الفاعل، لأنا نقول هذه شهادة نفي لا تسمع، ولو قبلت قلنا إذا شبه الفعل بالفعل لزم منه تشبيه الفاعل بالفاعل، والملابسات لا تنحصركمامرّ.
فلا تظن السراب بحراً
وأيّ بأس في جعل وجهي المجاز الحكمي جوابين، وقد فعل مثله في التمثيل من غير
أن يستبعده أحد من شراحه وما قيل هنا-ت أنه بقي وجه آخر لم يذكر، وهو أن يستعار الختم للأقذار والتمكين من الاعراض الكليّ عن الحق الموجب لعدم نفوذه ووصوله إلى محال القبول تشبيهاً لإعطاء القدرة على ذلك الاعراض السادّ لطرق النفاذ بالختم، وهو من الله لأنّ الأقدار، والتمكين لا يقبح عندنا وعندهم ليس بشيء لأنه يصير المعنى حينئذ أقدرهم الله على الختم ومراده أنه أقدرهم على إحداث الكفر والمعاصي، فإن قيل المعنى أقدرهم على الختم المتجوّز به عن إحداث ذلك فهو تعسف بلا قرينة، ثم إنّ المصنف رحمه الله. أسقط تمثيله في الكشاف بناقة ضبوث وقوله:
إذا ردّعا في القدر من يستعيرها
لأنه غير. ضعين لما مثل له كما في شروحه مع أنّ شهرة المجاز الحكمي تغني عن التمثيل، ولذا أسقط ما فيه من التفصيل، ثم إنّ قوله فعل الشيطان أو الكافر تبع فيه الزمخشريّ، وهو مناف لمذهب المعتزنة، لأنهم قالوا لو لم تكن العباد خالقين لا " فعالهم، لكان
إثابة بعضهم بالإيمان وتعذيب بعضهم بالكفر قبيحاً والله تعالى منزه عن فعله، فالظاهر أنّ إحداث ما يمنع عن قبول الحق من نفس العبد لكنه نقل عنهم أنّ الإضلال، والإغواء من فعل الشيطان كما نقله الحفيد فتنبه. قوله: (الرابع أق أعراقهم إلخ) الذي يظهر بعد إمعان النظر أنّ المراد بهذا أنه لما ذكر في الآية السابقة كفرهم، وغلوّهم فيه بحيث لا تنجع فيهم الآيات والنذر ونحوه مما يقتضي الإعراض عن الحق، وعدم قبول الإيمان علم منه أنه لم يبق طريق إلى إيمانهم غير القصر والإلجاء إليه، وهو مناف للتكليف فدل السياق والسباق على أنه شبه ترك الإلجاء والقسر بختم وطبع، فرضي على مشاعرهم لأنّ الختم يمغ من الوصول إلى ما ختم عليه والنفوذ فيه، وفي الإلجاء للإيمان رفع للمانع عنه، وفي تركه إبقاء له وابقاء المانع من القادر على رفعه مانع معنى كما قيل:
إنّ السفيه إذا لم ينه مأمور
وهذا وان لم يخل من البعد ليس بمستبعد منهم فإنهم يركبون أطراف الأسنة في سلوك
طرق الضلالة.
وقال قدّس سرّه: الختم عبارة عن ترك القسر والإلجاء إلى الإيمان فيجوز إسناده إلى الله حقيقة، وتحريره أنّ الختم على القلوب يستلزم ترك القسر، والإلجاء إلى الإيمان فمعنى ختم الله على قلوبهم أنه لم يقسرهم عليه، وليس هذا المعنى أعني ترك القسر مقصودا في نفسه بل لينتقل منه إلى أنّ مقتضى حالهم الإلجاء لولا ابتناء التكليف على الاختيار، وينتقل من هذا المقتضى إلا أنّ الآيات والنذر لا تغني عنهم، وأنّ الألطاف لا تجدي عليهم، وينتقل من عدم الإغناء والإجداء إلى تناهيهم في الإصرار على الضلال، فأطلق الختم على ترك القسر مجازا مرسلاً، ثم كنى به عن ذلك التناهي، فيكون هذا وجها مستقلاً في الآية كالجواب الثاني، وهذا ما يقتضيه ظاهر قوله عبر عن ترك القسر إلخ، ومنهم من قال حاصلهإنالختم المستعار لما مرّ جعل مجازاً عن ذلك الترك بعلاقة اللزوم فهو مجاز بمرتبتين، ولا يجوز أن يستعار الختم من معناه الأصلي، لترك القسر المشابه له في المنع عن وصول الحق في شأن هؤلاء خاصة، لأنّ الختم إحداث مانع محسوس، وترك القسر ترك رفع مانع معقول، واستعارة الأحداث للعدم بعيدة على أنّ معنى المنع في ترك القسر غير ظاهر إلا بعد سبق العلم بحالهم والآية لبيانها.
(أقول) ما ذكره من أنّ الختم على القلوب يستلزم ترك القسر، والإلجاء إلى الإيمان إن
أراد به أنّ الختم الحقيقيّ الفرضي يستلزمه فلا استلزام فيه بوجا من الوجوه وان أراد الختم المجازي السابق فهو المجاز بمرتبتين الذي لم يرضه هنا. وقوله ينتقل منه إلى أنّ الآيات والنذر لا تغني عنهم إلخ لا يخفى أنه صريح معنى قوله {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} كما مرّ تقريره، فما معنى تكلف الكناية عنه بعد التصريح به وما المقتضى لهذا التكلف بعد النداء عليه، وهذا لم يظهر له وجه أصلاً وقوله ولا يجوز أن يستعار الختم إلخ إذا تدبرت ما فرّرته لك آنفاً ظهر ما فيه فتدبر، فإنّ هذا المقام من مزالق أقدام الأفهام ولهم فيه ما يتحير الناظر فيه، كما قيل إنّ هذا ليس وجهاً مستقلاً كما هو الظاهر، وان قال به الشارحون بل(1/288)
مبنيّ على الاستعارة السابقة فإنّ الختم الحسي بمعنى ضرب الخاتم الحسي لا يستلزم ترك القسر، والإلجاء إلى الإيمان بل إحداث الهيئة المانعة عن قبول الحق على القطع يستلزم ترك الإلجاء إلى الإلمان، فإنّ الإلجاء والإحداث متنافيان فلا يليق ذلك بشأنه تعالى على زعم المعتزلة. قوله: (لم يقسرهم) يقال: قسره على الأمر قسرا من باب ضرب بمعنى قهره وألجأه والترامي تفاعل من الرمي والمراد به التزايد والترقي فيه يقال رميت على الخمسين، وأرميت إذا زدت كما في الأساس وصيغة التفاعل للمبالغة، وهو المناسب لما بعده لأنّ فرط الزيادة يؤدّي إلى التناهي أي بلوغ النهاية والوصول إلى الغاية، وقيل: هو مجاز عن التناهي، لأنّ المتناظرين في الرمي يبذلان جهدهما فيه فهو مكرّر مع ما بعده، ورسوخ الأعراق، كما في كتب القوم كناية عن الثبات والتصميم كما يقال له أعراق في اللوم قال:
جرى طلقاً حتى إذا قيل قدجرى تداركه أعراق سوء تبلدا
ومن فسره بضمائرهم المحتجبة بأبدانهم لم يصب، وعرق الشجر والنبات أصله ومنبته، وجمعه عروق وأعراق وقوله إبقاء على غرض التكليف إشارة لما تقرّر في الأصول من أنّ الإلجاء والإكراه الملجىء يمنع صحة التكليف بالمكره عليه لأنه لا يبقى للشخص معه قدرة واخت! ار والتكليف مبنيّ على ذلك، فإنّ القادر هو الذي إن شاء فعل، وإن شاء ترك، واستخكمت بمعنى قويت وأصله بمعنى أتقنت يقال: أحكمت الأمر إذا أتقنته، فاستحكم. وقوله: (إشعار على إلخ) الإشعار بمعنى الاعلام، ويتعدّى بالباء والمصنف عداه بعلى لأنه ضمنه معنى التنبيه، وهم يتساهلون في الصلات. قوله: (حكاية لما كانت الكفرة إلخ) يحتمل أنه حكاية له بلفظه إذ لا مانع من أن يقولوه بعينه، وحينئذ يقطع النظر فيه عن كونه حقيقة أو مجازا، لكنهم أطبقوا هنا على أنه حكاية بالمعنى، فإن كون القلوب في كنة هو معنى الختم عليها، كما أنّ وقر الآذان ختم عليها وثبوت الحجاب تغشية الأبصار، فتكون عبارة المحكيّ ما في الآية الأخرى قال الشارح الفاضل رحمه الله: هو حكاية لكلام الكفرة لا يعبارتهم فإن قولهم {قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ} [فصلت: 5] إلخ هو معنى ختم الله إلخ وكون إسناد الختم إليه تعالى حقيقياً معلوم من حال الكفرة، وأما أنّ الختم على هذا حقيقة أو مجاز ففيه تردّد ذكر في قوله وقالوا قلوبنا غلف أرادوا أنها في أغطية جبلة، وفطرة وفي قوله {وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ} [فصلت: 5] أنها تمثيلات لنبوّ قلوبهم عن الحق اهـ. وقال قدّس سرّه: الإسناد إلى الله حينثذ حقيقة لأنهم يجوزون إسناد القبيح إليه تعالى فإن جعل الختم حقيقة كان هذا وجهاً مستقلاً، وإن جعل مجازاً، كما هو الأولى كان راجعاً إلى ما تقدّم، وقوله معلوم من حال الكفرة مع إجماله أتم من ادعاء أنهم يجوزون إسناد القبيح إليه فإنه لا دليل عليه بل على خلات، فإنهم لما ادّعوا بطلان ما جاء به لم يكن الإعراض عنه وعدم قبوله قبيحاً بل مستحسناً كما لا يخفى ثم إنه يرد عليهم أنّ الختم هنا مجاز قطعا لأنّ معناه ضرب الخاتم كما مرّ وهو مففود بناء على أنّ معناه ما في الآية الأخرى وكونها أغطية جبلية لا يشعر بذلك بل بخلافه، ثم إنه ليس في عبارة المحكي إسناد إلى الله أصلاَ والكلام مسوق لتوجيه الإسناد، وكون الكلام تمثيلاَ لا ينافي حقيقة الأطراف، والجواب بأنّ مجازية الختم أعمّ من كون التجوّز فيه نفسه ومن كونه في الكلام المشتمل عليه كما قيل لا يجدي نفعاً، وأورد على هذا الجواب أنّ المقصود من هذه الآية تأكيد ما قبلها ولذا لم يعطف وعلى تقدير الحكاية يفوت هذا وقيل في رده: إنّ قولهم هذا يدل على كمال إصرارهم على الكفر فيؤكد عدم إيمانهم وعدم نفع الإنذار فيهم وهذا بين وإن خفي على السعد والسيد وكم من بين يخفى لدقتة، وهذا غريب فإنّ الذي في شرح الفاضل اعتراض على الوجه الثالث دون هذا والذي في شرح السيد ما نصه اعتراض على الخامس بأنه ياباه سوق الكلام، فإنّ القصد بختم الله إلى تقرير ما تقدّم من حال الكفار، وتأكيده سواء جعل استئنافا أو لا اهـ ومراده أنه ليس فيه ما يدل على الحكاية لعدم لفظ القول ونحوه، وقصد الاستهزاء والتهكم غير قصد التقرير والتكيد وإن كان مآل معناه إليه فتدبر. قوله: (تهكماً واستهزاء إلخ) التهكم والاستهزاء بمعنى هنا وهو ظاهر وفي شروح الكشاف أنه يفهم بالذوق السليم ووجه بأنه إذا نقل كلام أحد مع ظهور بطلانه يفهم منه(1/289)
الاستهزاء وهذا كما في قوله تعالى {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ رَسُولٌ مِّنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُّطَهَّرَةً} [البينة: 1] لأنّ الكفار كانوا يقولون قبل مبعث النيّ صلّى الله عليه وسثم لا ننفك عما نحن فيه حتى يأتينا النبيّ الموعود به في التوراة والإنجيل، فلما جاءهم كفروا به، فحكى الله كلامهم ثمة على سبيل الوعيد والتهديد، ولو كان إخبارا لزم تخلفه والتشبيه في الحكاية فقط أو في الحكاية والتهكم كما في شروح الكشاف، وسيأتي معنى هذه الآية في محله. قوله: (إند ذلك في الآخرة إلخ) وهذا ليس بقبيح لأنّ الآخرة ليست بدار تكليف، ولأنه حينئذ وقع جزاء لأعمالهم قي الدنيا، فليس بظلم بل عدل ويؤيده معنى قوله تعالى {وَنَحْشُرُهُمْ} [الإسراء: 97] إلخ وكذا عطف قوله {وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} لأنّ المراد به عذاب الآخرة، وفي الاستشهاد بالآية إشارة إلى أنّ الختم
مجاز عن إبطال المشاعر ففيه حينئذ تجوز أن في المادة لما ذكرنا وفي الهيئة لأنه مستقبل عبر عنه بالماضي لتحققه فهو كقولك قتل بمعنى يضرب، وقد أورد عليه ما أورد على الخامس أيضا ويدفع بالعناية فتأمل. قوله: (إنّ المراد بالختم وسم قلوبهم إلخ) يعني ليس المراد به ما مرّ حتى يمتنع إسناده إلى الله بل هو سمة وعلامة في قلوبهم لتعرفهم الملائكة، فلا يدعون لهم ولا يخفى ضعفه، وان نقل عن الحسن البصري، واختاره الجبائيا ووضمع العلامة على القبيح ليجتنب غير قبيح بل حسن كما قيل عرفت الشرّ لا للشرّ، لكن لتوقيه والختم على هذا ليس بحقيقة بل استعارة تبعية، ويحتمل أن يكون مجازا مرسلاً كالمشفر بمعنى مطلق العلامة إذ الختم علامة مخصوصة. وقوله في الدر المصون: الختم لغة الوسم بطابع أو غيره إن أراد هذا فمسقم وإلا فلا وجه له. وقوله لغة لا يأباه والقول بأنّ الختم كناية عن الوسم لأنّ الشيء عند بلوغ آخره توضع عليه علامة يتميز بها بعيد وقد ردّ هذا بأنه غير مناسب لقوله {وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} [البقرة: 7] أيضا وقوله وعلى هذا إلخ المنهاج كالمنهج الطريق أي جرى على هذا الأسلوب الخلاف بيننا وبين المعتزلة في كل ما ينسب إليه تعالى من هذا القبيل فنحن نقول هومسند إليه حقيقة ولا قبح فيه كما قيل:
من عرف الله أزال التهمه ~ وقال كل فعله لحكمه
وهم يتكلفون تأويله بما مرّ، ونحوه على ما هو معروف في الأصول، وأنما أشبع الكلام
فيه هنا لأنه أوّل آية وقع فيها ذلك. قوله: (وعلى سمعهم معطوف إلخ) لما احتمل أن يكون على سمعهم وما عطف عليه خبراً مقدما لغشاوة أو عاملان فيه على التنازع مع أنّ عطفه على قلوبهم أولى وأحسن معنى لتعينه في الآية التي ذكرها بينه، لأنّ القرآن يفسر بعضه بعضا، وأمّا تقديم القلب هنا وتأخيره هناك، فلأنّ المراد هنا بيان إصرارهم على الكفر وعدم قبول الإيمان الذي معناه، أو عمدة معناه التصديق وهو متعلق بالقلب فمقتضى هذا المقام تقديمه، والمقصود هناك بيان عدم قبول النصح والعظة، وهي مما يتعلق بالسمع فالمناسب ثمة تقديمه، وقيل في توجيهه أنّ الختم على السمع مقدمة لمنع القلب عن الفهم، فلذا قدم في النظم ولكون القلب، وأحواله مقصودة بالذات أخر في محل آخر وهو مع ما فيه من الإبهام غير مخل بالتمام، والوفاق وهو اتفاق القراء على الوقف على سمعهم يقتضي دخوله تحت الختم وهو ظاهر، وفي قول المصنف على قلوبهم إيهام لاحتمال عطف مجموع الجار والمجرور على مثله، كما هو الظاهر المتبادر وعطف المجرور فقط لأنّ الجار لتكرّره في حكم الساقط، ولذا لم يقل على قوله على قلوبهم مع أن صنيعه أخصر ويفهم مما ذكره أن قوله {وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} [البقرة: 7] ابتداء لا تعلق له بما قبله، كما في الآية المذكورة، وقد صرّح به في
الكشاف وادعاء أنّ المصنف قصر في تركه من قصور النظر وكيف يتوهم هذا وقد صرّح به فيما سيأتي حيث جعله مبتدأ وقال إنه من عطف الجمل فلو ذكره هنا كان تكريراً بلا فائدة. قوله: (ولأنهما لما اشتركا) هذا وجه آخر لاتصاله بما قبله متضمناً لسببه، ومعناه أنّ فعل القلب، وهو الإدراك لا يختص بجهة فمانعه يمنعه من جميع الجهات أيضا، وان اختص وقوعه بجانب إلاً أنه لا يتعين فجعل الختم عاماً، كمنعه وقارن السمع لأنه يدرك الأصوات من جميع الجهات: وكل قرين بالمقارن يقتدي
وأمّ إدراك البصر، فلا يكون إلاً بالمحاذاة والمقابلة فجعل المانع له ما يمنع منها أيضاً،
وهو الغشاوة لأنها في الغالب كذلك كغاشية السرج، كما قال(1/290)
تعالى {لَهُم مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ} [الأعراف: 41] فخصها بجهة العلوّ المقابلة، ومثله يكفي في النكات، ولا يضره ستره لجميع الجوانب كالإزار وقيل الغشاوة إنما تكون بين الرائي والمرئي، فتختص بالمقابلة وهو واضح لا سترة فيه وقوله في الكشف فيه نظر لأنّ لفظ الغطاء والغشاوة لا ينبىء عن خصوص جهة المحاذاة، فالوجه أن الغشاوة مشهورة في أمراض العين فهي أنسب بالبصر من غير حاجة لما تكلفوه يعلم ما فيه مما قدمناه وقال: في القلب والسمع خاص فعلهما دون العين لما سيأتي وفي الانتصاف الأسماع والقلوب لما كانت مجوّفة كان استعارة الختم لها أولى والأبصار لما كانت بارزة، وادراكها متعلقاً بظاهرها كان الغشاء بها أليق والنكات لا تتزاحم. قوله: (وكرّر الجأر إلخ) الشدة لأنّ الختم على الشيء وعلى ما يوصل إليه أشدّ من الختم عليه وحده أو عليهما معاً فإنّ ما يوضع في خزانة إذا ختمت خزانته، وختمت داره كان أقوى في المنع منه وأمّا الاستقلال، فلأنّ إعادته تقتضي ملاحظة معنى الفعل المعدى به حتى كأنه ذكر مرّتين، ولذا فرق النحاة بين مررت بزيد وعمرو، ومررت بزيد وبعمرؤ بأنّ في الأوّل مروراً واحدا، وفي الثاني مرورين والعطف، وأن كان في قوّة إعادة العامل ليس ظاهرا في إفادته كإعادته، لما فيه من الى*حتمال وهذا معنى ما في الكشاف مع أنّ هذا أوضح وأظهر، لأنه قال فيه: لو لم يكرر لكان انتظاماً للقلوب والأسماع في تعدية واحدة وحين اسنجد للأسماع تعدية على حدة كان أدل على شدة الختم في الموضعين اهـ فإنّ قوله في الموضعين إشارة إلى الاستقلال الذي صرّح به المصنف، وقيل: ختم يستعمل تارة متعدّيا بنفسه يقال ختمه فهو مختوم وأخرى بعلى، فإذا عدي بعلى دل على شدة الختم، لأنّ زيادة اللفظ تدل على زيادة المعنى، وليس هنا معنى مناسب سوى الشدة، والاستقلال لما مرّ هكذا ينبغي أن يفهم هذا
المقام، والعجب أنّ صاحب الكشاف ذكر الفائدة الأولى دون الثانية ولم يتعرّض لحلها جميس ر الشراح وبعض أفاضل المتأخرين بينها بما هو بيان للثانية اهـ. يعني الشريف حيث قال في شرحه ة لقوله أدل على شدّة الختم لأنّ ملاحظة معنى الجار في كل منهما تقتضي أن يلاحظ مع كل واحد معنى الفعل المعدى به، فكأنّ الفعل مذكور مرّتين اهـ. ولا يخفى ما فيه، فإنه إن أراد بزيادة المعنى زيادة الكتم، فهو بعينه ما بعده فيقع فيما فرّ مته، وإن أراد زيادة الكيف، فليس فيما ذكره ما يدل عليه والحكم في كلام المصنف النسبة أو المحكوم به، وهو الختم هـ قوله: (ووحد السمع للامن إلخ) رفيم لما يخطر في الخواطر من أنّ مقتضى انتظام الكلام أن تجري المذكورات على نمط واحد، فيؤتى بها كلها مفردة أو مجموعة فلم أفرد هذا دون أخويه، فوجه بأنه يطرد إفراد ما حقه الجمع إذا أمن الليس كما في قوله:
كلوا في بعض بطنكم تعفوا ~ فإنّ زمانكم زمن خميص
فذكر بطنكم في موضع بطونكم لذلك، فلو ألبس مثله لم يجز كما في نحو ثوبهم، وفرشهم في محل يحتمل الاشتراك، وهو غير مراد أو لأنه مصدر في الأصل والأصل فيه الإفراد لصدقه على القليل والكثير، فلا يجمع ما لم يرد تنوّعه لمحاً لأصله، وهذا مصحح، وقيل: إنه مر] ح لأنه الأصل ولا مقتضى للعدول عنه وفيه أنه عند السائل له مقتضى لا ينكر، وهو مجانسة أخويه وتعدّده في الواقع.
فالظاهر ما فيل من أنّ المرجح الاختصار والتفنن مع الإشارة إلى نكتة هي أنّ مدركاته
نوع واحد ومدركاتهما أنواع مختلفة وقيل الجوإب أنه إذا نساويا، فتعيين الطريق ساقط، ودلالة إفراده على وحدة متعلقه لا تعلم من أيّ الدلالات هي ورد بأنها دلالة التزامية وهي يكتفى فيها بأيّ لزوم كان ولو بحسب الاعتقاد في اعتبارات البلغاء أو على تقدير مضاف مثل وعلى حواس سمعهم أو مواضع سمعهم، فالسمع بالمعنى المصدري لأنه كما قال الراغب قؤة في الأذن تدرك بها الأصوات، وفعله يقال له: السمع أيضاً ويعبر تارة بالسمع عن الأذن وتارة عن فعله نحو {إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ} [الشعراء: 212] والحواس جمع حاسة، وهي القوّة التي تدرك بها الأغراض الجسمية والحواس هي المشاعر الخمس اهـ فما قيل عليه من أنه مجرّد تجويز نحويّ لأنّ حمل السمع على المعنى المصدري بدون ذكر هذا المضاف بعيد، وفي تقديره نظر لا وجه له، وقرأ ابن أبي عبلة في الشواذ وعلى أسماعهم(1/291)
واستشهد له بقوله: قالت ولم تقصدلقيل الخنا مهلاً لقدأبلغت أسماعي
وما قيل في توجيه الإفراد أنّ المراد سمع كل واحد، وهذا وإن كان حقه الإفراد إلا أنّ
حمل الجمع على كل فرد فرد جائز لا واجب كما قيل في قوله تعالى {يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا} [غافر: 67] على وجه.
واعلم أنه قال في المثل السائر إنّ مما هو من صناعة البلاغة بمنزلة عليته اختلاف الألفاظ، فمنها ما لا يحسن استماعه الآ مجموعاً كاللب، فلذا لم ترد في القرآن مفردة لأنّ الجمع فيها أحسن وبضدّه ما ورد مفرداً ولم يرد مجموعا كالأرض، وأمّا المصادر فالإفراد فيها هو الأحسن ومما جاء منها مجموعاً قول عَنترة:
فإن يبرأ فلن أنفث عليه ~ وإن يفقد فحق له الفقود
فهذا غير شائع، ولا لذيذ وإن كان جائزا وكله يرجع إلى حاكم الذوق السليم، فإن
قلت: الدلالة الالتزامية من توابع الوضعية، واللزوم معتبر فيها بالنسبة لمدلول اللفظ وضعاً سواء كان لزوماً عقليا، كما اعتبره أهل الميزان أو أعمّ منه فيشمل العرفي وغيره، كما هو عند الأدباء وأهل المعاني، ومدلول السمع الحاسة أو فعلها كما مرّ ولا دلالة لذلك على وحدة المتعلق أو تعدّده وهذا هو الذي قصده المدقق في الكشف فما وجه ردّه قدّس سرّه. قلت: أراد أنّ الكلام البليغ الملقى للمخاطب إذا قصد به ما اتضح دلالته عليه يعدّ تصريحا، فإن قصد ما يستلزمه يكون كناية لزومية، وإن لم ينشأ ذلك مما وضمع له كما قرّر في شرح قول السكاكيّ إنّ إخراح الكلام لا على مقتضى الظاهر يسمى كناية، وهو مما خفي على بعض شراحه، أو نقول وحدة اللفظ تدلّ على وحدة مسماه، وهو الحاسة ووحدتها تدلّ على قلة مدركاتها قي بادىء النظر، ومثله يكفي في اللزوم عرفاً، وقيل اعتبار البلغاء دلالة رابعة، كما أنّ العادة طبيعة خامسة وهذا مخالف لما قرّره في شرح المفتاح فليحرّر التوفيق بينهما فإنه محتاج لمزيد تدفيق ومنه يتنبه لوجه جمع القلوب كثرة والأبصار قلة وإن كان ذلك هو المعروف في استعمال الفقهاء في جمعهما. قوله: (والآيصار جمع يصر إلخ) في الكشاف والبصر نور العين وهو ما يبصر به الراني ويدرك المرئيات كما أنّ البصيرة نور القلب وهو ما به يستبصر ويتأمّل وكانهما جوهران لطيفان خلقهما الله فيهما اكتين للأبصار والاسنبصار اهـ. وعدل المصنف عته لما فيه من التطويل والخفاء، والبصر في الأصل مصدر بمعنى إدراك العين وإحساسها، كما في كتب اللغة، ثم تجوّز به عن القوّة التي هي سببه وعن العين التي هي محله وشاع هذا حتى صار حقيقة في العرف لتبادره، وهو المناسب للختم والغشاوة لتعلقهما بالأعيان، والقوّة واحدة القوى، وهي في العرف العام معنى يصدر به عن الحيوان أفعال شاقة وضدّها الضعف، وعند الحكماء معنى راسخ هو مبدأ للتغيير وصدور الآثار والقوّة البصرية عندهم معنى في ملتقى العصبتين الواصلتين من الدماغ إلى الحدقتين من شانه إدراك الألوان والأشكال وتفصيله معروف في محله، وتحمل هذه القوى أجسام لطيفة بخارية تتكوّن من لطيف الأخلاط، وتسمى أرواحاً عند الأطباء، واشتهر إطلاق النور عليها فيقولون في الأعشى ضعف نور بصره وفي الأعمى فقد نور بصره.
وقال الإمام الغزالي في كتاب المشكاة اسم النور بالنور الباصر أحق منه بالنور المبصر
وهذا مراد الزمخشريّ، وفيه كلام في الشروح إيراده هنا من الفضول، وقد كفانا المصنف رحمه الله مؤنته بتركه. قوله: (ولعل المراد بهما في الآية إلخ) العضو بضم العين ويجوز كسرها، وبضاد معجمة ساكنة يليها واو الظاهر أنه أراد به جزءاً من أجزاء البدن مطلقا إلاً أنّ أهل اللغة كما في العين وغيره قالوا: إنه مخصوص بالجزء المشتمل على لحم وعلى عظم كاليد والرجل، فعلى هذا هو هنا مجاز، ولا ضمير فيه وفي قوله أشد إشارة إلى أنّ في الآخر مناسبة أيضاً باعتبار محله أو التقدير فيه كما مرّ إلا أنه يتوجه عليه إذا كان البصر مصدرا أنه كيف يتم ما مرّ في توجيه إفراد السمع بأنه لمح أصله ووجه المناسبة تقدم تقريره وهو جار على التجوّز نظراً لأصله، أو لأنّ إحداث الهيئة يكون فيها، وأتى بلعل لعدم جزمه به والظاهر أنه تأدّب منه في التفسير بغير المأثور وهذا دأبه، ودأب السلف نفعنا الله ببركاتهم، وفي الكشف أنّ الزمخشريّ(1/292)
يعبر بكأن فيما لم يسبق فيه بنقل، ولذا قال: كان هنا وقيل إنما عبر بكأن فيه لأنه ناشىء عن ظن وتخمين كسائر الأمور العقلية التي يدعونها، وأمّا كيفية الإبصار فليس هذا محلها، وقوله وبالقلب ما هو محل العلم إلخ الظاهر أنه الجسم الصنوبري المعروف، لأنه اشتهر في الآيأت والأحاديث، ولسان الشرع أنه محل العلم وكونه في الدماغ أو مثتركا بينهما مبنيّ على إثبات الحواس الباطنة التي لم يثبتها الشرع والكلام فيها مشهور، وقيل: إنما قال ما هو إلخ ليشمل الدماغ ولا يخفى ضعفه والقلب، في الأصل مصدر سمي به لتقلبه أو لأنه لبه، ولذا سمي العقل لباً أيضاً. قوله: (وقد يطلق ويراد به العقل والمعرفة) الإطلاق لغة فك القيد والعقال ونحوهما، والمراد به هنا الاستعمال، وقد يراد به استعمال بدون قيد وشرط، وهو فيهما حقيقة عرفية، والعقل يقال للقوّة المتهيئة لقبول العلم وللعلم المستفاد بها وأصل معنا. الإمساك بعقال ونحوه كما قال:
قد عقلنا والعقل أيّ وثاق وصبرنا والصبر مرّ المذاق
وفي جمع المصنف بين يطلق، والعقل إيهام تضاد، وفيه لطف لا يخفى، والعقل هنا إن
كان العلم بالكليات والمعرفة العلم بالجزئيات، كما هو أحد معانيها، فذكره للتعميم، وان كان مطلق الإدراك، فهو المراد بالمعرفة أيضاً، وقيل العقل بمعنى التعقل وعطف المعرفة عليه عطف تفسيرقي، لثلا يراد به القوّة العاقلة، واستشهد بالآية على أنّ المراد بالقلب فيها العقل بعلاقة الحالية والمحلية، كما أشار إليه قبيله، وقد قيل عليه إنه مخالف لما فسره به في سورة ق من قوله أي قلب واع يتفكر في حقائقه وتنكيره وابهامه تفخيم واشعار بأنّ كل قلب لا يتفكر ولا يتدبر.
وقال الشيخ في الدلائل بعدما نقل تفسيرهم: القلب في الآية بالعقل منكراً على من فسره
به أنّ المرجع إليه لكن ذهب عليه أنه كلام مبنز، على تخييل أن من لا ينتفع بقلبه فلا ينظر ولا يعي بمنزلة من عدم قلبه جملة، كما في قول الرجل: غاب عني عقلي، ولم يحضرني يريد أن يخيل إلى السامع أنه غابءخه قلبه بجملته، ويريد أنه لم يكن علمه هناك، وكذا إذا قال: لم أكن هناك يريد غفلته عن شيء فهو يضع كلامه على التخييل، وفي الإيضاح: كلام الشيخ حق لأنّ المراد بالآية الحث على النظر والتقريع على تركه فإن أريد بهذا التفسير أن المعنى، لمن كان له عقل مطلقاً، فهو ظاهر الفساد، وان أراد أنّ المعنى لمن كان له عقل ينتفع به، ويعمله فيما خلق له من النظر فتفسير القلب بالعقل ثم تقييده بما قيد به عار عن الفائدة لصحة وصف القلب بذلك بدليل قوله تعالى {لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا} [الأعراف: 179] .
(أقول) هذا ليس بشيء لأنّ المقصود بصدد بيان معاني القلب لغة وبيان وجو. استعماله
في النظم، فذكر أحدها هنا تبعاً لغير. كالراغب تتميماً للفائدة فلا ينافي ذكره لوجه آخر ثمة وتفسيره به هـ هذا بحسب جليّ النظر وأمّا بحسب دقيقه، فالمآل واحد، لأنّ من فسره بالعقل وسكت عن توصيفه جنح أيضاً إلى ما جنح إليه الشيخ من تنزيل الموجود منزلة المعدوم لعدم غنائه، فكأنّ من لم يتدبر لا عقل له رأسا كما أنّ الشيخ لما أبقاه على أصله وحقيقته أشار إلى أنّ من لا يعي ولا يفهم بمنزلة الجماد الذي لا قلب له، ومن قدر الصفة نظر إلى الظاهر، وسلك الطريق الواسع فما في الإيضاح لا وجه له نعم كلام الشيخ فيه من لطف التخييل والجري في ميدان البلاغة العربية ما لا يلحق وقد ألنم بمثله ااشعراء وعدوه من لطيف المعاني كماقيل:
قالت وقد سألت عنها كل من ~ لاقيته من حاضر أو بادي
أنا في فؤادك فارم طرفك نحوه ~ ترني فقلت لها وأين فؤادي
وفي ذريعة الشريعة لما كان تأثير هذه القوى من الدماغ قيل مسكن الفكرة وسط الدماغ، ومسكن الخيال مقدّمه، ومسكن الحفظ والذكر مؤخره، ولما كان قوام الدماغ بل الجسم كله من القلب الذي هو منشأ الحرارة الغريزية عبر الناس عن هذه القوى مرّة بالدماغ، فقيل لمن قويت قواه المدركة له دماغ، ولمن ضعفت فيه خالي الدماغ وتارة بالقلب، وهو أكثر وعليه قوله تعالى {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ} [ق: 37] اهـ. قوله: (وإنما جاز إمالتها إلخ) يعني أنّ الصاد حرف مستعل، وهو عند النحاة وأهل الأداء مناف(1/293)
للإمالة فيمنع منها لأنها إن ينحو بالفتحة نحو الكسرة، وبالألف نحو الياء وذلك مقتض لتسفل الصوت، والاستعلاء مقتض لخلافه، فوجهوه بأنّ سببه هنا الكسرة الواقعة على الراء وهو كما بينوه في مباحث مخارج الحروف، وصفاتها حرف مكرر، لتكرّره على اللسان في النطق به فإنه يرتعد وأظهر ما يكون التكرير إذا شدد أو وقف عليه فكسرته بمنزلة كسرتين، فقوي السبب حتى أزال المانع وهذا معنى ما في الكشاف من أنّ الراء المكسورة تغلب المستعلية لما فيها من التكرير
كأنّ فيها كسرتين، وذلك أعون شيء على الإمالة وأن يمال له ما لا يمال، ولم يرتض هذا الإمام الجعبري في شرح الشاطبية والرائية فقال: وجه الإمالة مناسبة الكسرة واعتبرت الكسرة على الراء دون غيرها لمناسبة الإمالة الترقيق لا ما توهمه المعللون لقوّتها بالتكرير لعدمه، يعني أنّ طائفة فهموا من قولهم إنّ الراء حرف مكرّر إنه حقيقة وليس معناه إلاً أنّ اللافظ بها يجب عليه المحافظة عليها لئلا يقع تكرير، وهو خطأ عظيم، إذ لم يقل أحد بأنّ في نحو ضرب راآن اهـ. ولا يخفى أن فيها تكرارا مّا، كما يدركه الطبع السليم وإن كان في الوقف والتشديد أظهر وما ذكره العلامة مما اتفق عليه أهل العربية، وأيده الوجدان فتدبر. قوله: (رفع بالابتداء عند سيبويه إلخ) هذا مذهب الجمهور وخص سيبوبه لأنه مقتداهم، والأخفش يجعله فاعلاً بالظرف وإن لم يعنمد على ما يجب الاعتماد عليه من النفي والإستفهام وأخواتهما، وهو محل الخلاف، والأخفش لا يمنع صحة كونه مبتدأ، كما توهم والالتباس مخصوص بالخبر الفعلي، كما مرّ فلهذا كان فيه الوجهان إذا اعتمد بالاتفاق، وإن اختلف في الأرجح لأنه إجمال لا ليس والفرق بينهما مما خفي على كثير حتى توهم اتحادهما وهو فاسد قطعاً، والفرق بينهما أنّ في الإلباس فهم خلاف المراد وفي الإجمال عدم الفهم مطلقاً، لأنه لا يفهم من المجمل شيء بدون بيان، ولا ضرر في عدم الفهم إنما الضرر في فهم غير المراد، كذا أفاده شيخنا في حواشي شرح التسهيك، وقيل: الرفع بالابتداء لا يختص بسيبور لاتفاق ما عدا الأخفش عليه إذا لم يعتمد على ما يجب اعتماد اسم الفاعل عليه حتى يعمل، والذي اختص به سيبويه أنه لا يكتفى بالاعتماد على ما سوى الموصول، ويشترط كون المرفوع حدثا، وقال الرضي: إذا لم يعتمد الظرف على أحد الأشياء الستة، ولم يقع بعده أن المصدرية، فالمرفوع مبتدأ مقدّم الخبر وعند الكوفيين والأخفش في أحد قوليه هو فاعل الظرف، لأنّ الكوفيين لا يجوزون تقديم الخبر على المبتدأ، وأمّا الأخفش، فيجوّز ارتفاعه على الابتداء أيضاً لتجويزه عمل الصفة بلا اعتماد،. وله في الظرف قولان. قوله: (ويؤيده العطف على الجملة الفعلية) أي يؤيد رأي الأخفش عطفه على جملة ختم الفعلية، لأنّ الأصل الأقوى في متعلقه أن يقدر فعلا لا سيما إذا وجد ما يقضتيه كالعطف على مثله، وما قيل: من أنه لو قدر وصفاً ضعف من وجهين عمل اسم الفاعل والظرف من غير اعتماد ضعفه أقوى منه، وحينئذ فقوله {وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ} [اس عمران: 176] مثله وقد أيد أيضاً بنصب غشاوة وقيل إنّ التحقيق أن تجعل اسمية معطوفة على الفعلية، وعدل عن فعليتها للدلالة على الثبوت، والدوام الذي اقتضاه المقام لأنّ سبب الإيماذ على ما تقرر حدوث العالم وتغيره، وهو لا يدرك الآ بحاسة البصر وكون الجملتين دعائيتين ليس بشيء هذا، والظاهر أنا إن لم نقل بأنّ هذه الجملة وما عطف عليها حالية ثابتة على كل حال وعليه لا إشكال، فوجه العدول عن الفعلية إلى الاسمية، وترك التناسب المطلوب أنه قصد فيه إلى أنّ غشاوة البصر ثابتة جبلية فيهم، كما قال تعالى {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ} [آلى عمران: 90 ا] فمن لا لبّ له لا ينظر نظر استبصار في الأنفس، والآفاق بخلاف عدم التصديق وعدم الإصغاء للنذر فإنه متجدّد فيهم قديماً وحديثاً، فدل النظم على أنهم، كما لم يمتثلوا أوامر الرسول لم يجروا على مقتض العقول لخبث طينتهم والطبع على طويتهم، وهذا هو السر في التعبير بالغشاوة الخلقية في العين، وهذا من بدئع التنزيل، التي ينبغي العض عليها بنواجذ التعويل. قوله: (وقرىء بالنصب إلخ) هذه القراءات كلها شواذ الآ المشهورة منها، وهي غشاوة بكسر الغين المعجمة مع الألف بعد الشين والرفع ولذا عبر المصنف بقرىء المجهول، والنصب نصب غشاوة المكسور أوّله.
وقال قدّس(1/294)
سرّه لا بدّ في النصب مطلقاً من تقدير فعل كجعل وأحدث على طريقة قوله:
علفتها تبناً وماء بارداً
وفيه مناقشات منها أنه قيل عليه: إنه يدفعه قول المصئف وغيره أنه على حذف الجار،
وأيضاً أنه يحتمل كما في البحر أن يكون غثاوة اسماً وضع موضع مصدر من معنى ختم، كقعدت جلوساً لأنّ معنى ختم غشي وستر، فكأنه قيل تغشية على سبيل التأكيد ويكون قلوبهم وسمعهم وأبصارهم مختوماً عليها مغشاة، وأيضاً ليس هو من قبيل، علفتها تبناً وماء باردا، سواء قدر فيه جعل أو انتصب على نزع الخافض لأنّ الغشاوة ليست مما يختم عليه كالقلب والسمع بل مما يختم به وبين المختوم عليه والمختوم به فرق ظاهر وقد صرّج به في الجاثية في قوله تعالى {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} [الجاثية: 23] فجعل البصر مختوماً عليه بالغشاوة، فإن قلت هل في تغاير أسلوب ما هنا، وثمة نكتة غير التفنن، فإنه عكازة أعمى. قلت: لما ذكر هنا الكتب السماوية وهداية من اهتدى بها من المؤمنين، وهم السعداء أزلاً وأبدا، ثم عقبهم بأضدادهم الذين لم يفدهم الإنذار أصلاَ بين ذلك وعلله فأن مشاعرهم مجبولة على الغواية، وعدم قبول الحق وأفاد أنّ بصرهم وبصيرتهم مستمرّة ثابتة على عدم نظر الآيات البينات قبل الدعوة وبعدها، فلذا عدل فيها إلى الاسمية، أو ترك التصريح بالفعل، وثمة ذكر من عرف الحق، ثم عدل عنه كأهل الكتاب الذين لما جاءهم ما عرفوا كفروا به، فناسب التصريح بتجدّد الغشاوة ولذا صدرت بقوله أفرأيت وقدم السمع فيها، وما قيل من أنه في الجاثية قصد بيان عدم قبول النصح وعدم المبالاة بالمواعظ الواصلة إليهم حينا بعد حين فناسب الفعل الدال على التجدّد لا يصلح وجهاً لمدعاه، فإن قوله تعالى {سَوَاء عَلَيْهِمْ} إلخ أدلّ على ما ذكره لصراحته في 4، كما لا يخفى فهذا غفلة أو تغافل.
(أقول) ما ذكره قدس سرّه من قوله علفتها تبنا وماء بارداً، كقوله متقلداً سيفاً ورمحا. وقوله: فزججن الحواجب والعيونا، وهو أصل من أصول العربية معناه أنه إذا عطف على معمول عامل معمول آخر لا يليق عطفه عليه بحسب الظاهر لمانع منه معنويّ أو صناقي، ففيه طرق أحدها التقدير، والثانية أن يضمن العامل المذكور معنى عامل عام لهما، أو يتجوز به عنه كأنلتها في الأؤل وحاملاَ، وحسن فيما بعده، وذكر الثعالبي رحمه الله أنه من المشاكلة، ووجه ما قاله من أنه يتعين كون ما هنا من هذا القبيل إنّ القرآن يفسر بعضه بعضاً، وقد صرّح في غير هذه الآية بإخراح الإبصار عن حكم ألختم إلى التغشية المغايرة له بمعنييه، وهذا يأبى جعله مصدر الختم من معناه، كما في البحر ويقتضي عدم انتصابه بنزع الخافض لأنه إن لم يقدر له فعل اقتضى اشتراك القلوب والأسماع فيه، والاً كان فيه تعسف لأنه إذا ارتكب التقدير فليقدر فعل متعد بنفسه، وقد قيل عليه إنه يزيفه الوفاق على الوقف على سمعهم، وفوت نكتة تخصيص الختم بما عدا الأبصار، ويحتمل أن تكون غشاوة مفعول ختم والظروف أحوال أي ختم غشاوة كائنة على هذه الأمور لثلا يتصرّف فيها بالرفع والإزالة اهـ وفيه نظر. قوله: (وقرىء بالضم والرفع إلخ) أي قرىء في الشواذ بضم الغين، ورفعه وبفتح الغين المعجمة ونصمبه، وضم الغين وفتحها لغتان، وقرىء غشوة بكسر المعجمة مرفوعا، وبفتحها مرفوعا، وعنصوبا، والتخصيص في مثله نقليّ لا يسئل عن وجهه، وغشاوة بفتح المهملة والرفع وجوّز فيه الكسر والنصب من العشي بالفتح والقصر، وهو الرؤية بالنهار دون الليل ومنه الأعشى والمعنى أنهم يبصرون الأشياء ابصار غفلة لا تنظر غير الواضح لا إبصار عبرة، أو أنهم لا يرثون آيات الله في ظلمات كفرهم، ولو زالت تلك الظلمات أبصروها، وقال الراغب: العشاء كللتي تعرض في العين وعشى عن كذا عمي قال تعالى {وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا} [الزخرف: 36] وعلى هذا معناه ظاهر. قوله: (وعيد وبيان لما يستحقونه إلخ) الظاهر أنه معطوف على ما قبله فيكون بيانا لإصراوهم بأنّ مشاعرهم ختمت وأنّ الشقوة في الدارين عليهم حتمت، وهو غنيّ عن البيان، وليس استئنافاً ولا حالاً، وقيل إنه دفع لما يتوهم من عدم استحقاقهم العقاب على كفرهم لأنه بختم الله وتغشيته وفي استعمال اللام المفيدة للنفع وجعل فائدتهم ونفعهم العذاب العظيم تهكم بهم، ولا وجه له فإنّ اللام إنما تفيد النفع وتقع في مقابلة(1/295)
على في الدعاء وما يقاربه ولم يقل به أحد هنا ولا يقال عليهم العذاب فلا تهكم فيه، وهي لام الاستحقاق وفي المغني لام الاستحقاق هي الواقعة بين معنى وذات نحو {الْحَمْدُ للهِ} [الفاتحة: ا] والأمر لله و {وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ} [المطففين: أ] و {لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ خزي} [البقرة: 114] ومنه وللكافرين النار أي عذابها اهـ وهذه الجملة اسمية قدم خبرها استحسانا لأنّ النكرة موصوفة ولو أخر جاز كما في قوله تعالى
{وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ} [صورة الأنعام: 2] وسيأتي تفصيله ويجوز أن يقال تقديمه للتخصيص، وقيل إنه تهويل لما يستحقونه من القتل والأسر في الدنيا والعذاب الدائم في العقبى، ومن وجوه تهويله بيان أنّ ما يستحقونه من العذاب مخصوص بهم فلا يعذب عذابهم أحد، ولا يوثق وثاقهم أحد. قوله: (والعذاب كالنكال إلخ) أمّا اتحادهما في البناء، وهو الوزن فظاهر، وأما في المعنى فبينه بقوله تقول إلخ. وقد اختلفوا في أصله، فقيل إنه من قولهم عذب الرجل إذا ترك اكل والشرب والنوم، فالتعذيب حمله على أن يجوع ويظمأ ويسهر، وحاصله الإمساك ومنه العذب لمنعه من العطش كما قيل:
مابال ريقك ليس ملحاطعمه ويزيدني عطشا إذا ماذقته
ويقمع بمعنى يزيل، وأصل معنى القمع الكف والرح والمنع والزجر، ونقاخ كغراب
الماء البارد العذب الصافي بنون وقاف وخاء معجمة آخره وكذا الفرات، وفي الكشاف ويدل عليه تسميتهم إياه نقاخا لأنه ينقخ العطش أي يكسره، وفراتا لأنه يرفته على القلب أي يفتته ويكسره، وعلى القلب وزنه عفال إلاً أنه قيل عليه إنه تعسف لأنه لم يرد رفات بمعنى فرات قط، وقد يقال مراده أنه يلاحظ فيه معنى اعتبره الواضع حتى إذا لم يوجد صريحاً تصرفوا في مادّته بتقدير التقديم والتأخير، فليس قلباً حقيقياً وهذا كثيراً ما يذكره في العين والتهذيب، ولبعده توهم بعضهم أنّ القلب فيه بمعنى الجارحة، ولا وجه له وقال ابن الصائغ: إنه لم يرده ولكنه أوهمه، كما يقال للثقيل خفيف على القلب، وأمّا كون الرفت الكسر والمذكور أوّلاً المنع وبينهما فرق فقد دفع بأن الكسر يعبر به عن المنع كما يقال 3 سر سورته إذا كفها، فبينهما مناسبة أو الرح مؤثر، ولا تأثير أعظم من الكسر. قوله: (ثم يسع فأطلق على كل ألم فاح إلخ) اتسع مبنيّ للمجهول وأصله اتسع فيه فهو كمشترك، ولو قرىء معلوماً جاز لكن الأؤل أولى والفادح اسم فاعل من فدج بفاء، ودال وحاء مهملتين بمعنى مثقل، والمرأد مؤلم شاق مطلقا وإن لم يكن مانعاً رادعا.
وقال السخاوندي العذاب إيصال الألم إلى الحيّ مع الهوان فإيلام الأطفال والبهائم ليس بعذاب. وقوله: (قهو أعنم منهما) ذهب كثير إلى أنّ ضمير التثنية للنكال والعقاب، لأنّ النكال ما كان رادعا، والعقاب بمعناه، أو هو ما يجازى به كعقاب الآخرة والعذاب أعم إذ هو ما يؤلم مطلقاً فيشمل عذاب البهائم والأطفال وغيرهما وقيل معناه أعم مما يكون نكالاً وما لا يكون نكالاً لوجوده في كل منهما بدون الآخر، ومن أرجع الضمير إلى العقاب فقد زاغ عن سنن
الصواب اهـ. يعني لأنّ العقاب لم يذكر قصدا بل للتفسير، وأنه على هذا الثفسير مطابق لكلام الكشاف، ولكنه ليس ما ذكره أقرب عند الإنصاف، حتى يدعي أنه خطأ. قوله: (وقيل اشتقاقه من التعذيب إلخ) قال الراغب في مفرداته: قيل أصل التعذيب من العذب فعذبته أزلت عذب حياته على بناء مرّضته وقذيته، وقيل: أصل التعذيب إكثار الضرب يعذبة السوط، وقيل من قولهم بئر عذية فيها قذى وكدر فعذبته بمعنى كدّرت عيشه، وقال أيضاً التمريض القيام على المريض، وتحقيقه إزالة المرض عن المريض كالتقذية في إزالة القذى عن العين اهـ. والقذى ما يسقط في العين، فيؤلمها أو الشراب فيعاف وأقذاه أوقع فيه القذى وقذاه أزاله وأوقعه فيه، فهو ضدّ هذا تحقيقه على ما بيناه، ومنه علم ما أراده المصنف رحمه الله وأنّ التفعيل فيه للسلب كالأفعال، ومعنى عذبه أزال ما يستعذبه كمرضه وقذاه وإنما أوضحناه مع وضوحه لما وقع فيه من الخبط، حتى قيل: إنّ التمريض التوهين، وحسن القيام على المريض فكأنه جعل حسن القيام على المريض إزالة للمرض عنه وقيل لعله وحده بمعنى الإزالة وقد سمعت التصريح به من أهل اللغة، وإنما جعل العذاب مشتقا من التعذيب، فالمراد أنه مأخودّ منه في الأصل، ثم استعمل في الإيلام مطلقا وقطع النظر فيه عن الإزالة، وما قيل من أنّ الثلاثيّ لا يشتق من المزيد(1/296)
في الأصل الأكثر، وقد يجعلونه مشتقاً ومأخوذا منه إذا كان أظهر وأشهر، كما قالوا إنّ الوجه مشتق من المواجهة وفيه أنّ العذاب ليس ثلاثياً لأنه اسم مصدر للتعذيب، ولو قيل أصله العذب كما قيل اتضح ما قاله. قوله: (والعظيم نقيض الحقير إلخ) التناقض عند المنطقيين اختلاف القضيتين بحيث يلزم من صدق إحداهما كذب الأخرى، وبالعكس والنقيضان الدالان على معنى وعدمه، والمراد بالنقيض هنا ما يرفع الشيء عرفاً كما قاله قدّس سرّه، فإذا قيل هذا كبير أو عظيم رفع الأوّل بأنه صغير، والثاني بأنه حقير ولا اختلاف بينهما بالإيخاب والسلب، فهو بمعنى المقابل هنا، وفسروه بما يعلم منه وجه اختيار العظيم على الكبير في التوصيف به، ولما كان الحقير دون الصغير كان العظيم فوق الكبير لأنّ كل وحد من الحقير والصغير خسيسان والحقير أخسهما، كما أنّ كل واحد من العظيم والكبير شريفان، والعظيم أشرفهما فتوصيف العذاب به كثر في تهويل شانه من توصيفه بالكبير، ألا ترى إلى جريان العادة بأنّ الأخ يقابل بالأشرف والخسيس بالشريف، فما يتوهم من أنّ نقيض الأخص أعم مما لا يلتفت إليه في أمثال هذه المباحث، وقال الراغب: عظم الرجل كبر عظمه ثم استعير لكل كبير وأجرى مجراه محسوسا كان أو معقولاً معنى كان، أو عينا والعظيم إذا استعمل في الأعيان، فأصله أن يقال في الأجزاء المتصلة والكثير يقال في المنفصلة وقد يقال في المنفصلة عظيم نحو جيش عظيم، ومال عظيم وذلك في معنى الكثير.
(أقول) محصل ما قالوه هنا أنّ العظيم والكبير يستعملان في الأجرام، والمعاني والعظيم
فيهما فوق البهير، فناسب الوصف به دونه وقد تبعهم الإمام في تفسيره هنا، وهو مخالف لما ذكره في أوائله في قوله في الحديث القدسي: " الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري " حيث جعل الكبرياء قائمة مقام الرداء والعظمة مقام الإزار، وقد علم أنّ الرداء أرفع من الإزار فوجب أن يكون صفة الكبر أرفع من العظمة لأنّ الكبير هو الكبير في ذاته سواء استكبره غيره أم لا، وأمّا العظمة فعبارة عن كونه بحيث يستعظمه غيره، وإذا كان كذلك كانت الصفة الأولى ذاتية وأشرف من الثانية، وهو مناف لما ارتضاه هنا فتدبر. قوله: (ومعنى التنكير الخ) زاد قوله في الآية إشارة إلى شمول ما ذكره المصنف رحمه الله تبعاً للعلامة لتنكير غشاوة وعذاب فهو توطئة لما بعده، فالتنكير فيهما للنوعية والمعنى أنّ عذاب الآخرة نوع من العذاب غير متعارف كعذاب الدنيا، وجعل صاحب المفتاح التنوين للتهولل، وفسره بالتعظيم وقد رجح كلاً من المسلكين طائفة وكل حزب بما لديهم فرحون، وقد قيل الأقسام أربعة هي أنّ التنوين إمّا للنوعية أو للتهويل، وهما شديدا التناسب، وامّا أن يكون الأوّل للنوعية والثاني للتهوبل، وهو أيضاً بليغ، أو على العكس وهو مرجوح، وأختار التعامي على العمى تنبيهاً على أنّ ذلك من سوء اختيارهم وشآمة إصرارهم على إنكارهم، لأنه كتجاهل إذا أظهر من نفسه الجهل، وعلى التعظيم معناه غشاوة أيّ غشاوة، والقول بأنه أنسب بقوله عظيم معارض بالمثل، لأنّ حمله على التنويع أظهر لاستفادة التعظيم من صريحه وحمله على التأكيد لا حاجة إليه، والآلام بالمدّ جمع ألم إشارة إلى العذاب، كما أنّ العظام جمع عظيم إشارة لصفته. وقوله: (لا يعلم إلخ) إشارة إلى أنّ عظمه، وتفخيمه لإيهامه حتى كانه مما لا يوقف على كنهه كما في {الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ} [الحاقة: ا] . قوله: (نوع غشاء) هذا معنى قوله في الكشاف: نوعاً من الأغطية غير ما يتعارفه الناس، وهذا النوع هو المعنى المجازي الذي مز تقريره، وقيل الظاهر منه أن براد بالغشاوة بواسطة التنكير نوع من المعنى المجازي أي غطاء التعامي وكأنّ وجهه أن تحمل الغشاوة على عموم المجاز وفيه بعد جدّا، والظاهر أن يراد مجازا بالغشاوة غطاء الله تعالى فيراد بالتنكير نوع منه، ثم الظاهر أن يحمل التنكير على النوعية والتعظيم معاً، كما حمل على التكثير والتعظيم معاً في قوله تعالى {فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ} [فاطر: 4] اهـ. ولا يخفى أنّ ما ذكره تكلف لما لا حاجة إليه، وأمّا حمل التنكير عليهما فمتجه لأنّ مآل التنويع للتعظيم أيضاً لإفادته الإبهام الدال ص ليه، ولا فرق بين المسلكين إلاً في العبارة وفي كلامهم
إيماء إليه فتأمّل. قوله: (لما افتتح سبحانه وتعالى كتابه إلخ) في الكشاف افتتح سبحانه بذكر الذين أخلصوا إلخ والمصنف رحمه الله لخصه وزاد فيه التصريح بالكتاب، والظاهر أنّ المراد منه القرآن فيقتضي أنّ سورة البقرة أوّله وافتتاحه(1/297)
وهو بناء على أنّ سورة الفاتحة بمنزلة الخطبة والثناء والدعاء يقدم على مقاصد الكتاب ولا ضير فيه، ولو أريد بالكتاب اإسورة استغنى عن التوجيه، ولذا قال بشرح حال الكتاب، ولم يقل بشرحه وإعادة المعرفة معرفة في مقام ربما اقتضت المغايرة والقاعدة المشهورة غير كلية، كما قاله العراقي، وان وقع خلافه في القرآن كقوله {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء} [آل عمران: 26] وعلى الأوّل وهو جار عليها والشرح أصله لغة بسط اللحم ونحوه، ومنه شرح الصدر أي بسطه بنور إلهي، وروح من الله وشرح الكلام، والكتاب إظهار ما يخفى من حاله ومعانيه وهو المراد هنا لأنه وان كان مجازاً صار حقيقة عرفية. وقوله: (وساق بيانه ذكر المؤمنين إلخ) بيان فاعل ساق وأصل السوق تسيير الدواب فتجوّز به هنا عن اقتضاء ذكره كما يقال سياق الكلام لما ينجرّ له وواطات بمعنى وافقت وطابقت. قوله: (وثنى بأضدادهم إلخ) قيل إنه يتمشى على العهد، ولا يتمشى على كون تعريف الذين كفروا للجنس متناولاً للخلص وغيرهم، كالمنافقين سواء جعل عاماً خمى بالخبر أو مطلقا قيد به كما مرّ وأجيب بأنه إذا اختص قوله: ومن الناس بالمنافقين، وهم بعضهم دل على أنّ الباقين هم الخلص ضرورة لا لأنّ اللفظ خاص بهم، لأنّ افراد بعض الافراد بحكم خاص يدل على بقاء الباقي على أصل الحكم، كما إذا قلت رأيت بني فلان الكرماء، وبنو فلان منهم العلماء دل على اشتراك الكل في الكرم وأنّ بعضهم علماء، فلو قلت ذكر أو لا من ليس منهم عالماً ثم ثانياً العلماء منهم كان كلاما جاريا على الصحة، وقيل عليه إنّ ضعفه ظاهر لأنه لا يدل على اختصاص الذكر بالأخص غايته أنه حكم على الجنس بحكم يتناول الفزيقين، ثم على البعض منهم بحكم خاص به كما يقال بنو فلان كلهم علماء ومنهم فقهاء، فإنه لا يكون الأوّل ذكرا لغير الفقهاء بالخصوص لا يقال المراد إنّ المقصود الأصلي من ذكر الحكم المشترك المجاهرون بالكفر لمقابلته بالمنافقين لأنا نقول ذلك أيضاً ممنوع، فإنّ إفراد بعض الافراد كالمنافقين لا يراد الأحوال المختصة بهم لا لأنه غير مقصود أصالة من الحكم السابق والفاضل الشريف لم يلتفت لهذا إشارة إلى عدم ارتضائه له، وفي بعض الحواشي إنّ الوجه أنّ مراد العلامة بقوله إنّ الذين كفروا إذا كانت اللام للعهد، أو للجنس الذين محضوا الكفر ظاهراً وباطناً، أمّا على الأوّل فظاهر، وأمّا على الثاني فلأنّ الجنس مطلق والمطلق ينصرف إلى الكامل ولا شك أنّ المتمحضين للكفر ظاهراً وباطناً هم الكاملون في الكفر، فإن قيل لا يرد هذا رأسا على الزمخشريّ حتى يتكلف لدفعه لما مرّ من قوله: إن الإيمان الصحيح أن يعتقد الحق ويعرب عته بلسانه ويصدقه بعمله، فمن أخل بالاعتقاد وإن
شهد وعمل فهو منافق، ومن أخل بالشهادة فهو كافر ومن أخل بالعمل فهو فاسق، فإذا كان الكافر عنده مقابلاً للمنافق كيف يتوجه عليه اعتراض لكنه وارد على المصنف رحمه الله، وقيل: إنه أشار إلى أنّ المراد بالذين كفروا الماحضون المجاهرون بالكفر بقرينة السياق، وهو ذكر المؤمنين ظاهرا وباطنا والسباق، وهو ذكر المنافقين وحالهم، وقد أطلق الكافر على ما يعم الماحض والمنافق إمّ بالاشتراك أو التجوّز حيث قال: الكفر جمع الفريقين معا وصيرهم جنسا واحداً وكون المنافقين نوعاً من نوعي هذا الجنس مغايراً للنوع الآخر بزيادة قيد كالخديعة والاستهزاء لا يخرجهم عن أن يكونوا بعضا من الجنس.
(أقول) هذا زبدة ما في الشروح من القيل والقال والحق الذي لا محيد عنه أنه لا إشكال
فيه أمّا على العهد، فظامر غنيّ عن البيان وأمّا على غيره فالجنس، ومسمى اللفظ كما يكون بحسب اللغة والوضع الأوّل يكون بحسب العرف سواء أكان عاما أو خاصا والكافر في عرف الشرع والعرف العامّ إنما يقال لمن أظهر جحده، وانكاره سواء كان عن صميم اعتقاد أو عتوّ وعناد، كما أنّ المؤمن من وافق ظاهره باطنه في التصديق، وأمّا إطلاقه على هذا وعلى ما يشمل المنافق، وهو من أظهر الإسلام وأبطن الكفر فبحسب نفس الأمر وحقيقة اللغة، فالمراد هنا الأوّل على ما يشهد له السياق والسباق ولله درّ الفاضل الشريف ما أبعد مرماه، وأسعد مغزاه حيث طوى هذا من البين فتدبر. قوله: (محضوا الكفر) بتشديد الحاء وتخفيفها بمعنى أخلصوه، وأصل المحض اللبن الذي لا ماء فيه، ثم تجوّز به عما ذكر واشتهر حتى صار حقيقة فيه. وقوله: (ولم يلتفتوا لفتة) الالتفات الانصراف من جانب إلى آخر، واللفت بكسر(1/298)
فسكون بمعنى الجانب فنصبه على الغلرفية تسمحا أو على نزع الخافض أي إلى جانبه، ويجوز أن يكون مفعولاً مطلقاً وعدم الالتفات إلى جانبه أبلغ من عدم الالتفات إليه والضمير للإيمان المعلوم من السياق والنظم وكونه لله بعيد وأبعد منه وان قرب لفظه كونه للكفر ظاهراً وباطنا على أنّ المعنى لم ينظروا إلى الكفر حتى يظهر لهم قبحه، ورأساً بمعنى أصلاَ وبالكلية و في ذكرها مع الالتفات لطف لا يخفى. قوله: (ثلث إلخ) بتشديد اللام جواب لما أي أتى به ثالثا، وأصل الذبذبة حكاية صوت الشيء المعلق به ثم استعير لكل حركة واضطراب، وتذبذب المنافقين تردّدهم بين الإيمان والكفر أو اضطرابهم بميلهم تارة إلى المؤمنين وتارة إلى الكافرين وانحصمار الأقسام في الثلاثة ظاهر، وقوله تكميلاً للتقسيم علة له، ووجهه أنّ الناس بحسب الاعتقاد إمّا مؤمن ظاهراً وباطناً أو كافر كذلك أو كافر باطناً مؤمن ظاهرا، ولا يرد عليه مبطن الإيمان ومظهر الكفر كعمار لأنه مؤمن لقوله تعالى {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل: 06 ا] ثم إنّ هذا كله بقطع النظر عما مرّ من الإصرار وعدمه وعن خصوص التعريف، فسقط ما قيل من أنه إنه، يتم إذا لم يعتبر في الكفر التصميم والختم إذ لو اعتبر لم يكمل التقسيم لخروج من لم يصمم على الكفر عن التقسيم، وأن لم يعتبر أشكل إدخال المنافقين المصممين على أنّ
اعتباره لا بدّ منه لقوله سواء إلخ وقد صرّح بدخولهم، ولذا قيل إنه إنما يلزم على اعتبار العدم لا على عدم الاعتبار، والفرق ظاهر. قوله: (وهم أخبث الكفرة) كونهم أخبث وأبغض لما ذكره بقوله لأنهم إلخ لا ينافي كون غيرهم أخبث باعتبار آخر، والخلاف المذكور في كلام الإمام لفظيّ قال: اختلفوا في كفر المنافق، والكفر الأصلي أيهما أقبح فقيل الأصلي أقبح لأنه جاهل بالقلب كاذب باللسان، وقيل غيره لأنّ المنافق كاذب أيضاً مع زيادة أمور أخر منكرة، ومن الناس من لم يتنبه له فظنه مخالف لكلام المصنف وليس بشيءه وقوله: (أبغضهم إلى الله) هو كما في الكشاف، وقيل عليه استعمل أفعل من غير الثلاثي وللمفعول وليس بقياسيّ ولا يرد اعتراضاً لأنه سمع من العرب قديماً كما في القاموس وغيره. وقوله: (موهوا الكفر إلخ) في المصباح موهت الشيء طليته بماء الذهب والفضة، وقول مموّه أي مزخرف أو ممزوج من الحق والباطل اهـ. والمراد هـ، لتمويه هنا الستر إمّا استعارة أو مجازاً مرسلاَ لأنهم ستروا الكفر وأظهروا الإسلام. وقوله: (ولذلك إلخ) بيان لما جاء في حقهم إجمالاً وهو ظاهر كما ستراه عن قريب، وهذا بحسب الظاهر يدل على أنهم أعظم جرماً من الكفار، والعمه في البصيرة كالعمى في البصر والتطويل لذكره الأول في أربع آيات، والثاني في آيتين ثم نعى حال هؤلاء في ثلاث عشرة آية بذكر ادعائهم الإيمان ثم تكذيبهم، وذكر مخادعتهم وتلبيسهم، ومرض قلوبهم وتسفيههم للمؤمنين الذين هم أرجح الناس أحلامأ. وقولى: (وجهلهم) بميغة ط ضي التجهيل عطف على طوّل، وهو من قوله {لَّا يَشْعُرُونَ} و {لَا يَعْلَمُونَ} واستهزأ بالماضي من الاستهزاء، وبهم جار ومجرور متعلق به، وهو معطوف على طوّل أو جهل إشارة لقوله {؟ الله يستفزىء بهم} والتهكم في قوله اشتروا إلخ وقوله {؟ ولم تؤمن قلويهم} قال الطيبي الإيمان إن كان مجرد تصديق الجنان ينسب إلى القلب حقيقة وإلخ غيره مجازا، ولذا فسر آمنوا بأفواههم بأظهروا كلمة الإيمان، وإن كان مجموع التصديق، والأعمال فنسبتة إلى الشخص حقيقة وإلى الجوارح مجاز وقوله سجل على عمههم وفي بعض النسخ على غيهم وهو مناسب للغطيان، وهذا إشارة إلى قوله {يَمُدُّهُمْ} إلخ والمراد بالتسجيل الحكم القطعي وأصله كتابة السجل، وهو الكتاب الحكمي قيل: وقد توهم أنّ قوله جهلهم وقوله استهزأ بهم بصيغة المصدر المضاف إلى الضمير فيهما وهو خطأ لعدم التطويل في بيان جهلهم واستهزائهم وليس بشيء، وإن كان الأوّل أرجح رواية ودراية لأنه على هذا التطويل بالنسبة إلى المجصوع لا إلى كل على حدة وهو ظاهر وضرب الأمثال في قوله مثلهم إلخ وطوّل بمعنى أطنب فما قيل من أنّ التعبير بالاطناب أنسب ببلاغة القرآن لا وجه له. وقوله: (وأنزل) معطوف على طوّل. قوله:
(وقصتهم عن آخرها إلخ) هذا معنى قوله في الكشاف، وقصة المنافقين عن آخرها معطوفة على قصة الذين كفروا، كما تعطف الجملة على الجملة، يعني كما قاله المدقق في الكشف، وتبعه الفاضلان أنه ليس من باب عطف جملة على جملة(1/299)
ليطلب مناسبة الثانية مع السابقة بل من باب ضم جمل مسوقة لغرض إلى أخرى مسوقة لآخر، والمعنى بالعطف المجموع وشرطه المناسبة بين الغرضين، فكلما كانت المناسبة بين القصتين أشد وأمكن كان العطف بينهما أشدّ وأحسن، ولا يتكلف لخصوص كل جملة تناسب خاص، وهذا أصل في العطف لم يصرّح به الإمام السكاكي، ولذلك أشكل عليه العطف في نحو {وَبَشِّرِ الَّذِين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ} [ابقرة: 25] على الوجه المذكور وسيجيء له مزيد تقرير، وهو ردّ ضمنيّ على الطيبي في قوله إنّ كلام الكشاف هنا يحتمل وجهين.
أحدهما أن يعطف من حيث حصول مضمون الجملتين في الوجود.
وثانيهما أنّ الجهة الجامعة بين من محض الكفر ظاهرا وباطناً.
وبين من أظهر الإيمان وأبطن الكفر التوافق في الكفر، فإنه لم يحم حول المراد، وأمّا
من اعترض على الكشف وإرجاع ما هنا إليه بأنه ذهول عن التعبير عنهم بلفظ المصرّين في قوله معطوفة على قصة المصرين إيماء إلى الجامع بين القصتين المصحح للعطف، وهو تناسب التضادّ بين الإصرار والذبذبة، وكذا من قال معترضاً على المدقق لا بدّ في ضم الجمل من التناسب بينهما، فهو لظهور سقوطه غنيّ عن الرد، فإنه ناشىء من عدم التدبر، ولولا أنّ لكل ساقطة لاقطة لم أورده هنا. وقوله: (عن آخرها) معناه جميعها وجملتها وقد مرّ الكلام عليه مفصلاً، وتناسب الغرضين ظاهر لما فيهما من النعي على أهل الضلال من الكفار والمنافقين. قوله: (والناس أصله أناس إلخ) اختلف النحاة في ناس فذهب سيبويه والجمهور إلى أنّ أصله أناس، وهو جمع أو اسم جمع لإنسان حذفت فاؤه، فوزنه عال ونقصه وإتمامه جائزان إذا نكر فإذا عرف بال فالأكثر نقصه ويجوز على قلة إتمامه كما ستراه، واشتقاقه من الإنس ضد الوحثة أو من أنس بمعنى ظهر أو علم، وذهب الكسائي إلى أنه اسم تامّ، وعينه واو من نوس إذا تحرّك بدليل تصغيره على نوشى وقال سلمة بن عاصم كل من ناس وأناس مادّة مستقلة. قوله: (لقولهم إنسان الخ) استدلال لحذف الهمزة منه بثبوتها في مفرده من إنسان، وإنسيّ بكسر فسكون، وأنسيّ بفتحتين بمعناه ولا دليل فيه على القول بأنهما مادّتان مستقلتان، وإنّ ناساً اسم جمع لا مفرد له من لفظه كقوم ورهط. وقوله: (أناسي) بتخفيف الياء وتشديدها جمع إنسيّ أو إنسان، وأصله أناسين، فأبدلت نونه ياء، وأدغمت كظرابي، واقاحي وعلى هذا، فالإبدل فيه غير لازم لقول الشاعر:
وبالأناسيّ إبدال الأناسين
فحذفت الهمزة حذفها في لوقة وعوّض عنها حرف التعريف، ولذلك لا يكاد يجمع بينهما وقوله:
إن المنايا يطلعن على الأناس الآمنينا
شاذ وهو اسم جمع كرخال إذ لم يثبت فعال في أبنية الجمع مأخذو من أنس، لأنهم
وبه يردّ على ابن عصفور حيث ادّعى لزومه، والإنسان يقال للذكر والأنثى، وانسانة
عامية مولدة والشعر الذي نقله فيه وهو:
لقدكستني في الهوى ملابس الضث الغزل
إت نة فتانة بدرالدجى منهاخجل
للثعالبي كما صرّح به في عامّة كتبه، فلا وجه للاستدلال به ولا لإيراد صاحب القاموس
له، وتشككه فيه. قوله: (حذفها في لوقة) فقيل ألوقة ولوقة، وفي الصحاح اللوقة بالضم الزبدة عن الكساتي، وقد لوّق طعامه إذا أصلحه بالزبد يقال لا آكل إلا ما لوّق لي أي لين لي حتى يصير كالزبد في لينه. وقال ابن الكلبي: هو الزبد بالرطب وفيه لغتان لوقه وألوقة، ولذا ذكروه في مادّة لوق وألق وذهب بعضهم إلى أنهما لغتان وأصلان ولوق بالتشديد دليل عليه، وقيل إنه لم يثبت عند القائلين بالحذف وفي الحذف ودخول اللام والتعويض وعدمه ما مرّ في لفظ الله. وقوله: (لا يكاد يجمع بينهما) إشارة إلى ما اشتهر من أنّ العوض والمعوّض عنه لا يجتمعان ولا يرتفعان وقد اجتمعا في قول العرب الأناس، وارتفعا في مثل قولهم إذ الناس ناس والزمان زمان.
وهذا كثير في كلام العرب، فصيح فذهب بعضهم إلى أنّ مقتضى العوضية عدم الاجتماع
في الفصيح الشائع لا في النادر الشاذ، فتأمّل وقد تقدم تفصيله في الفاتحة. قوله: " ن المنايا يطلعن البيت) هو بيت من مجزوء الكامل قال ابن يعيش: قائله مجهول فالاستشهاد به على الجمح مردود وبعده:
فتذرهم شتى وقد كانوا جميعاً وافرينا
وقيل هو من قصيدة لعبيد بن الأبرص طويلة يخاطب بها أمرأ القيس، وأوّلها كما في الحصاسة البصرية:
نحن الأولى فاجمع جمو ~ عك ثم وجههم إلينا(1/300)
يا ذا المخوّفنا بقت ~ ل أبيه إذلالا وجبنا
ويطلعن بتشديد الطاء بمعنى ينظرن ويشرفن وقد تجوّز به عن القرب والمنايا جمع منية،
وهي الموت وآمنينا جمع آمن وألفه للإطلاق في القافية. قوله: (وهو اسم جمع) الفرق بين الجمع واسم الجمع كما سيأتي تفصيله إنّ اسم الجمع ما دل على ما فوق الاثنين، ولم يكن على أوزان الجموع سواء كان له مفرد أو لا، ويشترط فيه أيضا أن لا يفرق بينه وبين واحده
بالتاء كتمر وتمرة ولا بالياء كزنج وزنجيّ، فإنه اسم جنس جمعيّ ويعرف بإطراد تصغيره من غير ردّ إلى المفرد وقد يراد باسم الجمع الجمع الوارد على خلاف القياس، وهذا عرف النحاة، وأمّا أهل اللغة فاسم الجمع عندهم يسمى جمعاً حقيقة. وقوله: " ذ لم يثبت إلخ) إشارة إلى ما قلنا. في تعريفه وفيه إشارة إلى الردّ على من قال أنه جمع لأنّ ما سمع منه قالوا إنه اسم جمع لا جمع، واطلاق الجمع عليه قالوا: إنه إمّا تجوّز، وإمّا بناء على اصطلاح اللغويين فلا يعترض عليه، وذهب بعضهم إلى أنّ أصله الكسر، وهو جمع تكسير حقيقة لأنّ فعالاً بالكسر من أبنية الجمع، فأبدل كسره ضماً كما أبدلت ضمة سكارى من الفتحة، وقد ذهب إلى هذا الزمخشريّ، ورده أبو حيان في البحر وشنع عليه في ذلك وقد نقلوا كلمات جاءت على هذا الوزن منظومة في أبيات عزيت للزمخئ! ريّ، والأصح أنها لصدر الأفاضل، وهي:
ماسمعنا كلما غير ثمان ~ هي جمع وهي في الوزن فعال
فتؤام ورباب وفرار ~ وعراق وعرام ورخال
وظؤار جمع ظئر وبساط ~ جمع بسط هكذافيمايقال
فتؤام واحدة توأم، وهو المولود مع أخيه، ورباب براء مهملة وموحدتين واحده ربى،
وهي شاة حديثة عهد بنتاج، وفرار بفاء وراءين مهملتين جمع لفرير ولد البقرة الوحشية، وعراق بعين وراء مهملتين وقاف لعرق وهو عظم عليه لحم وعرام مثله معنى واهمالاً، ورخال براء مهملة وخاء معجمة ولام واحدة رخل أو رخلة وهي أنثى ولد الضأن، وظؤار لظئر وهي المرضعة، وبساط لبسط بكسر الباء للناقة تخلي مع ولدها، ولا وجه لهذا الحصر، فإني وجدت في كتب اللغة وغيرها ألفاظا جاءت على هذا الوزن، فمنها أناس وظباء بالضم لغة في ظباء المكسور ونفاس بالضم لنفساء، ونذال لنذل ورذال لرذل وكباب بمعنى كثير متراكب وملاء بالضم لملاءة ذكره أبو عليّ وقماس وظهار لظهر، وسحاح لشاة ساح، وبراء لبريء في قول وثناء ورعاء لراع ورجال لراجل مع أخوات له، وقد أشبعنا الكلام فيه في شرح الدرّة للحريري. قوله: (مأخوذ من أنس إلخ) أنس كفرح من الأنس ضد الوحشة لأنسه بجنسه لأنه مدني بالطبع كما قيل:
وما سمي الإنسان إلاً لأنسه ولا القلب إلا أنه يتقلب
وقوله آنس بالمد بمعنى أبصر قال تعالى: {آنَسَ مِن جَانِبِ الطُّورِ نَارًا} [القصص،
الآية: 29] وهو محتمل للأفعال والمفاعلة، وجاء بمعنى سمع وعلم فسمي به لأنه ظاهر محسوس وقد مرّ ما قيل من أنه من نوس، وقيل إنه من نسي بالقلب لقوله تعالى في آدم {فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا} [طه: 115] وهذا مرويّ عن ابن عباس رضي الله عنهما رقد لمحه الشعراء كثيراً كما قيل:
نسيت وعدك والنسيان مغتفر فاغفر فأوّل ناس أوّل الناس
ووزنه على الأوّل عال، وعلى الثاني فعل وعلى الثالث فلع، وأمّا الاستدلال بنويس فعورض بأشياء على كلام فيه في كتب اللغة، والأخذ أعثم من الاشتقاق، وهو كما في خصائص ابن جني صوغ الكلمة سواء كانت مشتقة أو جامدة من مادة توجد في تصاريفها، ويدور عليها المعنى، فلا يرد على المصنف أنّ الاشتقاق يكون في الأفعال والصفات، وهذا جامد ولا أنّ الفعل لا يشتق منه على الأصح، وعلم منه سقوط قول الإمام لا يجب في كل لفظ أن يكون مشتقاً من شيء آخر وإلا لزم التسلسل، فلا حاجة إلى جعل الإنسان مشتقاً. وقوله: (ولذلك سموا بشرا) أي لظهور جلودهم، ومنه البشرة لظاهر الجلد والأدم لباطنه لخلوها من ستر الشعر ونحوه مما هو في سائر الحيوانات، ويستوي في لفظ البشر الواحد وغيره في الأكثر، وحيث ورد في القرآن فالمراد ما يتعلق بجثته كقوله {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاء بَشَرًا} [الفرفان: 54] والجن مقابل به(1/301)
وسمي به لاجتنانه واستتاره، وكذا كل ما تدور عليه هذه المادّة. قوله: (واللام فيه للجنس إلخ) هذا تلخيص لما في الكشاف من قوله، ولام التعريف فيه للجنس، ويجوز أن تكون للعهد والإشارة إلى الذين كفروا المارّ ذكرهم، كأنه قيل ومن هؤلاء من يقول وهم عبد الذ بن أبيّ وأصحابه، ومن كان في حالهم من أهل التصميم على النفاق، ونظير موقعه موقع القوم في قولك نزلت ببني فلان فلم يقروني والقوم لئأم، ومن في من يقول موصوفة كأنه قيل، ومن الناس ناس يقولون كذا كقوله {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ} [الأحزاب: 23] إن جعلت اللام للجنس وإن جعلتها للعهد فموصولة كقوله ومنهم الذين يؤذون النبيّ فإن قيل أيّ فائدة في الإخبار عمن يقول: بأنه من الناس أجيب بأنّ فائدته التنبيه على أنّ الصفات المذكورة تنافي الإنسانية، فيتعجب منها ومن كون المتصف بها منهم، وردّ بأنّ مثل هذا التركيب يجيء في مواضع لا يتأتى فيها مثل هذا الاعتبار فلا يقصد فيها ألاً الاخبار بأنّ من هذا الجنس طائفة متصفة بكذا كقوله {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ} [الأحزاب: 23] فالأولى أن يجعل مضمون الجار والمجرور مبتدأ على معنى، وبعض الناس أو بعض منهم من اتصف بما ذكر، فيكون مناط الفائدة تلك الأوصاف ولا استبعاد في وقوع الظرف بتأوّل معناه مبتدأ، ويرشدك إليه قول الحماسي:
منهم ليوث لاترام وبعضهم مما قمشت وضمّ حبل الحاطب
حيث قابل لفظة منهم بما هو مبتدأ، وهو لفظ بعضهم، وقوله تعالى {مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ} [آل عمران: 110] وقد يقع الظرف فيه موقع المبتدأ بتقدير موصوف، كقوله تعالى {وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ} [الصفات: 164] فالقوم قدر والموصوف في الظرف الثاني، وجعلوه مبتدأ والظرف الأوّل خبرا، وعكسه أولى بحسب المعنى أي جمع منا دون ذلك، وما أحد منا إلاً له مقام معلوم لكن وقوع الاستعمال
على أنّ من الناس رجالاً كذا وكذا دون رجال يشهد لهم، وقد مرّ نبذ من هذا في قوله {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} .
(أقول) إذا أطبقوا على نصب ما بعد الظرف بعد دخول إنّ تعين كونه مبتدأ بلا تكلف لما
مرّ من جعل الحرف مبتدأ ميلاَ مع المعنى، وإن كان الرضي نقله عن العلامة، ولو كانت من بمعنى بعض كانت اسماً، ولم يقل به أحد من النحاة كما في غيره من الحروف فالأولى أن يقال إنّ بعض الناس كناية عن معنى مفيد مثل منحصر ومنقسم إذا وقع في محل التقسيم، ومثل معلوم لكنه يخفى ويستر لئلا يفتضحوا، وقد جنح إليه القائل انه تفصيل معنويّ لأنه تقدّم ذكر المؤمنين ثم ذكر الكافرين، ثم عقب بالمنافقين فصار نظير التفصيل اللفظي نحو ومن الناس من يعجبك قوله {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي} [لقمان: 6] فهو في قوّة تفصيل الناس إلى مؤمن وكافر ومنافق ولك أن تحمله على الثاني فالمعنى من يختفي من المنافقين معلوم لنا ولولا أنّ من الكرم الستر عليه فضحناه فيكون مفيدا وملوّحا إلى تهديدمّ وقد أبرز هذا القائل:
وأقول بعض الناس عنك كناية خوف الوشاة وأنت كلى الناس
والتبعيض يكون للتعظيم وللتحقير وللتقليل وللتكثير، ولذا قيل المراد بكونهم من الناس
أنهم لا صفة لهم تميزهم سوى صورة الإنسانية أو المراد أنّ تلك تنافي الإنسانية كما مرّ، وأمّا ما استشهدوا به، فلا دليل فيه لأنّ قوله {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ} ليس مما نحن فيه لأنّ شهادة الله للصادقين بالإيمان مفيدة، وليست كجعلهم من الناس وكذا بيت الحماسة والآية أمّا البيت، فلأنه يريد أنّ الأسود المعروفون بالجراءة من الرجال مع أنّ بعضهم كالهشيم المحتطب، وكذا الآية لما قال: إنّ المؤمنين المتقين قليل منهم من صدق وقع في الذهن التردّد في أكثرهم فبينه وصياتي لهذا تتمة، وأمّا تقديرهم الموصوف في الظرف الثاني، فلأنه إنما يقام مقام موصوفه إذا كان بعض اسم مجرور بمن أوفى قبله قال في التسهيل يقام النعت مقام المنعوت بظرف أو جملة بشرط كون المنعوت نعض ما قبله من مجرور بمن، أو في وإذا لم يكن كذلك لم يقم الظرف والجملة مقامه الآ في الشعر، فلا حاجة لما قيل من أنّ مناط الفائدة البعضية، وردّه بأنّ البعضية أوضح من أن يفيد الاخبار بها أو أنّ مناطها الوجود أي أنهم موجودون بينهم، أو أنهم من الناس لا من الجن لأنّ النفاق لا يكون منهم، أو المراد بالناس المسلمون، لأنه حيث ورد يراد به ذلك، والمعنى أنهم يعدونهم مسلمين أو أنهم(1/302)
يعاملونهم معاملة المسلمين فيما لهم، وعليهم لما فيه من التعسف. قوله: (ومن موصوفة إذ لا عهد إلخ) هذا برمّته من الكشاف كما سمعته آنفاً، وحاصله أنّ اللام في الناس إمّ للجنس، أو للعهد الخارجي لا الذهني، فإن كانت للجنس، فمن نكرة موصوفة وإن كانت للعهد فهي موصولة، واستشكله الناس قديماً وحديثاً بأنه لا وجه لهذا التخصيص لجواز أن تكون موصولة على تقدير الجنس، وموصوفة على تقدير العهد، وتبعهم ابن هشام في المغني، ثم اختلفوا فمعترف بالورود لأنّ بعض الجنس قد يتعين
بوجه مّا، وبعض القوم المعينين المعهودين قد يجعل باعتبار حال من أحواله كأهل محلة محصورين فيهم قاتل لم يعلم بعيتهءص نه قاتلاً، وان عرف شخص " فنقول في هؤلاء قاتل لهذا القتيل، ومجيب موجه لما ذكر على وجوه شتى، فقيل: إن هذا هو الأنسب فإذا اقتضاه المقام تعين في كلام البليغ، لأنّ المعرّف بلام الجنس لعدم التوقيت فيه قريب من النكرة وبعض النكرة نكرة فناسب من الموصوفة للطباق، والأمر بخلافه في العهد، ويدلّ عليه وروده على هذا الأسلوب نصاً في القرآن ففي قوله {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ} لما أريد الجنس جعل بعضهم رجا لاً موصوفين، وفي قوله عز وجل {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ} [التوبة: 61] لما كان مرجع الضمير طائفة معينة من المنافقين قيل الذين يؤذون، وتحقيق السرّ فيه أنّ قولك من هذا الجنس طائفة من شانها كذا يفيد التقييد بالجنس فائدة زائدة، أمّا إذا قلت من هذا الجنس الطائفة الفاعلة كذا فمن عرفهم عرف كونهم من الجنس أو لا وإذا قلت من هؤلاء الفاعل كذا حسن، لأنه زيادة تعريف، ولا يحسن فاعل كذا لأنه عرفهم كلهم إلاً إذا كان غرض في التنكير كستر عليه أو تجهيل، والكلام الآن في الأصل اهـ وتابعه السيد السند مع تمريضه ما حققه في غيره، وكذا الفاضل التفتازاني إلاً أنه استشهد له بكلام للإمام المرزوقي لم يزك شاهده، ثم قال: وقد يقال إنّ العلم بالجنس لا يستلزم العلم بابعاضه، فتكون باقية على التنكير فتكون من المعبر بها عن البعض نكرة موصوفة وعهدية الكل تستلزم عهدية أبعاضه، فتكون من موصولة، وهذا بعد تسليمه إنما يتم بما ذكر من وجه المناسبة، والاً فلا امتناع في أن يعبر عن المعين بنكرة لعدم القصد إلى تعيينه، وفي أن يعين بعض من الجنس الشائع فيعبر عنه بلفظ المعرفة اهـ.
(أقول) هذا زبدة ما ارتضوه، وقد وقع في بعض الشروح كلام طويل بغير طائل، ولذا أضرلب عنه المدقق في الكث ف ولم يلتفت لفته الفاضلان إيماء إلى ما فيه فاقتصروا على ما قصصناة لك وفيه بحث من وجوه.
(1 لأوّل) أنّ قوله في الكشف إنّ التقييد بالجنس يفيد إذا كانت من نكرة موصوفة فائدة
زائدة فيه أنّ كون كل قائل من جنى الناس، كالسماء فوقنا فأيّ فائدة فيه فتأمّل.
(الثاني) أنّ قوله ولا يحسن فاعل كذا لأنه عرفهم ليس بتام، لأنّ معرفنه لهم بأعيانهم لا تنافي جهل الفاعل من حيث كونه فاعلاَ، كما أوضحناه لك أو لا، وادّعاء الندرة لا يصمفو من كدر الإنكار.
(الثالث) قد علم مما ذكر أنّ قوله وعهدية الكل تستلزم عهدية أبعاضه غير ظاهر ولا حاجة لقول الفاضل فلا امتناع إلخ، وفي قوله بعد تسليمه إيماء إليه وبعد كل كلام مآل ما حاموا حوله أنه أنسب لا قطعيّ، كما صرّح به المدقق في الكشف، وان قيل عليه إنّ لفظ
الزمخشريّ يشعر بالوجوب لا الأنسبية، وإن كان مدعي بلا بينة فلا بد من الرجوع إليها، وكلهم حولها يدندن، ومطالب العربية يكتفي فيها بمثل هذه الأمور الخطابية وما جوّزه الشيخان واختاره أبو البقاء من كونها موصوفة قيل عليه أنها لا تكون موصوفة في الأكثر إلاً في موضع يختص بالنكرة كما في قوله:
رب من أنضجت غيظا صدره
بل ذهب الكسائي رحمه الله وهو الإيمان المقتدى به إلى أنها لا تكون موصوفة إلاً في
ذلك الموضع، فالوجه أنها موصولة وبه جزم في البحر، فلا ينبغي أن يخرّح كلام الله على وجه نادر أو منكر وهو كلام واه جدا، وقول المصنف إذ لا عهد تعليل لإرادة الجنس أو لمجموع الأمرين أي لم يجر لهؤلاء ذكر قبل حتى تكون الألف واللام عهدية ومن موصولة لعهد خارجيّ، أو ذكرفي وسيأتي منه ما يعلم جوابه، وقوله ناس تفسير لمن لأنها هنا مفردة لفظاً مجموعة معنى. قوله: (او للعهد إلخ) في بعض النسخ وقيل للعهد، وهو مناسب لتأخيره، والمعهود منهم ناس من(1/303)
المنافقين كانوا على عهده صلى الله عليه وسلم للعهد الذي في الموصول، والكفرة المصرّين مطلقا للإطلاق الذي في الناس، وقد مرّ بيان وجه اختيار الموصولية على هذا وما له وعليه، وجواز كونها موصوفة على تقدير العهدية، وقول أبي البقاء: إنّ هذا ضعيف بناء على اختياره إنّ الذين يتناول قوماً بأعيانهم والمعنى هنا على الإبهام، وقد ردّ بالمنع فإنها نزلت في عبد الله بن أبيّ وأضرابه، وابن أبيّ بصيغة التصغير كان رأس المنافقين بالمدينة وأصحابه أتباعه، فإنه كان رئيسا، وإنما حمله على النفاق حب الرياسة كما ذكره أصحاب السير ونظراؤ. أقرانه من أعلام النفاق وهو جمع نظير ككريم وكرماء. قوله: (فإنهم من حيث أنهم صمموا إلخ) جواب سؤال مصرّح به في الكشاف، وهو: فإن قلت: كيف يجعلون بعض أولئك والمنافقون غير المختوم على قلوبهم إلخ وقد اتفق شرّاحه على أن السؤال وجوابه على تقدير كون التعريف للعهد لا للجنس، أي كيف يجعل أهل التصميم على النفاق بعض الكفرة الموصوفين بالختم، وهم محضوا الكفر ظاهرا وباطنا كما يدل عليه قوله، ثم ثنى والمنافقون المذكورون غيرهم، نأجيب بأنّ الكفر المصمم بالإصرار المختوم به، والمغشى على القلوب والأبصار جمع الفريقين من الماحضين المصرّين والمنافقين المصممين معاً وصيرهما جنسا واحدا وهو من لا ينتهي عن الكفر أصلاَ، والمنافقون قد امتازوا عن الماحضين بما ذكر من الزيادة لكن ذلك لا يخرجهم عن الجنس الجامع بينهما وحاصله أنّ المراد بالذين كفروا على تقدير الجنس المصرون مطلقا، فيندرج فيهم المصممون على النفاق، وقوله ثنى بذكر الماحضين حملوه على أنّ الدنافقين لما أفردوا بالذكر كان المقصود بالذات من الحكم المشترك بيان حال الماحضين لا على أنهم المراد به مطلقاً فلا إشكال، وخروج المنافق الذي لا يصرّ لا يضرّ كالكافر الذي لم يدم على كفره وكصاحب الكبيرة بالنسبة للمتقين،
فالمذكور من الأقسام الثلاثة أعلى أعلامهم، وقد ذهب بعضهم في تقريره إلى خلافه فزيفوه كما في الحواشي الشريفية وإليه ذهب في الكشف، ثم قال: ولقد تعمق بعضهم في هذا المقام إلى أن جرّه صلفه إلى أن جعل اللام في المتقين للعهد زاعماً أنّ القسمة المثلثة تقتضي تقابل الثلاثة جنسا أو عهدا، وقد ضل عنه أنّ التقابل لا على الحقيقة، وإلاً لوجب عطف إنّ الذين كفروا على سالفه وقد سبق ذلك مستوفى في تقريره، ولا بدّ للجواد من كبوة فإن قلت على العهد إمّا أن يراد العهد الذهني، أو الذكري والخارجي، وليس المراد الأوّل كما لا يخفى ويرد على الثاني أنه لم يتقدم له ذكر قلت: لا يلزم في العهد الذكري أن يذكر بلفظه بل بما يساوبه، كما قرّووه في قوله تعالى {وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى} [آل عمران: 36] فإنّ قولها قبله نذرت لك ما في بطني محرّرا بمعنى الذكر، لأنهم لم يكونوا يحرّرون لخدمة بيت المقدس إلاً الذكور فلذا كان التعريف فيه عهدياً، ومن هذا القبيل ما نحن فيه إذ لا يشترط اتحاد اللفظ بل المعنى.
وقوله قدّس سرّه ولما كان المعهود هنا مذكورا بلفظ آخر أشار إلى ذلك الزمخشريّ بقوله: ونظير موقعه أي موقع الناس موقع القوم في قولك نزلت ببني فلان والقوم لئام إشارة لذلك، وفيما ذكره مخالفة لقول الشارح الفاضل الناس على تقدير العهد إشارة إلى ذلك الجنس لا إلى المصرّين المخصوصين بواسطة الاخبار عنهم باستواء الإنذار وعدمه، ولا إلى الخلص الذين كفروا ظاهرا وباطناً على ما ينساق إليه الكلام بعد امتياز المنافقين منهم، ففيه ردّ ضمني له وبوافقه ما في حواشيه على شرح التلخيص من أنّ المعهود الخارجي كضمير الغائب في تقدّم الذكر تحقيقاً أو تقديراً، وقد جوزوا عود الضمير إلى المطلق المذكور في ضمن المصرّح الحاضر فتدبر. وقوله: (في عداد) بكسر العين أي دخلوا في جملتهم، فيعدون منهم. وقوله: (واختصاصهم الخ) يعني أنّ هذه الضميمة صيرتهم نوعاً، كما يصير الحيوان بانضمام النطق إليه نوعاً منه. قوله: (فعلى هذا تكون الآية الكريمة تقسيماً للقسم الثاني) قيل: إنه ردّ لما يفهم من ظاهر الكشاف من جريان وجهي التعريف على تثليث القسمة لأنّ التثليث إنما يتأتى بجعل الذين كفروا ماحضين للكفر ظاهراً وباطناً، وحينئذ لا يصح جعل المنافقين منهم، أو توجيه له بأنّ قوله ويجوز أن يكون للعهد ليس عديلاً لقوله: ولام التعم يف فيه للجنس، فليسا معاً من تتمة تثليث القسمة بل العهد عديل لتثليث القسمة والجنس من تتمته، والحق معه(1/304)
وإن لم يتنبه له شارحو الكشاف وتكلفوا لتصحيحه بما لم ترض أن نلقي عليك شيئاً منه، وقد قدّمناه لك وجعلناه بمرأى منك ومسمع، ومن الناس من فسر كلام المصنف رحمه الله بقوله أي فعلى أن تكون اللام في الناس للعهد يكون قوله عز وجل {وَمِنَ النَّاسِ} إلخ تقسيماً للقسم الثاني، وهم الذين محضوا الكفر ظاهراً وباطناً، وفيه ما فيه من ركاكة المفى المشار إليه آنفاً لعدم صدق المقسم على القسم هنا مع وجوب صدق الجنس على النوع والمقسم على القسم وهذا يشير
إلى أنه اعتراض على الزمخشريّ في التثليث، وأنه على هذا ينبغي أن تجعل القسمة ثنائية وليس هذا كله بشيء ولو سلم أنّ مراده الاعتراض كان واردا عليه، فإنه ثلث القسمة وأتى بما ذكره افي مخشريّ أولاً على أنه مرضيّ له وليس في سياقه ما يدل على أنه اعتراض، فالحق أن يقال إنّ مراده أنّ القسمة ثنائية بحسب الحقيقة ثلاثية بعد اعتبار التقييد والتقابل، كما تقدّمت الإشارة إليه لأنهم ذكروه بعد التقسيم وسكتوا عنه، فالظاهر جريانه على الوجوه، وهذا إنما يتأتى إذا لم يكن الذين كفروا للعهد على أنّ المراد به ناس باعيانهم فتدبر. قوا 4: (واختصاص الإيمان بالله الخ) أي فائدة اختصاص الإيمان بالله واليوم الآخر بالذكر أو سببه تخصيص إلخ. والمراد بيان وجه تخصيص الإيمان بهما بالذكر من بين جملة ما يجب الإلمان به بأربعة أوجه بعضها ناظر إلى الحكاية، وبعضها ناظر إلى المحكيّ وقوله بالذكر إشارة إلى أنّ التخصيص ليس بمعنى الحصر، وهو أحد معنييه، ويسمى تخصيصاً ذكرياً وتخصيصاً بالإثبات، وهذا صريح في أنّ بالله وباليوم الآخر صلة الإيمان لما مرّ من أنه يتعدّى بالباء، وما قيل: من أنه لا تخصيص هنا لأنّ قوله بالله إلخ قسم منهم أو منه تعالى عدول عن جادّة الصواب بلا داع كما لا يخفى وما تكلفه لتوجيهه غنيّ عن الردّ وكون الإيمان بالله والحشر والنشر أعظم المقاصد الاعتقادية وأجلها ظاهر مع أنّ من آمن بالله على ما يليق يجلال ذاته آمن بكتبه ورسله وشرائعه، ومن علم أنّ إليه المصير استعدّ لذلك بالأعمال الصالحة. قوله: (اجتاؤوا الإيمان من جانببه إلخ) أي جمعوه من أوّله وآخره من الحيازة وهي الضم والجمع ومنه تحيز وتجوز إذا صار في حيز وأصله في كلام العرب العدول من جهة إلى أخرى كما قال تعالى {أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ} [الأنفال: 6 ا] كما سيأتي بيانه، والقطر بضم القاف وسكون الطاء المهملة تليها راء مهملة بمعنى الجانب، والإحاطة بقطربه وحيازته من جانبيه كناية عن جميعه كما يقال من أوله إلى آخره، والإيمان بهما إيمان بالمبدأ والمعاد اللذين هما طرفا الوجود، وهذا هو الوجه الثاني، وهو بالنظر إلى المحكي كما يشير إليه قوله ادّعاء.
وأمّ ما قيل من أنه على هذا ينبغي أن يقالى أو رد ذان، لأنّ الوجهين الأخيرين لا يجامعانه بوجه وجعلهما جانبي الإيمان إنما يصح لو كان اليوم الآخر آخر أركان الإيمان، وليس كذلك لأن آخر أركانه البعث بعد الموت كما اشتهر في تفصيل الإيمان، فليس بشيء لما بيناه لك فتدبر. قوله: (وإءلذان بأنهم منافقون إلخ) الإيذان الإعلام إعلاما ظاهرا لأنه ذكر في معرض
474
ذمّهم وهو حق فعلم أنّ ظاهره غير مراد وهذا هو الوجه الثالث، وهو بالنظر إلى الحكاية، ولذا صدّره بالإيذان ونفاقهم فيما ذكر لأنهم أظهروا الإيمان بما ذكر وظنوا الإخلاص فيه، وما في ضمائرهم لا يوافق ما أظهروه، فهو ضرب من النفاق لعدم موافقة ظاهره لباطنه لأنهم كانوا قبل إظهار الإسلام يهودا فإيمانهم كلا إيمان لقولهم بتشبيه الله بغيره المستلزم للتجسيم، وقول آبائهم {اجْعَل لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [الأعراف: 138] ونسبة الولد له بقولهم عزير ابن الله فإقرارهم بالآخرة كلا إقرار لزعمهم أنه لا يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى وأنّ النار لن تمسهم إلا أياما معدودة قليلة، واعتقادهم أنّ أهل الجنة يتنعمون باستنشاق نسيم الروائح بدون أكل وشرب، ومع ذلك يظهرون أنهم يؤمنون، كما نؤمن فإخلاصهم بحسب زعمهم ونفاقهم باعتبار نفس الأمر، لأنّ النفاق مخالفة الباطن للظاهر فلا يتوهم أنه لا يتصوّر اجتماع الإخلاص والنفاق، وهم منافقون حقيقة ويهود اسم جنس جمعيّ ليهوديّ، وهو مما يفرق بينه وبين واحده بالتاء كتمر وتمرة أو بياء النسبة كزنج وزنجيّ، وأمّا يهود مفردا فعلم للقبيلة غير منصرف ويرون بضم الياء من الإراءة أي يظهرون لهم. قوله: (وبيان لتضاعف خبثهم إلخ) التضاعف والإفراط الزيادة، وهذا الوجه هو الرابع، وهو متعلق بالحكاية ويجوز تعلقه بالمحكي أيضا، والمراد أنهم قصدوا(1/305)
بتخصيص الإيمان بهما التعريض بعدم الإيمان بغيرهما من رسالة خاتم الرسل صتى ألله عليه وسلم وما بلغه ولذا سماه كفراً، ومن خلط فيه أنهم مع إثبات الصانع يصفونه بما هو منزه عنه لم يصب لأنه يوّل بالآخرة لما قبله، وهذا حينئذ لو قصد حقيقتة لم يكن إيمانا لأنه لا بد من الإقرار بنبوّته صلى الله عليه وسلم وإبطال ما كانوا عليه فكيف، وهو مخادعة وتلبيس منهم. وقوله: (وعقيدتهم عقيدتهم إلخ) جملة حالية أي معروفة مشهورة كقوله شعري شعري وجوز نصب الأوّل عطفا على اسم أنّ والظاهر الأوّل، وتمويه بمعنى تلبيس وإظهار لما لا حقيقة له من قولهم موهت الشيء إذا طليته بماء الذهب أو الفضة، وقول مموّه أي مزخرف ممزوج من الحق والباطل. قوله: (وفي تكرير الباء إلخ) يعني أنهءررل عن الظاهر، وهو عدم إعادة الجار إذ! عطف على اسم ظاهر مثله، وهو الأظهر الأخصر، لأنهم لمخادعتهم وتلبيسهم أظهروا أنّ إيمانهم إيمان تفصيليّ مؤكد قوي، لأنّ إعادة العامل تقتضي أن متعلقه كالمعد، كما قاله سيبوبه في نحو مررت بزيد وبعمرو، فيفيد ما ذكر وهو ظاهر. قوله: (والقول إلخ) هو في الأصل مصدر كما أشار إليه المصنف رحمه الله بقوله التلفظ، وأمّا تخصيصه بالمفيد، فهو أحد الأقوال في مسماه لغة فإن أريد بها مطلق الإفادة
يكون بمعنى الموضوع احترازا عن المهمل كدير فلا يسمى قولا وإن سمي لفظاً فالقول أعم منه، وهذا ما اختاره ابن مالك رحمه الله، فيعمّ الكلام والكلمة والكلم، وان أريد الفائدة التامّة أي ما شانه ذلك فهو احتراز عن الكلمة والمركب الناقص فلا يسمى مثله قولا وقد صرّح به الحوفي في تفسيره وقال: القول حقيقة المركب المفيد وإطلاقه على المفرد والمركب الذي لا يفيد مجاز مشهور، وقال ابن معطي: إنه حقيقة في المفرد واطلاقه على المركب مجاز، وقيل حقيقته المركب مطلقاً أفاد أم لم يفد وهو مجاز في غيره وقيل إنه مرادف للفظ حقيقة فيعمّ الموضوع مركباً ومفردا، والمهمل كما حكاه أبو حيان في شرح التسهيل، وقال الرضي: القول والكلام واللفظ من حيث أصل اللغة بمعنى يطلق على كل حرف من حروف المعاني والمباني وعلى ما هو كثر منه مفيدا كان أو لا لكن القول اشتهر في المفيد بخلاف اللفظ، واشتهر الكلام في المركب، من جزأين فصاعدا فالأقوال خمسة، ثم تجوّز به عن المقول كالخلق بمعنى المخلوق مجازا اشتهر حتى صار حقيقة عرفية، فلا يرد على المصنف أنّ قوله وللرأي والمذهب مجا أايفهم منه أنّ ما قبله حقيقة، وتفسيره له بالتلفظ يخالفه، وهذا إن جعل قيدا لما عنده، فإن جعل قيداً لما يعد يقال فلا قيل ولا قال ويستعمل في المعنى المتصوّر في الذهن المعبر عنه باللفظ، وهو المسمى بالكلام النفسيّ في عرف الناس، وبه فسر قوله تعالى {يَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ} [المجادلة: 8] وقد صرّح بعض أهك الكلام بأنّ إطلاق الكلام والقول على النفسيّ حقيقة وان خالفهم فيه كثير، وأوّله بعضهم ويطلق على الرأي والمذهب فيقال قال: بكذا إذا ذهب إليه، والرأي قريب من المذهب وقد يفرق بينهما بأنّ الرأي أعتم من المذهب، لأنه يكون في الشرعيات فقط، وأصله مكان الذهاب أو نفس الذهاب، ثم نقل عرفا لمعناه المشهور، واطلاقه على الرأي مجاز علاقته السببية، لأنه سبب لإظهاره والإعلام به كما قاله ابن أبان. قوله: (والمراد باليوم الآخر إلخ) هو على الأوّل من الحشر إلى ما شاء الله وسماه آخراً لأنه ليس بعده يوم آخر كما قال ابن شبل في رائيته المشهورة في صفة الدنيا: فمن يوم بلا أمس ليوم بغيرغد إليه مايسار
يعني بالأوّل يوم الولادة وبالثاني يوم الموت، أو لتأخره عن الأيام المنقضية من أيام الدنيا، وفي قوله إلى ما لا ينتهي تسامح مشهور كما في قولهم إلى ما شاء الله، فسقط ما قيل من أنّ ما لا ينتهي ليس نهاية اليوم الآخر فالواضح أن يقول ما لا ينتهي من وقت الحشر والأمر فيه سهل، وعلى الثاني هو من وقت الحشر إلى مستقر أهله وسمي آخراً لأنه آخر وقت له حد وطرفان، لأنّ أيام الدنيا محدودة، لأنّ اليوم عرفا من طلوع الشمس إلى غروبها، وشرعا من طلوع الفجر إلى الغروب، وعند المنجمين من نصف النهار إلى نصف الليل، ويكون اليوم بمعنى مطلق المدّة، ويوم الحشر له ابتداء وانتهاء، فهو محدود أيضا كما قال تعالى {وَإِنَّ يَوْمًا عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ} [الحج: 47] وما بعده مما لا يتناهى، وهو المسمى بالأبد المطلق. قوله: " نكار ما اذعوه إلخ) هو قولهم(1/306)
آمنا إلخ والانتحال بالحاء المهملة أن تنسب لنفسك ما ليس لك، وماكه إلى الكذب من النحلة، وهي الدعوى وهي عند الإطلاق يتبادر منها الدعوى الباطلة، والظاهر أنّ قوله إنكار ما ادعوه ناظر إلى ادّعائهم الإخلاص وإحاطة عقائدهم بالإيمان من جميع جهاته. وقوله: (ونفي ما التحلوا) ناظر إلى ما أشار النظم إليه من حشو عقائدهم الفاسدة بالتشبيه وما يضاهيه ومن لم يدقق النظر فيه قال: إنه عطف تفسيريّ فلم يحم حول الحمى:
فيا دا- ها بالخيف إنّ مزارها قريب ولكن دون ذلك أهوال
ولذا عدل عن قوله في الكشاف القصد إلى إنكار ما ادّعوه ونفيه، وهو أخصر. قوله:
(لكنه عكس إلخ) لأنّ ما قالوه في مأن الفعل لا الفاعل، وما هنا في شأن الفاعل لا الفعل أي في بيان أنه بحيث لم يصدر عنه ذلك الفعل سواء قصد بذلك اختصاصه بنفي الفعل، كما سيأتي في قوله تعالى {وَمَا أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ} [هود: 91] أو لم يقصد فإنه لا يطابق ردّ دعواهم، والمطابق أن يقال: وما آمنوا. والجواب أنّ العدول إلى الاسمية لسلوك طريق الكناية في ردّ دعواهم الكاذبة فإنّ انخراطهم في سلك المؤمنين و 5 ونهم طائفة من طوائفهم من لوازم ثبوت الإيمان الحقيقي لهم وانتفاء اللازم أعدل شاهد على انتفاء ملزومه ففيه من التوكيد، والمبالغة ما ليس في نفي الملزوم ابتداء، وكيف لا وقد بولغ في نفي اللازم بالدلالة على دوامه المستلزم لانتفاء حدوث الملزوم مطلقا وكد ذلك النفي بالباء أيضاً فليس في هذه الاسمية تقديم لقصد الاختصاص أصلاَ ولا لجعل الكلام في شأن الفاعل أنه كذا، أو ليس كذا قطعاً بل المقصود بها ما ذكرناه من سلوك طريق هو أبلغ وأقوى في ردّ تلك الدعوى، ونظيرها في سلوك " فذه الطريقة وما هم بخارجين منها كذا أفاده الشراح، وزاد السعد روّح الله روحه قوله: لا يقال: الاسمية تدل على الثبات فنفيها يفيد حينئذ نفي الثبات لإثبات النفي وتأكده لأنا نقول ذلك إذا اعتبر إثبات بطريق التأكيد والدوام ونحو ذلك، ثم نفي وهنا اعتبر النفي أو لا، ثم أكد وجعل بحيث يفيد الثبات، أو الدوام وذلك، كما أنّ ما أنا سعيت في حاجتك لاختصاص النفي لا لنفي الاختصاص وبالجملة فرق بين تقييد النفي ونفي التقييد، وقد قيل في تقرير هذا الجواب أنّ الكلام من قبيل الكناية الإيمائية للتلاجد لأنّ الضمير لما أولى حرف النفي وحكم على الكفار بإخراج ذواتهم عن طوائف المؤمنين لزم من ذلك نفي ما ادّعوه من الإيمان على القطع والبت، وقيل: يمكن أن يجري الكلام على التخصيص ويكون الكلام في الفاعل، فإنّ الكفار لما رأوا أنفسهم أنهم مثل المؤمنين في الإيمان الحقيقي وادّعوا موافقتهم قيل في جوابهم، وما هم بمؤمنين على قصر الإفراد لأنهم ادّعوا الشركة فرد قولهم باختصاص المؤمنين
بذلك، وقرّره بعض الأفاضل بأنّ إثبات الإيمان بالجملة الفعلية لا يطابقه نفيه بالجملة الاسمية والجواب أنّ المقصود نفي ما ادّعوه، وهو يحصل بهما والاسمية أبلغ، ولا يخفى ما فيه من القصور والفضل للمتقدّم.
(أقول) هذا ملخص القيل والقال لا مخلص الإفهام من شرك الإشكال، وتلخيص تخليصمه أنه يرد أولا على ما قيل: من أنّ انخراطهم في سلك إلخ ما سمعته آنفا أنه إنما يصح لو قيل: وما هم من المؤمنين إذ ليس قوله {وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ} [البقرة: 8] مثل قوله: وما هم من المؤمنين لأنّ هذا يفيد أنهم ليسوا من عدادهم، وجملتهم على ما قرّروه في مثل قوله {وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ} [التحريم: 12] حيث عدل عن كانت قانتة الأخصر الأظهر إليه لما ذكر على ما في شرح المفتاح ويجاب عنه بأنّ المبالغة من تقديم الفاعل وإيلائه حرف النفي لأنّ نفي فاعليتهم يستلزم نفي صدور الفعل منهم على أبلغ وجه سواء جرّ الوصف بالباء أو بمن فلا يرد عليهم شيء كما توهم ويرد عليه ثانياً أنه قال: فليس في هذه الاسمية تقديم لقصد الاختصاص أصلاً، وقد عرفت أنه في النظم أثبت الإيمان للمؤمنين على أتم حال ونفي عن هؤلاء ذلك بأبلغ وجه ولا اختصاص أقوى مصتفهذا، ولا بدّ من القول به للزومه لتثليث القسمة السابق، ويدفع بأنّ المراد أنه لم يقصد الحصر، وإنما قصد تأكيد نفي الإيمان عن هؤلاء وهو لا ينافي صحة الحصر في نفسه لأنّ الكلام البليع كثيرا ما يلوح بأمور لازمة للمقام، وإن لم تقصد منه بالذات، ويرد هنا ثالثا أنه قال في الكشاف فقد انطوى تحت الشهادة عليهم بذلك نفي ما انتحلوا إثباته(1/307)
لأنفسهم على سبيل القطع والبت ونحوه قوله تعالى {يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُواْ مِنَ النَّارِ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنْهَا} [المائدة: 37] هو أبلغ من قولك وما يخرجون منها، ولما صرح في تفسير هذه الآية حيث قال ثمة هم هنا بمنزلتها في قوله هم يفرشون اللبد كل طمرّة.
في دلالته على قوّة أمرهم لا على الاختصاص، اهـ. علم أنه لا اختصاص هنا أيضاً،
كما صرّح به الفاضلان في شرحه، وأنّ من حمله عليه لم يصب لغفلته عما هناك، والمصنف رحمه الله لما ترك هذا رأساً علم أنه ذاهب إلى الاختصاص، أو مجوز له وقد تردد فيه بعض أرباب الحواشي هنا إلا أنه رمية من غير رام، وفي عروس الأفراح: أنّ ما ذكره الزمخشرقي في قوله تعالى {وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنْهَا} [الماثدة: 37] دسيسة اعتزالية لأنه لو جعل للاختصاص لزمه تخصيص عدم الخروج من النار بالكفار، فيلزم خروج أص! ، ب الكبائر كما هو مذهب أهل السنة والزمخشريّ أكثر الناس أخذاً بالاختصاص في مثله، فإذا عارضه الاعتزال فزع منه اهـ ويحتمل أنّ المصنف إنما طرحه لهذه النكتة ولم يتنبه له أحد من أرباب الحواشي مع أنّ دأبه أنه لا يعدل عما في الكشاف إلا لمقتضى. قوله: الأنّ إخراج ذواتهم من عداد المؤمنين إلخ) العداد بكسر العين ما يعد يقال هو عديد بني فلان وفي عدادهم أي يعد فيهم
وهذا الإخراج مستفاد من إيلاء الضمير حرف النفي، كما قرّرناه لك فلا يرد عليه أنه إنما يفيد ذلك لو كان النظم من المؤمنين وليس كذلك وبينهما فرق ظاهر. وقوله في التفسير الكبير: نظيره أنّ من قال: فلان ناظر في المسئلة الفلانية، فإن قلت: إنه لم يناظر فيها فقد كذبته، وأمّا لو قلت أنه ليس من المناظرين فقد بالغت في تكذيبه يعني أنه ليس من هذا الجنس، فكيف يظن به ذلك، فكذا ههنا إن أراد أنهما سواء معنى لم يصح وان أراد أنه يشبهه، وإن لم يكن منه صح ومن لم يتنبه له أورده هنا فتدبر. قوله: (وأطلق الإيمان إلخ) الظاهر المطابق لما في الكشاف أنه ابتداء كلام لفائدة مستقلة ويجوز جعله متعلقاً بقوله ولذلك أي لأجل التأكيد أتى به مطلقاً عما قيدوه من الإيمان بالله واليوم الآخر، لأنّ نفي المطلق يستزلم نفي المقيد لعمومه، كما أشار إليه بقوله ليسوا من الإيمان في شيء فهو أبلغ وآكد وحينئذ إمّا أن ينزل منزلة اللازم أو يحذف مفعوله للعموم المذكور، ولما كان التقدير محتملا هنا بقرينة وقوعه في جواب المقيد ذكره مؤخراً إيماء لمرجوحيته، ثم إنّ من الإطلاق أيضا ذكره باسم الفاعل الذي ليس بمقيد بزمان، فيشمل نفيه جميع الأزمان، ولو قيل ما آمنوا كان لنفي الإيمان في الماضي، والمقصود أنهم ليسوا متلبسين بشيء من الإيمان في شيء من الأوقات، وفي كلام المصنف رحمه الله إشارة إلى هذا ولم يصرّج به كما في البحر لظهوره. وقوله: (بما قيدوا به) الظاهر أنّ لفظ قيدوا مبنيّ للمعلوم، وتقييدهم بناء على الظاهر المتبادر منه من أنه للتخصيص، فإذا كان ادّعاء لحيازة جميع أجزاء الإيمان من جوانبه فهو بحسب ظاهره تقييد، أو هو تقييد بجميع ما صدق عليه، فلا وجه لما قيل من أنه حينئذ ليس بتقييد مطلقاً، فإنه إطلاق على إطلاق وتقييد على تقييد، فالأولى أن يقرأ قوله بما قيدوا به على صيغة المجهول، ولا يخفى ما فيه فتأمّل. قوله: (والآية تدلّ عفى أن من اذص الإيمان إلخ) مذهب الكرامية أنّ الإيمان هو التصديق باللسان فقط، لكنهم قالوا: إن طابق القلب، فهو مؤمن ناج، والا فهو مؤمن مخلد في النار ولذا قيل ليس للكرامية خلاف في المعنى، والإمام تبعاً للماتريدي في التأويلات استدل بهذه الآية على إبطال مذهبهم لأنها إخبار عنهم بأنهم قالوا ذلك بألسنتهم وأظهروا خلاف ما في قلوبهم، وقد قال تعالى إنهم ليسوا بمؤمنين فهذه الآية ونحوها تدل على أنّ الإيمان تصديق القلب وحده، أو مع اللسان فكيف يقول الكرامية إنه التصديق اللساني فقط ورذه المصنف رحمه الله بأنّ الآية إنما تدل على أنّ من ادّعى الإيمان بلسانه، وخالف لسانه قلبه ليس مؤمنا أمّا على تقدير كون تعريف الناس للعها-، فظاهر لأنهم من المختوم على قلوبهم وأمّا على أنها للجنس فلأنّ الله كذبهم وليس ذلك إلا لعدم مطابقة التصديق القلبي للساني، فلا يدل على أنّ من أقرّ بلسانه، وليس في قلبه ما يوافقه، أو ينافيه ليس بمؤمن وهو محل النزاع، فكيف يكون
حجة عليهم وقد أورد عليه أنّ المذكور في المقاصد، وغيره من كتب الكلام أنّ مذهبهم القول بأنّ من أضمر الكفر وأظهر الإيمان مؤمن عندهم مطلقا، والآية حجة عليهم بلا شبهة، وقد نقل الإمام كغيره عنهم(1/308)
أنّ المنافق مؤمن عندهم، ومن مذهبهم أنّ الإيمان لا يلزم أن يكون منجياً من العذإب المخلد وذهب غيرهم إلى أنه لا يسمى إيمانا إلا المنجي وقيل: إنّ المصنف رحمه الله دقق النظر في مذهبهم فرأى أنّ المناق مخلد في النار عندنا وعندهم وأمّا في الدنيا فأحكام الإسلام جاربة عليهم عندنا وعندهم، فليس بيننا وبينهم اختلاف إلا فيمن تلفظ بالشهادتين فارغ القلب عن النفي والإثبات، فعندهم هو مؤمن ناج وعندنا ليس بمؤمن وهو كلام حسن. قوله: (الكرامية) هم فرقة معروفة منسوبة إلى رئيسهم أبي عبد الفه محمد بن كرام النيسابوري واختلف في اسم أبيه فقيل: إنه بفتح الكاف وتشديد الراء، لأنّ أباه كان يحفظ الكرم، ويقال لحافظه كرام كما قاله السمعاني، وقال المطرزي أخبرني الثقات أنه بفتح الكاف، وتخفيف الراء بزنة حذام وقطام، وكذا صححه الذهبيّ وابن المرحل واستشهدوا بقول أبي الفتح البستي رحمه الله تعالى:
إنّ الذين بجمعهم لم يقتدوا بمحمد بن كرام غيركرام
الرأي رأي أبي حنيفة وحده والدين دين محمد بن كرام
قوله (الخدع أن! ومم غيرك إلخ) كذا في أكثر النسخ بغير ألف وفي بعضها الخداع بالألف والخداع والخدع بكسر الخاء وفتحها بمعنى، وفي المصباح خدعته خدعاً والخدع بالكسر الاسم منه يعني أنه اسم مصدر بمعناه والخديعة مثله، وفي الكشاف والخدع أن يوهم صاحبه خلاف ما يريد به من المكروه، وزاد المصنف تبعاً للراغب في مفرداته قوله: لتنزله عما هو فيه، أو عما هو بصدده كما هو في النسخ الصحيحة بالخطاب مضارع من التنزيل أو الإنزال، وهو مجاز عن صرفه عما هو متصد له، وهو بمعنى ما في بعض النسخ وهو قوله لتزله من الأزلال وقد فسر هنا بالإسقاط والإزالة، وهو تفسير له بلازم معناه وسيأتي تحقيقه في قوله تعالى {فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ} [البقرة: 36] وقال الإمام: هو إظهار ما يوهم السلامة، وابطان ما يقتضي الإضرار بالغير أو التخلص منه فقيل إنه إشارة إلى أنّ ما في الكشاف غير جامع، وقال الطيبي: لعل توله من المكروه يشمل التخلص منه لأنّ العدوّ يكره خلاص عدوّه، وقال قدس سرّه: هو أن يوهم صاحبه خلاف ما يريد به من إ أصكروه، ويصيبه به كما يدل عليه تفسير أعحله المأخوذ منه ويؤيده قوله مخدوعا ومصاباً بالمكروه من وجه خفيّ، وهذا معنى لغويّ لا عرفيّ كما قيل، وقال المدقق في الكشف: التحقيق أنّ الخاع صفة فعلية قائمة بالنفس عقيب اسنحضار مقدمات في الذهن متوصل بها توصلا يستهجن شرعا، أو عقلاَ أو عادة إلى استجرار منفعة من نيل معروف لنفسه، أو إصاية مكروه لغيره مع خفائهما
على الموجه نحوه القصد بحيث لا يتأتى ذلك النيل أو الإصابة بدونه إذ لو تأتى لزم فوت غرض آخر حسب تصوّره والغنيّ عن كل نيل وإصابة واستجرار منفعة لنفسه لا يصح عليه ذلك، وهو متعال عن العمل واستحضار المقدّمات، وأمّا أنه لا يخاع، فهو أظهر لأنه جل عن أن يحوم حول سرادقات جلاله نقمى الانفعال وخفاء معلوم مّا عليه اهـ. فعلى هذا يكون الحرب خدعة وخدعة الأب البار لولاه هـ واستدراج بعض الناس إلى الخير مجاز، وهذا ردّ على ما قيل من أنّ من الخداع ما يكون حسناً. قوله: (عما هو فبه أو عما هو بصدده) هكذا صححه أرباب الحواشي ووقع في نسخة عندي عما هو بصدده، وكانه من إسقاط النساخ وصدد بفتحتين بمعنى القرب يقال هو بصدد كذا إذا تصدّى لفعله وقرب من تناوله أي لتصرفه عن مطلوبه الحاصل له، أو عن مطلوبه الذي هو بصدد تحصيله فمعنى الخداع الإيهام المذكور مع قصد الإزلال سواء حصل إزلاله أم لا، ولا يرد عليه ما قيل من أنّ الظاهر أنّ الإزلال بالفعل معتبر في معنى الخداع في عرف العامّة، كما يدل عليه ما بعده لأنّ ما ذكره على تقدير صحته لا ينافي ما ذكره المصنف رحمه الله في معناه لغة وحقيقة، كما لا يخفى وأوهم يتعدى إلى مفعولين يقال: أوهمته الشيء أهمه أوقعته في خلده، وأوهمنيه غيري ووهمنيه. قوله: (من قولهم خدع الض! ب إذا إلخ) الضبّ حيوان: صروف، وخدع الضبّ بمعنى توارى واختفى وضب خادع وخاع بفتح فكسر بزنة حذر وكتف مبالغة خادع، والحارس من الحرس، وهو صيد الضب خاصة وخارش الضباب يحرك يده على حجره ليظته حية فيخرج ذنبه ليضربها فيؤخذ. وقولهم: هو يحترس لعياله أي يكتسب مجاز منه فلا(1/309)
يرد يرد عليه كما توهم وخداع الضب لأنه يتخذ لحجره منافذ يسترها، ويرقق سترها فإذا رأى حارشه أوهمه أنه يقبل عليه، ثم يخرق إحدى منافذه ويخرج منها، وفي الصحاح والنافقاء إحدى حجرة اليربوع يكتمها ويظهر غيرها، وهو ئوضع يرققه فإذا أتى من قبل القاصعاء ضرب النافقاء برأسه، فانتفق أي خرج والجمع النوافق والنفقة أيضا مثال الهمزة النافقاء تقول منه نفق اليربوع تنفيقا ونافق أي أخذ في نافقائه ومنه اشتقاق المنافق في الدين اهـ. وبهذا عرفت موضع الخداع من المنافق فإنّ له هنا موقعا يذوقه من شمّ رائحة الإعجاز وقال الراغب خاع الضب استتر في جحره، واستعمال ذلك فيه لصا اعتقدوا من أنه يعدّ عقرباً يلدغ من يدخل يده في جحره حتى قيل العقرب بوّاب الضب وحاجبه، ولاعتقاد الخديعة فيه قيل أخدع من ضبّ، وقوله من باب آخر إشارة إلى ما ذكرناه من أنه يتخذ لجحره منافذ متعدّدة وقلت فيه:
خدام المرء وصاحبه في لؤم الطبع يناسبه
والعقرب قالوا في مثل بوّاب الضث وحاجبه
وقوله: وأصله الإخفاء يعني أنّ معن! الخداع لغة ما مرّ وأصل معناه بحسب اشتقاقه ما
ذكر، وهو الإخفاء لتعدبه في أكثر معانيه فإنّ المنافق يخفي مقصده والضبّ يخفي مخرجه، وما قيل من أنّ الظاهر أن يقول الخفاء فإنّ أهل اللغة يقولون: أخاع إخداعا بمعنى أخفى إخفاء، فيكون خاع بمعنى خفي لا وجه له أصلا وقال ابن عطية: أصله الفساد، وحكى ما ذكوه المصنف رحمه الله بصيغة التمريض، وكلام الراغب يوهم أنّ أصل معناه التلوّن. وقوله: (ومنه المخاع للخزانة) أي مما أخذ من الخاع بمعنى الإخفاء المخاع بتثليث الميم كما في المصباح وفتح الدال، وقال الراغب: المخاع بيت في بيت كأنّ بانيه جعله خادعاً لمن رام تناول ما فيه وقالوا أصله الضم وكسر لتوهم أنه آلة، والخزانة بكسر أوّله ما يخبأ فيه المتاع، ولذا قيل الخزانة لا تفتح، والأخدعان تثنية أخاع، وهما عرقان في جانبي العنق وشعبة من الوريد تخفي وتظهر، فلذا توهم فيهما الخداع فسميا بذلك ويطلق على جانب العنق مجازاً. قوله: (والمخادعة تكون بين اثنين إلخ) المعروف في المفاعلة أن يفعل كل أحد بالآخر مثر ما يفعله به، فصيغة المخادعة تقتضي أن يصدر من كل واحد من الجانبين فعل يتعلق بالآخر، وخاع المنافقين لله، وهو أن يوقعوا في علمه خلاف ما يريدونه به من المكروه، ويصيبونه مما لا خفاء في استحالته لأنه لا تخفى عليه خافية، وخاع الله إياهم بأنّ يوقع في أوهامهم خلاف ما يريدون من المكاره ليغتروا، ثم يصيبهم به لا يصدر منه تعالى أمّا عند المعتزلة، فلأنه قبيح بناء على أصلهم الفاسد، ولذا ترك المصنف رحمه الله التعرّض له وأمّا عندنا معاشر أهل السنة فلأنه يمتنع أن ينسب إليه تعالى حقيقة لما يوهمه ظاهره من أنه إنما يكون عن عجز عن المكافحة، وإظهار المكتوم لأنه المعهود منه في الإطلاق كما ذكره في الانتصاف، ولذا زبد في تفسير الخاع مع استشعار خوف، أو استحياء من المجاهرة، وأيضا من المعلوم أنّ حاله تعالى مع المنافقين لم يكن حقيقة هذا المعنى المذكور، وأنّ المؤمنين وإن جاز أن يخدعوا من غير أن يرجع إليهم في ذلك نقصان لم يجز أن يقصدوا خدعهم، فإنه غير مستحسن بل مذموم مستهجن وقوله وخداعهم لم يقل فخداعهم بالفاء التفريعية لأنه ليس علة لما قبله، كما لا يخفى ولا معلولا له لأنه علله بقوله لأنه إلخ فلا وجه لما قيل من أنه كان الظاهر أن يقول: فخداعهم لتفرّعه على ما قبله مع أنه لو صح، فالمصنف رحمه الله لم يقصده لخفائه. قوله: (لأنه لا يخفى عليه خافية إلخ الما اقتضت المفاعلة أنّ المنافقين يخدعون الله وأنّ الله يخدعهم، وكل منهما غير مراد وغير مستقيم أمّا الثاني فظاهر، وأمّ الأوّل فلأنه تعالى لا يخفى عليه خافية، فكيف يخدعه غيره، والمنافقون عالمون بذلك أيضاً لأنهم من أهل الكتاب. وقوله: (ولأنهم لم يقصدوا خديعته) إشارة لهذا فإنهم إذا تحققوا أنه لا يخاع بالضم لم يقصدوه إذ العاقل لا يقصد ما تحقق امتناعه ولذا قال في شرح التأويلات لا أحد يقصد مخادعة الله مع إقراره بأنه خالقه، ولئن سألتهم من خلقهم ليقولهن الله، وهذا كما قاله بعض الفضلاء
ردّ على ما قاله الزمخشريّ في الجواب الثاني من الأربعة حيث قال أن يكون ذلك ترجمة عن معتقدهم، وظنهم أن الله تعالى ممن يصح خداعه لأنّ من(1/310)
كان ادّعاؤه الإيمان بالله نفاقاً لم يكن عارفاً بالله ولا بصفاته، ولا أنّ لذاته تعلقاً بكل معلوم، ولا أنه غنيّ عن فعل القبائح فلم يبعد من مثله تجويز أن يكون الله في زعمه مخدوعا! ومصابا /. بالمكروه من وجه خفيّ، ويجوز أن يدلس على عباده، ويخدعهم لأنه في غاية البعد إذ لا ينكر جاهل علم الله تعالى بجميع الأشياء، حتى المشركون الجاهلون، فكيف يخفى على المنافقين الذين هم من أهل الكتاب، فإن قلت: الحكماء عقلاء وقد ذهبوا إلى أنّ علم الله تعالى لا يتعلق بالجزئيات قلت: الحكماء لا يقولون بهذا، كما نص عليه الطوسي ولو سلم فحينئذ لا يتصوّر الخديعة لأنها فرع العلم بالجزئيات مع ما في. قؤله لأنّ لذته تعالقاً بكل معلوم من! إلاعتزال لإسناده العلم لذاته أ! ماء ففي صفة العلم، فهو من دس السمّ في الدسم، وقد سبقه لهذا بعض المدققين وقال إصابته تعالى بالمكروه للخداع بعيدة جداً إذ في نفافهم اعتراف بعلمه تعالى بالأقوال الظاهرة الجزئية المفضية إلى ما هو تاعث على الخداع من جلب المنافع، ودفع المضار، فلا يتصوّر هذا منهم، وبالجملة ففساد هذا الجواب أظهر من أن يخفى،. ولذا أسقطه المصنف زحمه الله، وان لم يتنبه له بعض أرباب الحواضي. قوله: (بل المراد إما مخادعة رسوله صلى الله عليه وسلّم على حذف المضاف) قيل: إنه نبه بقوله حذف المضاف على أنه لا يصح أن يراد بلفظ الله ورسوله مجازاً، كما هو ظاهر عبارة الكشاف، لأنه لا يصح إطلاق لفظ الله على غيره، ولو " نجازاً كما صرّحوا
(قلت أليس الأمر كما زعمه فإنّ صاحب الكشاف لم يرد ما قاله، كما أوضحه شرّاحه،
وما في الكشاف بعيته هو بعينه ما ذكره المصنف بقوله، أو على أنّ معاملة الرسول صلى الله عليه وسبم معاملة الله وهو ت! جوّز في الإسناد لا في لفظة الله، كما سنقصه عليك وبعض الناس لم يفرق نجين الجوابين، فذكر كلام الراغب في تقرير الجواب الآتي هنا، وليس هذا من أوّل طبخه للحبوب. قوله: (أو على أنّ معاملة الوسول صئى الله عليه وسنم إلخ الا بأن يطلق مجازاً لفظ الجلالة الكريمة على الرسول صلّى الله عليه وسلّم لما سمعتة آنفاً بل بالتجوّز في النسبة الإيقاعية لأنه يجري فيها، كما يجري في الإسنادية على ما تقرّر في المعاني، فإن قلت ظاهر كلامه أنّ هذين الوجهين يبتنيان على أن يخادعون ليس بمعنى يخدعون لقوله بعده ويحتمل إلخ وليس كذلك إذ لا خاع من الرسول، ولا من المؤمنين ولا مجال لأن يكون الخاع من أحد الجانبين حقيقة، ومن الآخر مجازا لاتحاد اللفظ، وان جعل مجازا منهما لم يبق إلاً الاحتبال الذي في قوله: وامّ أنّ صورة صنيعهم إلخ كما قيل: قلت: هذا مقتضى كلام الكشاف، والمصنف رحمه الله لا يسلمه إمّا بناء على أنّ اللفظ الواحد يجوز أن يكون حقيقة ومجازاً عنده، لأنه ممن يجوّز الجمع بين الحقيقة والمجاز، وامّا على أنه حقيقة لأنّ الخدع من
المنافقين محقق، ولا مانع من صدوره من الرسول صلى الله عليه وسقم، والمؤمنين بإغفالهم حتى يتأتى لهم ما يريدون منهم، ولذا أسقط قوله في الكشاف: والمؤمنون وإن جاز أن يخدعوا لم يجز أن يخدعوا ألا ترى إلى قوله:
واستمفروا من قريش كل منخاع
إلخ وهذان جوابان باعتبارين وجواب واحد باعتبار آخر فلا بأس بعدّهما وجهين ولا
سهو فيه كما توهم وما وقع في بعض الحواشي من أنّ هذا الوجه من إطلاق اسم المسبب على السبب فليس بشيء. قوله: (كما قال {مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ} [النساء: 80] إلخ) هذا تأييد لكونه خليفة الله ولكون معاملة الرسول صلى الله عليه وسلم معاملة مع الله، لأنّ كل ما يتعلق بالرسول صلى الله عليه وسلم عائد بالآخرة إلى الله وإلى دينه، ولا يرد عليه أنّ إطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم تستلزم إطاعة الله ومبايعته صلى الله عليه وسلم تستلزم مبايعة الله، لأنهم إذا عاهدوا الرسول صلى الله عليه وسلّم أن يعاونوه فقد عاهدوا الله أن يؤيدوا ديته كما توهم، فإن قلت: الإسناد في جانب المشبه عقليّ، وفي جانب المشبه به حقيقيّ لأنّ إطاعة الرسول صلى الله عليه وسلّم إطاعة الله حقيقة. قلت: التشبيه باعتبار ظاهر المشبه وهو ادّعاء الاتحاد بينهما مبالغة فتدبر. قوله: (وإمّا أنّ صورة صنيعهم إلخ) يعني أنّ هذا فعل صادر عنهم بالقياس إلى الله والمؤمنين يشبه الخدع بحسب الصورة وكذا الحال في صنع الله والمؤمنين معهم، فبينهم من الجانبين معاملة شبيهة بالمخادعة، فهو إمّا استعارة تبعية في لفظ يخادعون وحده أو تمثيلية في الجملة، وما قيل من أنه ليس فيه اعتبار هيئة مركبة من الجانبين، وما يجري فيهما مشبهة بهيئة أخرى مركبة من(1/311)
الخاح والمخدوع ليحمل الكلام على الاستعارة التمثيلية على قياس ما في ختم الله، لا خفاء في أنه ناشىء من العصبية، ولا خفاء فيه كما قيل والاسنبطان الإخفاء في الباطن من بفنه خلاف أظهره، واجراء أحكام المسلمين كحفظ المال والدم والتوريث، واعطاء سهم من المغنم والدوك خلاف الدرج لأنه ما يكون أسفل والدرح ما يكون أعلى، والاستدراح الإدناء على التدريج، كأنه يصعده إليه درجة درجة وهو منصوب على أنه مفعول له للإخفاء أو الإجراء أو الامتثال. وقوله: (صورة صنع إلخ) بالرفع خبر إنّ والمخادعين جمع مخادع وقيل: إنه مثنى والمفاعلة على هذا من الجانبين مجازية.
واعلم أنّ المصنف ترك وجهين آخرين ذكرهما الزمخشريّ الأوّل أنه ترجمةء! ن معتقدهبم، وظنهم أنه تعالى ممن يصح خداعه، وقد عرفت أنه لا وجه له فتركه أولى والثاني أنه من قبيل قولهم أعجبني زيد، وكرمه في إفادة قوّة الاختصاص، فذكر الله ليس لتعليق الخإع به بل لمجرّد التوطئة، وفائدتها هنا التنبيه على قوّة اختصاص المؤمنين بالله وقربهم منه حتى كان الفعل المتعلق بهم دونه يصح أن يعلق به أيضا وكذا الحال في أعجبني زيد وكرمه، فإن ذكر زيد توطئة، وتنبيه على أنّ الكرم قد شاع فيه، وتمكن بحيث يصح أن يسند إليه أيضا الإعجاب الذي هو لكرمه، وهو عطف تفسيريّ أو جار مجرى التفسير، وأمّا قولك أعجبني زيد كرمه على الابدال فليس في تلك المرتبة من إفادة التليس بينهما لدلالته على أنّ المقصود بالنسبة هو الثاني فقط، وإنما ذكر الأوّل سلوكاً لطريقة الإجمال وا اخفصيل، وفي صورة العطف قد دل بحسب الظاهر على قصد النسبة إليهما معاً، فيكون أدل على قوّة التمكن، كذا أفاده السيد السند وقال صاحب الكشف: والفاضل اليمني الشرط في هذا الباب أن يكون في الكلام دلالة ظاهرة على التمهيد، والا صار من قبيل الألغاز، ثم إنه قدس سرّه ترك قوله في الكشف: إذا أدخلت العاطف، فقد آذنت بالمغايرة وأنه كرم غير الأوّل أوكد منه عطف عليه عطف جبرائيل على الملائكة في ال! ثال، وعطف مستقلين في الآية وعوّل في إزالة الإبهام على شهادة العقل، ومن هذأ القبيل ما يقال له واو التفسير لما فيه مما سنتلوه عليك وهذا محصل ما في الكشاف وشروحه، وقد قالوا إنّ المصنف رحمه الله تركه لبعده ولأنّ مداره كما قيل على قوّة الاختصاص، وهي ظاهرة بالنظر إلى الرسول عليه الصلاة والسلام دون سائر المؤمنين، فليس هذا مثل قوله تعالى {وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ} [التوبة: 62] .
(أ. دول) حاصل ما ذكره العلامة أن يكون المعطوف عليه إنما ذكر توطئة لما عطف عليه لادّعاء. الاتحاد بينهما بحيث إذا ذكر الأوّل فهم منه الثاني، ولم يكتف بأحدهما للدلالة على قوّة الاختصاص بينهما فيعدل عن مقتضى الظاهر من البدلية إلى العطف تنبيها على ذلك، كما في المثال المذكور، ولذا اشترطوا فيه ظهور دلالة الكلام على التمهيد (وفيما ذكروه أمور منها) أنّ قوله: إنّ الابدال ليس في تلك المرتبة من إفادة التليس بينهما غير مسلم لمنافاته، لما قرّره النحاة، وأهل المعاني في بدل الاشتمال من أنّ المبدل منه يدل على المبدل إجمالا بحيث تصير النفس متشوّفة ومنتظرة له، فيجيء هوب ناً وملخصا لما أجمل، ولولا الملابسة التامّة لم يكن كذلك، وكيف يكون العطف المبنيّ على المغايرة دالا على الملابسة دون البدل.
(ومنها) أنّ قول المدقق في الكشف: إنه كعطف جبرائيل، أو عطف مستقلين مناف للمعنى الادّعائي الذي بنى عليه هذا الأمر ومناف لقوله بعده: إنّ من هذا القبيل ما يقال له واو التفسير، وكأنه لهذا تركه من بعده من الشراح.
(ومنها) أنّ قول المعترض قوّة الاختصاص ظاهرة بالنظر إلى الرسول عليه الصلاة والسلام دون سائر المؤمنين لا يخفى ما فيه، فإنّ المؤمنين لا سيما الصحاية المكرّمين رضي الله عنهم اختصاصهم وتعلقهم بجناب رت العزة بئ وعلا في غاية الظهور، وإن كان الرسل صلوات الله وسلامه عليهم أتمّ اختصاصاً ولذا جعل إطاعتهم إطاعة لله في قوله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ} [النساء: 59] فإنكاره مماثلة ما هنا لقوله والله ورسوله أحق أن يرضوه لا يتمّ له بسلامة الأمير، وعلى كل حال، فلا يخفى ما في هذا الجواب من الاختلال وأنّ نظر المصنف رحمه الله في تركه، وعدم الالتفات إليه في غاية السداد فاعرفه، ثم إنّ قوله تعالى {وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ} [التوبة: 62] شاهد لهذا الوجه، لأنه لما وجد ضميره دل على أنّ المقصود إرضاء الرسول صتى(1/312)
الله عليه وسئم، وذكر الله للإشعار بأنّ الرسول صلى الله عليه وسلّم من الله بمنزلة عظيمة، واختصاص قوي حتى سرى الإرضاء ت 4 إليه، وأمّا ما قيل على هذا التوجيه من أنه لا يرتضيه الذوق السليم، لأنّ مقتضى المقام إيراد حالهم خاصة، وتصويرها بما يليق بها من الصورة المستهجنة، وبيان أنّ غائلتها آيلة إليهم من حيث لا يحتسبون كما يعرب عته ما بعده، فهو من أحاديث خرافة لأنّ استدراج الله لهم، ومجازاة الرسول صلّى الله عليه وسلم والمؤمنين مما يختص بهم، ويؤل بالآخرة إلى بيان سوء حالهم، كما لا يخفى فتدبر. قوله: (ويحتمل أن يراد إلخ) هذه الجملة معطوفة على ما تقدّم من قوله، والمخادعة تكون بين اثنين، وهو ظاهر قيل، وعلى هذا لا يحتاج إلى تأويل خداع الله تعالى، أو المؤمنين بما مرّ، فإن أراد أنه جواب عن سؤال المخادعة ووجه رابع، فليس كذلك إذ السؤال وارد على هذا التقدير، والجواب الجواب، وجعله بيانا أو استئنافا غير مختص بهذا الاحتمال كما لا يخفى، وقيل: إنه مقابل لما سبق، لأنه لا باس بخداع الرسول صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين إياهم لإعلاء الدين ومصالحه، ويحتم أنه تتميم لما قبله، فليس بمقابل له، وهو الظاهر الموافق لما في الكشاف، فلا مخالفة بينهما، وستسمع عن قريب ما يتممه. قوله: (لأنه بيان لبقول إلخ) المراد بالبيان التفسير فعلى كلا الوجهين لا محل لهذه الجملة من الإعراب، وليس المراد بالبيان عطف البيان، لأنه لا يجري في الجمل عند النحاة، وان كان كلام أهل المعاني في الفصل والوصل يوهمه، والاستئناف هنا استئناف بيانيّ في جواب سؤال مقدر كأنه قيل لم يدعون الإيمان كاذبين وما نفعهم في ذلك فقيل: يخادعون إلخ. وعلى تقدير السؤال هو أيضاً مبين، فالمآل واحد فيهما والمناسبة تامّة لكون يخادعون بمعنى يخدعون، لاختصاصهم به كاختصاص القول المذكوو، وان كان لا بقاء المخادعة على ظاهرها وجه أيضاً، لأنّ ابتداء الفعل في باب المفاعلة من جانب الفاعل وهو صريحه، وإن كان المفعول يأتي بمثل فعله، فهو مدلول عليه من عرض الكلام.
وقال قدس سرّه تبعاً للمدقق في الكشف: جعل يخادعون بيانا ليقول أولى من جعله مستأنفاً لأنه إيضاح لما سبق، وتصريح بأنّ اقولهم كان مجرّد خداع، وأيضاً ليست المخادعة أمرا مطلوبا لذاته فلا يكون الجواب شافياً بل يحتاج إلى سؤال آخر كما ذكره، وتعبير. بيجوز وما بعده ناطق بها، وما قيل: من أنه بيان للتعجب من كونهم من الناس لا يخفي ما فيه كما يعلم مما مرّ، وقد جوّز في البحر كون هذه الجملة بدلا من صلة من بدق اشتمال، فلا محل لها أيضاً أو حالا من الضمير المستكن في يقول! لي. مخادعين، وأجاز أبو البقاء أن تكون حالا من الضمير المستتر في مؤمنين، والعامل فيها اسم الفاعل، ويرد بأنه حينئذ نظير ما زيد أقبل ضاحكاً وللعرب في مثله طريقان أحدهما نفي القيد وحده، واثبات أصل الفعل، وهو الأكثر فيكون الإقبال ثابتا والضحك منفيا، ولا يتصوّر في الآية نفي الخداع، وثبوت الإيمان والثاني أن ينتفي القيد ومقيده، وهو العاملءفالمعنى لم يقبل ولم يضحك، وهذا غير مراد هنا أيضاً أعني نفي الإيم! الط! والخداع معا بل المعنى على نفي الإيمان، وثبوت الخداع ففسد جعلها حالا من ضمير المؤمنين والع! جب من أبي البقاء رحمه الله كيف استشعر هذا الإشكال، فمنع من جعل هذه الجملة في محل جرّ صفة مؤ! نيق،! لأنه يوجب نفي خداعهم والمعنى على إثباته، ثم جعلها حالا من ضمير المؤمنين ولا فرق بين الحال والصفة كما قيل. .
(أقول) هذا غفلة منهم فإنّ الجملة الحالية بل الحال مطلقاً إذا وقعت بعد نفي، وهي
حال من مدخوله إنما يلزم انتفاء مقارنتها لا نفيها نفسها لأنه لا يلزم من نفي الشيء في حال نفي تلك الحال ألا تراك تقول ما جاءني! زيد " وقد طلع الفجر، فينتفي مجيئه مقارناً لطلوعه ولا يقصد نفي طلوعه، وتعتذر لترك زيارة صديقك لضيق ذات يده، فتقول لا أزورك مملقاً ولا أرى هذا يثتبه على أحد وفي الكتاب المجيد {وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال: 33] وهي حالية جوزوا فيها الوجهين، والعجب من هؤلاء أنهم صرّحوا بهذا في سورة الأنفال من غير تردّد فيه، وأمّا الصفة فليس لها مثل هذه الحال، س وما ذكروه من الوجهين جار فيها، ولا يجري في كل قيد وقد تجعل الحال ونحوها في مثله قيدا للنفي لا للمنفيّ، كما قرّروه في قوله ألم أبالغ في اختصاره تقريباً، ومنه ا! لم تضيق مثل هذه الضابطة، وأنها ليست على إطلاقها، كما توهم وسيأتي في سورة آل عمران تفصيله. قوله: (بذكر(1/313)
ما هو النر ضإلخ) بيان للاستئناف وأنه جواب لسؤال مر بيانه، ويحتمل أنه راجع لهما يعني أنّ الغرض من الباين والاستئناف بيان حالهم فقط على ما بيناه لك. قوله: (1 لأ أنه أخرج في رّنة الخ) مستثنى من قوله يراد بيخادعون إلخ والزنة كالعدة بمعنى الوزن أي أنّ هذا المعنى، أو مطلق هذا اللفظ أتى به على س وزن المفاعلة للمقابلة أي لأن يقابل كل الآخر بمثل فعله، وفي نسخة للمعارضة وهي بمعناها من قولمهم عارضت الكتاب إذا قابلته كما ذكر في كتب الفة، فليس تصحيفا كما توهم، والمتغلبان يبذل كل منهما جهده ويبالغ فيه، فتجوّز به
عن لازم معناه، وهو المبالغة وبقي على ما- كان عليه، ولم يزل، وهو معنى قوله استصحبت أي الزنة، وفي نسخة استصحب لأنها بمعنى الوزن وفي نسخة بدل قوله: لما كانت للمغالبة للعبالغة، وهو من طغيان القلم، والخدع مجاز أيضاً يجري فيه الكلام السابق لا الثالث لاحتياجه للتكلف، فصيغة المفاعلة المحوّلة عن الثلاثي يتجوّز بها عن المبالغة في الفعل لما قرّره المصف وغيره هنا، وقد يتجوّز بها أيضاً عن إيجاد، فعل فيما يقبله بتنزيل قبوله منزلة فعله، كما في قولهم: عالج الطبيب المريض وسيأتي تفصيله، والمباراةء بالموحدة والراء المهصلة عق قولهم باراه إفا فعل مثلى فعله وعارضه قيه ليغلبه، وحينئذ تقوي دواعي الفعل فيجيء6لم وأقوى. وقوله: (ويعصقه) أي يؤيده ويقوّبه من عضدته بمعنى أعنته، وأصله صرت له عضد اً وا! قوا- المذكورة مروية عن ابن مسعود وأبي حيوة. قوله: (وكان غرضهم إلخ) بين ا! عرض من ج! ة " لمتافقين، وهو صونهم أنفسهم وتحصيل منافعهم، والاطلاع على أحوالهم واسرارهم، وقر! الجاتب ة الآخر، وقد يينه في الكشاف بأنّ؟ فيه مصالح وحكماً إلهية بحيث لو قو! اخى!! ى عغلاسدد كثيرة، وما يطرق به ما عبارة عن القتل وا الخلرة ونحوهما، وضمير به الهللعوصواله، وعن مغعولى يطرق أو فاعل، والمفعول محذوف أي يطرقهم، أو هو مجهول من طوف الؤعاقه يعصلثيه إذا أصايه بها وأصله الإتيان ليلاَ، والإذاعة بالذال المعجمة والعين المهملة ال!! هلر، والعنلي! اتة إظهار العداوة كأنّ كلاَ ينبذ لصاحبه ما في قلبه من العداوة أو ينبذ إليه عهده- قواله-امريى فافع) أي يخادعون بالألف هنا كالسابقة قراءة هؤلاء، فقرأه بضمير الغيبة للقظ يخادعودة المعلوم لفظاً ووسما أو بتاء تأنيث أي هذه قراءة إلخ. قوله: (والمعن! أنّ دائرة! خدع ثخ) الداءلرة اسم لعا يحيط بالشيء ويدور حوله، والتاء للنقل من الوصفية إلى الاسعية، لأن الد، لرة في الأص اسبم فاعل أو لتأنيث والمراد بها هنا ما يترتب على، خداعهم من الضرر، لأن الدائرة تقال في العكروه عقابلة للدولة قال تعالى {نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ} [المائدة: 52] قيل كما أنّ العحاط لا يتجاوز المحيط كذلك العلة لا تتجاوز عن المعلول فقوله وضررها إلخ تفسير له، ويحيق بمعنى يصيب، وينزل وهو إثمارة إلى قوله {وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} [فاطر: 43] ولما كان معنى يخادعون السابق ما مرّ خطر ببال الواقف عليه، أنّ هذا الخداع هل هو كذلك على الوجوه السابقة أم لا، وكيف يكون المرء مخادعا لنفسه وما معناه فوجهه المصنف رحمه الله بقولي والمعنى إلخ وهو معنى ما في الكشاف من أنّ المراد، وما يعاملون تلك الم! املة المشبهة بمعاملة المخادعين إلا أنفسهم، لأنّ ضررها
يلحقهم ومكرها يحيق بهم، كما تقول فلان يضارّ فلانا، وما يضارّ إلا نفسه أي دائرة الضرر راجعة إليه وغير متخطية إياه إلى آخر ما ذكره من الوجوه الثلاثة، وفي التعبير بالدائرة لطف لأنها خط مستدير تتساوى جميع الخطوط الخارجة عن مركزه إليه، وإذا رسم يختم من حيث ابتدىء، ولما كان الخداع ابتداء منهم ثم عاد إليهم كان كالدائرة الرسمية، وعلى هذا يجوز أن تكون دائرة الخداع استعارة مكنية مخيلة، لأنّ خداعهم كانه دائرة آخرها أوّلها، وهذا مما أغفلوه فلا تكن من الغافلين، وقد اختلف شراح الكشاف في مراده، فقيل إنه مشاكلة للمستعار السابق كما نقلى عن الواحديّ أي لما كان خداع أنفسهم بمعنى إيصال الضرر إليها مسببا عن تلك المخادعة المشبهة بمعاملة المخادعين ومصاحبا لها قيل: يخادعون، فجاء باللفظ على اللفظ، ولا يخفى أنّ كون المشاكل، والمشاكل مجازاً بعيد جداً وقيل جعل مخادعة الصاحب عين مخادعة نفسه نظرا إلى المآل، وهذا نوع من المجاز كثير الدور في كلام العرب وغيرهم، ولا يختص بباب المفاعلة كقولهم قصد مساءة زيد، وما قصد إلا نفسه، وهو من باب تسمية(1/314)
الشيء باسم ما يؤدى إليه، وفيه ملاحظة السببية والانتهاء إليه، ففي الكلام مجاز على مجاز، وليس المجاز هنا بمعنى مجاز الأول المشهور بل الغاية المسببة لا أنه يؤل إليه، كما نبه عليه بعض الفضلاء، وقيل: إنه إشارة إلى تطبيقه على أوّل الوجوه الأربعة، وتلخيصه أنّ المخادعة استعيرت للمعاملة الجارية فيما بينهم وبين الله والمؤمنين المشبهة بمعاملة المخادعين، فقصرت هذه المعاملة ههنا على أنفسهم بعد تعليقها بما علقت به سابقا بناء على أنّ ضررها عائد إليهم لا يتعداهم، ونظيرها فلان يضار فلانا وما يضار إلا نفسه، ولا يختص هذا بالمفاعلة ولا بلغة العرب، فالعبارة الدالة على قصر تلك المعاملة مجاز أو كناية عن انحصار ضررها فيهم، أو يجعلى لفظ الخداع المستعار مجازاً مرسلا عن ضرره في المرتبة الثانية، ويمكن أن يقال لما انحصرت نتيجة تلك المعاملة فيهم جاز أن يدعى أنّ نفس تلك المعاملة مقصورة عليهم، ويكون حينئذ انحصار ضررها فيهم مفهوماً تبعاً لا قصداً، فلا حاجة إلى تجوّز أو كناية، وفي كلامه إشارة إليه ولك أن تطبقه على الوجوه الباقية، وأورد عليه أنه لا فائدة في انحصار المعاملة فيهم بل في انحصار الضرر، فجعل الثاني مقصودا تبعا والأوّل ملحوظا قصدا تحكم، ألا ترى أنّ المحققين اعتبروا في الكناية تبعية القصد في المكنى به، وأصالته في المكنى عنه فتامل حق التأمل لتعرف أنه غير وارد عليه، فإن قلت إنهم جوّزوا هنا المجاز بمرتبتين من غير نكير وقد اشترطوا فيه أن يشتهر المجاز الأوّل حتى يلتحق با! حقيقة ليصح الانتقال عنه بدون الغاز قلت: الظاهر أنّ الاشتراط المذكور وإنما هو إذا لم يكن المجاز الأوّل مذكوراً صريحاً في الكلام، فإنّ ذكر. يغني عن شهرته لحصول المراد به، ولم يلتفتوا هنا للمشاكلة مع ظهورها، وسهولة مأخذها حتى رجحها بعضهم على بقية الوجوه لما مرّ، فإن لم تر ذلك محذوراً، فقل كل يعمل على شاكلته، وأن شئت على مشاكلته. قوله: (أو أنهم في ذلك إلخ) الوجه الماضي
489
مبنيّ على أنه خداع آخر جار بينهم وبين أنفسهم الأباطيل وا! اذيب، وأنه سيتفرع على ذلك أمور
لك وتطمئن حتى تخدعهم بخرافات الأماني، والفارغة بمعنى الخالية عن الفائدة مجازا، فكانوا
فارغا ليرويه، والخاء فيه بمعنى الخفية، وغير قوله
نّ حقيقة الخداع إنما تكون بين اثنين بإيهام الغير بصدده كما مرّ، ولا يمكن اعتبارها بين الشخص لحقيقية إلى غير ذلك من التكلفات التي ارتكبوها في لمعنى على سبيل التجوّز، ومنهم من فسر النظم سوله صلّى الله عليه و، صلّم والمؤمنين، لأنه كما لا حداعه لها يمتنع خداع الله لأنه لا يخفى عليه خافية، منين، لأنه تعالى يخبرهم به، أو هو كناية عن أنّ
الله عليه وسلم والمؤمنين معاملة مع أنفسهم، لأنّ ينفعونهم كأنفسهم، ولا يخفى بعده. قوله: (لأن مفاعلة تقتضي حقيقة اثنين مخاح ومخاع، ولا
كما مرّ، وما قيل عليه: من أنّ الخاع بل كل متعدّ
ق بدون فارق ودفعه بأنه لا بدّ للشركة في الخداع
نه يكفي فيه المغايرة بين الفاعل والمفعول بالاعتبار لسحص بنفسه ليس بشيء أمّا السؤال، فلأنّ مراده أنّ باب تغاير الفاعل والمفعول فليس وضعيا، وأنما هو لملوب، وما ألحق بها اتحاد الفاعل والمفعول، وأمّا لى التأويل كما مز، والعلم مستثنى من هذه القاعدة
من هذا بيان ترجيح هذه القراءة على الأخرى واختيار ##(1/315)
#الصحيحة فيهما فلا يرد عليه أنّ القراءة إنما هي بالرأي ومقتضى العقل وحسن الظن بالسلف يدفع
لال في تقرير قوله خدعوا أنفسهم: أنه على طريقة تحديث كل منهما صاحبه بالأحاديث، فيجرّدون من
لغير ويخاطبونهم كقول المتنبي:
فليسعد النطق إن لم يسعد الحال
والفرق بين هذا وبين الالتفات قد مرّ، وقد قيل: إنّ قراءة يخادعون مبنية على التجريد
من الجانبين، وهذه مبنية عليه من جانب واحد، وقال قدس سرّه: إنه تكلف بارد والمراد بالباقين من بقي من القرّاء السبعة غير من ذكر أوّلا وما عدا القراءتين شاذ. قوله: (وقرىء يخدّعون من خذّع إلخ) أي قرىء يخدعون بتشديد الدال مع ضم الياء وفتح الخاء، ويخدعون بفتح الياء والخاء وتشديد الدال مع الكسر وكلاهما على البناء للفاعل، ويخدعون من الاخداع، ويخادعون كلاهما على البناء للمفعول والتشديد لأنه افتعال وأصله يختدعون بنقل حركة الدال، وادغامها في التاء لقرب مخرجهما، واختدع جاء عن العرب متعديا كما في الأساس وغيره يقال خدعه، واختدعه إذا ختله فانخدع وما قيل على هذا من أنه ينبغي أن يكون النصب بنزع الخافض إلا إن ثبت اختدع بمعنى خدع من عدم الوقوف عليه، وفي محتسب ابن جني والبحر قراءة المجهول لابن شدّاد والجارود بن أبي سبرة، وهذا على معنى خدعت زيداً نفسه أي عن نفسه على أنّ نصبه على الحذف والإيصال كاختاو موسى قومه، أو هو متعدّ حملا على ما هو بمعناه أو ضمن معنى ينتقصون، ويسلبون أو هو على التشبيه بالمفعول أو على جواز تعريف التمييز، كما قيل في غبن زيد رأيه، وأمّا كون ضمير يخادعون لجميع من ذكر من الله والرسول صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين والمنافقين، والمستثنى منهم أنفس المنافقين، والمعنى ليس من وقع بينهم النفاق إلا نفس المنافقين، فتكلف لا يليق بالنظم الكريم. قوله: (والنفس ذات طشيء إلخ) هذا باعتبار المعنى العام الشامل لكل شيء، وهو على هذا لا يختص بالأجسام، ولا بذوات الأ- واح كما يقال: هو في نفسه كذا وحقيقة الشيء وعينه، وذاته بمعنى في العرف العامّ، فليس المراد بالشيء الحيوان كما قيل بناء على أنّ تقريره في بيان مناسبات المعاني يقتضيه إلا أنّ الإمام الغزالي رحمه الله تعالى، فسر الذات في السرّ المصون بأمر شامل للروح والجسد، أو هو الجسد القائم به الروح، وعند أهل المعقول بمعنى الحقيقة، وهي وهو جوهر يحل به المعقولات، وهو من عالم الأمر اهـ فإن أراد به هذا اختص بالحيوان بل بالإنسان، وقد قال في كتاب الروح: إنه حقيقة عرفية فيه. وقال بعض الفضلاء: الظاهر أنّ الشيء على عمومه كما يشعر به ما في الصحاح من أنّ النفس الجسد، وعين الشيء، فلا يلائم تعليل إطلاقه على القلب بأنّ النفس به، فإنه لا يجدي إلا في بعض أفراده، والمناسب أن نعتبر المناسبة بين نفس المفهوم الحقيقي، والمعنى المجازي لا بينه وبين بعض أفراده، فالوجه أن يخصص الشيء بالحيوان كما يدل عليه قوله قدس سرّه لأنّ ذات الحيوان به، وما ذكره ملخص ما في الكشاف. وهو كما قال قدس سرّه: يتبادر منه أنّ لفظ النفس حقيقة في الذات مجاز فيما عد 51، وذلك ظاهر في الدم والماء والرأي واطلاق النفس على الرأي والداعي من قبيل تسمية المسبب باسم السبب أو استعارة مبنية على المشابهة، والثاني أنسب بالمقام وأظهر كما أشار إليه
المصنف رحمه الله. وقوله: (لأن نفس الحئ به) أي لأنّ ذاته تقوم وتحيا، وتبقى به، وقد ذهب كثير إلى أنّ النفس حقيقة في الروح، ويوفق بينهما بما نقلناه من كتاب الروح، ويؤيده أنّ النفس لا تطلق على الله دائما أو غالبا إلا بطريق المشاكلة، كما سيأتي تحقيقه في تفسير قوله تعالى {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} [المائدة: 116] . قوله: (وللقلب لآنه محل الروح) القلب عضو صنوبريّ معروف واطلاق النفس عليه من قبيل ذكر المسبب وارادة السبب أو من إطلاق اللازم على ملزومه لأنّ النفس ذات الشيء وذات الحيوان بالقلب تتقوّم لأنّ القلب مبدأ الحياة، ومحل الروح الحيواني، ولذلك خلق في وسط الصدر لأنه أحرز المواضع في البدن إذ العظام سور حصين له والعضلات حرس له، والمراد بالروح التي تحله(1/316)
بخار لطيف في تجويفه الأيسر وتسميه الأطباء بالروح الحيوافي، وهو الطف ما في البدن وأكثره مناسبة للروح المجردة. وقوله: (أو متعلقه) بناء على أنّ المراد بالروح الجوهر المجرّد المتعلق بالبدن تعلق التدبير والتصرّف، فإنه مما يطلق على الروح أيضا كما صرحوا به، ففي كلامه شبه استخدام وقد اختلفوا في أوّل ما يتعلق به النفس الناطقة هل هو القلب أو الدماغ، ورجح ابن سينا الأوّل وتبعه المصنف رحمه الله. قوله: (وللدم إلخ) ومنه قولهم لا نفس له سائلة أي دم يجري وتسميته لما ذكر، والقوام بالكسر ما به يقوم ويبقى والنفس تؤنث بمعنى الروح وتذكر بمعنى الشخص كما في المصباح. وقوله: (وللماء إلخ) هذا مما تبع فيه الزمخشريّ، وهو إمام يقتدى به إلا أنّ ابن الصائغ رحمه الله أشار في حاشيته على الكشاف إلى أنه لم يوجد في كتب اللغة والذي فيها النفس بفتحتين كما نقله كراع، واستشهد له بما ثبت في كلامهم، وفي الصحاح النفس الجرعة قال جرير:
تعلل وهي ساغبة بنيها بأنفاس من الشبم القراج
وترك ما في الكشاف من الاستشهاد عليه بقوله تعالى {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ}
[الأنبياء: 30] لأنه لا يثبت المدعى وأنما يؤيد التعليل. وقوله: (يؤامر نفسيه) بالتثنية أي يتردد بين رأيين له، فمؤامرة النفس كناية عن التردّد والمؤامرة المشاورة، كالائتمار لقبول بعضهم أمر بعض فيما يشير به عليه فأبدلت الهمزة واواً، وقد مرّ بيان العلاقة فيه. قوله: (والمراد بالأنفس إلخ) في الكشاف والمراد بالأنفس هنا ذواتهم والمعنى بمخادعتهم ذواتهم أن الخداع لاصق بهم لا يعدوهم ولا يتخطاهم إلى من سواهم، ويجوز أن يراد قلوبهم ودواعيهم وآراؤهم اهـ فإذا أريد بالأنفس الذوات كان المراد بالمخادعة أنّ خداعهم لا يتجاوزهم، ويرجحه أنه المعنى الحقيقيّ المتبادر ولا مانع يمنعه هنا، وأمّا إرادة الآخرين فيضعفها أنّ المتبادر من المخادعة أن تكون بين شخصين متغايرين حقيقة، وهذا فيه مغايرة لكنها غير حقيقية وفيه نظر، وقيل إنّ الأوّل ناظر إلى قوله دائرة الخداع إلخ. وما بعده إلى قوله أو أنهم إلخ.
وعدل عن قول الزمخشريّ قلوبهم إلى قوله أرواحهم، لأنه أظهر في المغايرة. وقد قال قدّس سرّه: إنه على الأوّل يتعين أن يراد بحصر خداعهم في ذواتهم قصر ضروه عليهم كما ني الجواب الأوّل، وعلى ما بعده ذكر القلوب تمهيدا لذكر الدواعي، والآراء لا أنه ونجه آخر، وإذا أريد بالأنفس الدواعي تعين الجوابان الأخيران، وكان اعتبار المشابهة أولى كما لا يخفى فبيان المراد بالأنفس تتمة للأجوبة.
(وفيه بحث الأنه لا مانع من جعل ذكر القلوب في كلام العلامة إشارة إلى وجه آخر لأنّ القلوب ينسب إليها الإدراك كما قال تعالى {لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا} [الحج: 46] ويؤيده إبدال المصنف لها بالأرواح فما ذكره عدول عن الظاهر من غير داع.
