبيه المكلفين على عدم إهمال أحوالهم المشتملة على الثواب والعقاب حيث ذكر أنّ الورثة والحبة في الكتاب، وثالثها عدم تغيير الموجودات عن الترتيب السابق في الكتاب ولذا قال جف القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة، وهذا الكتاب يسمى اللوج المحفوظ. قوله: (استعير التوفي الخ (أشار بذكر المصدر إلى أنّ الاستعارة تبعية وقوله في زوال الإحساس إشارة إلى وجه الشبه بينهما والظاهر أنّ أل فيه للعهد أي إحساس الحواس الظاهرة لأنه ذكر في سورة يوسف أن الحواس الباطنة تدرك في النوم، وقيل إنه بناء على ما اشت! هر من أنّ النوم ضد الإدراك، وجعل صاحب التلخيص وجه الشبه عدم ظهوو الفعل وقوله جرياً على المعتاد أي من الكسب في النهار وعدمه في الليل والا فقد يعكس. قوله: (يوقظكم الخ (يعني أنّ البعث بمعنى الإيقاظ ضمير فيه للنهار على ما ذهب إليه كثير من المفسرين والزمخشري لما رأى قوله: {يَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ} (دالاً على حال اليقظة وكسبهم فيها وكلمة ثم تقتضي تأخير البعث عنها عدل عنه فقال في تفسيره ثم يبعثكم من القبور في شأن ذلك الذي قطعتم به أعماركم من النوم بالليل، وكسب الآثام بالنهار ومن أجله كقولك فيم دعوتني فتقول في أمر كذا فجعل الضمير جارياً مجرى اسم الإشارة عائدا على مضمون كونهم متوفين وكاسبين ومفى في هو حاصل معنى لام العلة والأجل المسمى هو الكون في القبور قال النحرير: ولا يخفى ما فيه من التكلف وأنه لا حاجة إليه لأنّ قوله: {يَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ} إشارة إلى ما كسب في النهار السابق على ذلك الليل ولا دلالة فيه على الإيقاظ من هذا التوفي وأنّ الإيقاظ متأخر عن التوفي وان قولنا يفعل ذلك التوفي لنقضي مدة الحياة المقدّرة كلام منتظم غاية الانتظام، ولا يخفى أنه تكلف بعيد وما قيل في وجه التراخي أنّ
حقيقة الإنامة في الليل تتحقق في أوّله، والإيقاظ متراخ عنه وان لم يتراخ عن جملته ليس بسديد لأنه لا وجه حينئذ لتوسط قوله: {وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ} ومعنى جرحتم كسبتم مأخوذ من جوارج الطير. قوله: (ترشيحا للتوقي) قيل فعلى هذا يكون الترشيح مجازاً، وقد يقال إنه ليس بمجاز، ولا يخفى أنّ الترشيح له نوع خصوص بالمشبه والبعث مما لا خصوص له إذ يقال بعثه من نومه إذا أيقظه كما صرّح به في المطول ولك أن تتكلف بأنه كذلك في اللغة لكنه حقيقة شرعية في إحياء الموتى في الآخرة (قلت) كونه ترث! يحاً باعتبار ما ذكر.، وأنه المتبادر في عرف الشرع وان كان لغة أعنم وإذا أسند إليه تعالى لم بفهم منه إلا هذا أو الإيجاد وبعث هنا ليس مجازاً كما توهم بل حقيقة جعل ترشيحا لما مرّ ولا يشترط في الترشيح اختصاصه بالمشبه به، بل أن يكون أخص به بوجه كما قرّروه في قوله:
له لبد أظفاره لم تقلم
إذ جعلوا لم تقلم ترشيحا والبعث في الموت أقوى لأنّ عدم الإحساس فيه أقوى فإزالته
أشد، وهو ظاهر وإن خالفه ما في المطوّل لأنه غير مسلم حتى جعله بعضهم قرينة في قوله من بعثنا من مرقدنا مع أنّ البعث حقيقة في الإيقاظ لكن المتبادر منه ما ذكروا لا لم يكن ترشيحا بل تجريدا، ولو سلم أنه مجاز فهو لا ينافي الترشيح، قال في الفرائد: الترشيح يجوز أن يكون باقياً على حقيقته تابعا للاستعارة لا يقصد به إلا تقويتها وأن يكون مستعارا من ملائم المستعار لملائم المستعار له، فلا يتجه ما قيل فيه بخث لأنه لما كان(4/73)
البعث مجازاً عن الإيقاظ لم يكن من الترشيح في شيء، لأنّ الترشيح باق على حقيقته لا يعتبر فيه تشبيه ولا استعارة، والذي غرّه ظاهر كلامهم، وكذا ما قيل البعث الإثارة لا الإيقاظ غايته أنّ بعث النائم يكون! ايقاظه فلا ترشيح فيه ولو قلنا بعث النائم بايقاظه لا يكون ترشيحاً بل تجريداً. قوله: (ليبلغ المتيقظ الخ) الظاهر إنه علة غائية لما تقدم أعني، وهو الذي يتوفاكم الخ أي جعل هذا منتهى أعماركم، وقوله: أخر أجله إما تفسير للمراد من الأجل، أو إشارة إلى أنّ المراد به مجموع العمر لأنه يطلق عليهما كما مرّ. قوله: (ثم إليه مرجعكم) قال الثريف المرتضى: في الدرر والغرر فيما وقع في القرآن من ذكر الرجوع إلى الله نحو إليه ترجع الأمور كيف ترجع إليه وهي لم تخرج عن يده، وأجاب بأنه في دار التكليف قد يغير البعض فيضيف بعض أفعاله تعالى إلى غيره فإذا انكشف الغطاء انقطعت حبال الآمال عن غيره فيرجع إليه، أو أنّ المراد أن الأمور في يده من غير خروج ورجوع حقيقي فرجع بمعنى صار تقول العرب: رجع عليّ من فلان مكروه بمعنى صار، ولم يكن سبق، فهو بمعنى المصير إليه كما تشهد به اللغة أو أنه في دار الدنيا ما يكون للعباد ظاهراً كالعبد لسيده، فإذا أفضى الأمر إلى الآخرة زال ذلك ورجع الأمر كله إلى الله ظاهر أو باطنا، قيل ولو حمله على البعث من القبور لكان أولى لأنّ انقضاء الأجل يتضمن