(تنبيه) بقي للنفس هنا معان أخر لم يذكرها المصنف رحمه الله كالعين المصيبة والقوى الحيوانية الجامعة للصفات المذمومة المضادة للقوى العقلية، وباختلاف هذه الصفات والأحوال تسمى النفس تارة أمارة وتارة لوامة وتارة مطمئنة، وليست هذه نفوساً متغايرة كما سيأتي تحقيقه. قوله: (لا يحسون إلخ) يشير إلى أنّ الشعور معناه الإدراك بالمشاعر، وهي الحواس الظاهرة في الأصل، وإن ورد بمعنى لا يعقلون مطلقاً إلا أنّ حمله على هذا أولى لأنه أصل معناه وأبلغ لأنّ عدم الشعوو بالمحسوس في غاية القبح لكون المحسوسات من البديهيات، ومن لا يشعر باله ديهيّ المحسوس مرتبته أدنى من مرتبة البهائم، فنفي الشعور يدلّ على التهكم بهم وعلى نفي العلم بالطريق الأولى فهو أبلغ من لا يعلمون هنا وأنسب بما مرّ من قوله {خَتَمَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهمْ} إلخ. وقوله: (لتمادي غفلتهم) من قولهم تمادى في الأمر إذا تمادّ فيه إلى الغاية جمما في الأساس، فتمادي الغفلة بمعنى امتدادها على ظاهره وحقيقتة، أو هو بمعنى تماديهنم في غفلتهم، فالتمادي من المدد وأصله تمادد كقصيت بمعنى قصصت، ويجوز أن يكون من المدى بدون إبدال. قوله: (جعل لحوق وبال الخداع إلخ) يشير به إلى المعنى الأوّل من معنى خداعهم لأنفسهم كما في الكشاف، واقتصر عليه لأنه الأرجح الأظهر وغيره يعلم بالمقايسة عليه أيضا، ولذا أمر الشريف رحمه الله بالتدبر فيه، وفيه إشارة إلى أنّ قوله {وَمَا يَشْعُرُونَ} مرتبط بقوله {وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم}(1/317)
ولذا قال الزجاج في تفسيره: وما يشعرون أنهم يخدعونها، وهو أقرب لفظاً ومعنى من جعله متصلا بقوله يخادعون الله على أنّ المعنى، وما يشعرون أنّ الله يعلم ما يسرون وما يعلنون ومن لم يشعر بهذا جعله من فوائده الزوائد هنا، والوبال سوء العاقبة وأصله وخامة المرعى، فتجوّز به عما ذكر ثم صار حقيقة عرفية فيه، وقد يراد به الإثم وهو قريب منه، فمن فسره بالوخامة فقد تسمح فيه هنا، ومؤفة أصابتها آفة وهي العاهة يقال: أيفت الأشياء فهي مؤفة كما يقال ايلت فهي مؤلة، وفي عبث الوليد للمعرّي لو
جيء به على الأصل فقيل: ما ووفة بوزن مضروبة جاز عند بعض الناس، وكذا استعمله البحتري في شعره. قوله: (والشعور الإحساس إلخ) أي الإدراك بالحوإس الخصس الظاهرة، وقد يكون بمعنى العلم وصرّح الراغب بأنه مشترك بينهما، وذهب بعضهم إلى أنّ هذا أصله، وذاك مجاز منه صار لشهرته فيه حقيقة عرفية، وهو ظاهر كلامهم هنا، والمشاعر الحواس، ولها معان أخر كمناسك الحج وشعائره، وقوله الشعر بكسر الشين وسكون العين لأنه اسم للعلم الدقيق، كما في قولهم ليت شعري. ثم نقل في عرف اللغة للكلام الموزون المقفى، فهو مصدر أخذ منه الفعل وتصاريفه، ولو قرىء بفتحتين صح أيضاً لقول الراغب في مفرداته شعرت أصبت الشعر ومنه استعير شعرت، كذا أي علمت علماً في الدقة كإصابة الشعر اهـ. ولذا فسر الشعور بالفطنة ودقة المعرفة. وقوله: (ومنه الشعار) ضمير منه راجع للشعر والشعار يكون بمعنى الثوب الذي يلي الجسد لمماستة الشعر، ويكون بمعنى العلامة وبمعنى ما يتنادى به في الحرب ليعرف بعضهم بعضا، فإن كان الشعر بالفتحتين فالمناسب! فسيره بالمعنى الأوّل وإلا فبالثاني، وجملة ما يشعرون مستانفة أو معطوفة أو حال من فاعل يخدعون، ومفعول يشعرون مقدّر أي لحوق الضرر بهم، وأنّ وبال خداعهم راجع إليهم ونحوه أو غير مقدر للعموم وتنزيله منزلة اللازم، وقوله بذلك ورجوع ضرره يشير إلى الأول وجعلهم في حواسهم آفة يشير إلى الثاني، وهو أبلغ كما مرّ. قوله: (المرض حقيقة فيما يعرض للبدن إلخ) من الأطباء من ذهب إلى أنّ أحوال الإنسان ثلاث صحة ومرض وحال لا صحة، ولا مرض كجالينوس، وعند الرثيس أنّ له حالتين صحة ومرض بغير واسطة، والصحة تصدر عنها الأفعال سليمة، والمرض يقابلها، وذهب أهل اللغة كما في المصباح إلى أنه حالة خارجة عن الطبع ضارّة بالفعل، والفرق بينه وبين ما ذهب إليه الأطباء ظاهر، فإنهم يسمون نحو الحول والحدب مرضا بخلاف أهل اللغة، ثم إنّ المصنف رحمه الله عدل عن قوله في الكشاف: فالحقيقة أي حقيقة المرض أن يراد الألم كما تقول: في جوفه مزض لما فيه، لأنّ الألم أثر المرض لا عينه لغة واصطلاحا كما لا يخفى، وما قيل من أنّ كون الألم مرضا من أظهر القضايا عند أهل اللغة والعرف، وأمّا كونه عرضا لا مرضا فمن تدقيقات الأطباء على أنّ استعماله في المرض! شائع فيما بينهم أيضاً كقولهم الصدع ألم في أعضاء الرأس فيه ما لا يخفى، والمراد بالأفعال ليست الأفعال المتعارفة كالضرب بل متعارف الحكماء، وهي إمّا طبيعية كالنمو أو حيوانية كالنفس، أو نفسانية كجودة الفكر والألم ما يتألم، ويتوجه به وهو أعمّ من المرض، والاعتدال توسط حال بين حالين، وكل ما تناسب فقد اعتدل كما في القاموس. قوله: (ومجاز في الأعراض النفسانية إلخ) الأعراض جمع عرض كسبب وأسباب، وهو ما يعرض ويطرأ على المرء ثم
ضمير كمالها للنفس التي تفهم من نفسانية، والنفساني منسوب للنفس على خلاف القياس كووحاني، وقد أثبته أهل اللغة وله معنى آخر في الكشف، وهذا برمته مأخوذ من كلام الراغب، والجهل ضد العلم، وقيل المراد به البسيط، لأنّ سوء العقيدة جهل مركب، والحسد تمني زوال نعمة الغير والغبطة تمني نيل مثلها من غير زوال، والضغينة كالضغن بمعجمات الحقد واضمار العداوة، والحياة الحقيقية هي الأخروية، لأنها السعادة الأبدية والحياة الدنيوية، لأنها في معرض الزوال كلا شيء، كما قال تعالى {وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} أسورة العنكبوت: 64] ولما كان المرض الحقيقي يؤدي إلى اختلال البدن ثم إذا تناهى أدى إلى الموت أشار المصنف رحمه الله إلى أنّ وجه الشبه فيه من هذين الوجهين الأوّل مغ الفضائل والكمالات المشابهة لاختلال البدن المانع عن الملاذ، والثاني زوال الحياة الأبدية الذي هو(1/318)
كهلاك المريض والمراد بالحياة الأبدية السعادة المخلدة لأنّ حياة المخلد في النار لا يعتد بها فلا يرد عليه ما قيل من أنه كان عليه أن يبدل الحياة بالسعادة لأنّ الحياة الأبدية مشتركة بين المسلمين وغيرهم. قوله: (والآية الكريمة تحتملهما إلخ) مخالف لما في الكشاف من تعين المعنى المجازي حيث قال فيه: المراد في الآية المعنى المجازي الذي هو آفة في الإدراك كسوء الاعتقاد والكفر أو حالة تبعث على ارتكاب الرذائل كالحسد أو مانعة عن اكتساب القضائل كالجبن إلخ. وقد غفل عن هذا من توهم أنّ صاحب الكشاف قائل بما ذهب إليه المصنف رحمه الله، فقال حمل الآية على المجاز هو المنقول عن ابن مسعود وابن عباس ومجاهد وقتادة، وسائر السلف من غير اختلاف فيه، والتفسير مرجعه إلى النقل والعجب من الزمخشريّ والقاضي أنهما يحملان ما ظاهره الحقيقة على المجاز من غير داع إليه لأنه أبلغ، وهنا ورد التفسير عن الصحابة والتابعين بالمجاز ليس إلا فلم يقتصروا عليه إلى آخر ما فصله، ولا وجة له والمصنف تبع فيما ذكره الإمام حيث قال: الإنسان إذا ابتلي بالأخلاق الرديئة كالحسد والنفاق والكفر، ودام به ذلك ربما أدّاه إلى تغير مزاجه وقلبه واليه أشار المصنف، وقال بعضهم: إنه الأرجح لأنه مع كونه حقيقة أبلغ والمجاز إنما يرتكب لبلاغته، وفيه من الخلل ما لا يخفى فإنه مع ابتناء ظاهره على أنّ المرض الألم وقد صرّح الإمام بعدم ارتضائه كما مرّ مفصلا وصبعه المصنف رحمه الله لأنّ الألم مسبب عن المرض لا نفسه لا وجه له سواء قلنا: إنّ قوله فانّ قلوبهم كانت متألمة إلخ بيان للحقيقة. وقوله: (ونفوسهم كانت مؤفة إلخ) بيان للمجازءلمى اللف والنثر المرتب، أولا فإنّ مآله إلى التألم بفوت الرياسة والحسد، وأنّ نفوسهم مؤفة بالفساد وسوء الاعتقاد، وليس في ذلك رائحة من الحقيقة وكون المرض الحقيقي كناية عما ذكر والكناية يكفي فيها صحة إرادة الحقيقة تكلف لا يفيد، وقد أشار شرّاح الكشاف إلى أنه لا يصح إرادة المعنى الحقيقي، وهو الحق الحقيق بالقبول رواية ودراية، وما قيل من
ير قلوبهم ألماً عظيماً بواسطة شوكة أهل الإسلام،
نّ حقيقة المرض الألم الذي يسوء المزاج، وهو
ية مطلق الألم الذي هو أقرب إلى الحقيقة أو نظراً
اج في غاية الركاكة والبعد ولا داعي لارتكابه كما صهم) وفي نسخة عما فات عنهم والتخق تفعل من لإنّ الحديد بالحديد يفلح، واستعير لحك بعض
له عن شدّة الغيظ والغضب، وهو المراد هنا وليس محرق كالنار كما قيل:
د فإنّ صبرك قاتله
إن لم تجد ما تأكله
لس! هذا بقاطع عرق الاحتمال خصوصاً في عبارة سبهة في أنه المراد، ولا وجه لما قيل من أنّ الأولى على الاحتراق مناسب جذاً، وتعدى فات بعن لتضمنه من الرياسة) إشارة إلى قصة ابن أبيّ المشهورة في لحسدهم، وقولهم في دولة الإسلام إنها ريح لهبوبها لى غير ذلك من ظنونهم التي خيبها الله، واشارة الإشادة الرفع ففيه إشارة إلى قوله تعالى {وَرَفَعْنَا} بالدال المهملة. قوله: (فزاد الله إلخ) هذا وما عمهم إشارة إلى تفسير قوله {فَزَادَهُمُ اللهُ مَرَضاً} ولا له تعالى {فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} [التوبة: ####(1/319)
###
، وقد اختلف في هذه الجملة هل هي خبرية أم لا معترضة مصدرة بالفاء، وقد صرّح النحاة بأنها تكون
أن سوف يقضي كل ما قدرا
التلويح وغيره فلا وجه لما قيل إنّ الأنسب حينئذ نّ قوله فزادهم الله إلخ إخبار وعطف الماضي على
الاسمية لنكتة إن أريد في الأولى أعني في قلوبهم مرض أنّ ذلك لم يزل غضاً طرياً إلى زمن الإخبار، وفي الثانية أن ذلك مسبب لازدياد مرضهم المحقق إذ لولا تدنس الفطرة لازدادوا بزيادة إمداد الإسلام ونزول الآيات شفاء. وقوله تعالى {فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} [التوية: 125] جملة مستأنفة لبيان الموجب لخداعهم وما هم فيه من النفاق، ويحتمل أن تكوق مقرّرة لعدم شعورهم والأوّل أنسب لأنّ قوله وما يشعرون سبيله سبيل الاعتراض وما قيل في ترجيح الاعتراض على الإخبار بأنّ الثاني مكرّر مع قوله تعالى {يَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ} ليس بشيء للفرق الظاهر بين زيادة المرض وزيادة الطغيان، على أنه لا مانع من التأكيد مع بعد المسافة، ثم إنّ كلام الشيخين لا ينافيه لأنّ الدعاء من الله إيجاب مؤكد ولولاه لم يكن للدعاء من الله معنى كما لا يخفى فتدبر. وقوله: (ونفوسهم) بالنصب عطف على قلوبهم لبيان المعنى المجازي كما مرّ، ومؤفة هو وجه الشبه، والمرض الأوّل والآلام ومنشؤها وهي تزداد بزيادة الغموم:
والغم يخترم النفوس نحافة ويشيب ناصية الصبيّ ويهرم
والثاني تلك الآفات، وازديادها بالطبع والختم الذي يثبتها والثبات، أو بما بعده. قوله:
(أو بازدياد التكالبف إلخ) أورد عليه أمران الأوّل أنّ المشهور في الازدياد أنه مصدر ازداد اللازم، وقد اسنعمله متعديا تبعاً لما في الكشاف، فإنّ قوله فيه ما ازدادوه يدل على أنه عداه لمفعول واحد كما بينه شرّاحه، والثاني أنّ المنافقين في إجراء الأحكام عليهم كالمؤمنين الخلص، ولا مزية لهم في التكاليف لأنّ المراد بها ما كلف به لا المعنى المصدري، ولو قيل إنه في حق ماحضي الكفر، وازدياد تكاليفهم بشرعية القتل والأسر والجزية تفكك النظم لأنّ ما قبله وما بعده في المنافقيق، وقد أورده بعضهم على أنه وارد غير مندفع (أقول) هذا زبدة القيل والقال، وليس بوارد بوجه من الوجوه.
أمّا الأول فلأن زاد يتعدى لمفعول واحد وتارة يتعدى لمفعولين وازداد مطاوعه، والمطاوع ينقص عن مطاوعه مفعولا واحداً، فإذا كان مطاوع المتعدي لمفعولين تعدى لواحد من غير شبهة، وعليه قوله تعالى {نَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ} [يوسف: 65] وفي الأساس ازددت مالا وازداد الأمر صعوبة، وازداد من الخير ازدياد فالقول بأنه لازم وان اتفق عليه الشراح لا وجه له وكذا قول الراغب: يقال زدته فازداد، وقوله {وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ} نحو ازددت فضلا أي ازداد فضلي، فهو من باب سفه نفسه اهـ. فحمل ما ورد من منصوبه على التمييز ولا حاجة إليه، وهذا هو الذي غرّ المعترض.
وأمّا الثاني فسقوطه ظاهر، لأنّ ما ذكره المصنف رحمه الله أخذه بحروفه من التفسير الكبير ومعناه أنّ التكاليف والأحكام كلما تكرّرت تكرّر بسببها كفرهم المضمر وسوء عقائدهم،
فيزداد مرضهم بسبب ذلك، ويجوز أن يراد بالتكليف معناه اللغوي، وهو تكليف النبيّ صلى الله عليه وسغ لهم في بعض الأمور وتخلفهم عنه، وتعللهم كما وقع في بعض الغزوات من تخلف المنافقين ونحو ذلك، وهذا مما لا مرية فيه.
وأمّا ما ذكره من الجواب ففي غاية الفساد، وتضاعف النصر تكراره وتواليه، ولا وجه
لما قيل من أنّ الظاهر أن يبدل التضاعف بالتضعيف، لأنه لازم مضاف لفاعله، كما أنّ الازدياد يجوز فيه أن يكون مضافاً للفاعل على أنه مصدر اللازم، وإن كان متعديا كما مرّ، ومن العجب ما قيل أنّ الازدياد والتضاعف كناية عن الزيادة، والضعف لكونهما لازمين. قوله: (وكان إسناد الزيادة إلى الله إلخ) قيل عليه: إنه لا حاجة هنا إلى ارتكاب الجاز العقليّ لصحة إرادة الحقيقة بل هي متعينة، وإنما يحتاج إلى هذا التاويل المعتزلة لأنهم ينزهون الله تعالى عن حقيقة الختم والطبع لزعمهم قبحه، ولا قبح ني إيجاده عندنا بل في الاتصاف به والزمخشريّ رحمه الله إنما ارتكبه بناء على مذهبه فلا ينبغي للمصنف رحمه الله أن يتبعه فيما ذكر، وقد صرّح صاحب التاويلات، ومن بعده بأنه مبنيّ على أصلهم الفاسد وذهب الفاضل المحقق إلى أنّ مرادهم بما ذكر أنه ليس هناك من يزيدهم مرضاً، حقيقة على رأي الشيخ عبد القاهر في أنه لا يلزم(1/320)
في الإسناد المجازي أن يكون للفعل فاعل يكون الإسناد إليه حقيقة مثل:
يزيدك وجهه حسنا إذا ما زدته نظرا
وتابعه قدّس سرّه عليه، وأومأ إلى تأييده فقال هو إسناد مجازي سواء فسر المرض بالكفر، أو الحسد والغل، أو الضعف والخور كما صرحت به عبارته، وان جاز إسناد زيادة المعنى الأخير إلى الله تعالى حقيقة على رأبه أيضاً، والمراد بالمعنى الأخير الجبن والخور لا الحسد كما توهمه بعضهم فقال عدم كون حسد نبيّ الله صلى الله عليه وسلّم والمؤمنين بطلب زوال ما أنعم الله به عليهم قبيحاً غير صحيح، وهو غفلة عن مرادهم نعم يرد عليه ما قيل من أنّ الظاهر أنّ الحسد كما هو قبيح، فكذا الجبن والخور، لأنّ كلا منهما من الملكات الرديئة المستلزمة للأثار الغير السنية، فالفرق بينهما بأنّ الأوّل قبيح والثاني حسن حتى جاز إسناد الأخير إليه تعالى دون السابق تحكم إلا أنّ الأخير قد يترتب عليه آثار حسنة بالنظر إلى النبيّ صلى الله عليه وسلّم والمؤمنين كتباعد الكفار عن محاربتهم ونحوه اهـ. فعلم أنّ ما ذكر ليس مبنيا على الاعتزال، وان خفي على كثير من الناس، ونطاق البيان يقصر عنه هنا، وسيأتي بيانه إن شاء الله تعالى، وأمّا ما قيل من أنّ ما ذكره المصنف جواب عما يقال من أنّ المسند إلى الله تعالى زيادة مرضهم وهو صحيح بالنظر إلى الطبع دون ازدياد التكاليف وأخويه لأنّ الزائد يجب أن يكون من جنس المزيد عليه، أو ملائماً له وتقريره أنّ المراد بإسناد زيادة مرضهم إليه تعالى ليس إسنادا للزيادة من حيث نفسها بل من حيث أنها مسببة عن فعله تعالى وهو ما ذكر من ازدياد التكاليف، وما بعده فإنّ كلا منهما سبب لزيادة مرضهم على ما مرّ إلى آخر ما أطال به
من غير طائل وتبعه من بعده ممن كتب على هذا الكتاب، من غير فرق بين البحر والسراب وضمير أنه للزيادة مراعاة للخبر أو نظراً لأنها بمعنى الازدياد أو لعدم الاعتداد بتأنيث المصادر، ولا فرق بين ما ذكره المصنف رحمه الله، والزمخشريّ على ما يتوهم من تغيير العبارة فتدبر. قوله: (ويحتمل أن يرادب لمرض إلخ) احتمل معناه الحقيقي العفو والإغضاء، وفي اصطلاح المصنفين يستعمل بمعنى الجواز فيكون لازما وبمعنى الاقتضاء، والتضمن فيكون متعدياً مثل إحتمل أن يكون كذا، واحتمل الحال وجوهاً كثيرة وتداخل كيدخل بمعنى دخل بطريق التعانب، والتف ريج ولذا اختاره على دخل مع أنه أخصر وأظهر، والجبن ضعف القلب عما يحق أن يقوى فيه، ورجل جبان وامرأة جبان، والخور بخاء معجمة وواو وراء مهملة أصله رخاوة في العصب ونحوه، ثم تجوّز به عن الجبن وشاع فيه حتى صار حقيقة عرفية فيه والشوكة معروفة وتستعار لهلقوّة في الحرب فيقال: فلان ذو شوكة ومنه شاكي السلاح على قول كأنهم شبهوا الأسلحة بالشوك ولذا قيل:
ورد الخدود ودونه شوك القنا أبداً بغير لحاف لا يجتنى
والبسط التوسعة كما قال تعالى {؟ ولو تج! ط القة الرزق لعبا؟ هـ} [الشورى: 27]
أي وسعه فالتبسط في البلاد بمعنى سعة ممالكهم أو انتثارهم فيها وهدّا معنى آخر مجازيّ، لكنه قريب إلى معناه الحقيقي جداً لأنّ الجبن وضعف القلب أخوان. قوله: (أي مؤلم إلخ) ذهب أرباب الحواشي هنا إلى أنّ مؤلم بفتح اللام اسم مفعول من الإيلام المزيد لأنه الموافق لما في الكشاف ولأنه الأبلغ لجعل العذاب نفسه متألماً، ومعذبا بزنة المفول ولو كان بالكسر كما ذهب إليه بعضهم لم يكن فيه تجوّز في الإسناد كجد جده فلا يوافق أوّل كلامه آخره وليس بشيء فإنّ الكسر إن لم يتعين لا شبهة في صحته كما ذكره بعض فضلاء العصر في حواشيه فيكون ما فسره به المصنف، أولا بيانا لحاصل المعنى المراد منه، ثم صرّح بقوله يقال ألم إلخ إشارة إلى أنه فعيل من ألم الثلاثي كوجيع من وجع فإنه الفصيح المطرد، وفعيل بمعنى مفعل ليس بثبت عند الزمخشريّ والمصنف، وان خالفه فيه لا يمكنه أن ينكر قلته، وعدم إطراده كما ستسمعه مفصلاَ عن قريب في تفسير قوله تعالى {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} [البقرة: 17 ا] ولا حاجة إلى ارتكابه ليكون المعنى أبلغ لأنه إذا جعل الإسناد مجازياً رجع بالآخرة إلى
صرب وجيع) هو من قصيدة طويلة لعمرو بن(1/321)
معد
يؤرقني وأصحابي هجوع
تحية بينهم ضرب وجيع
هنا الفرسان، كما في قوله عليه الصلاة والسلام: لمهملة واللام والفاء بمعنى دنوت وزحفت، والتحية سياتي والباء للتعدية، وبينهم مضاف إليه مجرور
د مبنيا لإضافته إلى المبني، والأوّل أصح وان قيل لمعنى على أن ضربهم الوجغ كتحية بينهم على تفسير قوله تعالى {فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} . قوله: لكشاف هنا على أنّ المراد أنه على طريقته في أنه سناد إلى مصدر المسند كما في ضرب وجيع بل هو ألم أليم ووجع وجيع، وسنكشف لك؟ أنّ الإسناد إلى مصدر ذلك الفعل أو زمانه أو مكانه أو سببه، والضرب أي المضروبية هو الوجع، ولا حاجة إليه قاله الفاضل المحقق. قوله: (قرأها عاصم إلخ) لمرينة المقابلة. وقوله: (بسبب كذبهم) إشارة إلى أنّ لى أنه يجوز أن تكون للبدلية كما في قوله:
شنوا الإغارة فرساناً وركبانا
ل! حو وما مصدرية مؤوّلة بمصدر كان إن قيل بوجود.، أبو البقاء: الموصولية هنا أظهر لأنّ الضمير المقدر
، وقيل المناسب هنا ذكر المقابلة بدل البدلية، فإن روال المبدل عته وقيام البدل مقامه بدليل قوله جزاء
عن عاصم بن عمر بن قتادة وعبد الله بن أبي بكر بن حزم
للعسكري من حديث أنس ولابن عائذ عن قتادة مرسلاَ.
لهم، ثم إنّ الباء في قوله بسببه وببدله كالباء في قولهم معنى كتبت بالقلم باستعانته ومعنى دخلت علييما بثياب السفر بمصاحبة ثيابه إلى غير ذلك، فإنهم كثيراً ما يجعلون الباء بين الحرف وبين ما يدل عليه.
(قلت) البدلية والمقابلة متقاربان، والثانية تدخل على الأثمان وما في معناها وجعل كذبهم بمنزلة الثمن مبنيّ على التهكم ولا يخفى خفاؤه هنا، وأمّا دخول الباء بين الحرف ومدلوله فالظاهر أنه للملابسة بينهما، فلا يتوهم أنه معنى آخر حتى يقال لم يقل أحد أنّ من معاني الباء التفسير، ثم إنّ قوله بما كانوا يكذبون صفة لعذاب لا لأليم، كما قاله أبو البقاء رحمه الله، لأنّ الأصل في الصفة أن لا توصف.
وقال قدس سرّه: كلمة كان في النظم للدلالة على الاستمرار في الأزمنة، وقولهم آمنا إخبار بإحداثهم الإيمان فيما مض ولو جعل إنشاء للإيمان كان متضمناً للاخبار بصدوره عنهم. فقيلى: الدلالة على الاستمرار والانقطاع ليست بمعتبرة وضعاً في معنى كان بل هو مستفاد من القرينة، والمقصود دفع ما يتوهم من المنافاة بين لفظي كان، لكذبون لدلالة الأوّل على انتساب الكذب إليهم في الماضي والثاني على انتسابه في الحال والاستقبال، فالزمان فيهما مختلف فما وجه الجمع بينهما، فدفعت 4 ن كان دالة على الاستمرار في جميع الأزمنة ويكذبون دلّ على الاستمرار التجددي الداخل في جميع الأزمنة اهـ، وما ذكره من المنافاة توهم فاسد فإنه مستفيض في أخبار الأفعال الناقصة، كأصبح يقول كذا أو كادت تزيغ قلوب فريق منهم والاسنعمال مستمر عليه لأنّ معناه أنه في الماضي كان مستمرا متجدّداً بتعاقب الأمثال، وللمضي والاستقبال بالنسبة لزمان الحكم، وقد عذ العلماء الاستمرار من معاني كان، كما في التسهيل فتدبر. قوله: (وقرأ الباقون إلخ) أي قرأه باقي السبعة بالتشديد من كذبه المتعدي والتضعيف للتعدية ومفعوله مقدّر وهو الرسول صلى الله عليه وسلم، ولم يذكر إجلالا له عن أن يواجهه بالت!! يب، وقيل إنه(1/322)
لرعاية الفاصلة، أو لقصد التعميم إذ كان التقدير يكذبون ما جاء به أي جميع ما جاء به مما يلزم تصديقه فيه أو للاختصار، أو لأنّ العناد وتكذيب الرسول كانا من شأن اليهود، ولما كانوا غير مجاهرين بالتكذيب والكفر وإلا لم يكونوا منافقين حمله على التكذيب بقلوبهم، أو بدون مواجهة المؤمنين بل مع شياطينهم وهو مجاز عن رؤسائهم وعقلائهم، وفي نسخة شطارهم جمع شاطر وهو من أعيا أهله خبثاً والمراد به ما ذكر مجازاً أيضاً أو كناية أي يكذبونه بقلوبهم دائماً وبألسنتهم {إِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ} فقوله وإذا خلوا معطوف على قوله: بقلوبهم بتقدير وبألسنتهم إذا إلخ. قوله: (أو من كذب الذي هو للمبالنة إلخ) فهو لازم بلا تقدير والتفعيل حينئذ إمّا للمبالغة لقوة كذبهم وتصميمهم عليه كبين بمعنى
تبين الوارد في كلامهم بمعنى كمال ظهور الشيء واتضاحه، أو للتكثير دلالة على كثرة الفاعل كما في قولهم موتت البهائم جمع بهيمة وهي معروفة، وقيل إنهم ذهبوا إلى أنّ الكثرة في موتت لتعذر تكثر الفعل بالنسبة لكل واحد، وهنا ليس كذلك فيرح إلى الوجه الذي قبله من المبالغة إلا أن يقال المبالغة بالنسبة إلى ذات الكذب في نفسه، والكثرة بالشبة لتعدده، فحقيقة الأمرين راجعة إلى القوّة والكثرة، وتغايرهما ظاهر فسقط ما قيل من أنّ عطف التكثير على المبالغة بأو الفاصلة ليس كما ينبغي، وقد يكون التكثير في المفعول كقطعت الأثواب، وكذب الوحشي قيل إنه. على هذا مجاز مأخوذ من كذب المتعدي، كأنه يكذب رأيه وظنه، فيقف لينظر ما وراءه ولما كثر استعماله في هذا المعنى وكانت حالة المنافق شبيهة بهذا جاز أن يستعار منه لها، ولا يخفى ما فيه من التكلف، وأنّ كونه متعديا بحسب الأصل غير موافق لما نحن بصدده فتدبر. قوله: (الخبر عن الشيء على خلاف ما هو به) الخبر هنا بمعنى الاخبار، وهو أحد معنييه قال الراغب في كتاب الذريعة: ذهب كثير من المتكلمين إلى أنّ الصدق يحسن لعينه، والكذب يقبح لعينه.
وقال كثير من الحكماء والمتصوّفة أنّ الكذب يقبح لما يتعلق به من المضارّ الخالصة، والصدق يحسن لما يتعلق به من المنافع الخالصة لأنّ شيئاً من الأقول والأفعال لا يقبح ويحسن لذاته اهـ. وقوله: (على خلاف ما هو به) أي ما هو متليس به في نفسه وحد ذاته في الواقع ونفس الأمر، أو في اعتقاد المخاطب، وفي ذهنه فكلامه صادق على المذاهب ففيه إيجاز حسن. قوله: (وهو حرام كله إلخ) قيل عليه إنه تبع فيه الزمخشريّ، وهو مبنيّ على مذهب المعتزلة في التحسين والتقبيح المقتضي لأن يكون حراما لعينه كما مرّ، ولذا قال: وهو قبيح كله وعدل عنه المصنف والمصزح به في كتب الافعية المعتمدة أنّ من الكذب ما هو حرام وما هو مباح، وما هو مندوب وما هو واجب وقد ورد الحديث بجوازه في ثلاثة مواطن في الحرب، واصلاح ذات البين وكذب الرجل لامرأته ليرضيها (1 (وهو مرويّ في الصحيحين، والسنن كما فصله النووي في أذكاره، وفيه تفصيل قاله الغزاليّ وهو أن كل مقصود محمود يمكن التوصل إليه بالصدق والكذب جميعاً، فالكذب فيه حرام لعدم الحاجة إليه فإن لم يمكن إلا بالكذب، فالكذب فيه مباح إن كان تحصيل ذلك المقصود مبا-حا وواجب إن كان واجباً فلو اختفى مسلم من ظالم وسأل عنه وجب الكذب بإخفائه وكذا لو سأل عن ماله ليأخذه ولو
استحلفه لزمه أن يحلف، ويوري في يمينه، وكذا في كل مقصود، فلا يختص بالصور الثلاث الواردة في الحديث بل ينبغي أن يقابل بين مفسدة الكذب، والمفسدة المترتبة على الصدق، فإن كانت المفسدة في الصدق أشذ ضررا فله الكذب، وإن كان عكسه أو شك حرم عليه الكذب اهـ ونحوه في كتاب الذريعة للراغب، فما قيل في الجواب عنه بأنه مذهب الشافعية من قصور النظر، فإنه متفق عليه في جميع المذاهب كما صرحوا به، وقيل إنّ معنى الكلية في كلام المصنف أنّ الكذب حرام مز حيث ذاته مطلقاً وقد يكون مباحاً من حيث وصفه كما في الصور المذكورة، وهو وهم على وهم، فإنه مع مخالفته لمذهبه مبنيّ على الاعتزال. قوله: (لأنه علل به استحقاق العذاب إلخ) في الكشاف وفيه رمز إلى قبح الكذب وسماجته، وتخييل أنّ العذاب الأليم لاحق بهم من أجل كذبهم ونحوه قوله تعالى {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا} [نوح: 25] والقوم كفرة وإنما خصت الخطيآت استعظاماً لها، وتنفيراً عن ارتكابها يعني أنّ فيه تعريضاً يتضمن تحريضاً للمؤمنين على ما هم(1/323)
عليه من الصدق والتصديق، فإنّ المؤمن إذا سمع ترتب العذاب على الكذب دون النفاق الذي هو أخبث الكفر وصاحبه في الدرك الأسفل تخيل في نفسه تغليظ اسم الكذب، وتصوّر سماجته فانزجر أعظم انزجار فسقط ما قيل من أنّ قبحه لا سيما عندهم تحقيق لا تخييل، لما عرفته من معنى التخييل والزجر وهذا من قبيل ما في قوله تعالى {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ} [غافر: 7] من ذكر الوصف سواء كان نعتاً أولا لمدح ذلك الوصف في نفسه، أو ذمه ترغيباً فيه أو تنفيراً، كما يكون الوصف لمدح الموصوف أو ذمه، وهذا كما صرّج به السكاكيّ والخطيب، ومن الناس من حسبه من البديع الغريب وسيأتي في كثير من النظم الكريم، والمراد بترتبه عليه أنه مسبب عنه، فهو مؤخر رتبة وما ذكره ظاهر على قراءة التخفيف وكذا في غيرها لأنّ نسبة الصادق إلى الكذب كذب، وكذا كثرته ونحوها فتدبر. قوله: (وما روي أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام إلخ) إشارة إلى ما روي في الصحيحين وغيرهما في حديث الشفاعة فيقول إبراهيم عليه الصلاة والسلام إني كذبت ثلاث كذبات على روايات مختلفة في بعضها أنه عذها فذكر قوله في الكوكب {هَذَا رَبِّي} [الأنعام: 78] وقوله {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} [الأنبياء: 63] وقوله {إِنِّي سَقِيمٌ} (1 ( [الصافات: 89] وروى الترمذفي رحمه الله في حديث الشفاعة أنهم يأتون إبراهيم عليه الصلاة والسلام فيقولون له اشفع لنا فيقول: لست لها إني كذبت ثلاث كذبات، ثم قال صلى الله عليه وسلم: ما منها كذبة إلا ما حل بها وفي رواية جادل بها عن دين الله وفي رواية أحمد رحمه الله إنها قوله {إنّي سَقِيم} [سورة الصافات، الآية: 89] وقوله {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} [سورة الأنبياء، الآية: 63] وقوله للتيك في جواب سؤاله عن امرأته سارة هي أختي حين أراد الملك غصبها وكان من طريق السياسة التعرّض لذوات الأزواج دون غيرهن بدون رضاهن، وقيل: هي قوله ثلاث مرات هذا ربي والحديث بطوله مشهور في كتب الحديث، وكذبات قال القاضي عياض في مشارق اللغة: هو بفتح الكاف والذال جمع كذبة بفتح الكاف الواحدة من الكذب اهـ. فليس جمع كذبة بكسر الكاف، وسكون الذال المعجمة بمعنى الكذب لمخالفته للرواية فيه. قوله: (فا المراد التعريض إلخ) قد عرفت أنّ الحديث صحيح وما في بعض الحواشي نقلاً عن الرازي من أنه يجب القطع بكذب رواته، وان يكذب الرواة حتى يصدق إبراهيم أولى لا أصله له عنه، فإن صح فهو خطأ، ونحن ننظر لما قيل لا لمن قال، وسيأتي ما الحامل له على مثله من الشبهة ودفعه، والمراد بالتعريض هنا معناه اللغوي وهو ما يقابل التصريح والتصريح أن يكون اللفظ نصاً في معناه لا يحتمل! معنى آخر احتمالاً معتدا به والتعريض خلافه، وهو أن يكون اللفظ محتملا لمعنيين سواء كانا حقيقيين كما في إني سقيم أولاً وسواء كان أحدهما أظهر من الآخر كما في الإبهام البديعي أولاً كما في التوجيه، فهو أعمّ من التعريض الاصطلاحي لاختصاصه بالمجاز والكناية كما ذكره السكاكيّ في آخر البيان، وكذا من الكناية والتورية والابهام والتوجيه في الاصطلاح، ويسمى في اللغة أيضا كناية وتورية وليست هذه الكناية بيانية وليست التورية بديعية، والتعريض تفعيل من عرض كذا إذا اعترض وطرأ، والكناية من كنى إذا ستر والتورية إمّا من الوراء على ما اختاره ابن الأثير كأنه ألقى البيان وراء ظهره أو من أورى القابس إذا أظهر نوراً وفي النهاية الأثيرية في الحديث المرفوع عن عمران بن حصين " إنّ في المعاريض لمندوحة عن الكذب " المعاريض جمع معراض من التعريض، وهو خلاف التصريح يقال عرفت ذلك في معراض
كلامه ومعرض كلامه بحذف الألف، وفي حديث عمر رضي الله عنه " أما في المعاريض ما يغني المسلم عن الكذب " وتسمية المعاريض كذبا من حيث مظنة السامع وهي صدق من حيث يقوله القائل وهي التورية والكناية اهـ ومن الناس من ظن أنّ التعريض هنا بمعناه المصطلح، فخبط خبط عشواء وأطال من غير طائل، وفي كلام الشريف ما يوهمه ولله در المحقق حيث فسره بأن يشار بالكلام إلى جانب ويعرض منه جانب آخر ومن لم يتفطن له قال ذكر المحقق الشريف أنّ الكلام لا يكون مستعملاَ في المعنى التعريضي أصلا بل في غيره مع إشارة إليه بقرينة السوق، وعليه ظاهر تفسير قوله تعالى {فِيمَا عَرَّضْتُم بِهِ} [البقرة: 235] الآية فإذا أريد بقوله {إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات: 89] ساسقم لا يتحقق التعريض، فإنه لا يمكن أرادة ذلك إلا بطريق الاستعمال، نإنه لا دلالة لسياق الكلام(1/324)
وسباقه عليه كما في صورة التعريض، وكذا الحال فيما إذا حمل قوله هذه أختي عنى الأخوة في الدين لا في النسب، اللهم إلا أن لا يراد بالتعريض هنا ما هو المصطلح المشهور بين الجمهور بل ما فيه خفاء في أداء المراد من الكلام على ما في الأذكار من أنّ التورية، والتعريض معناهما أن تطلق لفظاً ظاهرا في معنى، وتريد معنى آخر يتناوله ذلك اللفظ، ولكنه خلاف ظاهره اهـ. قوله: (لما شابه الكذب في صورته سمي به) ، فإطلاق الكذب بطريق الاستعارة لمشابهتها الكذب من حيث كونها في الظاهر إخبارا غير مطابقة للواقع لا، كما تسمى صورة الإنسان المنقوشة إنسانا لكنها في التحقيق تعريضات، والغرض من قوله {إِنِّي سَقِيمٌ} أنه سيسقم لما علم من ذلك بأمارة النجوم، أو أنه سقيم أي متألم بما يجد من الغيظ، والحنق باتخاذهم النجوم آلهة، ومن قوله {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ} التنبيه على أنّ من لم يقدر على دفع المضرّة عن نفسه كيف يدفعها عن غيره فكيف يصلح إلها، ومن هذه أختي إخوة الدين تخلصاً من الظالم، ومن {هَذَا رَبِّي} الفرض، أو الحكاية تنبيهاً على خطيئتهم في ادعاء ألوهيتها مع قيام دليل الحدوث، وسيأتي تحقيقه في محله.
(فإن قلت) كيف يقول الخليل عليه الصلاة والسلام يوم القيامة إني كذبت وأنا لما صدر
مني الذنب أستحيي من أن أقوم شافعاً بين يدي الله، فإنّ ما في الدنيا إن كان من المعاريض فليس بكذب، ويكون قوله ثلاث كذبات مخالفا للواقع، ومثله لا يستحيا مته، فيقعوا فيما فرّوا منه وإن لم يكن كذلك يكن وقع منه الكذب في الدنيا، وهو مناف لعصمته صلّى الله عليه وسلم، ولا بد من أحد هذين الأمرين، وهذا هو الذي جسر الإمام على الطعن في الحديث وتكذيب راويه لتوهمه لأنه أ] ف من نسبة الكذب إلى الخليل عليه الصلاة والسلام.
(قلت) هذه شبهة قوية ويؤيدها أنّ مثل هذه المعاريض صدرت منه عليه الصلاة والسلام
في مواضع كقوله " من ماء " ولم يقل أحد إنه مشكل محتاح للتأويل ويمكن دفعها بأن يقال هي من المعاريض الصادقة ولكنها لما كانت مبنية على لين العريكة مع الأعداء دفعاً لضررهم، ومثله ممن تكفل الله بعصمتة وحمايته يناسبه مبارزة أعدائه بالمكروه بذلا لنفسه في سبيل الله أو دخولا في حفظ حصن الله، فلعدوله عما يليق بمقامه ثمة عذ ذلك لشدة خوفه، أو تواضعه ذنبا وسما. كذباً لأنه على صورة الكذب خوفا من وخامة مداراة أعدائه، وما وقع من النبيّ عليه الصلاة والسلام لم يقع في مثل هذا المقام حتى يستحيى منه، فإنّ لكل مقام مقالا وقد حام حول الحمى من قال: إنّ النبيّ عليه الصلاة والسلام قصد براةء ساحة الخليل صلى الله عليه وسلم، فجعلها معاريض جادل بها عن الدين والخليل لمح برتبة الشفاعة وأنها مختصة بالحبيب صنى الله عليه وسلّم، فتجوز في الكذبات، أو هو من هول ذلك اليوم واهتمامهم بشأن أنفسهم دفعهم بدّلك، فتامله.
(فإن قلت) إذا كان للفظ معنيان سواء كانا حقيقيين، أو لا وهو باعتبار أحدهما مطابق مطابقة تصيره صادقا على أيّ الأقوإل اعتبرته فيه، وباعتبار الآخر غير مطابق، فهل المعتبر من ذلك ما قصده المتكلم أو ما ظهر منه أو أيهما كان، أو هو يوصف بالصدق والكذب باعتبارين، أو لا يوصف فتثبت الواسطة.
(قلت) الظاهر أنّ المعتبر ما قصده المتكلم قصدا جاريا على قانون التكلم، ولذا قال السكافي مرجع الخبرية واحتمال الصدق والكذب إلى حكم المخبر الذي يحكمه في خبره، سواء كان فائدة الخبر أو لازمها، فإذا طابق حكمه الواقع كان صدقا على الأصح لا على مذهب النظام كما يسبق إلى بعض الأوهام.
واعلم أنّ ظاهر كلام المصنف، وغيره هنا أنّ المعاريض لا تعد كذباً، وهو الموافق لما
مز في الحديث من أنّ فيها مندوحة عن الكذب، وحينئذ فلا بد فيها من قرينة على المراد وإن كانت خفية لأنها الفارقة بين الكذب وغيره، كما صرّح به السكاقي، إلا أنّ قول الزمخشريّ في سورة الصافات الصحيح أنّ الكذب حرام إلا إذا عرّض ظاهر في أنه من الكذب المستثنى إلا أن يجعل منقطعا، وما في شرح الآثار للطحاوي أنّ ما روي في الحديث " لا يصلح الكذب إلا في ثلاث: إصلاح يين الناس، وكذب الرجل لامرأته ليرضيها، وكذب في الحرب " (1) في
روايته ض عف وان صح كان المراد به المعاريض أيضا لأنها في صورة الكذب، ويؤيده حديث أم كلثوم من أنه عليه الصلاة والسلام " لم يرخص في شيء من الكذب مما يقوله الناس إنما يصلح في ثلاث " (1) إلخ(1/325)
فصرّح بنقي الكذب في هذه الثلاثة، وهو حديث صحيح لا علة فيه والترخيص في الثلاث لم يصح، فإن ثبت فهو من قول الراوي، وقد قال تعالى {وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة: 119] وقال: {اجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} [الحج: 35] على العموم اهـ وهذا مخالف لما مرّ عن الفقهاء فتدبر. قوله: (عطف على يكذبون) فهو جملة في محل نصب لعطفها على خبر كان وجملة كان صلة ما، وقد تقدّم أنها يجوز أن تكون موصولة، ومصدرية على الخلاف في الترجيح، وقد قالوا بجواز الوجهين على الاحتمالين، كما صرّح به أبو البقاء رحمه الله واعترض عليه أبو حيان بأت على الموصولية خطا! لعدم العائد على ما من تلك الجملة، فيصير التقدير، ولهم عذاب أليم بالذي كانوا إذا قيل لهم {لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} و. هو كلام غير منتظم وكذا على المصدرية على القول باسميتها، وأمّا على مذهب الجمهور، فهو سائغ وقيل عليه إنّ لزوم الضمير هنا غير مسفم، وأنّ النحاة لم يذكروا وصمل ما! المصدرية بالجملة الشرطتة فتأمل. قوله: (أو يقول) واذا خلصت الماضي للاستقبال، فلذا حسن عطف الماضي على المضارع في الوجهين إلا أنه على هذا لا محل لهذه الجلة لعطفها على الصلة، وفي الكشاف الوجه الأوّل أوجه وتقديم المصنف له يشعر بموافقته، وإن احتمل عدم التصريح لأنه ذهب إلى التساوي بينهما لما سيأتي، وقال قدّس سرّه: تبعا لمن قبله من الشراح وجه الأوجهية قربه في إفادته تسبب الفساد للعذاب، فيدل على صحته ووجوب الاحتراز عنه كالكذب، ولخلوّه عن تخلل ابي ن أو الاستئناف، وما يتعلق به بين أجزاء الصلة أو الصفة، وقد يرجح الثاني بكون الآيات حينئذ على نمط تعديد قبائحهم وافادتها اتصافهم بكل من تلك الأوصاف استقلالا وقصدا، ودلالتها على لحوق العذاب الأليم بسبب كذبهم الذي هو أدنى أحوالهم في كفرهم ونفاقهم، فما ظنك بسائرها.
(أقول) هذا مناف لما قدّمه قبله من قوله: إنه جعل عذابهم مسبباً لكذبهم رمزاً إلى قبح الكذب حيث خص بالذكر من بين جهات استحقاقهم إياه مع كثرتها، وفيه تخييل أنّ لحوق العذاب بهم، إنما كان لأجل كذبهم نظرا إلى ظاهر العبارة المقتصرة على ذكره واختار لفظ التخييل بناء على أنّ السامع يعلم أنّ ذلك اللحوق لجهات كثيرة، وأنّ الاقتصار على ذكره رمز إلى سماجته وتنفير عن ارتكابه كما سيأتي، ووجه إفادته لتسبب الفساد للعذاب أنه داخل في
حيز صلة الموعول الواقع سبباً إذ المعنى في قولهم {إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} إنكار اذعائهم أنّ ما نسب لهم منه صلاح، وهو عناد واصرار على الفساد، والإصرار على ذلك فساد واثم، فلا وجه لما قيل عليه من أنّ العطف على يكذبون يقتضي أن يكون المعنى، ولهم عذاب أليم بقولهم {إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} إذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض فيفيد تسبب هذا القول للعذاب لا تسبب الفساد له، وكذا ما قيل من أنه لا دلالة له على تسبب الفساد بل على تسبب الكذب، وهو قوله إنما نحن مصلحون، وأمّ تخلل ألا انهم هم المفسدون بين إذا قيل وإذا قيل وهما من أجزاء الصلة، فيرد على هذا ما ورد أوّلاً، فليس بشيء لمن له نظر سديد، وسيأتي تتمته نعم قوله {إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} كذب فيؤل المعنى إلى استحقاق العذاب بالكذب لا غير، وهذا مما يأبى الأوجهية لأنه تأكيد لا يليق عطفه، وعطف التفسير بالواو في الجمل خلاف الظاهر، وأمّا ما ذكر من ترجيح الثاني فيرد عليه أنه في المآل كذب كما أشرنا إليه، ولو سلم تغايرهما بالاعتبار وضم القيود، فهو جزء من الصلة أو الصفة وكلاهما يقتضي عدم الاستقلال، وإنما يكون مستقلا على ما اختاره المدقق في الكشف حيث قال لو قيل إنه معطوف على. قوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ} لبيان حالهم في ادعاء الإيمان، وكذبهم فيه أوّلا ثم لبيان حالهم في انهماكهم في باطلهم ورؤية القبيح حسنا والفساد صلاحا ثانيا ويجعل المعتمد بالعطف مجموع الأحوال، وان لزم فيه عطف الفعلية على الاسمية كان أرجح بحسب السياق، ونمط تعديد القبائح وهذا قريب مما اختاره صاحب البحر، وقال الذي نختاره أنه من عطف الجمل وأنّ هذه الجملة مستأنفة لا محل لها من الإعراب لأنها وما بعدها من تفاصيل الكذب، ونتائج التكذيب ألا ترى أنّ قولهم {إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} وأنؤمن إلخ وقولهم آمنا كذب محض، فناسب جعلها جملا مستقلة لإظهار كذبهم ونفاقهم وتكثير ذمهم والردّ عليهم، وهذا أولى من جعلها صلة وجزءا من الكلام، لأنها لا تكون مقصودة لذاتها(1/326)
والمراد باستئنافها عطفها على الجملة المستأنفة، وقول الشارحين الفاضلين في ردّه إنه ليس مما يعتد به وان توهم كونه أوفى بتأدية هذه المعاني، وذلك لعدم دلالته على اندراج هذه الصفة، وما بعدها في قصة المنافقين وبيان أحوالهم إذ لا يحسن عود الضمائر التي فيها إليهم كما يشهد به سلامة الفطرة لمن له أدنى درية باساليب الكلام لا يظهر له وجه عندي، فإنّ عود الضمائر رابط للصفات بهم، وسوق الكلام مناد عليه، وقد يأتي في الصفة الواحدة جمل مستأنفة بغير عطف كما مرّ فإذا لم ينافه الاستئناف رأسا كيف ينافيه العطف على أوّله المستأنف، والعطف إنما يقتضي مغايرة الأحوال لا مغايرة القصص، وأصحابها ألا ترى أنه لو قال قائل لولا الحمقى لخربت البلدان، ولولاهم لم يحتج لحاكم ولا سلطان، فالجملة الثانية معطوفة على أوّل الكلام وهما صفة لشيء واحد بغير مرية، ومن الناس من سرد الوجوه هنا من غير تفطن لما بينهما من المنافاة، وفي شرح الكشاف للرازي الثاني أوجه، لأنّ قوله {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ} [البقرة،
الآية: 91] وقوله {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ} [البقرة: 76] معطوفان على قوله {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ} فلو عطف على يكذبون كانا أيضاً معطوفين عليه فيدخلان في سبب العذاب، فتنتفي فائدة اختصاص الكذب بالذكر المبنيّ عليه ما مرّ، وقيل عليه إنّ الثلاثة حينئذ معطوفة على يكذبون عطفاً تفسيرياً لكذبهم لأنّ قولهم {إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} و {أَنُؤْمِنُ} إلخ وآمنا كذب فلا يقابل الكذب حتى يبطل الاختصاص وفائدته.
وأجيب عنه بأنّ جعل العطف تفسيريا يأباه تصريحه بأنّ المراد بكذبهم قولهم ولمنا بالثه واليوم الآخر} وقوله {أَنُؤْمِنُ} إنشاء لا يلحقه الكذب وفائدة الاختصاص تفهم من تقديمه، والتصريح بكونه سبباً أوّل وهلة، ثم إنه اختار مسلكا آخر، وهو أنّ الأوّل أوجه على قراءة يكذبون بالتشديد والثاني أنسب بالتخفيف لأنه يكون سبباً للجمع بين ذمهم بالكذب والتكذيب، وعلى الثاني يكون تأكيدا والتأسيس أولى، وفيه نظر فتدبر. قوله: (وما روي عن سلمان الخ) هذا أثر روي عن سلمان الفارسيّ الصحابي المشهور رضي الله عنه كما أخرجه ابن جرير عنه وكذا تأويله الذي ذكره المصنف عنه، وعبارته كما نقله عنه خاتمة الحفاظ السيوطي لعله قال ذلك بعد فناء الناس الذين كانوا بهذه الصفة على عهده صلّى الله عليه وسلم خبراً منه عمن هو جاء منهم بعدهم، وإن لم يجيء وقوله بعد مبنيّ على الضم، وهذا الاستعمال معروف يقال لم يكن كذا بعد أي إلى الآن لأنّ التقدير بعدما مضى من الزمان، وتفسيره بأنه بعد هؤلاء، أو بعد زمانه عليه الصلاة والسلام ليس بتام، والمراد بأهل الآية من ذكر فيها ووصف بها، فسموا أهلها توسعاً لظهور معناه. قوله: (فلعله أراد به إلخ) قد مرّ أنّ المصنف دأبه أن يعبر بلعل عما لم يجزم به لا لما هو من نتائج قريحته كما يريده غيره بهذه العبارة، وما ذكره من الأثر وتوجيهه حاصله أنّ الآية في المنافقين مطلقاً لا تختص بمنافقي عصره أو منافقي المدينة، وان نزلت فيهم لأنّ خصوص السبب لا ينافي عموم النظم كما هو مشهور، فالآية عامة تشملهم، وتشمل من ياني بعدهم عن جنسهم ولا يريد أنها مخصوصة بقوم آخرين مباينين لهؤلاء بالكلية حتى يقال إنه مناف لظاهر النظم وعود الضمير على ما بعد، ولذا قيل إنّ المرويّ يدل بظاهره على أنّ المراد بهذه الآية غير المراد بما قبلها فلا يكون عطفا على يقول أو يكذبون، ولا يمكن أن يراد به ظاهره، فلعله أراد به أنّ أهل هذه الآية ليسوا الذين كانوا موجودين عند نزولها فقط بل وسيكون من بعد من حاله حالهم، وإنما له يمكن إرادة ظاهره لأنّ الآية متصلة بما قبلها بالضمير الذي هو في لهم، وقالوا فيقتضي أن يراد بهذه الآية الناس المذكورون في الآية المتقدّمة، وإلا لم يحسن محود الضمير على من قبل كما يشهد به سلامة الفطرة، وأمّا ما قيل من أنّ توجيه المصنف رحمه الله لا يخفى بعده، والأوجه أنّ المراد أهل الاتعاظ بهذه الآية من مفسدي الأرض من المسلمين لأنه لم يكن في زمنه عليه الصلاة والسلام من المؤمنين
مفسدون، فغفلة عما أراده، وعدول إلى ما هو أبعد منه. قوله: (والفساد خروج الشيء عن الاعثدال إلخ) هذا معناه اللغوي المضاد للصلاح ويقرب منه البطلان، ولذا فسر به والط كان للفقهاء فرق بين الفاسد، والباطل على ما فصلوه يقال فسد فسادا وفسوداً، وأفسده غيره، وقوله في الأرض قيل: إنّ ذكره للدلالة على الاستغراق، وفيه إيماء إلى(1/327)
تعظيم الشريعة، والرسول صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين بأنهم صلاج الدنيا كلها والإفساد الضارّ بهم ضمار بالدنيا كلها، فما الناس والدنيا سواهم، أو جعلى ما عدا أرض المدينة لتمحض الكفر فيها إذ ذاك ملحقاً بالعدم، وأرضها كأنها الدنيا. قوله: (وكلاهما يعمان كل ضار ونافع وكان من فسادهم إلخ) أي الفساد والصلاج يشمل كل منهما ما يضرّ وما ينفع، هذا بحسب الظاهر مخالف لما في الكشاف وفي العدول عنه إشارة إلى عدم ارتضائه له وعبارته هكذا، والفساد خروج الشيء عن حال استقامته، وكونه منتفعا به ونقيضه الصلاج، وهو الحصول على الحالة المستقيمة النافعة اهـ. وهكذا هو في التفسير الكبير، وقد يقال إنه لا منافاة بينهما لأنّ ما ذكره المصنف رحمه الله باعتبار الحقيقة، والمآل وهو الذي ارتضاه الراغب، وما ذكره الزمخشريّ باعتباره في أصله وما هو من شأنه، وما قيل: من أنّ الضارّ منتفع به لمن يقصد الإضرار تكلف لا حاجة إليه، ومقابلة الفساد بالصلاح هو المشهور كما قال تعالى {وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا} أسورة الأعرأف: 56] وقد يقال: في مقابلة السيء كما قال تعالى {خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا} [التوبة: 02 ا] وقد يجعل مقابل الصحة وهو مختص في الأكثر بالأفعال وقوله وكان من فسادهم إلخ من إمّا ابتدائية أي وكان ينشأ من فسادهم ما ذكر فهو توطئة لما بعده، وتحتمل التبعيضية، ولذا قيل إنه أشار بادراجها إلى أنّ الفساد لا ينحصر في هذه الأمور التي في الكش! اف بل منه ما ذكره غير. من تغيير الملة، وتحريف الكتاب، ودعوة الكفار في السرّ إلى تكذيب ال! صلمين، ومنه إظهار المعاصي والإهانة بالدين، فيكون كلام المصنف رحمه الله مخالفا لما في الكشاف، والذي في حواشي غيره أنهما متحدان، وفي الحواشي الشريفية تفسير فساد المنافقين بالفساد الناشىء من جهلهم لإفسادهم في أنفسهم، والأولى أن يقال إفسادهم لأنّ ممالأتهم لإفشاء الأسرار إفساد، ولما كان حقيقة الإفساد جعل الشيء فاسداً، ولم يكن صنيعهم كذلك جعلوه من قبيل مجاز الأوّل أي لا تفعلوا ما يؤذي إلى الفساد، وقد يقال: ما كانوا فيه عين الفساد في أنفسهم ومعنى {لاَ تُفْسِدُواْ} لا تأتوا بالفساد، ولا تفعلوه، فلا حاجة إلى المجاز، وليس بشيء إذ ليس إتيان الشيء بفساد نفسه حقيقة الإفساد، وفائدة في الأرض التنبيه على أنّ فسادهم يؤدّي إلى فساد عامّ من الحروب والفتن واختلال الدين والدنيا كما مرّ، ولم يحمل إفسادهم على تحريف الكتاب والأحكام، ودعوة الكفار سر التكذيب المؤمنين، كما حمله عليه غيره، لأنه لا ظهور حي! عذ لتلك الفائدة.
(أقول) تبع في هذا من قبله من الشراح، وفي بعض الشروح أنه وهم، لأنّ ممايلتهم وممالأتهم لما كانا مفضيين إلى هيج الحروب والفتن فساد بالتفسير المذكور باعتبار ما يترتب عليهما، وكونه إفسادا للأمور والمصالح لا ينافي كونه فسادا بالتفسير المذكور، ولا وجه له إلا أنّ ما ذكروه غير متجه لأمور فيه أكسبته خللا منها أنّ قولهم إنّ الأولى أن يقال إفسادهم بدل فسادهم فيه فساد، لأنّ الفساد ورد بمعنى الإفساد فالأولى تفسيره به ألا ترى قوله تعالى في سورة المائدة {وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا} [المائدة: 64] فإنه بمعنى الإفساد وبه فسر كما في أنبتكم من الأر ضنباتاً والذي دعاهم، لما ذكر ظنهم أنه مصدر فسد اللازم وليس بلازم، ومنها أنهم زيفوا ما في الكشف وتلقاه من بعدهم بالقبول، وليس بوارد أيضا لأنه يريد أنّ الداعي لتأويله، وجعله مجازا أنه لم يقع منهم الإفساد، وإنما صدر منهم الفساد، فلو نزل منزلة اللازم وأريد منه أنه يفعل الفساد ويتصف به بقطع النظر عن تعدي إفساده لغيره، كما في يعطي ويمنع تم المراد، ولم يقل إنّ فساد نفسه حقيقة الإفساد ولم ينظر لحقيقة ولا مجاز فيه، ومنها أنّ قولهم لا ظهور لتلك الفائدة غير مسفم أيضاً لأنّ التحريف المذكور، والدعوة للتكذيب يؤدّي إلى الفتن، والاختلال في الدين والدنيا بغير مرية فتدبر. قوله: (هيج الحروب والفتن) يقال: هاجت الحرب هيجا وهياجا وهيجاناً إذا ثارت، ووقع القتال وغيره مما يفعل بالعدوّ، ويقال هاجها أيضاً، فهو متعد ولازم كما ذكره اللغويون من غير تفرقة بينهما غير أنّ اللازم كثر استعمالاً، وفي حواشي الكشاف لابن الصائغ نقلا عن أفعال ابن طريف أنّ مصدر اللازم الهياج ومصدو المتعدي الهيج قال: فهيج الحروب مصدر مضاف للمفعول، ولو قال هياج كان مضافا للفاعل(1/328)
اهـ والممالأه بميمين ولام ثم همزة كالمعاونة لفظاً ومعنى.
، ومنه قول عليّ رضي الله عنه ما مالأت على قتل عثمان أي ما ساعدتهم، ولا وافقتهم
كما زعمه بعضهم، وأصل معناه ما كنت من الملأ الذين فعلوا ذلك، ثم تجوّز به عما ذكر، وفي الأساس مالأه عاونه، وأصله المعاونة في الملء، ثم عمّ كالاجلاب.
وقال قدّس سرّه تبعاً لغيره: المراد بقوله هيج الحروب هو اللازم، لأنّ المتعدي إفساد لا فساد، وقد عرفت ما فيه وأنه يجوز فيه التعدي بالنظر إلى الماس كما يجوز اللزوم نظرا لأصله، والعجب ممن ارتضى تبعاً له لزوم اللزوم، ثم قال والقول بأنّ الأنسب من إفسادهم لأنّ الهيج ههنا متعد بقرينة قوله بمخادعة المسلمين، وممالأة الكفار أي معاونتهم على المسلمين إفساد وفساد كما لا يخفى على أهل السداد، وغفلة عن قوله: فإنّ ذلك إلخ. ولا يخفى ما فيه من الخللى الغني عن البيان. قوله: (فإن ذلك يؤدّي إلى فساد ما في الأرض إلخ) في قوله يؤدّي إشارة إلى ما فيه من مجاز الأوّل كما مز تقريره، وقيل المراد من الفساد في الأرض هيج
الحروب، والفتن بطريق الكناية الرمزية، لأنّ هيجها يستلزم خروج الأرض عن اعتدالها واستقامتها، فذكر اللازم وهو الخروح عن ذلك وأريد الملزوم وهو الهيج، ثم أنهم ما كانوا يهيجونها بل يفعلون ما يؤدّي إلى ذلك، فهو مجاز مرتب على الكناية وقيل إنه مجاز عما يلزمه من ذلك وهو غير بعيد. وقوله: (من الناس والدواب والحرث) إشارة إلى قوله تعالى {سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ} [البقرة: 205] والحرث إلقاء البذر في الأرض وتهيئتها للزرع ويسمى المحروث حرثاً أيضاً تصورّ منه العمارة التي تحمل عنه في كون الدنيا محرثا ونحوه، وقيل: إطلاق اسم الفساد على هيجان الحروب من إطلاق اسم المسبب على السبب مجازاً، ومعنى لا تفسدوا لا تهيجوا الفتن المؤدّية إلى فساد ما في الأرض، ولا يخفى ما فيه من التخليط والتخبيط. قوله: (ومنه إظهار المعاصي إلخ) أي من الفساد في الأرض ما ذكر، وهذه معطوفة على ما قبلها، أو على قوله من فسادهم في الأرض، وضمن الإهانة معنى الاستخفاف أو حملها عليه، فلذا عداه بالباء، وهو متعد بنفسه وبينه بقوله فإنّ إلخ. وقيل: إنه ردّ لما يقال من أنّ الزمخشريّ خص هذا الفساد لأنّ فيه زيادة بيان لفائدة قوله في الأرض لأنّ غير ما ذكره أيضاً يعود إلى فساد الأرض، والهرج والمرج بمعنى القلق والاضطراب قيل: وإنما يسكن المرج مع الهرج للإزدواح، فإذا لم يقارنه فتحت راؤه وفي بعض كتب اللغة ما يخالفه فالهرج بالسكون وقوع الناس في فتنة واختلاط والمرح قريب منه ويكون موضح الخضرة، ولذا تظرّف بعض المحدثين فقال:
حمى مرج العذاربمقلتيه فبات الناس في هرج ومرج
وإنما قال: ومنه إلخ لأنه نقل عن ابن عباس رضي الله ش! ما تفسيره به أشار إلى أنه لم يقصد به الحصر ونظام العالم ما ينتظم ويتمّ به، وهو بالشرائع فلو عطلت والعياذ بالله كان تعطيلها يجرّيء الناس على ما يفني الحرث والنسل، ويخرب العالم. قوله: (والقائل هو الله إلخ) هذا من كلام الإمام في التفسير الكبير قال: وكل ذلك محتمل، ولا يجوز أن يكون القائل لذلك من لا يختمى بالدين والنصيحة، وان كان الأقرب هو أنّ القائل من يشافههم بذلك، فإمّا أن يكون الرسول صلّى الله عليه وسلم بلغه عنهم النفاق ولم يقطع بذلك فنصحهم، فأجابوه بما يحقق إيمانهم في الصلاح بمنزلة سائر المؤمنين، وامّا أن يقال إنّ بعض من كانوا يلقون إليه الفساد لا يقبله فهم فينقلب، واعظاً لهم قائلاَ لا تفسدوا أو يخبرون الرسول صلى الله عليه وسلّم بذلك فتدبر. قوله: (جواب لاذا إلخ) عبر بالناصح دون الناهي إشارة إلى أنّ هذا من القائل شفقة عليهم، ومعاملة بلطف من غير مبارزة وعنف منه، ووحه المبالغة ذكر الاسمية
المؤكدة المحصورة والتمحض الخلوص من قولهم لبن منحض أي لم يخالطه ماء، والشوائب جمع شائبة، وهو ما يخالط الشيء، فيمنعه من الخلوص والعرب تسمي العسل شوبا لأنه عندهم مزاج الأشربة، وفي المصباح وقولهم ليس فيه شائبة ملك يجوز أن يكون مأخوذاً من هذا ومعناه ليس فيه شيء مختلط به، وان قل كما قيل: ليس فيه علقة ولا شبهة وأن تكون فاعلة بمعنى مفعولة مثل عيشة راضية هكذا استعمله الفقهاء ولم أجد فيه نصا.
نعم قال الجوهريّ(1/329)
الشائبة واحدة الشوائب وهي الأدناس والأقذار، وفيه إشارة إلى أنّ القصر فيه إفراديّ، فإنهم لما نهوا عن الفساد، والإفساد توهموا بأنهم حكموا عليهم بأنهم خلطوا عملا صالحاً وآخر سيثا، فاجابوهم بأنهم مقصورون على محض الإصلاح الذي لم يشبه شيء من وجوه الفساد، واختاروا إنما إيماء إلى أنّ ذلك مكشوف لا سترة عليه، ولا ينبغي أن يشك فيه، واحتمال القلب الذي ذهب إليه بعض شراح الكشاف لأن المسلمين لما وصفوهم بالإفساد فقط دون الإصلاح خصوا أنفسهم بعكسه، وان صح خلاف الظاهر من كلام الشيخين.
وفي قوله ما دخله أي دخل عليه حذف، وايصال والمراد بما بعده الجزء الأخير، ولم يصرّح به استغناء بشهرته عن ذكره. قوله: (وإنما قالوا ذلك إلخ) قصر قولهم على ما ذكر ولم ينظر إلى غيره من الاحتمالات ككوز " كذبا محضا من غير تأويل لخوفهم من المؤمنين، لأنّ العاقل " إذا كان له مخلص من الكذب بزعمه يقصده لدفع ضرر الخصم، بما يفيده ظاهر الكلام إذ الكذب يقبح عند المؤمن والكافر فلا يرتكب بغير ضرورة ولا يرتضي تعمده بغير تأويل خصوصاً إذا كان بحيث يسبق إليه بغير تصنع وذلك لما أفاده بقوله لما في قلوبهم إلخ أو كونه مخادعة، كما قيل لأنه لا يناسب قوله {وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ} وهذا اً حد احتمالات ذكرها الإمام، واختار. المصنف رحمه الله لأنه أظهرها وأتمها، وزاد الإمام أنه إن فسر لا تفسدوا بمداراة الكفار كان معنى قوله مصلحون إنّ هذه المداراة سعي في الإصلاح بين المسلمين والكفار كقوله {إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا} [النساء: 62] وأيده بعضهم بأنه الوارد عن ابن عباس رضي الله عنهما فقد أخرج عنه ابن جرير أنه قال في تفسيره إنما يريد الإصلاج بين الفريقين من المؤمنين وأهل الكتاب والمصنف رحمه الله لم يلتفت إليه مع اعتنائه باً لتفسير المأثور لأنه غير مناسب للواقع، والسياق والسباق مع إرجاعه إلى صورة الصلاح التي ذكرها. قوله: (رذ لما اذعوه أبلغ رذ إلخ الما بولغ في كونهم مصلحين بولغ في رذه، وتقرير ضدّه من
جهات، كالاستئناف البياني، فإنه يقصد به زيادة تمكن الحكم في ذهن السامع لوروده عليه بعد السؤال والطلب، وما فيه من كلمتي ألا وأنّ من تأكيد الحكم وتحقيفه، وفي قوله {لاَ يَشْعُرُونَ} من الدلالة على أنّ كونهم مفسدين قد ظهر ظهور المحسوس بالمشاعر، وان لم يدركوه ووجه إفادة ألا وأما أختها ذلك بناء على تركبها من همزة الإستفهام الإنكاري الذي هو نفي معنى، ولا النافية فهي نفي نفي يفيد الإثبات بطريق برهاني أبلغ من غيره، وارتضى كثير من النحاة أنها بسيطة غير مركبة، وارتضاه أبو حيان رحمه الله وأبطل مقابله بدخولها على أنّ المشددة، ولا النافية لا تدخل عليها، فبين تركبها وتلقيها بما يتلقى به القسم منافاة ظاهرة، وردّ بأنها بعد التركيب انتسخ حكمها الأصلي، واستدلوا على إفادتها التحقيق بتلقيها بما يتلقى به القسم أي وقوع فا! يضدر به جواب القسم بعدما- كأنّ واللام وحرفي النفي، وردّه أبو حيان رحمه الله بأنها قد دخلت على رب وحبذا ويا الندائية كقوله:
ألا رب يوم صالح لك منهما
وقوله:
ألا حبذا هند وأرض بها هند
وقوله:
ألا يا قيس والضحاك سيرا
فقوله لا تكاد إلخ غير صحيح وهو وارد عليه وعلى من تلقاه بالقبول، كصاحب المغني والمصنف وادّعاء العلة فيه لا يصلح بسلامة الأمير وقوله ألا المنبهة بدل من حرفي التأكيد، أو بتقديرهما أو أعني. وقوله: (وإن إلخ) عطف عليه، وتعريف الخبر عطف على قوله للإستئناف. قوله: (وأختها أما إلخ) أي أما المفتوحة الهمزة المخففة الميم حرف استفتاح مثلها في إفادة التحقيق لا في جمبع ما ذكره، كما أشار إليه بقوله التي هي من طلائع القسم، لأنّ معناه تدخل على القسم كثيراً، وهذا مما فارقت به ألا أما قال في التسهيل وشرحه كثر ألا قبل النداء كقوله ألا يا اسجدوا، وأما قبل القسم، كقول إبن صخر الهذلي:
أما والذي أبكى وأضحك والذي أمات وأحيا والذي أمره الأمر
قال العلامة التفتازانيّ جوابه:
لقد تركتني أحسد الوحش إن أرى أليفين منها لا يروعهما الذعر
وفي بعض تصانيف ابن هشام ما يخالفه، فإنه أنشد الشعر هكذا:(1/330)
أما والذي أبكى وأضحك والذي أمات وأحيا والذي أمره الأمر
لقد كنت آتيها وفي النفس هجرها بتاتا لأخرى الدهر ما طلع الفجر
515
وما هو إلا أن أراها فجاءة فأبهت لا عرف لديّ ولا نكر
والدّي ذكره السعد هو المرويّ في الفضليات وشعر هذيل، ولولا خوف الإطالة أوردت القصيدة بتمامها والطلائع جمع طليعة، وأصلها مقدمة الجيش التي تطلع قبله، وهو استعارة أو مجاز مرسل لمطلق المقدم أريد به هنا أنها تقع قبل القسم، كما في البيت المذكور ونظائره. قوله: (وتعريف الخبر إلخ) هو وما عطف عليه مجرور لما مرّ.
ووجه المبالغة على ما قالوه إنّ الأوّل يفيد حصر المسند إليه في المسند، والثاني يفيد
تأكيد هذا الحصر، وهذا وإن كان مناسباً لردّ دعواهم الكاذبة، فإنهم لما قصروا أنفسهم على الإصلاح قصر إفراد ناسب في ردّهم أن يقصروا على الإفساد قصر قلب فهم مقصورون على الإفساد لا حظ لهم في الإصلاح، وأورد عليه أنّ تعريف الخبر بلام الجنس يفيد حصر المسند إليه في المسند، كما في المفتاح والمشهور أنّ ضمير الفصل يفيده أيضا أو يؤكده.
وأجيب بأنّ تعريف المسند يفيد حصر المسند إليه فيه كما ذكره الزمخشرفي في الفائق في
قوله " إنّ الله هو الدهر " وان ردّ بأنه إنما ورد للنهي عن سبّ الدهر (1) وهو يقتضي أن يقال إن الدهر الذي يظن أنه جالب الحوادث لا يجاوز الله لا أنّ الله لا يب، وزه كما لا يخفى، وقيل: إنّ الوجه أن يقال إنّ المبالغة في تعريف المفسدين على قياس ما مرّ في المفلحين من أنه إن حصلت صفة المفسدين وتحققوا ما هم، وتصوّروا بصورهم، فالمنافقون هم هم لا يعدون تلك الحقيقة، فالفصل مؤكد لنسبة الاتحاد الذي هو أقوى من القصر في إفادة المقصود، ولما مرّ من الإشكال عدل المصنف رحمه الله عما في الكشاف من قوله ردّ الله ما ادّعوه من الانتظام في جملة المصلحين أبلغ ردّ وأدله على سخط عظيم وجعله ردّاً لما في قولهم من التعريض للمؤمنين كأنهم قالوا أنتم المفسدون وقصروا الإفساد على المؤمنين فأجيبوا بقصره عليهم، وهذا مستفاد من مساق الكلام في مقام الجدال ومن فحواه فلا يتوهم أنّ التعريض إنما يستفاد منه لو قيل إنما المصلحون نحن. قوله: (والاستدراك بلا يشعرون) فإن قلت لم ذكر ما يشعرون بعد يخادعون بدون استدراك وههنا به.
قلت المخادعة تقتضي في الجملة الإخفاء وعدم الشعور بخلاف ما هنا فانهم لما نهوا
عما تعاطوه من الفساد فأجابوا بادّعاء أنهم على خلافه وأخبر تعالى بفسادهم كانوا حقيقين بالعلم به مع أنهبم ليسوا كذلك فكان محلا للاستدراك لأنه يقع بين الأمور المتخالفة، وما يقال
لما يذمّ من أفسد عن علم والجواب لا يشعرون} أنّ أمرهم يظهر للنبيّ لهم مفسدون فقوله {؟ ألا إنهم هم الفساد صلاحا أو المراد أنهم لا كما ذكره السمرقنديّ في تفسيره. ل! مكن منه مذموم أيضاً، بل قد يقال 5 الآية حجة على المعتزلة في أنّ للزم بدون المعرفة، فإنّ الله أخبر أنّ حصقة العلم شرطا للتكليف، ولا علم عنه، فإذا لم يكن النهي قائما عليهم ليام آلة العلم، والتمكن من المعرفة عة على مسئلة مقارنة القدرة للفعل ممام النصح والإرشاد إلخ) فيه إشارة لطهر منه أنّ القائل المؤمنون لا الله شارة إلى التخلية بالخاء المعجمة على أنّ الأعمال داخلة في كمال###(1/331)
###
لنه على التكذيب المنافي للإيمان، لعص المنافقين لبعض لأنه المناسب لقائل المؤمنين والمجيب المنافقين موا لا يتصوّر بدون الملاقاة، وقوله فما وجه التوفيق حينئذ، وهذا هو سسشكله وأجاب عنه كثير من الفضلاء لهم {أَنُؤْمِنُ} إلخ مقول فيما بينهم سن،! انما يتعذر هذا لو قيل: وإذا أنؤمن} إلخ كما أشار إليه الفاضل
م لو قيد قول المنافقين بكونه في لحصيص الجواب بوقت الشرط لكونه هذأ الوقت، والإشكال متوجه على لى السفه لأنه صريح ني مجاهرة لكفر منافية لما بعده من قوله تعالى
{وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ} إلخ. وردّ بأنه لا إشكال فيه لأنه لم يصرّح بأنّ المنافقين جاهروا المؤمنين بل في عبارته ما يوهمه، وهو قوله من جوابهم بناء على أنّ الجواب ما يقال مواجهة، وكونه كذلك موقوف على السماع من أهل اللغة وهو لم يوجد، ويدل على خلافه ما استفاض من إطلاق االخلف لفظ الجواب على ردّ كلام السلف مع بعد العهد من غير نكير، وقيل إذا هنا بمعنى لو تحقيقا لنفاقهم وأنهم على حال تقتضي أنهم لو قيل لهم كذا قالوا كذا كما قيل مثله في قوله:
واذ! ما لمته لمته وحدي
واستشهد له بقول الزمخشريّ: إنّ مساق هذه الآية بخلاف ما سيقت له أوّل قصة المنافقين فليس بتكرير، لأنّ تلك في بيان مذهبهم والترجمة عن نفاقهم، وهذه في بيان ما كانوا يعملون عليه من المؤمنين من التكذيب لهم، والاستهزاء بهم، ولقائهم بوجوه المصادقين وايهامهم أنهم معهم، فإذا فارقوهم إلى شطار دينهم صدقوهم ما في قلوبهم شاهد صدق عليه، فهو ضرب من التقدير والتمثيل، وقيل: يجوز أن يقول المنافقون ذلك إذا انفردوا عن المؤمنين خالين من مشهدهم، فلا يكون مجاهرة لتمكنهم من الإنكار، كما سيأتي في سورة المنافقين في قصة زيد بن أرقم رضي إلله عنه، وقيل: إنه كان بحضرة المسلمين لكن مسارّة بينهم هذا ما ذكروه من القيل والقال، وحلوا به شكال الإشكال ليفرّوا من غائلة الاختلالء
(والذي عندي) أنه لا يرد رأسا فإنّ المؤمنين أمروهم بالإيمان المطابق لإيمان خلص
الناس والأمر كالنفي ينصب على القيد، فكأنهم قالوا لهم أخلصوا الإيمان، وفيه اعتراف بأصل إيمانهم وهو مطابق لقوله تعالى {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا} [البقرة: 8] فأجابوهم وجاط وثسفاها بقولهم {أَنُؤْمِنُ} إلخ أي نحن مؤمنون متصفون بصفات، وسمات للإيمان لا يخالفها إلا من كان سفيهاً وهذه موأجهة بالإيمان لا بالكفر كما ادّعاه السائل وان كان هذا سماً في شهد، لأنهم قصدوا به عدم إيمانهم بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلّم، وتسفيه من اتبعه لكنه خلاف ظاهر الكلام، والشرع إنما ينظر للظاهر، وعند الله علم السرائر، ولهذا قال العلامة سفهوهم، ولا يلزم من هذا عدم مطابقة جوابهم نصح الناصح، لأنه كناية عن كمال إيمانهم وان كان في قلب تلك الكناية نكاية وبعدما كتبت هذا رأيت لبعض فضلاء العصر ما يقاربه، فقلت مرحبا بالوفاق وترك المصنف لما في الكشف وشروحه هنا من توجيه إسناد قيل: إلى جملة آمنوا بأنه أريد به لفظه فهو اسم وهو مفعول به ساد مسد الفاعل، وهو مقول القول، فلا حاجة إلى ادعاء أنه مسند لضمير المصدر والجملة بدل منه، ولا إلى الجار والمجرور لظهوره. قوله: (فإنّ كمال الإيمان إلض) المواد بكماله ما به يتمّ ويتحقق وهو بحسب الاستعمال يتناول الاجزاء وغيرها ك! اقيا! :
وما تنفع الآداب والعلم والحجى وصاحبها عند الكمال يموت(1/332)
فلا يشعر كلامه بدخول الأعمال في الإيمان كما قيل. وقوله: (وهو المقصود) قيل: إنه
جعل ولمنوا} كناية عن طلب الإتيان بما ينبغي، ويمكن أن يراد بالنهي عن الإفساد النهي عن الشرك، ويكون الأمر بالإيمان بعد النهي عن الشرك على طبق كلمة التوحيد والأظهر حمل النهي عن الإفساد علي! النهي عن الئفاق، والأمر بالإيمان على إخلاصه ظاهرا وباطنا ولا حاجة لمثله. قوله: (في حيز النصب إلخ) كما بعد الجمل في الأكثر إمّا نعت لمححدر، وائا حال كما صرح به النحاة والثاني مذهب سيبويه لأنّ الصفة لا تقوم مقام موصوفها إلا في مواضع مخصوصة، فهي عنده حال من المصدر ال! مضمر المفهوم من الفعل ولم تجعل متعلقة بآمنوا على أنّ الظرف لغو بناء على أنّ الكاف لا تكون كذلك، وإذا كانت ما كافة للكاف عن العمل مصححة لدخولها على الجمل، فالتقدير حققوا إيمانكم كما تحقق إيمانهم وان كانت مصدرية، فالمعنى آمنوا إيماناً مثابها لإيمانهم، ولم تجعل موصولة لما فيه من التكلف، وتقديم المصنف للمصدرية، لأنها أرجح لإبقاء الكاف على ما لها من العمل الأصلي، وقيل: الثاني أرجح والأمر فيه سهل. قوله: (واللام في الناس للجنس إلخ) قدم هذا على عكس ما فيءالكشاف إمّا لأنه الأصل المتبادر، أو لأنه أحسن هنا عند. كما قاله الراغب وتبعه المصنف وحمه الله، وما ذكر. برمّته مأخوذ من تفسيره بنوع من الاختصار. وقوله: (والمراد به إلخ) في الكشاف أو للجنس أي كما آمن الكاملون في الإنسانية، أو جعل المؤمنون كأنهم الناس على الحقيقة، ومن عداه! كالبهائم في فقد التمييز بين الحق والباطل اهـ. ولما كان المعرّف الجنسي قد يقصد به بعض الأفراد من غير اعتبار وصف فيه، كما في أمرّ على اللئيم، وقد يقصد البعض باعتبار وصف الكمال كما في ذلك الكتاب وقد يقصد الجنس بأسره، كما في قوله تعالى {إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ} أسورة العصر: 2] والأوّل لقلة جدواه يصار إليه إذا تعذر الأخيران س فسر الناس بالكاملين في الإنسانية، أو بمن هم الناس في الحقيقة حتى كأنّ من عداهم في عداد البهائم وهذا إنما هو على تتمدير كونه مقول المؤمنين لا المنافقين بعضهم لبعض، كذا أفاده الشارح المحقق والظاهر منه أنّ المراد من الجنس الجنس من حيث هو، ومن قوله: أو جعل المؤمنون إلخ! الاستغراق كما يتبادر من الكشاف، لأنّ المعرّف بلام الجنس من حيث هو يفيد الحصر، كما في شرح التلخيص فيناسب أن يعبر عن الكاملين بلفظ الجنس، لادّعاء انحصاره فيهم، والشريف هنا اختار أنّ المفيد لذلك لام الاستغراق لا غير فلذا حمل الوجهين هنا على الاستغراق وجعل الأوّل ناظرا إلى كمال المقصور عليه والثاني إلى قصور من عداه، وقد قيل إنه لا يحسن حمل الناس على الجنس، وإخراج المنافقين عنه على تقدير أن يعطف قوله {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ} على صلة من يقول اهـ.
(قلت) ما بين الفاضلين من الخلاف منشؤه ما فصل في المعاتي في بحث التعريف، وليس هذا محله، فالعارف تكفيه الإشارة، كما أنّ الغبيّ لا تشفيه العبارة، والحاصل أنّ الحصر إمّا لأنهم الكاملون المستجمعون لمعانيه، فكأنهم جميع أفراده أو بملاحظة أنّ غيرهم كالبهائم لفقد التمييز بين الحق والباطل، فلا يندرجون في الناس والأوّل يشبه القصر الحقيقي والثاني الإفرادي، والمصنف رحمه الله صرّح بالأوّل لدلالته على كمالهم المقصود، واشارة إلى أنه مستلزم للثاني بقوله: ولذلك يسلب عن غيره إلخ، ومن غفل عن هذا قال إنّ عبارة المصنف ناظرة إلى الأوّل فقط فما قيل من أنّ الئاني أبلغ في هذا المقام، وأنه على الأوّل تخصيص وعلى الثاني استعارة لقول العلامة: كانهم الناس على الحقيقة ليس بشيء. قوله: (بقضية العقل) أي بحكم العقل أو بمقتضاه، وهما متقاربان. وقوله: (فإنّ اسم الجنس إلخ) المراد باسم الجنس الاسم الجامد الموضوع لمعنى عام سواء كان معرفة أو نكرة، وإذا عرف دلّ التعريف على تعيين معناه قال الراغب: كل اسم نوع يستعمل على وجهين.
أحدهما دلالتة على مسماه فصلا بينه وبين غيره.
والثاني لوجود المعنى المختص به، وذلك هو الذي يمدح به لأنّ كل ما أوجده الله في العالم جعله سالحاً لفعل خاص به لا يصلح له سواه كالفرس للعدو، والبعير لقطع الفلاة البعيدة، وعلى ذلك الجوارح كاليد والعين والناس أوجدوا ليعلموا فيعملوا، فكل ما لم يوجد فيه المعنى الذي خلق لأجله لم يستحق اسمه مطلقاً بل ينفي عنه، فيقال زيد ليس لإنسان اهـ. وهذا ما أشار إليه المصنف(1/333)
رحمه الله. قوله: (ولذلك يسلب عن غيره) أي لأجل استعماله فيما استجمع المعاني المقصودة منه سلب عمن لم يستجمعها فيقال: ليس بإنسان. ولولا هذا لكان كذباً مع أنه صدق مستحسن كما قال:
يا قارع الباب على عبد الصمد لاتقرع البا ب فماثمّ أحد
وقد مرّ لك أنّ هذا مستلزم لجعل الناقص بمنزلة العدم، فليس مغايراً له كما قيل فتدبر واستجمع بمعنى جمع، فهو متعد كما يشعر به كلام الصحاح، وفي المصباح أنه لازم كتجمع فعليه يكون تضميناً أو مجازا. قوله: (وفد جمعهما الشاعر) أي جمع استعمال اللفظ في مسماه مطلقا واستعماله فيما يستجمع المعاني المقصودة مته، فإنّ المراد من الناس الأوّل الجنس ومن الثاني الكاملون في الإنسانية، وقس عليه الزمان والديار فيما سيأتي، وقد عرفت أنّ منشأ هذا اسم الجنس نفسه بقطع النظر عن تعريفه، وتعريفه إنما يفيد تعيينه كما صرّح به المصنف رحمه الله والراغب آنفاً، فمن قال ومن هما يعلم أنّ دعوى الكمال يجوز اعتبارها في النكرة أيضاً فقد أجمل إذا أهمل، ثم إنّ أخذه من نفس اللفظ معرفة كان أو نكرة لا ينافي إفادة التعريف له عند
من له أدنى بصيرة نقادة. وقوله: (ومن هذا الباب) أي نفي اسم الجنس عمن لم توجد فيه خواصه المقصودة منه، فإنه في الآية الآتية جعل المسامع صماحين لم تسمع الحق والعيون عميا إذ لم تر الصواب لانتفاء فوائدها وثمراتها المقصودة منها وهو ظاهر، وقيل: إنّ التمثيل به مبنيّ على أنه الاستعارة لا على التشبيه، فإنّ الصم وما معه عليه حقيقة، والشعر المذكور مشهور في كتب الأدب، الآ أنه وقع على وجوه: ففي بعضها:
إذ الناس ناس والبلاد بلاد
وفي آخر:
إذ الناس ناس والزمان زمان
وفي آخر:
إذ الناس ناس والديار ديار
وأنشده في الحماسة البصرية هكذا:
ألا هل إلى أحبال سلمى بذي اللوى لوى الرمل من قبل الممات معاد
بلادبها كنا وكنا نحبها إذ الناس ناس والبلاد بلاد
ولم يسم قائله، وفي الأغاني أنه لرجل من عاد وله حكاية ذكرها هكذا في بعض الحواشي، وفيه ما فيه وقيل: صدر المصرع المذكور:
لقد كنت ذا حظ من الجود والعلى
وقيل:
ديار بها كنا وكنا نحبها
قوله (أو للعهد والمراد به الرسول صنى الله عليه وسغ إلخ) قدم هذا صاحب الكشاف، وذهب صاحب البحر إلى أنه أولى، وأيده بعضهم بأنه الماثور، لأنه مرويّ عن ابن عباس رضي الله عنهما، كما أخرجه ابن جرير، والمعهود أمّا النبيّ عليه الصلاة والسلام، ومن معه ممن اتبعه من المؤمنين، لأنهم نصب عينهم دائما وقد مرّ ذكرهم أيضا بقوله الذين يؤمنون لأنهم داخلون فيه دخولا أوليا وان عمّ فالعهد خارجيّ أو خارجيّ ذكريّ، لأنّ بينهما عموماً وخصوصاً فقولك: أكرم هذا الرجل فيه تعريف خارجي، ولم يجر له ذكر كما لا يخفى، وتشبيه الإيمان المطلوب منهم ب! يمان هؤلاء لا يقتضي مساواته له من جميع الوجوه، كما أشار إليه المصنف رحمه الله بقوله والمعنى إلخ. فلا وجه لما قيل: من أنّ الظاهر أنّ المراد على تقدير العهد مطلق المؤمنين فقط إذ المطلوب مجرد إيمانهم لا الإيمان المشابه لإيمان النبيّ وأصحابه في الكمال ولا المشابه لإيمان النبيّ وأصحابه في الكمال ولا المشابه لإيمان من آمن
منهم كعبد الله بن سلام وفي بعض شروح الكشاف وتبعه بعض أرباب الحواشي هنا العهد الخارجي باعتبار كونهم كالمذكورين سابقا بوجه خطابي وهو أنّ الرسول! ك! نرو ومن محه- من المؤمنين كانوا نصب أعينهم وملتفت خواطرهم لأنهم كانوا متألمين منهم لإظهار المعجزات، وتلاوة القرآن عليهم أو عبد الله بن سلام وأشياعه، فانهم أيضاً محل التفات خواطرهم لأنهم من جلدتهم، ولا يغيبون عن خواطرهم لشدة! غيظهم بسبب إيمانهم وشدة تألمهم بسببهم والتقدير، كما آمن أصحابكم واخوانكم، ولا يخفى ما فيه. قوله: (أو من آمن من أهل جلدتهم إلخ) الجلدة والجلد بكسر الجيم، وسكون اللام التي تليها دال مهملة هو من الحيوان ظاهر بشرته، وقال الأزهريّ: الجلد غشاء جسد الحيوان والجمع جلود وقد يجمع على أجلاد كحمول، وأحمال، وجلدة الرجل، وأهل جلدته أبناء جنسه، أو قومه وعشيرته وبهما فسره! أهل اللغة، وورد استعماله والمناسب هنا الثاني وقد ورد في الحديث " قوم من جلدتنا " (1 (أي من أنفسنا وعشيرتنا(1/334)
كما في نهاية ابن الأثير، وفي كتب العربية في باب أفعل التفضيل استشهدوا على صحة يوسف أحسن إخوته بما سمع من العرب من قولهم نصيب أشعر أهل جلدته، فقد عرفت أن استعماله مع لفظ أهل كما في المثال وبدونها كما في الحديث " صحيح فصيح) (2 (فمن! قال: لفظ الأهل زائد والظاهر حذفه كما في الكشاف من جلدتهم، ومن أبناء جنسهم لم يطلع على موارد استعماله؟ لقصوره، أو إهماله ومعناه ما تقدّم، وفي بعض شروح الكشاف عطف أبناء جنسهم تفسيريّ قال الجوهريّ رحمه الله: أجلاد! الرجل جسمه، وبدنه.، ؤوملاحظة المعنى الأصليّ تدعي أن يكون كناية عن المبالغة في القرب، كقولهم هو بضعة مني والظاهر أنه شبه الجنس أو العشيرة بالجلد، وظاهر البدن لجعل القوم كجسد واحد، فأهل جلدته كلجين الماء، ثم قد يجعل مجازاً، ووجه الشبه إلاتصاءل، فإذا أريد زيادته أتى بما يدل عليه كقوله:
وجلدة بين العين والأنف سالم
والمراد بأهل جلدتهم إليهود، لأنّ منافقي المدينة منهم. قوله: لأجمابق سلام) هو عبد الفه
بن سلام بن الحرث أبو يوسف من ذرية يوسف المنبيّ عليه الصلاة والسلام حليف القوافل من الخزرح الإسرائيلي، ثم الأنصاري كان حليفا لهم وكان من بني قينقاع من اليهود، واسمه الحصين فغير النبيّ صلى الله عليه وسلم اسمه وسماه عبد الذ لما أسلم أوّل ما قدم المدينة،
وقيل تأخر إسلامه إلى سنة ثمان وشهد له رسول إدلّه صلّى الله عليه وسلم بالجنة، وهو من كابر الصحابة روى عنه أبو هريرة رضي الله عنه وغيره، وله مناقب وأموره مع اليهود مشهورة في كتب الحديث، وتوفي بالمدينة في سنة ثلاث وأربعين من الهجرة وسلام بفتحتين مخفف اللام وغيره من الأعلام مشدد اللام، والمراد بأصحابه من آمن من بني إسرائيل. وقوله: (والمعنى إلخ) هو على الوجهين، لأنه شبه الإيمان المأمور به بإيمان خلص المؤمنين، أو بعض من الخلص المعهودين وايمانهم كذلك. قوله: (واستدل به إلخ) قال الجصاص في أحكام القرآن: احتج به في استتابة الزنديق الذي اطلع منه على الكفر متى أظهر الإيمان لأنه تعالى أخبر عنهم بذلك، ولم يأمر بقتلهم، وهي نزلت بعد فرض القتال اهـ. والزنديق بوزن إكليل معرب ومعناه الملحد، وفسره في المقاصد بالمنافق، وهما متقاربان وبهذا المعنى استعملته العرب كما قال:
ظللت حيران أمشي في أزقتها كأنني مصحف في بيت زنديق
وهو معرب زنده أي يقول ببقاء الدهر أو زندا، وهو كتاب مزدك المجوسي، أو زن دين
أو زندي وجمعه زنادقة، وفسره الفقهاء بمن يبطن الكفر ويظهر الإسلام كالمنافق، وقد فرق بينه وبين الملحد والمرتد في الفروع وما قيل من أنه لا دلالة فيه على قبول توبة الزنديق، لأنّ النفاق غير الزندقة كيف لا، والزنديق يقتل دون المنافق، ولم يقل أحد أن في عدم قتل الرسول صلّى الله عليه وسلم المنافق دلالة على عدم قتل الزنديق واه جذأ لأن الزنديق إن فسر بالمنافق فظاهر، وألا فهو مثله، وقد طلبت منه التوبة والإيمان، ولو لم يكن ذلك مقبولا لم يطلب منه إلا أنه قيل: على هذا إنه إنما يتمّ لو كان طلب الإيمان لدفع القتل، وليس كذلك لأنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم كان مأمورا بإجراء أحكام الإسلام عليهم مع علمه عليه الصلاة والسلام بنفاقهم، فلم يطلب الإيمان منهم إلا لنجاتهم عند الله والزنديق ليس كذلك، وفيه نظر لا يخفى، وحكم الزنديق على المختار المفتي به بعد الاختلاف في قبول توبته بعد الأخذ عند الشافعية والحنفية أنه إن كان معروفا بذلك داعيا إليه، فإن تاب قبل الأخذ قبلت توبته وبعدها لا، ويقتل كالساحر وان لم يكن داعياً للضلال فهو كالمرتد كما قاله أبو الليث وعليه الفتوى، وله تفصيل في الفروع. قوله: (وإن الإقرار باللسان إيمان إلخ) يعني أنّ الإيمان يكون إيمانا صحيحا بمجرّد التلفظ سواء واطأ القلب أم لا إذ لو لم يكن كذلك لم يكن للتقييد في الآية. بقوله {كَمَا آمَنَ النَّاسُ} فائدة لكفاية آمنوا فيه، لأنه موضوع للتصديق القلبي المقارن للإقرار اللساني للقادر كما مرّ، واحتمال كون ذكره للترغيب، أو للتأكيد لاقتضاء المقام له كما قيل خلاف الظاهر وهذا مأخوذ من التفسير الكبير، وأجاب عنه بأنّ الإيمان الحقيقي عند الله هو الذي يقترن به الإخلاص أمّا في الظاهر، فلا سبيل إليه إلا بالإقرار الظاهر، فلا جرم افتقر إلى
تأكيده بقوله {كَمَا آمَنَ النَّاسُ} والمصنف(1/335)
رحمه الله لم يذكر الجواب، لأنه أراد أنّ المعتبر في ضسمى الإيمان لغة وبحسب ظاهر الشرع هذا، وأمّا مطابقة ما في القلب فمعتبر في الإيمان المنجي من الخلود في النار عند الله، فما ذكره مذهب الفقهاء وغيرهم فما قيل من أنّ المستدل به على هذا الكرامية، وقد مرّ أنّ الخلاف معهم، فيمن تفوّه بالشهادتين فارغ القلب عما يوافقه أو ينافيه، وأمّا من ادعى الإيمان، وخالف قلبه لسانه كالمنافقين فكافر بالاتفاق، وهو يصير عدم تعرّض المصنف للجواب بمعزل عن الصواب. قوله: (الهمزة فيه للأئكار) الإنكار قسمان إبطاليّ بمعنى لم يقع وتوبيخي بمعنى لم وقع، والمراد الأوّل، ولذا فسر بلا يكون. وقوله: (مشار بها إلى الناس) أي المراد بها ذلك، والإشارة ذهنية لا حسية يعني أنها في السفهاء للعهد، والمراد بهم الناس السابق ذكرهم بوجهيه، والعهد الذكري قد يكون بإعادة المتقدم بعينه، وقد يكون بإعادة لازمه ووصفه وإن لم يجر له صريح ذكر ويسمى العهد التقديري، وذلك بأن يسند إلى الموصوف ما يستدعي تلك الصفة، فتذكر الصفة معرفة كأنها جرى ذكرها، كما إذا قيل لك شتمك زيد فتقول: أفعل السفيه، فإنّ الشتم تنبيه على سفاهتة، حتى كأنه فيل اعترض لك سفيه، أو أن يكون الموصوف علماً في تلك الصفة حقيقة، أو ادّعاء فمتى ذكر علمت صفته والعهد هنا إمّا لأنّ الإيمان بزعمهم مستلزم للسفه، ولأنّ المؤمنين فيما بينهم معروفون به. قوله: (أو الجنس بأسره إلخ) أي للجنس في ضمن جميع الأفراد، وهو والاستغراق بمعنى وبأسره عبارة عن جميعه، والأسر في الأصل ما يشد به الأسير، فإذا سلم بوثاقه فقد سلم بجملته، ثم صار عبارة عن كل ما يراد جميعه، ومندرجون فيه بمعنى داخلين من درجه إذا طواه وضمير فيه للجنس، أو للفظ السفهاء وضميرهم للرسول صلى الله عليه وسلم، " ومن معه الثامل لابن سلام، وأضرابه رضي الله عنهم، وهم كمل الناس وأعقلهم، فجعلهم سفهاء بزعمهم الفاسد، وهو مخالف للواقع والسفهاء، وإن شملهم وغيرهم لكنهم داخلون فيه دخولا أوّلياً عندهم وهو أبلغ لما فيه من الكناية كما قال تعالى {فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّه عَلَى الْكَافِرِينَ} [البقرة: 89] وقد قيل على هذا أنه إنما يصح بادّعاء انحصار مفهوم السفهاء في المؤمنين المذكورين في قوله {كَمَا آمَنَ النَّاسُ} إذ لا يصح إسناد الإيمان إلى جميع السفهاء، فإن من لم يؤمن من السفهاء لا يحصر، لكن يرد على هذا أنّ معنى الاستغراق لا يلائم مقام إنكار موافقة السفهاء، لأنّ اتباع بعض السفهاء أقبح وليس بشيء، فإنه سواء أريد الاستغراق الحقيقيّ الادّعائيّ أو العرفيّ، كما في جمع الأمير الصاغة إذ لم يكن في المدينة حين نجم النفاق إلا مؤمن، أو منافق موافق للمقام على أتمّ الوجوه وأبلغها، كما لا يخفى فتدبر. قوله: (وإنما س! هوها إلخ) أي دعوهم سفهاء، أو
نسبوهم للسفه بناء على اعتقادهم أنهم سفهاء أو تحقيرا لهم، فإنّ قيهم فقراء والموالي بمعنى العبيد، فإنه أحد معانيه وصهيب وبلال الصحابيان رضي الله عنهما كذلك، كما هو معروف في محله، والتجلد والتحمل والتصبر وأصل معناه إظهار الجلد والقوّة، والمبالاة بالشيء الاعتداد والاعتناء به وعدم المبالاة بهم، لأنهم كانوا من أهل الكتاب. قوله: (والسفه إلخ) السفه في اللغة الخفة والتحرّك والاضطراب يقال زمام سفيه أي مضطرب، وسفهت الرياح الرماح والنار إذا حرّكتها بخفة ثم استعمل في عرف اللغة والشرع، وشاع حتى صار حقيقة فيه لنقمى العقل والرأي، وقال الراغب: استعمل في خفة النفس لنقصان العقل، وفي الأمور الدنيوية والأخروية، ومنه أخذ المصنف رحمه الله ما ذك ره، وفي شرح التأويلات حد بعضهم السفه بأنه ترك العمل بمقتضى العقل مع قيام العقل، وقيل العمل بموجب الجهل على علم بأنه مبطل، وسخافة الرأي والعقل خفته وعدم استحكامه، وفي المصباح سخف الثوب سخفاً، وزان قرب قربا وسخافة بالفتح رق لقلة غزله، ومته قيل رجل سخيف وفي عقله سخف أي نقمى وقال الخليل السخف في العقل خاصة والسخافة عامّة في كل شيء اهـ. وقوله: (والحلم) بكسر الحاء، وسكون اللام هو الأناة والوقار، ويقابله أي يقع في مقابلته لأنه ضدّه على عادة اللغويين في الإيضاح بذكر الأضداد كما قيل:
وبضدها تتبين الأشياء
قوله (ردّ ومبالغة في تجهيلهم إلخ) فيه مع النظم لف، ونشر مرتب فالردّ لتسفيههم المؤمنين ناظر لقوله {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاء} والمبالغة في التجهيلى من قوله {وَلَكِن لاَّ يَعْلَمُونَ} كما ستراه(1/336)
عن قريب ويحتمل أنه راجع لقوله {إِلاَّ أَنَّهُمْ} إلخ من غير لف فيه واليه ذهب بعض أرباب الحواشي أو أنه من قوله {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاء} لأنه المقصود بالذات فلذا أتى فيه بألا وإن، ووسط ضمير الفصلى، وعرف الخبر وذيل بالاستدراك المؤكد له لاستلزام السفه للجهل، أو دلالته عليه لأنه خفة العقل، ونقصه وفي الدرّ المصون السفه خفة العقل والجهل بالأمور قال السموأل:
نخاف أن تسفه أحلامنا فنجهل الجهل مع الجاهل
وقوله (فإنّ الجاهل إلخ) تفسير للمبالغة في التجهيل، وتعليل له بناء على أحد الوجهين
في تفسير قوله {لاَّ يَعْلَمُونَ} وهو أنّ معناه لا يعلمون أنهم هم السفهاء حقيقة لقلة تأمّلهم في الدلائل القائمة على أنّ الكفر سفه لا ما قيل من أنّ معناه لا يعلمون ما يحل بهم من العذاب، لأجل السفه في الآخرة، وعلى هذا جهلهم بالسفه الذي هو جهل جهل بالجهل، فهو جهل
مركب، فكأنه قيل: إنهم جهلاء، ولكن لا يعلمون أنهم جهلاء. وقوله: (بجهله) صفة الجاهل والجازم صفته، ويصح كونه صفة الجهل، وبما قرّرناه علم أنه لا يرد على المصنف رحمه الله ما قيل من أنه لا يفهم من قوله {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاء} لاعتقاد الباطل، لأنّ السفه وخفة العقل قد يكون سبباً للشك، وكذا عدم العلم لا يستلزم الجهل المركب، ولا حاجة إلى الجواب بأن المراد بالسفه هنا اعتقاد الباطل، وبعدم العلم الجهل المركب بقرينة المقام، لأنه ناشىء من عدم الوقوف على المرام، وتعدّي الجازم بعلى وهو متعد بالباء لتضمنه معنى المصرّ، فإن قلت إنما يفهم من السفاهة، ونفي العلم الجهل وأمّا الجزم بخلاف الواقع فليس هنا ما يدلّ عليه، لأنّ عدم العلم بالجهل محتمل للتحقيق في ضمن عدم العلم بشيء من النقيضين، وفي ضمن الجزم بمقتضى الجهل، قلت: هو كما ذكرت إلا أنّ مقام المبالغة يعين الاحتمال الثاني مع أنّ حالهم يقتضيه لأنّ الجراءة على تسفيه المؤمنين، والسعي في أذيتهم لا يصدر من العاقل إلا إذا جزم بذلك فتأمل. قوله: (وأتئم جهالة من المتوقف إلخ) قيل عليه مراتب الجهل أربع: أحدها ما وصفه المصنف رحمه الله بالأتمية، وبعدها الظان لخلاف الواقع، وبعدها المتوقف عن التصديق بأحد الطرفين المتردّد بينهما من غير اعتراف بجهله، ورابعها المتوقف المعترف، فكان ينبغي أن يقول أتم جهالة من غير الجازم، ليشمل الصور الثلاث أو يكتفي بالثاني لتلزم الأتمية بالنسبة إلى الثالث والرابع بطريق الأولى غير أنه ذكر المعترف ليتصل به قوله: فإنه ربما يعذر كمن أسلم في دار الحرب، أو نشأ في بادية، أو على رأس جبل لاعترافه بجهله، واستعداده لقبولا لىلحق، فينتفع بالآيات والنذر، كما يعذر المؤمن المعترف بذنبه بخلاف الجاهل الجازم بجهله الآبي عن الحق والنذر جمع نذير. قوله: (وإنما صلت الآية إلخ) فصلت مجهول من ال! كصيل، فهو مثدد الصاد أي أتى بفاصلة كقفي إذا أتى بقافية والفاصلة في النثر بمنزلة القافية في الشعر، وهذا بناء على أنه يجوز أن يقال في القرآن سجع وفواصل، وفيه تفصيل ذكرناه في غير هذا المحل، وفي بعض شروح الكشاف فصلت بتشديد الصاد المهملة من التفصيل، وفي بعض النسخ بتخفيفها من الفصل، فجوّز فيه وجهين أي ختمت هذه الآية بلا يعلمون دون لا يشعرون لما ذكر. وقوله: (كثر طباقاً (الطباق كالمطابقة من الأسماء المتضايفة، وهو أن يجعل شيء فوق آخر هو بقدره، ومنه طابق النعل النعل لكونه فوقه يقابله، ولكونه بقدره يوافقه فلذا أطلق الطباق في اللغة على الموافقة، والمناسبة وأطلق في الإصطلاج البديعي على الجمع بين المتضادّين لتقابلهما في الجملة، ولذا ذهب الأكثر هنا إلى أنّ المراد الثاني لأنّ في السفه جهلاً، كما مرّ فذكر العلم معه جمع بين متضادّين في الجملة فالطباق بديعي، وقيل: المراد
لمناسب عدم العلم والسفاهة فهو لغوفي يرجع إلى مراعاة النظير قال الطيبي: هو من باب المعنوية إذ لو كانت لفظية لقيل: لا يرشدون فإنّ الرشد مقابل للسفه، أو قيل ألا إنهم ليقابل لا يعلمون اهـ. وفيه نظر لأنه لا منافاة بينهما، فإنه إن نظر للعلم والجهل من لطر لغيره فهو بديعيّ، وان نظر له منفيا فلغويّ ولكل وجهة وإنما قال أكثر لأنّ الشعور ونفيه جهل وسفه، أو ذلك مما يستلزمه، ويؤل إليه إن فسر الشعور بإدراك الحواس ففيه مطابقة للسفه أيضا إلا أنّ ما ذكر أظهر وأقوى، ثم بين له نكتة أخرى، وهي أنّ لدينية غير(1/337)
محسوسة، فيحتاج إلى فكر ودقة نظر، فلهذا فصلت آية الإيمان بلا يعلمون والفساد الدنيويّ محسوس مشاهد، أو منزل منزلته، فلذا فصلت آيته بلا يشعرون وجعل وجها مستقلاً، وهذا وجها آخر والزمخشريّ جعلهما وجهاً واحدا، فلذا قيل إنّ كلامه مي أنّ التلباق مراعاة النظير، ولو جعل العطف في كلام المصنف تفسيريا عاد إليه لكنه لظاهر، وذهب الراغب كما أشرنا إليه أوّلا إلى أنّ أصل الشعور إدراك المشاعر وهي س الظاهرة، ونفيه أبلغ من نفي العلم، ثم إنه شاع بعد ذلك في الإدراك وقد يخص منه، كما قالوا: فلان نسق الشعر إذا دقق النظر، فالشعور يستعمل بمعنى الإحساس، الإدراك وبمعنى الفطنة، فقوله أوّلا وما يشعرون نفي للإحساس وثانياً لنفي الفطنة
ح معرفة الصلاح والفساد لها، ثم نفي عنهم العلم تنبيها على نكتة دقيقة، وهي انّ في لهم الخديعة نهاية الجهل الدالة على عدم الحس، ثم قال: إ أ! م لا يفطنون تنبيها على أنّ زم لهم لأنّ من لا جس له لا فطنة له، ثم قال: لا يعلمون تنبيها على أنّ ذلك لازم،
لا فطنة له لا علم له، ثم أنه قرن ذلك بأداة الاستدراك المعطوفة، وقد تستعمل بدون والفرق بينهما دقيق لدفع ما يتوهم من أنهم يعلمون بما هم عليه، ولكنهم يتجاهلون!! دبر. قوله: (بيان لمعاملتهم إلخ (دفع لما توهم من أنّ هذا مكرّر مع ما مرّ في أوّل وليس منه في شيء لأنّ الأوّل لبيان معتقدهم، وادّعائهم حيازة الإيمان من قطريه،
منه في شيء، والثاني لبيان سلوكهم مع المؤمنين ومع شيعتهم، وهما أمران مختلفان، يكن هذا لم يلزم تكرار أيضا، لأنّ المعنى ومن الناس من يتفوّه بالإيمان نفاقا للخداع، لتفوّ. عند لقاء المؤمنين، وليس هذا بتكرار لما فيه من التقييد وزيادة البيان وأنهم ضموا لحداع الاستهزاء، وأنهم لا يتفوّهون بذلك إلا عند الحاجة، وقد قيل أيضاً إنّ المراد آمنا أوّلاً الإخبار عن أحداث الإيمان، وهنا عن احداث إخلاص الإيمان وهذا ما ارتضاه وأيده بأنّ الإقرار اللساني كان معلوما منهم غير محتاج للبيان، وإنما المشكوك ص القلبي، فيجب إرادته هنا، وقولهم للمؤمنين يقتضي ما يظهرونه لشياطينهم من د! م الصادر عن صميم القلب، فيجب أن يريدوا بما ذكروه للمؤمنين التصمديق القلبي أيضا، بعضهم كلام المصنف رحمه الله عليه، وقال: إنه لا ينافيه ما سيأتي من أنهم قصدوا
بآمنا أحداث الإيمان، لأنّ النراد به الإيمان على وجه الإخلاص، ولا يخفى أنّ كلامه مناد على خلافه لمن له أدنى بصيرة فتدبر. قوله: (روي أنّ ابن أفى إلخ) هذا سبب نزول هذه الآية، وقد أخرجه الواحديّ رحمه الله، وروي أنّ عليا رضي الله عته قال له: يا عبد الله اتق الله ولا تنافق فإنّ المنافقين شرّ خلق الله فقال له: مهلاَ يا أبا الحسن أنى تقول هذا والله إنّ إيماننا كإيمانكم وتصديقنا كتصديقكم، ثم افترقا فقال ابن أبيّ لأصحابه: كيف رأيتموني فعلت، فإذا رأيتموهم، فافعلوا مثل ما فعلت، فاثنوا عليه خيراً وقالوا: ما نزال بخير ما عشت فينا فرجع المسلمون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وأخبروه بذلك فنزلت هذه الآية (1) وقال ابن حجر: إنّ هذا الحديث منكر وذكر إسناده، ثم قال هو سلسلة الكذب لا سلسلة الذهب وآثار الوضع عليه لائحة ومما يدلّ على ذلك أنّ سورة البقرة نزلت أوّل ما قدم النبيّ صلّى الله عليه وسغ المدينة على ما صححه المحدّثون وعليّ رضي الله عنه إنما تزوّج فاطمة رضي الله عنها في السنة الثانية من الهجرة فكيف يدعوه ختنا، فإن قلت: ليس فيما ذكر من سبب النزول أنهم قالوا آمنا قلت: سبب النزول أمر مناسب تنزل الآية عقبه، ولا يخفى مناسبته مع ما فيه من إظهار الاستهزاء، وابن أبيّ رأس المنافقين، وهم أصحابه واسمه عبد الله. قوله: (انظروا كيف أرذ إلخ) كأنهم كانوا جاؤوا بجمعهم لينصحوهم أو ليردوا دبيب عقارب بغضائهم وقوله بالصديق سيد بني تيم الصديق صيغة مبالغة من الصدق لقب به في الجاهلية، لأنه كان معروفاً بالصدق، وقيل في الإسلام لما صدق النبيّ عليه الصلاة والسلام في قصة الإسراء، واسمه عبد الذ بن أبي قحافة عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرّة بن كعب بن لؤقي بن غالمث القرشي التيمي، يلتقي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرّة فتيم جدّ. الأعلى وبه سمي البطن من قريش الذي ينسب إليه، فلذا قال له سيد بني تيم، وما وقع في(1/338)
بعض نسخ القاضي والكشاف تميم بدله خطا وسهو من قلم الناسخ وهو بفتح المثناة الفوقية وسكون التحتية. قوله: (وشيخ الإسلام) هو كان في زمن الصحابة رضي الله عنهم يطلق على أبي بكر رضي الله عنه وعمر، وهما الشيخان قال السخاوي في كتاب الجواهر في مناقب العلامة ابن حجر شيخ الإسلام: أطلقه السلف على المتبع لكتاب الله، وسنة رسوله مع التبحر في العلوم
لمعقول والمنقول، وربما وصف به من بلغ درجة الولاية، وقد يوصف به من طال عمره سلام، فدخل في عداد " من شاب شيبة في الإسلام، كانت له نوراً " (1) ولم تكن هذه مشهورة بين القدماء بعد الشيخين الصديق، والفاروق رضي الله عنهما فأنه ورد وصفهما وعن عليّ فيما رواه الطبريّ في الرياض النضرة عن أنس أنّ وجلاَ جاء إلى عليّ رضي فقال: يا أمير المؤمنين سمعتك تقول على المنبر: اللهمّ أصلحني بما أصلحت به الراشدين المهديين، فمن هم فاغرورقت عيناه وأهملهما، ثم قال: أبو بكر وعمر إماما وشيخا الإسلام، ورجلا قريش المقتدى بهما بعد رسول الله صلّى الله عليه وسئم إلخ. سحهر بها جماعة من علماء السلف حتى ابتذلت على رأس المائة الثامنة، فوصف بها من لا، وصارت لقباً لمن ولي القضاء اكبر ولو عري عن العلم والسن إنا لله وإنا إليه
د اهـ.
قلت) ثم صارت الآن لقباً لمن تولى منصب الفتوى، وإن عري عن لباس العلم ى:
لقدهزلت حتى بدا من هزالها كلاها وحتى سامهاكل مفلس
موله (وثاني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلخ) هو ما اشتهر في السير من دخوله رضي غار ثور معه عليه الصلاة والسلام في الهجرة، وبذله لنفسه وماله معروف أمّا الأوّل وأمّا الثاني فلأنه رضي الله عنه، كان له مال عظيم من التجارة أنفقه كله في سبيل الله، ل! جاوة ال! ابحة. وقوله: (بسيد بني عديّ) كغنيّ بطن من قريش أعظمهم، وأشهرهم عمر لله عنه، فإنه عمر بن الخطاب بن نفيل بن عبد العزى بن رباح بن قرط بن رزاح بن لن كعب بن لؤيّ أمير المؤمنين أبي حفص القرشيّ العدويّ، ولقبه النبيّ صلى الله عليه لالفاووق، لما أظهر الإسلام، فاعز الله به الدين، وفرق بين الحق والباطل، وهو الترياق! رضي الله عنه. وقوله: (وختنه) مرّ ما فيه وهو بفتحتين، وفي المصباح هو عند العرب كان من قبل المرأة كالأب والأخ والجمع أختان، وختن الرجل عند العامّة زوج ابنته لأزهريّ: الختن أبو المرأة والختنة أمّها، فالأختان من قبل المرأة، والأحماء من قبل والأصهار يعمهما اهـ. فاستعماله هنا على متعارف العامّة مما يدل على الوضمع أيضا،
وما خلا بمعنى إلاً الاستثنائية. قوله: (واللقاء المصادفة إلخ) قال الراغب: اللقاء مقابلة الشيء ومصادنته معاً، وقد يعبر به عن كل واحد منهما، وقال الإمام: اللقاء أن يستقبل الشيء قريباً منه والمصادفة بالفاء من صادفه إذا وجده فبينها، وبين الملاقاة عموم وخصوص وجهيّ، وفي كلام المصنف رحمه الله مسامحة ظاهرة. وقوله: (يقال إلخ) هو قريب من قول الزمخشريّ يقال لقيته ولاقيته إذا استقبلته قريباً منه، وفي شرح الهادي، وقد يفسر الكلام بإذا لكنك إذا فسرت جملة مسندة إلى ضمير الحاضر باي ضممت تاء الضمير فتقول: استكتمته الحديث، أي سألته كتمانه بضم التاء فيهما، واذ! فسرتها بإذا فتحت التاء الثانية فقلت: إذا سألته ونظمه القائل:
إذاكنيت بأي فعلا / تفسره فضم تاءك فيه ضم معترف
وان تكن ب! ذايوماً تفسره ففتحة التاءأمرغيرمختلف
وسرّه كما في شرح المفصل أنّ أي تفسيرية، فينبغي أن يطابق ما بعدها ما قبلها، والأوّل مضموم، فالثاني مثله، وأذ شرطية، وإنما جعلت تفسيرية نظر المآل المعنى، فتعلق قول المخاطب على فعله الذي ألحقه بالضمير، فيستحيل فيه الضم والتعبير بيقال وقع في الكشاف، وتفسير الراغب فقال الشارح العلامة: إنه غير مستقيم لأن يقال غائب، فالصواب تقول: وقال بعض الفضلاء: فيه بحث لأنه إن أراد بعدم الاستقامة فوت المناسبة فالتعبير به غير مستقيم، وان أراد عدم صحة المعنى فممنوع لأن يقال لازم يقول، وكل موضع يصح فيه وضع الملزوم يصح فيه وضع اللازم، وفي بعض شروح الكشاف ما قاله الشارح صحيح بالاعتبارين لأنّ الاستقامة(1/339)
ليست بمعناها الحقيقيّ الذي هو ضد الإعوجاج، فهي مجاز عن المناسبة ولفظ يقال مباين لتقول لا ملازم له وقوله كل موضع يصح إلخ ممنوع لأنه يصح كل إنسان ناطق دون كل حيوان، " والجواب أنّ ذكر أستقبلته بضمير الخطاب لرعاية التفسير بإذا للجملة الفعلية قاعدة، ولا يلزم مناسبة ما تقدم من الفعل له، وعلى تقدير التسليم يقال هو التفات على مذهب اهـ وفيه نظر لا يخفى، والذي في شرح الفاضلين أنّ حق العبارة تقول لما مرّ من القاعدة في التفسير بأي واذا، فإنه إذا فسر بأي وجب أن يتطابقا في الإسناد إلى المتكلم وجاز في الصدر تقول ويقال: وإذا جيء بإذا، فالواجب أن يكون الشرط، وتقول بصيغة الخطاب أي إذا استقبلته تقول لقيته ولا يصح يقال: إلا بتعسف، وهو بتقدير كون القائل نفس المخاطب، وهو قلق جداً وقد قيل عليه أنه إنما يتوجه إذا ضم تاء لقيته ولاقيته، وليس بمتعين لجواز فتحها وكونه بصيغة الخطاب دون التكلم، ولا تكلف في قولك إذا استقبلته فقد لاقيته إلا أنه قيل إنّ الرواية، وصحيح النسخ على ضم تائه.
(أقول) هذا سهل استصعبوه، ولا مانع مما منعوه، فإنّ الخطاب هنا فرضيّ لغير معين،
، فهو في معنى الغائب والمتعدّد كما سمعتة في نحو قوله تعالى {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ} [السجدة: 12] فإذا قيل: يقال لقيته إذا استقبلته على أنّ المراد من يقال تقول وبني للمجهول إشارة إلى أنه، وان تعين بحسب الظاهر في الحقيقة غير متعين جاز، ودعوى القلاقة والتعسف فيه غير مسلمة، ولما كان الشرط والجزاء متغايرين تغاير السبب والمسبب جعلوا االقول جوابا دون المقول لإيجاد. به! مع عدم صحة إذا استقبلته أنت يقول غيرك لقيته ألا فإذا فتحت صح بتقدير إذا استقبلته يقول غيرك أنك لقيته أنت، وفي قول الزمخشريّ: يقال لقيته ولاقيته إشارة إلى أنّ المفاعلة فيه لأصل الفعل. قوله: (بحيث يلقى) قال الراغب: الإلقاء طرح الشيء بحيث يلقى، ثم صار في التعارف اسماً لكل طرح قال تعالى {أَلْقِهَا يَا مُوسَى} [طه: 9 ا] فأصله جعل الشيء ملقى مقابلا بحيث يجده ويستقبله الملقى له وهو حينئذ حقيقة فإذا استعمل لمطلق الطرح كان مجازاً مرسلاَ لكه صار حقيقة في عرف اللغة وعليه استعمأل الفصحاء وهمزته للصيرورة وهي المراد من الجعل في عبارة المصنف رحمه الله لا للتعدية لتعديه قبلها وبعدها لواحد. قوله: (من خلوت بفلان وإليه إلخ) ذكر وجوها في خلا كما ذهب إليه عامّة أهل اللغة، وفي الأساس خلا المكان خلاء وخلا من أهله وعن أهله، وخلوت بفلان واليه ومعه خلوة وخلا بنفسه انفرد، وقال الراغب: الخلاء المكان الذي لا ساتر فيه من بناء ومساكن وغيرهما، والخلو يستعمل في الزمان والمكان، لكن لما تصوّر في الزمان المضيّ فسر أهل اللغة خلا الزمان بمضى وذهب وخلا فلان بفلان صار معه في خلاء، وخلا إليه في خلوة اهـ والحاصل أنّ أصل معناه الحقيقي فراغ المكان، والحيز عن شاغل وكذا الزمان وليس بمعنى مضى، فإذا أريد به ذلك فمجاز عند الراغب وظاهر كلام غيره أنه حقيقة، وهو غير متعد بالمعنى المشهور، فإنّ التعدية لها معنيان كما قاله ابن الحاجب رحمه الله في الإيضاح أحدهما أن لا يعقل معنى الفعل، وما أشبهه إلا بمتعلقه لأنه من المعاني النسبية، فكل معنى نسبي لا يعقل إلا بما هو منسوب إليه فهو المتعدّي، وغير المتعدي ما لا يتوقف تعقله على متعلق له والثاني كل جارّ تعلق بفعل، فإنه يقال له متعد بذلك الحرف، وإن لم يكن نسبته ولا بمعنى التصيير كما يقال خلا المكان من كذا وعن كذا، وقد يتعدّى هذا بالباء أو بإلى كما صرّحوا به هنا، وهو بمعنى انفرد معه أو اجتمع معه كما في الصحاح وليس قولهم معه للإشارة إلى أنّ إلى بمعنى مع، كما قالوه في قوله تعالى {مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ} [أك! عمران: 52] وكذا قول. الراغب في خلا إليه: إنه بمعنى المضي إليه ليس إشارة إلى التضمين الآتي. قوله: (أو من خلاك دمّ إلخ) قال الرضي: خلا في الأصل لازم يتعدّى إلى المفعول بمن نحو خلت الدار من الأنيس، وقد يتضمن معنى جاوز فيتعدى بنفسه كقولهم: افعل هذا وخلاك ذم، وألزموها هذا التضمن في باب الإستثناء اهـ. وفي شرح الفصيح قال أبو عبيد: قولهم افعل هذا
وخلاك ذمّ مثل لقصير بن سعد اللخمي، قاله لعمرو بن عدي حين أمره أن يطلب الزباء بثأر خاله جذيمة بن مالك فقال: أخاف أن لا أقدر عليها فقال له اطلب الأمر، وخلاك ذمّ فذهب مثلاَ أي إنما عليك أن تجتهد في الطلب، وإن لم تقض الحاجة، فتعذر ولا تذم، ومبلغ نفس عذرها(1/340)
مثل صحيح كما قال:
على المرء أن يسعى لما هو قصده ... وليس عليه أن يساعده الدهر
وعن يعقوب المعنى خلا منك الذم أي لا تذم فأسقط الحرف، وعداه مثل واختار موسى
قومه سبعين رجلا وقال ابن أغلب المرسي: المعنى وخلوت من الذم وجعل الفعل للذم لأنك إن خلوت منه فقد خلا منك، وقال التدفري: هو من المقلوب أي خلوت من الذمّ، ثم قلب وأسقط الجار منه وقال ابن درستويه العامة تقول خلاك ذم والمعنى صحيح لكن العرب لم تستعمله كذا اهـ وعلى ما ذكر أولا إذا انفردوا واجتمعوا بثياطينهم، وقدم هذا لأنه أظهر الوجوه، وعلى الثاني فهو بمعنى مضوا، وهو على هذا متعد بإلى أيضا، والمراد بمضيهم اجتماعهم معهم لأنّ المضيّ، والذهاب يستعمل بهذا المعنى، كما قال تعالى {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ} [كله: 43] إذ ليس المراد به مجرّد الخروج إلا أنّ في ذكرهم خلاك ذم خفاءسواء.
(قلنا) أنه متعد حقيقة كما هو ظاهر سياقهم أولا كما ذكرناه لك عن الرضي وغيره، فالظاهر الاقتصاو على تفسيره بمضى، لأنه مشهور وقيل إنه على هذا المعنى أنهم إذا جاوزوا المؤمنين وذهبوا عنهم إلى شياطينهه، فعلى هذا هو في النظم متعد، ولا يخفى ما فيه وقوله ومنه القرون الخالية أي الذاهبة من منازل الوجود إلى صحراء العدم، فالخلو فيه بصعنى المضيّ والذهاب إلا أنه فرق بين الذهابين، ولذا فصله بقوله ومنه فتدبر. قوله: (أو من خلوت به إذا سخرت منه) في الكشاف وهو من قولك خلا فلان بعرض فلان يعبث به، ومعناه إذا أنهوا السخرية بالمؤمنين إلى شياطينهم وحدثوهم بها، كما تقول أحمد إليك فلانا، وأذمه إليك اهـ. وفي الأساس من المجاز خلا به سخر منه وخدعه، لأنّ الساخر والخاح يخلوان به يريانه النصح والخصوصية اهـ. وقال قدس سرّه تبعاً لغيره من الشراح: إنّ ما في الكشاف إشارة إلى أنّ استعمال خلا بهذا المعنى مع إلى بناء على تضمينه معنى الإنهاء، كما في أحمده إليك أي أنهي حمده وهذا بيان لحاصل المعنى وأمّا تقدير الكلام فهكذا، وإذا خلوا أي سخروا منهين إليهم، وأحمده منهياً إليك كما سلف.
(أقول) يعني أنّ المضمن يقدر حالا لا مفعولا به، كما صنعوه هنا، وليس هذا بمسلم
وقد مرّ الكلام عليه مفصلا في بحث التضمين في قوله تعالى {يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة: 3] وليس هذا مما يهمنا هنا، وإنما المهم هنا أنّ خلا بمعنى سخر وان ذكره الزمخشريّ
وتبعه غيره كصاحب القاموس لم يقع صريحاً في كلام من يوثق به حتى يخرّج عليه كلام رب العزة وما مثلوا به ليس مطابقا للمدعي فإنّ الدال على السخرية فيه قوله يعبث به وخلا إمّا على حمقته فيه، أوبمعنى تمكن منه كما لا يخفى، ثم لايخفى ما فيه من التكلف فعليك بالنظر السديد والترقي عن حضيض التقليد، والتضمين إنما هو على الوجه الأخير لا عليه وعلى الثاني لأنّ مضى يتعدى بإلى، فمن ذهب إليه، وقال: الأنسب تضمين معنى الانتهاء فقد وهم. قوله: (والمراد بثياطينهم إلخ) يعني أنه استعارة تصريحية لتشبيه الكفرة الذين يشيرون إليهم، أو كبار أصحابهم بمردة الشياطين، والقرينة الإضافة على ما نيه كما فصل في بعض شروح الكشاف. وقوله: (والقائلون صنارهم) فيه نبوة عن سبب النزول السابق لأنّ ابن أبيّ من رؤسائهم، ولذا قيل إنه مبنيّ على غير تلك الرواية وذكر في اشتقاقه وجهين، واستدل على الأصالة بقولهم تشيطن، لأنه لو لم تكن النون أصلية سقطت من فعله، واحتمال أخذه من الشيطان لا من أصله على أنّ المعنى فعل فعل الشيطان خلاف الظاهر وأن ارتضاه بعضهم، وشاط بمعنى بطل ورد في كلامهم كقوله:
وقد يشيط على أرماحنا البطل
وقال الراغب: إنه من شاط بمعنى احترق غضباً والشيطان مخلوق من النار فلذا اختص
بفرط الغضب وهو جمع تكسير واجراؤه مجرى جمع التصحيح، كما في بعض القراءات الشاذة تنزلت به الشياطون لغة رديئة، والتمرّد العتوّ والتجبر ومنه مردة الشياطين وقيل: المراد بهم الكهنة لأتباعهم الشياطين فسموا بملا يلإزمهم كما يقال بسمل إذا ذبح اهـ. وقوله من أسمائه الباطل أي من أسماء الشيطان، وهذا يدل على ما ذكر في الجملة وان قيل إنّ تسميته بأسماء كل منها ماخونر من لفظ آخر بمعنى آخر أرجح، لأنه تأسيس. قوله: (في الدين والاعتقاد إلخ) يعني أنّ المعية هنا معنوية، وهي مساواتهم لهم في الاعتقاد لا الصحبة الحسية، لأنها غير مرادة ولا محتاجة للبيان وقوله (خاطبوا المؤمنين إلخ) جواب عما يقال لم ترك التأكيد فيما ألقي إلى المؤمنين المنكرين لما هم عليه أو المتردّدين(1/341)
وأتى بالجملة الفعلية الدالة على الحدوث، وأكد مع شياطينهم الذين ليسوا كذلك وأتى بالجملة الاسمية الثبوتية فقيل إنه أجيب عنه بوجهين وقيل بثلاثة.
أحدها أنهم بصدد دعوى إحداث الإيمان فهو كلام ابتدائي متجدد مناسب للفعلية، وترك التأكيد بحسب زعمهم وقصدهم، وهم لم ينظروا الإنكار أحد أو تردّده فيه بخلاف ما خاطبوا به شطارهم، فإن القصد فيه إلى إفادة الثبات على ما كانوا عليه دفعا لما يختلج بخواطرهم من مخالطة المؤمنين، ومخاطبتهم بالإيمان من أنهم وافقوهم ظاهراً وباطناً، وتركوا اليهود رأساً فيناسب الثبوت والاسمية المؤكدة لدفع التردّد الظاهر من حالهم.
والثاني أن ترك التأكيد كما يكون لإزالة الإنكار والشك يكون لصدق الرغبة، ووفور النشاط من المتكلم، كما في قول المؤمنين {رَبَّنَا آمَنَّا} [المؤمنون: 09 ا] فلذا جرّدت الأولى، وأكدت الثانية.
والثالث أنهم لو قالوا: إنا مؤمنون كان ادّعاء لكمال الإيمان وثباته وهو أمر لا يروج عند خلص المؤمنين، وهم ما هم في رزانة العقل وحدة الذكما " ولا كذلك الشطار، وفي شرح الكشاف للعلامة طاب ثراه: التو! يكون لبيان حال المخاطب تارة، وأخرى لبيان حال المتكلم، والخبر إمّا أن يورده المتكلم لنفسه أو لمخاطبه، فإن أورده للمخاطب فلا بدّ من أن يقصد به فائدة الخبر أو لازمها وتأكيده حينئذ لنفي الإنكار أو الشك، وان أورده لنفسه لا يلزمه أح! الفائدتين، فيقصد به معاني أخر كالتحسر والتضرّع وغير ذلك، وبهذا ظهر اندفاع ما أورد على السكاكي، لما حصر فائدة الخبر في الحكم، ولازمه مع وروده كثيراً لغير ذلك، وما قيل عليه فى قوله: إنّ حكم العقل عند إطلاق اللسان أن يفرغ المتكلم ما ينطق به قي قالب الإفادة تحاشيأ عن وصمة اللاغية مع إنه يأتي بخلاف ذلك، ولا يعدّ لغواً لأنّ ذلك كله في الخبر الملقى د لمخاطب لا فيما يورده المتكغ لنفسه، ولذلك قال: ومرجع كون الخبر مفيداً للمخاطب إلى فائدة الخبر أو لازمها فقيده بقوله للمخاطب تنبيهاً على هذا وهذا من نفائس المعاني ". ولذا أوردته برمته فعليك بحفظه، ومن لم يتفطن له قال: ليس المقصود هنا فائدة الخبر، ولا لازمها بل الأمان، أو الاستئمان من المؤمنين والخبر لا ينحصر المقصود منه في الفائدة ولا لازمها، وهذا مما استنبط من الكشاف، وأخذ منه أنّ التكيد يكون للرواج عند المخاطب وصدق الرغبة من المتكلم، وتركه لعدمه كما يكون لإزالة الإنكار والتردّد وقوله توقع رواح معطوف على قوله باعث. وقوله: (على المؤمنين) متعلق برواج لا بادعاء وان جوّزه بعضهم قوله تأكيد لما قبله إلخ توجيه لعدم العطف وذكر له ثلاثة أوجه:
الأوّل أنه مؤكد له فبينهما كمال الاتصال الموجب للقطع، لأنّ معنى قوله: إنا معكم إنا
على دينكم لا على دين أولئك، كما مرّ لا انا معكم بالنصر والمعونة، كما ذهب إليه بعض المفسرين، وان كانا متقاربين، ولما كانا متغايرين لأنّ معنى إنا معكم هو الثبات على اليهودية، وليس {إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُونَ} بمعناه حتى يكون بظاهره تقريراً، وتأكيداً لهذا المعنى اعتبر
لسيخان في الثاني لازما يؤكده، وهو أنه ردّ ونفي للإسلام، فيكون مقرّرا للثبات عليها لأنّ دفع لصض الشيء- ثأكيد لثباته، وقد عكنس صاحب المفتاح، فاعتبر لازم الأوّل حيث قال معنى انا معكم انا معكم قلوبا ومعناه إنا نوهم أصحاب محمد الإيمان فوقع مقرّراً لقوله إنا مستهزؤن! مكون الاستخفاف بهم وبدينهم تأكيداً لذلك اللازم، وما ذكره المصنف رحمه الله أولى كما ل! لحفى، كذا قرّره الشريف قدس سرّه تبعا لما في الكشف حيث قال بعد تقريره: وما هنا أولى مما في المفتاح، وان كان حسناً أيضاً فإنه يؤكد الكلام المذكور لا لوازمه وان جاز أن يعدّ كيدا للوازم تأكيداً له أيضا من وجه، مع أنّ التأويل عند الحاجة أعذب، واعترض عليه بأنه ر هما مسلك السكاكي بأنه تأوّل الأوّل فقط، وهو مخالف لقوله في شرح المفتاح: إنه لا بد أخذ اللازم من الأوّل، ومق الثاني حيث قال: إنّ إيهام الإيمان يتضمن نفيه والاستهزاء هله يتضمنه " أيضا، كما إنّ الثاني تقرير للأوّل والظاهر أنه لا حاجة إلى ذلك، فإنّ قول لمنافقين بغير جد، وصدور من القلب استهزاء وسخرية، ويجوز أن يكون ترك العطف في قوله نما نحن مستهزؤن} لكونه علة للأوّل من غير نظر إلى تأكيد أو بدل أو استئناف اهـ.
(أقول) حاصل ما ذهب إليه شرّاج الكشاف والمفتاح على أنه تأكيد سواء قلنا وزانه،
ان جاء زيد زيد، أو وزان جاء زيد نفسه أنهما لما بينهما من(1/342)
المغايرة لفظا ومعنى لا بدّ من ويلهما، أو تأويل الأوّل أو الثاني، فذهب إلى كل واحد من الاحتمالات الثلاث طائفة كما سمعته آنفا. واختلفوا في الأرجح ورجحوا برمتهم هنا تأويل الثاني لما مرّ، وقد قيل عليه: إنّ صله أنه لمما أفاد إنا معكم إنا مجدون في دينكم مصرون عليه، وأنا مستهزؤن يؤكد. بلازم معناه إلا أن هذا التأويل إنما يتأتى على كونه تأكيدا لفظيا والأوجه أن يجعل تأكيدا معنويا ليكون لحقيقا للمدعي بدليله، فإنّ مدّعاهم بأنا معكهأ الثبات على الكفر، حقق بدليل هو تحقير ما عداه، فإنّ المستخف بشيء منكر له غير معتد به ودفع نقيض الشيء تأكيد لثباته لئلا يلزم ارتفاع ل! قيضين، وعكسه السكاكي وهذا ليس بشيء إذ ليس هنا ما يشعر بتنزيله منزلة التأكيد اللفظي لل فحوى الكلام منادية على خلافه، فما ذكره خيال فارغ.
(وههنا بحث) .
ينبغي التنبيه عليه وهو أنّ الظاهر الأرجح ما ذهب إليه السكاكي لأنهم لما قالوا لشطارهم ثابتون على دينكم لم نتغير عنه، وهم عرفوا قولهم للناس آمنا لاشتهارهم بذلك في ظهور يّ الإسلام عليهم، ولولا ذلك لم يكونوا منافقين، وتلك المقالة من طرف اللسان دون اعتقاد لجنان، وقد صرّحوا بتسفيه المؤمنين قبل ذلك، وهذا إن لم يكن صريحا في الاستهزاء، فليس سعيد منه، فجعل إنا معكم، وقد أ! يدب4 إنا على حق دينكم ثا! ش ن لا مع ال! سفهاء المبطلين، ن قلنا لهم! ! اعلى إسنلا! كاحناقي ممن الا! م! هزاء أظهر 5 ش تأويق إنا ورمحتوؤن بمإنا م! وون على
الكفر، فهو كالتفسير الذي حقه التأخير، وأمّ جعله تعليلا بغير الاستئناف البياني بعده مغايراً له فغفلة أو تغافل، ثم إنه قد يقال إنه لا مخالفة بين كلامي السيد، وإيهام الإيمان في كلامه ليس تأويلا لقوله {أَنَاْ مَعَكُم} بل إشارة إلى أنه يدلّ على أنّ قولهم آمنا مخادعة لم يصدر عن صميم قلب كما يدلّ عليه السياق، ومصت الكلام، وهذا هو الداعي لعدول السكاكي عما في الكشاف فتدبر. وقوله: (المستخف به) أي المحقر والتعبير به في غاية الحسن لانطلاقه على معناه الحقيقي. قوله: (أو بدل منه إلخ) تحقير الإسلام من قوله {إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُونَ} وتعظيم الكفر هو مدلول قوله {أَنَاْ مَعَكُم} قال ابن الصائغ: للنحاة في إبدل الجملة من الجملة خلاف، وجعل منه ابن فلاج قوله:
ذكرتك والخطيّ ب خطربيننا وقد نهلت منا المثقفة السمر
على كلام فيه، وتقرير البدلية بأن من حقر الإسلام إلخ لأنّ البدل إمّا اشتمال وذلك يقتضي المغايرة، أو بدل كل من كل وهو، وإن اقتضى التساوي، فمن حيث الصدق لا من حيث المدلول، ثم إن أستاذه أبا حيان في النهر اشترط في صحة وقوع البدل في الجمل كونهما فعليتين حيث قال لا يظهر لي صحة إبدال قوله تعالى {ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ} [البقرة: 17] من قوله {؟ مثلها كمثل الذي} إلخلأنّ البدل لا يكون في الجمل إلا إذا كانت فعلية من فعلية، وأمّا أنّ تبدل فعلية من اسمية فلا أعلم أحدا أجازه، والبدل على نية تكرار العامل والجملة الأولى لا موضع لها من الإعراب، فلا يمكن أن تكون الثانية على نية تكرار العامل إذ لا عامل في الأولى، فيتكرّر في الثانية فبطلت جهة البدلية اهـ. وقال الفاضل المحقق هنا: البدل لا يحتاج إلى اعتبار أحد اللازمين ويكفي تصادق الثابت على الباطل، والمستهزىء بالحق مع كون الثاني، أوفى بالمقصود لما في الأوّل من بعض القصور حيث يوافقون المسلمين في بعض الأمور، ثم الظاهر أنه بمنزلة بدل الكل، وأرباب البيان لا يقولون بذلك في الجمل التي لا مخل لها ويعنون بما لا محل له ما لا يكون خبرا أو صفة أو حالاً، وإن كان في موقع المفعول للقول، فلذا كان الاستثناف هنا أوجه، وقال قدّس سرّه: إنهم قصدوا تصلبهم في دينهم وكان في الكلام الأوّل نوع قصور عن إفادته إذ كانوا في الظاهر يوافقون المؤمنين في بعض الأمور، فاستأنفوا القصد إلى ذلك بأنهم يعظمون كفرهم بتحقير الإسلام وأهله فهم أرسخ قدماً فيه من شياطينهم، وفي بعض الحواشي نقلاَ أنّ المراد بالبدل هئا ليس أحد التوابع المشهووة، فإنه لا يكون في الجمل الاسمية، وقد جاء في الفعلية كقوله تعالى {وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ} [الفرقان: 68] فالمراد بالبدل هنا أنّ الجملة الثانية تسدّ مسد الأولى وتغني عنها غناء البدل عن المبدل منه.
(أ! دول) هذا جملة ما قالوه، وهو كلام لم ينضج والحق الحقيق بالقبول أنّ البدل بأنواشه
يقع في الجمل مطلقا سواء كان) كا محل من الإعراب أو لا، وهو مقتض إطلاق(1/343)
كلام النحاة
والمفسرين، وأهل البيان وتشهد له أمثلتهم، ولا يختص بالفعلية بل كما يكون فيها يكون في الاسمية، وفي الاسمية والفعلية إذ لا فارق يعوّل عليه، وما أوقعهم في هذا المضيق غير قول النحاة أنّ البدل هو التابع المقصود بالنسبة، ولا نسبة لما لا محل له من الإعراب، فإمّا أن يكون هذا تعريفاً لبدل المفردات وما في حكمهما، أو هو باعتبار الأصل الأغلب كما عرفوا التابع بكل ثان أعرب بإعراب متبوعه مع أنّ من أقسامه التوكيد، وهو يقع في الحروف والجمل التي لا محل لها بالاتفاق، نحو لا لا وجاء زيد جاء زيد أو يؤوّل بأنّ المراد من قولهم: مقصود بالنسبة أنه مقصود بالغرض المسوق له الكلام، فلذا نراهم يقولون في توجيهه أنه أوفى بتأدية المرام، وقد اختلفوا ة ي البدل هل هو بدل كل أو اشتمال، أو بعض لأنّ كونهم معهم عام في المعية الشاملة للاستهزاء والسخرية، وبما قرّرناه لك علم أنه يرد على ما قالوه أمور. منها أنّ قول أبي حيان البدل على نية تكرار العامل إلخ كلام مموّه ليس بشيء، وان ذكره النحاة على ظاهره.
ومنها أنّ قول الفاضل المحقق أنّ البدل لا يحتاج إلى اعتبار أحد اللازمين بخلاف التاكيد السابق ممنوع أيضا لأنا قد بينا لك أوّلا أنهما متغايران متباينان بحسب الظاهر، فلا تتأتى البدلية المعتبرة فيه بدون الاتحاد كلا أو جزءاً أو اشتمال أحدهما على الآخر وتحقير الإسلام وتعظيم الكفر إن لم يتحدا فأحدهما متضمن ومستلزم للأخر كما لا يخفى، ولهذا اتفق الشيخان على تأويله بما ذكر.
ومنها أنّ قوله إنّ أرباب البيان لا يقولون بذلك في الجمل التي لا محل لها من الإعراب
إلخ لا وجه له أيضاً، لأنّ أهل المعاني استشهدوا له بقوله {الَّذِي أَمَدَّكُم بِمَا تَعْلَمُونَ أَمَدَّكُم بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ} [الشعراء: 132- 133] وقوله {؟ اثبعوا ال! هـ سلين اتبعوا من لا يسألكم أجرا} [يى، 1 لآية: 21] وقوله:
أقول له ارحل لا تقيمن عندنا
وهذا كله مخالف لما ادّعاه فليت شعري من أرباب البيان، ثم إنّ ما فسر به ما لا محل
له لا سند له فيه لأنه يدخل فيه جواب الشرط، والمفعول الثاني من باب علم ولا قائل بأنه لا محل له فتأمّل.
ومنها أنّ قول الشريف في تقرير البدلية فاستأنفوا إلخ غير مناسب لتقرير البدلية فتأمّل.
ومنها أنّ ما نقل عن بعض الحواشي من ذكر يضاعف له العذاب في البدل من الجملة لا
وجه له، لأنه بدل من الفعل المجزوم وحده لا من الجملة، والفرق بينهما ظاهر، وما أوّل به البدل ظاهر الخلل فاعرفه. قوله: (أو اسنئناف إلخ) قال قدس سرّه: الحمل على الاستنئاف أوجه لكثرة الفائدة وقوّة المحرّك للسؤال والوجوه بيان لترك العاطف بين الجملتين في كلامهم
وأمّا تركه في حكايته فللموافقة فيما هو بمنزلة كلام واحد وعلى هذ " ا " المتوجيح جرى غيره من الشرّاح حتى قيل إنه أبمغ من الأوّلين والثاني من الأوّل، فذكر الوجوه على نهج الترقي وهذا تعكيس للصنيع منهم من غير داع إليه، وقد قال الشيخ في دلائل الإعجاز: في فصل عقده لأنما موضوع إنما أن تجيء لخبر لا يجهله المخاطب، ولا يدفع صحته، وهذا يقتضي أنّ تقدير السؤال هنا أمر مرجوح، وما بالكم بمعنى ما شأنكم وحالكم وقوله (توافقون) جملة حالية وهي المسؤول عنها في الحقيقة، كما في قوله:
مابال عينك منها الماءينسكب
وسيأتي بيانه. قوله: (والاستهزاء السخرية إلخ) هزئت به من باب تعب، ونفع والاسم
الهزؤ بضم الزاي وسكونها وهو مهموز والاسنخفاف إستفعال من الخفة ضد الثقل، والمراد به الاستهانة لأنّ معنى السخرية والاستهزاء كما قاله الغزالي الإستحقار والإستهانة والتنبيه على العيوب والنقائص على وجه يضحك منه، وقد يكون ذلك بالمحاكاة في الفعل والقول، وقد يكون بالإشارة والإيماء، وإذا كان بحضرة المستهزأ به لم يسم غيبة اهـ فقول الإمام إنه عبارة عن إظهار موافقة مع إبطاق ما يجري مجرى السوء على طريقة السخرية غير موافق للغة والعرف، وقوله: يقال هزأت واستهزأت بمعنى يعني كما قال الراغب: إنّ الاستهزاء طلب الهزؤ وقد يعبر به عن تعاطي الهزؤ كالإستجابة في كونها إرشاد للإجابة، وان كانت قد تجري مجرى الإجابة قال تعالى {قُلْ أَبِاللهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ} [التوبة: 65] أي تهزؤن والهزؤ مزح في حقه اهـ. قوله: (وأصله الخفة إلخ) أي المعنى الذي اعتبر في هذه المادّة بحسب أصله المنقول عنه الخفة، فإنّ الاستهزاء من الهزء وهو القتل السريع وفي الكشاف، وأصل الباب الخفة من الهزء، وهو القتل السريع وهزأ يهزأ مات على المكان عن بعض العرب مشيت، فلغبت فظننت لا هزأنّ على مكاني، وناقته تهزأ به أي تسرع وتخف قال ابن الصائغ(1/344)
ومن خطه نقله قونه على المكان: كأنه أخذه من قول العربي لأهزأنّ على مكاني، وهذا لا يقتضي أنّ المكان داخل في تفسير هذا وأدخل نون التأكيد لأنّ هذه الأفعال تتلقى بما يتلقى به القسم قال: ولقد علمت لتأتين منيتي.
وظن كعلم اهـ. والهزء في قوله: من الهزء بزنة الضرب، وما اعترض به من عدم التدبر، فإن قوله على مكانه بمعنى فجاة كأنه لم يمهل حتى ينتقل عن مكانه إلى محل آخر، خلا بد من دخوله في تفسيره وهو كأاية كما ذكر. قوله: (يجازيهم على استهزائهم) بيان لحاصل
المعنى والمجازاة المكافأة والمقابلة ويتعدى بالباء وعلى، وقال الراغب: جزيته بكذا وجازيته ولم يجيء في القرآن إلا جزى دون جازى وذلك لأنّ المجازاة هي المكافاة والمكافاة مقابلة نعمة بنعمة هي كفؤها ونعمة الله تتعالى عن ذلك، ولهذا لا يستحمل لفظ المكافة في الله تعالى. اهـ ويرد عليه قوله تعالى {وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ} [سبأ: 7 ا] وسيأتي تمامه إن شاء الله تعالى. قوله: (سمى جزاء الاستهزاء باسمه إلخ) قيل لما كان الاستهزاء بمعنى السخرية محالا على الله تعالى لكونه جهلا لقول موسى عليه الصلاة والسلام {أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [البقرة: 67] في جواب {؟ أتتخذنا هزؤا} [القرة: 67] أحتيج إلى التأويل، فذكر المصنف رحمه الله وجوها مدار الأوّلين منها على اعتبار الاستهزاء في جانب المستهزأ بهم، وجعل المذكور جزاء له على الأوّل، وارجاع وباله عليهم على الثاني، ومدار الأخيرين على اعتبار الاستهزاء المذكور في جانب المستهزىء وجعله مجازاً عن إنزال الغرض! منه بهم على الأوّل وعن المعاملة معهم معاملة المستهزىء على الثاني.
(أقول) تبع في هذا الإمام ومن حذا حدّوه وفي مدعاه ودليله ما لا يخفى أمّا الأول: فلأنّ
حقيقة الاستهزاء التحقير على وجه من شأنه أنّ من اطلع عليه غيره يتعجب منه ويضحك، وأيّ استح لله لة في وقوع هذا من الله وأمّا الثاني: فلأنه لا وجه لكونه جهلاً، وأمّا الآية فسيأتي تأويلها ولو سلم فامتناعه من البشر لا يقتضي إمتناعه من الله على ما فصله علم الهدى في التاويلات، وقال السمرقندي في تفسيره ذهب الحسين بن النجار، وطائفة من أهل التأويل أنّ الاستهزاء هنا على حقيقته وهو مما يوصف به الله من غير مانع واليه ذهب أهل الحديث قالوا: وإنما لم يجز من الخلق لما فيه من النقص والجهل، وهذا مما لا يتصوّر في حقه، فليس في الوصف به ضير كالتكبر، ومنعه من قياس الغائب على الشاهد، وذهب كثير من أهل السنة والجماعة إلى أنه لا يوصف به الله تعالى حقيقة لما فيه من تقرير المستهزأ به على الجهل الذي فيه ومقتضى الحكمة والرحمة أن يريه الصواب، فإن كان عنده أنه ليس متصفاً بالمستهزأ به، فهو لهو ولعب لا يليق بكبريائه فلذا أولوا هذه الآية بما ذكره المصنف كغيره. قوله: (إمّا لمقابلة اللفظ باللفظ إلخ) هذا بناء على أنّ الاستهزاء لا يليق به تعالى ولا يجري عليه حقيقته، ولا بذ من تأويله واقترانه بمسوغ له كأن يقال أطلق على مجازاة الله لهم لما بين الفعل وجزائه من الملابسة القوية، ولما في الأوّل من السببية مع وجود المشاكلة المحسنة، ولذا تعدى بما تعدى به الآخر، فالمراد بالمقابلة المشاكلة، وأمّا تحقيقها من أي أنواع المجاز هي وهل تجامع الاسنعارة أم لا فسيأتي عن قريب، وهذا هو الوجه الأوّل من وجوه التأويل. قوله: (أو لكونه مماثلاَ له (يعني أنه استعارة تبعية بعلاقة المشابهة في المقدار، وقيل: إنه مجاز مرسل بجعل جزاء الاستهزا، تابعاً له مترتبا عليه مناسباً له في القدر وفيه نظر وعليهما فقد أطلق عليه تنبيها على عدله في الجزاء كما قال تعالى {جَزَاء وِفَاقًا} [النبأ: 26] وهذا هو الوجه
الثاني. قوله: (أو يرجع وبالى الاستهزاء عليهم) يرجع بضم الياء من الإرجاع مبنياً للفاعل أو المفعول، أو بفتحها من الرجع أو الرجوع، لأنّ رجع يكون متعدّيا ولازما كما ذكره شراح الحماسة في قوله:
عسى الأيام أن يرج! ش قوماً كالذي كانوا
وقيل: إنه من المتعدي وليس بلازم. وقوله: (فيكون افلأ تقدس وتعالى كالمستهزىء
بهم) في صدوا ما يترتب على الاستهزاء فيكون الاستهزاء استعارة لردّ وخامة استهزائهم عليهم للمشابهة في ترتب الأثر، فيكون يستهزىء استعارة تبعية أيضا لكن بوجه يغاير الوجه الأوّل، فبطل ما قيل إنّ العطف بأو في قوله: أو يرجع ليس كما ينبغي لأنّ مؤدّى المعطوفين واحد اللهمّ إلا أن يحمل الأوّل على الجزاء الأخروي، والثاني على الدنيوي(1/345)
لما تحققت من الفرق الذي بينهما كذا قيل، ومن الناس من اتبعه فيما ذكر الآ أنه جعله مع ما قبله وجهاً واحداً ولا وجه له، وقيل يرجع معطوف على يجازيهم والاستعارة معتبرة في المسند إليه بأن شبه بالمستهزىء بسبب رجوع وبال الاستهزاء إليهم، ويجوز أن يكون من المجاز المرسل لإطلاق اسم السبب على المسبب فإنّ استهزاءهم سبب لرجوع وباله عليهم، وقيل: إنه كناية عن اختصاص ضرر الاستهزاء بهم كما في قوله تعالى {وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم} [البقرة: 9] وقيل: هدّا تجوّز في الإسناد وما قبله في المسند، فالاستهزاء مجاز فيه، وفي هذا على حقيقته غير أنه أسند إلى غير ما هو له تشبيهاً لمن يردّ وبال الاستهزاء على المستهزىء بالمستهزىء، لكن قوله: أو ينزل بهم الحقارة إلخ لا يلائص4 لأنه أيضا تجوز في المسند فيجعل ردّ وبال الاستهزاء أيضا معنى مجازياً للاستهزاء لشبهه به، والحق أنه على هذا فيه استعارة مكنية، وتخييلية بجعل الله جل جلاله كالمستهزىء بهم، واثبات الاستهزاء له تخييلاً، وعبارة المصنف رحمه الله نص فيه، ولا بأس عليه وهذا أحسن مما ذكروه لما فيه من التكلف والتعسف، فإن قلت: إذا لم يتصف البارىء بالاستهزاء حقيقة لا يطلق عليه المستهزىء وتشبيهه تعالى بغيره لا يخلو من الكدر قلت: إذا صح تشبيه، فعله تعالى، وهو العقاب ورد وبال الأفعال الرديئة على أصحابها بالاستهزاء، فلا مانع من إطلاق المستهزىء عليه، كما أطلق الخادع ونحوه في قوله {وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء: 142] {اللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال: 30] ورب شيء يصح تبعاً ولا يصح قصدا، وله تعالى أن يطلق على ذاته المقدسة ما يثاء تفهيما للعباد وتجليا لعيون المعاني في مرائي الألفاظ. وقوله: (يرجع) معطوف على فوله مقابلة اللفظ باللفظ كما في قوله تعالى {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ} [الملك: 9 ا] والوبال بالفتح من وبل المربع بالضم إذا وخم ولما كان عاقبة المرعى الوخيم إلى الشرّ صار خقيقة في؟ ل شرّ وسوء عاقبة وهو المراد. قوله: (أو ينزل بهم الحقارة إلخ) البوار كالهلاك وزنا ومعنى، وينزل مضارع انزل الغائب، وعلى هذا هو مجاز
مرسل بعلاقة انلزوم العادي، أو السببية في التصوّر والمسببية في الوجود وفائدته التنبيه على أنّ حالهم حقيق بأن يسخر منه ويهزأ به. وقوله: (والنرض! منه الخ) وجه آخر وعلاقة أخر! ، أو هو تفسير للازم وهو الأظهر الذي مشى عليه ا! ئر، فسمي لازم الاسنهزاء استهزاء وعطف هذا كالذي فبله، وفي شرح الكشاف يعني أنه مجاز عما هو بمنزلة الغاية للاستهزاء، فيكون من إطلاق المسبب على السبب نظرا إلى التصوّر وبالعكس نظرا إلى الوجود. قوله: (أو يعاملهم معاملة المستهزىء إلخ) أي يفعل بهم فعله وأصل المعاملة التصرّف في الأمور، وهذا هو الجواب الأخير وهو الذي ذكره في انكشاف بقوله، ويجوز أن يراد به ما مرّ في يخادعون من أنه يجري عليهم أحكام المسلمين في الظاهر، وهو مبطن بادّخار ما يراد بهم، وهو محتمل للاستعارة التبعية والتمثيلية، وأمّا كلام المصنف فنص في التمثيل لا يكاد يحتمل خلافه لذكره أوّلاً التجوّز في الطرفين، ومن لم يتنبه لهذا اغتر بقول بعض شرّاح الكشاف أنّ الاستعارة تبعية، فتوهم اتحاد كلام المصنف، وما في الكشاف فقال: إنها استعارة تمثيلية، أو تبعية تخييلية شبه صورة صنع الله معهم في الدنيا بإجراء أحكام الإسلام واستدراجهم بإدرار النعم، والإمهال مع أنهم من أهل الدرك الأسفل بالاستهزاء إلى آخر ما ذكروه والاستدراج الإدناء من الشيء درجة، وسيأتي تحقيقه في قوله تعالى {سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ} [القلم: 44] وقوله بالإمهال متعلق بقوله بالاستدراج، والزيادة بالجر معطوف عليه. وقوله: (على التمادي إلخ) ظرف مستقرّ في موضع الحال قال المرزوقي: قولهم على أنه يكون كذا يجري في كلام العرب مجرى الاستدراك، وهو في موضع نصب على الحال وهذا كما تقول ما أترك حقه على ظلع بي أي أؤدّيه ظالعاً فمن قال: إنه متعلق باستدراجهم لم يصب، والتمادي في الشيء اللجاج والمداومة عليه، وأصله تمادد فأبدل أحد المثلين حرف علة للتخفيف وقيل: المدى الغاية والتمادي بلوغها. قوله: (فبأن يفتح لهم الخ) بيان لاسنهزاء الله بهم في الآخرة، وقد مرّ أن الاستهزاء والسخرية، كما يكون بالكلام يكون بالفعل، وهذا من الثاني، وهذا مأخوذ من حديث أخرجه ابن أبي الدنيا في كتاب الصمت عن الحسن قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: " إنّ المستهزئين بالناس يفتح لأحدمم باب إلى الجنة فيقال هلم هلم فيجيء بكربه وغمه فإذا جاء(1/346)
أغلق ثونه ثم يفتح له باب آخو فيقال له هلم هلم فيجيء بكربه وغمه فإذا أتاه أغلق دونه فما يزال كدلك حتى إن الرجل ليفتح له باب قيقال هلم هلم فما يأئيه) (1) قال السيوطي: وهذا حديث مرسل جيد الإسناد، وكذا روي ما يقرب منه القرطبي في
تذكرته عن ابن المبارك وقوله (وذلك قوله) أي هو معنى هذه الآية وتفسيرها، ففيه مضاف مقدر. قوله: (وإنما استؤنف به إلخ) اختلف شراح الكشاف في هذا الاستئناف هل هو الاستئناف البياني، فهو جواب سؤال مقدر أولاً، أو هو محتمل لهما، فذهب إلى كل بعض من الشرّاح وأرباب الحواشي وقال بعضهم: إنّ الثاني متعين هنا لقول الزمخشريّ ابتدىء قوله {اللهُ يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ} وهذا بناء منه على أنّ الابتداء يختص بالاستئناف النحوي، وهي دعوى منه بلا دليل والمحققون من شراح الكشاف والمفتاح على تقدير السؤال، وذهب السكاكي إلى أنّ فيه مانعاً من العطف، لأنّ المعطوف عليه إمّا جملة قالوا واما جملة إنا معكم إنما نحن مستهزؤن، ولو عطف لكان مقولا لهم أو مقيدا بالشرط، وليس بمراد ثم قال ولك أن تحمله على الاستثناف من حيث أنّ حكاية الله حال المنافقين قبله تحرّك السامعبن أن يسألوا ما مصير أمرهم وعقبى حالهم، وكيف معاملة الله إياهم، فلم يكن من البلاغة أن يعرى الكلام عن الجواب، فلزم المصير إلى الاستئناف، وأنما أخره ومرّضه لما قيل من أنه يفهم منه كون المقام صالحا للعطف بل هو مقتضى الظاهر ولا يظهر ما يحسن عطفه عليه إلا قوله {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ} إلخ وهو بعيد لفظا ومعنى.
وقال قدس سرّه في شرح قول العلامة إنه استئناف في غاية الجزالة والفخامة إلخ أي ليس
ترك العطف فيه لدفع توهم كونه معطوفا على (إنا معكم) فيندرج حينئذ في مقول المنافقين، أو على قالوا فيتقيد بالظرف أعني وإذا خلوا بل هو لكونه استئنافا، وإنما كان في غاية الجزالة والفخامة لدلالته على أنهم بالغوا ني استهزائهم مبالغة تامّة ظهر بها شناعة ما ارتكبوه، وتعاظمه على الأسماع على وجه يحرّك السامع أن يقول: هؤلاء الذين هذا شأنهم ما مصير أمرهم إلخ ثم إنّ هذا إلاستئناف لم يصدر إلا بذكره تعالى لفائدتين الأولى التنبيه على أنّ الاستهزاء بالمنافقين هو الاستهزاء الأبلغ الذي لا اعتداد معه باستهزائهم لصدوره عمن يضمحل علمهم وقدرتهم في جانب علمه، وقدرته الثانية الدلالة على أنه تعالى يكفي مؤنة عبادة المؤمنين وينتقم لهم، ولا يحوجهم إلى معارضة المنافقين تعظيما لشأنهم، وفي هاتين الفائدتين تأييد لجزالة الاستئناف وفخامته وأورد صيغة الحصر في قوله: وفيه إنّ الله عز وجل هو الذي يستهزىء بهم الاستهزاء الأبلغ تنبيها على ما هو مدلول الكلام من أنّ بناء الفعل على الم! - أمطلقا عنده للاختصاص، ودلّ بقوله ولا يحوج المؤمنين أن يعارضوهم باستهزاء مثله على أنّ الحصر بالقياس إليهم أي هو المستهزىء دون المؤمنين لا يقال الاستهزاء بمعنى السخرية لا يتصوّر منه! تعالى، وبالمعنى المراد من إنزال الهوان والذل لا يتصوّر من المؤمنين، فكيف يتصوّر الحصمر لأنا نقول معناه أنمه تعالى يتولى الاستهزاء بالمعنى الذي يليق به، ولا يتولاه المؤمنون بالمعنى الذي يليق بهم، ويماثل أستهزإء المنافقين وفي كلامه إشارة إليه، فلا إشكال حيمئذ.
(أقول) سبقه إلى هذا الفاضل المحقق حيث قال: ليس ترك العطف لمجرّد دفع أن يتوهم
العطف إلخ وفي قوله لمجرّد إيماء إلى أنّ كلام الزمخشرقي غير مناف لكلام السكاكي إذ يجوز أن يقال ترك العطف لما فيه من المانع، ولجزالة الاستثناف وفخامته، وكونه مقتضيا لصلاحية المقام للعطف غير مسلم ولا أدري لم لم يجر قدس سرّه على سننه، وفي المانع المذكور كلام في كتب المعاني لا يهمنا الآن، فمن أراده فعليه بها إذا عرفت هذا ففيما قصصناه عليك أمور.
(منها) أنّ ئوله إن ترك العطف ليس للمانع المذكور بل هو لكونه استئنافاً في غاية الجزالة
إلخ يقتضي أنّ بين المسلكين تنافيا وليس كذلك لما سمعته آنفاً.
(ومنها) أنّ ما ذكره من الفائدتين، وانّ فخامة الاستئناف بواسطتهما لا وجه له، فإنهما ما
جاآ من الإسناد إلى ألله تعالى وتصدير اسمه الكريم، فالفائدتان متحققتان على تقديري الاستئناف وعدمه وفي كلام الفاضل ألمحقق إشارة إليه وقد ردّه بعضهم بما في عبارة العلامة وإيراده الواو في قوله: وفيه أنّ الله عز وجل هو الذي إلخ وسياتي ما يدفعه.
(ومنها) أنّ ما ذكره تبعاً للشارح المحقق من السؤال والجواب، وقال: إنه لا إشكال فيه،
لم يتضح لي حل عقدة الإشكال بما ذكروه، فإنه من قصر الصفة على(1/347)
الموصوف، والمعنى ما المستهزىء بهم الآ الله سواء كان قصر قلب، أو إفراد والمذكوو في المعاني أنه لا بد أن تكون الصفة واحدة من الجانبين، وأمّا تغايرها فيهما ودعوى اتحادها فلم نر له نظيراً في كلامهم، وما هو إلأ كأن يقول زيد ضارب لا عمرو والثابت لزيد ضربه بسيفه، والمنفيّ عن عمرو ضربه بسوطه، وإن قيل إنّ الاستهزاء على هذا محمول على ما يطلق عليه الاستهزاء على طريقة عموم المجاز، فيتحقق مفهوم عام يضاف إلى الله تعالى، وألى المؤمنين، ولذا ترك المصنف الحصر، وعدل عما في الكشاف لابتنائه على خلاف المرضى من إفادة مطلق البناء على الفعل له، ولما -. . ر، ثم أنه وقع هنا في لعض الحواشي كلام طويل لغير طائلى، فلذا
ليه من العسص المدكو.