الموت، والظاهر أنه تمثيل مثل قدم على ربه وقوله بالمجازاة هو إمّا مجاز فيها أو كناية ثم إنه يحتمل أن يكون ما في القبر أو ما بعده أو أعثم منهما، ولو فسر بالمحاسبة وعرض الصحف لكان أظهر. قوله: (وقيل الآية خطاب للكفرة الخ) هذا مختار الزمخشرقي لأنها مسوقة للتهديد كما في قوله: {ثُمَّ يُنَبِّئُكُم} الخ ولأنّ حمل البعث على الإيقاظ تكرير مع ذكر كسب النهار ولأنّ ثم تدل على التراخي وهنا ليس كذلك وقد مرّ جوابه، وأما الجواب بأنّ واو ويعلم حالية وما عبارة عما كسب في النهار السابق كما يرشد إليه عدم إيراده بصيغة الاستقبال فلا دلالة فيه على أنّ الإيقاظ عن هذا التوفي وكلمة، ثم إنما تدل على تأخر الإيقاظ عن التوفي دون غيره، ولو سلم فإنما يدل على تأخره عن العلم دون الجرج ولا ضير فيه، ف! نه يعلم في الماضي أنهم يكسبون كما في الآتي، ثم إنّ المتبادر هو البعث عن التوفي المذكور لا عن غير المذكور فحمله عليه غير سديد لأنّ واو الحال لا تدخل على المضارع إلا شذوذاً أو ضرورة في المشهور، وقوله: في شأن الخ يشير إلى أنّ الضمير واقع اسم الإشارة، كما مرّ ومعنى في شأنه لأجل جزائه وحسابه وتشبيه نوم الليل بالموت لما فيه من ترك العبادة فتكون بيوتهم مقابرهم كما قيل: أيا نائم الليل هنئته فقبل الممات سكنت القبورا
وقوله ليقضي الأجل الخ فالمراد بالأجل مدة موتهم أو غايتها، وقوله: سماه وضربه أي
عينه والبعث علة لانقضاء تلك المدة، فإن قلت قد علل البعث بقوله فيه على هذا التوجيه فما وجه قوله ليقضي، قلت هو تعليل لتأخير البعث المستفاد من ثم، وفي الكشف وأما إن قضاء الأجل المسمى لا يصلح علة للبعث فليس بشيء بعدما فسره المصنف بقوله الأجل المضروب لبعثهم وجزائهم أي يبعثكم من القبور ليقضي أجل البعث والجزاء فيه، وهو متأخر عن البعث لا محالة ألا ترى إلى قوله: {ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ} [سورة يونس، الآية: 4] وقال العلامة في شرح الكشاف لا شك أنّ ظاهر الآية على العموم لكن قوله: {وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ} يدل على تهديد شديد لا يليق إلا بالمعاندين الجاحدين، ولهذا فسر التوفي وان كان مسندا إلى الله بانسداحهم كالجيف لأن المقصود بيان حالهم المذمومة في الليل كما أنّ قوله ما جرحتم الخ بيان حالهم المذمومة في النهار، ويتوفاكم أي يقبض أرواحكم عن التصرف بالنوم كما يقبضها بالموت كما في قوله تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ} [سررة الزمر، الآية: 42] الآية، وفي أكثر التفاسير يبعثكم يوقظكم في النهار ليقضي أجل مسمى أي مدة الحياة ثم إليه مرجعكم بعد الممات، ثم ينبئكم بالمجازاة وإنما عدل عنه لأنّ قوله ويعلم ما جرحتم بالنهار دال على حال اليقظة وكسبهم فيها وكلمة، ثم تقتضي تأخر البعث عنها، فإن قلت البعث من القبور ليس علة لقضاء الأجل المسمى فنقول المراد بالأجل المسمى مدّة الكون
في القبور لا مذة الحياة كما قالوا والبعث علة لانقضاء تلك المدّة. قوله: (من النوم الخ) فان قلت النوم ضروري فالنائم غير مكلف(4/74)
فكيف يحاسب عليه، قلت المراد أنه يحاسب على أسبابه ومقدماته فإنها اختيارية ألا ترى أنّ من نام في آخر الوقت حتى فاتته الصلاة يكون عاصيا بنومه. قوله: (وهو القاهر) قد مرّ تفسيره وفوق منصوب على الظرفية حال أو خبر بعد خبر، وذكر الإرسال بعده ليفيد أنّ إرساله ليس لاحتياجه بل لما ذكر من الحكم، وقوله: (تحفظ أعمالكم) تفسير للحفظة جمع حافظ ككتبة وكاتب، ويحتمل أنّ المراد بهم المعقبات التي تحفظه من بين يديه ومن خلفه، ويرسل مستأنف أو عطف على القاهر لأنه بمعنى الذي يقهر ولا يصح جعله حالاً لأن الواو الحالية لا تدخل على المضارع، وتقدير المبتدأ لا يخرجه عن الشذوذ على الصحيح وعليكم متعلق بيرسل أو بحفظة، والإشهاد جمع شهد كصحب وهو جمع شاهد، أو اسم جمع له لأن فاعلا لا يجمع على أفعال إلا نادراً، وقوله: يحتشم بمعنى يستحي، وضمير من خدمه إمّا إلى السيد أو إلى العبد، قيل والمبالغة في الثاني أكثر وخدم بفتحتين جمع خادم، وهو من نوادر الجموع، وقوله ملك الموت وأعوانه جمع عون وهو المعين والظهير، والظاهر منه أن قبض الأرواح بجملتها ليس موكولاً إلى ملك الموت بل له أعوان يقبضونها معه، وقيل إنّ المباشر ملك الموت عليه الصلاة والسلام واسناد الفعل إلى المباشر والمعاون معاً مجاز كما يقال بنو فلان قتلوا قتيلا، والقاتل واحد منهم وقد يسند إليه فقط، والى الله تعالى وتوله حتى أي بلغت غلبته إلى أنهم لا يتأتى لهم مخالفة رسله في قبض الأرواح، وليس متعلقا لإرسال الحفظة حتى يقال ليس غاية إرسال الحفظة وقت مجيء الموت إلى أحدهم. قوله: (والمعنى الخ) يعني معنى قراءة التخفيف والضمائر كلها للرسل، والإفراط مجاوزة الحد وهو يكون بالزيادة والنقصان والتفريط التقصير، ولذا فسره بالتواني والتأخير، وقيل إنه على القراءتين، وفيه لف ونشر مرتب إن كان ضمير لهم للناس وما عبارة عن آجالهم وغير مرتب إن كان الضمير للرسل وما عبارة عن الإكرام والإهانة، وفيه نظر. قوله:) ثم رذوا إلى الله الخ) قيل الضمير للكل المدلول عليه بأحد وهو السرّ في مجيئه بطريق الالتفات والإفراد