ضربنا عنه صفحا تجاوز إلله عنه. قوله: (ليدلّ على أن الله ئعالى إلخ) قيل: إنّ للاستئناف مطلقا هنا نكتة، وهي الإشارة إلى أنّ ما ارتكبوه من الاستهزاء أبلغ في الشناع والتعاظم على الأسماع إلى حد يقول كل سامع له ما مصير هؤلاء وعقبى أمرهم، وكيف عاملهم الله تعالى، والمصنف رحمه الله لم يتعرّض لها بل لما في الاسيتئناف من النكتتين حيث لم يصدر بذكر المؤمنين الذين كان ينبغي أن يعارضوهم بقوله ليدل إلخ. ولا يخفى ما فيه من الخلل لعدم التدبر فيما قالوه، فإنّ ما ذكره ليس نكتة للاستئناف بل بيانا للسؤال المقدر، ومنشئه والقرينة الدالة عليه هنا مع ما في تقريره مما لا يخفى، ثم أنه يرد عليه، وعلى المصنف رحمه الله ما قدّمناه من أنّ ما ذكر يؤخذ من إسناد الاستهزاء إلى الله وتصدير الجملة بذكرهـ سواء! (نت مستأنفة أم لا، والمصنف رحمه الله غير عبارذ الكشاف فوقع فيما وقع فيه، رلد أن تتكلول لو! حش--، إ / ن! - لم خ 9 لمءه 3
عطف لم يكن جواباً للسؤال المذكور، ولا جزاء لاسنهزائهم لأنه يصير المعنى أنهم قالوا: إنما نحن مستهزؤن. وهم هزأة في أنفسهم الله مستهزىء بهم، وإذا كان جواباً وجزاء فقد تولى الله جوابهم بنفسه تعظيماً وتكريماً للمؤمنين، ولم يكل الجواب إلى المستهز! بهم كما هو مقتضى الظاهر إشارة إلى أنه يجازيهم بما لا يقدر عليه البثر، وهذا إنما نشأ من الاستئناف، وتغيير الأسلوب بفحوى المقام كما لا يخفى على من له نظر سديد. وقوله: (لا يؤبه به) بضم الياء التحتية وهمزة ساكنة يجوز أن تبدل واو أو باء موحدة مفتوحة، وهاء أي لا يعتدّ به لحقارته، ومثله يعبأ به، وهو متعد بالباء وعدّي في الحديث باللام وهذا إنما يتأتى على غير الوجه الثاني في معاني الاستهزاء. فتأمّل. قوله: (ولعله لم يقل الله مستهزىء إلخ) قال الفاضل المخقق في بيان ما في الكشاف من أنه لم يقل الله مستهزىء بهم ليطابق قوله إنما نحن مستهزؤن. كما هو مقتضى الظاهر لأن يستهزىء يفيد حدوث الاسنهزاء وتجدده، وقتاً بعد وقت يعني أنه لكونه فعلا يفيد التجدّد والحدوث، ولكونه مضارعاً صالحاً للحال يفيد الحدوث حالاً، وكونه مستعملا في مقام لا يناسب التقييد بحال دون حال يفيد التجدد حالا بعد حال وهو معنى الاستمرار، وهذا كما صرّحوا به يفيده المضارع مطلقاً، لا إذا قدم المسند إليه، فصار جملة اسمية حتى يصل التجدّد من الفعل، والاستمرار من كون الجملة اسمية على ما توهمه البعض ألا ترى أنّ في قوله تعالى {وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ} [البقرة: 79] وقوله تعالى {لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الْأَمْرِ} [الحجرات: 7] وغير ذلك قد دل المضارع على التجدّد والاسنمرار من غير تقديم للمسند إليه، وينبغي أن يعلم أنّ هذا غير مستفاد من الجملة الاسمية، فإنه متأت واستقرار لا استمرار بمعنى الحدوث حالا فحالا ومرّة بعد أخرى، وفي شرح الطيبي أنه من اقتضاء المقام، فإنك إذا قلت فلان يقري الضيف عنيت أنه اعتاده واستمرّ عليه لأ. أنه يفعله أو سيفعله، وقد يقال إنّ هذا أبلغ من الاستمرار الثبوتي الذي تفيده الاسمية لأنّ البلاء إذا استمرّ قد يهون وتألفه النفس كما قال المتنبي:
حلفت ألوفا لو رجعت إلى ا! ب لفارقت شيبي موجع القلب باكيا
وكما قلت أنا:
ألفت البكاء فلو زال عن عيوني بكته جميع الجوارح
وقوله: (ليطابق تعليل للمنفي وارساء) تعليل للنفي وعداه بالباء، وهو يتعدّى بإلى أو
اللام تسمحاً، أو لتضمنه معنى الاعتناء، والنكايات جمع نكاية بمعنى العقوبة، وفعله نكأت ونكيت، وهو من نكأت العدوّ إذا أكثرت(1/348)
فيه الجرح والقتل حتى وهن، كما في النهاية الأثيرية. قوله: (يحدث حالا فحالا ويتجذّد حيناً بعد حبن) إشارة إلى أنه مستفاد من المضارع،
وأنه غير الاستمرار المستفاد من الجمنة الاسمية كما مرّ، وما في شرح الكشاف للعلامة الرازي من توجيه الجواب بأنه لو قال الله مستهزىء بهم حتى تكون الجملة اسمية لزم أن يكون استهزاء الله تعالى بهم ثابتا دائما، وهو لا يليق بالحكيم العليم، ولو قال: يستهزىء الله دل على أنّ الاستهزاء ينتقل عنهم، وهو ليس بمراد فقال تعالى {اللهُ يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ} حتى يفيد تجدّد الاستهزاء بحسب الفعل، وإنّ ذلك المتجدد ثابت دأئماً بحسب الجملة الاسمية فهذأ لا يتم لأنّ المسند إذا كان اسماً دل على الثبوت، وان كان فعلا دلّ على التجدد سواء تقدم المسند إليه أو تاخر كما لا يخفى وقد مرّ ما فيه، وقيل فيه بحث لأنا لو سلمنا إنّ المسند إذا كان فعلاَ دل على التجدد سواء تقدّم المسند إليه 4 أو تأخر لكن لم لا يجوز أن يدل تقدم المسند إليه على الثبوت لصيرورة الجملة اسمية والجمع بين الدلالتين بأن يراد استمرار التجدد، وهو أن يتجدد فرد وينقضي ثم يتجدّد فرد آخر، فالاستمرار في النوع والتجدّد في الافراد، وقيل في التفصي عنه أنّ الجملة الاسمية الدالة على الثبات هي التي كل واحد من جزأيها اسم وأمّا التي الجزء الثاني منها فعل فلا كما صرّح به الكاشي في شرح المفتاح، فالوجه إنه يستفاد من المضارع كما حققناه لك، ثم إنّ قوله إنّ استهزاء الله بهم دائما لا يليق بالحكيم العليم قيل عليه انه لا وجه له، فإنّ الاستهزاء بمعنى إنزال الهوان، والحقارة بأعداء الدين ولا ضرر في دوامه بل قيل إنّ دوامه هو اللائق بالحكيم، ودفع بأنّ المراد بعدم اللياقة أنّ مقتضى الحكمة أن لا يديم الهوان والنكال حتى يألفوه، ويتمرّنوا على مقاساته، فيخف عليهم وقعه، ولا يخفى أنّ سياق كلامه يأبا. فليحرّر. قوله: (من مدّ الجيش إلخ) مد وأمد بمعنى وبهما قرىء هنا، وفي الأعراف في قوله تعالى {يَمُدُّونَهُمْ} [الأعراف: 202] بضم الياء وكسر الميم وبفتح الياء وضم الميم وفي الدر المصون المشهور فتح الياء من يمدهم وقرىء شاذاً بضمها، وفيه نظر لأنّ المصنف رحمه الله عزى الضم لابن كثير لكنها لم تثبت عنه في السبعة، واستدل بها لما ادعاه فإنّ القراءات يعضد بعضها بعضا، وهذه من الإمداد، وهو لم يرد بمعنى الإمهال عنده قال أبو عليّ في الحجة: عامّة ما جاء في التنزيل فيما يحمد وششحب أمددت على أفعلت كقوله تعالى {أَنَّمَا نُمِدُّهُم بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ} [المؤمنون: 55] وقوله {أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ} [النمل: 36] وما كان خلافه يجيء على مددت كما هنا وقال أبو زيد أمددت القائد بالجند وأمددت الدواة، وأمددت القوم بمال ورجال وقال أبو عبيدة: يمدونهم في الغي أي يزينون لهم يقال: مد له! ي غيه، وهكذا يتكلمون بهذا، فهذا مما يدل على أنّ الوجه فتح الياء، كما ذهب إليه أكثر ووجه ضمها أنه بمنزلة قوله فبشرهم بعذاب أليم. اهـ وما ذكره المصنف رحمه الله تغ فيه الزمخشريّ حيث قال: إنه من م! د الجيش، وأمده إذا زاده والحق به ما يقويه، ويكثره فهو من المدد دون المد في العمر وهو الإملاء، والإمهال وكفاك دليلا على أنه من المدد دون
المد قراءة يمدّونهم بضم الياء على أنّ الذي بمعنى أمهله إنما هو مد له مع اللام كاملى له يعني أنّ هذه المادّة وودت مستعملة بمعنيين في مقامين أحدهما إلحاق الشيء بما يقوّيه، ويكثره وذلك الملحق يسمى مدداً، وثانيهما الإمهال ومنه مد العمر ومدّ الله في الغي والواقع في النظم من الأوّل دون الثاني لوجهين أحدهما أنه قرىء بضم الياء من المزيد، وهو لم يسمع في الثاني وثانيهما أنه متعد بنفسه، والثاني متعد باللام والحذف والإيصال خلاف الأصل فلا يرتكب بغير داع، ودليل وغيره من أهل اللغة لا يسلمه، فورد عندهم كل منهما ثلاثيا ومزيداً ومعدى بنفسه وباللام، وكلاهما من أصل واحد ومعناهما يرجع إلى الزيادة وتعدّى هذا باللام منقول عن أبي عبيدة والأخفش، وقال الجوهريّ: مددت الشيء، فامتذ والمادّة الزيادة المتصلة ومد الله في عمره ومده في غيه أي أمهله وطوّل له، والفرق بين الثلاثي والمزيد إنما هو بكثرة استعمال أحدهما في المكروه والآخر في المحبوب فمدّ في الشرّ وأمدّ في الخير عكس وعدوا وعد، وقيل مده زاده وأمده من غيره. وقوله: (بالزيت والسمادا لف وششر مرتب للسراج والأرض! والسماد بفتح السين، وتخفيف الميم وآخره دال مهملة قال في المصباح السماد وزان سلام ما يصلح به الزرع من تراب وسرقين، أي زبل وسمدت الأرض تسميدا أصلحتها(1/349)
بالسماد وقوله لا من المد إلخ، قد عرفت ما له وعليه، وانه تبع فيه الزمخشريّ. قوله: (والمعتزلة لما تعذر عليهم إلخ) إنما تعذر لأنهم قالوا بقبح إيجاد القبيح وخلقه وبوجوب ما هو الأصلح للعباد على الله تعالى، والآية بظاهرها تنافي ذلك لأنّ الطغيان قبيح كزيادته، ومثله لا يصدر عنه تعالى على زعمهم فأوّلوه بوجوه بناء على زعمهم الفاسد من أنه لا يصدر عته ولو صدر عنه كيف يذمّهم عليه، ولذلك فسره بعضهم بالإمهال لكنيم لم يرتضوه لأنّ اللغة لا تساعده. وقوله: (منعهم الله تعائى ألطافه إلخ) إشارة إلى أوّل وجوه التأويل، وهو أنه تعالى منعهم ألطافه التي منحها غيرهم وخذلهم لكفرهم وما هم عليه فتزايد رين قلوبهم وظلمتها فسمي ذلك الزإئد مددا في الطغيان وأسند إليه تعالى ففيه مجاز لغوي في المسند وعقلي في الإسناد باسناد الفعل لمسببه، وفاعله في الحقيقة الكفرة، وألطافه جمع لطف كقفل وأقفال، وهو عند المتكلمين ما يختار عنده المكلف الطاعة تركا واثباتا وينقسم إلى توفيق وعصمة.
وقال القشيري اللطف قدوة الطاعة على الصحيح، ويسمى ما يقرّب العبد إلى الطاعة، وبوصله إلى ا) خير أيضاً لطفاً كما سيأتي، ومنح بمعنى أعطى والخذلان ترك المساعدة، والرين صدأ يعلو الحلي استعير لما يمنع قبول الحق، والاهتداء له كالظلمة يعني أنهم لما أصروا على الكفر لم يساعدهم الله لمنعهم لطفه عنهم فتزايد رين قلوبهم فسمي ذلك التزايد مدداً، وأسند إلى الله لأنه المسبب لسببه فهو السبب إلبعيد ففيه تجوّزالن كما مز، والكفر والرين ومدده من
أفعال الكفرة عندهم، وقوله يسبب كفرهم متعلق بمنعهم أو خذلهم، وهو جواب عن سؤال مقدر أي لم منع بعض عباده، ومنح أخرين والكل عباده، ومثله لا يحسن عقلا عندهم فأجيب بأنهم تسببوا لذلك بالكفر والإصرار، وردّ بأنّ المتبادر من كونه مسببا أنه خالق السبب، ومنع الألطاف عدميّ لا يتعلق به الخلق، فإن قيل يدفعه قوله خذلهم فإنّ الخذلان تيسير أسباب الغواية كما إنّ اللطف تيسير أسباب الهداية، وقعوا فيما فرّوا منه فإنّ تسبيب القبيح قبيح، وأن كان قبحه دون قبح إيجاده، ثم إنه ينقل الكلام إلى ما قبل الكفر والإصرار فإن قالوا بوجود الألطاف عندها كان مكابرة لأنها لو كانت ما كفروا، ولا أصرّوا فالحق ما ذهب إليه أهل الحق فتدبر. قوله: (فتزايدت بسببه قلوبهم) الظاهر أنه ماض معطوف على منعهم لا جواب لما مع الفاء، وان كاد جائزا أيضا فإنّ جوابها يكون ماضيا بلا فاء، وقد يكون معها وبكون مضارعا وجملة اسمية مع إذا الفجائية، والفاء كما فصله شراح التسهيل، وقوله تزايد قلوب المؤمنين مصدر منصوب على إنه مفعول مطلق لقوله تزايدت تشبيهيّ كما تقول وقيته وقى الكتاب، وأمّا كونه ماضيا جواباً للما هربا من اقتران الجواب بالفاء فمع أنه لا حاجة إليه بعيد بحسب المعنى لأنه لا تعرض له في الآية، وان لزم معناها. قوله: (أو مكن الشيطان من إغوائهم) إلخ عطف على منعهم، وأسند جواب لما الثانية كما مرّ، وهو مجهول وهذا هو الوجه الثاني من تأويلات المعتزلة، وحاصلها كما قال قدس سرّه إنه إمّا أن يكون سمي ما تزايد من الرين مدداً في الطغيان، وفيه تجوّز إن كما مرّ أو أريد بالمد في الطغيان ترك القسر والإلجاء إلى الإيمان وهو فعله تعالى واسناده إليه حقيقة والمسند مجاز أو المراد معناه الحقيقي، وهو فعل الشيطان لكنه أسند إليه تعالى مجازا على مذهبه لأنه بتمكيته واقداره، وقد يتوهم أنّ إيقاع المد عليهم تجوّز لازم على كل مدّهب لأنّ حقيقته أن يوقع على الطغيان، ونحوه مما يقع فيه الزيادة، ودفع بأنّ المفهوم من مدّ طغيانهم ومذهم في طغيانهم واحد.
(وههنا مباحث جليلة) :
(الأوّل (أنه أورد على ما في الكشاف، وشروحه كما سمعته آنفا إنه جعل منع الألطاف سبب الإصرار على الكفر، ولا شك أنّ الكفر والإصرار عليه سبب لمنع الألطاف ففيه دور، وقد مرّ إيماء إليه، ثم إنه جعله فعلاَ للشيطان في الوجه الثاني، والشيطان لا يقدر على خلق شيء في العبد باتفاق منا ومنهم، وإنما هر مغو بوسوسته وتزيينه ولا يقدر على غير ذلك كما حكاه الله عنه في قوله {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُم إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم} [إبراهيم: 22] فتعين إن محدثه العبد عندهم، وقول المعتزلة كما حكاه الزمخشريّ إنه فعل الشيطان لا يقوله شيطان أصلا كما قيل:
ما أقبح الشيطان لكنه ليس كما قالوا وما صوّروا(1/350)
وقد أجيب عن هذا بأنّ منع الألطاف سبب الكفر، والإصرار عليه، ثم بعد ذلك يكون
الكفر المستمرّ مانعاً لألطاف أخر فلا دور فيه والمراد بكونه فعل الشيطان إنه حدث من العبد بوسوسته فهو مجاز في الإسناد والأول صحيح، وأمّا الثاني فغير صحيح كما لا يخفى، وقد صرح الشراح بخلافه.
(الثاني) أنه أورد على الأوّل، وكونه مجازا في المسند والإسناد إنه إن كان المدد وإعطاؤه مختصا بالأجسام كما يتبدر من كلام الأساس لا يصح إنه لا تجوّز في الوجه الأخير إلا في الإسناد، لأنّ الشيطان لا يعطي المنافقين حبة يتقوى، ويتكثر بها طغيانهم إذ ليس منه إلا الوسواس وان كان أعمّ يتناول الذوات والصفات كالرين، والظلم لا يكون في المسند تجوز أصلاَ، وأجيب عنه بإختيار الشق الثاني لكنه وإن عئم مخصوص بالمحسوس.
(الثالث) إنه على إرادة تمكين الشيطان قيل إنّ الإسناد إلى الشيطان أيضا مجازي، لأنّ
أصل الطغيان وزيادته من فعل الكفرة عندهم إلا أنه لما صدر منهم بإغواء الشيطان أسند إليه لكونه موجدا لسببه إذ لا قدرة له على غير الوسوسة كما مرّ لكن لما حصل ذلك بإغواء الشيطان، وكان إغواؤه بإقدار الله له عليه، وتمكينه منه فالله سبب بعيد، ولذا أسند إليه لأنه مسبب له بصيغة اسم الفاعل، ولا يخفى ما فيه من الخبط والخلل، وكيف يتوهم إسناده مجازا إلى الشيطان هنا، وهو مسند في النظم إلى الله تعالى فالظاهر أنّ المد تجوّز به عن تزيين الشيطان واغوائه لأنه سبب للزيادة إلا أنه لما شاع ذلك وكثر منه صار كأنه موجد له حقيقة، واسناده إلى الله تعالى مجازي أيضاً فهو كالأوّل في التجوز في المسند، والإسناد إلا أنه يغايره لمغايرة المتجوّز به فيهما، ثم أنّ المصنف رحمه الله خالف الزمخشريّ فطوى التجوّز بالمد في الطغيان عن ترك القسر والإلجاء الذي هو فعل الله وإسناده إليه حقيقة، وإن كان المسند مجازا لقربه من الأوّل لأن منع الألطاف وترك القسر كشيء واحد، ثم إنّ الظاهر أنه اختار أنه مجاز عن منع الألطاف، في الأوّل لا عما تزايد من الرين، ولذا ترك قول الزمخشريّ فسمي ذلك التزايد مددا فهو عنده مجاز في الطرف فقط، وأسناده حقيقيّ عنده فعدل عما في الكشاف لما فيه من تطويل المسافة وزيادة التجوّز، وهذا مما لم يتنبه له شراح هذا الكتاب، وهو من منح الكريم الوهاب، ثم إنّ السمرقندي رحمه الله قال في تفسيره هنا مدهم في الطغيان بمعنى خلق فعل الطغيان لأنّ المدّ متى أضيف إلى الأعيان يراد به الطول والعرض! للعين، والجسم وأن أضيف إلى الفعل يراد به الامتداد، وهو تجذد الفعل بتجدد الزمان، وهذا معنى قول الفقهاء أنّ للفعل الممتد حكم الابتداء نحو السكون والركوب ونحوهما، اهـ. فقد عرفت منه أنه لا يختص بالمحسوس صفة كان أو ذاتا وأنه يختلف باختلاف ما يضاف إليه، ومنه علم ما في
كلام بعض الشراح الذي سمعته آنفا. قوله: (وأضاف الطفيان إلخ) هذا وما بعده كله من كلام المعتزلة، وتأ! د أوهامهم الفارغة.
وقال قدس سرّه- لم ئيردّ الزمخشريّ-: إنّ هذه الإضافة تدل وضعاً على أنّ الطغيالط بإيجاد العبد لا بإيجاده تعالى حتى يرد عليه أنّ الأمور المخلوقة له تعالى إذا قامت بالعباد كالبياض تضاف إليهم إضافة حقيقية لا مجازية لأدنى ملابسة كما توهم فلا دلالة للإضافة على إيجاد العباد لها بل أراد أنّ الطغيان من الأفعال التي اكتسبوها باختيارهم استقلالاً، ولا تعلق لها به تعالى فحقه أن يضاف إليهم لا إله إشعارا بهذا الاختصاص لا بالاختصاص باعتار المحلية والاتصاف فإنه معلوم لا حاجة فيه إلى الإضافة، ولولا قصد هذا عريت عن الفائدة، ومثله معتبر في الخطابيات عند البلغاء، وردّ بأنّ هذه الخطابيات لا تعارض البراهين القاطعة بأنه لا خالق سواه وأنه لا يقع إلا ما أراده، وقيل عليه: إنّ الزمخشرقي عنى أنّ إثبات اللغو في كلام الله تعالى وترك اعتبار الدلالات الخطابية المعتبرة عند البلغاء مما لا يليق بمقام الإعجاز، وإن بنى عليه تأييد مذهبه وردّ مذهب أهل السئة لئلا يلزم هذان الأمران المنافيان لأسلوب الحكيم فلا يكفي في دفعه أنّ الدلالات الخطابية لا تعتبر مع الدليل القاطع الذي ذكره، فالجواب أنّ فائدة الإضافة الإشارة إلى أنّ نسبة الطغيان إلى العباد ليست بمجرّد المحلية بل باعتبار كسبهم إياه، وإن كان بخلق الله تعالى وارادته، وأيضاً يجوز أن تكون الإضافة للعهد على أنّ المراد بطغيانهم الطغيان الكاملى، ولا يخفى أنه فرّ من السحاب، ووقف تحت(1/351)
الميزاب، فإنّ الإضافة لا تدل على الكسب ولا على عدمه، ألا ترى أنك تقول عبد زيد وبلدة فإنّ موضوعها إنما هو الاختصاص التام بايّ طريق كان فالظاهر أن يقال أنه للإشارة إلى أنّ طغيان غيرهم في جنبهم كلا شيء لادّعاء اختصاصهم به، وهذا أنسب بطريق البلاغة، ومصداق الشيء ما يصدقه أي يحققه ويدلّ على إنه أمر واقع وهو بكسر الميم صيغة مبالغة كما يقال فلان منحار ومطعام، وقد يكون مصدراً واسم مكان وزمان كميعاد وميقات، وليس هذا بشيء فإنّ تعريف اللام والإضافة متقاربان وهو تفنن وسيأتي تفسير هذه الآية في سورة الأعرإف. قوله: (أو كان أصله يمد لهم إلخ) عطف على لما منعهم إلخ، وقيل أنه عطف على قوله من مدّ الجيش، ولا يخفى بعده وهو قول الجبائي من المعتزلة، وهو أحد التأويلات لما تعذر عنده إبقاؤه على ظاهره كما مرّ، وإليه ذهب الزجاج وتبعه البغوي، وغيره من المفسرين ورجح كونه بمعنى الإمهال لأنه في حد ذاته إحسان وخير وهو تعالى لا يمدّهم في الشرّ وقد مرّ ما فيه وإنّ الحذف والإيصال خلاف لأصل وإنّ كونه لا يتعدّى إلا بالحرف غير مسلم عند أهل اللغة فتذكره هـ قوله: (كي يتنبهوا ويطيعوا إلخ) هذا أيضاً من تتمة التأويل، وكلام المعتزلة فإنّ المدّ في العمر فعل الله
تعالى حقيقة، وهو عندهم معلل بالإغراض! ، وجار على الوجه الأصلح الواجب عليه ليجري على وفق مصالح العباد فإمهالهم ليس للازدياد في المعاصي القبيحة حتى لا يسند إلى الله، وهذا وما بعده بناء على أنّ في طغيانهم ليس لغواً متعلقا بيمدّهم بل حال من ضميره أو متعلق بيعمهون مقدم عليه والجملة حالية، والمعنى أنه يمهلهم لينتبهوا وهم يزدادون طغيانا وعمى أو بمدهم من المدد أي يمدهم بالمال والبنين لأجل أن يصلحوا والحال أنهم بخلافه، وقد قيل على قوله كي ينتبهوا إلخ أنه لا يدل عليه اللفظ ولا السياق بل يدل على خلافه لأنّ قوله يمدهم معطوف على قوله يستهزىء بهم كالبيان له على أنّ الإمهال يكون للتنبيه والاسندراج والسياق يؤيد هذأ دون ذاك، والله تعالى عالم بعواقب أمورهم وأنهم لا ينتبهون فكيف يقصد خلاف ما يعلمه فإن أراد الاعتراض على المصنف فليس بوارد عليه لأنه ناقل لما قاله المعتزلة وان أراد بيان ما في نفس الأمر فلا ضير فيه، وقوله فيما ازدادوا إلخ الحصر مستفاد من المقام لا من حاق النظم. قوله: (أو التقدير يمدّهم إلخ) هذا جواب رابع للمعتزلة على أن يمدهم من المدد بإرشادهم للأدلة العقلية والنقلية، وافاضة ما يحتاجون إليه ليصلح حالهم واستصلاحا مبنيّ على مذهبهم في التعيل بالإغراض، والإستصلاح إرادة الصلاح، وقد قيل عليه إنه يلزم تخلف مراده تعالى، وهو مذهب المعتزلة وأمّا عندنا فمحال والكلام في تقرير مذهبهم فلا يضرنا، وأمّا أنه وارد على قوله تعالى {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [صورة الذاريات: 56] إلا أن يراد البعض منهم، وهم السعداء فهو ساقط ولك أن تفسر الإستصلاح بطلب الصلاح، والطلب غير الإرادة عندنا، وأمّا الآية فلا يرد عليها شيء كما توهم لأنّ ما خلق له الجن! غير ما أريد منهم وسيأتي تفسيرها في محلها فلا حاجة لتلقي الركبان وقوله وهم مع ذلك إلخ قيل إنه إشارة إلى أنّ يعمهون خبر مبتدأ محذوف، وفي طغيانهم متعلق به أو بيمدهم والظاهر أنه بيان لحاصل المعنى من غير تقدير فيه، ويعمهون حال من منصوب يمدهم أو من مجرور طغيانهم أو هما حالان من ضمير يمدهم وان منعه بعضهم وقيل إنه إشارة إلى تقدير مبتدأ، وأنّ الجملة مستأنفة لبيان عدم انتفاعهم بما أمدهم الله تعالى به. قوله: (والطيغان إلخ) المصدر يكون مضموماً كشكران ومكسوراً كحرمان، وقد سمعا في مصدر اللقاء كما أشار إليه المصنف، وقال الراغب: الفرق بين الطغيان والعدوان أنّ العدوان تجاوز المقدار المأمور بالانتهاء إليه، والوقوف عنده، والطغيان تجاوز المكان الذي وقفت فيه، ومن أخل بما عين من المواقف الشرعية والمعارف العقلية فلم يرعها فيما يتعاطاه فقد طغى ومنه طغى الماء أي تجاوز الحد المعروف فيه قيل، وابغي طلب تجاوز قدر الاستحقاق تجاوزه أو لم يتجاوزه وأصله الطلب ويستعمل في التكبر لأنّ المتكبر طالب منزلة ليست له، وقوله عن مكانه عدى التجاوز
بعن، وقد وقع مثله في كلامهم كما في عبارة الرضي والزمخشريّ السكاكيّ وقد اعترض! عليه السيد في حواشي الرضي فقال: جاوزت الشيء وتجاوزته بمعنى، وتجاوز عنه بمعنى عفا يعني أنّ المتعدي بعن، إنما هو بمعنى العفو والمغفرة(1/352)
فهذه العبارة وأمثالها مخالفة لكلام العرب، وكأنه ضمن التجاوز معنى التباعد واليه ذهب كثير من الفضلاء، وقد وقع مثله في شعر من يوثق به ويجعل ما يقوله بمنزلة ما يرويه كقول أبي تمام في بعض قصائده:
فلا ملك فرد المواهب واللها تجاوز لي عنه ولا رشأدفرد
وقد تعرّض له الإمام التبريزي في شرحه، ولم ينتقده عليه وهو من أئمة اللغة وهذا مما
لم يقف عليه المعترضون كما بيناه في حواشي الرضي تجاوز الله عنه. قوله: (والعمه في البصيرة كالعمى في البصر (ظاهره إنهما متباينان لاختصاص أحدهما بالباطن والآخر بالظاهر، وهو مخالف لقول الزمخشريّ العمى عام في البصر والرأي، والعمه في الرأي خاصة لأنه جعل بينهما عموماً وخصوصا مطلقاً وهو المشهور، وقد أيد بقوله تعالى {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: 46] ولك أن تقول في التوفيق بينهما إن العمه مخصوص بالقلب والعمى بالبصر بل بالعينين إذ لا يقال لفاقد أحدهما أعمى بل أعور، ثم تجوّز به لما في القلب وشاع حتى صار حقيقة عرفية لغوية، ولذا لم يذكره في الأساس في المجاز فإن نظرنا لأصل الوضع كانا متغايرين كما ذكره المصنف وان نظرنا للاستعمال، والحقيقة الثانية كان كما ذكره الزمخشريّ ولذا كان له صفتان أعمى وعم كحذر وتحقيقه كما في المصباح عمه في طغيانه عمها من باب تعب إذا تردد متحيراً، وتعامه مأخوذ من قولهم أرض عمهاء إذا لم يكن فيها إمارات تدل على النجاة فهو عمه، وأعمه وعمى عمى فقد بصره فهو أعمى، والمرأة عمياء والجمع عمى من باب أحمر، وعميان أيضا ويعدى بالهمزة فيقال أعميته ولا يقع العمى إلا على العينين جميعا ويستعار العمى للقلب كناية عن الضلالة والعلاقة عدم الاهتداء فهو عم وأعمى القلب، اهـ. وما قيل في التوفيق إنّ المصنف رحمه الله لم يرد اختصاص العمى بالبصر بل أراد بيان العمه بأنه صفة للبصيرة بمنزلة العمى في البصر لا طائل تحته، والدهر يرضى العمى بالعور. قوله: (وهو التحير إلخ) تحقيقه كما عرفته أنّ أصل العمه عدم الإمارات في الطرق التي تنصب لتدلهم من حجارة وتراب ونحوهما، وهو المنار، ثم تجوّز به عن التردّد والتحير مطلقا وصار هذا حقيقة ثانية واليه أشار ا! شيخان كغيرهما فأشارا بالتحير إلى المعنى المستعمل فيه وأشار بقوله وأرض إلخ إلى وصفه الأصلي فمن قال إنّ هذا من توصيف المحل بوصف من فيه لم يصب، وقوله:
أعمى الهدى بالجاهلين العمه
مصراع أو بيت من الرجز من أرجوزة طويل لرؤبة بن العجاج الراجز المشهور وقبله: ومخفق من أهله ونهله من مهمه أطرافه في مهمه
وهو في وصف مفازة، وفي شرح الكشاف أي رلت مفازة لا تنتهي سعة بل أطرافها من جوانبها في مفازة أخرى أعمى الهدى أي أخفى المنار بالقياس إلى من لا دراية له بالمسالك جعل خفاء العلم عمى له بطريق الاستعارة، وقيل: أعمى صفة من عمى عليه الأمر التب! أي ملتيس الهداية إلى طرقها على من يجهل ويتحير فيها، وقد يقال أعمى فعل ماض أي أخفى طرق الاهتداء، والعمه بضم العين وتشديد الميم جمع عامه، وقال الطيبي رحمه الله: إنه جمع عمه أو عامه أي المهمة طريقه مشتبهة على الغيّ إذ ليس فيه جادّة أو منار يهتدي به، وقوله إنه جمع عمه أي أثبته أهل اللغة على خلاف القياس فيها وإلا فمفرده المطرد فاعل وفاعلة كركع، ولذا تركه غيره من الشراح. قوله: (تعالى أولئك الذبن إلخ) موقع هذا كموقع أولئك على هدى ومقابله لأنه بعد ذكر المنافقين وصفاتهم القبيحة المفصلة كأنه قيل من أين دخل عليهم هذه القبائح، ولم ينفعهم النذر والنصائح فأجيب بأنهم وإن استعدوا لغير ذلك فإنما خسر أولئك على ما مرّ لأنهم أبطلوا استعدادهم الفطري فاستبدلوا الهداية بالضلالة حتى خسرت صفقتهم، وفقدوا الاهتداء للطريق المستقيم ووقعوا في تيه الحيرة والضلال، ثم لا يخفى موقع الضلالة بعد العمه الذي أصله الضلال في القفار التي لا منار لها.
وقال قدّس سرّه: إنّ هذه الآية تعليل لاستحقاقهم الاستهزاء الأبلغ والمد في الطغيان
على سبيل الاستئناف أو هي جملة مقرّرة لقوله ويمدهم فتأمّل. قوله: (اختاروها عليه واستبدلوها إلخ) أدخل الاستبدال على المتروك الذي كأنه كان في يده فتركه وعدى الإشتراء بنفسه(1/353)
للنأخوذ المختار، وسيأتي تفصيله وحرك واو اشتروا لالتقاء الساكنين، وجعلت الحركة ضمة لمناسبة الواو فهي عليها أخف من الكسرة، وقال الفرّاء: إنها حركت بحركة المحذوف قبلها والاشتراء مجاز، وهو أمّا مجاز مرسل لأنّ الإشتراء استبدال خاص أريد به المطلق أو استعمل في لازمه، ويجوز أن يكون هذا مراد الزمخشريّ بالاستعارة لأنها تستعمل بمعنى المجاز مطلقاً، وتسمى استعارة لغوية، وذهب بعض شراح الكشاف إلى أنها ألاستعارة المتعارفة لتشابههما في الإعطاء والأخذ، ولا يضر كونه جزء المعنى كما توهم لأنّ وجه الشبه كما يكون خارجا يكون داخلا كما صرّج به أهل المعاني، وجوّز فيه بعضهم أن يكون استعارة مكنية وتخييلية بأن تشبه الضلالة بالمبيع والهدى بالثمن تشبيهاً مضمراً في النفس بجامع الاختيار فيهما، ويجعل الإشتراء قرينة له تخييلية، ثم إنّ ما ذكره المصنف رحمه الله هو ما في الكشاف بعينه حيث قال: ومعنى إشتراء الضلالة بالهدى اختيارها عليه واستبدالها به على سبيل
الاستعارة، وما قيل، عليه من أنه كان الأحسن والأليق بما سيأتي أن يقول المصنف إسنبدلوها به أو أختاروها عليه بالعكس، واستعمال أو مكان الواو ليس بشيء لأنّ المراد أنهم جمعوا بين الإختيار والإستبدال فلا وجه للعطف بأو، وقدّم الاختيار لأنه المراد في الحقيقة وما سيأتي شيء آخر سيأتي بيانه. قوله: (وأصله بذل الثمن إلخ) الثمن العوض، وهو أعمّ من القيم لأنها المثل المقاوم له وإن استعملت بمعناه أيضا، والناض بنون وضاد معجمة مشدّدة المراد به النقد وهو الدراهم والدنانير، ويستعمل بمعنى الناجز قال ابن القوطية: نض الشيء حصل والناض من المال ما له مدة وبقاء، وأهل الحجاز يسمون الدراهم والدنانير نضاً وناضاً، والأصل في عبارة المصنف رحمه الله بمعنى الحقيقة لأنه أحد معانيه المستعه لى فيها وفيه إشارة إلى أنّ ما فسره به أولا معنى مجازي له والأوّل أولى، وهذه قضية اتفاقية فإن وجود النقد في أحد الجانبين يعينه للثمنية والإشتراء عرفا وشرعا، فما قيل عليه من أنّ كون أحدهما ناضاً لا مدخل له في تسميته بذل الناض إشتراء لإبتنائه على وضع الشراء لبذل الثمن من ترك ما يعني للاشتغال بما لا يعني، وقوله: من حيث إنه لا يطلب إلخ تعليل لثمنيته أي لكونه غير مقصود لذاته إذ لا ينتفع به في نفسه، ولذا جاء في الحديث الدراهم والدنانير خواتيم الله في أرضه وهو من جوامع الكلم، وقوله وبذله إشتراء بنصب إشتراء إن عطف على اسم كان المستتر، وخبرها للفصل أو بالرفع مبتدأ وخبر، وقوله والا إلخ أي وان لم يكن نقد فيجوز جعل كل من الطرفين ثمناً، وهذا برمته مأخوذ من كلام الراغب في مفرداته، وخرج بقيد الأعيان المعاني كالمنافع في الإجارة، وأن يكون فاعل تعين ومن حيث متعلق به، وقيل إعتراض. قوله: (ولذلك عدّت الكلمتان إلخ) المراد بالكلمتين البيع والشراء وما شاركهما في المادّة وذلك إشارة لما ذكر ولما دلّ عليه الكلام من دلالة أحدهما على البذل والإعطاء، والآخر في الأخذ الذي يقابله واستعمال كل منهما في مكان الآخر على البدل، والأضداد جمع ضدّ، والمراد بها عند الإطلاق في اللغة إذا قالوا هو من الأضداد كلمات وردت في كلام العرب موضوعة بالاشتراك للضدين كالجون الموضوع للأبيض والأسود، وفي قوله عدت إشارة إلى أنّ بعض أهل اللغة ذكر ذلك إلا أنه في الحقيقة ليس منها لأنّ كلا منهما إنما أطلق عى الطرفين باعتبار تثابههما لا باعتبار تضادّهما، وفي المصباح إنما ساغ أن يكون الشراء من الأضداد، لأنّ المتبايعين تبايعا الثمن والمثمن فكل من العوضين مشترى من جانب مبيع من جانب، اهـ ومن لم يقف على المراد قال: لم يلزم مما ذكر كونهما من الأضداد بل يلزم منه أن يكون الشراء بذل الثمن والبيع أخذه ولا يلزم أن يكون لكل منهما معنيان أحدهما ضد الآخر وهو غنيّ عن الردّ. قوله: (ثم استعير للإعراض إلخ) قد مرّ بيان معناه وأنه من أيّ أنواع المجاز، وقد صرّح أولا بأنّ معناه
الحقيقيّ مختص بالأعيان وهذه الحقيقة عرفية لغوية، وقوله سواء كان اسم كان المستتر راجع لما قبله من مدلول ما الموصولة وغير الدالة على مقابلة لتأويله بالمذكور، ونحوه لا لكل منهما على البدل كما قيل لأنّ مثله إن سلم صحته فخلاف الظاهر في الضمائر، وما ذكر سائغ صحيح وقد صرحوا بأنّ الضمير قد يجري مجرى اسم(1/354)
الإشارة. قوله: (أخذت بالجمة رأساً أزعرا إلخ) في شرح الفاضل المحقق الجمة أي بضم الجيم وتشديد الميم مجتمع شعر الرأس، والأزعر افعل من الزعر بزاي معجمة، وعين وراء مهملتين الأصلع، وفي الصحاح الدردر بضمتين مغارز أسنان الصبي، وقيل إنّ المراد هنا الأسنان الساقطة الباقية الأصول من الدرد بالفتح تحات الأسنان إلى الأسناخ أي انهيارها وإنفتاتها إلى الأصول، والعمر عطف بيان للطويل وفي حواشي شيخ الإسلام الحفيد الظاهر أن يقال مغرز لأنّ الدردر واحد جمعه الدرادر على ما في الصحاح ألا ترى أنّ الفاضل اليمني قال الدردر: قيل هو جمع الدردإر فكتب قدس سرّه في الحاشية الصواب هو واحد الدرادر اهـ.
(أقول) الباء في قوله بالجمة إلخ باء البدلية أي استبدلت بالشعر التام الكثير شعر رأس
أصلع وبالثنايا الحسنة الواضحة ثنايا مكسورة أو ساقطة، وبالعمر الطويل عمراً قصيرا وهو كناية -عمن يبدل شبابه بمشيبه، وهذا استبدال لأمر سنيّ حسن بأمر حقير قبيح كاستبدال الرجل المسلم إذا ارتد إسلامه بكفره، وهذه الأبيات لأبي النجم الشاعر المذكور من أرجوزة له رائية والمراد بالمسلم المتنصر جبلة بن الأيهم الغساني، وكان وفد على عمر رضي الله عنه وأسلم وهو ملك فكتب عمر رضي الله عنه إلى أجناد الثام أي نواج لها إنّ جبلة ورد إليّ في سراة قومه وأصبلم فأكرته، ثم سار إلى مكة فطاف فوطيء إزارة رجل من بني فزارة فلطمه جبلة لطمة هشم بها أنفه وكسر ثناياه فشكاه إلى عمر رضي الله عنه فقال له: إمّا العفو وامّا القصاص فقال أتقتص مني وأنا ملك وهو سوقة فقال له قد سوّى بينكما الإسلام فسأله التأخير إلى الغد فأمهله فلما أتى الليل هرب مع قومه إلى الشام، وارتد وكان كما يقال ندم بعد ذلك وقال شعر ابن أمية:
فيا ليت أمي لم تلدني وليتني صبرت على القول الذي قالى عمر
والجيذر كضيغم بجيم وياء مثناة تحتية يليها ذال معجمة أو مهملة، ثم راء مهملة.
وفي القاموس مجذر كمعظم القصير الغليظ الشثن الأطراف كالجيذر أو هذه بالمهملة ووهم الجوهريّ يعني في إعجامه كما في الذيل والصلة من أنه جتذرا وجتدر بمثناة فوقية أو مهملة، وفي حواشي الصحاج لابن بري قال أبو سهل: الهروي الإعجام تصحيف، والصواب
الجيدر بدال مهملة هذا ما رأيته في كتب اللغة بعد كثرة مراجعة الدفاتر من غير اختلاف في المثناة التحتية ثانية وإنما الخلاف في الإعجام والإهمال، وفي حواشي القاضي للجلال السيوطي الجبذر بالجيم والموحدة والذال المعجمة القصير ولولا حسن الظن به قلت إنه تصحف عليه فإنه مما لم يقله أحد من أهل اللغة، وتعريف المسلم كما اتفق عليه الشراح للعهد، ثم إنّ اكتراض الفاضل المذكور على تفسير الجوهريّ الدردر بالمغارز وأنّ صوايه الإفراد لا وجه له فإنه وان كان مفرداً يستعمل بمعنى الجمع كما في البيت المذكور، ومثله كثير في أسماء الأبخناس، ثم إنهم ردّوا على ما ذكره الفاضل اليمني، ولا يرد ما أوردوه عليه أيضاً لأنه ناقل له وهو ثقة ولا مانع من كون الدردار كسلسال مفردا والدردر اسم جمع له، وأيضا قوله إنّ العمر عطف بيان خلاف الظاهر إذ المتبادر أنه مضاف ومضاف إليه كزيد الطويل النجاد، وفي الشعر لطيفة أدبية لم ينبهوا عليها وهي أنه إذا كان المراد بالمسلم جبلة، وسبب ردّته لطمه للبدوي لطمة أسقعمت أسنانه ففيه مناسبة لقوله:
وبالثنايا الواضحات الدردرا
وما ذكروا أن أمل ما فيه من الإسهاب، فهو مغتفر بما أهداه من لطائف الآداب، والحمد
لله الهادي لصواب الصواب، وقوله إذا تنصر أي ارتد ودخل في دين النصارى بدل من المسلم كقوله {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ} [مريم: 16] .
قال ابن الصائغ شبه حال صباه بالإسلام وحال شيخوختة بالكفر ومما يضاهيه قوله:
أورد قلبي الرد لام عذا ربدا
أسود كالفكر في مثل بياض الهدى
قوله: (ثم اتسع فيه إلخ) يعني أنّ أصله في عرف اللغة وحقيقته كان استبدال الأعيان بالأعيان، ثم استعمل مجازا لما يعم العين والمعنى، ثم توسعوا فيه فأرادوا به مطلق الرغبة عن شيء سواء كان عيناً أو لا في يده أو لا طمعاً في غيره سواء حصل ذلك الغير أو لا وضمير فيه للإشتراء المفهوم من السياق، وهذا أعمّ مما قبله إذ لا يعتبر(1/355)
فيه التحصيل بل مجرّد الطمع، وهذا إطلاق على إطلاق والمتبادر منه أنه مجاز على مجاز والتوسع مناسب له وهم قد يستعملونه لمطلق التجوّز، وقد يراد به ما هو قريب من الحقيقة كالتفسح والتمسح، وما قيل من إنه يقال لما لم تقم عليه قرينة ليس بشيء والقرينة هنا معمولاه. قوله: (والمعنى أنهم أخلوا بالهدى إلخ) هذا تحقيق لمعنى النظم بعد بيان معنى الإشتراء على وجه يعلم منه ما في الكشاف حيث قال: فإن قلت كيف (اشنروا الضلالة بالهدى) وما كانوا على هدى قلت جعلوا لتمكنهم منه واعرضه لهم كأنه في أيديهم فإذا تركوه إلى الضلالة فقد عطلوها واستبدلوها به، ولأنّ
الدين القبم هو فطرة الله التي فطر الناس عليها فكل من ضل فهو مستبدل خلاف الفطرة والضلالة الجور عن القصد، وفقد الاهتداء يقال ضل منزله وضل دريص نفقه فأستعير للذهاب عن الصواب في الدين، وقال قدّس سرّه:
الجواب الأوّل أنهم لما كانو! متمكنين منه تمكناً تاما بعد التكليف به، وتيسير أسبابه أستعير ثبوته لهم لتمكنهم منه فإنّ العبارة تدلّ على ثبوت الهدى لهم والمراد تمكنهم، وأمّا الحمل على جعل الهدى مجازا عن تمكنه فمما يأباه ظاهر كلامه.
والجواب الثافي أنّ المراد بالهدى هو الهدى الذي جبلوا عليه، وقد كانوا على هذا الهدى
بلا شبهة، ثم استبدلوا به الضلالة فلا مجاز في ثبوت الهدى لهم بل في لفظ الهدى إن لم تكن الفطرة مندرجة في حقيقته، وهو ردّ على قول الشارح المحقق جعل تمكنهم من الهدى بعد التكليف به بمنزلة تملكهم إياه فيكون التجوز في نفس الهدى حيث أريد به التمكن منه، أو في نسبته إليهم حيث استعير ثبوته لهم لتمكنهم منه وإذا أريد الهدى الذي جبلوا عليه فلا مجاز أصلا أو هو في الهدى فقط إن كان، وقد قيل عليه إنّ أوّل كلامه يشعر بأنّ الإسناد مجازي، وآخره بأنّ التجوّز لغوي وكلاهما غير ظاهر وصحة الكلام مقتضية لإسناد الضلالة والهدى إليه. (أقول) لله در الفاضل المحقق فيما أبداه فإنّ العلامة لما قرّر التجوّز في الإشتراء، وأنه بمعنى الاختيار والاستبدال فورد عليه أنّ استبدال الشيء بشيء يقتضي أن يدخل كل منهما تحت حيازة تصرفه، وهم لم يجوّزوا الهداية في الواقع كما ينادي عليه قوله، وما كانوا مهتدين أجاب عنه بوجهين إمّا جعل التمكن من الشيء بمنزلة حصوله، أو يراد بالهدى الهدى الجبليّ فإنّ كل مولود يولد على الفطرة فأشار المحقق رحمه الله إلى أنه إذا نزل التمكن منزلة التملك يجوز، أن يقال إنّ ما بالقوّة جعل كأنه بالفعل فالتجوّز في الهدى كما يسمى العصير مسكرا، أو في النسبة أي نسبة الفعل إلى مفعوله لأنّ معناه بدّلوا الهدى أي بدلوا تمكنه لهم فتركوه، والتجوّز في الإسناد بناء على الظاهر من لفظ الإشترإء وهو لا ينافي التجوّز اللغوي في الظرف كما مرّ، ول! في التجوّز في النسبة من الخفاء أخره، وقوله إنه إذا أريد ما جبلوا عليه فلا مجاز يعني به أنّ إطلاق الهداية على ما في الجبلة، وهو أمر معنوي غير محسوس يكفي في تحقق حقيقة ثبوته في نفس الأمرظهر أم لا كما سيأتي بيانه، وإن قيل إنه لا بد في تحققه من قيامه بهم بالفعل إذ لا يسمى ال! لم قبل وجوده في الذهن مثلا علما، والهدى ليس كذلك فهو مجاز، وهو الظاهر فإنكاره قدس سرّه التجوّز فيه، وادّعاء أنّ كلام الكشاف يأباه لا يسلم بسلامة الأمير، ثم إنه على التجوّز الظاهر أنه من قبيل ضيق فم الركية وبما قرّرناه لك ظهر اندفاع ما أورده عليه من إضطراب كلامه كما سمعته آنفاً، وأمّ كلام المصنف رحمه الله فتقريره إنه لما جعله مجازاً في المرتبة الثانية عن الرغبة عن الشيء بتركه طمعاً في تحصيل غيره، وهم
قد رغبوا عن الهدى طمعاً في علو أمرهم، ونفاق نفاقهم واختاروه فاشتروا مجاز، وحاصل معناه مع متعلقاته ما ذكره المصنف أي تركوا الهداية مائلين عنها إلى الضلالة، والغواية وجعل الوجهين وجهاً واحدا لأنّ الهدى المركوز في الجبلة، والفطرة إن لم يكن هدى حقيقياً يرجع إلى الهدى المتمكن منه فما قيل من إنّ ملخص كلام المصنف رحمه الله أنّ المراد بالهدى الهدى الذي جبلوا عليه لا الخارج إلى الفعل إمّا أنّ ذلك هدى حقيقة، أو مجازاً ففيه توقف من الفحول، وقوله واختاروا الضلالة إشارة إلى جواب آخر، وهو أنّ الإشتراء ليس عبارة عن الاسنبدال بل عن الإستحباب والأوّل مبنيّ على حمل الإشتراء على مقتضى الإتساع الأوّل، والثاني على حمله على مقتضى الإتساع(1/356)
الثاني على ما فيه من التكلف ليس بمراد له لمن تأمّله حق التأمّل، ثم إنه كان الظاهر على هذا أو بدل الواو كأنه وقع في نسخته كذلك كما وجدناه. قوله: (واختاروا الصلاة إلخ) تقدم تفسيره، وأن المختار أنه مع ما قبله وجه واحد. وفي عدم ذكره الإستبدال في بيان المعنى المراد إشارة إلى أنه غير مقصود بالذات، وأنّ ما! معنى اشتروا اختاروا الضلالة على الهدى والاستبدال ملحوظ في معناه الأصلي ليتعلق به باعتباره الباء، ولذا أخره في التفسير ولم يعطفه بأو إلا أنه بقي ههنا أمور.
(مئها) أنّ حقيقة الإشتراء استبدال عين بعين على جهة العوضية المعروفة فلو تجوز به
ابتداء عن اختيار أمر على آخر لأنه لازم له أو مشابه له من غير توسيع للدائرة، وتطويل للمسافة كما فعله الزمخشريّ. كان أهون وأحسن.
(ومنها) أنه وقع في بعض شروح الكشاف كلمات واهية كما قيل إنّ جواب الفطرة لا يطابق السؤال، وهو أنّ المنافقين لم يكونوا على هدى فكيف استبدلوا الضلالة به، والمراد بالفطرة السلامة عن الاعتقادات الفاسدة والتهيؤ لقبول الحق، وأجيب بأنّ المراد أنّ مآل الفطرة إلى الهدى فهي على نهج أعصر خمرا، وفيما قدمناه لك غنية عما ذكر فتدبر.
(ومنها) أنه قيل هنا إن حمل الهدى على الفطرة الأصلية الحاصلة لكل أحد يأباه أنّ إضاعتها غير مختصة بهؤلاء، ولثن حملت على الإضاعة التامّة الواصلة إلى حدّ الختم على القلوب المختصة بهم فليس في إضاعتها قط من الشناعة ما في إضاعتها مع ما يؤيدها من المؤيدات العقلية، والنقلية على أنّ ذلك يفضي إلى كون ما فصل في أوّل السورة إلى ههنا ضائعا، وأبعد منه حمل اشتروا الضلالة بالهدى على مجرّد اختارها عليه من غير اعتبار كونها في أيديهم بناء على أنه يستعمل اتساعا في إيثار أحد الشيئين الكائنين في شرف الوقوع على الآخر فإنه مع خلوّه عن المزايا المذكورة مخل برونق الترشيح الآني.
(أقول) قد ذكر قبل هذا بعد تقرير التجوّز تقريب ما ذكروه أنه ليس المراد بما تعلق به الاشتراء ههنا جن! الضلالة الشاملة لجميع أصناف الكفر حتى تكون حاصلة لهم من قبل بل
هو فردها الكامل الخاص بهؤلاء على أنّ اللام للعهد، وهو عمههم المقرون بالمد في الطغيان المترتب على ما حكي عنهم من القبائح، وذلك إنما يحصل لهم عند اليأس عن اهتدائهم والختم على قلوبهم، وكذا ليس المراد في حيز الثمن نفس الهدى بل التمكن التامّ منه بتعاضد الأسباب، وبأخذ المقدمات المستتبعة له بطريق الاستعارة كأنه نفس الهدى بجامع المشاركة في استتباع الجدوى ولا مرية في أنّ هذه المرتبة من التمكن، كانت حاصلة لهم بما شاهدوه من الآيات الباهرة والمعجزات القاهرة من جهة الرسول صلّى الله عليه وسلّم وبما سمعوه من صالح المؤمنين التي من جملتها ما حكي من النهي عن الإفساد في الأرض والأمر بالإيمان الصحيح، وقد نبذوها وراء ظهووهم وأخذوا بدلها الضلالة الهائلة التي هي العمه في تيه الطغيان، وهو كما قيل:
قعاقع) 1) ماتحتهاطائل! نها! مر أبي ورد
وهو على طرف الثمام لأنه ناشىء من الغفلة عن معنى الإشارة فإنها تقتضي ملاحظتهم لجميع ما مز من الصفات والمعنى أنّ الموصوفين بالنفاق المذكور هم الذين ضيعوا الفطرة أشد تضييع بتهويد الأبناء، ثم بعدماظ فروا بها أضاعوها بالنفاق مع تحريضهم على المحافظة عليها، ونصحهم شفاهاً ونحوه مما لا يوجد في غيرهم كما يشير إليه تعريف الطرفين وأقي تضييع للمزايا وكل ما ذكرونا موجود في كلامهم بغير إسهاب ممل، وأمّا الترشيح المذكور فيكفي له وجود لفظ الإشتراء، وان كان المعنى المقصود غير مرشح به كما هو العادة في أمثاله. قوله: (ترشيح للمجارّ إلخ) أصل معنى الترشيح وحقيقته الوضعية خروج البلل والقطر الصغار مما يشتمل على شيء مائع ماء كان أو لا وعاء كان أو غيره كالضرع، وفي المثل: وكل إناء بالذي فيه يرشح
ولا يختص بالجلد من الحيوان كرشح الجبين ورشح الفرب، وإن كان في بعض كتب
اللغة ما يوهمه، ثم إنّ العرب كنوا به عن تربية الأمّ ولدها لأنها ترشحه بلبنها قليلا قليلا فقالوا رشحت الغزالة ولدها إذا عودته المشي معها، ورشحت الأمّ ولدها باللبن إذا جعلته في فيه شيثا فثيثا حتى يقوى على مصه، ثم تجوّزوا به تجوّزا مبنيا على الكناية عن مطلق التربية، والتهيئة لأمر مّا فقالوا فلان ترشح للوزارة إذا تأهل لها، ثم نقله أهل(1/357)
المعاني لما يلائم المعنى المجازي غير القرينة المعينة، والظاهر أخذه من الأخير لما فيه من تقوية المعنى المجازي وتربيته وتحقيق معناه في إصطلاحهم إنه لفظ يذكر مع المجاز يناسب معناه المراد منه ظاهر المعنى المجازي سواء تقدّم أو تاخر، وسواء كان مستعملا في معناه الحقيقي أم لا وسواء كان المجاز استعارة
كرأيت في الحمام أسدا ذا لبد أو مجازاً مرسلا نحو له في الكرم يد طولى، وقد يصحب التشبيه، والتجريد يد على كلام فيه مفصل في الرسالة الليثية وشرحها ومن أراده فليرجع إلى كتب المعاني.
(وأعلم) أنّ المدقق قال في الكشف هنا أنّ التعقيب بالملائم قد يكون تبعاً لاستعارة
الأصل لأوجه له غير ذلك، كما في قولك رأيت أسدا وافي البراثن عظيم اللبدتين لا يقصد بذلك إلا زيادة تصوير الشجاع بأنه أسد كامل، وهو حقيقة لا يذهب به إلى شيء كالبراثن واللبدة، وقد يكون مستقلا مع الملاءمة كما في قوله: ولما رأيت النسر إلخ وكما في هذه الآية وهذا القسم أعجبها لتقاطر ماء الفصاحة منه وترشحها، وقد يكون بين بين بأن يكون مجازاً مبنيا على الأول ولا يحسن بدونه كقوله:
وما أمّ الردين وإن أدلت بعالمة بأخلاق الكرام
إذا الشيطان قصع في قفاها تنفقنماه بالحبل التوام
فإنّ تقصيع الشيطان تمثيل على سبيل الاستعارة لإساءة الخلق وما يتبعها من تغير الهيثة والخلقة، والتنفق مثل للاجتهاد في إزالة غضبها لكن لولا استعارة التقصع من القاصعاء، أو لا لم يصح استعارة التنفق من النافقاء، والحبل التوأم من تتمة التنفق وفيه لطف آخر فليكن هذا أصلا محفوظا عندك فلقد اشتبه على كثير من الكبراء، اهـ. وحاصله أنّ الترشيح ثلاثة أقسام ما المراد به حقيقتة، ولم يذكر إلأ لأجل الترشح وما هو استعارة في نفسه حسنة مع أنه ترشيح وما هو استعارة تابع لاستعارة أخرى لولاها لم يحسن، وخير الأمور أوسطها وهو كلام حس. قوله: (لما استعمل الاشتراء في معاملتهم إلخ) يعني أنه تجوّز بالإشتراء كما مرّ وعبر بالمعاملة ليشمل الوجوه السابقة مع ما في لفظ المعاملة بمعناها العرفي المعروف من مناسبة البيع والشراء وفيه لطف ظاهر، ويثاكله بمعنى يثابهه ويناسبه وتمثيلا تصويراً وهو تمييز أو مفعول لأجله والخسار بفتح الخاء الخسران الفعروف حقيقته ومجازه أي المقصود الأصلي من الترشيح في الآية تصوير ما فاتهم من نفع الهدى بصورة خسار التجار حتى كأنه هو بعينه مبالغة في تخسيرهم في هذأ الإستبدال، ووقوعهم في أشنع الخسار الذي يتحاشى عنه أولو الأبصار لا تصوير ألاستبدال بصورة التجارة فإنه وسيلة إلى ذلك المقصود، وفي قوله تمثيلا إشارة إلى أنه استعارة مرشحة للاستعارة الأخرى وليس من الترشيح الصرف المتبادر منه عند الإطلاق، وفي لفظ الخسار إشارة إلى أنّ عدم الربح عبارة عن الخسران وان كان أعم والمسند إلى التجارة عدم الربح لا الربح، ثم أدخل عليه النفي فإنه ليس من المجاز في شيء، وتحقيقه ما ذكره المحقق في بحث الرؤية من شرح المقاصد أنّ الكلام المشتمل على نفي وقيد قد يكون لنفي
التقييد، وقد يكون لتقييد النفي فما ضربته تأديباً بل إساءة سلب للتعليل، والعمل للفعل وما ضربته إكراماً له أي تركت ضربه تعليل للسلب، والعمل للنفي وعلى هذا الأصل يتبنى أنّ النكرة في سياق النفي إنما تعم إذا تعلقت بالفعل لا بالنفي، وأنّ إسناد الفعل المنفي إلى غير الفاعل والمفعول يكون حقيقة إذا قصد نفي الإسناد مثل ما نام الليل بل صاحبه ومجازا إذا قصد إسناد المنفيّ مثل ما نام ليلي بمعنى سهرت وما ربحت تجارته بمعنى خسرته، وهذا يجري في المجاز العقلي واللغوي ويجري في غير النفي كالنهي والشرط، والأمر كما فصله وما قيل عليه من أنّ حقيقة الإسناد إسناد الشيء إلى ما هو له فلا يكون نفي الإسناد حقيقة ليس بوارد لما سيأتي وبينهما فرق مقرّر.
(فإن قيل) إسناد النفي لازم لنفي الإسناد وهو المراد فتتحقق الحقيقة إذ المجاز إسناد
النفي الذي بمعنى الإثبات كإسناد نفي الربح بمعنى إسناد الخسران.
(قبل الا فرق حينئذ بين السالبة والمعدولة عندهم إلى آخر ما ذكره هنا، وهذا مما يتراءى بحسب جليل النظر بناء على أنّ السالبة لا حكم فيها أصلا كما صزح به في كتب الميزان قال القطب: في مبحث القضايا من شرح الشمسية لا يقال السوالب(1/358)
الحملية والمتصلة والمنفصلة على ما ذكرتم يرفع فيها الحمل والإتصال والانفصال فلا تكون حملية أو متصلة أو منفصلة لأنها لم يثبت فيها الحمل والاتصال والانفصال لأنا نقول ليس إجراء هذه الأسامي عليها بحسب مفهوم اللغة بل بحسب الاصطلاح.
(أقول) كذا قرّروه هنا من غير نكير وهو عندي في غاية الخفاء والإشكال فإنهم اتفقوا
على أنّ الحكم إسناد أمر إلى آخر إيجاباً أو سلبا فإذا كان في السوالب حكم بالاتفاق وإلا لم يكن خبراً محتملا للصدق والكذب وهو بديهيّ البطلان والحكم أيضاً مستلزم للحمل أو الاتصال " أو الانفصال بديهة فقولهم اجس فيها شيء من ذلك مناقض لهذا فلا بدّ من التوفيق بينهما ولا يكون ذلك إلا بتسلييم إسناد النفي له أو عنده وهذا غير مستلزم لما توهموه من عدم الفرق بين المعدولة والسالبة فإن المعدولة فيها النفي جزء من أحد الطرفين أو منهما وهذا نفي للنسبة الحكمية مع قطع النظر عنهما والفرق بينهما ظاهر وإنما بسطت الكلام في هذا المقام لأني لم أر له تفصيلاَ شافياً للصدور فعليك بالتأمّل الصادق فإنه المخلص لك من مثل هذه المضايق ثم إنهم قالوا إنّ عدم الربح جعل كناية عن الخسران لأنه وإن كان أعم منه إلا أنّ التجارة تستلزم غالبا عملا واتلافاً فإن لم يربح لم يخل من الخسران لأنّ المال غاد ورائح معد لآفة النقصان فإن قلت إن كان رأس مالهم الهداية وقد استبدلوها بالضلالة فقد فقد رأس المال فضلاَ عن الخسران قلت هذا بناء على أنهم عدوا ما نالوه في الدنيا عوضاً عنه أو أنه اكتفي في توبيخهم بالخسران فكيف ما هم عليه من عدم رأس المال ولله در القائل:
إذا كان رأس المال عمرك فاحترس عليه من الإنفاق في غير وأجب
فوله:
ولما رأيت النسر عز ابن دأية وعشش في وكريه جاش له صدري)
النسر طائر معروف وأقواه الأبيض ولذا شبه به الشيب وإن كان الأحسن الأشهر تشبيهه
باليوم كقوله:
أيا بومة قد عششت فوق رأسه
وابن دأية الغراب وهو علم جن! له ممنوع من الصرف وإنما صرفه الشاعر هنا للضرورة
وقد استعير ههنا للأسود من الشعر الذي في سن الشباب وسمي الغراب ابن دأية لأنه يقع على دأية البعير الدبر والدأية اسم لموضمع الرحل والقتب من ظهره فينقرها فنسب إليها لكثرة ما يرى عليها أو هي الفقار وهي تغذوه كما تغذو الأمّ وقيل سمي به لأن أنثاه إذا طارت عن بيضها حضنها الذكر فيكون كالداية للأنثى والعرب تقول إذا أرادت تكذيب أحد تعريضا غراب ابن دأية وحديث ابن دأية وحدّثه بذلك ابن دأية كما في كتاب المرصع فيجوز أن يراد هنا أيضا أنّ الصبا لسرعة زواله كاضغاث الأحلام وخرافات اكاذيب والأوهام وهو حسن ورشح إحدى الاستعارتين بالأخرى كما رشح بالتعشيش وهو أخذ العش أو اتخاذه وهو الوكر أو بينهما فرق فإنّ الأوّد ما كان من العيدان والثاني ما كان في الجدران ونحوها أو الثاني ما يعد لحفظ البيض والفراخ والتعشيش كناية عن حلوله فيه وعز بمعنى غلب وقهر ومنه العزة لأنّ العزيز من شأنه ذلك وجاس من جاشت القدر إذا غلت وهو هنا كناية أو مجاز عن ارتفاع الأنفاس والاضطراب والترشيح في البيت كالآية ليس من الترشيح المشهور كما أشرنا إليه قبل والنسر يصيد الغراب ويقتنصه كثيرا ووكراه جانبا رأسه أو رأسه ولحيته وقيل طرفا لحيته وزعم بعضهم أنّ الغراب له وكران صيفيّ وشتويّ ولو قيل إنه وصف الكهولة واختلاط الشعر الأبيض بالأسود واحاطته بجانبيه لم يبعد وقوله جاش له صدري خارج عن الاستعارة ولو قال بدله طار له صبري كان أحسن كما قلت:
وافى لوكر غرابه سحرا يوما فطارالصبرمن صدري
قوله: (طلب الريح بالبيع والشراء إلخ) فيه تسامح لأنّ التجارة كما قال الراغب التصرّف
في رأس المال طلبا للربح وفي المصباح ولا يكاد يوجد تاء بعدها جسيم الانتج وتجر والرتج وهو الباب وأرتج في منطقه وأمّا تجاه وتجيب وتجوب فأصلها الواو فلا ترد نقضاً والفضل معناه الزيادة كالشف بالفتح والكسر إلأ أنّ هذا يكون بمعنى النقصان ولذا عده بعض اللغويين من الأضداد ويقال أشف بعض أولاده على بعض إذا زاد عليه ورأس المال بمعنى أصله استعارة
صار فيه حقيقة عرفية. قوله: (وإسناده إلى التجارة(1/359)
وهو لأربابها) أي أصحابها، وهم التجار فهو من المجاز اللاغلي وأصله ربحوا في تجارتهم وأورد عليه أنّ الربح الفضل على رأس المال، وهو صفة للتجارة لا للتاجر.
(وأجيب) بأنّ هذا معناه في الأصل، ثم نقل إلى تحصيله إذ هو بذلك المعنى لا يصلح
أن يكون مصدراً لاتجر وهو المقصود بالتفسير وفيه ما لا يخفى إذ لو كان الفضل معنا. الأصلي لم يكن الإسناد مجازياً فالقاهر أن يقال إنهم تسمحوا في تفسيره بالفضل نظرا إلى حاصل المعنى المراد منه هنا وحقيقته الأفضال لا الفضل، قال الأزهريّ: ربح في تجارته إذا أفضل فيها وكذا نقله في المصباح، ثم إنّ المصنف رحمه الله جعل المسند الربح، وفي الكشاف إسناد الخسران إلى التجارة من الإسناد المجازي، وقد قيل عليه أنّ حقه أن يقول كيف أسند الربح كما ذكر. المصنف رحمه الله لأنّ النفي لا مدخل له في الإسناد فالفعل إذا أسند إلى غير فاعله لملايسة بينهما كالنوم إلى الليل كان مجازاً عقليا سواء كان الإسناد مثبتاً أو متقياً فقولك نام ليلي، وما نام ليلي كلاهما مجازان لأنّ النوم قد أسند فيهما إلى غير ما هو له إمّا بطريق الإثبات، أو بطريق النفي، ورد بأنه ليس بشيء لأنّ نسبة الفعل قد تكون ثبوتية، وقد تكون سلبية وكل واحدة منهما تعتبر في نفسها ألا ترى أنك إذا قلت ما ربحت التجارة بل التجار لم يكن هناك مجاز أصلاَ، وعلى هذا فحقه أن يقول كيف أسيند عدم الربح إلا أنه عدل عنه تنبيهاً على أنّ عدم الربح هنا كناية عن الخسران، وإن كان أعئم منه، ثم أسند وأشار بذلك إلى أنه لو اقتصر على عدم الربح كان منسوبا إلى ما هو محله فلا مجاز، نعم إذا كنى به عن الخسران وأسند إلى التجارة كان مجازاً وفائدة هذه الكناية التصريح بانتفاء مقصود التجارة مع حصول ضده بخلاف ما لو قيل فخسرت تجارتهم، وفي االحال فيما إذا قلت ما صام نهاره بمعنى أفطر وما نام ليله بمعنى سهر فإنه يكون من قبيل المجاز، وان قصد بهما نفي الصوم عن النهار والنوم عق الليل فقط كما في قولك ما صام النهار وما نام الليل لم يكن منه قطعاً، والضابط أنّ الفعل إذا نفي عن غير فاعله، وقصد مجرّد نفيه عنه كان حقيقة، وإذا أوّل ذلك النفي بفعل آخر ثابت للفاعل دونه كان مجازاً، ثم إنه قيل هنا إنّ ما ذكره قدّس سرّه من قصد مجرّد النفي إنما يصح إذا لم توجد قرينة صارفة وقد وجدت هنا فانّ قوله {اشْتَرُوُاْ الضَّلاَلَةَ} إلخ، وقوله {وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ} في الدلالة على التجوّز كنار على علم، ثم إنه جعل النسبة السلبية كناية عن الخسران لقوله تمثيلاَ لخسارهم لأنّ عدم الربح وان كان أعمّ من الخسران نظراً لمفهومه فهو مساو له بحسب المادّة، فظهر أنّ المصنف رحمه الله يخالف كلامه ما في الكشاف بناء على الظاهر المتبادر منه من إرجاع ضمير إسناده إلى الربح فإن أرجع إلى الخسار المذكور في قوله تمثيلا لخسارهم وافقه لكن الأوّل هو الأولى، وأن اختار بعضهم الثاني، وفي شرح التأويلات إنّ نفي أحد الضدّين إنما يوجب إثبات الآخر إذا لم يكن بينهما واسطة، وهي موجودة هنا فان
التاجر قد لا يربح ولا يخسر، وأجاب بأته إنما يكون كذلك إذا كان المحل قابلا للكل كما في التجارة الحقيقية أمّا إذا كان لا يقبل إلاً اثنين منها فنفي أحدهما يكون إثباتاً للآخر، والربح والخسران في الدين لا واسطة بينهما، على أنه قد تامت القرينة هنا على الخسران لقوله {وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ} فتدبر. قوله: (لتلبسها بالفاعل أو لمشابهتها لىلاه) قد سبق ما في الكشاف في تحقيق الإسناد المجازي من أنّ للفعل ملابسات شتى تلابس الفاعل والمفعول به، والمصدر والزمان والمكان والسبب فإسناده إلى الفاعل حقيقة، وقد يسند إلى هذه الأشياء على طريق المجاز لمضاهاتها الفاعل في ملابسة الفعل، وقال: هنا الإسناد المجازي أن يسند الفعل إلى شيء يتليس بالذي هو في الحقيقة له كما تلبست التجارة بالمشترين فذهب بعض الشراح إلى أنّ ما هنا أعمّ مما سبق لأنه اشترط هناك مضاهاة الفاعل المجازي للفاعل الحقيقي في ملابسة الفعل، واقتصر هنا على تلبسه به مطلقا سواء كان بينهما مشابهة فيما ذكر أم لا، ومنهم من حمله على التقييد اعتماداً على ما قدمه أوّلاً، والتجارة سبب يفضي إلى كل واحد من الربح والخسران، ورجحوا إجراءه على ظاهره، فإنّ التليس بالذي هو له في الحقيقة مصحح للإسناد كما في قولهم قال الملك: كذ! ورسم كذا، وإنما القائل والراسم بعض خاصتة فمجرّد الملابسة كافية في صحته إلا أنه قيل إنها بمجرّدها وان كفت في ذلك(1/360)
لكن ملاحظة مشابهته لما هو له أدخل فيه، وأتم فإنّ الإسناد إنما هو حق ما هو له فناسب أن يكون صرفه إلى غيره لمناسبة، ومشابهة بينهما كما اعتبره صاحب الإيضاح، وكثير من علماء المعاني فقول المصنف لتلبسها بالفاعل أو لمشابهتها إياه إشارة إلى الطريقين، وقوله من حيث إلخ بيان لمشابهة الفاعل.
(أقول) لم يوضحوا الخلاف بين الطريقين، وقد قال قدس سرّه في شرح المفتاح نقلاَ
عن عبد القاهر: إنه ليس المراد بالمشابهة بين الفاعلين المشابهة التي تبتني عليها الإشتعارة بل الجهة التي راعاها المتكلم حين أعطى أحدهما حكم الآخر، والظاهر أنها هي الملابسة بعينها، ثم إنه قال إذا أسند فعل الأمير إلى بعض خواصه لم يبعد أن يقصد هناك المبالغة في تشبيهه بالأمير حتى كأنه هو، وهذا مناف لما ذكره هنا وان أمكن التوفيق بينهما فتدبر. قوله: (من حيث أنها) أي التجارة المسند إليها الربح المنفي الذي هو هنا كناية عن الخسران فيصح إسنادهما إليها لأنها سبب لهما باعتبار وقوعهما فيها إذ لولاها لم يتحققا فعلى هذا لو كان مال التجارة مشترى به رقيق جاز إسناد الربح له مع القرينة فيصح أن يقال ربح عبدك، وخسرت جاريتك على الإسناد المجازي واحتمال كون العبد والجارية بنفسهما ربحا أو خسراً للإذن لهما في التجارة لا يضرّ مع وجود القرينة الصارفة فلا وجه لإنكاره إلأ أن يقال إنه أنكر حسنه فهو ممتنع في عرف البلغاء، والبلاغة فله وجه وجيه. قوله: الطرق التجاوة فإنّ المقصود إلخ) هذا ما في الكشاف بعينه، وقال الشارح المحقق: إنه بيان لوجه الجمع بين عدم ربح تجارتهم، وعدم اهتدائهم بالواو وترتيبها على اشتراء الضلالة بالهدى بالفاء مع أنّ عدم الإهتداء تكرار
وملائم للمستعار له على ما هو شأن التجريد لا للمستعار منه كالترشيح، والجواب أنهم لما أضاعوا رأس المال الذي هو الهدى حيث أخذوا الضلالة التي هي عدم له لا بدل منه تسد مسدّه، وتقوم مقامه فرع على ذلك عدم إتصافهم بإصابة الربح، وعدم إهتدائهم لطرق التجارة فيعود هذا أيضاً إلى الترشيح، ونحوه ما في حواشي الشريف إلا أنه قال: بعده لكن عطفه على إشتروا الضلالة بالهدى أولى كما يرشدك إليه تأملك، يعني أنّ ما ذكر يقتضي عطف ما كانوا مهتدين على قوله (ربحت تجارتهم) مع أنّ عطفه على اشتروا الضلالة أولى بل هو الصواب كما قيل لأنّ عطفه على ما ربحت يوجب ترتبه على ما قبله بالفاء فيلزمه تأخره عنه، والأمر بالعكس إلا أن يقال إنّ ترتيب قوله {وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ} باعتبار الحكم والإخبار، وهذا وجه قوله أولى فلا يرد عليه شيء كما قيل، ولو جعل قوله وما كانوا مهتدين حالا كان وجها وجيهاً، ففي هذه الجملة ثلاثة أوجه، ثم إن تصريح الشراح بأنه على هذا التفسير ترشيح ردّ على الفاضل الطيبي حيث قال إنّ المصنف يعني أنه إن لم يصلح لأن يكون ترشيحا يصلح أن يكون تجريداً لأنه يحسن أن يوصف التاجر الحقيقيّ بأنه ليس مهتديا لطرق التجارة فكما أنّ مطلوب التجار في متصرّفاتهم الربح كذلك مطلوبهم سلامة رأس المال، ولا يسلم رأس المال إلا بمعرفة طرق التجارة، ورأس مالهم الثبات على الهدى والربح حصول الفلاح في الآجل إلى آخر ما ذكره، وهو مع أنه غير صواب لأنه لا يناسب تقريرهم، فيه إن أوّل كلامه مناقض لما بعده، ولذا قيل إنه سهو منه ونبه عليه الفاضك اليمني، وإنما تركه الشارح لظهوره.
(وأقول) إنه لو كان معطوفاً على اشتروا كان الظاهر تقديمه لما في تأخيره من إيهامه عطفه على ما يليه وحيئمذ يكون الأحسن ترك العطف فيقطع احتياطاً كما ذكره أهل المعاني في نحو قوله:
، وتظن سلمى أنني أبغي بها بدلا أراها في الضلال تهيم
وما ذكروه من عدم تعقبه على الإشتراء فيه أنه لو عطف عليه، ومعناه أخلوا بالهدى الذي فطروا عليه ومعنى ما كانوا مهتدين أيضاً تضييع رأس مالهم من الفطرة السليمة، وهما متقاربان فلا وجه للعطف فيه على أنه قد يقال المعطوف بالفاء مجموعهما والخسران كما يعقب الاشتراء فكذلك جهلهم الفطري مستمرّ فيتعقب باعتبار أجزائه الأخيرة وإنما ذكر احتراسا لأنّ الخسران قد يكون لآفة نادراً لا لعدم اهتدائهم لطرقه فتدبر. قوله: (قد أضأعوا الطلبتين إلخ) هو تثنية طلبة بفتح فكسر بزنة كلمة ويجوز تسكين ثانيه بمعنى المطلوب، والاستعداد أصل معناه طلب العذة بالضمّ، وهو بمعنى التهيؤ والقابلية، ويكون بمعنى(1/361)
الاستحقاق والمراد به الاستعداد القريب من الفعل لأنّ الاستعداد الأصلي باق لا يزول بالضلالات والاعتقادات الباطلة وان منعت الوصول إلى المطلوب، ودرلث الحق بفتحتين وسكون الراء لغة اسم من أدركت الشيء
الكلام على المثل
يتوسلون به إلى درك الحق ونيل الكمال فبقوا خاسرين آيسين من الربح فاقدين للأصل {مثلهم كمثل الذي استوقد نارا} لما جاء بحقيقة حالهم عقبها بضرب المثل زيادة ني التوضيح والتقرير، فإنه أوقع في القلب وأقمع للخصم الألدّ لانه يريك المتخيل محققاً، والمعقول محسوساً ولأمر ما كثر الله في كتب الأمثال، وفشت في كلام الأنبياء، والحكماء والمثل في الأصل بمعنى النظير يقال مثل ومثل ومثيل كشبه، وشبه وشبيه، ثم قيل للقول
إذا بلغته ووصلت إليه. قوله: (لما جاء بحقيقة حالهم إلخ) أي لما ذكر صفات المنانقين عقبها بضرب المثل لزيادة إيضاحها فإنه إذ تخيل من المعاني شيء لم يصل إلى التحقيق أبرزه المثلى في معرض المحقق، وكذا إذا توهم ولم يتيقن أخرجه في صورة المتيقن، ولو غاب عن الحس صيره كالمحسوس المشاهد، وربما تكون المعاني التي يراد تفهيمها معقولة صرفة فالوهم ينازع العقل في إدراكها حتى يحجبها عن اللحوق بما في العقل فبضرب الأمثال تبرز في معرض المحسو*سات فيساعد الوهم العقل في إدراكها ولهذا تضرب الأمثال لمن يخاصم لأنّ خصومتة بسبب إنقياده للوهم وعصيان العقل، فإذا اتفقا زالت الخصومة لا محالة وأوقع أفعل تفضيل من الوقع، وهو القرار والثبات أي أشد تمكناً في القلب، وأقمع من القمع وهو الصرف والمنع أو القهر والتذليل، وفي القاموس قمعه قهره وذلله كأقمعه وفلاناً صرفه عما يريده، وأصله ضرب الرأس بالمثقل فكني به عما ذكر وصار حقيقة فيه، والألد أفعل تفضيل من اللدد وهو شدة الخصومة وفسره بعضهم هنا بالخصومة وفسر الخصم الألد بالخصم الأخصم كليل أليل وهو سهو منه، والحال الصفة والقصة والحديث وكل منها صحيح هنا وفي هذا إشارة إلى أنّ ما سبق إلى هنا المقصود منه توبيخهم وبيان حالهم وإن احتوى على استعارات وتجوّزات لأنّ المثل في محاورتهم يضرب بعد تقرير المراد، وما قيل من أنه يفهم من هذا إنّ ما ذكر هنا أوّل مثل ضرب في شأنهم، وأنّ بيان أحوالهم إلى هنا حقيقة، وليس كذلك لأنّ قوله {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الضَّلاَلَةَ} تمثيل لحالهم بحال التاجر الذي لا يدري أمور التجارة، وكذا قوله {؟ الله يستهزىء بهم ولا محيص عنه} إلا بأن يتكلف فيقال ليس المقصود بما ذكر هنا إفادة أمر زائد على ما سبق بل القصد إلى تقريره، وتوضيحه على وجه بديع ناشىء من قلة التدبر، وعدم الفرق بين المجاز والمثل وسيأتيك عن قريب تحقيقه وقوله (ولأمر مّا إلخ) أي لأمر عظيم بليغ كثر ضمرب الأمثال، وفي الإنجيل سورة تسمى سورة الأمثال والمراد بهذا الأمر ما قرّرناه لك 0 قوله: (والمثل في الأصل بمعنى النظير إلخ) قال الراغب: أصل المثول الانتصاب، والممثل المصوّر على مثال غيره يقال مثل الشيء أي انتصب وتصوّر، ومنه الحديث: " من أحب أن
يتمثل له الناس قياماً فليتبوّأ مقعده من النار " (1) والتمثال المصوّر اهـ فأصله الأوّل ما ذكر، ثم استعمل بمعنى النظير، ويقال مثل بفتحتين ومثل بكسر فسكون ومثيل كقتيل بمعنى، وقال الميداني: سمع فعل وفعلى وفعيل بمعنى في ثلاثة أحرف شبه ومثل وبدل لا غير، وقد يكون بمعنى الصفة كما سيأتي. قوله: (ثم قيل للقول السائر إلخ) المراد بالسائر الشائع المشهور على الألسنة، وهو مجاز مشهور فيه صار كالحقيقة وحقيقته كقطع المسافة فشبه تداول الألسنة بتنقل الأمكنة، وقد أفصح عن هذا المعنى القائل في صفة تنقله في البلدان، وعدم استقراره في الأوطان:
لا استقرّبأرض! قدنزلت بها كأنني بكرمعنى سارفي مثل
والمضرب بفتح الميم وكسر الراء، ويجوز فتحها اسم مكان والمراد به الموضع الذي أستعمل فيه بعد استعمال قائله الأوّل، والمورد بالكسر لا غير الموضع الذي ورد فيه أي أوّل استعمالاته فيه وسيأتي أنّ له معنى آخر وهو المعنى الوضعي، ومعنى قول المصنف رحمه الله قيل أنه نقل من معناه الأصلي اللغويّ إلى هذا المعنى المذكور، وفي قوله هنا الممثل أي المشبه تنبيه على ما ذكره المفسرون وأهل المعاني من أنّ المثل هو المجاز المركب والاستعارة التمثيلية الشائعة في الاستعمال فلا تسمى الاستعارة المركبة أو مطلقاً ولا التشبيه مطلقا ولا معنى اللفظ الأصلي الحقيقي مثلا عندهم على ما قزره شراح التلخيص، والمفتاح وكافة أهل المعاني واتفقت كلمة الشروح هنا عليه أيضاً وهذا إذا سلم وأخذ على ظاهره لا غبار فيه، وان قيل على تفسير المورد بالحالة الأصلية التي ورد فيها الكلام إنه على هذا يكون في الكلام مجاز على مجاز وتشبيهان، مثلاَ الصيف ضيعت اللبن أصله أنّ امرأة شابة كانت تحت شيخ ذي مال قال لها ذلك لما تزوجت بشاب، وأتت تطلب(1/362)
منه الإعانة فقحمد اششبيه بحال تلك المرأة دون المعنى الأصلي لما اشتهر في تلك القصة، ولو أريد بالمورد المعنى الأصلي الموضوع له لم يكن إلا تشبيه ومجاز واحد لكنه لم يقصد في الكلام إلأ التشبيه بحال تلك المرأة لا بالمعنى الأصلي، وهذا وان كان غير مسفم لا بأس به.
(وههنا بحث) :
فيما قاله القوم، وهو أنّ أمثال العرب أفردها المتقدمون بالتأليف، وصنفوا فيها تصانيف جليلة المقدار كأمثال أبي عبيدة والميداني وابن حبيب والزمخشرفي وابن قتيبة وابن الأنباري
وابن هلال، وقد ذكروا فيها أمثالا كثيرة مستعملة في معناها الحقيقي، كقولهم السعيد من اتعظ بغيره، وأمثالا مصرحا فيها بالتشبيه كقولهم لمن يخاف شرّه ويشتهي قىهـ به، كالخمر يشتهي شربها ويخشى صداعها، إلى غير ذلك مما لا يحصر أمثاله فكيف يشترط فيها أن تكون استعارة مركبة فاشية.
وقد قال الميداني: المثل ما جعل كالعلم للتشبيه بحال الأوّل كقول كعب رضي الله عنه:
كانت مواعيد عرقوب لها مثلاَ وما موا! رها إلاً الأ! ا! ل
فمواعيد عرقوب مثل لكل ما لا يصح من المواعيد، وقال ابن السكيت: المثل لفظ يخالف لفظ المضروب له ويوافق معناه معناه شبهوه بالمثال الذي يعمل عليه+غيره، وقال غيره: سميت الحكم القائم صدقها في العقول أمالا لانتصاب صورها في العقول مشتقة من المثول الذي هو الانتصاب.
وقال النظام: يجتمع في المثل أربع لا تجتمع في غيره، إيجاز اللفظ واصابة المعنى، وحسن التشبيه، وجودة الكناية، فهو نهاية البلاغة، اهـ فالحاصل إنه إنما يشترط في المثل أن يكون كلاما بليغا شائعاً مشهورا لحسنه أو لاشتماله على حكمة بالغة، وأمّا ما ذكروه فلا يلائم أنّ ما نحن فيه من أمثال القرآن أيضاً ليس داخلا في تعريفهم لأنّ الله ابتدأها وليس لها مورد قبله فإنّ الله لا يستحي أن يضرب مثلا مع أنها تشبيهات لا استعارة فإن كان هذا اصطلاحاً حادثا لأهل المعاني ومن حذا حذوهم من الأدباء ينبغي التنبيه عليه مع أنّ السياق ياباه فإن أريد أنه الأغلب فعلى فرض تسليمه ليس في الكلام ما يدل عليه، والمثل كما يطلق على اللفظ باعتبار معنا. يطلق على المعنى أيضا فليس من تسمية الدال باسم مدلوله كما توهم فعليك بتدقيق النظر في هذا المقام، فإنه مما تزل فيه أقدام الأفهام. قوله: (ولذلك حوفظ عليه من التغيير إلخ) أي لما فيه من الغرابة لم يغير لفظه الأوّل، فإنه لو غير وبما إنتفت الدلالة على تلك الغرابة، وأن منع بعضهم زوالها بفتح تاء ضيعت اللبن مثلاً، وقال قدس سرّه: تبعاً للفاضل المحقق الأظهر كما في المفتاح أنّ المحافظة على المثل إنما هي بسبب كونه استعارة فيجب لذلك أن يكون هو بعينه لفظ المشبه، فإن وقع تغيير لم يكن مثلاَ بل ماخوذا منه واشارة إليه كما في قولك الصيف ضيعت اللبن على صيغة التذكير وإنما قال الأظهر لأنه لا تزاحم في الأسباب مع أنه يرجع إليه باعتبار أن في معنى الاستعارة اشتمالا على الغرابة كما قيلى، وقيل إنما حوفظ عليها لأنها صارت بسبب الغرابة والاشتهار كالعلم لتلك الحالة العجيبة، والإعلام لا تتغير، ثم إنّ الشارح المحقق والشريف قدس سرّه لم يفسر المراد بالغرابة، وقد فسرها الشارح الطيبي، وأطال في تفسيرها بما حاصله أنها غموض الكلام، وكونه نادرا بحسب المعنى واللفظ أمّ الأوّل فلما يتراءى منه ظاهرا من التناقض، والتنافي كرمية من غير رام {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ} أسورة الأنفال: 17] والثاني باشتماله على ألفاظ نادرة لا تستعملها العامة كقوله أنا جذيلها المحكك، وعذيقها المرجب يضرب لمن له خبرة وتجربة والظاهر أنه ليس المراد بالغرابة ما ذكر ولذا لم يعرج عليه من بعده من الشراح، وأنت إذا تتبعت الأمثال، وجدت كثرها مخالفاً لما ذكره وليت شعري أيّ غرابة في قوله، السرّ أمانة وقوله السكوت أخو الرضا وأمثاله مما لا يحصى إذا عرفت هذا فأقول أنا استقصيت الأمثال فوجدتها ما بين تشبيه بلا شبهة كقولهم للظالم المتورع هو كالجزار فيهم يذكر الله ويذبح، أو استعارة رائعة تمثيلية أو غيرها نحو أنا جذيلهـ االمحكك، أو حكمة وموعظة نافعة كالصبر مفتاح الفرج، أو كناية بديعة أو نظم من جوامع الكلم الموجز وإليه أشاو في المستقصي بقوله الأمثال قصارى فصاحة العرب العرباء وجوامع كلمها ونوادر حكمها وبيضة منطقها، وزبدة حوّاراها(1/363)
وبلاغتها التي أعربت بها عن القرائح السليمة والركن البديع إلى دواية اللسان، وغراية اللسن حيث أوجزت اللفظ، وأشبعت المعنى وقصرت العبارة، وأطالت المغزى، ولوحت فاعرقت في التصريح، وكنت فاغنت عن الإفصاح، ثم إنّ الظاهر في توجيه عدم التغيير ما ذكروه هنا وإن اسنظهروا خلافه إلا أنّ المراد بالغرابة ليس ما مرّ بل المراد أنها لما فيها من البلاغة، ورونق الفصاحة، والندرة التي ترقت بها إلى الغاية في بابها حتى عدت عجيبة جداً قيل لها غرابة لإطلاق الغرابة على مثله، اً ولكونها من كلام الغير كالتضمين عدت غريبة أجنبية.
وأمّا ما في المفتاح من أنّ الاستعارة التمثيلية قد تغير ألفاظها المؤدّية لمعناها الحقيقي لأنهم صرّحوا بجواز التجوّز في مفرداتها كما مرّ فيه أنّ المثل لا يلزم أن يكون استعارة كما تلوناه عليك آنفاً، وأمّا القول بأنّ الاستعارة مشتملة على الغرابة ففي غاية الغرابة، وكذا كون العلم لا يغير فالمعنى أنها لكونها فريدة في بابها، وقد قصد حكايتها لم يجوّزوا تغييرها لفوات المقصود، وقد صرح بهذا في المستقصي، هذأ وإن طال تطوّلنا بما فيه من الفوائد البديعة فانظره بعين الإنصاف. قوله: (ثم استعير لكل إلخ الما قرّروا للمثل معنى لغويا، وهو النظير، ثم معنى ثانيّ نقل منه إليه وهو القول السائر، وليس واحد منهما مناسباً هنا قالوا إنه استعير من الثاني لمعنى ثالث هو المراد وهو الصفة العجيبة، وقوله لها شأن وفيها غرابة إشارة إلى العلاقة بينهما، وهي الاشتراك في الغرابة وعظم الشأن كما اتفق عليه الشرّاح وأرباب الحواشي، فما قيل من أنّ المثل إذا قصد به القصة لم يرد تشبيهها بذلك القول مما يتعجب منه، وفي مجمع الأمثال، ولشدة امتزاج معنى الصفة به صح أن يقال جعلت زيدا مثلا والقوم أمثالاً، ومنه قوله تعالى {سَاء مَثَلاً الْقَوْمُ} [الأعراف: 177] في أحد القولين، ثم إنّ الحال والقصة والصفة أموو متقاربة، وقد جمع المصنف والزمخشريّ بينها متعاطفة بأو الفاصلة، ولم ينبهوا على وجهه (والذي يظهر لي) أنّ الشأن العجيب لما كان يعلم تارة بالمشاهدة كحال المنافقين،
وما هم عليه مما هو كنار على علم ومنه ما يعلم بإخبار الصادق المسوقة إليه كقصة الجنة التي قصها الله تعالى كما قيل:
وعشقتكم قبل العيان لكم كما تهوى الجنان بطيب الأخبار
ومنه ما يعلم بالبرهان ويدرك بالبصائر كصفات الباري جمع بينها كذلك وإليه إشارة ما في الكشاف حبث قال: أستعير المثل استعاوة الأسد للمقدام للحال أو الصفة أو القصة إذا كان لها شأن وفيها غرابة كأنه قال حالهم العجيبة الشأن كحال الذي استوقد ناراً وكذلك قوله {مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ} [الرعد: 35] أي وفيما قصصنا عليك من العجائب قصة الجنة العجيبة، ثم أخذ في بيان عجائبها ولله المثل الأعلى أي الوصف الذي له شأن من العظمة والجلال، اهـ. فالحال عبارة عن أمور متعدّدة بقوم شتى وتدرك منهم وهي في المعاني كالقصة في الألفاظ، ولذا يعبر بها عن الاستعارة التمثيلية في اكثر، وفي الكشف جملة مثلهم إلخ الأشبه أن تجعل موضحة لقوله {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرُوُاْ} وفي كلامه ما يدل عليه، ويحتمل أن تجعل مقرّرة لجملة قصة المنافقين المسرودة إلى هنا ولا يبعد تنزيل قوله عليه أيضا بحمل حقيقة الصفة على أحوالهم المفهومة من مجموع الآيات، والحمل على الإستئناف ضعيف جدا لا سيما والأمثال تضرب للكشف، والبيان فإن قلت قوله أوّلا بضرب المثلى يقتضي أنّ ما هنا من قبيل ضرب المثل والمعنى الثاني، وتفسيره بالحال يقتضي أنه ليس بمراد بل لا تصح إوادته، قلت هنا أمران لفظ مثل، والتمثيل المدلول عليه بالكاف أداة التشبيه، والمفسر بالحال الأوّل والمشار إليه أولاً الثاني، والمراد به أن يؤتى للحال بنظير من غير نوعه ليرفعه على منصة العيان ويرميه على قارعة التقريع فالمراد بالضرب صياغة ذلك النظير واعتماله من ضرب السكة التي هي بيانه لا الضرب الذي هو مصدر لضرب المقابل للمورد، وهذا من إرسال ااصمثل والمراد بالتمثيل الإتيان بمثال فتدبر. قوله: (والمعنى حالهم العجيبة الشأن إلخ) ذكر للمثل ثلاثة معان، وفسر ما في النظم بالثالث، وحقيقة حالهم هيئة منتزعة من عدة أمور هي استضاءة معنوية بإظهار الإيمان واذهاب الله ذلك النور عند الإستضاءة بتفضيحهم وبقائهم متحيرين في ظلمات معنوية، كما قيل: وفي شرح الفاضل المحقق وجه الشبه هو أنّ المستوقد والمنافقين جميعاً وقعوا عقب مباشرة أسباب المطلوب، وملاحظة خيال(1/364)
المحبوب في الحرمان والخيبة والتحسر فعبر عن الأوّل بالإضاءة، وعن الثاني بالظلمة، ولا خفاء في اشتراك الطرفين في الإضاءة والظلمة بهذا المعنى، وبهذا يسقط ما قيل إن أريد بالإضاءة الإضاءة حقيقة لم يشترك فيها المنافقون، أو مجازاً لم يشترك فيها المستوقد، والتحقيق أنه من قبيل ما يتسامح فيه فيذكر مكان وجه الشبه ما يستتبعه كما يقال كلام كالعسل في الحلاوة قصدا إلى لازمها الذي هو ميل الطبع، وقيل عليه الظاهر في تشبيه الأمر المعنوي بالحسي في وصف محسوس في المشبه به غير محسو! ى! في المشبه أن ينزل ما في المشبه منزلة المحسوس لكمال المناسبة بينهما،
ويجعلا من نوع واحد إدّعاء ومبالغة في كمال المشابهة فالهيئة المتنزعة من الإضاءة والإنطفاء المعنويين مع بقاء التحير تنزل منزلة تلك الهيئة الحسية ادّعاء، وهذا أقرب إلى مقاصد البلغاء من أن يجعل ما به الاشتراك غير ما يتادر إلى الأذهان من بعض اللوازم، وفي الإتقان عن ابن عباس إنّ هذا مثل ضربه الله للمنافقين كانو! يعترفون بالإسلام فيناكحهم المسلمون ويوارثونهم "! قاسمونهم العز فلما ماتوا سلبهم الله العز.
(أقول) إنّ الفاضل يعني أنّ وجه الشبه ملتئم من عدّة أمور، وطرفاه مركبان والوجه هو
أنهم عقب حصول تباشير المقصمود، وقوّة الرجاء وقعوا في حيرة الحرمان وتيه الخيبة، وهذا أمر مشترك بين الطرفين قطعا من غير حاجة إلى اعتبار لازم له كما في التشبيه بالعسل، ولا حاجة أيضاً إلى أن ينزل ما في المشبه منزلة المحسوس كما توهمه القائل، وإن كان كلام الفاضل لا يخلو من الكدر لكن إذا ظهر المراد سقط الإيراد، وهذا ليس محل تفصيله لكنه لما أورده ذلك المحشي هنا لزم التعرّض! له فتأمل. قوله: (والذي بمعنى الذين إلخ) يعني أنّ الذي له استعمالان في كلام العرب أحدهما أن يكون مفردا والآخر أن يعم المفرد، وغيره كمن وما في الموصولات وضعا لا استعمالا فإن كان ضمير بنورهم المجموع راجعا إليه لا إلى المنافقين كما ستعرفه كان من الثاني، وجعل المصنف رحمه الله المقتضى لتوجيه هو الضمير لا تشبيه الجماعة بالواحد كما في الكشاف ة إنه جعله منشأ للتوجيه لأنّ المقام ليس مقتضيا لتشبيه الجماعة بالواحد كما في قوله:
" - والناس ألف منهم كواحد وواحد كالألف إن أمر عني
فأشار بالعدول عنه إلى الاعتراض عليه بأنّ السؤال غير متوجه بعد بيان المعنى، وأنّ
التشبيه واقع بين حالهم وحال المستوقد لا بينهم وبينه حتى يتوهم ما ذكر وان وجهه الشراح بما كفانا المصنف مؤنته بتركه، ولذا ذكر هذا المصنف عقب قوله والمعنى حالهم إلخ فمن أرجعه إلى ما في الكشاف، وقال: إنّ هذا جواب سؤال تقديره كيف مثلت الجماعة بالواحد فقد وهم، ومثل لمجيء الذي بمعنى الذين بناء على أحد الوجود فيه فلا يرد عليه أنه ليس متعينا له. قوله: (وإنما جاز ذلك إلخ) إشارة إلى ما ذكره النحاة على اختلاف فيه في وضع المفرد موضع الجمع فإنّ منهم من جوّزه مطلقا كما في قوله تعالى {يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا} [غافر: 67] أي أطفالا ومنعه الجمهور وأوّلوا ما ورد منه فعلى هذا لا يصح استعمال القائم بمعنى القائمين، ولا يصح أيضا أن يكون الذي بمعنى الذين على ذكره في بعض الوجوه،
فأشار إلى جوابه على فرض التسليم بأنه خالف غيره لخصوصية إفتضته فإنه إنما وضع ليتوصل به إلى وصف المعارف بالجمل كما جيء بذي توصلاَ للوصف بأسماء الأجناس فلما لم يقصد لذاته توسعوا فيه دون غيره، ولأنه مع صلته كشيء واحد وعلامة الجمع لا تقع حشواً فلذا لم يلحقوها به ووضعوه لما يعلم كإخواته، ولما ورد عليه أنه جمع على الذين قال: إنه ليس جمعاً له بل اسم وضع مزيداً فيه لزيادة المعنى وقصد التصريح بها، ولذا لم يعرب بالحروف كغيره من الجموع على الأفصح فإنه يقال: الذين في الأحوال الثلاث، وأمّا اللذون في حالة الرفع كما في قوله:
نحن اللذون صبحوا الصباحا
فلغة قليلة لهذيل وقوم من العرب، ويؤيده أنّ جمع السلامة إنما يكون في الأسماء المتمكنة وأنّ الذي يعم العقلاء وغيرهم والذين يخص العقلاء، وقوله أخواته وفي نسخة أخواتها أي من الأسماء الموصولة كمن وما. قوله: (ولكونه مسنطالا إلخ) علة لقوله إستحق مقدمة عليه للإهتمام بها والإستطالة إستفعال من الطول المقابل للعرض، وهو أطول الإمتدادين إلا أنّ إستطال وطال لازم قال في القاموس طال طولا بالضم إمتد(1/365)
كاستطال فهو طويل، اهـ. إلا أنّ الزمثس يّ استعمله متعدئا وتبعه المصنف فبنى منه اسم مفعول وكذا وقع في المفصل، وقال شرّاحه: إستطالة عده طويلا إلأ أنهم لم يستندوا فيه إلى نقل من اللغة، وقد ذكر لجواز وضع المفرد موضع الجمع هنا دون غيره وجوها اثنان منها بالنظر إلى نفس الذين، وثالثها بالنظر إلى الصلة ولذا أخره أي لا يستحق أن يجمع لوجهين كونه ليس مقصودا بالوصف فلا يقصد مطابقته حتى يجمع، وأنه كجزء الكلام الذي لا يجمع، ولما ورد عليه أنه جمع على الذين دفعه بأنه ليس بجمع، ولذا لم يجر مجراه في اللغة الفصيحة بل هو مما زيد في لفظه زيادة تدلّ على زيادة معناه على قاعدتهم، وثالثها أنه استحق التخفيف لطوله بالصلة لكنه على هذا حقه أن يقول ولأنه لكونه مستطالا إلخ كما في أخويه فكأنه نبه بصنيعه هذا على إنحطاط رتبته حتى كأنه لا يستحق أن يكون وجهاً مستقلا بل تتمة لغيره، وقيل محصل الوجوه أنّ حذف العلامة في الذين دون القائمين لأمرين.
أحدهما راجع إلى ذي العلامة، وهو كونه وصلة غير مستحق لأن يجمع وكونه مستطيلأ. وثانيهما إلى العلامة وأنها زيادة لا علامة محضة.
وهذا يقتضي أن لا يفصل بين توله ولأنه ليس باسم تام وقوله ولكونه مستطالا ويؤخر
قوله، وليس الذين كما في الكشاف فهذا مناسب لكلام الكشاف والأوّل مناسب لكلام المصنف رحمه الله، وبهذا علم أنّ بينهما فرقا آخر، وكون أل الموصولة أصلها الذي فبولغ في تخفيفها
فحذف ياؤها، وقيل اللذ بذال مكسورة ثم سكنت فقيل اللذ إلخ كما حكاه النحاة مذهب مرجوح فيه تكلفات كما فصل في المطوّلات من كتب العربية.
وأورد على الوجه الأوّل أنه مناف لتوحيد ضمير استوقد، وأجيب بأنه وان كان جمعا
معنى مفرد صورة، قيل: وهذا مع ضعفه معارض بأنّ كونه على صورة المفرد مقتض للجمعية لا للإفراد لما فيه من الإلباس، وفيه نظر، وقرأ ابن السميفع كمثل الذين بلفظ الجمع واستوقد بالإفراد، وهي مشكلة وان خرجت على وجوه ضعيفة، وقد قيل إنّ هذه القراءة مؤيدة للقول بأنّ أصله الذين (وأعلم) أنّ قوله تبعا للزمخشري لم يجز وضعالقائم مقام القائمين إشارة إلى مسئلة ذكرت في المطولات من كتب النحو كما فصله ابن هشام في تذكرته فقال مذهب أبي عليّ الفارسي، وحكي عن ابن كيسان وغيره جواز وضمع المفرد موضع الجمع مطلقاً، وقيل إنه يختص بالمعرفة فقالوا يقال جيرانك ذاهب وقومك راكب وأنشدوا عليه قوله: ياعمروجيرانكم الباكر والقلب لا لاه ولا صابر
وخرجوا عليه قوله تعالى {سَامِرًا تَهْجُرُونَ} [المؤمنون: 67] في أحد القولين
فيه ووجهه في المعرفة ظاهر، وأمّا في النكرة فيحتاج إلى التأويل. قوله: (أو قصد به جنس المستوقدين إلخ) معطوف على قوله بمعنى الذين أي نظر فيه إلى معنى الجنسية العامّة إذ لا شبهة في أنه لم يرد به مستوقد مخصوص، ولا جميع أفراد المستوقدين والموصول كالمعرف بالألف واللام يجري فيه و وهها واسم الجنس وإن كان لفظه مفرداً قد يعامل معاملة الجمع كما في قوله تعالى {عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ} [الإنسان: 21] وقولهم الدينار الصفر والدرهم البيض، أو يقال إنه مقدر له موصوف مفرداً للفظ مجموع المعنى كالفوج والفريق، ويلاحظ في الذي وفي ضمير استوقد لفظ الموصوف، وفي ضمير بنورهم معناه، والفرق بين هذين الوجهين أنّ الضمير على الأوّل راجع للذي وعلى هذا للموصوف المقدر. قوله: (والاستيقاد طلب الوقود إلخ) هذا بناء على أصله لأنّ بنية الاستفعال موضوعة للطلب وذهب الأخفش إلى أنّ الاستفعال هنا بمعنى الأفعال كاستجاب بمعنى أجاب في قوله:
فلم يستجبه عند ذاك مجيب
أي لم يجبه ورجح بأنه على الطلب يحتاج إلى التقدير أي طلبوا نارا واستدعوها فأوقدوها فلما أضاءت لأنّ الإضاءة لا تتسبب عن طلب الوقود بل عنه نفسه، والوقود في كلام المصنف بضم الواو مصدر، وأمّا بفتحها فما يوقد به على المشهور، وفوله وهو سطوع النار ضمير هو للوقود وقيل إذا كان هذا معنى استوقد والوقود فلا حاجة إلى ذكر النار، ولذا قيل إنه تجريد وهو غير وارد على من فسر الوقود بإشتعال النار والقول بأنّ التقييد داخل فيه، والمقيد
به خارح عن مسماه بعيد والأمر فيه سهل لعدم احتياجه للتنوير، وإشتقاق النار من نار إذا نفر أو تحرك واضطرب، والنوو مأخوذ من النار(1/366)
لأنها الأصل فيه وهذا هو المشهور وترك تعريف النار الذي في الكشاف لعدم احتياجها للتعريف كما لا يخفى. قوله: (أي النار ما حول المستوقد إلخ) الضمير المؤنث في قول المصنف رحمه الله جعلتها للإضاءة المفهومة من أضاءت أو لأضاء باعتبار أنها كلمة، والإضاءة جعل الشيء مضيثاً نيرا، وأضاء يكون متعدّياً ولازما كما صرّج به الجوهريّ، وغيره من أئمة اللغة فعلى الأوّل ما موصولة أو موصوفة والظرف المستقرّ صلة أو صفة وهي مفعوله، وعلى الثاني فما كذلك وهي فاعل وأنث فعله لتأويله بمؤنث كالجهات والأمكنة أو فاعله ضمير النار، وما في محل نصب على الظرفية أو زائدة وحوله ظرف كما سيأتي تحقيقه، ونصب ما محلاَ على الظرفية لأنه في معنى الأمكنة الآ أنه قيل على هذا إنه يقتضي التصريح بقي إمّا لأنّ ما موصولة معرفة أو في معناها، ولا بدّ في المكان المعين من ذكر في فإنه لا يقال جلست المسجد، وأمّا ما قيل من إنّ في إنما تحذف في لفظ مكان لكثرة استعماله في كلام العرب، ولا كثرة في الموصول الذي عبر به عنه وما أجيب به عنه من أنها تركت لما في الحول من الإبهام وإن كان مضافاً لمعرفة أو إنه مخرج على نحو قوله: كما عسل الطريق الثعلب
فاعترض عليه بأنه لا دخل للتعريف، وغيره في النصب على الظرفية على ما تقرّر في
كتب النحو، وبانّ ما خرج عليه شاذ أو ضرورة لا يقاس عليه، وأمّا الحل بأن ما حوله في معنى عند ونصسب ما في معنى عند لإخفاء فيه، فليس بشيء، وقولهم: إنه مختص بلفظ مكان مخالف لما قرّره النحاة قال: نجم الأئمة الرضي لفظ مكان، وكذا لفظ الموضع والمقام ونحوه ينصب بشرطه، وهو انتصابه بما فيه معنى الاستقرار كقعدت وقمت وهو صريح في خلافه، وهذا كله على ما فيه مما لا يجدي فالحق أن يقال إنّ ما الموصولة أو الموصوفة إذا جعلت ظرفاً فالمراد بها الأمكنة التي تحيط بالمستوقد، وهي جهاته الست وأسصاء الجهات الست مما ينصب على الظرفية قياساً مطرداً فكذا ما عبر به عنها، وهو المراد بالأمكنة اختصارا لا المكان وحده وهذا اللفظ هو الذي أوقعهم فيما وفعوا فيه، وهذا معنى قوله في الكشاف وفيه وجه آخر وهو أن يستتر في الفعل ضمير النار ويجعل إشراق ضوء النار حوله بمنزلة إشراق النار نفسها على أن ما مزيدة أو موصولة في معنى الأمكنة قال قدس سرّه:! أنّ سائلا يقول إذا استتر في الفعل ضمير النار وجب أن توجد النار حول المستوقد حتى يتصوّر إضاءتها وإشرإقها، فأجاب بأنّ النار وإن لم توجد فيما حوله فقد وجد ضوءها فيه فجعل إشراق ضوء النار حوله بمنزلة
إشراق النار نفسها فيه فأسند إليها إسناد الفعل إلى السبب كبني الأمير المدينة فإنّ النار سبب لإشراق ضوئها حول المستوقد، وما-له ما اشتهر في العرف من أنّ الضوء ينتشر من المضيء إلى مقابلاته فيجعلها مستضيئة، وقد قيل عليه إنّ هذا بناء على أنّ إشراق النير في البيت إنما يطلق إذا حل ذلك النير في البيت، وكأنّ المصنف رحمه الله لم يتعرّض له لأنه لا يقول به لإقتضائه أت لا يصلح أن يقال أضاءت الشمس في الأرض إلا على التجوّز، وهو خلاف الظاهر وعلى المدعي إثباته وأيضاً النار في جهة مما حوله ولا يلزم أن تكون في جميع جهاته كما لا يلزم في قولنا أشرق السراج في البيت كونه في جميعه إذ يكفي وقوعه في موضع مّا منه ألا ترى إلى قوله تعالى {وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الأَعْرَابِ} [التوبة: 101] ونحوه مما هو شائع في كلام العرب كقول حسان رضي الله عنه:
أولاد جفنة حول قبر أبيهم
- إلى آخر ما فصلوه.
(أ-! ول) قد تقرّر في الحكمة أنّ الضوء عرض، وكيفية مغايرة للون وليس عبارة عن ظهور اللون كما ذهب إليه بعض الحكماء وليس أجساما صغاراً تنفصل من المضيء فتتصل بالمستضيء كما ذهب إليه بعض الحكماء، وان كان قد يشاهد للضوء بروق، وتلألؤ على الجسم حتى كأنه يفيض منه ويضطرب مجيئا وذهابا بحيث يكاد يستره فإن كان ذاتيا كما للشمس سمي شعاعا، وان كان عرضيا كما للمرآة سمي بريقا، وهذا ما أشار إليه قدّس سرّه، ثم إنه إذا تعلق الظرف بفعل قاصر صار ظرفا لفاعله بالذات 6 ولحدثه بالتبع كما في قام زيد في الدأر، وهذا غنيّ عن البيان فإن كان ذلك الحدث له أئر متعد كالإشراق والإصباح فهل يشترط في تحقق النسبة للظرفية ذلك أيضا فلا بدّ من قولك أشرق كذا في لو كذا من كون الإشراق، والمشربن فيه أو يكفي وجود أثره فيه، وإن لم يوجد هو بذاته كما في الأفعال المتعدّية فإنك إذا قلت رميت الصيد في الحرم يكون حقيقة(1/367)
وان لم يكن الرامي في الحرم على ما ستسمعه إن شاء الله تعالى مفصلا في سورة الأنعام فالعلامة في الكشاف ارتضى الأوّل وجعل ما خالفه مجازا وقياسه مع المتعدّي قياس مع الفارق لأنّ المفعول مظروف حقيقة وان كان لك أن تقول إنه حقيقة عرفية، وفي كلامهم إيماء إليه، وقد يقال إنه لذلك تركه المصنف رحمه الله تعالى، وقياس البيت والبلد على الحول إذا كان بمعنى الإحاطة والجهات غير ظاهر، وقوله على الظرف قيل إنّ تخصيص الإضاءة بما حول المستوقد في الوجهين الأوّلين ظاهر لأنها لا تتعلق بمحل المستوقد وأمّا على الظرفية فغير ظاهر، وليس بشيء لأنّ نحله نفسه على كل حال لا تتعلق به الإضاءة كما قال الشاعر:
وشمس تضيء الأرض شرقاً ومغربا وموضع رجل منه في البيت مظلم
وفيه نكتة لطيفة، وهي الإشارة إلى أنه بنفسه مظلم ظالم لنفسه غير قابل للأنوار الإلهية. قوله: (وقيل للعام حول لآنه يدور) يعني أنّ أصل هذا التركيب من الحاء وما بعدها موضوع للطواف، والإحاطة كالحول بمعنى السنة فإنه يدور من الفصل الذي ابتدأ منه إلى مثله ولما لزم ذلك الانتقال والتغير استعمل فيه بإعتبار. كالإستحالة والحوالة، وان خفي في بعض الموادّ كالحول بمعنى القوّة وهذا مسلك لبعض أهل اللغة ارتضاه العلامة وتبعه المصنف.
وقال الراغب: أصل الحول تغير الشيء وانفصاله عن غيره وباعتبار التغير قيل حال الشيء يحول حولا واستحال تهيأ لأن يحول وباعتبار الانفصال، قيل: حال بيني وبينكم كذا اهـ والعام في تقدير فعل بفتحتين، ولذا جمع على أعوام مثل سبب وأسباب، وقال ابن الجواليقي عوام الناس لا تفرق بين العام والست، فيقولون لأفي وقت من السنة إلى مثله عام، وهو غلط والصواب ما قال ثعلب من أنّ السنة من أفي يوم عددته إلى مثله، والعام لا يكون إلا شتاء وصيقاً، وفي التهذيب أيضاً العام حول يأتي على شتوه وصيفه، وعلى هذا فالعام أخص من السنة فكل عام سنة وليس كل سنة عاما فإذا عددت من يوم إلى مثله فهو سنة، وقد يكون فيه نصف الصيف ونصف الشتاء والعام لا يكون إلأ صيفا وشتاة متواليين كذا في المصباح المنير وحول، وحوال بزنة ظلام وحوالان مثناه وحولان تثنية حول وأحوال جمعه وكلها ظرف مكان سمع منصوبا على الظرفية كما صرّحوا به. قوله: (جواب لما إلخ) قدمه لأنه المتبادر الأرجح عند الأكثر ولأنّ الأصل عدم الحذف، والتقدير ولما حرف وجود لوجود أو وجوب لوجوب أو ظرف بمعنى حين أو إذ لاختصاصها بالماضي فعلى الظرفية الأمر ظاهر إن لم يعتبر فيها المجازاة، وعلى اعتبارها بناء على أنه المعروف فيها يتراءى فيه مانع لفظيّ، وهو توحيد الضمير في استوقد وحوله وجمعه في بنورهم، ومعنويّ وهو أنّ المستوقد لم يفعل ما يستحق به إذهاب الله نوره بخلاف المنافق فجعله جوابا يحتاج إلى التأويل، ولذا أورده الزمخشرفي سؤالا وجوابا والمصنف رحمه الله أشار إلى المانع الأوّل والى أنه كان مقتضى الظاهر أن يقال بنارهم بدل قوله بنورهم، وأمّا العدول عن الضوء إلى النور فلم يتعرّض! له هنا وأخره، وأمّا إسناد الإذهاب إلى الله تعالى فليس بمانع عند أهل السنة فلذا تركه إشارة إلى ابتنائه على الاعتزال، وأشار بقوله وجمعه إلخ إلى جواب الأوّل، ولم يفصله لأته قد سبق ما يغني عنه في بيان إفراد الذي، وأشار بقوله لأنه المراد إلخ إلى اختيار النور على النار لأنه المقصود منها، ولا ينافيه أنه يقصد بها أمور أخر كالإصطلاء (1) والطبخ كما توهم لأنّ هذا أعظم منافعها وأدومها وأشهرها وهو المناسب للتشبيه، والمقام كما يعرفه من تأمل قوله {وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ
؟ حاشية الشهاب لم ج ا / م 37.
ظلمات} [البقرة: 17] وأمّا حمل النار على نار حقيقية لا يرضاها الله كنار الغواة الموقدة للمعاصي المستحقة للإنطفاء من الله أو النار المجازية كالفتنة كما في قوله تعالى {كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَارًا لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللهُ} [المائد 5: 64] ليظهر التسبب فلا يخفى ما فيه من التكلف، وكذا ما قيل من أنّ الإيقاد سبب لفناء الحطب فتكون الإضاءة المتفرّعة عليه سبباً لإنطفائه. قوله: (أو استئناف أجيب به اعتواض! سائل) المراد بالإعتراض التعرض له فرضاً، وليس بمعنى الإشكال هنا وان جاز، وفي المصباح يقال سرت فعرض لي في الطريق عارض من جبل ونحوه أي مانع يمنع من المضيّ، واعترض لي بمعناه ومنه اعتراضات الفقهاء لأنها تمنع من التمسك بالدليل اهـ، وفيه إشارة إلى أنّ الاعتراض بالمعنى المشهور ليس بلغويّ، وإنما هو اصطلاحيّ، وهذا الوجه رجحه(1/368)
الزمخشريّ لما فيه من المبالغة، والإيجاز بحذف الجواب، وذهاب النفس كل مذهب مع سلامته عن الموانع السالفة، وبين السؤال المقدر بما ذكره وحاصله السؤال عن وجه الشبه فإنّ مشاركة حال المنافقين لحال المستوقد في المعاني المذكورة غير ظاهرة، وحال المشبه معلومة مما مضى، وحال المشبه به وهو المستوقد مذكورة، فأجيب بأنهم بعدما منحوا الهدى {خَتَمَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهمْ} وصيرهم هائمين في الضلالة التي هي ظلمات بعضها فوق بعفر،، ثم لا بدّ للحذف من مجوّز ومرجح على الإثبات الذي هو الأصل، فأشار المصنف إلى الأوّل بأمن الإلباس، وإلى الثاني بالإيجاز وعدل عن قول الزمخشريّ، وإنما جاز حذفه لإستطالة الكلام أي لطوله لما قيل عليه من أنه لا استطالة هنا بخلاف قوله قلما ذهبوا به، وإن دفع بأنّ المراد لولا حذف ذلك الجواب لطال الكلام، وأيضا عد الإستطالة في المرجح أولى من عدّها في المجوز، ودفعه بأنه حاول أن يذكر في كل منهما أمرين ليس بشيء كما قاله قدّس سرّه هذا، وفد قيل إن جعل ذهب الله جوابا أوى لعدم الإستطإلة، ولأنّ كونه من تتمة التمثيل الأوّل يوجب مطابقته للتمثيل الثاني لاشتماله على مبالغات، ومن دأب البليغ أن يبالغ في المشبه به ليلزم منه المبالغة في المشبه ضمناً، والحمل على الإستئناف ضعيف لأنّ السبب في تشبيه حالهم قد علم مما سبق فلا معنى للسؤال عن وجه الشبه، أو تعيين المشبه، وجعله بدلا من جملة التمثيل يدل على أنّ المذكور لفظاً أو في لتأدية الغرضى مما حذف لقصور العبارة عنه، وهو باطل نعم لو قيل ذهب الله ابتداء كلام لبيان حال المشبه لم يكن بعيدا، ولعل ما ذكره المصنف من نكتة الحذف ليس إيثارا له بل إيناساً به، وإزالة لاستبعاده فالوجه هو الأوّل وسيرد عليك من كلامه ما يشعر به، وأجيب بأنّ الحذف لما كان أبلغ كانت المبالغة في المشبه به كثر والتطابق بين التمثيلين أوفر، وأيضاً إذهاب النور، وتركهم في ظلمات يدل على أنه كان لهم نور فزال، وصاروا متحيرين خابطين فتكون المبالغة في الطوفين أمّ في المشبه به فبالحذف، وأمّا في المشبه فباللفظ وهذا أوفى بتأدية الغرض الذي هو بيان حال المنافؤين وقيل إنّ قول المصنف رحمه الله شبهت حالهم إلخ معنا، أنّ له حالين
الأولى إنطفاء ناره بالكلية بحيث لا يبقى لها أثر، والثانية إنطفاؤها مع بقاء الأثر ففي أيّ الحالتين شبه المنافقون بالمستوقد فكأنه قيل في الأولى حيث ذهب الله بنورهم إلخ فإنّ الميالغات التي فيه تفيد عدم بقاء الأثر فيكون هذا الاستئناف مما يكون السؤال فيه عن أمر غير سبب الحكم هو وجه الشبه أو المشبه، ومما حذف فيه الاسنئناف كله مع قيام شيء مقامه قوله:
زعمتم أنّ أضص تكم قريش لهم ألف وليس لكم آلاف
فعلم من هذا أنّ وجه الشبه أو المشبه لم يعلم على التعيين مما مرّ، وأنّ حذفه وجعل المذكور استئنافا أبلغ من كونه جوابا لما فيه من بيان حال المشبه بوجهين يوجبان الأبلغية الإجمال والتفصيل، والتصريح بالمبالغة بدون اكتفاء بما في ضمن المبالغة في المشبه به فيطابق التمثيل الثاني بل يكون أبلغ فلا يرد عليه ما في الكشف من الاعتراض! .
(أقول) وبالله التوفيق كون الجواب أرجح كما أشار إليه المصنف بتقديمه بأنّ المهم المقدم وارتضاه المدقق مما لا يخفى على من له إنصاف وتطابق التمثيلين وجريهما على نهج فيه أظهر من الشمس، وكل ما ارتكبوه في ردّه على طرف الثمام، والمرجح المذكور معارض بما فيه من الحذف الذي هو خلاف الأصل وبما فيه من الإلباس لاحتمال قوله {ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ} غيره بحسب الظاهر المتبادر وقرينة جمع الضمير خفية فالحق الحقيق بالقبول ما في الكشف فإنه غنيّ عن الكشف، وكيف يتعين بما ذكر المراد من أنه لم يبق له أثر، وهذا إنما يتضح لو قيل بنارهم بدل بنورهم. قوله: (أو بدل من جملة التمثيل إلخ) معطوف على قوله جواب لما وقد سمعت آنفاً ما في الكشف في البدل فليكن على ذكر منك إذ لا فائدة في الإعادة، والذي يهمنا هنا بيان ما يتعلق به غير ذلك، وإنما قال: المصنف على سبيل البيان إلف رة إلى أنّ المبدل منه ليس في نية الطرح كما اشتهر في أمثاله فهذا معتبر أيضا لأنّ المصرّح به في التمثيل حال المشبه به، وأردفه بالتصريح مجال المشبه على هذا التقرير، ولذا قيل إنه بدل كل والبيان لازم، ولذا جعل بعض المحققين عطف البيان(1/369)
كله بدل كل وهو في الجمل التي لا محل لها يفيد مفاد المبدل منه فيبينه ويؤكده، وهذا بناء على أنّ المراد بالبدل بدل الكل في الكل، والظاهر أنه بدل بعض لأنّ جملة التمثيل من قوله مثلهم إلى قوله حوله مشتملة على حال المشبه والمشبه به، وهذه الجملة مقصورة على الثاني فكونها بدل أقرب إن قلنا بجريانه في الجمل ولا يلزمه الضمير لأنه شرط بدل البعض، والاشتمال في المفردات دون الجمل لعدم صلاحيتها لذلك باقية على أصلها، وقيل إنه بدل اشتمال لأنّ الغرض بيان حال المنافقين من ظهور نورهم حالاً، ثم اضمحلاله مآلاً، وظاهر أنّ هذا أوفى بتأدية الغرض من ذلك فهو بمنزلة:
أقول له ارحل لا تقيمن عندنا
فسقط اعتراض! صاحب الكشف السابق على ما في الكشاف، وقد قدمنا لك أيضاً ما زعمه أبو حيان في ردّ البدلية من أنّ انفعلية لا تبدل من الاسمية اتفاقا، وقيل إنّ الجملة الأولى لا محل لها والبدل تابع معرب بإعراب سابقه فلا تصح البدلية، ورد ما ذكره رواية ودراية من غير حاجة إلى الالتجاء إلى أنّ المراد بالبدل هنا ليس هو البدل النحوي بل أن تكون الجملة الثانية مفسرة، وموضحة للأولى قائمة مقامها في الجملة فتحصلى لك في البدل احتمالات أربعة. قوله: (والضمير على الوجهين للمنافقين) أي على أنه استئناف أو بدل وجواب لما محذوف وتقديره إنطفأت أو خمدت وقد مرّ بيانه وشرح ما ذكره المصنف هنا من المجوّز والمرجح، ووجه عدوله عما في الكشاف من الإستطالة إلى الإيجاز والإعتراض عليه بأن تبادر الجوابية من جملة ذهب إلخ موقع في الإلباس، حتى قال أبو حيان أنه الغاز وهو مدفوع بأنّ ضمير الجمع قرينة على أنه راجع للمنافقين المشبه وهو يقتضي أن لا يكون جواباً، فإن قلت إن سلم هذا اقتضى أن لا يصح كونه جوابا، وهو لأرجح عند المصنف رحمه الله، قلت القرينة لا يلزم أن تكون قطعية ولذا تراهم يجوزون تقادير مختلفة في تركيب واحد من غير نكير، ولذا قالوا في نكتة الحذف هنا أنها إيهام أنّ الجواب مما تقصر عنه العبارة لأنّ ما قدروه أمر غير متعين وأتى المصنف رحمه الله له بنظير من القرآن المجيد، وان كان ثمة الإستطالة ظاهرة لأنه عنده مثبت للحذف لأجل الإيجاز فتدبر. قوله: (وإسناد الإذهاب الخ) عبر بالإذهاب الذي هو مصدر المزيد والمذكور في النظم ذهب إشارة من أوّل الأمر إلى المعنى المراد، وأنه لتعديه بالباء في معنى إذهب كما ستراه.
وفي الكشاف فإن قلت فما معنى إسناد الفعل إلى الله تعالى في قوله {ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ}
قلت إذ! طفئت النار بسبب سماويّ ريح أو مطر فقد أطفأها الله تعالى، وذهب بنور المستوقد، ووجه آخر وهو أن يكون المستوقد في هذا الوجه مستوقد نار لا يرضاها الله، ثم إمّا أن تكون ناراً مجازية كنار الفتنة والعداوة للإسلام وتلك النار متقاصرة مذة اشتعالها قليلة البقاء، ألا ترى إلى توله {كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَارًا لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللهُ} [المائدة: 64] وأمّا ناراً حقيقية أوقدها الغواة ليتوصلوا بالإستضاءة بها إلى بعض المعاصي، ويتهدّوا بها في طرق العيث فأطفأها الله وخيب أمانيهم، وإنما أوردناه برمته لتعلم مراده ومراد المصنف رحمه الله فتتحقق الفرق بينهما، وقد ذهب اكثر إلى أن السؤال على تقدير كونه جواب لما وأنه لدفع المانع المعنويّ الذي قرّرناه اوّلا وأنه مبنيّ على الاعتزال وقاعدة الحسن والقبح لأنّ إطفاء نار المستوقد عبث والعبث عندهم قبيح والوجوه ثلاثة والإسناد. على الأوّل منها مجازقي لكونه المسبب في الريح والمطر، وقال المحقق إنه من قبيل أقدمني حق لي على فلان وهناك قدوم بلا إقدام، وفائدة الإسناد المب لغة في الإذهاب وعلى الئاني فالمراد كما قاله قدس سرّه مستوقد
نار لا يرضاها الله، وإطفاؤها ليس قبيحاً، وسواء كان! ت النار مجازية أو حقيقية فالإسناد حقيقيّ، فإن قيل المنافق مستوقد نار الفتنة والعداوة مع ما ذكر من الإضاءة فلا معنى للتشبيه، قيل: هذا المستوقد أعئم وقيل: إنه لا حاجة في توجه السؤال إلى أنّ ذلك الإذهاب قبيح مانع من صحة الإسناد عنده بل يتجه بمجرّد أنّ. الإذهاب عادة يقع بالأسباب بل قبحه علئ- رأي المعتزلة محل مناقشة إلأ أنّ تقريره للجواب الأخير يشعر باعتبار القبح في السؤال، والأظهر في الجواب أن يقال لا حاجة في تمثيل حال المنافقين إلى تحقق الإذهاب من الله تعالى لنورهم إذ يكفي فيه الفرض! والتقدير؟ وعدم رضا الله تعالى بإستيقاد النار لا يلائم التمثيل، والحق في الجواب عن اعتبار التشبيه في نار الفتنة أنهم لم يوقدوا(1/370)
نار الفتنة بتهييج الحروب إذ لم يفعلوا ذلك وإنما صدر منهم ما يؤدّي إليه كما مرّ في تفسير قوله تعالى {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ} وأمّا الجواب بأنّ المستوقد أعمّ من المنافقين ففيه إنه لا يحسن تشبيه الخاص بالعام إلا أن يراد بالأعم الخاص الآخر المقابل للمشبه.
(أقول) هذا ما في الكشاف، وشروحه ومراده بالتجوّز في النار أنه استعارة تصريحية حيث شبه تهييج الفتن والحروب بإستيقاد النار تشبيه معقول بمحسوس بجامع عقليّ، وهو الإصرار بما يصادفه وأثبت له ما يخصه، وهو الإيقاد ففي الكلام استعارة في تشبيه، وهو من أبلغ ما يكون، وذكر المجاز وإرادة الاستعارة غير مستبعد، ثم إنهم اتفقوا على أن توجيه الإسناد في الكشاف مبني على جعل جملة ذهب جوابا للما والضمير للمستوقد، وانه على الأوّل مجاز في الإسناد لا حقيقة له بناء علىءا قاله عبد القاهر، والشريف لم يعرج على هذا نفيا واثباتا، فكأنه ليس عنده ثلج صدر مته، ووجهه إنه إذا لم يكن فعل الله والريح ونحوه ليس بفاعل مختار وإنما هو سبب عادي لم يكن له فاعل حقيقي، وقد جوّز أهل المعاني مثله وهو كلام حسن، وما ذكره قدس سرّه من تشبيه الخاص بالعام لا وجه له، والمعروف عكسه وهو نوع من التشبيه يسمى التمثيل كما تقول الجمل الفعلية كقام زيد، ولو عكسته كان عبثا، وقد صزح به اً هل المعاني، وأمّا ما ذكره المصنف رحمه الله فالظاهر أنه توجيه للإسناد على الوجوه كلها سواء رجع الضمير إلى المستوقد أو إلى المنافقين، وقوله كريح ومطر إلخ ناظر إلى عوده على المستوقد، وهو مقابل للسبب الخفيّ وما يحصل بأسباب سماوية يسند إلى الله تعالى عادة والسبب الخفيّ يعتبر بحسبه، وهو ناظر إلى عود الضمير للمنافقين كما أشار إليه هنا بعض المتأخرين رحمه الله، فقوله لأنّ الكل بفعل الله بناء على مذهب أهل السنة من أنه الفاعل لكل شيء حسناً كان أو قبيحا ولا قبح فيما صدر عنه سبحانه، وفعل الإطفاء إن كان بدون سبب عاديّ، فهو من الله واسناده إليه حقيقة على هذا، وخفاؤه بالنسبة إلينا لعدم إطلاعنا عليه فإذا كان من أحوال المستوقد المشبه به فهو أمر فرضيّ لغير فاعل معين ترى ناره، ويدري ما يطفئها فأسند إلى الفعال المطلق الذي بيده التصرّف في الأمور كلها، والظاهر أنه حقيقة على هذا أيضا
وأما إذا أطفئت بأمر سماوي كريح هبت بقدرة الله تعالى فهو الفاعل، والريح اكة كالسكين للقاطع، وإذا قصد المبالغة التي سنقرّرها فهو محتمل للحقيقة، والمجاز بناء على تفسير النار فكلام المصنف مخالف لما في الكشاف من وجوه فمن طبقه عليه، وقال في تقريره إنه يشير إلى أنه على تقدير رجوع الضمير للمنافقين حقيقة بلا خفاء، وعلى رجوعه للذي استوقد فلا يخلو من أن يكون حقيقة أو مجازا، وعلى الثاني إمّا أن يعتبر له فاعل حقيقيّ لو أسند إليه كان حقيقة، وقد نقل عنه إلى الفاعل الجازي أولا وعلى الأوّل إمّا أن يكون الفاعل مجهولا أو معلوما فأشار إلى الأوّل بقوله لأنّ الكل إلخ، وإلى الثاني بقوله أو لأنّ الإطفاء حصل بسبب خفيّ، وإلى الثالث بقوله أو أمر سماويّ إلخ وإلى الرابع بقوله أو للمبالغة كأقدمني حق لي عليك فقد ألزمه بما لا يلتزمه وفسر كلامه بما لا يحتمله، وبما عرفت من تفسير السبب الخفيّ عرفت سقوط ما قيل عليه من أنه تعالى لا يخفى عليه شيء إلى آخر ما أطال به من غيرطائل، وقد بقي هنا أمور يضيق عنها نطاق البيان. قوله: (ولذلك عدي الفعل بالباء دون الهمزة إلخ) أي الباء والهمزة للتعدية إلا أنّ الباء لما فيها من معنى الإلصاق والمصاحبة أبلغ من الهمزة، ولذلك عدي بها هنا والفرق بينهما مذهب المبرد وارتضاه كثير من المحققين وفي المثل السائر كل من ذهب بشيء فقد أذهبه، وليس كل من أذهب شيئا ذهب به لأنه يفهم من ذهب به أنه استصحبه معه وأمسكه عن ال- جوع إلى حاله الأولى، وليس كذلك أذهب، وارتضاه أبو حيان، واستدل عليه بأمور مفصلة في محلها ردا وقبولاً، وذهب سيبويه إلى أنهما بمعنى وتبعه أكثر النحاة، واستدل بهذه الآية لأنه تعالى لا يتصف بالذهاب فمعناه أذهبه لا غير، ودفع بأنه مجاز هنا عن شدة الأخذ بحيث لا يرد كما في قولهم ذهب السلطان بماله فإنه مجاز عن المعنى المذكور بذكر الملزوم، وارادة اللازم فإنّ السلطان لم يذهب، ولم يجعل المال ذاهبا وإنما أخذه وأه سكه، فإن قلت هذا الفرق بين تعدية الباء، والهمزة هل هو مخصوص بهذه المادّة أم لا وعلى ك تقدير كيف يقال إنّ المبالغة جاءت من الإلصاق، والمصاحبة وهو(1/371)
معنى آخر للباء غير التعدية مع أنّ كثيراً من النحاة ذهب إلى أنّ باء المصاحبة مع مجرورها كجاء بثياب السفر ظرف مستقرّ أبدا، وهو مضاف لما ذكر قلت من النحاة من قال: إنه لا يختص بمادّة، وليس المراد بالاستص! اب المصاحبة التي يعبر عنها بمع بل الملازمة، وعدم الإنفكاك كما أشار إليه المصنف بعطف الاستمساك بمعنى الإمساك عليه عطفاً تفسيريا وقد نقل أهل اللغة عن ابن فارس أنّ كل شيء لازم شيئا فقد استصحبه ومنه الاستصحاب عند أهل الأصول لعدم انفكاكه عما كان عليه، والذهاب بمعنى المضيّ، ويستعمل في الأعيان والمعاني كقوله تعالى {إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي} [الصافات: 99] وقوله تعالى {فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ} [هود: 74] وكون المبالغة هنا من إسناد الذهاب إلى الله بمعنى الأخذ والإمساك، وهو القويّ العزيز الذي لا رادّ لما أخذه ولا مرسل لما أمسكه ظاهر أمّ كونه من قبيل أقدمي حق لي
فقد عرفت حاله فتدبر. قوله: (ولذلك عدل عن الضوء إلخ) أي لقصد المبالغة عدل عن الضوء مع أنه مقتض الظاهر المطابق له لقوله أضاءت، وهذا بناء على أنّ الضوء أقوى من النور لقوله تعالى {جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاء وَالْقَمَرَ نُورًا} [يونس: 5] والإذهاب والإزالة نفي معنى ونفي الأشد لا يفيد نفي ما دونه بل ربما يشعر بثبوته، وأعترض عليه بأنّ إطلاق النور على الله تعالى دون الضوء ينافيه، وإن كان مجازا بمعنى الهادي، وبأنّ أهل اللغة سوّوا بينهما.
وفي الكشاف: والنار جوهر لطيف مضيء حار محرق، والنور ضوءها وفي الكشف إنّ
فيه توسعا لما سيذكره من أنه أدنى من الضوء لكنه شائع في عرف الاستعمال كما أخذ أصل التفاوت من استعمال البلغاء لا أصل الوضعمن نحو جعل الشمس ضياء إلخ وقولهم أضوأ من الشمس، وأنور من البدو ذكره في الأصاس، والتحقيق أنّ الضوء فرع النور يقع على الشعاع المنبسط لا أنهما واحد كما نقل عن ابن السكيت، ولهذا يقع على الذوات الجوهرية بخلاف الضوء والأبصار بالفعل بمدخلية الضوء فجاءت المبالغة من هذا الوجه، ولهذا كان جعل الشمس سراجا أبلغ من جعل القمر نوراً، فافهم، ولا تلتفت إلى ما نقل من إعتراض صاحب الفلك الدائر ولا إلى جوابه، فقد تبين لك القشر من لبابه، اهـ.
وقال قدس سرّه: إطلاق كل واحد من الضوء والنور على الآخر مشهور فيما بين الجمهور، فلا ينافي الفرق المأخوذ من استعمال البلغاء على ما ذكره ولا المأخوذ من اصطلاح الحكماء وهو أنّ الضوء ما يكون للشيء من ذاته، والنور ما يكون من غيره.
(أقول) ! اذكره قدّس سرّه يقتضي أنّ كلاَ منهما يطلق على ما يطلق عليه الآخر فهما كالمترادفين، والفرق إنما نشأ من الاستعمال أو الإصطلاح لا من أصل الوضعواللغة فكأنه لم يرتض ما في الكشف لأنّ محصله أنّ الضوء أقوى من النور في عرف الاستعمال، والتفاوت بينهما من عرف اللغة والاستعمال، وليس بوضمي فإنهما في أصل الوضع متغايران إذ النور أصل والضوء شعاعه وفرعه، ولذا كان النور يطلق على الذوات المجرّدة دون الضوء والضياء، وأنّ الإبصار لما كان بواسطة الشعاع المنتشر كان بهذا الاعتبار أقوى من النور في المعنى المقصود منه، وهو الإظهار لأن النور هو الظاهر بنفسه المظهر لغيره، وكأنه لم يرتضه لمخالفته لما تقرر في الحكمة والكلام على ما فصل في شرح المقاصد، إلا أنّ المحققين من أهل اللغة ارتضوه، وقالوا: إنه الموافق لاستعمال العرب العرباء فإنهم يضيفون الضياء للنور، وششدونه له فيقولون ضياء النوو، وأضاء النور كما قال ورقة بن نوفل:
ويظهر في البلاد ضياء نور
وقال العباس رضي الله عنه:
وأنت فماظهرت أشرقت الأرض وضاءت بنورك الأفق
وهو المذكور في الأساس، وقال العلامة السهيلي في الروض الأنف إنه " هو الحق عند
من يعرف اللغة والاستعمال فقال. بعدما أنثدناه من الشعر، وهذا يوضح لك معنى النور، ومعنى الضياء وأنّ الضياء هو المنتشر عن النور وأنّ النور هو الا صل للضوء ومنه مبدؤه وعنه يصدر وفي التنزيل فلما أضاءت ما حوله وفيه جعل الشمس ضياء والقمر نوراً لأنّ نور القمر لا ينتشر عنه من الضياء ما ينتشر من الشمس لا سيما في طرفي الشهر، وفي الصحيح " الصلاة نور والصبر ضياء " (1 (وذلك أنّ الصلاة هي عمود الإسلام، وهي ذكر وقرآن، وهي تنهى عن الفحشاء والمنكر فالصبر عن المنكرات، والصبر على الطاعات هو الضياء الصادر عن هذا النور(1/372)
الذي هو القرآن، وفي أسماء البارىء تعالى نور السموات والأرض ولا. - يجوز أن يكون الضياء من أسمائه سبحانه، اهـ وهذا كله يقتضي أنّ أصل مسمى النور، وحقيقته جسم نورانيّ فإنا إذا أوقدنا حطبا وفتيلا مثلا فالجسم المحترق جمر وفتيل، ويتصل به جور آخر جسمانيّ لطيف قابل لأشكال مختلفة مركب من هواء مزاجه أبخرة وأجزاء لطيفة، وهذا هو النور فإن أطلق على غيره فتجوّز وتسمح معروف في اللغة صار حقيقة عرفية فيه، ويتفرّع على هذا أشعة منبثة متباعدة عنه وهي كيفية، وعرض للهواء وذهب بعض الحكماء إلى أنه أجرام صغار منتشرة فإن عنى أنّ هذا مسمى النور الذي ذكر آنفا فليس بعيدا عن الصواب، والفرق حينئذ بين النور والنار مما يعرفه أولو الأبصار، ومن هنا عرفت وجه تسمية الرب الغفور بالنور فإن فهمت فهو {نُّورٌ عَلَى نُورٍ} [سورء النور: 35] فاحفظه فإنه يستحق أن يكتب بالتبر على خدود الحور. قوله: (فذكر الظلمة إلخ) يعني أنّ ذكر الظبمة المؤكدة لذهاب النور، يقتضي أيضاً أنّ هذه الجملة " مؤكدة لما قبلها كما هو مقتضى المقام إلأ أنه قيل عليه إنه حينئذ لا وجه للوصل فيحتاج دفعه إلى جعل الواو للحال بتقدير قد أي، وقد تركهم فالحال حال مؤكدة وفي بعض الحواشي إنّ المصنف رحمه الله يعني أنّ المراد إزالة النور بالكلية، فإنّ قوله: وتركهم معطوف على قوله {ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ} والعطف قد يكون للتفسير والتقرير، وفيه إشارة لدفع ما ذكر لكنه مخالف لما في كتب المعاني فإنّ المسطور فيها ما ذكره المعترض! فالذي ينبغي أن يقال إنّ هذا لكونه أوكد واو في بأداء المراد جعل بمنزلة شيء آخر مغاير لما قبله كما قرّره الفاضل المحقق في المطوّل في قوله تعالى {يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءكُمْ} [البقرة: 49] كما سيأتي بيانه، وأمّا ما أجاب به المعترض فليس بصحيح لفظا ومعنى، أمّا الأوّل فلما فيه من إيهام خلاف المراد لتبادر
العطف منه، وفي اقتران الحال المؤكدة بالواو نظر ظاهر لأنّ واو الح لله ل في الأصل عاطفة، وهذه من الم! ، ئل الغريبة وفي شرح الألفية لابن مالك وتبعه ابن هشام إذا كانت الجملة الاسمية حالا مؤكدة لزم الضمير وترك الواو نحو هو الحق لا شبهة فيه، وذلك الكتاب لا ريب فيه إلا أنهم خصوه بالاسمية، وأمّا الفعلية فلا أدري حالها، وأمّا الثاني فلأنّ هذه الجملة الماضوية إذا كانت حالاً، وقدر معها قد تقتضي ثبوت الظلمة قبل ذهاب النور ومعه وليس المعنى عليه كما لا يخفى، والإنطماس من ط مسه إذا محا. وأزاله وهو يتعذى ولا يتعدى. قوله: (التي هي عدم النور) تبع فيه الزمخشرفي، وترك قيد عما هو من شأنه، وهو المصرّج به في كتب الكلام لأنها عندهم عدم ملكة للضوء والنور وهما بمعنى عندهم وذهب بعضهم إلى أنها كيفية وجودية، وتصريح المصنف رحمه الله تعالى بالعدم رذ عليه فعلى الأوّل بينهما تقابل العدم، والملكة وعلى الثاني تقابل التضاد وتمسك القائلون بأنها وجودية بقوله تعالى {جَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} [الأنعام:! ا] فإنّ المجعول لا يكون إلا موجوداً وأجيب عنه في شرح المقاصد بالمنع فإنّ الجاعلى كما يجعل الوجود يجعل العدم الخاص كالحمى، والمنافي للمجعولية هو العدم الصرف وإذا قلنا بأنهما من قبيل العدم، والملكة فلا بد من القيد المذكور فإن لم نقل بذلك فتركه لازم فيكون عدماً مقيداً أو مطلقا، وكأنّ المصنف رحمه الله إنما ارتضاه ليصدق على الظلمة الأصلية السابقة على وجود العالم كما ورد في الآثار من نحو كان الناس في ظلمة فرس عليهم من نوره، وما قيل من أنّ زيادة هذا القيل دعوى غير مسموعة لا يعوّل عليه لما عرفت، وعلى هذا فهو كما أرتضاه بعضهم من تقابل الإيجاب والسلب ووجوه التقابل ثلاثة، وقوله وانطماسه بالكلية قيل عليه إنّ الظلمة لها مراتب كثيرة، وهذا أعلى مراتبها وهو المذكور في قوله تعالى {ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} [النور: 40] فلا ينبغي اعتبار هذا القيد في مطلق الظلمة، وليس بشيء لأنّ صرف الظلمة لا بد فيه من هذا، وهو المتبادر من إطلاقها، وقوله لا يتراءىء إلخ أي بحيث لا يرى شيء فيها، وإنما عبر بالترائي وأتى بقوله شبحان مثنى شبخ بشين معجمة وياء موحدة مفتوحتين تليهما حاء مهملة الشخص الذي يرى، ولا يدرك مشخصاته لبعد وغيره مبالغة في عدم الرؤية لأنّ المراد بهما الرائي والمرئيّ من الشخصين المتقابلين، ولذا عبر بالتفاعل إذ المراد أن يكون من شأنهما أن يرى أحدهما الآخر، وقيل إنه إشارة إلى أنّ الظلمة إذا كانت متراكمة فغاية ما يرى فيها مجرّد الشبح فإذا لم ير فيها الشبح كانت الظلمة في أعلى(1/373)
مراتبها. قوله: (ووصفها إلخ) ظاهره أنه جعل جملة لا يبصرون صفة لظلمات، والعائد مقدّر أي فيها؟ ولو جعل حالا من ضميرهم استغنى عن التقدير ولا يخفى حسنه هنا لأنّ شأن المستضيء في الظلمة زوال إبصاره بالكلية عقب الضوء بخلاف غير المستضيء، فإنه قد يرى في الظلمة والوصفية أظهر في إفادة هذا المعنى. قوله: (وترك في الأصل بمعنى طرح إلخ) يعني أنّ أصل معنى ترك المشهور طرح
الشيء، وإلقاؤه كما يقال ترك العصا من يده أي رماها أو تخليته، وإن لم يكن في يده سواء كان محسوساً أو غيره كما يقال ترك وطنه وترك دينه، وقال الراغب: ترك الشيء رفضه قصداً وأختيارا أو قهراً واضطراراً، وفي المصباح تركت المنزل تركاً رحلت عنه، وتركت الرجل فارقته، ثم استعير في المعاني فقيل ترك حقه إذا أسقطه، وهذا لا كلام فيه وأنما الكلام في كونه من النواسخ الناصبة للمبتدأ والخبر بمعنى صير فذكر ابن مالك في التسهيل أنه من معانيه الوضعية، وأنه حينئذ ينصب مفعولين وعلى الأوّل ينصب مفعولا واحداً، وظاهر قول المصنف رحمه الله تعالى تبعاً للزمخشري إنه ضمن معنى صيرانه استعمال طارىء عليه غير وضعيّ، ويجوز أ! يكون وضعياً لأنهم يطلقون التضمن على جزء المعنى الوضعي كما في عرف أهل الميزان فيقولون من تضمنت معنى الاسنفهام، وكلامهم هنا يوهم أنّ الآية مقصورة على المعنى الثاني دون الأوّل، وفي أمالي ابن الحاجب إنه من القبيل الأوّل وهم مفعوله {فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ} [البقرة: 17] حالان مترادفان من المفعول وقيل إنهم يجوّزونه أيضا وإنما تركوه لظهوره وعلى ما ذكرهم مفعوله الأوّل والثاني في ظلمات ولا يبصرون صفة أو حال من الضمير المستتر فيه، اً ومن هم أو خبر بعد خبر أو هي حال مؤكدة لا خبر وفي ظلمات حال لأنّ الأصل في الخبر أن لا يكون مؤكداً وإن جوّزه بعضهم فتأمّل. قوله: (فتركتة إلخ) هو من قصيدة عنترة المشهورة وهي من المعلقات السبع وأوّلها:
يا دارعبلة بالجواء تكلمي وعمي صباحا دارعبلة واسلمي
ومنها في صفة بطل نازله:
ف! شككت بالرمح الطويل ثيابه ليس الكريم على القنا بمحرّم
فتركته جزرالسباع ينشنه مابين قلة رأسه والمعصم
ومسك سابغة هتكت فروجها بالسيف عن حامي الحقيقة معلم
إلى آخر القصيدة، وهي طويلة فما ذكر صدر بيت منها عجزه ما ذكرناه وروي: يقضمن حسن بنانه والمعصم وضمير الغائب للبطل المدجج السابق ذكره في القصيدة، وتركته بالإسناد لضمير المتكلم وروي تركنه بالنون والضمير للنساء أو للقنا وجزر بفتح الجيم وسكون الزاي المعجمة، وبعدها راء مهملة كما ضبطه شرّاح المعلقات فعل بمعنى مفعول، ويقال لما تأكله السباع جزر السباع لأنها تجزره أي تذبحه بأنيابها، ويقال أجزرت فلاناً شاة إذا أعطيتها له كلها هذا ما يعتمد عايه هنا، وقيل جزير بضم فسكون أو بضمتين جمع جزرة، وهي شاة معدة للذبح والنوس التناول بسهولة والقضم بالقاف والضاد المعجمة اكل بمقدّم الأسنان، وعليه
الرواية هنا وليس كما قيل إنه بالفاء والمهملة بمعنى الكسر، والمعصم بكسر الميم موضع السوار من الساعد والبيت ليس بنص في العمل كالآية لاحتمال كون جزر السباع حالا أيضا، ومعناه تركته عرضة للسباع تأكله لإنهزام قومه ومنعهم عن دفنه أيضاً، وكونه معرفة إن سلم لا يسد باب الاحتمال. قوله: (والظلمة مأخو " إلخ) بيان لأصل المزيد والمجرّد المأخوذ منه، وظلم الثلاثي وإن أثبته أهل اللغة فعلا للظلمة أيضاً إلا أنهم أشاروا إلى أنّ أصل معناه يدور على المنع فلذا جعلوه مأخوذاً منه، وهذا ما عليه أهل اللغة في الاشتقاق وليس الزمخشري أبا عذرته وفي مثلثات ابن السيد الظلم بفتح الظاء شخص كل شيء يستبصر الناظريقال لقيته أوّل ذي ظلم أي أوّل شخص سد بصري، وزرته والليل ظلم أي مانع من الزيارة، وفي الأساس ما ظلمك أن تفعل كذا أي منعك، ومنه الظلمة لأنها تسد البصر وتمنعه من النفوذ فقيل هو بعيد جدا ووجه إستبعاده ما فيه من جعل المعنى الحقيقي المشهور مأخوذاً من معنى مجازيّ غير معروف، وقد عرفت(1/374)
ما يدفعه، وقيل سدّ البصر ومنع الرؤية بناء على ما يعتقده الجمهور فلا يتجه عليه أنّ العدم لا يكون مانعا فيقال إنه مبنيّ على رأي غير مقبول من أنه كيفية وجودية وعدم الشرط لا يكون مانعا عن وجود المشروط، فعده مانعاً مبنيّ على التوسع والتسامح. قوله: (وظلمائلهم طلمة الكفر إلخ) توجيه لجمع الظلمة بما يعلم منه معناها هذا بناء على أنّ الظلمة مجازية فإضافة ظلمة الكفر وما بعده من قبيل لجين الماء فالمراد بالنفاق أحواله اللازمة له غير الكفر الخفي، وقوله {وظلمة يوم القيامة يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ} [الحديد: 12] يوم الثاني بدل من الأوّل أو عطف بيان له وهو إقتباس إلا أنه قيل عليه إنّ ظاهر قوله تعالى {وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ} وجودها في الدنيا بل في ابتداء إذهاب الله نورهم، وقد يجاب عنه بأنه لما تقرّر في حقهم أن يكونوا يوم القيامة في ظلمة صار كأنه واقع بهم ولا يخفى بعده، والظاهر أنّ المراد بظلمة يوم القيامة ظلمة كانت لهم في الدنيا لكنها ظهرت في يوم القيامة كما أنّ نور المؤمنين كذلك كما يشير إليه قوله يوم ترى فهو كقوله {وَمَن كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى} [الإسراء: 72] والمراد إقرارهم اللساني، وأحكام الإسلام التي أظهروها في الدنيا إلا أنها لعدم مواطأتها للقلب تعد أوزاراً فهي ظلمات بعضها فوق بعض، وفي تفسير السمرقندي إشارة إليه فإن قلت قد مرّ أنّ الضمائر إمّا للمنافقين أو للمستوقدين فهذا على أيّ اأس جهين، قلت يحتمل أنه على التوزيع فالأوّل، والثالث على أنّ الضمير للمنافقين، والثاني على أنه للذي استوقد والوجوه بأسرها جارية على كل من الاحتمالين، أمّ على العود للمنافقين فظاهر، وأمّا على مقابله فلما قيل إنهم لما شبهوا بمن ترك
في ظلمة إنطفأ ضوحمه، وظلمة الليل والغمام المطبق لزم أنّ لهم ظلمات متعددة أو ظلمة شديدة بمنزلتها، وفيه نظر وقيل إنه على هذا بتقدير مضاف أي مثل ظلمات، والسرمد الدائم كالسرمدي والمتراكم الواقع بعضه فوق بعض، وقوله فكأنّ الفعل غير متعذ أي نزل منزلة اللازم لطرحه نسيا منسياً، ولعدم القصد إلى مفعول دون مفعول فيفيد العموم. قوله:! (مثل ضربه الله إلخ) في الكشاف على ما قرّره شراحه أربعة أوجه بناء على أنّ التشبيه مركب، أو مفرّق وعبارته المراد ما استضاؤوا به قليلا من الانتفاع بالكلمة المجراة على ألسنتهم ووراء إستضاءتهم بنور هذه البلمة ص ظلمة النفاق التي ترمي بهم إلى ظلمة سخط الله، وظلمة العقاب السرمدي، ويجوز أن يشبه بذهاب الله بنور المستوقد إطلاع الله على أسرارهم، وما افتضحوا به بين المؤمنين، واتسموا به من سمة النفاق، والأوجه أن يراد الطبع لقوله {صا صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ} وفي الآية تفسير آخر وهو أنهم لما وصفوا بأنهم {اشتروا الضلالة بالهدى} عقب ذلك جمهذا التمثيل ليمثل هداهم الذي باعوه! بالنار المضيئة ما حول المستوقد والضلالة التي اشتروها، وطيع بها على قلوبهم بذهاب الله بنورهم، وتركه إياهم في الظلمات، وفي المفتاح وجه تشبيه المنافقين بالذين شبهوا بهم في الآية هو رفع الطمع إلى شيء مطلوب بسبب مباشرة أسبابه القريبة مع تعقب الحرمان والخيبة لإنقلاب الأسباب وأنه أمر توهمي كما ترى منتزع من أمور جمة، وللشراح في كون السؤالي عن وجه الشبه أو عن المشبه كلام لا مساس له بكلام المصنف رحمه الله لعدم ذكره لمنشئه ومبناه، وتقرير ما في الكشاف إنه شبه إجراء كلمة الشهادة على ألسنتهم، والتحلي بحلية المؤمنين ونحوه مما يمنع من قتلهم، ويعود عليهم بالنفع الدنيوي من الأمن! والمغانم ونحوها وعدم إخلاصهم لما أظهروه بالنفاف الضار في الدارين بإيقاد نار مضيئة للإنتفاع بها هبت عليها، الرياح والأمطار وأطفأتها، وصيرت موقدها في ظلمة وحسرة، وهذا معنى قوله المراد صا إستضاؤوا به إلخ أو النور والاستضاءة ما أظيس وه من الإسلام بإجراء الكلمة أيضاً وظلمته إقتضاحهم وظهور نفاقهم، وهذا معنى قوله ويجوز إلخ أو النور الإيمان والإسلام المتحلين بحليتهما، وظلمته طبع الله- على قلوبهم الذي صيرهم صما عميا وهذا هو الوجه الثالث أو النور الهدى الذي تمكنوا منه، أو فطروا عليه والظلمة الضلالة المشتراة ويجري في هذا كله التفريق والتركيب كما سيصرّح به مع ترجيحه للتركيب فالوجوه أربعة مضروبة، في إثنين فهي ثمانية، وهذا هو الذي إرتضاه الشريف المرتضى حيث قال: إنه إشارة إلى تركيب وجه الشبه وأنه منتزع من أمور متعددة في المشبه، وأما إنتزاعه من متعدد في المشبه به فمما لا شبهة فيه، ولا يخلو كلامه من تلويح إلى(1/375)
جواز التفريق، وتلخيصه أنه اعتبر في المستوقد السعي في إيقاد النار والكدح في إحيائها وحصول طرف من الإضاءة المطلوبة وزوالها بإنطفاء النار بغتة، كما يدل عليه فلما، ولذا قال إستضاؤا به قليلا واعتبر في المنافق القصد إلى إدعاء الإيمان واجراء الكلمة على اللسان، وحصول منافع الأمن والأمان د رانتفاء ذلك دفعة بالموت، ووقوعهم في
ظلمات متراكمة فإن لوحظ في كل واحد من الجانبين هيئة وجدانية ملتئمة من تلك المعاتي المتعدّدة كان مركبا، ووجهه ما ذكر، وان قصد تشبيه كل واحد من تلك المعاني بما يناظره كان مفرقا لا يحتاج وجهه إلى بيان، فإن قيل ظلمة النفاق مجامعة للإستضاءة بنور هذه الكلمة لا متعقبة لها، قيل من إلا أنها تمخضت بعد الانتفاع فلذلك حكم بتعقبها منضمة إلى ظلمتين أخريين، والوجه الثاني لا يخالف الأول تركيباً وتفريقا إلا فيما بإزاء ذهاب الله بنور المستوقد فالتورط حيسئذ هو الوقوع في حيرة الفضوح والخيبة، وكذا الثالث إلا أنّ المشبه هنا لإذهابه هو خذلانهم في نفاقهم فطبع على قلوبهم فوقعوا في حيرة، وبعد عن نور الإيمان، وإنما كان أوجه لأنّ ما بده من خواص أهل الطبع، ومحصول الأوّل أنهم انتغعوا بهذه الكلمة مدة حياتهم القليلة، ثم قطعه الله بالموت فوقعوا في تلك الظلمات، ومحصول الثاني أنهم استضاؤا بها مدة، ثم اطلع الله على أسرارهم فوقعوا في ظلمات إنكشاف الأسرار والافتضاح والإتسام بسمة النفاق، ومحصول الثالث أنهم انتفعوا بها فخذلهم الله حتى صاروا مطبوعين واقعين في ظلمات متراكمة بعضها فوق بعض والثلاثة متعلقة بكونه تمثيلا لجميع أحوال المناقين السابقة، والوجه الرابع على تقدير تعلقه بقوله إشتروا الضلالة، وبينه على التفريق وكونه جواب لما ووجه الشبه على التفريق ظاهر وعلى الوجه المختار، وهو التركيب ما ذكر السكاكيّ كما سمعته آنفا وقول القطب الرازي: في شرحه هنا، وأمّا وجه التشبيه فهو اسم الإضاءة والظلمة أي كما أنّ في حال المستوقد ما يسمى إضاءة وظلمة كذلك في حال المنافقين ما يسمى إضاءة وظلمة ووقوع الاسم في أحدهما بانحقيقة وفي الآخر بالمجاز غير قادح في اشتراك الاسم. وأعلم أنّ لهذا التشبيه إجمالا وتفصيلاً، والإجمال هو تشبيه الحال بالحال مطلقا، وهو تشبيه مفرد بمفرد، وهو المعتبر هنا وامّا تفصيله فهو تشبيه أحوالهم بأحواله، وهو إمّا مفرق أو مركب، وقد قيل عليه إنه لا معنى للتشبيه المركب إلأ أن تنزع كيفية من أمور متعددة فتشبه بكيفية أخرى كذلك فيقع في كل من الطرفين عدّة أمور ربما يكون التشبيه فيما بينها ظاهرا لكن لا يلتفت إليه بل إلى الهيثة الحاصلة من المجموع كما في قوله:
وكأنّ أجرام النجوم لوامعا درر نثرن على بساط أزرق
ويكون التشبيه مركبا، وأمّا حدث كون وجه الشبه هو اسم الإضاءة والظلمة على الوجه
الذي ذكر فلا أزيد فيه على الحكاية لعلماء لبيان، وهم لا يزيدون على التعجب والسكوت. أقول: التشبيه إذا ذكر طرفاه بمفردين يدلّ، كل منهما على أمور متعدّدة كالقصة والحال
ولفظ المثل هنا إن نظر إلى ظاهره فهو تشبيه مفرد بمفرد كقولنا الدنيا خيال باطل، وان نظر إلى ما اشتملا عليه كان تشبيه مركب بمركب بحسب الظاهر ويجوز أن يعتبر فيه التفريق على اللف والنشر الإجمالي فإن رجح هذا لم يمنع الأوّل، ولا يخطأ من ذهب إليه، فإن قصد الفاضل ردّ قوله إنه تشبيه مفرد بمفرد لم يسمع منه، وان ذهب الشرّاج إلى خلافه وأمّا ما تعجب منه
واستهزأ به فقد يقال إنّ مراده أنّ قوا، ذهب الله بنورهم إذا كان بخواب سؤال مقدر عن وجه الشبه بأنه الإضاءة والظلم فذلك غير مشترك بين الطرفين هنا لأنّ الحقيقيين يختصان بالمستوقد، والمجازير بالمنافقين، وهذا ما ذكره أهل المعاني كما مرّ من أنهم قد يتسامحون في وجه الشبه كقولهم في الكلام الفصيح هو كالعسل في الحلاوة، مع أنّ الحلاوة غير مشتركة بينهما والمشترك ميل الطباع فعبر عنه بالحلاوة لإطلاقها على ذلك إطلاقا شائعاً، وتسمحوا فيه لمجرّد الاشتراك في الاسم وإن كان في أحدهما حقيقة وفي الآخر مجازاً، ومثل الظلمة والنور هنا إذ! كانا وجه الشبه وإذا ظهر المراد سقط الإيراد، واندفع ما قيل عليه من أنه سهو إذ لم يذهب أحد إلى جواز مثل قولك الباصرة كالذهب(1/376)
لإشتراكهما في إطلاق اسم العين عليهما، ولقد أطلنا الكلام وسحبنا ذيل البيان إثر هؤلاء الأعلام، لأنه من مزالّ الأقدام. قوله: (لمن آ-ماه ضرباً من الهدى إلخ الما رأى المصنف رحمه الله ما في الكشاف يؤل إلى وجه واحد لتقارب ما فسر به النور والظلمات لف النشر، ولئم الشعث فجعلها وجهاً واحداً؟ وزاد وجهاً آخر ذكره بعضهم وتبع السكاكيّ في جعل التمثيل مركباً من غير التفات لغيره أصلا على دأبه في التحقيق والتنقيح والإيجاز، والمعنى أنه تمثيل أستعير فيه النور للهدى والظلمات لإضاعته، وما يتبع ذلك من مباشرة الأسباب التي خابت فأوقعتهم في تيه الحيرة والحسرة، فضمير مثلهم لمن في قوله {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ} [البقرة: 8] إلخ أو للذين اشتروا الضلالة، والموصول فيهما عامّ لكل من أظهر الإيمان، وأضاعه بإضمار خلافه أو بعدم الدوام عليه، ولكل من استبدل هديّ مّا بضلال مّا، وان لم يكن كفر لأنه وان نزل في شأن المنافقين لا ينافيه لأفي العبرة بعموم اللفمل لا بخصوص السبب، فيعمّ غيرهم نظراً للظاهر، وهذا هو الوجه الأولّ فيئ كلام المصنف رحمه الله، أو يقالى إنه مختعر بهم لما في الموصول من العهد تقاضي ما قبله وما بعده له، وهذا هو الوجه الثاني، إذا عرفت هذا فقوله ضرباً من الهدى مفعول آتاه بمعنى أعطاه أي نوعا منه، وفيه إيهام حسن وتجنيس، والمراد به مطلق الهداية الشاملة لإجراء لكلمة والإيمان الظاهر أو الجبلي، أو الذي تمكنوا منه، وهذا من الإضاءة ولذا نكر ضربا إشارة إلى تنكير نارا في الآية، والإمام فأضاعه أي بالنفاق أو الكفر وما يضاهيه وهذا من ذهاب نورهم وتجارتهم الخاسرة، وقوله ولم بتوصل به من الظلمات المتراكمة التي مرّ تفسيرها، ومراده بالآية الأولى قوله {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرُوُاْ الضَّلاَلَةَ} إلخ أو قوله ومن الناس إلخ على ما بيناه لك آنفاً، وقد عرفت أن الزمخشرفي جوّز إرجاعه إلى جميع ما قبله من حال المنافقين، وافراد الآية لا يأباه والمتبادر من الأولى تقدمها غير ملاصقة، وقوله حين خلوا إلى شياطينهم مفاد عليه فهو الحق، وان خالفوه نعم دخول من صح له الأحوال في الثاني أظهر، وهو الذي
دعاهم إلى تعيينه مع قوله الهدى فينبغي أن يكون داخلاَ فيه لأنّ دخوله تحت الأوّل محتاج إلى التكلف فالمعنى أنّ هؤلاء ممن اشترى الضلالة بالهدى على أنه من حمل العامّ على الخاص من غير تخصيص، كما عرفته فالتمثيل عامّ شامل للمنافقين، وغيرهم ولا يمنعه ضمير مثلهم الراجع إليهم كما قيل لما أسلفناه، وجعله ضربا من الهدى باعتبار الظاهر أو الابتداء كما في حال المرتدين فلا يتوهم أنّ إقترانه بالنفاق، ونية الخداع وتحصيل أغراضهم الفاسدة تصيره فاسدا ابتداء فلا يحصل لهم حتى يضيع، كما قيل وقوله تقريرا مفعول له، وتعليل لقوله ضربه إلخ وتقريره وتوضيحه يقتضي عدم عطفه لشدة إتصاله فإن كان تقريراً لقوله ومن الناس إلخ فلأنه لما دلّ على أنهم ادّعوا الإيمان وأبطله الله تعالى بقوله {وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ} كانوا كمن أوقد نارا فأنطفأت في الحال، وكذا إن كان لقوله (اشتروا) إلخ فإنهم لما اختاروا العمى على الهدى، وبقوا عدم الاهتداء كان هذا مثلهم فصوّر المعقول بصورة المحسوس توضيحاً وتقريراً له وتصويرا له بصورة المشاهد كما قال في الكشاف لما جاء بحقيقة صفتهم عقبها بضرب المثل زيادة في الكشف وتتميماً للبيان، وما قيل هنا من إنّ ضمير مثلهم راجع إلى المنافقين قطعاً فلا يتصوّر العموم، وشموله لغيرهم إلا بجعله مستفادا من دلالة النص كدلالة لا تقل لهما أف على النهي عن الإيذاء، أو من إشارته ليس بشيء فإنّ المراد بالمثل الذي بمعنى الحال إضاعة الهدى، وعدم التوصل به إلى الكمال، واستبطان الكفر إخفاؤه مع المؤمنين، وقوله ومن آثر الضلالة إلخ الظاهر أنهم المنافقون لا الكفار الذين تمحض كفرهم لعطفه بالواو. قوله: (ومن صح له أحوال الإرادة إلخ) هذا من بعض البطون القرآنية على نهج حكماء الإسلام الإشراقيين، وأرباب السلوك من المتصوّفة، والأحوال في إصطلاحهم هي ميراث العمل من المواهب الفائضة من الله تعالى قالوا وسميت أحوالا لتحوّل العبد بها من دركات البعد إلى درجات القرب، وقريب منه ما قيل الحال ما يرد على القلب بمحض الموهبة من غير تعمل واجتلاب كحزن وخوف وقبض، وبسط فإذا دام سمي مقاما، والإرادة حال المريد، وهو السالك في لسانهم فإرادته ما يلقى في قلبه من الدواعي الجاذبة له إلى الإجابة لمنادي الحق، فإذا حصل له هذا وهو منزل من منازل السير(1/377)
إلى الله تعالى إذا نزله أشرقت عليه أنواره فإذا ادّعى المحبة انطفأت أنواره، ووقع في تيه الحيرة، والمحبة عندهم هي الابتهاج بحصول كمال أو تخيل، وصول كمال مظنون، أو محقق والابتهاج عجب يضله عن طريق الهدى فيدخل فيمن اشترى الضلالة بالهدى لإدّعائه الوصول لمقام أعلى من مقامه، وهو مضاه للنفاق بإظهاره ما ليس عنده وهذا مأخوذ من تفسير الراغب، وهو محكيّ عن أبي الحسن الورّاق. قوله: (أو مثل لإيمانهم إلخ) هذا هو الوجه الثاني، وهو محصل الوجوه المذكورة في الكشاف كما عرفته، وهو
معطوف على قوله مثل ضربه الله إلخ وهو على هدّا مخصوص بالمنافقين لما مرّ وهذا الوجه أخرجه ابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنهما، وهو التفسير المأثور والراجح دراية ورواية فلذا اقتصر عليه في الكشاف والاختصاص المذكور هو الفارق بين هذا الوجه، وما قبله لا أنّ التشبيه فيما قبله مركب وفي هذا مفرق كما قيل لأنه مركب عنده كما مرّ وان كان هذا محتملاَ، واعادة اللام في قوله: ولذهاب توهمه كأنه الدعي لهم على ما قالوه فعلى هذا مثل إيمان المنافقين الذي أظهروه لإجتناء ثمراته المذكورة بنار ساطعة الأنوار، وذهاب آثاره بإهلاكهم وتفضيحهم بإطفاء النار، وفقد تلك الأهوار وحقن الدماء صيانتها، ويقابله إهدارها واباحتها من حقنت الماء في السقاء إذا جمعته فكأنك جمعت الدم في صاحبه إذ لم ترقه فهو مجاز غلب استعماله حتى صار حقيقة فيه، ومنه الحقنة في الدواء، فإن قيل المنافقون من أهل المدينة ودماؤهم كانت محقونة وأموالهم وأولادهم سالمين لكونهم من أهل الذمة، قيل: المراد الحقن والسلامة مآلا أيضاً كما إذا ذهبوا إلى دار لحرب فاستولى عليها المسلمون، وظاهره أنه لم يحقن دمهم حالاً، ولا في المدينة وليس كذلك لأنهم في حال إظهارهم للإسلام في أوطانهم كفرة باطنا فلولا ما ظهر من إسلامهم استحقوا القتلى بالمدينة لأنه ردّة كما لا يخفى فلا حاجة لما ذكر من التكفف، ولا إلى غيره كأن يقال إنّ مجموع ما ذكر حصل لهم بذلك فلا ينافي كون بعضه قيله لأنّ ما ذكرناه هو المراد، وقوله بالنار متعلق بقوله مثل، ولذهاب معطوف على قوله لإيمانهم، وبإهلاكهم أي بسببه متعلق بذهاب عطف على قوله بالنار بالواو العاطفة لشيئين، أو هو متعلق بمثل مقدر هذا تحقيق المقام بما يضمحل معه كثير من الأوهام، وأمّا ما قيل من أنّ المصنف رحمه الله أدرج في هذا الوجه وجهين مما في الكشاف.
حاصل الأوّل أنهم إنتفعوا بهذه الكلمة مدة حياتهم القليلة، ثم قطعهم الله تعالى بالموت فوقعوا في الظلمات.
وحاصل الثاني أنهم إستضاؤا بها مدة، ثم فشت أسرارهم فوقعوا في ظلمات إنكشاف الأسرار والإفتضاح والإتسام بسمة النفاق، وإنما جعله كذلك قصدا للمبالغة، ويكون المراد بالمثل حينئل! بيان أنهم قممدوا بظاهر الإيمان المنفعة الدنيوية فترتب عليها المضار الدنيوية والأخروية جميعاً الأولى بإفشاء سرّهم المترتب عليه مضرّة إتسامهم بالنفاق، وحرمانهم مما قصدوه وتعيير المؤمنين، والثانية بإهلاكهم حيث ترتب عليه مضرّة فقدان نور يوم يسعى نور المؤمنين بين أيديهم، وابقائهم في العقاب السرمد والدرك الأسفل، والمفهوم من الكشاف ترتب إحدى المضرّتين فتدبر فكم بينهما فلا تتوهم أنه أولى فتخبط خبط عشواء، فهو ردّ على من قال: على المصنف إنّ الأولى أن يجعل ما جعله وجها واحداً وجهين كما في الكشاف الأوّل أنهم انتفعوا بهذه الكلمة مدة يسيرة، ثم قطعهم الله تعالى بالموت فوقعوا في ظلمات البعد عن رحمة الله وسخطه وعقابه، والثاني أنهم إستضاؤا بي مدّة، ثم إطلع تعالى على
إسرارهم فوقعوا في ظلمات الإنكشاف وغيره، وهذا كله بمراحل عما عناه المصنف فإنه شامل للوجوه كلها ولا فرق بينهما إلا بالإيجاز والإطناب، وترك القشر للب اللباب، ثم إنه في الكشاف عقب الوجوه بقوله وتنكير النار للتعظيم، وتركه المصنف رحمه الله تعالى رأساً فكأ: له لم يرتض به لما قيل عليه من إنه ليس في محله وكان ينبغي أن يذكر حيث فسر إستوقد ناراً، وأيضا فالظاهر أنه للتحقير وان ردّ بأنّ المشبه به الهدى الذي باعوه، وهو أمر خطير يناسب التشبيه بنار عظيمة، ولذا أخره ليذكره مع الوجه الأخير، وقد يقال إضاءة ما حولها وحصول الظلمات بفقدها يدلّ على عظمها، فتأمّل. قوله: (لما سذّوا مسامعهم إلخ) السد بالمهملتين ضد الفتح، والمسامع جمع مسمع بكسر الميم كمنبر وأمّ مسمع(1/378)
بالفتح فموضع السمع كما في قوله: فأنت بمرأى من سعاد ومسمع. والمسمع هنا كما قال الراغب: خرق الأذن وهو الأنسب بالسد، وفي القاموس والمسمع كمنبر الأذن السامعة، وما قيل المسامع هنا محتمل لأن يكون جمع مسمع بالفتح وهو موضع السمع بمعنى القوّة السامعة عدول عن المعروف في كلام العرب وكتب اللغة من غير داع مع أنه غير ملائم لكلام المصنف رحمه الله تعالى، والإصاخة بصاد مهملة، وألف يليها خاء معجمة الإستماع يقال صاخ له وأصاخ إذا استمع وهو متعدّ باللام ولمصنف عداه بإلى لما فيه من معنى الميل وقوله ينطقوا به ألسنتهم مضارع من الإنطاق كما في قوله {أَنطَقَنَا اللَّهُ} [فصلت: 21] أي جعلنا ناطقين والنطق يضاف اللسان ولصاحبه يقال نطق زيد أو لسانه وكلاهما حقيقة لغة، والألسنة كأرغفة جمع لسان وهو الجارحة المعروفة، ويتبصروا من التفقل معطوف على ينطقوا. قوله: (جعلوا كأنما ايفت إلخ) جواب لما وهذا هو الذي في النسخ الصحيحة باتصال ما الكافة بكأنّ المشبهة، وهو الموافق لما في الكشاف، وفي بعضها كأنها بضمير المؤنث والأولى أكسح رواية ودراية، وهذه تحريف من الناسخ والضمير للقصة أو المشاعر، وإنما قال كأنّ لأنها ليست مؤفة لكنها لما لم تستعمل فيما خلقت له جعلت بمنزلة المؤف، والمشاعر جمع مشعر بفتح الميم وكسرها موضع الشعور أو اكته والمراد بها الحواس الظاهرة وايفت مجهول آف كقال وقيل: إذا أصابته آفة وفي القاموس الآفة العاهة أو عرض مفسد لما أصابه وأيف الزرع كقيل إصابته فهو مؤف، ومئيف على خلاف القياس لأنّ فعله لازم، وفي أفعال السرقسطيّ آف القوم أو فأدخلت عليهم مشقة، ويقال في لغة ايفوا وقال الكسائيّ: طعام مؤف أثابته آفة وأنكر لو حاتم مؤفا اهـ. وفيه كلام في كتابنا شرح الدرّة. قوله: (وانتفت قواهم) القوى بالضم جمع قوّقة كغرفة وغرف، وهي في الأصل ضد الضعف وهي معنى تصدر به الأفعال الشاقة عن الحيوان، وهذا المعنى له مبدأ ولازم فمبدؤه القدرة وهي كونه بحيث إن شاء فعل وان شاء ترك واللازم الإمكان، ثم نقلت في
اصطلاح الحكماء والمتكلمين إلى كيفية راسخة هي مبدأ التغير من آخر في آخر وقسموها إلى أنواع معروفة عندهم، ومنها القوى النفسانية وهي محرّكة ومدركة والمدركة مدركة في الظاهر وهي مبدأ الحواس الخمس الظاهرة، ومدركة في الباطن كالحس المشترك وهي أيضاً خمس ويدخل في المحرّكة القوّة الناطقة التي هي مبدأ التكلم، ولهذا زاد المصنف ما ذكر على ما في الكشاف لأنه قال: كأنما ايفت مشاعرهم وانتقضت بناها التي بنيت عليها لا لإحساس والإدراك لأنّ ما ذكره المصنف رحمه الله شامل للقوّة الناطقة بخلاف ما في الكشاف لخروجه عن الحواس والمشاعر ولذا ذهب شرّاحه إلى أنه عدّ اكة النطق من الحواس، وأدخلها فيها تغليباً، ولك أن تقول إنّ البنا بضم الباء وكسرها وهو ما بني عليه الإحساس، والإدراك هي القوى لأنها أساس للإدراك وغيره فيكون موافقا لكلام المصنف رحمه الله، وإن كان ما ذكره المصنف أظهر فهو لم يقصد الردّ عليه وإنما أوضحه وف! ت! ره وهذا هو الحق وإن أطبق شرّاح الكشاف وأرباب الحواشي على خلافه، فإن قلت كيف يقال إنهم أبوا أن ينطقوا بالحق، وقد كانوا ينطقون به، وإن لم يواطىء قلوبهم كما نطق به قوله تعالى {وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا} إلخ ولذا عدوا منافقين، قلت قد قيل: النطق لا ينافي الإباء لأنه يجامع ارتكابه اضطراراً فيصح سلب الإنطاق مع النطق، والأحسن أن يجعل قوله بكم بيانا لأنّ تكلمهم بالحق في حكم العدم فهم ملحقون بمن لا يقدر على النطق رأسا، والحق أنّ الحق شامل لكل حق وهم ساكتون عن أكثره فلا حاجة لشيء مما تكلفوه.
وفي إطلاق المشاعر، والقوى تنبيه على أنّ ما ذكر من الصمم والبكم، والعمى على سبيل الاختصار في البيان والاعتماد على تنبه السامع والمراد أنه كناية عن اختلال جميع المشاعر والقوى، وتقديم الصمم لأنه إذا كان خلقياً يستلزم البكم وأخر العمى لأنه كما قيل هنا شامل لعمى القلب الحاصل من طرق المبصرات والحواس الظاهرة، وهو بهذا المعنى متأخر لأنه معقول صرف ولو توسط حل بين العصا ولحائها ولو قدم لأوهم تعلقه بلا يبصرون، أو الترتيب على وفق حال الممثل له لأنه يسصع أوّلاً دعوة الحق، ثم يجيب ويعترف، ثم يتأمّل ذلك ويتبصر. قوله: (كقوله صم إلخ) وهو من قصيدة لقعنب ابن أمّ صاحب أحد بني عبد(1/379)
القه بن عطفان وهو من شعراء الحماسة وأوّلها:
ما بال قوم صديق ثمّ ليس لهم عهد وليس بهم دين إذا ائتمنوا
شبه العصافير أحلاماً ومقدرة لو يوزنون بزق الريش ما وزنوا
ومنها:
إن يسمعوا ريبة طاروا بها فرحاً مني وما سمعوا من صالح دفنوا
صمّ إذا سمعوا خيراً ذكرت به وإن ذكرت بشرّ عندهم أذنوا
جهلاً عليها وجبنا عن عدوّهم لبئست الخلتان الجهل والجبن
وروي يسوء بدل قوله بشر وهو الذي اختاره المصنف رحمه الله أي هم صمّ، على أنه
خبر مبتدأ محذوف كأنه قال: هم صم أي يتصامون عما نسب إليه من الخصال الصالحة، ويقال للمعرض عن الشيء هم أصمّ عنه وعلى ذلك قوله: أصم عما ساءه سميع، فكأنه قال، ومتى ذكرت بشرّ أدركوه وعلموه، ويقال أذن لكذا يأذن كعلم يعلم قال: وسماع يأذن الشيخ له. ويجوز أن يكون اشتقاقه من الأذن الحاسة كما قاله الإمام المرزوقي في شرح الحماسة، وقد فسر أذن بعلم وأدرك كما سمعته، والشراح فسروه هنا باستمعوا وأصغوا قال الراغب: أذن إستمع نحو {؟ ؤآ نث يرئها وخقث} [الإد فاق: 2] ويستعمل في العلم الذي يتوصل إليه بالسماع. قوله: (أصتم عن الشيء إلخ) أصم صفة مشبهة، وأسمع أفضل تفضيل، ويعدى بعن لما فيه بطريق التضمين من معنى الإعراض أو الذهول، وهو كقوله: ولي أذن عن الفحشاء صماء. وتقديره أنا أصم، أو هو أصم إن كان في وصف نفسه أو في مدح غيره، وفي البيتين شاهد على استعمال الصمم في عدم الإصاخة والإستماع كما في الآية الكريمة، والإطلاق ضد التقييد، وهو في الاصطلاح استعمال اللفظ في معناه حقيقة كان أو مجازا، والضمير المؤنث لقوله صمّ بكم عمي باعتبار أنها ألفاظ والطريقة تأنيث الطريق المعروف والمراد بها الأسلوب والنهج والتمثيل مراد به التشبيه هنا، وله معان أخر. قوله: (إذ من شرطها إلخ الما ذكر إنّ الصمم أخوبه لم يرد بها الحقيقة لسلامة مشاعرهم وقواهم وأنه على طريقة التمثيل أي التشبيه لا الاستعارة بين مانعها، وهو فقد شرطها من طيّ ذكر المستعار له أي المشبه بحيث يمكن حمله على المستعار منه المشبه به لولا قيام القرينة، وفي الكشاف إنه مختلف فيه والمحققون على تسميته تشبيها بليغا لا استعارة لأنّ المستعار له مذكور، وهم المنافقون والاستعارة إنما تطلق حيث يطوي ذكر المستعار له وبجعل الكلام خلواً عنه صالحا لأن يراد به المنقول عنه، والمنقول إليه(1/380)
لولا دلالة الحال أو فحوى الكلام، اهـ. والحاصل أنه إذا ذكر الطرفان حقيقة أو حكما ففيه ثلاثة مذاهب لأهل البيان، والمحققون على أنه تشبيه بليغ، وذهب بعضهم إلى أنه استعارة، وآخرون إلى جواز الأمرين كعبد اللطيف البغدادي في قوانين البلاغة، وهذا أمر مفروغ منه مقرّر قديما لا فائدة في إعادته، وتسميته تشبيهاً ظاهرة، ووصفه بالبلاغة لما فيه من حمل المشبه به على المشبه حتى كأنه هو بعينه في أكثر، وعدل المصنف رحمه الله عما في الكشاف من أنه لولا القرينة الحالية أو المقالية صلح لإرادة المنقول عنه، والمنقول إليه إلى أنه لولا القرينة أمكن الحمل على المستعار منه فقط إشارة إلى ما أورده الشراح عليه من أنه إذا
عدمت القرينة لا يصلح اللفظ للمعنى المجازي، وأجيب عنه بأنه صالح له في نفسه مع قطع النظر عن عدمها، وردّ بأنّ صلاحية المعنيين ثابتة له في نفسه أيضا مع وجودها إذا قطع النظر عنه فلا معنى لإشتراط عدمها في هذه الصلاحية، ثم إنه قدس سرّه قال: بعدما ذكر الظاهر أن خلو الكلام المشتمل على ذكر اللفظ المستعار عن ذكر المستعاو له مصحح لصلوج المستعار لأنه يراد به معناه المجازي إذ لو اشتمل على ذكره أيضاً تعين المعنى الحقيقي فلا يكون صالحا للمعنى المجازي، وأنّ عدم قرينة المجاز مصحح لأن يراد به معناه الأصلي، إذ مع وجودها يتعين المعنى المجازي فلا يكون صالحا للمعنى الحقيقيّ فالخلو المذكور شرط لصلوج إرادة المعنى المنقول إليه، وعدم تلك القرينة شرط لصلوح إرادة المعنى المنقول عنه فالمجموع متعلق بصلاحية المعنيين على التوزيع، ولو قدم ذكر المنقول إليه كان أولى، وقد يقال كون الكلام مع عدم القرينة صالحا لإرادة المعنى المجازي مبني على ادعاء دخول المشبه في جنس المشبه به حتى كأنه من أفراده فيصلح له لفظه كما يصلح لإفراده الحقيقية واشتراط نفي القرينة إنما هو لصلوج إرادة المعنى الحقيقي، ويرد عليه أنه يلزم أن يكون للخلو عن ذكر المستعار له مدخل في الصلاحية المذكورة إلا أن يجعل عبارة عن ذلك الإدعاء، ولإخفاء في بعده عن الإفهام جدا، ثم إن الكلام وان كان ظاهرا في الاستعارة المصرحة إلا أنهم أدخلوا فيه المكنية بناء على مذهب الزمخشري فيها، والمصنف رحمه الله تبعه كما سيأتي تحقيقه في تفسير قوله تعالى {يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ} [البقرة 27] فلا حاجة إلى السؤال والجواب المذكورين في شروح الكشاف واعترض عليه بأنه ليس في عبارة المصنف ما يدل على مدخلية الخلو في الصلاحية بل يدل على اشتراط تلك الصلاحية مع الخلو في حقيقة الاستعارة، ثم إنه لا يخفى أن الاية من قبيل قولنا الحال ناطقة، وهذا لا يحتمل التشبيه بل هو استعارة تبعية، لا يقال ي! عل الصم البكم العمي من قبيل الأسماء فهو من التشبيه لأنا نقول يبقى الكلام في مثل جعلناهم حصيدا خامدين حيث صرح المصنف فيه بالتشبيه، ويمكن أن يقال إنه بتقدير لفظ مثل أي مثل صم فيصير تشبيها وإن لم يقدر فهو استعارة فالكلام يحتمل كليهما فلا يتم طي ذكر المشبه بالكلية في الاستعارة التبعية، ولذا لم يشترط صاحب المفتاح في الاستعارة طي ذكر المشبه على الاطلاق أقول: هذا زبدة ما هنا من القيل والقال، والذي يميط عن وجهه نقاب الاشكال أن ما ذكره الفاضل المحقق تبعا للطيبي ومن مشى على أثره من الشراح كلام لا غبار عليه، وما أورده عليه من أنه يلزم أن لا يكون للخلو عن ذكر المستعار له مدخل في الصلاحية المذكورة غير مسلم فإنه إذا ادعى أن للأسد فردين متعارفا، وهو معروف وغير متعارف وهو الشجاع كان صالحا لكل منهما في نفسه فإذا لم يخل عنه الكلام، فقد صرح بأحد فرديه فيه فيدل على أنه المراد منه إذا حمل عليه مثلاً لئلا يحمل فرد على غيره فإذا خلا عته كان صالحا لكلى منهما، فالخلو شرط لصحة الادعاء والشمول لهما لا أنه عبارة عنه كما قاله واستبعده ولا
حاجة إلى ما دفع به مما مر كما لا يخفي، ثم إن ما إعترض به في نحو الحال ناطقة من ذكر الطبرفين في الاستعارة التبعية، وأنه لا يمتنع في مطلق الاستعارة مناف لما صرحوا به كيف لا وقد عرف السكاكي الاستعارة بأن يذكر أحد طرفي " التشبيه، ويراد به الآخر كما في التلخيص، وهو مبتي على أن الحال مشبهة بالمتكلم، والناطق وليس كذلك في التحقيق وان أوهمه كلامهم، ولو كان كذلك لم تكن تبعية فإنها شبه فيها الدلالة بالنطق واستعير الثاني للأول، ثم سرى منه لما اشتق منه فكيف يرد ما ذكره لمن تدبر حق التدبر، وسيأتي عن قريب تحقيقه قوله: (كقول رّهير) هو زهير بن أبي سلمى بضم السين الشاعر المشهور وهذا الييت من قصيدته المشهورة،! وهي إحدى المعلقات السبعة التي أولها:
أمن أم أوفى دمنة لم تكلم بحو مانة الدراج فالمتثلم
ومنها:
وقال سأقضي حاجتي ثم أتقي عدوي بألف من ورائي ملجم
فشدولم ينظربيوتاكثيرة لدى حيث ألقت رحلها أم قشعم
لدى أسد شاكي السلاح مقذف له لبد أظفاره لم تقلم
وفي رواية الأصمعي مقاذف بدل مقذف، وقال شبه الجيش بالأسد أي له أقدام كأقدام
اسد وحدة كحدته وأظفاره لم تقلم أي حديد شكس، ويقال للأسد إذا أسن هو ذو لبد أي على ظهره شعر قد تلبد، وشاكي السلاح حديد السلاج أصء وقال ابن السيد في المقتضب شاكي السلاح معناه حاد السلاح شبه في حدته بالشوك، ويقال شاك! بكسر الكاف، وضمها فمن كسرها جعله منقوصا مثل قاض، وفيه قولان فقيل أصله شائك فقلب كهار واشتقاقه من الشوكة، وقيل أصله شاكك من الشكة، وهي السلاح فاجتمع مثلان فأبدلوا الثانية ياء تخفيفا، وأعلوه اعلال قاض! ، ومن ضمه ففيه قولان أحدهما أن أصله شوك فانقلبت واوه ألفاً وقيل هو محذوف من شائك كما قالوا جرف هار بضم الراء، وفيه لغى ثالثة شاك باتشديد الكاف من(1/381)
الشكة بكسر الشين وتشديد الكاف وهي السلاح وآلات الحرب، اهـ. وفي الكشف أنه نظير ما يدلّ عليه فحوى الكلام لأنّ شاكي السلاح مما يدل على ذلك لا من دلالة الحال كما قيل، والظاهر أنّ أسداً فيه مستعار للرّجل الشجاع، فهو مثال للاستعارة المنفية في قول الشيخين لا استعارة، وليس نظيراً لما نحن فيه، وقول الأصمعي إنه مستعار للجيش لذكره في البيت الذي قبله فالأسد فيه بمعنى الأسود هنا خلاف الظاهر، وقال ابن الصائغ المراد به هرم ممدوج زهير، وجعله في الكشف شاكي السلاح قرينة لا ينافي ما في كتب المعاني من أنه تجريد لأن التجريد قد يكون قرينة، وقال بعض المتأخرين: ما كان أشذ إختصاصاً بالمشبه فهو قرينة، وما زاد عليها يكون تجريداً، وقيل ما يسبق إلى الذهن قرينة وغيره تجريد، وقد يجعل الكل قرينة إهتماماً، ومقذف اسم مفعول من التقذيف مبالغة في القطف، وهو الطرج والرمي ومقاذف اسم
مفعول من فاعلته على الروايتين السمين الكثير اللحم. من قولهم ناقة مقذوفة باللحم، ومقذفة كأنها رميت به، وقيل المراد أنه يرمى به في الوقائع والحروب لشجاعته، والأوّل أشهر عند أهل اللغة وعلى هذا هو تجريد وعلى الأوّل ترشيح، وقيل إنه ليس بتجريد ولا ترشيح، ولبد كعنب بلام وباء موحدة، ودال مهملة جمع لبدة كسدرة، وهي الشعر المتراكم على رقبة الأسد، وقيل على كتفيه، ويقال هو أمنع من لبدة الأسد للقوفي الممتنع، وأظفار جمع ظفر بضمتين معروف والتقليم قطع الأطراف لا قصها ومنه القلم لقطع طرفه أو لأنه معدّ للقطع، ولم تقلم ليس لنفي المبالغة بل للمبالغة في النفي كقوله تعالى {وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ} وقيل إنّ الأسد موصوف بكمال الأظفار فإذا أتصف بالقلم اتصف بكمال فنفي التقليم نفي للقلم أصلاً، كما قيل في قوله تعالى {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ} [فصلت: 46، وتقليم الأظفار كناية عن الضعف، وعدمه كناية عن القوّة، ومن الناس من جعله ترشيحاً للاستعارة قيل: وفيه إنّ التقليم لا يختص بالأسد المشبه به حتى يكون ترشيحا، وقيل إنه تجريد لأنّ الوصف بعدم التقليم إنما يكون لمن هو من شأنه، وهو الإفان، وقيل: إنه ليس بترشيح ولا تجريد لأنّ عدم الضعف مشترك الآ أن يقال المراد أنّ القلم ليس من شأن جنسه، ولا من عادته فتأمّل. قوله: (ومن ثمّ ترى المفلقين إلخ) ثمّ بفتح الثاء المثلثة وتشديد الميم المفتوحة للإشارة إلى المكان في أصل وضعها واختلف هل هي إشارة إلى البعيد أو القريب فتجوّز بها في المعاني في كلام المصنفين لكونها منثأ لما ذكر معها فكأنها مكانه، وفسروها بقوله من أجل ذلك أو من أجل هذا فمن تعليلية، وقيل ابتدائية وقد ترسم بهاء السكت لأنها تلحقها في الوقف، وقيل إنها للتأني! وهو لغة فيها، والمفلقين جمع مفلق اسم فاعل، وهو من يأتي بالفلق بالفتح أو بكسر فسكون، وهو الأمر الغريب العجيب، وهو يكون بمعنى الداهية من الفلق، وهو الشق والمراد البلغاء الواصلون إلى أعلى مراتب البلاغة التي تدهش سامعها وتحيره، وكذا السحرة جمع ساحر من السحر وهو مجازا نهاية البلاغة كما في الحديث: " إن من البيان لسحراً " وفيه كلام مذكور في شروحه، وضرب الصفح عبارة عن الإعراض، والتناسي وسيأتي تحقيقه في قوله تعالى: {؟ أفنضرث عنكم الذكرّ ضفحاً} [الزخرف: 25] وترى من الرؤية البصرية أو العلمية أي تشاهده، وتتحققه أي لأنّ الاستعارة لا تكون إلا إذا ترك المستعار له لفظا وتقديرا فإنّ المقدّر كالمذكور كما في هذه الآية فإذا كان كذلك تناسوا الث مبيه المستدعي لذكر لطرفين
عند الحذف وادخال المشبه في جنس المشبه به حتى كأنه لا تشبيه كما في قوله ويصعد إلخ فإنّ العلو المكاني أستعير لرفعة القدر، وجعل كالحقيقيّ الذي يتوهم فيه إنّ له حاجة في السماء صعد لها، وقد يفعلون ذلك مع التصريح به أيضا كقول العباس بن الأحتف:
هي الشمس مسكنهافي السماء فعزالفؤاد عزاء جميلا
فلن تستطيع إليها الصعودا ولن تستطيع إليك النزولا
كما يدريه من تتغ كتب علم المعاني. قوله: (ويصعد إلخ) هو من قصيدة لأبي تمام الطائي يرثي بها يزيد بن خالد الشيباني أوّلها:
نعاء إلى كل حيّ نعاء فتى العرب اختط ربع الغناء(1/382)
ومنها:
فمازال يفرع تلك العلا مع النجم مرتديابالعماء ويصعدحتى يظن الجهول بأنّ له حاجة في السماء
إلى آخرها، وهي قصيدة طويلة، ويفرع بمعنى يعلو بفاء وراء مهملة من فرع المنبر والجبل إذا صعده وأصله الصعود إلى فروع الشجر وفي رواية بدل يصعد يرقى، ويروى أيضا بدل حتى يظن حتى لظن باللإم الابتدائية أو هي جواب لقسم كما في شرحه للتبريزي، والشاهد في استعارة يصعد حيث بنى عليها ما بعدها كما سمعته آنفاً كذا قاله قدس سره وغيره من شراح الكشاف، وهو الذي عناه المصنف تبعاً للكشف، وفي الكشف فروع العلاء مستعار من فروع المنابر والجبال، ثم بنى عليه ما يبنى على الفرع الحقيقيّ فجعله ذاهبا في جهة العلو قاصدا نحو السماء لغرض، وهكذا شأن كل استعارة مرشحة اهـ. فجعل قوله يصعد إلخ ترشيحاً للاستعارة في قوله يفرع إلخ، والعماء بفتح العين والمد السحاب الرقيق، وارتداؤه جعله كالرداء وجعل الظان جهولاً لإدّعائه أنه لا حاجة له لأنّ الله أعلاه وأغناه بجده وسعده فلا يقال إنّ الأنسب بالإدعاء في المدح أن يقول الخبير ويروى منزلاً بدل حاجة، وأعلم أنّ ما ذهب إليه صاحب الكشف هو التحقيق لكنه لا يناسب المقام إلاً بتكلف بعيد جذاً. قوله: (وههنا إلخ) يعني أنّ الطرفين لا يشترط في التشبيه ذكرهما بالفعل، بل يكفي الذكر ولو تقديرا ونية فانّ المقدر المنوي كالمذكور كما أنه لا يضرّ الذكر مطلقا بل على طريق القصد فلو كان ذكره غير مقصود بالذات لم يناف الاستعارة كما قرّروه في نحو قوله:
لاتعجبوامن بلى غلالته قد زرّ أزراره على القمر
وقوله أسد إلى هو من شعر لدمران بن حطان رأس الخوارج يخاطب به الحجاج، وكان
همّ بأخذه وقتله وأعد لذلك عدته، وهو من شعر هو بتمامه كما في كامل المبرد:
أسد عليّ وفي الحروب نعامة فتخاءتنفرمن صفيرالصافر
هلاكررت على غزالة في الوغى بل كان قلبك في جناحي طائر
غشيت غزالة حفلةا بفوارس توكت فوارسه كأمس! الدابر
والشاهد في قوله أسد فإنه تشبيه لا استعارة لذكر الطرفين تقديرا فيه أي أنت أسد كما في
الآية الكريمة فهو في حكم المنطوق، وفي ذكر البيت إشارة إلى أنه لا ينافي التشبيه أن يذكر بعد المشبه به ما يشعر بأنه ليس بمعناه الوضعي كقوله عليّ هنا، وفي الحروب المتعلق بنعامة، وغزالة ممنوع من. الصمرف لأنه علم إمرأة رجل من الخوارج سث! هور يقا! ل ل! شبيب، وكان الحجاج قتله فلما أتى خبره لامرأته وكانت من الشجاعة بمنزلة عجيبة لم يعهد مثلها في النساء لبست درعا وتققدت بسيف ورمح وركبت في ثلاثين فارسا من الشجعان الخوارج، وكانت نذرت أن تغزو الحجاج بالبصرة نهارا وتصلي في جامعها بسورة البقرة ففعلت ذلك، وبالبصرة أكثر من ثلاثي! ألف مقاتل، وهرب الحجاج منها ولم يبرز فلمح في هذا الشعر لقصتها وعير الحجاج بها، والنعامة طائر معروف بالجبن وشدة الهرب، والفتخاء المسترخية الجناحين اللينة المفاصل وهو من صفاتها والصفير صوت بغير حروف، والصافر الريح أو كل مصوّت والظاهر الثاني، وكررت بمعنى رجعت ويروى برزت بدله، والوغى أصله الأصوات المرتفعة المختلطة وبه سمي الحرب وهو المرادء وغشيت بمعنى نزلت وحفلة مرّة الحفل من قولهم رجل ذو حفل أي مبالغ فيما يفعله والمعنى ذات حفلة كما في الكشف، والتشبيه بأمس الدابر أي الماضي في العدم حقيقة أو حكماً وكون قلبه في جناحي طائر من بليغ الكلام وبديعه لأنه عبارة عن ذهابه فارا وقلبه في غاية الخفقان من شدة خوفه، وهذا لا يدرك حسنه إلاً من رزقه الله ذوق حلاوة العربية، وهو تصوير لفراره مرعموبا وفي الكشف فتخاء من باب التصوير كيقولون بأفواههم وقال بعض المتأخرين: كما رأيته بخطه بل هو لبيان وجه الشبه على طريق الإشارة لترتيب، 1 لحكم على المشتق وفيه نظر، وفتخاء بفاء ومثناة فوقية وخاء معجمة ممدوداً.
وأعلم أنه إذا ذكر الطرفان كما مرّ، وعمل الثاني منهما كما في البيت المذكور فهذه مسئلة
مقرّرة في كتب النحو والمعاني والتفسير، وقد ذكرت(1/383)
في كتاب سيبويه وقال: في التسهيل لا يتحمل غير المشتق ضميرا ما لم يؤوّل بمشتق خلافا للكسائي وفي شرحه لأبي حيان إذا أوّل تحمل ضميرأ كمررت بقوم عرب أجمعون، وبقاع عرفج كله بتأكيد الضمير المستتر بتأؤيله بفصحاء وخشن فإذا أسند إلى ظاهر رفعه كما قاله سيبويه في نحو مررت برجل أسد أبوه ومنه قوله:
كأنّ لتأمنها بيوتا حصينة مسوحاً أعاليها وساجا كسورها
برفع الظاهر لتاويله بمشتق أفي سودأ وكثيفا وأجاز الكسائيّ، وبعض الكوفيين ذلك في
الجامد وان لم يؤوّل وأستبعده ابن مالك وقال: ينبغي أن يحمل على ما كان لمسماه معنى لازم بين اللزوم كالإقدام والقوّة للأسد اهـ، وقال ابن مالك أيضاً في شرح كافيته لو أشرت إلى رجل، وقلت هذا أسد لكان لك فيه ثلاثة أوجه تنزيله منزلة الأسد مبالغة دون التفات إلى
تشبيه، وقصد التشبيه بتقدير مثل ونحوه وعلى هذين لا ضمير فيه، والثالث أن يؤوّل لفظ أسد بصفة وافية بمعنى الأسدية فتجريه مجرى ما أوّلته به فيرفع الضمير والظاهر وينصب الحال والتمييز وهو مجاز على هذا دون ما قبله هذا زبدة ما قاله المضحاة كما قرّره شرّاح التسهجل في باب المبتدأ والخبر، والذي قاله علماء المعاني مبنيّ عليه فقال المحقق السعد اسم المشبه به وان ذكر معه ما يشعر بأنه ليس في معناه كعليّ! في أسد عليّ، فالكلام تشبيه فليس النزاع فيه لفظيا بل مبنيّ على أنه في معناه الحقيقيّ حتى لا يستقيم إلاً بتقدير نحو الكاف؟ ، وييه! ون تشبيها أو في معنى المشبه كالرجل الشجاع فيكون استعارة ويصح الحمل، وهو المختار عندي كما يشهد به الاستعمال فإن هعنى أسد عليّ مجترىء صائل ومعنى نعامة جبان هارب، ومعنى الطير أغربة عليه باكية وتقول هو أخي في الله.
وقال انجن مالك: إذا قلت هذا أسد مشيراً للسبع فلا ضصير " ميه، وان قلته مشيراً إلى الرجل الشجح " لفيه ضمير لأنه مؤوّل بما فيه معنى الفعل. وقال قدّس سرّه: تعلق عليّ بملاحظة ما يلزمه من الجراءة لا لأنه في فعنى مجترىء صائل وإلا كان مجازا مرسلاً، وفات معنى التشبيه بالكلية كما في زيد شجاع أ! مجترىء، وما قيل من أنّ أسداً في زيد أسد مسحمل في المشبه وهو الرجل الشجاع مردود بأنّ هذا المجموع الس خنشبهاً بالأسد فإنّ الشجاعة خارجة عن الطرفين إتفاقاً فالحق أنّ أسدا مس! صمل في محعناه الحقيقيّ، وحمل على زيد لإدّعاء أنه من إفراد. مبالغة ولو قدّر فيه الأداءة فاتت المبالغة،! فم قد يلاحظ ما يلزم معناه الحقيقيّ من اجراءة فيعمل كما في نحو رأيت رجلاً أسداً أبوه إمّا لقصمد معنى المشابهة، أو لإعتبار ال! حزم سواء جعل تابعاً أو مستعملاَ فيه اللفظ.
وبقي ههنا بحث، وهو أنه لا نجزاع في أنّ التقدير هنا هم صم لكن ليس المستعار ل! حينئذ مذكورا لأنه لبيان أحوال مشاعر المنافقين لا ذواتهم ففي هذه الصفات ااستعارة قبعية مصرّحة فلا يختلف ف! يها الاستعارة مصادرها! لتلك الأحوال، ثم اشتق منها فإن س أجيب بجعل! ها في عداد الأسماء نافاه قوله إلاً أنّ هذا في الصفات، وظ ك في الأسماء أو بأنّ هم صم في قوّة حال إسماعهم الصمم فتمحل مستغنى عنه فإنّ لقيت صما إسنعارة قطعاً، وتقديره أشخاصاً صما وهو في قوّة الحمل إلاً أن يقال تشبيه ذوات! " المنافقين بذوات الأشخاص الصم متفرّع على تشبيه حالهم بالصمصم، فالقصد إلمى إثبات هذا! الفرع أقوى وأبلغ كأنّ المشابهة بين الحالين تعدت إلى الذإتين فحملت الآية على هذا التشبيه رعاية للمبالغة في إثبات الآفة وهو غاية ما يتكلف هنا، هذا زبدة ما قاله الفاضلاق، وقد قيل عليه إنه إن أراد بكون الشجاعة خارجة عن الطرفين خروجها عن حقيقتهما النوعية فمسلم لكنه غير مفيد، وان أرادالخروج من حميث كونه مشبهاً به فغير مسلم إذ ألاتفاق على! ضلافه ". لظهور أن المشبه ليس زيداً نفسه بل باعتبار جراءته كما أنّ المشبه به ليس الأسد ففسه بدون ذلك الإعتبار، ولو كان مستعملاً في معنا. الحقيقيّ كان جامدا محضا وان لوحظ فيه قبعية معناه الحقيقيّ ما يلزمه من نحو الجراءة وإمكان هذا
القدر كاف في العمل في الظرف دون غيره لأنه يكفيه رائحة الفعل، ولذا اضطرّ آخرا فقال: أو مستعملاَ فيه اللفظ فالتحقيق أنّ أسداً مجاز عن شجاع بقرينة الحمل كما في رأيت أسدا يرمي فالمراد ذوات مبهمة مشبهة بالأسد، ولا يلزم منه سوق الكلام لإثبات أنّ زيدا هو تلك الذات المشبهة بالأسد لأنّ المؤوّل بشيء لا يعطي حكمه من كل وجه، بل هو مسوق لإدعاء الإتحاد بينهما، ولو لزم ذلك لزم كون معنى(1/384)
رأيت أسداً يرمي رجلاَ شجاعا يرمي وظهر عدم الفرق بينهما فيما يتعلق بالغرض إلاً أنّ سوق هذا لإثبات الرؤية لتلك الذات، وهذا الإدعاء الإتحاد بينهما، وقيل أيضاً إنّ الشجاع في قوله كالرجل الشجاع قيد للمشبه لا جزؤه حتى يكون المشبه مركباً فليس بمناف لقولهم إنّ الشجاعة خاوجة عن الطرفين مع أنّ الحق أنّ الشجاعة ليست قيدا أيضاً لشيء من الطرفين لأنّ المقصود نقل الشجاعة الكاملة من المشبه به إلى المشبه، والظرف متعلق بمضمون الكلام بحسب المآل أي مجترىء كامل، وقى عليه نعم المتبادر من العبارة تعلق الظرف بالمشبه على وجه القيدية بل بالمشبه به على تقدير التشبيه لا الاستعارة.
أقول إذا عرفت أنّ هذه المسئلة مما حققه المتقدمون على اختلاف فيها وأنها من مسائل الكتاب، وكان القول ما قالت حذام، وكان منشأ اختلاف النحاة العمل واختلاف أهل المعاني قصد البليغ عرفت أنّ الحق ما قاله الفاضل المحقق لقوّة أساسه، وسطوع نبراسه، فالنزاع ليس بلفظيّ لابتنائه على ما ذكروه مما يختلف فيه مثل الأسد لفظا بعمله ومعنى بالتجوّز فيه لاستعماله في غير معناه، وما أورده عليه المدقق ليس ليء وإن لاح وروده في النظرة الأولى فقوله إنه عمل باعتبار ما يلزمه من الجراءة مبنى على قول الكسائيّ الضعيف المستبعد عندهم كما عرفته، وقوله إنه إذا كان مستعملاَ في معنى مجترىء صائل كان مستعملاً في لازم معناه فهو مجاز مرسل لا استعارة خيال فارغ، فإنك إذا قلت في زيد أسد إنه مؤوّل بما ذكر، ومعناه رجل مجترىء كالأسد فلا مرية في إنه استعارة لصحة ذلك التشبيه، وترك المشبه فيه بالكلية وإنما لئم تذكر الرجل اعتمادا على إشتهار الجراءة والصولة في صفات العقلاء، وفي بعض كتب اللغة ما يقتضي أنه حقيقتها، وقوله زيد شجاع ليس نظيرا لما ذكره بل نظيره زيدى رجل شجاع كالأسد، وقوله المجموع ليس مشبها بالأسد غير مسلم ولا يلزمه التركيب مع التعبير عنه بالأسد، وقوله إنّ الشجاعة خارجة عن الطرفين إتفاقا ليت شعري من أين جاء هذا الإتفاق فعلى هذا قد شبهت الرجل الشجاع بالأسد في شدة بطشه، واهلاك مقاتلة وإن كثر، ثم إنّ قوله قد يلاحظ ما يلزم معناه الحقيقي من الجراءة إلخ مع أنه لا طائل تحته مناقض لما قبله فإنه إذا كان مستعملاَ في معناه الحقيقي كيف يجوز استعماله في لازم معناه إلاً أن يريد أنه كناية حينئذ، وهو مع تكلفه مبنيّ على القول الضعيفبهما مرّ.
واعلم بعدما ارتفع الغين، عن العين ووضح الصبح لذي عينين، أنّ ما ذكره قدس سره
من البحث الذي استصعبه حتى جعل الأسنة له مركبا، وسلمه له من مشى خلفه ليس بوارد أيضاً، وما أفسده فيه اً كثر مما أصلحه، وحسن ظننا بالسلف أنا لا نقول به لأنه ناشىء من عدم
إعمال النظر في مطاوي كلامهم لأنّ هم المقدّر راجع للمنافقين السابق حالهم وصفاتهم وتشهيرهم بها حتى صاروا مثلاً فكأنه قيل هؤلاء المتصفون بما ترى صم إلخ على أنّ المستعار له ما تضمنه الضمير الذي جعل عبارة عن المتصفين بما مرّ والمستعار ما تضمن الصمم وأخويه من قوله صمّ إلخ فقد انكشف الغطاء من الطرفين، وليس هذا بابعد مما مرّ في قولهم إمتطى الجهل، وبهذا إضمحلت الشبهة من غير حاجة إلى ما ذكر من التعسفات، وأمّا ما ذكر آنفا مما أورده عليه البعض من قوله إن أراد بكون الشجاعة خارجة إلخ فمعلوم أنه لا طائل تحته، وقوله إنّ الشجاعة داخلة في الطرفين، من حيث التشبيه لا وجه له لأنه على مدعاه من أنّ الطرفين زيد والأسد كيف يكون هذا، وهو خارح عنهما وإن كان لازماًاطما، ولو لم يكن هذا مع إرخائه العنان في مجاراة الخصم كان غير صحيح أيضا، وكذا ما قيل من أنّ الشجاع قيد للمشبه لما قدمناه لك فلا تكن من الغافلين، وإنما سحبنا أذيال البيان لما في هذا المقام، من العقد التي لم تحلها أسنان الأقلام، ففي الزوايا خبايا، وفي الرجال بقايا. قوله: (هذا) أي الأمر هذا أوخذ من هذا أوها اسم فعل بمعنى خذ وذا مفعوله، وهذا وان استغنى عن التقدير بعيد مع مخالفته الرسم، والإشارة إلى التفسير المذكور بقوله لما سدّوا مسامعهم إلخ، وقوله إذا جعلت الضمير إلخ المراد بالضمير المقدر هنا مبتدأ وهو هم صم إلخ لا هو والضمير في قوله بنورهم كما توفم لبعده لفظا، ومعنى لأنه قد فرغ عنه فعلى هذا تكون هذه محصل ما سبق واجماله لأنه تمثيل لحالهم، وهو عبارة عن جميع ما مز من أحوالهم السابقة، وقد علم من قوله(1/385)
لا يشعرون ولا يبصرون أنهم صمّ عمي ومن كونهم يكذبون أنهم لا ينطقون بالحق فهم كالبكم، ومن كونهم غير مهتدين أنهم لا يرجعون ووجه الترتيب ما مرّ فلا يرد عليه ما قيل من أنّ التمثيل إنما فيه عدم الإبصار، وأمّا الصمم والبكم فلا حتى يجاب بأنه مثلت حالهم في التحير بالمستوقد فأفاد تحيرهم في المحسوس، والمعقول ولم يذكر سفههم وكونهم عن العقل بمعزل لأنه مفروغ عنه، وهذا نظير الختم على السمع والبصر المستلزم للختم على اللسان في قصة الكفار، وسقط أيضاً ما قيل إنه يرد عليه أنّ نتيجة التمثيل كونهم عميا لا غير وأنه على تقدير صحته المناسب تقديم العمى، وقوله فذلكة التمثيل ونتيجته قيل عطف النتيجة على الفذلكة تفسيريّ، والظاهر أنّ بينهما مغايرة إعتبارية فإن كان إجمالاً لما قبله فهو فذلكة وان كان ما قبله منساقاً إليه ومستلزما له فهو نتيجة له، ولذا قدره بعضهم بقوله فهم صم إلخ، والحاصل أنّ حالهم المضروب له المثل وسعيهم الخاسر أدّأهم إلى فقد الحواس، والقوى ووقوعهم في قفار لا يرجع من ضل فيها والفذلكة عبارة عن إجمال الأمور مأخوذة من قول الحاسب بعدما يملي مفردأت ما يحسبه فجملة ذلك كذا فركب هذا اللفظ من بعض حروفه، ويسمى هذا عند الأدباء نحتاً بالنون كقوله حوقلة، وبسملة وهو مقصور على السماع، وهذه اللفظة لم تسمع من فصحاء العراب الذين يحتج بكلامهم، وإنما أحدثها المولدون كما قال المتنبي:
نسقوا لنا نسق الخساب مقدما وأتى فذالك إذ أتيت مؤخرا
وأعلم أنّ الجملة الواقعة موقع النتيجة وردت بالفاء ودونها في كلام الفصحاء فالأوّل
كقوله تعالى: {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاَثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ليلة وأتممناها بعشر فتتم ميقات ربه أرشين ليلة} [الأعراف: 142] والثاني كقوله {فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} الحني وسبعة إذا زتجنتم تلك عَشرّة كاملة} [البقرة: 196، لأنّ إستلزام ما قبله له أو تضمنه له بالقوّة منزل منزلة المتحد معه فيقتضي ترك العطف، ومغايرتها لما قبلها وترتبها عليه ترتب النتاج، والفرع على أصله يقتضي اقترانها بالفاء، وهذا هو المعروف في الاستعمال، وهي بدونها مستأنفة أو حالية،. وعلى الأوّل لا محل لها فمن قال: إنها لا تكون إلا مع الفاء وهي بدونها لا يدري من أيّ أنواع الجمل هي فقد قصر فيما قدر. قوله: (وإن جعلته للمستوقدين إلخ) أي! إذا جعلت هذا من تتمة التمثيل على أنه داخل فيه لا حاجة إلى اعتبار التجوّز فيما ذكر إذ لا مانع من الحقيقة، وهي الأصل فلا يعدل عنه بدون مقتض يقتضيه، والتمثيل لا يقتضي تحقق الممثل به في الخارج بل يكفي فرضه وان امتغ عادة كما في قوله:
اعلام ياقوت نشرن على رماح من. زبرجد
فلا يرد عليه ما قيل من أنه من المعلوم أنّ من إنطفأت ناره ووقع في ظلمة شديدة مطبقة لا يحصل له صمم ولا بكم ولا عمى، فالظاهر أنها مجازات لا حقائق وأنّ هذا الوجه بعيد، ولذا لم يلتفس! له في الكشاف وشروحه وجعلوه من أحوال المنافقين سواء كان ذهب جوابا أم لا، ولا حاجة إلى الجواب عنه فإنّ من وقع في ظلمات مخوفة هائلة ربما أذاه ذلك إلى الموت فضلاً عن فقد الحواس ألا ترى أنّ من حبس زماناً في مطمورة مظلمة قد يذهب بصره، ويبتلى بأمراض حارّة يعتقل بها لسانه، والذي دعى المصنف إلى اعتبار هذا قراءة النصب فإنها تعينه على الجوابية، وأخره إشارة إلى أنه مرجوح عند. فلا غبار عليه حتى ينقض. قوله: (بحيث اختلت حواسهم وانتقضت قواهم) هذا كعبارة الزمخشرفي السابقة وقد مرّ تفسيرها وبيان القوى فيها والإنتقاض إفتعال من النقض بمعنى الهدم أو الحل فهو استعارة يقال نقضت البناء نقضا إذا هدمته، والنقض بكسر النون وضمها ا! منقوض من البناء ونقضت الحبل إذا فككت ما فتل منه، ومنه يقال نقض ما أبرمه إذا أبطله فانتقض هو بنفسه، وقوله بالنصب على الحال هو أحد الوجوه فيه، وقد جوّز أن يكون ثاني مفعولي ترك بناء على جواز تعديته لمفعولين وعلى تعدد ما هو خبر في الأصل أو منصوبا على الذمّ، وأصل الصمم الصلابة الحاصلة من إكتناز الأجزاء أي اجتماعها
الصوت بتموّجه، والبكم الخرس، والعمى عدم البصو عما من شأنه أن يبصر، وقد يقال لعدم البصيرة {؟ قهغ لا تزبلون} لا يعودون إلى الهدى الذي باعوه، وضيعوه أو عن الضلالة التي اشتروها، أو فهم متحيرون لا يدرون أيتقدّمون أم يتأخرون، والى حيث ابتدؤا منه كيف يرجعون، والفاء للدلالة على إنّ اتصافهم بالأحكام السابقة سبب لتحيرهم،
وتداخلها، ومنه الكنز والقناة الرمح وتوصف بأنها صماء لصلابتها ولذا تظرّف القائل:(1/386)
لاتفشين سرّالملوك فحولهم صم الرماح تميل للإصغاء
وصمام القارورة بكسر الصاد المهملة ما تسد به لمنعها ما فيها بتداخله، والصماخ بالكسر
أيضاً خرق الأذن، وقوله لا تجويف فيه تفسير لقوله مكتنزاً وقوله سببه إلخ إشارة إلى ما ذكره الأطباء من أنّ الصمم أن يخلق الصماخ بدون تجويف فهو كالفراغ المشتمل على اليواء الراكد الذي يسمع الصوت بتموّجه فيه قالو! وقد يكون له تجويف لكن العصب لا يؤدّي قوّة الحس فما ذكره المصنف رحمه الله أحد قسميه، وكأنه أقتصر عليه لأنه الأصل الغالب فيه، ولكن لا يخفى أنه لا يناسب جعله حالاً مما قبله لأنه خلقي لا عارض بسبب الظلمة كما قيل، وهو غفلة لأنّ المعنى كالصم، والتفسير للمشبه به فإن لم تبلغ الآفة عدم الحسق فهو يسمى طرشاً عند الأطباء وان اختلف أهل اللغة في تفسيره. قوله: (والبكم الخرس) بفتحتين فيهما وهذا قول لأهل اللغة كما في المصباح، وقال الراغب: الأبكم هو الذي يولد أخرس. فكل أبكم أخرس، وليس كل أخرى أبكم وقد يقال هو تفسير ئلمراد منه هنا، وقوله: عما من شأنه إشارة إلى أنه من تقابل العدم والملكة وإطلاقه على عدم البصيرة مجاز، وظاهر كلام بعضهم أنه حقيقة فيه أيضاً. قوله: (لا يعودون إلى الهدى إلخ (هذا بيان لارتباطه بما قبله على الوجوه السابقة وإلى أن رجع كعاد يتعذى بإلى وبعن وإذا كان لازماً فمصدره الرجوع كما هنا لا متعدّيا مصدره الرجع كما في قوله:
عسى الأيام أن يرج! ن قوما كالذي كانوا
وعن تدخل على المتروك والى على المأخوذ وإلى الاحتمالين أشار بقوله إلى الهدى أو
عن الضلالة وهو على كون الضمير راجعا للمنافقين، وقوله أو فهم متحيرون إشارة إلى جعل الضمير للمستوقدين وبينه على تقدير إلى وسكت عن تقدير عن لظهوره، أي لا يرجعون عما هم فيه، وقيل: إنه إشارة إلى أنه منزل منزلة اللازم بالنظر إلى متعلقه كما أنه لازم في نفسه، وهو كناية عن التحير، وقوله: لا يدرون مستأنف لبيان تحيرهم، وقوله: والى حيث ابتدؤا منه يأباه لولا ما ذكره من التكلف، وقوله لا يرجعون، وان عئم الحيرة وعدمها والعامّ لا دلالة له على الخاص فهو يدل على ذلك بقرينة السياق، والسباق قيل: لوجهان المتقدمان على أنّ وجه الشبه في التمثيل مستنبط من توله {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرُوُاْ} والثالث على أنه من قوله: {ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ} كما مرّ واعتبار التعلق إنما هو على تقدير أن يكون قوله فهم لا يرجعون من تتمة قوله {؟ أولئك الذين اشرتوا} إلخ وما بينهما اعتراض فتأمل. قوله:) والفاء للدّلالة إلخ (إشارة إلى أن
هذا متفرّع ومتسبب عما قبله على الوجوه كلها لا أنه على إطلاق لا يرجعون عن المتعلق السابق وترك التعرّض لمعناها على التقييد كما توهم والأحكام السابقة إمّا اشتراء الضلالة بالهدى والعمى وما معه من الظلمة وغيرها والإحتباس الإمتناع وعدم الرجوع لأنه أعمى لا ينظر طريقاً وأبكم لا يسأل عنها، وأصم لا يسمع صوتا من صوب مرجعه فيهتدي به، وهو على الوجهين ظاهر أيضاً وقوله لتحيرهم ناظر إلى المنافقين واحساسهم إلى المستوقد أو بالعكس كما قيل فهو شامل لهما لا مختص بالمستوقد، وترك التعرّض لحال المنافق لأنه يعلم بالمقايسة عليه كما قيل وجملة لا يرجعون خبرية، وقيل إنها دعائية والدعائية تكون فعلية كارحمنا ورحمك الله ويرحمه الله واسمية. قوله: (عطف على الذي استوقد إلخ) في الكشاف، ثمّ ثنى الله سبحانه في شأنهم بتمثيل آخر ليكون كشفاً لحالهم بعد كشف، وايضاحاً غبّ إيضاح وكما يجب على البليغ في مظان الإجمال والإيجاز أن يجمل ويوجز فكذلك الواجب عليه في موارد التفصيل والإشباع أن يفصل ويشبع وأنشد الجاحظ:
ترمون بالخطب الطوال وتارة وحي الملاحظ خيفة الرقباء
وقوله عطف على الذي خبر مبتدأ أي هو عطف وهكذا وقعت العبارة في جميع النسخ،
وكان الظاهر أدط يقول عطف على كمثل الذي استوقد ناراً إلاً أنه تسمح فيها إعتمادا على ظهور المراد فاقتصر على جزئه المعين له لعدم تكرّره وكلامه ناطق به، وقيل: في توجيهه إنه إشارة إلى أنه من عطف مفردات على مفردات فالكاف مرفوع المحل معطوف على الكاف الأولى ومثل المقدر معطوف على مثل السابق، والصيب على(1/387)
الذي استوقد بتقدير ذوي، وإنما عدل عن الظاهر لإفادة كمال الارتباط بين الجملتين بارتباط مفرداتها وأنه لا بد من إعتبار لفظ مثل مقدرا في النظم كما سيأتي وإليه أشار بقوله ذوي صيب، ولا يخفى ما فيه من التعسف الذي يأباه الطبع السليم، وعطص الكاف وحده غير مستقيم، وان أئده بعضهم بنقله عن مكيّ والكواشيّ والحق الجاوي على نهج الصواب أن يقال إنما عبر المصنف بما ذكر لأنه المقصود بالعطف التخييري أوّلاً وبالذات لأنّ القاف أداة تشبيه والمثل بمعنى القصة كالعنوان، والفهرسة لما بعده فكأنه يقول أنت في تمثيل حال هؤلاء بالخيار إن شئت مثلتها بالذي استوقد نارا وان شئت بذوي صيب مظلم مرعد مبرق فتدبر. قوله: (أي كمثل ذوي صيب إلخ) في الكشاف، والمعنى أو كمثل ذوي صيب والمراد كمثل قوم أخذتهم السماء على هذه الصفة فلقوا منها ما لقوا، ثم قال: لولا طلب الراجع في قوله {يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم} ما يرجع إليه لكنت مستغنيا عن تقديره أي تقدير ذوي الذي هو جمع ذو بمعنى صاحب محذوف النون للإضافة، وتبعه المصنف فيما ذكر.
وقال المدقق: في الكشف الظاهر من كلام السكاكيّ أن يقدر المضاف لأنّ المقصود تشبيه الصفة بالصفة لا الصفة بالذوات وهو حق لأنّ التركيب إنما أستفيد من تشبيه القصة بالقضة، أمّا أنّ ذوي القصة في الأوّل هم المنافقون وفي الثاني أصحاب الصيب فما لا نزاع
فيه، وتحريره أنّ تقدير مثل لا بذ منه للعطف السابق وحينئذ يقدّر ذوي لاستقامة إضافة المثل لها لأن التشبيه يسوق إلى ذلك، وان أمكن إضافة القصة إلى كلى من الأجزاء التي لها مدخل فيها لكن الإضافة إلى أصحابها حقيقية والى الباقي مجازية، وقد نصى المصنف في قوله تعالى {مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ} [البقرة: 261] إلخ على أنه لا بدّ من حذف المضاف أي مثل نفقتهم أو كمثل باذر حبة لكن المصنف منع ههنا كون التشبيه سائقا إلى ذلك وهو حق، وذكر سبباً واحدا من موجبات حذف المضاف، ولم يمنع أن يكون ثمة موجب آخر أو موجبات، ورده الفاضل المحقق، وقال: نفس التشبيه لا يقتضي تقدير شيء، وضمائر يجعلون إلخ لا تقتضي إلاً تقدير ذوي لكن الملايمة للمعطوف عليه والمشبه تقتضي تقدير مثل وما قيل من أنه لا بدّ منه فيه نظر لأن كلام المصنف صريح في أنه لا موجب لتقدير المضاف سوى طلبية الضمير مرجعاً، وإنما احتاج في الآيتين إلى تقدير المضاف إليه لأنه قد صرّح في جانبي المشبه، والمشبه به بلفظ مثل بمعنى الحال والقصة فلا بد من إضافته إلى ما يستقيم فيه أن يقال هذا الحال ذاك فليتأمّل، ولا خلاف بين الزمخشريّ والسكاكي كما قاله المدقق، إلا أنه اقتصر على أحد وجهي التشبيه لأنه أبلغ وسيأتي لهذا تتمة إن شاء الله تعالى. قوله: (وأوفى الآصل للتساوي في الشك) أي للتساوي الواقع في الشك في النسبة المتعلقة بهما وهو أحد المذاهب للنحاة فيها، والثاني أنها مشتركة بين معان نحو العشرة على ما بينوه، والثالث أنها لأحد الأمرين أو الأمور في الخبر والإنشاء وهو الذي اختاره في المفصل تبعاً لما في الكتاب وأرتضاه محققو النحاة كما في المغني، وقوله للتساوي في الشك أحسن من قول النحاة للشك لما فيه من تحقيق المعنى، والتمهيد لتوجيه التجوز المذكور بعده فلا يتوهم أنّ معنى الشك تساوي وقوع النسبة أولاً وقوعها عند العفل فالتساوي في الشك مآل معناه إلى التساوي في التساوي، وهو لغو من القول كما قيل، وهو لظهوره مستغن عما ذكره من التوجيه فإن قلت قوله قدّس سرّه إنها كلمة شك على هذه افتختص بالخبر لا يظهر مع وقوع الشك كثيراً في غيره كقولك أزيد عندك أو عمرو مستفهماً عما شككت فيه، والإستفهام إنشاء من غير مرية قلت هذا مما صرّح به النحاة، وقد قال الرضي: قالوا إنّ أو إذا كانت في الخبر فلها ثلاثة معان الشك والإبهام والتفصيل وإذا كانت في الأمر فلها معنيان التخيير والإباحة ولهذا لما قالوا إنها حقيقة في الشك جعلوها بعد الأمر والنهى مجازا، ولما قالوا إنها موضوعة لأحد الأمرين قالوا إنها تعم الخبر وغيره كما صرّح به في المفصل فهذا عندهم معنى غير حقيقيّ، أو الجملة خبرية فيه والإستفهام في الحقيقة في المتعلق وكذا الشك وكما صرّحوا باختصاص الشك بالخبر صرّحوا باختصاص التخيير والإباحة بالأمر والطلب، وخالفهم فيه ابن مالك وبعض النحاة فذهبوا إلى ورود ذلك في الخبر الا أنّ كثره ورد في التشبيه كما في هذه الآية وفي قوله تعالى {فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} [البقرة: 74](1/388)
أيّ بأي هذين شبهت فأنت مصيب د ان شئت فبهما جميعاً وعليه قول ابن مقبل:
يهززر. للمشي أوصالاً منعمة هز الجنوب ضحا عيدان نسرينا
أو كاهتزاز ردييّ تذاوقه أيدي التجار فزادوا متنه لينا
قوله: (ثم لسع فيها إلخ) هذا معنى ما في الكشاف من قوله أستعيرت للتساوي في غير الشك، وذلك قولك جال! الحسن أو ابن سيرين تريد أنهما سيان في استصواب أن يجالسا وهو جواب عن سؤال تقديره إذا كانت أو موضوعة للتساوي في الشك الوارد في الخبر فما وجه استعمالها مع الأمر وغيره من الطلب، وارادة غير ذلك بلا شك فأجاب بأنه وارد على التوسع والتجوّز، وفي شرح الهادي أو لما كانت للتساوي المشكوك فيه جاءت للتساوي من غير شك على الإتساع.
وقول الزمخشريّ استعيرت إن صل على ظاهره فالعلاقة المشابهة بأنّ شبه التساوي في
غير الشك با! لتساوي الواقع فيه الآ أنه قيل إنّ الأظهر أنّ المراد بالاستعارة الاستعارة اللغوية، كما اصطلح عليه أهل الأصول فإنه مجاز مرسل من إطلاق المقيد اعلى المطلق كالمشفر للشفة، والمتبادر من ظاهر كلامهم هنا إنّ أو نفسها ك! ما تفيد الشك والإبهام تفيد التخيير أو الإباحة وأنه مستفاد منها لا من عرض الكلام كما في التلويح وشرح المفتاح وارتضاه بعض المحققين وأيده بأنه نسب تارة لأو وأخرى للأمر وذهب كثير إلى خلافه، وقال: كيف يكون ذلك من الأمر، وقد ورد في الخبر كما مرّ، وفي المغني التحقيق أنّ أو موضوعة لأحد الشيئين أو الأشياء، وهو الذي يقوله المتقدمون، وقذ. تحرج إلى معنى بل والى معنى الواو، وأمّا بقية المعاني فمستعارة من غيرها ومن العجب أنهم ذكروا أنّ من معاني صيغة اً فعل التخيير، والإباحة، ومثلوه بنحو خد من مالي درهما أو دينارا أو جالس الحسن أو ابن سيرين، ثم ذكروا أنّ أو تفيدهما ومثلوا بالمثالين المذكورين لذلك، اهـ. وأشار العلامة بقوله إستصواب إلى أنّ الأمر هنا ليس للوجوب بل للندب والاستحباب فعلى هذا قد تجوّز بأو الموضوعة للتساوي في الشك عن مطلوب التساوي فيما سيق له الكلام، وحينئذ فإذا دل الأمر على الطلب الاستحبابي دلت كلنة أو على تساويهما في تلك المطلوبية وكلاهما أمر وضمي، وليس معنى تعلق ذلك الطلب بشيئين على حد سواء الآ تخيير المخاطب فيهما، أو إباحتهما له والمفيد لمجموع هذا المعنى! صيغة الأمر ولفظ أو فقد علم أنّ هذا منطوق لا مفهوم التزاميّ على هذا القول بخلافه على القول الآخر، فلهذا تراهم يضيفونه تارة إلى الأمر، وتارة إلى أو لأنّ كل منهما مدخلاً فيه فلا وجه للاعتراض عليه والعجب من صاحب المغني كيف تعجب منه، ولا خلاف في ورود أو! لهذه المعاني كلها لأحد من النحاة وإنما الخلاف بينهم هل هي موضوعة للتساوي في الشك مجاز نجي غيره أو موضوعة لأحد الأمر! شامل كثرها أو هو مشترك بينها، واذ دار الأمر بين التجوّز والاشتراك اختلف أهل الأصول في الأرجح والأولى كما فصل في محله فذهب الزمخشري هنا إلى أحد القولين، وفي المفصل إلى الآخر فلا تعارض بين كلاميه كما توهمه
الطيبي، وإلى هذا أشار المدقق في الكشف. قوله: (ولا تطع منهم آثماً أو كفورا) إشارة إلى ما مرّ أيضاً من وقوعها بعد النهي لغير التساوي في الشك توسعا، وفي الكشاف ومنه قوله تعالى {وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا} [سررة الإنسان، الآبة: 24] أي الآثم والكفور متساويان في وجوب عصيانهما، وقال المصنف رحمه الله. أو للدلالة على أنهما سيان نجي إستحقاق العصيان والاستقلال به كما سيأتي تحقيقه ثمة، والحاصل أنها على هذا التجوز تدل على أنهما متساويان في كون طاعتهما ممنوعة منهيا نها وعصيانهما واجباً مطلوبا، والتساوي في المنع والحرمة يقتضي حرمة إطاعة كل واحد من القبيلين وحرمة إطاعتهما جميعاً بالضرورة إذ لو انتهى عن أحدهما دون الآخر لم يتساويا في ذلك كما لا يخفى فلا ترد الآية على من ذهب إلى هذا المذهب، وإنما يشكل بحسب الظاهر على من قال إنها موضوعة لأحد الأمرين كما في المفصل، ولذا قال في الإيضاح استشكل بعضهم أو في هذه الآية بأنه لو انتهى عن أحدهما لم يمتثل، ولا يعد ممتثلاً الا بالانتهاء عنهما جميعا، ومن ثمة حملت على معنى الواو والأولى أن تبقى على بابها، وإنما جاء التعميم من النهي الذي فيه معنى النفي لأنّ تقديره قبل وجود النهي تطيع آثماً(1/389)
أو كفوراً أي واحداً منهما فورد النهي على ما كان ثابتا فالمعنى لا تطع واحدا منهما، والتعميم من النهي، وهي على بابها لأنه لا يحصل الانتهاء عن أحدهما حتى ينتهي عنهما بخلاف الإثبات فإنه قد يفعل أحدهما دون الآخر، وهذا معنى دقيق علم منه أنّ التعميم لم يجيء منها وإنما جاء من جهة المضموم إليها.
وقال قدّس سرّه إن تفسير النهي عن الطاعة بوجوب العصيان بناء على أنّ النهي عن الطاعة ما-له الأمر بالعصيان فيكون المفعول متعلقا بالنفي كأنه قيل إعص هذا أو ذاك فإنهما متساويان في وجوب العصيان، وذهب بعضهم إلى أنّ كلمة أو هنا على بابها أي لأحد الأمريه، وإنما جاء التعميم في عدم الإطاعة من النهي الذي في معنى النفي إذ المعنى قبل وجود النهي تطيع آثما أو كفوراً أي واحدا منهما فيعم، وقيل: هي بمعنى الواو وإنما يصح إذا اعتبر عطف النفي على النفي لا المنفيّ على المنفيّ، كما قيل ويردّه ما ذكره في سورة الإنسان من أنه لو قيل لا تطعهما لجاز أن يطيع أحدهما لماذا قيل لا تطع أحدهما علم أنّ الناهي عن طاعة أحدهما ناه عن طاعتهما جميعاً اهـ، كما يعلم من تحريم التأفيف تحريم الضرب، وحاصله أنّ العطف بالواو يفيد النهي عن الجمع دون كل واحد وبأو يفيد النهي عن كل واحد منفرداً صريحا، ومعاً بطريق الأولى، وقيل عطف أحد النفيين على الآخر يفيد تحقق أحدهما بلا عموم، وعطف المنفيّ على المنفيّ بأو يفيد العموم في النفي والعطف بالواو على العكس من ذلك فلذا جعل كلام الظاهريين على اعتبار العطف بين النفيين فعط ن وجه ذلك أنّ العامل في النسق يقدر من جنس عامل المعطوف عليه، وهو قول للنحاة وانّ الآية من عطف الجملة على الأخرى بحسب المعنى كما ذكر في قوله تعالى {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ}
[الحج: 18] الآية، ثم ما ذكره في سورة الإنسان مبنيّ على أنه من عطف المفردات على الإنسحاب بلا تقدير كما هو الظاهر لكن ما ذكره كأنه لتوجيه جعل أو بمعنى الواو مصحح له فلا يكون مردودا بما في سورة الإنسان قلت هذا زبدة ما قاله النحاة، وعطف عليه من بعدهم بالردّ والقبول، وهو من الكنوز المدخرة في خزائن العقول.
وفيه مباحث: منها أنه قدس سرّه جعل تفسير النهي عن الإطاعة بوجوب العصيان لأنه
ما-له وفرّع عليه كون المفعول متعلقا بالنفي، ونحو منه في شرح الفاضل أيضاً وظاهره أنّ النهي مؤوّل بالنفي، وهو العامل في المفعول وليس كذلك والذي جنحوا إليه في هذا ما ذكر في الأصول من أنّ المطلوب في المنهي الذي تعلق النهي به إنما هو فعل ضد المنهيّ عنه، فإذا قلت لا تتحرك فمعناه اسكن لأنّ المكلف إنما يكلف بما هو مقدور له، والعدم الأصلي ليس بمقدور وخالف الجمهور فيه أبو هاشم والغزالي بناء على أنه ليس بعدم محض بل عدم مضاف متجدّد ومثله مقدور، وهذه المسثلة قريب من قولهم النهي عن الشيء أمر بضده، وفي الفرق بينهما وتحقيق أدلتهم كلام لا يهمنا هنا.
ومنها أنّ ما نقله عن البعض 5 س كلام ابن الحاجب في الإيضاح وهو مبنيّ على القول المنقول عن النحاة كما مرّ لا على ما ارتضاه المفسرون تبعاً للزجاح، وذكر بعض أرباب الحواشي له في تحقيق ما في الكشاف خلط لأحد المسئلتين بالأخرى، وإنما ذكره قدس سرّه تتميماً للفائدة وتنبيهاً على ما ذكر.
ومنها أنّ ما ذكره بعض الفضلاء في توجيه عطف النفي إذا كان بمعنى الواو وابتناء. على
ما قاله من عطف الجمل أو المفردات بالإنسحاب كلام في غاية الخفاء والتشويش وكذا ما قالوه من ردّه بما ذكره الزمخشريّ في سورة الإنسان، وقد ذكر ابن مالك في التسهيل أنّ أو في الآية بمعنى ولا فقال: وتوافق ولا بعد النهي والنفي ومثل شرّاحه للنهي بهذه الآية وللنفي بقوله تعالى {وَلَا عَلَى أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُوا مِن بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ} [النور: 61] الآية فتدبر. . قوله: (ومن ذلك قوله أو كصيب إلخ) هذا معنى قوله في الكشاف معناه أنّ كيفية قصة المنافقين مشبهة بكيفيتي هاتين القصتين وأن القصتين سواء في استقلال كل واحد منهما بوجه التمثيل فبايتهما مثلتها فأنت مصيب، وان مثلتها بهما جميعاً فكذلك يعني أنّ أو ههنا مستعارة لمطلق التساوي، والتسوية في الآية بطريق الإباحة التخيير، وقد فرقوا بينهما بأنه في التخيير لا يملك الجمع بينهما بخلاف الإباحة وردّ هذا أبو حيان في البحر وقال الظاهر أنها للتفصيل ولا ضرووة تدعو إلى كون أو للإباحة وان ذهب إليه الزجاج وغيره من النحاة لأنّ التخيير والإباحة إنما يكونان ني الأمر وما في معناه(1/390)
وما هنا خبر صرف فهو مودود كالقول بأنها بمعنى الواو إو للشك بالنسبة للمخاطبين، أو للإبهام أو بمعنى بل، وليس ما ذكره بوارد لأن النحاة اختلفوا في
أو التي للإباحة أو التخيير فقيل إنها تختص بالطلب، وذهب كثير من النحاة إلى أنها لا تختص به فتكون في الخبر كثيراً، وهو مذهب الزمخشري كما صرّح به في الكشف، وقال في المغني ذكر ابن مالك أنّ أكثر ورود أو للإباحة في التشبيه نحو فهي كالحجارة أو أشد قسوة والتقدير نحو {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} [النجم: 9] فلم يخصها بالمسبوقة بالطلب، اهـ وقد أنطقه الذي أنطق كل شيء حيث قال وما في معناه لأنه مؤوّل بالأمر أي مثله بهذا أو هذا، ويكفي من القلادة ما أحاط بالعنق فتدبر. قوله: (وإنهما سواء في صحة الثثبيه إلخ) إشارة إلى أنها وان صارت لمطلق التساوي بغير شك إلاً أنّ المراد التساوي في صحة التشبيه في الجملة لا التساوي من جميع الوجوه لأنّ التشبيه الثاني أبلغ من الأوّل لدلالته على فرط الحيرة، وشدة الهول وفظاكأ 9، ولذا أخره فإنهم قد يتدرّجون من الأسهل الأهون إلى الأغلظ الأهول كما في الكشاف وستراه عن قريب، وليس المراد بقوله في التمثيل بهما إنه يجوز أن يجعل مجموع الآيتين تمثيلاَ واحداً كما زعمه بعضهم، وقال إنه وجه أوجه وفسره بما تركه خير من ذكره فإنّ كلمة أو واعادة الكاف تأباه ولذا قال بعض الفضلا اء إنّ المراد أنّ حال المنافقين شبيهة بالحالتين المذكورتين، وإذا كان كذلد، صح التشبيه بهما جميعاً أي بأن يذكر الحالتان معاً ويشبه حال المنافقين بكل منهما، أو يذكر إحداهما فقط ويشبه حالهم بها وليس المعنى أنه يصح أن يشبه بالمجموع من حيث هو مجموع. قوله: (والصيب فيعل من الصوب إلخ) هذا هو الصحيح عند اللغويين وفيعل بفتح الفاء وكسر العين يكون صفة كسيد وميت واسم جنس كصيب، وكونه فعيل كطويل فقلب تكلف، وهذا الوزن يكون في المعتل وتفتح عينه في الصحيح كصيقل وضيغم، وقال الإلام المرزوقي إن ياءه للنقل من المصدرية إلى الوصفية في الأصل، وإذا كان صفة فهو بمعنى نازل أو منزل فلذا أطلق على المطر والسحاب، وقيل إنه لوجود معنى النزول فيهما وهو من الصوب والصوب له معان منها النزول والمطر ومنه الصيب بمعنى المطر، والسحاب ويكون بمعنى الصواب وبمعنى الجهة كما في قولهم صوب الصواب ذكره في المصباح، وعليه قول الحريري رجوت أن يعرج إلى صوبي وفي الأساس لست على صوب فلأن وأوبه، أي على طريقته ووجهه وقوله: يقال للمطر وللسحاب أي يطلق على كل منهما وهو محتمل للوصفية والاسمية كما جمرفته. قوله: (وأسحم دان إلخ) هو مصراع من قصيدة طويلة أوّلها:
ارسما جديدا من سعاد تجنب عفت روضة الأحداد منه فيثقب
عفا آية ريح الجنوب مع الصبا وأسحم دان مزنه متصوّب
وهكذا روي وروي كما ذكره المصنف رحمه الله وأسحم دان صادق الرعد صيب، وعلى
الأول لا شاهد فيه واختلف في قائله فقيل إنه للنابغة الذبياني من قصيدة مدح بها النعمان بن المنذر، وقيل للشماخ وهو شاعر مخضرم اسمه معقل وقيل الهيثم بن ضرار بن حرملة بن صيفي وهو شاعر مشهور، وهذا ما وقع في بعض الحواشي وهو تخليط منه فإنّ ما ذكره شعر آخر وان وافقه وزناً وروياً، وعفا بمعنى أمحى وخرّب وليس هو من العفو بمعنى الصفح كما قال:
عفا الله عن قوم عفا الصبر عنهم فلورمت ذركى غيرهم خرس الفم
والآي جمع آية أو كتمر وتمرة بمعنى الأثر والعلامة، وريح الجنوب والصبا معروفان
وقد وقع بدل ريح في نسخ نسج بتشبيه اختلاف هبوبها بنسج الحائك كأنّ إحداهما سدى والأخرى لحمة، وقريب منه قول البحتري في بعض قصائده:
يا دمية جاذبتها الريح بهجتها تبيت تنشرها طوراً وتطويها
لا زلت في حلل للغيث صافية ينيرها البرق أحياناً ويسديها
والضمير في قوله عفا آية للمنزل أو للرسم المذكور قبله، وأسحم بمعنى أسود مرفوع معطوف على قوله نسج وهو صفة للسحاب والأسود منه ممطر ففيه إشارة إلى أنّ كثرة المطر مما غير الديار أيضاً، ودان بمعنى قريب من الأرض وهكذا يوصف السحاب المملوء ماء كما قال: يكاد يلمسه من قام بالراح. وصادق الرعد براء وعين(1/391)
ودال مهملات أي إذا أرعد أمطر فكأنه وعد برعده وهو استعارة حسنة ولذا جعله بعض الشعراء تحية كما قال:
حياك يا ترب الهادي الرسول حيا بمنطق الرعد باد من فم السحب
ووقع في بعض الحواشي الوعد بالواو بدل الراء، وفسره بأنه يفي بوعده للديار، وهو حسن أيضاً الا أني أظن الرواية خلافه، والاستشهاد بالبيت للثاني وإنما استشهد له لأنّ المعروف أنه بمعنى المطر ولذا لم يثبته لشهرته والآية تحتملهما كما سيأتي والاحتمال لا ينافي كون أحدهما أشهر وأظهر، وما قيل من أنّ الأسحم عبارة عن المطر النازل خطوطا مستقيمة كالسدي) والريحان بمنزلة اللحمة، ولذا قيل إنّ الصيب في البيت يحتمل المطر فليس بنص في إرادة السحاب كلام من لم يدر مقاصد العرب في أشعارها، ومن أحال على الذوق فقد أحال على مليء، وقيل ظاهر عبارة المصنف إنه في البيت محتمل لكل من المطر والسحاب، ويحتمل أن يكون ناظرا للسحاب لقربه، ولتبادره من الصفات المذكورة. قوله: (وفي الآية يحتملهما) أي المطر والسحاب والاحتمال لا ينافي الترجيح لأحدهما، وفي قوله وتنكيره لأنه أريد به نوع من المطر شديد إشارة مّا إلى ترجيح كونه بمعنى المطر كما لا يخفى، والتنكير فيه للتنويع والتعظيم ولا مانع من الجمع بين معنييه، ويحتمل أنّ التنويع من التنوين والشدة من صيغة الصفة المشبهة وإن كان المشهور فيها الدلالة على الثبوت لا على التهويل والتعظيم، وأن كان لا مانع منه، وما قيل إنّ المصنف رحمه الله حمل التنكير على النوعية لأنّ الصيب نوعان شديد وضعيف والأولى جعل تنكيره للتعظيم، وإنما اختار النوعية لإشتمالها على معنى
العظمة، ولذا وصف النوع بالشدة إلاً أنّ هذا مناف لقوله والآية تحتملهما كلام ناشىء من قلة التدبر وفيما قدّمناه لك كفاية، وإنما رجح المصنف تفسيره بالمطر على عادة السلف في ترجيح التفسير المأثور، وهذا كما قال السيوطي أخرجه ابن جرير من عدّة طرق عن ابن عباس وابن مسعود ومجاهد وعطاء وقتادة وغيرهم من غير اختلاف فيه. قوله: (وتعريف السماء إلخ) يعني أنّ السماء تطلق على السماء الدنيا، وعلى الغمام كما تطلق على جميع طبقاتها وعلى كل ما علا من سقف، وغره وتطلق على المطر أيضاً كما في قوله إذا نزل السماء بأرض قوم.
وتطلق على كل جانب من سماء الدنيا مسامت لقطر من أقطارها، وهو المراد هنا، والآفاق بالمدّ جمع أفق بضمتين يطلق على كل ناحية من نواحي الأرض، ومنه آفاقي وأفقي للمسافر وعلى كل ناحية، وجانب من السماء ومطبق بضم الميم وكسر الباء مشددة ومخففة بمعنى محيط وشامل، وآخذ بالمدّ اسم فاعل بدل أو عطف بيان لمطبق من الأخذ وأصل معناه التناول، ويكون بمعنى الإمساك كالأخذ بالخطام واللجام، وبمعنى الحوز والتحصيل هذا هو المعنى الحقيقي، وما يقرب منه، ثم إنه تجوّز به عن معان أخر كالإحاطة والستر لأنه من شأن المحوز المأخوذ، وهو المراد هنا كما في قول الفرزدق:
أخذنا بآفاق السماء عليكم لنا جبلاها والنجوم الطوالع
فهو تعبير جيد هنا، ثم بئن المصنف رحمه الله تعريف السماء على وجه يتضمن بيان فائدتها، ودفع السؤال، وهو أنّ كل صيب مطرا كان أو سحاباً من السماء فلا حاجة لذكره، وإذا كان السماء بمنى الأفق وتعريفه للاستغراق أفاد فاثدة سنية، وهي أنّ السحاب محيط بجميع حواسهم وكذا المطر النازل عليهم منصت من كل أطرافهم ففيه مع الدلالة على قوّته تمهيد لظلمته، وأجاد المصنف رحمه الله إذ عقب التنكير بالتعريف على نهج أدمج فيه ما ذكر. قوله: (ومن بعد أرض إلخ) هو بيت هكذا:
فأوه لذكراها إذا ما ذكرتها ومن بعد أرض بنينا وسماء
وهو كما في الكشاف دليل على إطلاق السماء على كل أفق من آفاقها، وأوه وروي آه وكلاهما اسم فعل مبنيّ على الكسر بمعنى أتوجع ويوصل بمن واللام، وقال قدس سرّه: أي توجعت لذكر الحبيبة ومن بعد ما بيني وبينها من قطعة أرض، وقطعة سماء تقابل تلك القطعة الأرضية فنكرهما إذ لا يتصوّر بينهما بعد جميع الأرض والسماء، ولما صح إطلاقها على كل ناحية وأفق منها جيء بها معرّفة باللام لتفيد العموم، وتدل على أنه غمام مطبق، ولو نكرت لجاز أن يكون الصيب من بعض الآفاق.
قلت: هكذا فسروه، ولا يخفى(1/392)
أن تباعد مسافة الأرض والتفجع لها في غاية الظهور،
وأمّا تباعد ما يقابلها من السماء ففي غاية البعد عن مواطن الاستعمال، وما ذكروه معنى لا حاصل له، فالظاهر أنّ هذا جار على ما عرف في التخاطب إذا وصفوا الشيء بغاية التباعد يقولون بي! نهما ما بين السماء والأرض فأصله ومن بعد كبعد أرض وسماء فاقام المشبه به مقام المشبه مبالغة، وأمّا ما قيل من أنه إنما ذكر سماء مع أنه لا يزيد على ما أفاده بعد الأرض لأنه كما تكون موانع الوصول من الأرض تكون من السماء كشدة البرد، والحرّ والأمطار فبعده عن السياق بعد ما بين السماء والأرض. قوله: (أمذ به ما في صيب إلخ) خبر آخر لقوله تعريف السماء، وأمد بمعنى قوّى وأكد كما مرّ في قوله تعالى: {وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ} وقوله (من المبالنة إلخ) بيان لما في صيب لأنّ تعريفه يفيد المبالغة بإطلاقه على جميع الأقطار كما سمعته آنفاً، وصيب يفيد مبالغة باصله أي مادّة حروفه من الصاد المستعلية، والياء المشدّدة والباء الشديدة الدالة على شدة نزوله، والبناء بمعنى البنية والصيغة لأنّ فيعل صفة مشبهة مفيد للثبوت، والدوام المستلزم للكثرة فسقط ما توهم من أنّ الثبوت لا يدل على المبالغة كما أشرنا إليه، وتنكيره دال على التهويل والتكثير، وقوله وقيل المراد بالسماء السحاب أشار بتمريضه إلى أنّ المرضيّ عنده تفسيره بالمطر كما مرّ، وقوله واللام لتعريف الماهية أي على هذا، وليس المراد بالماهية الحقيقية من حيث هي بل في ضمن فرد مّا وهو العهد الذهني، وإنما تعين على هذا لأنه لم ينزل من جميع السحاب ولا من سحاب معين، ولا يصح قصد الأوّل إدّعاء للمبالغة كما في جميع الآفاق لأنه لا يخفى ركاكة أن يقال نزل ليهم مطر شديد من جميع السحاب دون من جميع الآفاق والنواحي فلا حاجة إلى ما قيل من أنّ المصنف ضرب على هذا بقلمه، وما يتوهم من أنّ المراد بالط هية، والحقيقة ما يشمل الاستغراق حتى لا ينافي ما مرّ فخبط بما لا يخفى فساده فتأمّل، وما قيل: من أنّ قوله من السماء يبطل ما قيل من أنّ السحاب يأخذ ماءه من البحر أو أنّ ماءه يكون من أبخرة متصاعدة من الأرض في الهواء لأنّ نزوله من جهة السماء لا ينافي شيئا مما ذكر، ولذا تركه المصنف. قوله: (إن أريد بالصيب المطر الخ) الإضافة في ظلماته لأدنى ملابسة لا بمعنى في وتكاثفه بتتابع القطر لأن تلاصق القطرات وتقاربها يقتضي قلة تخلل الهواء المنتشر المستنير، وظلمتة بسحمته وسواده لأنه لا ظلمة له في نفسه كالمطر، وقوله مع ظلمة الليل أي منضمة إليها ولم يقل وظلمة الليل لأنها ليست في المطر بل الأمر بالعكس، ثم إنّ الظرف بينه وبين المظروف ملابسة تامّة فاستعيرت الأداة الدالة على تلك الملابسة لمطلق الملابسة الشاملة للسببية، والمجاورة وغيرهما فلا يتوهم أنه جمع فيه بين معنيين أو معان مجازية، والأحسن أن يقال إنها بمعنى مع كمال في قوله تعالى {ادْخُلُواْ فِي أُمَمٍ} [الأعراف: 38] فإنه أحد معانيها ال مذكورة في المغني وغيره، ولك أن
تقول قول المصنف مع ظلمة الليل إشارة إلى هذا، وأمّا جعل ظلمة الليل فيه بتبعية الظلمتين الأخريين تغلي! اً كما قاله: قدس سرّه ومن تبعه فتعسف لما فيه من تغليب المعنى المجازي، وجعل المجاز على المجاز، وظلمة الليل في كلا التمثيلين كالمصرّح بها كما أشار إليه الفاضل المحقق ألا ترى قوله استوقد نارا هل يوقد للإضاءة في غير الليل، أما سمعت قولهم في المثل كموقد الشمع في الشمس وكذا قوله {وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ} أيكون مثله في سلطان الشمس بالنهار، ولكونها ظلمة أصلية لا ينفك عنها الزمان لم يصرّح بها إيجازا فلا يرد عليه ما فيل من أنّ ظلمة الليل من أين تستفاد حتى يحتاج إلى الجواب بأنها من الجمع، ومقام المبالغة فتدبر. قوله: (وجعله مكاناً للرّعد إلخ) إشارة إلى أنّ الظرفية فيهما مجازية بالمعنى السابق لا بمعنى آخر، وفي الكشاف إذا كانا في أعلاه ومصبه وملتبسين في الجملة به فهما فيه ألا تراك تقول فلان في البلد، وما هو منه إلاً في حيز يشغله جرمه، ولشراحه فيه كلام لم يصف من الكدر والذي ارتضاه سيد المحققين أنه توجيه لظرفية المطر للرعد والبرق لعدم ظهورها ظهور ظرفية السحاب لهما بأنهما لما كانا في محل متصل به هو أعلاه، ومصبه أي السحاب جعلا كأنهما فيه باستعارة في لملابسة شبيهة بملابسة الظرفية كما شبهت بها ملابسة الشخص للبلد، وأستعملت فيها وليس المراد بالبلد جزأه، وقيل أراد أنّ المطر كما ينزل من أسفل السحاب ينزل من أعلاه فيشمل الفضاء الذي فيه الغيم فهما في جزء من المطر(1/393)
متصل بالسحاب كالشخص في جزء من البلد وهذا أقرب إلى المثال وذاك إلى عبارة الكتاب، وقد تبع فيه الشارح المحقز،، وترك ما فيه من أنّ من الناس من ذهب إلى أنّ المراد بالبلد جزؤه، وزعم أنّ الأعلى والمصب جزء من المطر وليس بذاك، ومنهم من جعله من إطلاق أحد المجاورين على الآخر والأعلى والمصب سحاب والتمثيل لمجرّد التلبس، ولمجاورة ورد بأنه يكون المعنى حيحئذ في السحاب رعد وبرق لا في المطر على ما هو المطلوب.
ثم قال ردّاً لما في الكشف: فإن قلت الظلمة والرعد أي الصت والبرق أي النارية واللمعان كلها أعراض، والعرض لا يتمكن في المكان إلاً بنوع توسع من غير فرق بين المطر والسحاب، وبين الظلمة والرعد غاية ما في الباب أنّ وجه التلبس يكون في البعض أوضح كالرعد بالنسبة إلى السحاب.
قك: معنى الظرفية التي تفيدها في أعم من أن يكون على وجه التمكن في المكان كالجسم في الحيز أو على وجه الحلول في المحل كالعرض في الموضوع أو على وجه الاختصاص بالزمان كالضرب في وقت كذا، وظلمة السحمة والتطبيق في السحاب حقيقة بخلاف ظلمة الليل، وكذا تمكن الجسم الذي يقوم به صوت الرعد وبريق البرق حقيقة في السحاب لا في المطر فاحتيج للتأويل، وما ذكره من أنّ ظرفية الزمان والمكان حقيقة تدل عليها في بالوضع مسلم عند الأدباء وأمّا كون ظرفية العرض في الموضوع كذلك فغير مسلم،
والظاهر أنّ إطلاق في على ما ذكره بطريق الاشتراك اللفظي أو المعنوفي لا الحقيقة والمجاز كما قيل، والذي في الكشف أنّ الظرفية الحقيقية أي كون الشيء مكانا لآخر لا تراد هنا فإنهما عرضاه والتمكن من خواص الأجسام وإنما يضاف للعرض بواسطة معروضة، وهو وإن لم يرتضه الفاضل فهو الظاهر الموافق لكلام النحاة، وليس قصره الظرفية الحقيقية على المكانية لنفي الزمانية بل لأنه محل النزاع، ثم إنّ الذي أوقعهم في النزإع قوله أعلاه ومصبه فإنّ ضميربه للمطر وأصل إضافة اسم التفضيل أن يكون لما هو بعض منه فمنهم من أبقاه على ظاهره فجعل الظرف والمظروف قطرا ومنهم من صرفه عنه، وجعله غير مضاف لبعضه وهو الحق وكأنه استعمله ظرفا بمعنى فوق كما أنّ أسفل يكون بمعنى تحت من غير تفضيل أي إذا كانا في شيء فوقه وهو منشؤه ومصبه والمراد بمصبه محل ينصب منه لا فيه وإليه كما توهم، وفي حواشي ابن الصائغ حكى الشيخ عز الدين عن أبي عليّ فيه أي في وقته، وقال غيره في مصبه، وهو ضعيف لأنّ الرعد والبرق لا يكونان في الأرض وهو وهم لما عرفت.
وأعلم أنّ ألمصنف رحمه الله أتى بعبارة أوجز من عبارة الزمخشريّ، وقصد في تغييرها
مقاصد حسنة فعدل عن قوله مصبه إلى منحدره بضم الميم وفتح الدال المهملة، وهو اسم مكان أيضا لما في عبارة الكشاف من الغموض واحتمال إرادة الأرض! وهو فاسد كما مرّ، وحذف قوله في الجملة إذ لا طإئلى تحتة، وترك قوله ألا تراك إلخ لأنّ المتبادر منه أنّ فلانا في البلد مجاز كما صرّح به بعض شرّاحه، وهو مخالف لما يفهم من العرف، وقد صرّحوا بأن صمت في الشهر حقيقة في صوم يوم منه كما صرّحوا به وقياسه يقتضي أن هذا حقيقة أيضا كما صرّح به في التلويح فقال في للظرف بأنّ يشتمل المجرور على ما قبلها اشتمالاً مكانياً أو زمانيا تحقيقا ن! حو الماء في الكوز وزيد في البلد، أو تشبيها نحو زيد في نعمة، وفي الرضى الظرفية الشحقيقية نحو زيد في الدار وهو مما لا خفاء فيه، وقد يقال إنه تنظير بقطع النظر عن الحقيقة والمجاز فإنّ الكائن في بقعة من البلد يجعل في جميعها لما بينهما من الملابسة إلا أنه يرد حينئذ ما ذكر على شرّاحه فتدبر، وقد أطلنا هنا تحريراً وتقريرا إلا أنّ فيما أبدعناه ما يجعل ذنب الإسهاب (1) مغفوراً، ويبدي لعين الإنصاف نضرة وسرورا. قوله: (وإن أريد به السحاب إلخ) ما مرّ كله على أنّ المراد بالصيب المطر وقدمه لأنه المعروف في اللغة والاستعمال، وسحمته بضم السين سواده وظلمته، وتطبيقه كون بعضه فوق بعض، وفيه تسامح ولم يقل وظلمة الليل لما مرّ وظلمة الليل مستفادة من التظلم كما مرّ وما قيل من أنه يجوز أن يعتبر ظلمات حصلت من إحاطة الغمام، بآفاق السماء على التمام فإنّ كل أفق إذا استتر بسحاب تتراكم الظلمات بلا ارتياب.
قلت: لم يزد شيثاً على ما ذكروه، فإنّ ما تصلف به هو معنى تطبيقه بعينه غايته أنه جعل
جزء الوجه وجها مستقلاً، وقوله وارتفاعها فضمير المؤنث لظلمات، وفي نسخة وارتفاعه بتذكيره لأنه لفظ والمراد أنّ(1/394)
الظرف هنا لإعتماده على الموصوف يجوز كون المرفوع بعده وهو ظلمات فاعلاَ له كما يجوز أن يكون مبتدأ فيه خبر مقدّم عليه لأنه نكرة بخلاف ما إذ لم يعتمد فإن للنحاة في جواز كونه فاعلاً خلافاً فعند سيبويه والجمهور يتعين أنه مبتدأ هذا هو المراد لا أنّ الفاعلية هنا متعينة بالإتفاق إذ لم يقل به أحد من أهل العربية، وفي التسهيل اشترط سيبويه مع الارتفاع كون المرفوع حدثاً وليس هذا محل تفصيله، وما بعد ظلمات مما عطف عليه حكمه حكمه، ولم يتعرّضوا له لظهوره. قوله: (والمشهور أنّ سببه إلخ الما ذكر أنّ حقيقة الرعد الصوت المسموع من السحاب بين سببه بناء على ما اشتهر بين الحكماء من أنّ الشمس إذا أشرقت عاى الأرض اليابسة حللت منها أجزاء نارية يخالطها أجزاء أرضية فيركب منهما دخان، ويختلط بالبخار ويتصاعدان معاً إلى الطبقة الباردة فينعقد ثمة سحاباً ويحتقن الدخان فيه، ويطلب الصعود إن بقي على طبعه الحارّ والنزول إن ثقل وبرد، وكيف كان يمزق السحاب بعنفه فيحدث منه الرعد، وقد تشتعل بشدّة حرمته ومحاكته نار لامعة، وهي البرق إن لطفت والصاعقة إن غلظت كذا قرّره في حكمة العين ولهم فيه أقوال أخر غير مرضية كما أشار إليه في الشفاء، وقوله اضطراب افتعال من الضوب أي ضرب بعضه بعضاً، ولذا ف! ن! ره بقوله واصطكاكها لأنه يكون بمعنى الحوكة العنيفة مطلقاً ومنه أستعير الاضطراب النفسانيّ. قوله: " ذا حدته! الريح) أصل الحدو من الحداء، وهو غناء للعرب معروف تنشط به الإبل، ثم استعمل بمعنى السوق، وهو المراد هنا وفيه استعارة مكنية حسنة لتشبيه السحاب بإبل وركاب تساق وهو كثير في كلام العرب كقول بعضهم:
ركائب تحدوها الثمال زمامها بكف الصبا حتى أتيحت على نجد
وفي الحديث كما رواه ابن جرير " الرعد ملك موكل بالسحاب يسوقها كما يسوق الحادي
الإبل) (1) وقال الحكماء أيضاً إنّ بعض الرياح كالشمال مبرّدة لحرارة السحاب، وتحدث فيه رعدا وبرقاً قيل ما ذكره المصنف رحمه الله تبع فيه الزمخشريّ، والحكماء ولا عبرة به، والذي عليه التعويل كما قاله الطيبي، ما ورد في الأحاديث الصحيحة من طرق مختلفة في السنن أنّ الرعد ملك، والبرق مخراق من حديد أو من نار أو من نور يضرب به السحاب (2) ، وعن ابن
عباس رضي الله عهما الرعد ملك يسوق السحاب بالتسبيح وهو صوته، وورد " سبحان من يسئح الرعد بحمده " (1) وقيل البرق ضحكه، وقيل نار تخرج من فيه إذا غضب وله عدّة طرق، وروايات ذكرها السيوطيّ في الدر المنثور ولا شبهة في صحته فتركه لخرافات الحكماء مما لا يليق كما ذهب إليه بعض من كتب على هذا الكتاب، والقول بأنّ ما في الحديث تمثيلات مسخ لكلام النبوّة نعم لك أن تقول الأجرام العلوية وما في الجوّ موكل بها ملائكة تتصرّف فيها بإذن الله وأمره كملك السحاب والمطر فإذا ساق السحاب، وقطعها حدث من تفريقها أصوات، ولمعان نورية مختلطة فتسبح ملائكتها فأهل الله يسمعون تسبيحها معرضين عما سواه، والمتشبث باذيال العقل يسمع حركاتها ويرى ما يحدث من إصطكاكها فتأمّل. قوله: (من الارتعاد إلخ) قيل عليه إنّ للنحاة، والأدباء في الإشتقاق ثلاثة مذاهب كون المشتق منه المصدر، وكونه مطلقا وكون الفعل من المصدر وبقية المشتقات من الفعل كاسم الفاعل، وأمّا اشتقاق المصدر من المصدر فلم يذهب إليه ذاهب على أنه لو قيل به؟ ، ن المزيد منه مأخوذا من المجرّد لا عكسه كالذي نحن فيه فقيل إنه لم يرد بأنه أصله ظاهره لأنّ أصله الرعدة وإنما أراد أنّ فيه معنى الاضطراب، وهذا تسليم للإعتراض، وقيل إنه على ظاهره وأنه أراد أنه مشتق من الإرتعاد فإنّ الزمخشريّ قد يردّ المجرّد إلى المزيد إذا كان المزيد أعرف، وأعرق في المعنى المعتبر في الاشتقاق كالقدر من التقدير والوجه من المواجهة وهذا منع للسؤال، وقيل من فيه اتصالية والمراد أنهما من جنس واحد يجمعهما الاشتقاق من الرعدة، وكذا قوله من برق الشيء بريقاً وليس فيما ذكر ما يشفي الصدور فلّك أن تقول إنّ مبناه على تعليل الأوضاع اللغوية، والمعنى أنّ الرعد وضمع لما ذكر لما فيه من الإرتعاد وقد مهد له بذكر الاضطراب وليس المراد أنه مأخوذ ولا مشتق من الارتعاد كما فهموه فمن ابتدائية والتقدير مصوغ من مادّة دالة على الارتعاد(1/395)
ومثل هذا التقدير غير منكر في كلام أهل العربية. قوله: (وكلاهما مصدر إلخ) في الكشاف، لما سأل لم لم يجمع الرعد والبرق كما جمعت الظلمات فإن الظاهر أن يكون على نمط واحد، وأيضا الجمع أبلغ فلم عدل عته، أجاب بأنّ فيه وجهين أحدهما أن يراد العينان ولكنهما لما كانا مصدرين في الأصل يقال رعدت السماء رعدا وبرقت برقا روعي حكم أصلهما
- يا أبا القاسم إنا نسألك عن خمسة أشياء فإن أنبأتهن عرفنا أنك نبي واتبعناك قالوا: فأخبرنا عن الرعد ما هو؟ قال: ملك من الملائكة موكل بالس! ب معه مخاريق من نار يسوق بها السحاب حيث شاء الله. قالوأ: فط الصوت الذي نسمع فيه؟ قال: زجرة السحاب إذا زجره حتى ينتهي إلى حيث أمر " قالوا صدقت. . . . . ".
تال الترمذي: حسن غريب اهـ ورجاله كلهم ثقات سوى ئغير بن شهاب فإنه مقبول كما في التقريب.
وقال الإمام الذهبي في الميزان: عراقي صدوق.
بأن ترك جمعهما، وان أريد معنى الجمع والثاني أن يراد الحدثان كأنه قيل، وارعاد وإبراق، وإنما جاءت هذه الأشياء منكرات لأنّ المراد أنواع منها كأنه قيل فيه ظلمات داجية ورعد قاصف وبرق خاطف، اهـ. وكون الأصل في المصدر أن لا يجمع مما أتفق عليه، ونص عليه في الكتاب سواء كان مفعولاً مطلقا أو لا حتى إذا جمع على خلاف القياس كان مقصوراً على السماع، ووجهه أنه اسم وحدث والمعاني لا تتغاير إلاً باعتبار المحل بخلاف الأجسام وهو شامل للقليل، والكثير فلا فائدة في جمعه والعدول عن مفرده المفيد لما أفاده مع أنه أخف وأخصر إلاً أن يقصد الأنواع، ثم إذا نقل فأكثر فيه أن يبقى على أصله ويجوز أن يعامل معاملة أسماء الأجرام، ثم إنّ المصنف رحمه الله ترك ما في الكشاف من احتمال أنه مصدر باق على أصله لأنه بعيد بل لم يسمع في الكلام المداول، وترك كون تنوينه للتنويع لما فيه من الخلل لأنه لو أريد نوع مخصوص كان المناسب تعريفه لأن النكرة لا تدل على زعمه، وأيضاً لو صح ما ذكر كان المناسب إفراد الظلمة أيضاً، وهذا من مقاصده فإنه إذا أسقط شيئاً منه أشار إلى ردّه، وهو مما ينبغي التنبه له في هذا الكتاب، وأكثر أرباب الحواشي لا ينبه عليه، ثم إنّ هنا نكتة سرية في أفرادهما هنا وهي أنّ الرعد كما ورد في الحديث وجرت به العادة يسوق السحاب من مكان لآخر فلو تعدد وكثر لم يكن السحاب مطبقاً فتزول شدة ظلمته، وكذا البرق لو كثر لمعانه لم تطبق الظلمة كما يثير إليه قوله {كُلَّمَا أَضَاء لَهُم مَّشَوْاْ فِيهِ} فإفرادهما متعين هنا، وهذا مما لمعت به بوارق الهداية في ظلمات الخواطر. قوله:) الضمير لأصحاب إلخ) فيه إيجاز لطيف وأصله كذوي الذي بمعنى أصحاب لأنه جمع ذو بمعنى صاحب وهو أشهر معانيه، والبيت المذكور لحسان بن ثابت رضي الله عنه من قصيدة له مشهورة في مدح آل جفنة ملوك الشام وأوّلها:
أسألت رسم الدار أم لم تسأل بين الجوابي فالنصيع فحومل
ومنها:
لله درّ عصابة نادمتهم يوماً بجلق في الزمان الأوّل
أولاد جفنة حول قبر أبيهم قبر ابن مارية الجواد المفضل
يسقون من ورد البريض عليهم بردى يصفق بالرحيق السلسل
وهي طويلة وضمير يسقون لأولاد جفنة وبردى بفتح الموحدة، والراء والدال المهملئين
نهر بدمشق وقيل: وأدبها والبريض بالضاد المعحمة وروي بالصاد المهملة وهو الأشهر وعليه اقتصر في القاموس اسم لخليج، وشعبة من نهر بردى وقيل إنه اسم موضع فيه أنهار كثيرة
بدليل قوله:
فما لحم الغراب لنا بزاد ولا سرطان أنهار البريض
وفيه نظر، وورد بمعنى قدم وأصل معنى ورد جاء الماء ليستقي ففيه إبهام هنا وورد كقدم يتعدّى بعلى، وقيل إنه يضمن معنى نزل، وبردى مؤتث لما فيه من ألف التأنيث والتقدير ماء بردى، والتصفيق التحويل من إناء إلى آخر ليصفي، والمراد به هنا يمزج ويصفق كما قال أبو حيان: روي بالياء لتحتية والتاء الفوقية والأوّل مراعاة لماء المقدر هنا، وهو محل الاستشهاد هنا كما جمع الضمير العائد على ذوي، ولولاه كان مفردا مذكرا، والثاني مراعاة لبردى ويجوز أن يكون لإكتساب المضاف التأنيث من المضاف إليه، والرحيق الشراب الخالص! ، والسلسل السائغ السهل الإنحدار في الحلق، وقوله أن يعوّل عليه أي يراعى من عوّلت عليه، وبه إذا اعتمدت فتجوّز به عما ذكر، وقوله حيث ذكر الضمير أي بناء على اشهر الروايتين فيه، وذكر بالتشديد من التذكير ضد التأنيث. قوله: (والجملة استئناف إلخ) أي استئناف بياني في جواب سؤال مقدر كما أشار إليه المصنف رحمه الله، ولذا لم تعطف فلا محل لها من الإعراب وجوّزوا فيها وجوها(1/396)
أخر ككونها في محل جر على أنها صفة لذوي المقدر، وقد جوّز فيها وفي جملة يكاد كونها صفة صيب لتأويلها بلا يطيقونه، ونحوه أو في محل نص على الحال من ضمير فيه، والعائد محذوف أو الألف واللام نائبة عنه والتقدير من صواعقه، وقوله لما ذكر ما يؤذن بالشدّة والهول أي ما يدل على شدّة ما هم فيه من الأمور المخوفة المهولة.
وفي الكشاف لما ذكر الرعد والبرق على ما يؤذن بالثدة والهول فكأنّ قائلاً قال: فكيف حالهم مع مثل ذلك الرعد فقيل يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق، ثم قال: فكيف حالهم مع مثل ذلك البرق فقيل يكاد البرق يخطف أبصارهم، وقيل: بين الكلامين بون بعيد وفرق ظاهر لأنّ المراد بما يؤذن إلخ في كلام المصنف الظلمة والرعد والبرق، وتنكيرها لأنه الأصل من غير مقتض للعدول عنه ووجه إيذانها أنها إمارات، ومقدمات للصواعق لأنها تسبق بها متعاقبة على ترتيب النظم عادة فمنشأ الاستئناف تلك الأمور بلا تفرقة بينها، فالأولى عنده جواب السؤال الناشىء من المجموع، والثانية عن السؤال الناشىء عن ذكر الصواجمق المستلزمة للبرق، والثالثة عما نشا من الجواب الثاني، وأورد عليه أنّ الثالثة لو كانت كذلك كانت على وتيرتها في التعبير والأمر فيه سهل، واختار في الكشاف أنّ منشأ السؤال هنا الرعد القاصف وحده والتنكيو للنوعية كما مرّ فعنده الجمل الثلاثة أي {يَجْعَلُونَ} {؟ ويكاد البوق} {؟ وكلما أضاء} إلخ أجوبة عن أسئلة ثلاثة من قوله {فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ} باعتبار الرعد والبرق واختلاف الحال المفهوم من الظلمات والبرق على اللف والنشر المرتب، أمّا في الأوّلين فظاهر، وأمّ في الثالث فلأنّ الاختلاف من تمامها، وأورد عليه أنه إن أراد بالقاصف ما معه. ر فهو عين الصاعقة فلا يتجه الاش خاف لأنّ لفظة فيه إلخ دال على وقوع الرعد فلا يكون وضع
الأصابع إلاً بعد وقوع الصاعقة، وهو عبث وإن أراد ما يخلو عنها كان من مقدّماتها قيساويه الباقيان معنى مع أنّ البرق أقرب للصاعقة من الظلمات فلا وجه لاختياوه وهذا هو السرّ في عدول المصنف عما في الكشاف، وقد قيل: عليه أنّ الجواب الأوّل لا يطابق السؤال الذي قدره لأنه يبين حالهم مع الصواعق دون الرعد وان أجابوا عنه بأنه لم كانت الصاعقة بصفة رعد أي شدّة صوت منه ينقض معها شعبة من نار كان الجواب مطابقاً له كأنه قيل يجعلون أصابعهم في آذانهم من شدّة صوت الرعد المنقض معه النار.
أقول لك أن تقول لا نسلم أنّ المصنف قصد مخالفة الزمخشريّ، والرد عليه فإنه لا مخالفة بينهما في الثالث إذ قدر ما قدّره بعينه، وكذا في الثاني لأن الزمخشريّ قال كيف حالهم مع مثل ذلك البرق والمصنف قال مع تلك الصواعق وكلاهما نوع واحد ناري كما مرّ وكذا في الأوّل لأنّ كلام المصنف محتمل فيه حيث قال: مع ذلك فلك أن تجعل الإشارة للرعد، ولو سلم أنه للمجموع فقول الزمخشريّ مثل هذا الرعد يريد به المصاحب للظلمة والبرق فلا فرق مع أنه لو سلم تغايرهما فلا وجه لجعل الأصابع في الآذان مع الظلمة والبرق، وكذا الأوجه لجواب السؤال بكيف حالهم مع تلك الصواعق بيكاد البرق إلا بالتوجيه السابق فما في الكشاف أحسن لما فيه من تطبيق الجواب على السؤال، واصابة المحز فمن قال: بترجيح ما هنا عليه لم يصب، ثم إنّ ما ذكره في التنوين ليس في كلام المصنف ما يقتضيه بوجه من الوجوه، والظاهر أنّ المراد بإيذانها بالشدة والهول ما يلوح لهم من مقدمات الهلاك بعد الوقوع في تيه الحيرة، والحسرة لا خصوص الصواعق ليكون الجواب أتمّ فائدة وأوفى عائدة، وما أورده على تقدير الرعد القاصف ليس بشيء، وقد فسر الراغب القاصف بما في صوته تكسر بشدة فالمراد الثاني، وكونه مساوياً لأخويه لا ضير فيه لمن له شعور وبصير، وقوله فأجيب بها الضمير للجملة، ويجوز عوده على الحال. قوله: (وإنما أطلق الأصابع إلخ) أي أوردها واستعملها في موضمع الأنامل المرادة هنا لأجل المبالغة لأنّ الأصابع معروفة، وفيها عقد والأنامل جمع أنملة بفتح الهمزة، ونتح الميم أكثر من ضمها وفي المصباح أنه حكى فيها تثليث الهمزة مع تثليث الميم ففيها تسع لغات، وهي العقدة من الأصابع وبعضهم يقول الأنامل جزء من الأصابع كما في المصباح أيضاً، وعلى كل حال فهي جزء مخصوص، أو غير مخصوص من الأصابع أطلق على كلها مبالغة كأنهم يبالغون حتى يدخلوا جميع(1/397)
الأصبع أي أصبعهم في آذانهم مبالغة في السدان لم يحمل على التوزيع، وقيل إنّ في قولهم آذان دون صماخ مبالغة أيضا، ولا يخفى أنّ الجعل مع في بمعنى الإدخال يأباه، وقال علامة الروم في تعليقات الفرائد في قوله تعالى {يَجْعَلُونَ} مبالغة في فرط دهشتهم وكما حيرتهم من وجوه.
أحدها نسبة الجعل إلى كل الأححابع، وهر منسوب إلى البعض منها وهو الأنامل.
وثانيها من حيث الإبهام في الأصابع والمعهود إدخال إصبع مخصوص هو السبابة فكأنهم
من فرط دهشتهم يدخلون، أيّ إصبع كانت في آذانهم ولا يسلكون المسلك المعهود.
وثالثها في ذكر الجعل موضع الإدخال فإن جعل شيء في شيء أدل على إحاطة الثاني
بالأوّل من إدخاله فيه، وهذه دقائق لم يتنبهوا لها.
فإن قلت: هل هذا من المجاز اللغوي لتسمية الكل باسم جزئه، أو للتجوّز في الجعل،
أو هو من المجاز العقلي بأن ينسب الجعل للأصابع وهو للأنامل.
قلت: الذي ذكروه في كتب المعاتي وغيرها أنه من الأوّل الآ اًنّ للمتأخرين فيه كلاما
فقال خاتمة المحققين ابن كمال في تكميل الفرائد أيضاً أنهم ظنوه مجازا لغويا، وهو مجاز عقليّ بإسناد ما للبعض إلى الكل، لأنّ المبالغة في الاحتراز عن إستماع ائصاعقة لفرط الخوف إنما تكون على هذا لا على ما قالوه، ولخفاء الفرق بين الاعتبارير، قال: في شرح المفتاح في إطلاق الأصابع على الأنامل مبالغة يخلو عنها ذكر الأنامل، والمبالغة إنما تتأتى إذا كانت الأصابع باقية على حفيقتها إذ لا مب لغة في ذثرها مراداً بها الأنامل، كما لا مبالغة في رجل عدل إذا أوّل بعادل على ما صرّح به القوم تبعاً لصاحب الدلائل، وارادة الأنامل من الأصابع مجاز مرسل، وإنما المبالغة في جعل أجزاء الأصابع في الأذن، والتجوّز في تعلق الجعل لا في متعلقه، وهو الأصابع ثم أنّ بعض فضلاء العصر قال: فيما قرّره القوم نظر آخر لأنه قد يقال إنه لا مجاز هنا، وذلك لأنّ نسبة بعض الأفعال إلى دّي أجزاء تنقسم، يكفي فيها تلبسه ببعض أجزائه، كما يقال دخلت البلد وجئت ليلة الخميس ومسحت بالمنديل ونحوه، فمعنى نسبة الجعل في الأذن إلى الأصبع إذا تليس ببعض منه، وهو الأنملة صحيح حقيقة من غير إحتياج إلى التجوّز في الكلمة أو الإسناد، أو على تقدير مضاف كأنملة أصابعهم.
أ! دول الذي غرّه هذا قول بعض أهل المعاني أنّ المجاز المرسل لا يفيد مبالغة كالاستعارة، وهو غير مسلم عند العلامة لتصريحهم بخلافه في مواضع من الكشاف وبه نطقت زبر المتقدّمين، ولو لم يكن كذلك كان العدول عن الحقيقة في أمثاله عبثا لا يحوم مثله حول حمى التنزيل، ويكفي في المبالغة تبادر الذهن إلى أنّ الكل أدخل في الأذن قبل النظر للقرينة كما لا يخفى على ذي بصيرة نقادة وفطنة وقادة، وأمّا كون مثل دخلت البلد لمن دخل دارا منها حقيقة فليس على إطلاقه ولعل النوبة تفضي إلى تحقيقه في نحل آخر،، ثم أنه قال في الكشاف: إنّ ما يسد الأذن أصبع خاصة وهي السبابة إلا أنها لما كانت فعالة من السب كان اجتنابها أولى بأدب القرآن، ولذا كنوا عنها لاستبشاعها بالمسبحة والسباحة والمهللة والدعاءة. اهـ وهذا كما قال المعرّي:
يشار إليك بدعاءة ويثني على فضلك الخنصر
وقال التبريزي: في شرح سقط الزند أنها يوما بها في الخصام فكأنها يسبّ بها ويفظع،
أو هي من السبب لأنها تشير للشيء فهي سبب لمعرفته فنزهه عن تسميتها سبابة لأنها مشتقة من السب فجعلها دعاءة. اهـ والمصنف لم يلتفت لهذا أمّا لأنه لا وجه لما ذكره من الاختصاص أو لأنّ هذا مقام ذم وسب لهم فالسبابة أنسب به كما لا يخفى، وهذا من الحور المقصورة في خبايا الأذهان والأزهار التي لم تنفتح لها كمام الآذان. قوله: (أي من أجلها يجعلون إلخ) جعله متعلقاً بيجعلون لأنّ تعلقه بالموت، وان صح بعيد كما في سقاه من العيمة أي من أجلها، بمعنى أنها الباعث وذلك لأنّ من هنا تغني غناء اللام في المفعول له فهي تعليليه، وقد يكون غاية يقصد حصولها، وقد يكون باعثاً بتقدّم وجوده كما قيل، وقيل: من ابتدائية على سبيل العلية، وما بعدها أمر باعث على الفعل الذي قبلها كقعد من الجبن، ولا يكون غرضاً مطلوباً منه إلاً إذا صرّح بما يدل على التعليل ظاهراً، كقولك: ضربته من أجل التاديب بخلاف اللام فإنها تستعمل في كل واحد(1/398)
منهما، وهو ودّ على المحقق في جعله من التعليلية كاللام تدخل على الباعث المتقدّم، والغرض! المتأخر بأنه إطلاق في محل التقييد لأنها إنما تدخل على المتأخر إذا صحبها ما يدل على التعليل، كلفظ أجل فيما ذكره وهو مخالف لأهل العربية، فإنهم صرحوا بأنها تجيء للتعليل مطلقاً من غير فرق بينهما، وقد قال الطيبي: طيب الله ثراه بعدما ذكر أنها للتعليل هنا أنه كقوله تعالى {وَوَهَبْنَا لَهُ مِن رَّحْمَتِنَا} [مريم: 53] أي من أجل رحمتنا والرحمة الإحسان، وهو نتيجة الهبة منه مرتب عليها كالتأديب، وكذا في الذر المصون وغيره، ومثله {أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ} [تريثى: 4] قال أبو حيان رحمه الله من هنا للتعليل أي لأجل الجوع، وما قيل عليه من أنّ الجوع لا يجامع الإطعام، فالظاهر أنها بدلية لا وجه له فإنهم قالوا في ضابط البدلية إنها ما يحسن وضع لفظ بدل موضعها، ولا يخفى أنه لا يحسن أن يقال الإطعام بدل الجوخ، والعيمة شدة شهوة اللبن بحيث لا يصبر عته، والغيمة بالمعجمة شدة شهوة الماء، والأيمة شدّة شهوة النكاج، والقرم شدة شهوة اللحم، يقال عام إلى اللبن إذا اشتهاه، والعرب تقول سقاه من العيمة أي من جهة العيمة، ولأجلها وعن العيمة أي أنّ سقيه تجاوز به عن حكم العيمة إلى الريّ. قوله: (والصاعقة قصفة رعد هائل إلخ) القصفة واحدة القصف وأصل معناه الكسر، وقاصف الرعد أشده يكون صوتا متعاقباً متكسراً، وهائل بزنة اسم الفاعل بمعنى موقع في الهول وهو الخوف، قال ابن جني: يقال هالني الشيء يهولني فهو هائل وأنا ههول، والعامّة تقول أمر مهول ولا وجه له إلا أنه وقع ني خطب ابن نباتة مهول منظره، وقال بعض شراحها إنه صحيح أيضاً وقصفة رعد على ظاهره لا بمعنى رعد قاصف كما توهم للفرق بينهما، وقيل: إنّ المصنف فسر الصاعقة بتفسيرين دفع بهما ما أورد عليه من أنّ الجواب لا يطابق السؤال، لأنّ السؤال عن حالهم مع الرعد فدفعه بأنّ الصواعق
حال الرعد أيضا، أو بأنها تطلق كل حال هائل، وهو مما تبع فيه شراح الكشاف، وهو تخليط كما مرّ لأنّ المصنف لا يقدر السؤال الأوّل بما ذكره، وتفسيره الأوّل حاصله أنها مجموع أمرين شديد رعد ونار تهلك ما تصيبه، لأنّ أصلها اسم فاعل من صعق بمعنى صرخ صراخاً شديداً، كما قال تعالى {وَخَرَّ موسَى صَعِقًا} [الأعراف: 143] وقد يكون معها جرم حجري أو حديديّ يبلغ أرطالاً كما فصله ابن سينا في الشفاء، وربما تطلق على النار أو الجرم فقط لكنه غير مناسب هنا، وقيل إنها ريح سحابي تهي إلى الأرض بحدة أشتعال ونفوذ، فربما أحرقت الذهب في الصرة وأذابتة من غير أن تضره، وقوله: أتت عليه بمعنى أهلكته وأفنته لأنّ أتى المتعدي بعلى يكون بهذا المعنى كما سياني تحقيقه في محله. قوله: (وفد تطلق على كل هائل إلخ) وقع في بعض النسخ مسموع ومشاهد، وفي بعضها أو بدل الواو قال الراغب: قال بعض أهل اللغة: الصاعقة على ثلاثة أوجه الموت كقوله {فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ} [الزمر: 68] والعذاب كقوله {أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} [فصلت: 13] والنار كقوله {وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَاء} [الرعد: 13] وهي أشياء متولدة من الصاعقة هو قريب مما ذكر وقوله ويقال إلخ. بيان لشمولها للمسموع والمشاهد. قوله: (وهو ليس بقلب إلخ) يعني أنّ الصاعقة والصاقعة وإن تقاربا لفظاً ومعنى فليس أحدهما أصلاً والآخر فرع مقلوب منه قلباً مكانياً لوجهين ذكر أحدهما وهو الأشهر الأظهر، وأنّ قاعدة القلب أن تكون تصاريف الأصل تامّة بأن يصاغ منه فعل ومصدر وصفة، وييبهون الآخر ليس كذلك فيعلم من عدم تكميل تصاريفه أنه ليس بنية أصلية، وهذه قاعدة مقرّرة عند النحاة، والثاني ما ذكره الراغب من أنّ الصقع في الأجسام الأرضية، والصعق في الأجسام العلوية، وهذا غير مطرد، ولذا تركه المصنف رحمه الله مع أنه مخصوص بهذا والأوّل عام، قال في التسهيل: علامة صحة القلب كون أحد البناءين فائقاً للآخر ببعض وجوه التصريف، وله تفصيل في شروحه، ولا شذوذ في جمع صاعقة على صواعق لأنه إنما يثذ في جمع فاعل المذكر العاقل الوصف، فهذا بعيد عن الشذوذ بمراحل، وقول الطيبي والفاضل اليمني إذا كانت الصاعقة للمذكر والتاء للمبالغة فالجمع على فواعل شاذ غفلة عن تحقيق المسئلة، وقوله: يقال صقع الديك أي صاح بيان لاستواء البناءين في التصرف، والمراد بالراوية الراوي الذي تكثر روايته للشعر وغيره، ومصقع كمنير جهوري الصوت،(1/399)
والظاهر أنّ الصاعقة في الأصل صفة وتاؤها للتأنيث إن قدرت صفة لمؤنث كقصفة، أو للمبالغة إن لم تقدّر كذلك، كراوية أو هي للنقل من الوصفية إلى الاسمية كما في حقيقة، أو هي مصدر رسمي به لأنّ
فاعلا مع التاء، وبدونها يكون مصدرا لكنه نادر مقصور على السماع كما مرّ في الفاتحة، ومنه العافية بالفاء بمعنى العفو، ويجوز أن يكون بالقاف والباء الموحدة لأنه قيل في قوله تعالى {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف: 128] إنه مصدر بمعنى العقبى والكاذبة بمعنى الكذب وهذا أضعفها، ولذا أخرّه المصنف رحمه الله. قوله: (ئصب على العلة) يعني أنه مفعول لأجله ولما كان الغالب فيه التنكير، وجرّ ما ورد منه معرفا باللام استشهد له بالبيت المذكور وهو من قصيدة لحاتم الطاتي الجواد المشهور حث فيها على مكارم الأخلاق والصبر على أذى الأقرباء ومداراتهم وأوّلها:
أتعرف أطلالاً ونؤيا مهدما كخطك في رق كتاباً منمنما
ومنها:
إذا شئت ماريت امرأ السوء ما ترى إليك ولاطمت اللئيم الملطما وعوراءقدأعرضت عنهافلم تضر وذي أود قومته فتقوما
وأغفر عوراء الكريم إدخاره وأعرض عن شتم اللئيم تكرّما
ولا أخذل المولى وإن كان خاذلا ولا أشتم ابن العم إن كان مفحما
وهي طويلة. وقال ابن يسعون أنه لم يقل قديماً في معناها أحسن منها، وأغفر هنا بمعنى
أستر أو أعفو وأصفح، والعوراء الخصلة والفعلة القبيحة كلاما كانت أولاً، وتفسيرها بالكلمة القبيحة غير مناسب هنا، إلا أنه شاع القول للكلمة القبيحة عوراء كما يقال لضدها عيناء أي أتحمله وأسترزلته لتدوم مودّته كما قيل:
تريدمهذباً لاعيب فيه وهل عود يفوح بلا دخان
فالمراد بإدخاره إدخار مودته ومحبته، والضمير للكريم أو للغفران المفهوم من أغفر، والشاهد فيه حيث نصبه على أنه مفعول له مع أنه معرفة بالإضافة وأكثر في مثله جرّ. باللام، كقوله {لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ} [قريش: ا] وتكرما مفعول له أيضاً على الأصل في بابه واستشهادهم بهذا البيت هنا في موقعه والمراد بالتكرّم المبالغة في الكرم لا تكلفه وإن صح هنا.
وقال أبو حيان إعرابهم له مفعولاً له مع اسنيفائه شروطه فيه نظر، لأنّ قوله من الصواعق
في المعنى مفعول له، ولو كان معطوفا لجاز كقوله تعالى {ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللهِ وَتَثْبِيتًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ} [البقرة: 265] وقد جوزوا أن يكون منصوباً على المصدر أي يحذرون حذر الموت، وما ادّعاه لا يتم له بسلامة الأمير، فإنّ لزوم العطف في نحو زرت زيداً لمحبته إكراماً له غير مسلم، وما استشهد به لا شاهد فيه.
وقال ابن الصائغ رحمه الله: ومن خطه نقلت بعدما ذكر ما قاله أبو حيان جوابه أنهما إمّا نوعان: أحدهما منصوب، والآخر مجرور، فهما كالمفعول معهما في قوله تعالى {أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ} [سبأ: 10] في أحد القولين وأمّا أنّ من الصواعق علة ليجعلون أصابعهم في آذانهم أي لمطلق الجعل، وحذر الموت علة للفعل المعلل أي للفعل مع علته، وهو كلام نفيس فليحفظ فإنّ هذه المسثلة لم يصرّح بها أحد من أهل العربية. قوله: (والموت زوال الحياة إلخ) قال المتكلمون الحياة قوّة هي مبدأ للحس والحركة، وقيل: قوّة تتبع اعتدال النوع وتفيض عنها سائر القوى الحيوانية كما فصلوه مع ما له وعليه، والموت زوال الحياة ومعنى زوال الصفة عدمها عما يتصف بها بالفعل، فبكون عدم ملكة للحياة كالعمى الطارىء على البصر لا مطلق العمى، ولا يلزم كون عدم الحياة عن الجنين عند استعداده للحياة موتاً.
وعلى هذا حمل قول المعتزلة أنّ الموت فعل من الله أو من الملك يقتضي زوال حياة الجسم من غير جرح، واحترز بالقيد الأخير عن القتل، وحمل الفعل على الكيفية الصادرة مبني على أنّ المراد به الأثر الصادر عن الفاعل، إذ لو أريد التأثير كان ذلك إماتة لا موتاً، واستدل على كون الموت وجودياً بقوله تعالى {خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ} [الملك: 2] فإنّ العدم لا يوصف بكونه مخلوقاً، وأجيب بأنّ المراد بالخلق التقدير أي تعيين المقدار بوجه مّا وهو حقيقة لغة كما قال:
ولأنت تفري ما خلقت وب! ض القوم يخلق ثم لا يفري(1/400)
وهو مما يوصف به المعدوم والموجود لأن العدم له مدّة ومقدار معين عنده تعالى {وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ} [الرعد: 8] ولو سلم فالمراد بخلق الموت إحداث أسبابه، فالمراد بخلق الموت والحياة خلق أسبابهما وهيأها.
وأمّا ما قيل من أنّ أعدام الملكات الطارئة مخلوقة أيضا لأن من شأنها التحقق، فقد قيل
عليه أنه إن أراد بالخلق الإيجاد لم يستقم، إذ مجرّد التحقق لا يكفي في الإيجاد، دان أراد الإحداث استقام لأنه أعم من الإيجاد إلا أنه مجاز أيضاً باستعمال المقيد في المطلق، فلا يخرجه عن صرف الخلق عن ظاهره وحقيقته، وإن كان جواباً آخر، فللناس قيما يعشقون مذاهب: وأما ما ورد في الحديث من أنّ " الحياة فرس والموت كبش أملح " حتى ذهب بعض الظاهرية إلى أنهما جسمان فمن متشاب الحديث أو هو تمثيل محتاج للتأويل، وما وقع في شرح مسلم من أنّ الموت عند أهل السنة عرض، وعند المعتزلة عدم محض ليس بشيء، وان إغترّ به بعض أرباب الحواشي، فاعترض على المصنف بأنه تبع صاحب الكشاف في تقويره وتقديمه
لمذهب المعتزلة، وسيأتي لهذا تتمة إن شاء الله تعالى. قوله: (لا يفوتونه إلخ) في الكشاف واحاطة الله بالكافرين مجاز، والمعنى أنهم لا يفوتونه كما لا يفوت المحاط به المحيط به حقيقة، وقال أبو عليّ الفارسيّ: يجوز في محيط أن يكون بمعنى مهلك كما في قوله تعالى {وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ} [البقرة: 81] ويجوز أن يكون بمعنى عالم علم مجازاة ومكافأة كما في قوله تعالى {وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ} [الجن: 28] وهؤلاء جعلوه مجازاً عن قدرته عليهم ففيه استعارة شبه اقتداره عليهم وكونهم في قبضة تصرّفه بإحاطة الجيش بالعدوّ بحيث لا يفوته ولا ينجيه منه حيلة وخداع، ثم إنه قيل إن شبه شمول القدرة لهم بإحاطة المحيط بما أ-ظ د به في امتناع الفوات كانت الاستعارة تبعية، وان شبه حاله تعالى معهم بحال المحيط مع المحاط بأن شبهت هيئة منتزعة من عدّة أمور بمثلها فهناك استعارة تمثيلية لا تصرف في مفرداتها، إلا أنه صرّح بالعمدة منها وقدر الباقي.
ومن زعم أنها استعارة تبعية لا تنافي التمثيلية لم يصب، وقد مرّ ردّه، وأنّ التركيب باعتبار ما ذكر مع لوازمه ليس بأبعد من اعتبار ألفاظ منوية مقدرة فتذكر ما أسلفناه، تكن على هدى. قوله: (والجملة اعتراضية إلخ) فالواو فيه اعتراضية لا عاطفة ولا حالية، كما بئن في كتب العربية، والاعتراض يكون في وسط الكلام وفي آخره، والمراد بآخره تمامه وانقطاعه حقيقة، كآخر السور والخطب والقصائد، لا آخر الجمل المنقطعة عما بعدها بوجه من وجوه القطع المذكور في باب الفصل والوصل، فما نحن فيه من القسم الأوّل، ولذا قال أبو حيان أنها دخلت بين هاتين الجملتين يجعلون أصابعهم، ويكاد البرق، وهما من قصة وتمثيل واحد، فما قيل من أنّ هذا الاعتراض على مسلك الزمخشريّ وأقع في آخر الكلام، ومخالف لمختار الجمهور من تخصيصه بإثناء الكلام أو الكلامين المتصلين معنى، ولذا عدل عنه المصنف رحمه الله خيال فارغ غنيّ عن الردّ، ثم أنّ الجملة المعترضة لا بذ من مناسبتها لما اعترضت فيه والاً كانت مستهجنة، واشترط أكثر فيها كونها مؤكدة للكلام، وسمى الأدباء ما تمت مناسبته حشو إللوزنيج، وضدّه حشو اكبر، وما نحن فيه من الأوّل لأنّ أصله والله محيط بهم أي بذوي الصيب، فوضمع فيه الظاهر وهو الكافرين موضع الضمير، والمراد بالكافرين قوم غير معينين جحدوا مولاهم وعبر به إشعاراً باستحقاق ذوي الصيب ذلك العذاب لكفرهم، وفيه تتميم للمقصود من التمثيل بما يفيده من المبالغة كما في قوله تعالى {مَثَلُ مَا يُنفِقُونَ فِي هِذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ} [آل عمران: 117] لأنّ الإهلاك عن سخط أبلغ وأشد كما أفاده الطيبي طيب الله ثراه، ففيه تاييد للكلام الدال على اشتغالهم بما لا يفيدهم من سد الآذان حذر الموت، وقد أحاط بهم الهلاك بما كسبت أيديهم، وليس المراد بالكافرين المنافقين كما يوهمه قول المصنف رحمه الله، لا
يخلصهم الخداع والحيل لأنه من صفاتهم الشالفة في قوله {يُخَادِعُونَ اللهَ} [النساء: 142، إلخ على أنّ المراد بالحيل جمع حيلة مداراة المؤمنين ومداهنتهم لأنه لبيان مناسبة الاعتراض لما وقع فيه لأنّ من أحيط به ووقع في شرك الهلاك دأبه الخداع والتحيل في وجوه الخلاص، وبه تتم مناسبة التمثيل للممثل له، فلا وجه لما قيل هنا من أنّ هذا الاعتراض من جملة أحوال المشبه على أنّ المراد بالكافرين المنافقون فإنهم لا محيص لهم عن العذاب في الدارين، ووسط بين أحوال المشبه به تنبيهاً على(1/401)
شدة الاتصال والمناسبة. قوله: (استئناف ثان إلخ) جوز أبو حيان في هذه الجملة أن تكون في محل جر صفة لذوي المقدرة أيضاً، والذي اختاره الشيخان الإسنئناف البياني، وقد مرّ أنه في الكشاف قدر السؤال هنا فكيف حالهم مع مثل ذلك البرق فقيل) يكاد البرق) إلخ والمصنف رحمه الله عدل عنه وقدره ما حالهم مع تلك الصواعق، ويتراءى من ظاهر الحال في النظرة الأولى أنّ الأوّل أنسب بالجواب وأنّ الثاني أقرب لما قبله مما هو منشأ السؤال، ولذا قيل إنه إذا قدر السؤال كما قدره المصنف لا يلائمه الجواب بأنّ البرق يخطف أبصارهم، لأن البرق شيء والصاعقة شيء آخر، ولقد أحسن صاحب الكشاف في تقديره السابق، وقيل: إنّ المصنف أراد بالصواعق الصواعق المقرونة بالبرق، فقيل في جوابه يكاد البرق أي برقها على أنّ اللام العهدية عوض عن المضاف إليه، فارتبط الجواب بالسؤال على الوجه الوجيه والتوجيه الصواب، وتحقيق كلام المصنف رحمه الله على هذا المنوال من فيض الملك المتعال، ولعمري لقد استسمن ذا ورم، ونفخ في غير ضرم، وقد مرّ من الإفادة ما يغني عن الإعادة فتذكر. قوله: (وضعت لمقاربة الخبر من الوجود إلخ) أفعإل المقاربة أفعال مخصوصة سماها النحاة بهذا الاسم وان لم تكن كلها للمقاربة، لأنّ منها ما هو للشروع كطفق، ومنها ما هو للترجي، ومنها ما هو للمقاربة، سميت بها تغليبا لها لأنها أشهرها وأصلها كما في شرح التسهيل، وفد يخص بكاد وأخواتها ويجعل ما عداها من الباب قسماً آخر أو ملحقاً بها، والمشهور الأوّل فتدخل فيها عسى، والدلالة على الدنو والقرب مخصوص بكاد وأخواتها، واعتبره الجزولي في جميع الباب من غير تغليب، والمحققون على خلافه لأنّ عسى وضع لرجاء الخبر مطلقاً لا لرجاء دنوه كما زعمه، وطفق يدل على الشروع، وأخذ أوّل أجزاء الخبر، والدنوّ إنما يكون قبل الشروع فيه فليس فيهما مقاربة، وقد قيل إنّ ظاهر كلام المصنف رحمه الله يدل على أنّ عسى ير داخلة في أفعال المقارية لكونها موضوعة لرجاء الخبر، لا لرجاء دنوّه إلا أنّ في كلامه ما يدل على خلافه، كقوله: تنبيهاً على أنه المقصود بالقرب، ولو جعلت الضمير في قوله وضعت لمقاربة الخبر لكاد لا لأفعال المقاربة لم يرد عليه شيء وإن احتاج ما بعده للتأويل، ثم أنّ عسى لاستعماله فيما يطمع في مما يمكن
وقوعه، لو قيل قيه مقاربة لأنّ كل آت قريب ولله در القائل:
وإني لأرجو الله حتى كأنما أرى بجميل الظن ما الله صانع
لم يبعد وما قيل من أنّ المصنف رحمه الله ذهب إلى أنّ عسى ليس من أفعال المقاربة
ليس بشيء، وقوله من الوجود متعلق بمقاربة، والمراد بعروض! سببه حدوثه وكونه في معرض الوقوع، وضمير لكنه لم يوجد للخبر لا للسبب، وقد أورد عليه أنّ المقاربة كما تتصوّر بوجود السبب مع فقد الشرط، أو وجود المانع تتصوّر بفقد المانع ووجود الشرائط كلها، وفقد السبب فتخصيص كاد بالأوّل لا تساعده قواعد العربية إلا أن يقال إنه تصوير للمقاربة من غير تخصيص بها، وليس بشيء لأنّ المراد أنّ قرب الخبر لوجود السبب، وأنه لولا فقد الشرط أو وجود المانع أو نحوه لوفع، وليس مراده الحصر حتى يرد عليه ما ذكر، ثم أنّ ما ذكره بناء على ما جرت به العادة من أنّ الله تعالى إذا أراد شيئاً هيأ أسبابه، وإذا وجدت الأسباب فعدم الوقوع لما ذكر، فلا يرد عليه ما قيل من أنه إذا لم يوجد سبب الخروج مثلاً، ولكنه قرب يصح أن يقال كاد زيد يخرح وهذا كه من ضيق العطن وسياتي تحقيقه، والحاصل أنّ كاد تدل على قرب الوقوع وأنه لم يقع، والأوّل لوجود أسبابه، والثاني لمانع أو فقد شرط، وهذا كله بحسب العادة فلا إشكال فيه. قوله: (فهي خبر محض ولذلك جاءت متصرفة بخلاف عسى) أي كاد خبر لشى فيه شائبة إنشاء فهو متصرّف كغيره، بخلاف عسى فإنها لكونها استعملت ني الإنشاء شابهت الحروف فلم تتصرّف، وهذا هو المشهور في كتب النحو واللغة وبه صرّح ثعلب في الفصيح، وفي شرحه للفهري أنها لم تتصرّف فيستعمل منها مستقبل واسم فاعل لأنها ليست على الحقيقة فعلاَ، وإنما هي حرف أطلقوا عليها الفعل مجازاً لما رأوها تعطي أحكامه، فيقال عسيت وعسيتما إلخ، وهذا هو الذي يجزم به فلا يعتذر لعدم تصرّفها، على أنّ ابن ظفر رحمه الله حكى عن أبي عبيدة في شرح المقامات أنه يقال: عسيت أعسى، قال: وعلى هذا يقال عاس اسم فاعل، وفي كتاب حل الفكر(1/402)
للقيرواني أنّ أبا زيد ذكر أنه جاء منه ع! بكسر السين بوزن حذر، وقد قال المعرّي:
عساك تعذر إن قصرت في مدحي فإنّ مثلي بهجران القريض عسى
وهذا غلط فإنّ كلامنا في عسى التي للترجي وهذه بمعنى جدير، وتكون عسى بمعنى
ييس أيضاً كقول البحتري:
يتعاطى القريض وهو جماد الذهن يحفو عن القريض ويعسو
فقوله إنّ عسى لا تتصرّف أي بناء على المشهور من قول النحاة. قوله: (وخبرها مشروط
فيه إلخ) أي يشترط في خبر كاد أن يكون مضارعاً غير مقترن بأن المصدرية الإستقبالية، أمّا المضارع فلدلالته على الحال المناسب للقرب والدنوّ بملاصقته له حتى كأنه لشدة قربه وقع،
ولذا دلت على تأكيد وقوع الخبر على الأصح وجردت لذلك عن أن لمنافاتها لما قصحد منها، وهذا بناء على أكثر الأفصح، والاً فقد جاء خبرها اسماً مفرداً كقوله: فأبت إلى فهم وما كدت آبياً. ووت د مع أن كقوله: قد كاد من طول البكاء أن يمحصا. وفي الحديث كاد الفقر أن يكون كفرا. وقد يكون الخبر جملة اسمية كما حكاه ثعلب من قول العرب كاد زيد قائم على أنّ اسم كاد ضمير الشأن والجملة الاسمية خبرها بخلاف عسى، فإنه يجوز في خبرها أن يقرن بأن وهو أكثر، وقد يجرد منها كقوله:
عسى الكرب الذ؟ ب أميت فيه يكون وراءه فرج قريب
وإلى ذلك أشار المصنف رحمه الله بقوله: وقد تدخل أي أن المصدرية عليه أي على
خبر كاد كما مرّ حملاً لها على أختها عسى، كما تحذف من خبو عسى حملاً على كاد، وقوله في أصل معنى المقاربة يدل على أنّ عسى فيها معنى المقاربة عنده خلافا لمن توهم خلافه. قوله: (وقرىء يخطف بكسر الطاء إلخ) أي قرىء بكسر الطاء المخففة وهي قراءة مجاهد والفتح أفصح وعليه القراءة المعروفة، وفي الصحاح الخطف الإستلاب يقال خطفة بالكسر وهي اللغة الجيدة وعليها المضارع مفتوح العين، وفيه لغة أخرى حكاها الأخفش بفتح العين في الماضي وكسرها في المضارع، وقرىء في الشواذ يخطف بفتح الخاء وكسر الطاء المشددة، وأصله يختطف افتعال من الخطف فنقلت حركة التاء إلى الخاء وأدغمت في الطاء، ولذا لما لم ينقل إلى الخاء الساكنة حركة التاء كسرت لإلتقاء الساكنين أو اتباعا للطاء، وكسرت الياء التحتية أتباعاً لها، وفيها قراءات أخرى ذكرها في الحجة، والقراءة الأخيرة يتخطف بالبناء للفاعل، ونصب أبصارهم لأنه متعد كما في قوله يتخطف الناس من حولهم. قوله: (كأنه قيل ما يفعلون إلخ) قد مرّ الكلام على هذا السؤال، والجواب فليكن على ذكر منك، وخفوق البرق بضم الخاء المعجمة والفاء، وفي آخره قاف لمعانه، وأصله الاضطراب ومنه خفقت الراية والسراب، وخفية بفتح الخاء المعجمة وسكون الفاء، وياء مثناة تحتية وهاء تأنيث بزنة المرة من خفي يخفى، كعلم يعلم، أو خفي يخفو، كدخل يدخل، إذا لمع لمعانا ضعيفاً في نواحي الغيم، كما في بعض الحواشي ولا وجه له فإنه تكرار غير منالسب للمراد، فالظاهر أنه أراد ظهوره واختفاءه، وقد وقع في بعض النساث وخفيته بالإضافة للضمير من الخفاء، ويجوز أن يكون
خفية أو خفيته نقل من خفت البرق إذا سكن كما في الأساس، وقد ف! ره الفاضل الحفيد بلمعان البرق واستتاره وهو الحق، وهذه العبارة وقعت كذلك في الكشاف ولم يعتن شرّاحه بضبطها، وتارتي خفوقه مثنى تارة وهي المرة، والحالة أي في حالتي الظهور والخفاء. قوله: (وأضاء امّا متعد إلخ الم يتردّد في مجيء أضاء لازما وصشعدّيا لإتفاق أهل اللغة عليه وشيوعه في كلام العرب كقول الفرزدق:
أعد نظرايا عبد قيس لعلما أضطءت لك النار الحمار المقيدا
وأمثاله مما لا يحصى، والممشى محل المشي ونكره إشارة إلى دهشتهم وحيرتهم بحيث يخبطون خبط عشواء، ويمشون كل ممشى، وقوله أخذوه بمعنى سلكوه.
قال الراغب: يقال أخذ مأخذه أي سلك مسلكه، ونحوه في الأساس فلا تسمح فيه،
وعلى التعدّي معناه نوره وعلى اللزوم معناه لمع، وقوله في مطرح نوره أصل معنى المطرح محل الطرح وهو الإلقاء، لكنه استعملى بمعنى محل مطلقاً، وشاع حتى صار حقيقة فيه وهو المراد،(1/403)
وأشار به إلى بيان المعنى وأن في النظم مفعولاً مقدرا، وضمير فيه على التعدّي راجع إليه، كما أشار إليه بقوله: أخذوه المفسر به مشوا فيه، إذ ليس المشي في البرق بل في محله، وعلى اللزوم فيه مضافان مقدران، كما أشار إليه بقوله: مطرح نوره وكون في للتعليل، والمعنى مشوا لأجل الإضاءة فيه، كما قيل ركيك لا يليق تنزيل نظم التنزيل عليه لمن له ذوق في العربية. قوله: (وكذلك أطلم) أي هو مثل أضاء في التعدي وا أطزوم، وفي التشبيه إيماء إلى جواز أن يحمل عليه كما يحمل الضد على الضد في ذلك، وقال بهاء الدين بن عقيل رحمه الله: إذا كان أظلم متعدياً فالفاعل ضمير الله، أو البرق أي أفسم ابى ق بسبب خفائه معاينة الطريق، والظاهر الثاني على الوجهين، والإسناد مجازيّ كما يعله من قوله بسبب خفائه.
وفي الصحاح ظلم الليل بالكسر، وأظلم بمعنى حكاه الفرّاء، وعلى التعدي فالهمزة
نقلت ظلم كفرح من اللزوم إلى التهرزي كما أشار إليه المصنف رحمه الله، ولم يبين اللزوم لظهوره والإتفاق عليه، وكون ظلم بمعنى أظلم، كما نقل عن الفرّاء لا ينافي نقل الهمزة له كما توهم، فإنّ الهمزة لها معان فلا مانع من إشتراكها في كلمة واحدة. كاكب، فإنه ورد متعدّيا، وهمزته للنقل، ولازما وهمزته للصيرورة، وكذا ما نحن فيه. قوله: (ويشهد له قراءة أظلم إلخ) أي يدل له دلالة بينة ناطقة بتأييده قراءته مبنيا للمجهول في قراءة شاذة منسوبة ليزيد بن قطيب، وقيل عليه أنّ شهادة ما ذكر شهادة زور مردودة بجواز كونه لازماً مسنداً إلى الظرف وهو عليهم، وأجيب بأنّ عليهم مقابل لهم فإن جعلا مستقرّين لم يصح أن يقوم عليهم مقام الفاعل أصلاً، وان جعلا صلتين للفعل على تضمين معنى النفع والضر ففيه نظر، لأنه يصلح لأن يقوم
مقام فاعل المضمن دون المضمن فيه، وعلى تقدير صلوحه فعطف إذا أظلم على كلما أضاء مع كونهما معاً جوابا للسؤال عما يصنعون في تارتي البرق، يقتضي أنّ أظلم مسند إلى ضمير البرق كأضاء، على معنى كلما نفعهم البرق بإضاءته اعترضوه، وإذا ضرّهم باختفائه دهشوا، ومبنى البلاغة على رعاية المناسبات.
وقد يجاب أيضاً بأنّ بناء الفعل للمفعول من المتعدي بنفسه أكثر فالحمل عليه أولى ولا يخفى ما فيه، وأمّا احتمال إضمار ضمير المصدر كما في قعد أي فعل القعود ففي غاية البعد مع أنه مدفوع أيضاً بما ذكر، فإن قيل إنما غير لأسلوب ولم يعتبر المناسبة لأنّ إظلام البرق غير معقول، فيحتاج إلى أن يتجوز عن إختفائه كما مرّ، قيل إلاً بلغية تقاوم مخالفة الأصل مع أنه لا بدّ منه في غيره أيضاً.
أقول هذا ما قاله شراح الكتابين برمته لم يترك منه إلاً ما لا خير فيه.
وفيه بحث لأنه تطولل للمقذمات من غير نتيجة، لأنّ حاصل المدّعى إن أظلم قد يتعدّى بدليل هذه القراءة لاتفاق النحاة على أنّ المطرد بناء المجهول من المتعدي بنفسه، فاعترض عليه بأنّ الأفصح المستعمل لزوم أظلم، 9 يجوز إبقاؤه على أصله في هذه القراءة بما ذكر فلا ينهض الدليل، فإن قيل إنّ المعترض عدل عن الأصل قيل هو بعينه لازم للمستدل، وأمّا كون الظرف مستقرا هنا فلغو لا احتمال له، وتعلقه باعتبار الضرّ والنفع نظرا للام، وعلى ليس بشيء لأنه مخصوص بفعل الذعاء كدعا له وعليه ألا ترى قولهم صلى عليه وأوقد له نار الحرب وأمثاله مما لا يحصى، والضرّ والنفع هنا مفهوم من المنطوق من غير احتياج للتضين أصلاً، ولذا قيل إنه مؤيد مستأنس به لا دليل فتأمّل. قوله: (وقول أبي تمام إلخ) أبو تمام كنيته واسمه حبيب بق أوس بن الحارث بن قيس الطائي قبيلة الشامي مولداً، وهو مع فصاحته التامة كان من كبار الأدباء والعلماء في عصره، وديوانه مشهور شرحه الكبار، وروى عنه الأخيار وألف الصولي كتابا في أخباره وآثاره، والبيت المذكور من قصيدة له مدح بها عيام! بن لهيعة الحضرمي أوّلها:
تقي جمحاتي لست طوع مؤنبي وليس جنيي إن عذلت بمصحبي
ومنها:
أحاولت إرشادي فعقلي مرشدي أم استمت تأديبي فدهري مؤدّبي
هما أظلماحاليّ ثمت أجلياف، ميهما عن وجه أمرد أشيب
إلى آخرها، ومن أرادها فلينظر ديوانه.
وقال الإمام التبويزي: في شرح ارديوان جعل أظلم متعديا وذلك قليل في الاستعمال،
وهو في القياس جائز قياساً على قول من قال ظلم الليل بمعنى أظلم، فإن ادّعى أنّ أظلم ههنا غير متعد، وأنّ حاليّ منصوب انتصاب الظرف، فقوله أجليا ظلاميهما يدفعه لأنه عدي أجليا إلى(1/404)
الظلامين، وقوله عن وجه إلخ عنى به نفسه، وهو يحتمل معنيين أحدهما أن يكون قد شاب في حال كونه أمرد لعظم ما لاقاه من الشدائد، والآخر أن يكون أراد أنه فتى في السن شيخ في العقل، وقوله هما أظلما أي أني صغير السن وقد شيبني عقلي ودهري. اهـ، فضميرهما للعقل والدهر على ما ذكره الإمام التبريزي، وتبعه بعض شرّاح الكشاف، وجوز التفتازاني أن يكون لإرشاد العاذلة، وتأديبها في البيت الذي قبله، وجوز في الكشف أن يكون لليوم واللبلة، وهو بعيد جدا والحالان الخير والشر، أو الغنى والفقر، أو الشيب والثباب، وقيل هما الدنيويّ والأخرويّ وليس بشيء، وقيل هو عام في كل متقابلين خيراً وشراً، أو غنى وفقرا، أو مرضا وصحة، أو عسرا ويسرا، وأسند الإظلام إلى العقل لأنّ العاقل لا يطيب له عيس، وإلى الدهر لأنه لا يسالم الحر أبدا، وأجليا بمعنى كشفا ظلاميهما، وأمرد أشيب تجريد كما مرّ، وهمزة أحاولت إنكارية أي لا ينبغي أن تتجشمي في الإرشاد والتأديب، والفاء تعليلية لمقدّر أي لا تحاوليهما ففي العقل والدهر كفاية عن كل مرشد ومؤدّب، وهذا زبدة ما في شروح الكشاف في هذا البيت (والذي أراه (أنّ المراد بارشادها إياه عتبه وعذله لتصريحه بذلك قبله في قوله:
فلم توقدي سخطاً على متنصلي ولم تنزلي عتباً بساحة معتب
وضميرهما للعقل والدهر، وحالات صغره وشبابه، وكبره وشيبه، لقوله: أمرد أشيب
وفي قوله بعده:
شجي في حلوق الحادثات مشرّق به عزمه في الترّهات مغرّب
كأن له دينا على كل مشرّق من الأرض أوثارا على كل مغرب
فإنه كما في الشرح يصف جده في الأمور وصحة رأيه، وعزمه ولعبه في الصبا ولهوه، واظلامهما عدم كشف حالهما بحيث امتزج صباه بشيخوخته، وهو كقول أبي فراس:
وما بلغت أوان الشيب سني فما عذر المشيب إلى عذاري
وفي الظلام وانجلائه إيماء إلى سواد الشعر وبياضه. قوله: (فإنه وإن كان من المحدثين
إلخ) قالوا: الشعراء على طبقات جاهليون، كامرىء القيس، ومخضرمون بضم الميم وفتح الخاء المعجمة وفتح الراء المهملة، يليها ميم قال ابن خلكان: إنه سمع فيه محضرم بالحاء المهملة وكسر الراء، واستغربه وهو من قال الشعر في الجاهلية، ثم أدرك الإسلام كلبيد، وقد يقال لكل من أدرك دولتين، وأطلقه المحذثون على كل من أدرك الجاهلية، وأدرك حياة النبيّ صلى الله عليه وسلم وليست له صحبة، ولم يشترط بعض أهل اللغة نفي الصحبة، وفي
المحكم رجل مخضرم إذا كان نصف عمره في الجاهلية ونصفه في الإسلام، وقال ابن فارس: إنه من الأسماء التي حدثت في الإسلام، وهو من قولهم لحم مخضرم إذا لم يدر من ذكر هو أم أنثى، أو من خضرم الشيء إذا قطعه، وخضرم فلان عطيته إذا قطعها، فكأنهم قطعوا عن الكفر إلى الإسلام، أو لأنّ رتبتهم في الشعر نقصت، لأنّ حال الثعراء تطامنت ينزول القرآن كما قاله ابن فارس: ومتقدّمون، ويقال إسلاميون، وهم الذين كانوا في صدر الإسلام كجرير والفرزدق، ومولدون وهم من بعدهم كبشار، ومحدثون وهم من بعدبم كأبي تمام والبحتري، ومتأخرون كمن حدث يعدهم من شعراء الحجاز والعراق، ولا يستدل بشعر هؤلاء بالإتفاق، كما يستدل بالجاهليين والمخضرمين والإسلاميين في الألفاظ بالإتفاق، واختلف في المحدثين فقيل: لا يستشهد بشعرهم مطلقاً، وقيل يستشهد به في المعاني دون الألفاظ، وقيل: يستشهد يمن يوثق به منهم مطلقاً، واختاره الزمخشريّ ومن حذا حذوه، قال: لأتي أجعل ما يقوله يمنزلة ما يرويه، واعترض عليه بأنّ قبول الرواية مبيّ على الضبط والوثوق، واعتبار القول مبنيّ على معرفة الأوضاع اللغوية، والإحاطة بقوانينها، ومن البين أنّ أنقان الرواية لا يستلزم إتقان الدرا ية.
وفي الكشف: إنّ القول دراية خاعة فهي كنقل الحديث بالمعنى، وقال المحقق التفتازاني: القول بأن بمنزلة نقل الحديث بالمعنى ليس بسديد بل هو يعمل الراوي أشبه، وهو لا يوجب السصاع الآ إن كان من علماء العربية الموثوق بهم، فالظاهر أنه لا يخالف مقتضاها، فإن استؤنى به ولم يجعل دليلاَ لم يرد عليه ما ذكر، ولا ما قيل من أنه لو فتح هذا الباب لزم الاسندلال يكل(1/405)
بكل ما وقع في كلام علماء المحدثين كالحريري وأضرابه والحجة فيما رووه لا فيما رأوه، وقد خطؤوا المتنبي وأبا تمام والبحتري في أشياء كثيرة، كما هو مسطور في شروح تلك الدواوين، ثم إنه لا حاجة لمخالفة الجمهور فيه مع وجود ما يقي عنه، وهو أنّ الأزهري وناهيك به قال في التهذيب كل واحد من أضاء وأظلم يكون لازماً ومتعدّياً، وإذا جاء نهر الله يطل نهرمعقل.
وقد أورد عليه أيضا أنه يجوز أن يكون لازماً في البيت، وحاليّ ظرف إلا أنك قد عرفت
ما يدفعه، وثمت في البيت ثم العاطفة زيد فيها تاء التأنيث، وهو لغة فيه كربت، وفيل إنه مخصوص بعطف الجمل، وعن المازني أنه كثريّ لا كليّ. قوله: (وإفما قال مع الإضاءة كلما الخ) يعنى أنه استعمل كلما المستعملة في التكرار في لازم معناها كناية أو مجازا، وهو الحرص والمحبة لما دخلت عليه، وإذا فيما لا يريدونه فضلاً عن الحرص لأنّ الإظلام والتوقف ليس يمراد لهم، وإفادة كلما التكرار صرّح به أهل الأصول، وذهب إليه بعض النحاة واللغوين.
قال في المصباح: كلما تفيد التكرار دون غيرها من أدوات الشرط، فقول أيي حيان لا
فرق عندي بين كلما وإذا من جهة المعنى، إذ التكرار متى فهم من كلما أضاء لزم منه التكرار، أيضاً في إذا اظلم عليهم قاموا إذ الأمر دائر بين إضاءة البرق والإظلام، ومتى وجد ذا فقد ذا فلزم من تكرار وجود ذا تكرار عدم ذا، على أنّ من النحاة من ذهب إلى أن إذا تدل على التكرار ككلما كقوله:
إذا وجدت أوار الحب في كبدي أقبلت نحو سقاء القوم ابترد
لأنّ معناه كلما والتكرار الذي ذكره الأصوليون والفقهاء في كلما إنما جاء من عموم كل
لا من وضعها، كما يدل عليه كلامهم، وإنما جاءت كل لتكيد العموم المستفاد من ما الظرفية مع مخالفتة للمنقول مخالف للمعقول.
وأمّا الأوّل فلما سمعته.
وأمّا الثاني فلأنّ النحاة صرّحوا بأنّ كلما في هذه الآية وأمثالها منصوبة على الظرفية، وناصبها ما هو جواب معنى، وما حرف مصدري، أو اسم نكرة بمعنى وقت، فالجملة بعدها صلة أو صفة، وجعلت شرطاً لما فيها من معناه وهي لتقدير ما بعدها بنكرة تفيد عموماً بدلياً، وليس معنى التكرار إلاً هذا، فكيف لا تفيده وضعاً، وأمّا القول بأنّ إذا وغيرها من أدوات الشرط تفيد ذلك فليس بصحيح فإن فهم منه فهو من القرائن الخارجية، وأمّا ما اعترض به من أنه يلزم من تكرار الإضاءة تكرار الإظلام فغفلة عما أرادوه من المعنى الكنائي، والفرصة واحدة الفرص كغرفة وغرف، وأصل معناها النوية في شرب الماء القليل، يقال جاءت فرصة فلان أي نويته، والمبادرة لذلك يقال لها انتهاز وهو افتعال من النهز بالزاي المعجمة، وقال الأزهري أصل النهز الدفع، وانتهز الفرصة انتهض لها مبادرة، والحراص جمع حريص، والتوقف معنى فوله قاموا. قوله: (ومعنى قاموا وقفوا) وقف كقام يكون في مقابلة قعد أو جلس، وحينثذ يتجوّز به عن الظهور والرواج، فيقال قام أمره وقامت السوق، ومنه يقيمون الصلاة كأنها علت وظهرت ولم تستثقل فتختفي، ويكون قام ووفف في مقابلة مش أو جرى، وحينئذ يتجوّز به عن الكساد وعدم النفاق، كما يقال في ضدّه مشت الحال، ومنه ما نحن فيه لمقابلته بمشوا فليس قام في الرواج والكساد من الأضداد في شيء كما توهم، وركد من قولهم ركد الماء فهو راكد إذا لم يجر، ويكون بمعنى سكن مطلقاً فيعم الماء وغيره. وهو المراد هنا إلاً أنّ التعبير به وقع في محزة لإقترانه بجمود الماء، ويقال قام الماء إذا جمد لوقوفه عن الجري، كما قال المتنبى:
وكذا الكريم إذا أقام ببلدة سال النضار بها وقام الماء
على كلام فيه من شرح ديوانه ليس هذا محله، وقد كشفت لك غطاء لم يكشف قبل،
وإن توهم أنه أمر متعلق بالألفاظ يتساهل فيه فتدبر. قوله: (أن يذهب بسمعهم بقصيف الرعد إلخ) سمعهم اسم للجارحة المخصوصة، وأبصارهم جمع بصر والجار والمجرور بعدهما متعلق بيذهب لا مصدر، وبقصيف الرعد متعلق به كالإبصار المتعلق به قوله بوميض البرق، وقصيف فعيل من القصف، وأصله كسر الأجرام اليابسة وهو شدة صوته بتكسر وارتعاد، والوميض شدّة الشعشعة واللمعان، والقصيف والوميض مصدران أو وصفان كالنذير بمعنى الإنذار، وذكر في الكشاف أنّ المعنى لو شاء الله أن يذهب بسمعهم وأبصارهم لذهب بها،(1/406)
وأراد لو شاء الله لذهب بسمعهم بقصيف الرعد، وأبصارهم بوميض البرق، والمصنف غير صنيعه فقيد المفعول المحذوف دون الجواب كما صنعه، ولم يتعرضوا لوجه عدول المصنف عنه، ولا لما قصده، ولم يزيدوا على نقل ما في شروح الكشاف على عادتهم فكأنه لما في الكشاف من مخالفته للمعتاد من التقدير في موضعين من الشرط والجواب، فلذا اقتصر المصنف على أحدهما، ولو قيل بأنه بيان لحاصل المعنى لم يكن في محله أيضاً، فصنيع المصنف أحسن على كل حال وفيه نظر سيأتن، وأمّا التقييد بما ذكر فوجهه كما قال قدس سرّه: أنه إشارة إلى أنّ جملة ولو شاء الله عطف على مجموع الجمل الاستئنافية، أعني يجعلون وما بعده نظر إلى محصول معناها، فإنّ الأوّل متعلق با أس عد وشدّة صوته، والآخرين بالبرق وشدّة ضوئه، وقيل: غرضه من هذا التقدير بيان ربطها المعنويّ بتلك الجمل، وأمّا عطفها فعلى قوله {كُلَّمَا أَضَاء لَهُم مَّشَوْاْ فِيهِ} [البقرة: 20] وعليه قيل: إنه كان ينبغي أن يجعل السؤال مركباً من أمرين، كأنه قيل كيف يصنعون في خفوق البرق وخفيته، وهل كان البرق يضرّهم، إلا أنه لم يذكر الثاني عند الإسنئناف الثالث لظهور العلم به، كما قيل في رد ما أورد عليه وأشير إليه بصيغة التمريض من أنه لا يظهر كون هذه الجمل جواباً للسؤال المقدّر قبل قويه كلما أضاء إلخ، وأمّا القول بأنّ هذا الردّ غير تام لأنّ العطف لا يقتضي استقلال المعطوف في حكم المعطوف عليه، لجواز كون الثاني من تتمة الأوّل، ويكونان مشتركين في حكم واحد كما في قوله السكنجبيل خل وعسل، والرمان حلو حامض، فلا بد من ضم عدم كون المعطوف من تتمة المعطوف عليه، والأوجه في التوجيه أن يقال هذه الجملة معترضة على رأي، أو معطوفة على الاستئنافية الأولى، أو حال من ضمير قاموا بتقدير وهم لو شاء الله إلخ، فليس بشيء كما ستراه، وكذا ما قيل من أنّ الأظهر أنّ هذه الجملة أتى بها لتوبيخ المنافقين حيث لم يتنبهوا، لأنّ من قدر على أيجاد قصيف الرعد، ووميض البرق وإعدامهما قادر على إذهاب سمعهم، وأبصارهم فلا يرجعون عن ضلالهم فلا حاجة إلى اعتبار إذهابه بالقصيف والوميض، إلا أن يقال أنه لو لم يعتبر الإذهاب بالأسباب كان تعلق المشيئة غريبا، إلا أنه ظهر للشرطية فائدة هي أليق بالمقام، وإنما قصصنا عليك جملة المقال لتعلم أنه ليس في السويداء رجال، فإن أردت أن تقف عنى حقيقة الحال فاعلم أنهم لما رأوا ترك العاطف، أولآ لما مرّ
واقتران هذه به لما بينهما من المناسبة، وهي أنّ المراد بالإذهاب الإذهاب بالقصيف، والوميض، لا المطلق رأى الفاضل المحقق أنّ العطف على الأقرب أظهر هنا وأقرب، ولما رأى المناسبة بين المتعاطفين في الجوابية غير تامة جعلها بالنظر لجميع ما قبلها، فكأنه قيل هم محترزون من الرعد بسد المسامع، ويتألمون بالبرق الخاطف والإظلام، ولو أراد الله أعماهم وأصمهم فلم يفدهم صنيعهم شيئا، فأشار قدّس سرّه إلى ردّه بأنّ المناسبة إنما تعتبر بين المتعاطفين، وعطف ما ليس بجواب على الجواب ليس بصواب، فلتكن معطوفة على جميع ما قبلها من غير تكلف، وكأنه جعله من عطف القصة على القصة لخروجه عن التمثيل فكأنه قصة أخرى، وهو وإن كان خلاف الظاهر أسلم من التكلف وأحسن من هذا، وأسلم أن يقال لا بأس بأن يزاد في الجواب ما يناسبه، وان لم يكن له دخل فيه فلو أنّ أحدا قال لك أين تسكن فقلت أسكن البصرة وأتكسب فيها مكاسب واسعة واسعف بفضل كسبي إخواني لم يعده أحد خطأ، بل يستحسن إذا اقتضاه المقام ألا ترى قوله تعالى {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى} [طه: 17] وقوله في الجواب هي عصاي إلخ كما سمعته غير مرّة، وأمّا ما قصصناه من قول بعض أرباب الحواشي أنه يجوز كونه تتمة للأوّل أو في حكم شيء واحد كالسكنجبيل خل وعسل فلا محصل له، لأنّ المعترض قال: إنّ فيه عطف ما ليس بجواب عليه، ومثله لا يصح، وما ذكره من مثل الرمان حلو حامض لا يجري في الجمل، ولا يجوز عطفه على الأصح عند أهل العربية لأنهما في حكم كلمة واحدة لتأويلهما بمز، ولا مساس له بما نحن فيه، وكون الجملة اعتراضية أو حالية بتقدير المبتدأ، أو معطوفة على الجملة الأولى مع تخلل الفاصل، والأسئلة المقدرة وعدة أوجه لا وجه له، ومثله فضول عند أهل الفضل، لأنه لا يجدي في دفع الاعتراض الذي هو بصدده، وما ذكره القائل بأنها للتوبيخ إلخ، محل للتوبيخ لأنّ العطف يأباه إذ لا يصح عطف الممثل له على حال الممثل به، ألا ترى أنه لما قصد مثله فصل(1/407)
في قوله {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ} فإن قلت إذا قيد المفعول المقدر بما قيد به المصنف في قوله أن يذهب بسمعهم إلخ، يكون مستغرباً لأن ذهاب السمع والبصر بمثله غير معهود فتقديره في الجواب كما فعله الزمخشريّ، إن لم يكن لازماً فهو أحسن، وهو الداعي له على ذلك فالمصنف غافلى أو متغافل قلت قول الزمخشريّ، وأراه يحتمل أن يريد أنه مراد من الكلام من غير تقدير، وعليه فلا إشكال ولا مخالفة بين كلام المصنف وكلامه، ولذا لم يقل والتقدير وعطفه بالواو على تفسيره مطلقاً، ولو سلم فلك أن تقول إنه لما قدم ما يدل عليه من قوله {يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ فِي} [البقرة: 19] انهم} وقوله {يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ} قوى دلالة السياق عليه، فأخرجه عن الغرابة، ولك أن تقول لو أبقى على إطلاقه كان أقوى، والمعنى لو أراد الله إذهاب قواهم أذهبها من غير سبب فلا يغنيهم الاحتراز والخوف مما خافوه، والمناسبة المحسنة للعطف موجودة فلم تركوه فتدبر. قوله: (ولقد تكاثر حذفه في شاء وأراد) أي حذف المفعول
في شاء وأراد ومتصرفاتهما إذا وقعت في حيز الشرط لدلالة الجواب على ذلك المحذوف معنى مع وقوعه في محله لفظا، ولأنّ فيه نوعاً من التفسير يعد الإبهام إلاً في المستغرب، فلا يكتفي فيه بدلالة الجواب بل يصرح به اعتناء بتعيينه ودفعاً لتوهم غيره لاستبعاد تعلق الفعل به لاستغرابه، فلو قلت لو شئت بكيت دماً جاز، توهم قصدك لو شئت بكا بالدمع الجاري على المعتاد، والدم المذكور جاء بدلاً عنه من غير فصدك له كأنك قلت لو شئت أن أبكي دمعا بكيت دماً فاعتمدت في حذف المفعول وتعييته على العادة المعروفة وكونه مرجوحا لدلالة تقييد الجواب على خلافه، وأنّ المقدر مثله لا ينافي الاحتمال والتوهم، فإذا ذكر المفعول زال الاحتمال خصوصاً إذا لم يكن المخاطب ذكياً فمن قال إن لو شئت بكيت دماً لا يحتمل سوى لو شت أن أبكي دما لبكيتة، فقد كابر يعئ قول الفاضل المحقق هنا أنّ التعليل بأنه لو حذف فقيل لو شئت أن أبكي لبكيت دماً كما قال الآخر:
ولم يبق مني الشوق غيرتفكري فلوشئت أن أيكي بكيت تفكرا
أي يخرج بدل الدمع التفكر ليس بمستقيم لأنّ الكلام في مفعول المشيئة فلو قيل لو شئت بكيت دماً واكتفى بقرينة الجواب لم يحتمل سوى لو شئت أن أبكي دماً لبكيتة.