أوّلاً والجمع آخرا الوقوع التوفي على الانفراد، والرذ على الاجتماع أي ردّوا بعد البعث، وقيل أيضا فيه التفات من الخطاب إلى الغيبة ومن التكلم إليها لأنّ الرذ يناسبه اعتبار الغيبة، وان لم يكن حقيقة لأنهم ما خرجوا من قبضة حكمه طرفة عين، وقيل عليه ضمير ردّوا عبارة عن الأحد العامّ إذ المراد ليس فرداً واحداً إلا عن المخاطبين فالالتفات واحد، ثم إنّ الردّ إنما يقتضي غيبتهم وقت الردّ لا وقت الخطاب بأنكم تردّون فكأنه لم يسمع قوله: {ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ} [سورة التوبة، الآية: 94] ولا يخفى أن الأحد وان كان يعمّ كما مرّ في سورة البقرة، لكنه لما أضيف إلى المخاطبين اقتضى ذلك التغاير بينهما والردّ لا يختص بل يعمّ الجميع فرجع إلى العباد فيكون فيه التفاتان بلا تكلف، وكون الرذ يقتضي الغيبة مما لا شبهة فيه لأنه لا يردّ إلا من ذهب وغاب فالمردود في أوّل تعلق الرذ به غائب، وبعده يصير حاضرا، فيجوز اعتبار كل من حاليه، واعتبار حالة البعد أنسب بالمقام فلا يرد ما ذكره وهو لا ينافي الخطاب في تردّون ولكل وجهة.
وللناس فيما يعشقون مذاهب
وقوله: (إلى حكمه وجزائه) وقيل إنه الرذ من البرزخ إلى موضع العرض والسؤال، وليس ببعيد من هذا. قوله: (العدل) الحق يطلق على الله إمّا مجازا وهو بمعنى العدل، أو مظهر الحق أو واجب الوجود، أو الصادق الوعد، ونصبه على المدج، أو على أنه صفة للمفعول المطلق أي الردّ الحق، فلا يكون حينئذ المراد به الله. قوله: (لا يشنله حساب عن حساب) هذا بناء على أنه يحاسبهم، وقيل إنه يأمر الملائكة بذلك فيحاسب كل إنسان ملك وإذا حاسبهم بنفسه في زمان قليل لزم أن لا يشغله حساب عن حساب فلا يرد ما قيل إن هذا المعنى لا يدل عليه قوله اسرع الحاسبين، وقوله مقدار حلب شاة عبارة عن تقليل زمانه وهو أنه عنده. قوله: (فقيل لليوم الشديد يوم مظلم ويوم ذو كواكب) أي إنه يوم اشتدت ظلمته حتى صار كالليل في ظلمته، وقوله ذو كواكب كقوله:
إذا كان يوم ذو كواكب أشنعا
بناء على أنّ الليل إذا لم يستتر بنور القمر ظهرت الكواكب صغارها وكبارها، وكلما اشتدت ظلمته اشتد ظهور الكواكب فيه، ومن الأمثال القديمة رأى الكواكب مظهراً أي أظلم يومه لاشتداد الأمر فيه كما قال الهذلي:(4/75)
إني أرى وأظن أنّ ستري وضح النهاروعالي النجم
وقد تلطف بعض المتأخرين فيه إذ قال:
قد أعرت الشباب غيري وما زال شباب الإنسان ثوبا معارا
أطلع الشيب في عذارى نجوما فرأيت النجوم منه نهارا
قوله: (أو من الخسف) معطوف على قوله من شداندهما قيل فهو على الأوّل استعارة للهول، وعلى هذا المراد حقيقة الظلمات يعني ليس المراد شذة الخسف والغرق حتى يدخل هذا الوجه في الأوّل فيكون أعئم منه بل المراد ظلمة البرّ بالخسف في الأرض، وظلمة البحر بالغرق فيه فتغايرا، ومنهم من جعله كناية عن الخسف والغرق فهو حقيقة أيضا. قوله: (معلنين ومسرين (يعني نصبها على الحال أو المصدرية، وقيل بنزع الخافض، والإعلان والإسرار ي! ضمل أن يراد بهما ما باللسان والقلب، وقراءة خفية بالكسر لأنها لغة فيه كالأسوة والأسوة. قوله: (على إرادة القول) أي تقديره والقول المقدر حال أو على إرادة معناه من تدعون بناء على مذهب الكوفيين في الحكاية بما يدلّ على معنى القول من غير تقدير، والصحيح الأوّل فيكون محل الجملة النصب، وقيل إنّ الجملة القسمية تفسير للذعاء فلا محل لها، وقرأ الكوفيون أنجانا بلفظ الغيبة مراعاة لقوله تدعونه والباقون أنجيتنا بالخطاب حكاية لخطابهم في حالة الدعاء. قوله: (غتم سواها (أمره بالجواب تنبيها على ظهوره كما مرّ أو إهانة لهم إذ لا يلتفتون لخطابه، والمصنف رحمه الله نظر إلى الظاهر فخصه بقوله سواها لتقدم قوله منها فكل للتكثير حينئذ، ولا حاجة إليه بل يجوز أن تبقى على أصلها من التعميم والإحاطة وذكر التعميم بعد التحصيص كثير، ولا يعدّ تكرأراً، ثم إنّ المراد بالكرب ما يعم ما تقدم ولا محذور في التعميم بعد التخصيص أو أهوال القيامة، أو ما يعتري المرء من العوارض النفسية التي لا تتناهى كالأمراض والأسقام، فما قيل إن هذا يدلّ على أنّ المراد بما تقدم كرب مخصوص كالخسف والغرق والا فشدائد البر والبحر تتناول جميع الشدائد والكرب فلا فائدة في التعميم، أو الأولى نعمة رفع وهذه نعمة دفع هانه من قبيل متقلداً سيفاً ورمحاً تكلف لا داعي له. قوله: (تعودون إلى الشرك الخ (لأنّ الخطاب للمشركين وشركهم مقدّم على ذلك، فالشرك المذكور بالمضارع، وثم شرك آخر عادوا إليه بعد النجاة كما يقتضيه السياق، وهذا يؤيد ما سلكه الزمخشرقي سابقا من تخصيص الخطاب بالكفرة ووضع تشركون موضع لا تشكرون ا) أي هو مقتضى الظاهر المناسب لقوله: {لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} لأنّ إشراكهم تضمن عدم صحة