أ-دول إنه قدّس سرّه لم ينصف فيما ثغ به على السعد رحمه الله وجعله مكابرة لأنّ مراده
الردّ لما وقع في الكشف في تمثيله واستشهاده لأنّ هنا أمرين معمول المشيئة نفسها ومفعول متعلقه، وما نحن فيه هو الأوّل وما مثل به من لو شثت أن أبكي بكيت دماً من الثاني لأنّ المحذوف مفعول أبكي لا مفعول شثت، ثم إنه لم يقل لا احتمال فيه أصلاً حتى يقال: إنه مكابرة بلى قال لو اكتفى بقرينة الجواب، ولم يكن ثمة غيرها ولا شبهة حينئذ في عدم الاحتمال وأمّا إذا لوحظ معها قرينة أخرى كالمعتاد في البكا من الدمع احتمل غير ما ذكر فسقط الاعتراض، ولو قيل إنه استشهاد معنويّ على حذف مفعول مغاير لما في الجواب كان مع تكلفه غير مسلم أيضاً لأنّ البيت يحتمل عدم التقدير بتنزيل البكا منزلة اللازم أي لو شئت بكا ما بكيت تفكرا كما في دلائل الإعجاز، ولا تكلف فيه أصلاَ، وأمّا ما قيل من أنّ المذكور في جواب لو هو البكا المتعلق بالدم فأخذ البكا من المذكور يخيه، وترك متعلقه والاعتماد في تعيينه بالمعتاد خروج عن الإنصاف، ومخالفة للحق الظاهر دال على أنّ المعترض ليس هو المكابر فالصواب في الجواب أن يقال لا نزاع في أنّ الكلام في متعلق المشيئة لكنه قد يكون مطلقاً عن القيد كما في فلو شئت أن أبكي بكيت تفكراً فيتبادر منه المعتاد، وقد يقيد بقيد هو منشأ الغرابة فإذا حذف اعنمادا على الجواب لم يخكن المفعول الذي تعلق به فعل المشيئة غريبا مذكورا لانتفاء المقيد بانتفاء قيده فيلتيس المفعول المقيد بما يفيد الغرابة بمفعول مطلق عنه، ويراد به
المعتاد فاستقم واترك العناد فجريرة لا طائل تحتها، وإنما أوقعه فيه عدم الوقوف على المراد وإنما أوردناه لئلا يتوهم الناظر فيه أنه شيء يعبا به ويقي هنا كلام طويل يعلم مما في المطول وحواشيه، وقوله تكاثر المراد به المبالغة في الكثرة لا التفاعل وإن كان هو أصله. قوله: (ولو شئت أن أبكي دماً إلخ) هو بيت من قصيدة لأبي يعقوب الخزيمي يرثي بها خزيم بن عامر المرّي، وفي شرح شواهد المعاني يرثي بها ابنه ليثا.(1/408)
ومنها:
وأعددته ذخرا لكل ملمة وسهم الرزايا بالذخائر مولع
ومنها وهو آخرها:
ولو شئت أن أبكي دماً لبكيته عليك ولكن ساحة الصبرأوسع
وإني وإن أظهرت صبرا وحسبة وصانعت أعدائي عليك لموجع
وما قي بعض الحواشي من أنه للبحتري كأنه من تحريف الناسخ، والبكا الدمع مع الحزن
أو مطلق الدمع ويقال بكاه وبكى له وبكى عليه، وظاهر كتب اللغة وكلام الشرّاح هنا أنها بمعنى، وما وقع من التفرقة بين بكيته ويكيت عليه بأنّ الأول إذا بكى تألماً منه والثاني إذا بكى رحمة ورقة عليه كما في قوله:
ما إن بكيت زمانا إلا بكيت عليه
كأنه استعمال طارىء أو على أنّ أصل بكيتة بكيت منه ويكى يتعدّى للمبكيّ عليه بنفسه وباللام وعلى وأمّا المبكيّ به فإنما يتعدّى إليه بالباء فتعديته للدم هنا لجعله بمعنى الصت مجازا، وأمّ تضمينه على ما قالوه هنا ففي إجرائه في الضمير المتصل على المشهور فيه فيه خفاء، وقوله ساحة الصبر أوسع الساحة الموضع المتسع فوصفها بالسعة مبالغة، والمراد بسعة ساحته إمّا زيادة تجلده لتلازم عظم الشيء، وسعة مكانه أو كونه جميلاَ محموداً أو مستمرّا باقياً.
وأعلم أنّ ما ذكر هنا وفي كتب المعاني من تقدير المفعول من جنس الجواب إذا لم
يكن مستغربا بشروطه السايقة أمر أغلبيّ إستحسانيّ، كما يشير إليه التعبير بالكثرة فلو جاء على خلافه مع القرينة المصححة له لم يكن خطأ، ولهذا خالف المصنف هذه القاعدة في مواضع كثيرة من تفسيره هذا فقدر في قوله {وَلَوْ شَاء اللهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِن بَعْدِهِم} [البقرة: 53 ا] ولو شاء هداهم ما اقتتل إلخ فقيل عليه الظاهر أن يقول عدبم إقتتالهم، وفي قوله تعالى {وَلَوْ شَاء اللهُ مَا أَشْرَكُواْ} [الأنعام: 07 ا] لو شاء توحيدهم ما أشركوا فقيل عليه الظاهر لو شاء عدم إشراكهم، وفي قوله تعالى {وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ} [الأنعام: 12 ا] لو شاء إيمانهم إلى غير ذلك فكأنه يراها غير لازمة فيقدر المذكور بعينه أو ما يلزمه
كما بينا.، وقيل إنه إشارة! !! أنّ المشيئة لا تتعقق بالعدم والقاعدة عنده مخصوصة بالمثبت، وهو مخالف لما في المفتاح لذكره المنفيّ والمثبت بقوله:
فلوشئت لم ترفل ولوشئت أرفلت مخافة ملويّ من القد محصد
كما بينه شرّاحه وحزم القواعد غير سهل. قوله: (وظاهرها الدلالة على انتفل! الأوّل إلخ)
تبع فيه ابن الحاجب، ومن حذا حذوه كنجم الأئمة وستراه فريبا، وتحقيقه أنّ الجملة الأولى هنا لا تخلو من احتمال أن تكون سببا وعلة فالثانية مسبب ومعلول أو لازما وملزوما وبالعكس، إلا أنّ الذي ذكره أهل العربية أنها لامتناع الثاني لامتناع الأوّل فهي لنفيهما مع تعليل الثاني بالأوّل، وقيل عليه هذا مآل معناها لأنها وضعت لتعليق وجود مقدر بوجود مقدر للأوّل في الماضي فيفيد إنتفاءهما مع سببية انتفاء الأوّل لإنتفاء الثاني في الواقع من غير استدلال.
وقال ابن هشام رحمه الله: إنها تدل على عقد السببية والمسببية في الماضي وامتناع السبب فهي لامتناع الجواب لامتناع الشرط على الأصح لا للعكس، ولا أنها لا تدل على إمتناع أصلاَ كما ذهب إليه الشلوبين، وليست لامتناع الشرط خاصة من غير دلالة على ثبوت الجواب أو انتفائه، ثم إنه تارة يعقل بين الجزأين ارتباط مناسب كالسببية، وتارة لا يعقل ذلك والأوّل إمّا مع انحصار مسببية الثاني في سببية الأوّل عقلاً أو شرعا نحو ولو شئنا لرفعناه بها ولو كانت الشمس طالعة كان النهار موجودا فيلزم من امتناع الأوّل فيه امتناع الثاني، فإن لم ينحصر فيه نحو لو كانت الشمس طالعة كان الضوء موجوداً ولو نام انتقض وضوءه لم يلزم من اشاعه امتناعه، وتارة يجؤز العقل فيه الانحصار وعدمه نحو لو زارني أكرمته فلا يدل عقلاً على انتفاء الثاني، وان دل عليه في استعمال العرف، وذهب ابن الحاجب ومن تبعه إلى أنها تدل على امتناع الشرط لامتناع الجواب وخطأ الجمهور وقال إنّ انتفاء السبب لا يدل على انتفاء المسببلا لجواز أن يكون لأشياء أخر كما يشهد له قوله تعالى {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ} [الأنبياء: 22] إلخ فإنها لنفي تعدد الآلهة لامتناع الفساد لا لامتناع الفساد لامتناع الآلهة لأنه خلاف ما يفهم مته، ومن نظائره إذ لا يلزم من انتفاء تعدد الآلهة انتفاء الفساد بمعنى اختلال نظام العالم لجواز وقوعه من إله واحد لمقتض(1/409)
له، وقال بعض المحققين دليله باطل، ومدعاه حق لأنّ الشرط النحوي أعمّ من أن يكون سبباً نحو لو كانت الشمس طالعة كان العالم مضيئا أو شرطا نحو لو كان لي مال حججت أو غيرهما، وأمّ الثاني فلأنّ الشرط ملزوم والجزاء لازم وانتفاء اللازم يوجب انتفاء الملزوم دون العكس فوضعها ليكون جزاؤها معدوم المضمون فيمتنع مضمون الشرط الملزوم لامتناع لازمه، وهو الجزاء فهي لامتناع الأوّل لامتناع الثاني فيدل انتفاء الجزاء على انتفاء الشرط، ولهذا قالوا في القياس البرهاني إنّ رفع التالي يوجب رفع المقدم دون العكس كما ارتضاه الفحول، وقال المحقق التفتازاني في شرح التلخيصى نحن نقول ليس معنى قولهم لو لإمتناع الثاني لامتناع الأوّل إنه يستدل بامتناعه على امتناعه حتى يرد أنّ
انتفاء المسبب أو الملزوم لا يدلّ على أنتفاء السبب واللازم بل أنّ انتفاء الثاني في الخارج إنما هو بسبب انتفاء الأوّل فهي تستعمل للدّلالة على أنّ علة انتفاء مضمون الجزاء في الخارج هي انتفاء مضمون الشرط من غير التفات إلى أنّ علة العلم بانتفاء الجزاء ما هي، وأرباب المعقول جعلوا أدوات الشرط كلها دالة على لزوم الجزاء للشرط من غير قصد إلى القطع بانتفائهما فصح عندهم استثناء عين المقدم نحو لو كانت الشمس طالعة فالنهار موجود لكن الشمس طالعة فيستعملونها للدلالة على أنّ العلم بانتفاء الثاني علة للعلم بانتفاء الأوّل ضرورة انتفاء الملزوم بانتفاء اللازم من غير التفات إلى أنّ علة انتفاء الجزاء في الخارج ما هي لاستعماله لها في اكتساب العلوم والتصديقات، ولا شك أنّ العلم بانتفاء الملزوم لا يوجب العلم بانتفاء اللازم بل العكس فإذا تصفحنا وجدنا استعمالها على حد قاعدة اللغة أكثر لكنها قد تستعمل على قاعدتهم كما في قوله تعالى {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ} [الأنبياء: 22] إلخ فاعتراض ابن الحاجب غلط صريح، وقال قدس سرّه: إنه يفهم منه أنّ المعنى الثاني إنما هو بحسب الأوضاع الاصطلاحية لأرباب المعقول والآية واردة على أوضاعهم، وهو بعيد جداً قالحق أنه من المعاني المعتبرة لغة الواردة في استعمالاتهم عرفا فإنهم قد يتصدون للاستدلال ويسمى المذهب الكلامي عندهم إلاً أنه أقل استعمالاً من المعنى الأوّل كالمعنى الثاني المذكور في نحو نعم العبد صهيب إلخ، وقد قيل في توجيهه أنه أراد بقوله قد يستعمل على قاعدتهم أنّ العرب قد تستعمله منطبقاً على قاعدتهم لا جريا عليها بل تجوز العلاقة بين المعنى اللغوي والاصطلاحي، وهذا محصل ما قالوه بأسرهم ردّا وقبولاً، وقد بقيت في النفس منه أمور لأنّ مآل ما ارتضاه الفاضلان، ومحققو المتأخرين أنّ لها ثلاثة معان في اللغة واستعمال العرب سواء كانت حقيقية، أو بعضها حقيقة أحدها مذهب الجمهور، والثاني مسلك ابن الحاجب، والثالث ما ذكر في الأثر وما ضاهاه، وحينئذ يتجه أنه كيف يعد ما قاله غلطا وهو اختيار لأحد المعاني الثابتة فإن كان لإنكار ما عداه فهو مثترك بينه وبين الجمهور إلاً أنه كثر استعمالاً، وقد اختار المصنف رحمه الله ما اختاره ابن الحاجب، وقيل يحتمل أنّ مراده أنّ ظاهر الآية هنا الدلالة على انتفاء الأوّل لانتفاء الثاني يعني أنّ استعمال لو قد يكون للاستدلال، وهو الظاهر إلا أنّ حق العبارة الدلالة على انتفاء الأوّل بانتفاء الثاني لأنه يقال دل عليه بكذا دون لكذا، وهو غريب منه لبعد ما ادّعاه واللام تعليلية لا صلة الانتفاء.
وقال قدس سرّه: لو بمعنى إن مجردة عن الدلالة على الانتفاء، وقد يقال إنها باقية على أصلها. قوله: (وقرىء لا ذهب إلخ) أمّا على زيادة الباء لتأكيد التعدية، أو على أنّ أذهب لازم بمعنى ذهب كما قيل بنحوه في تنبت بالدهن، وفي قوله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة، إذ الجمع بين أداتي تعدي لا يجوز، وأسماعهم جمع سمع وفي نسخة سمعهم مفرداً، ويجوز أن
يقدر له مفعول أي لأذهبهم وهو أقرب. قوله: (وفائدة هذه الشرطية إلخ) يعني أنّ إذهاب الله لمثله ليس بشيء في جنب مثيئتة، وقدرته فأيّ فائدة في ذكره، والمانع هنا إنتفاء شرطه، وهو تعلق مشيثة الله به لأنّ ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، والمقتضى سببه من الرعد والبرق كما يدل عليه ما قبله، وما قيل على المصنف رحمه الله من أن ما ذكره هنا يناقض قوله قبله إنّ لو ظاهرة الدلالة على انتفاء الأوّل لانتفاء الثاني إلخ لجعله مشيئة الله شرطاً والظاهر انتفاء الشيء بانتفاء شرطه لا عكسه كما مرّ، أجيب عنه بأن لو هنا استدلالية تفيد أنّ العلم بانتفاء المشروط التالي(1/410)
لوجود السبب الموقوف على الشرط يوجب العلم بانتفائه فلا تناقض فتدبر. قوله: (والتنبيه على أنّ تأتلير الأسباب إلخ الأنه لو لم يكن مشروطاً لما تخلف الأثر عن المؤثر القوفي، من الرعد والبرق والصواعق في ظلمات متراكمة، وبيان الحكم في مادّة بيان له في سائرها لإشتراكهما في العلة، وتأثير الأسباب وقيام المعنى المقتضي بناء على الظاهر، وجرى على العادة التي أجراها الله تعالى فلا يقال إنه ليس على ما ينبغي لأنّ الأسباب لا تأثير لها في المسببات، وليس التأثير لغير الله تعالى عند أهل الحق، ودلالتها على الوقوع بقدرته لأنّ المشيئة سواء كانت مرادفة للإرادة أولا شأنها ترجيح أحد طرفي المقدور من الفعل، والترك على الآخر فيستلزمها وإن كان بينهما فرق ظاهر ولذا كان قوله تعالى {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [اكل عمران: 65 ا] مقرّراً لما قبله فسقط ما قيل من أنّ وجودها بقدرته على هذا الوجه لا يفهم من الشرطية المذكورة، وإنما المفهوم منها توقف وقوعها على المشيئة، وعدم تخلفهأ عنها فتدبر. قوله: (كالتصريح به والتقرير له) أي ولذا لم يعطف عليه، وقال: كالتصريح لأنه عامّ في جميع المقدورات فيدخل فيه القدرة على ما ذكر واذهابه دخولاً أولياً فهو كالإثبات بالبرهان والتنوير بالبينة لأنّ القادر على الكل قادر على البعض وضمير به وله للتنبيه، لا يقال لا يلزم من قدرته على كل شيء وقوعه بقدرته لتغاير معنييهما، لأنا نقول لما ثبت أنه لا يجوز وقوع مقدورين من قادرين مؤثرين ببرهان التمانع، وثبت أنه تعالى قادر على كل شيء لزم أن لا يكون غيره قادراً مؤثراً فكل شيء واقع بقدرته، وقدرته تابعة لمشيئته في التاثير فثبت أنّ كل شيء واقع بمشيثته. قوله: (والشيء يختص بالموجود إلخ) الكلام في شيء وتفسيره من جهتين ومقامين، فالأوّل في تحقيقه عند المتكلمين فإنهم اختلفوا في أنّ المعدوم الممكن هل هو ثابت، وشيء أم لا وفي أنه هل بين الموجود والمعدوم واسطة أم لا والمذاهب أربعة حسب الاحتمالات أعني إثبات الأمرين أو نفيهما أو إثبات الأوّل، ونفي الثاني
أو بالعكس وذلك لأنه إمّا أن يكون المعدوم ثابتاً أولا وعلى التقديرين إمّا أن يكون بين الموجود والمعدوم واسطة أو لا، والحق نفيهما ولهم تردّد في اتحاد مفهوم الوجود والمشيئة، والكلام فيه مرتبط بالوجود الذهني أيضاً فعلى هذا هل يختص بالموجود، أو يشمله ويشمل المعدوم الممكن قولان والثاني في تحقيقه لغة، وهو يقع على كل ما أخبر عنه سواء كان جسماً أو عرضا، ويقع على القديم وعلى المعدوم والمحال فهو أعم العامّ كما في الكشاف فلا يرد عليه ما قيل من أنّ الخلاف بيننا وبين المعتزلة في المعدوم الممكن هل هو شيء أم لا، وأمّا المحال فليس بشيء اتفافا فإنّ الخلاف في المشيئة بمعنى التقرّو والثبوت في الخارج لا في إطلاق لفظ الشيء فإنه بحث لغويّ مرجعه إلى النقل، والسماع لا يصلح محلاَ لاختلاف العقلاء الناظرين في المياحث العلمية لا سيما ورد ورد استعماله على العموم في القرآن وكلام العرب بحيث لا يخفى على أحد.
وما ذكره المصنف رحمه الله برمته ماخوذ من كلام الراغب، وفيه المشيئة عند المتكلمين كالإرادة سواء، وعند بعضهم أصل المشيئة إيجاد الشيء وإصابته، وان استعمل عرفا في موضع الإرادة فالمشيئة من الله هي الإيجاد ومن الناس الإصابة، والمشيئة من الله تقتضي الوجود، ولذا قيل ما شاء الله كان بخلاف الإرادة وارادة الإنسان قد تحصل من غير إرادة الله، ومشيئته لا تكون إلا بعد مشيئته كما قال {وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ} [الإنسان: 30] ولذا يقال إن شاء الله دون إن أراد الله، فقول المصنف رحمه الله يختص بالموجود أراد به بيان معناه عند المتكلمين بناء على المشهور من مذهب أهل السنة خلافا للمعتزلة فإنه عندهم يشمل الموجود والمعدوم الممكن بناء على القول بأنه ثابت، وإنّ الثبوت أعم من الوجود، وما نقل عنهم من القول بشموله للمعدوم مطلقاً هنا من عدم الفرق بين معنييه لما سمعته من الإتفاق عليه، وكلام المصنف ظاهره أنه تفسير لما في النظم، وقال: بعض الفضلاء فيه إنّ الشيء في الآية محمول على المعنى اللغوي لا على الموجود كما اصطلح عليه أهل الكلام وفيه نظر فتأمّل. قوله: (أطلق بمعنى شاء) اسم فاعل كجاء، وأصله شاتي فاعل إعلأل قاض فهو مصدر أطلق على الفاعل، وهو من قامت به المشيئة كعدل بمعنى عادل، ولذا فنر بمريد ثم شاع حتى صار حقيقة فبه ومن قامت به المشيئة موجود لا محالة، وحينئذ يصح إطلاقه على الله لقيام المشيئة به، ولأنه موجود واجب(1/411)
الوجود، ثم استشهد على إطلاقه على الله بالآية وأسقط الاستشهاد بقوله تعالى {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص: 88] لما سيأتي في تفسيرها وأشار إلى الردّ على ابن جهم، ومن تابعه في منع إطلاق شيء على الله لقوله تعالى {عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} ولو كان شيئاً دخل تحت القدرة، وهو مناف لأنه واجب الوجود بأنّ الذي في الآية بمعنى، والذي يطلق عليه بمعنى آخر أو هو عامّ مخصوص بالعقل، وما قيل من أنّ إرادة شاء بزنة فاعل في قوله تعالى {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً} [الأنعام: 19] بعيد جذاً
بل المراد أيّ موجود أكبر شهادة كما لا يخفى مدفوع بأنه أصله ذلك، ثم غلب على الموجود مطلقا، وهو المراد كما سنوضح لك عن قريب. قوله: (وبمعنى مشء) بفتح الميم وفي آخره همزة، وقد تبدل ياء، وتدغم اسم مفعول بوزن مبغ ومهيب، وعلى ما قبله وهو اسم فاعل وهو في الأصل مصدر تجوّز به عن كل من هذين المعنيين، واستعمل استعمال المشترك، ثم شاع وغلب استعماله في ذات كل موجود وهو بعد هذه الغلبة عامّ لا مشترك لفظيّ، ولا ينافيه أنه قد يلتفت إلى معناه الأصلي فيراد في الاستعمال كما ذكره المصنف فيما نحن فيه الآن فلا يرد عليه أنّ معناه المصدري قد زال بالنقل إلى الاسمية والاشتراك بين الفاعل والمفعول خلاف الظاهر لتعين معناه لمطلق الوجود، ولذا قالوا الشيئية تساوق الوجود، وفيه بحث. قوله: (وما شاء الله وجوده فهو موجود إلخ الا يخفى ما في كلامه من الخرق الذي أتسع على الراقع، وان غفل عته كثير ممن شرحه، ولنحك ما قالوه أوّلاً، ثم نبين ما فيه فنقول من الناس من قال: المراد أنه مقدر الوجود في وقت مقدر له أو في علم الله تعالى، وفيه رائحة من الاعتزال لقوله بأنه يطلق على المعدوم، وإنما تكلفه ليخرج المستحيل الذي سماه المعتزلة شيئاً، وإنما يسمى قبل وجوده شيئا باعتبار ما يؤول إليه، وما في الانتصاف من أنه يسمى أوّل وجوده شيئاً بلا خلاف ليس بشيء لمن عنده إنصاف، وقيل: إنه من مزال الأقدام لما مرّ من تحرير محل النزاع بين المعتزلة وأهل السنة، والفرق بين كلامهم وكلام أهل اللغة، والمصنف رحمه الله خلط ذلك خلطاً لا يخفى، وتوجيهه أنه أراد أنّ الشيء في أصل اللغة مصدر أطلق بمعنى شاء أو مثى، وكلاهما موجود أمّا الأوّل فظاهر، وأمّا الثاني فلأنه ما تعلقت به المشيئة، وما تعلقت به فهو موجود فثبت أنّ الشيء مختص بالموجود وان أراد أنّ الشيء بمعنى الشيئية يختص بالموجود وانق الجمهور الآ أنّ إثبات تعليله المذكور دونه خرط القتاد، ولعل مراده هو الأوّل، وقيل: إنه " جواب عما يرد عليه من أنّ طروّ العدم من الممكن قد يقع متعلقاً للمشيثة كالإعدام بعد الإيجاد بأنّ المشيئة إذا أطلقت تنصرف إلى الكاملة فمشيئة الله لما شاء وجوده تصيره موجودا في الجملة، ولو في المستقبل والمراد بيان المناسبة بين المنقول، والمنقول عنه، وكلها إعتذارات أعظم من الجنايات وتطويل بغير طائل، وتحصيل لغير حاصل وأنت بعدما غرفت أنّ الخلاف في إطلاقه على المعدوم الممكن كما ستراه وما يوجد في المستقبل قبل وجود. معدوم ممكن فلا يكون بيننا وبينهم على ما ذكره المصنف رحمه الله خلاف أصلاً، والذي أوقعه فيما وقع فيه كلام الراغب، ثم إنّ ما ذكره من قوله وعليه قوله تعالى إلخ هو دليل لهم لا لنا لإستحالة تعلق القدرة والخلق، والإيجاد بالموجود بعد وجوده وهو مع جوابه مذكور في التفسير الكبير فتدبر.
وقيل إنه مبنيّ على أنّ العدم لا يحتاج إلى المشيئة بل عدم مشيثة الوجود كاف- في العدم
فإنّ علة عدم المعلول عدم علته، وهذا هو الباعث له على تقديره في نحو قوله {وَلَوْ شَاء اللهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِن بَعْدِهِم} [البقرة: 253] {وَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ} كما مرّ فإن قلت إذا كان على كل شيء قدير على ظاهره من غير احتياج إلى تخصيصه عند المصنف رحمه الله فلم قال في قوله تعالى {أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} [السجدة: 7] على قراءتيه مخصوص بمنفصل أو متصل كما سيأتي قلت لما كان المعنى الأصلي فيه متروكاً في الأغلب، وقامت القرينة على تركه، وهو التصريح بخلقه بعده بنى ما هناك عليه فتأمّل. قوله: (بلا مثنوية) المثنوية كالمعنوية بمعنى الاستثناء صرّح به أهل اللغة وورد في الحديث الشريف وفي كلام فصحاء العرب كقول النابغة:
حلفت يميناً غيرذي مثنوية ولاعلم إلاً حسن ظن بصاحب
وقال في النبراس أصل معناها الرجوع والانصراف كما في قول حمزة سيد الشهداء:(1/412)
فلما التقينالم تكن مثنوية لناغيرطعن بالمثقفة السمر
وكذا ورد في الحديث الثنية (1 (بمعنى الاستثناء أيضا ولما لم يقف بعضهم على ما ذكر تكلف لتأويله فقيل إنه منسوب إلى المثنى مصدر بمعنى الاستثناء، وقيل بمعنى اثنين اثنين، وقد وضح الصبح لذي عينين، ومراد المصنف بها التخصيص تجوزا بقرينة ما بعده. قوله: (والمعتزلة لما قالوا إلخ) قيل إنه تعريض ورد لما في الكشاف من قوله والشيء ما صح أن يعلم ويخبر عنه قال سيبوبه: وهو أعثم العام كما أنّ الله أخص الخاص يجري على الجسم، والعرض! والقديم تقول شيء لا كالأشياء أي معلوم لا كسائر المعلومات، وعلى المعدوم، والمحال فإن كان مقصود المصنف رحمه الله ما زعمه هذا القائل فلا وجه له لأنه بيان لمعناه لغة والخلاف بيننا وبين المعتزلة في شيء آخر غير المعنى اللغوي، وقد تقدّم أنه في المعدوم الممكن، وأنّ غيره من المعدومات ليس بشيء بالاتفاق منا ومنهم، وهو المصرّج به في كتب الأصول القديمة والجديدة فلا يصح الردّ ولا النقل عهم لأنّ ما في الكشاف بيان للمراد به في كلام العرب، واستعمالهم كما أشار إليه بنقله عن سيبويه، فإن قلت لعل المصنف رحمه الله ظفر بنقل فيه فهو قول لهم غير مشهور، ويؤيده قوله في شرح المقاصد، وعند كثير من المعتزلة هو اسم للمعلوم، ويلزمهم أن يكون المستحيل شيئا وهم لا يقولون به اللهم إلا أن يمنع كون المستحيل معلوما على ما بيناه، أو يمنع عدم قولهم بإطلاق الشيء عليه فقد ذكر جار الله إنه اسم لما
يصح أن يعلم يستوي فيه الموجود والمعدوم والمحال والمستقيم، اهـ قلت هذا بعينه ما ذكره المصنف، وقد استقرّ كلامه في شرح الكشاف الذي هو آخر تأليفه على خلافه وهو الموافق لما في كتب الأصول بأسرها قال الإمام في كتابه المسمى بالمسائل الأربعين هذه المسئلة متفرّعة على مسئلة أخرى، وهي أنّ الوجود هل هو مغاير للماهية أم لا، ثم قال: بعد ذلك فلترجع إلى تعيين محل النزاع في هذه المسئلة فنقول المعدوم إمّا أن يكون واجب العدم ممتنع الوجود، وامّا أن يكون جائزاً لعدم جائز الوجود، أمّا الممتنع فقد اتفقوا على أنه نفي، وعدم صرف وليس بذات ولا شيء، وأمّا المعدوم الذي يجوز وجوده، ويجوز عدمه فقد ذهب أصحابنا إلى أنه قبل الوجود نفي محض، وعدم صرف وليس بشيء ولا بذات وهذا قول أبي الحسن البصري من المعتزلة وذهب ممثر شيوخ المعتزلة إلى أنها ماهيات وحقائق حالتي وجودها وعدمها، فهذا هوق اخيص محل النزاع، اهـ فقد ظهر لك أنّ ما ذكره المصنف وبعض محشيه لا وجه له وكأنه فهم أنّ الموجود ما يوجد في أحد الأزمنة الثلاثة، والمعدوم خلافه ممكناً كان أو مستحيلاَ وأعلم أنه لا نزاع في استعمال الشيء في كلام الله وكلام العرب في الموجود والمعدوم والمحال والواجب والحادث كما ذكره الزمخشري، وقوله: يصح أن يوجد بمعنى يمكن أن يوجد فإنّ الصحة كما تقابل السقم والفساد تقابل الامتناع الذاتي في كلامهم وهو استعارة مشهورة، والإمكان عام مقيد بالوجود فيشمل الواجب وصفاته عند القائل بها وأفعال العباد لأنها مقدورة له بالذات، أو بواسطة التمكين، وقوله ما يصح أن يعلم ويخبر عته إن قيل ليس هذا شاملاً للفعل، والحرف قلنا يصح الإخبار عنهصا لكن بشرط أن لا يراد معناهما في ضمن لفظيهما، وإذا عرفت أنّ الصحة هنا بمعنى الإمكان العامّ، وهو سلب الضرورة عن أحد الجانبين سقط ما يتوهم من أنّ فيه إطلاق الجائز على الواجب، وهو غير جائز. قؤله: (لزمهم التخصيص إلخ) أي تخصيص شيء في قوله على كل شيء قدير. وخالق كل شيء بالممكن ليخرج الواجب والممتنع، وأمّا إذا كان بمعنى المشيء، وجوده فهو باق على عمومه كما لا يخفى، وظاهره أنه محذور مع أنّ التخصيص به جائز على الأصح فلا ضرر فيه كما يوهمه سوقه إلاً أن يقال إنه خلاف الأصل لا سيما مع كل المقتضية للعموم، وليس ببعيد فإن قلت التخصيص بالممكن لا يكفي في قوله {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الأنبياء: 02 ا] على مذهبهم لأنّ من الممكنات ما لا تتعلق الإرادة بوجوده، وأفعال العباد ممكنة، وليست مخلوقة له عندهم، قلت تعلق الخلق به كما يدلّ على إمكانه يدلّ على تعفق الإرادة بإيجاده فهو إشارة إلى لزوم المخصص بلا حصر، أو قوله بالممكن على زعمهم إشارة إلى ما فيه من القصوره قوله: (والقدرة هو التمكن الخ) ذكر الضمير رعاية للخبر، ولو أنثه نظرا لمرجعه جاز إلاً أنّ الأوّل(1/413)
أرجح عند صاحب الإيضاح، وفي المواقف القدرة صفة تؤثر وفق
الإرادة، وقيل هي مبدأ قريب للأفعال المختلفة، وهذا فيما قيل يقتضي أنها ليست نفس التمكن بل مبدأة ومقتضيه وبينهما مخالفة، والذي قاله المتكلمون إنها صفة موجودة ثابتة له تعالى، والتمكن أمر اعتباريّ لا وجود له في الخارج فهو معناها لغة وذاك اصطلاحيّ، وقيل إنّ كلام المصنف رحمه الله إشارة إلى أنّ فيها اختلافاً هل هي صفة إضافية أو ذاتية، وقيل إنّ قوله هو التمكن إلخ يقرب من مذهب المعتزلة، ويشعر بأنّ القدرة ليست صفة حقيقية والتفسير الثاني مذهب الأشاعرة، والثالث يشعر بأنها من الصفات السلبية والتحقيق ما في المسائل الأربعين للإمام من أنّ الصفات ثلاثة أقسام صفات حقيقية عارية عن الإضافات كالسواد والبياض وصفات حقيقية يلزمها إضافات كالعلم، والقدرة لأنّ العلم صفة حقيقية يلزمها إضافة مخصوصة إلى المعلوم، وكذا القدرة صفة حقيقية لها تعلق بالمقدور، وذلك التعلّق إضافة مخصوصة بين القدرة والمقدور وإضافة ونسب محضة ككون الشيء قبل غيره أو بعده فمن فسرها بالمبدا ونحوه نظر إلى حقيقتها، ومن فسرها بغيره رسمها بلوازمها فلا مخالفة في التحقيق، ثم إنه قيل عليه أنه لا يتناول التمكن من إعدامه بعد وجوده ولا التمكق من إبقاء الممكن، وهو معتبر كما سنراه إلا أن يقال التمكن من الإيجاد يستلزم التمكن منهما استلزاماً ظاهراً، فلذا اقتصر عليه مع شرفه، فعلم ضعف ما قيل من أنّ المقدور إن أريد به ما تعلقت به القدرة لا يكون إلاً موجودا، وان أريد ما يصلح لأن يتعلق به يكون معدوما وهو المعنيّ بقولهم إنه تعالى قادر على جميع المقدورأت، وأنّ مقدوراته غير متناهية يني أنها صفة قديمة قائمة بالقادر قبل الإلجاد لمقدوراته وبعد الإيجاد والبقاء فتدبر. قوله: (وقيل صفة تقتضي التمكن) هذا هو القول المرضي فكأنه لم يقصد تمريضه، والمراد التمكن من الإيجاد والإعدام والإبقاء كما سمعتة آنفاً، وقوله وقيل: قدرة الإنسان إلخ فيه إشارة إلى أنّ ما قبله عامّ فيهما أو خاص بالله، والظاهر الثاني ووجه تمريضه أنه وإن فرق بين القدرتين إلا أنه يقتضي أنّ القدرة من الصفات السلبية، والذي عليه المحققون أنها صفة ثبوتية ذاتية، والعجز يضادّها وينافيها فالقائل به اختاره تقليلاً للصفات الذاتية أو نفياً لها، ثم إنّ الهيئة إنما تستعمل إذا أطلقت في المحسوسات، والفعل شامل للإيجاد والإعدام كما مرّ وصاحب هذا القول هو الراغب كما صرّح به في مفرداته فتأمّل. قوله: (والقادر هو الذي إلخ) هذا يحتمل أن يكون كلاما مستأنفا، ويحتمل أنه من تتمة القيل فكلاهما من كلام الحكماء لأنهم لا يقولون بإثبات صفات زائدة كالمعتزلة على ما حقق في الكلام، ويخالفون المتكلمين في أن القدرة عبارة عن صحة الفعل، والترك ويقولون هي عبارة عن كونه بحيث إن شاء فعل وان شاء ترك، أو لم يفعل ومقدم الشرطية الأولى بالنسبة إلى وجود العالم دائم الوقوع، ومقدم الشرطية الثانية بالنسبة إلى وجود العالم دائم اللاوقوع، وصدق الشرطية لا يستلزم صدق طرفيها ولا ينافى كذبهما ودوام الفعل، وامتناع الترك بسبب الغير لا ينافي الاختبار عندهم، وفي نسخة وان شاة لم يفعل بدل قوله وان
لم يشأ لم يفعل، ولما ذهب الفلاسفة إلى أنّ إيجاد العالم بطريق الإيجاب لم يثبتوا لموجده الإرادة والاختيار إلا بمعنى إنه إن شاء فعل إلخ وهو متفق عليه بين الفريقين، وفيه كلام في نهاية الإمام المدقق الطوسي ليس هذا محله، وقيل إنّ قول المصنف هو الذي إن شاء فعل وان لم يشأ لم يفعل أحسن مما قيل إن شاء ترك لأنّ ظاهره يقتضي أن يكون العدم الأصلي متعلق المشيئة، وليس كذلك كما قرّروه، ثم إنّ كلاً من الفعل وعدمه أعمّ من الإيجاد أو الإعدام فالمعنى إن شاء الإيجاد، أو الإعدام فعله وان لم يشأ الإيجاد أو الإعدام لم يفعله، ومعنى كونه قادرا على الموجود حال وجود. أنه إن شاء عدمه أعدمه، وان لم يشأ لم يعدمه، ومعنى كونه قادراً على المعدوم حال عدمه إنه إن شاء وجوده أوجده وان لم يشأ وجوده لم يوجده فأحفظه فمانه نافع وفيه بحث. قوله: (والقدير الفغال لما يثاء إلخ) قال الراغب: محال أن يوصف غير الله تعالى بالقدرة المطلقة يعني بل حقه أن يقال قادر على كذا، والقدير هو الفاعل لما يشاء على قدر ما تقتضي الحكمة لا زائداً عليه(1/414)
ولا ناقصا عته، ولذلك لا يصح أن يوصف به إلاً الله تعالى والمقتدر يقاربه لكنه قد يوصف به البشر وإذا اسنعمل في الله فمعناه القدير وإذا استعمل في البشر فمعناه المتكلف والمكتسب للقدرة، اهـ ومنه أخذ المصنف رحمه الله ما ذكره ملخصاً فمعنى قوله على ما يشاء إنه متقن جار على وفق الحكمة، وقيل معناه على الوجه الذي يشاء ما يشاؤه عليه من الوجوه المختلفة، ولا محصل له إلاً أن يريد به التعميم أي على كل وجه أراله، وهو توطئة لإختصاصه تعالى به لأنه لا يقدر على إيجاد كل ما يشاء وجوده أو على إيجاد ما شاء في غأية الإتقان جارياً على وفق الحكمة إلاً الله تعالى، والفعال هو المبالغ فيما يفعله كماً وكيفاً، وقيل: إن أراد بالفعال لما يشاء إلخ في الجملة فهو لا يقتضي عدم اتصاف (لع! رب وان أريد العموم لكل ما يدخل تحت المشيئة لزم أن لا يوصف به غيره ولو مجازا، وأورد عبيه أنّ أوّل كلامه في تفسير القدرة يقتضي أن يكون القدير المتمكن من إيجاد الشيء أو ذا صفة ققتضي التمكن منه لا الفعال إلا أن يثبت هذا المعنى نقلاَ ورد بأنّ القدير صيغة مبالغة فقيه زيادة على القادر، وزيادة التمكن التام تقتضي أن يكون فعالاً، ولا يخفى أنّ المراد الثاني وأنه قد التزم ما لزمه فأيّ محذور فيه، ثم إنّ ما ذكره هنا إن كان من تتمة القيل لم يرد ما ذكره، وإن كان ابتداء كلام آخر والقدرة والتمكن الموصوف به الله تعالى صفة قديمة باقي أزلاً وأبداً فيكون قبل الوجود ومعه، وبعده فلا حاجة إلى جعله معنى آخر مستقلاً ولا إلى غيره مما ذكره نعم ما ذكره المصنف رحمه الله تبعاً للراغب من أنّ القدير لا يوصف به غير الله بخلاف القادر، والمقتدر بناء على أنّ المبالغة في القدرة بالمعنى المذكور لا يتصف به غيره تعالى فيه نظر لأنّ المبالغة أمر نسبيّ لا يلزم أن تكون بالمعنى المذكور، ولو تتبعت كلام العرب، وأهل اللغة لم تجده مختصاً به تعالى، ولذا وقع في بعض النسخ قلما يوصف به غير البارىء، وكانّ المصنف أصلح به ما في النسخة الأولى على أنه قد خالف ما ذكره بقوله في أوّل الخطبة فلم
يجد به قديراً، فإنّ المراد به غيره تعالى إلاً أن يقال أنه نفى للقدير عن غيره إذ المعنى لا قدير فيوجد وحينئذ لا ينافي ما ذكر. قوله: (واشتقاق القدرة من القدر إلخ) قيل فيه إشارة إلى الردّ على الزمخشري حيث عدل عن قوله: واشتقاق القدير من التقدير لما فيه من إشتقاق المجرّد من المزيد وان أجيب عنه بأنه لم يرد به الاشتقاق المعروف بل إنّ بينهما اتصالاً، ومناسبة، فإنّ القدير مشتق من القدرة، ومعناها الإيقاع على مقدار قوّته، وحكمته وهو معنى التقدير، وقد جرت عادته أن يعين للغات أصلاً يرجع إليه ولما كان في جميع مواده معنى التقدير جعله أصلا له هكذا نقل عنه وإذا اشتمل المزيد على معنى المجرّد، وزيادة جعل أصلاً كالقدير من التقدير، والوجه من المواجهة والبرج من التبرّج والاشتقاق فيه لغوي بمعنى الأخذ من أشهر مواده لا ما اصطلح عليه أهل التصريف، ولذا تراهم يجعلون المصدر مشتقاً من مصدر آخر فلا إشكال فيه كما تقدم. قوله: (وفيه دليل على أنّ الحادث إلخ) أي في قوله إنّ الله على كل شيء قدير لأز الحادث والممكن شيء بالاتفاق وكل شيء مقدور كما صرّح به المصنف، وصورة الدليل كما قيل الحادث حال حدوثه شيء، وكل شيء مقدور له تعالى ينتج أنّ الحادث حال حدوثه مقدور له تعالى أو الممكن حال وجوده شيء مقدور له تعالى، فينتج أنّ الممكن حال وجوده مقدور له وأورد عليه مغالطة مذكورة مع ردّها في حواشي بعض الفضلاء فلا حاجة لإيرادها هنا فوجد الأوّل، وبقاء الثاني بقدرته تعالى، وهذا ردّ على من زعم أنّ الحادث محتاج إلى الفاعل القادر حال حدوثه دون بقائه، والاً لزم تحصيل الحاصل إذ إيجاد الموجود محال، وتأثير القدرة هو الإيجاد وأجابوا عنه بأن المحال إيجاد الموجود بوجود سابق، وهو غير لازم بل إيجاده لوجود هو أثر ذلك الإيجاد مع أنّ هذا مبنيّ على أنّ تأثير القدرة الإيجاد فقط، وليس كذلك لجواز أن يكون الإعدام بعد الوجود فالأحسن أنّ معنى أنه مقدور أنّ الفاعل، إن شاء أعدمه وإن لم يشأ لم يعدمه كما مرّ، وقيل لما رأى بعض المتكلمين أنّ عدم احتياج الباقي في بقائه شنيع قالوا إنّ الجواهر لا تخلو عن الإعراض، والعرض لا يبقى زمانين فلا يتصوّر الاستغناء عن القادر في كل أوان، وهذا مما أنكره كثير من المتكلمين على الأشعري، وقالوا إنّ إدّعاء مثله(1/415)
في الأعراضى القارّة مكابرة في المحسوس اللهم، إلا أن يقال إنّ المراد إنه ليس له بحسب ذاته بقاء واستمرار، وبقاؤه بالعرض إستناداً لما يقوم به كالجأع المائل إذا استند إلى جدار منى فارقه سقط. قوله: (والممكن حال بقائه) لأنّ المحققين على أنّ علة الاحتياج الإمكان لا الحدوث كما هو مقرر في الكلام قيل إنما أفرد المصنف الممكن بالذكر، وكان يكفي أن يقول الحادث حال حدوثه، وبقائه إشارة إلى صفاته تعالى فإنها ممكنة مع قدمها لكن كونها مقدورة في غاية الإشكال لما تقرّر من أنّ أثر المختار لا يكون الا حادثا، ولذا اضطروا إلى أنه تعالى موجب بالذات في حق الصفات كما كتب الكلام، وقيل عليه أيضاً إنّ صفاته
ممكنة فيلزم كونها مقدورة حال بقائها، وقد فسر القادر بالذي إن شاء فعل، وإن شاء لم يفعل، وحاصله صحة الفعل والترك، وهي يمقتضى ذاته فلا يصح فيها الترك إلا أن يريد المصنف رحمه الله بالممكن الحادث، لكنه خلاف ما يقتضيه سياقه، إذ لو كان كذلك قال حال حدوثه وبقائه. ا! دول الذي ارتضاه المحققون من المتكلمين كما قاله الإمام في الأربعين، أنّ صفات الله تعالى ممكنة لذاتها واجبة الوجود لوجوب الذات، وحاصلة أنّ الصفات واجبة للذات لا بالذات، أي واجبة لأجل الذات المقدّسة لا أنّ ذات الصفات اقتضت وجوب وجود نفسها فتكون ممكنة في حد نفسها معللة بالذات القديمة، لكن يجب أن تكون الذات موجباً بالنسبة إليها مختارا بالنسبة لما سواها، وإلا لزم حدوثها بناء على ما تقرّر من أنّ الصادر عن المختار حادث البتة، وقوله في التفسير الكبير أن الذات المقدّس كالمبدأ للصفات أورد عليه إنّ ظاهر التشبيه أنها ليست مبدأ لها، وإذا لم تكن مبدأ لها لم تكن الصفات ممكنة بل واجبة فيتعذد الواجب وهو لا يجوز، وأجيب بأن المتبادر من الميدأ هو الموجد بعد العدم والصفات ليست مسبوقة بالعدم، إلاً أنها تقتضي الذات وتحتاج إليها وتتوقف عليها فالذات بالنسبة لها كالمبدأ، وإن لم تكن مبدأ حقيقة، وأمّا تعلق القدرة وشمولها للصفات الذاتية فاختلفوا فيه على ما أشار إليه في شرح المقاصد، فقيل تتعلق بها والإيجاب لا ينافي المقدورية بل يحققها، والاختيار بمعنى إن شاء فعل، وإن شاء لم يفعل لا ينافيه أيضاً كط مرّ، وقيل إنه قد يفسر شمول قدرته بأنّ ما سوى الذات والصفات من الموجودات واقع بقدرته فتدبر. فوله: (وأنّ مقدور العبد مقدور الله) المراد بمقدوره الفعل الصادر عنه باختياره وقدرته الكاسبة له مقدور الله أي تتعلق به قدوة الله المؤثرة في إيجاده، وهو مذهب الأشعريّ، ولا يلزمه تعنق قدرتين بمقدور واحد لأنّ المؤثر قدرة الله فقط، والمحذور توارد مؤثرين متساوين ولا يلزمه الجبر أيضاً، لا يقال التأثير معتبر في القدرة لما مرّ من تعريفها بأنها صفة تؤثر وفق الإرادة، لأنا نقول الأشعريّ رحمه الله قسم القدرة إلى المؤثرة والكاسبة، وما ذكرتم تعريف القسم الأوّل لا مطلق القدرة، ومن هنا تبين أنّ معنى الكسب الذي يثبتة الأشعريّ هو تعلق القدرة والإرادة الذي هو سبب عاديّ لتقدير الله تعالى وخلقه في العبد، وأفعال العباد دائرة بحسب الاحتمال العقلي بين أمور.
الأوّل: أن يكون حصولها بقدرته تعالى وإرادته من غير مدخل لقدرة العبد.
والثاني أن يكون حصولها بقدرة العبد وارادته من غير مدخل لقدرة الله عز وجل وإرادته
فيها، أي بلا واسطة إذ لا ينكر عاقل أنّ الأقدار والتصكين مستندان إليه تعالى، إمّا ابتداء أو بواسطة.
والثالث أن يكون بمجموع القدرتين، وذلك بأن يكون المؤثر قدرة الله تعالى بواسطة
قدرة العبد أو بالعكس، أو يكون المؤثر مجموعهما من غير تخصيص لإحداهما بالمؤثرية،
والأخرى بالآلية ذهب إلى كل من الاحتمالات ما خلا الاحتمال الثاني، من محتملات الشق الثالث طائفة، والأخرى بالآلية ذهب إلى كل من الاحتمالات ما خلا الاحتمال الثاني، من محتملات الشق الثالث طائفة، والأوّل مذهب الأشعرية، والثاني مذهب المعتزلة، والثا اث مذهب الاستاذ الإسفرايني، والكلام عليه مبسوط في الكتب الكلامية، وقوله لأنه شيء إلخ إشارة إلى القياس الذي ذكرناه. قوله: (والظاهر أق التمثيلين إلخ) المراد بهما ما في قوله {كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً} إلخ وقوله {أَوْ كَصَيِّبٍ} إلخ وإنما جعله الظاهر لأنه أبلغ وأقرب من كونه مفرقاً ومفردا، وعرفه ضمناً بتشبيه هيئة منتزعة من عدّة أمور متلاصقة تلاصقاً معنويا حتى صارت كشيء واحد بمثلها، ومثل له بقوله تعالى {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ} [الجمعة: 5] إلخ لظهور التركيهب فيها(1/416)
كما سيأتي تفسيرها مع المناسبة لما هنا لأنها في حق اليهود وأكثر المنافقين منهم، وحمل التوراة قراءتها وحفظها، وقوله {لَمْ يَحْمِلُوهَا} [الجمعة: ا] لتنزيل حملهم لها منزلة العدم كما في قوله تعالى: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ} [الأنفال: 17] أو المراد لم يلتزموا حقها كما في قوله تعالى {وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ} [الأحزاب: 72] فحالهم مع التوراة التي هي كتاب عظيم فيه نور وهدى نافع مع عدم الانتفاع به لجهلهم وحمقهم، كحال حمار يحمل حملاً ثقيلاً من الكتب النفيسة، ولا يناله منها إلا التعب والكد، وفي ذكر الأسفار هنا لطف ظاهر لإيهام أن يكون جمع سفر بفتحتين، مع أنه المتعارف في التعبير عنها كما لا يخفى. قوله: (والنرض منهما إلخ) أي المقصود والمعنى المراد، وليس المراد ما يترتب على الشيء حتى يفسر بالحكمة والمصلحة، لأنّ أفعاله تعالى لا تعلل بالأغراض! ، كما قيل، فالمراد من التشحيه فيهما على تقدير التركيب تشبيه حالتين بحالتين، والمشبه في الأوّل مجموع أحوال المنافقين في تحيرهم واضطرابهم مع إظهارهم الإيمان حفظاً لدمائهم وأموالهم وذراريهم وأهلهم، وزوال ذلك عنهم سريعاً بإفشاء أسرارهم وافتضاحهم المؤدّي إلى خسارة الدارين، والمشبه به حال المستوقد نارا مضيئة له فانطفأت، ووجه الشه صلاح ظاهر الحال الذي يؤول لخلافه، وفي الثاني حالهم في الشدّة ولباس إيمانهم المبطن بالكفر المطرّز بالخداع حذر القتل، بحال ذوي مطر شديد ببرق ورعد يرقعون خروق آذانهم بأناملهم حذر الهلاك، ووجه الشبه وجدان ما ينفع ظاهره وفي باطنه بلاء عظيم، والمكابدة المقاساة وأخذته السماء بمعنى أحاط به مطرها وغلبه، وفي قوله: من الحيرة والشدة لف وير
مرتب، فالحيرة للتمثيل الأوّل، والشدّة للتمثيل الثاني، ويحتمل رجوع كل منهما لكل منهما، وبحال معطوف على بما يكابد وما مصدرية أو موصول، وطفئت مجهول مهموز اللام، وفي نسخة انطفأت، وفي أخرى انطفت بدون همز بإبدالها وإجرائه مجرى المعتل، والقياس غيره. قوله: (من قببل التمثيل المفرد إلخ) يعني أنه من تشبيه المفردات بالمفردأت، وهو المسمى بالتشبيه المفرق، ولما كان قوله: المفرد يوهم أنه لا تعدد فيه فسره بقوله: وهو أن أخذ أشياء إلخ، أي أن تأخذ أشياء متعدّدة من غير تركيب فتشبهها بمثلها. كما سنبينه لك، وفي الكشاف أنه إذا كان التشبيه مفرقا فالمشبهات مطوية على سنن الاستعارة، كقوله {وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ} ! سورة فاطر: 12] الآية. ثم قال: فإن قلت الذي كنت تقدره في المفرق من التشبيه من حذف المضاف وهو قولك أو كمثل ذوي صيب هل تقدّر مثله في المركب منه، قلت لولا طلب الراجع في قوله {يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم} ما يرجع إليه لكنت مستغنيا عن تقديره، لأني أراعي الكيفية المنتزعة من مجموع الكلام، فلا عليّ أولى حرف التشبيه مفرد يتاتى التشبيه به أم لم يله إلخ، والمراد أنه على التفريق طوى ذكر المشبهات، كما في الاستعارة المصرّحة لطيّ ذكر المشبه فيها لفظا وتقديرا قطعاً، وقد يجري التشبيه على سننها وان فرق بينهما بوجهين، الأوّل أنّ المتروك في التشبيه منويّ مراد، وفي الاستعارة منسيّ بالكلية، كما مرّ تحقيقه في الاستعارة التمثيلية في قوله {خَتَمَ اللهُ} الآية من أنّ المعاني قد يقصد إليها بألفاظ منوية غير مقدرة في النظم، الثاني أنّ لفظ المشبه به في التشبيه مستعمل في معناه الحقيقيّ، وفي الاستعارة في معنى المشبه حتى لو أقيم مقامه صح أصل المعنى من غير فرق، وإن فاتت المبالغة، وإذا قدّر فربما انتظم مع المذكور بلا تغيير كما هنا، وقد يحتاج إلى التغيير كما في قوله تعالى {وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ} [فاطر: 2 ا] على ما فصل في محله ثم إنه ذكر أنه على التفرين يحتاج إلى التقدير دون التركيب، وظاهره أنه يقدّر كمثل ذوي صيب إلا أنّ تعليله بطلب الضمير للمرجع يقتضي تقدير ذوي صيب، وأمّا تقدير مثل فلأنّ المقصود تشبيه صفة المنافقين بصفة ذوي الصيب، فتقديره أو في بتأدية هدّا المعنى، وأشد ملاءمة مع المعطوف عليه، وهو كمثل الذي إلخ. ومع المشبه وهو مثلهم وان صح أن يقال أو كذوي صيب كقوله تعالى {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ} [يونس: 24] إلخ وقيل تقدير المثل أمر مسلم يقتضيه العطف على السابق وينبني عليه تقدير ذوي لأنّ إضافة القصة إلى كل من الأجزاء التي تدخل فيها صحيحة، لكن إضافتها لأصحابها حقيقية ولغيرهم مجازية لما ذكر في قوله {مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ} [البقرة: 261] وقد قيل عليه ما فيل فمن أراده فعليه بالنظر فيه، وهذا كله مما لا كلام(1/417)
فيه، وإنما الكلام في أنّ المصنف رحمه الله ترك حديث التركيب والتفريق بين التركيب والتفريق، فأمّا أن يكون اكتفاء بما قالوه مع الإشارة إليه
سابقاً حيث اقتصر على تقديره، وامّ أن يكون تركه لعدم ارتضائه له لما فيه من الخفاء، مع أنّ طيّ ذكر المشبهات غير ظاهر لأنّ المشبه في التمثيلين مصرّح به في قوله أوّلاً مثلهم، لأنّ المثل بمعنى القصة، والحال الشاملة لجميع أحوال المنافقين المشبهة إجمالاً، ولا يلزم في التفريق التصريح بالطرفين تفصيلاَ كام قالوه في اللف والنشر التقديري، على أنّ إجماله في قوّة التفصيل لقرب العهد به، فكيف يقال أنه طوى فيه ذكر المشبهات على أنه لا مانع من إبقاء الكلام على حاله من غير تقدير أصلاً، وما ذكره قدس سرّه من نية الألفاظ في التمثيلية مز تحقيقه، إلا أنّ قياسه الاستعارة على التشبيه قياس مع الفارق فإنّ المشبه يطوي ذكره كثيراً بخلاف أجزاء اللفظ المستعار، فتأييد مدعاه به غير تامّ. قوله: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى} [فاطر: 9 ا] هذا من قبيل التشبيه المفرّق وهو نظير لما نحن فيه من وجهين التفريق وتكرير التشبيه، ولذا أعاد لا النافية فشبه الكافر الضال بالأعمى، والمؤمن المهتدي بالبصير، ثم شبهه مرّة أخرى فقال {وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاء وَلَا الْأَمْوَاتُ} [فاطر: 22] والظلمات والنور، الباطل والحق، والظل والحرور، الثواب والعقاب، وقيل الأعمى والبصير مثلان للصنم والله عز وجل كما سيأتي في سورة فاطر. قوله: (وقول امرىء القيس) بن حجر الكنديّ الشاعر الجاهلي المشهور من فصيدة طويلة أوّلها:
ألا عم صباحا أيها الطلل البالي وهل يعمن من كان في العصر الخالي
وهل يعمن من كان أقرب عهده ثمانين عاماً في ثماني أحوال
كأني بفتخاءالجناحين لقوة على عجل منها أطاطىءشملالي
تخطة! حران الأنيعم بالضحا وقد حجرت منها ثعالب أرآل
كأنّ قلوب الطيررطبا ويابسا لدى وكرها العناب والحشف البالي
وضمير وكرها لفتخاء وهي العقاب المذكور أوّلاً، وهو شاهد للتشبيه المفرد، حيث شبه قلوب الطير الطرية وقلوبها المقددة على اللف والنشر المرتب بالعناب في الشكل واللون، وبحشف التمر وهو الردىء أليابس منه، والعقاب من سباع الطير ويوصف بمحبة أكل اللحم دون قلوب الطير، وقال ابن قتيبة: قلوب الطير ألذ ما فيها فهي تأني بها لتزق فراخها ولكثرتها يبقى منها الرطب واليابس وهو الظاهر، وفي كامل المبرّد أنّ هذا البيت عند الرواة أحسن ما قيل في تشبيه شيئين مختلفين في حالين مختلفتين بشيئين كذلك، ورطباً ويابسق حالان من قلوب الطير والعامل فيهما كأنّ نها بمعنى أشبه، ولدى وكرها حال أيضا، والعناب بالرفع خبر كأنّ وهو بزنة رمّان ثمر معروف. قوله: (بأن يشبه في الأوّل ذوات المنافقين إلخ) الجارّ والمجرور متعلق بقوله يمكن أو بجعلهما وعبر بالذوات هنا، وبالأنفس فيما سيجيء تفنناً، واشارة إلى أنه لا بد منه في التشبيه المفرّق لأنهم المشبهون بالمستوقدين، وأصحاب الصيب
بخلافه على التركيب فإنّ النظر فيه إلى المجموع فلذا لم يتعرّض له وقد بيناه لك أوّلاً مع ما فيه، وقوله: وإظهارهم الإيمان بإستيقاد النار عدل، عما في الكشاف من قوله وإظهاره الإيمان بالإضاءة لما قيل من إنه اعترض عليه بأنه يخالف ما قدّمه، من أنّ المشبه بالإضاءة هو الانتفاع بالكلمة المجراة على ألسنتهم، ولا يناسب ما بعده من قوله أنّ المشبه بإنطفاء النار هو انقطاع الانتفاع، إذ المناسب له أن يشبه انقطاع الإظهار بالإنطفاء، وإن أجيب عنه بأن المراد هنا الإضاءة المتعدّية وهي ثمة لازمة، أو أراد بإظهار الإيمان أثره، وهو الانتفاع به، فمعناه شبه المنافق أي نفاقه وإظهاره الإيمان بالمستوقد أي بإسنيقاده، وشبه أثر الأوّل من الانتفاع به، فمعناه شبه المنافق أي نفاقه وإظهاره الإيمان بالمستوقد أي بإستيقاده، وشبه أثر الأوّل من الانتفاع باثر الثاني من الإضاءة، وشبه انقطاع الانتفاع بانقطاع الإضاءة، ويؤيد هذا أنّ تشبيه ذات المنافق بذات المستوقد ليس مقصوداً في الآية قطعاً، والحمل على التوطئة بعيد، فحينئذ للمستوقد إستيقاد واستضاءة وخمود نار، وللمنافق إظهار إيمان وانتفاع به، وانقطاع بالموت وغيره، وهذا زبدة ما في الشروح مما ارتضاه الشريف المرتضى قدس سرّه، وقيل للمستوقدين ذوات، وثلاث حالات الاستيقاد، واضاءة نارهم ما حولهم، وانطفاء نارهم، وكذا(1/418)
للمنافقين ذوات وثلاث حالات فإظهار الإيمان بإزاء الاستيقاد، وحقن الدماء وسلامة المال والأولاد، ونحوها من المنافع الحاصلة بإظهار الإيمان بإزاء الإضحاءة، وزواله بإزاء إنطفاء النار فشبهت الأربعة بالأربعة، ووجه الشبه في الأوّل الوقوع في حيرة ودهشة، وفي الثاني التسبب لحصول المراد، وفي الثالث كونه خيراً لمباشر الفعل، وفي الرابع الفناء بسرعة، والمصنف رحمه الله شبه إظهار الإيمان بالإستيقاد، والزمخشريّ بالإضاءة، وقد قيل عليه أنّ الظاهر أن يشبه إظهار الإيمان بالاستيقاد والانتفاع بالإضاءة كما مرّ، ولذا عدل عنه المصنف وربع القسمة إلا أنه شبه زوال اننفع بإطفاء النار، والمناسب أن يجعل المشبه الإزالة والمشبه به الإنطفاء.
6هول لا يرد ما أورده بعد النظر التامّ ولا مغايرة بين ما ذكره المصنف رحمه الله، وبين ما
في الكشاف إلا باختلاف العبارة، وهما في الما! واحد، وتوضيحه أنّ المستوقد هنا بمعنى الموقد، وإيقاد النار إشعالها بحطب ونحوها ويترتب عليه إضاءتها أي جعلها أو كونها مضيثة منتشرة الضوء، ويترتب على هذا الاستضاءة التي هي أثرها، ومطاوعها وهي عين الانتفاع بها، ثم تضمحل النار والنور، ويبدّل الخير بالشرور، وهذا ما في جانب المشبه به، وفي المشبه على ترتيبها المنافق ينطق بقوله ولمنا} وكلمة الشهادة، فيترتب على نطقه إظهار إيمانه بدلالة فحواها، ثم يترتب على هذا الإظهار الانتفاع بصيانة الأموال والدماء ونحوها، ثم ينقلب نفعه ضرّاً بافتضاحه واستحقاقه العقاب في الدارين فتخيب آماله، وتنعكس أحواله، فإذا عرفت هذا
ظهر لك بلا اشتباه أنّ إظهار إيمانه في لحقيقة بدلالة الكلمة المجراة لا أنه نفسها، والمشبه بالإيقاد حقيقة إجراء الكلمة، فالمشبه بالإضاءة إظهار الإيمان كما في الكشاف، إلا أنه لقرب الإيقاد من الإضاءة وتلازمهما يجوز أن يقال شبه إظهار الإيان بالإيقاد، والانتفاع بالإضاءة، وان كان استضاءة لأنهما كشيء واحد كما قيل في التعليم والتعقم، فسقط ما أورد على المصنف رحمه الله في الإطفاء والانطفاء، والعجب مما توهم من منافاة قول الزمخشريّ هنا شبه إظهار الإيمان بالإضإ ءة لقوله: أوّلاً المراد ما استضاؤوا به قليلاً من الانتفاع بالكلمة المجراة على ألسنتهم، وبين الاستضاءة والإضاءة بعد ما بين المشرقين، والباء في قول المصنف رحمه الله بإهلاكهم سببية متعلقة بزوال، وفي قوله بإطفاء متعلقة بيشبه السابق لا بمثله مقدرا ولا بإبقاء. قوله: (وفي الثاني أنفسهم بأصحاب الصيب إلخ) معطوف على قوله في الأوّل، وأنفسهم بالرفع معطوف على قوله ذوات أ، ئب فاعل يشبه المجهول، وبأصحاب معطوف على قوله بالمستوقدين، وأصحاب إشارة إلى ذوي المقدّر، وقوله حذراً إلخ، لنكايات جمع نكاية من نكأت بالهمز، ونكيت معتل الآخر وهي ما يؤلمهم ألماً شديدا، وطرق يطرق من باب كتب إذا أتى ليلاَ، والمراد به ما يصيب الكفرة من الإذلال والإهلاك، فشبه حذرهم منهم بسدّ الآذان للإتقاء به، وقوله (من حيث إلخ) هو وجه الشبه، وانتهزوها بالزاي المعجمة بمعنى اغتنموها وبادروا لها بسرعة، وفرصة كغرفة أصل معناه النوبة والشرب، ثم شاع في كل مطلوب يبادر له خثية فواته وهو منصوب على الحال أو التمييز، أو هو مفعول ثان لانتهز بتضميته معنى التصيير والإيجاد، وأصل معنى الانتهاز الدفع، ثم قيل انتهز بمعنى نهض وبادر، وخطا بضم الخاء مقصور جمع حظوة، ومتقيدين مجاز أو كناية بمعنى واقفين، وحراك بفتح الحاء المهملة بمعنى حركة، وقوله: خفقة بمعنى لمعة، وخفي بمعنى فتر هنا من خفي البرق كرمى إذا لمع بضعف، وفي قوله: يمكن إشارة إلى مرجوحية التفريق بالنسبة إلى التركيب لأنه أبلغ كما صرّح به الشيخ ويس هـ من أهل المعاني. قوله: (وقيل شبه الإيمان إلخ) هذا تفسير لقوله {أَوْ كَصَيِّبٍ} إلخ على أنّ التشبيه مفرّق أيضاً وقائله قيل: إنه الراغب في تفسيره، وقريب منه ما اختاره السمرقنديّ رحمه الله تعالى فقال: جعل الدعاء إلى الإسلام كالصيب وما فيه من الجهاد
كظلمة الليل، وما فيه من الغنيمة كالبرق، إشارة إلى أنه عليه الصلاة والسلام دعاهم إلى الإسلام الذي هو سبب المنافع في الدارين حقيقة بمنزلة الصيب الذي هو سبب المنفعة حقيقة إلا أنّ في الإسلام نوعاً شديداً من الجهاد والحدود وغيرها، بمنزلة ظلمة الليل والسحاب، وصوت الرعد مع الصيب، وفي من الغنيمة والمنافع كالبرق هناك، فجعل المنافقون أصابعهم في آذانهم من سماع ما في(1/419)
الإسلام من الشدائد، كما جعل من ابتلي بهذا الصيب في ليلة مظلمة في مفازة أصبعه في أذنه من الصواعق، يكاد البرق يخطف أبصارهم أي ما في الإسلام من الغنيمة والنفع، ومعناه أنّ المنافقين إذا رأوا خيراً في الإسلام وغنيمة مشوا إليه، وإذا أظلم عليهم بالشدائد قاموا متحيرين مغمومين وصدوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. اهـ. وتحقيقه بعد العلم باختصاصه بالمنافقين أيضا لا عمومه للكافرين، وان ذهب إليه بعض المفسرين، والفرق بينه وبين ما قبله مع التفريق وتشبيه أحوال المنافقين فيهما أنه على ما قبله الصيب بإزاء إيمان المنافقين، والظلمات كفرهم المضمر، والرعد والبرق المخوّف خداعهم المصير النفع ضرّا، ونفاقهم لدفع المضرّة عنهم بإزاء جعل الأصابع في الآذان مع عدم إفادته، وتحيرهم في جهلهم بمصادفة برق يمشون فيه ثم يقفون، وأمّا على هذا فالصيب بإزاء الإيمان المحقق الخالص، والقرآن المجيد وما يفيده من المعارف التي يحيا بها كل قلب سليم حياة أبدية، كما أن من الماء كل شيء حيّ، وكون المنافقين أصحاب هذا الصيب مع عدم حصوله لهم، ولذا لم يضف إليهم في العبارة لتمكنهم منه وتلبسهم بما يضاهيه، ولأنهم قد أظلهم زمان حصوله كما يشير إليه قوله وسائر ما أوتي الإنسان دون ما أوتوا، والظلمات بإزاء الشبهات والرعد، اأس عد لتبشيره برحمة الغيث، والوعيد لإنذاره بنقمة الصواعق وما فيه من الآيات القرآنية ونعوته ألباهرة أي القاهرة للعقول بإزاء البرق الخاطف للأبصار أي الصارف عما سواه لو هداهم الله، وانصرافهم عن الاستماع والإذعان بإزاء سدّ الآذان عما يخاف من الوعيد واتقائه بما لا يفيد فإنّ الله محيط بالكافرين، وإنما أخره ومرضه لما في جعلهم أصحاب هذا الصيب من البعد الذي هو مع التقدير كالألغاز، وبعد تشبيه الوعد بالرعد، وتشبيه الآيات بالبرق، ومما ذكرناه علم غفلة من قال: إنه لم يتعرّض للتشبيه في قوله {يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ} وأنه يمكن أن يقال شبه قرب صرف الآيات أنظارهم عما كانوا يصرفونها إليه من حطام الدنيا والأباطيل بخطف البرق أبصارهم، وحياة الأرض بهجتها بنباتها وارتبكت بها الضمير في ارتبكت عائد على ما، وأنثه باعتبار معنى الشبه، وضمير بها للمعارف أو للمذكورات بأسرها، والمعارف جمع معرفة وهي معروفة، وفي بعض الحواشي صححه معاون بواو ونون في آخره جمع معونة من العون وهو اأظهير وفسره بالعون بتهيئة آلات المعارف، وارتبك بمعنى اختلط،
يقال ربكه ولبكه إذا خالطه ومازجه، والمبطلة وفي نسخة الطائفة المبطلة، وهم أهل البدع والضلالة المحاولون لإبطال الحق، واعترضت دونها أي حال بينها وبين الحق، والباهر الظاهر العجيب ويهوله بالتخفيف والتشديد أي يخوّفه. قوله: (وهو معنى قوله الله محيط إلخ) أي عدم خلاصهم مما يخافون، وقوله واهتزازهم أي وشبه اهتزازهم وهو في الأصل توالي الحركات في محل واحد، ويكنى به عن النشاط والفرح كما في قول ابن الرومي رحمه الله:
ذهب الذين يهزهم مدّاحهم هز الكماة عوالي المرّان
وهو المراد هنا ومن فسره بالحركة فقد قصر، وقوله: يلمع لهم من رشد بضم فسكون
أو بفتحتين ضد الغيّ، ولم! فه استعارة من لمعان البرق لظهوره ظهورا لا يثبت ويزول سريعا، ورفد بكسر الراء المهملة وسكون الفاء يليها دال مهملة معناه العطاء والشيء المعطى، وتطمح تنظر أو تنتظر يقال طمح بعينه إذا شخص بها، والمطرح موضع الطرح ثم عمّ لكل موضع، وتوقفهم في الأمر ترددهم فيه وهو مجاز من الوقوف شاع في هذا الصعنى إذا تعدّى بفي، وتوقف عن الأمر أمسك عنه ووقف الأمر على كذا علقه عليه، ووقف الميراث إلى الوضع أخره، فيختلف معناه باختلاف تعديه، وتعن يكسر العين المهملة وتشديد النون مضارع عن بمعنى ظهر أو طرأ، وعرض وبتوقفهم متعلق بشبه كقوله بمشيهم، وقوله ونبه أي نبه الله المؤمنين أو نبه كل من يتنبه وهو مما ينبغي التنبه له، وإن لم ينبهوا عليه لأنّ هذا التنبيه من تتمة التشبيه المفرّق، وارتباطه إنما هو به بل بالقيل الأخير ولولا هذا لم يكن لذكره وتأخيره إلى هنا محلى، وبيانه أنه لما كان في التشبيه على هذا إيماء إلى العقائد الحقة والمعارف الإلهية التي مدت نعمها على موائد الوجود(1/420)
وحرم ذوقها هؤلاء المنافقون كما أريناكه آنفاً فهم تحت سماء مغدقة على رياض مخصبة، وقد أحدثوا فانتجعوا بصرفهم الحواس عن أعمالها فيما حقها أن تصرف له وجعلها كالعدم، فنعى الله ذلك عليهم وقال: إنهم تعاموا وتصاموا عمن لو شاء أعماهم وأصمهم حقيقة، وقوله با احالة إلخ المراد بها الصمم والبكم والعمى، وضمير يجعلونها للأسماع والأبصار، وضمير جعلهم مفعول أوّل، وبالحالة مفعول ثان، أي ملتبسين بها، أو ظرف لغو متعلق به، وقد جوّز في يجعلونها أن يبني للفاعل وللمفعول، فقيل: إن التنبيه من كلمة لولا الامتناعية وظاهره أنّ قوله {وَلَوْ شَاء} إلخ في شأن المنافقين، والظاهر أنه تتميم لأصحاب الصيب الممثل بهم، ويجعلون على البناء للمفعول، وضمير المفعول للحالة والاً لزم الاقتصار على أحد مفعولي جعل الذي هو من أفعال القلوب، والمعنى بالحالة ال! ي يجعلون لأنفسمهم تلك الحالة على أن يكون تعلق الجعل بالمفعول الأوّل القائم مقام الفاعل، أو بالثاني. والمراد به الحالة التي هم عليها على الحذف، والإيصال وفيه تكلف، أو! لى البناء
للفاعل وهو الظاهر، والمعنى الحالة التي يفعلونها فحينئذ لا يكون الجعل من أفعال القلوب، ولا يلزم المحذور المذكور، اهـ وفيه ما لا يخفى فإنّ التنبيه إنما هو من التذييل يهذه الجملة لا من لو، وجعل يجعلى مبنية للفاعل وليست مما يتعدّى للمفعولين بل لواحد، وهو كثير فيها لأن لها معاني، فتكون بمعنى اعتقد، وبمعنى صير، وهي على هذا ملحقة بأفعال القلوب، وأمّا بمعنى أوجد وأوجب فيتعدّى لواحد، وهو المراد هنا فلا حاجة لما ارتكبوه من التعسف. تم. تنم الجزء الأول ويليه الجزء الثاني أؤله فوله تعالى {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ} .(1/421)
وفاعله ضمير يرجع إلى الله أو مبني للمفعول والمعنى واحد أي ادّعاء ذلك بالرأي والتشهي كما قرّرناه لك، وتحريم المجتهد وتحليله لشى من هذا القبيل لأنه لأخذه من النمى، واستناده إليه قائم مقامه فكأنه هو، وهذا جواب عن قوله ومّ المشركين إلخ ولم يتعرّض لجواب الأوّل لشهرته في علم الكلام لأنّ استحالة التمكين من الحرام ممنوعة لأن قبح الحرام باعتبار إضافته إلى من اتصف به لا إلى من أوجده. وقوله: (واختصاص إلخ) القرينة هي إسناده إليه تعالى ومدحهم بالإنفاق منه ووصفهم بالتقوى، وهذا ليس محل النزاع بيننا وبينهم مع أنّ في من التبعيضية المشيرة إلى أنّ الحلال بعض الرزق لا كله ما يومىء إلى عمومه وهذا ردّ لما استدلوا به معقب بدليل المخالف لهم. قوله: (وتمسكوا إلخ) تمسك بكذا بمعنى أخذ به وتعلق تجوّز به عن الاستدلال وفيه إشارة لقوّته ووجهه أنه سمى ما حرّم رزقا أو بيته به، وان قيل عليه أنه لا يدلّ على أنه رزق لمن حرّم عليه فليكن رزقا لمن أحل له، ولذا استدل به بعض المعتزلة إلا أنه يكفي لنا دلالة ظاهرة فهو عليهم لا لهم وعمرو بن قرّة بضم القاف وتشديد الراء المفتوحة لأنّ بعدها هاء تأنيث.
قال ابن حجر في الإصابة: أنه ذكره غير واحد في الصحابة، وأسندوا له هذا الحديث
ولم يزد على ذلك فيه، ثم ذكر هذا الحديث وهو في سنن ابن ماجه عن صفوان بن أمية رضي الله عنه قال كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلّم إذ جاء عمرو بن قرّة فقال يا رسول الله إنّ الله كتب عليّ الشقوة فلا آراني أوزق إلا من دفي بكفي، فأذن لي في الغناء من غير فاحشة، فقال عليه الصلاة والسلام: " لا آذن لك ولا كرامة ولا نعمة كذبت يا عدوّ الله لقد رزقك) إلخ. مأ. ذكره المصنف رحمه الله وقوله يا عدوّ الله يشعر بأنه كافر أو منافق، وهو مخالف لما مرّ إلا أن يقال أنه لزجره، وفيه دليل على حرمة التكسب بالغناء. قوله: (لم يكن المتنذي به إلخ) متفعل من الغذاء بالذال المعجمة لا بالمهملة لاختصاصه بطعام أوّل النهار فلا (يناسب ما هنا وهذا هو الدليل العقلي لأهل السنة أتى به بعد الدليل النقلي أي لو لم يكن الحرام رزقا كان المتغذي به طول عمره غير مرزوق، والنص على أنّ كل دابة مرزوقة يبطله وقد أجيب عن هذا من طرفهم تارة بالنقض بمن مات ولم يرزق حراما ولا حلالاً، فما كان جوابكم فهو جوابنا وأخرى بأنّ معنى الآية ما من دابة متصفة بالمرزوقية، كما قالوا في قولهم كل دابة تذبح
بالسكين أي كل دابة تتصف بالمذبوحية، فيخرج السمك وقد قيل إنّ هذا يتوقف على وجود من لم يتغذ طول عمره بحلال مّا، وأن لا يكون له في الأرض مناط، وهو لا يكاد يوجد على أنّ الآية إنما تدل على أنه يسوق الرزق إلى كل دابة ويمكنها منه لا أنها تتغذى بما سيق لها بالفعل.
(وقد سنح لي هنا نكتة) وهي أنّ الدابة، وإن عمت إلا أنّ المتبادر منها الحيوانات غير الناطقة، ففيها توبيخ لمن يهتم بتدبير المعيشة، فكأنه قيل له ما لك تتعب فيما يتيسر للحيوان بلا تعب. قوله: (وأنفق الشيء وأنفذه إلخ) أنفذه بالدال المهملة، والمراد بالاخوّة توافقهما في الاشتقاق، وهو هنا الاشتقاق الأكبر، وهو الاشتراك في أصل المعنى، وأكثر الحروف مع التناسب في الباقي مخرجا، ولذا اقتصر على الفاء والعين كنفي ونفع وأمثالهما والذهاب يكون بمعنى المضيّ والضياع. وقوله: (والظاهر إلخ) يعني به أنّ الظاهر منه حمل الإنفاق على ما يشمل أنواعه فرضاً ونفلاَ، ومن حمله على الزكاة كما أخرجه ابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنهما، وكذا من فسره بالنفقة على الأهل فيحتمل أنه لم يرد التخصيص، وإنما اقتصر على كمل أفرادها وأمّا أن يريده بقرينة الصلاة المقرونة بالزكاة في كثير من الآيات والشيء بالشيء يذكر والقرينة أمر ظنيّ لا قعلعيّ حتى يقال: مع القرينة المذكورة كيف يحمل على العموم. وقوله: (في سبيل الخير) وقع في نسخة بدله سبيل الله وهما متقاربان، وفي شرح سير محمد الكبير للسرخسي سبيلاَ لله جهة القربة والطاعة، فلو أوص بثلث ماله في سبيل الله صرف في طاعة وقربة لأنّ كل طاعة سبيل ألله كما في الحديث: " من شاب شيبة في سببل الله كانت له نورا يوم القيامة " (1) أي في الطاعة لرواية في الإسلام، وهو إن أطلق يتبادر منه الغزو والجهاد وكون الزكاة أفضل أنواع الإنفاق لأنها فرض، فتكون كثر ثواباً ولذا عدّت من أصول الدين، وشقيقتها أختها والمراد بها الصلاة لاقترانها بها وكونها بمنزلتها في العبادات البدنية لاستتباعها لغيرها، وقولهم باب الصلاة باب الزكاة، وفلان يقيم الصلاة ويؤتي الزكاة لا يستشهد به هنا لتفرّعه عما ورد في التنزيل فتأمّل. قوله: (وتقديم المفعول الخ) في الكشاف أنه دلالة على
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله: (لما عدّد فرق المكلفين الخ) أي المؤمنين والكفار والمنافقين السابق ذكرهم من أوّل السورة إلى هنا، وخواصهم ما اختص به كل فريق منهم من الاهتداء بالقرآن، وإنفاق الحلال والإيمان بالغيب والفلاح والفوز في الدنيا، والعقبى في المؤمنين، واصرار غيرهم على الكفر وتغشية قلوبهم، وسوء عقباهم في الكفرة وإخفاء الكفر والخداع، وضررهم العائد عليهم في المنافقين. وقوله: ومصارف أمورهم المصارف جمع مصرف من صرف المال إذا أنفقه أو من صرف الدينار بالدراهم إذا أبدله استعير هنا لما هم عليه في أعمالهم وأعمارهم أو لما يؤول إليه أمرهم من الفوز بالسعادة أو الخسران وهو ظاهر، وهذا معنى قوله في الكشاف عذد الله فرق المكلفين من المؤمنين والكفار والمنافقين وذكر صفاتهم وأحوالهم ومصارف أمورهم وما اختصت به كل فرقة مما يسعدها ويشقيها ويحظيها عند الله تعالى ويرديها ولقد أجاد في حسن تلخيصه، ويحتمل أنه طوى البيان بقوله مما يسعدها الخ، لما يرد عليه من أنه لم يذكر للمؤمنين مشقيات ومرديات ولا للكافرين مسعدات ومحظيات وإن أجيب عنه بأن المذكور صريحا للمؤمنين المسعدات ولغيرهم المرديات ويفهم من ذلك ما يقابله ضمنا فيكون الكل مذكورا للحل فإنه ردّ بأنّ الاختصاص حينئذ لا معنى له فإن المقابل لما اختص بكل فرقة ليس مخصوصا بها لوجوده في المقابل الآخر وان كان غير وارد لأن مسلكه أسلم من التكلف على أنا نقول إنه لا وجه للردّ لأن مقابل كل خاصة لم يلحظ فيه اتصاف الآخر به هنا إذ مقابل الاهتداء بنور الفرقان شامل لعدم الوقوف عليه كمن لم تبلغه الدعوة وإنفاقه الخير في الخير يقابله عدمه الشامل لمن لم ينفق أصلا ولم يقصد ذمّ مقابلتهم بذلك وكذا الصلاة وغيرها من العبادات ومسعدات الأشقياء المفهومة مما أشقاهم الله به لا يمدح به المؤمنون كما قيل:
ألم تر أن السيف ينقص قدره إذا ~ قيل إن السيف أمضى من العصى
(فلا) وجه لما قيل من أن الردّ مردود لظهور اختصاص ذلك المقابل بتلك الفرقة بملاحظة انفهامه ضمنا وكونه مفروضا غير محقق مثلاً إذا قلت الصفات المذكورة للمؤمنين مسعدات يفهم منه أنهم لو كانوا(1/422)
اتصفوا بمقابلاتها لشقوا، ولم يمكن إجراء ذلك في حق الكفار
لأنهم متصفون بتلك الصفات حقيقة بلا فرض. وتقدير وكذا الحال في صفات الكفرة وان كان له وجه أيضاً. قوله: (أقبل عليهم بالخطاب الخ) قد قدمنا لك أن الا أشفات الانتقال من إحدى الطرق الثلاث إلى آخر أو الإتيان بأحدها في مقام يقتضي خلافه، والكلام عليه مفصل في محله ولا يهمنا هذا الكلام فيه وإنما الكلام فيما قيل من أنّ هذا مبني على عدم الوثوق بما سيأتي عن علقمة أو على أنه لا يقتضي تخصيص الخطاب إذ لم يكن بمكة منافق حتى يدخل في هذا الخطاب، ثم إنها إن نزلت منفردة عما قبلها فكيف يتحقق فيها الالتفات إلا أن يقال يكفي فيه أنه يتمّ بعد تمام نزول القرآن لمصلحة اقتضت تفريق نزوله فإنّ دعوى انفرادها بالنزول مما لا وجه له حتى يتكلف له ما تكلف وكونه لم يكن بمكة منافق في بدء الإسلام لا ينافي الإخبار عنهم فكم في القرآن مثله من المغيبات والأخبار عما سيأتي، ثم إنه ذكر للالتفات نكات بعضها عامّ وبعضها خاص بهذا المقام فالأوّل هز السامع وأصل معناه التحريك بحركات متوالية ثم كني به عن إدخال المسرّة كما في قول ابن الرومي المتقدم:
ذهب الذين يهزهم مذاحهم هز الكماة عوالي المرّان
وهو المراد هنا، والتنشيط إيجاد النشاط وهو الخفة والسرعة أريد به الإقبال على الأمر وعطفه على ما قبله كالتفسير، والاهتمام بالعبادة مأخوذ من السياق والمقام لأنّ العظيم إذا أقبل على عبيده في شأن وأمر به بنفسه دل على عظمة ذلك الشأن، وقوله: بأمر العبادة تورية وحسن تعبير، وقوله: وجبر الكلفة العبادة الجبر التكميل والإرداف بما يهوّن الأمر الشاق أو يزيل مشقته لأنها على خلاف مقتضى الطبع، والكلفة المشقة واحدة الكاف كغرفة وغرف والتكاليف المشاق كما في المصباح وهذه من النكت انخاصة بالمقام وهذا بالنسبة إلى المؤمنين ظاهر فإمّا أن يخصوا لعدم الاعتداد بغيرهم وكذا التنشيط أو يقال يكفي للنكتة الوجود في البعض، وقيل إنه بالنسبة لغيرهم أيضا لتيقظهم لأنهم تحت حكم حاكم كريم لم يطردهم عن ساحة الهداية ولا يخفى بعده. قوله:) ويا حرف وضع الخ) هذا هو الصحيح وقيل إنها اسم فعل والأشهر أنها وضعت لنداء البعيد وقيل إنها لمطق النداء أو مشتركة بين البعيد والقريب والمتوسط وعلى الأوّل إذا نودي بها القريب فلتنزيله منزلة غيره أمّا العلوّ رتبة المنادى أو المنادي بالكسر والفتح وقول المصنف رحمه الله ينادى بها القريب يصح فيه فتح الدال وكسرها، وقول الداعي يا رلث يصلح للأول والثاني لأنه لحقارته وعظمة خالقه عد نفسه بعيدا أو عذ الله علياً عن عباد. وغفلة السامع وسوء فهمه بمنزلة بعده، وأمّا للاعتناء بأمر المدعوّ له وزيادة الحث عليه لأنّ نداء البعيد وتكلفه الحضور لأمر يقتضي الاعتناء والحث فاستعمل في لازم معناه على أنه مجاز مرسل أو استعارة تبعية في يا أو مكنية وتخييلية كما حققه بعض الفضلاء، فإن قلت الكلام في تنزيل المنادى منزلة البعيد لا المدعوّ له المنادي لأجله قلت المدعوّ لتحصيل أمر بعيد يبعد عن
الذهاب إليه لتحصيله فهو بعيد مالاً وقوله في الانتصاف إنّ ما ذكر في توجيه البعد أمر إقنافي فإنّ الداعي يقول يا قريب غير بعيد ويا من هو أقرب من حبل الوريد فأين هذا من العباد في مقام البعد ليس بشيء فإنّ القرب في كلام المنادي باعتبار الحقيقة ونفس الأمر وهو لا ينافي الاستبعاد الاعتباري وليس هذا نظير قوله:
وكم قلت شوقاليتني كنت عنده وما قلت إجلالاً له ليته عندي
كما توهمه ابن الصائغ في حواشيه، والوريد عرق! في العنق واضافة الحبل له! كلجين الماء. قوله: (وهو) أي يا مع المنادى بالفتح جملة فالمنادى منصوب لفظاً أو تقديراً بأنادي وما في معناه أو بيا نفسها لقيامها مقامه قولان للنحاة وعلى الأوّل هو لازم الإضمار استغناء بظهور معناه مع قصد الإنشاء وليس المراد الإخبار بأن المتكلم ينادي ولذا ردّ على من قال إنه لا يجوز تقدير الفعل إذ لو قدر كانت الجملة خبرية لأن الفعل مقصود به الإنشاء، ولذا قال الرضي: تقديره بلفظ الماضي كدعوت وناديت أولى لأنه الأغلب في الإنشاء ولكونه إنشاء النداء سقط ما قيل من أنه لو كان ذلك الفعلى كدعوت مقدرا تمّ المعنى بدون(2/2)
المنادي لأنه فضلة، وقيل في الجواب عنه إنه قد يعرض للجملة ما يصيرها غير مستقلة كالجمل الشرطية ولا يرد على كونه جملة مفيدة، وكلاماً أن الكلام لا يكون من اسم وحرف، ولا من حرف إن قلناتا بمعنى دعوت كما توهم مع اتفاقهم على أنه لا يتأتى إلا من اسمين أو اسم وفعل لأنه قائم كنعم وبلى، ولا وهو في قوّة المذكور من غير شبهة فلا يلتفت لما توهمه بعضهم فتدبر. قوله:) وأيّ جعل وصلة الخ) أي لها معان كالموصولية والشرطية والاستفهامية، والواقعة في النداء اسم نكرة موضوعة لبعض من كل كما في شرح الهادي ثم تعزفت بالنداء وتوصل بها لنداء ما فيه أل لأنّ يا لا تدخل عليها في غير يا الله إلا شذوذاً، وقيل إنها موصولة ورذه النحاة بما هو معروف في كتب العربية وذو اللام صفة لها فهي موصلة له كما توصل لنداء أسماء الأجناس بذي بمعنى صاحب، وقوله متعذر أي ممتنع بناء على ما عرف من كلام العرب لا تعذرا عقليا، وقوله لتعذر الجمع بين حر في التعريف هذا أحسن مما اشتهر من أنه لا يجمع بين تعريفين لأنهما قد يجتمعان كما في نحو يا زيد وأيهم يفعل كذا لاجتماع العملية والنداء والإضافة والموصولية كما حققه نجم الأئمة الرضي فليس مثله بممتنع عنده حتى يحتاج إلى التنكير وأمّا نحو يا الرجل فممتنع بالاتفاق وقوله فإنهما كمثلين وهما لا يجتمعان إلا شذوذاً كقوله:
ولا للما بهم أبدا دواء
قيل وإنما قال كمثلين لأنّ يا ليست موضوعة للتعريف كأل ولذا لا يتعرّف المنادي في
كل موضع ولم يبين أن تعريفه بماذا وقد ذهب ابن مالك ومن تبعه إلى أنه بالقصد والإقبال عليه، وذهب ابن الحاجب إلى أنه بأل مقدرة فأصل يا رجل يا أيها الرجل والكلام فيه مشهور. قوله: (وأعطي حكم المنادى الخ) أعطي مجهول نائب فاعله ضمير أيّ المذكور باعتبار اللفظ وحكمه هو البناء على الضمّ وايلاؤه وحرف النداء وأجرى عليه المقصود بالنداء باعتبار صريح معناه بمعنى جعله تابعاً له على الوصفية كما صرّح به بعده، وإنما التزم رفعه ليكون على صورة المنادى المفرد المقصود بالنداء لأنه مضموم الآخر فلا يجوز نصبه على الأصح خلافا للمازني فإنه أجاز نصبه. قال الزجاج: ولم يتقدمه ولا تابعه عليه أحد لمخالفته لما سمع عن العرب والتزام الرفع لأنه المقصود أو لأنه مبهم ووصف المبهم معه كالشيء الواحد لمنع الفصل بينهما فإن قلت الوصف تابع غير مقصود بالنسبة لمتبوعه فما ذكر ينافيه قلت! ذا جسب الوضع الأصليّ فلا ينافي ما يطرأ عليه لكونه مفسر المبهم ما يجعله مقصودا في حد ذاته وههنا إشكال وهو أن الرجل في قولك يا أيها الرجل تابع معرب بالرفع وكل حركة إعرابية إنما تحدث بعامل ولا عامل يقتضي الرفع هنا لأن متبوعه مبنيّ لفظا ومنصوب محلاً فلا وجه لرفعه وهذا إنما يرد على غير الأخفش القائل بأنها موصولة حذف صدر صلتها فليس عنده نعتا بل خبر مبتدأ مقدر، وقد استصعبه بعض علماء العربية وقال إنه لا جواب له. قلت: قد قال هذا بطريق البحث وهو عجيب منه مع تبحره فإن هذا من الأسئلة الواقعة بين أبي نزار وابن الشجري وقد أطال الكلام فيها في الأمالي بما حاصله أن أبا نزار قال إنها حركة بناء وقال ابن موهوب إنها حركة إعراب وتبعه ابن الشجري والحق أنها حركة اتباع ومناسبة لضمة المنادي ككسرة غلامي فلا حاجة إلى أن يقال إنه لا يمكن التفصي عنه إلا أن يقال بأن حركة الضمّ ليست إعرابا بل اتباع الحركة البناء المشبهة ل! عراب بالعروض ولذا سميت رفعا تجوزاً إلا أنه مع مخالفته للظاهر لا نظير لا له في اللزوم وقوله: أقحمت بصيغة المجهول بمعنى زيدت من أقحمته في الأمر إذا أدخلته ورميت به فيه وهو مجاز مشهور على الألسنة وزيادتها لازمة للعوضية، وقوله ها التنبيه بالقصر أي لفظها الذي يكون للتن! يه في نحو هذا ولو مذت جاز على أنه تعبير عن الكل بجزئه وسياني بيان تاكيده وفي أزعا. التعوبض نظر لأن هذه لم تستعمل مضافة أصلا والإضافة إنما سمعت في غيرما إلا أنها لما قالت دي، اد واحماءأ جرى عليها حكمها فتأمّل. قوله: (وإنما كثر النداء الخ) المراد بالطريقة أي المناد! الموصرد وحإ؟ ! ها االام وأ، جه التأكيد فسرت بتكرّر الذكر والإيضاح
بعد الإيهام واختيار لفظ البعيد وتاكيد معناه بحرف(2/3)
التنبيه واجتماع التعريفين في النداء وأل، وقوله وكل الخ كل مبتدأ خبره حقيق وما بينهما اعتراض والجملة حالية للتعميم وتتميم التعليل، ولفظ آكد بالمد أفعل تفضيل من التأكيد بالهمزة ويقال من التوكيد أوكد وقوله كثرهم أحسن من قول الزمخشريّ وهم عنها غافلون فلا تغفل. قوله: (والجموع وأسماؤها الخ) الجمع ما دلّ على أكثر من اثنين واسم الجمع مثله إلا أنه اشتراط فيه أن يكون علئ صيغة تغلب في المفردات سواء كان له واحد أم لا ومنه الناس كما بيناه والمحلاة بالتشديد بمعنى الداخلة عليها لام التعريف ولما أفادته التعريف واتصلت بأوّله جعلت لفظا كأنها حلية وزينة له استعارة لشيوعها صارت كالحقيقة وقيد إفادتها العموم بعدم إرادة العهد الخارجيّ لأنه المتبادر من التعريف الموضوع للتعيين ثم الاستغراق لأنه حيث لا عهد لا ترجيح لبعض أفراده على بعض فيتناول الجميع، وهذا في الجموع أقرب وأقوى كما في التلويح. ثم إنه استدلّ على العموم بصحة الاستثناء فإنه استفاض في العامّ حتى جعل معياره فلا يكون حقيقة إلا فيه كقوله تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ} [سورة الحجر، الآية: 42، وقد اختلفوا في أنه إذا لم تكن للعهد هل الأولى حمله على الجنس والعهد الذهني المتيقن أو على الاستغراق لأنه أكثر وأفيد وكلام المصنف ينظر للأخير، وقد قيل على قولهم إنّ الاستثناء يدلّ على العموم أنّ صحة الاستثناء موقوفة على العموم أيضا فيلزم الدور وأيضا الاستثناء يكون في الخاص كاسم العدد نحو له عليّ عشرة إلا ثلاثة والإعلام كضربت زيدا إلا رأسه وصمت رمضان إلا عشرة الأخير فلا يتمّ هذا المدعي ودعوى أكثرية غير مسموعة، وأجيب بأنّ العلم بالعموم يثبت بوقوع الاستثناء في كلامهم ووقوعه يدلّ على وجود العموم لا على العلم به فلا دور والاستدلال ناظر للاستعمال وأمّا النقض المذكور فدفع بأنّ ما ذكر عامّ تأويلا بتقدير جمع معرّف بالإضافة كأعضاء زيد وأيام الشهر، ونحوه الاستدلال بالتأكيد لأنه لو لم يكن عامّاً كان التأكيد تأسيسا والاتفاق على خلافه واستدلال الصحابة شائع وله أمثلة ذكرها الأصوليون كقولهم يوم السقيفة الأئمة من قريش رذا على الأنصار في القصة المشهورة. قوله: (فالناس يعئم الموجودين الخ) هذا هو المسمى بالخطاب الشفاهي عند الأصوليين، وهو ما يدل على الخطاب وضعا كالنداء وبعض الضمائر نحو يأيها الناس قالوا وليس خطاباً عاتا لمن بعد الموجودين في زمن الوحي أو لمن بعد الحاضرين مهابط الوحي والأوّل هو الوجه وإنما يثبت حكمه بدليل آخر من نص أو قياس أو إجماع وأئا بمجرّد اللفظ والصيغة فيما لم يكن مخصوصا كيأيها النبيّ فلا وقالت الحنابلة بل هو عامّ لمن بعدهم ولنا أنا نعلم أنه لا يقال
للمعدومين نحو: يا أيها الناس قال العضد رحمه الله وانكاره مكالرة وإذا امتنع خطاب الصبيّ والمجنؤن بنحوه مع وجودهم لقصورهم فالمعدوم أجدر، وهم قالوا: ولو لم يكق الرسول صلى الله عليه وسلم مخاطباً به فمن بعدهم لم يكن مرسلاً لهم وردّ بأنّ التبليغ لا يتعين أن يكون مشافهة فيكفي أن يحصل للبعض شفاهلاولمن بعدهم بأدلة تدل على أنّ حكمهم حكمهم كما تقرّر في الأصول وفي شرح العضد للمحقق التفتازانيّ القول بعموم الشفاهي وان نب إلى الحنابلة ليس ببعيد وقد قال الشارح العلامة أنه المشهور حتى قالوا إنّ الحق أنّ العموم علم بالضرورة من الدين المحمديّ وهو الأقرب وقول العضد رحمه الله أنّ إنكاره مكابرة حتى لو كان الخطاب للمعدومين خاصة أمّا إذا كان للموجودين والمعدومين على طريق التغليب فلا ومثله فصيح شائع وكل ما استدلّ به على خلافه ضعيف. انتهى وهذا بعينه ما اختاره المصنف رحمه الله وأشار إليه بقوله لما تواتروا الخ، واليه ذهب كثير من الشافعية في كتبهم الأصلية على أنه عندهم عام بحاق لفظه ومنطوقه من غير احتياج إلى دليل آخر وقد قيل إنه من قبيل الخطاب العامّ الذي أجرى على غير ظاهره كما في قوله:
إذا أنت أكرمت الكريم ملكته وإن أنت كرمت اللئيم تمرّدا
فمن أرجع كلام المصنف إلى ما ذهب إليه العضد وأشياعه وقال في شرحه إنه يريد أنه
يعمّ من(2/4)
سيوجد بعد وقت النزول لا لفظا بل لما تواتر من دينه كقوله: حكمي على الواحد حكمي على الجماعة كما ذكر في كتب الأصول من أنّ خطاب المشافهة إنما يثبت لمن بعد الموجودين بدليل آخر لم يصب ولو كان كما زعم لم يكن الناس عامّا السياق مناد على خلافه والعجب أنه مع تخصيصه بالموجودين جعله عامّاً وتبعه فيه بعضهم وأطال بغير طائل (وههنا بحث) يجب التنبه له وهو أنّ خطابه تعالى بكلامه لعباده أزليّ قائم بذاته، والنظم القرآنيّ بإزائه وخطاب المعدوم أزلاً، وتكليفه مقرّر عند الأشاعرة والظاهر أنه حقيقة والا يكن جميع ما في القرآن من الخطاب مجازاً ولا يخفى بعده عن ساحة التنزيل ويوجه أيضا بتقدير قولوا والمأمور الرسل صلوات الله وسلامه عليهم، ونوّابهم من أئمة الدين في تبليغ الأمّة إذا وجدوا، وعلى هذا الفرض والتقدير لا يحتاج إلى التجوّز أصلاً كما ذهبوا إليه كما سمعته آنفا على أنه لو لم يكن من التأويل محيص، فالقول بأنه يدل على ما ذكر بدلالة النص المؤيدة بالإجماع أقرب، وقد حام صاحب التحرير حول هذا التقرير وان لم يفك عقدة تعقيده، وقوله لفظا تمييز ولما بكسر اللام وتخفيف الميم، وقوله إلا ما خصه الدليل أي القائم على تخصيص عمومه بخروج بعض منه كالصبيّ والمجنون. قوله: (وما روي عن علقمة الخ) قال السيوطيّ: أخرجه أبو عبيد في فضائل القران عن علقمة وسيمون بن مهران وأمّا روايته عن الحسن فلم يسنده أحد وقد
صح عن ابن مسعود أيضا كما أخرجه البزار في مسنده والحاكم في المستدرك والبيهقيّ في دلائل النبوّة فقول الطيبي أنه لم يجده في شيء من كتب الحديث من تقصيره، والمراد بالرفع في قوله إن صح رفعه اتصالط سنده بمن ذكره لأنّ الناقل لا يلزمه غير تصحيح نقله فالرفع بمعناه اللغويّ أو تجوّز فلا يرد عليه ما قيل من أنّ المرفوع قول النبي صلى الله عليه وسلم أو الصاحب فيما يتعلق بالنزول ونحوه مما لا يقال بالرأي وعلقمة والحسن ليسا من الصحابة، ولو سلم فالمراد رفعه للصحابي أو النبيّ صلى الله عليه وسلم فقولهما في حكم المرفوع المرسل ثم إنه قد علم أنّ للمكيّ والمدني ثلاث معان مفصلة في البرهان والاتقان وقد قيل إنّ هذا لا يتمشى على واحد منها وهو منقوض! بأمور منها: أنّ هذه السورة مدنية وفيها يأيها الناس ومن السور ما فيه يأيها الناس ويا أئها الذين آمنوا، وادّعاء تكرير النزول تعسف فإن كان هذا لكثرة المؤمنين بالمدينة فضعيف وقد اضطربوا في التوجيه فمن قائل المراد أنه خطاب جل المقصود به أهل مكة أو المدينة، وقال الإمام الجعبريّ في كتابه حسن المدد معرفة النزول لها طريقان السماع، والقياس. فالأوّل ما وصل إلينا نزوله بأحدهما والثاني كما قال علقمة عن عبد الله: كل سورة فيها يأيها الناس فقط أو أوّلها حرف تهج سوى الزهراوين والرعد في وجه أو فيها قصة آدأ وابليس سوى الطولى فهي مكية وكل سورة فيها يأيها الذين آمنوا وذكر المنافقين فهي مدنية وقال هشام بن عروة: عن أبيه كل سورة فيها قصص الأنبياء عليهم الصلاة والسلام والأمم الخالية والعذاب فهي مكية وكل سورة فيها لريضة أو حد مدنية انتهى. ومنه يعلم أن ما ذكر مما قاله السلف وكونه أيهثر ما لم يرد به التخصيص بعيد جداً وهذا نقله البقاقي في كتاب مصاعد النظر ونقله عن الإمام الشافمي من غير اعتراض عليه فإذا صح هذا من التابعين وكبار السلف فهو قول لهم لا مشاحة فيه ولا وجه للاعتراض عليه. قوله: (فلا يوجب تخصيصه بالكفار الخ) قيل عليه إنه لم يستدل أحد بهذا الأثر على اختصاص هذه الآية بالكفار حتى يحتاج المصنف رحمه الله تعالى إلى دفعه وغاية ما استدلّ به أنه مكيّ نزل بمكة مع عمومه للمؤمنين والكفار لأنّ سبب النزول ليس بمخصص وليس بشيء لأنه إذا سلم أنّ المراد مشركو مكة احتمل العهدية واختص لا سيما والنفاق في الصدر الأوّل إنما حدث بعد الهجرة وقد ذهب إلى التخصيص على هذا الزمخشريّ، حيث قال أو إلى كفار مكة خاصة على ما روي عن علقمة الخ. وارتضاه في شرح التأويلات ولبعضهم هنا كلام مشوّحر! تركه خير من ذكره. قوله: (ولا أمرهم بالعبادة الخ) عطف على قوله تخصيصه، أي لا يوجب أمر الكفار حال كفرهم بإداء العبادة فإنه باطل ولذا لم يجب عليهم القضاء بعد الإسلام بل هم مأمورون بما يتوقف(2/5)
عليه من الإيمان وبأدائها بعده، والمنفيّ هنا أمرهم بذلك ابتداء، والمثبت في قوله فالمطلوب الخ. غيره فلا تنافي بينهم كما
توهم وحاصله أن طلب الفعل من المكلف لا يقتضي صحته منه بلا تقديم شرط كالمحدث المطلوب منه الصلاة وهذا إشارة إلى ما فصل في الأصول في تكليف الكفار بالفروع وعدمه. وفي النحرير ليس محل النزاع كما في المنهاج للمصنف مبنيا على أنّ حصول الشرط الشرقي ليس شرطاً للتكليف المستلزم عدم جواز التكليف بالصلاة حال الحدث بل ابتداء في جواز التكليف بما شرط في صحته الإيمان حال عدمه فمشايخ سمرقند على أنه شرط لصحته لخصوصية فيه لا لعموم كونه شرطا بل لأنه أعظم العبادات ورأس الطاعات، فلا يجعل شرطا تابعا في التكليف لما هو دونه، ومن سواهم متفقون على تكليفهم وإنما اختلفوا في أنه في حق الأداء والاعتقاد أو في الاعتقاد فقط فالعراقيون والشافعية ذهبوا إلى الأوّل فهم عندهم معاقبون على تركهما والبخاريون إبى الثاني، ولم ينص أبو حنيفة، وأصحابه على شيء فيها لكن في كلام محمد رحمه الله ما يدل عليها، وهو ظاهر قوله تعالى: {وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} [سورة فصلت، الآية ة 6] ونحوه وأمّا خطابهم بالعقوبات والمعاملات فمتفق عليه فإن قلت قوله فالمطلوب الخ يدل على أنّ المطلوب من الكفار الشروع في العبادة بعد الإتيان بشرط فقط لا الزيادة والمواظبة، ومن المؤمنين الزيادة، والثبات لا غير، وكون الكفار مكلفين بالفروع على مذهبه يستلزم مطلوبية الكل منهم والمؤمن الذي لم يصدر منه إلا الإيمان يطلب منه الشروع في العبادة مع ما ذكر قيل المراد الشروع وما يقتضيه وقوله من المؤمنين الخ مبنيّ على أكثر الأغلب على أنّ المقصود ظاهر. قوله: (هو المشترك بين بدء العبادة الخ) إشارة إلى ما في الكشاف من السؤال والجواب من أنه لا يصح توجيه الخطاب إلى الفرق الثلاث، ولا إلى الكفار فقط كما روي عن علقمة لأنّ المتبادر من العبادة أعمال الجوارح الظاهرة ولا يؤمر بها المؤمنون العابدون لما فيه من تحصيل الحاصل ولا الكفارة لامتناع العبادة منهم بسبب فقد شرطها وهو الإيمان فيلزم التكليف بالمحال لا يقال: إنّ الأمر يتعلق بالمستقبل وليس المؤمن متلبساً بالعبادة المستقبلة حتى يكون تحصيلا للحاصل ولا يتجه السؤال لأنّ المتبادر من إطلاق اعبدوا إحداث أصل العبادة وهو حاصل فيتجه الجواب بأنّ المطلوب من المؤمنين ليس إيقاع أصل العبادة في المستقبل بل ازديادها وثباتها، وليس ذلك حاصلاً فلا إشكال وأنّ المطلوب من الكفار أصل العبادة على أنهم أمروا أن يأتوا بعد تحصيل شرائطها فإن الأمر بالشيء أمر بما لا يتمّ إلا به كأنهم قيل لهم حصلوا شرطها ثم افعلوها ولا استحالة في هذا بل في الأمر بإيقاعها مع انتفاء شرائطها كما مرّ، وما يقال من أنّ الإيمان أصل العبادات كلها فلو وجب بوجوبها انقلب الأصل تبعا مردود بأنّ الأصالة بحسب الصحة لا تنافي التبعية في الوجوب على أنّ هذا واجب أيضا استقلالاً بدلائل أخر، والجمع بينهما آكد في إيجابه والكلام فيه مفصل في محله فلا إفادة في الإعادة. قوله: (فالمطلوب من الكفار الخ) إشارة إلى أن اعبدوا أمر موضوع للأمر بالعبادة مطلقاً فهو عامّ فيها شامل لإيجاد أصلها والزيادة والثبات شمول رجل لأفراده وليس
موضوعا لأصلها حتى يلزم من تناوله لغيره الجمع بين الحقيقة والمجاز ولا موضوعا لكل منها استقلالاً حتى يلزم استعمال المشترك في معانيه، وشكلف دفعه بما لا وجه له، وقول المصنف رحمه الله المشترك لم يرد به الاشتراك المقابل للتشكيك والتواطىء بل معنا. اللغوقي وهو صدقه عليها منفردة وغير منفردة فاعبدوا يدل على طلب في الحال لعبادة مستقبلة، وتلك العبادة من الكفار ابتداء عبادة ومن بعض المؤمنين زيادة ومن آخرين موا! لبة وليس الابتداء والزيادة والمواظبة داخلاً في مفهومه وضعا فلا محذور فيه، وهالى هذا أشار المصنف رحمه ألله فالأمر بالعبادة أمر بقدر مشترك بين ما ذكر ولذا قال الفقهاء أنّ الشيء الممتد يعطي لبقائه حكم ابتدائه حتى لو حلف لا يلبس هذا الثوب وهو لابسه، ثم استمر حنث وترك المصنف قوله في الكشاف على أنّ مشركي مكة كانوا يعرفون الله ويعترفون به: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [سورة الزمر، الآية: 38](2/6)
لأنه وان لم يجعله جوابأ صستقلا بل علاوة غير صالح بوجه من الوجوه لأنّ هذه المعرفة المقارنة للإنكار لا تقتضي صحة العبادة ورب معرفة الجهل خير منها.
قوله: (بعد الإتيان بما يجب تقديمه الخ) هذا مبنيّ على أنّ المراد بالعبادة عمل الجوارح
فلا يدخل فيها الاعتقاد والمعرفة كما مرّ وقد قيل عليه أنّ الظاهر إدخال أعمال القلب في العبادة لأنها أقصى الخضوع وهو لا يتحقق بدون معرفة المعبود، وقوله والإقرار بالصانع أي أن العبادة لا يعتد بها إلا بعد الإقرار، وقد قيل عليه أنّ الإقرار إن لم يدخل في الإيمان كما ذهب إليه بعض المحققين فلم لا تعتبر العبادة بدونه إلا أنّ المصنف رحمه الله رجح فيما سبق أنّ الإقرار لا بد منه في حصول الإيمان، وفي تفسير السمرقندي رحمه الله أنه روي عن ابن عباس رضي الله عنهما تفسير اعبدوا بوحدوا وخرّج على وجهين أحدهما: أنّ عبادة الله لا تكون إلا بالتوحيد فهو سبب لها فأطلقت عليه مجازاً والثاني أن: {اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ} بمعنى اجعلوا عبادتكم لواحد لا تعبدوا غيره لأنّ مشركي العرب كانوا يوحدون الله في التخليق وإنما أشركوا الأصنام معه في العبادة فلذا أمروا بالعبادة للواحد الأحد لا غير ثم إنه قدّس سرّه اعترض على قوله بما يجب الخ بأن مجرد معرفة الله والإقرار به ليس كافيا في صحة العبادة بل لا بد معه من التصديق بالنبوّة والاعتراف بها وهو منتف عنهم وأجيب بأنه يريد أنّ هذا القدر من الشرط إن حصل فليضموا إليه ما بقي ثم ليعبدوا وفيه نظر لا يخفى. قوله: (وإنما قال ريكم الخ (التربية مصدر وفي نسخة الربوبية بضم الراء كالخصوصية وهي مصدر أيضاً وفي نسخة الربية وما ذكر لأن ترتيب الحكم على الوصف يشعر بعليته. وهي قاعدة مشهورة وفي شرح الطيبيّ طيب الله ثراه
فرق بين قوله: {اعْبُدُواْ اللهَ} وقوله: {اعْبُدُوا رَبَّكُمْ} لأنّ في الثاني، إيجاب العبادة بواسطة رؤية النعم التي بها تربيتهم وقوامهم وفي اعبدوا الله عبادته بمراعاة ذاته عز وجل من غير واسطة وعلى ذلك قوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ} فحيث ذكر الناس ذكر الرب وحيث ذكر الإيمان ذكر لله وهي فائدة لطيفة ينبغي التأمل فيها. قوله: (صفة جرت على الرب للتعظيم الخ) الجري حقيقة في الاتباع: أي هي صفة أجريت على الرب للمدح إذ لا اشتباه في الرب المضاف إلى الكل فإن خص الخطاب بمشركي مكة احتمل التقييد والتخصيص لإطلاقهم الرلت على آلهتهم والتوضيح لأنه الرب الحقيقي عندهم وهم وسائل وشفعاء فهو في خطاب الشارع لا يحتمل غيره تعالى، والتعليل بيان علة الربوبية بأنه الخالق وكون النعت يفيد التعليل من فحوى الكلام ومن تعليق الحكم بالمشتق فإنه يقتضي عليه مأخذ الاشتقاق وإنما لم يذكره النحاة لأنه ليس وضعياً أو لأنّ بيان علة الشيء توضيح له وإنما قال يحتمل التقييد دون التخصيص لأنهم اصطلحوا على أنّ التخصيص تقليل الاشتراك في النكرات وموصوفه هنا معرفة فالتقييد: رفع الاشتراك الناشئ من إطلاق الرب في استحقاق العبادة بخلاف الخالقية فإنها مخصوصة به عندهم {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} وما ذكرناه من تفسير التعليل بأنه بيان علة كونه ربا ومالكاً لهم لأن المالك الحقيقيّ هو الموجد ولذا قيل إنهم إذا اعتقدوا أنّ الآلهة شفعاء يكون إطلاق الرب بمحنى المالك عليها مجازاً، وسيأتي الكلام فيه وذمب إليه بعض أرباب الحواشي وقيل المراد به بيان علة الأمر بعبادته تعالى وبيان سبب الوجود لأنه المنعم بنعمة الإيجاد وما ينبني عليها، ولهذا قال الرازي: أنه بيالط لأنّ العبادة لا تستحق إلا بذلك وهو الوجه فتدبر. قوله: (والخلق إيجاد الشيء الخ) التقدير تعيين المقدار والاستواء افتعال من المساواة وهي كما قال! الراغب المعادلة المعتبرة بالذرع والوزن والكيل يقال هذا مساو لهذا أي هما سواء وقوله خلقك فسوّاك أي جعل خلقك على مقتضى الحكمة فقوله على تقدير واستواء أي مشتفلاً على ذلك وقيل يحتمل أن يريد بالاستواء كون ما برز في الوجود على طبق ما قدر في العلم وما دلّ عليه قوله تعالى: {خَلَقَ فَسَوَّى} [سورة الأعلى، الآية: 2، هو أنه جعل له ما به يتأتى كماله ويتمّ معاشه وهذا أفيد لأنّ الأوّل يستفاد من قوله على تقدير غير أنّ قوله خلق النعل الخ يؤيد الأوّل وأصل معناه التقدير ثم قيل للإيجاد على مقدار معين وجاء على أصله في قول(2/7)
زهير:
ولأنت تفري ما خلقت وب! ض القوم يخلق ثم لا يفري
ومن كلام الحجاج ما خلقت إلا فريت، وما وعدت إلا وفيت، وقيل إنه بهذا المعنى لا
يستعمل في الله تعالى وعدل عن قول الزمخشري: الخلق إيجاد الشيء على تقدير واستواء يقال خلق النعل إذا قدرها وسوّاها بالمقياس لما فيه من الاختصار المخل كما أشار إليه. قوله: (متناول لكل ما يتقدّم الإنسان الخ) التناول معناه الحقيقيّ الأخذ يقال ناوله كذا إذا أعطاه فتناوله أي أخذه ثم تجوّز به عن الشمول وشاع حتى صار حقيقة فيه في كلام الناس، واصطلاح المصنفين ولم يرد في كلام العرب بهذا المعنى وقبل من الظروف، وأكثر فيها الظرفية الزمانية وتكون للمكانية وهي في غير هذا مجاز قال الراغب قبل يستعمل على أوجه الأوّل في المكان بحسب الإضافة فيقول الخارج من أصبهان إلى مكة بغداد قبل الكوفة، ويقول الخارج من مكة إلى أصبهان الكوفة قبل بغداد. الثاني في الزمان نحو زمان عبد الملك قبل المنصور، الثالث في المنزلة نحو عبد الملك قبل الحجاج. الرابع في الترتيب الصناعي نحو تعلم الهجاء قبل الخط انتهى، فهي في اللغة مقابلة لبعد زماناً ومكانا، ويتجوّز بها عن التقدم بالشرف والرتبة في كلام العرب وهو الذي أشار إليه المصنف رحمه الله بقوله بالذات فجمع بين المعنى الحقيقيّ والمجازيّ الواردين في اسنعمالط العرب وأدخل التقدم المكانيّ في ذلك للإيجار كما هو دأبه، والحكماء قالوا التقدم والتأخر يقال على خمسة أشياء التقدم بالزمان وهو ظاهر والتقدم بالطبع كتقدّم الواحد على الاثنين، والتقدّم بالشرف! قدّم أبي بكر على عمر، والتقدم بالرتبة وهو ما كان أقرب من مبدأ محدود كصفوف المسجد بالنسبة إلى المحراب، والتقدم بالعيية كتقدم حركة اليد على حركة القلم وأثبت المتكلمون قسما آخر للتقدم سموه التقدم بالذات كتقدم بعض أجزاء الزمان على بعض وقيل إنه غير خارج عنها لأنّ بعضه داخل في التقدم بالطبع وبعضه في التقدّم بالرتبة والتحقيق أنه داخل في التقدم بالزمان ومن هنا ظهر لك أن كلام المصنف جار على وفق اللغة واستعمال العرب لا على مصطلح الحكماء فمن أرجعه إليه وقال التقدم الذاتي عبارة عن تقذم المحتاج إليه على المحتاج فيشمل التقدم بالعلية والطبع والتقدم الزماني هو الذي لا يجامع المتقدم فيه المتأخر، ثم قال بعد الفرق بينهما أن المراد هنا التقدم بالطبع والذين موضوع للعقلاء، إلا أنّ المصنف عممه لم يصب، والذي غرّه فيه ما وقع في بعض الحواشي حتى قيل إنّ فيه رائحة من كلام الفلاسفة فإنّ مراده بالتقذم الذاتي ما تقدم على أن الخطاب إن شمل المؤمنين وغيرهم فالمراد بمن قبلهم من تقدّمهم في الوجود ومن هو موجود وهو أعلى منزلة منهم كالنبيّ لمجتن والمؤمنين فقط ما قيل: عليه من أنه جعل القبلية شاملة للتقدم الذاتي والزمانيّ وهو جيد لو ساعدته اللغة وكذا ما قيل من أنه مخالف لما عليه أهل السنة لأنهم لا يثبتون التقدم بالذات لغير الله تعالى إلى آخر ما أطالوا به بغير طائل. قوله: (منصوب معطوف الخ) دفع لتوهم عطفه على الضمير المجرور من غير إعادة الجارّ في فصيح الكلام ولما فيه من الفصل بنعت المضاف إليه. قوله: (والجملة أخرجت مخرج المقرّر الخ)
أي جملة لخ! م الواقعة صلة الذي أخرجت مخرج ما هو ثابت مقرّر معلوم لأنّ الصلات لا بد من كونها معلومة الانتساب إلى الموصول عند المخاطب ولذا تعرّف الموصول بما فيها من العهد واشترط فيها الخبرية وقيل: مراده أن الصفة يجب أن تكون معلومة للمخاطب مقرّرة عنده ولذا قالوا: إنّ الإخبار بعد العلم بها أوصاف والأوصاف قبل العلم بها أخبار، وهو بناء على أنّ المخاطب المشركون المنكرون ولذا وجهه المصنف رحمه الله بما سنوضحه لك وإنما رجحنا تفسيره بما ذكرناه أوّلاً لأنه المتبادر من كونه جملة إذ الموصول مفرد فلو كان هو المراد احتاج إلى التأويل بأنه لكونه مع جملة الصفة كالشيء الواحد عدة جملة. على أنّ وجوب العلم بمضمون الجملة وانتسابها إنما هو مقرّر في الصلة دون الصفة عند صاحب الكشاف حيث ذكر في قوله تعالى: {فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} أنّ النار(2/8)
جاءت معرفة هنا وفي سورة التحريم نكرة موصوفة، لأنها نزلت أوّلاً بمكة فعرفوا منها ناراً موصوفة بهذه الصفة ثم جاءت في سورة البقرة مشاراً بها إلى ما عرفوه أوّلاً، ولذا قالط بعض الفضلاء الأظهر أنّ الوصف بشيء لا يجب كونه معلوما بل يجب إمّا كونه معلوما أو بحيث يعلم بأدنى توجه ألا تراك تقول اضرب رجلا يضربك، وهو لا يدري من سيضربه لكنه يعلمه بعد الوقوع وكون الخالق هو الله مما تقزر لأنهم لا يشركون فيه وإنما يشركون في العبادة كما مرّ وبه صرّح في النظم المذكور فلا حاجة إلى ادّعاء التغليب على تقدير العموم في الخطاب لعدم الخفاء عند المسلمين، وإنما الكلام فيمن عداهم وإخراجه مخرج المقرّر في التعبير بعبارته لا ينافي كونه مقرّرا في الخارج حتى يتأتى تعليله باعترافهم والاستدلال بالآيتين اللتين ذكرهما المصنف رحمه الله على الاعتراف ظاهر والتنظير فيه والقول بأنّ الوجه هو الثاني لا وجه له. قوله: (أو لتمكنهم من العلم به بأدنى نظر) أي بأقرب نظر أو أقله لسهولته وهذا إن كان من الكفرة من لا يعلم أنّ الله خالقه وخالق من قبله لا سيما على ما فسر به المصنف رحمه الله القبلية فنزل قدرته على العلم منزلة حصوله وأخرجت الجملة مخرج المعلوم على خلاف مقتضى الظاهر فإنه قد ينزل غير العالم منزلة العالم لوضوح البراهين كما ينزل العالم منزلة الجاهل لعدم عمله. قوله: (وقرئ من قبلكم) القراءة المشهورة بمن المكسورة الميم الجارّة، وقد استشكلت أيضاً بأن الجارّ والمجرور لا يصح أن يكون صلة إلا إذا جاز أن يخبر به عن المبتدأ ومن قبلكم ناقص ليس في الإخبار به عن الأعيان فائدة فلا يصح أن يقع خبراً إلا بتأويل فكذلك حكمه في الصلة وتأويله أن ظرف الزمان إذا وصف لفظاً أو تقديراً مع القرينة الواضحة صح الإخبار به والوصل فتقول نحن في يوم طيب وما هنا بتقدير في زمان قبل زمانكم، وقال أبو البقاء التقدير هنا والذين خلقهم من قبل خلقكم فحذف الفعل الذي هو صلة وأقيم متعلقه مقامه، وأمّا قراءة من بفتح الميم كالموصولة وهي قراءة زيد بن عليّ الشاذة فمشكلة لتوالي موصولين والصلة واحدة
ولا يصح أن يكون تأكيداً لأنّ المعنوي بألفاظ مخصوصة واللفظيّ بإعادة اللفظ بعينه، وهذا خارج عنهما فخرجت كما قاله المصنف رحمه الله على إقحام الموصول الثاني أي زيادته وأصل معنى الإقحام إدخال شيء في آخر بفف كما مرّ كما أقحم الشاعر في قوله:
يا تيم تيم عديّ لا أبا لكم
تيما الثاني بين الأوّل وما أضيف إليه وأقحم لام الإضافة أيضاً بين المتضايفين في لا أبا
لكم إلا أنّ المصنف رحمه الله ترك الثاني مع ذكره في البيت وتصريح الزمخشري. به لأنه عند ابن الحاجب ليس مضافا واللام زائدة وأنما عومل معاملة المضاف وارتضاه المصنف رحمه الله لسلامته من التكلف، وقيل على هذا التوجيه أنه غير سديد لأنّ الحرف لا يؤكد بدون إعادة ما اتصل به فالموصول أولى بذلك، وخرج على أنّ من موصولة أو موصوفة وهي خبر مبتدأ مقدر فما بعده صلة أو صفة وهو مع المقدر صلة الموصول الأوّل والتقدير الذين هم من قبلكم، والمراد بالتأكيد على تقديره الزيادة لأنّ الزيادة تفيد تقوية الكلام في كلامهم فلا يرد عليه ما قيل من أنه خارج عن قسمي التأكيد وقد أجاز بعض النحاة زيادة الأسماء وأجاز الكسائي أيضاً زيادة من الموصولة وجعل منه قوله:
وكفى بنا فضلاً على من غيرنا
فلا حاجة إلى أن يقال إنه تكيد لفظيّ فإنه يكون بعينه وبمرادفه فيرد عليه أنّ الموصول
بدون صلته لا يفيد شيئا فكيف يؤكد. قوله: (يا تيم تيم عديّ لا أباً لكم) هو مصراع بيت من شعر لجرير هجا به عمر بن لجا بن حدير أحد بني مصاد والشعر أوّله:
هاج الهوى وضمير الحاجة الذكر واستعجم اليوم من سلامة الخبر
وياتيم تيم عديّ لا أبالكم لايلقينكم في سورة عمر
أحين صرت سمامايا بني لجا وخاطرت بي عن أحسابها مضر
خل الطريق لمن يبني المنار به وأبرز ببرزة حيث اضطرك القدر
وبرزة أمّ عمر بن لجا فأجابه عمر بقوله:(2/9)
لقد كذبت وشرّ ألقول أكذبه ما خاطرت بك عن أحسابها مضر
بل أنت برزة خوّار على أمة لن يسبق الجلبات اللؤم والخور
وله قصة مذكورة في شرح شعر جرير وتيم بفتح التاء الفوقية وسكون التحتية أصل معناه العبد، ومنه تيم الله ثم سمى به عدة قبائل ومنها تيم عديّ التي منها عمر المذكور فخاطب
جرير قبيلته لما بنغه عنه أنه أراد هجاءه وقال لهم لا تتركوا عمر أن يهجوني فيصيبكم شرّي بأن أهجوكم بسببه، وبجوز في تيم الأوّل الضم والفتح والثاني مفتوح فقط وما ذكر هنا بناء على أنّ تيم الأوّل مضاف لعديّ والثاني مقحم بينهما للتأكيد وفيه وجوه أخر مفصلة في باب المنادى وشبه الإقحام بين الصلة والموصول ببين المضاف والمضاف إليه ووجه الشبه ظاهر. قوله: (حال من الضمير في اعبدوا الخ) رجح هذا الوجه المصنف تبعا لكثير من المفسرين وخالف الزمخشري في ترجيحه الوجه الآتي بيانه وتقريره، واعلم أنّ لعل موضوعة للترجي وهو الطمع في حصول أمر محبوب ممكن الوقوع والإشفاق وهو توقع مخوف ممكن والمشهور تقابل الترجي والإشفاق فتكون مشتركة بينهما لكن المحقق الرضي ذكر أنّ في لعل معنى ترجيت والترجي ارتقاب شيء لا وثوق بحصوله ويدخل في الارتقاب الطمع والإشفاق فالطمع ارتقاب أمر محبوب والإشفاق ارتكاب أمر مكروه، والترجي أعمّ من الطلب وقيل بالعكس والذي ارتضاه النحاة في شرح التلخيص أنّ الترجي ليس بطلب وما ذكر هو معناه الحقيقيّ وقد تخرج إلى معان أخر، واختلف في لعل الواقعة في كلامه تعالى فقيل ليست على حقيقتها بل هي للتعليل وسيأتي ما فيه وقيل لتحقيق مضمون ما بعدها ولا يطرد لورود نحو لعلة يتذكر أو يخشى والذي ارتضاه سيبويه وبعض النحاة أنها على حقيقتها والرجاء والإشفاق يتعلق بالمخاطبين لأنّ الأصل أن لا يخرج عن الحقيقة بغير داع وهذا هو الذي اختاره المصنف رحمه الله إلا أن الرجاء لما كان غير لائق به تعالى صرفه إلى المخاطبين بناء على أنّ معاني الألفاظ تكون بالنظر إلى المتكلم وبالنظر إلى المخاطب والى غيرهما والظاهر أنّ الثاني مجاز لكنه أقرب إلى الحقيقة لبقائها في الجملة فإن قلنا إنه حقيقة فلا كلام في ترجيحه وجعله حالاً من فاعل اعبدوا بتأويله براجين لأنه إنشاء ومثله لا يقع حالاً بغير تأويل كما صرّح به النحاة والحال قيد لعاملها وهو الأمر فإن قلنا إنه أعئم من الوجوب فلا إشكال وان قلنا الأصل فيه الوجوب فيقتضي وجوب الرجاء المقيد به العبادة المأمور بها وليس بواجب فقد يمنع ويقال إنه يقتضي وجوب المقيد دون قيده وفيه كلام في الأصول ولهذا جعل ما اختاره المصنف مرجوحا وقيل إنّ فيه أيضا عدولاً عن تعليقه بالأقرب إلى الأبعد وتوسطه بين العصا ولحائها فإنّ {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً} [سورة البقرة، الآية: 22] موصول بربكم صفة له بحسب المعنى، دمان جعل منصوبا أو مرفوعا على المدح والتعظيم، وأيضا لا طائل في تقييد العبادة برجاء التقوى لأن رجاء الشيء ينافي حصوله حين الرجاء بل المناسب تقييدها بنفس التقوى أي اعبدوه متقين أو عطفها عليها أي اعبدوه واتقوا ولا مساغ للحمل على رجاء ثواب التقوى لإخراجه الكلام عن سننه كما لا يخفى، وأجيب عنه بأنه يرجح تعلقه بالأبعد أنه حينئذ حقيقة وأنه لم يقيد العبادة برجاء التقوى حتى يرد ما ذكر بل قيد باستمرار التقوى. كما يفيده المضارع ورجاء استمرار التقوى يفيد حصول التقوى على أبلغ وجه وفائدته الاحتراز عن الاغترار وأمّا الفصل المذكور
فيهوّنه القطع وان كان بينهما اتصال معنويّ ويدفعه بالكلية جعله مبتدأ خبره جملة فلا تجعلوا الخ ولا يخفى ما فيه من التكلف والردّ بما تداركه من قوله صفة بحسب المعنى مع عدم تعين القطع وبناء الوجه الراجح على مرجوح عنده. كله لا يدفع الترجيح بل يؤيده وقيل في الجواب عنه أيضاً أن قوله راجين الخ جواب عما أورد من أنه لا طائل تحته لأنه إذا حملت التقوى على معناها الثالث وهو التبري عما سوى الله المقتضي للفوز بالهدى عاجلا وبالقرب فيه آجلا ففيه طائل وأيّ طائل وهو أقرب مما قبله فتدبر. قوله: (أن تنخرطوا لخ) الانخراط بمعنى النظم كما يشهد له اقترانه بالسلك وهو(2/10)
الخيط الذي تنظم فيه الدرر وما ضاهاها وقع في كلام كثير من العلماء والأدباء كالزمخشري والحريرفي والسكاكيّ وغيرهم، إلا أني لم أره في كلام العرب بهذا المعنى ونظرت في كتب اللغة التي بأيدي الناس فلم أر في شيء منها تفسير. بما ذكر، والذي أراه في توجيهه أنه من الخريطة وهي الكيس فإنه يقال أخرطت الخريطة كما في المحيط الصاحبيّ من كتب اللغة فيكون على ضرب من التسامح فيه بجعل جمع الكيس كجمع العقد وهو قريب جداً والاستيجاب المراد به ألاستحقاق بفضله تعالى وضمن التبري معنى الفرار فعداه بإلى وهو ظاهر وقوله المستوجبين بصيغة الجمع صفة للمتقين أو بدل منه بمعنى المستحقين وبصيغة التثنية صفة للهدى والفلاح بمعنى المقتضيين لما ذكر، والهدى في الدنيا والفلاح في الآخرة. قوله: (نبه به) أي بما ذكر أو بالحال لأنها تذكر وتؤنث وأشار بقوله نبه إلى أنه ليس من منطوق اللفظ بل من إيمانه فإنه غير مخصوص بهؤلاء سواء عمّ الخطاب أو خص لكن التعبير بالترجي في حق الجميع يومئ إلى أنها رتبة عظيمة لأنّ طالب الحق لا يزال يترقى من حال إلى آخر، ويسمى ذلك سيرآ والسلوك معناه في اللغة مطلق الدخول ثم خص عند الصوفية بالدخول في طريق موصل للحق والسالك عندهم هو السائر إلى الله المتوسط بين المريد والمنتهى ما دام في السير وفسر التقوى بما ذكر وهو من مراتبها السابقة وقوله وأن العابد الخ هذا لما نظرا إلى ظاهر الترجي لأنه يستعمل فيما يحتمل الوقوع وعدمه فكل مترج خائف مما يؤذي إلى سخطه تعالى، ويحتمل أنه إشارة إلى حمل التقوى على معناه الأول الذي به يتقي العذاب فلا يتجه عليه شيء، ولا يرد ما قيل من أنّ المفهوم من لعل الرجاء دون الخوف إذ المراد خوف عدم حصول المرجوّ من التقوى المفضي إلى العذاب فينطبق حينثذ على ما استشهد به من قوله تعالى: {يَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} [سورة الإسراء، الآية: 57] ويؤيده كون لعل يدل على الإشفاق أيضاً وفي احتماله ما يومئ لما ذكر لمن تدبر. قوله: (أو من حاشية الشهاب / ج 2 / م 2
مفعول خلقكم الخ) معطوف على قوله من الضمير في اعبدوا إشارة إلى ما في الكشاف بعد ما ذكر حقيقتها من الترجي والإشفاق وأنها تكون في كلامه تعالى للإطماع من أنها هنا ليست في شيء لأنّ الرجاء لا يجوز عليه تعالى، وحمله على أنه يخلقهم راجين للتقوى ليس بسديد فلعل هنا مجاز لأنه خلق عباده ليتعبدهم بالتكليف وركب فيهم العقول والشهوات وأزاح العلة عن أقدارهم وتمكينهم وهداهم النجدين ووضع في أيديهم زمام الاختيار وأراد منهم الخير والتقوى فهم في صورة المرجوّ منهم أن يتقوا ليترجح أمرهم وهم مختارون بين الطاعة والعصيان كما ترجحت حال المرتجي بين أن يفعل وأن لا يفعل ففي الكلام استعارة لتشبيههم بالمرجوّ منهم، وتشبيهه تعالى بالراجي فإنّ هناك حالة شبيهة بالرجاء وهي إرادته تعالى منهم التقوى فأمّا أن تعتبر استعارة كلمة الترجي للإرادة استعارة تبعية حرفية أو يلاحظ هيئة مركبة من راج ومرجوّ منه ورجاء فت! ون تمثيلية صرّج من ألفاظها بالعمد منها ونوى ما سواه فلا تجوّز في لعل كما مرّ تفصيله إلا أنه قيل إن كلامه يميل إلى الأوّل إلا أنه راعى الأدب فلم يصرّح بنسبة التشبيه إليه تعالى ولا إلى إرادته وإن صزح به فيئ محل آخر لأنه لا تظهر المشابهة بين الإرادة والرجاء إلا باعتبار حال متعلقيهما أعني المكلف والمترجي منه فذكر التشبيه بين حاليهما لتظهر تلك المشابهة في أنّ متعلق كل من الإرادة والترجي متردّد بين الفعل وعدمه مع رجحان ما لجانب الفعل فإنه تعالى وضع بأيديهم زمام الاختيار، وأراد منهم الطاعة كما هو مذهب المعتزلة ونصب لهم أدلة عقلية ونقلية داعية إليه، ووعد وأوعد وألطف بما لا يحصى فلم يبق للمكلف عذر وصار حاله في رجحان اختياره للطاعة مع تمكنه من المعصية كحال المترجي منه في اختياره لما ترجى منه مع تمكنه من خلافه وصارت إرادته تعالى لاتقائه بمنزلة الترجي، ولما كان ما ذكره المصنف أقرب إلى الحقيقة وهو مجاز ما فيه من الابتناء على الاعتزال رجح الأوّل واخاره ولم يلتفت لما أوردوه عليه وأسقط منو قوله وضع في أيديهم زمام الاختيار وأراد منهم الخير لأنه نزغة اعزالية فإذا سلم الكلام منها لم يبق به بأس ولذا قال ابن عطية لما اختار تعلقه بخلقكم لقربه أنه لما ولد كل مولود على الفطرة. كان بحيث إن(2/11)
تأمّله متأمّل توقع منه رجاء أن يكون متقيا، وليس هذا ما في الكشاف بعينه كما توهم بل هو وجه آخر أبقى فيه لعل على حقيقته من الترجي إلا أن الترجي ليس من المتكلم ولا من المخاطب بل من غيرهما كما في قوله تعالى: {فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ} [سورة هود، الآية: 2 ا] ومن نزل عليه كلام المصنف وقال المعنى إنه خلقكم ومن قبلكم والحال أنّ من شأنكم وشأنهم أن يرجو منكم ومنهم التقوى كل من يتأتى منه الر%ظء والتوقع وهذا لا يستلزم تشبيهه تعالى بالمترجي ولا تعيين الراجي خبط وخلط، والذي عليه أرباب الحواشي أنّ هذا بعينه ما في الكشاف والمعطوف عليه قوله والذين من قبلكم. قوله: (في صورة من يرجى منه الخ) هذا صريح في الاستعارة فلا وجه لمن جعله حقيقة والدواعي جمع داعية أو داع لأنه لما لا يعقل والإنسان إذا
اعتقد أنّ له في الفعل أو الترك مصلحة راجحة حصل في قلبه ميل جازم إليه فهذا الاعتقاد سواء نشأ عن علم أو ظن هو المسمى بالداعية مجازا من قولهم دعاه أي طلبه فكأنّ علمه بالمصلحة طلب منه الفعل وقد يسمى الداعي بالغرض! ، ومجموع القدرة، والداعية يسمى علة تامّة كما ذكره الأصوليون وفسرت هنا بالزواجر والمرغبات وعلى هذا الوجه الترجي مستعار للإرادة، كما صرّح به السيد وغيره وهو مع ظهوره قيل عليةلم! أن في شرح المقاصد أن الإرادة عند محققي المعتزلة العلم بما في الفعل من المصلحة ولا شك أنه لا شك في أنه لا مشابهة بين العلم والترجي أصلاً فلا يظهر اعتباره في الآية ويمكن أن يقال إنه نقل في شرح المقاصد أيضا عن الكعبيّ من المعتزلة أنّ إرادة فعل الغير الأمر به فيندفع الإشكال إذ المراد بالأمر الظلب بقي أنّ المشابهة بين الرجاء والإرادة بمعنى الطلب أو الصفة المرجحة المخصصة للفعل ظاهرة بلا حاجة إلى اعتبار المترجي منه والمراد منه على أنّ المتبادر من تقديره قدس سرّه أنّ المعتبر في الترجي رجحان جانب الفعل بحسب الوقوع في نفس الأمر وليس كذلك إذ يكفي ترجيحه في نظر الزواجر وهذا كله من ضيق العطن وتكثير السواد بما لا يليق بمثله فإنّ العلم ليس مطلقا بل علم مصلحة الفعل ولا خفاء في مشابهتة للترجي في جانب الوقوع فيهما وما بعده على طرف الثمام. قوله: (وغلب المخاطبين على الفائببن الخ (هذا جواب عن سؤال هو أنه كما خلق المخاطبين لعلهم يتقون خلق من قبلهم لدّلك فلم قصر عليهم دون من قبلهم، فأجيب بأنه لم يقصر عليهم ولكن غلب المخاطبين على الغائبين في اللفملى والمعنى على إرادتهم جميعاً ولو لم يغلب قيل لعلكم واياهم، وهذا محصل ما في الكشاف إلا أنه قيل على المصنف أنه عمم أوّلاً في قوله الذين من قبلكم لغير العقلاء ثم اعتبر هنا تغليب المخاطبين على من قبلهم العامّ فيلزمه أن يكون ما سوى الإنسان من الجماد والحيوان الداخل فيمن قبلهم مطلوبا منه التقوى وإنما لزمه هذا من جمعه بين كلام الراغب والزمخشري، فإنّ الزمخشري اعتبر التغليب لكنه لم يعمم الذين من قبلهم لغير العقلاء والرإغب عكس فلما جمع بين كلاميهما لزم منه ما لزم، وأجيب بأنّ قوله لعلكم تتقون إذا كان حالاً من ضمير اعبدوا تناول الذين من قبلكم العقلاء وغيرهم وهو الذي اختاره الراغب واقتصر عليه وإذا كان حالاً من مفعول خلقكم والمعطوف عليه كان المراد بقوله الذين من قبلقم الأمم السالفة وهو الذي اختاره في الكشاف والتغليب مختص بهذا الوجه فكأنه قال أو عن مفعول خلقكم والمعطوف عليه لا على غعنى جعله متناولاً لغير ذي العقول بل على أنه خلقكم ومن قبلكم من الأمم السالفة وغلب المخاطبين من الأمم على الغائبين منهم فلا إشكال فيه. وأمّا جعل هذا التفاتاً لمن ذكر بطريق الغيبة من غير حاجة إلى التغليب فقيل إنه لم يلتفت إليه لأنه لا يجوز صرف الخطاب عن جماعة إلى جماعة أشمل من الأولى في كلام واحد ولا يخفى عليك أنه لا بد من التغليب في قوله الذين من قبلكم أيضاً لأنّ الذين ونحوه من صيغ جمع المذكر السالم مخصوص بالعقلاء فإطلاقه على غيرهم إنما يكون
بطريق التغليب وحينئذ فلا مانع من أن ينسب إلى الجميع ما ينسب إلى بعضهم من ترجي التقوى ويتبنى هذا على التغليب والاختلاط السابق كما يقال بنو فلان قتلوا قتيلاً والقاتل واحد منهم ففي الكلام حينئذ تغليبان أحدهما: في اللفظ والآخر: في النسبة فإنّ التغليب كما يكون في طرفي(2/12)
القضية يكون في نسبتها كما صرّحوا به واجتماع تغليبين في لفظ واحد وارد في القرآن كما صرّح به في شرح التلخيص والمفتاح في قوله تعالى: {جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ} [سورة الشورى، الآية: 11] وهذا ليس بأبعد مما اذعاه من غير بينة فتأمّل.
قوله: (وقيل تعليل الخ (في الكث اف لعل جاءت للأطماع روتي القرآن من كريم رحيم إذا
أطمع فعل ما يطمع فيه لا محالة لجري إطماعه مجرى وعده المحتوم وفاؤه وهو معنى ما قيل من أنها بمعنى كي لأنها لا تكون بمعنى كي حقيقة وأيضا فمن ديدن الملوك وعادتهم أن يقتصروا في مواعيدهم المن! ش ة على عسى ولعل ونحوهما أو يخيلوا إخالة رمزة وابتسامة، فإذا عثر على شيء من ذلك لم يبق شك في النجاج والفوز بالمطلوب وعلى هذا ورد كلام مالك الملوك ذي الكبرياء أو جاء على طريق الإطماع لئلا يتكل العباد كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [سورة التحريم، الآية: 8] والأطماع إيقاع الغير في الطمع والطمع كما قاله الراغب نزوع النفس إلى الشيء فهو توجيه فيما له ترجي المخاطب وهو الذي أراده فإنّ معاني الألفاظ كما تكون بالنسبة إلى المتكلم تكون بالنسبة للمخاطب وغيره حقيقة فهو معنى حقيقيّ أيضاً للعل واليه أشار الشريف في شرحه، وهو معنى قول الراغب الطمع والإشفاق لا يصح على الله ولعل وان كان طمعاً فإنه يقتضي في كلامهم أن يكون تارة طمع المخاطب وتارة طمع غيره وتحقيق هذا المقام، وتطبيق مفاصل كلام العلامة من مزالّ الإقدام التي خبط فيها شراحه، والحق الحقيق بالقبول ما تلخص من كلام بعض الفحول، وهو أنه أراد أنها للتحقئين إلا أنه أبرز في صورة الأطماع وترجية الغير إمّا لإظهار أنه لا فرق بين أطماعه في شيء وبين جزمه بإعطائه لاقتضاء كرمه ذلك أو لسلوك طريق الملوك في إظهار الكبرياء وقلة الاعتداد بالأشياء أو للتنبيه على أنّ حق العباد أن لا يتكلوا على العبادة بل يقفوا بين الخوف والرجاء، ولما ذهب ابن الأنبارقي وغيره إلى أنّ لعل تجيء بمعنى كي حتى حملوها عليه في كل موضمع امتنع فيه الترجي سواء كان إطماعاً أو لا أشار إلى توجيه ما قالوه بأنهم لم يريدوا أنها بمعنى كي حقيقة لأنّ أهل اللغة يعدّوه من معانيها ولذا لم تقع في موضعها في نحو دخلت على المريض كي أعوده ولا يقول به أحد فالمراد أنّ ما بعدها، إذا صدر من كريم على سبيل الأطماع سيلحق عقب ما قبلها تحقق الغاية عقيب ما هي سبب له فكأنها بمعنى كي ولا يجري هذا إلا في الإطماعية دون غيرها. وقيل مقصوده الردّ عليهم مشيراً لمنشأ توهمهم وفيه أنه توهم عامّ منشؤه خاص وقد ارتضاه بعضهم ونزل عليه كلام المصنف رحمه الله والظاهر ما ارتضاه قدس سرّه، وما قيل من أنّ من فسرها بكي لا يدعي أنها حقيقة
في معناها حتى يكونا مترادفين يصح وقوع كل منهما في موقع الآخر بل مجاز فلا يقتضي صحة وقوعها في جميع مواقع كي حتى يلزم صحة نحو لعلي أعوده مع أنه لا يلزم من كون لفظ بمعنى آخر أن يعطي له جميع أحكامه ولم يدعوا أنه لا فرق بينهما أصلا ولا نسلم الاتفاق على عدم صلوحها لمجرّد معنى العلية بل الظاهر الاتفاق على خلافه لأنّ جمهور المفسرين حتى الزمخشريّ والمصنف فسروها بكي في مواضمع كثيرة كما سيأتي نيه ما فيه ثم إنّ كثيرا من أهل اللغة والعربية " تد عدوه من معانيها كما نقل عن سيبوبه وقطرب، أقول لك أن تقول إنّ الأطماع بمعنى الترجي إذا كان معنى حقيقياً يكنى به بقرينة مقام الكبرياء عن تحقق ما بعدها على عادة الكبراء كما قال زهير:
غمرالرداءإذاتبسم ضاحكا عتقت لضحكته رقاب المال
ثم يتجوّز به عن كل متحقق كتحقق العلة سواء كان معه أطماع أم لا كما قرّروه في المجاز المبنيّ على الكناية في نحو لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم فالعلامة اختاره لأنّ المجاز أولى من الاشتراك عنده لا سيما وهو أبلغ وفيه جمع لنشر كلام القوم ولا ينافي حيئ! ذ تفسيره به وكيف لا وقد صرّح به وقال إنها جاءت كذلك في مواضع من القرآن فإن نزل كلام المصنف عليه بصرف قوله إذ لم يثبت في اللغة إلى أنه لم لثت على أنه معنى حقيقيّ فيها ونعمت والا يدفع ما يرد عليه حيث فسر به بأنه تغ فيه غيره وان لم يكن مرضياً له(2/13)
وهي شنشنة من أخزم، نعم كلام كثير من أهل العربية يدلّ على أنه معنى حقيقيّ لها ولكل وجهة يرضاها وليكن هذا على ذكر منك ينفعك فيما سيأتي. قوله: (كما قال سبحانه وتعالى وما خلقت الخ) إشارة إلى جواب سؤال تقديره كيف يصح جعلها بمعنى كي وأفعاله تعالى على المشهور لا قعلل بالأغراض عند الأشاعرة خلافا للمعتزلة فلا يقال فعل كذا لكذا بل لحكمة لأنّ الأصح خلافه حتى قال صدر الشريعة رحمه الله أفعاله تعالى معللة بمصالح العباد عندنا مع أنه لا يجب عليه الأصلح وما أبعد عن الحق من قال إنها غير معللة بها فإنّ بعثة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لاهتداء الخلق واظهار المعجزات فمن أنكر تعليل بعض الأفعال لا سيما الأحكام الشرعية كالحدود فقد أنكر النبوّة ولذا كان القياس حجة وأمّا الوقوف على ذلك في كل محل فلا يلزم، والحق أنّ الخلاف في هذه المسألة لفظيّ فان فسرت العلة والغرض بما يتوقف عليه ويستكمل به الفاعل امتنع ذلك في حقه تعالى وان فسرت بالحكمة والثمرة المترتبة على الفعل فلا شبهة في وقوعها كما قيل:
من عرف الله أزال التهمه وقال كل فعله لحكمه
ولما لم يصح عند الأشاعرة استعارة لعل للإرادة لاستلزامها وقوع المراد جعلوها مجازا
عن الطلب الأعمّ وحيث فسرت بالإرادة فيتجوّز عن الطلب وأمّا التعليل فقد عرفته آنفاً. قوله؟
(وهو ضعيف الخ) استشكل بأنه مناف لتفسيرهم به في آيات كثيرة ولتصريح النحاة به واستشهادهم عليه بكلام فصحاء العرب كقوله:
فقلتهم لنا كفوا الحروب لعلنا نك! ووثقتم لناكل موثق
فإنّ قوله وثقتم الخ يقتضي عدم التردّد في الوقوع كما في الترجي وبهذا يتعين أنها بمعنى
كي ووجه بأنه استعارة للطلب فإمّا أن يجعل مفعولاً له أي خلقكم لطلب التقوى والتعليل مستفاد من ربطها بما قبلها أو حالاً أي خلقهم طالبا منهم التقوى ولا يخفى ما فيه من التعسف وأنت إذا عرفت ما قرّرناه استغنيت عن مثل هذه التكلفات. قوله: (والآية تدلّ على أنّ الطريق إلى معرفة الله تعالى الخ) هذه الدلالة ليست بطريق البرهان العقليّ وإنما هي بطريق الإشارة من عرض الكلام وفحوى المعنى ووجهه بعد العلم بأنّ المراد بمعرفة الله التصديق بوجوده متصفا بصفاته اللائقة بجلال ذاته، ووحدانيته بفتح الواو تفرّده ة ي جميع شؤونه بحيث لا يصح عليه التجزي ولا التكثير ولا يشاركه شيء أصلاً وأصله الوحدية فزيد فيه ألف ونون على خلاف القياس للمبالغة كما قيل في نفسانيّ وروحانيّ وهو وان شاع لم يذكره أهل اللغة بخصوصه، والعلم معطوف على المعرفة والفرق بينهما مشهور، والصنع إجادة الفعل فهو أخص منه، والاستدلال إقامة الدليل بأنه لما أمر وجوبا بعبادته توقف ذلك على معرفته فيجب أيضاً لوجوب ما لا يتمّ الواجب إلا به واستحقاقه العبادة عامّة مأخوذ من هذا الأمر لأنه لو لم يستحق لم يجب أو من عنوان الربوبية لأنّ المالك الانقياد والخضوع له والنظر في مصنوعاته من الأنفس والآفاق يدلّ على ذلك لأنها محدثات مبتدعة في غاية الإتقان فلا بدّ لها من موجد واجب الوجود لئلا يتسلسل ويلزم المحال كما تقرّر في- الأصول، وعقة الاحتياج الإمكان أو الحدوث أو هما كما هو مشهور، والمصنوعات دلّ عليها قوله تعالى {الَّذِي خَلَقَكُمْ} إلى قوله {رِزْقاً} ، ووجه الترتيب أن أقرب الأشياء إلى الناظر نفسه وأحواله الدال عليها قوله خلقكم فلذا قدم ثم اتبع بالأصول وما يليه، وتعين النظر طريقاً إلى المعرفة يفهم من التوصيف المقصود منه تعيين الرب بمصنوعاته المأمور بعبادته فكأنه قيل إن لم تعرفوا المستحق للعبادة الواجبة فهو من اتصف بما ذكر، ولا شك أنه إشارة إلى طريق النظر والفكر وأمّا كونه طريقا للتوحيد فقيل لأنّ السياق له وما ذكر طريق لمعرفته، وأمّا الاستحقاق فمن تعليق الحكم بالوصف المشتق المشعر بالعلية التي لا تعرف إلا بالنظر في الصنع وبما ذكرناه علم أنه لا يرد على المصنف رحمه الله ما قيل من أنّ ما ذكره ظاهر لو كانت العبادة بمعنى المعرفة كما فسر به قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [سورة الذاريات، الآية: 56] أو كانت(2/14)
شاملة لها وإلا ففيه خفاء لما عرفته من وجه التفسير بها. قوله: (وأن العبد لا يستحق الخ الأنه
تفضل بخلقه وإيجاده وتربيته واعطائه ما به قوامه فلو فكر في كل عضو عضو وما ركب فيه من القوى والحواس لوجده أنعم عليه قبل عبادته بما لا يحصى مما لا تفي الطاقة البشرية بشكره ولا تقاوم عبادته بعضاً منه فكيف يستحق بها شيئا آخر كما لا يخفى وهذا مستفاد من تعليق الأمر بالرب الموصوف بما ذكر وبهذا ظهر موقع لعل هنا لمن تدبر. واعلم أنه سأل في الكشاف لم يقل في النظم تعبدون لأجل اعبدوا أو اتقوا لمكان تتقون ليتجاوب طرفا النظم أي ليتناسب أوّل الكلام وآخره إذ معناه حينئذ اشتغلوا بالأمر الذي خلقتكم لأجله مع اشتماله على صنعة بديعة من ردّ العجز على الصدور وما في النظم يوهم أنّ المعنى اشتغلوا بما جلقتم لغيره وهو متنافر وأجاب بأنّ التقوى ليست غير العبادة حتى يؤدّي إلى تنافر النظم وإنما التقوى قصارى أمر العابد فإذا قال اعبدوا ربكم الذي خلقكم للاستيلاء على أقصى غايات العبادة كان أبعث على العبادة وأشد إلزاما ونحوه أن تقول لعبدك احمل خريطة الكتب فما ملكتك إلا لجرّ الأثقال، ولو قلت لحمل الخرائط لم يقع ذلك الموقع، وقال أبو حيان رحمه الله إنه ليس بشيء لأنه لا يمكن هنا تجاوب طرفي النظم على تقدير اعبدوا لعلكم تعبدون أو اتقوا لعلكم تتقون لما فيه من الغثاثة والفساد لأنه كقولك اضرب زيدا لعلك تضربه وتلقاه بعضهم بالقبول حتى قيل: إنّ المصنف إنما تركه لهذا أو لخفائه، مع أنه مبنيّ على أنّ لعل للتجليل فإنه إنما يحسن على ذلك التقدير، وهو مخالف لما قدمه من أنها ليست بهذا المعنى وما في شروحه من تقرير الجواب على وجه يدفع الغثاثة المذكورة كما قال قدس سرّه حاصل الجواب أنّ الملاءمة حاصلة بحسب المعنى مع مبالغة تامّة في إلزام العبادة كما صوّرها في المثال فإنّ الأخذ بالأشق الأصعب يسه!! الشاق الصعب ويعين على تحصيله وهو محل بحث فليتدبر. قوله:) صفة ثانية) هذا الموصول محتمل للرفع والنصف من أوجه، فالنصب إمّا على القطع بتقدير أعني أو على أنه نعت ربكم أو بدل منه أو مفعول تتقون، ورجحه أبو البقاء أو نعت الأوّل لكهم قالوا: إنّ النعت لا ينعت عند بعضهم فإن جاء ما يوهمه جعل نعتا ثانيا إلا أن يمنع منه مانع فيكون نعتا للثاني نحو يا أيها الفارس ذو الجمة فذو الجمة نعت للفارس لا لأيّ لأنها لا تنعت إلا بما تقدم ذكره وقد يعتذر بأنه يغتفر في الثواني ما لا يغتفر في الأوائل مع أنّ نعت نعت أفي لغلبة الجمود فيه لا يقاس عليه والرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أو مبتدأ خبر. جملة فلا تجعلوا وأورد عليه أنّ صلته ماضية فلا تشبه الشرط حتى تزاد الفاء في خبره وأنه لا راد علة فيه وأنّ الإنشاء لا يكون خبرا في الأكثر وأجيمب بأنّ الؤاء قد تدخل في خبر الموصولة بالماضي كقوله: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق} [سورة البروج، الآية: 0 ا] كما ذكره الرضي وأنّ الاسم الظاهر وهو الله هنا يقوم مقام الضمير عند الأخفش وأنّ الإنشاء يقع خبرا بالتأويل المشهور وكل مصحح لا مرجح ولذا أخره المصنف
وما قيل إنه مبتدأ خبره رزقا لكم بتقدير يرزق أو يرزقكم تكلف بارد. قوله:) وجعل من الأفعال العامّة الخ) قال الراغب جعل لفظ عامّ في الأفعال كلها لأنه أعمّ من فعل وصنع وسائر أخواتها ولها خمسة أوجه فتكون بمعنى طفق فلا تتعدى وبمعنى أوجد فتتعدى لواحد ولإيجاد شيء عن شيء وتكوينه عنه وتصيير شيء على حالة دون حالة وللحكم بشيء على شيء حقاً أو باطلا، وقال السيرافي أنها تكون بمعنيين صنع وعمل فتتعدى لواحد وصير فتتعدى لاثنين لا يجوز الاقتصار على أحدهما وهذه كصير على ثلاثة أوجه الأوّل بمعنى سمي نحو: {جَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا إنلأناً} [سورة الزخرف، الآية: 19] كما تقول! صير زيداً فاسقا أي بالقول الثاني على معنى الظن والتخيل نحو اجعل الأمير عاميا وكلمه أي صيره في نفسك كذا. الثالث أن تكون بمعنى النقل نحو جعلت الطين خزفاً أي نقلته من حالة إلى أخرى وقد لا يكون مدخول صار جملة نحو صار زيد إلى عمرو اأتهى. وطفق يطفق كجلس وضرب ويقال طبق بالباء من أفعال المقاربة النواسخ تدخل على المبتدأ والخبر فترتفع وتنصب ومعناها الشروع في الفعل والتلبس بأوائله ومنصوبها لفظا أو محلا خبرها فلذا قال المصنف رحمه الله تبعا للراغب(2/15)
فلا يتعدى. وهي في الآية بمعنى صير كما سيشير إليه المصنف رحمه الله، وقيل تحتمل معنى أوجد أيضاً أي أوجد الأرض حالة كونها مبسوطة مفترشة لكم فلا تحتاجون لبسطها والسعي في جعلها مفترشة. قوله: (وقد جعلت قلوص بني سهيل الخ) هذا من شعر في الحماسة ومنه: ولست بنازل إلا ألمت برحلي أوخيالتها الكذوب
وقدجعلت قلوص بني سهيل من اكواومرتعهاقريب
كان لها برحل القوم مثوى رما إن طيها إلا اللغوب
واستشهد به المصنف رحمه الله تبعا للنحاة في أنّ جعل بمعنى طفق من أفعال المقاربة فترفع
الاسم وتنصب الخبر واسمها هنا قلوص المرفوع، إلا أنّ خبرها وقع جملة اسمية منصوبة محلاً وهو معنى قوله فلا يتعدّى كما سمعته آنفا، وهكذا ذكره في المغني في باب اللام وفي التسهيل والأصل في خبرها أن يكون مضارعا لكنه جاء شذوذاً على خلافه كما هنا وليس بمتفق عليه رواية ودراية فذهب إلتبريزي في شرح الحماسة إلى أنّ جعل بمعنى طفق لا يتعدى هنا حقيقة، وقوله مرتعها قريب في موضمع الحال أي أقبلت قلوص هذين الرجلين قريبة المرتع من رحالهم لما بها من الإعياء فجعلها لازمة فقول المصنف فلا يتعدى يجوز إبقاؤه على ظاهره كما ذهب إليه بعض أرباب الحواشي وعلى هذا يجوز إرجاع قوله فلا يتعدى إلى صار أيضاً لأنها تكون لازمة لكن المصرح به في كتب العربية خلافه، ورواه ابني سهيل بتثنية ابن وسهيل اسم وعلى الأوّل! هو اسم قبيلة وقال أبو العلاء: رفع قلوص رديء لأنّ جعل إذا كانت للمقاربة يكون خبرها فعلا فالأحسن نصب قلوص ويكون في جعلت ضمير يعود على المذكور وجعلت ليست للمقاربة بل بمعنى
صيرت فلا تفتقر إلى فعل ومرتعها قريب جملة في موضع المفعول الثاني وذكر مسألة الشلويين ويؤيده أنه روي بنصب قلوص والقلو عالفتية من الإبل أوّل ما تركب وا! وار جمع كور بالضم والراء المهملة قبلها واو ساكنة الرحل بأدأته كما قاله المرزوقي وغيره فمن قال إنه بالفتح بمعنى جماعة كثيرة من الإبل لم يصب رواية ودراية، ومرتعها مرعاها وقربه لإعيائها لا لكثرة الخصب كما توهم لأنّ الأوّل هو المروي ويعينه قوله اللغوب في البيت الذي يليه، فقد عرفت أنّ قلوص في البيت يرفع وينصب وأنه يصح أن يقال بني وابني كما في شرح شواهد المغني وغيره، وقوله بمعنى صار معنى مستقل غير معنى طفق فمن قال ضم صار إلى طفق مع أنّ صار ليس من أفعال المقاربة إشارة إلى ما ذكره بعض المحققين من أن طفق ونحوها ليس من أفعال المقاربة الموضوعة لدنو الخبر بل موضوعة لشروع فاعله في معنى الخبر فقد خلط وخبط خبط عشواء، واعلم أنّ قول المصنف أو مبتدأ مما سبقه إليه بعض المعربين فذكره المصنف رحمه الله تكميلا للوجوه ولا ينافيه أن يكون فيه ضعف من جهة ما ولا وجه للتشنيع عليه تبعاً لبعض أرباب الحواشي، بقوله إنه أخطأ حيث توهم أن قوله في الكشاف رفع على الابتداء معناه أنه مبتدأ أو مرإده أنه خبر، وإنما عبر به لأن العامل في الخبر عنده الابتداء وأورد عليه أنّ الفاء في الخبر تدل على السببية والصفات المذكورة ليست مقتضية لنفي الإشراك وأطال بغير طائل مما تركه خير منه لكنا نبهناك عليه لئلا يظن بعض العقول القاصرة في سرابه ماء فتدبر. قوله: (وبمعنى صير فيتعدّى الخ (التصيير هو انتقال الشيء من حال إلى حال وخلع المادّة صورة ولبس أخرى وهذا هو الذي يكون بالفعل نحو صيرت الحديد سيفا والسبيكة سواراً وقد يكون بالقول كالتسمية في جعلوا الملائكة إناثا وقد يكون بالعقد أي بتصميم الحكم نحو جاعلوه من المرسلين وجمع المصنف رحمه الله بين القول والعقد لتقاربهما وتلازمهما غالبا وعدم التأثر الحسيّ فيهما ومنه الانتقال إلى حال شرفي كتأثير إحياء الموات في انتقاله إلى الملك وتأثير عقد النكاح، وقيل المراد بالعقد الاعتقاد فإن من يعتقد في شيء أمراً انتقل إليه في اعتقاده، وقيل المراد بالعقد العقد الشرعي المحتوي على الإيجاب والقبول وليس بشيء، وكون قوله تعالى: {جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً} مما تعدى لمفعولين هو الظاهر وقد جوّز أنّ الجعل فيها بمعنى الإيجاد متعد لواحد وفراشاً حال كما مرّ.(2/16)
قوله: (ومعنى جعلها فراشاً الخ) الفراس معروف وما ذكره المصنف رحمه الله ملخص من قول الإمام أنّ مقتضى طبع الأرض! أن يكون الماء محيط بأعلاها لثقلها ولو كانت كذلك لما كانت فراشاً فأخرج الله بعضها، ومن الناس من زعم أنّ كونها فراشاً ينافي كونها كرية كما هو مبرهن في علم الهيئة وليس بشيء لأنّ الكرة إذا عظمت كان كل قطعة منها كالسطح في افتراشه، وقول المصنف رحمه الله من الإحاطة
بها فيه تسمح والأحسن أن يقول كما قال الإمام محيطاً بأعلاها كما لا يخفى. قوله: (متوسطة الخ) التوسط في الأجسام الوقوع في وسطها وهو ظاهر، وفي المعاني والكيفيات الاعتدال من بينها كما هنا فإنها لوكانت كلها صلبة لشق التمكن عليها لتألم الأعضاء ولوكنت لطيفة كالماء والهواء صعب الاستقرار عليها كما لو كانت لينة كالقطن. قوله: (قبة مضروبة الخ) البناء كل ما يرفع ليكتن به صواء كان بيتاً أو خيمة وقد غلب في الأوّل حتى صار حقيقة عرفية فيه وفسره بالقبة وهو أعمّ منها لأنه أكثر وقد جوّز في السماء أن يشمل المجموع وكل طبقة وجهة منها وأن يكون اسم جنس جمعيّ يفرق بينه وبين واحده بالتاء كتمرة وتمر وهم يطلقون عليه الجمع أيضاً وواحده سماءة بالهمز والمد، ويقال أيضاً سماوة بالواو وأمّا سمأة بسكون الميم قبل الهمزة بزنة طلحة فخطأ والبناء مصدر أطلق على المبنيّ بيتاً كان أو قبة أو خباء أو طرافاً وفي الكشهء وغيره من الشروح الأوّل من شعر، والثاني من لبن، والثالث من وبر أو صوف والرابع، من أدم وفي الثاني نظر استعمالاً وفي فقه اللغة عن ابن السكيت ولست من صحة بعضه على يقين خباء من صوف، بجاد من وبر فسطاط من شعر سرادق من كرسف قشع من جلود طراف من أدم حظيرة من شذب خيمة من شجر أقنة من حجر قبة من لبن سترة من مدر، وقوله بنى على أهله الأهل عشيرة الرجل وأقاربه، ويكون بمعنى الزوجة وهو المراد لأنه كان من عادتهم أن يضربوا للعروس خيمة للدخول عليها ويقال بنى على أهله إذا دخل عليها عروساً وتعديته بعلى والناس يقولون بنى بأهله وفي الدرة أنه خطأ والصحيح جوازه سماعا وقياساً كما بيناه في شرحها. قوله: (وخروج الثمار الخ) خروج الأشياء تكوّنها وبروزها وقوله بقدرة الله تعالى ومشيئته إشارة إلى مختار الأشاعرة من أنّ القدرة والإرادة مجموعين هما اللذان يقتضيان وجود الموجودات من غير احتياج إلى صفة التكوين التي أثبتها الماتريدية كما هو مبين في الكلام وقوله جعل الماء الخ جواب عن سؤال مقدّر وهو ما معنى إخراج الثمرات بالماء وإنما خرجت بقدرته وارادته بأنه سبب عاديّ يخلقه الله تعالى ويعني به أنّ عروق الأشجار والنبات التي هي بمنزلة الأرحام أو الأفواه لها تجذب من الرطوبة الأرضية ماء مخلوطا بأجزاء دقيقة لطيفة ترابية هي بمنزلة نطفة يتولد منها الثمار والأزهار أو هي لها بمنزلة المأكل والمشرب فإذا صعد بها إلى الأغصان وطبخت بالشمس والهواء صارت كالكيموس والغذاء الذي يحصل به النماء فيتولد منه ذلك بقدرة خفية وعادة الأهية من غير تأثير لشيء بالذات والواسطة في تكوّنها، والإفاضة استعارة للإعطاء والتفصيل وفيه لطف هنا لمناسبته للماء وفي
جعل ما يجتذب كالنطفة إشارة إلى قوله في الكشاف ما سوّاه عز وجل من شبه عقد النكاح بين المقلة والمظلة بإنزال الماء منها عليها والإخراج به من بطنها أشباه النسل المنتج من الحيوان من ألوان الثمار وفيه إيماء إلى قول الحكماء إنّ الأجرام العلوية كالآباء والسفلية كالأمهات التي تلد الموجودات وتربيها في مهد الوجود وكون النطفة مادّة وسببا ظاهر لأنها أصل الأجزاء وسبب ليكون ما عداها منعقداً معها كالمنشا، والمراد بالصور الأشكال، والكيفيات هي الطعوبم والألوان. قوله: (أو أبدع في الماء قوّة فاعلة الخ) يعني أنّ الباء على ما مر من مذصب أهل السئنة للسببية العادية وعلى هذا وهو ما ذهب إليه الحكماء للسببية الحقيقية والإبداع الإيجاد وقد يطلق عندهم على إيجاد شيء غير مسبوق بمادّة ولا زمان كالإنشاء ويقابله التكوين، والقوّة رسمت بأنها مبدأ الفعل مطلقأ سواء كان الفعل مختلفا أو غير مختلف بشعور وارادة أولاً وقيل هي مبدأ التغير في آخر من حيث هو آخر وهذا هو المراد هنا، وهي تنقسم إلى قوى طبيعية ونفسانية وما هنا من الطبيعية التي بلا شعور، والمراد(2/17)
بنفوس الأسباب أعيانها وذواتها، ومدرجا بكسر الراء حال من ضمير له أو من إنشائها وكونه مفعولاً ثانياً للإنشاء بتضمينه معنى الجعل والتصميير تكلف ما لا حاجة إليه وقوله من اجتماعهما الضمير للقوّتين أو للماء والتراب، والصنائع جمع صناعة أو صنيعة بمعنى نعمة، والسكون بمعنى الاستئناس والاطمئنان وعظيم قدرته وقع في نسخة بدله عظم قدرته بصيغة المصدر مثل كبر لفظ! اً ومعنى، والعبر جمع عبرة كسدرة وسدر الاعتبار والاتعاظ، وقوله وهو سبحانه وتعالى قادر الخ تطبيق لما قالوه على قانون الشرع فإنّ الحكماء لا ينكر " - ن أنه قادر على خلقها ابتداء من غير أسباب ومواد كما ابتدأ خلق الأسباب والمواذ وأبرزها من بطون العدم إلى ظهور الوجود لكن جرت حكمته بعقد الأمور بأسبابها الأقرب إلى العقول لأنه إدل على قوّة قدرته ووفور حكمته لما فيه من خلق الأسباب مستعدة لما أفاضه عليها من التأثير وأدل على عظمته من خلقها دفعة بغير أسباب، وفي رسائل إخوان الصفاء في النبات حكم وصنائع ظاهرة جليلة لا تخفى ولكن صنائعها مختفية محتجبة وهي التي تسميها الفلاسفة القوى الطبيعية ويسميها أهل الشرع ملائكة وجنود الله الموكلين بتربية النبات والمعنى واحد وإنما نسبت هذه المصنوعات إلى القوى والملائكة دون الله لأنه جلت عظمته عن مباشرة الأجسام والحركات الجزئية كما تجل الملوك والرؤساء عن مباشرة الأفعال وان كانت منسوبة إليهم لأنها بأمرهم وارادتهم كما قال تعالى: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ} [سورة الأنفال، الآية: 17] ومن لم يفهم سره قال إنشاؤها دفعة أدلّ على القدرة وأغرب منه قوله أنّ المصنف إن أراد بالقوّة الفاعلة المؤثر الحقيقيّ كان خلاف مذهب أهل السنة والا لم يصح قوله يتولد الخ وقصر السببية على الماء والتراب لأنّ بهما القوام وهما أعظم الأجزاء المادية، ولذا قال خلقه من تراب ومن الماء كل شيء حيّ فسقط ما قيل من أنّ في هذا الاقتصار قصورا، لأنها من العناصر الأربعة. قوله: (ومن الأولى للايتداء الخ) السماء من
السموّ فلذا قالوا: إنّ أصل معناها لغة كل ما علا سواء كان فلكاً أو سحاباً أو نفقا، وحقيقته في العرف يختص بالفلك فإن كان بهذا المعنى فهو ظاهر لأنه المتبادر منه على ما يقتضيه ظواهر الآيات والأحاديث لقوله تعالى: {أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ} [سورة الزمر، الآية: 21] وقوله: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاء} [سورة البقرة، الآية: 19] وأمثاله وورد في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم: " المطر ماء يخرج من تحت العرش فينزل من سماء إلى سماء حتى يجتمع في السماء الدنيا في موضع يقال له الأبزم فتجيء السحاب السود فتدخله فتشربه مثل شرب الإسفنجة فيسوقها الله حيث ماء " وهكذا ورد في، أحاديث كثيرة، وتأويلها بعيد من غير حاجة إليه ومن ذصب إلى خلافه أوّل الآيات بأنّ المراد أنها تنزل من السحاب، وهو يسمي سماء لعلوه أو أنه ينشأ من أسباب سماوية وتأثيرات أثيرية فهو مبدأ مجازي له واليه أشار المصنف رحمه الله وتفصيله كما في كتب الحكمة الطبيعية أنّ الشمس إذا سامتت بعض البحار والبراري أثارت من البحار بخارا رطبا ومن البراري بخاراً يابسا والبخار أجزاء هوائية يمازجها أجزاء صغار مائية لطفت بالحرارة حتى لا تتمايز في الحس لغاية صغرها فإذا صعد البخار إلى طبقة الهواء الثالثة تكاثف فإن لم يكن البرد قويا اجتمع ذلك البخار وتقاطر لثقله بالتكاثف فالمجتمع هو السحاب والمتقاطر المطر، وان كان قويا كان ثلجاً وبرداً وقد لا ينعقد سحاباً ويسمى ضبابا، وتثير مضارع أثار التراب والغبار إذا حركه حتى يرتفع، وقوله من أعماق الأرض جمع عمق والمراد به داخلها والمراد بالأرض جهة السفل فيشمل البحار والأنهار لما عرفته مما قرّرناه لك فسقط ما قيل من أنه لا حاجة لهذا، لأنّ الأكثر ارتفاعها من البحار والأنهار والجوهر ما بين الأرض والسماء لا الهواء نفسه حتى يكون من إضافة الشيء إلى نفسه فيحتاج إلى التأويل وان كان هو أحد معانيه. قوله: (من الثانية للتبعيض) بخلاف الأولى وان جوّز فيها على أنّ التقدير أنزل من مياه السماء لما فيه من التكلف وأقرب منه ما قيل إنها للسببية كقوله تعالى: {مَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا} [سورة نوح، الآية: 25] وقوله بدليل قوله سبحانه وتعالى: {فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ} [سورة فاطر، الآية: 27] استشهاد بنظائره فإنّ التنكير في هذه الآية وتنوينه يدلّ على البعضية في، دره منها لا سيما مع جموع القلة وقوله واكتناف المنكرين له أي(2/18)
وقوعهما قبله وبعده من الكنف بفتحتين وهو الجانب ويقال اكتنفه القوم إذا كانوا منه يمنة وش! رة
كما في المصباح فكون ما بعده وما قبله أعني ماء ورزقا محمولين على البعض يقتضي كونه موافقا لهما وقوله كأنه قال الخ بيان لحاصل المعنى لا إشارة إلى أنه مفعول أخرح لتأويل ممن ببعض أو لجعله صفة للمفعول سدّت مسدّة أو اسم وقع مفعولاً ورزقا مفعول له أو مفعول مطلق لأخرج لأنه بمعنى رزق أو حال كما فيل وستأتي تتمته والمعنى شيئا من الثمرات أي بعضها، وأورد عليه أنّ الظاهر أنّ المقدّر مفعول وكلمة من على حالها تبعيضية صفة للمفعول وكون من التبعيضية ظرفا مستقرّاً لم يجوّزه النحاة اللهمّ إلا أن تكون ابتدائية وهو بيان لحاصل المعنى ولا يخفى ما فيه فإنّ كونها ظرفا مستقرّاً أكثر من أن يحص كقوله منهم من كلم الله ولست على ثقة مما ذكر وستأتي تتمة الكلام عليه في قوله: {كُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلاَلاً طَيِّبًا} [سورة المائدة، الآية ت 88] الآية. قوله: (إذ لم ينزل من السماء الماء كله الخ) بيان لأن التبعيض هو الموافق للواقع في الثلاثة أي الذي نزل من السماء بعضه فرث ماء هو بعد في السماء، ولم يخرج بالماء المنزل منها كل الثمرات بل بعضها فكم من ثمرة هي بعد غير مخرجة به، والمخرح بعض الرزق لا كله فكم من رزق ليس من الثمار كاللحم، وقد يتوهم أنّ قوله ولا أخرح بالمطر كل الثمار أريد به أنّ بعضها يخرج بماء البحر والعيون فينافي ما سيأتي في سورة الزمر من أن جميع مياه الأرض! من السماء وفساده ظاهر لما مرّ، أقول هذا المتوهم هو الفاضل الطيبي حيث قال: فإن قلت يخالف قوله ولا أخرح بالمطر كل الثمار ما قاله في الزمر كل ماء في الأرض فهو من السماء ينزل منها إلى الصخرة ثم يقسم، قلت على تقدير صحة هذه الرواية الفاء في قوله فأخرج به مستدعية للإخراج بعد الإنزال بلا تراخ عادة ومفهومه أن بعضاً من الثمرات يخرج على غير هذه الصورة وهي ما يسقى بماء الآبار والعيون والأنهار فإنها متراخية عن الإنزال لأنه استودعها الجبال ثم أخرجها من الأرض! وأخرج بها بعض الثمرات وتبعه الفاضل اليمني والمدقق في الكشف لم يعرج عليه نفياً واثباتا وفيما قالوه نظر لا يخفى فإنّ قوله ما أخرج بالمطر كل الثمار يفهم منه أنّ بعضها خرج به وهو صادق على خروج البعض بغيره من المياه كما لا يخفى فكيف يدّعي فساده، فإن قيل إنه غير متعين لم يتنم مذعاهم أيضاً وما قيل من احتمال كون من فيه ابتدائية بتقدير من بذر الثمرات أو تفسير الثمرات بالبذر تعسف ظاهر. قوله: (أو للتبيين الخ) فرزقاً مفعول لأخرج بمعنى مرزوق وفيما ذكر من المثال المراد أن عنده من المال معين هو ألف درهم وقد أنفقه لا أنّ عنده أكثر من ذلك إلا أنه أنفق منه ألفا فإنه على هذا تكون من تبعيضية ولذا ناقثه بعضهم في المثال وان كان مثله غير مسموع من المحصلين وهكذا إذا كانت الثمرات للاستغراق، فإنّ المراد بها الجم الكبير كما أشار إليه في الكشاف والمرزوق هنا هو الثمرات، ولكم صفته وقد كان من الثمرات صفة رزقا فلما قدم صار حالاً
على القاعدة في أمثاله إلا أنه تقدم فيه البيان على المبين، وقد اختلف النحاة فيه فجوّزه الزمخشريّ وتبعه كثير من النحاة والمفسرين ومنعه صاحب الدر المصون وغيره، وقال إنّ من ابتدائية سميت بيانية باعتبار مآل المعنى وبه صرّح بعض أهل العربية ومن التي للبيان لا تكون إلا مستقرّاً حالاً أو صفة، وقد تكون خبرا على كلام فيه سيأتي وفي الكشاف فإن قلت فبم انتصب رزقا، قلت إن كانت من للتبعيض كان انتصابه بأنه مفعول له وان كانت مبينة كان مفعولاً لاخرج يعني أنّ من الثمرات على التبعيض مفعول به لا على أنّ من اسم بل على تقدير شيئاً من الثمرات وتقديره بأخرج بعض الثمرات بيان لحاصل المعنى فرزقا بالمعنى المصدري مفعول له، ولكم ظرف لغو مفعول به لرزقا أي أخرج بعض الثمرات لأجل أنه رزقكم، وقد جوّز فيه أن يكون من الثمرات مفعول أخرج ورزقا حال من المفعول أي مرزوقاً أو نصبا على المصدر لأخرج وعلى التبيين رزقا مفعول أخرج كما مرّ. قوله: (وإنما ساغ الثمرات الخ) هذا جواب سؤال تقديره أنّ جمع السلامة المذكر والمؤنث للقلة والمعنى هنا ليس عليها فلم لم يقل الثمار أو الثمر أمّ كون الثمار جمع كثرة فظاهر، وأما الثمر فاسم جنس جمعيّ، وهو مختلف فيه هل هو للكثرة أو للقلة أو مشترك وما ذكر(2/19)
على تقدير أنه يكون للكثرة وأمّا جمع التصحيح فاختلف فيه أيضا على الوجوه الثلاثة والمشهور المنصور أنه موضوع للقلة وحكاية لنا الجفنات الغرّ تؤيده، ولذا زاد ابن الرباح الإشبيلي على قوله:
بأفعل وبأفعال وأفعلة وفعلة يعرف الأدنى من العدد
قوله:
وسالم الجمع أيضاً داخل معها وذلك الحكم فاحفظها ولا تزد
والحاصل مما ذكره في جوابه أمّا أوّلاً فالثمرات جمع ثمرة أريد بها الكثرة كالثمار لا الوحدة الحقيقية إذ التاء فيها للوحدة الاعتبارية فإنّ كل شيء وان كثر فله وحدة بوجه ما ولي! ص واحد الثمر ثمرة بمعنى واحد مشخص من جنس ألثمر بل ثمار كثيرة عرضت لها وحدة باعتبار ما كوحدة المالك فإنها إذا تلاحقت واجتمعت يطلق عليها ثمرة، فالكثرة المستفادة من الثمرات أكثر من المستفادة من الثمار ولا أقل من المساواة والواحد على هذا الثمرة التي في قولهم أدركت ثمرة بستانه وهي في ذلك القول جنس شامل للأنواع الموجودة في ذلك البستان، وقال ابن الصائغ: في تقريره الثمرات وان كان جمكل! قلة فواحده ثمرة شاملة الثمرات لا فرد من أفراد الثمر، ونظيره قولهم كلمة اأحويدرة لقصيدته المشهورة فهو من إيقاع المفرد موقع الجمع ثم جمعه جمع قلة فإن قيل كان يحصل هذا بالثمار الذي هو جمع كثرة فيقال هذا سؤال دوريّ لحصول المقصود بكل من اللفظين وحاصل ما قالوه برمتهم أنه مع كونه جمع قلة يفيد كثرة أكثر من جمع الكثرة أو مثلها، وقد قيل على هذا أمور منها أنّ الشمول في ثمرة بستانه إنما فهم من الإضافة الاستغراقية لا من المضاف ولا إضافة فيما نحن فيه، وقريب منه ما قيل من أنّ ما
ذكر غير ظاهر لأنا لا نسلمه بسلامة الأمير، وقيل أيضاً الثمار جمع كثرة مفرده ثمر، وهو جنس يشمل ثمارا كثيرة فيفيد ما لا تفيده الثمرات لإحاطته بكل جنس يسمى ثمرا بخلاف الثمرات فإنّ آحاد جمع القلة الجموع التي دون العشرة فلا يتناول ما فوقها بغير قرينة على أنّ الثمرات جمع ثمرة وهي واحدة من جنس الثمر لأنّ التاء للوحدة فالثمر لكونه جنسا أكثر من ثمرة وجمعه أكثر من جمعها سواء كان جمع قلة أو كثرة وليس بشيء (وههنا يحث) وهو أنهم قالوا إنه جمع ثمرة مراداً بها ما يشمل الثمرات الكثيرة ووحدته اعتبارية، وقال قدس سره: بهغيره أنه إن لم يكن أكثر من الثمرات فليس بأقل منها، وان كان جمع قلة فيقال لهم الوحدة في ثمرة بستانك جاءت من الإضافة بجعل وحدة المحل أو المالك كالوحدة الحقيقية ولا إضافة هنا فلا بد من اعتبار أمر يصير به واحدا وهو إمّا بجعله صنفا أو نوعا أو جنسا من الثمار وليس فيه ما يجعله واحدا غير هذا فإن كان فعليهم البيان حتى ينظر فيه وعلى هذا يقال إن قلته باعتبار أن آحاده أجناس لا تزيد على العشرة وان كان مفرده قائما مقام الجمع وجنساً تحته ما لا يحصى وكون أجناس الثمار المخرجة بما أنزله الله كذلك غير مناسب للمقام أيضاً، فيعود السؤال وان أراد أن آحاد أجناسه لكونها كثيرة أخرجت الجمع عن القلة لزمهم كون لفظ أجناس وأنواع وأمثالهما جمع كثرة ولا قائل به فلا بد من الالتجاء إلى أن تعريفه أبطل جمعيته فرجع هذا الجواب لما بعده وهو غير صحيح أيضا، وهذا وارد غير مندفع فتدبر. قوله: (ويؤيده قراءة الخ) وهي قراءة محمد بن السقيقع ووجه التأييد أنه ليس المراد بها ثمرة واحدة من غير شبهة فهي واقعة على جماعة الثمار وقوله يتعاور بعضها الخ التعاور من قولهم تعاور القوم كذا واعتوروه إذا تداولوه وتناوبوه فأخذ هذا مرّة وهذا أخرى والمراد أنه يقع كل منهما في موقع الآخر فيكون جمع القلة للكثرة وجمع الكثرة للقلة، وهذا فيما إذا لم يكن للفظ إلا جمعا واحداً ظاهر، وظاهر كلامهم فيه أنه حقيقة وأمّا إذا كان له جمعان أو جموع فلا يقع أحدهما موقع الآخر منكرا إلا مجازا، وقوله كم تركوا الخ وقع فيه جمع القلة موقع الكثرة لقوله كم فإنها تقتضيها وكذا قوله ثلاثة قروء وقع فيه جمع الكثرة وهو قروء موقع القلة لقوله ثلاثة وفيه كلام سيأتي في محله. قوله: (أو لأنها لما كانت محلاة الخ) إشارة لما تقرّر في كتب الأصول والعربية من أنّ الألف واللام إذا لم تكن للعهد ودخلت على الجموع أبطلت جمعيتها حتى تناولت القلة والكثرة والواحد من غير فرق سواء كانت جنسية أو استغراقية، ومن خصه بالثاني(2/20)
وقال: المحلى باللام الاستغراقية لتناوله الآحاد لا يخرج عن حوزة شمول كل واحد من الآحاد بخلاف المعري عنها فإنه قد يخرج عن استغراقه واحد واثنان فيصدق أن يقال لا رجال في الدار وفيها رجل أو رجلان بخلاف لا رجل فقد ضيق الواسع وقصر لما قصر، وليس ما ذكر
من أمور الجمعية سؤالاً وجواباً مبيّ على كون من بيانية كما توهم من تعقيبه به لما عرفته من أنّ اللام إذا لم تكن للعهد تبطل الجمعية لصدق مدخولها على القليل والكثير، ولذا قال المصنف رحمه الله: خرجت عن حدّ القلة ولم يقل دخلت في الكثرة والنكتة في العدول عن الظاهر المكشوف، إذ لم يقل من الثمار للإيماء إلى أنّ ما برز في رياض الوجود يفيض مياه الجود كالقليل بالنسبة لثمار الجنة ولما ادّخر في ممالك الغيب. قوله: (إن أريد به المصدر الخ) أي إذا أريد بالرزق المصدر كانت الكاف في لكم مفعولاً به واللام مقوية لتعدي المصدر واليه أشار بقوله رزقا إياكم، فحذف اللام وفصل الضمير تنبيهاً على زيادتها ومفعوليته، ولولاه كان انفصالاً في محل الاتصال وهو قبيح، وان أريد به المرزوق فلكم صفة له متعلقة بمقدر وقال ابن عقيل بعدما ذكر عن أبي حيان رحمه الله لا يمتنع عكس هذا. قوله: (متعلق باعبدوا على أنه منهي الخ) المراد بالتعلق التعلق المعنويّ، كلعطف وغيره فهو مجرد ارتباط بينهما وفي الكشاف فيه ثلاثة أوجه أن يتعلق بالأمر أي اعبدوا ربكم فلا تجعلوا له أندد الآن أصل العبادة وأساسها التوحيد، وأن لا يجعل لله ند ولا شريك واختلف الشراح فيه وهل هو بعينه ما ذكره المصنف رحمه الله على أنه تلخيص له كما هو دأبه أو لا فذهب ابن الصائغ إلى اتحادهما وقال إنه عطف نهي على أمر للاشتراك في الطلب وهو من عطف المسبب على السبب وفيه نظر فالفاء عاطفة جملة على جملة ولا ناهية والفعل مجزوم بها لسقوط نونه وقال الطيبي رحمه الله أن لا نافية، وهو منصوب جوابا للأمر ولذا علله بقوله لأن أصل العبادة الخ فالفاء جوابية لأنها إما عاطفة أو جواب لشرط أو ما في معناه كالأمر أو زائدة، وفي الكشف تبعا للرازي معناه اعبدوا فلا تجعلوا وفيه إرشاد لأن العبادة تتناول التوحيد، وقوله لأنّ الخ تصريح بذلك فيحتمل أن يكون عطف نهي على أمر، ويحتمل أن يكرن جواب الأمر والأوّل أقرب لفظاً لعدم الإضمار والتأويل، ومعنى لأن التصريح بالنهي أبلغ مع استفادة ما يستفاد من النصب لجعله محتملا للموافقة والمخالفة وجزم الفاضلان بخلافه فقالا إنه نهي متعلق باعبدوا متفرع على مضمونه على معنى إذأ كنتم مأمورين بعبادة ربكم وهو مستحق للعبادة فلا تشركوا لتكون عبادتكم على أصل وأساس فإنّ أصل العبادة وأساسها التوحيد وهذا أولى من جعل القاضي له معطوفا على الأمر لأن الأنسب حينئذ العطف بالواو كقوله تعالى: {وَاعْبُدُواْ اللهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا} [سورة النساء، الآية: 36] وسيأتي ما فيه، وقيل وجه جواز العطف في الجملة إن تجرّد الفاء المجرّد العطف بلا تعقيب وبعتبر التعقيب بين الأمر والنهي عنه أو يراد بالعبادة قصدها وإرادتها وبصح جعل لا تجعلوا جوابا للأمر ولا يخفى أن شيئاً من هذه الوجوه لا تشعر به العبارة ولا يتبادر من الآية وهذا مما في حواشي الرازي حيث قال بعدما ذكر ما مرّ عن صاحب الكشف وفيه نظر لأنه إذا كان أصل العبادة وأساسها التوحيد فاعبدوا إمّا بمعنى وحدوا فلا
يترتب عليه قوله: فلا تجعلوا الخ فالشيء لا يترتب على نفسه أو مغاير له لأنّ التوحيد أصل تتفرّع عليه العبادة فالأمر بالعكس والنصب في جواب الأمر إنما يجوز إذا كان هنا سببية والعبادة ليست سبباً لعدم الشرك إلا أن تجعل من القلب كقوله تعابى: {وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءهَا بَأْسُنَا} [سورة الأعراف، الآية: 4] لأنه ليس في كلامه ما يدل على الترتيب لأنّ التعليق أعمّ منه، أقول يرد على ما في الكشف أنّ كلامه لا يخلو من الخلل لأنّ عطفه وجوابيته تقتضي المغايرة بينهما وينافي قوله لأنّ العبادة تتناول التوحيد لأنّ الجزء لا يعطف على الكل بالفاء وإذا عطف كان بالواو أو حتى نحو قدم الحجاج حتى المشاة، ويردّ على ما قاله الفاضلان أنّ قولهما ما إذا كنتم مأمورين بعبادة ربكم وهو مستحق لعبادة فلا تشركوا لتكون عبادتكم على أصل وأسئاس أنه حينئذ مسبب بحسب الظاهر، فهو جواب شرط مقدر والفاء فصيحة أو قريبة منها والسببية بين الأمر والنهي(2/21)
أي العبادة وعدم الشرك لا تتأتى كما سمعته آنفاً فيما نقلناه لك آنفاً من حواشي العلامة الرازي، ولو سلم ذلك صح العطف بالفاء فيهما من غير فرق فكيف يرتضي هذا ويرد ما ذكره القاضي وقد غفل عن هذا من نقله في شرح كلام المصنف:
ظلم القضاة بعصرناعمّ الورى عجبالقاض يظلم الخصماء
قوله: (أو نفي منصوب بإضمار أن الخ) قيل هذا على تفسير العبادة بالتوحيد وتفسير فلا تجعلوا بلا تعتمدوا على غير الله وتوكلوا عليه كما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما وهذا وان اندفع به ما سيأتي لا يوافق ما فسر به المصنف رحمه الله فانه أبقى العبادة على ظاهرها كما مز، وهو على هذا نفي منصوب بإضمار أن في جواب الأمر كقولك زرني فأكرمك وقد قيل عليه أنه ليس بشيء لأن شرطه كون الأوّل سبباً للثاني والعبادة لا تكون سبباً للتوحيد الذي هو مبناها وأصلها ولذا لم يتعرّض! له الزمخشري ولم يرتض به شراحه، والمنصوب في الجواب منصوب بأن مقدرة فهو مصدر تأويلا معطوف على مصدر متصيد مما قبله هو سبب له فتقديره فيما ذكر ليكن منك زيارة فإكرام مني بسببها وقس عليه الآية في التأويل وأجيب عما أورده شرّاح الكشاف بأنّ المراد بكونه جواب الأمر مشابهته له وحمل الشيء على ما يشبهه واعطاؤه حكمه كثير، وقد قال الرضي: إنّ النصب في قوله كن فيكون في قراءة لتشبيهه بجواب الأمو لوقوعه بعده وان لم يكن جواباً معنى، وقيل العبادة سبب لنفي الإشراك الذي تنافيه ولا تجتمع معه وقيل صحة العبادة سبب للعلم بالتوحيد فلتكن السببية بهذا الاعتبار ونحوه ما قيل من أنه بكتفي فيه بببه الأوّل للإخبار بما تضمنه الثاني كما اكتفى بمثله في الشرط، وما بمعناه كما سيأتي في قوله تعالى: {وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ} [سورة النحل، الآية: 53] أقول هذا كله تكلف تأباه قواعد العربية فلا ينبغي تنزيل التنزيل المعجز عليه فالحق أن يقال إنّ الآية تضمنت عبادة رب موصوف بما يجعله كالمشاهد من خلقه لهم ولا وصولهم عروق الثرى وابداع جميع الكائنات العظيمة والتفضل نجإفاضة النعم الجسيمة فدلت عليه دلالة عرّفتهم به كما أشار إليه
المصنف رحمه الله ثمت بقوله والآية تدلّ الخ فجعلها عنده اعبدوا الله الذي عرفتموه معرفة لا مرية فيها ولا شك في أنّ العبادة والمعرفة سبب لعدم الإشراك فإن من عرف الله لا يسوى به سواه ولذا ذيلها بقوله: {وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} [سورة البقرة، الآية: 22] فمن عنده علم الكتاب عرف الفرق بين هذه الآية، وقوله اعبدوا الله ولا تشركوا به والذي سوّل لهم ما مر النظر للعبادة فقط وقطع النظر عما معها، واعلم أنهم اختلفوا في هذه الفاء فذهب الكوفيون إلى أنها جزائية في جواب شرط تضمنه ما قبلها وذهب البصريون إلى أنها عاطفة كما مرّ، واختار الرضي أنها متمحضة للسببية وإنما صرف ما بعدها عن الرفع إلى النصب للتنصيص على ذلك كما فصله. قوله: (أو بلعل على أن نصب تجعلوا الخ) أي متعلق بلعل واقعاً جواباً له وتتمة قال في الكشاف: أو بلعل على أن ينتصب تجعلوا انتصاب فأطلع في قوله عز وجل: {لَّعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى} [سورة غافز، الآية: 37] في رواية حفص عن عاصم أي خلقكم لكي تتقوا وتخافوا عقابه فلا تشبهوه بخلقه ومعناه كما قال قذس سره إنه على تشبيه لعل بليت ويرد عليه أنه إنما يجوز ذلك إذا كان في الترجي شائبة من التمني لبعد المرجوّ عن الوقوع وقد مز أن لعل هنا مستعارة للإرادة التي ترجح فيها وجود المراد بإعداد الأسباب وازاحة الأعذار فمن أين المشابهة وأجيب بأن النصب هنا للنظر إلى أنهم في صورة المرجوّ منهم المعنى خلقكم في صورة من يرجى منه الإتقاء أي الخوف من العقاب المتسبب عنه أن لا تشركوا، فقوله لكي تتقوا بيان الحاصل المعنى، وأخذ زبدة ما سبق من الاستعارة لا حكم بأنها بمعنى كي وفي النصب تنبيه على تقصيرهم كان المراد الراجح مستبعد منهم كالمتمني، واعترض عليه بأنّ الجواب لا يدفع الاعتراض فإنّ لعل لا ينصب الفعل في جوابه لا بمعنى الأصل أعني الترجي ولا بالمعنى المراد أي الإرادة فلا فائدة في النظر إلى صورة المرجوّ منهم اللهمّ إلا أن يقال شبه أوّلاً الرجاء بالتمني صورة وادّعاء على سبيل الاستعارة بالكناية بقرينة لازمة من النصب ثم استعير(2/22)
لعل للإرادة فيقصد بحسب الواقع والنظر إلى حال المتكلم تشبيه الإرادة بالترجي ويقصد ادعاء بالنسبة إلى حال المخاطب نفسه بالتمني لا باعتبار النصب، لأنهم في صورة المتمني منهم. أقول هذا كله تعسف نشأ من التزإم ما لا يلزم وذلك لأن نجم الأئمة الرضي قال كغيره من سائر النحاة إنّ أهل العربية إنما اشترطوا في نصب ما بعد فاء السببية تقدّم أحد هذه الأشياء لأنها غير حاصلة المصادر فتكون كالشرط الذي ليس بمحقق الوجود ويكون ما بعد الفاء كجزائها على ما حققناه في حواشيه، ومنه علمت أنّ وجهه عندهم إنما هو عدم تحقق الوقوع في حال الحكم لا اسنحالته لعدم صحته في الأمر المطلوب الذي هو أعظم أقسامه كما هنا وهذا متحقق في الترجي والتمني إلا أنّ التمني أقوى منه لرسوخه في العدم وأشهر فلذا نصب جواب لعل إلا أنّ منهم من جعلها ملحقة بليت كالزمخشريّ وابن هشام لأنّ التمني والترجي من واد واحد ومنهم من جعلها من ذلك الباب لأنه لا ينحصر فيما
ذكر كابن مالك في التسهيل تبعاً للفراء فلا حاجة لما ادّعوه سؤالاً وجوابا على الطريقين لأنّ مبناه على أنّ لعل إنما أعطيت حكم ليت لا شرابها معناها وليس بلازم لأنّ الإلحاق والتشبيه! كفيه عدم التحقق حالاً ويعينه أنهم حملوه على الشرط وهو متحقق فيهما مطلقاً ثم إن استشهادهم بهذه الآية بناء على الظاهر، وفيها وجوه أخر كما سيأتي، ولذا قال ابن هشام في الباب الخامس من المغني. قيل في قراءة حفص لعلي أبلغ الأسباب الخ إن اطلع بالنصب عطف على معنى لعلي أبلغ لأنه بمعنى أن أبلغ فإنّ خبر لعل يقترون بأن كثيراً نحو فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجتة من بعض ويحتمل أنه عطف على الأسباب على حد.
للبس! عباءة وتقرّ عيني
وبهذين الاحتمالين علم معنى قول الكوفيين: إن في هذه الآية حجة على النصب في جواب الترجي حملاً له على التمني. قوله: (إلحاقاً لها بالأشياء الستة) وهي الأمر والنهي والاستفهام والعرض والتمني والنفي، وقد أجاز بعض النحاة أن يلحق بها كل ما تضمن نفياً أو قلة كما قاله الرضي، وقد قيل إن المصنف رحمه الله جعله ملحقة بالأشياء الستة وعدل عما قالوه من إلحاقها بليت لما قيل عليه كما عرفته ولعدم مناسبته للمقام لما فيه من تنزيل المرجوّ لبعده عن الحصول منزلة المتمني وبعد المخاطبين الذين منهم المؤمنون عن التقوى بعيد، وبناؤه على تخصيص الخفاب بالكفار يضعفه لضعف مبناه وفيه بحث يعرفه من يتذكر، وقوله لاشتراكها في أنها غير موجبة بكسر الجيم وفتحها أي مضمون ما بعدها لم يقع وتحققه في المستقبل غير معلوم فموجبه من الإيجاب بمعنى الإثبات، ويقابله السلب وكل ما يدلّ عليه في الجملة أو جعله واجبا مجزوماً به في أحد الأزمنة الثلاثة ويقابله ما لا يتعين ولا يتحقق وهو غير الموجب وعلى كل حال يدخل فيه الترجي، فسقط ما قيل من أن غير الموجب عند علماء العربية هو المنفي والنهي والاستفهام لا غير فكيف يشاركه الستة من غير احتياج إلى ما ادّعاه من الجواب، وقيل المراد لاشتراك أكثرها إن أريد بالإيجاب ما ليس بنفي لأن الأمر ليس فيه ناني حتى يشترك معها في أنها غير موجبة أو لاشتراك الكل إن كان المراد إيقاع النسبة والأمر ليس فيه إيقاع لأنّ الإيقاع في الخبر لا الإنشاء فالأمر غير موجب لهذا المعنى وكذا التمني فإن قلت: إن كانت التقوى بالمعنى الثالث لا يناسب ترتب عدم الشرك عليه لتقدمه وإن كانت بالمعنى الأوّل فهي عينه. قلت الاتقاء عن الشرك يترتب عليه عدم الوقوع فيه بالفعل أو هي بمعنى الاتقاء عن العذاب مطلقاً كما في الكشاف فتأمّل. قوله: (والمعنى الخ) أي لا تجعلوا له شيئاً من جنس الأنداد كما سيأتي فلا يتوهم أن المناسب عدم ند واحد لا أنداد لأنه يجتمع مع جعل النذ والندين ثم إنه قيل إنّ المصنف رحمه الله جعل لا تجعلوا نفياً منصوباً وذكر في بيان المعنى ما يقتضي كونه مجزوما وقصد به بيان حاصل المعنى مع إظهار السببية التي هي شرط لتقدير الناصب ولو جعله مجزوما في جواب الأمر جاز أيضاً إذ لا مانع منه، فتدبر. قوله: (أو بالذي جعل الخ) عطف على قوله: باعبدوا أو على
قوله بلعل أي متعلق بالذي إن جعلته مبتدأ وجملة فلا تجعلوا خبره كما صرّح به بقوله على أنه الخ، فالاستئناف بالمعنى اللغوي أي جعله مبتدأ أو بالمعنى الاصطلاحي لأنّ الاستئناف بسببه وليس هذا معنى ما في الكشاف(2/23)
من قوله أو بالذي جعل لكم إذا رفعته على الابتداء أي هو الذي حفكم بهذه الآيات العظيمة والدلائل النيرة الشاهدة بالوحدانية فلا تتخذوا له شركاء لأن معناه أنه جعل الذي مرفوعاً مدحا على أنه خبر لمبتدأ محذوف، والنهي مترتب على ما تتضمنه هذه الجملة أي هو الذي حفكم بدلائل اأضوحيد فلا تشركوا به شيئاً ومن توهم أنه بعينه ما في الكشاف وأنّ المصنف رحمه الله غفل عما أراده فقد وهم وقوله على تأويل مقول فيه أي مستحق لأن يقال فيه ذلك لا أنه وقع ومقول قبله كما لا يخفى، وهذا تأوبل مشهور في كل إنشاء وقع في موقع الخبر، والفاء زائدة في الخبر مشعرة بالسببية لما ذكره، وقوله والمعنى من خصكم بالصاد المهملة أي خص نوع البشر بما ذكر، وفي نسخة حفكم بالفاء أي شمل وعمّ الناس لأنّ الحف معناه الإحاطة فعلى ما ذكره المصنف لا يخلو من ركاكة وتكلف والأولى ما في الكشاف وجعل هذا جزاء شرط محذوف والمعنى هو الذي جعل لكم ما ذكر من النعم الظاهرة المتكاثرة وإذا كان كذلك فلا تجعلوا الخ. وذكر المصمنف له لأنه من جملة المحتملات وتأخيره المشعر بمرجوحيته في الجملة لا ينافيه وما قيل ردا عليه من أنه في غاية الحسن والرصافة كما يظهر لمن تأمّل قوله والمعنى الخ دعوى بغير بينة، وقوله يشرك به بفتح الراء مبنيّ للمجهول، وتقديم لله يجوز أن يكون للحصر كما يفيده تقديم بعض المعمولات على بعض وحقها التأخير لأنّ عدم الند مخموص به تعالى إذ ما من شيء سواه إلا وله نظير وند، وقيل لأنه خبر نكرة في الأصل لازم التقديم فأجرى على أصله وفيه نقر. قوله: (والندّ المثل الخ) المناوي بضم الميم وكسر الواو واسم فاعل من ناواه والمراد به كما فسره الشارح المعادي وأصله من النوى وهو البعد فكني به أو تجوّز به عن المعادأة لأن العدوّ يتباعد من عدوّه ويهوي بعده ومفارقته، ولما فسر أهل اللغة الند بالمثل بالمثل كما قاله ابن فضالة، وفسره أبو عبيدب لضد حتى جعله ب ضهم من الأضداد أشار العلامة في الكشاف إلى اتحادهما وأنه مثل مخصوص فمنهم من أطلق ومنهم من قيد وفي العين الند ما كان مثل الشيء الذي يضادّه في أموره ويقال ند ونديد ونديدة وأجازوا في أنداداً أن يكون جمعاً لنديد أو نذ كيتيم وأيتام وعدل وأعدال، وقا اء الراغب ند الشيء مشاركه في جوهره وذلك ضرب من المماثلة فإنّ المثل يقال في أيّ مشاركة كانت وكل ند مثل وليس كل مثل نذا، وهو من نذ إذا نقر وقرئ يوم التناد أي يندّ بعضهم من بعض نحو يوم يفرّ المرء، فالندّ يقال في المشارك في الجوهرية فقط، والشكل فيما يشارك في القدر والمساحة والشبه فيما يشارك في الكيفية فقط والمساوي فيما يشارك في الكمية فقط والمثل عامّ في جميع ذلك انتهى. وعلى هذا ينزل كلام المصنف رحمه الله،
والقدر الكمية وعدى المصنف رحمه الله خص باللام لتضمنه معنى عين والمصنف رحمه الله كثيرا ما يتسامح في الصلات. قوله: (قال جرير الخ) هو من قصيدة أوّلها:
عفا النسران بعدك فالوحيد ولا يبقى لجدّته جديد
والجعل التصيير القولي أو الاعتقادي وضمنه معنى الضم فعداه بإلى كما قيل والظاهر أنه
لا حاجة إليه إنه يتعدى بها كثيرا لما فيه من معنى الرجوع كما قال تعالى: {أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ} [سورة الشورى، الآية: 53] أي أتجعلون أحدا من تيم وهي قبيلة معروفة مثلا " لي مبارزا معاديا وما منيم من هو نديد ومثل لذي حسب فكيف بمثلي وأنا المعروف بنباهة الحسب وتنوين حسب للتنكير، وقيل للتعظيم وقيل إليّ حال من تيما أو ندا أو استدلّ بالبيت على أنه المعادي وما في الكشف من أنه أراد أنه كذا في أصل وضع اللغة والا فالاستعمال قد يخالفه والبيت إن كان شاهدا لكونه بمعنى المثل مطلقاً ظاهر والا فلا دلألة فيه على المعاداة ليس بشيء لأنّ تيما غير قبيلته وما بين قبائل العرب والمتناهين منهم من العداوة أظهر من أن تخفى على مثله ولا حاجة إلى تفسير المعادي بمن ذلك ذلك شأنه حتى يرجع إلى مطلق المثل. قوله: (وتسمية ما يعبده المشركون الخ) ما في قوله ما زعموا نافية والجملة حالية، وفي قوله تساويه إشارة إلى معنى الند كما مرّ وقوله فتهكم الخ أي شنع عليهم بجمعهم بأن جعلوا أندادا لمن لا ند له ولا ضد كما في الكشاف، وتال الفاضل في شرحه: أنه يشير إلى(2/24)
أنه استعارة تهكمية، وقال قدس سرّه في الردّ عليه بل هو إشارة إلى أنّ هناك استعارة تمثيلية وليست تهكمية اصطلاحية إذ ليس استعارة أحد الضدين للآخر بل أحد المتشابهين لصاحبه لكن المقصود منها التهكم بهم لتنزيلهم منزلة من يعتقد أنها آلهة مثله وفي بعض النسخ لتنزيلهم منزلة الأضداد حيث شبهت حالهم بحال المعتقدين، أقول النسخة الثانية صريحة في أنها استعارة تهكمية بالمعنى المشهور وتحقيقه أن الند كما سمعته آنفا بحسب أصل اللغة ليس النظير مطلقا بل نظيرك الذي يخالفك وينافرك ويتباعد عنك معنى ثم توسع فيه فاستعمل لمطلق المثل كما في قولهم ليس لله ضد ولا ند فإنه لنفي ما يسد مسده وما ينافيه وهم إنما يعتقدون أنّ آلهتهم تناسبه وتقرّب إليه كما قالوا: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ} [سورة الزمر، الآية: 3] إلا أنهم لتمام حمقهم نسبوا لبعضها البنوّة المقتضية لتمام المشاكلة فإن استعير الضد من معناه الأوّل وهو المعادي المبعد للآلهة المقرّبة عندهم كانت من استعارة أحد الضدين للآخر، لأن التضادّ أعمّ من الوضعي، كالتبشير للإنذار في بشرهم بعذاب أليم ومما هو بحسب اللوازم المرادة بلا وضعلها كالأسد للجبان وحاتم للبخيل، وان نظر إلى الثاني وأنه بمعنى المثل مطلقا لم يكن
بينهما تضادّ فيكون من استعارة أحد المتشابهين للآخر بدون تضادّ منزل منزلة التناسب فيكون التهكم فيه غير اصطلاحي لأنها بحسب أحوالهم وأفعالهم مماثلة له تعالى في العبادة لا بحسب الذات وسائر الوجوه إلا أنهم لما جعلوها مثلاً وخصوها بالعبادة دونه وهذه خطة شنعاء وصفة حمقاء في ذكرها ما يستلزم بحميقهم والتهكم بهم فيكون استعارة أي استعارة قصد بها علاقة المشابهة الحقيقية التهكم وهذا معنى غير ما اصطلحوا عليه فالقول به غير متجه والحق ما قاله الشارح المحقق، ومن خرافات بعض العصريين في حواش ومحاكمات له بزعمه بين الفاضلين أنه قال في الردّ عليه قدّس سرّه بعدما حكى كلامه ولا يخفى بعده مع أن الظاهر من قوله كما تهكم بلفظ الندّانة استعارة تهكمية واستعارة أحد الضدين للآخر توجد ههنا لأن التشابه ليس بمطلق بل مشتمل على معنى الضدّية على ما تدلّ عليه المخالفة والمنافرة فاستعمال المثل المقابل القوي المخالف فيما يكون بمعزل عنه من المثل في بعض ما توهموه يكون استعمالاً للقوي في الضعيف وهو عين الاستعارة التهكمية، وقوله أشبهت لبيان وجه الاستعارة في لفظ الأنداد، وما قيل إنه في معناه الحقيقي إذ مدار التشنيع عليه ليس بشيء لأن أوصاف المستعار منه معتبرة في لفظ الاستعارة وبه يتمّ التشنيع انتهى. والبعرة تدلّ على البعير، وآثار الأقدام تدلّ على المسير، وجعل جمع الأنداد للتشنيع لأن من لا ند له كيف يجعلون له أنداداً، ومن الناس من لم يرتض هذا لأنهم كانت لهم أصنام كثيرة فجمعه نظراً للواقع وهو أولى وفيه نظر والتهكم من لفظ الند حيث اختير على المثل والتشنيع من إيراده جمعاً فيبطل ما قيل إنه تسامح والأولى أن يقال تهكم بهم بلفظ الند وشنع عليهم بأن جعلوا أنداداً من غير حاجة إلى تقدير أو تأويل.
قوله: (قال موحد الجاهلية زيد الخ) إشارة آلى ما ذكر في السير من أنه في الفترة وزمن الجاهلية اجتمع زيد المذكور وورقة بن نوفل وعبد الله بن جحش وعثمان بن الحويرث وتذاكروا عبادة الأصنام وأمور الجاهلية فهداهم الله للحق وقالوا إنّ هذه أمور باطلة عقلاَ فتركوا عبادة الأصنام وخرج كل منهم إلى جانب يطلب الدين الحق فلقي زيد أحبار أهل الكتاب بالشأم فسألهم عن العقائد والدين الحق فدلوه على ملة إبراهيم فدان بها وكان يطعن في أمور الجاهلية، ولقي النبيّ صلى الله عليه وسلم قبل أن يوحى إليه وهو زيد بن عمرو بن نفيل بن رباح بن عبد الله ابن قرط بن رزاح بن ربيعة أخي قصيّ أمه وأمّ زيد الجيداء بنت خالد الفهمية وهي امرأة جده نفيل ولدت له الخطاب فهو قرشيّ أخو عمر لأمّه رضي الله عنه ونفيل بنون وفاء ولام مصغر علم جذه وله إشعار في النهي عن أمور الجاهلية منها ما أورد المصنف وهو برمته كما ذكره ابن
عساكر رحمه الله:
آربا واحداً أم ألف رت أدين إذا تقسمت الأمور
تركت اللات والعزى جميعاً كذلك يفعل الرجل البصير(2/25)
ألم تعلم بأنّ الله أفنى رجالاً كان شأنهم الفجور
وأبقى آخرين ببرّ قوم فيربومنهم الطفل الصغيرء
وبينا المرءيعثربات يوما كمايترنح الغصن النضير
ومعناه أنتخذ دينا عبادة ألف رب من الأصنام، وتقسم الأمور بمعنى تفرّقت الأحوال من تسمهم الدهر فتقسموا أي تفرّقوا فهو مبنيّ للفاعل، ووقع في بعضها مجهولاً وله وجه أيضا أي إذا انقسمت الأمور وفوّض اختيار هأ االأمر إليّ لإختار ربا واحدا أم ألف رلت أي كيف أترك رباً واحدا وأختار أربابا متعددة وهذا كقوله تعالى: {أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} اسورة يوسف، الآية: 39] وتوله ولهذا أي لقصد التشنيع والتهكم، والمراد بالألف التكثير لا خصوصيته واللات والعزى صنمان مشهوران سيأتي بيانهما. قوله: (ومفعول ئعلمون مطرح الخ) في الكشاف معناه وحالكم وصفتكم أنكم من صحة تمييزكم بين الصحيح والفاسد والمعرفة بدقائق الأمور وغوامض الأحوال والإصابة في التدابير والدهاء والفطنة بمنزل لا ندفعون عنه، وهكذا كانت العرب خصوصا ساكنو الحرم من قريش وكنانة لا يصطلي بنارهم في استحكام المعرفة بالأمور وحسن الإحاطة بها ومفعول تعلمون متروك، كأنه قيل وأنتم من اهل العلم والمعرفة، والتوبيخ فيه آكد أي أنتم العرّافون المميزون ثم إنّ ما أنتم عليه في أمر ديانتكم من جعل الأصنام لله أنداداً هو غاية الجهل ونهاية سخافة العقل، وهذا هو الوجه الأوّل الذي ذكره المصنف رحمه الله، ومطرح افتعال من الطرح بمعنى الرمي والترك وفي نسخة مطروح وهما بمعنى أي ترك نسيا منسياً وقصد إثبات حقيقة الفعل مبالغة من غير تقدير لمتعلق لتنزيله منزلة اللازم وأهل العلم أصحابه ممن قام به والأهل في غبر هذا يكون بمعنى المستحق، والنظر بمعنى الفكر لا الرؤية البصرية، والتأمّل التدبر واعادة النظر مرّة بعد أخرى، وهو في الأصل تفعل من الأصل وهو الرجاء وأدنى بمعنى أقل وأقرب والعلم يتعدى لمفعولين أو ما يقوم مقامهما. كان المفتوحة المشددة ومدخولها فالمراد بالمفعول في كلام المصنف جنسه لا الواحد حتى يقال إنه إشارة إلى أنّ العلم هنا، بمعنى المعرفة متعدّ لمفعول واحد وقوله اضطز عقلكم الخ برفع عقلكم ونصبه لأنه يقال ضرّه إلى كذا واضطرّه إذا ألجأه إليه وليس له منه بدّ كما في المصباح أي أعلمهم بالضرورة وجود صانع بجب توحيده في ذاته
وصفاته لا يليق أن يعبد سواه فسقط ما قيل عليه من أنّ الأولى أن يقول لاضطرّ عقلكم إلى التوحيد الصرف وردّ الشرك في العبادة لأن الكفار قائلون بانفراده بوجوب الذات وايجاد الممكنات كما قال تعالى: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [سورة الزخرف، الآية: 87] كما صرّح به قبيل هذا في قوله وما زعموا أنها تساويه الخ. قوله: (أو منويّ الخ) المنوفي والمقدّر بمعنى في اصطلاحهم، إلا أنه يلاحظ في التقديرات جانب اللفظ وفي النية الذهن وقوله وهو الخ أي المفعول المقدر قوله أنها لا تماثله وهو سادّ مسد مفعولي العلم، كما مرّ ولما كانت المماثلة عامّة لجميع وجوه المشابهة عطف عليه قوله ولا تقدر على مثل ما يفعله لأنه المقصود بالذات وأثبته بالآية المذكورة فالواو على ظاهرها وقيل إنها بمعنى أو الفاصلة لظهور أنّ المفعول ليس المجموع والثاني بيان له وسقوطه في غاية الظهور وإنما غرّه كلام الكشاف وأشار بقوله أنها الخ كالزمخشرفي إلى أنّ المفعول حذف للقرينة الدالة عليه كما قاله الفاضل اليمنيّ وقول الطيبيّ إنما حذف على هذا القصد التعميم لئلا يقصر على المذكور دون غيره ليس بمناسب لكلام الشيخين. قوله: (وعلى هذا فالمقصود به التوبيخ الخ) التوبيخ الإنكار بمعنى ما كان ينبغي أن يكون نحو أعصيت ربك أو لا ينبغي أن يكون في المستقبل كما في التلخيص وشروحه، والتثريب التعيير والتقبيح وهو قريب منه، واختلف في المراد بقوله هذا فقيل المراد على تقدير كونه حالاً فيشمل الوجهين وفيه مخالفة للكشاف حيث خص التوبيخ بالأوّل وقيل المراد على الوجه الثاني لأنه على الأوّل يمكن إرادة التوبيخ والتقييد فإنه لا تكليف إلا على من قدر على النظر وقيل إنما قصر على هذا لأنّ التوبيخ في الأوّل أظهر وليس فيه احتمال التقييد والزمخشري لما لم يتعرّض(2/26)
للتوبيخ في هذا وتعرّض! له في الأوّل عكس المصنف رحمه الله صنيعه تعريضا بالاعتراض عليه وذهب بعض أرباب الحواشي إلى أنه لو كان القصد من هذه الحال تقييد الحكم كان المعنى لا نهي عن اتخاذ الأنداد حال كونهم جاهلين، وهو فاسد لأنّ العالم والجاهل القادر على العلم سيان في التكليف وقيد الجاهل بالمتمكن من العلم احترازاً عن الصبيّ والمجنون وإنما فرّع هذا على الأخير مع أنّ الحال مقيدة على أيّ وجه كان، لأنّ العلم على الوجه الأوّل مناط التكليف لأنه لا يكون إلا عند كمال العقل فكأنه قال انتهوا عن الشرك حال وجود أهلية التكليف فحينئذ يصح معنى مفهوم المخالفة، وهو أنه لا تكليف عليكم عند عدم الأهلية بخلاف الوجه الأخير لأنه قيد الحكم بتعلق العلم بالمفعول وليس مناط التكليف إنما مناطه العلم فقط فعلى هذا لا يفيد التقييد معنى صحيحاً بالنظر لمفهوم المخالفة لأنه يؤدّي إلى أنه لا نهي عن الشرك عند عدم العلم بأن الأنداد لا تماثله وهو باطل
وهو مبنيّ على مذهب الشافعيّ في 11 مفهوم وعندنا التقييد على الوجهين للتوبيخ قلت: كأنه لما كان التوبيخ معناه كما مرّ الإنكار لما في الواقع لأنه لا ينبغي أشار العلامة إلى أنه جار في الأوّل لأن ما هم عليه من ديانتهم بعبادة الأصنام أمر منكر مناد على غاية جهلهم ربمخافة عقلهم وأما الثاني فمفعوله المقدر وهو عدم المماثلة أو عدم القدرة على مصنوعاته ليس بمنكر في نفسه وإنما قصد به إلزامهم الحجة، أو يقال إنه اقتصر على بيان التوبيخ فيه لأنه الراجح عنده المهتم بيانه ويعلم الثاني بالقياس عليه كما يومئ إليه قوله آكد بأفعل التفضيل والمصنف رحمه الله لما رآه يؤول إليه معنى جعل التوبيخ مشتركا بينهما توضيحاً لما في الكشاف أو بيانا لأنه غير متعين وأمّا تخصيصه بالثاني وجعله مبنيا على مذهبه في مفهوم المخالفة فليس بشيء لأن الأوّل ليس مجرّد العقل والإدراك الذي هو مناط التكليف كما توهموه بل سلامة الفطرة وغاية الدهاء والذكاء فلو جعل قيدأكما قالوه كان البليد والغرّ الأحمق غير مكلف وهو مما لم يقل به أحد ففساده ظاهر لمن له أدنى بصيرة. قوله: (واعلم أنّ مضمون الآيتين الخ) هذا مأخوذ مما في الكشاف إلا أنه فيه جعله مقدّمة لتفسير الآيتين والمصنف رحمه الله جعله خاتمة وفذلكة ومراده بسطه ولكل وجهة، وفيه إشارة إلى أنّ المقصود من الآيتين أي من قوله يأيها الناس إلى هنا الأمر بالعبادة الدال عليه قوله اعبدوا، والنهي عن اتخاذ الشريك للواحد القهار المستفاد من قوله لا تجعلوا الخ وأدرج النفي في النهي لتقارب معنييهما ولأنه المراد من النفي لأنه خبر بمعنى الإلاء ولأنه يعلم بالمقايسة عليه وفي عبارته إشارة إلى أنّ الأمر والنهي صريح فيهما وعلة الحكم وهو السبب الداعي إليه والمقتضي المستلزم له ليس بصريح وإنما يعلم من ترتيب الأمر على صفة الربوبية وتعليقه بها فإنه يقتضي عليتها وتقدمه رتبة وان تأخر في الذكر، ولذا قال المصنف رحمه الله: رتب الأمر بالعبادة على صفة الربوبية، والمراد بالعلة في قوله إشعاراً بأنها العلة لوجوبها الدليل الدال على وجوبها، وقوله ثم بين ربوبيته الخ إشارة إلى قوله الذي خلقكم الخ وهو وصف للرب مبين له ومثبت له بطريق البرهان، وما يحتاجون إليه في معاشهم أي في تعيشهم وحياتهم من الرزق والأمور الضرورية كالملبس والمسكن والمأكل والمشرب وهو إشارة إلى قوله الذي جعل لكم الأرض! فراشاً الخ والمقلة بزنة اسم الفاعل من اتله إذا حمله هي الأرض لأنهم عليها وهي تحملهم والمظلة بزنته من قولهم أظله إذا جعل عليه ظلة وهي كالسقف لا من أظل بمعنى أقبل ودنا كأنه ألقى ظله عليه كما توهم لأنه معنى مجازي لا يلت! تجأ إليه مع ظهور الحقيقة وهي مبينة في اللغة والاسنعمال والمراد بها السماء وقد
شاع هذا حتى صار حقيقة فيهما، وفي الحديث أيّ أرض تقلني وسماء تظلني وقوله والمطاعم الخ إشارة إلى ما تضمنه قوله وأنزل من السماء ماء الخ وأدخل المشرب في المطعم فإنه يشمله كما في قوله ومن لم يطعمه فإنه مني، وقوله فإنّ الثمرة أعمّ الخ إشارة إلى ما قاله الراغب من أنّ الثمرة ما يحمله الشجر ثم عمّ لكل ما يكتسب ويستفاد حتى قيل لكل نفع يصدر عن شيء هو ثمرته، فيقال ثمرة العلم العمل فيشمل كل رزق من مكل ومثرب وملبس سواء كان من النبات كالقطن والكتان أم لا. قوله: (ثم لما كانت هذه(2/27)
الأمور الخ) المراد بالأمور ما خلق من المخلوقات من الأرضين والسموات وما فيهما من الأجرام العلوية وما أنعم به على من بها من الأرزاق والثمار والأمطار، وشهادتها على وحدانيته ظاهرة:
وفي كل شيء له اًية تدل على أنه الواحد
وقوله: رتب عليها النهي إشارة إلى أنّ اختيار الفاء في النظم لترتب ما بعدها على ما فعل
قبلها ترتب المدلول والنتيجة بخلاف قوله: اعبدوا الله ولا تشركوا به حيث عطف بالواو لعدم ذكر الصفات وقد أرشدنا فيما سبق إلى أنّ السؤال المورد في العطف غير وارد عليه بعد التأمّل في كلامه وما في بعض الحواشي من تحقيق معنى السببية المستفادة من الفاء في قوله: فلا تجعلوا حيث ذكرنا أنها معنى موصل إلى التوحيد وأنّ ايئ ي جعل لكم الآية إن كان خبراً عن الضمير المحذوف يفيد معنى التخصيص الدال على تفرّد الصانع ووحدانيته ولما أفاد الكلام المتقذم معنى التوحيد عقلا ونقلاً رتب عليه النهي عن الإشراك به تعالى ترتيب الصسبب على السبب فتدبر. قوله: (ولعله سبحانه وتعالى أراد من الآية الأخيرة) وهي قوله الذي جعل لكم الأرض فراشاً الخ وإنما قال مع ما دلّ عليه الظاهر دفعاً لتوهم أن يراد من الآية معناها التمثيلي دون ظاهرها فانه غير صحيح فاللفظ مستعمل في معناه الحقيقي، إلا أنه يفهم منه تلك الخواص بطريق الرمز والإشارة، ولذا قال سيق فيه ولم يقل سيق له لأنّ المسوق له التوحيد والانتهاء عن اتخاذ الأنداد، ولذا قال بعضهم الأرض وما معها محمول على ما مرّ لا أنها بمعنى البدن ونحوه نإن سمج والمراد أنه ينتقل من العالم الكبير إلى العالم الصغير كما قيل في المثل الشيء بالشيء يذكر وتشبيه الجسم بالأرض لأنه سفل ثقيل مخلوق من عناصرها والنفس
بالسماء لأنها علوية مفيضة للآثار إفاضة السماء على الأرض والعقل بالماء للطافته ونفوذه في كل شيء وإحيائه أرض البدن بعدما كانت هامدة، فلما نزل عليها الماء اهتزت وربت، والعقل، كما قال الراغب يقال للقوى المتهيئة لقبول العلم وللعلم المستفاد بتلك القوّة والقوى وان كانت نفسانية وبدنية وبعضها متصل ببعض آثارها تظهر على البدن نفسه بالقبض الرباني فسقط ما قيل من أنّ العقل إنما يقوم بسماء النفس وكذا الفضائل غير قائمة بالبدن فلا يلائم تفسير الماء النازل من السماء بالعقل إذ ليس نازلاً منها بل قائماً بها وكذا تشبيه الفضائل بالثمرات، ثم قال المراد!. ل! سماء عال! القدسء ث كأ. الأ. ضى النف! ى: مى الماء ال! -، هـ أعور، الصعك ف:! الثو ات ما يترتب عليها من الفضائل، وقوله: وازدواج القوى الخ إشارة لما قلناه والقوى السماوية كحرارة الشمس، وقوله بقدرة الله متعلق بقوله المنفعلة. قوله: (فإنّ لكل آية ظهرا وبطنا ولكل حدّ مطلعاً) أصل البطن الجزء المعروف من الحيوان ويقابله الظهر، ثم قيل للجهة السفلى والعليا بطن وظهر، ويقال لما يدرك بالحس ويظهر ولما يخفى، والحدّ الحائز بين الشيئين والنهاية، والمطلع بضم الميم وتشديد الطاء وفتح اللام ثم عين مهملة من اطلع على كذا افتعل إذا أشرف عليه وعلم به والمطلع مفتعل اسم مفعول وموضع الإطلاع من المكان المرتفع إلى المنخفض كذا في المصباح، وقوله ولكل بالتنوين خبر مقدّم وحد مبتدأ مؤ%س، ومطلع معطوف عليه إن رفع كما في بعض الروايات ولو أضيف كل لحدّ نصب مطلعا بالعطف على ظهراً كما في كثر النسخ، وهذه العبارة بعض من حديث صحيح روي من طرق شتى بعبارات مختلفة يطول تفصيلها وشرحها فعن الحسن البصريّ مرسلاً أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: " أنزل القرآن على سبعة أحرف لكل آية ظهر وبطن ولكل حدّ ومطلع ". وروى الطبراني أنّ عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: إنّ هذا القرآن ليس منه حرف إلا له حدّ ولكل حدّ مطلع وخرّجه صاحب المصابيح والطحاوي في الآثار وفي معنى السبعة أحرف أقوال كثيرة ليس هذا محلها وإن تعرّض لها بعضهم هنا تكثير للسواد، قال البقافي في كتابه مصاعد النظر. ومن خطه نقلت قال الحسن الظهر الظاهر والبطن السرّ من قول بعض العرب ضربت أمري ظهر البطن والحذ الحرف الذي فيه علم الخير والشرّ، والمطلع الأمر والنهي والمطلع في كلام العرب العلم الذي يؤتى منه خبر(2/28)
بعلم القرآن والمصعد الذي يصعد إليه في معرفة علمه، وفسر في الغريب المطلع بموضع الإطلاع من أشراف نجد ويكون المصعد من أسفل إلى المكان المشرف فهو من الأضداد،
وقيل الظهر لفظ القرآن والبطن تأويله وقيل الظهر ما قص من القصص وبطنه ما في القصص من العظة فالحاصل أنّ الظهر ظاهر الكلام والبطن ما يخص به العلماء مما يحتاج للتأويل، والحد غاية ما ينتهي إليه من الظاهر، والباطن والمطلع الطريق الموصل للحد، وهذا مراد المصنف كما يشهد له سياقه. يعني أنه سبحانه لم يخاطبنا إلا بما يمكن فهمه إمّا للعامّة أو للخاصة الذين يطلعهم على الطريق الموصل للحدّ وفي عوارف المعارف للسهروردي هذا الحديث محرّض لكل طالب ذي همة على أن يصفي موارد الكلام ويفهم دقائقه وغوامض أسراره فإذا تجرّد عما سواه كان له في قراءة كل آية مطلع جديد، وفهم عتيد، ولكل فهم عمل جديد يجلب صفاء الفهم ودقة النظر في معاني الخطاب وعمل القلب غير عمل القالب وهونيات وتملقات روحانية ومسامرات سرّية فكلما أتوا بعمل اطلعوا على مطلع من فهم الآية جديد، وفهم عتيد وعندي أنّ المطلع أن يطلع عند كل آية على شهود المتكلم بها وبتجدّد له التجليات بتلاوة الآيات، وعن جعفر الصادق رضي الله عنه أنه قال قد تجلى الله لعباده في كلامه ولكن لا يبصرون، وهذا مقام رفيع وقيل وراءه مقام آخر يسمى ما بعد المطلع وقد قيل إنّ لهذا الحديث أيضا ظهراً وبطناً ومطلعاً، وقد جاء في الحديث أن للقرآن ظهراً وبطناً ولبطنه بطنا إلى سبعة أبطن. وروي إلى سبعين بطنا كما في تفسير الفاتحة للفنارقي رحمه الله. قوله: (لما قرّر وحدانيته الخ) إشارة إلى أنّ هذه الجملة معطوفة على ما قبلها لما بينهما من المغايرة الظاهرة والمناسبة التامّة لأنّ توحيد الله وتصديق رسله تعالى عليهم الصلاة والسلام توأمان لا ينفك أحدهما عن الآخر، والتقرير جعل الشيء قارّاًك ص به عن الإثبات وصار حقيقة فيه ولم يذكر وجوب عبادته إمّا لجعله معطوفا على لا تجعلوا أو لاً نه مقدّم للوحدانية ولازم لها، والطريق الموصل هو النظر في الأمور الموجبة للعلم بذلك من الأنفس والافاق المشار إليها بالرب وصفاته وذكره على عقبه لما مرّ إشارة إلى أنّ التوحيد لا ينفع بدون الاعتراف بنبوّته عليه الصلاة والسلام وقيل إنه لما أوجب العبادة ونفى الشرك بإزالة الآيات والانقياد لها لام يمكن بدون التصديق بأنّ تلك الآيات من عند الله أرشدهم إلى ما يوجب هذا العلم وهذا أنسب بالسياق حيث لم يقل وان كنتم في ريب من نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم بل في ريب مما نزلنا ثم قال: إنّ الآية كما تزيل الريب تزيل الإنكار لكن خصر هذا إشارة إلى أنّ غاية ما يتوهم الريب دون الإنكار فإنه بمعزل عن التوهم
فلا يلتفت إلى إزاحته ولذا لم يقل إن كنتم مرتابين مبالغة فيه أي إن كنتم محاطين بالريب يندفع عنكم بهذا الطريق وليس بشيء لأنّ العدول عن جعل ما مرّ برهانا عقلياً مستقلاً إلى كونه برهانا سمعيا يأباه السياق لأنه لو أربد ذلك، قال اعبدوا الله ولا تشركوا به كما في غير هذه الآية الواردة بعد الإثبات لأنه يضيع حينئذ تفصيل الأدلة الأنفسية والآفاقية وتصير لغواً خالية عن اللطائف السابق تقريرها. قوله: (وهو القرآن المعجز بفصاحته الخ) إشارة إلى المذهب الحق في الإعجاز، وبذت بالذال المعجمة بعد باء موحدة وكذا بالزاي المعجمة بمعنى غلمث وقهر، ومنه المثل من " عزيز " والمنطيق بكسر الميم صيغة مبالغة من النطق وهو البليغ الكثير نطقه، والإفحام بالفاء والحاء المهملة إسكات الخصم بالحجة حتى يسودّ وجهه ويصير كالفحمة وأصله من فحم الضبي إذا بكى حتى انقطع صوته، والمضاذة مفاعلة من الضد بمعنى المعاندة، والمضارّة مفاعلة من الضرر والمعازة بالزاي المعجمة المغالبة والمعارّة بالراء المهملة المخاصمة من المعرّة وهي الفضيحة لأنه يحرص على تفضيح خصمه، والمصقع البليغ والعرب العرباء الخلص كما مرّ في أوائل الديباجة وفي كلامه تجنيس حسن ويعرف إعجازه ونفي الريب عنه بعدم قدرتهم وهم أفصح الناس على مضاهاته ومعارضته وهو يقتضي أنه ليس من كلام البشر، وأمّا احتمال أنه عليه الصلاة والسلام خلق أفصح الناس حتى لا يقدر على مثل كلامه أو أنه كلام ملك فغير ضارّ لعدم تسليم الأوّل ولذا لم يقله أحد(2/29)
منهم وكذا. الثاني لو نزل عليه ملك كان نبياً، وقوله: وافحام من الخ بإضافة الإفحام إلى من كما في أكثر النسخ وقد قيل عليه أنه عطف على قوله نبوّة ولا وجه له لأنّ الحجة لا تقوم على الإفحام بل بعده وفي بعض النسخ إفحامه بالإضافة إلى الضمير عطفاً على فصاحته ولا وجه له أيضاً لأن الباء في المعطوف عليه للسببية فالعطف عليه يقتضي أن يكون إفحامه لمن طلب معارضته سبباً لإعجازه، وليس كذلك بل الأمر بالعكس فالصحيح أن يقال وأفحمت بصيغة الفعل المعطوف على بذت وليس بشيء لمن له أدنى تدبر فإن دفعه على طرف الثمام. قوله: (وإنما قال مما نزلنا الخ) يعني لم يعبر بالأفعال بلى بائتفعيل المقيد للنزول لأنه من أسباب ريبهم وكذا قوله عبدنا لأنهم قالوا لما رأوا نزوله منجماً على عادة الشعراء والخطباء لو كان من عند الله جاء دفعة واحدة كغيره من الكتب الإلهية ولجاء به إلينا ملك بلا واسطة فردّ عليهم بأنه نجم لأجل المصالح والوقائع وليسهل حفظه له عليه الصلاة والسلام ولأمّته كما يدلّ عليه قراءة الجمع، وقد قيل إنّ المراد بالعباد الرسل لأنّ كتبهم نزلت بلغة قومهم فالريب في هذا ريب فيها وفيه نظر، فالمعنى إن كان ريبكم لهذا فأتوا بمقدار نجم منه وأنه أسهل ومن عجز عنه عجز عن غيره بالطريق الأولى ففي هذا
التعبير إشارة إلى منشاريبهم بتضمن ردّه على وجه أبلغ وإلى أنّ المنزل عليه أشرف المخلوقات من الملائكة وغيرهم لإنه أخص خلقه وأقربهم منزلة منه، وقوله نجما فنجما أي مفرّقاً ومرتباً لأنّ مثله من الحال يدل على الترتيب نحو علمته النحو بابا بابا وقد يقرن مثله بالفاء للتصريح بالمراد نحو ادخلوا الأول فالأوّل، والنجم اسم للكوكب ولما كانت العرب بوقت بطلوع النجوم لأنهم ما كانوا يعرفون الحساب وإنما يحفظون أوقات السنة بالأنواء سموا الوقت الذي يحل فيه الأداء نجماً تجوّزا ثم توسعوا حتى سموا الوظيفة لوقوعها في الوقت الذي يطلع فيه النجم واشتقوا منه فقالوا نجمت الشيء إذا وزعته وفرّقته ومنه ما نحن فيه، وما ذكره من أن فعل بالتضعيف يدلّ على التنجيم المعبر عنه بالتكثير كما ذكره الزمخشريّ وغيره مشهور وقد اعترض عليه بأنّ التضعيف الدال على ذلك شرطه أن يكون في الأفعالط المتعدية قبل التضعيف غالباً نحو فتحت الباب وقد يأتي في اللازم نحو موّتت الإبل والتضعيف الدال على الكثرة لا يجعل اللازم متعدّياً وما يفيده للنقل لا للتكثير، وقد جعلهما النحاة كما في المفصل وغيره معنيين متقابلين والاستعمال على خلافه كقوله تعالى {لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ} جملة واحدة إذ لا وجه لذكر كونه جملة حينئذ وقوله: {لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ} [سورة الأنعام، الآية: 37] فإن ادّعى أنه يستفاد من التقابل ونحوه كما قيل فلا قرينة هنا، وعندي أن هذا المعنى غير التكثير المذكور في النحو، وهو التدريج بمعنى الإتيان بالشيء قليلاً قليلا كما ذكروه في تسلل حيث فسروه بأنهم يتسللون قليلاً قليلاً من الجماعة قالوا ونظيره تدرّج وتدخل ونحوه رتبه أي أتى به رتبة رتبة وهو غير التكثير لإشعاره بخلافه وقد حصروه في هذه الأمثلة فهو مغاير لما في كتب العربية فلا يخالف ما هنا كلامهم فيه، كما توهموه وحينئذ تكون صيغة فعل بعد كونها للنقل دالة على هذا المعنى إما مجازا أو اشتراكا فلا يلزم اطراده فتدبر. قوله: (وأضاف العبد الخ) يعني أنّ إضافته لضمير الله الذي هو بصيغة العظمة تعظيماً له وتشريفا لقدر. لأنّ الإضافة تكون لتعظيم المضاف أو المضاف إليه أو غيره كما فصل في المعاني، والتنويه من قولهم نوّه به تنويهاً رفع ذكره وعظمه وفي حديث عمر رضي الله عنه: أنا أوّل من نوّه بالعرب أي رفع ذكرهم بالديوان والإعطاء. قوله: (والسورة الطائفة من القرآن الخ) الترجمة تكون بمعنى نقل الكلام من لغة إلى أخرى والناقل ترجمان وبمعنى مطلق التبليغ كما في قوله:
إن الثمانين وبلغتها قدأحوجت سمعي إلى ترجمان
وبمعنى التسمية وهو المراد هنا أي المسماة والملقبة باسم مخصوص كسورة الفاتحة أو مشترك كسورة الطلاق وحم والمراد تفسير سورة القرآن لأن أجزاء غيره من الكتب السماوية
تسمى سوراً أيضاً كسورة الأمثال في الإنجيل. قيل وبه خرج الآيات المتعددة من سورة واحدة أو سور متفرّقة وقد نقض هذا(2/30)
التعريف بآية الكرسي، وأجيب بأنه مجرّد إضافة لم يصل إلى حدّ التسمية والتلقيب وهو مكابرة لأنّ كثر السور من قبيل الإضافات كسورة آل عمران، وقد وردت تسمية آية الكرسي في الأحاديث الصحيحة واشتهرت على الألسنة فالقول بأنه لم يصل إلى حدّ التسمية لا وجه له، والحق أنه غير وارد رأساً لأن تلقيبها بإضافة الآية ينادي على أنها ليست بسورة فلا يرد نقضا وأيضا المراد أنها طائفة على حدة ليست جزءا من سورة أخرى إذ الآيات يعتبر فيها الاندراج في غيرها، والسور معتبر فيها الاستقلال وهذه غير مستقلة فهي خارجة من غير حاجة إلى التأويل أصلا، والجواب بأنّ المراد المترجمة في المصاحف يردّه أنها بدعة ليست في الإمام وما ضاهاه وما يقال من أنه إن أريد بما ذكر تفسير سورة القرآن فلا يناسب المقام لأنه شامل للسورة التي يأتي بها المتحدي فرضاً وليست منه وإن أريد المطلق لا يصح قوله من القرآن غير وارد لأنّ المراد الأوّل ولما كان سورة المتحدي لم تقع لم يلتفت إليها أو هي داخلة فيما يعارض به ادّعاء فرضيا كما لا يخفى، وقوله أقلها ثلاث آيات المراد به أن جن! تلك الطائفة المسماة بالسورة متفاوت قلّه وكثرة في إفرادها وغاية قلتها ثلاث آيات وبهذا ينكشف المقصود زيادة انكشاف فلا يرد أنّ هذا القيد يوجب أن لا يصدق التعريف والتفسير على شيء من السور، وبه يعلم أيضاً أنّ تلك الآية على تقدير كونها مسماة بذلك الاسم خارجة عن السورة كما أفاده قدّس سرّه والظاهر من قيود التعريف أن تكون أوصافا للأفراد لا حالاً للجنس والقلة والكثرة من صفات الجنس لكن بالنظر إلى الإفراد ربما كان هذا اللفظ صحيحاً سوأء كان في التعريف أولاً، فلا يرد ما ذكره على الشارح الفاضل حيث قال إنّ هذا تنبيه على أنّ أقل ما يتألف منه السورة ثلاث آيات لا قيد في التعريف إذ لا يصدق على شيء من السور أنه طائفة مترجمة أقلها ثلاث آيات لأنه إن أراد أنه يصح إدخاله في التعريف من غير تأويل فغير مسلم لما عرفته آنفاً وان أراد بتأويل ما يجعله صفة للإفراد بأن يكون المراد أقل نوعها أو التي لا تكون أقل من ثلاث آيات فقد أشار إليه الشارح بقوله وفيه تأمّل، والطائفة من الناس جماعة ومن الشيء قطعة وهذا هو المراد. قوله: (من سور المدينة لأنها الخ) السورة الواحدة من البناء المحيط نقلت لما ذكر لكنهم فرقوا بينهما فجمعوا الأوّل على سور بضم فسكون والثاني على سور بضم ففتح وما في القاموس مما يوهم التسوية بين الجمعين فيه نظر لا يخفى، وعدل المصنف عما في الكشاف من أنها طائفة من القرآن محدودة محوزة على حيالها كالبلد المسوّر لما قيل عليه من أنه يقتضي أن تسمى تلك الطائفة سورة تشبيها لها بالبلد لا سورة تشبيهاً بحائطها وإن أجيب عنه بأنّ السورة أطلقت على ذي السورة كما يطلق الحائط على المحوّط في قول العرب للحديقة حائطا ثم نقل منه إلى الطائفة اأحذكورة نقلاً مرتباً على المجاز وفي الثاني نقل فقط وفي الكشف في تقرير ما
في الكشاف السورة مشتملة على أجزائها اشتمال الكل على أجزائه واحاطة الكل بمفرداته وهو أتمّ الإحاطة، ولولا أنّ تلك الآيات والكلم نزلت منزلة المحال والبيوت في البلد لم يصح هذا التشبيه وهذا الإطلاق على هذا الوجه فصح أنّ النظر في هذا التشبيه إلى المحاط أوّلاً واندفع ما عسى أن يختلج في بعض الخواطر أنّ المناسب على هذا التقدير أن تسمى الطائفة المذكورة المسوّر لا السورة لأنها إذا! ميت بالمسوّر فأين السور وردّ بأنه مخالف لما في تقرير الكتاب لأنّ المعتبر فيه كون السورة محاطة أي محدودة محوزة لا كونها محيطة بأجزائها بل ما ذكرتم هو بعينه الوجه الثاني إلا أنه أبدل فيه فنون العلم وأجناس الفوائد بالآيات والجمل وهو غير وارد لأنه يعني أنّ آياتها وكمالاتها شبهت بالمنازل فجميع أجزائها. كالبلد المسوّر والكل من حيث هو كل مشتمل عليها كالسور والمغايرة بينهما اعتبارية فإنها من حيث إنها أجزاء مجتمعة مدينة وبلد ومن حيث كليتها سور فقوله في الكشاف كالبلد المسور تشبيه للطائفة وهي الكلم وما تركب منها من الآيات وفي قوله المسور إشارة إلى أنها ذات سور وليس معها شيء آخر يشبه بالسور فلزم أن يكون السور الكل المجموعي من حيث اشتماله على ما ذكر ومخالفته لتقرير الكتاب كما قيل ليست بظاهرة، وأمّا في الثاني فالألفاظ محيطة(2/31)
بالمعاني وأين هذا من ذاك، والحاصل أنّ الهيئة الاجتماعية التي لا جزاء السورة بمنزلة السور والآيات بمنزلة بيوت البلد، وفي قوله البلد المسوّر إشارة إلى المحيط والمحاط به لا المحاط به فقط كما قيل، وأمّا ما قيل على المصنف رحمه الله من أنّ في كلامه نظراً لأنّ السورة ليست محيطة بطائفة منه بل مشتصلة عليها اشتمال الكل على الأجزاء لا الظرف على المظروف فهو كما قيل:
سارت مشرقة وسرت مغرّبا شتان بين مشرق ومغرب
وقوله مفرزة بمعنى مفصولة مميزة عن غير! بالمبدأ، والمقطع من فرزت الشيء أفرزه
إذا عزلته عن غيره وميزته كما في الصحاح وأمّا افريز الحائط لطنفه فمعرّب رواز وقد عرّبو. قديماً كما في كتاب المغرب ومنه قول أبي نواس في بركة في روضة:
بسط من الديباح بيض فروزت أطرافها بفراوز خضر
ومحوزة أي مجتمعة وحيالها انفرادها عن غيرها والحاصل أنها مستقلة ممتازة بحيز يخصها. قوله: (أو محتوية على أنواع الخ) هذا هو الوجه الثاني في الكشاف وهو أنّ السورة اسم للألفاظ والمسوّر المحاط بها هو المعاني لأنّ الألفاظ كاللباس والقوالب للمعاني، وأشار إلى وجه الشبه بقوله احتواء الخ. قوله: (أو من السورة التي هي الرتبة الخ) الرتبة من رتب الشيء رتوبا استقرّ ودام فهو راتب وهي كالمنزلة والمكانة وعلى هذا شبهت السور بالمراتب المحسوسة لأن القارئ يترقى في تلاوتها واحدة بعد واحدة كما يرقى الصاعد للمراتب العلية أو لأنها ذات مراتب متفاوتة في الشرف والثواب والفضل والطول والقصر، وتفاوت بعض القرآن في مراتبه بحسب ما ذكر مما صرّح به في الفقه اكبر، وله تفصيل في شروحه وهو لا ينافي
قوله تعالى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا} [سورة النساء، الآية: 82] الآن مثل هذا الاختلاف لا يضرّ كما سيأتي في تفسير هذه الآية، والبيت المذكور من قصيدة للنابغة الذبيان مسطورة في ديوانه أوّلها:
نبئت زرعة والسفاهة كاسمها يهدي إليك أو أبد الأشعار ومنها:.
فلتأتينك عداوتي وليدفعن ألف إليك قوادم اكوار
رهط ابن كوز محقبو أدراعهم فيهم ورهط ربيعة بن حذار
ولرهط حرّاب وقدّ سورة في المجد ليس غرابهابمطار
وحرّاب بزنة حسان فعال من الحرب بالحاء والراء المهملتين وفي شرح شواهد الكشاف
أنه روي بالزاي المعجمة أيضاً ولم يذكره أبو عبيدة في شرح ديوانه، وقذ بفتح القاف وتشديد اندال المهملة وفي بعض شروح الكشاف بالذال المعجمة وهما غلمان لرجلين من بني أسد، وقال الصاغاني: هما ابنا ملك ولا منافاة بينهما، وقوله ليس غرابها بمطار هو مثل كني به عن الخصب وكثرة الثمار بحيث إذا وقع الغراب والطير فيها لا يذاد عنها لكثرة ثمارها، وقيل إنه كناية عن رفعة الشأن والمرتبة أي لا يصل إليها الغراب حتى يطار أو لا تصل الإشارة إلى غرابها حتى يطار وهو كقوله:
ولا ترى الضبّ بها ينحجر
أي لا غراب بها ولا إطارة وهذا أنسب بالبيت المذكور ومثله قول النابغة أيضاً:
ألم تر أنّ الله أعطاك سورة ترى كل ملك دونها يتذبذب
قوله: (لأن السور كالمنازل الخ) إشارة إلى أنّ الرتبة يجوز أن تكون حسية ومعنوية كما
مرّ، وهذا معنى قوله في الكشاف لأنّ السور بمنزلة المنازل والمراتب يترقى فيها القارئ وهي أيضاً في أنفسها مترتبة طوال وأوساط وقصار أو لرفعه شأنها وجلالة محلها في الدين، وقيل بينهما تخالف فإنه في الكشاف جعل وجه التسمية أمرين كون السور كالمنازل والمراتب يترقى فيها القارئ وهي أيضاً في نفسها مرتبة طوال وقصار وأوساط وثانيهما رفعة شأنها وجلالتها في الدين والمصنف عدل عنه وجمع الرتب في الطول والقصر والتوسط مع التفاوت في الشرف والفضل والثواب لأن التسمية إمّا باعتبار مراتب القارئ(2/32)
فيها وأمّا باعتبار أنها في أنفسها منازل منفصل بعضها عن بعض فيناسب بذلك جمع طولها وقصرها مع تفاوت مراتبها في الفضل، وقد وجه قدس سرّه ما في الكشاف بأنه يريد أن الرتبة إن جعلت حسية فلأن السورة يترقى فيها
القارئ ويقف عند بعضها أو لأنها في أنفسها منازل منفصل بعضها عن بعض متفاوتة في الطول والقصر والتوسط وإن جعلت معنوية فلتفاوت رفعة شأنها وجلالة محلها في الدين كل واحدة منها رتبة من تلك المراتب ولا يخفى أن صنيع الزمخشريّ أحسن والمصنف لم يميز الحسيّ من المعنويّ ففي كلامه تسمح إلا أنّ المراد ما في الكشاف. قوله: (وإن جعلت مبدلة الخ) أي إن جعلت السورة مهموزة أبدلت همزتها واواً على القياس المعروف فهي من السؤر ونقل إلى البعض والقطعة مطلقاً وأخروه لما قيل من أنه ضعيف لفظاً إذ لم يسمع همز. ولم ينقل في قراءة من السبع أو الشواذ وان أشعر به كلام الأزهري حيث قال أكثر القرّاء على ترك الهمزة ومعنى لأنها اسم ينبئ عن قفة وحقارة ويستعمل فيما فضل بعد ذهاب الأكثر، ولا ذهاب هنا إلا تقديراً بالنظر إليها نفسها وفيه أنه قال في الدرّ المصون أنها لغة تميم وغيرهم يقولون سؤرة بالهمز، وما ذكر إن كان باعتبار الأغلب فمسلم لكنه لا يرد هنا والا فاللغة تشهد بخلافه ولا يلزم من كون ذلك أصلها أن يلزمها ألا ترى أنّ لفظ سائر من السور، وقد تخلف عنه ما ذكر. قوله: (والحكمة في تقطيع القرآن الخ) أي جعل القرآن سورا مفصلة يشتمل على فوائد وحكم جليلة كما في سائر أفعاله:
من عرف الله أزال التهمه. وقال كل فغله لحكمه
فمنها إفراد الأنواع أي جعل كل نوع منها على حدة أو كل أنواع متناسبة في سورة مستقلة، وتلاحق الأشكال المراد بالتلاحق وهو تفاعل من اللحوق الاتصال والمقاربة، والأشكال بفتح الهمزة جمع شكل كضرب وهو ما يماثل الشيء قال الله تعالى: {وَآخَرُ مِن شَكْلِهِ} [سورة ص، الآية: 58] وبقال الناس أشكال وآلاف كما قيل:
إنّ الطيور على أشباهها تقع
وتجاوب النظم التئامه وائتلافه حتى كان بعضه يجيب بعضاً منه وهو استعارة حسنة والترغيب فيه لأنه إذا سهل حفظه يرغب فيه وقوله نفس ذلك عنه بتشديد الفاء تفعيل من النفس بالفتح وله معان منها الفرج، ويقال اللهتم نفس عني أي فرج عني كربي وهذا منه والمعنى خفف تعقبه وأراحه، وقوله كالمسافر تشبيه للقارئ وقد ورد في الحديث تسميته بالحال المرتحل والبريد مساقة معلومة وهو معرّب بريده دم أي مقطوع الذنب لأنه كان يوضع فيه دواب لاتصال العمال والإخبار بسرعة للخلفاء وتجعل تلك الدواب كذلك لتكون علامة لها ثم
سمي بذلك الرسول والمحل والمسافة وهو اثنا عشر ميلاً، والميل ثلاثة فراسخ والفرسخ اثنا عشر ألف خطوة وطيّ البريد قطع المسافة وحذقها بزنة ضربها بحاء مهملة وذال معجمة وقاف أي أتم قراءتها مجاز من قولهم سكين حاذق أي قاطع كما في الأساب وغيره والحذق في الأصل الذكاء وسرعة الإدراك وابتهج بمعنى فرج وسرّ وقوله إلى غير ذلك من الفوائد يتعلق بمقدر وهو متصل بأوّل الكلام أي فمن ذلك التقطيع ما ذكر من الحكم مضمونا إلى غيره مما يعلم بالقياس على المذكور ويجوز تعلقه بقوله ابتهج بتضمنه معنى نشطه وهيجه إلى غير ذلك والأوّل هو المراد ومن الفوائد أنه أبلغ في إظهار الإعجاز وذلك لأنه إذا فصل القرآن إلى سور تفصيل كلام البلغاء، ومع ذلك عجزوا عن أقصر سورة منه كان ذلك أبلغ في التعجيز كما مرّت الإشارة إليه وما ذكر من الفوائد منها ما يتعلق بالمقروء ومنها ما يتجلق بالقارئ ومثله الكاتب وهو غنيّ عن البيان. قوله: (صفة سورة الخ) في الكشاف من مثله متعلق بسورة صفة لها أي بسورة كائنة من مثله والضمير لما نزلنا أو لعبدنا ويجوز أن يتعلق بقوله فأتوا والضمير للعبد وقد اشتهر هنا سؤال في وجه التفرقة بين الوجهين وتجويز رجوع الضمير لما نزلنا وللعبد إذا كان الجار والمجرور صفة لسورة ومنعه ضمنا على تقدير تعلقه بقوله فأتوا وأوّل من سأله أستاذ الكل العلامة العضد حيث قا ا! مستفتياً علماء عصره(2/33)
بما صورته:
يا أدلاء الهدى ومصابيح الدجى
حياكم الله وبياكم وألهمنا الحق بتحقيقه
واياكم ها أنا من نوركم مقتبس وبضوء ناركم للهدى ملتمس
ممتحن بالقصور لا ممتحن ذو غرور
ينشد بأضلق لسان وأرق جنان:
ألا قل لسكان وادي الحمى هنيئألكم في الجنان الخلود
أفيضوا علينا من الماء فيضاً فنحن عطاس وأنتم ورود
قد استبهم قول صاحب الكشاف أفيض عليه سجال الألطاف، من مثله متعلق بسورة الخ
حيث جوّز في الوجه الأوّل كون الضمير لما نزلنا تصريحاً وحظره في الوجه الثاني تلويحا فليت
شعري ما الفرق بين سورة كائنة من مثل ما نزلنا وفأتوا من مثل ما نزلنا بسورة وهل ثمة حكمة خفية، أو نكتة معنوية أو هو تحكم بحت وهذا مستبعد من مثله فإن رأيتم كشف الريبة واماطة الشبهة والإنعام بالجواب أثبتم بأجزل الأجر والثواب، فكتب جوابه العلامة فخر الدين الجاربردي إلا أنه أتى بكلام معقد لا يظهر معناه فردّه العضد وشنع عليه ثم انتصر لكل منهما ناس من فضلاء ذلك العصر حتى طال الكلام في ذلك وألفت فيه رسائل منقولة برمتها في الأشباه والنظائر النحوية وسيأتي إن شاء الله تعالى تحقيق ذلك بما لا مزيد عليه. قوله: (والضمير لما نزلنا الخ) شروع في بيان الوجوه المذكورة مع الزيادة على ما في الكشاف فذكر أنه إذا كان ظرفاً مستقراً صفة لسورة فارضمير يجوز رجوعه لما التي هي عبارة عن المنزل وللعبد فعلى الأوّل ذكر في من ثلاثة أوجه أحدها التبعيض ولما كان الأمر هنا باتفاق من الأصوليين والمفسرين للتعجيز اعترض على هذا بأنه يوهم أنّ للمنزل مثلا والعجز عن إتيان بعضه فالمماثلة المصرّح بها لا تكون منشأ للعجز كما سيأتي، وإنما قيل يوهم لأنّ المراد ائتوا بمقدار بعض ما من القرآن مماثل له في البلاغة والأسلوب المعجز فما قيل في جوابه أنه يدفعه مقام التحدي لا وجه له لأنه لا يدفع الإيهام، ومن قال هنا إن المراد بكونها بعض مثل ما نزلنا إنها مثله في حسن النظم وغرابة البيان من حيث كون مقاصده مقتصرة على إيجاب الطاعات والنهي عن الفواحش والمنكرات والحث على مكارم الأخلاق والأعراض عن الدنيا الفانية والإقبال على الآخرة الباقية مع ما فيها مما لا عين رأت ولا أذن سمعت لم يحم حول الصواب إذ لا وجه لهذه الحيثية سواء كانت مفسرة أو مقيدة كما لا يخفى على من عرف معنى الإعجاز وسيأتي لهذا تتمة عن قريب والقول بأنّ التبعيض غير صحيح لأنها لا تكون ظرفا مستقرّاً ليس بشيء ويردّه قوله: ومن الناس من يقول: وأمثاله كما صزحوا به ولا أدري ما غرّه فيه 0 قوله: (أو للتبيين الخ) فالسورة المفروضة التي تعلق بها الأمر التعجيزي هي مثل المنزل في النظم وغرابة البيان والمعجوز عنه سورة موصوفة بذلك وكونها مثله في الإعجاز وعنوان السورة يدفع احتمال مماثلة الجميع كما قيل، وأمّا ما قيل من أنّ قوله بسورة كائنة من مثله يدل على التبعيض بلا تبيين فكيف بناهما على التفسيرية إلا أن يقال إنّ ابتداء التفسير كلمة من غير نظر لما قبله فكلام ناشئ من عدم معرفة أساليب كلام العرب. قوله: (ورّائدة عند الأخفش) فلا يمتنع عنده زيادتها في الكلام المثبت، والجمهور اشترطوا في زيادتها تقدّم نفي أو شبهه سواء كان مجرورها نكرة أو معرفة وهو خالفهم في ذلك كما في التسهيل والاعتراض عليه بأنه يوافقه فيه الكوفيون فضول من الكلام وقوله أي بسورة مماثلة الخ قيل إنه تفسير للزيادة وبه يتبين التبيين، وقيل إنه تفسير له على جميع الاحتمالات إمّ على الأخيرين فظاهر وأمّا على التبعيض فلأن المراد بكونه بعضاً من مثل القرآن أن يكون مماثلاَ له في البلاغة والا لم يكن بعضاً من مثله. قوله: (أو لعبدنا ومن للابتداء الخ) عطف على قوله لما نزلنا فإذا رجع الضمير للعبد لم
يحتمل التبعيض والتبيين والزيادة ويتعين الابتداء كما أنه إذا رجع لما لم يحتمل الابتداء أيضا والمراد بكونها للابتداء أن مجرورها مبدأ للفعل حقيقة أو حكماً سواء كان مكانا نحو سرت من البصرة أو زمانا نحو من أوّل الليل أو غيرهما نحو أنه من سليمان ومنع البصريون كونها(2/34)
لابتداء الغاية في الزمان، وقوله من كونه بشرا الخ بيان لحاله وهذا وان لم يرتضه المصنف رحمه الله أورده استيفاء للوجوه المحتملة فلا يرد عليه ما قيل من أنه لا وجه لتخصيص البشر مع أنه معجز للثقلين كما سيأتي في تفسير قوله: {قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ} [سورة الإسراء، الآية: 88] الخ والتحدي كأن أوّلاً بمثل القرآن كما فئي قوله: {فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ} [سورة الطور، الآية: 34] ثم بعشر سور في قوله: {فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ} [سررة هود، الآية: 13] ثم بسورة ما ومعنى الإتيان المجيء بسهولة سواء كان بالذات أو بالأمر والتدبر ويقال في الخير والشرّ والاً عيان والإعراض ثم صار بمعنى الفعل والتعاطي كما في قوله: {وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلاَةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى} [سورة التوبة، الآية: 54] وأصل فاتوا فأتيوا فأعل الإعلال المشهور. قوله: (والردّ إلى المنزل الخ) أي رجوع ضحمير مثله إلى قوله مما نزلنا أوجه من رجوعه للعبد مطلقا أو إذا كان ظرفا لغواً متعلقا بقوله فأتوا فلا يكون فيه ترجيح لكون الظرف صفة سورة مستقرّا كما قبل لاً نه إذا تعلق بقوله فأتوا فضمير مثله للعبد لا للمنزل فكلامه موافق لما في الكشاف ويرد عليه ما يرد عليه كما ستراه، واعلم أنّ الزمخشري لما جوّز في الوصفية عود الضمير لما وللعبد واقتصر على الثاني في تعلقه بقوله فأتوا ورد عليه أنه لم لا يجوز أن يكون الضمير حينئذ لما نزلنا أيضا كما جاء ذلك على تقدير كون الظرف صفة كما حكيناه لك آنفا، وأجاب الفاضل المحقق ومن تبعه بأنّ الأمر هنا تعجيزيّ باعتبار المأتي به والذوق شاهد بأنّ تعلق من مثله بالإتيان يقتضي وجود المثل ورجوع العجز إلى أن يؤتي منه بشيء ومثل النبيّ في البشرية والعربية موجود بخلاف مثل القرآن في البلاغة وأمّا في الوصفية فالمعجوز عنه الإتيان بالسورة الموصوفة وهو لا يقتضي وجود المثل بل ربما يقتضي انتفاءه لتعلق أمر التعجيز به، والحاصل أنّ قولك ائت من مثل الحماسة ببيت يقتضي وجود المثل بخلاف ائت ببيت من مثل الحماسة، وقد أجيب عنه بوجوه الأوّل أنه إذا تعلق بقوله فأتوا فمن للابتداء قطعا إذ لا مبهم حتى يبين ولا سبيل إلى البعضية لأنه لا معنى لإتيان البعض ولا مجال لتقدير الباء مع من لذكر المأتي به صريحاً وهو السورة ومن الابتدائية تعين كون الضمير للعبد لأنه المبدأ للإتيان لا مثل القرآن وفيه أن مبدأ الابتدائية ليس هو الفاعل حتى ينحصر مبدأ الإتيان بالكلام في المتكلم على أنك إذا تأمّلت فالمتكلم ليس مبدأ للإتيان بالكلام منه بل للكلام نفسه بل معنا. أن يتصل به الأ " لر الذي اعتبر له امتداد حقيقة أو توهماً كالبصرة للخروج والقرآن للسورة فاندفع ما قيل إن المعتبر من المبدأ هو الفاعليّ والمادّيّ والغائيّ لذلك الشيء أوجهه
يتلبس بها ولا يصح شيء منها هنا على أنّ كون مثل القرآن مبدأ مادّياً للإتيان بالسورة ليس بأبعد من كون مثل العبد مبدأ فاعليا له، وقد قيل على هذا أنه فرق بين كون المأتيّ به عرضاً مقتضيا للمحل وبين أن يكون جوهراً لا يقتضيه فإنه يجوز أن يقال أتيت من البصرة بكتاب ولا يجوز أتيت من البصرة بكلام وبسلام على الحقيقة بل ينبغي أن يقال أتيت من أهل البصرة فلا يقاس مبدئية القرآن للإتيان بسورة على مبدئية- البصرة للخروج لاستدعاء مبدئية القرآن للإتيان بسورة منه أن يكون القرآن متصفاً بالإتيان بسورة منه بخلاف الخروج من البصرة فإنه لا يستدعي أن تكون البصرة متصفة بالخروج وكما أن البصرة لا يجوز أن تكون مبدأ للإتيان بالكلام كذلك لا يجوز أن يكون القرآن مبدأ للإتيان بالسورة الذي هو التكلم بها فما قاله من أنّ المبدأ الذي تقتضيه من الابتدائية هو الفاعل ليس على إطلاقه بل هو على تقدير أن يكون المأني به عرضاً كالكلام فاتصاف المبدئية لازم كما يلزم ذلك إذا رجع الضمير للعبد وليس بشيء كما لا يخفى. الثاني أنه إذا كان الضمير لما ومن صلة فأتوا والمعنى فأتوا من منزل مثله بسورة فمماثله ذلك المنزل لهذا هو المطلوب لا مماثلة سورة واحدة منه بسورة من هذا والمقصود خلافه كما نطقت به الآي الآخر، وفيه أن إضافة المثل إلى المنزل لا تقتضي أن يعتبر موصوفه منزلاً ألا ترى أنه في الوصفية ليس المعنى بسورة من منزل مثل القرآن بل من كلام وكيف يتوهم ذلك والمقصود تعجيزهم عن أن يأتوا من عند أنفسهم بكلام من مثل القرآن ولو سلم فما ادّعاه غير بين ولا مبين الثالث أنها إذا كانت صلة فأتوا فالمعنى ائتوا من عند(2/35)
المثل كما في ائتوا من زيد بكتاب أي من عنده، ولا يصح ائتوا من عند مثل القرآن بخلاف مثل العبد وهو بين الفساد، واعترض على الوجه الأول الذي ارتضوه بعض الفضلاء المتأخرين بأن قوله إنه يقتضي وجود المثل ورجوع العجز إلى أن يؤتى منه بشيء يفهم منه أنه اعتبر مثل القرآن كلا ذا أجزاء وأرجع التعجيز إلى الإتيان بجزء منه، ولهذا مثل بقوله ائت من مثل الحماسة ببيت فإنّ مثل الحماسة كتاب أمر بالإتيان ببيتا منه على سبيل التعجيز، وإذا كان كذلك فلا شك أنّ الذوق يحكم بأنّ تعلق من مثله بالإتيان يقتضي وجود المثل ورجوع العجز إلى أن يؤتى بشيء منه وأمّ إذا جعلنا مثل القرآن كليا يصدق على كله وبعضه وعلى كل كلام يكون في طبقة البلاغة القرآنية فلا نسلم أنّ الذوق يشهد بوجود المثل ورجوع العجز إلى أن يؤتى منه بشيء بل الذوق يقتضي أن لا يكون لهذا الكليّ فرد غير القرآن والأمر راجع إلى الإتيان بفرد آخر من هذا الكلام على سبيل التعجيز، ومثله كثير في المحاورات كمن عنده ياقوتة ثمينة لا يوجد مثلها يقول في مقام التصلف من يأتي من مثل هذه الياقوتة بياقونة أخرى فيفهم منه أنه يدّعي أنه لا يوجد فرد آخر من هذا النوع فظهر من هذا أنه لا يلزم من تعلق من مثله بقوله فأتوا أن يكون مثل القرآن موجود فلا محذور، ومثال بيت الحماسة غير مطابق للغرض لأنّ الحماسة مجموع كتاب فلا بد أن يكون مثله كتاباً آخر فيلزم المحذور وأمّا القرآن فمفهوم كفي صادق على كله وأبعاضه إلى
حد لا يزول عنه البلاغة القرآنية، فالغرض منه المفهوم الكليّ وهو نوع من الكلام البليغ فرده القرآن وقد أمر بالإتيان بفرد آخر من نوعه بلا محذور وقد تبج!! هذا القائل بما ذكره وأفرده برسالة زيف ما فيها بعض أهل عصره، وقد قيل على هذا الجواب أيضاً إنّ قوله إنّ تعلق من مثله الإتيان يقتضي وجود المثل الخ فيه أنه إنما يتمّ لو لم يكن المثل فرضيا وهو ممنوع. ألا ترى إلى قول الزمخشري أنه لا قصد إلى مثل ونظير هنالك وأجيب بأنّ الذوق شاهد عليه وقوله لا ينفي اقتضاء وجود المثل المحقق بل ينفي القصد إلى مثل محقق، وقريب منه ما قيل من أنه لم لا يكفي وجود المثل في زعمهم كما يكفي على تقدير كون من للتبعيض، وقيل إن بناء الأمر على المجاراة معهم تهكما أو بحسب حسبانهم كقولهم لو نشاء لقلنا عثل هذا يابا. ما قرّر من أنه عبر عن اعتقادهم وانكارهم بالريب إشارة إلى أنه غاية ما يمكن ولذا نكر وصدر بكلمة الشك فإنه مبنيّ على غير تسليمه ولو جدلاً، وهو غير وارد لأنّ بناء جملة على اعتبار وأخرى على آخر تكثيراً للمزايا غير منكر وعندي أنّ هذا الجواب وإن ارتضاه كثير منهم وليس بسديد لأنّ الأمر تعجيزي عندهم وذكر المثل لما لا مثل له أدخل في التعجيز وأقوى كما ذكره الزمخشري في قوله تعالى في هذه السورة: {فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ} [سورة البقرة، الآية: 137] حيث قال: إنه من باب التبكيت لأنّ دين الحق واحد لا مثل له وتبعه المصنف رحمه الله فلنجعل ما نحن فيه كذلك (ثم إنه سنح لي هنا) أنّ المراد التحدّي وتعجيز بلغاء العرب المرتابين فيه عن الإتيان بما يضاهيه فمقتضى المقام أن يقال لهم معاشر فصحاء العرب المرتابين في أنّ القرآن من عند الله ائتوا بمقدار أقصر سورة من كلام البشر محلاة بطراز الإعجاز ونظمه وما ذكر يدلّ على هذا إذا كان من مثله صفة لسورة سواء كان الضمير لما أو للعبد لأنّ معناه ائتوا بمقدار سورة تماثله في البلاغة كائنة من كلام أحد مثل هذا العبد في البشرية فهو معجز للبشر عن الإتيان بمثله أو ائتوا بمقدار سورة من كلام هو مثل هذا المنزل ومثل الشيء غيره فهو من كلام البشر أيضاً فإذا تعلق بأتوا ورجع الضمير للعبد فمعناه أيضا ائتوا من مثلى هذا العبد في البشرية بمقدار سورة تماثله فيفيد ما ذكرناه من المقصود، ولو رجع على هذا لما كان معناه ائتوا من مثل هذا المنزل بسورة ولا شك أنّ من فيه ليست بيانية لأنها لا تكون لغوا ولا تبعيضية لأن المعنى ليس عليه فهي ابتدائية كما ذكره الشيخان والمبدأ ليس فاعلاً بل مادّيا فحينئذ المثل الذي السورة بعض منه لم يؤمر بالإتيان به فلا يخلو من أن يدعي وجوده أولاً، والأوّل خلاف الواقع وابتناؤه على الفرض أو زعمهم تعسف لا حاجة إلى ارتكابه بلا مقتض والثاني لا يليق مثله بالتنزيل لأنّ ما-له بأن يأتوا ببعض من شيء لا وجود له فهذا ما أشار إليه العلامة، وأمّا القول بأنّ التخصيص(2/36)
المذكور ليس بصريح وإنما أخذوه من مفهومه وانمفهوم غير معتبر فهو اكتفاء لا خصيص قبعياء عن السياق بمراحل. قوله: (لأنه المطابق لقوله الخ) أيد رجوع الضمير للمنزل بوجوه منها أته الموافق لنظائره من آيات التحدي لأنّ المماثلة فيها صفة للمأتيّ به فكذا هنا إذا
جعل الظرف صفة للسورة والضمير للمنزل ومن بيانية كما عرفت، ومنها أنّ الكلام فيه لا في المنزل عليه فارتباط آخر الكلام بأوّله وترتب الجزاء على الشرط إنما يحسن كل الحسن إذا كان الضمير للمنزل فإنه الذي سيق له الكلام وفرض! فيه الارتياب قصداً وذكر القيد وقع تبعا فلذا صح عود الضميم- له في الجملة مع أنه لو عاد الضمير له ترك التصريح بمماثلة السورة له في البلاغة وهو عمدة التحدّي وان فهم من السياق ومعونة المقام، فسقط ما قيل هنا من أنه إذا رجع الضمير إلى العبد لا ينفك الكلام عن المنزل لأنّ المراد بالعبد العبد المنزل عليه وحاصله كون المنزل بحيث يعجز كل من طولب بالإتيان بما يداني سورة من سورة ممن هو على حال من أنزل عليه ولا حاجة إلى ما أجاب به من أنه أراد بالانفكاك انفكاك الضمير فإنّ الضمير المقدّر في صلة الموصول راجع إلى المنزل. قوله: (ولأنّ مخاطبة الجتم الفقير الخ) ووجه الأبلغية ظاهر مما قرّره المصنف لأنّ أمرهم بجملتهم بأن يأتوا بشيء من مثل ما أتى به واحد من جنسهم أبلغ من أمرهم بأن يجدوا واحداً يأتي بمثل ما أتى به رجل آخر، والجمّ الغفير بمعنى الناس الكثير جداً من الغفر وهو الستر كأنهم يسترون وجه الأرض! لكثرتهم واستعمله المصنف مجروراً بالإضافة والمعروف في كلام العرب استعماله منصوبا على الحال يقولون جاؤوا الجماء الغفير وجاء الغفير أي بجملتهم، ومثله مما يأباه الأدباء ويعدونه لحنا كما بيناه في شرح الدرّة، وفيه لغات مذكورة في القاموس وقوله بنحو الخ إشارة إلى أنّ المثلية ملحوظة فيه وان رجع الضمير للعبد وكونه من أبناء جلدتهم معناه من جنسهم ونوعهم في البلاغة وأصله أن كل نوع متشابه البنية وظاهر البدن وهو المراد بالجلدة كما مرّ، وقيل إنّ صفة المرء بمنزلة جلده في التلبس والتزي وليس المقصود أنهم من قوم واحد بحسب النسب فإنه لا دخل له في هذا المقام وفيه نظر. قوله: (ولأنه معجز في نفسه الخ) هذا رابع الوجوه في كلام المصنف يعني لو أرجع الضمير إليه أوهم أن إعجازه لكونه من أميّ لم يدرّس ولم يكتب ولم يتعلم من غيره علما ومعرفة، وقوله ولأنّ ردّه الخ أي ردّ الضمير إلى عبدنا يوهم أنه يمكن صدوره من غيره من الخطباء والشعراء وأهل الدراسة وليس بين هذا وما قبله كثير فرق فالظاهر إدراجه فيه وعدهما وجهاً واحداً إلا وجهاً خامساً كما قيل، فقوله ولا يلائمه الخ وجه آخر مستقل وقد عده بعضهم وجها سادسا والأمر فيه سهل. قوله: (ولا يلانمه قوله {وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم} الخ) ادعوا أمر من الدعاء، وله معان ذكرها الراغب وهي النداء والتسمية في نحو دعوت ابني محمداً والاستعانة كقوله تعالى: {أَغَيْرَ اللهِ تَدْعُونَ} [سورة الأنعام، الآية: 40] والدعاء إلى الشيء الحث على قصده وقيل إنه فسر هنا بالإحضار والاستعانة والمصنف أشار بقوله استعينوا إلى أنّ الثاني
هو المختار عنده، والظاهر أنه مجازا أو كناية مبنية على النداء لأنّ الشخص إنما ينادي للحضور ليستعان به، وفي الأساس دعا بالكتاب اسنحضره يدعون فيها بفاكهة والمتبادر منه اختصاصه بالمتعدي بالباء، ويلائمه بهمزة بعد الألف وتبدل ياء كثيراً أي يوافقه ويناسبه وأصله من لأم الصاع والشق ني الإناء ونحوه إذا أصلحه ووجه عدم موافقة رجوع الضمير للعبد لما بعده كما قرّره الشراح مما يحتاج إلى فضل تأمّل كما ذكر. المدقق في الكشف لأنّ المراد أنه إن أريد دعاء الشهداء للاستعانة بهم في المعارضة إمّا حقيقة كما، ي الوجه الأخير من الوجوه الستة وامّا تهكماً كما في الوجهين الأولين فلأنه إنما يلائم الأمر بالإتيان بسورة من مثل القرآن " لا الأمر بالإتيان بسورة من واحد عربيّ أمّيّ إذ لا معنى للاستمداد بطائفة فيما هو فعل واحد كيف ولو استعين بالشهداء في ذلك لم يكن المأتيّ به ما كان مطلوبا منهم وأمّا إذا أريد به دعاؤهم ليشهدوا لهم بأنّ ما يدعونه حق كما في الوجوه الباقية فلأنّ إضافة الشهداء إليهم إنما تقع موقعها إذا كان الإتيان بالمثل منهم لا من واحد والا كانوا شهداء له فحقهم أن يضافوا إليه وان كان للإضافة إليهم وجه صحة، ورجوع الضصير للعبد يوهم أنّ دعاءهم(2/37)
الشهداء ليشهدوا بأنّ ذلك الواحد مثل له لا أنّ ما أتى به مثل للمنزل وهذا الإيهام مخل بمتانة المعنى وفخامته، وترجيح رجوع الضمير للمنزل بهذه الوجوه يقتضي ترجيح كون الظرف صفة للسورة أيضأ كما قرّره السيد، وقد أورد هنا أمور كثيرة لا طائل تحتها كما قيل من أنّ عدم الملاءمة ممنوعة لجواز أن يكون الأوّل طالبا للإتيان بسورة من مثل المنزل إليه والثاني طلباً له من الكل على سبيل الترقي (قلت فيه بحث الأنه قد أشير فيما سلف إلى أنّ المراد بالسورة المأني بها سورة تماثل نظم القرآن لأنه هو المتحدّي به لا غيره سواء رجع الضمير إلى المنزل أو العبد أمّا في الأوّل فظاهر مسلم، وأمّا في الثاني فلأنه معلوم من السياق وعنوان السورة ناطق به فيكون حينئذ قوله فأتوا بسورة من مثله في الوجه الثاني مشتمل على معناه الأوّل مع زيادة ذكراً لمأتيّ منه ولا يخفى أنّ المأمور بالإتيان على كل حال واحد وان كان الجميع ظاهراً إلا أنه ليس المراد به ليأت بذلك كل فرد فرد بل أنهم إذا ارتابوا وأتى بمثله واحد منهم بين أظهرهم فكأنهم أتوا به أجمعون فيجوز أن يكون قوله من مثل هذا العبد توسيعاً للدائرة كأنه قيل ليأت واحد منكم كائناً من كان بمقدار سورة ما.
وقوله: {وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم} [سورة البقرة، الآية: 23] بمعنى احضروا بأجمعكم في
وقت الإتيان ليتحقق عجز الجميع وإنواو لا تقتضي ترتيبا على أنّ الوجوه يجوز توزيعها على الاحتمالين وتعدّبه بالباء كقوله: ائتوني باخ لا يتبادر منه الفعل فهو مؤيد له أيضاً فتدبر. قوله: (فإنه أمر الخ) أمر بصيغة المصدر مرفوع خبر لأنّ والباء متعلقة به وهو تعليل لعدم الملاءمة
على غير الأوجه كما سمعته آنفاً، وقوله يستعينوا بكل من ينصرهم ويعينهم تفسير له بحاصل معناه على كل الوجوه الآتية، وقيل معناه ادعوا حاضريكم ليعاونوكم على إتيان مثل المنزل أو ليشهدوا لكم أنكم قادرون على إتيانه، والدعاء قيل معناه الحضور وقيل الاستعانة والمصنف اختار الثاني، وقوله بكل من ينصرهم تعبير عن الشهداء بأيّ معنى كان لأنه جعل الدعاء بمعنى الاستعانة وهي إنما تكون من الناصر ومعنى النصرة متحقق في الجميع وقد أشرنا سابقاً إلى ما فيه فتذكر، وجعل أبو البقاء رحمه الله ضمير مثله للأنداد وتذكيره كتذكير الأنعام ولكونه تكلفاً مخالفاً للظاهر لم يلتفتوا إليه أصلاً، ثم إنّ المصنف رحمه الله ترك قوله في الكشاف في تفسير قوله: {مَن مَّثَلُهُ} ولا قصد إلى مثل ونظير هنالك، ولكنه نحو قول القبعثري للحجاج وقد قال له: لأحملنك على الأدهم مثل الأمير حمل على الأدهم والأشهب أراد من كان على صفة الأمير من السلطان والقدرة وبسطة اليد ولم يقصد أحداً يجعله مثلاَ للحجاج لأنه مع ما فيه من الخفاء وعدم المساس له هنا ليس تحته فائدة كما يعلم من شروح الكشاف. قوله: (والشهداء جمع شهيد الخ) الشهود والشهادة الحضور والمشاهدة وهي تطلق على التحقق بالبصر أو البصيرة وقد تقال لمجرّد الحضور نحو ما شهدنا مهلك أهله أي ما حضرناه فالشهيد كالشاهد بمعنى الحاضر أو القائم بالشهادة وهي قول صادر عن علم حصل بمشاهدة بصر أو بصيرة من شهد كعلم ويتعين فيها لفظ الشهادة شرعاً عند بعضهم وفي المصباح أنه تعبدي والقول بأنها الخبر القاطع بناء على ما اشتهر عند الحنفية من تعريفها بأنها إخبار بحق للغير على آخر، وقد خالفهم فيه الشافعية فقالوا إنها إنشماء يتضمن الإخبار بالمشهودية لا إخبار وعزوا الثاني لأبي حنيفة وأنكره السروجيّ وقال لا نعرفه وإنما هي إنشاء عندنا أيضا ولك أن تقول لا خلاف بينهما عند التحقيق واطلاق الشهيد والشاهد على الناصر والمعين مصرّح به في اللغة وكذا على الإمام ويه فسر وقله ونزعنا من كل أمّة شهيدا لأنّ الشهادة تكون بمعنى الحكم كما ذكره الراغب وبه فسر فوله تعالى: {شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ} [سورة اس عمران، الآية: 18] والإمام كل مقتدي بأقواله وأفعاله وخصيصه بإمام الصلاة طارى في عرف الشرع وبالسلطان في العرف العامّ وقال الراغب: الشهيد كل من يعتد بحضوره ممن له الحل والعقد ولذا سموا غيره مخلفاً كما قال الشاعر:
مخلفون ويعصى الناس أمرهم وهم مغيب وفي عمياء ما شعروا
ومن لم يتفطن لهذا قال مجيء الشهيد بمعنى الإمام في اللغة محل نظر لأنه لم يذكر
لي القاموس مع كمال إحاطته وأعجب منه أنه افترى على صاحب القاموس فإنه قال الشاهد ص! أسماء النبيّ صلى الله عليه(2/38)
وسلم واللسان والملك الخ والشاهد والشهيد لا فرق بينهما لمن له بصيرة
ولعدم اشتهار وهذا كغيره بينه المصنف رحمه الله بقوله وكأنه الخ وليس هذا مخصوصا به لجريانه بعينه في الناصر، والنوادي بالنون والدال المهملة جمع ناد وهو كالندي المجلس الغاصن! أي الممتلئ بأهله، والإبرام فصل القضايا على وجه الأحكام وأصله قتل الحبل قتلاً قوياً، وقال الراغب: المبرم الذي يلح ويشدّ في الأمر تشبيهاً له بمبرم الحبل وفي كلام العوام الإبرام يحصل المرام. قوله: (إذ التركيب للحضور الخ) الحضور مصدر كالمحضر المعاينة حقيقة أو حكماً، وهذا تعليل لقوله كأنه أو لكون الشهيد بالمعاني السالفة والحضور بالذات والشخص ظاهر كما يقال شهدت كذا إذا كنت عنده وبالتصوّر هو العلم " لأنه حصول الصورة او الصورة الحاصلة عند العقل أو في العقل وهذا كما في قوله: {لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ وأنتا تشهدون} [سورة اس عمرأن، الآية: 70] أي تعلمون والشهيد فعيل بمعنى فاعل لأنه حاضر ما كان يرجوه في حياته من السعادة الأبدية أو بمعنى مفعول لأن الحور العين تحضره أو الملائكة تكريماً له وتبثيراً بالرضوان كما قال تعالى: {تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا} [سورة فصلت، الآية: 30] والمعروف فيه أنه من قتل في حرب الكفار وكانت مقاتلته إعلاء لكلمة الله وهو شهيد الدنيا والآخرةإ1) فإن لم يقاتل لوجه الله وقتل فهو شهيد الدنيا، وأمّا شهيد الآخرة فهو الغريق والمبطون ونحوه مما ورد في الحديث، وتسميته شهيداً لأن له أجره عند الله كما فصل في كتب الحديث، وقوله ومنه الخ من تبعيضية أي مما أخذ من هذه المادّة للدلالة على هذا المعنى وقيل إنها سببية أي لأجل أنّ هذا التركيب للحضور ذاتاً أو تصوّراً قيل الخ لأنه حضر ما يرجوه من النعيم فهو من الحضور بمعنى التصوّر أو الملائكة عنده حضور فهو بمعنى مفعول من الحضور الذاتي. قوله: (ومعنى دون أدنى الخ) دون يكون ظرف مكان في الأمكنة المتفاوتة والمتقاربة كعند إلا أنه ينبئ عن دنوّ وانحطاط ولذا قيل إنه مقلوب عن الدنوّ كما ذكره الراغب ولا يخرج عن الظرفية إلا نادراً كقوله:
ألم تريا أني حميت حقيقتي وباشرت حد الموت والموت دونها
برفع دون، والى ما ذكر من الدنوّ أشار المصنف رحمه الله بقوله أدنى مكان كما في الكشاف وغيره فبين دون والدنوّ مناسبة معنوية واشتقاق كبير من غير حاجة لادعاء القلب
فيه بل لا يصح لاستوائهما في التصرّف وأدنى أفعل تفضيل بمعنى أقرب، وأخر المصنف رحمه الله هنا قول الزمخشريّ ومنه الشيء الدون وهو الدنيء الحقير لما سيأتي ولم يتركه كما توهم لأنّ الدنوّ ليس مأخوذ من دون إذ كل منهما أصل والدنيء مهموز وليس من تركيب دون بوجه من الوجو. لأنه غفلة عما ذكر وعن أنّ الدتي في كلام الكشاف كغنيّ معتل لا مهموز وأما دنيء المهموز كربيء فمادة أخرى وهما مادّتان مختلفتان لفظاً كما في سائر تركيب كتب اللغة والذي غرّه ما في شرح الكشاف الشريفي وهو معترض أيضاً. قوله: (ومنه تدوين الكتب الخ) تبع فيه الزمخشريّ والذي حقق في كتب اللغة كما في كتاب المغرب أنّ التدوين مأخوذ من الديوان وهو فارسيّ معرّب إلا أنه لما شاع قديما تلاعبوا به فصرّفوه وقالوا دوّنه تدوينا والديوان بكسر الدال وفتحها الدفتر ومحله ومنه ديوان الشعر وأصله أنّ كسرى أمر الكتاب أن يجتمعوا في مكان للحساب فلما اجتمعوا اطلع عليهم فرأى سرعة كتابتهم وحسابهم فقال ديوانه أي هؤلاء مجانين أو شياطين على أنه جمع ديو على قياس الفارسية ثم سمي به موضعهم، ومنه ديوان الحق للمحشر فلما استعمله العرب كثيراً ألحقوه بكلامهم وتصرّفوا فيه كما هو دأبهم فقوله لأنه إدناء الخ لا وجه له إلا بتكلف وقد نبه على هذأ في بعض الحواشي. قوله: (ودونك الخ) إشارة إلى أنّ أصله خذه من دونك، وقال الرضي: دونك بمعنى خذ وأصله دونك زيد برفع ما بعده على الابتداء فاقتصر من الجملة على الظرف وكثر استعماله فصار اغ! م فعل بمعنى خذ وعمل عمله، وقوله من أدنى مكان أي أصله خذه من أدنى مكان وأقربه ثم عمّ لكل أخذ كما صرّح به النحاة فلا منافاة بينهما، وقوله ثم استعير للرتب الخ الضمير راجع لدون في أوّل! كلامه لا لما قبله وفي الكشاف ومعنى؟ ون مكان من الشيء ومنه الشيء الدون وهو الدنيء الحقير ثم قال: يقال(2/39)
هذا دون ذاك إذا كان أحط منه قليلاً، ودونك هذا أصله خذه من دونك أي من أدنى مكان منك فاختصر وأستعير للتفاوت في الأحوال والرتب فقيل زيد دون عمرو في الشرف والعلم، ومنه قول من قال: لعدوّه وقدراً بالثناء عليه أنا دون هذا وفوق ما في نفسك واتسع فيه فاستعمل في كل تجاوز حدّ إلى حدّ وتخطى حكم إلى حكم، قال قدّس سرّه قوله: ويقال الخ بيان لاستعمال دون بمعنى أدنى كان على حقيقته الأصلية، وقيل هو إشارة إلى استعماله في انحطاط محسوس لا يكون في ظرف كقصر القامة فهذا أوّى توسع فيه ثم استعير للتفاوت في المراتب المعنوية تشبيهاً بالمراتب الحسية وشاع استعماله فيها أكثر من استعماله في الأصل ثم اتسع في هذا المستعار فاستعمل في
كل تجاوز حدّ إلى حدّ ولو بدون تفاوت وانحطاط وهو في هذا المعنى مجاز في المرتبة الثانية على ما وجهناه وفي المرتبة الثالثة على هذا القول وبالجملة هو بهذا المعنى قريب من أن يكون بمعنى غير كانه أداة استثناء، انتهى وهذا زبدة ما في الكشاف وشروحه ولا فرق بينه وبين كلام المصنف رحمه الله إلا بتغيير يسير في اللفظ دون المعنى وقول الشريف وشاع استعماله الخ إشارة إلى أنّ المجاز المشهور ينزل منزلة الحقيقة حتى يبنى عليه تجوّز آخر بمرتبة أو مراتب كما قرّره أهل المعاني، والاستعارة هنا يجوز أن تكون اصطلاحية ولغوية على أنه مجاز مرسل ثم إنه في الكشاف قدم ذكراً لدون بمعنى الدني والخسيس على التجوّز فيه، والمصنف رحمه الله أخره وجعله مما استعير للرئب فتوهم بعضهم اً نه ردّ ضمنيّ لما في الكشاف ولم يقنع به حتى قال إذا تأمّلت تبين لك أنّ مراد المصنف في هذا المقام الإشارة إلى أنّ ما في الكشاف خبط وخلط في تقرير.، ولم يدر أن الذي خبط ابن أخت خالته لأنّ العلامة قدمه لأنّ النحاة وأهل اللغة قالوا إنّ دون إذا كان ظرفاً لا تصرّف إلا نادراً حتى أبطلوا قول الأخفش أنّ دون في قوله تعالى: {وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ} [سورة الجن، الآية: اا] مبتدأ بأنه تخريج للتنزيل على ما هو مرجوح وهو غير لائق وعلى الظرفية لا تدخله أل ومعناه حينئذ أدنى مكان وإذا كان بمعنى خسيس لم يستعمل قط ظرفا ويعرّف باللام ويقطع عن الإضافة كما في قوله:
إذا ما علا المرء رام العلا ويقنع بالدون من كان دونا
قالوا وريس لهذا فعل وقيل إنه يقال دان يدون منه، وبما ذكر علم أنّ ما في القاموس من
أنه يقال هذا رجل من دون ولا يقال دون مخالف للنقل والسماع و؟ نّ من اعترض به لم يصب، وكلامهم صريح في أنه حقيقة في هذا المعنى كما في الصحاح والأساس فذكره معه لاشتراكهما في المادّة وتناسبهما في المعنى لا أنه من مجازه والمصنف رحمه الله لما رآه مناسبا بالتفاوت الرتب جعله منه فيحتاج حينئذ إلى أن يقال إنه لما كثر استعماله صار حقيقة عرفية فيه فألحق بأسماء الأجناس في تنكيوه وتعريفه.
تنبيه: وقع في الكشاف في بعض المواضع تفسير دون بقوله فضلا ولم يتعرّضحوا له، وفي
كتاب الموازنة لأبي الحسين الآمديّ في شرح قول أبي تمام:
الودّ للقربى ولكن عرفه للأبعد الأوطان دون الأقرب
هذا مما خطئ فيه، وقد قيل: إنه أراد بقوله دون الأقرب فضلا عن الأقرب أي فكيف الأقرب، وهذا وان كان مذهبا للناس حيث يقولون أرض بالقليل دون الكثير وأقنع بقرص من شعير دون ما سواه وهو صحيح معروف. قلت هذا فاسد لأن معنى دون في اللغة التقصير عن الغاية وأمّا ما تأوّلوه فهو معنى بله وموض! وعها دع ودون لا تتضمن هذا المعنى ولا تؤدّبه انتهى.
قوله: (أي لا يتجاوز الخ) تفسير للآية بما يتبين منه أنّ دون دالة على تخطي حكم وهو ولاية المؤمنين إلى آخر وهو ولاية الكافرين وقد قيل إن تجاوز الله وتجاوز المؤمنين المراد به غير الله وغير المؤمنين لكن لما كان في ذلك تجاوزهما عما أضيف إليه عبر بما يلزمه عنه تسامحاً وولاية بفتح الواو وكسرها بمعنى الموالاة والمصادقة، وقابل من في النظم بالى إشارة إلى أنها ابتدائية كما سيأتي ثمة، وأمية بصيغة التصغير كما هو معروف هو أمية بن أبي الصلت الشاعر الجاهلي المشهور أحد من وحد الله تعالى في زمن الفترة وترك الشرك وهذا ابتداء شعر له وهو:(2/40)
يا نفس ما لك دون الله من واقي وما للسع بنات الدهر من راقي
وهو شاهد على كون دون تدلّ على تخطي حكم لآخر ومعناه ما لك إن تجاوزت عن الله وحفظه من واق أي حافظ يقيك ما يضرك وبنات الدهر مصائبه التي تحدث فيه كأنه يلدها كما قيل:
الليلة حبلى لست تدري ما تلد
وهي استعارة رائعة شائعة كما قلت:
بنات الزمان مصيباته وفيها الكريم شديد الثبات وكتمانها مثل دفن لها ودفن البنات من المكرمات
وقد شبهها بعد التشبيه بالبنات بالحيات على طريق الاستعارة المكنية وأثبت لها اللسع تخييلا وكذا الرقية على نهج قوله تعالى: {فَأَذَاقَهَا اللهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ} [سورة النحل، الآية: 12 ا] وهي في الذروة العليا من البلاغة، وأشار المصنف رحمه الله بقوله غيره إلى أنها قريبة من أدوات الاستثناء كما ستراه وقد مرّت الإشارة إليه أيضاً. قوله: (ومن متعلقة بادعوا الخ) قد ذكر الشيخنا في تعلق من دون الله ستة أوجه ثلاثة على تعلق من بالشهداء وثلاثة على تعلقها بادعوا وهي خمسة معنى كما سيأتي وقد اختلفا في ترتيجها فقدّم الزمخشري تعلقه بالشهداء لتبادره بقربه، وقيل لما فيه من إبقاء الشهادة على معناها الحقيقي وأخر ثالث الأوّل لجواز التعلق فيه بادعوا فيرتبط بما بعدهـ وما قبله ويقع في محزه، وهذا أيضاً دائر على معنى الشهيد من كونه بمعنى الحاضر والمعين والناصر أو من يؤدّي الشهادة كما مرّ. وسيبين لك كل في محله والمصنف رحمه الله عكس ترتيب الكشاف رعاية لتقديم ما هو أقرب وأقوى عنده بحسب المعنى ولنبين لك هذه الوجوه أولاً مراعين لترتيب الكشاف ثم تنزل كلام المصنف عليه فنقول إنهم قالوا: إنّ الأمر على الوجهين الأوّلين للتهكم وعلى الثالث والرابع للاستدراج وعلى الأخيرين للتبكيت والتعجيز والظرف على الثاني لغو معمول لشهداءكم لأنه يكفيه رائحة الفعل
وعلى البواقي هو مستقرّ حال فعلى أوّل ثلاثة التعلق بالشهداء معناه ادعوا الذين اتخذتم آلهة من دون الله وزعمتم أنهم يشهدون لكم يوم القيامة بأنكم على الحق، وعلى الثاني ادعوا الذين يشهدون لكم بين يدي الله ودون بمعنى قدّام كما في بيت الأعشى وفي أمرهم بالاستظهار بالجماد في معارضة المعجز تهكم إلى الغاية، وعبر عن الأصنام بالشهداء ترشيحا للتهكم بتذكير معتقدهم في نفعها لهم بالشهادة أي هؤلاء عمدتكم وملاذكم فادعوهم لهذه العظيمة النازلة بكم وادعوا بمعنى أحضرو! كناية أو مجاز عن الاستظهار والاستعانة قيل والمعنى استظهروا في معارضة القرآن وادعوا أصنامكم الذين تزعمون أنهم يشهدون يوم القيامة لا الله أو بين يدي الله أنكم على الحق، وقال قدس سرّه دون على الأوّل بمعنى التجاوز ظرفث مستقرّ حال ما دل عليه الشهداء أي الذين اتخذتموهم آلهة متجاوزين الله في اتخاذها، كذلك وزعمتم انهم شهداؤكم يوم القيامة ومن ابتدائة، وما قيل من أنّ المعنى ادعوا أصنامكم الخ بين الفساد يعني ما في شرح السعد مما سمعته آنفاً فاسد وقد نوّره الحفيد بأنّ قوله لا الله في أكثر النسخ منصوب فهو معطوف على أصنامكم وهو مفعول ادعوا فيلزمه تعلق من دون بادعوا والمدعي خلافه، ولذا قيل الصواب رفعه عطفاً على فاعل يشهدون بغير تأكيد للفاصل أي يشهدون كائنين في تجاوز الله ومن بمعنى في والكائن في التجاوز متجاوز فالمعنى متجاوزين الله في حق الشهادة أي متباعدين عنه في صفتها وهو بحسب المعنى استثناء منقطع من فاعل يشهدون وهو ضمير الأصنام، ولك أن تقول إنه على النصب معطوف على اسم أنّ فالمعنى أنهم يشهدون منفردين عن الله إذ المراد بالتعلق التعلق المعنويّ لا الصناقي كما مرّ (بقي) أنه قيل إن الله يشهد أيضاً كالأصنام في زعمهم كما صرّحوا به والذي في الكشاف في تفسير الآية لا يفهم منها أصلا لأن من دون الله متعلق بالشهداء لا بما ذكره في تأويله والجواب عن الأوّل أنه اعتبر مع الله قيد الفرد لا مطلقا أو يقال إنهم وإن استشهدوا الله فهو لا يشهد لهم وما في الكشاف بيان لما صدق عليه من الأصنام ومن دون الله من كلام القائل لا من النظم، وثالث الوجوه المتعلقة بالشهداء ما أشار إليه الزمخشريّ بقوله: ادعوا شهداءكم من دون الله أي من دون أوليائه ومن غير المؤمنين ليشهدوا لكم أنكم أتيتم بمثله على(2/41)
إرخاء العنان والإيمان إلى أنّ شهداءهم ما هم تأبى بهم الأنفة وتجمح بهم الحمية عن الشهادة بما هو بين الفساد لظهور بطلانه أي ادعوا رؤساءكم يشهدون أنكم أتيتم بمثل القرآن متجاوزين أولياء الله المؤمنين فإنهم لا يشهدون فمن دون الله حال من فاعل الشهادة وعلى الاستثناء هو منفصل كما مرّ وقدر المضاف على هذا للمقابلة فإنّ أولياء الله في مقابلة أولياء الأصنام وهو استدراج لغاية التبكيت أي تركنا إلزامكم بشهداء الحق إلى شهدائكم المعروفين بالذت عنكم فإنهم لا يشهدون لكم أيضاً لأن ظهور أمر الإعجاز يأبى إخفاءه، والظرف مستقرّ ومن ابتدائية وعلى ما مرّ من كون دون بمعنى قذام هو مستعار من معناه الحقيقي وهو أدنى مكان فقالوا من فيه تبعيضية كما سيجيء في سورة الأعراف قال
الفاضل المحقق في شرحه هنا: كلمة من الداخلة على دون إنما هي بمعنى كما في سائر الظروف غير المتصرّفة وهي التي لا تكون إلا منصوبة على الظرفية أو مجرورة بمن خاصة وقد يقال إنها إذا تعلقت بادعوا تكون لابتداء الغاية لأنّ الدعاء ابتدكأ من دون الله وإذا تعلقت بالشهداء على م! ضى يشهدون بين يدي الله فللتبعيض كما سيجيء في تفسير قوله تعالى: {مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ} [سورة الأعراف، الآية: 17] أنّ قولهم جلس بين يديه وخلفه على معنى في لأنه ظرف ومن بين يديه ومن خلفه للتبعيض لأنّ الفعل يقع في بعض! الجهتين كما تقول جثته من الليل أي في بعض الليل، وظاهر كلام الدماميني في شرح التسهيل أنها زائدة وهو مذهب ابن مالك، والجمهور على أنها لابتداء الغاية ولم ينقل عن النحاة التبعيض والظرفية ففيما ذكره نظر، وأمّا على الثلاثة الأخر التي تعلق فيها بادعوا فأوّلها على أنّ المعنى تجاوزوا المؤمنين وادعوا رؤساءكم ليشهدوا لكم أنكم أتيتم بمثله وهم لا يشهدون، وهذا هو الثالث الذي أشار إليه في الكشاف بقوله ويجوز تعلقه بالدعاء في هذا الوجه الأخير ولا يجوز تعلق من دون الله بادعوا في الوجهين الأوّلين بمعنى لا تدعوا الله وادعوا أصنامكن أو ادعوا بين يدي الله أصنامكم للاستظهار بهم في المعارضة أمّا على الثاني فلأن الدعاء للاستظهار وإنما هو في الدنيا لا بين يدي الله في القيامة وأما على الأوّل فقيل: لأنهم توهموا أنهم لو دعوا الله لأعانهم فيحصل غرضهم من المعارضة وهذا منقوض بالوجه السادس، وقيل: لأن إخراح الله عن حكم الدعاء إنما يصح إذا فسر الشهداء بما يتناوله كالحاضرين وأمّا إذا قيل ادعوا شهداءكم من دون الله وأريد بالشهداء الأصنام فلا إذ لا دخول حينئذ ألا ترى أنك إذا قلت ادعوا من دون زيد العلماء لم يصح إلا إذا كان زيد من العلماء وهذا منقوض بالوجه الثالث حيث أريد بالشهداء أشرافهم ورؤساؤهم الذين لا يدخل فيهم أولياء الله كذا في شرح الفاضل، وقال قدّس سرّه إنما لم يجز تعليقه بالدعاء في الأوّلين لفساد المعنى فإنّ دعاء الأصنام لا يكون إلا تهكما ولو قيل ادعوا الأصنام ولا تدعوا الله ولا تستظهروا به فإنه القادر عليه انقلب التهكم امتحانا إذ لا دخل لإخراج الله عن الدعاء في التهكم وكذا لا معنى لأن يقال ادعوها بين يدي الله في القيامة للاستظهار بها في المعارضة التي في الدنيا ولم يجوّز في التعلق بالشهادة كون الشهيد بمعنى الحاضر لأنه لا معنى لادعوا من يحضركم بين يدي الله، ولأنه تعالى والمؤمنين حاضرون فلا يصح إخراجهم عن حكم الحضور وثانيها على أنّ المعنى ادعوا شهداءكم من الناس وصححوا دعواكم متجاوزين الله في الدعاء غير مقتصرين على قولكم الله يشهد أنّ مدّعانا حق كما يقوله العاجز عن البينة فالأمر لبيان انقطاعهم وأنهم لا متشبث لهم وهو حال من فاعل ادعوا وأن اعتبر الاستثناء فهو منقطع وثالثها على أنّ المعنى ادعوا كل من يحضركم سوى الله القادر فالاسنثناء متصل وهذا آخر الستة وهو أرجحها وهو كقوله تعالى: {قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ} [سورة الإسراء، الآية: 88] الخ والأمر للتعجيز والإرشاد (أقول) هذا زبدة ما في شبك
الأفكار من مصائد أو أبد الأنظار، وفيه بحث من وجوه الأوّل أنّ الشريف اذعى أنّ ما قاله التفتازاني بين الفساد ولا وجه له كما مرّ سواء رفع الله أو نصب على أنه لو عطف على الأصنام أيضا لإفساد فيه لما سمعته من أنّ التعلق معنويّ وما عطف على الأصنام الشاهدة بلا النافية هو غير(2/42)
شاهد فيؤول المعنى إلى تقييد الشهداء بغير الله وأيّ فساد فيه ولو جعلت لا بمعنى غير صح أيضاً، الثاني أنّ قول الحفيد أن الأصنام بزعمهم تشهد أيضا لاوجه له لأنّ ما ذكر تهكم بهم ولذا أخرج الله من شهدائهم لا لأنهم لا يزعمونه بل لأنه لا مساس له بالمقام وتوله إنّ ما في الكشاف لا يناسب الآية ليس بشيء وإنما خفي عليه لأنه فسر الشهداء بما اتخذوه آلهة من دون الله وليس في اللفظ ما يدلّ عليه فورد عليه ما توهمه حتى احتاج في دفعه لما " تكلفه ووجهه أنهم إنما عبدوا والآلهة لأنها تقرّ بهم وتقريبهم إلى الله إنما يكون في الآخرة إمّا بتزكيتهم عند. وهو عين شهادة أنهم على الحق أو رجاء العفو عنهم وهم لا يعترفون بأنهم عصاة فلزم من عبادة اكهتهم التقريب ومن التقريب التزكية فهذا تفسير له بلازم معناه وبيان لتعلق الجارية باعتباره، فقوله تشهد الخ جملة مفسرة للشهادة وهذا مما ينبغي التيقظ له فإنه في غاية اللطف والدقة، الثالث المراد بالشهداء على الثالث عصبتهم الحامون لحمي ضلالهم لأنهم من شأنهم الشهادة لهم وترويج أباطيلهم فجعل ما بالقوة بمنزلة ما هو بالفعل وان كان ممتنعا استدراجا وهو المراد بإرخاء العنان، الرابع قوله قدس سرّه لفساد المعنى الخ ردّ لما قاله الشارح المحقق إلا أنّ قوله إنه إذا قيل لهم ادعوا الأصنام ولا تدعوا الله انقلب التهكم امتحانا غير مسلم لأنه أي تتهكم وتحميق أقوى من أن يقال لهم استعينوا بالجماد، ولا تلتفتوا نحو رب العباد وهو ظلمات بعضها فوق بعض وقد أطلنا الكلام لأنّ أكثر ما قيل ليس فيه شفاء للصدور وإن كان هذا أيضا نفثة مصا- ور. قوله: (والمعنى وادعوا إلى المعارضة الخ) هذا آخر الوجوه في الكشاف وهو أرجحها ولذا قدّمه المصنف رحمه الله وهو موافق معنى لقوله تعالى: {قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [سورة الإسراء، الآية: 88] وعلى هذا الشهداء جمع شهيد بمعنى حاضر، وقوله أو رجوتم الخ هو الوجه الثاني والشهيد فيه بمعنى الناصر والمعين ومن المتعلقة بادعوا فيهما ابتدائية واحضارهم للاستعانة بهم في المعارضة بأن يشاركوهم في الإتيان بمثله على زعمهم وقال رجوتم دون أعانكم لأنّ إعانة شهدائهم، إنما هي بحسب رجائهم وزعمهم والأمر للتعجيز والإرشاد وهو المناسب لمقام التحدي فلذا كان أرجح ومن دون الله بمعنى متجاوزين الله فهو بمعنى غير الاستثنائية كما مرّ تحقيقه وقوله من إنسكم الخ بيان لقوله من حضركم أو رجوتم، وقيل إنه على البدل وغير الله منصوب على الاستثناء أو بدل من من الموضولة وعلى كل حال فهو متعلق بادعوا معنى وما قيل من أنّ ما ذكره المصنف رحمه الله يدل على تعلق الجار بالشهداء وهو مناف لمدعاه إلا أن يقال إنه بيان لحاصل المعنى غنيّ عن الردّ ولم يذكر
المصنف رحمه الله الملك واقتصر على قوله من إنسكم وجنكم متابعة لما صرّح به في النظم كما سمعته ولأنه معصوم لا يفعل غير ما يؤمر فلا يتوهم منه ذلك حتى يصرّح به فلا حاجة إلى أن يقال المراد بالجن كل مستور عن الحس فيدخل فيه الملك كما قيل، والحق أنه معجز للملك أيضا كما صرّحوا به وأما قول المصنف رحمه الله تعالى في تفسير قوله تعالى: {قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ} لعله لم يذكر الملائكة لأنّ إتيانهم بمثله لا يخرجه عن كونه معجزا فقد ردّه في الفرائد وسيأتي تفصيله ثمة. قوله: (فإنه لا يقدر على أن يأتي بمثله إلا الله) علة وسبب مبين لكون المعنى ما ذكر وأنهم وأعوانهم لا محالة عاجزون عنه وضمير أنه للشأن فتامّل. قوله: (أو وادعوا من دون الله شهداء الخ) هذا هو الوجه الثالث في كلام المصنف رحمه الله وتعلقه بأمر ادعوا ومن فيه ابتدائية، وقد مر بيان الظرف فيه، والشهيد فيه بمعنى مقيم الشهادة المعروفة، والمعنى ادعوا من فصحائكم ورؤسائكم من يشهد لكم بأن ما أتيتم به مماثله ولا تدعوا الله للشهادة بأن تقولوا الله شاهد وعالم بأنه مثله فإنه علامة العجز والانقطاع عن إقامة البينة والمعنى ادعوا غير الله للشهادة لكن استشهاد غير الله بالمعنى الحقيقي واستشهاد بقولهم الله شهيد فدعوتهم للاستشهاد لا للاستظهار والمقصود بيان أنهم لم يبق لهم تشبث أصلاً وضمير أنه للشأن، وبما قرّرناه عرفت أنّ ما قيل هنا من أنه لا يبعد في هذا الاحتمال أيضا أن يكون من دون الله بتقدير من دون(2/43)
أوليائه لا وجه له هنا، والمبهوت المتحير المدهوس لانقطاعه، والديدن العادة كالديدان وفي شرح ديوان المتنبي للواحديّ الديدن العادة ورواه الخوارزمي بكسر الدال الأولى كأنه أراد أنه معرّب ديدن وليس في كلامهم فيعل بكسر الفاء انتهى.
قوله: (أو شهدائكم الذين اتخذتموهم من دون الله ولياء أو كهة الخ) هذا أول الوجوه في الكشاف وهو الرابع هنا، وشهدائكم مجرور في النسخ ولذا رسمت همزته بصورة الياء فهو معطوف على ادعوا في قوله بادعوا، يعني أنّ من متعلق بشهدائكم وما بعده هو الخامس وهو ثاني الوجوه في الكشاف وقد مرّ تحقيقهما والفرق بينهما وحال الظرف فيهما فلا حاجة لاعادته هنا، وتفسير الشهداء بالآلهة هنا وما عليه وتوجيهه والأمر للاستظهار تهكماً والعامل الشهداء نفسه أو ما دلّ عليه واطلاق الشهداء على الآلهة لزعمهم أنهم شهداء وشفعاء لهم عند الله إذاً والوهم واتخذوهم آلهة دون الله، وقد وقع في النسخ اختلاف هنا ففي أكثرها شهدائكم الذين اتخذتموهم بالجرّ بدون باء وفي بعضها أي الذين اتخذتموهم بزيادة أي التفسيرية قيل وهو الصواب وعليه دون للتجاوز ظرف مستقرّ حال عامله ما دل عليه شهداء وهو اتخذتموهم، وفي بعضها أو بشهدائكم الذين الخ بالباء الجارّة في أوّله، قيل وكض ش على الأوّل يحتمل عطفه على
قوله شهداء يشهدون وحينئذ يكون تعلق من بادعوا على حاله والتفاوت باعتبار المشهود به، وهو المماثلة في الأوّل وما زعموه مما ينفعهم يوم القيامة في الثاني ويحتمل أن يعطف على قوله ادعوا ويدل عليه النسخة الثانية غير أن تعلق من بشهدائكم باعتبار تضمنه معنى الاتخاذ وبتقدير مفعوله أعني أولياء بعيد جدا إذ لا وجه لهذا التضمن الأسبق العلم بأنهم اتخذوا ما زعموا شهادته أولياء أو ألهة ولا يخفى عليك أنه لا يكفي في انتقال الذهن إلى هذا المراد إلا أنّ المصنف رحمه الله تبع الكشاف في هذا التوجيه (أقول الا يخفى ما فيه من العنى ول عن جاذة الصواب أمّا ما قدمناه من أنّ الصواب الإتيان بأي التفسيرية فسقوطه ظاهر لأنّ الذين على النسخة الأخرى عطف بيان مفسر لما قبله فهو غنيّ عن البيان وقوله: أنه متعلق بالاتخاذ تعسف تبين وجهه مما قصصناه عليك أوّلاً في شرح كلام الزمخشريّ وبهذا ظهر لك سقوط ما بعده لابتنائه على غير أساس فمآل النسخ كلها إلى معنى واحد كما لا يخفى. قوله: (أو الذين يشهدون لكم الخ) قد مرّ من بيانه ما يغني عن تحمل مؤنة التكرار فيه وقوله من قول الأعثى الخ أي كون من دون بمعنى قدام من قبيل ما اشتهر في كلام العرب كما في بيت الأعشى والأعشى شاعر معروف جاهليّ وهو أفعل من العشا وهو نوع من ضعف البصر يمنع الرؤية ليلاَ، واسمه ميمون بن قيس بن جندل وهو من بكر بن وائل أدرك زمن النبيّ صلى الله عليه وسلم ومدحه بقصيدة لكن سبقت شقوته فلم يأت له وقصته مشهووة، والبيت المذكور من قصيدة له في ديوانه مدح بها رجلا يلقب بالمحلق واسمه عبد الحليم بن حنتم بن شداد وأولها:
أرقت وما هذا السهاد المؤرّق وما بي من سقم وما بي معشق
ومنها:
فقدأقطع اليوم الطويل بفتية سماميح تسقى والخباء مروّق
ودرّاعة بالطيب صفراء عندنا لجس الندامى في يد الدرع مفتق
وساق إذا شئنا كميس بمشعر وصهباء زباد إذا ما ترقرق
تريك القذى من دونها وهي دونه إذا ذاقها من ذاقها يتمطق
وروي وهي فوقه وذوّاقها بدل دونه ومن ذاقها، والقذى بفتح القاف والذال المعجمة مقصور شيء قليل من تراب ونحوه بقع في العين أو الشراب ويرسب في الإناء والكأس، والتمطق تفعل من المطق وهو التذوّق والتصويت باللسان أو بمص شفته من لذتها وقد فسر بكل منها هنا، وتريك بضم التاء الفوقية من الرؤية البصرية وفيه ضمير مؤنث مستتر يعود للصهباء وهي الخمر في البيت الذي قبله كما سمعته آنفا وهكذا فسر في شرح ديوانه وما في
شرح الشريف هنآ تبعاً لغيره من الشراح من أنه يصف الزجاجة(2/44)
بغاية الصفاء وأنها تريك القذى قدّامها والحال أنها قدام القذى والضمير في ذاقها باعتبار ما فيها على قياس قولك شربت كأسا والأوّل باعتبار نفسها حذوا فيه حذوا لكشف وهو تبع الأزهري في قوله: لا يريد أنّ هنالك قذى وإنما يريد أن يصف صفاء الزجاجة ويبالغ فيه وعليه ففيه تجوّزوا استخدام لطيف لكن يأباه أنه لم يسبق للزجاجة ذكر في هذا الشعر، وإنما الضمير فيهما للصهباء بمعنى الخمر وهو وصف لها أيضاً بغاية الرقة والصفاء-ضى كات ما تحتها فوقها وما خلفها قدّامها والتبكيت التقريع والغلبة بالحجة وقريب منه ما قيل إنه الإسكات والتهكم الاستهزاء وهو المراد وله معان أخر وهو في قول الحماسيّ:
سرى الليلة الظلماء لم يتهكم
بمعنى لم يخطئ والتهكم في غير هذا التندّم وقيل معنى لم يتهكم لم يتميز عليهم والتهكم التكذب على ما فصل في شروح الحماسة وقد مرّ بيان ما هنا فتذكر. قوله: (وقيل من دون الله الخ) بتقدير مضاف ليقابل أولياء الأصنام كما يقابل الله أصنامهم والأمر كما مرّ لإرخاء العنان والاستدراج إلى غاية التبكيت أي تركنا إلزامكم بشهداء لا يميلون لأحد الجانبين كما هو العادة واكتفينا بشهدائكم المعروفين بمعاونتكم من الفصحاء والرؤساء فإن شهدوا لكم قبلنا شهادتهم مع أنهم لا يفعلون ما يشهد العقل بخلافه لبلوغ أمر الإعجاز إلى حد لا يخفى فالشهداء بمعنى الرؤساء وهو ناظر لتفسيره بالإمام والظرف حاله معلوم والوجوه مستعار من الجارحة للرؤساء والمشاهد جمع مشهد وهو المجلس الذي يشهده الناس ويحضره الكبار. قيل ولما لم تقم قرينة على هذا التقدير ولا ضرورة فيه ضعفه المصنف رحمه الله تعالى وقيل: لأنه يؤذن بعدم شمول! التحدي لأولئك الرؤساء وليس بشيء، وقد قيل أنّ تخصيص التمريض بهذا الوجه مع ظهور ضعف غيره من الوجوه لا وجه له وهذا الوجه مشترك بين التعلق بادعوا وبالشهداء عند الزمخشرفي وبما قصصناه عرفت استيفاء المصنف لجميع الوجوه وأن قيل إنه ترك سادسها فتنبه. قوله: (إنه من كلام البشر الخ) أي في أنه والجار يطرد تقديره مع أن وأن كما لا يخفى أي إن كنتم صادقين في أنه من كلام البشر أو في أنكم تقدرون على معارضته فافعلوا أو فأتوا بمقدار أقصر سورة منه وهذا معنى قوله إنّ جواب أن الشرطية محذوف لدلالة ما قبله عليه وهو جواب الشرط الأوّل وليس الجواب المقدم جوابا لهما ولا متنازعا فيه كما لا يخفى وذكر التنازع هنا لغو من القول. فإن قلت لم يذكر فيما سبق ادّعاؤهم أنه من كلام البثر بل ارتيابهم وشكهم فيه والشك من قبيل التصوّر الذي لا يجري فيه صدق وكذب بلا شك
والقول بأنّ المراد إن كنتم صادقين في احتمال كونه من كلام البشر لا يدفع السؤال لأنّ الاحتمال شك مع ما فيه من التكلف وكذا ما قيل من أنهم كانوا منكرين لأنه من كلام الله لكن نزل إنكارهم منزلة الشك لأنه لا مستند له فلذا صدر بكلمة الشك وكذا القول بأنهم عالمون بأنه كلام الله لكنهم يظهرون الريب فقيل لهم إن كنتم صادقين في دعوى الريب فهاتوا ما يصلح الريب كأقصر سورة قلت المراد من النظم الكريم والله أعلم الترقي في إلزام الحجة وتوضيح الحجة فالمعنى إن ارتبتم فاتوأ بنظيره ليزول ريبكم ويظهر لكم أنكم أصبتم فيما خطر على بالكم وحينئذ فإن صدقت مقالتكم في أنه مفتري فأظهروها ولا تخافوا فإن قلت لم لم يقل فإن ارتبتم وهو أظهر وأخصر. قلت عدل عنه لابلغيته بدلالنه على تمكنهم وانغماسهم فيه. ؤما قيل من أنّ تقدير الجواب كلام نحويّ لا يرضاه أهل المعاني وقد جعلوا نحو قوله:
كأنك كالليل الذي هو مدركي وإن خلت أنّ المنتاى عنك واسع
من المساواة كلام واه وغفلة عن أنّ الممنوع تقدير جوابه أن الوصلية وهي لا تكون بدون
وأو ولأنّ الجواب بعينه فيما ذكر تقدم فلا يحتاج لجواب وما هنا ليس كذلك. قوله: (والصدق الإخبار المطابق) أي الصدق الواقع صفة للمتكلم وفي الصدق والكذب مطلقاً ثلاثة مذاهب مشهورة كما بين في كتب المعاني وثبوت الواسطة بينهما وعدمها المبنيّ على الخلاف ظاهر وأصحها أنه مطابقة الواقع وهو نفس الأمر وقد يعبر عنه بالخارج وان كان تد يخص بالمحسوس والمراد بقوله: الإخبار المطابق للمخبر(2/45)
عنه في الواقع وتركه لظهوره. قوله: (وقيل مع اعتقاد المخبر) على زنة اسم الفاعل أي الصدق يتحقق بمطابقة الواقع واعتقاد المخبر أنه مطابق له اعتقاداً ناشئاً عن دلالة يقينية أو عن إمارة ظنية بناء على أنّ الاعتقاد يطلق على ما يشمل العلم، والظن الراجح ويحتمل أنه بيان لطريق الاطلاع على اعتقاده الخفي فاعتبار. في الصدق باعتبار ما يظهر من حاله بالوجه المذكور، والظاهر أنّ هذا مذهب الجاحظ إلا أنه يرد على المصنف حينئذ أنّ الاستدلال بالآية المذكورة إنما هو لمذهب النظام كما في المفتاح وغيره من كتب لتعاني لقوله بأنه المطابق للاعتقاد فقط فإنه تعالى كذبهم لعدم مطابقة كلامهم لاعتقادهم وان طابق الواقع وفي شرح التلخيص لابن السبكيّ أنّ ابن الحاجب رحمه الله جعل هذه الآية دليلاَ للجاحظ وتبعه المصنف لأنها تصلح له ولذا قيل إنه اتجه على السكاكيّ أنه يجوز أن يكو) ، التكذيب لأنّ الصدق مطابقة الواقع مع الاعتقاد وأنه لا وجه لترك المصنف التعرّض! لمذهب النظام مع أنه أقرب إلى الحق لأنه لم يبطل فيه انحصار الشبر في الصادق والكاذب وقال بعض الفضلاء مبني ما ذكره المصنف على أنّ مطابقة الواقع معتبرة في مفهوم الصدق بلا نزاع لكثرة الأدلة عليها فلما كذب الله المنافقين علم أنه اعتبر معها شيء آخر وهو مطابقة الاعتقاد فتأمّل وقال الراغب: الصدق والكذب أصلهما في القول ماض! ياً كان أو مستقبلاً وعدا كان أو غيره ولا يكونان بالقصد الأوّل في القول إلا في الخبر دون غيره من أصناف
الكلام ولذا قال تعالى: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ حَدِيثًا} [سورة النساء، الآية: 87] وقوله: إنه كان صادق الوعد وقد يكونان بالعرص في غيره كالاستفهام لأنّ في ضمنه خبراً والصدق مطابقة القول الضمير والمخبر عنه معاً ومتى انخرم شرط من ذلك لم يكن صدقا بل إما أن لا يوصف بالصدق وامّا أن يوصف تارة بالصدق وتارة بالكذب على طريقين " ختلفين كقول الكافر من غير اعتقاد محمد رسول الله فإنّ هذا يصح أن يقال صدق لكون المخبر عنه كذلك ويصح أن يقال كذب لمخالفة قوله لضميره، وللوجه الثاني أكذب الله المنافقين حيث قالوا إنك لرسول الله فقال: {وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} انتهى. قوله: (ورذ بصرف التكذيب الخ) قد قرع سمعك فيما مضى أنّ الشهادة وقولك أشهد بكذا هل هو إنشاء متضمن للإخبار أو خبر صرف وقول المصنف رحمه الله أنّ الشهادة إخبار ظاهر في الثاني والجمهور وانّ رجحوا أنها إنشاء قالوا إنّ المشهود به خير ولذا قيل في قوله تعالى: {وَاللهُ يَشْهَدُ} [سورة المنافقون، الآية: ا] أنّ الكذب راجع للمشهود به في زعمهم وصرفه تحويله بالعدول عن الظاهر من تعلقه بقوله إنك لرسول الله إلى جعله متعلقا بما تضمنه تشهد من دعوى العلم وليس كذلك في الواقع فينطبق على مذهب الجمهور وفي المطوّل ما قيل من أنه راجع إلى قوله نشهد لأنه خبر غير مطابق للواقع ليس بشيء لأنا لا نسلم أنه خبر بل إنشاء وقيل عليه أنه يتضمن الإخبار وأن كان إنشاء لكن المحقق قصد ردّ من جعل التكذيب راجعا إلى صريح مدلول نشهد بزعم أنه خبر فإن قلت قوله تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ} [سورة البقرة، الآية: 146] يدلّ على أنّ شهادتهم كانت إخباراً عن علم. قلت العلم المعتبر في الإيمان مشروط كما قيل بالرضا والتسليم وهم لا يقصدون بقولهم نشهد ذلك لأنه الذي ينجيهم لا التصديق الخالي عنه ولا يخفى عليك أنّ قول المصنف ما كانوا عالمين يأبى ما ذكر من الجواب فينبغي دفعه بطريق آخر. فإن قلت إذا كان الكذب في تسمية الإخبار الخالي عن الاعتقاد شهادة لأنها في ااطغة ما يكون عن علم واعتقاد يكون غلطاً كقولك خذ الثوب مكان خذ الكتاب لا كذباً إذ الكذب راجع لما تضمنه من الخبر وهو مواطأة ما نطقوا به لما في قلوبهم. قلت هذا وان توهمه بعضهم لا وجه له فإنّ الشهادة تدل على العلم والتحقق سواء كان بطريق الوضع أو دلالة الفحوى وسواء كان خبراً صريحاً أو إنشاء يلزمه خبر آخر فإذا لم يكن كذلك كان كذبا والتكذيب راجع لمدلوله فجعله غلطا غلط ثم إنه قيل على المصنف أنّ كلامه ظاهر في تقرير مذصب الجاحظ في اعتبار المطابقتين وما استدل به عليه هو دليل النظام على أنه مطابقة الاعتقاد فقط إلا أنه لم يرد ردّه بل أراد الردّ على الراغب حيث اختار ما يشبه مذهب الجاحظ واستدلّ عليه بدليل النظام فردّه بما ردّ به الجمهور على النظام(2/46)
فإنه قال إمّا الصدق فإنه يحد بمطابقة الخبر المخبر عنه لكن حقيقته وتمامه أن يتحقق فيه ثلاثة أشياء وجود المخبر عنه على ما أخبر
عنه واعتقاد المخبر فيه ذلك عن دلالة أو إمارة وحصول عبارة مطابقة لهما فمتى حصل ذلك وصف بالصدق المطلق، ومتى ارتفع ثلاثتها وصف بالكذب المطلق ومتى حصل اللفظ والمخبر عنه وألاعتقاد بخلافه صح أن يوصف بالكذب ألا تراه تعالى كذب المنافقين في إخبار: {إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} [سورة المنافقون، الآية: ا] لما كان اءمقادهم غير مطابق لقولهم، فإذا قال من اعتقد أنّ زيدا في الدار زيد في الدار ولم يكن فيها صح أن يقال صدق اعتقاده أو كذب إلا أنّ كلامه مناد على أنه يعتبر في الصدق مطابقة الواقع كالجمهور وإنما يعتبر المطابقتين في الكامل بحيث لا يشوبه كذب بوجه ما وظاهر أنه إذا انتفى الاعتقاد لا يكون كذلكءفيجوز أن يتصف بالكذب بحسب الاعتقاد أنه غير مطابق للواقع وقد اعترف هذا الجمهور في جواب النظام كما في التلخيص وشروحه ومراد الراغب بإيراده الآية ذكر شاهد على أنّ الكلام يوصف بالكذب باعتبار أنّ اعتقاد المخبر أنه غير مطابق الواقع لأنّ الاستدلال على أنّ مطابقة الاعتقاد معتبرة في أصل الصدق كمطابقة الواقع فظهر أنّ الردّ في قول المصنف وردّ الخ غير واقع موقعه لأنه إنما هو ردّ للنظاء لا للراغب فتدبر وأخرج رأسك من ربقة التقليد، وتمسك بعروة الإنصاف والرأي السديد (أقول) ما أطال فيه من التصلف، مع أنه ظاهر التكلف غير صحيح في نفسه وما نقله من تفسير الراغب مسطور فج غيره من كتبه، وقد نقلناه بلفظه في المفردات ليتمّ بنور البيان فنقول المذاهب الثلاثة مشهورة فلا إفادة في الإعادة والذي نقله عن الراغب من الأمور الثلاثة المعتبرة فيه ترجع إلى مطابقة الواقع والاعتقاد كما نقلناه لك فإن الأمر الثالث وهو مطابقة العبارة لا يزيد في المطابق بالفتح شيئا وإنما يفيد تغاير المطابق والمطابق كما لا يخفى فمذهب الراغب بعينه مذهب الجاحظ من غير فرد فيرد عليه ما يرد عليه من غير شبهة وليس مذهب رابعاً كما توهمه إلا أنه لما صرّج باعتبار الأمرين كالجاحظ إن أراد اعتبارهما في حقيقته فما بعده من إطلاق الصدق على ما فيه أحدهما تجوّز وان أراد اعتبارهما في كماله فالإطلاق الآخر حقيقة، وكلامه كالتوفيق بين المذاهب والظاهر هو الأوّل ولو سلم أنه مذهب آخر فالمصنف لم يتعرّض له فكيف يذكر في كلامه الردّ عليه من غير دليل ولا قرينة ومثله تعمية والغاز لا اختصار وايجاز فاعرفه. قوله: (لما بين لهم ما يتعرّفون به الخ) في الكشاف لما أرشدهم إلى الجهة التي منها يتعرّفون أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم وما جاء به حتى يعثروا على حقيقته وسرّه وامتياز حقه من(2/47)
باطله قال لهم فإذا لم تعارضوه ولم يتسهل لكم ما تبغون وبأن لكم أنه معجوز عنه فقد صرّج الحق عن محضه ووجب التصديق فآمنوا وخافوا العذاب المعد لمن كذب انتهى وهو تفسير لهذه الآية إجمالاً على وجه يتبين به ارتباطها بما قبلها وتفريعها عليها والى ذلك أشار المصنف أيضاً مع تغيير ما في التعبير لمعنى اختاره فما يتعرّفون به هو والجهة أي الطريقة التي منها التعرّف واحد، ويتعرّفون إمّا بمعنى يعرفون معرفة قوية لأنّ صيغة التفعل تكون
للمبالغة لزيادة البنية كما صرّحوا به أو المراد ما يتطبون معرفته والوصول إليه، وعلى هذا اقتصر شرّاح الكشاف لأنّ صيغة التفعل تأني للطلب الحثيث نحو تعجل الشيء إذا طلب عجلته كاستعجله ومنه ما في الحديث ليس منا من لم يتغن بالقرآن عند بعضهم أي ليستغن به ويطلب الغني كما ذكره النحاة في معاني أبنية الأفعال وقوله: وما جاء به في محل نصب أو جرّ لصحة عطفه على أمر وعلى الرسول فإن عطف على الرسول فهو من قبيل أعجبني زيد وكرمه وأمر الرسول وان كان عامّا لكل ما جاء به ولغيره من أموره فالمقصود منه هنا ما جاء به لأنه المناسب لما قبله مع ما فيه من البلاغة ولذا اختاره شرّاح الكشاف فإن عطف على الأمر وأريد به صدقه في مدعاه وأريد بما جاء به القرآن الذي ليس من جنس كلام البشر فليس منه لما قصد من الفرق بين الأمرين إلا أنّ الأوّل أرجح رواية ودراية لما عرفته فلا وجه لمن لم يرضى به إلا امنثال خالف تعرف، وقوله وميز لهم الحق عن الباطل أحسن من قوله في الكشاف امتياز حقه من باطله لإيهام الإضافة أنّ قي أمره باطلاً وإن كانوا أوّلوه بكونه حقا عن كونه باطلاً أو المراد بباطله ما هو باطل على زعم الكفرة والرسول في كلامه أنسب من النبيّ أيضاً، ومعنى الفذلكة كما مرّ إجمال يقرب من النتيجة ويضاهيها من قولهم فذلك يكون كذا وهو إشارة إلى توجيه الفاء في النظم ووقوعها موقع تفريع النتيجة وحاصل المعنى على تفصيله وما يقتضيه وهو مما نوّر به ما في الكشاف وأجاد فيه وقوله: وعجزتم جميعا إشارة إلى العموم المستفاد من خطاب المشافهة كما مرّ وأمّا ذكر الشهداء فلا مدخل له فيه بل هو بالتخصيص أنسب فلا وجه لذكره وقوله: يساويه أو يدانيه أي يقاربه في البلاغة والأسلوب والمساواة وان كانت بحسب الأصل في الكمية فالمراد بها المشابهة التامّة بقرينة مقابله وما ذكر إشارة لتعميم المماثلة وأنه لا يشترط فيها المساواة وقد صرّح الراغب بعموم المثل لجميع وجوء الشبه القريبة والبعيدة، وقيل المداناة من حاق اللفظ وصريحه لأنّ المشبه به يكون أقوى في وجه الشبه وأما تعليق الاتقاء بعدم الإتيان بما يساويه فلا يستفاد منه بل ينافي التعليق بالعجز عن الإتيان بما يدانيه وليس بشيء لما عرفته. قوله: (ظهر أنه معجز والتصديق به الخ) يعرف أمر الرسول تجت! ر من التحدي الدال عليه قوله: {فَأْتُواْ} الخ والفذلكة من قوله: {فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ} الخ وهذا إشارة إلى أنّ جزاء الشرط بحسب الظاهر وهو قوله: {فَاتَّقُواْ} الخ. كناية عما يلزمه من ظهور إعجازه والزامهم الحجة الموجبة للإيمان به وبما جاء به كما سيصرّح به عقبه ولا تقدير في الكلام عند الشيخين خلافاً لمن فهم من كلام المصنف رحمه الله تقديره للجزاء جملة خبرية والزمخشريّ تقديره جملة إنشائية لاختلافهم في وقوع الإنشاء جزاء فمنهم من أوجب تأويله بما أوّلوا به خبر المبتدأ.