عبادتهم وشكرهم، لأنه عبادة بل نفيها لعدم الاعتداد بها معه إذ التوحيد ملاك الأمر، وأساس العبادة فوضعه موضعه توبيخا لهم لعدم الوفاء بالعهد، ولم يذكر متعلقه لتنزيله منزلة اللازم تنبيهاً على استبعاد الشرك في نفسه. قوله: (قل هو القادر) في الكشاف هو الذي عرفتموه قادرا أو هو الكامل القدرة، ولشراحة فيه كلام فقيل مراده أنها للعهد أو للجنس، وأنّ الحصر فيه باعتبار الكمال أو لخصوص هذه الأشياء المذكورة في النظم، وإنما أوّله بذلك لأنّ في هذه الأمور شروراً وقبائح لا تسند إليه عند المعتزلة، وفيه تفصيل كفانا المصنف رحمه الله مؤنته بتركه وقوله: {مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} المراد به جهة العلو وجهة السفل، فلا يتوهم أنّ الماء ليس تحت أرجلهم، والذي من فوقهم كأمطار حجارة من سجيل في قصة الفيل، وأرسال السماء في قصة نوح وإمطار الحجارة على قوم لوط عليه الصلاة والسلام. قوله: (أو يلبسكم) معنى يلبسكم يخلطكم فقيل: المراد اختلاط الناس في القتال بعضهم ببعض، وهو مراد المصنف رحمه الله، وقيل: المراد يخلط أمركم عليكم ففي الكلام مقدر وخلط أمرهم عليهم بجعلهم مختلفي الأهواء وشيعا جمع شيعة، وهم كل قوم اجتمعوا على أمر، وهو حال وقيل إنه مصدر منصوب بيلبسكم من غير لفظه. قوله: (فينشب القتال بينكم الخ) أصل معنى النشوب التعلق وفي الحديث قد نشبوا في قتل عثمان رضي الله عنه) 1 (، أي وقعوا فيه ويكون نشب بمعنى لبث نحو لم ينشب أن مات أي لم يلبث وليس مراداً هناه قوله: (وكتيبة الخ (هو شعر للفرار السليّ وهو:(4/76)
وكتيبة لبستهابكتيبة حتى إذا التبست نفضت لهايدي
فتركتهم نفض الرماح ظهورهم من بين منعقروآخرمسندي
ما كان ينفعني مقال نسائهم وقتلت دون رجالها لاتبعدي
فلبستها بمعنى خلطتها فالتب! ست أي اختلطت، والمراد بقوله نفضت لها يدي أنه فرّ يقال نفضت يدي من فلان إذا وكلته لنفسه، ويقال في ضده قبضت كفي وجمعت عليه يدي، والمراد تبريه منهم وتركهم وشأنهم كقوله: {فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكَ} [سورة الحشر، الآية: 6 ا] يريد أنه مهياج للشر خبير بمداخله ومخارجه وفيه طرف من اللؤم والجبن، ولذا
عيب عليه هذا المقال، والكتيبة بالتاء المثناة الجيش. قوله: (يقاتل بعضكم بعضاً) هذا التفسير مأثور، روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ة سألت الله أن لا يبعث على أمّتي عذاباً من فوقها أو من تحت أرجلهم فأعطاني ذلك وسألتة أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعني وأخبرني جبريل عليه الصلاة والسلام أن فناء أمتي بالسيف " (1 (. فإن قلت كيف أجيبت الدعوتان وقد وقع الخسف وسيكون خسف بالمشرق وخسف بالمغرب وخسف بالجزيرة. قلت الممنوع خسف مستأصل لهم، وأمّا عدم إجابته في بأسهم، فبذنوب منهم، ولأنهم بعد تبليغه صلى الله عليه وسلم، ونصيحته لهم لم يعملوا بقوله. قوله: (بالوعد والوعيد) فسره بعضهم بقوله يحوّلها من نوع إلى آخر من اً نواع الكلام تقريراً للمعنى وتقريبا إلى الفهم، والوعد والوعيد لا يناسب قوله: {لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ} وقيل الترغيب والترهيب ربما يحمل الإنسان على تأمّل يقوده إلى برهان، وهذا مصحح لا مرجح وقوله الواقع لا محالة الخ لف ونشر مرتب والصدق صدق إخباره وأحكامه. قوله: (بحفيظ وكل إلئ أمركم) أصل معنى التوكيل أن تعتمد على غيرك قال تعالى: {وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ} والموكل على القوم هو الذي فوّض! أمرهم إليه فهم يعتمدون عليه، ويلزمه حفظهم فكونه بمعنى حفيظ ايشعمال له في لازم معناه قال الراغب ما أنت عليهم بوكيل أي بموكل عليهم وحافظ، ووكيل فعيل بمعنى مفعول في قوله: {وَكَفَى بِاللهِ وَكِيلاً} ، أي اكتف به أن يتولى أمرك ويتوكل لك. قوله: (أما العذاب) فالنبا بمعنى المنبأ به أو بمعنى المصدر أي الأنباء، وقوله: وقت استقرار وفسره لأنه المناسب لما بعده وأمّا جعله مصدراً ميميا بمعنى الاستقرار فغير مناسب لكن قول المصنف رحمه الله ووقوع إن عطف على استقرار على أنه بيان للاستقرار فظاهر، ويصح عطفه على وقت فيكون تجويزاً للمصدرية فيه لكنه خلاف الظاهر. قوله: (بالتكذيب الخ الما كانت قريش تفعل ذلك في أنديتها، ولذا أتى بإذا الدالة على التحقيق
بخلاف النسيان وفسر الإعراض بعدم المجالسة، وإن احتمل غير ذلك لدلالة قوله: ولا تقعد عليه ثم إنه قد استدلّ بهذه الآية على أن إذا تفيد التكرار حيث حرم القعود مع الخائض كلما خاض وفيه نظر لأنّ العموم ليس من إذا بل من الصيغة لترتب حكم المشتق على مأخذ اشتقاقه وهو الخوض. قوله: (اعاد الضمير الخ) يعني إلى الآيات، والظاهر عوده إلى الخوض أو الطعن أو مجموع ما مضى، وأصل معنى الخوض عبور الماء استعير للتفاوض في الأمور وأكثر ما ورد في القرآن للذمّ وتخاوضوا في الحديث وتفاوضوا بمعنى، وقوله بأن يشغلك بوسوسته هذا على سبيل الفرض إذ لم يقع، ولذا عبر باًن، وإمّا أن الشرطية زيدت بعدها ما واختلف في لزوم توكيد الفعل الواقع ما بعدها فالمشهور لزومه وقيل لا يلزم وعليه قوله في المقصورة:
أما ترى رأسي حاكى لونه طرّة صبح تحت أذيال الدجا
وقوله: بالتشديد يعني تشديد السين ونسي بمعنى أنسى، وقال ابن عطية رحمه الله: نسي
أبلغ من أنسى.