ومنهم من لم يوجبه لعدم الحمل المقتض له فلما لم تكن هذه الإنشاحمية في موضع الجزاء حقيقة لانتفاء ألارتباط انفتح باب التقدير فقدر المصنف ما يصلح للجزائية اتفاقا وجعل المذكور لازما له مترتباً عليه كما أشار إليه بقوله: فآمنوا الخ وليس قوله ظهر من تتمة الشرط لعدم عطفه ولا بدلاً من قوله: عجزتم والجزاء ئآمنوا وقوله: فاتقوا منزلاً منزلته، وقال قدس سرّه قولط الزمخشري: قال لهم الخ. بيان لمآل المعنى وتنبيه على أنّ {فَاتَّقُواْ النَّارَ} كناية عن التصديق وترك العناد وقد توهم أنّ مراده أنه تعالى رتب على ذلك الإرشاد تكميلا له شرطيتين إحداهما محذوفة الجزاء والأخرى محذوفة الشرط فقوله فإذا لم تعارضوه الخ معنى قوله: {فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ} وقوله: فقد صرّح الخ جواب لهذا الشرط المحذوف وقوله: {فَآمِنُواْ} معنى قوله: {فَاتَّقُواْ} وهو جزاء لشرط مقدر أي إذا صرّح الحق عن محضه {فَأَمِنُواْ} وليس بشيء لأنّ {فَاتَّقُواْ} جواب {فَإِن لَّمْ} الخ وقوله فإذا لم تعارضوه إيماء إلى أنّ إن وقعت موقع إذا وأنها للاستمرار دون مجرّد الاستقبال كما يجيء، وإذا جعلت قوله فقد صرّح الحق عن محضه الخ هو الجزاء كان مآله إلى ما قاله المصنف وسيأتي له تتمة عن قريب. قوله: (فعبر عن الإتيان المكيف الخ) أي كان الظاهر أن يقال فإن تأتوا بسورة من مثله فعبر عن الفعل الخاص وهو الإتيان المقيد بسورة من مثله بالفعل المطلق عن المتعلق العام بحسب الظاهر للإيجاز إيجاز القصر حيث أوقع الفعل وحده موقع الإتيان المقيد بسورة من مثله وهو مؤدّ لمعناه لأنه المراد منه والفعل كما قاله الراغب أعمّ من سائر أخواته من الصنع والإبداع والإحداث كما فصله والمكيف اسم مفعول من كيفت الكيفية التي هي أحد الأعراض! المعروفة وفسرها في المصباح بالهيئة والصفة وهي لفظة مولدة من كيف الاستفهامية كالكمية من كم فإن قلت ليس المراد بالفعل المنفيّ في لم تفعلوا مطلق الكعل بل الإتيان المقيد بقرينة السياق والسباق، فلو قال: فإن لم تأتوا الخ فهم المراد قلت فيما عبر به إيجاز وكناية أبلغ من التصريح وأخصر مع إيهام نفي الإتيان بالمثل وما يدانيه وغيره باعتبار ظاهره وان لم يكن مراداً. قوله: (إيجازاً) عدل عما في الكشاف من قوله والفائدة فيه أنه جار مجرى الكناية التي تعطيك اختصارا ووجازة تغنيك عن طول المكنئ عنه. ألا ترى أنّ الرجل يقول ضربت زيدا في موضع كذا على صفة كذا وشتمته ونكلت به ويعدّ كيفيات وأفعالاً فتقول له بئس ما فعلت، ولو ذكرت ما أنبته عنه لطال عليك الخ. وقد اختلفوا(2/48)
كما قال قدس سرّه في معنى جريانه مجرى الكناية فقيل أراد بالكناية الضمير المبنيّ على الاختصار ودفع التكرار لكنه مختص بالأسماء، وهنا عبر عن فعل مخصوص بالفعل للاختصار ودفع التكرأر فهو في الأفعال بمنزلة الضمير في الأسماء، وقيل أراد بالكناية ما يقابل المجاز لإطلاق اللازم من الفعل وارادة ملزومه وهو الإتيان بالسورة إلا أنه حينثذ كناية لا جار مجراها، واعتذر له بأنّ الملازمة ليست متساوية لأنّ الفعل أعمّ مطلقا
وحصول الانتقال منه بمعونة المقام فلذا أجرى مجراها، وفيه أنه لا يقدح في كونه كناية حقيقة كما إذا جعل الفعل مطلقا كناية عنه مقيداً بفعل مخصوص وقوله تغنيك عن طول المكنئ عنه يؤيد الأوّل إذ ليس مبني هذه الكناية على الوجازة إلا أن يقال المراد بها المعنيان معا، ولو قيل يجوز أن يحذف متعلق الإتيان أو يجعل هو مطلقا كناية عنه مقيدا بما تعلق به فلا استطالة يدفع الأوّل بأنّ إيجاز القصر أبلغ، والثاني بأنّ الاحتراز عن التكرار أولى لأنّ ما ذكره أخصر وأظهر مما تكلفوه وقالوه (أقول) الكناية في مصطلح البيان غير خفية وعند النحاة وأهل اللغة كما فصله نجم الأئمة الرضي في المبنيات هي أن يعبر عن شيء معين لفظا كان أو معنى بلفظ غير صريح في الدلالة عليه إمّا للإيهام على سامع كجاءني فلان وأنت تريد زيد أو كيت وذيت وكذا وكذا أو بثاعة المعبر عنه، كهن للفرج أو للاختصار كالضمائر أو لنوع من الفصاحة ككثير الرماد للمضياف والمكئ عنه يكون لفظا بمجرّده أو مرادا به معناه كقوله:
كأنّ نعلة لم تملأ بوائكها
وألفاظ الأوزان إذا عرفت هذا ففيما ذكوه الشريف تبعا لغيره هنا نظر لأنّ الكناية لا تختص بالضمائر عند أحد فالحمل عليها غير ظاهر، والتساوي في اللزوم بأن يكون اللازم لازما مساويا لم يشترطه أحد وكأنّ قوله لا يقدح الخ إشارة لهذا وفيما أيد به الأوّل نظر أيضا لأنّ الاختصار غير مشروط في الكناية اللغوية كالاصطلاحية وادّعاء أكثرية غير مسلم والقول بأنه قد يكون كذلك لا يجدي نفعاً لاستوأئهما فيه، فقولك فهلان ليس باكلول من زيد وكذا أنا وبعض الكنايات الاصطلاحية إيجاز كما صرّحوا به والجواب بأنّ المراد المعنيان معا فيه استعمال المشترك في معنييه وهو في الاصطلاحين أبعد فالأولى أن يقال: أراد الأعم الذي اصطلح عليه أهل العربية كما سمعته آنفا من شموله للكناية البيانية. قوله: (ونزل لازم الجزاء منزلته الخ) هذا صريح فيما قدمناه من عدم التقدير على كل تقدير والمراد أنه ترتب وجوب الإيمان وترك العناد على عجزهم بعد الاجتهاد التامّ واتقاء النار لازم له وهو دفع لما يتوهم من أنّ اتقاء النار لازم وواجب مطلقاً من غير توقف على هذا الشرط فما معنى تعليقه بانتفاء ذلك الإتيان أو أنّ الشرط سبب للجزاء، وملزوم له وليس عدم الإتيان بما ذكر سببا للاتقاء ولا ملزوماً له فكيف وقع جزاء له فأجاب بأنه كناية عن ظهور إعجازه المقتضي للتصديق والإيمان به أو عن الإيمان نفسه، وقيل إنه جعل في الكشاف الاتقاء عن النار كناية عن ترك العناد، والمصنف جعله كناية عن الإيمان وكلاهما حسن إلا أنه في الكشاف جعل ترك العناد نتيجة للاتقاء عن النار فاتجه عليه أنه ليس ذكر الملزوم وارادة اللازم كناية بل العكس، وإن أجيب عنه بما فصلوه وفيه بحث. قوله: (تقرير للمكنى عنه) بيان لوجه سلوك الكناية وأنها اختيرت هنا لأمور كتقرير المعنى أي تثبيته وتبيينه لأنه كإثبات الشيء ببينة لما بينهما من التلازم والتهويل وهو التفخيم مع الإنذار والتخويف لأنه إذا ثبت اتقاء النار بترك العناد فقد أقيم العناد مقام النار
كما في قوله تعالى: {فَمَآ أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ} [سورة البقرة، الآية: 75 ا] لأنّ معناه ما أكثر عصيانهم، وهو من أبلغ الكلام كما قاله المرزوقيّ رحمه الله وفيه تصريح بالوعيد وأنهم يستحقون النار ويعاقبون بها لتمرّدهم مع ما فيه من الإيجاز فإنّ الجزاء الحقيقي كما قاله تقديره ظهر أذه معجز وأنّ التصديق به واجب فآمنوا به أطول من قوله اتقوا النار لأنّ الصفة لا دخل لها في الجزاء والكناية كما لا يخفى، وقيل الإيجاز من ترك ذكر العناد وإقامة النار مقامه فإنّ أصل المعنى فاتقوا العناد الذي مصير أمره عذاب النار، وتيل إنّ قوله مع الإيجاز قيد للأخير أو للمجموع(2/49)
وهو ردّ لما في الكشاف حيث جعل الإيجاز وجهاً مستقلاً وهو لا يصلغ له إن لم يوجه بأن الوسايط التي صرّح بها في ارتباط الجزاء بالشرط مرادة بحسب المعنى وان لم تقدر في العبارة ويرد عليه أنه لو قيل فاتركوا العناد كانت تلك الوسايط مرادة أيضا فلا إيجاز بحسب الكناية إلا أن يوجه بما قيل من أنه أريد بهذه الكناية مجموع المعنيين من اتقاء النار وترك العناد معا فيكون مؤخراً، ويشمل الإيجاز كل كناية أريد بها معنياها جميعا (أقول) : هذا برمّته مأخوذ من شرح الكشاف الشريفي وقد عرفت أنه لا يجري في كلام المصنف رحمه الله لأنه لا يوافقه فيما قدّره جزاء وجواباً كما مرّ ولو وافقه لم يكن لذكره وجه أيضاً سواء كان مستقلا أو بطريق التبعية والمعية، والعجب من هذأ القائل أنه ذكر هذا بعيته في شرح قوله: معجز فما أسرع ما نسي ما قدّمه بين يديه وما بالعهد من قدم وقد عرفت أيضا أنه يرد على الزمخشرفي أنه إذا كان ترك العناد لازما كان إطلاق الاتقاء عليه تعبير بالملزوم عن اللازم فيكون مجازاً لا كناية ولذا عدل عنه المصنف رحمه الله وأن كان غير مسلم كما فصله قدس سرّه وسيأتي تحقيقه. قوله: (وصذّر الشرطية بأن الخ) أي هذه الجملة الشرطية جاءت على خلاف الظاهر ومقتضى الحال كما أشار إليه بقوله والحال أي وظاهر الحال المناسب للمقام والسياق، وكون أن الموضوعة للشرط تفيد الشك وإذا الظرفية المضمنة معنى الشرط تقتضي الجزم والقطع مما اتفقوا عليه، فإذا خرج كل منهما عن مقتضاه فلا بدّ له من وجه والمراد بالوجوب في كلام المصنف رحمه الله الجزم والقطع فهو بالمعنى اللغويّ وفي المصباح وجب الحق يجب وجوبا وجبة لزم وثبت وهو قريب مما فسرناه به، وما قيل من أنه عبر عن الوقوع المقطوع بالوجوب جريا على ما بين المتكلمين من أنّ الوجود مسبوق بالوجوب فما لم يجب لم يوجد مما لا حاجة إليه ولا يفيد التفسير بل التعقيد ومقابلته بالشك تغني عن الشرح، وأصل الشك المستفاد من أدائه وحقيقته من المتكلم فإن اعتبر حال المخاطب فعلى خلاف الأصل كما أشار إليه بقوله: أو على حسب ظنهم، وقوله: فإنّ القائل الخ تعليل لاقتضاء المقام الجزم وعدم الشك وقوله: ولذلك الإشارة إمّا لاقتضاء الحال أو لأنه تعالى لم يكن شاكا وان كان غير محتاج إلى التعليل لأنّ المراد إظهار نكتة الاعتراض.
وقيل: معنى لذلك لعلمه بحالهم أي بنفي الإتيان ولا يخفى أنه لا حاجة إلى الاستدلال
على أنه تعالى لم يكن شاكاً فالأوجه أن يصرف إلى تصدير الشرطية بأن أي لذلك التصدير ففي إتيانهم ففائدته نفي الشك الذفي توهمه عن ساحة سلطان علمه، ولك أن تقول: {لَن تَفْعَلُواْ} معطوف على {لَّمْ تَفْعَلُواْ} انتهى. ولا يخفى عليك أنّ جعل الإشارة للتصدير وان صح في غاية البعد وأمّا العطف الذي ارتضاه فغير صحيح بحسب العربية ولا بحسب المعنى ولذا لم يلتفتوا له مع ظهوره وهي جملة اعتراضية لا محل لها من الإعراب. وفيها كما في الكشاف نوع من الإعجاز ودليل آخر على إثبات النبوّة لما فيها من الإخبار بغيب لا يعلمه إلا ألله. قوله: (تهكماً بهم) منصوب مفعول له وتعليل لقوله: وصدر الشرطية بأن أي أنه كلام القويّ العزيز العليم بجميع الكائنات قبل وقوعها علما حضوريا جازماً منزهاً عن الشك فحاطبهم بمثله استهزاء منه وتحقيراً لهم كما يقول الواثق بالغلبة لخصمه إن غلبتك لم أبق عليك وتحميقاً لهم لشكهم في المتيقن الشديد الوضوح وهو على هذا يحتمل أن يكون استعارة تبعية تهكمية حرفية كما قيل ولا مانع منه ويحتمل الحقيقة والكناية كما في غيره مما جاء على خلاف مقتضى الظاهر، وقوله: أو خطابا الخ أي عبر بذلك نظراً لحال المخاطب لا القائل كما في الوجه السابق، وفي الكشاف يساق القول معهم على حسب حسبانهم وطمعهم وأنّ العجز عن المعارضة كان قبل التأمّل كالمشكوك فيه لديهم لاتكالهم على قصاحتهم واقتدارهم على الكلام أي أنّ هذا الكلام بعد قوله: وان كنتم في ريب بلا فاصل فلم يجدوا مهلة التأمّل حتى يحصل لهم التحقق وإنما قال: لم يكن محققاً ولم يقل كان مشكوكاً لأنهم لما لم يحصل مجال للتأمّل لم يحصل الشك أيضا ولذا قال الزمخشرفي: كالمشكوك إذ الشك إنما يكون بعد التصدي للتفحص عن حال الشيء لكنهم لما كانوا متكلين على فصاحتهم واقتدارهم على أفانين الكلام كان عجزهم بالقياس إلى ظاهر حالهم كالمشكوك فيه لديهم كما قال(2/50)
تعالى: {لَوْ نَشَاء لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا} [سورة الأنفال، الآية: 31] وفيه رمز إلى أنهم لو تأمّلوا لم يشكوا فتأمل. قوله: (وتفعلوا جزم بلم الخ) جزم بمعنى مجزوم كدرهم ضرب الأمير بمعنى مضروبه وهذا تعليل وبيان لكون العامل الجازم هنا لم لا إن الشرطية لأنه لما اجتمع عاملان وعملهما معا لا يجوز إذ لا يتوارد عاملان على معمول واحد رجحوا الثاني لأنه واجب الأعمال إلا في ضرورة أو شذوذ أو وجود مانع متصل بالفعل كنون التأكيد والإناث وهي مختصة بالمضارع كاختصاص حرف الجرّ بالاسم فكانت جديرة بأن تعمل فيه العمل الخاص به ولأنها لا تنفصل عنه إلا نادراً بخلاف إن ولأنها تقلبه إلى المضي فلما أثرت في معناه لقوّتها أثرت في لفظه وصارت معه
كفعل واحد ماض فلم يفعل بمعنى ترك وحرف الشرط حينئذ داخل على المجموع فيعمل في محل فعله ولا يلغى وليس هذا من التنازع في شيء وإن تخيل مشابهته له لأنّ ابن هشام في كتبه كنيره صرّح بأنّ التنازع لا يكون بين حرفين لأنّ الحروف لا دلالة لها على الحدث حتى تطلب المعمولات (أقول) كذا في شرح الكشاف وفي شرح أوضح المسالك ما نصه أجاز ابن العلج التنازع بيى ن الحرفين مستدلاً بقوله تعالى: {فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ} الآية فقال تنازع إن ولم في تفعلوا، ورذ بأن أن تطلب مثبتا ولم تطلب منفياً وشرط التنازع إلاتحاد في المعنى إلا أنّ أبا عليّ الافارسي أجازه في التذكرة كما نقله عنه الشاطبيّ فعلى هذا يصح أن يقال الجازم هنا أيضا أن فالحاصل إن لم جازمة للمضارع وإن جازمة للمحل لكثرة عملها فيه في نحو إن جئتني أكرمتك فتوفر حظهما من العمل كما أشار إليه المصمنف بقوله ولأنها لما صيرته ماضيا صارت كالجزء منه وحرف الشرط كالداخل على المجموع أي مجموع لم والفعل فعملهما محليّ فإن تلت هل المحل للفعل وحده أو للجملة أو للم مع الفعل كما هو ظاهر كلام المصنف. قلت: هذا مما لم يصرّحوا به وفيه إشكال لأنه إن كان للفعل وحده لزم توارد عاملين في نحو النسوة إن لم يقمن وان كان للجملة يرد عليه أنهم لم يعدوها من الجمل التي لها محل من الإعراب وان كانت للم مع الفعل فلا نظير له وعلى كل حال فالمقام لا يخلو من الإشكال وقد أطال فيه شارح المغني بما لا مآل له فليحرّر. قوله: (وإن كلاَ في نفي المستقبل الخ) وقد فرق بينهما برجوه كالاختصاص بالمضارع وعمل الممب، ونقل عن بعضهم أنها قد تجزم ولا يقتضي نفي لن التأبيد ولا غيره من طول مدة أو قلتها خلافاً لبعض النحاة في ذلك وليس أصلها لا أن لأنه سمع نادرا كما في قوله:
يرجى المرء مالاً أن يلاقي ويعرض دون أيسره الخطوب
ولا حجة فيه لاحتمال زيادة أن فيه وقد أورد عليه أن لن تضرب كلام تامّ وأن مع الفعل
اسم مفرد غير تام وتقدير ما يتمّ به معه تعسف أهون منه القول بأنه أصله فلما غير لفظه غير معناه وصار لمجرّد النفي، وقيل: أصله لا فأبدلت ألفه نونا ولما كان هذا كله تكلفا بغير طائل لم يرتضه المصنف رحمه الله وقال: إنه مقتضب أي مرتجل وضحع ابتداء هكذا، وأصل معنى الاقتضاب الاقتطاع. قوله: (والوقود بالفتح ما توقد به النار الخ) المشهور عند النحاة الفرق بين فعول وفعول بالفتح والضم فالثاني مصدر والأوّل اسم لما يفعل به وقال بعض النحاة: قد يكون مصدراً وحكي عن سيبويه في ألفاظ وهي الولوغ والقبول والوضوء والطهور وزاد الكسائيّ الوزوع وغيره اللغوب بمعنى التعب وبه قرئ في سورة ق، فتصير سبعة والمشهور في المفتوح أنه اسم فيه معنى الوصفية كالقارورة، وقد قرئ بالضم هنا في الشواذ وهي قراءة عيسى
ابن عمر والهمدانيّ وقال ابن عطية الضم والفتح محكيان في الحطب والمصدر فإن كان اسما لما يوقد به فلا حاجة إلى التأويل وإلا فحمله على النار مبالغة كرجل عدل أو بالتجوّز فيه، أو في التشبيه أو بتقدير مضاف في الأوّل كذو وقودها أو في الثاني كاحتراق وقيل فيه نظر يعني لأنّ الإيقاد غير الاحتراق ولذا قيل: فيه مسامحة لأنه يقال اتقدت النار ولا يقال احترقت بل الاحتراق أثره وقريب منه، والأمر فيه سهل، وحكى المصنف عن سيبويه أنّ من العرب من جعل المفتوح مصدرا والمضموم اسما على عكس المشهور وقوله عالياً بمعنى فصيحاً يقال لغة عالية وعلوية وهذه اللغة أعلى أي أفصح وأصله كما قيل من علياء(2/51)
نجد وأعلاه الفصاحة أهله بالنسبة لأهل تهامة وقوله: والاسم بالضم عطف على قوله المصدر بالفتح ثم أشار إلى تاً ويل المصدر بأنه تجوّز فيه كما يقال فخر قومه وهو ظاهر. قوله: (والحجارة الخ) جعل المصنف رحمه الله فعالة بالكسر جمعا لفعل بفتحتين شاذاً وقال ابن مالك في التسهيل: إنه اسم جمع لغلبة وزنه في المفردات وهو الظاهر. قوله: (والمراد بها الآصنام الخ) أي أنه تعالى قرنهم بها في الدنيا بتقديره كذلك وفي الآخرة لتفضيحهم ففيه عذاب روحاني وجسماني والمكانة أصلها المكان وهو محل الكون ثم تجوّز بها للقرب والقبول كما يقال له مرتبة ولمكانتهم باللام وفي نسخة بالباء والضمير للكفار أو للأصنام وهو أظهر لأنهم شفعاء بزعمهم والشفيع له مكانة عند المشفوع عنده، وحصب جهنم حطبها الذي يحصب فيها أي يطرج ويرمي كالحصباء والتعبير به هنا في موقعه وما قيل من أنّ الحصب الحطب وهو يبقى في النار زمانا ممتدا بخلاف الوقود وهم لأنه توهم أنّ الوقود ما تورى به النار ويشعل كالكبريت والحراقة وليس كذلك بل هو ما يوقد ويحرق مطلقا فلا حاجة لما تكلفه في جوابه، وتضرّرهم بما يرجى نفعه أشدّ لألمهم، وتحسرهم بالحاء المهملة إيقاعهم في الحسرة وهي أشد الغمّ والحزن والندم على ما فات تلافيه ووقع في بعض النسخ كما في الكشاف تخسرهم بالخاء المعجمة من الخسران وهو ظاهر وقيل: إنّ المصنف رحمه الله أشار بقوله: عذبوا بما هو منشأ الخ إلى تعذيبهم الجسماني وبقوله: أو بنقيض الخ إلى الروحاني فقد جمع لهم بين نوير العذاب. قوله: (وقيل الذهب والفضة الخ) لأنّ الذهب والفضة يسمى حجراً كما في القاموس وهو في العرف مختص بما لم
يصنع وش! بك وإعدادها بكسر الهمزة مصدر بمعنى جعلها معدة ومتخذة لهم، وما أورده المصنف على هذا التفسير من أنه غير مخصوص بهؤلاء لوجوده في مانعي الزكاة من غيرهم قد اجيب عنه بأنّ هذا التعذيب غير ذلك لأنه بإيقادها وجعلها بقدرته مما يشتعل كالحطب وتعذيب مانعي الزكاة بها بأحمائها وكيهم لأنهم لما تداووا بجميعها كان آخر دوائهم الكيّ كما قال تعالى: {فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ} [سورة التوبة، الآية: 35] الآية وشتان ما بينهما، ولعل هذا أحسن مما قيل من أنّ جمع المال مع مغ الزكاة هو معنى الكنز وهو في الكفار أكثر وأشد لتخليدهم ولا شبهة في أنّ اغترار المسلمين بالذهب والفضة ليس كاغترارهم والتخصيص إمّ من اللام في قوله: {أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} أو من الكافرين لأنّ ترتيب الحكم على الوصف يشعر بعلية مأخذه كما مرّ مرارا. قوله: (وقيل حجارة الكبريت الخ) مرضه وأخره لضعفه عنده لأنه تخصيص بغير دليل وغير مناسب للمقام كما ستسمعه وتغ فيه الزمخشريّ وقيل عليه أنّ القرينة العقلية قائمة عليه لأنه لا يتقد من الحجارة غيره مع أنه الثابت في التفاسير المأثورة دون غيره فإنه أخرج مسنداً في السنن وصحح روايته عن ابن عباس وابن مسعود رضي الله عنهم الطبرانيّ والحاكم والبيهقيّ وابن جرير وابن المنذر وغيرهم ومثل هذا التفسير الوارد عن الصحابيّ فيما يتعلق بأمر الآخرة له حكم الرفع بإجماع المحدّثين وقد رجحه كثير من المفسرين وعللوه بأنه أشد حرّا وأكثر التهابا وأسرع إيقاداً مع نتن ريحه وكثرة دخانه وكثافته وشدة التصاقه بالأبدان فلتخصيصه وجه بل وجوه رواية ودراية. قوله: (إذ الغرض تهويل شأنها الخ) بيان لأنّ هذا التفسير مناف لما سيق له الكلام، والتهويل أشدّ التخويف وأعظمه والتفاقم بالفاء والقاف العظم ويخص في الاستعمال بالمكروه وكونه منافياً له غير مسلم لما عرفته مما في الكبريت من الألم الذي ليس في غيره وكما تكون حدّة النار في ذاتها تكون في مادتها الموقود بها ولأنه يلتصمق بأبدانهم فيكون أشد عذابا لهم مع أنه يعدّهم لأن يكونوا حطب جهنم كما قال تعالى: {سَرَابِيلُهُم مِّن قَطِرَانٍ} [سورة إبراهيم، الآية: 50] وقوله: فإن صح هذا الخ قد عرفت أنّ المحدّثين صححوه فلا ينبغي الشك فيه وما أوّله به من قوله أنّ الأحجار الخ لا يخفى بعده فإنه يجعل الحجارة صئحبهة بالكبريت وليس في العبارة ما يدلّ عليه وأبعد منه ما قيل إنّ المراد أنها تتقد بنفسها لاحراق الناس والأصنام انقياداً لأمر الله تعالى والكبريت بكسر الكاف قال ابن دريد هو الحجارة الموقد بها ولا أحسبه عربيا صحيحا وقال غيره أنه معرّب والكبريت الأحمر الياقوت أو الذهب. قوله: (ولما كانت الآية مدنية الخ) هذا ملخص ما في(2/52)
الكشاف وهو توجيه لتعريف
النار هنا وتنكيرها في تلك الآية ووقوع جملة {وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} صلة وهي كما ذكره النحاة وأهل المعاني لا بدّ أن تتضمن قصة معهودة ومعلومة للمخاطب لأنّ تعريف الموصول بما في صلتة من العهد كما صرّحوا به فإنّ المنكر نزل أوّلاً فسمعوه بصفته فلما نزلت هذه بعده جاء معهوداً فعرّف وجعلت صفته صلة وقد اعترض عليه كما قاله الشريف تبعا لغيره بوجو. منها أنّ سماع هذه الآية وآية التحريم من النبيّ عليه الصلاة والسلام وهو لا يفيدهم العلم لأنهم لا يعتقدون حقيته وردّ بأنّ إدراكهم بالسمع كاف من غير حاجة للجزم به، ومنها أنّ الصفة كالصلة لا بد من كونها معلومة الانتساب للموصوف لقولهم الصفات قبل العلم بها أخبار والأخبار بعد العلم بها صفات فيعود السؤال في ناراً وقودها الخ وردّ بأنّ الصفة والصلة يجب كونها معلومين للمخاطب لا لكل سامع وما في التحريم خطاب للمؤمنين علموه بسماعهم منه عليه الصلاة والسلام، فلما سمعه الكفار أدركوا منه نارا موصوفة بتلك الجملة فجعلت صلة فيما خوطبوا به، ولما ورد أنّ النار وصفتها في الآيتين متحدة فلم اختلف لفظها أجاب بأن آية التحريم مكية عرف الكفار منها ناراً موصوفة بما ذكر فلما نزلت آية البقرة بالمدينة عرّفت إشارة إلى معرفتها أوّلأ، ورد بأن سورة التحريم مدنية بلا استثناء اتفاقا وقد صرّحوا به ثمة وأيضا قد مرّ ما يدلّ على عكسه من أنّ هذه مكية وتلك مدنية لقوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} و {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ} فيهما وأيضاً انتساب الجملة إلى المنكر إذا كان كما مرّ معلوما للمخاطبين المؤمنين بسماعهم منه عليه الصلاة والسلام كان معهوداً فحقه أن يعرف، وأجيب بجواز كون تلك الآية في التحريم وحدها مكية وما هنا يذل على عدم الاتفاق على خلافه، وما مرّ عن علقمة لم يرتضه كما مرّ، وأجيب عن الآخر بقصد التفنن وإرادة التهويل بالتنكير والإشارة إلى الحضور في الأذهان بالتعريف، ولا يخفى بعده وعدم مطابقته لكلامه فلعله لا يشترط العلم في صفات النكرات حتى يلزم كونها معهودة ولذا قالوا وصف النكرة للتخصيص والمعرفة للتمييز فليس المنكر الموصوف معهودا باعتبار انتساب صفته إليه بخلاف المعرّف (أقول) إمّا كون سورة التحريم وجميع آياتها مدنية فجمع عليه وقد صرّحوا به في هذه الآية بخصوصها ومثله توقيفي فلا حاجة لما ذكر من الجواب، ولذا نسب بعضهم الزمخشريّ هنا إلى السهو وأمّا منشأ ما ذكر هنا من الأسئلة والأجوبة فمبنيّ على أمرين كون الصلة يجب كونها معلومة معهودة وكون الصفة كذلك وهو مما صرّحوا به، إلا أن ابن مالك لما قال في التسهيل الصلة معرّفة للموصول فلا بد من تقدّم الشعور بها على الشعور بمعناه قال أبو حيان في شرحه المشهور عند النحويين تقييد الجملة الموصول بها بكونها معهودة وذلك غير لازم لأنّ الموصول قد يراد به معهود فتكون صلتة معهودة كقوله واذ تقول للذي أنعم الله عليه وقوله:
إلا أيها القلب الذي قاده الهوى أفتى لا أقرّ الله عينك من قلب
وقد يراد به الجنس فتوافقه صفته كقوله تعالى: {كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ} [سورة
البقرة، الآية: 171] وقد يقصد تعظيم الموصول فتبهم صلتة كقوله:
رأيت الذي كله أنت قادر عليه ولا عن بعضه أنت صابر
انتهى، وفي شرحه لناظر الجيش مثله وقال: قياس الصفات كلها أن تكون معلومة لأنّ الصفات لم يؤت بها ليعلم المخاطب بشيء يجهله بخلاف الأخبار، ومن هنا عرفت أن الفرق بين المعرفة والنكرة ظاهر- وأمّا الفرق بين الصفة والصلة فلم يصف من الكدر ولذا أمر قدس سرّه بعدما مرّ بالتأمّل ثم إنّ الظاهر الفرق بين كون الشيء معلوما وكونه معهودأ وأن العهد أخص من العلم لأنه علم سبق له معرفة بين المتكلم والمخاطب كما قال تعالى: {وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ} [سورة النحل، الآية: 91] ولذا فسره الراغب في مفرداته بمراعاة الشيء حالاً بعد حال فاللازم في الصفة علم ما للمخاطب أو ما ينزل منزلته وإلا لم تكن مخصصة ولا موضحة وفي الصلة كونها معهودة أو منزلة منزلتها، وأحا كانت أحوال الآخرة لا تعلم في الدنيا بغير السماع وسماع أهل اللسان من(2/53)
المؤمنين لما أخبر به النبيّ عليه الصلاة والسلام عن ربه محدث عندهم في أوّل وهلة علما بذلك صح باعتباره وقوعها صفة ولكونها غير معلومة لهم بتلك الصفة قبل ذكرها نكرت فإذا ذكرت مرّة أخرى كانت معهودة عند المؤمنين وغيرهم فلا بد من سبق ذكر سواء كان باية مكية أو مدنية تكرّر نزولها أولاً، ولذا قيل كونها مكية كناية عن سبق ذكرها لكته تعسف لا وجه له وأما كونه لا يشترط العلم في صفات النكرات فخالف لما صرّح به الثقات ولا يخالفه كما توهم ما في الكشاف في سورة الأنعام في تفسير قوله: {قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ} [سورة الأنعام، الآية: 50 ا] حيث قال فإن قلت هلا قيل قل هلمّ شهداء يشهدون أنّ الله حرّم هذا وأيّ فرق بيته وبين المنزل. قلت المراد أن يحضروا شهداءهم الذين علم أنهم يشهدون لهم وينصرون قولهم وكان المشهود لهم يقلدونهم ويثقون بهم ويعتضدون بشهادتهم ليهدم ما يقومون به فيحق الحق ويبطل الباطل فأضيفت الشهداء لذلك وجيء بالذين للدلالة على أنهم شهداء معروفون موسومون بالشهادة لهم وبنص! رة مذهبهم انتهى. وسيأتي ما يتممه ثمة. قوله: (هيئت لهم) الإعداد والعتاد إحضار الشيء قبل الحاجة إنيه وهو عدة وعتيد ومنه الاسنعداد، وقوله: والجملة استئناف الخ هذا مما أهمله الزمخشريّ، وفي شرح التفتازانيّ لا يحسن الاستئناف والحال، وعندي أنها صلة بعد صلة كما في الخبر والصفة فإن أيبت بناء على أنه لم يسطر في كتاب فليكن عطفا بترك العاطف لكن عطف وبشر على لفظ المبنيّ للمفعول عليه يقوي جانب الاستئناف (أقول) في الدرّ المصون الظاهر أنّ هذه الجملة لا محل لها لكونها مستأنفة جوابا لمن قال: لمن أعدت وقال أبو البقاء: محلها النصب على الحال من النار والعامل فيها اتقوا قيل: وفيه نظر لأنها معدة للكافرين اتقوا أم لم يتقوا حاضية
83
فكيف يكون حالاً والأصل في الحال التي ليست مؤكدة أن تكون منتقلة فالأولى أن يكون استئنافاً، ولا يجوز أن يكون حالاً من ضممير وقودها لأنه جامد إن كان اسما للحطب، وأن كان مصدرا خيفة الفصل بين المصدر ومعموله بالخبر وهو أجنبيّ منه وقال السجستاني: أعدت للكافرين من صلة التي كقوله: {وَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [سورة آل عمران، الآية: 131] قال ابن الأنباري: وهذا غلط لأنّ التي وصلت بقوله: {وَقُودُهَا النَّاسُ} فلا يجوز أن يوصل بصلة ثانية بخلاف التي قلت ويمكن أن لا يكون غلطا لأنا لا نسلم أنّ وقودها الناس والحالة هذه صلة بل إمّا معترضة لأنّ فيها تأكيدا وأمّا حالي وهذان الوجهان لا يمنعهما معنى ولا صناعة (أقول) ما قالوه من أنّ تعدد الصلة غير جائز غريب منهم فإنّ الإمام المرزوقي قال في شرح قول الهذليّ:
بازيّ التي تهوي إلى كل مغرب إذا اصفرّ ليط الشمس حان انقلابها
يجوز أن تتمّ الصلة عند قوله مغرب ويكون إذا اصفرّ كلاماً آخر يصلح أن يكون صلة بانفراده كان المراد بازيّ التي تفعل ذا وهو هويها إلى المغارب وتفعل ذا أيضاً وهو انقلابها بالعشيات لكنه لو عطف عليه بالواو كان أحسن وأبين ويكون هذا كقولك زيد الذي يشرب يأكل ينام يصلي وحرف العطف يحذف من أثناء الصلات إذا توالت والصفات كثيراً انتهى. يعني أنّ تعدد الصلات والصفات كثير بعاطف وبدونه لا أنه حذف حقيقيّ فأنت تراه كيف أثبت كثرته بدون اختلاف فيه وناهيك به فقول الفاضل أنه لم يسطر في كتاب سهو كان ذلك في الكتاب مسطورا، وقوله إن عطف وبشر يقوّي الاستئناف إن كان استئنافا نحويا فله وجه والا فلا لأنّ السؤال عما يتعلق بالنار فلا وجه لعطف وبشر عليه إلا بتكلف وفي كون الخبر أجنبيا تردد لبعض الفضلاء سيأتي. قوله: (وفي الآيتين دليل الخ) وقع في نسخة ما يدل بدل دليل وما قيل عليه من أنه ليس في الآية أمر يدلّ عليها من وجوه بل أمور تدلّ عليها إلا أن يقال: لم يتعلق من وجوه بالدلالة بل هو بيان لما ليس بشيء لأنّ محصلهما التحدي على وجه الجزم وهو أمر دال عليها بالطرق المذكورة وجزء الدليل يصح أن يطلق عليه أنه دليل والأمر فيه سهل، وظاهر كلامهم أنّ الدلالة المذكورة من الثانية فقط ولكل وجهة وسيظهر وجه ما اختاره المصنف، والتحدّي من قوله: {فَأْتُواْ بِسورة} والتحريض والحث من قوله: {وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم} وقوله: بالتقريع الخ متعلق بقوله التحريض(2/54)
والتقريع اللوم الشديد وقد مرّ بيان مأخذه والوعيد من قوله ة {فَاتَّقُواْ} الخ وكون السورة أقصر سورة مع تنكيرها لأنه أقل ما يصدق عليه، وعجزهم مع تهالكهم أدل دليل على ذلك والمهج جمع مهجة والمراد بها النفس هنا والجلاء بالكسر والمد
ترك الوطن والرحلة عنه. قوله: (والثاني تضمنهما الخ) هذا من قوله: {وَلَن تَفْعَلُواْ} النفي ما
في المستقبل حالاً وقد تحقق انتفاؤه وهذا وإن كان من الآية الثانية لكن لما كان المرإد من
{وَلَن تَفْعَلُواْ} الإتيان بتلك السورة وهو إنما يتضح بقرينة الأولى نسبه إليهما وقد أعترض! عليه
بان عجز طائفة مخصوصة لا يدل على عجز كل من عداهم في المستقبل فصدق الأخبار إنما يعلم بعد انقراض الأعصار كلها؟ جوابه يعلم مما ذكر. من اشتهارهم بالفصاحة وكونهم فرسان ميدان البلاغة الذين لا يمكن أن يدانيهم أحد في ذلك فإذا عجز مثلهم علم عجز غيرهم قطعاً وأمّا كونه خطاب مشافهة مختصأ بالموجودين ف! ذا انقرضوا علم صدقه فليس بشيء ولما ورد عليه أنه لا يلزم من عدم العلم بشيء عدمه دفعه بقوله فإنهم لو عارضوه إلى آخره. قوله:) سيما والطاعنون فيه الخ) الطعن هو القدح في الشيء بإسناد ما هو معيب إليه بزعمه، والذت بمعنى الدفع ويرد عليه أنه حذف لا من سيما وأتى بالواو بعدها وقد نص النحويون على عدم جوازه وأنه خطأ، وفي شرح التسهيل للدمامينيّ بعد ما ذكر أن سيّ بمعنى مثل وما زائدة أو موصولة وما بعدها أولى بالحكم وليس بمستئنى خلافا للنحاس والزجاج والفارسيّ وغيرهم من أهل العربية ووجهه أنه يخرج عما قبله من حيث أولويتة بالحكم المتقدم ويقال لا سيما بتخفيف الياء وما يوجد في كلام المصنفين من قولهم لا سيما والأمر كذا تركيب غير عربي، وقال أبو حيان: عا يوجد من كلاع! المولدين من قولهم سيما بحذف لا لا يوجد إلا في كلام من لا يحتج بكلامه وسيّ منصوب على أنه اسم لا انتهى. (أقول) هذا محصل ما ذكره في باب الاستثناء وما ذكر من الشخطئة سبقه إليه كثير من النحاة لكنه غير مسلم، أمّا حذف لا فقد حكاه الرضي وقول الدمامينيّ، إني لم أقف عليه لا يسمع مع نقل الثقة وأمّا وقوع الجملة المقترنة بواو الحال بعدء فقد قال ابن الصائغ ومن خطه نقلت أنهم منعوه وقد وجدت في كلام السخاويّ في شرح المفصل ما يقتفي جوازه. قال: إذا وقعت الجملة بعد لا سيما كقولك فلان مستحق لكذا لا سيما وقد فعل كذا فما كافة لسيّ عن الإضافة كربما يودّ والجملة في موضع الحال انتهى. وهو في غاية الظهور، وأيّ مانع من حذف لا مع القرينة الدالة عليها وقد ذكروا وقوع الحال بعدها وجوّزوا فيئ ما أن تكون كافة كما صرّح به المعترض ومع هذا كيف يكون مثله خطأ ومن هنا علمت أنّ قوله قدس سرّه في شرح قول صاحب المواقف لا سيما والهمم قاصرة قوله والهمم! اصرة جملة مؤوّلة بالظرف نظرا إلى قرب الحال من ظرف الزمان فصح وقوعه! صلة لما، وهذا من قبيل الميل إلى المعنى والإعراض عما يقتضيه اللفظ بظاهره
أي لا مثل انتفائه في زمان قصورا لهمم انتهى تكلف بارتكاب ما لا يليق بالعربية ولبعض الناس هنا كلام تركه خير من ذكره. قوله: (والثالث أنه عليه الصلاة والسلام ايخ) يعني أنه عليه الصلاة والسلام قد علم من حاً له أنه أعقل الناس وأصدقهم لهجة فإذا بالغ في دعواه للمعارضة
من غير مبالاة علم تيقنه لحقية ما عنده وهذا استدلال مبنيّ على ظاهر الحال لا برهان عقليّ حتى يقال عليه إنّ عدم شك المدعي في دعواه لا يصير دليلاً على صحة مدعاه لجواز أن يكون جزمه غير مطابق للواقع كما توهم، ونحوه ما قيل إنه إنما يدلّ على صحة نبوّته لو ثبتت عصمته عن الخطأ وهو فرع ثبوت نبوّته فإثباته به مصادرة والمصنف رحمه الله تبع الإمام فيه وصاحب الكشاف لم يتعرّض له لذلك ؤشدبر، وقوله فتدحض بدال وبحاء مهملة وضاد معجمة مرفوع أو منصوب وهو إمّا مضارع دحض يدحض كسأل يسأل بصيخة المبنيّ للفاعل أو مضارع أدحض مزيده مبنيا للفاعل أو المفعول، والحجة الداحضة الزائلة يقال أدحضت فلانا في حجته فدحض وأدحضت حجته فدحضت وهو استعارة من دحض الرجل وهو زللها، ثم شاع حتى صار حقيقة فيما ذكر وقوله دل على أنّ النار مخلوقة معدة الآن كون النار والجنة موجودتين الآن مذكور في كتب الكلام مقرّر(2/55)
والمخالف فيه المعتزلة والكلام فيه مشهور في الكلام، وليس! المراد بالدليل البرهان القطعيّ كما عرفته بل ما يتبادر من النظم بعد تحقق أنه كلام الله فإن الإعداد بمعنى التهيثة والادّخار إنما يستعمل حقيقة فيما وجد وان ورد لما سيوجد كقوله تعالى: {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً} [سورة الأحزاب، الآية: 35] إلا أنه خلاف الظاهر فجعل الماضي بمعنى المستقبل الذي يخلق يوم الجزاء لتحققه (سانحة) قوله تعالى: {أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} كتسميتهم أصحاب النار فيه إيماء إلى أنّ من يدخلها من المؤمنين لا يخلد فيها ولا يعذب بأشد العذاب لأن الطارئ على صاحب الدار ليس مثنه في لزوم سكناها وتلبسه بما فيها لتطفله عليها كماقيل:
فكم أحديحوي مفاتيح جنته ويقرع بالتطفيل باب جهنم
ففيه تبشير خفيّ وارتباط معنوقي بما بعده. قوله: (عطف على الجملة السابقة الخ) هذا
من عطف القصة على القصة، وهذا كما قيل:
فيا لها قصة في شرحهاطول
وتحقيقه كما قال قدّس سرّه إنّ العطف قد يكون بين المفردات وما في حكمها من الجمل التي لها محل من الإعراب وقد يكون بين غيرها كما يكون بين قصتين بأن يعطف مجموع جمل متعدّدة مسوقة لمقصود على مجموع جمل أخرى مسوقة لغرض آخر فيعتبر حينئذ التناسب بين القصتين دون آحاد جملها، ونظيره في المفردات الواو المتوسطة في قوله تعالى: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ} [سورة الحديد، الآية: 3] ليست كالمتقدمة والمتأخرة إذ هي لعطف مجموع الصفتين الأخيرتين المتقابلتين على مجموع الصفتين الأوليين المتقابلتين،
ولو اعتبر عطف الظاهر وحده لم يكن هناك تناسب ثم إنّ السكاكيّ لم يتعرّض في كتابه لعطف القصة على القصة أصلاً فالجامدون على كلامه تحيروا فمنهم من ذهب إلى تقدير معطوف عليه، ومنهم من أوّل الخبر بالطلب وما ذكر لا غبار عليه ولا اشتباه، وإنما الاشتباه في مثال الزمخشريّ وهو زيد يعاقب بالقيد والإرهاق، وبشر عمرا بالعفو والإطلاق لأنه من عطف جملة على جملة لا قصة على قصة فذهب الفاضل في شرح التلخيص إلى أنّ مراده أنّ القصد فيه إلى عطف مضمون جملة على مضمون أخرى بقطع النظر عن الإخبارية والإنشائية، وقال إنه خسن دتيق لكن من يشترط اتفاق الجملتين خبرا وانشاء لا يسلم صحته ولم يرتض به الشريف المرتضي وشنع عليه وقال: إنما أشار بما ذكر إلى قصتين متقابلتين فكأنه قال زيد يعاقب بالقيد والإرهاق فما أسوأ حاله وما أخسره فقد ابتلي ببلية كبرى وأحاطت به سيئاته إلى غير ذلك مما يناسبه وبشر عمرا بالعفو والإطلاق فما أحسن حاله وما أنجاه وما أربحه إلى أشياء أخر مناسبة له (أقول) تبع فيما ذكر صاحب الكشف والظاهر من كلام الزمخشرقي خلافه فمراده أن ينظر إلى مضمون الكلام ويقطع النظر عن خواص لفظه في المعطوف والمعطوف عليه ميلا مع المعنى كما قرّره النحاة في نحو لا تأكل السمك وتشرب اللبن، وهذا شيء ثالث غير التأويل لأنه في التاويل يجعل الخبر إنشاء وعكسه بضرب من التجوّز، وهذا باق على حاله وإذا جاز مثله في المفردات فهنا بالطريق الأولى وتمثيله في الكشاف ظاهر فيه، وأمّا التقدير الذي ارتكبه فيه فبعيد جدّاً ولذا قال بعض الفضلاء المتأخرين إنما ذكر المثال شاهداً على دعوى فيها غرابة فينبغي أن يراعي فيها مطابقته لمقصوده حتى لا يبقى للخصم مجال وهم فلا ينبغي حذف بعض الجمل مع أنّ ملاك الأمر كثرتها كما اعترف به فإن قلت لو جوّزنا هذا لزم صحة العطف في كل خبر وإنشاء ولا قائل به لأنّ كل كلام يجوز قطع النظر عن خصوصه قلت لو التزم هذا لا محذور فيه مع أنه قد يقال لا بد له من اقتضاء المقام وكون المتكلم بليغا يلمح خلاف مقتضى الظاهر ووقع في بعض شروح الكشاف تسمية هذا بالعطف المعنوي. قوله: (والمقصود عطف حال من آمن الخ) هذا مبين لأنّ المراد بالجملة في كلامه معناها اللغويّ وهو المجموع لا ما اصطلح عليه النحاة، والمراد بالفعل أيضا في قوله لا عطف الفعل الفعل مع فاعله فإنه يطلق كثيرا على الجملة الفعلية خصوصا إذا كان الفاعل ضميراً مستترا وأما كونه حينئذ مجازا والتأكيد بنفسه يأباه فإنما يراعي مثله في كلام البلغاء على أنه غير مسلم كما سيأتي بيانه في تفسير قوله تعالى: {وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [سورة النساء، الآية: 164] والتثبيط المنع والتعويق، والاقتراف الاكتساب ويردي بمعنى يهلك والردي الهلاك(2/56)
والتنشيط التحريك والتحريض وهو ناظر للترغيب
كما أنّ التثبيط ناظر للترهيب، وقوله: فيعطف بالنصب لعطفه على يجب والمعطوف على هذا مجموع قوله وبشر إلى قوله فيها خالدون أو مضمونه، والمعطوف عليه من المجموع أو المضمون أيضا الظاهر أنه قوله: {وَإِن كُنتُمْ} في ريب الخ لا قوله: {فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ} الخ كما قاله التفتازانيّ ولا قوله: {أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} كما قيل حتى يرد عليه أنه جواب سؤال نشأ من قوله: {فَاتَّقُواْ} الخ والمعطوف لا يثاوكه فيه فيدفع بأنه مع قطع النظر عن السؤال والجواب ونظرا لحال المتقابلين وإنما اختير هذا للقرب ولا يخفى ما فيه وقوله من أمر أو نهي الظاهر أن يقول من إنشاء كما لا يخفى. قوله: (أو على فائقوا الخ) عطف على قوله على الجملة بإعادة الجارّ لما في حذفه من خفاء العطف، وقد ضعف هذا بوجهين الأوّل إنّ {فَاتَّقُواْ} جواب الشرط وهذا لا يصلح له فكيف يعطف عليه لأنه أمر بالبشارة مطلقاً لا على تقدير إن لم تفعلوا، والثاني أنه يلزمه عطف أمر مخاطب على أمر آخر وهو إنما يحسن إذا صرّح بالنداء وقد قيل إنه ممتنع وردّ بقوله تعالى: {يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ} [سورة يوسف، الآية: 29] فهو جائز حيث لا لبس كما سيأتي. قوله: (لآنهما إذا لم يأتوا بما يعارضه الخ) توجيه لهذا الوجه بما يدفع ما أورد عليه مما مرّ آنفاً وفيه إشارة إلى ما قدّمه من أن الجزاء وهو فاتقوا أقيم مقام لازمه وهو ظهر أنه معجوز التصديق به واجب فآمنوا به واتقوا العذاب المعدّ لمن كذب فالمناسبة بين المعطوف والمعطوف عليه أن كلا منهما يقتضيه الكلام فهو من عطف أحد المقتضيين لشيء على الآخر، وقريب منه ما قيل من أنّ تبشير المصدقين كإنذار المنكرين مترتب على عدم معارضة الكفرة إذ حينئذ يثبت كون القرآن معجزاً ويتحقق صدق النبيّ صلى الله عليه وسلم ويكون تصديقه سبباً للبشارة ونيل الثواب كما أنّ إنكاره كان سبباً للإنذار والعقاب، وأيضا مآل المعنى: {فَاتَّقُواْ النَّارَ} واتقوا ما يغيظكم من جنس حال أعدائكم فأقيم وبشر مقامه تنبيهاً على أنه مقصود في نفسه أيضا لا لمجرّد غيظهم فقط وهذا القدر من الربط المعنويّ كاف في عطفه على الجزاء وان لم يكف في جعله جزاء ابتداء إلا أنه قيل إنّ فيه انفكاك النظم والاستدعاء وان سلم لا يدفع السؤال لأنّ " الكلام في صحة التركيب وصلاحية ما عطف لكونه جوابا كالمعطوف عليه ومجرّد ما ذكر لا يتمّ به المراد وذكر بشر وارادة واتقوا ما يغيظكم الخ لا يصح حقيقة ولا مجازاً ولا كناية وسيأتي ما فيه وما قيل من أنّ المقصود هنا العطف اللفظي الذي يحصل به التشاكل لا المعنويّ المشرك في الحكم وهو نظير ما قالوه في قولهم أنت أعلم ومالك مما لا ينبغي أن يحل بساحة التنزيل وفي كلام السفاقسيّ ما هو أغرب وأعجب، وحاصل ما ذكر من التوجيه بعد ظهور اتفاقهما في الإنشائية وعدم المانع اللفظي أنّ ما ذكر من المانع المعنوي مدفوع فإن اتقوا النار وعيد وانذار لمن أعماه الله عن ساطع نور الإعجاز وبشر الخ وعد لمن آمن به وبينهما أتمّ مناسبة بحسب المعنى إلا أنه ينبو عن الجوابية إذ لا يرتبط به
لحولك إن لم تفعلوا فبشر الخ ولا يخفى انفكاكه لكن تبشير من سواهم باختصاصه بالجنة متضمن حرمان هؤلاء منها فيصير التقدير إن لم تفعلوا فاتقوا النار، ولينعم على غيرهم ويحرموا
، اتحاد الفاعل ليس بلازم وأن حسن فقد يغتفر في التابع كما في رب شاة وسخلتها وهذا معنى.، مز في التوجيه، وزادوا عليه أنه إذا نظر لمآل المعنى اتحد الفاعل وصاو تقديره اتقوا عثرة ما لعيظكم، وقوله: إنه لا يدل عليه بطريق من طرق الدلالة ممنوع فإنه يدلّ عليه التزاما فيجوز أن لكون كناية أو مجازأ وفي المعنى أنه قد كلم أنهم غير المؤمنين فكأنه قيل فإن لم يفعلوا فبشر نحرهم بالجنات ومعناه فبشر هؤلاء المعذبين بأنهم لا حظ لهم في الجنة، وهذا جواب عن الإيراد الأوّل وهو بعينه ما ذكره المصنف رحمه الله هنا أوّلاً، وأمّا الثاني فقيل إنّ في كلام المصنف جوابه أيضا بأنه إنما يلزم إذا تغاير مخاطبا الأمرين صورة ومعنى وهو هنا ليس كذلك، نهما متحدان معنى فإنّ المراد بالذين آمنوا الذين عجزوا عن المعارضة فصدّقوه وآمنوا كما اضار إليه بقوله ولم يخاطبهم الخ فلما اتحدا معنى صح العطف من غير تصريح بالنداء ولا لخفى ما فيه من التكلف والتبرّع بما لا يملك لمن لا يقبل فإنّ ما ذكره ليس في كلام(2/57)
المصنف ما يدلّ عليه بل هو صريح في خلافه ثم إنّ- وله: تغاير مخاطبا الأمرين صورة ومعنى غير صحيح فالظاهر أن يقول إذا تغايرا معنى واتحدا صورة لأنه محل الإلباس المقتضي للتصريح لالنداء والحق أن المصنف نم يتعرّض له لأنه غير لازم إذا تغايرا معنى وصورة كما في قوله يعالى: {يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ} [سورة يوسف، الآية: 29] وما نحن فيه كذلك لأنّ الأوّلط جمع والثاني مفرد وسيأتي تصريحهم بجوازه واختار صاحب الإيضاح عطفه على أنذر مقدراً بعد جملة أعدت وقيل إنه معطوف على قل مقدرأ قبل يأيها الناس، وأورد عليه أن قوله مما نزلنا على عبدنا لا يصلح مقولاً للنبيّ صلى الله عليه وسلم إلا بتكلف وقد تكلف له بأنه أجرى على طريقة كلام العظماء أو التقدير قل قال الله الخ، وقيل يقدر قل قبل: {فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ} ، ثم إنه لل إنّ الأنسب في توجيه العطف على فاتقوا أن يقال إنّ جزاء الشرط المذكور في الحقيقة فامنوا على المختار فأقيم اتقوا مقامه لنكتة فالمعنى إن لهأ تأتوا بسورة فآمنوا وبشر يا محمد الذين آمنوا منهم بالجنة أي فليوجد منهم الإيمان ومنك البشرى، فالذين آمنوا وضع موضع الضمير أي وبشرهم بالجنة إن آمنوا وفيه حث لهم على الإيمان وبجوز أن يكون على نحو قول القائل يا زيد إن تعرف صفة الكتابة فاكتب لي هذا الكتاب وأعط أجر كتابته على أن يكون المراد وأعط يا عبدي الخ وهو بمراحل مما قالوه، وما ذكره آخرا مما يقتضي منه العجب ولولا أن يظن في السواد رجال ضربت عنه صفحا. قوله: (وإنما أمر الرسول عليه الصلاة والسلام الخ) الخطاب في أصل وضعه يكون لمعين فعلى هذا هو الرسول وهو الأصل المتبادر ولذا ندموه، وقد يترك الخطاب لمعين ويجعل لكل من يقف على الحال لنكتة كالتهويل والتعظيم
وغيره مما يليق بمقامه فإن كان الضمير موضوعا لجزئيّ بوضمع كليّ كما ارتضاه المحققون فهو مجاز والأفقي كونه حقيقة أو مجازاً كلام ليس هذا محله وعلى العموم فهو كل من يقوم مقامه من العلماء أو كل من يقدر عليه من أمته، ويوافقه قراءة بشر مجهولاً ولما خاطب الكفار بالإنذار بقوله: {وَاتَّقُواْ} ولم يخاطب المؤمنين بالبشارة وجه بأنه لتفخيم شأنهم فإنّ من حدث له ما يسرّه قد ينادي لإعلامه وقد يرسل إليه الخبر والثاني فيه تعظيم له كما لا يخفى ومن قال إنه لتغيير الأسلوب لم يأت بشيء، وأمّا كونهم أحقاء بالبشارة فالظاهر أنه على التعميم وبحتمل تخصيصه لأنّ من بشره مثل البشير النذير حقيق بذلك لأنه لا يبثر مر، لا يستحق لا سيما والآمر له رت الأرباب ويحتمل أنه أنذرهم لعدم قبولهم ذلك من الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بخلاف غيرهم من المصدقين المذعنين للحق ثم إنّ النكات لا تتزاحم كما قيل فاقسم لكل محل ما يليق به فإنّ للزند حليا ليس للعنق فقد يكون الخطاب تعظيماً كتخصيص الرئيس بعض جلساته بالخطاب وقد يكون تحقيراً ولذا عد خطاب الملوك من ترك الأدب فلا وجه لما قيل من أنّ الله إذا خاطبهم بالبشارة كان التعظيم فيه أقو! والإيذان بأنهم أحقاء بأن يبثروا أظهر، والمصنف رحمه الله غير عبارة الكشاف فوقع فيما وقع. قوله: (وإ-لذاناً بأنهم أحقاء الخ) الإيذان الإعلام والأحقاء بالمدّ جمع حقيق بمعنى قويّ الاستحقاق وجدير به ويهنؤوا مضارع مجهول من هنأه بكذا والمراد به هنا البشارة أيضاً وهي في العرف قول دالّ على أن ما سرّه قد سرّه كالتهنئة بالأعياد والأولاد كما في قول المتنبي:
إنما التهنئات لد فاء
وقوله: فيكون استئنافاً عينه لأنه لا يصح غيره أو لا يظهر كالحالية وهو استئناف نحويّ
وقيل بيانيّ بتقدير سؤالين أي لمن أعذت وما أعدّ لغيرهم وهو تكلف لا حاجة إليه وأمّ كون الواو استئنافية في هذا أو فيما قبله فلا وجه له وقيل: توجيه العطف أن يجعل وبشر الذين الخ بمعنى أعدت الجنة للمؤمنين، والأولى أنه خبر بمعنى الأمر لتتوافق القراءتان ولا حاجة داعية لما ادّعاه. فإ اط قلت الإيذان بكونهم أحقاء بما ذكر إنما حصل بتوصيف المبشرين بالإيمان والعمل الصالح والجطاب بالبشارة لا ينافي ذلك التوصيف قلت: أمر الرسول غتي! ببشارة من اتصف بما ذكر يدل على تحقق تلك الصفة فيهم وكونهم أحقاء بذلك حينئذ أظهر. قوله: (والبشارة الخبر الساز الخ) هذا هو الصحيح وقيل: إنها في اللغة مطلق الخبر لكنها غلبت في الخبر(2/58)
وقال الراغب: البشرة ظاهر الجلود والأدمة باطنه وفي كلام ابن قتيبة عكسه وتبعه بعض اللغويين وبشرته أخبرته بسارّ بسط وجهه، وذلك أنّ النفس إذا سرت انتشر الدم فيها انتشار
الماء في الشجر فينبسط الوجه وغضونه ولذا سمى الناس السرور بسطاً وقالوا في أمثالهم البسط صدف، وورد في الحديث فاطمة سني يبسطني ما يبسطها فليست بعامية كما يتوهم. قوله:) ولذلك قال الفقهاء الخ) قيل: عليه أنه غير عبارة الكشاف وهي البشارة الإخبار بما يظهر سرور المخبر به ولم يصب فيه لأن كون المخبر به غافلا عما أخبر به معتبر في مفهومها وهو يفهم من بارته دون عبارة المصنف فإنّ الخبر النافع يوصف بأنه سارّ سواء أحدث في المخاطب السرور او لم يحدث ثم إنه يعتبر في مفهومها قيد آخر أهمله الزمخشريّ وتبعه المصنف وهو كون الخبر صادقا فالبشارة هي الخبر الصدق السارّ الذي ليس عند المخبر علم به وفي شرح تلخيص الجامع أمّا الصدق فلأنّ البشارة اسم لخبر يفيد تغيير بثرة الوجه للفرح وهو لا يحصل إلا لالصادق وإن حصل فلا يتمّ بدونه، وأمّا اشتراط جهل المخبر به فلأنّ تغير بشرة الوجه للفرح لا يحصل بما علمه قبله لمشاهدة ونحوها وفي فتح القدير نحو مما ذكره المعترض وفيه أنه أ، رد على اشتراط الصدق في البشارة أنّ تغير البشرة كما يحصل بالأخبار السارة صدقا كذلك وحصل بها كذبا وقد أجيب عنه بما ليس بمفيد والوجه فيه نقل اللغة والعرف انتهى (أقول الا مرق بين كلام المصنف والزمخشريّ وكل منهما يدلّ على عدم علمه بما أخبر به التزاماً لأنّ اا! اقل لا يطلب الإخبار بما علمه وتحققه وليس المحل محل فائدة الخبر وأما الصدق فإنما لم / حعزضوا له هنا لأنه مشترك بين البشارة والإخبار والكلام في تقرير ما يفرق بينهما، وأمّا الصمدق هـ مد قال الجنازيّ في أصوله أنه من الباء فإنها في أصل وضعها للإلصاق ولا يلتصق الخبر، المخبر به ما لم يكن صادقا فلو ذكر بدونها شمل الصادق والكاذب فإن كل خبر فيه احتمال الصدق والكذرب، وما ذكره المصنف رحمه بعينه في الهداية وأحكام الجصاص على أنهم لما عللوا عتق الأوّل بتغير البشرة بكلامه علم منه أنه لم يسبق له عدم به على أنّ استيفاء جميع ااتيود ليس بلازم لغير الفقهاء فلا يضرّ إهمال بعض منها حوالة على محله وأهله. قوله:) فرادى (فيه إشارة إلى أنهم لو أخبروه جميعاً معاً عتقوا كلهم، وفرادى جمع فرد على خلاف ا) نياس، وقيل: كأنه جمع ة ردان وفردى مثل سكارى في جمع سكران وسكرى والأنثى فردة،! ردى كما في المصباح. وقوله: ولو قال من أخبرني الخ هذا ما عليه أكثر الفقهاء. وخالفهم
الإمام مالك رحمه الله تعالى فقال: لو قال من أخبرني عتق الأوّل فإنّ المراد بالإخبار البشارة كما يشهد به العرف، والجمهور استدلوا بأنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: " من أراد أن يقرأ القرآن غضا طريا كما أنزل فليقرأه بقراءة ابن أمّ عبد " فابتدر أبو بكر وعمر رضي الله عنهما ليخبراه بذلك فسبق أبو بكر رضي الله عنه وكاًن سباقا إلى كل خير فأخبره بذلك ثم أخبره عمر رضي الله عنه فكان رضي الله عنه يقول بشرني أبو بكر وأخبرتي عمر فدلّ على الفرق بينهما لغة وعرفا. قوله: (وأمّا قوله تعالى: {فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [سورة آل عمران، الآية: 21] الخ) أي هو من استعمال ما وضع للخبر السارّ في الخبر المورث للألم والحزن إن لم نقل بأنه موضوع لمطلق الخبر كما مرّ، وهو على الوجه الأوّل في كلام المصنف رحمه الله استعير فيه أحد الضدين وهو التبشير للآخر وهو الوعيد والإنذار والعذاب الأليم قرينة لها، وعلى الثاني وفيه تسكب العبرات هو نوع من خلاف مقتضى الظاهر يقال له التنويع وهو ادّعاء أن للمسمى نوعين متعارفا وغير متعارف على طريق التخييل ويجري في مواطن شتى منها التشبيه كقوله:
نحن قوم ملحن في زيّ ناس فوق طيرلهاشخوص الجمال
ومنها أت ينزل ما يقع في موقع شيء بدلاً عنه منزلته بلا تشبيه ولا استعارة كما في الاسنثناء المنقطع وما يضاهيه سواء كان بطريق الحمل كما في قوله:
تحية بينهم ضرب وجيع
أو بدونه كما في قوله: فأعتبوا بالصيلم وحيث أطلق التنويع فالمراد به هذا وقد جعلوا
مثاله أساساً وقاعدة له، وليس هذا من المجاز لذكر طرفيه مراداً بهما حقيقتهما ولا تشبيهاً لأنّ التشبيه يعكس معناه ويفسده ومنه يعلم أنه لا يصح فيه الاستعارة(2/59)
أيضاً لابتنائها على التشبيه وقد صرّح به الشيخ في دلائل الإعجاز فقال: اعلم أنه لا يجوز أن يكون سبيل قوله:
لعاب الأفاعي القاتلات لعابه
سبيل قولهم عتابه السيف وذلك لأنّ المعنى في بيت أبي تمام أنك تشبه شئا بشيء لجامع بينهما في وصف وليس المعنى في عتابه السيف على أنك تشبه عتابه بالسيف ولك أن تزعم أنه يجعل السيف بدلاً من العتاب ألا ترى أنه يضح أن تقول مداد قلمه قاتل كسم الأفاعي
ولا يصح أن تقول عتابه كالسيف اللهمّ إلا أن يخرج إلى باب آخر ليس غرضهم بهذا الكلام فتزيد أنه قد عاتب عتابا خشنا مؤلما ثم إنك إذا قلت السيف عتابه خرجت به إلى معنى حادث وهو أن تزعم أنّ عتابه قد بلغ في إيلامه وشدة تأثيره مبلغا صار له السيف كأنه ليس بسيف انتهى. وقد بسطناه في محل آخر وليس الشيخ أبا عذرته فإنه مصرّج به في باب الاستثناء من كتاب سيبويه وغيره وقد نبه عليه السكاكي أيضا في قسم الاستدلال وفصله العلامة الزمخشرقي لي تفسير قوله تعالى: {يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [سورة الشعرأء، الآية: 88] كما سيأتي إن شاء الله تعالى ثمة. وإنما حققناه هنا لأنّ كثيراً من المصنفين لما لم يعرفوه اضطرب فيه كلامهم فتارة تراهم يجعلونه تشبيها وتارة استعارة حتى أنّ بعض م رباب الحواشي اعترض هنا على المصنف رحمه الله في عطفه بأو وقال إنّ الراغب جعلهما شيئا واحدا والمصنف غير كلامه فأخطأ فيه فكان كما قيل:
إذا محاسني اللاتي أدلّ بها كانت ذنوبي فقل لي كيف أعتذر
وممن لم يقف على مراده من قال الفرق بين الوجهين في كلام المصنف إنّ الثاني لا تهكم
فيه وخبط بعضهم في الفرق بينهما خبط عشواء فلا فائدة في ذكر كلامه. قوله: (تحية بينهم ضرب وجيع) هو من قصيدة طويلة لعمرو بن معد يكرب ذكرت بتمامها في المعلقات وأوّلها: أمن ريحانة الداعي السميع تؤرّتني وأصحابي هجوع
وسوق كتيبة دلفت لأخرى كان زهاءها رأس صليع
وخيل قددلفت لهابخيل تحية بينهم ضرب وجيع
ومنها:
إذالم تستطع شيئافدعه وجاوزه إلى ما تستطيم
وصله بالزماع فكل أمر سمالك أو سموت له ولوع
الخ.
والخيل معروفة ولا واحد لها من لفظها والجمع خيول وتطلق على البراذين والعراب، ويتجوّز بها عن الفرسان كثيراً وفي الحديث: " يا خيل الله اركبي " وسميت خيلا لاختيالها، والمراد هنا المعنى المجازي ودلفت بمعنى دنوت وقت مقابلتهم للحرب من دلف إذا أنصب فهو بمعنى شنت الغارة والتحية ما يحيي له أحد المتلاقيين الأخر كالسلام ونحوه، وجعل
الضرب هنا تحية لما عرفته، وأضافه للبين توسعا أي ما يقع بينهم من التحية ويحتمل أن يكون البين بمعنى الفراق بجعل الضرب بمنزلة سلام الوداع بينهم وهو حسن. قوله: (من الصفات الغالبة الخ) الصالحة في الأصل مؤنث الصالح اسم فاعل من صلح الشيء صلوحا وصلاحا خلاف فسد ثم غلب على ما ذكره المصنف رحمه الله فأجروه مجرى الأسماء الجامدة في عدم جريه على الموصوف وغيره من أحكام أسماء الأجناس الجامدة كما في البيت المذكور والحطيثة بالحاء والطاء المهملتين مصغر وفي آخره همزة، واسمه جرول بن أوس بن حرملة بن مخزوم بن مالك الغطفاني والحطيئة من حطأته إذا لطمته لقب به لقصره وحقارة منظره، وقيل لأنّ رجله كانت محطوة أي لا أخص له وقيل غير ذلك وكان أدرك خلافة عمر رضي الله عنه ولم يسلم وبنو لأم طائفة من قبيلة طمئ والبيت المذكور من شعر له وهو:
كيف الهجاءوماتنفك صالحة مض آل لاًم بظهرالغيب! أتيني
جادت لهم مضر العليا بمجدهم وأحرزو! مجدهم حينا إلى حين
أحمت رماج بني سعد لقومهم مص إعي ا! حمر وا! ط ن والمجن(2/60)
بكل أجرد كالسرحان مطرد ولثطبة كعقاب الدجن ترديني مستحقبات زواياها جحافلها حتى رأوهن من دون الأطايين
والمراد بالصالحة العطية الحسنة وتأتيني خبر تنفك وبظهر الغيب متعلق به أي ملتبسة
بظهر الغيب والظهر مقحم مبالغة أو هو استعارة بمعنى خلف الغيب وفيه مبالغة أيضا، وسبب هذا الشعر أن زيد الخيل الطائي أسره فأطلقه منه أوس بن حارثة بن لام الطائي فبعد ما من عليه دعاه بعضهم إلى هجاء أوس ورغبه فيه فأبى وتاله وهذا هو الأصح المذكور في شرح ديوانه وفي كامل ابن الأثير أنّ النعمان دعا بحلة من حلل الملوك وقال للوفود وفيهم أوس احضروا في غد فإني ملبس هذه الحلة أكرمكم وإن كنت المراد فسأطلب، فلما أتوا النعمان لم ير أوسا فطلبه وقال: احضرآمناً مما خفت فحضر وخلعها عليه فحسده بعض قومه فقال للحطيئة اهجه ولك ثلثمائة من الإبل فقال. قوله:) وهي من الآعمال ما سوّكه الشرع الخ (التسويغ تفعيل من ساغ الشيء إذا سهل دخوله في الحلق قال تعالى: {وَلَا يَكَادُ يُبِينُ} [سورة إبراهيم، الآية: 7 ا] ثم تجوّز به عن الإباحة وعدى بالتضعيف فيقال سوّغته أي أبحته لما في الإباحة من التسهيل وشاع حتى صار حقيقة فيه، ولذا قيل لو اكتفى المصنف بقوله ما حسنه الخ كفى إذ لا تحسين بدون التسويغ فلا يدخل فيه المباح، ولذا قال شراح الكشاف هي ما يصلح لترتب الثواب لكنه ذكره للتوضيح لأنه كالجنس وما بعده كالفصل وعدل عن قول الزمخشريّ الصالحات كل ما
اسنقام من الأعمال بدليل اا! قل والكتاب والسنة لابتنائه على الاعتزال في الحسن والقبح العقليين كما لا يخفى ولذا خصه نجالشرع وقوله: وتأنيثها الخ الخصلة والخلة بفتح الخاء فيهما بمعنى الفعلة الواحدة إلا أنها غلبا فيما يحمد والعطف بأو وان كانا مترادفين لجواز التأوبل بكل منهما وارداته إذ التاء فيه ليست للنقل إلى الاسمية لأنه قد يوصف به والمراد أنه نقل من تركيب جرى فيه على خصلة أو خلة. قوله: (واللام فيها للجنس) زاد في الكشاف أنها إذا دخلت على المفرد كان صالحاً لأن يراد به الجنس إلى أن يحاط به وان يراد بعضه لا إلى الواحد منه وإذا دخلت على المجموع صلح أن يراد به جميع الجنس وأن يراد به بعضه لا إلى الواحد منه لأن، زانه في تناول الجمعية في الجنس وزان المفرد في تناول الجنسية والجمعية في جمل الجنس لا في وحدانه والمصنف رحمه الله لم يتعرّض لهذا التفصيل ولم يذكر أحد وجه تركه له، وهو يحتمل أنه لقصد الاختصار فقط ومخالفتة له، كما وقع في بعض الحواشي وسيقرع سمعك عن لريب فاللام هنا للجنس لأنه أصل معناها الوضعي إذا لم يكن عهد والاستغراق إنما يفهم من المقام بمعونة القرائن، ثم إنه إذا فهم منه وأريد فهل بين استغراق المفرد والجمع فرق أم لا فإن فيل اسنغراق الجمع يتناول كل جماعة جماعة قلنا إنّ استغراق المفرد أشمل وان قيل بتناوله واحاده تساويا في الإثبات والفرق ب! هما في النفي ظاهر على ما قصل في شرحي التلخيص والمفتاح ولصاحب الكشاف فيه كلام يحتاج لشدة التأمّل وسيأتي إن شاء الله تحقيقه في آخر سورة البقرة، فإن قلت إذا كان الجمع المعرّف باللام يصلح لأن يراد به الجنس كله وأن يراد رهضه إلا إلى الواحد فما المراد بالصالحات حينئذ إذ لا يجوز أن يراد به جنس الجمع مطلقاً رإلا لكفي الأقل من الاثنين أو الثلاثة ولا أن يراد الجنس كله إذ لا يتأتى أن يأتي به كل واحد،) ن قصد التوزيع عاد المحذور وهو أنه يكفي من كل واحد أعمال ثلاثة قبل أقل منها على القسام الآحاد على الآحاد. قلت ليس المراد الأقل ولا الكل على ما ذكر بل ما بينهما أعني حميع ما يجب على كل مكلف بالنظر إلى حاله فيختلف باختلاف أحوال المكلفين من الغنى والفقر والإقامة والسفر والصحة والمرض فمعنى قوله: عملوا الصمالحات أنّ كل واحد عمل ما يجب عليه على حسب حاله وفيه شائبة توزيع كما قرّره الشريف في شرحه، وحاصله أنه الاستغراق بأن يعمل كل ما يجب عليه منها إن وجب قليلاً كان أو كثيراً فدخل فيه من أسلم، مات قبل أن يجب عليه شيء أو وجب شيء واحد، ومثله ليس توزبعاً بالمعنى المشهور وهو(2/61)
الفسام الآحاد على الآحاد كركب القوم خيولهم فإنه يطلق أيضاً على مف بلة أشياء بأشياء أخذ كل منها ما يخصه سواء الواحد الواحد كما في المثال المذكور أو الجمع الواحد كدخل الرجال مساجد محلاتهم أو العكس كلبس القوم ثيابهم، ومنه قوله تعالى: {فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ} [سورة المائدة، الآية: 6] وسماه قدّس سرّه شائبة التوزيع فمن اعترض على صوله إن فصد التوزيع عاد المحذور بأنه توزيع بالمعنى الثاني بغير محذور فقد غفل عن مراده أو تغافل
فإذا عرنت هذا فما في الكشاف هنا مخالف لما تقرّر في الأصول وما بني عليه من الفروع من أنّ أل الجنسية إذا دخلت على الجمع تسلبه معنى الجمعية بدليل مسألة لا أتزوّج النساء ولا أشتري العبيد لاستلزامها عدم الفرق بين المفرد والجمع المحلى باللام وقد فرق بينهما، فإن قيل لهم لا فائدة حينئذ في الجمعية التزموه أو قالوا جمع أوّلاً ثم أدخل عليه أل مع أنها تسلب المفرد الإفراد أيضا فالظاهر أنّ المصنف رحمه ألله إنما ترك ما في الكشاف لمخالفته بحسب الظاهر لما تقرّر في الأصول والاستعمال.
قوله: (وعطف العمل على الإيمان مرقباً) بصيغة اسم الفاعل، والحكم هو البشارة على
ظاهر كلام المصنف وهي وإن تقدمت لكن تعليق الحكم على المشتق وما في معنا. يشعر بأن مبدأه علة وسبب له فهي متقدّمة بالذت كما مرّ مرارا، أو كون الجنة المبشر بها لهم، وقوله: إشعار بالنصب على أنه علة للعطف أي عطفه للإعلام بما ذكر وفي تفسير السمرقنديّ هذه الآية حجة على من جعل جميع الطاعات إيمانا حيث أثبت الإيمان بدون الأعمال الصالحة لعطفها عليه. فإن قيل: إنكم تقولون إن المؤمنين يجوز دخولهم الجنة بدون الأعمال الصالحة والله تعالى جعل الجنة معدة بشرط الإيمان والأعمال الصالحة فيكون ما قلتم خلاف النص وهو سؤال المعتزلة، قيل البشارة المطلقة بالجنة شرطها اقتران الأعمال الصالحة بالإيمان ونحن لا نجعل لأصحاب الكبائر البشارة المطلقة بل نثبت بشارتهم مقيدة بمشيئة الله تعالى وجاز أن يكون العمل ائصالح عمل القلب الإخلاص في الإيمان فلا تبقى حجة على خروج الأعمال وهذا معنى قول المصنف السبب في استحقاق هذه البشارة الخ ولم يرد أنّ الإيمان المجرّد لا ينجي ولا أنّ الأعمال توجب الثواب بل إنّ الجمع بينهما مقتض لتفضل الله بمقتضى كرمه وتركه لخلافه كما عليه أهل السنة، وقوله عبارة عن التحقيق هو مصدر حققه إذا صدّقه كما في القاموس فعطف التصديق عليه تفسيري، وأقرار المتمكن شرط كما مرّ فلا مناناة بينه وبين ما مرّ في تفسير قوله يؤمنون بالغيب كما توهم. قوله: (ولذلك قلما ذكرا منقردين الخ (أي لكونهما كالأسق والبناء لا لكونه لا غناء الخ لأنّ الظاهر حينئذ أن يقول ذكر بالإفرإد وهو ظاهر لأنّ العمل لا يعتد به بلا إيمان والأس لا يناسب انفراده والغناء بفتح الغين المعجمة والمد النفع والفائدة وهذا مصراع وقع موزونا اتفاقا، وقد قيل: على هذا أنّ الإيمان موجب للنجاة من العذاب المخلد البتة فإن أراد أنه لا ينجي مطلقا فممنوع مع أنّ جنس العمل الصالح كذلك وإن أراد مقيداً بقيد فكذلك وجوابه ظاهر لمن تدبر. قوله: (وفيه دليل على أنه خارجة الخ) قيل: إن أراد خروجه عن مسمى الإيمان المنجي في الشرع فممنوع وان أراد خروجه عن الإيمان اللغويّ فقليل الجدوى وليس النزاع فيه مع أنّ الظاهر حمله على المعنى الشرقي ما لم يصرف
عسه صارف، وهذا ذهول عما مرّ، ثم إنه أفي صارف أقوى من العطف المقتضي للمغايرة إذ لا، جه لعطف الشيء على نفسه ولا الجزء على كله ومثله- كاف فلا يرد عليه شيء مما في بعض الحواشي، وفي قوله الأصل إشارة إلى أنه قد يقع العطف على خلاف الأصل لنكتة كما في عطف جبريل على الملائكة وهو أشهر من أن يذكر، وأصل أنّ لهم بأن لهم لتعدي البشارة لاً لباء فحذفت لاطراد حذف الجارّ مع أنّ وأن بغير عوض! لطولهما بالصلة ومع غيرهما فيه اختلاف بين البصريين والكوفيين مشهور، وفي محله بعد الحذف قولان فقيل: نصب بنزع الخافض كما هو المعروف بأمثاله وقيل: جرّ لأنّ الجار بعد الحذف قد يبقى أثره نحو الله لأفعلن بالجرّ مع مدّ الهمزة وقصرها كما بينه النحاة لكته هنا مقصور. قوله: (وهو مصدر جنه إذا ستره الخ) الجن بفتح الجيم وتشديد النون، ومداره بمعنى لا ينفك عنه، وتوصيف الشجر بأنه مظل لإظهاره معنى الستر فيه(2/62)
والالتفاف اتصال بعضها ببعض كأنها تلف. وقوله: للمبالغة تعليل للتسمية بالمرّة دون المصدر والصفة ومنه الجن لمقابل الإنس لاستتارهم عن العيون وكذا الجنون لستره العقل والمجن للترس وغيره. قوله: (كأق عينئ الخ) هو من قصيدة طويلة لزهير بن أبي سلمى يمدح بها ممدوحه هرم بن سنان المشهور وأولها:
إنّ الخليط أجد البين فافترقا وعلق القلب من أسماء ما علقا
وفارقتك برهن لا فكاك له يوم الوداع فأمسى الرهن قد غلقا
ومنها:
كأنّ عينيّ في غربي مقتلة من النواضح تسقي جنة سحقا
ومنها:
إن تلق يوما على علاته هرما تلق السماحة منه والندى خلقا
وليس مانع ذي قربى ولا رحم يوماً ولا معدما من خابط ورقا
الخ. وهو شاهد لإطلاقه على الشجر بدون الأرض وقد يطلق عليهما وقال الراغب:
الجنة كل بستان ذي شجر يستر بأشجاره الأرض وقد تسمى الأشجار الساترة جنة وعليه حمل تول زهير وفي الكشاف الجنة البستان من النخل والشجر المتكاثف المظلل بالتفاف أغصانه قال زهير: الخ وعينيّ فيه تثنية عين بمعنى الجارحة والغرب الدلو الكبير، والمقتلة بصيغة المفعول
من تفعيل القتل بمعنى الناقة التي كثر استعمالها حتى سهل انقيادها والنواضح جمع ناضح وهو البعير الذي يستقى عليه ويستعمل في إخراح الماء من الآبار والسحق بضمتين جمع سحوق وهي النخلة الطويلة المرتفعة جداً وخصها لاحتياجها لكثرة الماء فهي أوقع وأبلغ هنا فقول بعض الأدباء إنه حشو الأجل القافية لا فائدة فيه لا وجه له، وقال شرّاح الكشاف أنه بالغ في تذراف الدموع فاختار الغرب وهي الدلو العظيمة وثناها تنبيها على دوام الانسكاب بتعاقبهما في المجيء والذهاب إذ لا تزاق تصب واحدة وترسل أخرى وذكر المقتلة لأنها تخرج الدلو ملأى ووصفها بأنها من النواضح المتمرّنة على هذا العمل وأورد الجنة الدالة على الكثرة والالتفاف والنخل المفتقرة لكثرة السقي لا سيما السحق منها، والمعنى كما في شرح الديوان أنه يقول لما يئست منهم لم أملك دموعي فكأنها من كثرتها تسيل من دلوي ناقة مذللة للعمل لا تريق شيئاً مما في الدلو بل تخرجها تامّة مملوءة، وقال قدس سرّه كان الظاهر أن يقول كأنّ عينيّ غربا مقتله لكنه أتى بكلمة في كأنه يدعي أن ما ينصب من الغربين منصب من عينيه ولم يزد على هذا فكأنه تجريد كما في قولهم في الله كاف، وبه صرّح الطيبيّ ولا يخفى أن التجريد لا يصرّح فيه بأداة التشبيه لأنه من التشبيه البليغ عندهم والتصريح بالتشبيه فيه لا نظير له، ومن الخيالات ما قيل هنا من أنّ المراد بالنخل الطوال خيالات قامات الأحبة فكأن عينيه تسقي تلك الخيالات فتأمل وتحمل. قوله: (ثم البستان لما فيه الخ) معطوف على قوله الشجر والبستان يطلق على الأرض التي فيها الأشجار وعلى الأشجار وحدها وورد في شعر الأعشى بمعنى النخل خاصة كما ذكره الجواليقيّ في كتاب العرب، وقد عرّبته العرب قديما واستعملته بهذين المعنيين وأصله بالفارسية بوي ستان وبوي الرائحة الطيبة وستان بمعنى المكان والناحية فخفف بحذف الياء والواو وخص بأرض الأشجار التي تعطر بروض النسيم وطيب الأزهار ثم عرّب ونقل بهذا المعنى ثم توسعوا فيه فاطلقوه على الأشجار نفسها وقول بعض المتأخرين أنه من اللغات المشتركة فإنه في العربية أرض ذات حائط فيها أشجار وفي الفارسية مركب من كلمتين ومعناه التركيبي ناحية الرائحة وقد وهم فيه صاحب القاموس حيث قال: إنه معرب بوسنان انتهى. وهم من ابن أخت خالته ظاهر لمن عنده أدنى شبهة من الإنصاف، وليس الحاصل عليه إلا محبة الخلاف، ومثل البستان في معنييه الجنة فتطلق على الأرض بأشجارها وعلى الأشجار وحدها كما ذكره المصنف رحمه الله وعدل عن قول الزمخشريّ الجنة البستان من النخل والشجر لما فيه من الإيهام والاقتصار على أحد معنييه لا لما قيل من أنه قصد الردّ عليه حيث استشهد بالبيت على تسمية البستان بالجنة، وأعجب منه متابعة الشرّاح له انتهى. وقال قدس سرّه: أطلق الشاعر الجنة على النخيل ولا ينافيه قول الزمخشريّ الجنة البستان الخ إذ لا يعلم منه أنها نفس الأشجار أو الأرض التي(2/63)
فيها أو مجموعهما وفيه ونظر لأنه بين البستان بقوله من النخل والشجر يعني ما أريد به من أحد معنييه فإن قيل من اتصالية لا بيانية فارتكاب لما هو في
عاية البعد من غير احتياح إليه، وقوله لما فيه الخ بيان للمناسبة في إطلاقه أو للعلاقة فإن كان اسماً للأرض فقط فمن إطلاق الحالّ على المحل وإن كان للمجموع فمن إطلاق الجزء على الكل وفيه محتمل لهما، والمتكاثفة بمعنى المتلاصقة الملتفة لكثرتها مستعار من الكثافة المقابلة المطاقة والرقة يقال ماء كثيف وشجر كثيف كما قال أمية:
وتحت كثيف الماءفي باطن الثرى ملائكة تنحط فيه وتصعد
قوله: (ثم دار الثواب لما فيها الخ) دار الثواب هي الدار الآخرة، وهي في مقابلة الدنيا
التي هي دار التكليف، والنار التي هي دار العقاب وهو منقول إليها لأنه حقيقة شرعية وهو المتبادر منها حيث ذكرت وبين المناسبة بيته وبين المنقول عنه بوجهين، والجنان بالكسر جمع حمنة بمعنى أرض ذات أشجار وحدائق أو أشجار أو لما فيها من النعيم الذي لا عين نظرت ولا ادن سمعت ولا خطر على قلب بشر مما هو مغيب ومستور عنا الآن، فلذا سميت جنة لاستتار ما فيها وإن كانت موجودة الآن وافنان يكون جمع فنن بمعنى غصن وجمع فن بمعنى ضرب، نرع هذا هو المراد هنا، والغالب فيه جمعه على فنون والجنة من الأسماء الغالبة على الدار الاخرة إلا أنّ غلبتها لم تصل إلى حدّ العلمية لأنها تعرّف وتنكر وتجمع وتوصف بها أسماء الإشارة في نحو تلك الجنة، وإنما جمعت بهذا المعنى لأنها كما تطلق على المجموع تطلق على أماكن منها وعلى القدر المشترك بينهما ولولاه لم تصح الجمعية هنا والى هذا أشار المصنف رحمه الله بقوله وجمعها الخ وأيده بالنقل عن سيد المفسرين ابن عباس رضي الله عحهما ففيها جنان على مراتب متفاوتة بحسب استحقاق أصحابها وتفاوت رتبهم في الشرف لالأنبياء عليهم الصلاة والسلام وهو ظاهر والعمال جمع عامل والمراد به من عمل الصالحات خيرة خلقه وفيما نقله عن ابن عباس رضي الله عنهما من أنها سبع إشارة إلى وجه اختيار جنات مإنه جمع قله على الصحيح كما مرّ على جنان كما قيل: وما نقله عن ابن عباس رضي الله مهما أنكره السيوطيّ رحمه الله وقال إنه لم يوجد في شيء من كتب الحديث قيل: وفي قوله ا! نان الخ إشارة إلى أنّ تنكير جنات للتنويع، ويحتمل أن يكون للتعظيم أي جنات لا يكتنه، صفها. قوله: (واللام تدلّ على استحقاقهم الخ) يعني أنها لام استحقاق والله تعالى لا يجب مليه شيء فهو جار على عوائد إحسانه وفضله في الإثابة بوعده الذي لا يخلفه، وقوله: لا لذاته ليس لبيان معنى اللام الموضوعة لمطلق الاستحقاق بل لبيان أنه مراد منه أحد فرديه في الضمير المضاف إليه ذأت راجع لما وهو ردّ لما في الكشاف من إشارته لمذهب المعتزلة
القائلين بأنّ الثواب مستحق لذات الإيمان والعمل على ما تقرّر في الأصول وقد مرّ قول المصنف رحمه الله في تفسير قوله لعلكم تتقون أنّ العبد لا يستحق بعبادته ثوابا وهو كأجير أخذ الأجر قبل العمل. قوله: (ولا على الإطلاق بل بشرط أن يستمرّ الخ) فيه تسامح والمراد أنه يموت على الإيمان لأن تخلل الردّة لا يمنع دخول الجنة وهو مما اتفق عليه الماتريدية والأشاعرة فإنّ حصول المراتب الأخروية مشروط بالموت على الإيمان بلا خلاف وقيل: إنما الخلاف في التصديق والإقرار إذا وجد من العبد هل يصح أن يقول أنا مؤمن حقا ولا يقول أنا مؤمن إن شاء الله كما هو مذهب الحنفية الماتريدية لأنه إن كان للشك فهو كفر وان كان لإحالة الأمور إلى مشيئته تعالى أو للشك في العاقبة والما! لا في الحال أو للتبرّك والتبرّي من تزكية نفسه فالأولى تركه لإيهامه الشك وخلاف المراد أو ينبغي أن يقوله كما ذهب إليه الأشعرية لأنّ العبرة بالخاتمة وهذه المسألة تسمى مسألة الموافاة عندهم كما سيأتي إن شاء الله تعالى. (أقول) روى الماتريدية استدلالاً لما قالوه حديثاً هو من قال أنا مؤمن إن شاء الله فليس له في الإسلام نصيب وهو حديث موضوع باتفاق الفحدثين كما فصله في كتاب اللألي المصنوعة في الأحاديث الموضوعة وقد صح عن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ من تمام إيمان العبد أن يستثني أورده الجوزقانيّ وصححه وأبطل به ما خالفه وقال الاستثناء(2/64)
في الإيمان سنة فمن قال أنا مؤمن فليقل إن شاء الله وهو ليس استثناء شك ولكن عواقب المؤمنين مغيبة عنهم ثم أورد حديث جابر رضي ألله عنه وهو أنه كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر من قوله: " يا مقلب القلوب ثبت قلوينا على دينك " مع أحاديث أخر استدلّ بها على سنية الاستثناء وبطلان ما يخالفه وللعلامة ابن عقيل رحمه الله تأليف مستقل فيه ليس هذا محلاً لاستيفاء ما فيه. قوله: ( {فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} الخ (هذه الآية تدلّ على أنّ الموت على الكفر محبط للعمل ولا خلاف فيه لأحد كما اتفق عليه شرّاح الكشاف هنا، وإنما الخلاف في إحباط الكبائر بدون التوبة وفي شرح الكشاف للتفتازاني قال الإمام القول بالإحباط باطل لأنّ من أتى بالإيمان والعمل الصالح استحق الثواب الدائم فإذا كفر بعده استحق العقاب الدائم ولا يجوز وجودهما جميعا ولا اندفاع
أحدهما بالآخر إذ ليس زوال الباقي بطريان الطارىء أولى من اندفاع الطارىء بقيام الباقي والمخلص أن لا يجب عقلا ثواب المطيع ولا عقاب العاصي وأجيب بمنع عدم الأولوية فإنّ الطارئ إذا وجد امتنع عدمه مع الوجود ضرورة امتناع الوجود والعدم ووجوده يستلزم عدم الباقي أعني العدم بعد الوجود وهو ليس بمحال وبأنه منقوض بانتفاء الشيء يطريان ضده كالحركة بالسكون والبياض بالسواد، وأيضاً الإحباط مما نطق به الكتاب فكيف يكوني باطلاً واعترض عليه بأنّ مراد الإمام أنّ إبطال حكم أحدهما بحكم الآخر ليس أولى من الاخر لا ابطال الذات بالذات إلا إنه إذا بطل الأصل بطل الحكم المترتب عليه ثم إن مراده أن القول بالإحباط مطلقا كما في الكشاف باطل فلا ينافي في نطق الكتاب به فيما هو مخصوص أو مؤوّل وليس هذا كله كلاما محررا فمن أراد تهذيبه وتحريره فلينظر رسالة الإحباط التي حرّرناها ثم إنّ إحباط الأعمال بالكفر مطلقا مذهب أبي حنيفة استدلالاً بقوله تعالى {وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ} أسورة المائدة، الآية: 5] ومذهب الشافعي أنه لا يكون محبطا إلا بالموت على الكفر لقوله تعالى {فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ} فيحمل المطلق على المقيد على أصله وفوله ولعله لم يقيد الخ أي استغنى بتلك الآيات الدالة على الإ. حباط بالشرك المقتضي لعدم استحقاق الجنة. قوله: (أي من تحت أشجارها الخ) العادة الإلهية جارية بانخفاض! مكان المياه الجارية كما قيل:
فالسيل حرب للمكان العالي
فإن أريد بالجنة الأشجار فذاك مع ما فيه قريب فبالجملة وإن أريد بها الأرض فلا بد من التأويل بتقدير مضاف أي من تحت أشجارها أو يعود الضمير إليها باعتبار الأشجار استخداما ونحوه وقيل: إن تحت بمعنى جانب صرّح به ابن عطية. وقال: هو كقولهم داري تحت دار فلان وضعفه بعضهم وقال ابن الصائغ رحمه الله: لما كانت تجري من تحت الأشجار المظللة نيل من تحتها أو أنها لما سقتها صدق أنها جرت من تحتها وقال صاحب التقريب: معنا. من تحت أشجارها أو منازلها ويحتمل أنّ منابعها من تحت الجنات وقد قال أبو البقاء: من تحت ارضها فلا وجه لمنع ابن الجوزي له، وقال أبو علي: من تحت ثمارها وهو بعيد وقال الغزنويّ من تحت أوامر أهلها كقوله وهذه الأنهار تجري من تحتي. قوله: (كما تراها جارية تحت الأشجار الخ) عدل عن قوله في الكشاف كما ترى الأشجار النابتة على شواطئ الأنهار إلى ما هو أظهر وإن وجه بأنه قصد تشبيه الهيئة بالهيئة فلا يضرّه تقديم بعض المفردات على بعض أو تأخيره والثاطئ مهموز الآخر كالساحل وزنا ومعنى وجمعه شواطئ ومسروق بزنة
المفعول علم لمسروق بن الأجدع التابعيّ ولمسروق بن المرزبان المحدّث وما روي أثر صحيح أخرجه ابن المبارك وهناد في الزهد وابن جرير والبيهقي في البعث والأخدو كما في الصحاح شق مستطيل في الأوض. والأثر مؤيد لكون المعنى تجري من تحت أشجارها. قوله: (واللام في الآنهار للجنس الخ) اللام عبارة عن أل المعرّفة تعبيرا بالجرّ عن الكل لزيادة همزة الوصل عند الجمهور وسقوطها، وأراد بالجنس العهد الذهني المساوق للنكرة وفي الكشف أي غير منظور فيه إلى استغراق وعدمه كما هو مقتضاه مثل أهلك الناس الدينار والدرهم أي الحجران المعروفان من بين سائر الأحجار، وكما تستعمل للعموم في المقام الخطابي ولا قل مما هو مقتضاه في المقام الاستدلاليّ(2/65)
قد تستعمل من غير نظر إلى الخصوص والعموم كما في المثال وكما في هذه الآية وهو كثير أيضاً وهو ردّ على الطيبيّ رحمه الله حيث قال في تقرير معنى الجنس هنا وقول الزمخشريّ أنه للحاضر في الذهن أنت تعلم أنّ الشيء لا يكون حاضراً في الذهن إلا أن يكون عظيم الخطر معقودا به الهمم أي تلك الأنهار التي عرفت أنها النعمة العظمى واللذة الكبرى وأنّ الرياض وان كانت آنق شيء لا تبهج الأنفس حتى تكون فيها الأنهار فإن أحدا لم يشترط ما ذكره في العهد الذهني كما اتفق عليه أهل المعاني والعربية وكيف يتأتى ما ذكره في نحو ادخل السوق واشتر اللحم وإنما غرّه فيه قوله الحاضر في الذهن وهو إنما قصد به بيان الفرق بينه وبين ال! كرة، وإنما نبهناك عليه لأنّ من أرباب الحواشي من لم يتنبه له فاتبعه فيه وإنما ذكره الزمخشريّ نكنة لذكرها لا توجيهاً للتعريف، وهذا هو الذي عناه الفاضل الشريف بقوله العهد التقديريّ، ولما كان الجنس يطلق في كلامهم على ما يشمل الاستغراق والحقيقة أوضحه المصنف رحمه الله بقوأ 4 كما في قولك لفلان بستان فيه الماء الجاري وما قيل: هـ! من أنه يحتمل الاستغراق على أن المعنى تجري تحت الأشجار جميع أنهار الجنة فهو وصف لدار الثواب بأنّ أشجارها على شواطئ الأنهار وأنهارها تحت ظلال الأشجار وأبرد من مياه الجنان لمن رزقه الله ذكاء الجنان. قوله: (أو للعهد والمعهود الخ) الآية المذكورة من سورة القتال وهي مدنية على الأصح وقيل إنها مكية ولهذا قال الثيخ بهاء الدين بن عقيل رحمه الله هذا يتوقف على تقدم نزول آية القتال على هذه، وقد قالط عكرمة أن البقرة أوّل سورة نزلت بالمدينة، ولذا قال الفاضل التفتازانيّ إنما يصح هذا لو ثبت سبقها في الذكر ومع ذلك فلا يخفى بعد مثل هذا العهد وتبعه الفاضل الشريف قدس سرّه، وفي حواشي ابن الصائغ هذا إنما يتمشى على تقدير أن يكون فيها أنهار الآية سبقت في النزول هذه الآية وهو قول الضحاك وسعيد بن جبير في أنها مكية. وأمّا على قول مجاهد إنها مدنية فإنما يتمشى على تقدير أن يكون فيها أنهار الخ سبقت في النزول هذه الآية والآسن الذي يتغير كما سيأتي. وترك المصنف
رحمه الله الوجه الثالث في الكشاف وهو أنّ الألف واللام فيه عوض عن الإضافة لما فيه مما سيأتي تحقيقه. قوله: (والنهو بالفتح والسكون الخ) قد كثر مثله في فعل الذي عينه حرف حلق واختلف النحاة فيه فقيل إنه لغة لا يختص به بل يكون في غيره كنفس ونفس وذهب البغداديون إلى أنه اتباع وهو مقيس فيه وأيد بأنه سمع من بعض بني عقيل نحو في نحو ولو كان لجة قلبت الواو ألفاً فلم تقلب لعروضها وفيه كلام في خصائص ابن جني وقال الزمخشري: أن الفتح فيه أفصح وهو في الأصل بمعنى الشق فأطلق على المشقوق وهو المكان، ولذا فسره المصنف بالمجرى، والجدول أصغر الأنهار كالقناة والبحر أعظمها وقوله كالنيل والفرات هما نهران عظيمان مشهوران وهو يحتمل أن يكون تمثيلا للنهر أو للبحر ان لم نقل أنه مخصوص بالملح كما هو المشهور في الاستعمال قال الراغب: اعتبر من البحر تارة ملوحته فقيل: ماء بحر أي ملح وأبحر الماء ملح قال:
وقد عاد ماء الأرض بحرا وزادني إلى مرضي أن أبحر المشرب العذب
وقال بعضهم: البحر يقال في الأصل للملح دون العذب، وبحر أن تغليب وقوله: والتركيب للسمعة أي أصل معنى نهر دائر على السعة يقال انتهر النهر إذا اتسع ويرد عليه النهر بمعنى الزجر فإنه لا يلاحظ فيه معنى السعة الفهم إلا أن يقال إنه زجر بليغ كما فسر به الراغب ففيه سعة معنوية. قوله: (والمراد بها ماؤها الخ) ضمير بها للأنهار المذكورة في النظم أو المفهومة من المقام والإضمار هنا تقدير المضاف كما في نحو اسأل القرية من مجاز النقص والمقدر إما مياه أو ماء كما هو ظاهر عبارة المصنف رحمه الله فتأنيث تجري رعاية للمضاف إليه القائم مقامه أو رعاية للفظ الجمع لأنه مؤنث إن كان مجازاً للمجاورة أو لذكر المحل وارادة الحال، أو الإسناد مجازيّ من غير تجوّز في الظرف ولا تقدير كما في إسناد الإخراج إلى الأرض لكونها محلاَ للمخرج، وقيل ولإسناد الجري للأنهار نكتة خاصة تعرفها الخاصة وهي أنّ أنهار الجنة ليست إلا المياه! جريها من غير أخدود ولا يخفى أنه إنما يتمشى على أحد التفسيرين ولو تعين هنا لكان(2/66)
كلامه في مجراه. قوله: (صفة ثانية لجنات الخ) ذكر فيها ثلاثة أوجه وترك رابعا سيأتي ولذا لم يذكر الحصر الذي في الكشاف وإذا كانت صفة فهي في محل نصب وحينئذ لم يعطف للإشارة إلى استفلال كل من الجملتين في الوصفية لا أنهما صفة واحدة وإذا كانت خبر مبتدأ مقدر فتقديره هما أي الذين آمنوا الخ أو هي أي الجنات وفي شرح الفاضل التفتازانيّ ولا يقدر شأنها أي هذا اللفظ بل هي أو هو بمعنى القصة أو الشأن (وههنا بحث) وهو أنّ الجملة المحذوفة امبتدأ إمّا أن تجعل صفة أو استئنافا فاعتبار الضمير لغو فليكن
بدون اعتبار الحذف كذلك وردّ بأنّ الربط المعنويّ حاصل إذ الجملة عبارة عن الشأن الذي هو مبتدأ فلا فرق بين الشان وبين هي ومثله في عدم الاحتياج إلى العائد ما ذكره النحاة في قولهم مقولي زيد منطلق وفيه نظر، وسياتي ما فيه في سورة يس، وما ورد من التقدير نقله في الكشف عن بعض الشرّاح ومرضه لأنه خلاف الظاهر*، وما قيل: من أنه على الخبرية إمّا أن يقال إنه لا يجب كون الخبر محمولاً على المبتدأ أو يجب لكن يكون ذلك تحقيقاً أو تاويلا من تسويد وجه القراطيس بما لا حاجة إليه، وقيل: إنه على هذا التقدير صفة مقطوعة ولم يتنبه له شرّاح الكشاف مع جلالة قدرهم فاعترضوا عليه بأنا نعود إلى الجملة المحذوفة المبتدأ فإن جعلت صفة أو استئنافا كان تقدير الضمير مستدركا وأن جعلت ابتداء كلام كاف فليكن كذلك بلا حذف، ومنهم من تمسك في دفعه بأن تقديرهم يقوي الاستئناف وتقدير هي يقوّي الوصفية ومما يتعجب منه ما في شرح التفتازانيّ فإنه قال لا تحتاج الجملة التي هي خبر عن لفظ الشأن إلى عائد كضمير الشأن وتقديره بهي على أنه ضمير القصة لا يصح لأنه يخص بجملة العمدة فيها مؤنث فالواجب تقدير ضمير الشأن بهو انتهى ولا يخفى ما فيه لأنّ قطع النعت الذي منعوته نكرة وهو جملة خلاف الظاهر حتى منعه بعض النحاة وإن كان الأصح خلافه وكون تقدير هي مشروطاً بما ذكره مما ذكره أهل المعاني إلا أنّ الأصح خلافه كما في شرح التسهيل وسيأتي تفصيله في محله وأمّا ما قيل من أنّ المقدر ضمير الشأن لا ضمير الذين آمنوا ولا الجنات لأنّ كلما ظرف زمان لنصبه على الظرفية فلا يصح أن يكون خبراً عن جثة وتقدير المبتدأ على تقدير كونه كلاما ابتدائيا غير وصف ولا استثناف استحسانيّ مراع لجزالة المعنى وليس بلازم فوهم لأن كلما وحده ليس خبرا بل متعلق بقالوا كما سيأتي والجملة خبر. وما ذكره لا يغني شيئاً وأجاز أبو ابقاء كون هذه الجملة حالاً من الذين أو من جنات لوصفها المقرّب لها من المعرفة وهي كما قال أبو حيان حال مقدّرة لأنهم وقت التبشير لم يكونوا مرزوقين على الدوام والاً صل في الحال المصاحبة. قوله: (أو جملة مستأنفة كأنه الخ) قدره تبعاً للزمخشريّ سؤالاً عن فواكه الجنة فقوله تعالى: {وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ} [سورة البقرة، الآية: 25] الخ زيادة في الجواب ولو قدّر ألهم في الجنات لذات كما في هذه الدار أم أتمّ وأزيد كان أصح وأوضح والاستئناف أرجح الوجوه عندهم كما ذكره صاحب الكشف وغيره وهذا مبنيّ على أنّ معنى من قبل من قبل في الدنيا وهو قول مجاهد وعن ابن عباس رضي الله عنهما والضحاك ومقاتل أنه في الآخرة على معنى رزق الغداة كرزق العشيّ وذهب أبو عبيدة إلى أنّ معناه يخلف الثمرة المجنية مثلها والخلد بفتحتين البال والقلب والنفس وكل منها صحيح هنا، وأزيح بزاي معجمة وحاء مهملة مجهول أزاحه إذا أزاله وفي قوله وقع الخ استعارة تبعية أو مكنية كأنه جعل ما خطر للسامع من التردّد مما يقع في الدار الدنيا من الغبار ونحوه كما يقال لما لا شبهة فيه لا غبار عليه فقوله أزيح ترشيح ومثله في اللطف قول ابن سنا الملك:
كنست فؤادي من حبه ولحيته كانت المكنسة
قوله: (وكلما نصب على الظرف الخ) قال النحاة إنها منصوبة على الظرفية بالاتفاق وناصبها قالوا الذي هو جواب معنى وجاءتها الظرفية من جهة ما فإنها إما مصدرية أو اسم نكرة بمعنى وقت، وكونها شرطية ليس بالوضع وإنما طرأ عليها في الاستعمال لأنّ ما المصدرية التوقيتية شرط من حيث المعنى فلذا احتاجت لجملتين مرتبة إحداهما على الأخرى ولا يجوز أن تكون ما شرطية كما فصله في المغني وشروحه(2/67)
وأمّا إفادتها للتكرار فقد مرّ في قوله تعالى: {كُلَّمَا أَضَاء لَهُم مَّشَوْاْ فِيهِ} ولما كان معنى الشرطية طارئا عليها لم يختلفوا في عاملها كما اختلفوا في عامل الأسماء الشرطية هل هو الجزاء أو الشرط، ورجح الرضي أنه الشرط ولم يرجحه هنا كما توهمه بعضهم وقال: فإن قيل يجب الفرق بين كلما وكلمات الشرط في الحكم بأنّ العامل في كلما الجزاء والعامل في غيرها الشرط قلنا قد فرق الرضي بينهما بأن كلما مضافة للجملة التي تليها والمضاف إليه لا يعمل في المضاف بخلاف كلمات الثرط وفيه كلام ذكرناه في حواشي الرضي ليس هذا محله، ومما فصلناه لك عرفت أنّ ما قيل من أنّ كلما مركب من كل وما الشرطية فلذا صار أداة تكرار ليس بمرضيّ ورزقا مفعول ثاني لرزقوا لأنه يتعدّى لمفعولين فيقال رزقه الله مالاً بمعنى أعطاه وليس مفعولاً مطلقاً مؤكدا لعامله لأنه بمعنى المرزوق أعرف والتأسيس خير من التاكيد وتنكيره للتنويع أو للتعظيم أي نوعا لذيذاً غير ما تعرفونه، وقد جوّزوا فيه المصدرية وكونه مفعولاً مطلقاً والأوّل أرجح.
قوله: (ومن الأولى والثانية للابتداء الخ الما منعوا تعلق حرفي جرّ متحدي اللفظ والمعنى بعامل واحد حقيقة وجوّزوا غيره مما تعلقا به وقد اختلفا لفظا ومعنى كمررت بزيد على الطريق أو اختلفا معنى لا لفظاً نحو ضربته بالعصا بسبب عصيانه، أو عكسه نحو ضربته لتأديبه بسبب سوء أخلاقه، وما في الآية بحسب الظاهر يتراء! مخالفته لذلك أشاروا إلى دفعه بأنه غير مخالف لما ذكر لأنه لا يخالفه إلا إذا تعلقا به من جهة واحدة ابتداء من غير تبعية وما نحن فيه ليس كذلك. وفي الكشاف هو كقولك: كلما أكلت من بستانك من الرمّان شيئا حمدتك فموقع من ثمرة موقع قولك من الرمّان كأنه قيل: كلما رزقوا من الجنات من أيّ ثمرة كانت من تفاحها أو رمّانها أو عنبها أو غير ذلك رزقا قالوا ذلك فمن الأولى والثانية كلناهما لابتداء الغاية لأنّ الرزق قد ابتدئ من الجنات والرزق من الجنات قد ابتدى من ثمرة، وتنزيله منزلة أن تقول رزقني فلان فيقال لك من أين فتقول: من بستانه فيقال من أيّ ثمرة رزقك من بستانه فتقول من الرمّان، وتحريره أنّ رزقوا جعل مطلقاً مبتدأ من ضمير الجنات ثم جعل مقيداً بالابتداء من ضمير الجنات مبتدأ من ثمرة، وقرّره شرّاحه بأنه لما توهم أنّ حرفي الجر في منها ومن ثمرة متعلقان برزقوا وهما بمعنى ولفظ واحد، ومما تقرّر عندهم أنه لا يجوز مثله الأعلى الإبدال والتبعية ولا مجال له هنا فدفعه بوجهين وبالغ في تقرير الأوّل وصرّج بأنهما للابتداء إلا أن الأولى متعلقة بالرزق المفهوم من رزقوا مطلقا، والثانية به مقيداً بكونه من الجنات فليس مما
منع في شيء لأنه اعتبر فيه الفعل أوّلاً مطلقاً ثم قيد بقيد يقتضيه سؤال ثم قيد ذلك الفعل المقيد بقيد آخر يقتضيه سؤال آخر فاتضح اتضاحا تامّاً أنّ كل واحد من الفعل المطلق والمقيد بالقيد الأوّل يصح ابتداؤه من المقيد بالقيد الذي تعلق به والثمرة على هذا للنوع فإنه لا يصح الابتداء من فرد إلا بكون بعضه مرزوقا وهو ركيك جدا، وكلا الظرفين على هذا الوجه لغو بلا اشتباه والمصنف رحمه الله ذهب إلى الإطلاق والتقييد مع جعلهما حالين متداخلتين وحينئذ فمتعلقهما متعدد فلا يلزمه المحذور المذكور لما قالوه بل لشيء آخر وهو أن الشيء الواحد لا يكون له مبدآن، ولذا قال: وأصل الكلام ومعناه الخ. ولا يخفى أنه لا وجه له لأنّ المبدأ كما مرّ معناه ما يتصل به الأمر الذي اعتبر له امتداد محقق أو متوهم وللشيء اتصالات شتى كاتصاله بالمكان في نحو سرت من البصرة، والزمان في من أوّل يوم، وبالفاعل وبالكل المأخوذ منه بل للمكان المحدود المربع مثلاً ابتداء من كل حدّ من حدوده الأربعة فالابتداء في منها مكانيّ وفي من ثمرة كليّ كما في أعطني من المال وكل لي من الصبرة إذا لم ترد التبعيض ألا تراك لو قلت ما قرأت النحو من كتاب سيبوبه من المبرّد من أوّل سنة كذا صح بلا مرية فإذا لم بتحد المتعلق لا لمانع صناعيّ ولا معنويّ فارتكاب المصنف للتأويل من غير داع لا! خلو من الخلل ولذا قيل: إنه لم يقف على مراد الزمخشريّ وتوهم من تقديره السؤال أنه ظرف مستقرّ عنده، وسيأتي لنا كلام فيه وقد قيل: عليه أيضاً أن المشهور أن من الابتدائية والتبعيضية لغوان والتبيينية مستقرّة وهذا مخالف له، وفيه بحث لأن(2/68)
ما اذعاه وإن سبق إليه غير مسلم، والظاهر خلافه فيكفي لتصحيح الابتدائية فيهما اختلاف المبدأ ثم إن قول الشريف تبعا لغيره من الشرّاح أنه لا مجال للتبعية والإبدال في الآية الكريمة فيه أنّ المعرب جوّز فيه أن يكون بدل اشتمال، ولا حاجة إلى الضمير لظهور الارتباط مع أنه مخصوص بإبدال المفردات وقال في البحر من في قوله منها الابتداء ألغاية وفي من ثمرة كذلك لأنه بدل من قوله منها أعيد معه حرف الجرّ وكلتاهما متعلق برزقوا على جهة البدل وهذا البدل من بدل الاشتمال. قوله: (كل حين وزقوا مررّوقاً الخ) إشارة إلى أنّ ما مصدربة حينية ومرزوقا إشارة إلى أنّ الرزق بمعنى المرزوق مفعول به ومبتدئاً بكسر الدال على زنة اسم الفاعل ولو فتح صح فقيد الرزق بكونه مبتدئاً من الجنات وابتداءه منها بابتدائه من ثمراتها وهو ظاهر وقوله فصاحب الحال الخ إشارة إلى أنها حال متداخلة، وقد قيل عليه أنه لا وجه لجعل الثمرة مبدأ مبدئية الرزق لا مبدأ نفسه فالوجه أن تجعل الحال مترادفة وفائدتها أنّ كون الجنات مبدأ الرزق يحتمل أن يكون باعتبار غير الثمرة مما فيها فالثانية تعين المراد إلا أنه على ما ذكره يظهر كونه قيداً للمقيد بخلافه على الترادف وفي قوله واقعتان موقع الحال مسامحة ظاهرة لأنّ الحال متعلق الجارّ والمجرور أو هما لا الحرف، والمستكن بتشديد النون اسم فاعل يقال: اكتن واستكن إذا استتروا التخفيف من السكون بعيد واعلم أنّ الظاهر أنّ جعل المتعلق الواحد في حكم المتعدد لا يختص بصورة التقييد والإطلاق بل يجري في كل ما يشبهه بحسب التأويل كما في قولهم لم أر رجلاَ أحسن
في عينه الكحل منه في عين زيد فإن في تعلقت بأحسن فيهما لأنّ معناه زاد حسن الكحل في عين زيد على حسنه في عين غيره فهو بحسب التأويل متعدّد وله نظائر أخر ليس هذا محلها، وإنما المراد التنبيه على أنه ليس مخصوصاً بما ذكر كما يوهمه كلام الكشاف وشروحه فتدبر فإن قلت لم سأل عن قوله من ثمرة وبين في الجواب تعلق الظرفين وأيّ حاجة إلى ذكر متعلقين حتى يحتاج إلى التأويل ولو قيل: كلما رزقوا من ثمرها أفاد ما ذكر من غير ارتكاب لمشقة التأويل وتكرار من واعجاز التنزيل يأبى زيادة ما يحوج للتأويل قلت: الذي لاح لي بعد التأمّل الصادق أن تعليق الرزق بمحله وتعقيبه بثمرة منكرة يقتضي عمومه لكل ما فيها كما قال تعالى: {وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ} [سورة محمد، الآية: 115 {وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ} ولولا ذكرهما لم يفد هذا النظم مع ما فيه من الإيضاح بعد الإبهام والتفصيل بعد الإجمال الذي هو أوقع في القلوب واليه أشار العلامة بما ذكره من السؤال والحاصل أن تعلق منها يفيد أنّ سكانها لا تحتاج لغيرها لأنّ فيها كل ما تشتهي الأنفس وتعلق من ثمرة يفيد أنّ المراد بيان المأكول على وجه يشمل جميع الثمرات دون بقية اللذات المعلومة من السابق واللاحق وفيه إشارة أيضا إلى أنّ عامّة مأكولهم الثمار والفواكه لأنهم لا يمسهم فيها جوع ولا نصب يحوجهم إلى قوت به قوام البدن وبدل ما يتحلل ومن هنا خطر بالبال أنّ المصنف رحمه الله لم يعدل عما في الكشاف غفلة عن مراده بل إمّا لأنه فهم منه أنه أراد توضيح المعنى وتفسيره لا توجيه التعلق النحوي وتقريره أو بيان أنه لا حاجة داعية له إذا جعلت من فيهما ابتدائية لأنه يجوز تخريجه على وجه آخر أسهل منه وأمّا تخصيصه السؤال بقوله من ثمرة فلأنه سؤال نشأ من تكرّر من فيه. قوله: (ويحتمل أن يكون من ثمرة الخ) هذا هو الوجه الثاني في الكشاف وهو أن تكون من الأولى ابتدائية كما فهم من عدم تعرّض المصنف رحمه الله لها، والثانية في قوله من ثمرة مبينة للمرزوق الذي هو مفعول! ان والظرف الأوّل لغو والثاني مستقرّ وقع- ا / * ن النكرة لتقدمه عليها والثمرة يجوز حملها على النوع وعلى الجناة الواحدة، ولم يلتفتو! إلى جعل من الثانية تبعيضية في موقع المفعول ورزقا مصدر مؤكد لبص هـ مع أنّ الأصل في من الابتداء والتبعيض ولا يعدل عهما إلا لداع قويّ كما مرّ في قوله تعالى: {أَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ} [سورة البقرة، الآية: 22] وقوله كما في رأيت منك أسدا صريح في أنّ من التجريدية بيانية، وقد قيل عليه أنه حينئذ تفوت المبالغة المقصودة في التجريد لأنّ الإجمال والتفصيل يفيد أن المبالغة في التفسير لا الصفة التي قصد بالتجريد بلوغها الغاية في الكمائا، والصحيح أنها ابتدائية أي رأيت أسدا كائناً منتزعا منك(2/69)
ومن قال جعل هذا البيان على ذلك المنهاج مبنيّ على أنّ من البيانية عنده رأجعة إلى ابتداء الغاية فلا بد من اعتبار التجريد بأن ينتزع من المخاطب أسد ومن الثمرة رزق لم يأت بشيء يعتد به ألا ترى أنه جعل البيانية قسيما للابتدائية وأنه لا قرينة على انتزاع الرزق من الثمرة بل هي نفسها رزق وقد تغ فيه من قال: ليت شعري إذا حمل من على البيان لم يجعل من التجريد مع أنّ البيان يحمل المبين على المبين أظهر فإن
رزقاً تفسره الثمرة فليس من التجريد في شيء، والقول: بأنه لا منافاة بين التجريد والبيان مفتقر إلى البيان (أقول) هذا محصل ما قاله الشرّاح وسيأتي في أوّل سورة آل عمران تفصيله، والذي حملهم على إلاعتراض هنا أنّ المبين لما اتحد مع المبين في الجملة لم يكن أبلغ من حمله عليه في نحو زيد أسد مع أنّ عبد القاهر وغيره من أهل المعاني صرّحوا بأنّ التجريد أبلغ من التشبيه البليغ، والجواب عنه أنّ من البيانية تدخل على الجنس المبين به لكونه أعتم وأعرف بالمعنى الذي وقع فيه البيان، وهنا لما عكس وجعل الشخص جنساً مبينا به ومنتزعا منه ما هو الأعم الأعرف كان أبلغ بمراتب من التشبيه البليغ ولو كان معكوساً، فلو قلت رأيت منك أسدا جعلت زيداً جنساً شاملاً لجميع أفراد الأسد وخواصه بل أعمّ وأشمل لانتزاعك الجنس منه، وهأ 10 لا يقرّ به الحمل في أنت أسد ولو قيل: رأيت زيدا من أسد ورد ما ذكره قدس سرّه وغيره وليس مما نحن فيه وكذا في نحو رأيت منك عالماً في التجريد غير التشبيهي وهذا مسرح تظر العلامة وهو دقيق أنيق فلا حاجة إلى جعله مبنيا على رجوع من البيانية إلى الابتدائية ولا إلى الجواب عما أورد على التفتازانيّ بأنّ مراده بالبيانية ما تكون للبيان وان كان فيها معنى الابتداء وبالابتدائية التي لصرف الابتداء فيصح جعله قسيماً له على أنه لو سلم لم يفدنا شيئا لأن مذهب القاضي رحمه الله كما صرّح به في منهاجه أنّ جميع معاني من ترجع للبيانية عكس مذهب الزمخشريّ. ثم إن من الابتدائية يكون المبتدأ فيها مغايراً للمبتدأ منه نحو سرت من البصرة ولدخولها غالباً على المكان ونحوه تدلّ على أنه مائل فيه وعلى المغايرة التي هي مبني التجريد مع أنّ بيانه قاصر على أحد قسميه غير شامل لنحو رأيت منك عالماً، وادّعاه عدم بلاغته ظاهر السقوط مخالف لكلام القوم والرضي جعل من فيه تعليلية ولكل وجهة. قوله: (تقذّم الخ) رذ لما قيل من أنها كيف تكون للبيان وليس قبلها ما تبب نه بأنه مبنيّ على جواز تقديم المبين على المبين وأنه يكفي تقدّمه ولو تقديراً كما ذهب إليه كثير من النحاة وان منعه وضعفه آخرون وأمّا جعلها على تقدير البيان ظرفا لغواً متعلقاً برزقوا فوهم لاتفاقهم على أنّ من البيانية لا تكون إلا ظرفاً مستقرّاً كما هو معروف عند النحاة وبه جزم السعد في مواضع من شرح الكشاف كما سيأتي. قوله: (وهذا إشارة الخ) أي لفظ هذا وهو دفع لما يتوهم من أنه كيف يكون هذا المرزوق عين ما في الدنيا أو ما تقدمه في الجنة وقد فني وأكل بأن الإشارة إلى النوع والمعنى أنّ نوع هذا وذاك متحد وكون هذا وضع للإشارة إلى المحسوس والأمور الكلية لا تحس ليس بكليّ مع أنه يكفي إحساس أفراده كما في المثال المذكور، ومن الناس من ذهب إلى وجود الكليّ في ضمن أفراده على ما فيه أو هو إشارة إلى الشخص وفيه تقدير أي مثل الذي رزقنا أو يجعل عينه مبالغة وقد رجح كونه إشارة إلى عين الثمرة بأنّ هذا إذا لم يذكر معه الوصف يكون إشارة إلى المحسوس دون الكليّ، وفي قوله العين المشاهدة إبهام وجريانه
بفتحات مصدر جرى الماء جريا وجريانا ووقع في نسخة بدله جزئياته جمع جزئيّ والأولى أولى واستحكم بمعنى قوي وتمّ يقال أحكمته فاستحكم إذا أتقنتة. قوله: (جعل ثمر الجنة من جنس ثمر الدنيا الخ) هذا معنى ما في الكشاف وقد قيل عليه أنه جيد لو لم يقل إذا رأى ما لم يألفه نفر عنه طبعه فإنّ بطلانه ظاهر فإنّ لكل جديدة لذة والحديث المعاد مثل في الكراهة وليس بشيء، وقد وقع مثله في شرح المفتاح وذكروا أنّ كون النفس تحب ما ألفته وهو يقتضئي تكزره معار ضلما اشتهر كما في المثل أكره من معاد وقد جمع بينهما بأنّ الأوّل فيما يستطاب وتطلب زيادته، والثاني فيما ليس كذلك، وقد وقع التصريح بهذا في كلام(2/70)
الفصحاء والشعراء قديما ألا ترى قوله:
لكل جديد لذة غيرأنني وجدت جديد الموت غير لذيذ
وقول المعرّي:
ردّي حديثك ما أمللت مستمعا ومن يمل من الأنفاس ترديدا
وقول ابن سهل:
يستكره الخبر المعاد وقد أرى خبر الحبيب على الإعادة أطيبا
يحلو على ترداده فكأنه سجع الحمام إذا تردّد أطربا
ومثله كثير في كلامهم فلا وجه لما أورده الفاضل والقياس على الحديث المعاد قياس مع الفارق فإنه معاد بعينه وما نحن فيه ليس كذلك: والحق أنه مختلف بحسب الأحوال والمقامات ألا ترى أنّ أبا عمرو بن العلاء نظر إلى فتى عليه ثياب مشتهرة فقال له: يا بنيّ من المروءة أن تأكل ما تشتهي وتلبس ما يشتهيه الناس ونظمه الثعالبيّ في كتاب المروءة فقال رحمه الله تعالى: إن العيون رمتك إذ فاجأتها وعليك من شهر الثياب لباس
أمّا الطعام فكل لنفسك ما اشتهت واجعل ثيابك ما اشتهته الناس
وهذا الأحماض شابه دفع الاعتراض. قوله: (ويتبين لها مزية الخ) قد علمت ما فيه وأنه
ظاهر الاندفاع وان قيل في دفعه أيضا أنه جيد في غير الطعام فإنّ التجربة والوجدان شاهدا عدل بأنّ ما لم يعهد منه وان حسن شكله لا يباشره عاقل لاحتمال ضرره وقيل: إنه في بادي النظر وقبل التجربة والمزية الفضيلة ولا يبنى منه فعل إلا أنه ذكر في حواشي الجوهرقي أنه يقال: أمزيتة عليه أي فضلتة وفي الأساس تمزيت عليه وتمزينه فضلته وكنه النعمة حقيقتها أو غايتها أو وجهها والمشهور الأوّل إلا أنّ ابن هلال قال ني كتاب الفروق: كنه الشيء على فول الخليل غايته ويقال: هو في كنهه أي في وجهه قال:
وانّ كلام المرءفي غيركنهه لكالنبل تهوي ليس فيهانصالها
وقال ابن دريد: كنه الشيء وقته يقال أتيته في غير كنهه أي في غير وقته، ويكون الكته للقدر أيضاً يقال فعل فوق كنه استحقاقه فليس الكنه من الحقيقة في شيء والناس يظنونهما سواء انتهى وهو لا فعل له أيضا وأثبته بعض اللغويين فقال: يقال منه اكتنه، وقوله كذلك أي غير مألوف. قوله: (أو في الجنة الخ) عطف على قوله في الدنيا أي من قبل هذا الرزق أو المرزوق في الجنة، يعني أنّ مأكولات الجنة متحدة الشكل متفاوتة اللذة والطعوم فإذا قدم إليهم شيء آخر منها ظنوه مكررا والطعام ب! منى المطعوم بمعنى المأكول مطلقاً فيتناول الثمار وغيرها ففيه إثبات للشيء بما هو أعمّ منه أو يخص بالثمار بقرينة المقام، ولا حاجة إلى أن يقال إنه للتمثيل فإنّ الصحفة لا يوك! مع فيها الثمار لأنه غير مسلم، والصحفة بفتح الصاد المهملة وسكون الحاء المهملة كالقصعة الآنية جمعه صحاف وقوله كما حكي عن الحسن الخ أثر أخرجه ابن جرير عن يحى بن كثير بهذا اللفظ. وقوله روي الخ أخرجه أيضا ابن جرير موقوفاً وفي المستدرك من حديث ثوبان مرفوعاً: " لا ينزع رجل من أهل الجنة من ثمرها شيئاً إلا خلق الله مكانها مثلها " وقال: إنه صحيح على شرط الشيخين وقوله فلعلهم الخ لا ياً بى هذا قوله من قبل لأنّ معناه قبل هذا الزمان أو الوقت، وعلى تفسير المصنف من قبل الرزق أو الص روق الذي أشار إليه بقوله من قبل هذا لأن قبل مبنية على الضم لحذف المضاف إليه الذ؟ ب هو هذا ونية معناه وان لم يتخلل بينهما زمان وليس معنى رزقنا أكلنا التقدم الرزق على ا! ل وعلى الأثر الأوّل هو متشابه الصورة مختلف الطعم وعلى الثاني متشابه الصورة والطعم فتأمل. قوله: (والآوّل أظهر الخ) أي كون المراد بالقبلية في الدنيا أولى من كونها مما تقدم في الآخرة لأنّ كلما تفيد العموم، وعلى الثاني لا يتصوّر قولهم لذلك في أوّل ما قدم إليهم ويفوت موقع الاستئناف المبنيّ على السؤال على وجه التشابه بينهما وأن قيل إنّ الأظهر تعميم القبلية لما يشمل قبلية الدنيا والآخرة وقال المصنف أظهر ولم يقل إنّ التفسير هو الأوّل كما قاله الزمخشريّ لأنّ هذا له وجه ظاهر أيضاً حتى قيل إنه يتجه على الأوّل أنه يلزم فيه انحصار ثمار الجنة في الأنواع(2/71)
الموجودة في الدنيا والأليق أن يوجد فيها ذلك مع غيره من الأنواع التي لا عين رأت ولا أذن سمعت كما ورد في الحديث. وقال السيوطي: أيضاً عندي أنّ الثاني
أرجح لأنّ فيه توفية بمعنى حديث تشابه ثمار الجنة وموافقة لقوله بعده متشابها فإنه في رزق الجنة أظهر وإعادته إلى المرزوق في الدارين لا يخفى ما فيه من التكلف كما سيأتي. وقوله كل مرة رزقوا منصوب على الظرفية فإنّ مرّة معناه فعلة واحدة وليس باسم زمان لكنه شاع بمعنى وقت واحد فاعطي له ولما يضاف إليه حكم الظرفية كما قاله المرزوقيّ. قوله: (والداعي إلى ذلك الخ) الداعي هو المقتضي لخطور ما ذكر في الذهن من قولهم هذا الذي الخ كأنه دعاه للحضور فحضر في كل مرّة من مرّات تناولهم، وفرط استغرإبهم أي كدّة غريباً عجئباً عدا مفرطا وتبجحهم بجيم وحاء مهملة افتخارهم وابتهاجهم بإظهار المسرّة بما وجدو. بين الرزقين، والتشابه البليغ في الصورة إمّا لتشابه النوعين المستلزم لتشابه ما صدق عليه أو لتشابه الفردين على ما مرّ من تفسيري هذا فسقط ما قيل من أنه يقتضي أن يكون قولهم هذا الذي رزقنا من قبل من التشبيه البليغ وأصل معناه هذا مثل الذي رزقنا من قبل كما في الكشاف وهو مخالف لقوله وهذا إشارة لنوع ما رزقوا لأنه ليس مبنياً على المبالغة في التشبيه إذ معناه هذا نوع ما في الدنيا والتفاوت مع التشابه منشأ للاستغراب والتعجب كما لا يخفى فلا وجه لما قيل من أن جعل التشابه البليغ داعياً لما ذكر ظاهر وأمّا التفاوت العظيم ففي مدخليته في ذلك خفاء وإن وضحه بما يؤول إلى ما ذكرناه، وهذا إشارة إلى سبب قولهم هذا لتتمّ الفائدة فمن قال إنه لا حاجة إليه لم يصب، وقد نقل عن ابن عباس رضي الله عنهما أنهم يقولونه على سبيل التعجب وفي الاستغراب إيماء له ومن الغريب ما قيل من أنّ هذا إشارة إلى اعترافهم بإعادة أشجار الدنيا وثمارها كإعادة أنفسهم فيكون تعجباً من قدرته تعالى أو إلى أنّ أرض الجنة قيعان تنبت فيها أعمال الدنيا كما ورد في الأثر فثمرة النعيم مما غرسوه في الدنيا ولا يخفى بعده. توله: (اعتراض يقرّر ذلك الخ) كذا في الكشاف وفي شرح الفاضل له هذا على تجويز الاعتراض في آخر الكلام وأكثرون يسمونه تذييلاً والعلامة يجعل الاعتراض شاملاً للتذييل كما يعرفه من تتبع كلامه، فلا يرد الاعتراض! عليه بأنّ الأشبه أنه تذييل وهو أن يعقب الكلام بما يشمل معت اه توكيداً ولا محل له من الإعراب ولا مشاحة في الاصطلاح وايهام أنه اصطلاح القوم كما قاله ابن الصائغ غير مسلم وهذا إذا كان ما بعده جملة مستأنفة بناء على جواز اقترانه بواو يسمونها الواو الاستئنافية وقد جوّز في هذه الجملة أيضا الاستئناف والحالية بتقدير قد وكلام النحاة لا يأباه لأنّ تقدير قد مع واو حالية في الماضيي كثير، وإنما كان هذا مقرّراً ومؤكداً لما قبله لما صرّح به المصنف رحمه الله آنفا من أنه يدل على التشابه البليغ صورة ويلزم من
تقريره تقريره فتذكر. قوله: (والضمير على الآول الخ) أي الضمير المفرد المجرور في قوله به على أوّل التفسيرين المذكورين آنفاً وهو أن يراد بقوله من قبل في الدنيا لما رزقوا في الدارين ولا إضمار فيه قبل الذكر لدلالة مجموع قوله: {هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ} على ما رزقوا في الدارين على هذا الوجه كما مرّ تقريره وهذا معنى قوله في الكشاف فإن قلت إلام يرجع الضمير في قوله وأتوا به. قلت إلى المرزوق في الدنيا والآخرة جميعاً لأن قوله هذا الذي رزقنا من قبل انطوى تحته ذكر ما رزقوه في الدارين، والحاصل أنه جواب عن سؤال هو أنّ التشابه يقتضي التعدّد وتوحيد ضمير به ينافيه بأنه راجع إلى موحد اللفظ متعدد المعنى وهو الجنس المرزوق في الدنيا والآخرة جميعاً كأنه قيل أتوا بذلك الجنس متشابه الأفراد وأوردوا عليه أنّ المرزوق فيهما جميعاً غير مأتي به في الآخرة وأجيب بأنّ المعنى أتوا به في الدارين لا في الجنة وجمعا في سلك تغليباً أو أنّ المراد من الإفإن إتمامه ولا يخفى أنه تعسف والذي ارتضاه في الكشف أنّ المراد من المرزوق في الدنيا والآخرة الجنس الصالح التناول لكل منهما لا المقيد بهما، وقال أبو حيان ما ذكره الزمخشريّ غير ظاهر الآية لأنّ ظاهر الكلام يقتضي أن يكون الضمير عائداً على مرزوقهم في الآخرة فقط لأنه هو المحدّث والمشبه بالذي رزقوه من قبل ولأنّ هذه الجملة إنما جاءت محدثا بها عن الجنة(2/72)
وأحوالها وكونه مخبرا عن المرزوق في الدنيا والآخرة أنه متشابه ليس من حديث الجنة إلا بتكلف اص. قوله: (ونظيره قوله تعالى {إِن يَكُنْ غَنِيًّا} الخ) الذي تقرّر في كتب العربية أنّ الضمير الذي مع أو يفرد لأنها لأحد الشيئين إلا أنها إذا كانت للإباحة يجوز في الضمير بعدها الإفراد والتثنية لأنّ الإباحة لما جاز فيها الجمع بين الأمرين صارت أو فيها كالواو فتقول جالس الجسن أو ابن سيرين وباحثه ويجوز باحثها وعلى هذا قوله في سورة النساء: {كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ} [سورة النساء، الآية: 135] الخ وقد قال أرباب الحواشي تبعا لشرّاح الكشاف أنّ التنظير بهذه الآية لما نحن فيه باعتبار إرجاع الضمير باعتبار المعنى دون اللفظ فإنه عكس ما نحن فيه إذ ثني الضمير في بهما نظرا لما دل عليه الكلام من تعدد الجنسين مع أن مرجعه أحد الأمرين غنياً أو فقيرا وضمير يكن مفرد والمعنى يكن المشهود عليه غنياً أو فقيراً فترك إفراد الضمير لئلا يتوهم أنّ أولويته بالنسبة إلى ذات المشهور عليه فنبه غلى أنه باعتبار الوصفين ليعمّ المشهود عليه وغيره وفيما نحن فيه أفرد الضمير مع أنّ ظاهر المرجع اثنان وفي النطير ثني مع أنّ ظاهر المرجع واحد، ولك أن تقول إنه لا حاجة لما ذكر وأنه نظير له من غير ارتكاب لما ذكر فإنه كما أفرد ضميربه ثم عقب بما يدل على التعدد من قوله متشابهاً أفرد أيضا في النظير ضمير يكن باعتبار المشهود عليه وعدد ما بعده في المعطوف وضميره من غير حاجة للعدول عن الظاهر إلا أن يقال إنه من تلقى الركبان فإنه إنما يحتاج للتأويل بعد مجيء أو فتدبر. قوله: (أي بجنسي الننئ والفقير) فالضمير راجع لما دلّ عليه المذكور وهو جنسا الغنيّ والفقير لا إليه
وإلا لواحد ويشهد له أنه قرئ {فَاللهُ أَوْلَى بِهِمْ} كذا قاله المصنف رحمه الله في سورة النساء وفيه كلام سيأتي فإن أردته فارجع إليه. قوله: (وعلى الثاني على الرزق الخ) أي ضمير به على نقدير كون معنى من قبل هذا في الجنة راجع إلى الرزق والمعنى أتوا بالمرزوق في الجنة متشابه الأفراد، ولما كان التشابه في الصفة وصفات ما في الجنة مغايرة لما في الدنيا كما قال ابن عباس رضي الله عنهما أنها لا تشبهها وإنما يطلق عايها أسماؤها، أجاب بأنّ الصورة من جملة الصفات فكما يصح إطلاق ألاسم يصح إطلاق التشابه لأنه لا يشترط فيه أن يكون من جميع الوجوه وحينئذ يحتمل هذا أن يكون على الحقيقة والمجاز كما يطلق على صورة الفرس أنها فرس والسؤال وارد على الاحتمالين كما يشهد له قوله بين ثمرات الدنيا والآخرة، وقيل: إنه طاهر على الاحتمال الأوّل ولا وجه له غير النظر لظاهر ما ذكر وما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أخرجه البيهقي وغيره. قوله: (هذا وإن للآية محملاَ آخر الخ) أي الأمر هذا أو هذا طاهر أو خذ هذا فاسم الإشارة في محل رفع أو نصب ويحتمل أن يكون ها اسم فعل بمعنى خذ وذا مفعوله من غير تقدير لكنه مخالف للرسم أي أنّ الآية تحتمل تفسيراً آخر بأن يكون ما رزقوه قبل هو الطاعات والمعارف التي يستلذها أصحاب الفطرة والعقول السليمة وهذا جزاء لها مشابه لها فيما ذكر من اللذة كالجزاء الذي في ضده في قوله ذوقوا ما كنتم تعملون أي جزاءه فالذي رزقنا مجاز مرسل عن جزائه وثوابه بإطلاق اسم السبب على المسبب أو هو استعارة بتشبيه الثمار والفواكه بالطاعات والمعارف فيما ذكر وهو الظاهر من كلام المصنف رحمه الله وتوله في ضده ذوقوا مؤيد له ولا يأباه كما قيل: قوله من قبل لأنه في الجنة لا في الدنيا حتى تثبت له القبلية لأن التجوّز في هذا الذي رزقنا وتعلق القبلية به شيء آخر مبالغة بجعل تقدّم سببه واستحقاقه بمنزلة تقدمه كما يقول الرجل لمن أحسن له إني استغنيت حين قصدتك وأمّا تقدير المضاف وان كان أظهر فلا يحمل عليه ما قاله المصنف إلا بتعسف فلا حاجة إلى ما تكلف من جعل الرزق مجاز عن الاستحقاق، أو يقال هو من تسمية موجب الشيء باسمه فإنه لا يسمن ولا يغني من جوع وإنما جعل المصنف رحمه الله الشبه معنويا في الشرف لا في الصورة لأنّ المعارف والأعمال أعراض! لا صورة لها وشرف أمور الجنة كلها مما لا شبهة فيه فمن قال لا نسلم تشابه مستلذات الجنة للأعمال في الشرف لم يصب، والمراد بالطبقة في قوله
علوّ الطبقة الرتبة والمنزلة مستعارة من طبقات البيت والقصر، وأصل الطبق الشيء على مقدار شيءآخر(2/73)
كالغطاء كما في المصباج. قوله: (مما يستقذر من النساء الخ) يستقذر بمعنى يكره ولما كان القذر قد يختص بالنجس ولذا قال الأزهريّ رحمه الله: القذر النجس الخارج من بدن الإنسان عطف عليه قوله ويذمّ عطفا تفسيريا ليتضح المراد منه، وقوله مما الخ متعلق بقوله مطهرة في النظم وقوله كالحيض الخ بيان لعمومه لكل ما يذمّ به والدر 11 والدنس بمعنى الوسخ، والطبع بالسكون الجبلة التي خلق الإنسان عليها والطبع بالفتح الدنس مصدر وشيء طبع كدنس وزنا ومعنى، والطبيعة الخلق ومزاج الإنسان المركب من الأخلاط ودنس الطبيعة بمعنى فساد الجبلة فسوء الخلق عطف تفسيريّ له أو هو أمر مغاير له، ووقع في نسخة بدل الطبيعة الطبع وهما بمعنى هنا لا بمعنى الدنس فالحيض مثال للقذر الحسيّ كالنفاس والمذي وغيره مما لا يكون لأهل الجنة، ودنس الطبيعة والطبع أن لا يجتنب ما تأبا. الطباع السليمة كالفجور والفحش وسوء الخلق كبذاءة اللسان ونحوه مما يكدر المعاشرة والازدواج، وقوله فإنّ التطهير الخ لف ونشر على وجه يندفع به ما يرد على ما قرّره من أنه يلزم فيه الجمع بين الحقيقة والمجاز ولذا قال الفاضل في شرح الكشاف معنى تطهيرهن عما ذكر أنها منزهة عن ذلك مبرأة منه بحيث لا يعرض لهن لا التطهير الشرقي بمعنى إزالة النجس الحسي ا. والحكمي كما في الغسل عن الحيض ليلزم الجمع بين الحقيقة والمجاز نعم في إطلاق التطهير وتشبيه الدنس والطبع بالأقذار والأحداث وتبع فيه المدقق في الكشف حيث قال إن شيوع الاستعمال في عرف العامّة والخاصة في القسمين يدلّ على أنه للقدر المشترك حقيقة فلا نسلم أنه حقيقة في الطهارة عن النجاسات وما يشبهها من المستقذرات الحسية وفيه بحث لأنه في عرف الشرع حقيقة في إزالة النجاسة الحسية أو الحكمية كال! جنابة، وفي اللغة وعرف الاستعمال يتبادر الذهن منه إلى الطهارة من النجاسة وهي تدلّ على أنه مجاز في النزاهة عن قذر الأخلاق ودنس الطباع فالظاهر أنّ المراد بالتطهير التنزيه والخلوّ وأنه يشمل القسمين بعموم المجاز أو بالجمع بين الحقيقة والمجاز على رأي المصنف بلا تكلف ولذا قال الرأغب: التطهير يقال في الأجسام والأخلاق والأفعال جميعا فيكون عامّا لها قرينة مقام المدح لا مطلقا منصرفا إلى الكامل وكمال التطهير إنما يحصل بالقسمين كما قيل: فإن المعهود من إرادة الكامل إرادة أعلى أفراده لا الجميع. قوله: (وهما لغتان فصيحتان) يعني أنّ صفة جمع المؤنث السالم والضمير العائد إليه مع الفعل يجوز أن يكون مفردا مؤنثا ومجموعا مؤنثاً فتقول النساء فعلت وفعلن ونساء فاتنات وفاتنة نظر الظاهر الجمع ولتأويله بالجماعة وقوله يقال النساء فعلت وفعلن قال في المفصل عن أبي عثمان المازنيّ العرب تقول الأجذاع انكسرن لأدنى العدد والجذوع انكسرت وما ذاك بضربة لازب وفي شرحه لابن يعيش إنهم يؤنثون الجمع الكثير بالتاء والقليل بالنون، وفيه أقوال أقربها ما ذهب إليه الجرجانيّ وهو أنّ التأنيث لمعنى الجماعة والكثرة اذهب في معنى الجمعية
في القلة والتاء حرف مختص بالئأث فجعلت علامة فيما كان أذهب في معنى الجمعية والنون فيما هو أقل حظاً في الجمعية لأنّ النون لا ترد للتأنيث خصوصا وإنما ترد على ذوات صفتها التأنيث (والذي عندي) في ذلك إنّ بناء القلة قد جرى عليه كثير من أحكام الواحد من ذللأ جواز تصغيره على لفظه كاجيمال ومنها جواز وصف المفرد به كبرمة أعشار ومنها عود الضميم عليه مفرداً كقوله تعالى: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهِ} [سورة النحل، الآية أ 66] فلما غلب على القلة أحكام المفرد عبروا عنها في التأنيث بالنون المختصة بالجفع لئا يتوهم فيها الأفراد وقال الرضمي: جمع ضمير جمع القلة وهو النون لأنك لو صرّحت بعدد القللأ أي من ثلاثة إلى عشرة كان مميزه جمعاً نحو ثلاثة أجذاع وجعل ض! مير جمع الكثرة ضمي! الواحدة المستكن في نحو انكسرت لأنك لو صرحت بعدد الكثرة لما فوق العشرة كان مميز " مفرداً نحو ثلاثة عشر جذعا وفيه كلام في حواشي الرضي. قوله: (وإذا العذارى بالدخالأ تقنعت الخ) هو من قصيدة لسلمان بن ربيعة الضبيّ الحماسيّ أوّلها:
حلت تماضر غرة فاحتلت فلحا وأهلك باللوافاطالت(2/74)
ومنها:
ومناخ نازلة كفيت+وفارس نهلت فتاتي من مطاه وعلت
واذا العذارى بالدخان تقنعت واستعجلت نصب القدور فملت
دارت بأرزاق العفاة مغالق تبدين من قمع العشار الجلت
وهي قصيدة مشهورة ذكر بعضها في الحماسة. قال المرزوقي: أنه عدد خصال الخي! المجموعة فيه بعد أن نبه على أنه لا يقوم مقامه أحد، والعذارى جمع عذراء وهي البك! وأصلها عذاريّ بتشديد الياء فالياء الأولى مبدلة من المدة قبل الهمزة كما تبدل في سربال فيقالا سرابيل ثم حذفت إحدى الياءين وقلبت الكسرة فتحة تخفيفاً فانقلبت الياء ألفا يقول: إذا أبكاد الساء صبرن على دخان الناو حتى صار كالقناع لوجهها لتأثير البرد فيها ولم تصبر على إدرال! القدور بعد تهيئتها ونصبها فسوّت في الملة بفتح الميم وهي الرماد قدر ما تعلل نفسها به ملا اللحم لتمكن الحاجة والضرّ منها ولا جداب الزمان واشتداد السنة على أهلها أحسنت وجوالبما إذا في البيت بعده وخص العذارى بالذكر لفرط حيائهن وشدّة انقباضهن ولتصوّنهن عن كثير مط يبتذل فيه غيرهن وجعل نصب القدور مفعول استعجلت على المجاز والسعة ويجوز أن يكودلا المراد استعجلت غيرها بنصب القدور أو في نصبها فحذف وتقنعت من القناع وهو ما يستر؟ الرأس، ومل! ف فعل ماض من الملة بالفتح ومعناه ظاهر، وقد قرّره في الكش! ، بما لا مزيد عل! يما والشاهد في قوله تقنعت بإفراد ضمير العذارى واستشهد له دون الجمع لأنه المحتاج للإثب! اللا
لجري ذلك على الظاهر كما أشار إليه والإفراد على تأويل الجماعة والمعنى جماعة أزواج مطهرة لأنّ أكثر خصوصا في جمع العاقلات القلة أو الكثرة فعلن ونحوه وجماعة لفظ مفرد وان كان معناه الجمع. قوله: (ومطهرة بتشديد الطاء الخ) معطوف على مطهرات في قوله وقرى مطهرات وفي الكشاف وقرأ زيد بن عليّ مطهرات وقرأ عبيد بن عمير مطهرة بمعنى متطهرة، وفي كلام بعض العرب ما أحوجني إلى بيت الله فأطهر به أطهرة أي فأتطهر به تطهرة فهو في هذه القراءة بتشديد الطاء المفتوحة وبعدها هاء مكسورة مشدّدة أيضا وأصله متطهرة فأدغمت الطاء فيه في الطاء بعد قلبها والفعل أطهر وأصله تطهر فلما أدغمت التاء في الطاء اجتلبت همزة الوصل والمصدر اطهرة بفتح الطاء وضم الهاء المشددتين وأصله تطهرة فأدغم واجتلبت له همزة الوصل وهو معروف في كتب الصرف. قوله: (والزوج يقال للذكر والأنثى الخ) ويكون أيضا لأحد المزدوجين ولهما معاً والمراد الأوّل والأفصح ما ذكر ويقال: زوجة في الناس في لغة قليلة، وقوله أبلغ من البلاغة لا من المبالغة وان صح وهو دفع لما يلوح في بادي النظر من أنّ تلك أبلغ منها لإشعارها بأنّ الطهارة ذاتية لا بفعل الغير لأنّ المطهر هو الله ولا يكون ذلك إلا بخلق الطهارة العظيمة وما يفعله العظيم عظيم كما قيل:
على قدر أهل العزم تأتي العزائم
قوله: (فإن قيل الخ) يعني أنه يكفي في صحة الإطلاق الاشتراك في بعض الصفات ولو
في الصورة فإنها من الصفات أيضا وقد قيل: عليه أنه مبنيّ على أنّ فقد فوائد الشيء ولوازمه تستلزم رفع حقيقته ولا وجه له والقول بأنّ تسمية نعم الجنة بأسماء نعم الدنيا على سبيل المجاز والاستعارة لم يقل به أحد من أهل اللغة والعربية وقوله لا تشاركها في تمام حقيقتها غير مسلم أيضا مع أنه مخالف لما قدمه من قوله إنّ التشابه بينهما حاصل في الصورة التي هي مناط الاسم فإنه صريح في أنّ إطلاق اسم الثمار على أمثالها من الفواكه المطعومة حقيقة وهذا مخالف له وقد وقع ما يشبه هذا لبعضهم حيث قال: اعلم أنّ أمور الآخرة ليست كما يزعم الجهال فأنكر عليه غاية النكير حتى جرّهم ذلك إلى التكفير (قلت) كون أمور الآخرة ليست كأمور الدنيا من جميع الوجوه مما لا شبهة فيه كما أشار إليه سيد البشر صلى الله عليه وسلم بقوله: " ما لا عين رأت ولا أذن سمعت) ثم إنه إذا أشبه شيء شيئاً بحسب الصورة والمنافع إلا أن بينه وبيته
تفاوتاً عظيما في اللذة والجرم والبقاء وغير ذلك فإذا رآه من لم يره قبله ولم يعرف له اسما فأطلق عليه اسم ما يشابهه قبل أن يعرف التفاوت حق معرفته هل يقال إنّ ذلك الإطلاق حقيقة نظرا للصورة وظاهر الحال أم لا نظراً للواقع، فالظاهر أنه حقيقة عند(2/75)
من لم يعرفه وعند من عرفه مجاز استعارة أو مشاكلة ألا ترى أنّ من رأ! بعض أنواع القم اصيا الرومية ممن لم يعرفها فسماها نبقا لأنها مثله صورة فتلك التسمية عنده وعند من سمعه من أهل جلدته حقيقة وعند غيره مجاز، ونظيره جبريل عليه السلام إذا أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم في صورة رجل فأطلق عليه الإنسان من رآه ولم يدر أنه ملك فهو حقيقة، وإذا قاله النبيّ صلى الله عليه وسلم فهو مجاز عند. والقول بأنة لا يعرفه أهل العربية لا وجه له وليس هذا ما قاله بعض المتصوّفة فإنه سمّ في دسم وبهذا عرفت كلام المصنف رحمه الله وأنّ أوّل كلامه لا يعارض آخره ومن لم يذق لم يعرف. قوله: (والخلد والخلود في الأصل الثبات الخ) في شرح الكشاف هذا مذهب أهل السنة وهو عند المعتزلة الدوام وهو أمر لغويّ لا دخل للمذهب فيه فمراده أنّ المعتزلة قالوا إنّ ذلك حقيقته التي لا يعدل عنها بغير داع ليبنوا عليه ما ورد في الآيات والأحاديث من خلود فسقة المؤمنين وغيرهم يقول حقيقته المكث الطويل دام أو لم يدم فتفسيره في كل مكان بما يليق به. فإن قلت قوله في الكشاف والخلد الثبات الدائم والبقاء اللازم الذي لا ينقطع قال الله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ} [سورة الأنبياء، الآية: 34] الخ معارض لقوله في الأساس خلد بالمكان وأخلد أطال به الإقامة وما بالدار الأصمّ خوالد وهي الأثافي وخلد في السجن وخلد في النعيم بقي فيه أبدأ خلوداً وخلداً وخلده وأخلده ومن المجاز فلان مخلد للذي أبطأ عنه الشيب والذي لا يسقط له سن لإخلاده على حالته الأولى وثباته عليها، ولذا قيل: إنه مما يقضي منه العجب وفي بعض شروح الكشاف أنّ ما في الأساس دليل لأهل السنة قلت: لا خلاف في استعماله لمطلق الثبات دام أو لم يدم وللدوام وللبقاء الطويل المنقطع وإنما الخلاف في أيها الحقيقة الذي يحمل عليه عند الإطلاق ويفسر به لأنه الأصل الراجح الدّي العدول عنه بغير داع في قوّة الخطأ عند أهل اللسان فما كأ الكشاف يدلّ على أنه حقيقة في طول مدة الإقامة مطلقا وهو وإن صدق على الدوام وغيره المتبادر منه أكمل فرديه وهو الدوام، وقد نقل عنه أنه من الأسماء الغالبة فيه وهو معنى شرفي فيحمل عليه عند الإطلاق ولذا استدلّ بالآية فلا يعارضه ما في
الأساس كما لا يخفى وهو في غير الإقامة مجاز وإن كان فيه معنى الثبات وقوله الأثافي بتخفيف الياء وتشديدها الأحجار التي توضمع عليها القدر وسميت خوالد لأنها تبقى في الديار بعد ارتحال أهلها، وقوله وللجزء الخ معطوف على مقول القول وهو خبر مقذم وقوله خلد بفتحتين بزنة حسن مبتدأ مؤخر وهو القلب الذي يبقى الإنسان حيا ما دام لأنه أشرف الأعضاء الرئيسة وقوله الذي يبقى الخ وان صدق على غيره لا يلزم إطلاقه عايه لأنّ القياس لا يجري في اللغة. قوله: (لنوا) قيل عليه لما كان استعماله في غيره مجازاً مشهوراً يكون التأبيد لدفعه ومثله كثير في كلام البلغاء فكيف يكون لغواً، ويدفع بأنّ المراد أنه زائد على إلتأسيس القائل به من غير زيادة فتدبر. قوله: (والأصل بنفيهما الخ) أي القاعدة المقرّرة تدل على هذا النفي لأن المجاز والاشتراك لا يرتكب إلا بدليل لاحتياجهما للقرينة فإذا وضعه لهما على العموم يحمل عليه واستعمال العامّ في بعض أفراده من حيث إنه فرد منه لم يقصد بخصوصه ليس بمجاز كما توهمه بعضهم ولا يختص أيضا بالمتواطئ فما قيل إنه من باب استعمال الكليّ المتواطئ في واحد من جزئياته كقولك لقيت اليوم إنسانا تريد به زيداً غير صحيح وقوله كإطلاق الجسم للإنسان وفي نسخة على الإنسان فإنه باعتبار أنه جسم حقيقة وباعتبار أنه إنسان مجاز محتاج للقرينة كما تقرّر في الأصول وقوله مثل قوله: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ} هو في أكثر النسخ وسقط من بعضها وهو مثال لما نحن فيه وردّ لما في الكشاف وغيره من الاستدلال به على إرادة الدوام لتعينه للنفي لأنه لم يرد على أنه بخصوصه معناه الحقيقيّ بل على أنه عامّ أريد به خاص بقرينة كما أشار إليه بقوله لكن المراد الخ. قوله: (عند الجمهور لما يشهد له من الآيات والسنن) الدالة على أبدية أهك الجنة فيها وهو ردّ على الجهمية الذاهبين إلى أنّ الجنة والنار يفنيان وأهلهما بعد تمتع أهل الجنة بقدر أعمالهم وعذاب أهل النار بقدر سيئاتهم وفي تفسير(2/76)
السمرقنديّ الذي دعاهـ م إلى هذا أنه تعالى وصف نفسه بأنه الأوّل والآخر والأوّلية تقدّمه على جميع المخلوقات والآخرية تأخره ولا يكون إلا بفناء ما سواه ولو بقيت الجنة وأهلها كان فيه تشبيه بين الخالق والخلق وهو محال، ولأنه تعالى لا يخلو من أن يعلم عدد أنفاس أهل الجنة أم لا، والثاني تجهل والأوّل لا يتحقق إلا بانتهائها وهو بعد فنائهم ولنا أنّ هذا النص وغير. دال على الخلود والتأبيد وعضده العقل لأنها دار سلام وقدس لا خوف ولا حزن لأهلها والمرء لا يهنأ بعيش يخاف زواله كما قيل:
والبؤس خير من نعيم زائل
والكفر جريمة خالصة فجزاؤه عقوبة خالصة لا يشوبها نقص، ومعنى الأوّل والآخر ليس
كما في الشاهد لأنه صفة كمال ومعناه لا ابتداء لوجوده ولا انتهاء له في ذاته من غير اسنناد لغير. فهو واجب الوجود مستحيل العدم وبقاء الخلق ليس كذلك فلا يشبهه شيء من خلقه وعلمه تعالى لا يتناهى فيتعلق بما لا يتناهى إلى آخر ما فصله. قوله: (فإن قيل الأبدان مركبة الخ الما! قرّر أن الخلود بمعنى الدوأم هنا كما قرّرناه لك أو رد شبهة ترد عليه ودفعها ونبه على أنها ساقطة لأنها في غاية الضعف في آخر كلامه فلا يرد عليه ما قيل: من أنه لا حاجة هنا للسؤال والجواب لابتنائه على أصل فلسفيّ غير مناسب للمقام وما ذكره إشارة إلى ما قرّره الأطباء من أن تكون البدن من رطوبة معها حرارة تؤثر فيها بالتنضيج والتغذية ودفع الفضلات فإذا دام التأثير كثر التحلل فتضعف الحرارة بنقصان مادّتها كضعف نور السراح بقلة الدهن ولا تزال كذلك حتى تفنى الرطوبة الغريزية فتنقطع الحرارة أيضاً، والمراد بالكيفيات المتضادّة الأمزجة والكيفية معروفة والضدان أمران وجوديان متعاقبان على موضوع واحد بينهما خلاف أو غاية الخلاف والاستحالة التغير وألانقلاب من شيء إلى آخر بتبدّل صورته كاستحالة الخمر خلاَ، والتضادّ مؤدّ للانفكاك وهو تفرّف الأجزاء وانفكاك بعضها من بعض بانحلال ما يربطها ويكون سبباً لبقائها فاذا لزم هذا كل بدن لزم عدم وجوده واستحالة بقائه وخلوده كما هو مذهب الجهمية وقوله في الجواب بعيدها بناء على أنه تعالى إذا أحياها بعد الموت أعادها بعينها لا بامثالها على ما عرف في الكلام وقوله يعتورها أي يعرض لها ويتعاقب عليها بأن يعرض لها التغير وتبذل الأحوال. قوله: (بأن يجعل أجزاءها الخ) هذا هو اعتدال المزأح الذي ذكره الأطباء، وقالوا إنه ماخوذ من التعادل الذي هو التكافؤ لا من العدل في القسمة أي التساوي في القوى لا في المقدار قالوا لأنه قد يوجد الشيء مغلوباً في مقداره غالبا ني قوّته فيمكن وجود المزاج الحاصل من المتساوي المقدار المختلف الكيفية وقيل: الذي امتغ وجوده هو المتكافئ في المقدار والكيفية معاً لأنه لا يكون حينئذ غالبا قاسراً للمركب على التماسك والتقرّر فيستدعي كل التفرّق والتلاشي والميل إلى مركزه، وقوله: متقاومة بالقاف والميم مفاعلة من القيام، وفي المصباح يقاومه أي يقوم مقامه وفي نسخة بدله ستفاوتة بالفاء والتاء المثناة الفوقية من قولهم تفاوت الشيآن إذا اختلفا وتفاوتا في الفضل تباينا فيه نفاوتا بضم الواو كما في المصباح أيضا والنسختان متقاربتان معنى لأنّ المراد أنّ كيفيتها متباينة وقواها متساوية والقوّة كما مرّ مبدؤ التغير والتأثر من آخر في آخر.