تنبيه: قال في كتاب الأحكام اختار الرافضة أنّ النبيئ غت! هـ منزه عن النسيان لقوله تعالى: {سَنُقْرِؤُكَ فَلَا تَنسَى} [سورة الأعلى، الآية: 6] وذهب غيرهم إلى جوازه انتهى (وعندي (أن يجمع بين القولين بأنه لا ينسى شيئاً من القرآن والوحي ويجوز في غير ذلك. قوله: (بعد أن تذكره) الذكرى مصدر، والمصدر يؤنث بالتاء كضربة وبالألف كبشرى والضمير راجع إلى النهي، وفي الكشاف وإن كان الشيطان ينسينك قبل النهي قبح(4/77)
مجالسة المستهزئين لأنها مما تنكره العقول وهو مبنيّ على الاعتزال مع تكلفه ولذا تركه المصنف رحمه الله، وقوله: (ظلموا الخ) المراد ظلم خاص والظلم وضع الشيء في غير موضعه. قوله:) مما يحاسبون عليه) الظاهر أنه تفسير لقوله: {مِنْ حِسَابِهِم} فيكون مصدراً بمعنى المفعول، ولا يصح أن يكون تفسير الشيء وأمّا جعل من ابتدائية بمعنى الأجل فمع كونه تكلفا الظاهر أن يقول إنها تعليلية لأنها ترد لذلك، كما ذكره النحاة وفسر على في على الذي يتقون باللزوم كما في قولهم عليّ ألف درهم، ولم يفسره بالمؤاخذة، كما في قوله: {عَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [سورة البقرة، الآية:
286] قيل لأنه لا يناسب سبب النزول ولا وجه له لأنه لا يؤاخذ إلا بما يلزمه، ومآلهما بحسب المعنى واحد وقوله وغيره من القبائح عممه والزمخشري خصه بالخوض! لمناسبة المقام. قوله: (لأنّ من حسابهم يأباه الأنه يصير المعنى، ولكن ذكرى من حسابهم وليس بسديد، وقد تبع فيه الزمخشريّ واعترض عليه كثير من الشراح وغيرهم بأنه لا يلزم من العطف على مقيد بقيد اعتبار ذلك القيد في المعطوف، وظاهر كلام بعضهم هنا أنه مخصوص بالحالط والجار والمجرور هنا حال لأنه صفة للنكرة قدمت عليها، والحال قيد في عاملها فإذا كان من عطف المفردات، وعمل فيها العامل لزم تقيدها فإن قدر عامل آخر لم يكن من عطف المفردات وقيل نحن لا ندعي هذا بل نقول إنه إذا عطف مفرد على مفرد لا سيما بحرف الاستدراك فالقيود المعتبرة في المعطوف عليه السابقة في الذكر عليه معتبرة في المعطوف البتة بحكم الاستعمال تقول ما جاءني يوم الجمعة، أو في الدار أو راكبا أو من هؤلاء القوم رجل ولكن امرأة فيلزم مجيء المرأة في يوم الجمعة، أو في الدار أو بصفة الركوب، أو تكون من القوم البتة، ولم يجىء الاستعمال بخلافه ولا يفهم من الكلام سواه بخلاف ما جاءني رجل من العرب ولكن امرأة فإنه لا يبعد كون المرأة من غير العرب، قالوا والسرّ فيه أن تقدم القيود يدلّ على أنها أمر مسلم مفروغ منه وانها قيد للعامل منسحب على جميع معمولاته وأنّ هذه القاعدة مخصوصة بالمفرد لذلك وأمّا في الجمل فالقيد إذا جعل جزءا من المعطوف عليه وان سبق لم يشاركه فيه المعطوف، كما في قوله تعالى: {إِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ} أسورة يونس، الآية: 49] كما في شرح المفتاح وهذا إذا لم تفهم القرينة خلافه كما في قولك جاءني من تميم رجل وامرأة من قريش، وتخصيص هذه القاعدة بتقدم القيد وادعاء اطرادها كما ذكره النحرير مما يقتضيه الذوق لكنا لم نر من التزمه غيره ومنهم من عممها كما قيل إنّ أهل اللسان والأصوليين يقولون إنّ العطف للتشريك في الظاهر فإذا كان في المعطوف عليه قيد فالظاهر تقييد المعطوف بذلك القيد إلا أن تجيء قرينة صارفة فيحال الأمر عليها فإذا قلت ضربت زيداً يوم الجمعة، وعمرأ فالظاهر اشتراك عمر ومع زيد في الضرب مقيداً بيوم الجمعة، فإن قلت وعمرأ يوم السبت لم يشاركه في قيده، والآية من القبيل الأوّل فالظاهر مشاركته في قيده ويكفي مثله للمنع وفيه بحث.
قوله: (ولا على شيء لذلك الخ) مراده بقوله لا تزاد بعد الإثبات لا تقدر عاملة بعد الإثبات لأنها إذا عملت كانت في قوة المذكورة المزيدة، ولذا قيل الظاهر أن يقول لا تقدر عاملة بعد الإثبات ولا ينافيه ما مر من تجويز زيادتها في الإثبات في قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلنَآ إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ} [سورة الأن! ام، الآية: 42] كما أورده عليه بعضهم لا لأنه مشى على قول هنا وعلى آخر ثمة لأنها عكازة أعمى بل لأنّ خلاف الأخفش وغيره في غير الظروف، كقبل وبعد
وأمّا دخول من زائدة على الظروف في الإثبات فذهب إلى جوازه كثير من النحاة وارتضوه كما في شرح التسهيل وهذا مما يغفل عنه كثير من الناس وقوله لمساءتهم مصدو إمّا مضاف للفاعل، والمفعول مقدّر أو مضاف للمفعول. قوله: (ويحتمل أن يكون الضمير للذين يتقون والمعنى الخ) أي ضمير لعلهم للمتفين أي يذكر المتقون المستهزئين ليثبت المتقون على تقواهم ولا يأثموا بترك ما وجب عليهم من النهي عن المنكر، وذكروا الثياب لأنّ أصل التقوى كان لهم قبله وقوله تنثلم أي تنقص، وأصل معناه الكسر وثقب الحائط، وقد ذكر العلماء أنه لا يترك ما يطلب لمقارنة بدعة كترك إجابة دعوة لما فيها من الملاهي، وصلاة جنازة لنائحة فإن قدر على المنع منع وإلا صبر هذا إذا لم يكن مقتدى به وإلا فلا يفعل لأنّ فيه شين الدين، وما روي عن أبي حنيفة من أنه ابتلى به كان قبل صيرورته إما ما مقتدى به لقوله: {فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [سورة الأنعام، الآية: 68] .(4/78)
قوله: (لعباً ولهوا) قال السفاقسي هو مفعول ثان لاتخذوا وظاهر كلام ابن عطية والزمخشرفي أنه مفعول أوّل ودينهم ثان وفيه إخبار عن النكرة بالمعرفة وقال الرازي إنه مفعول لأجله أي اكتسبوا دينهم للهو واللعب فهو متعد لواحد. قوله: (أي بنوا أمر دينهم الخ الما أضاف الدين إليهم وليس لهم دين في الواقع أوّله في الكشاف بأوجه الأوّل أنهم اتخذوا الدين المفترض عليهم شيئا من جنس اللعب واللهو كعبادة الأصنام ونحوها، والدين المفترض الواجب عليهم وان كان في الواقع دين الإسلام لكن على هذا الوجه ليس المراد به هذا المفهوم بل مجرّد ما يصدق عليه مفهوم الدين الواجب الثاني أنهم اتخذوا ما يتبينون به، وينتحلونه بمنزله الدين لأهل الأديان شيئاً من اللعب واللهو، وحاصله أنهم اتخذوا اللعب واللهو دينا لهم كما صرح به الزمخشرفي، وليس من القلب في شيء ولا من جعل المبتدأ نكرة والخبر معرفة كما توهم، وفيه بحث الثالث أنهم اتخذوا دينهم الذي فرض عليهم وكلفوه أعني الإسلام لعبا ولهواً حيث سخروا به واستهزؤوا، فحاصل الأوّل اتخذوا الدين الواجب لعبا، والثاني جعلوا اللعب دينا واجبا، والثالث استهزؤو! بالدين الحق الذي يجب أن يعظم غاية التعظيم، ومعنى الإضافة في الأول والثالث ظاهر، وفي الثاني أنه عادة لهم، والوجه الرابع أنّ المراد بالدين العبد الذي يعاد إليه كل حين معهود بالوجه الذي شرعه الله كعيد المسلمين، أو بالوجه الذي اعتادوه من اللعب واللهو كأعياد الكفرة لأنّ أصل معنى الدين العادة والعيد معتاد في كل عام، ولبعده عن الظاهر أخر وترك المصنف ر-حه الله الثاني منها لما فيه من الخفاء ولأنه إن حمل على ظاهره من القلب فهو ضعيف والا فهو راجع
إلى الوجه الآخر، والفرق بينهما سهل، وقوله زمان لهو الخ إشارة إلى أنه إذا كان بمعنى العيد وهو اسم زمان لأنه يوم مخصوص يقدر مضاف ليصح الحمل. قوله: (والمعنى أعرضر عنهم ولا تبال الخ (إشارة إلى أنّ الظاهر يقتضي الكف عنهم مع أنه مأمور بالتبليغ والقتال فأوّله بأنّ المراد لا تبال بهم وامض لما أمرت أو هو للتهديد، أو أن الآية نزلت قبل آية السيف التي في سورة براءة والأمر بالقتال فتكون منسوخة وعلى ما قبله فهي محكمة فذر بمعنى اترك فيه ثلاثة وجوه، واعلم أنهم اختلفوا في الوجوه المذكورة في الكشاف فقيل إنها أربعة وقيل ثلاثة، وقوله: اتخذوا ما هو لعب ولهو دينا لهم ليس من توجيه معنى الدين في شيء وهو الأوّل بعينه وإنما ذكره الزمخشري لبيان الوجهين من كونه مفعولأ أوّل أو ثانياً، والقلب الداعي له أن لا يثبت لهم دين فقول النحرير: إنه ليس من القلب إذ لا داعي له لا وجه له وفسره العلامة بقوله: ما هو لعب إشارة إلى تأويله بمعرفة المفهومة من ما الموصولة كما قيل، وفيه تأمّل. قوله:) وغرتهم الحياة الدنيا حتى أنكروا البعث) ففرّ من الغرور وهو معروف، وقيل: إنه من الغرّ وهو ملء الفم أي أشبعتهم لذاتها حتى نسوا الآخرة وعليه قوله:
ولما التقينا بالعشية غرّني بمعروفه حتى خرجت أفوّق
قوله: (وذكر به أي بالقرآن) جعل الضمير للقرآن كما في قوله فذكر بالقرآن من يخاف وعيد، والقرآن يفسر بعضه بعضا فلهذا اقتصر عليه، وقيل: إنه يعود على حسابهم، وقيل على الدين وقيل إنه ضمير يفسره ما بعده فيكون أن تبسل بدلاً منه واختاره أبو حيان. قوله: (مخاقة أن تسلم الخ) إشارة إلى أنه مفعول لأجله بتقدير مضاف أو أصله أن لا تبسل ومنهم من جعله مفعولاً به لذكر وتسلم من الأفعال ويجوز أن يكون من التفعيل وهما متقاربان وفسر تبسل بالإسلام إلى الهلاك أي وقوعه فيه وجعله كأنه رهن بيده، قال الراغب: تبسل هنا بمعنى تحرم الثواب والفرق بين الحرام والبسل أنّ الحرام عاتم لما منع منه بحكم أو قهر والبسل الممنوع بالقهر، وقوله تعالى: {أُبْسِلُواْ بِمَا كَسَبُواْ} [سورة الأنعام، الآية: 70] أي حرموا الثواب، وفسر بالارتهان لقوله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} [سورة المدثر، الآية: 38] ورهينة فعيلة بمعنى فاعل أي ثابتة مقيمة، وقيل بمعنى مفعول أي كل نفس مقامة في جزاء ما قدمت من عملها، ولما كان الرهن يتصوّر منه حبسه استعير ذلك للمحتبس أي شيء كان انتهى، فمعنى
قوله ثرهن أي تحيس في الهلاك بسبب سوء عملها وهو معنى(4/79)
إسلامه إليه، ولهذا جمع بينهما لأنه روي كل منهما عن السلف، وقال الزجاح: إنهما بمعنى واحد واليه أشار المصنف رحمه الله، فما قيل إنه من راهنه على كذا إذا خاطره فكان الهلاك يقول إن حصل منك سوء العمل، فالنفس لي تكلف نشا من قلة التدبر، وفريسة الأسد ما يفترسه ويصطاده، ولا تفلت أي تتخلص منه، والقرن بالكسر الكفوفي الشجاعة، والبسل بالسكون الحرام والإبسال التحريم قال:
أجارتكم بسل علينا محرّم وجارتنا حل لكم وحليلها
ويكون بسل جوابا بمعنى نعم وأجل واسم فعل بمعنى اكفف، وقوله عز وجل أن تبسل
نفس فسر هنا بالعموم أي كل نفس وهو نكرة في الإثبات كقوله: {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا أَحْضَرَتْ} [مورة التكوير، الآية: 4 ا] إما لأنه قد يؤخذ عمومه من السياق واقا لأنه نفي معنى كما يفهم من كلام المصنف، فتأمّل. قوله: (ليس لها الخ) في هذه الجملة ثلاثة وجوه فقيل إنها مستأنفة للإخبار بذلك أو في محل رفع صفة نفس، أو في محل نصب على أنها حال من ضمير كسبت وضمير يدفع للوليّ والشفيع باعتبار أنه مذكور أو تأويله بذلك أو بكل واحد على البدل، ومعنى كونهما من دون الله سواء كانت من زائدة أو ابتدائية إنهما يحولان بينها وبينه بدفع عقابه، ولذا قيل إنّ فيه مضافاً مقدراً أي دون عذابه، واليه يشير كلام المصنف، فلا يرد أنه من أين يؤخذ العذاب من النظم. قوله:) وإن تفد كل فداء) الفداء بالكسر والمدّ، وإذا فتح قصر وكل منصوب على المصدرية لأنه بحسب ما يضاف إليه لا مفعول به، وقيل: هو بمعنى الكامل، كقولك هو رجل كل رجل أي كامل في الرجولية وتقديره عدلاً كل عدل وفيه أنّ كل بهذا المعنى تلزم التبعية، والإضافة إلى مثل المتبوع نعتا لا توكيداً، كما في التسهيل ولا يجوز حذف موصوفها، وقوله: (لا إلى ضميره) لأنّ العدل هنا مصدر لوقوعه مفعولاً مطلقا وليس هو بمأخوذ نعم يجوز أن يراد بضميره العدل بمعنى الفدية على الاستخدام فيصح الإسناد إليه كما في قوله تعالى: {لاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ} لكن لا حاجة إليه مع صحة الإسناد إلى الجار والمجرور كسير من البلد وأخذ من المال وكذا كونه راجعاً إلى المعدول به المأخوذ من السياق، وكون يؤخذ بمعنى يقبل ونحوه. قوله: (أسلموا إلى العذاب الخ) فالمشار إليه بأولئك هم الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهواً لا الجنس المفهوم من قوله أن تبسل نفس مع قوله بما كانوا يكفرون لاحتياجه إلى تكلف وكون هذا مشروطا بعدم رجوعهم عما هم عليه معلوم بالأمخرورة ولا ينافيه مخافة أن تبسل الخ لأنه يخاف على كل أحد ويحرص على إنقاذه من كفره شفقة
منه. قوله: (تثيد وتفصيل لذلك الخ) لأنّ المسلم إليه مجمل مفصل بهذا فيؤكده، وماء مغلي بصيغة المفعول تفسير للحميم ويتجرجر من الجرجرة بجيمين وراءين مهملتين بمعنى يتردّد ويضطرب فيها وأصل الجرجرة صوت يردّه البعير في حنجرته، وخص العذاب بالنار لأنه المتبادر منه فلا يرد أنه لا وجه له وفسر ندعو بنعبد، والنفع والضرّ بالقدرة عليهما لأنه الواقع ولأنّ نفيهما أبلغ. قوله: (ونردّ على أعقابنا) جمع عقب وهو مؤخر الرجل يقال رجع على عقبه إذا انثنى راجعاً كرجع على حافرته وانقلب على عقبيه قال تعالى: {فَكُنتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنكِصُونَ} [سورة المؤمنون، الآية: 66] ومعناه القهقرى وقيل إنه كناية عن الذهاب من غير رؤية موضع القدم وهو ذهاب بلا علم بخلاف الذهاب مع الإقبال، وخطاب قل وان كان للنبيّ! يلى لكن فاعل تدعو ونردّ عامّ له ولغيره، والمعنى أيليق بنا معاشر المسلمين ذلك فلا يرد أن ذلك لم يكن من النبيّ صلى الله عليه وسلم حتى يتصوّر ردّه إليه لأنه لتغليب من أسلم من المؤمنين وليس مخصوصاً بالصدّيق أيضاً بسبب النزول، وقيل الردّ على الإعقاب بمعنى الرجوع إلى الضلال والجهل شركاً أو غيره. قوله: (من هوى يهوي هوياً إذا ذهب (هذا هو المعروف في اللغة وأمّا كونه من هوى بمعنى سقط يقال هوى يهوي هويا بفتح الهاء من أعلى إلى أسفل وبضمها لعكسه أو هما بمعنى، وأنه على تشبيه حال الضال كما في قوله تعالى: {وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاء} [سورة الحج، الآية: 31] لأنه في غاية الاضطراب فلا يناسب قوله: {فِي الأَرْضِ حَيْرَانَ} [سورة الأنعام، الآية: 71] مع أنه يتوقف على ورود الاستفعال منه ومردة جمع ما ردوا لمهامه جمع مهمه وهو الفلاة وترك قول الزمخشري كما تزعمه العرب لأنه مبنيّ على إنكار الجن، وهو مذصب باطل والتشبيه تمثيلي وقد رذا بعد الكاف(4/80)
ليكون تشبيه ردّ برذ وقوله متحيراً بيان لأنه حال وكذا في الأرض ويصح تعلقه باستهوته والمستهوي بصيغة المفعول. قوله: (ومحل الكاف النصب على الحال) قال في الفرائد حاصله حينئذ نرذ حال مشابهتنا كقولك جاء زيد راكباً أي في حال ركوبه، وليس الردّ في حال الشبه، وردّ بأنّ الحال مؤكدة كقوله: {وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ} فلا يلزم ذلك وفيه نظر، والتشبيه على الحالية تمثيليّ شبه حال من خلص من الشرك ثم عادله بحال من ذهبت به الغيلان في مهمه بعدما كان على الجادة، وعلى أن يكون مصدراً
مركب عقلي. قوله: (أي يهدونه الخ) هو وما بعده وجه واحد وأوّل كلامه بيان لحاصل المعنى وقيل هما وجهان الأوّل بقاؤه على المصدرية، والثاني تأويل المصدر باسم المفعول وسوق الكلام يأباه. قوله: (يقولون له ائتنا) مرّ أنّ أمثاله يقدر فيه قول هو حال أو يحكي بالدعاء لأنه بمعنى القول على الخلاف بين البصريين والكوفيين فيه ولا ينافيه تعدية يدعون لإلى كما توهم، وقوله في محل آخر لا حاجة لتقدير القول بناء على أحد القولين فلا تناقض فيه كما قيل، وقوله هو الهدي وحده الحصر من تعريف الطرفين أو ضمير الفصل. قوله: (واللام لتعليل الخ) بذلك إشارة إلى قول أنّ الهدى الخ أي أمرنا أن نقول ذلك عن خلوص طوية لننقاد لأمره فاللام لام تعليل، وهذا معنى قول أبي حيان مفعول أمرنا الثاني محذوف تقديره أمرنا بالإخلاص لكي ننقاد ونستسلم لرب العالمين، وليس هذا ما وقع في الكشاف حتى يقال إنه مبني على الاعتزال من تساوي الأمر، والإرادة وأن المصنف رحمه الله تابعه غفلة منه كما توهم وهذا غفلة عن مراده وعن إنّ ما أورده في الانتصاف ليس مسلما ولذا سم يعرّج عليه من الشراح غير الطيبي، والذي في الكشاف هي تعليل للأمر بمعنى أمرنا وقيل لنا أسلموا لأجل أن نسلم، وفي الكشف قال جار الله إذا قلت أمرته ليقوم كان ظاهره أمراً مطلقاً خصصه التعليل ونحوه قوله تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} [سورة الحج، الآية: 39] وقوله: {قُل لِّعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُواْ يُقِيمُواْ الصَّلاَةَ} [سررة إبراهيم، الآية: 31] أي أذن في القتل وقل لهم صلوا) أقول) والتحقيق أنّ حقه أن يعدّى بالباء فلما عدل عن ذلك حمل على أنه لام التعليل، وتقديره أمرنا بأن نسليم للإسلام لا لغرض آخر فأفاد مبالغة في الطلب من وجهين انتهى، وهو محل تأمّل وقيل إن الإشارة للإسلام ولا غبار في تعليل الأمر بالإسلام بنفس الإسلام لأن مآله أنه طلب النفع، وهو تكلف لا حاجة إليه، وقيل اللام بمعنى الباء قال أبو حيان وهو غريب لا تعرفه النحاة، وأمّا زيادتها وتقدير أن بعدها فقول مرّ ما فيه، وقال الخليل وسيبويه: ومن تابعهما الفعل في هذا، وفي: {يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ} [سورة النساء، الآية: 26] يؤوّل بالمصدر وهو مبتدأ واللام وما بعد خبره أي أمرنا للإسلام، وعليه فلا مفعول للفعل كما في المغني فهو كتسمع بالمعيدي، ولا يخفى بعده وذهب الكسائيئ والفراء إلى أنّ اللام حرف مصدرقي بمعنى أن بعد أردت وأمرت خاصة، وردّه الزجاج وارتضاه صاحب الانتصاف ففي اللام هنا أربعة وجوه كونها زائدة وتعليلية للفعل أو للمصدر المسبوك منه أو بمعنى الباء أو أن المصدرية، فاختر لنفسك ما يحلو، وفي هذه المسألة كلام سيأتي تفصيله، والهدى بمعنى الاهتداء فسره بالإسلام، ولذا قابله بالضلال
فليس الظاهر أن يقول الإضلال كما قيل. قوله: (عطف على لنسلم الخ (أي بناء على أنّ اللام تعليلية وهذا قبله حرف جرّ مقدر لاطراد حذفه والجار والمجرور معطوف على الجارّ والمجرور، وهو أيضا على مذهب سيبويه من تابعه من النحاة القائلين بدخول أن المصدرية على الأمر كما مرّ، أو فيه تسمح بناء على أنه معطوف على نسلم وأنه علة واللفظ مؤوّل والمراد ولتقيموا فاخرج على لفظ الأمر وفيه تأمّل، وأورد على هذا ابن عطية رحمه الله إنّ في اللفظ ما يمنعه لأن نسلم معرب وأقيموا مبنيّ، والمبنيّ لا يعطف على المعرب لأنّ العطف يقتضي التشريك في العامل، ورد بأته ليس كما ذكر بل هو جائز كقام زيد، وهذا وكقوله: {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ} [سورة هود، الآية: 98] إلى غير ذلك. قوله: (أو على موقعه) ! خ فيه الزمخشري إذ قال إنه عطف على موضعلنسلم كأنه قيل وأمرنا أن نسلم وأن أقيموا إنه كثيرا ما يقع في هذا الموقع أن نسلم فعطف عليه وان أقيموا بهذا الاعتبار على التوهم كما في فأصدق واكن، وبه يشعر قول الزمخشريّ كأنه قيل وأمرنا أن نسلم وأن أقيموالكن لا يخفى أنّ أن في أن نسلم مصدرية ناصبة(4/81)