فائدة: التفاوت تفاعل بضم العين وهي الواو مصدر بمعنى المفاعلة وفي أدب الكاتب أنه
يجوز فيه كسر الواو وفتحها على خلاف القياس ولا نظير له، وقوله متعانقة من العناق وقوله: متلازمة عطف تفسير له وكذا ما بعد. وقد قيل عليه إن محصل كلامه أنه يلتزم وجود مركب من العناصر على اعتدال حقيقي ولا يقنع بذلك بل يدعي كونه محسوساً مشاهداً وفيه أنه إذا أعاد تلك الأجزاء بحيث تكون المقادير الحاصلة من الكيفيات الأربع في تلك الأجزاء متساوية بحسب أحكام محالها ومتفاوتة في أنفسها بحسب الشدّة والضعف حتى يحصل منها كيفية عديمة الميل إلى الطرفين المتضاذين وتكون على حاق الوسط بينهما فلا محالة في صيرورة هذا المزاج الحاصل من تفاعل تلك الكيفيات المتكافئات في المقدار والكيفية معا مزاجاً معتدلاً حقيقياً، ومثل هذا المزاج وان وقع الاختلاف بين العقلاء في إمكان وجوده لا خلاف لأحد في امتناع وجوده في زمن يسير(2/77)
لسرعة التحلل أو لسرعة تفرّق الأجزاء لأنه لا يكون جزء غالب قاسر للمركب على التماسك والتقرّر لتداعيه إلى التفرّق والميل إلى المركز كما في شرح المواقف وما ثبت بالبرهان امتناع بقاء موجوده كيف يمكن إعادته وخلوده فقوله كما يشاهد الخ إن كان مثالاً لعدم الانفكاك فمسلم لكنه لا يفيد وأن كان لوجود المعتدل الحقيقي فلا وهو جواب جدلي والحق عنده هو قوله هذا الخ. قوله: (واعلم الخ الم يذكر الملابس لأنها ليست من المعظم عنده لأنّ المراد به ما به بقاء الشخص! أو النوع أو أدخلها في المساكن تغليباً كما جعل البيت لباساً في عكسه، وفي المعظم إشارة إلى لذات أخر كالأصوات الحسنة لم يلتفت إليها، والملاك بكسر الميم وفتحها ما يقوم به الشيء وقوله كل نعمة الخ إشارة إلى أنّ قوله وهم فيها خالدون تكميل في غاية الحسن ونهاية الكمال لأنّ النعم وإن جلت والترفه وان عظم لا يسمّ ويكمل إذا تصوّر زواله وانقطاعه وقوله منغصة بالغين المعجمة والصاد المهملة أي مكدّرة وقوله غير صافية الخ تفسير له والشوب الخلط وقولهم ليسر، فيه شائبة مأخوذ منه ومعناه ليس فيه شيء مختلط به وان قل كما قيل: ليس فيه علقة ولا شبهة فهو فاعلة بمعنى مفعولة كعيشة راضية قال في المصباح: كذا استعملوه ولم أجده في اللغة وقال الجوهريّ: الشائبة واحدة الشوائب وهي الأدناس والأقذار وقوله: بشر المؤمنين بها أي بالجنات وهو ظاهر وأبهى أفعل تفضيل من البهاء وهو الحسن أي أحسن، والمراد بقوله مثل أنه ذكر ما يماثلها في الصورة بما عرفوه في الدنيا لأنه على صورته إن كان أجل وأعظم لذة، وليس المراد أنه تشبيه أو مجاز كما مرّ تقريره في قوله وأتوا به متشابها، وما قيل من أنّ البشارة على طريقة أهل الشرع والتمثيل على طريقة الحكماء فإنهم يقولون المراد بالجنات التي تجري تحتها الأنهار والأزواج ورزق
الثمرإت لذات عقلية شبيهة بالحسيات ولو قال المصنف رحمه الله أو مثل كان أوضح تعسف لا حاجة إليه لما قرّرناه لك. قوله: (لما كانت الآيات السابقة الخ) قيل إن هذه الآية جواب عن قول قوم من الكفرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم أما يستحيي ربك أن يخلق البعوض! والذباب ونحوهما مما يصغر في نفسه ولا يخفى ما فيه أو قالوا أما يستحيي ربك أن يذكر البعوض! والذباب وملوك الأرض يأنفون من ذلك فقال تعالى جوابا لهم: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي} الخ وقال الزجاج:) نها متصلة بقوله فلا تجعلوا لله أندإداً أي لا يستحي أن يضرب مثلا لهذه الأنداد، وقال الفراء ليس في البقرة ما يكون المثل جوابا له فعلى هذا هو ابتداء كلام لا ارتباط له بما قبله وهذا وإن جاز لكن الأنسب بكل آية أن ترتبط بما قبلها وتناسبه بوجه ما، ولذا ذهب المصنف رحمه الله تعالى إلى بيان الارتباط بأنه لما وقع قبله تمثيل أتى بما ينبه على أنه واقع في محرزه وأنه ليس بمستنكر فهي مرتبطة بما ذكر من أوّل السورة إلى هنا أو ببعضه فتدبر. والمراد بالتمثيل في كلامهم هنا التشبيه مطلقا سواء كان في مفرد أو مركب على وجه ألاستعارة أولاً مثلاً أو لا ولا يخص بشيء حتى يرد عليه أنه كيف يرتبط بما لم يذكر في بعض الوجوه، والحاصل أنه ذكر لمناسبة هذه الآية وارتباطها بما قبلها وجهين الأوّل ما أشار إليه بقوله الآيات السابقة متضمنة الخ يعني أنه سبق في النظم تمثيلات وأمور تدل على مطلق التشبيه كما بيناه في أثناء ذكر فرق الناس كما يعلم من تقريره سابقا، والثاني ما في ذكر الكتاب وأنه من عند الله من غير ريب وأن ارتاب فيه بعض العقول القاصرة بسبب ما وقع فيه من التمثيل ببعض أمور ظاهرها حقير ريبة لا وجه لها لتوهم أنه لا يليق بالكتب السماوية أو بعظمة الربوبية فبين الأوّل بما يتضمن توضيحه وتقويته وهذا هو الوجه الأول في الكشاف وفي كلام المصنف إلى قوله وأيضاً الخ وستراه كنار على علم. قوله: (عقب ذلك ببيان الخ) جواب لما، وذلك إشارة إلى الآيات السابقة وذكر لتأويله بالمذكور وعقبه بمعنى أورده بعده في عقبه متصلا به وقوله ببيان متعلق بعقب مضاف لحسنه وفي نسخة جنسه بجيم ونون، وما هو الحق معطوف على قوله حسنه في محل حرّ وقوله والشرط بالجرّ عطف على حسنه أو على ما الموصولة أو بالرفع معطوف على قوله الحق، والضمائر الثلاثة المتصلة راجعة للتمثيل على كلا التقديرين وهو عائد الموصول فلا تفكيك فالقول بأنه ركيك ركيك ومن قال:(2/78)
المعنى أنه أورد عقيبها ما يدل على حسن التمثيل وعلى الشيء الذي هو أي التمثيل حق لأجل ذلك الشيء وذلك الشيء شرط في قبول التمثيل
عند أهل اللسان على أن يكون قوله والشرط عطفاً على قوله وما هو الحق له وفيه ركاكة التفكيك والظاهر أنه راجع إلى ما وضمير له راجع إلى التمثيل وكذا ضمير فيه وقوله والشرط عطف على قوله الحق أي وبيان الشيء الذي ذلك الشيء حق للتمثيل أي ثابت ولازم له وشرط في قبوله عند العقلاء والبلغاء، وذلك أن يكون التمثيل على وفق الممثل له فقد أطال بغير طائل وأتى بما لا وجه له لما عرفتة وحسنه لأنه تعالى مع عظمته وبالغ حكمته لما لم يتركه وأكثر منه دلّ على حسنه أو لأنه لما قال: لا يستحيي دلّ ذلك على حسنه لأنّ القبيح من شأنه أنّ فاعله يستحي منه وهذا على نسخة وستأني الأخرى، وحقه أن يكون جارياً على نهج السداد كما يدل عليه قوله: {فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ} [سورة البقرة، الآية: 26] وشرطه أن يكون على وفق الممثل له فقط لأنّ المقصود به الكشف عن حقيقته ورفع حجاب الشبه عنه وابرازه عياناً وقوله المشاهد المحسوس قذم فيه المشاهد على المحسوس وان قيل إنّ الظاهر ائعكس لأنّ المشاهد يستعمل كثيراً بمعنى المتيقن فلذا أورد بعده المحسوس ليتعين المراد به. قوله: (وهو أن يكون على وفق الممثل له الخ) الظاهر أنّ الضمير راجع لما الموصولة وأنّ الشرط معطوف على الحق فيكون الحسن مسكوتاً عنه ولو رجع لكل ما ذكر لتاويله بالمذكور يكون شاملا للحسن وهو الأحسن وحسته بإبرازه في صورة المشاهد المحسوس والحق فيه أن يكون على نهج السداد، وكونه على وفق الممثل له على ما بينه المصنف هو شرطه، وهذا على النسخة المشهورة وهي أنّ حسنه بحاء وسين مهملتين بينهما نون من الحسن ضد القبح على ما في كثر النسخ وعليه أرباب الحواشي، وفي بعض النسخ جنسه بجيم وسين مهملة بينهما نون وهو الجنس اللغويّ العرفيّ لا المنطقيّ المقابل للنوع والجنس مستفاد من تنكير مثلا لأنّ النكرة موضوعة للجنس لا للفرد المنتشر على الأصح وبيان ما هو الحق له معناه بيان الذي التمثيل حق له من المعنى الممثل له وهو ههنا كفر الكافر وفسقه المدلول عليهما بقوله وأمّا الذين كفروا وقوله: {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ} [سورة البقرة، الآية: 26، وقال الرازي: فإن قلت مثل الله آلهتهم ببيت العنكبوت وبالذباب فأين تمثيلها بالبعوضة فما دونها. فلت لأنه كأنه قال إنّ الله لا يستحيي أن يضرب مثل ا-لهتكم بالبعوضة فما دونها فما ظنكم بالعنكبوت والذباب وفي تبيين الشرط وهو أن يكون على وؤق الممثل الخ من هذه الآية محل تأمّل انتهى) أقول الا يخفى ما فيه فإنه مع مخالفته للنسخ المعروفة المألوفة لا وجه لما ذكره في تفسير الحق والحق ما مرّ نعم ما أشار إليه من أن أحد ما ذكروه من النظم فيه خفاء حق إلا أنه يندفع بالنظر الصادق المحفوف بالعناية والممثل الأوّل في كلام المصنف رحمه الله اسم مفعول والثاني اسم فاعل والأوّل ما ضرب له المثل والثاني هو الضارب نفسه. قوله: (ليساعد فيه الوهم العقل ويصالحه الخ) إشارة إلى ما ذكره أهل المعقول من أنّ الوهم قوّة جسمانية للإنسان بها يدرك الجزئيات المنتزعة من
المحسوسات فهي تابعة للحس فإذا حكمت على المحسوسات كأن حكمها صحيحاً وإذا حكمت على غير المحسوسات بأحكامها كان كاذباً والنفس منجذبة إلى الوهم والحس لسبقهما إليها فهي مسخرة لهما حتى إنّ أحكام الوهميات ربما لم تتميز عندها من الأوّليات لولا دافع من العقل أو الثرع والمراد بمساعدة الوهم للعقل أنّ العقل وهو قوّة للنفس بها تدرك المعاني والكليات سواء كانت محسوسة الجزئيات أولاً إذا ذكر معنى أدركه وضرب له الوهم مثلا بجزئي يحكيه وشبهه به فقد ادّعى أنه من أفراده الموجودة في الخارج، وبذلك يتخيل أنه محسوس مشاهد وأنه لابس لحلة من حلله أخذها من خزانة الوهم فتبين بذلك وثبت تحققه في نفس الأمر وهذا معنى مساعدة الوهم له، ومعنى مصالحته له أنّ ما يدرك كل واحد منهما مغاير لما يدركه الآخر لإدراك الوهم لما ينتزع من الجزئيات المحسوسة والعقل للمعاني والكليات فبادّعاء أنّ أحدهما عين الآخر تصالحا على الاشتراك فيه عند النفس التي قضيت بذلك، والمراد بحب المحاكاة أنها تحب محاكاة المعقول بالمحسوس أي تكثر منه فكأنها تحبه وتألفه وهذا مما لا غبار عليه، فسقط به ما قيل من أنّ عدم(2/79)
مساعدة العقل إنما هو في بعض الأحكام العقلية مثل أنّ بعض الموجودات غير متحيز إذ الوهم لألفه بالمحسوسات حكم حكماً تخييليا بأنّ كل موجود متحيز، وأمّا في المعارف الممثل لها في القرآن كوهن اتخاذ أولياء من دون الله فليس بظاهر أنه مما ينازع فيه الوهم العقل وإن سلم التنازع فتمثيله باتخاذ العنكبوت بيته لا نسلم أنه ينفي اقى اع فيه فالأولى الاقتصار على أنّ المعنى الصرف له خفاء فإن مثل بالمحسوس صار ظاهرا وارتفعت عنه الشبهة. قوله: (كما مثل في الانجيل الخ) تمثيل لوقوعه في الكشب السماوية لا لدفع الإنكار كما قيل في قول الزمخشري والعجب منهم كيف أنكروا ذلك وما زال الناس يضربون الأمثال ولقد ضربت الأمثال في الإنجيل لما أورد عليه من أن المنكرين إذ ذاك يهود أو مشركون وهم لا يعتقدون حقيقة الإنجيل وان قيل: في دفعه ما قيل، وما ذكر إشارة إلى ما في الإنجيل من قوله لا تكونوا كمنخل يخرج منه الدقيق الطيب ويمسك النخالة كذلك أنتم تخرج الحكمة من أفواهكم وتبقون الغل في صدوركم، وقوله قلوبكم كالحصاة التي لا تنضجها النار ولا يلينها الماء ولا تنسفها الريح وقوله: لا تثيروا الزنابير فتلدغكم أي لا تخالطوا السفهاء فيشتموكم كذا أورده في التفسير الكبير، وقوله: غل الصدر أصل الغل الحقد على الناس، والمراد به هنا ما يخفيه المرء مما لا يجب الاطلاع عليه، والمراد أنهم يقولون ما لا يفعلون وهو تشبيه لطيف وجهه إخراج الدقيق وأبقاء النخالة فهو كحفظ ما لا ينبغي حفظه،
والنخالة بالضم معروفة وشبه القلوب القاسية بالحصاة وصرّح بوجه الشبه فيه وهو ظاهر وليس تشبيهها بالصخرة أبلغ كما يتوهم لأ) ، الحصاة أقرب إلى هيئة القلب وأشدّ اكتنازاً منها مع ما فيها من الإيماء للتحقير، والزنابير جمع زنبور وهو 5! روف. قوله: (وجاء في كلام العرب الخ) مثل أوّلاً بما في الكتب الإلفية وقدمه لتقدمها ذاتا وشرفا ثم أتبعه بم! " اشتهر في كلام العرب وشهرته بين العقلاء والبلغاء من غير نكير في المحقرات وغيرها مما يدل على أنه مطلقاً مقبول. وقوله أسمع من قراد أسمع أفعل تفضيل من السماع والقراد بالضم والتخفيف ما يلصق بالإبل ونحوها من الهوامّ وقال الميداني: أنها تسمع أخفاف الإبل من مسافة بعيدة فتتحرّك لاستقبالها وهذا بناء على زعمهم فيما اشتهر بينهم فلا وجه لما قيل إنّ ذلك بالإلهام لا بالسماع كما لا يخفى وقوله أطيش من فراشة أي أخف وفي مثل آخر أضعف من فراشة والمراد ضعف البنية والإدراك ذكرهما الميدانيّ فمن قال إنّ المصنف رحمه الله غير قول الزمخشري: أضعف من فراشة فأحسن لأنها مثل في الطيش لا في الضعف لم يصب مع ما فيه من الضعف وقوله: أعز الخ أعز أفعل تفضيل من العزة بمعنى الندور وقلة الوجود لا من العز ضد الذل، والمخ الدماغ والدهن في داخل العظام ويتجوّز به عن المقصود من الشيء، والبعوض سيأتي تفسيره. قوله: (لا ما قالت الجهلة من الكفار الخ) قيل: ليس في الظاهر شيء يعطف عليه هذا الكلام فالصحيح أن يقال: إنّ ضرب المثل جائز عليه تعالى لا ممتنع كما قالت الجهلة من الكفار من أنّ الله تعالى أعلى من أن يضرب المثل بما ذكر، وقيل: إنه لا يخلو عن تكلف والظاهر أن يقول رذاً لما قالت الجهلة ليكون علة لقوله عقب ذللث، وقيل: إنه معطوف على قوله أن يكون على وفق الممثل له، يعني ما هو الحق في التمثيل والشرط له أن يكون على وفق الممثل له لا ما يفهم مما قالته الجهلة إنه ينبغي أن يكون مناسباً لحال الممثل بزنة اسم الفاعل ولا يخفى أنه لا حاجة إليه مع قوله دون الممثل فلو قيل: إنه معطوف على مقدّر يفهم مما قبله أي والحق هذا لا ما قالت الخ كان أظهر فيفيد ما ذكر من غير تكلف وقوله الله سبحانه وتعالى أعلى وأجل مبتدأ وخبر مقول قوله قالت الخ. قوله: (وأيضاً لما أرشدهم الخ) هذا هو الوجه الثاني وهذه الشرطية معطوفة على الشرطية السابقة وهي قوله لما كانت الآيات والإرشاد الدلالة على الخبر وقوله وحي منزل هو من قوله: {مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} [سورة البقرة، الآية: 23] وقوله ذلك الكتاب الخ ووعيد من كفر بقوله فإن لم تفعلوا الخ ووعد من آمن بقوله وبشر الذين آمنوا الخ وظهور أمره الوقع في الخارج من نفي الريب والإشارة إليه. وقوله شرع الخ جواب لما والفرق بين الوجهين(2/80)
أنه في الأوّل لتقوية التمثيلات والاستعارات السابقة وبيانها والذلت عنها، وفي هذا
هو لتقوية المتحدّي به وتأييد ما يزيل الريب عن المنزل لأنه لما ذكر الذباب والعنكبوت ضحكت اليهود وقالوا هذا لا يشبه كلام الله، وعلى الأوّل هو مربوط بما ذكر من أوّل السورة الى هنا أو بقوله إن الذين كفروا الخ. وهو متعلق على هذا بقوله وان كنتم في ريب الخ كأنه لما نفى توهم الريب فيه عةجه بذكر بعض ما أوقعهم في غيهم وغيابة ريبهم وقيل: إنه ذكر وجهين الأوّل منهما مبني على أنها مربوطة بقصة المنافقين وتمثيلهم تارة بمستوقد نار وتارة بأصحاب صيب جيء به لبيان حسن مطلق التمثيل الداخل فيه تمثيل المنافقين بما ذكر دخولاً أوليا، والثاني على أنها مرتبطة بآية التحدي بالقرآن ذكرت لذيّ الطعن فيه بعد ثبوت إعجازه وتال الطيبيّ على هذا نظم الآية بما قبلها نظم قوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَاءٌ} [سورة البقرة، الآية: 6] الخ في كونها جملة مستطردة كما قاله الإمام. وقيل: إنه إشارة إلى مناسبة وضمع هذه الآية هنا ولم توضع في سورة العنكبوت أو الحج عقب المثلى المستنكر لأنه جواب عن شبهة أو ردت على إقامة الحجة على حقية القرآن بأنه معجز فكان ذكرها هنا أنسب، ووجهه أنه من الريب الذي هو في نهاية الاضمحلال وقد تقدمه ما هو من باب المثل، وفيه استطراد والاستطراد من أدق وجوه الارتباط وسيأتي بيانه (وههنا بحث مهم) وهو أنهم ذكروا أنّ المقصود من هذه الآية الرذ على من ارتاب بسبب ضرب الله العظيم الأمثال المحقرة بأنه لا ضير في ذلك فإنّ اللازم فيها إنما هو مناسبة الممثل به للممثل لا لمن أورده وحسنه ولطفه بكشف المعقولات وجلوتها على منصة المحسوسات مكسوّة بحلل للطائف ودقائق البلاغة حتى لاهدها الفطرة الوقادة والبصيرة النقادة، ولا غبار على هذا إنما الكلام في أنّ النظم كيف يدلّ على ما ذكره المصنف هنا فإنه مما خفي على كثير من الناس حتى أنكروه ولم نر فيه ما يشفي الغليل وتوضيحه أنهم لما قا اوا أما يستحي الرب الخ أجيبوا بنفي الاستحياء من ضرب كل مثل حقير وقليل ويفهم منه أنه لا قبح فيه، وأمّا حسنه وعلوّ مرتبته فيفهم من نفس المثل لأن كل أحد من أهل اللسان يعرف أنّ ما شبه مورده بمضر به سار في البلدان وسائر على كل لسان للطف لفظه ومعناه وهذا لشهرته غنيّ عن التصريح به ألا ترى إلى قوله في كثرة الاغتراب:
لا أستقرّبأرض قدمررت بها كأنني بكرمعنى سارفي مثل
قوله: (والحياء انقباض النفس الخ) إشارة إلى أنّ للنفس عوارض! نفسانية وهي كيفيات نعرض للنفس تبعاً لانفعالات تحدث لما يرتسم في بعض قواها من المنافع والمضارّ فيوجب لغيراً في البدن ويلزمها حركة الروج والدم الصافي النير إمّا إلى خارج دفعة كما في حال الغضب الشديد أو قليلا قليلا كما في حال الفرح واللذة المعتدلين أو إلى داخل دفعة كما في الفزع الشديد أو قليلاَ قليلاً كما في الغم الضعيف ولذا قال الحكماء: الغم جهاد فكري أو إلى داخل وخارج كما في الخجل فانقباض النفس انكفافها العارض من إدراك ما لا تريد وحينئذ
يعرض! للقلب ما يهيج حرارته الغريزية والنفس تكون بمعنى الروح الحيوايئ أو الدم الصافي في القلب وحركته لما مرّ، فلذا يحمرّ منه الوجه ويتجوّز فيه فيطلق على أثره الخجل حتى تظرّف القائل:
أبدى صنيعك تقصير الزمان ففي خد الربيع طلوع الورد من خجل
وفي الكشاف والحياء تغير وانكسار يعتري الإنسان من تخوّف ما يعاب به ويذم وتفصيل تحقيقه كما في ذريعة الشريعة للإمام الراغب أن الحياء انقباض النفس عن القبائح وهو من خصائص! الإنسان يرتاع به عما تنزع إليه الشهوة من القبائح وهو مركب من جبن وعفة ولذا لا يكون المستحيي فاسقاً ولا الفاسق مستحيياً والمستحيي شجاعا ولذا يجمع الشعراء في المدح بين الشجاعة والحياء كقوله:
يجري الحياء الغفق في قسماتهم في حين يجري من أكفهم الدم
ومتى قصد به الانقباض فهو مدح للصبيان دون المشايخ ومتى قصد به ترك القبيح فمدح
لكل أحد(2/81)
وبالاعتبار الأوّل قيل: الحياء بالأفاضل قبيح وبالاعتبار الثاني قيل: إنّ الله يستحيي من ذي الشيبة في الإسلام أن يعذبه، وأما الخجل فحيرة النفس لفرط الحياء ويحمد في النساء والصبيان ويذمّ باتفاق من الرجال والوقاحة مذمومة بكل لسان إذ هي انسلاخ من الإنسانية وحقيقتها لجاج النفس في تعاطي القبيج واشتقاقها من حافر وقاح أي عحلب ولذا قال الشاعر وأ جا د:
يا ليت لي من جلدوجهك رقعة فأقدمنها حافراللأشهب
انتهى والحاصل أنّ هنا أموراً ثلاثة حياء وخجلا ووقاحة، ومغايرة الوقاحة لهما ظاهرة
لأنها عدم الانتهاء وكف النفس عن القبائح وأما الوقاحة في قوله:
وطالما قالوا ولم يكذبوا سلاح ذي الحاجة وجه وقاج
فمجاز عن الإلحاح في تحصيل المراء وليس مذموم مطلقا وإنما الكلام في الفرق بين الحياء والخجل فعلى ما ذكر. الراغب رحمه الله هما متغايران وان تلازما لأنّ الخجل حيرة واقعة بعد الحياء وأيضا الحياء يذمّ ويحمد من الرجال بخلاف الخجل والثلاثة ملكات وكيفيات نفسانية وإنما كان الحياء بمعنى انقباض! النفس محموداً من الصبيان لأنه يدل على
العقل الغريزي وأمّا في الرجال فيذمّ لدلالته على قوّة الشهوة والهوى المنازع للعقل فتدبر. قوله: (والخجل الذي هو انحصار النفس عن الفعل مطلقاً) هذا مما زاده على الكشاف لأنّ الحياء لما كان وسطاً توقف معرفته على معرفة طرفيه فلذا ذكرهما والمراد بانحصارها نحيرها ودهشتها لفرط الحياء كما مرّ عن الراغب وقوله مطلقاً فسر في الحواشي بأنه سواء كان الفعل قبيحاً أولاً وسواء كان ذلك الانحصار لأجل مخافة الذم أولاً ومع ذلك جعل الحياء وسطاً ولا يخفى ما فيه فإنه حينئذ يكون أعتم من الحياء لأنه مقيد بما ذكر، ويخالف ما قاله الراغب: ولا يخفى أنه لا يكون إلا فيما يذمّ والمرأد ما يذمّ عادة سواء ذمّ شرمحا أم لا كانفلات الريح والظاهر أنّ الخجل أخص من الحياء فإنه لا يكون إلا بعد صدور أمرّ زائد لا يريده القائم به بخلاف الحياء فإنه قد يكون مما لم يقع فيترك لأجله وقوله في القاموس: وغيره من كتب اللغة خجل استحيا بناء على تسامحهم في أمثاله ثم إنه في الكشف قال إنه لم يرد بما ذكر تعريف الحياء فقد يكون لاحتشام من يستحيا منه بل هو الأكثر لكنه لما كان أمرا وجدانيا غنياً عن التعريف من حيث الماهية محتاجا إلى التبينة لدفع ما عسى يعرض! له من الالتباس نبه على أنه الأمر الذي يوجد في تلك الحالة، وهكذا الحكم في تعريف سائر الوجدانيات من العلم والإدراك وغيرهما فليحفظ هذأ الأصل فقد زل لإهماله كثير من حذاق العلماء، وتبعه الشارح المحقق وفيه أنّ قوله إنه وجدانيّ غنيّ عن التعريف لبداهته والتعريف يكون للنظريات مسلم في الأفراد الجزئية بالنسبة لمن قامت به، وأمّا الماهية الكلية فليست كذلك وهي المقصودة بالتعريف فما ادّعى من غفلة الحذاق عنه مما أصابته عين الكمال ولا حاجة إلى أن يقال إنه عرّف ليبني عليه كيفية جواز إطلاقه عليه تعالى وأمّا الاعتراض عليه بأنّ قوله قد يكون لاحتشام من يستحيا منه لا يعلم إلا بعد معرفة الحياء فهو دوريّ وأنّ ما ذكر خشية لإحياء لأنها خوف يشعر بتعظيم المخشي ومعرفته به فساقط لأنه بديهيّ عنده، ولأنّ الخشية لا تغاير الحياء من كل الوجوه كما يعلم من كلام الراغب. قوله: (واشتقاقه من الحيوة الخ (في الكشاف واشتقاقه من الحياة يقال حي الرجل كما يقال نسي وحشي وشظي الفرس إذا اعتلت هذه الأعضاء جعل الحيي لما يعتريه من الانكسار والتغير منتكس القوّة منتقص الحياة كما قالوا هلك فلان حياء من كذا ومات حياء، ورأيت الهلاك في وجهه من شدة الحياء وذاب حياء وجمد في مكانه خجلاَ وهذا ما ذكره المصنف رحمه الله تعالى بعينه والنسا بفتح النون والقصر عرق يخرج من الورك وششبطن الفخذين ثم يمرّ بالعرقوب، ومنه المرضى المعروف بعرق النسا ومعنى حشي اعتل حشاه بأن أصابه الربو وهو مرض معروف يعلو منه النفس والحشا ما انضمت عليه الضلوع وهو قريب من الجوف معنى والأفعال الثلاثة من حشي ونسي وحيي بزنة علم والحيوة في(2/82)
قول المصنف واشتقاقه من الحيوة ريص م في جميع النسخ بوإو بعد الياء كما ترسم الصلوة ونحوها كذلك فتقرأ ألفاً وقيل: إنها ولفظا
وخطا بوزن تمرة، ولم يعل لئلا يلتبس بحية واحدة الحيات وهو خطأ منه غرّة فيه ما وقع في القاموس فإنّ هذه اللفظة لم تثبت إلا شذوذاً فلا وجه لجعلها أصلا وان لم نقل باختصاصها بالعلم وفي تصريف أبن عصفور المسمى بالممتنع كون العين ياء واللام واواً نحو حيوت لا يحفظ في كلامهم في اسم ولا فعل فأمّا الحيوان وحيوة فشاذان والأصل فيهما حييان وحية فأبدلوا من إحدى الياءين واواً وزعم المازنيّ أنّ هذا مما جاء عينه ياء ولامه واوا وهو فاسد إلى آخر ما فصله. قوله: (فإنه انكسار يعتري الخ) هذا مما لم يتعرّض! أحد من شرّاح الكتابين لإماطة لثام الخفاء عنه وها أنا أفيدك ما به شفاء الصدور فأقول تحقيقه أنّ أبنية الأفعال وصيغها لها معان كما عقدوا لها بابا في مفصلات العربية وأصلها أن تكون لوجود مأخذ الاشتقاق والمعنى المصدري في الفاعل وقد تجيء لغير ذلك كما في رأسه وجلده إذا أصاب رأسه وجلده وللإزالة كما في قشر. إذا أزال قشره وللأخذ منه نحو ثلثه إذا أخذ ثلثه وقد تكون لإصابة آفة بأصله سواء كان معنى أو عينا وان خصه في التسهيل بالثاني كنسي إذا اعتل نساء وهذا معنى مستقل ويجوز إرجاعه للإزالة أو للإصابة أو الأخذ منه لأنه ينقص بنقص قوّته، ويؤيد الأوّل تمثيله له في الكشاف بقوله هلك فلان حياء كما يؤيد الأخير قوله منتقض الحياة إذا عرفت هذا فقوله انكسار الخ يعني به أنّ الحياة يتبعها قوى نفسانية كالإحساس ونحوه فإذا استحيا إنسان كانت قواه المحركة له لانقباضها منكسرة عما يريده، ولهذا أشار العلامة الكرمانيّ في شرح البخاريّ فقال الحياء الخوف من الحياة خوف المذمّة وقال الواحديّ: قال أهل اللغة الاستحياء الحياة لأن استحياء الرجل من قوّة الحياة فيه لشدة علمه بمواقع الذئم والعيب والحياة من قوّة الحس وهو عكس ما قاله الزمخشري: ولقد أجاد المصنف رحمه الله في صنيعه حيث فسر الحياء أوّلاً ثم أتى في بيان اشتقاقه ما فسره به الزمخشريّ تتميماً للفائدة وايماء إلى تحادهما والانكسار إمّا مطاوع انكسر بالمعنى المشهور أو بمعنى الرجوع والانهزام فإنه شاع بهذا المعنى كما قال بعض المتأخرين: لقدكسرالشتاءقدوم ورد فإنّ الورد شوكته قوية
وهذا من المتن الإلهية والفوائد التي لا يعثر بها نظرك في غير هذا الكتاب. قوله:) وإذا وصف به الباري الخ) في شرح التأويلات للسمرقندفي اختلف أهل الكلام في إضافة الحياء إلى الله تعالى فقال قوم بجوازه لوروده في الآية والحديث لأنه قد يحمد منه ما لا يحمد من الشاهد كالكبر والحياء محمود فهو أحق بالإطلاق وقيل لا يجوز لأنه انقبا ضالقلب وانزواؤه لما يسوءه أو لخوف العجز وهو محال في حقه تعالى فلا يجوز إلا بتأويل كما سيأتي، ولما كان في الآية منفيا عنه وهو لا يقتضي اتصافه به ظاهراً أتى بالحديث الصريح فيه فقال كما جاء في الحديث الخ والحديث الأوّل
اخرجه البيهقي في الزهد عن انس رضي الله عنه وابن أبي الدنيا عن سلمان رضمي الله عنه والثاني أخرجه أبو داود والترمذيّ وحسنه والحاكم عن سلمان وصححه بدون قوله: " حتى يضع فيهما خيراً) والحاكم عن أنس بهذه الجملة والشيبة بفتح فسكون مصدر شاب يشيب شيبا وشيبة، وبطلق على اللحية الشائبة أيضاً وكلاهما محتمل في الحديث والمسلم بالجرّ بدل من ذي بمعنى صاحب أو صفته وأن يعذبه بأن المصدرية بدل اشتمال مما قبله أي يستحيي من تعذيبه، وقوله إنّ الله الخ حديث آخر، ولم يعطفه لقصده التعديد وحيي بثلاث يا آت فعيل من الحياء بمعنى مستحي وقوله يستحيي الخ جملة مفسرة لا محل لها من الإعراب وإذا رفع الخ يدذ على استحباب رفع اليدين في الدعاء كما يستحب مسح الوجه بهما أيضاً كما أثبته ابن حجر في فتاواه الحديثين ورفعهما نحو السماء لأنها قبلة الدعاء تعبدوا وان كان الله تعالى منزهاً عن المكان والجهة وقيل: توجه للقبلة كما في شرح العقائد العضدية وفيه كلام ثمة، وقوله صفرأ بكسر الصاد المهملة وسكون الفاء ثم راء مهملة بمعنى خال لا شيء فيه مأخوذ من الصفير، وهو الصوت الخالي من الحروف يقال: صفر(2/83)
يصفر كتعب إذا خلا فهو صفر وأصفر لالألف لغة فيه ولم يقل صفرين لأن اليدين كشيء واحد، ولأنه يستوي فيه الواحد المذكر وعيره لأنه مصدر في الأصل وفي الكشاف هو جار على سبيل التمثيل مثل تركه تخييب العبد، انه لا يرد يديه صفراً من عطائه لكرمه بترك من يترك رذ المحتاج إليه حياء منه وفي الانتصاف لمائل أن يقول ما الذي دعاه إلى تأويل الآية مع أنّ الحياء الذي يخشى نسبة ظاهره إليه تعالى مسلوب في الآية كقولنا الله تعالى ليس بجسم ولا جوهر ولا عرض في معرض! التنزيه والتقديس وأمّا تأويل الحديث فمستقيم لأنّ الحياء فيه مثبت له تعالى، ويجاب بأن السلب في مثله إنما يطرأعلى ما يمكن نسبته إلى المسلوب عنه إذ مفهوم سلب الاستحياء عنه في شيء خاص ثبوته له في غيره فالحاجة داعية إلى تأويله وإنما يتوجه السؤال لو كان مسلوبا مطلقاً وقال العلامة فإن قيل يرد عليه النقض بقوله تعالى: {لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ} [سورة البقرة، الآية: 255] و {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ} [سورة المؤمنون، الآية: 91] {وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ} [سورة الأنعام، الآية: 14] وأمثالها فإنها إن كانت إيجابات ورد السؤال عليها وان كانت سلوباً فلم لا لكون قوله لا يستحيي سلبياً فنقول نفي الحياء وصف مذمّة كما يقال للخائض فيما لا ينبغي لا
حياء له ولا يكون مذمة إلا إذا كان عما من شأنه الحياء فهو كمال له وسلبه عنه نقص وفي العرف لا يسلب الحياء إلا عمن هو من شأنه فلذا احتاج للتأويل بخلاف ما في الآيات الأخر، وأيضاً هو مقيد يرجع نفيه إلى القيد فأفاد ثبوت أصل الفعل أو إمكانه لا أقل فاحتاج إلى التأويل كما إذا قيل لم يلذ ذكرا ولم يأخذه نوم في هذه الليلة، وليس بعرض قارّ الذات. قوله: (فالمراد به الترك اللازم للانقباض الخ) إشارة إلى ما مرّ من أنّ الانقباض النفسانيّ والتغير مما لا يحوم حول حظائر قدسه فلا بدّ من تأويله والتجؤز فيه بما يصح نسبته إييه تعالى كما في غيره من أمثاله، فأوّل بما ذكر وقوله في الانتصاف أن كلام الزمخشريّ يدل على أنّ التأويل إنما يحتاج إليه في الحديث دون الآية وهم يعرفه من عنده إنصاف لأنّ قوله وكذلك معنى قوله إنّ الله لا يستحي الخ ينادي على خلافه ولكن لكل جواد كبوة والعجب من بعض الناس إذ قال إنه أوجه وقوله اللازم يقتضي أنه مجاز مرسل لاستعماله في لازم معناه كالرحمة والغضب وقوله سابقا ترك من يستحيي ولاحقاً لما فيه من التمثيل يقتضي أنه استعارة تبعية سواء كانت تمثيلية أولاً كما مرّ تحقيقه ويدفع إن لم يقل بجواز الأمرين عند. وأنّ هذا إشارة له بأنه ليس مجازاً عن مطلق الترك حتى يكون كذلك بل عن ترك ناشئ من الاستحياء فيشبه تركه تعالى لها لحقارتها بترك العظيم سفساف الأمور استنكافا عنها كترك المشي في السوق وأطلق اسم المشبه به على المشبه، وذكره اللازم لأنّ كل مجاز مرسلا كان أو استعارة ينتقل فيه من الملزوم إلى اللازم غايته أن يكون اللزوم في الاستعارة بطريق التشبيه مبالغة لادعائه أنه منه فلذا اختاروه هنا وما قيل من أنّ هذا تكلف لأن الحياء ليس معناه حقيقة الترك حتى يشبه به تركه تعالى تخييب العبد الخ خبط غنيّ عن البيان. قوله: (ونظيره قول من يصف الخ) هو من قصيدة للمتنبي مدح بها ابن العميد أوّلها:
نسيت وما أنسى عتاباً على الصد ولا خفراً زادت به حمرة الخد
ومنها:
كفانا الربيع العيس من بركاته فجاءته لم تسمع حداء سوى الرعد
إذا ما استحين الماء يعرض نفسه كرعن بسبت في إناء من الورد
وما ذكره المصنف رحمه الله تبعاً للزمخشري بناء على ما رواه ابن جني في شرحه من أنه استحيز بمهملتين من الاستحياء، وبسبت في هذه الرواية بسين مهملة مكسورة وباء موحدة ساكنة ومثناة فوقية وهو الجلد النقيّ المدبوغ ومنه النعال السبتية، واستعير هنا المشافر الإبل لنقائها ولينها قال يقول إذا مرّت هذه الإبل بالمياه والغدران التي غادرتها السيول لكثرتها صارت كأنها تعرض نفسها على الإبل فتشرب منها وكأنها مستحيية منها لكثرة ما تعرض نفسها عليها
وإن كان لا عرض هناك ولا استحياء في الحقيقة ولكنه جرى مثاً وكر عن بمعنى شربن وأصله ااحيوان يدخل أكارعه حين يخوض المياه ليشرب منها(2/84)
بفمه ثم عمّ لكل شرب وجعل الموضع
المتضمن للماء لكثرة الزهر فيه كأنه إناء من ورد والمعنى أنه يصف كثرة مياه الأمطار في طريقه 8 انه أينما ذهب رأى الماء يجري فكأنه يسعى لإبله ليعرض نفسه عليها فالإبل تستحيي من ردّه هـ! نه سائل لا يردّ مثله نهرا لكثرة عرضه نفسه عليها فتكرع فيه بمشافر كالسبت والأرض المنبتة ا! ازهار كاناء من الورد ممتلئ ماء وقال أبو الفضل العروضيّ في شرحه للمتنبي: ما أصنع، / جل ادّعى أنه قرأ على المتنبي، ثم يروي هذه الرواية ويفسر هدّا التفسير وقد صححب روايتنا من جماعة منهم الخوارزميّ والشعوانيّ وغير ما إذا ما استجبن بجيم وباء موحدة استفعال من الأجابة وكر عن بشيب بثين مكسورة ومثناة تحتية ساكنة وباء موحدة والاستجابة بالغرض أشبه االمعنى أنّ هذا يعرض نفسه وذاك يجيب والكرع بشيب أن تثرب الإبل الماء فتصوّت مشافرها اضيب شيب اسم صوت في شربها كما في قول ذي الرمة:
تداعين باسم الشيب في متثلم
وقال الواحدي: ليس ما قاله ابن جني ببعيد عن الصواب والكرع في الماء بالسبت أحسن
! " ق مشفر الإبل يشبه في صحتة ولينه بالجلود المدبوغة بالقرظ كما في قول طرفة:
وخد كقرطاس الشآمي ومشفر كسبت اليماني قذه لم يجرّد
يقول تكرع فيه بمشافرها التي هي كالسبت وهو صحيح وشيب في حكاية صوت الإبل
ءصد الشرب صحيح لكن لا يقال كرعت الإبل في الماء بثيب إذا شربته فالسبت هنا أولى انتهى اللت (إذا جاء نهر الله بطل نهر معقل فإنّ ابن جني وناهيك به يروي ديوان المتنبي عنه وقد 515 مت الرواية هنا الدراية فالحق ما قاله كما أشار إليه الإمام الواحدي ولذا رجحه العلامة ونظر / " من غير نظر إلى الرواية الأخرى التي عليها لا يكون نظيراً بوجه والتنظير باستعماله الاستحياء --. ت لا يتصوّر معناه الحقيقي لإسناده إلى الإبل وإليه أشار المصنف رحمه الله بقوله يصف إبلا " - يرد عليه انّ اللازم هنا عكس ما في القرآن فإن الاستحياء ثمة من الفعل ولازمه الترك وهنا 10، الترك ولازمه الفعل أي شرب الماء كما قيل: مع أنه يصح أن يراد باستحين تركن الانصرافء، واستحين فيه كقراءة من قرأيستحي بحاء مكسورة وياء ساكنة كما روي عن ابن كثير وهي اء، تميم وبكر كما فصمل وجهه في اللغة والتصريف فنقلت فيه حركة الياء الأولى إلى الحاء 11 صاكة فالتقى يا آن ساكنان فحذفت أولاهما واسم الفاعل منه مستح والجمع مستحون ومستحين اوص في البيت أمور أخر لطائف أدبية تركناها خوف الملل. قوله: (وإنما عدل به عن الترك الخ (اي عدل عن الترك الدالّ على المراد بالصراحة والمطابقة إلى ما ذكر من الاستحياء اا. حتاج للتوجيه لأنه اسنعارة وتمثيل وهي تدل على إثبات الشي! ببينة وتقرير مع ما فيه من
المبالغة والبلاغة على ما تقرّر في المعاني، وهذا صريح في أنه ليس بمجاز مرسل كما مرّ وقيل: إنّ في كلامه احتمالات منها أنّ قوله لما فيه من التمثيل إشارة إلى أنه استعارة إمّا تمثيلية مركبة صرّج فيها بما هو العمدة من الاستحياء وجعل بواقي الألفاظ منوية كما سبق أو استعارة تبعية، والتمثيل بمعنى مطلق التشبيه ومنها أن قوله فالمراد به الترك اللازم للانقباض الخ إيماء إلى جواز كونه مجازاً مرسلاً من باب إطلاق اسم الملزوم على اللازم وفيه نظر، ثم إنه قيل إن في هذه العبارة خللا وحقها عدل إليه عن الترك قال الليث: العدل أن تعدل الشيء عن وجهه تقول عدلت فلانا عن طريقه وعدلت الدابة إلى موضع كذا، وتعديته بالباء إذا قصد به معنى التسوية قال الجوهري عدلت فلاناً بفلان إذا سوّيت بينهما فالجمع بين الباء وعن جمع بين الضب والنون ولا يخفى أنّ هذا إنما يرد عليه إذا جعلا للتعدية ولا داعي له غير محبة الاعتراض! والتشبث بأذيال النقض فالباء إمّا ظرفية أي إنما عدل في النظم أو التعبير أو سببية أكب إنما عدل عن الأصل بسبب ما ذكر، وهو أظهر من أن يخفى على مثله. نعم ما قيل هنا من أن الباء للتعدية والضمير راجع إلى التعبير المدلول عليه بالقرينة أي جعل التعبير عادلاً ومجاوزاً عنا الترك بمعنى أنه لم يقع به بل بالاستحياء ولا يجوز أن يرجع إلى الاستحياء لفساد المعنى يرد عليه ما ذكر مع ما فيه من التكلف(2/85)
المؤدّي إلى التعقيد بغير فائدة، وقوله من التمثيل عرفت معناه وما قيل في شرحه أنه بمعنى الاستعارة التمثيلية وبه يظهر أنّ المستعار في الاستعارة التمثيلية قد يكون لفظا مفردا دالاً على أمور متعددة كما مرّ مرارا فلا تغفل تبرّع بما لا يملك لمن لا يقبل فتذكر. قوله: (وتحتمل الآية خاصة أن يكون مجيئه على المقابلة) المراد بالمقابلة هنا معناها اللغوقي لا ما ذكر في البديع أي مجيئه في هذه الآية لا الحديث ونحوه للمشاكلة لما وقع في كلامهم من قولهم أما يستحيي رب محمد أن يضرب مثلا بالذباب والعنكبوت وفي الكشاف جاءت في سبيل المقابلة واطباق الجواب على السؤال وهو فن من كلامهم بديع وطراز عجيب منه قول أبي تمام:
من مبلغ أفناءيعرب كلها أني بنيت الجارقبل المنزل
وشهد رجل عند شريح فقال: إنك لسبط الشهادة فقال الرجل: إنها لم تجعد عني فقال:
لله بلادك وقبل شهادته فالذي سوّغ بناء الجار وتجعيد الشهادة مراعاة المشاكلة ولولا بناء الدار لم يصح بناء الجار ولولا سبوطة الشهادة لامتغ تجعيدها وهو كما قاله الشارح المحقق، يعني أنّ المشاكلة في غير الاستعارة وظاهر أنه ليس بحقيقة لكن وجه التجوّز فيه غير ظاهر، ولذا قال: فن بديع وطراز عجيب، وظاهر كلامهم أنّ مجرّد وقوع مدلول هذا اللفظ في مقابلة ذاك
جهة التجوّز والجواز لإخفاء في أنه يمكن في بعض صور المشاكلة اعتبار الاستعارة كان يشبه انقب! اض الشهادة عن الحفظ وتأتيها عن القوّة الذاكرة بتجعيد الشعر لكن الكلام في مطلق المشاكلة سيما في مثل قوله:
قلت اطبخوا إلى جبة وقميصا
فالمراد بالصحبة التي جعلت علاقة هنا الصحبة التحقيقية أو التقديرية والمتصاحبان مدلولاً اللفظين في الخيال لا اللفظان نفسهما في الذكر كما قيل لأنّ الصحبة الذكرية بعد الاستعمال والعلاقة مصححة للاستعمال فلا بد من تقدمها مع أنّ المتأخر الصحبة التحقيقية لا التقديرية والصحبة كما تكون تحقيقا تكون تقديراً كما أنها تكون بيم! الشيء ومشاكله وبينه وبين ضده كما في قوله من طالت لحيته تكوسج عقله، ومنها أيضا ماله علاقة أخرى على كلام فيه دكرناه في رسالة مستقلة وما قيل من أنّ المشاكلة واسطة بين الحقيقة والمجاز وأنّ العلاقة فيها الشبه الصوري كما تطلق الفرس على صورتها مما لا يلتفت إليه لظهور فساده. قوله: (وضرب المثل اعتماله الخ) اعتماله بمعني عمله واختراعه من عند نفسه لا بمعنى التكلم به مطلقاً كما بقوله من يورد مثلاً في كلامه، والاعتمال باللام كما وقع في كثير من النسخ مبالغة في العمل، ن صيغة الافتعال ترد كثيراً لذلك، ولما كان المخترع للمثل أتى بأمر بديع شبه بمن يجتهد في الصناعة ويتأنق فيها وقيل: إنه ليس بسديد لأنّ الاعتمال هو العمل لنفسه كما صرّج به في ا، ساس وهو لا يلائم قوله من ضرب الخاتم فإنه أعمّ من كونه لنفسه وغيره فالمخصوص وخمسه هو اضطرابه كما روي أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم اضطرب خاتما من ذهب ثم ألقاه ثم أخذه من ورق نقش فيه محمد رسول الله والسديد اعتماده بالدال المهملة كما في بعض النسخ كما في الكشاف وهو القصد إليه وصنعه من ضرب اللبن وضرب الخاتم ولا يبعد أن يكون ما في الكتاب من تحريف الناسخ وسيأتي هذا في يس (أقول) تبع في هذا الفاضل التفتازانيّ في شرحه هنا فبنى عليه تخطئة الناسخ وليس في الأساس ما توهمه، والذي فيه إنما هو تفسير الاعتمال، التعميل بالاجتهاد ولا يتعمل لنفسه ويستعمل غيره ويعمل رأيه ويتعمل في حاجات الناس أي
يتعنى ليجنهد وأنشد سيبور رحمه الله:
إنّ الكريم وأبيك يعتمل إن لم يجديوماً على من يتكل
الخ ولو سلم أنّ الافتعال هنا للعمل بنفسه لأن افتعل يأتي لذلك كاكتحل وادّهن واتخذ فالمصنف توسع فيه فاستعمل المقيد للمطلق ومثله كثير سهل وما فسر به اضطرب في الحديث لا ينافيه وفص 5 في النهاية بأمر يضربه والحديث المذكور وان روي عن عليّ رضي الله عنه منسوخ بآخره كما صرّحوا به وقد فسر الاعتماد هنا بالذكر وبالقصد إليه وبجعل مضربه معتمدا على مورده وذكر المدقق في الكشف أنه(2/86)
إشارة إلى إظهار المناسبة بين الموضوع الأصليّ وهو الاعتماد المؤلم وبين ما استعمل فيه مناسبة وأشار إلى أنّ فيه معنى الجعل ولهذا جوّز تعديته إلى مفعول واحد والى مفعولين وأمّا أخذه من ضربك أي مثلك على معنى أن يمثل لهم مثلاً كما ذكره في سورة يس، فلم يذكره لأنه مرجوج ههنا، وفيه إشارة إلى أنّ المضرب والمورد في أمثاله تعالى لا يفترقان وإنه تعالى ضربه أشد لا أنه شبه المضرب بالمورد وأنه متناول للتشبيه التمثيليّ والاستعارة التمثيلية فاشية كانت أولاً. قوله: (وأصله وقع شيء على آخر) أي معنى الضرب الحقيقي هو إيقاع شيء على شيء وهل يعتبر قصد الإيلام فيه أولاً فيه كلام لهم وقال الراغب الضرب إيقاع شيء على شيء وضمرب المثل من ضرب الدراهم وهو ذكر شيء أثره يظهر في غيره فهذا مجاز متفرّع على مجاز آخر ملحق بالحقيقة لاشتهاره أو هو حقيقة عرفية وقوله وأن بصلتها مخفوض الخ في الكشاف أن استحيا يكون متعدّيا بالحرف وبنفسه وعلى الأوّل اقتصر المصنف رحمه الله تبعا للراغب إمّا لأنه الأفصح أو لأنّ الآخر عنده من الحذف والإيصال وحينئذ فمحل المصدر إفا نصب أو جز على الخلاف المشهور وعلى الثاني نصب قطعا، وما قيل: من أنّ يستحيي إذا كان بمعنى يترك استغنى عن حرف الجرّ لأنّ الترك يتعدى بنفسه فإن كان بمعناه الحقيقيّ يجب تقدير الحرف غفلة عن أنّ المجاز المخالف لأصله في التعدية يجوز فيه النظر لأصله، ولمعناه المجازي كما قرّرناه في محله فتدبر. قوله: (وما إبهامية تزيد النكرة إبهاماً الخ) يعني أنها اسم بمعنى شيء يوصف به النكرة لمزيد الإبهام وسذ طريق التقييد وقد يفيد مع ذلك معنى آخر كالتحقير في نحو أعطاه شيئاً ما والتعظيم في نحو لا مرّ ما جدع قصير أنفه والتنويع في نحو اضربه ضربا ما وهذا مما يتفرع على الإبهام فهي على هذا اسم يوصف به كما يكون موصوفا وبه صرّج النحاة كابن هشام وغيره، وقال أبو البقاء: إنها نكرة موصوفة فقدر صفتها وجعل بعوضة بدلاً منها وغيره جعلها صفة لها واليه ذهب الفرّاء والزجاج وثعلب فما بدل من مثلا وجعلها الزمخشرفي في المفصل زائدة وهو مذهب لبعض النحاة فيها كما في الدرّ المصون فليس بين كلاميه منافاة ومعارضة كما توهم فإن قلت يستحي مآل معناه يترك كما مرّ فعلى العموم يصير المعنى إنّ الله لا يترك أيّ مثل كان فيقتضي أنّ جميع
الأمثال مضروبة في كلامه وليس كذلك قلت ليس المنفيّ مطلق الترك بل الترك لأجل الاستحياء فالمعنى لا يترك مثلاَ ما استحياء وإن تركه لأمر آخر أراده، ومن هنا يظهر لك أنه استعارة ووجه عدم التفاتهم لكونه مجازاً مرسلا كما مرّ. قوله: (أو مزيده للتثيد الخ الما توهم أنّ الزائد حشو ولغو فلا يليق بالكلام البليغ فضلا عن المتحلي بحلية الإعجاز دفع بأنه إنما يكون كذلك لو لم يفد أصلاً وليس كذلك، فالمراد به ما لم يوضع لمعنى يراد به وإنما وضع ليقوّي الكلام ويفبده وثاقة فلا يكون لغواً ولذا سموه في القرآن صلة ولم يطلقوا عليه الزائد تأدّبا وان كانت زائدة باعتبار عدم تغير أصل المعنى بها، واستشكل ببعض الحروف المفيدة للتأكيد مثل إنّ واللام حيث لم تعد صلة فإن اشترط عدم العمل انتقض بلام الابتداء حيث لم تعمل وبزيادة بعض الحروف الجارّة حيث عملت وقد تكون حروف الصلة لتزيين اللفظ واقامة الوزن والسجع وزيادة الفصاحة، وقيل عليه أن من الزائدة بعد النفي تفيد الاستغراق كما ذكره الزمخشريّ في تفسير قوله تعالى: {مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّن الْعَالَمِينَ} أسورة الأعراف، الآية: 80] فقد يغير بها أصل المعنى فيخالف ما ذكر. المصنف وغيره وليس بوارد لأنّ النكرة في النفي تفيد الاستغراق وتحتمله فقد كان الكلام دالاً عليه ومن أكدته ولم تغيره ولذا شرط في زيادتها على الأفصح تنكير مجرورها وسبق النفي عليها وهو مسبوق بهذا الاعتراض، وأشار العلامة في شرح الكشاف إليه وإلى دفعه بأن ما وضع للتأكيد يقصد جعله لفظا ومعنى جزءاً منه. فمعنى قولنا إنّ زيداً قائم قيام زيد ثابت محقق ولذا دفع به الإنكار وجعل نظير الجص بين الآجر والمسامير بألواح الباب التي تعذ جزءاً منه ولا ينتفع به فيما قصد منه بدونها والزائد لم يقصد به ذلك فهي كالضبة التي ليست جزءاً منه وإنما تفيد وثاقة فهو باعتبار المراد وضعا مهمل ومشابه لغير المهمل والتأكيد هنا إمّا لمثلاً فيكون بمعنى حقاً أو الجملة فيكون بمعنى البتة(2/87)
كما في شرح الكشاف، فان قلت هل هي كلمات نحوية أم لا قلت: صرّح بعض شرّاح الكشاف بأنها ليست بكلمات اصطلاحية حقيقة، وقيل: إنها كلمات لأنها ألفاظ موضوعة لمعنى في غيرها وهو القوّة والوثاقة التي أفادتها لما ذكر معها ولا يخفى أنّ الواضع لم يضعها لما ذكر وإلا لم يكن بينها وبين أن ولام التأكيد فرق فعذها منها تسامح فتدبر.
قوله: (عطف بيان لمثلاَ الخ) على هذا المعنى إنّ الله جل وعلا لا يستحيي من ضرب
أيّ مثل أراد حقيراً كان أو لا لكون النكرة في سياق النفي فلا يرد عليه أنّ عطف البيان للتوضيح ولا يتم لا يستحي أي يضرب مثلاً بدون بعوضة إذ لا استحياء من ضربه إلا أن يقال
إن التنوين للتحقير ولم يتعرض للبدلي4 لأنّ البدل هو المقصود بالنسبة عندهم وليس بظاهر هنا وهذا رجحه أبو حيان على كونه عطف بيان لأنه لا يكون في النكرات عند الجمهور وكون البدل هو المقصود بالنسبة ليس على ظاهره ففي نصب بعوضة وجوه من الإعراب تسعة وهي أن تكون صفة لما أو بدلاً منها أو عطف بيان إن قيل بجوازه في النكرات أو بدلاً من مثلاً أو عطف بيان له إن قيل ما زائدة، أو مفعولاً ومثلاَ حال أو منصوبا على نزع الخافض والتقدير ما من بعوضة فما فوقها كما نقل عن الفراء والفاء بمعنى إلى كما في قوله:
يا أحسن الناس ما قرنا إلى قدم ولا حبال محب واصل يصل
أو مفعولاً ثانيا أو أوّل.
قوله: (أو مفعول ليضرب مثلأ حال الخ) قال في شرح الفاضل التفتازاني لاخفاء في أنه
لا معنى لقولنا يضرب بعوضة إلا بضم مثلا إليه فتسميته مثل هذا مفعولاً ومثلا حالاً بعيد جداً وتوهم كونه حالاً موطثة غلط ظاهر فإنّ مثلا هو المقصود وإنما يستقيم لو جعل بعوضة حالاً ومثلا صفة له مثل أنزلناه قرآناً عربيا (قلت الا غلط فيه فانّ الحال قد تكون هي المقصودة بحسب المعنى والصناعة كما ذكروه في نحو ما شأنك قائماً فإن المسؤول عنه القيام ولولاه لم يفد الخبر فقد وطأت له الخبرية ولكن الكلام في صحة تقدمها كما ستراه مفصلاً إن شاء الله تعالى ثم إنه إذا نصب مفعولاً واحداً يكون بمعنى يبين ويذكر فكيف يقال إنه لا معنى لقوله يضرب بعوضة إلا بذكر مثلا متأمل. قوله: (أو هما مفعولاه لتضمته معنى الجعل الخ أليس المراد بالتضمين هنا المعنى المصطلح بل اللغوي وهو كون الجعل في ضمنه لأنه جعل مخصوص ولذا عده النحاة من الأفعال التي تنصب المبتدأ والخبر كجعل وان ضعفوه ولذا أخر هنا، وعلى هدّا القول قيل لا بد من أن يكون أحد مفعوليه لفظ مثل وقيل: لا يشترط ذلك كقولهم ضربت الطين لبناً، ومثلاً المفعول الثاني وبعوضة الأوّل وجوّز المعرب عكسه وصح التنكير لحصول الفائدة إذ القصد بها إلى أصغر صغير فاندفع قول الطيبي أنه أبعد الوجوه لندرة مجيء مفعولي جعل نكرة إذ أصلهما المبتدأ والخبر ولذا قال المدقق في الكشف: إنه ليس بشيء لأنّ البعوضة فما فوقها فيه معنى التعميم والوصف أيضا أنه بمعنى صغير وأصغر أو صغير وكبير وقيل: عليه أنه يقتضي الصحة ولا يدفع الندرة وفيه ما لا يخفى لمن له نظر. قوله: (وعلى هذا تحتمل ما وجوهاً أخر الخ) قراءة الرفع كما قاله ابن جني: حكاها أبو حاتم عن أبي عبيدة عن رؤبة والظاهر أنّ مثله ليس بالرأي كما يومىء إليه قول صاحب الانتصاف لا يجوز أن يذهب القارىء في القراءة إلى ما يختاره بل يعتمد على ما يروبه الثقات فإنه يوهم أن الرفع لم يرو هنا عن الثقات، والمراد انّ جموع هذه الاحتمالات مخصوصة بالرفع بحسب الظاهر فلا
، رد عليه ما قيل: من أنه صريح في أنها لا تحتمل الموصولية على قراءة النصب وليس كذلك *ـمد ذكر ابن جرير أنه على قراءة النصب يجوز أن تكون ما موصولة حذف صدر صلتها، فإن ليل: إئه لا وجه له أجيب بأنّ له وجهين أحدهما أنّ ما لما كانت في محل نصب وبعوضة صلها أعربت باعرابها كما في قوله:
فكفى بنا فضلاعلى من غيرنا
فإنّ غيرنا أعربت بإعراب من والعرب نفعل ذلك في من وما خاصة تعرب صلتهما
، 1 عرابهما والثاني أنه على تقدير ما بين بعوضة إلى ما فوقها فحذف بين ونصب بعوضة لاقامته مقامه ثم حذف إلى اكتفا بالفاء على حد قولهم أحسن الناس ما قرنا فقدما أي ما بين قرن إلى! ا- م على أنّ في صحة ما ذكر نظر الآن إعراب الصلة! اعراب الموصول إما بتبعيته كالبدلية مثلا او بدونها(2/88)
وعلى الأوّل لا يصح كونه صلة، والثاني لا نظير له ونصب بعوضة على الظرفية في عاية البعد فلا وجه له أو وجهه منزل منزلة العدم عندهم ولذا قال في الانتصاف: إنه غير مستقيم وهذا وجه ترك المصنف رحمه الله له، والضمير في قوله قرئت للأية أو لبعوضة فتذكير صمير أنه لتأويله بلفظ أو لرعاية الخبر وعلى كون ما موصولة أو موصوفة هي في محل نصب لحلى أنها بدل من قوله مثلاً وبعوضة عليهما خبر مبتدأ أي الذي هو بعوضة، والجملة صفة أو صلة حذف صدرها مع عد اطولها كما في قوله تعالى: {تَمَامًا عَلَى الَّذِيَ أَحْسَنَ} [سورة ا، لعام، الآبة: 54 ا] في قراءة أحسن أفعل التفضيل المرفوع على أنه خبر مبتدأ محذوف وهو مليل في غير أيّ الموصولة وقيل أنّ ما على هذه القراءة أيضا يحتمل النفي والتقدير حينئذ ما،! وضة فما فوقها متروكة فحذف الخبر لدلالة لا يستحيي عليه. قوله: (واستفهامية هي المبتدأ الخ) وهذا استفهام إنكاريّ مؤكد للردّ كما في المثال المذكور وقال في الانتصاف: إنه غير. ـ حستقيم لأنّ مثله يقع للتنبيه بالأدنى على الأعلى كما يقال: هو يعطي الأموال فما الدينار االديناران وهم أنكروا ضرب المثل بالذباب فلا يستقيم أن تكون البعوضة فما فوقها في الصغر 11 الكبر كذلك وقال في الانصاف: لو تأمل حق التأمل لم يرد هذا لأن المسلوب عنه تعالى أن وحتحى من ضرب أيّ مثل كان فما البعوض فما فوقه لأنه ليس بخارج عنها حتى ينكر ولا يلزم 11، لراعي ما ذكر من الانكار للتنبيه الذي ذكره بل أنكر على من سمع أمرا كلياً فتردد في بعض. ء ئياته وتمثيله بما يبالي بما وهب من المال فما دينار وديناران ليس كالمثال الذي ذكره اا.! ترض والحاصل أنه تعالى له أن يمثل بما يكون على وفق الممثل له في الحقارة وغيرها فما " ال الحقير والأحقر حتى لا يمثل به لما هو حقير، وقال طيب الله نراه ما في الأنصاف يشعر
بأنّ ما بعوضة الخ من باب التذييل وأنه يؤكد معنى العموم في قوله أن يضرب مثلاً وبعوضة فما فوقها للاستيعاب والشمول كقوله تعالى: {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} [سورة مريم: الآية: 62] سواء اعتبرت الصغر والكبر أو لا والذي يفهم من كلام المصنف رحمه الله أنّ التفسير الأوّل لقوله فما فوقها من باب الترقي كقوله تعالى: {وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى} [سورة البقرة، الآية: 20 ا] والثاني من باب الأولوية كقوله تعالى: {فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا} [سورة الإسراء، الآية: 23] وإلى الأوّل أشار بقوله أبلغ وأعرف فيما وصف به والى الثاني بقوله كأنك قلت فضلاً عن الدرهم والدرهمين وقال الفاضل اليمني لسان جار الله بقول: عليّ نحت القوافي من معادنها
فما ذكوه حق أبلج وما سواه باطل لجلج لأنّ الكمار أنكر واضرب المثل بالذباب والعنكبوت لخستهما في أنفسهما والبعوضة فما فوقها أقل وأحقر مما استنكروه فإذا جاز أن لا يستحيي من ضرب المثل بهما قبالأولى أن لا يستحي من ضربه بما هو أكبر منهما فنبه بجواز ضرب الأدنى عدى ضرب الأعلى وكون البعوضة فما فوقها أكبر في الحقارة من يمنعه (أقول) تحقيقه أنّ نفي الأدنى يدلّ على نفي الأعلى بطريق الدلالة لأنّ الترقي في النفي بنفي الأعلى ثم نفي الأدنى مثل فلان لا يستحي أن يعطي سائله الدرهم ولا الفلس وفي الإثبات باثبات الأدنى ثم إثبات إلا على مثل فلان يعطي سائله الدرهم بل الدينار ففيما نحن فيه نفي الاستحياء من ضرب المثل بالبعوضة فما فوقها مما هو أصغر من الذباب والعنكبوت فدل على عدم الاستحياء من ضرب المثل بالذباب والعنكبوت بالطريق الأولى لأنهما أكبر من البعوضة ونفي الأعلى أدنى من نفي الأدنى ومنشأ الشبهة في النفي والإثبات عدم الفرق بين الترقي في النفي والإثبات فسقوط ما مرّ من القال والقيل غير محتاج إلى دليل. قوله: (والبعوض فعول من البعض الخ) يعني إنّ البعوض نعول صفة بمعنى المقطوع ولذا سمي في لغة هذيل خموس والخمش والخدس كله بمعنى الجرح اليسير لكنه مخصوص بالوجه وهذه المادة كلها تدل على ذلك كالبضع وهو كالقطع لفظاً ومعنى وكذا العضب للسيف القاطع، والبعض بفتح الباء الموحدة وسكون العين المهملة وضاد معجمة كما يكون اسماً جامداً مقابلاَ لكل يكون مصدراً كالقطع لفظاً ومعنى وقد تلطف المطوعي في قوله:
ياليلة حط رحلي فيها بشرّ محل(2/89)
فأذهب الحز بردي وأذهب البعض كلي
وأراد بالبرد النوم وبالبعض لسع البعوض ففيه مع التورية الإبهام وحسن التقابل. قوله:
(أو ما إن جعلت اسماً الخ) يعني أنّ هذه الفاء عاطفه ترتيبية بحسب الرتبة على كلا معنيي فما
فوقها من التنزل والترقي وظاهره أنّ صحة العطف على ما جار على جميع وجوه الاسمية سواء كان موصولاً أو موصوفا أو استفهاما وقد صرح به من قال: ما الأولى إن كانت صلة أو إبهامية وتلنا إنّ الإبهامية حرف فالثانية معطوفة على بعوضة وان كانت ما الأولى اسماً سواء كانت مرصولة أو موصوفة أو استفهامية فالثانية معطوفة عليها ومحلها محلها من الرفع والنصب السابق، وقيل إنه ليس على إطلاقه بل هو مخصوص بما إذا كانت اسما موصولاً أو موصوفا على رفع بعوضة أما إذا جعلت اسما مبهماً صفة لمثلا فلا يحتمل قوله فما فوقها العطف عليه ولصرصور الحال أطلق المقال وقيل: أيضاً إنه على تقدير الاستفهام لا يصح العطف أيضاً لأنّ بعوضة خبره فيصير ما فوق البعوضة بعوضة فالتعميم والإطلاق ليس بصحيح فتدبر.! قوله:) ومعناه ما زاد عليه في الجثة الخ) في الكشاف فما فوقها فيه معنيان أحدهما فما تجاوزها وزاد عليها في المعنى الذي ضربت فيه مثلاً وهو القلة والحقارة نحو قولك لمن يقول فلأن أسفل الناس وأنذلهم هو فوق ذلك تريد هو أبلغ وأعرق فيما وصف به من السفالة والنذالة والثاني فما راد عليها في الحجم الخ. والى هذين المعنيين أشار المصنف رحمه الله إلا أنه عكس ترتيبه، ن الثاني يتبادر من الفوقية والزمخشري قدمه لما سيأتي فالمراد على الأوّل بالفوقية الزيادة في حجم الممثل به فهو ترق من الصغير للكبير وعلى الثاني الزيادة والفوقية في المعنى الذي وقع التمثيل فيه وهو الصغر والحقارة فهو تنزل من الحقير للأحقر قيل: والأوّل أوفق بسبب نزول الآية والثاني أقضى لحق البلاغة وفيه نظر، والذي ارتضاه المدقق في الكشف إن ما قدمه الزمخشريّ وجعله المصنف ثانيا أولى واليه ميل المحققين، قال: وهو الحق لأنه المعنى الذي سيق له الكلام ولأنه المطابق للمبالغة، وأما الحمل على الثاني فلا يظهر وجهه إلا إذا خص لمورد النزول وأنه كان في نحو الذباب والعنكبوت أو بجعل البعوضة عمود التحقير وكلاهما غير ظاهر وهذان الوجهان على المشهورة وأما على قراءة الرفع فإن جعلت ما موصولة ففيه الوجهان وان جعلت استفهامية فقد أوضحه حق الايضاح وبين أنّ المعنى فما فوقها في الحجم لقوله ما دينار وديناران وحينئذ يتعين هذا المعنى لأنّ العظم مبتدأ من البعوضة إذ ذاك فافهم،) أقول (: وكون الثاني أبلغ وأوفق بسبب النزول مسلم وأمّا إنه على الثاني لا بدّ من التخصيص أو جعل البعوضة عمود التحقير فلا لأنه لو قصد التعميم وتسوية الصغير والكبير في صحة التمثيل وحسن موقعه كان حسنا ظاهراً كما لا يخفى كأنه قيل: في الردّ عليهم للعليم الخبير أن لمثل بكل صغير وكبير بحسب مقتضى الحال! من غير نكير، وكأنه لهذا لم يعرّح عليه غيره من الشراح وغير المصنف رحمه الله الترتيب فتدبر. قوله: (كأنه قصد به رذ ما استنكروه) أي عدّوه منكراً وان لم يكن كذلك كما يقال استقبحه واستجهله وقد عزى هذا البعض السلف كقتادة فالمراد بما فوقها ما هو أكبر جثة كالكلب والحمار وهو ردّ على الجهلة القائلين إنّ الله أجل من ان يضرب الأمثال بالمحقرات من الذباب والعنكبوت وليس قوله كأنه إشارة إلى ضعف هذا
الوجه لما مر لأنه عبر بذلك أيضا في الوجه الآخر حيث قال: قبل هذا كأنه لما ردّ استعبادهم الخ لأت توجيه بما سمعته آنفاً فمن قال في حواشيه هنا قوله فما فوقها ترقياً من البعوضة إلى ما هو أكبر منها فإنّ الكفار لما استنكروا ضرب المثل بالذباب والعنكبوت وكان يتصوّر أن يتحقق ما هو أحقر منهما وأصغر ى ن المناسب في ردّ كلامهم أن يذكر ذلك الأحقر والأصغر ليترقى منه إلى ما ذكروه من الذباب والعنكبوت فيقال لا يستحي أن يضرب مثلا ما بعوضة فضلا عما يقود ونه لم يطبق مفاصل الكلام، ولم يقرب من المرام نافهم. قوله: (ونظيره في الاحتمالين الخ) المراد بالاحتمالين ما فسر به ما فوقها، وقوله أو في المعنى عطف على قوله في الجثة وهو الوجه الثاني، والمراد بما فوقها فيه الأصغر(2/90)
الأحقر وقوله كجناحها أي كجناح البعوضة إشارة إلى ما ورد في الحديث من قوله عليه الصلاة والسلام " لو كانت الدنيا ثعدل عند الله جناج بعوضة ما سقى كافرا منها شربة ماء " وهو حديث صحيح أخرجه الترمذي عن سهل بن سعد ولله در ابن المقري رحمه الله في قوله في تائيته المشهورة.
فقد ضاع عمر ساعة منه شري بملءها والأرض أية! مة
أبنفق هذا في هوى هذه التي أبى الله أن تسوى جناح بعوضة
وقوله ما روي أنّ رجلاً بمنى الخ حديث صحيح رواه مالك والبخاري ومسلم والحديث بتمامه في الكشاف وهو عن الأسود قال دخل شباب من قريش على عائشة رضي الله تعالى عنها وهي بمنى وهم يضحكون فقالت ما يضحككم قالوا فلان خرّ على طنب فسطاط فكادت عنقه أو عينه أن تذهب فقالت لا تضحكوا إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ما من مسلم يثاك شوكة فما فوقها إلا كتبت له بها درجة ومحيت عنه بها خطيئة وقوله ما أصاب المؤمن الخ رواه ابن الأثير في النهاية إلا أنّ فيها المسلم بدل المؤمن وقال الطيبي لم أقف له على رواية وقال الحافظ العراقي لم أقف عليه بهذا اللفظ والطنب بضمتين وسكون الثاني يكون مفرداً فيجمع على أطناب كعنق وأعناق ويكون جمعا أيضا كما في المصباح وهو الحبل الذي تشدّ به الخيمة
الحوها، والفسطاط بضم الفاء وكسرها بيت الشعر وقوله يشاك بصيغة المجهول تصيبه شوكة! هي ما يدق ويصلب رأسه من النبات والشوكة تكون اسما لهذه ومصدوا بمعنى أصابتها يقال ضاكه يشوكه شوكا وشوكة وفي شرح الكشاف أنها هنا مصدر واسم معنى لا عين ولو أراد العين) تال بشوكة، والتنظير فيه بأنه يقال شيك الرجل فهو مشوك إذا دخل في جسمه شوكة لا وجه له نعم ما ذكر بعيد بحسب الظاهر لكثرة الحذف والإيصال والنخبة بفتح النون وسكون الخاء المعجمة آخره باء موحدة بمعنى العضة والقرصة ويقال: نخبت النملة تنخب إذا عضت. قوله:) أمّ حرف تفصيل يفصل الخ) الكلام في أمّ طويل الذيل وليس هذا محل تفصيله وحاصل ما عليه المحققون أنها حرف لا اسم كما يوهمه تفسيرهم لها بمهما ولم يذهب إلى اسميتها أحد ءـ حن يعتد به من أهل العربية فننقله والقول بأنه عبر بعضهم بالكلمة عنها ليشمله لا وجه له،، لذا صرّح المصنف رحمه الله بحرفيتها وليست حرف شرط أيضاً عند المحققين والا لزمها، قوع الفعل بعدها بل متضمنة لمعنى الشرطية ولذا لزمتها الفاء غالبا ومن قال: إنها حرف شرط اراد هذا فأضافتها له لأدنى ملابسة وتفيد مع هذا تأكيد ما دخلت عليه من الحكم ووقع في للام النحاة كما نقله أبو حيان في شرح التسهيل إنها حرف أخبار يفيد معنى الشرط وكأنهم ارادوا به أنها في أصل وضعها وضعت لتأكيد جملة خبرية تقع بعدها وتكون لتفصيل مجمل! قدمها صريحا أو دلالة أو لم يتقدّم لكنه حاضر في الذهن ولو تاقديرا، ولما كان هذا خلاف الظاهر في كثير من موارد استعمالها جعله الرضي وكثير من المحققين أغلبياً، وقالوا تفسير سيبويه لها بمهما يكن من شيء ليس المراد به أنها مرادفة لذلك الاسم والفعل لأنه لا نظير له، ل المراد أنها لما أفادت التأكيد وتحتم الوقوع في المستقبل كان مآل معناها ذلك ولما أشعرت صالشرطية قدر شرط يدل على تحتم الوقوع وهو وجود شيء ما في الدنيا إذ لا تخلو عنه فما علق عليه محقق ولذا قدر بعضهم الشرط الذي أشعرت به إن يكن مانع لأنه إذا وجد مع المانع لدونه هو أولى وأحرى. قوله: (أي هو ذاهب لا محالة الخ الا محالة بفتح الميم والبناء على المتح بمعنى لا بد وهو أبلغ منه لأنه بمعنى لا حيلة فيه أصلاً قال الإمام المرزوقي: يقولون في مرضع لا بدّ لا محالة ويقال: حال حولاً وحيلة أي احتال وما فيه حائلة أي حيلة انتهى. وفيما دكره ميبويه إشارة إلى أنها موضوعة للتأكيد كما يؤكد الكلام بقولهم البتة ولا بدّ لأنه يدل على: سوته ولزومه وذلك لتعليق وجوده على ما لا بدّ منه وهو وجود شيء ما في الدنيا وضمير أنه كل كلام المصنف رحمه الله راجع للذهاب والعزيمة كالعزم ما يجزم به ويدّعي إيجابه، ومنه ما
ورد في الحديث: " عزمة من عزمات الله " قال ابن شميل: أي أمر واجب أوجبه الله ولما كان أصل الكلام مهما يكن من- شيء ومهما مبتدأ والاسمية لازمة للمبتدأ ويكن فعل شرط والفاء لازمة له تليه غالبا فحين قامت أمّا مقام المبتدأ(2/91)
والشرط لزمها الفاء ولصوق الاسم إقامة للازم مقام الملزوم وابقاء لأثره في الجملة ومن أراد تفصيله فلينظر حواشي المطوّل والرضي، وقوله كرهوا الخ أي وقوع الفاء بعد حرف في معنى الشرط من غير فاصل والمعروف تخلل جملة الشرط بينهما ولذ قال: فادخلوا الخ وعدى أدخل إلى مفعولين بنفسه وقد يتعدى إلى الثاني بعلى فيقال: مثلا أدخلوها على الخبر والمراد بتعويضه شغل خبره به وكون ما يلي أمّا مبتدأ ليس بلازم لكنه كثير فيه وفي الرضي أنه يقدم على الفاء من أجزاء الجزاء المفعول به نحو فأمّا اليتيم فلا تقهر والظرف والحال وعذد أموراً يفصل بها وفيه كلام ذكرنا. في حواشي الرضي وشرح التسهيل. قوله: (وفي تصدير الجملتين به الخ) ضمير به لا ما باعتبار أنه لفظ وحرف والإحماد هنا بمعنى الحمد والمدح العظيم المتضمن لأنه بموقع مرضيّ منه كما قال في الأساس من المجاز أحمدت صنيعه رضيته والأرض! رضيت سكناها وفي بعض شروح الكشاف الاحماد الحكم بلزوم كونهم محمودين كالأكفار للحكم بالكفر وقال السعد: أحمدت فلاناً وجدته محموداً وجاورته فأحمدت جواره والحمد والذمّ مفهوم من نفس الجملتين ولكن لما أفادت أما تأكيده وتحقيقه علم منها ذلك أيضاً من أوّل الأمر وهي تفصيل لما دل عليه قوله إنّ الله لا يستحي الخ من أنه وقع فيه اختلاف بين التحقيق والارتياب. قوله: (والضمير في أنه للمثل أو لأن يضرب الخ) أي ضمير أنه في قوا، تعالى: {يَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ} للمثل أو لضربه المفهوم من أنه يضرب لأنه مؤوّل به وعود الضمير للمثل أقرب ولذا قدّمه المصنف رحمه الله وجوّز فيه أيضاً أن يعود لترك الاستحياء المفهوم مما مر وللقرآن. قوله: (والحق الثابت الخ) الحق خلاف الباطل وهو في الأصل مصدر حتى يحق من بابي ضرب وقتل إذا وجب وثبت وقال الراغب أصل الحق المطابقة والموافقة ويقال على أوجه فالأوّل: الموجد للشيء بحسب مقتضى الحكمة ومنه الله هو الحق، والثاني الموجد بالفتح على وفق الحكمة ومنه فعل الله حق، والثالث الاعتقاد المطابق للواقع، والرابع الفعل والقول الواقع بحسب ما يجب وقدر ما يجب في الوقت الذي يجب وليس بين هذا وبين ما قبله فرق غير التعميم فلو تركه كان أحسن والى ما ذكر أثار المصنف رحمه الله بقوله الثابت الخ، وقوله لا يسوغ إنكاره بمعنى لا يصح
ويجوز من ساغ الشيء إذا سهل تناوله ودخوله في الحلق فاستعير للصحة والجواز وشاع حتى صار حقيقة فيه، والأعيان الذوات والجواهر، والثابتة بمعنى المقررة المحسوسة، والصائبة بمعنى المصيبة إلا أن فعله مزيد من أصاب الرأي فهو مصيب والأفعال مصيبة لا صائبة، ولذا فسره في بعض الحواشي بالموافقة للغرض يثير إلى أنه استعارة من قولهم أصاب السهم الهدف وصابه إذا وصل إليه وفيه نظر وفي الأساس من المجاز أصاب في رأيه ورأي مصيب وصائب وتعريف الحق للمبالغة كأنه تلك الحقيقة والجنس أو للحصر الاضافيّ لما قالوه، وأخكامه يقتضي الثبوت فلذا قالوا ثوب محقق أي محكم النسج كما في الأساس والعامّة تقول ثوب محقق بمعنى منقوش وفي الفصول القصار فيض فضله محقق وبرد مجده محقق. قوله: (كان من حقه الخ) القرين المقارن وعطف يقابل قسيمه على يطابق قرينه تفسيريّ لأنّ القرين والقسيم بمعنى والمطابقة المراد بها المقابلة بالمعنى اللغوي أو البديعي وهو الجمع بين معنيين متقابلين في الجملة كقوله. قوله: {يُحْيِي وَيُمِيتُ} [سورة البقرة، الآية: 258] وهو هنا يعلمون ولا يعلمون لتقابل السلب والايجاب فيه أي لم يقل أما الذين كفروا فلا يعلمون حتى يقابل قسميه بل عدل عنه لما ذكر من المبالغة في المدح والذمّ المذكورين لأنّ هذا يدل على أنّ قولهم هذا لفرط جهلهم على طريق الكناية التي هي أبلغ من التصريح لإثبات المدعي ببينة بينة كما أشار إليه لأن الاستفهام إما لعدم العلم أو للإنكار وكل منهما يدل على الجهل دلالة واضحة ومن لقل للمسك أين الشذا كذبه رائحة الطيب ولذا قال المصنف: رحمه الله دليلا واضحا قيل ولم يقل فأما الذين آمنوا فيقولون الخ إشارة إلى أنّ المؤمنين اكتفوا بالخضوع والطاعة من غير حاجة إلى التكلم والكافرون لخبثهم وعنادهم لا يطيقون الاسرار لأنه كإخفاء الجمر في الحلفاء، أو يقال يقولون لا يدلّ صريحا على العلم وهو المقصود، والكافرون منهم الجاهل(2/92)
والمعاند، وقوله يقولون الخ أشمل وأجمع وهذا هو الأولى وأتى بعبارة الرلث في الأوّل إشارة إلى أنهم يعترفون بحقية القرآن وبما أنعم الله به عليهم من النعم التي من أجلها نزول هذا الكتاب وهو المناسب لقوله نزلنا على عبدنا وأما الكفرة المنكرون للمناسبة لجلاله تعالى المتخذون غيره من الأرباب فالله هو المناسب لحالهم، وما قيل من أنّ ما نسب إلى الكفار أشدص، عدم العلم لدلالته على أنهم يستهزؤون وينسبون القول بأنه من الله إلى السفه غير متجه عالى أن ما ذكره يتوقف على كون قولهم عن مكابرة فالظاهر أنه لا يصح لا يعلمون وان صح فوجه آخر وانكار خلافه مكابرة ظاهرة فتدبر وقال: كالبرهان لأنه ليس برهانا حقيقياً. قوله: (يحتمل وجهين الخ) لي الدرّ المصون للنحاة في ماذا ستة أوجه الأوّل أن يكون ما اسم استفهام وذا اسم إشارة خبر له، والثاني أن يكون ذا اسما موصولاً وهو وان كان بحسب الأصل اسم إشارة لكته يكون اسماً
موصولاً في هذا المحل فقط والعائد محذوف تقديره أراده فقول المصنف: والمجموع خبر فيه تسمح ظاهر فيه ملاحظة المعنى فلا يتوهم فيه الغفلة عما ذكروا وأخبر بالمعرفة عن النكرة هنا بناء على مذهب سيبويه رحمه الله في جوازه في أسماء الاستفهام وغيره يجعل النكرة خبرا عن الوصول، وما قيل: من أنه يتعين مذهب سيبوبه بالاتفاق في ماذا غير مسلم لأنّ الرضي نقل فيه الخلاف أيضاً، والثالث أن يغلب ما فيركبا ويجعلا اسماً واحدا للاستفهام ومحله النصب على أنه مفعول مقدم، والرابع أن يجعل مجموعهما اسما مركبا موصولاً كقوله: دعى ماذا علصت سأتقيه أي الذي علمت، والخاسى أن يجعلا اسماً واحداً نكرة موصوفة، وقد جوّز هذا في المثال المذكور والسادس أن يجعل ما اسم استفهام وذا زائدة وهو ضجف والمعتبر في هذه الآية الوجهان المذكوران في الكتاب. قوله: (والأحسن في جوابه الرفع على الآوّل الخ) وجه الرفع أنّ جملة السؤال حينئذ اسمية فيرفع الاسم الواقع في الجواب على أنه خبر مبتدأ محذوف فيطابقه في الاسمية لفظاً وعلى الثاني ماذا مفعول مقدم فجملة السؤال فيه فعلية فينصب بفعل مقدر ليتطابقا، وهذا هو الأصل الراجح ويجوز عكسه كما أشار إليه المصنف رحمه الله بقوله والأحسن لأنه المطابق لمقتض الظاهر وقد يرد على خلافه لنكتة، ولذا قال بعض المحققين: إنّ نحو قوله تعالى: {خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ} [سورة الزخرف، الآية: 9] ترك فيه المطابقة إشارة إلى بلادة الكفار وعنادهم فإنه إذا تحقق خلق السموات لا ينبغي أن يشك في فاعله فالمناسب لحالهم التردد في نفس الخلق، وقيل تقديره فعلية في جواب من أكثر في الاستعمال وما خالفه لنكتة لقصد القصر والتخصيص أو التأكيد بالاسمية وتفصيله في حواشي المطوّل والمفتاح، وقد أطبقوا ثمة على أنّ ماذا صنعت إذا كان جملة اسمية يجاب بالاسمية، وما قاله قدس سره في شرح المفتاح: في الفصل والوصل من أنّ الفعل في ماذا صنعت مسند للمخاطب وليس فيه معنى الفاعلية بخلاف من قام وماذا عناه لا يخلو من الكدر لأنّ كون الاستفهام بالفعل أولى يختص بصورة الفاعلية فإنّ تقدير قولك من ضربت أضمربت زيداً أم عمراً والفرق بين ماذا صنعت وماذا عناه حتى يجاب بالاسمية في الأول وبالفعلية في الثاني تحكم بحت كما في الحواشي الحسنية، ولنا فيه كلام حاصله أن غفلة عن مراده قدس سره لأنّ المطابقة المعنوية كما قرّره في من التائب أن يجعل المحكوم عليه في السؤال والمحكوم به فيه كذلك في الجواب لأنّ المحكوم عليه معلوم للسائل والمطلوب له إنما هو الخبر وهو مصسث الفائدة فإذا كان ضمير من وماذا فاعلاَ في السؤال فهو مسند إليه معلوم له فيطابقه الجواب إذا حكم عليه سواء كان فاعلا أو مبتدأ إلا أنّ الفاعلية يرجحها كون الاستفهام بالفعل أولى دماذا كان مفعولاً فلا يطابقه الجواب إلا بجعله مفعولاً والجملة في السؤال والجواب فعلية قطعاً وإذا اشتغل
الفعل بضميره وجعل ذا موصولاً خبراً لما أو مبتدأ خبره ما فلا يطابقه الجواب إلا بكونه فيه كذلك ولا يتأتى بغير الاسمية بأن تقول الذي صنعته كذأ أو كذا مصنوعي لأنك لو أتيت بها معلية كأن مفعولاً لا محكوما ولا به فتفوت المطابقة المعنوية، فالفرق بين ماذا صنعت وماذا عناه كالصبح في الظهور فإن فهمت فهو نور على نور والتحكم(2/93)
بهتان وزور وقال الشارح الفاضل: هنا في شرح قوله في الكشاف وقد جوّزوا عكس ذلك أنه يعني إذا اتفق السائل والمخبر على الفعل وكان السؤال عن المتعلق بخلاف مثل قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُم مَّاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} [سورة النحل، الآية: 24] فإنه بالرفع لأنه في المعنى نفي الإنزال أي هذا الذي تزعم أنه منزل هو أساطير الأوّلين فلا يصح تقدير الفعل كما سيجيء لحقيقه وتفصيله.
وقال بعض الفضلاء: بعدما أو! ده المدعي هنا أنّ الأحسن في الجواب الرفع وهذا ليس لجواب بل ردّ لما اعتقدوه، والجواب أن تعطيه ما يطلبه منك ثم إنه لا جواب لقوله ماذا أراد الله بهذا مثلا لأنه استفهام إنكارفي ونفي لكون مراد الله فيه ومن حقه نفي أن يكون منه تعالى! على هذا لا يصح أن يكون يضل به كثيراً جواب ماذا أراد الله وأيضا: ماذا أراد الله مذكور على سبيل النقل فلا يطلب له جواب، ولذا لم يلتفت إليه في الكشاف. (أقول) : قد سمعت ما لعرف به الحق الحقيق بالقبول هنا، وما ذكره الفاضل غير مسلم لأن اللازم النظر إلى حال السؤال بحسب الظاهر ثم تطبيق جوابه عليه سواء كان مقول قول أم لا على أنا نقول ما قاله غير موافق لما نحن فيه فإنه كيف يتفق على الفعل ومرادهم في الحقيقة إنكار صدور المثل المذكور عن الله وهو يستلزم إنكار كونه مرادا لله كما لا يخفى وما ذكره المعترض! لا محصل له فإنهم لم يدعوا أنّ قوله يضل به جواب حقيقة كما سيأتي تحقيقه، فلا يلتفت إلى القيل والقال: فماذا لعد الحق إلا الضلال. قوله: (والإرادة نزوع النفس وميلها الخ) عطف الميل على النزوع للتفسير فإنه يقال نزع بمعنى اشتاق ومال كما يقال: نزع عن الأمر إذا ك! عنه وأمسك بلا خلاف بين أهل اللغة فيه، وإنما الخلاف في المصدر فانه سمع فيه أيضا نزعا ونزاعاً ونزوعا! هل يختلف المصدر فيه أم لا وليس هذا محله وأصل معنى الميل الانعطاف ثم صار حقيقة عرفية في المحبة والقصد وهو المراد هنا، وقوله: بحيث الخ متعلق به وحمل الميل للنفس على الفعل جعلها متوجهة لإيقاعه والكلام في الإرادة من جهتين من جهة معناها اللغويّ ومن حهة المراد بها في لسان الثارع في وصف الله تعالى أو العبد بها وقول المصنف رحمه الله: لروع النفس الخ بيان لمعناها اللغوي. قال الراغب: الإرادة منقولة من راد يرود إذا سعى في طلب شيء وهي في الأصل قوّة مركبة من شهوة وخاطر وأمل وجعلت اسماً لنزوع النفس إلى الئيء مع الحكم فيه بأنه ينبغي أن يفعل أو لا يفعل ثم تستعمل مرة في المبدأ وهو نزوع النفس الى الشيء وتارة في المنتهى وهو الحكم فيه بأنه ينبغي أن يفعل أو لا يفعل اهـ فما قيل: هنا
من أنّ كون إرادة المعنى من اللفظ من هذا القبيل فيه بحث والظاهر أنّ الإرادة في الآية من هذا القبيل انتهى ليس بشيء لأنّ الإرادة فيما ذكره لمجرّد القصد وهو استعمال آخر وسواء قلنا إنه مشترك فيه أو مجاز صار حقيقة عرفية لا يرد نقضاً على الآخر وكذا ما قيل: بعد نقل ما في شرح المواقف من أنه يصدق على الشهوة وهرب غير الإرادة فإنّ المصنف بصدد تحقيق أصل معناه لغة لا ما ذكره المتكلمون وما ادّعاه من مغايرة الشهوة للإرادة ليس كذلك فإن بينهما عموماً وخصوصاً كما صرّح به الصدر في رسالة إثبات الواجب وهو المفهوم من كلام الراغب، وقد قالوا إنّ الإرادة قد تتعلق بنفسها بخلاف الشهوة التي هي توقان النفس إلى الأمور المستلذة فانها لا تتعلق بنفسها وإنما تتعلق باللذات وإذا ذكرت متعلقة بنفسها كانت مجازاً عن الإرادة كما قيل: لمريض ما تشتهي فقال: أشتهي أن أشتهي يعني أريد أن أشتهي والإنسان قد يريد شرب الدواء البثع ولا يشتهيه وقد يشتهي الطعام اللذيذ ولا يريده إذا علم أنّ فيه هلاكه فقد وجد كل منهما بدون الآخر وقد يجتمعان في شيء واحد فبينهما عموم وخصوص بحسب الوجود، وقوله: وتقال للقوّة الخ قد مرّ تحقيق معنى القوّة فتذكره، وقيل الإرادة في حقنا عبارة عن ميل النفس الدّي يعقبه اعتقاد يقع في المراد وأما العزم فنوع من الإرادة لأنه إرادة جازمة بعد نوع تردد سابق والإرادة لا تقتضي سبقه وقال الإمام لا حاجة إلى تعريف الإرادة لأنها ضرورية فإنّ الإنسان يدرك بالبديهة التفرقة بين إرادته وعلمه وقدرته وألمه ولذته، ثم حدها بأنها صفة تقتضي رجحان أحد طرفي(2/94)
الجائز على الآخر في الوقوع لا الإيقاع. قال: وبالقيد الأخير احترز عن القدرة. قوله: (والأوّل مع الفعل) أي الأوّل من معنى الإرادة اللغوية المذكورة في كلامه وهو الميل الحامل على إيقاع الفعل وإيجاده يكون مع الفعل وبجامعه وان تقدم عليه بالذات لأنه الحامل والباعث وهذا لا يقتضي إيجاده بالاستطاعة وهي القدرة التامّة المستجمعة لجميع شرائط التأثير بمعنى العلة التامّة والإرادة جزء منها إلا أنها مع الفعل بمنزلة جزء العلة الأخير ولما كان الثاني بمعنى القوّة وهي الصفة القائمة بالحيوان التي هي مبدأ الميل إلى أحد طرفي المقدور وإيقاعه كان قبله لأنه إذا وجد يعطي حكم تلك القوة بخروجه من القوّة إلى الفعل، أو المراد بها ما لم يكن معه جميع جهات حصول الفعل، والحاصل كما في شرح المقاصد أنّ القوّة مع جميع جهات حصول الفعل بها لزوماً أو معها عادة مقارنة وبدون ذلك سابقة فلا غبار على ما ذكر، وقوله وكلا المعنيين الخ عدم تصوّر الميل النفساني والقوّة التي هي مبدؤه في حقه تعالى ظاهر وكلا مبتدأ وغير متصوّر خبره واتصاف نائب فاعل متصوّراً ومبدأ وغير خبر مقدم والجملة خبر كلا ولا حاجة إلى جعله على نهج قوله:
غير مأسوف على زمن
قوله: (فقيل إوادته لأفعاله الخ الما كان معنى الإرادة السابق لا يليق بذاته تعالى فسر
إرادته بتفاسير للمتكلمين من أهل السنة وغيرهم فأوّلها ما ذهب إليها المعتزلة كالكلبيّ والنجار
وكيرهما من أنّ معنى إرادته تعالى لأفعاله أنه يفعلها عالماً بها وبما فيها من المصلحة ولأفعال غيره أنه أمر بها وطلبها، وهذا هو مرضي صاحب الكشاف كما صرّح به في سورة السجدة وهو امر عدميّ بالنسبة إليه تعالى ووجوديّ بالنسبة لغيره فإما أن يكون موضوعا لمعنى شامل لهما، أو يقال: هو مشترك بينهما أو مجاز في الثاني فليس من الصفات السلبية على الإطلاق كما فيل 0 قوله: (فعلى هذا لم تكن المعاصي بإرادته) لأنّ العبد يخلق أفعاله عندهم بإرادته وارادة الله لها بمعنى أنه أمرهم بها وهو لا يأمر بالفحشاء ولا يريد المعاصي عندهم لأنّ الإرادة مذلول الأمر أو لازمه وأدلتهم مفصلة في كتب الكلام، وقد ردّ مذهبهم بأنه مخالف لما اشتهر من أنّ ما شاء الله كان وما لم يشألم يكن وأنه لا يجري في ملكه إلا ما يشاء وأن الأمر قد ينفك عن الإرادة كأمر المختبر فإنّ السلطان لو توعد بعقاب السيد على ضرب عبده من غير مخالفة فاذعى مخالفته له وأراد تمهيد عذره بعصيانه له بحضرة السلطان فيأمر العبد ولا يريد منه الإتيان بالمأمور به بل ظهور عصيانه، وقال: خاتمة المحققين جلال الملّة وا أط ين الأمر أمران أمر تكوين يلزم منه وقوع المأمور به وهو يعم سائر الممكنات وأمر تشريع وعليه مدار الثواب والعقاب والطاعة هي الإتيان بما يوافق الأمر الثاني والرضا يترتب عليه. قوله: (وقيل علمه باشتمال الآمر على النظام الخ) هذا رأي الجاحظ وبعض المعتزلة إليه ذهب الحكماء فقالوا: إرادته تعالى هي علمه بجميع الموجودات من الأزل إلى الأبد وبأنه كيف ينبغي أن يكون نظام الوجود حتى يكون على الوجه اكمل وبكيفية صدوره عنه حتى يكون الموجود على وفق المعلوم على أحسن النظام من غير قصد وطلب شوقيّ ويسمون هذا العلم عناية والأمر شامل للفعل والترك والنظام اكمل بالنظر إلى العالم والوجه الأصلح بالنظر إلى العبد وقوله فانه الضمير للعلم أي العلم يدعو القادر على الأمر المذكور إلى تحصيله، وهذا بناء على أنّ الإرادة ليست سوى الداعي إلى الفعل في الشاهد والغائب جميعا أو في الغائب خاصة، قالوا وهو العلم أو الاعتقاد أو الظن باشتمال الفعل أو الترك على المصلحة ولما امتنع في حق الباري الظن والاعتقاد كان الداعي في حقه تعالى هو العلم بالمصلحة وبمثل نظام جميع الموجودات لى علمه السابق عليها مع الأوقات التي يليق وقوعها فيها. قالوا: وهذا هو المقتضي لإفاضة ذلك النظام على ذلك الترتيب والتفصيل إذ لا يجوز أن يكون صدوره عن الواجب وعن العقول المجردة بقصد د ارادة ولا يجب بطبعه ولا على سبيل الاتفاق والجزاف لأنّ العلل الغائية لا لمعل لغرض في الأمور السابقة فقد صرّحوا في إثبات هذه العناية بنفي ما نسميه الإرادة كما لزره في شرح المقاصد فتدبر. قوله: (والحق أنه ترجيح أحد مقدوريه الخ) هذا مذهب(2/95)
أهل السنة، ولذا قال المصنف رحمه الله والحق إشارة إلى بطلان ما سواه فهي صفة ذاتية قديمة
وجودية زائدة على العلم! ومغايرة له وللقدرة وقوله بوجه الخ احتراز عن القدرة فإنها لا تخصص الفعل ببعض الوجوه بل هي موجدة للفعل مطلقا وليس هذا معنى الاختيار كما توهم وقد أورد على المصنف أنّ الإرادة عند الأشاعرة الصفة المخصصة لأحد طرفي المقدور وكونها نفس الترجيح لم يذهب إليه أحد وفي شرح المواقف الإرادة عند الأشاعرة صفة مخصصة لأحد طرفي المقدور بالوقوع فالميل الذي يقولونه لا ننكره لكنه ليس إرادة بالاتفاق ولو كانت نفس الترجيح الذي هو من صفات الأفعال كانت صفة حادثة وليس مذهب أهل السنة، والجواب بأنه تعريف لها باعتبار التعلق، ولذا قيل إنها على الأوّل مع الفعل وعلى الثاني قبله أو أنه تعريف لإرادة العبد لا وجه له أما الأول فلأنه لا يكون مغايراً لما بعده، وأمّا الثاني فالسياق والسباق مناد على خلافه وكذا القول بأنّ المراد بيان معنى الإرادة مطلقا سواء كانت إرادة الله أو إرادة العبد، وأعجب منه قوله إنّ وقوع الإرادة بمعنى الصفة المخصصة لا يستلزم عدم وقوعها بمعنى التخصيص نفسه ويعد كل كلام فكلامه هنا لا يظهر وجهه فليحرّر. قوله: (وتخصيصه بوجه دون وجه) أي مقدور الفعل والترك والوجه المذكور حسنه أو قبحه ونفعه أو ضرّه وما يحويه من زمان ومكان وما له من ثواب أو عقاب وقوله وهي أعنم الخ مأخوذ من كلام الراغب والمراد بالميل الترجيح والتفضيل كونه عنده أفضل مما يقابله لأنّ الاختيار أصل وضعه افتعال! من الخير وقد استعمله المتكلمون بمعنى الإرادة أيضا إلا أنه قيل إنه لم يرد بهذا المعنى في اللغة، ولذا قال الفاضل ابن العزفي تفسير قوله تعالى: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَارُ} [سورة القصص، الآية: 68] وليس الاختيار هنا بمعنى الإرادة كما يقول المتكلمون إنه فاعل بالاختيار وفاعل مختار فإنه معنى حادث وبقابله الإيجاب عندهم فلا ينبغي أن يحمل عليه القرآن والاختيار في اللغة ترجيح الشيء وتخصيصه وتقديمه على غيره وهو أخص من الإرادة والمشيئة وفي المحكم خار الشيء واختاره انتقاه، وفي التنزيل واختار موسى قومه سبعين رجلاَ والمختار يكون ايى 3 فاعل ومفعول وهذا إمّا تفسير لإرادة الله كما مرّ أو لمطلق الإرادة الشاملة لإرادة العبد وعلى هذا لا يرد عليه اختيار أحد الطريقين المستويين وأحد الرغيفين المتساويين للمضطرّ لأنا لا نسلم ثم إنه اختيار على هذا ولا حاجة إلى أن يقال إنه خارج عن أصله لقطع النظر عنه فتدبر. قوله: (وفي هذا استحقار واسترذال) أي تحقير وتنقيص له والاسترذال عذة رذلاً أي حقيراً وفي نسخة استخفاف بدل استحقار وهما بمعنى الكشاف وفي قولهم ماذا أراد الله بهذا مثلاً استرذال واستحقار كما قالت عائشة رضي الله عنها في عبد القه بن عمرو بن العاصي رضي الله عنهما: " يا عجباً لابن عمرو) هذا، وقول المصنف رحمه الله: وفي هذا معناه في لفظ هذا الواقع في النظم الكريم لأنّ اسم الإشارة يستعمل للتحقير كقوله:
أبعلي هذا بالرحى المتقاعس
وكقوله تعالى أهذا الذفي بعث الله رسولاً كما يكون للتعظيم بحسب اقتضاء المقام ويجوز
جعل الاستحقار من مجموع ماذا لأنّ الاستفهام قد يقصد به ذلك أيضاً كما يقال: من أنت وقد جؤز بعضهم في قول المصنف وفي هذا أن يكون هذا إشارة إلى التركيب وعبارة الكشاف محتملة لو لم يمثل بقول عائشة رضي الله عنها فحمله على هذا كما قيل: بعيد ولك أن تقول إن المصنف رحمه الله أسقط الحديث المذكور لهذا وللاختصار وهو منزع حسن لا يبعد عن مقاصده. قوله: (ومثلأ نصب على التمييز الخ) في الكشاف مثلاً نصب على التمييز كقولك لمن اجاب بجواب غث ماذا أردت بهذا جوابا ولمن حمل سلاحا رديئأ كيف تنتفع بهذا سلاحا وذكر أرباب الحواشي هنا تبعا للفاضل التفتازانيّ هنا في شرحه أنه كثر في الكلام التمييز عن الفئممير وقد يكون عن اسم الإشارة وتمامهما بنفسها من جهة أنه يمتنع إضافتهما وذلك إذا كانا مبهمين لا يعرف المقصود بهما مثل يا له رجلاً ويا لها قصة ويا لك من ليل ونعم رجلا وأشباه ذلك والعامل هو الضمير واسم الإشارة فقد جوّزوا أعمالهما كما في سائر الأسماء الجامدة المبهمة التامّة بالتنوين ونحوه أمّا إذا كان المرجع والمشار إليه معلوما كما في قولنا جاءني زيد لله دره رجلا(2/96)
ويا لك رجلا في الخطاب لمعين، " وقال الله عز قائلاَ " أو من قال: " ولقيت زيدا قاتله الله شاعرا " وانتفع بهذا سلاحا فالتمييز عن النسبة وهو نفس المنسوب إليه كما في قوله: " كفى زيد رجلاَ " و " ويلتم أيام الشباب " معيشة وأمثال ذلك، ومعلوم أن هذا في الآية إشارة إلى المثل وفيما أورد من المثالين إلى الجواب والسلاح فالتمييز فيهما عن النسبة وهي نسبة التعجب والإنكار إلى المشار إليه. (أقول) هذا برمته مأخوذ مما قرّره نجم الأئمة الرضي في باب التمييز وفيه بحث لأنهم قالوا التمييز يكون لمفرد أو لنسبة والعامل في الأوّل المميز ولو جامدا وفي الثاني أحد طرفي النسبة وهذا لا كلام فيه إنما الكلام في أنّ تمييز المفرد يكون بعد تمام الاسم المميز ومعنى تمامه أن يكون عاى حال لا يمكن إضافته معها وذلك إمّا بإضافته أو كونه فيه لنوين أو ما يشبهه من نون تثنية وجمع لأنه إذا تمّ شابه الفعل التامّ بفاعله فيشبه التمييز بعده المفعول فلذا نصبه وعمل فيه وعلى هذا اقتصر أكثر النحاة والرضي زاد عليهم أنّ الاسم قد لكون بنفسه تاما لا بشيء آخر، وذلك في شيئين الضمير واسم الإشارة إذا تعين المقصود بهما بذكر مرجع الضمير والمشار إليه كما فصله ولخصه اك! ارح المحقق هنا ولا يخفى أنّ اسم الإشارة لا ينفك باعتبار الوضع عن أنّ يشار به إلى معلوم الذات بقرينة لازمة لفظية نحو جاء هذا الرجل أو حالية لتعين المشار إليه حسا وإنما سمي مبهما لأنّ مسماه لا يفهم منه بلا قرينة فليس في الإبهام كعشرين الذي لا ينفك عن الإبهام وضعا وابهام هذا إنما هو للذهول عن القرينة ولذا ذكر الدمامينيّ في شرح التسهيل أنّ بعض النحاة قال: إنّ ما قاله الرضي غير مرضي وفيه كلام ليس هذا محله فليحرّر. قوله: (أو الحال كقوله الخ) قال أبو البقاء: مثلاً حال من اسم الله أو من هذا أي ممثلاً أو ممثلاً به أي المعنى على الأوّل ممثلاً وعلى الثاني ممثلا به
وهذا هو الظاهر وقوله كقوله: {هَذِهِ نَاقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَةً} [سورة الأعراف، الآية: 73] ظاهر فيه ولذا قال الشارح المحقق الحال من اسم الإشارة بأن يكون هو ذا الحال وأما العامل فهو الفعل ولا حاجة إلى جعل العامل اسم الإشارة وذي الحال الضمير المجرور أي الذي في أشير إليه مثلا وعلى هذا فالتمثيل بقوله هذه الخ في مجزد أن الحال اسم جامد وإلا ففي الآية العامل في الحال اسم الإشارة مثل هذا بعلى شيخا وهو ردّ على من قال إنّ العامل فيه اسم الإشارة كما نقله أبو حيان رحمه الله في البحر وايقاء مثلاً تمييزاً أو حالاً من هذا يشعر بأنه إشارة إلى المثل لا إلى ضرب المثل على ما هو أحد م! شتملي الضمير في أنه ال! ق ولكم بيان لآية وإنما أتى بنظير للثاني لوقوعه جامداً على خلاف قياس الحال ولما كان التمييز جامداً في أكثر لم يمثل له فالقول بأنه يحتمل أن يقال: إنه جعل آية حالاً أو تمييزاً عن ضمير لكم فاكتفى به في تمثيلهما بعيد جدّاً فلذا لم يلتفتوا إليه. قوله: (جواب ماذا الخ) قذم في النظم الضلال على الهداية مع سبق الرحمة على الغضب وتقدمها بالرتبة والشرف لأنّ سؤالهم ناشئ من الضلال مع أن كون ما في القرآن سببا للضلال! أحوج للبيان لأنّ سببيته للهدى في غاية الظهور فالاهتمام ببيانه أولى ثم إن فيما ذكره المصنف رحمه الله أموراً (منها) أنه جعل ما ذكر جوابا والعلامة الزمخشريّ لم يلتفت إليه لأنه كما قيل: تعسف يصان عنه ساحة الإعجاز إذ الاستفهام ليسر باقيا على معناه حتى يكون له جواب وكونه محكياً ومقول القول يأبى الجواب غاية الإباء كما في قوله تعالى: {أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ} فإنّ المقصود به إبطال اعتقادهم فلذا تعين رفعه لا لأن وجوب المطابقة مخصوص بما إذا اتفق السائل والمجيب على الفعل وكان السؤال عنه كما مرّ تقريره، وأجيب بأنه على تقدير كون الاستفهام للإنكار ومعناه ليس في ضرب الأمثال بالمحقرات فائدة يعتد بها جعل جوابا ورذاً له بأنّ فيه فائدة وأي فائدة وهي إضلال كثير وهداية كثير وقريب منه ما قيل: من أنه لا يفهم من كلام المصنف أنّ الاسنفهام غير باق على حقيقته وأنه للاستحقار فقط لجواز إرادة الاستفهام الاستحقار معا أو يقال الجواب لدفع الاستحقار والمصنف رحمه الله تعالى ليس أبا عذرة هذا وقد سبقه إليه غيره كأبي عليّ الفارسيّ حيث قال: في كتاب القصريات: فإذا ليس مفعول أراد لأنه استوفى مفعوله وهو ماذا أو ضميره المقدر، وقوله يضل الخ على وجهين إمّا جواب عن سؤالهم على المعنى لا على اللفظ أو صفة مثلاً(2/97)
والجواب وما يضل الخ على المعنى انتهى. فجنح إلى تعين الجوابية أو ترجيحها كما أشار إليه المصنف رحمه الله بتقديمها. (ومنها) أنّ حق الجواب على وجهي ماذا كما مرّ أن يكون باسم مرفوع أو منصوب وجوابه ما أشار إليه المصنف رحمه الله بقوله: وضع الخ وهو غني عن البيان وقوله: أي إضلال كثير بالرفع في النسخ اقتصاراً على أرجح الوجهين وأظهرهما وفي بعض الحواشي أنه يجوز فيه الرفع والنصب على الوجهين وفيه نظر ظاهر) ومنها) : أنه
قال: كما في أكثر النسخ المتداولة إضلال كثير وإهداء كثير وفي بعضها هدي كثير وهداية كثيرة وأورد على الأولى أنها خلاف الصواب لاتفاق أهل اللغة على أنه لا يقال أهدى من الهداية بل من الهدية فلا يصح منها الأفعال والازدواج غير مقيس وان قلنا إنه مشاكلة وهي من المجاز) قلت) قال ابن عطية في غير هذه السورة قرئ يهدي بضم الياء وكسر الدال وهي ضعيفة. وقال ابو حيان: حكى الفرّاء هدي لازما بمعنى اهتدى فإذا ثبت ما حكاه لم تكن ضعيفة لأنه أدخل على اللازم همزة التعدية انتهى. والقراءة وان كانت شاذة تثبت بها اللغة فثبت ما في بعض النسخ وان كان غريبا نادراً وقد نقله وأقرّه في الملتقط فلا وجه لإنكاره إلا عدم الوقوف على مثله في خبايا الزوايا واعلم أن ما ذكر ليس جوابا في الحقيقة للاستفهام ولا للإنكار والا. ستحقار لأن جواب الأوّل إنه أراد به التذكير وابراز المعقول في صورة المحسوس ليقرّ في الأذهان وجواب الثاني نظرا لظاهر الحال أنه جهل ناشئ من عمي البصيرة فنزل ما يؤول إليه الأمر منزلته وأوقع في موقعه وغير أسلوبه كما غير معناه ولذا جعله أبو عليّ في معنى الجواب وهذا ما وعدناك به فاعرفه. قوله: (وضع الفعل موضع المصدر الخ) إفادة الفعل للحدوث وهو الوجود بعد العدم من دلالته على الحدث المقارن للزمان والمراد بالتجدد الاستمرار في المستقبل وهو ما يقال: له استمرار تجددي والمضارع يستعمل له كثيرا كما صرّحوا به، ومنه علم اختيار المضارع هنا على الماضمي، ولذا قيل: المراد بالتجدد كثرته كما يشعر به التفعل ولما كان السؤال دالأ على عدم الفائدة ناسب في الرذ عليهم الدلالة على كثرة الفائدة المترتبة عليه فقط ما قيل عليه من أنه إن أريد بالتجذد الحدوث كان تكراراً بلا فائدة وإن أريد الحصول ضيئا فشيئا فليس بلازم للفعل ولا داخلاً في مفهومه كما في حواشي المطوّل للشريف لأنه يفهم من خصوصية الحدث واقتضاء المقام وهو المراد ولذا عبر المصنف رحمه الله بالإشعار والمراد انه عبر بالمضارع ليدلّ على أنّ الإضلال والهداية المذكورين لا يزالان يتجددان ما تجدد الزمان لما مرّ وليس المراد أنه عدل إلى لفظ الفعل المضارع للإشعار بالتجدد والحدوث لكون الفعلين المذكورين في تأويل المصدر كما في نحو تسمع بالمعيدي خير من أن تراه كما توهم تشبثا لظاهر قوله وضع موضع المصدر لأنّ المراد أنه عدل عما هو حق الجواب من الإتيان بالاسم الذي هو مصدر هنا سواء كان مرفوعا أو منصوبا وأتى بهذا الفعل بدله لما ذكر لا أنه جرّد الفعل فيه عن الدلالة على غير المعنى المصدري لأنه لو كان كذلك انسلخ عن الحدوث والتجدد كما لا يخفى، وقيل: إنه وضع الفعلان موضع الفعل الواقع في الاستفهام مبالغة في الدلالة على تحققهما فإنّ إرأدتهما دون وقوعهما بالفعل وتجافياً عن نظم الإضلال مع الهداية في سلك الإرادة لإيهامه تساويهما في التعلق وليس كذلك فإنّ المراد بالذات من ضرب المثل هو التذكير والاهتداء كما في قوله تعالى: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ} وما يعقلها إلا العالمون وأمّ الإضلال فعارض وهذا مسلك آخر في العدول عن مقتضى الظاهر وهو مع تكلفه
يأباه السياق لأنّ التمثيلى إذا لم يكن للإضلال لا يصل لوقوعه في موقع الجواب ولذا مدّ من موانعه فتدبر. قوله: (أو بيان للجملتين المصدّرتين بأما الخ) عطف على قوله جواب ماذا الخ وهذا ما اختاره في الكشاف من أنّ الجملتين المصدرتين بإمّا تشتملان على أمرين أحدهما إنّ كلا الفريقين موصوف بالكثر. ة وثانيهما أنّ العلم بكونه حقا من الهدى الذي يزداد به المؤمنون نورا إلى نورهم والجهل بموقعه من الضلالة التي يزاد بها الجهال خبطا في ظلمتهم وقوله يضل به الخ يزيد ما تضمنه الجملتان وضوحا، وفي الكشف أنّ هذا كما سيأتي(2/98)
في القتال! نوع من الكلام يسمى في البيان بالتفسير وليس المراد به أنه يجري مجرى عطف البيان لخفاء في الأوّل يحتاج إلى إيضاج فإنه يكون استئنافا وجاريا مجرى الاعتراض! تتميما للبيان كما نحن فيه ويكون عطف بيان أيضا ومنه يعلم أن جعله جواب ماذا على معنى إضملالاً كثيراً وهدي كثيرا والعدول إلى الفعل لإرادة التجدد ليس بشيء وفيه تكلف يصان عنه النظم اهـ وهو ردّ على المصنف رحمه الله كما بيناه لك أوّلاً مع ما يعلم منه الجواب عنه أيضاً فتذكر. قوله: (وتسجيل بأن العلم بكونه حقاً الخ (التسجيل والإسجالط كتابة السجل وهو في العرف الكتابي الحكمي فأريد به لازمه وهو الحكم والجزم وقوله وبيان معطوف على قوله هدى ويجوز عطفه على قوله تسجيل والأوّل أولى وأقرب وأصل معنى البيان الكشف والمراد أنه إظهار لما هو مقصود منه كقوله تعالى: {هَذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى} [سورة آل عمرأن، الآية: 138] وجعله هدى مبالغة لأنه أثره ومنه جاء، وقوله لحسن مورده يقتضي أنه من المثل وقد تبع فيه الزمخشرفي. وقال في الكشف: إشارة إلى أنه غير مرضي ليس المثل بمعناه المصطلح بل أعمّ وكون المورد بمعناه اللغويّ خلاف الظاهر والمراد بالضلال فقد الطريق المستقيم، وقوله فسق وفي نسخة فسوق أي خروج عن تلك الطريق وفيه إشارة إلى دخول ما بعده في البيان. قوله: (وكثرة كل واحد من القبيلين الخ) يعني أنّ الأمرين المتقابلين وإذا وصف أحدهما بالكثرة المتبادر ووصف مقابله بالقلة وتحقيقه أنه إذا كان كذلك فلا خفاء فيه فإذا وصفا معاً بالكثرة لا يخلو أن تكون كثرتهما بالنسبة لشيء آخر أو لكل في نفسه بقطع النظر عن غيره أو نسبة كل منهما للآخر فعلى الأوّل محذور فيه كما أنّ العشرة والعشرين كل منهما يتصف بالكثرة نظراً للخمسة وكذا على الثاني فإنّ المقف ارين الكثيرين كثيران في نفسهما وإن قل أحدهما بالنسبة للآخر وأمّا على الثالث فلا يصح لأن إذا كان كل منهما كثيراً بالنظر لمقابله يلزم اتصاف كل منهما بالقلة والكثرة من جهة واحدة وأنه إذا قيل هذا أكثر من ذا لزم كون ذا قليلاً فإذا قيل: إنه أيضا أكثر منه كان قليلا كثيراً معا وهو باطل إلا أن يكون مختلف الزمان فما ذكره المصنف تبعا للزمخشريّ إن كان دفعاً لهذا فالمراد أنّ كثرته نجالنظر له في نفسه لا بالنظر لمقابله فلا محذور فيه كما صرّح به في قوله بالنظر إلى أنفسهم لا بالقياس إلى مقابلهم، وان كان المراد أنّ المهتدين من كل طائفة وفي كل عصر
اقل من غيرهم لقلة الأخيار وكثرة الأشرار في كل عصر وقطر كما يومئ إليه قوله فإن المهديين فليلون بالإضافة إلى أهل الضلال فمحصل الجواب بعد تسليم أنه كذلك أنّ قلتهم بالنسبة لأضدادهم لا تنافي كثرتهم في نفسهم بقطع النظر عما سواهم فإن أريد دفع المنافاة رأسا ولو بحسب الظاهر تحمل الكثرة على الكثرة المعنوبة بجعل كثرة الخصائص اللطيفة بمنزلة كثرة الذوات الشريفة كما قيل:
ولم أر أمثال الرجال تفاوتت لدى المجد حتى مد ألف بواحد
ولكون هذا غير متبادر من الكثرة لا سيما وقد ذكر معها الكثرة الحقيقية فالظاهر أنهما
على نمط واحد ولذا قال بعض الفضلاء: أنه في غاية البعد وإن كان ما علله به من أن النظر الى المعنى يوجب وصف أهل الضلال بالقلة لا وجه له عند من تدبر قول المصنف رحمه الله كثرة الضالين من حيث العدد. قوله: (كما قال سبحانه وتعالى: {وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} الخ [سورة سبأ، الآية: 13] (قيل إنه لا يدلّ على ما قصده فإنّ الشكور المبالغ في الشكر إلا أنه تبع في هذا الزمخشريّ حيث قال: فإن قلت لم وصف المهديون بالكثرة والقلة صفتهم {وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} وقليل ما هم، الناس كإبل مائة لا تجد فيها راحلة، وجدت الناس أخبر نقله الخ وقد قيل في جوابه أنّ الشكور هو المتوفر على أداء الشكر بقلبه ولسانه وجوارحه في كل أوقاته فيكون واصلا إلى المرتبة الرابعة من الهداية كما مرّ في الفاتحة وهم قليل بالإضافة لمن عداهم يعني أنّ المهديين أنواع وهؤلاء نوع منهم وقد وصفوا بالقلة بالنسبة لمن عداهم ومثله يكفي في التمثيل فلا وجه لإنكاره فتأمّل. قوله: (قليل إذا عدّوا الخ) هو من قصيدة طويلة للمتنبي يمدح بها عليّ بن يسار التميمي وأوّلها:
أقل فعالي بله أكثره مجد وذا الجد فيه نلت أولم أنل جد(2/99)
سأطلب حقي بالقنا ومشايخ كأنهم من طول ما التئموا مرد
ثقال إذا لاقوا خفاف إذا دعوا قليل إذا عدوا كثير إذا شدّوا
إلى آخر القصيدة وشهرة شعره وديوانه تغني عن بيانه، وثقال جمع ثقيل كخفاف جمع خفيف، وحقيقة الثقلة معروفة، والمراد به هنا ثقل وطأتهم على الأعداء إذا لاقوهم كما أنّ المراد بخفتهم إسراعهم إلى الحرب إذا دعاهم لها من ينتصر ويستعين بهم ودعوا بضم الدال والعين مجهول دعاه إذا ناداه للحرب وشدوا بفتح الشين المعجمة من شد للحرب وفي الحرب إذا قاتل وحمل على أعدائه، وأصل شد شدد من باب ضرب إذا قوي وشددته شدا أوثقته ومنه
شد الرحال كناية عن السفر وشد الحرب منه أيضا إلا أنه صه ار حقيقة عرفية فيه، وفي بعض ألفاظ هذا البيت تقديم وتأخيز في الديوان لا تغير المعنى كبير تغيير. قوله: (إن الكرام كثير في البلاد وإن الخ) هو من قصيدة طويلة لأبي تمام مدح بها عبد العزيز الطائي من أهل حمص وأولها كما في ديوانه:
يا هذه أقصري ما هذه بشر ولا الخرائد من أترابها الأخر
ومنها:
قالوا أتبكي على رسم فقلت لهم من فاته العين هدى شوقه الأثر
إنّ الكرام كثير في البلاد وان قلوا كما غيرهم قل وان كثروا لايدهمنك من دهمائهم عدد فإنّ جلهم بل كلهم بقر
إلى آخر القصيدة جعل البكاء على رسم الأحبة من الكرام ثم بنى عليه التخلص إلى المدح أو الاقتضاب منه إليه كما فصله في الكشف ومعنى البيت إنّ الكرام كثير في الدنيا باعتبار نفعهم وقيامهم مقام الكثير في الغناء والفائدة وإن كانوا قليلاً بحسب العدد كما أنّ غيرهم بعكس ذلك ففيه شاهد لإطلاق الكثير على القليل لكثرتهم المعنوية وهو المراد في هذا التوجيه، وقل كما في الرواية المعروفة بضم القاف وتشديد اللام اختلف فيه شراح الكشاف فقيل إنه جمع قليل ككثير، وقيل: إنه مفرد وارتضاه ابن الصائغ فهو في الأصل مصدر قل يقل قلة وقلا كذل يذل ذلة وذلاً وهذا هو الظاهر بحسب العربية ولعله على الجمعية جمع اقل كأغرّ وغر لا قليل على أنّ أصله قلل بضمتين كنذير ونذر فخفف وأدغم كما قيل: لأن قواعد الصرف تأباه فإنهم قالوا إنّ أول المثلين في كلمظ إذا تحرّك يجوز إدغامه بشروط منها أن لا يكون جمعا على وزن فعل بضمتين كسرر وذلل لئلا يلتبس بفعل بضم فسكون كحمر جمع أحمر ولما كان الجواب الأخير على التنزل وتسليم القلة ظاهراً كان الشعر مناسبا له حيث وصف فيه الكرام بالقلة في أنفسهم من حيث العدد وبالكثرة من حيث المرتبة وغيرهيم بالعكس، فلا وجه لما في الانتصاف من أن الاستشهاد بهذا البيت غير مستقيم لأنّ معناه إن الكرام وإن كانوا قليلا فالواحد منهم كالكثير في النفع واللئام بالعكس لقبض أيديهم عن الجود إن تبعه صاحب الأنصاف، وبقي هنا كلام في شرح الكشاف للطيبي رأينا تركه أهم من ذكره، وقد مر ما يرشدك إلى أن تقديم المؤمنين في قوله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا} [سورة البقرة، الآية: 26] الخ لشرفهم كما قيل:
فقلناله هاتيك نعمي أتمها ولاتبتئس إن المهم المقدم
وانّ تقديم الضالين بعده في قوله يضل به كثيراً الخ لمقتضى المقام فإنّ سؤالهم ناشئ من
الضلال وكون ما في القرآن سببا للضلال أحوج إلى البيان وقيل: لما كان سوق الكلام لبيان ضلال الكفرة كان تقديم حال المؤمنين وكونهم على الحق أدخل في تحقيق ضلالهم وأعون عليه وماذا بعد الحق إلا الضلال، فهو جار على مقتضى الحال لكن لما كان السياق في بيان حال الكفرة بالغ! ي ذمهم وأطنب في مثالبهم وهذا لم أر من تعرض له ولا يخفى ما فيه فتدبر. قوله: (أي الخارجين عن الإيمان الخ) قال الراغب: فسق فلان خرج عن حجر الثرع وذلك من قولهم فسق الرطب إذا خرج من قشره وهو أعم من الكفر والفسق يقع بالقليل والكثير من الذنوب لكن تعورف في الكبائر، ويقال للكافر فاسق لخروجه عن(2/100)
مقتض الفطرة والعقل قال تعالى: {أَفَمَن كَانَ مُؤْمِنًا كَمَن كَانَ فَاسِقًا} [سورة السجدة، الآية: 18] وقال ابن الأعرابي: لم يسمع الفاسق في وصف الإنسان في كلام العرب وإنما قالوا فسقت الرطبة عن قشرها. أنتهى. وفي الدرّ المصون زعم ابن الأنباري أنه لم يسمع في كلام الجاهلية ولا في شعرها فاسق، وهذا عجيب منه وقد قال رؤبة يذهبن في نجد وغوراً الخ (أقول) الظاهر أنه يعترض على ما ذكر بأنه كيف ينكر هذأ مع وروده في الأشعار القديمة كثيراً لا سيما وقد جاء في أفصح الكلام ولذا عده عجيباً، والعجب ممن لم يقف على المراد وحاد على طريق السداد فإن هذا مما اتفق عليه أئمة اللغة وقد عقد له ابن فارس في فقه اللغة بابا والعجب من صاحب المزهر أنه نقله عنه وتغ هنا المعرب وليس غفلة منه وإنما هو تغافل كما قيل:
ليس الغبيّ بسيد في قو! لن سيدهم هو المتغابي
قال ابن فارس رحمه الله في معرفة الألفاظ الإسلامية: كانت العرب في جاهليتها على
إرث من آبائهم في لغاتهم وآدابهم ونسائكم وقوانينهم فلما جاء الله تعالى بالإسلام حالت أحوال ونسخت ديانات وأبطلت أمور ونقلت من اللغة ألفاظ عن مواضع إلى مواضع أخر وعد منها حتى قال: ولم يعرفوا الفسق إلا قولهم فسقت الرطبة إذا خرجت من قشرها فجاء الشرع بأنّ الفسق إلافحاس في الخروج عن طاعة الله تعالى انتهى. وهكذا قاله غيره من أهل اللغة من غير تردد فيه وحاصله أنه خروج الأجرام وبروز الأجسام من غير العقلاء من كون لآخر من حيز إلى حيز فنقله الشرع في الإسلام إلى خروج العقلاء من الناس عن الطاعة وشاع بعد ذلك حتى صار حقيقة عرفية لغوية ومنه بيت رؤبة فإنه ليس شاعرا جاهليا مع أنه في خروج الإبل وهي لا تعقل أيضا فلم يخرج عن الوضع، ومما أحدثوه منه الفويسقة للفأرة والفاسقية لعمامة كانت معروفة
في العهد الأول وأما الفسقية للحوض فلم يرد في كلام العرب ولا أدري ما أصلها وبعض المتأخرين توهمها منسوبة للفسق فقال:
هجوت فسقيتكم عامداً لأنها في اللهو أصلية
أليس في فسق جمعتم بها فحق أن تدعي بفسقية
قوله: (قال رؤبة الخ) هو رؤبة بن العجاح الراجز المشهور وهو شاعر إسلاميّ بليغ يستدل بكلامه ورؤبة براء مهملة مضمومة يليها همزة ساكنة ثم باء موحدة وهاء تأنيث ويجوز إبدال همزته واواً لسكونها بعد ضمة وقوله في أدب الكاتب إنه بالهمزة لا غير مما خطئ فيه، وقد يقال مراده أنّ هذه مادّته الأصلية فلا خطأ فيه وهو علم منقول وأصله من رأب الشيء إذا أصلحه والبيت من أرجوزة طويلة له وهو:
يذهبن في نجد وضوراً غائراً فواسقا عن قصدها جوائرا
وهو من صفة نوق وإبل سائرة في المفازة والنجد ما ارتفع من الأرض! وبه سميت بعض
بلاد العرب والمراد الأوّل والغور بالفتح ما انخفض منها وغائرا صفة له من لفظه مؤكدة كليل أليل، وقوله يذهبن للنوق وفواسق بمعنى خوارج، والقصد هنا بمعنى الطريق المستقيم ويكون بمعنى الإرادة وجوائرا من جار عن الطريق إذا انحرف عنها وصرف فواسق وجوائر للضرورة أي أنّ الإبل تصعد وتهبط إذا عدلت عن جادّة السبيل. قوله: (والفاسق في الشرع الخ) يعني أنه نقل لكل خروج عن طاعة الله فيشمل الكفر والكبيرة والصغيرة لكنه اختص في العرف والاستعمال بمرتكب الكبيرة فلا يطلق على الآخرين إلا نادراً بقرينة ويدخل في أمر الله نهيه أيضاً بطريق اللزوم والدلالة إذ لا فرق بينهما وفي الأمر بالشيء نهي عن ضدّه أو على أن المراد بالأمر واحد الأمور، وهو ما جاء من قبل الله مطلقا والكلام في الكبيرة والاختلاف فيها مشهور وسيأتي، والمراد به ما كان شنيعاً من المحرّمات ويدخل فيه الإصرار على الصغيرة لأنها تصير كبيرة على ما اشتهر فلا حاجة إلى أن يزاد فيها هنا أو الإصرار على الصغيرة قيل: ولو ذكر كان أحسن، والتغابي بالمعجمة التغافل من غير غفلة كالتجاهل لمن يظهر والجهل وليس بجاهل من الغباوة وهي ضد الفطنة وف3 ارتكاب الكبيرة وما في حكمه إلى ثلاثة أقسام وفسر الأوّل بأن(2/101)
يرتكب الكبيرة في بعض الأحيان مع علمه بحرمتها وقبحها شرعا لكنه لغلبة الهوى وتزيينه لها كمن لم يعلم قبحها فيشبه الغبيّ ولذا كان متغابيا. قوله: (والثانية الانهماث الخ) الانهماك في الأمر الجد فيه والولع والتقيد به، ولذا فسره بقوله أن يعتاد الخ وقوله غير مبال بها يعني به أنه لكثرة ارتكابها واعتيادها لا يخاف وبالها والطعن بها يقال: لا أباليه ولا أبالي به أي لا أهتم به
ولا أكترث له قالوا: ولا يستعمل إلا مع النفي كغير هنا وهذا وان كان مستقبحاً لها إلا أنه لعدم المبالاة كأنه غير مستقبح بها فلذا لم يذكره وأما ارتكابها أحيانا مع عدم المبالاة فنادر لأنّ عدم المبالاة يقتضي الاعتياد غالبا فلا يرد عليه أن ثمة درجات أخر. قوله: (والثالثة الجحود وهو الخ) يقال جحده حقه ولحقه جحداً وجحودا إذا أنكره ولا يكوز إلا عن علم من الجاحد به كما صرح به أهل اللغة وانكار الأمور الدينية عندنا كما قاله ابن الهمام يكون كفرا إذا علم من الدين بالضرورة أو علم المنكر ثبوته ولح في العناد فإنه يكفر لظهور أمارة التكذيب وعند الشافعية قال النووي في الروضة ليس تكفير جاحد المجمع عليه على إطلاقه بل من جحد مجمعا عليه فيه نص وهو من الأمور الظاهرة التي يثترك في معرفتها الخواص والعوام كالصلاة وتحريم الخمر ونحوهما فهو كافر، ومن جحد مجمعا عليه لا يعرفه إلا الخواص كاستحقاق بنت الابن السدس مع بنت الصلب ونحوه فليس بكافر، ومن جحد مجمعاً عليه ظاهرا، لا نص فيه ففي الحكم بتكفيره خلاف انتهى. فلا خلاف بيننا وبينهم في هذه المساً لة فالمراد بجحدها جحد حرمتها فلا يستقبحها ولا يبالي بها ويكون ما جحده ما ذكرناه وعلى هذا يحمل كلام المصنف رحمه الله وتركه للعلم به ولتصريحه به سابقا في قوله يؤمنون بالغيب كما مرّ، فما أورد على المصنف رحمه الله من أنّ مرتكب الكبيرة المستصوب لها ليس كافرا مطلقا غير وارد ولا! ا-ة لما ور! رفه في دفعه! ط بر. قولى: (فإذا شارف هذا المقام الخ) مشارفة الشيء القرب منه وأصله من الشرف وهو المكان المرتفع فكأنه يطلع على محل عال لينظر ما يريده فيقرب منه والتخطي فعل الخطوة وهي نقل القدم والخطط جمع خطة بكسر الخاء المعجمة وتشديد الطاء المهملة قبل! اء تأنيث المكان الذي ينزل فيه المسافر ولم ينزله أحد قبله يقال. اختط وخط عليه إذا حظره وحدده لنفسه ثم صار بمعنى المحلة مطلقا وجمعه خطط يكسر ثم فتح بزنة عنب، والمقام هنا معنوي كالمنزلة والمرتبة، والمراد به الاتصاف بما ذكر من تحليل الحرام واستحسان القبيح واستصوابه، والربقة بكسر الراء المهملة وسكون الباء الموحدة بعدها تاف وهاء حبل فيه عروة تشد به البهائم والأسير ويجعلى في العتق ليقاد بها فإذا خلعت أي طرحت أو قطعت لم ينقد فلذا جعل خلع الربقة وقطعها عبارة عن عدم الطاعة والانقياد كما في قول المصنف رحمه الله خلع ربقة الإيمان من عنقه وهو كناية أو استعارة تمثيلية أو مكنية وتخييلية عما ذكر، فإن قلت ليس كل استصواب للكبيرة كفرا على أنه إنما يكفر الجاحد إذا جحد ما مر مما علم من الدين بالضرورة أو كان في حكمه لا إذا شارف الجحود فكلام المصنف رحمه الله غير صواب والصواب ترك المشارفة. قلت هذا مما يلوج في بادي النظر لإذا وقفت على مراد المصنف رحمه الله عرفت اندفاعه فإن أردت تحقيق ذلك فاصخ لما يتلى عليك واعلم أن المشار إليه بهذا المقام هو مقام الجحد لما علم من الدين بالضرورة وما يقوم
مقامه مما يدل عليه التكذيب وخلع ربقة الإيمان والدخول في الكفر لاتصافه بما يصير به كافرا عند أهل السنة لأنّ قوله خلع الخ جواب إذا فهو مرتب على مجموع مشارفة مقام هذا الجحد وتخطي مجال هذا المقام وخططه والضمير المضاف إليه الخطط راجع للمقام لا للشخص كما يقع في بعض الأوهام وتخطي تلك المحال إن لم يكن يتجاوزها فهو بالدخول فيها بغير مرية ولا شك حينثذ في كفره، وقوله لاتصافه بالتصديق مناد بتصديقه لمن ألقى السمع وهو شهيد، وإنما ذكر المشارفة لتصوير الحال وبيان ترتب الثالث على الثاني وتأدية الانهماك إلى الاستحلال وتعب يمره بالربقة إيماء لما يعقبه من نقض العهد وحباله " وخلع ريقة الإسلام من العنق " مما ورد بلفظه في الحديث الشريف. قوله: (لاثصافه بالتصديق الخ) قيل: إنه(2/102)
يدل على أنّ الإقراش ليس بركن من الإيمان بل شرط لإجراء أحكام الدنيا عليه كالصلاة عليه ودفنه في مقابرنا ونحوه ولا بد من أن يكون إقراره أيضاً على وجه الإعلان للمسلمين بخلاف ما إذا كان لإقمام الإيمان فإنه يكون بمجرّد أليهلم، والخلاف في القادر على التكلم لا العاجز كالأخرس ثم اختلف أهل التحقيق في المراد بالتصديق هنا هل هو المنطقي وهو الإذعان والقبول أو هو أمر آخر أخص منه ولذا قال بعض المحققين المعتبر في الإيمان التصديق الاختياري ومعناه نسبة الصدق إلى المتكلم اختياراً، وبهذا القيد يمتاز عن المنطقي فإنه يخلو عن الاختيار وذهب بعض المتأخرين إلى أنه بعينه المنطقيّ غايته أنه نوع منه بالمعنى اللغوي والتصديق والتسليم واحد كما يعلم من كلام كبار الصحابة وعلماء الأمة وتفصيله في الكلام وقد مر نبذ منه وقوله لقوله تعالى: {وَإِن طَائِفَتَانِ} الخ دليل على أنّ اسم المؤمن لا يسلب عمن لم يشارف الجحد فانّ الاقتتال كبيرة وقد أطلق على المقتتل أنه مؤمن ولو كان باغيا فقال: قاتلوا التي تبغي حتى تفيء الخ وحتى تقتضي الامتداد في البغي وهو انهماك فلا يرد عليه أنه لا دلالة فيها على أنّ اسم المؤمن لم يسلب عن المنهمك فإنه بمجرّد القتال لا يتحقق الانهماك. قوله: (والمعتزلة لما قالوا الخ) اختلف المعتزلة بعد اعتبارهم العمل في الإيمان هل المراد بالعمل الطاعة مطلقا أو الفرض فذهب بعضهم إلى الأوّل وبعضهم إلى الثاني، وهل الإيمان العمل فقط أو مجموع الثلاثة، ونزوله منزلة المؤمن أنه يحكم له بحكم الإيمان من
التناكح والتوارث والدفن والصلاة عليه وغير ذلك، وتنزيله منزلة الكافر في استحقاقه ا! لذم، التخليد في النار وعدم قبول شهادته، ومشاركتة للمؤمن فيما ذكر وفي أصل التصديق وللكافر مي عدم الطاعة وفيما ذكر وأول من أظهر المنزلة بين المنزلتين واصل بن عطاء حين اعتزل مجلس الحسن كما تقرّر في محله. قوله: (وتخصيص الإضلال الخ) التخصيص مأخوذ من الحصر وترتبه على الفسق من تعليقه بالمشتق كما مرّ من اقتضائه العلية المقدمة على المعلول رتبة ومرتبا بصيغة المفعول حال من الإضلال وقيل: إنه يجوز فيه أن يكون بصيغة اسم الفاعل حالاً من الفاعل المقدّر للتخصيص وهو الله تعالى وهو تكلف لا حاجة إليه وان جاز والضمير لي توله على أنه للفسق وما بعده يدل على أنّ الفسق هنا بمعنى الكفر لأنه يطلق عليه كما مر من شاع في الكبائر حتى اختص بها عرفا، والفاسقين منصوب على أنه مفعول يتجلى لأنه استثناء مفرّغ وأعد بمعنى هيأ فالفسق جعلهم مستعدين لخلق الله فيهم الضلال وأدى بهم بمعنى أوصلهم إلى الضلال به أي بما ذكر من المثل وبه سقط في بعض النسخ، وأذى متعد بنفسه، والمصنف رحمه الله عداه بالباء ففي كل من الفسق والميل سببية باعتبار كما أشار إليه بقوله لأنّ كفرهم الخ وإصرارهم بالباطل مضمن معنى تصريحهم به ولذا عداه بالباء والمعروف تعديه وهلى وقوله صرفت أنثه باعتبار الأمور المذكورة وترك قول الزمخشري إنّ إسناد يضل مجازي إلى السبب لابتنائه على الاعتزال مع ما يرد عليه من أنّ التصريح بالسبب في قوله به يأباه إلا أن ومال إنه تعالى تسبب بضربه المثل تسببا قريبا مع ما فيه مما يعلم من شرح الفاضل التفتازاني اقوله: وقرئ يضل على البناء للمفعول أي في هذا وفيما تقدم وكذا قرئ يهدي أيضا وكان مليه أن يذكره لئلا يرد عليه ما قيل: من أنه لم يوف هذه القراءة حقها وان قيل إنه سكت عنه احلمه بالقرينة فتأمل. قوله: (صفة للفاسقين) وجوز فيه القطع وأن يكون مبتدأ خبره جملة ا، لنك، ووجه تقريره للفسق أنّ الخروج عن العهدة خروج عن الإيمان وأصل معنى النقض لقون في الحبل ونقيضه الإبرام وفي الحائط ونحوه، ونقيضه البناء وظاهر كلام الراغب أنه في العقد والعهد حقيقة فلعله ملحق بالحقيقة لثيوعه فيه، وقد جوّز في قول الزمخشري من أين ساغ استعمال النقض في إبطال العهد أن يكون شاع بالشين المعجمة وعين مهملة وأن يكون
بسين مهملة وغين معجمة، والطاقات جمع طاقة وهي ما ينعطف بعضه على بعض من بناء أو جيل وقوله: واستعماله الخ في الكشاف، فإن قلت من أين ساغ استعمال النقض في إبطال العهد قلت: من حيث تسميتهم العهد بالحبل على سبيل الاستعارة لما فيه من ثبات الوصلة بين المتعاهدين(2/103)
ومنه قول ابن التيهان رضي الله عنه في بيعة العقبة يا رسول الله أنّ بيننا وبين القوم حبالاً ونحن قاطعوها فنخشى إن الله عز وجل أعزك وأظهرك أن ترجع إلى قومك، وهذا من أسرار البلاغة ولطائفها أن يسكتوا عن ذكر الشيء المستعار ثم يرمزوا إليه بذكر شيء من روادفه فينبهوا بتلك الرمزة على مكانه ونحوه قولك عالم يغترف منه الناس، وشجاع يفترس أقرانه قالط قدس سره يريد بيان الاستعارة بالكناية وما يكون قرينة عليها وتد اتفقوا على أنّ في مثل أظفار المنية يد الشمال استعارة بالكناية واستعارة تخييلية لكن اضطرب كلامهم في تحقيق الاستعارتين وفي أن قرينة الاستعارة بالكناية هل يلزم أن تكون تخييلية البتة وار، مثل لفظ الأظفار واليد هل هو مستعمل في معنى مجازي أم لا والأشبه بل الصواب ما أشار إليه المصنف وهو أنّ المستعار بالكناية في أظفار المنية هو لفظ السبع المذكور كناية بذكر شيء من لوازمه كالأظفار وهو مسكوت عنه صريحاً لكنه في حكم المذكور، وههنا قد سكت عن الحبل ونبه عليه بذكر النقض حتى كأنه قيل ينقضون حبل الله أي عهده والنقض استعارة تحقيقية تصريحية حيث شبه إبطال العهد بإبطال تأليف الجسم وأطلق اسم المشبه به على المشبه لكنها إنما جازت وحسنت بعد اعتبار تشبيه العهد بالحبل فبهذا الاعتبار صارت قرينة على استعارة الحبل للعهد وبهذا ظهر إن الاستعارة المكنية قد توجد بدون التخييلية وانّ قرينتها قد تكون استعارة تحقيقية وأمّا في مثل أظفار المنية فالمحققون على أنّ الأظفار ليس مستعملا في معنى مجازي محقق وهو ظاهر ولا يتوهم كما زعم صاحب المفتاح بل هو في معناه لكن إثباته للمنية استعارة تخييلية بمعنى جعل الشيء لشيء ليس هو له فقرينه الاستعارة بالكناية ههنا استعارة تخييلية ومذاهب القوم فيها مبسوطة في المعاني، وابن التيهان بكسر الياء على الصحيح وصوب المرزوقي الفتح ثم قال: والبيص، استشهاد لاستعارة الحبل للعهد صريحا ثم القطع لنقضه. (أقول) فيه بحث من وجوه الأوّل أنّ مقتضى كلام العلامة والشارح أنّ المكنية إنما تصح أو تحسن إذا علم تشبيه المذكور بالمكنى عنه قبل ذلك فعليه كيف يستعار يد الشمال والشمال لم تشبه قبل ذلك بإنسان ولم يعهد فيها ذلك ونظائره كثيرة وفي الكشف ما شاع تشبيهه قبل اقترانه بالتخييل بجعل كناية وان أريد بصورة التخييل معنى آخر فإن لم يعهد ذلك يجعل ما جعل في مثله تخييلا استعارة تبعية كما في {خَتَمَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهمْ} والثاني أنه قال: استفدنا من هذا أن قرينة الاستعارة بالكناية لا يجب أن تكون تخييلية بل قد تكون تحقيقية كاستعارة النقض لإبطال العهد ويرد عليه أنه لم يكون مستعملاً في معناه الوضعي وكون الحبل استعارة بالكناية يقتضي ذلك وكذا الافتراس والاغتراف واستعارة الحبل للعهد تأبى استعارة النقض للإبطال ومن قال استعارة النقض للإبطال
إنما جاءت بعد استعارة الحبل للعهد فقد عكس الأمر وقد قيل: إنّ كلام صاحب الكشاف لحتمل أن يكون النقض بعد إثباته للعهد كناية عن بطلانه كما أنّ نشبت مخالب المنية كناية عن الموت وأن يكون مراده شاع استعمال النقض في مقام إفادة إبطال العهد أو في إظهار إبطال العهد ولا يخفى أن جعل القرينة مطلق التخييل أقرب إلى الضبط. الثالث: لو كان النقض مجازاً عن إبطال العهد لزم أن يكون ذكر العهد مستدركاً فالوجه أا! ايقال بمعنى الإبطال فقط. الرابع: أنّ قوله والبيت استشهاد الخ لا معنى له فإنّ كلام ابن التيهان كلام منثور كماءذكره ارباب السير فأيّ بيت هنا ولك أن نجيب عن الأوّل بأنّ مراده اشتراطه فيما كان التخييل فيه مستعملاَ في معنى غير حقيقي فإنه لا يكون من روادفه ولوازمه حتى يدل عليه فإذا عهد قبل ذلك تشبيهه به يصح الانتقال إليه بمجرّد ذكر لفظ كان معناه لازماً له والا فلا وعليه ينزل للامهم، وعن الثاني بأنهم استعملوا كثيرا النقض بمعنى إبطال العهد وإن لم يذكر معه العهد كما في الأساس فالظاهر إجراؤه على ما تقرّر قبل ذلك، وعن الثالث بأنّ العهد خارج عن معناه خروج البصر عن العمى في قولهم العمى عدم البصر إذ لا بصر مع العمى ولا عهد مع النقض وعن الرابع: بأنه وقع كذا في النسخ وهو سهو من طغيان القلم، ورأيت في بعض النسخ(2/104)
البين لالنون بدل! اكء وكتب عليها بعضهم أي حديث البين أي الحديث الذي نحن بصدده المصدر بلفظ بين في قوله إن بيننا وبين القوم الخ ولا يخفى تكلفه من غير داع ولعل الاعتراف بالخطأ أحسن من هذا الصواب. قوله: (فإن أطلق مع لفظ الحبل الخ) بأن قيل ينقضون حبل الله يكون الحبل استعارة تصريحية والنقض ترشيح وإنما عبر بالمجاز للإشارة إلى أنّ الاستعارة المكنية حقيقة فلا يقال إنه لم يصادف محزه واستعمل أطلق مع الترشيح وذكر مع التخييل للتفنن ولا يخفى حسن الإطلاق مع الحبل والذكر مع العهد وقيل: لأنّ النقض لما كان في الأوّل ترشيحا كان مطلقاً على معنى ومستعملاً فيه ولما كان ههنا قرينة للاستعارة كان تابعاً له فكأنه لم يطلق على معنى بل إنما ذكر لينتقل إلى متبوعه والمراد بالروادف اللوازم ولا يخفى أنّ كلام المصنف راجع إلى ما قرّره في الاستعارة بالكناية محتمل لما يحتمله غيره وقيل إنه يشعر بأنّ الاستعارة لالكناية هي اللازم المذكور سمي استعارة لاستعارته للمشبه وبالكناية لأنه كناية عن النسبة وهو) نبات الحبلية للعهد، وهو قول رابع ذهب إليه في الكشف وحمل كلام الكشاف عليه فقوله إلى ما مو من روادفه ضمير هو راجع إلى النقض المستعار لما يرادفه من الإبطال المستلزم لأنّ العهد حبل بطريق الكناية وقيل: إنه عائد إلى ذكر النقض مع العهد لا إلى النقض كما توهم، وقيل: إن الظاهر أن يقال وهو العهد فتكلف في توجيهه والمعنى إن ذكر النقض كأن ر! زا إلى ما يتبع ذلك الذكر وهو الحكم على العهد بأنه حبل بطريق المبالغة في التشبيه فتأمّل. قوله:
(والعهد الموثق) قال الراغب: وثقت به اعتمدت عليه وأوثقته شددته وما يشذ به وثاق والوثاق والميثاق عقد يؤكد بيمين والموثق الاسم منه قال تعالى: {فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ} [سورة يوسف، الآية: 66] أو هو مصدر أو اسم موضع الوثوق فالعهد للوصية واليمين لأنها تعهد وتحفظ وللمنزل كما ذكره الجوهري والتاريخ أي للزمان المؤرخ به كما يقال فعل على عهد فلان كذا، والتاريخ قيل: إنه معرب ماء روز أي حساب الشهور والأيام وقيل إنه عربي وهو الأظهر إذ في الأوّل بعد ظاهر وقوله وهذا العهد أي المذكور هنا إمّا العهد المأخوذ بالعقل لأنه تعالى لما خلقه فيهم كأنه أخذ عليهم العهد ووصاهم بالنظر في دلائل التوحيد وتصديق الرسل إذ العقل كاف في ذلك، وأمّا وجوب النظر فيه فهل يجب عقلا أو شرعاً فمختلف فيه على ما تقرّر في الأصول ثم وثقه بإرسال الرسل وإنزال الكتب واظهار المعجزات فوجب الإيمان بجميعه قال الراغب: العهد المأمور بحفظه ضربان عهد مأخوذ بالعقل وعهد مأخوذ بإرسال الرسل والمأخوذ بالرسل مبيّ على المأخوذ بالعقل ولا يصح إلا بعده ومعه وقد حملت الآية عليهما، وقال الإمام: المراد بهذا الميثاق الحجة القائمة على عباده الدالة لهم على صحة توحيده وصدق رسوله فعلى هذا يلزم الدمّ لأنهم نقضوا ما أبرمه الله تعالى من الأدلة التي كررها عليهم في الأنفس والآفاق وأوح في العقول من دلائلها وبعث الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وأنزل الكتب مؤكداً لها والناقضون على هذا الوجه جميع الكفار، وقوله تعالى: {وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ} إشارة إلى آية: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ} الآية فإشهادهم على أنفسهم خلق العقل فيهم وإقامة الحجج وسيأتي بيانها، وقوله أو المأخوذ بالرسل الخ يعني المراد بالعهد ما عهد إليهم في الكتب السالفة هن أنه إذا بعث إليهم صدقوه فيكون المراد بالناقضين أهل الكتاب والمنافقون منهم وبؤيده أنّ المستهزئين بالأمثال كما روى ابن حبان أحبار اليهود، وما نقله من أنّ العهود المذكورة في القرآن ثلاثة عهد أخذ على جميع بني آدم بالعقل والحجة كما مرّ وعهد أخذ على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بالتبليغ وأن لا يتفرّق مدعاهم في التوحيد وعهد أخذ على العلماء أن لا يكتموا ما علموه هذا ليس تفسيراً للأية لأن عهد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لا تصح إرادته إذ لا نقض (منهم) بل المراد الأوّل وهو أحد الوجهين السابقين ويصح إرادة الأخير بأن يكون المراد بالعلماء علماء أهل الكتاب كاليهود ربالناقضين الكفار والمنافقين منهم، واعلم أنه على التفسير الأوّل للعهد الظاهر أنه مجاز بأن تشبه الحجج والبراهين التي
اقتضاها العقل بالعهود والمواثيق فيهيف يكون(2/105)
استعارة مكنية اللهم إلا أن يكون من قبيل فأذاقها الله لباس الجوع والخوف فتأمّله فإنهم سكتوا عنه.
قوله: (الضمير للعهد الخ) الميثاق مفعال وهذا الوزن في الصفات كثير مصرح به في
النحو كمنحار ومعطاء لكثير النحر والعطاء ويكون مصدراً أيضا عند الزمخشري وأبي البقاء كميلاد وميعاد بمعنى الولادة والوعد وأنكره بعض النحاة حتى إنّ ابن عقيل وابن عطية أوّلاً قول الزمخشريّ بأنه واقع موقع المصدر كعطاء بمعنى إعطاء، ويكون اسم آلة كمضراب ومرقاة مرآة ومحراث وهذا لم يذكره النحاة أيضا لكنه وقع ألفاظ منه مستعملة لذلك وهو قريب لأن مفعل بالكسر من أوزانها فكأنه إشباع له ولا مانع منه وقد حمله عليه هنا بعض أرباب الحواشي، وفي الكشاف الضمير في ميثاقه للعهد وهو ما وثقوا به عهداً لله من قبوله وإلزامه أنفسهم ويجوز أن يكون بمعنى توثقه كما أن الميلاد والميعاد بمعنى الوعد والولادة ويجوز أن يرجع الضمير إلى الله أي من بعد توثقته عليهم أو من بعد ما وثق به عهده من آياته وكتبه وانذار رسله، وفي الكشف فإن قيل: قد فسر العهد بالموث وهو والميثاق واحد ولهذا فسر موثقا من الله بما أوثق به من الله تعالى فإن رجع الضمير إلى العهد كان المعنى من بعد ميثاق الميثاق وهو غير ظاهر، أجيب بأنّ العهد لما فسر بما ركز في العقول أو ما أخذ الله عليهم من التصديق صار بمعنى المعاهد عليه فجاز أن يضاف إليه الميثاق وهو ما يقع به الوثاقة من التزامهم القبول على أنّ ميثاق الميثاق غير ممتنع فإنه تأكيد له وذلك أنّ ما ركز في عقولهم من الحجج على وجوده وقدرته وحكمته وجوده ميثاق وتأييده بالحجج السميعة وارسال الرسل ميثاق الميثاق ثم الأولى أن يرجع الضمير إلى الله تعالى (أقول (كونه أولى ظاهر إذ ليس فيه إضافة الشيء إلى نفسه المحتاج إلى التأويل المذكور وقد خفي على بعضهم ولم يلتفت إلى عود الضمير إلى المضاف إليه وهو خلاف الفصيح المعروف لأنه إنما هو في كير الإضافة اللفظية وأمّا فيها فمطرد كثير وما نحن فيه كذلك لأنه مصدر أو مؤوّل بمشتق كما أشار إليه فيكون كقولك أعجبني ضرب زيد وهو قائم ووجهه أنها في نية الانفصال فالمعترض لم يفهم كلامه. قوله: (وما وثق الله به عهده) أخر الزمخشري هذا الوجه قيل: لأن الثاني أبلغ في الذم وهو المراد من قوله ينقضون عهد الله على ما صرّح به نفسه فإن نقضهم العهد الذي أحكموه بالقبول والالتزام أشنع من نقغهحهم العهد الذي لم يحكموه ولكن أحكمه الله ثم الوجه الثالث لأن الأحكام وان كان مطلقاً لكن المقام يعين ما حاشية الشهاب / ج 2 / م اا
هو اللائق له وقوله بمعنى المصدر ومن للابتداء مرّ الكلام فيه. قوله: (يحتمل كل قطيعة لا يرضاها الله سبحانه وتعالى الخ) حمله المصنف على العموم والزمخشري خصه فقال معناه قطعهم الأرحام وموالاة المؤمنين، وقيل قطعهم ما يين الأنبياء عليهم الصلاة والسلام من الوصلة والاتحاد والاجتماع على الحق في إيمانهم ببعض وكفرهم ببعض وقد رجح الوجه الأوّل من وجهي التخصيص بأنّ الظاهر أنه توصيف للفاسقين بأنهم يضيعون حق خلق الله بعد وصفهم بتضييع حق الله تعالى وتضييع حقه تعالى بنقض عهده وتضييع حق خلقه بقطعهم أرحامهم وقيل: إخه لا منافاة بين كلام المصنف رحمه الله تعالى والكشاف لأن قوله: {الَّذِينَ يَنقُضُونَ} متصل بقوله: {إِلاَّ الْفَاسِقِينَ} وهو إما مظهر وضع موضع المضمر وهم الطاعنون في التمثيلات التنزيلية وحينئذ لا يخلو إما أن يراد بهم المشركون فالمراد بقطع الأرحام عداوتهم لرسول الله يتت! هـ وامّا أن يراد بهم أهل الكتاب فالمراد قطعهم ما بين الأنبياء عليهم الصحلاة والسلام من الوصلة لإيمانهم ببعض وكفرهم ببعض وأما عام في جميع الفسقة فحينئذ يحمل على ما قاله القاضي رحمه الله ويدخل فيه أحد الفريقين على البدل دخولأ أولياً بشهادة سياق الكلام انتهى وفيه نظر، وقوله وترك الجماعات المفروضة كالجمعات لأنها سبب للألفة بين المؤمنين التي من الله بها في قوله: {لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ} [سورة الأنفال، الآية: 63] وقوله: فإنه يقطع الخ تعليل لقوله وسائر الخ فإنه يشمل الشر والرفض المتعلق بالفاعل في نفسه كتركه الصلاة ولا قطع فيه ظاهر، وهذا مع ظهوره تردّد في معناه بعضهم، وفي القطع(2/106)
والتوثيق ترشيح للمكنية. قوله: (والأمر هو القول الطالب للفعل) إسناد الطالب مجازي وحقيقته الدال على الطلب والأمر يكون بالمعنى المصدري فالقول على ظاهره وبمعنى الصيغة فالقول بمعنى المقول وتعميم الطالب يشمل المندوب وهو حقيقة فيه عند بعض الشافعية، واشتراط الاستعلاء الأعم من العلوّ مذهب الجمهور والكلام عليه مبسوط في كتب الأصول. قوله: (وبه سمي الأمر الذي هو واحد الأمور) أي نقل الأمر الطلبي إلى الأمر الذي يصدر عن الشخص لأنه يصدر عن داعية تشبه الأمر فكأنه مأمور به أو لأنه من شأنه أن يؤمر به وهو الذي أشار إليه المصنف رحمه الله تعالى بقوله فإنه الخ كما سمي
الخطب والحال العظيمة شأنا وهو مصدر في أصل اللغة بمعنى القصد سمي به ذلك لأنه م!! ضأنه أن يقصد وليس الكلام على هذه الأقوال مما يهمنا فإن كتب الأصول كفت مؤنته،، إنما الكلام في واحد الأمور والأوامر فإنّ أهل الأصول قالوا إنّ الأمر بمعنى القول المخصوص يجمع على أوامر، وبمعنى الفعل والشأن على أمور ولا يعرف من وافقهم إلا الجوهري في قوله أمره بكذا أمرا وجمعه أوامر وأمّا الأزهري أمام أهل اللغة فقال: الأمر صد النهي واحد الأمور وفي محكم ابن سيده لا يجمع الأمر إلا على أمور ولم يذكر النحاة أد فعلا يجمع على فواعل، وفي شرح البرهان إن قول الجوهري غير معروف وإن الأوامر صح بوجوه الأول أنه جمع آمر بالمد بوزن فاعل وصح أنه اسم أو صفة لما لا يصقل وهو مجاز لأن الآمر الشخص لا القول ولم يقولوا إنّ هذه الصيغة مجاز فكيف يخرج عليه للامهم مع تصريحهم بأنها جمع أمر، الثاني: أنه مجاز جمع آمرة وهي الصيغة وفيه ما مر، وعن ابن سيده أن الآمرة مصدر كالعافية وعليه خرجت هذه الصيغة وفيه نظر الثالث أنه حمع الجمع جمع على أفعل كأكلب وهو على أفاعل كأكالب وردّ بأنّ أوامر ليس أفاعل بل! راعل بخلاف أكالب وأجيب بأنه يخوز أن ي! س ن فاعل أبدلت همزته واواً كأوادم وهو قياس مطرد، وفرب شرح المحصول أنه لا يتم في النواهي وكونها جمع ناهية مجازاً تكلف وكذا ثونه لمشاكلة الأوامر فإنه يستعمل مفرداً فتأمل. قوله: (وأن يوصل الخ) ترك احتمال الرفع سقدير هو اًن يوصل لتكلفه لفظاً ومعنى، ورجح البدل من الضمير المجرور لفظا لقربه، معنى لأنّ قطع ما أمر الله بوصله اً بلغ من قطع وصلى ما أمر الله به نفسه وهو ظاهر راحتمال النصب بالبدلية من محل المجرور والنصب بنزع الخافض أي من اًن يوصل لا داعي له سوى تكثير السواد وقيل: إنه مفعول لأجله أي لأن يوصل أو كراهة أن يوصل. مرله: (بالمنع عن الإيمان) بالنهي عنه وغيره والاستهزاء بالحق من الأمثال المنزلة وغيرها، - الوصل كرطب جمع وصلة وقوله التي الخ بيان لكون قطعها إفساداً في الأرض والحمل لحلى جميع هذه الأمور أولى. قوله: (الذين خسروا الخ) قال الفاضل في شرح الكشاف: انه إشارة إلى أنهم جعلوا بمنزلة المتاجرين على طريق الاستعارة المكنية حيث استبدلوا شيئاً سنميء أنتهى. وفال الطيبي ة بشير إلى أنّ تلك الاستعارة التي سبقت في قوله ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه متضمنة للاستبدال المستعار له البيع والشراء استعارة قوله اشتروا الضلالة
بالهدى، ولذا ذيل بقوله أولئك هم الخاسرون فإنّ الخسران لا يستعمل إلا في التجارة حقيقة فتكون قرينة للاستعارة الققدّرة شبه استبدال النقض بالوفاء المستلزم للعقاب بالاشتراء المستلزم للخسران) أقول) هذا من خبايا دفائنه فإنه جعل فيه التخييلية نفسها مع قرينتها مكنية، وأثبت لها تخييلية أخرى فيكون في الجملة الأولى مجاز بمرتبتين بل بمراتب إذا كانت مكنية في العهد تخييلية في النقض كما مرثم جعل مجموع الجملة مكنية تمثيلية وأثبت تخييلا آخر فانظره فإنه من سحر البلاغة قلما يعثر عليه غير صاحب الكشاف فلقه در اً بيه ولعلك يرد عليك ما يشفي الغليل فيه والباء في كلام المصنف رحمه الله داخلة على المتروك كما سيأتي تحقيقه ثم إنّ الخسران يكون بإضاعة رأس المال كله أو بعضه وبالضرر عدم الفائدة فإهمال العقل الخ بمنزلة إضاعة رأس المال والاقتناص الصيد وهو معطوف على العقل أو النظر ولم يذكر القطع، والوصل مع ذكره في النظم(2/107)
والكشاف لاندراجه في الإفساد كما يعلم من تفسيره، وعبر بالاستبدال في الإنكار والطعن وبالاشتراء في النقض والفساد للتفنن وقيل: لأنّ الاستبدال فيه مبالغة لتركهم ما في أيديهم، إلى غرة ليست في الاشتراء لأنه يعبر به عن الرغبة، وفيه نظر. قوله: (استخبار فيه إنكار وتعجيب الخ) ألاستخبار طلب الخبر بالجواب كما أنّ الاستفهام طلب الفهم منه، والفرق بينهما أنّ الاستخبار لا يقتضي عدم العلم بخلاف الاستفهام فلذا يستعمل الأوّل في حقه تعالى وان كان كل منهما قد يستعمل بمعنى الآخر فإن قلت الاستخبار لا يخلو من أن يكون معنى حقيقياً لصيغة الاستفهام أو مجازياً، والإنكار والمتعجب والتعجيب من معانيه المجازية فعلى الأؤل يلزم الجمع بين الحقيقة والمجاز وعلى الثاني يلزم الجمع بين معنيين مجازيين وكلاهما مما يمتنع، ولذا قيل: الأولى أن يقولي استخبار بمعنى التوبيخ والتعجيب إذ ليس هو في الحقيقة استخبار (قلت) ذكر سيبويه أن أرأيت بمعنى أخبرني وقالوا قاطبة في باب التعليق أنه معنى مجازي فدلالته على التعجب ونحوه إمّا تجوّز على تجوّز لشهرة الاستفهام في معنى الاستخبار حتى كأنه حقيقة فيه وإن كان في أرأيت أشهر أو أنّ! لالته على ذلك بطريق الاستتباع واللزوم لا من حاق اللفظ فلا محذور فيه، والقائل غفل عن قوله والمعنى أخبروني ولا مانع من اذعاء الحقيقة فيه، وتعجيب وقع في نسخة موافقا لما في الكشاف وفي أخرى تعجب قيل: والأولى أولى لما في التيسير أن كيف تكون للتعجب نحو انظر كيف يفترون على الله أي تعجب يا محمد وللتعجيب أي الحمل على التعجب كما هنا ومنهم من فسر التعجب هنا بمعنى أنه يتعجب منه كل عاقل يطاء عليه والا فحقيقته محالة عليه تعالى ولا يخفى أن التعجب إذا أطلق عليه تعالى كما في حديث " عجب ربكم " يكون بمعنى الاستعظام كما صرح به في الكشاف في غير هذا المحل لأن العجب روعة
تعتري الإنسان عند استعظام الشيء وهو محال عليه تعالى فيراد به غايته والإنكار بمعنى أنه كان الواجب أن لا يكون وقد يكون بمعنى أنه لا يكون وكلام الكشاف مشعر بأنه بالمعنى الثاني: ولكن مراده أنه لا ينبغي أن يكون بل ينبغي أن لا يكون لقوّة الصارف عنه كما لا تكون المحالات لاستحالتها في أنفسها، ولهذا اً ضاف إلى الإنكار التعجيب كما فعل المصنف رحمه الله والعجب لا يكون إلا مما وقع فمع ذكره لم يبق في كلامه احتمال آخر لكنه شدد في إنكاره فلا عبرة بتوهم خلافه. قوله: (بإنكار الحال التي يقع عليها على الطريق البرهاني الخ) في الكشاف بعدما ذكر أنه للأنكار والتعجيب حال الشيء تابعة لذاته فإذا امتنع ثبوت الذات تبعه امتناع ثبوت الحال فكان إنكار حال الكفر لأنها تتبع ذات الكفر ورديفها إنكار الذات الكفر وثباتها على طريق الكناية وذلك أقوى لإنكار الكفر وأبلغ، وتحريره أنه إذا أنكر أن يكون لكفرهم حال يوجد عليها وقد علم أنّ كل موجود لا ينفك من حال وصفة عند وجوده ومحال أن يوجد بغير صفة من الصفات كان إنكاراً لوجوده على الطريق البرهان أص. وفي المفتاح {كَيْفَ تَكْفُرُونَ} الخ المعنى التعجب ووجه تحقيق ذلك هر أنّ الكفار في حالى صدور الكفر عنهم لا بدّ أن يكونوا على إحدى الحالين إمّا عالمين بالته دمامّا جاهلين به فلا ثالثة فإذا قيل لهم: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ} وقد علمت أنّ كيف للسؤال عن الكفر وللكفر مزيد اختصاص بالعلم بالصانع وبالجهل به انساق إلى ذلك فأفاد اً في حال العلم بالله تكفرون أم في حال الجهل به ثم إذا قيل {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} [سورة البقرة، الآية: 28] وصار المعنى: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ} والحال حال علم بهذه القصة وهي أن {كُنتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ} الخ صير الكفر أبعد شيء عن العاقل فصار وجوده منه مظنة التعجب ووجه بعده هو أن هذه الحالة لابى أن لا يكون للعاقل علم بأنّ له صانعا قادراً عالما حيا سميعاً بصيراً موجوداً غنيا في حميع ذلك عن سواه قديماً غير جسم ولا عرض حكيما خالقا منعما مرسلا للرسل باعثأ مثيبأ معاقباً وعلمه بأن له هذا أنصانع يأبى أن يكفر، وصدور المعل عن القادر مع الصارف القري مظنة تعجب وتعجيب وانكار وتوبيخ فصح أن يكون قوله تعالى: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ} الخ تعجباً وتعجيباً وتوبيخأ وانكاراً اهـ. والحاص!! أنّ كيف للسؤال عن الحال على طريق(2/108)
الإنكار الذي هو نفي معنى ونفي الحال مطلقاً أو الحال التي لا تنفك عنه يلزم منه نفي
صاحبها بطريق الدليل والبرهان، فلذا قيل: كيف تكفرون على طريق الكناية ولم يقل أتكفرون مع أنه أظهر وأخصر ولا خلاف بحسب المآل بين كلامي الشيخين إلا أنّ كلام الزمخشريّ يشعر بأن كيف ههنا لإنكار الحال على العموم إمّا لأنّ وضعها لعموم الأحوال كما نقل عنه أنها للتعريض فهو أنسب أو لأنّ توجه النفي والإنكار إلى مطلق الحال وحقيقته توجب العموم أو لأنه وجب الحمل على ذلك لمقتضى المقام بوجود الصارف اللازم، وما في المفتاح أنّ للكفر مزيد اختصاص بالعلم بالصانع والجهل به فالمعنى أفي حال العلم به أو الجهل والحال أنّ معكم ما يقتضي العلم على ما سمعت قيل: إنه أولى لأن كيف في هذا الموقع يكون سؤالاً عن حال الفاعل عند مباشرة الفعل لا عن حال الفعل نفسه مما هو بمنزلة التابع له ولرديف ألا ترى أنّ معنى كيف يجيء زيد أراكباًاًم ماشياً وأجيب بأنّ مراد الزمخشريّ أيضا هذا وهو المراد بحال الكفر ولا ينافي كونه تابعاً له اً لا ترى إلى ما ذكره في السؤال الأخير من استبعاد ما آل إليه المعنى وهو على أيّ حال تكفرون حال علمكم بهذه القصة ثم جوابه بأن هذا السؤال لإنكار الذات بإنكار الحال للاستفهام عن الحال لينا ني القطع بإثبات الحال. (أقول) : فلا مخالفة حينئذ إلا أنّ الحال المنفية جميع الأحوال التي يلزم من نفيها نفي ذيها أو حالاً العلم والجهل اللتان لا يخلون عنهما والأمر فيه سهل والاشتغال بترجيحه عبث إلا أنهم سلموا أنها لا تكون سؤالاً عن حال الفعل وليس كذلك فإنها كما تكون سؤالاً عن حال الفاعل وهو ظاهر تكون عن حال الفعل أيضا قال ابن الشجري إنها تكون سؤالاً عن هيئة الفعل التي يقع عليها كما تقول: كيف زيد جالسا أي جلوسه على أيّ حال نقله عنه في شرح التسهيل، فعليك بتنزيل كلام المصنف رحمه الله على مامرّ.
تنبيه: جمع بين التعجب والتعجيب في المفتاح وقد عدهما المفسرون معنيين متقابلين
حنى اعترض ابن كمال باشا على المصنف رحمه الله في ذكره التعجب وقال: كان عليه أن يقول وتعجيباً فتأمل. قوله: (وأوفق لما بعده من الحال الخ) يعني وكنتم الخ لما فيها مما يقتضي عدم الكفر ونفيه ثم بين أنّ الخطاب على طريق الالتفات من الغيبة للتوبيخ والتقريع لأنّ ذكر معايب الشخص في وجهه أنكى له وقوله مع علمهم الخ هو محصل الجملة الحالية كما سيأتي، وسوء المقال هو قولهم ماذا أراد الله ونحوه ولا يضرّ كونه كناية كما مرّ وقوله أخبروني إشارة إلى معنى الاستفهام وعلى أيّ حال إشارة إلى أنها في معنى جارّ ومجرور واقعة موقع الحال. قوله: (أجساماً لا حياة لها الخ) يعني أنه أطلق عليهم أمواتا قبل الاتصاف بالحياة
والموت عدم الحياة عما هي قن شأنه وقال في الكشاف إنه يقال لعدم الحياة مطلقا كقوله تعالى: {بَلْدَةً مَّيْتًا} [سورة الفرقان، الآية: 49] ويجوز أن يكون استعارة لاجتماعهما في أن لا روح ولا إحساس، وقيل: عليه إنه لا خفاء في أنه من قبيل صم بكم فتسميته استعارة تسامح أو ذهاب إلى ما عليه البعض والحاصل أنا لا نسلم أنّ الموت عدم الحياة عما هي من شأنه بل عدم الحياة مطلقاً ولو سلم فالمعنى كنتم كالأموات والسؤال في مثل أمتنا اثنتين أظهر لظهور أنّ الإماتة إزالة الحياة وقد أطلقت بالنظر إلى الإماتة الأولى على إيجاد الجماد الذي لا حياة فيه، والجواب أنّ الإماتة لا تستلزم أن تكون تغييراً من الحياة إلى الموت كما يقال: وسع الدار وقصر الثوب بمعنى أوجده كذلك ثم إطلاق الموت على الحالة الجمادية إمّا حقيقة فلا إشكال وامّا استعارة فيلزم الجمع بين الحقيقة والمجاز في {أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ} لا في هذه الآية بالنظر إلى الإماتة الثانية (أقول) إنه لم يقصد تشبيه الموجودين منهم بالاً موات بل المراد الإخبار عنهم بأنهم كانوا جمادا عناصر ونطفا ونحوها فشبه النطف بالأموات فكيف يكون تشبيها، وهذا غفلة نعم إنّ العناصر ونحوها أعرق في عدم الحياة فلا يحسن جعلها مشبهة، ولذا قال ويجوز إشارة إلى ضعفه كما هو دأبه وتقديم الموت على الحياة حينئذ ظاهر لتقدّمه عليها فيما من شانه أن يتصف بهما حيث كان مضغة كما سيأتي تحقيقه في سورة الأنعام ومن اعترض! عليه فقد غفل، وكذا من قال لا بد لصحة الحمل من تقدير كانت موادّ أبدانكم وأجزاؤها(2/109)
أمواتا وأمّا ما ذكر من لزوم الجمع بين الحقيقة والمجاز فليس بوارد لأنه إما تغليب في تلك أو استعمال للإماتة في مطلق عدم الحياة ولا يتعين فيها الاستعارة المصطلحة فيكون معنى أمتنا اثنتين قدّرت لنا عدم الحياة مرّتين كما أشار إليه الشريف. في شرح المفتاح في تحقيق قوله ضيق فم الركية وسيأتي في محله والعناصر الأربعة معلومة وكذا الأغذية والأخلاط جمع خلط كرزق بمعنى مخلوط أو المخالط وهي الدم والصفراء والبلغم والسوداء الحاصلة من الغذاء ولذا أخرها في الذكر وقوله بخلق الأرواح الخ إشارة إلى حدوث الأرواح، وإن اختلف في أنه قبل البدن أو حال حدوثه واتصاله بما قبله باعتبار المرتبة الأخيرة ولو عطف بثم باعتبار غيرها جاز وآجال جمع أجل وتقضيها انقضاؤها. قوله: (أو للسؤال الخ) قال السدي أي ثم يحييكم في القبر ثم إليه ترجعون في الآخرة فإن ثم للتعقيب على سبيل التراخي فدل على أنه لم يرد حياة البعث فإن الحياة حينئذ يقارنها الرجوع إليه تعالى بالحساب والجزاء ويتصل به من غير تراخ والمصنف رحمه الله أشار إلى دفعه بقوله بعد الحشر فيجازيكم الخ فليس على هذا الرجهع للحساب بل للعقاب والثواب وهو بعده بمدة طويلة فإن قلت لا مهلة بين الإماتة واحياء القبر كما في الحديث: " إن الميت يسمع صوت نعال أهله في القبر " حين الإحياء قلت بينه وبين الإماتة زمان ليس بين الإماتة الأولى والإحياء وهي مدة تجهيزه والصلاة والدفن والتراخي أمر نسبيّ ثم إنه قيل: لم لا
يجوز أن يراد مطلق الإحياء بعد الإماتة الشامل للإحياء في القبر والنشور فإنّ الفعل وإن لم يدلّ على العموم فلا يلزم أن يكون للمرّة غاية الأمر أنّ الإحياءين لشدة ارتباطهما واتصالهما في الانقطاع عن أمر الدنيا وكون القبر أوّل منزل من منازل الآخرة عبر عنهما بلفظ واحد وحينئذ لا يرد السؤال بأنه لم ترك ذكر أحد الإحياءين وأق الإحناآت ثلاث ولم قال: أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين ولا يرد عليه أن ثم تأباه لعدم التراخي بين إماتة الدنيا واحياء القبر لما مرّ والجواب أنّ الفعل لا يعمّ كما بين في الأصول فلو عمّ لكان مجازا ولا قرينة عليه ولو سلم عمومه لشمل جميع الحياة بعد الدنيا فلا يصح قوله: {ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} فتأمّل وأمّا الكلام على الإحياء ثنتين فسيأتي ثمة وقوله بعد الحشر راجع إلى التفسير الأوّل وقوله أو تنشرون إلى الثاني وقوله فما أعجب كفركم مرتبط بقوله أخبروني وقوله: مع علمكم بحالكم هذه إشارة إلى أنّ مجموع الجمل حال مؤوّل بالعلم فلا حاجة إلى تقدير قد ولا يضرّ اختلاف أزمنتها كما ستراه عند تصريح المصنف رحمه الله. قوله: (فإن قيل إن علموا أنهم الخ) فإن قلت عدمهم الأوّل حياتهم محقق عند كل أحد فكيف صدر بأن التي للشك وكيف يترتب على علمهم هذا عدم العلم بذلك حتى تنعقد هذه الشرطية قلت الشك عندهم باعتبار الإسناد إليه تعالى لا باعتبار نفسها أو أنه نزل علمهم لعدم الجري على مقتضاه منزلة غير المحقق ولعدم تحققهم الأوّل لم يتحققوا الثاني أو أن وصلية وفي الكلام تقديم وتأخير أي هم لم يعلموا الحياة الأخرى وان علموا الأول أو القضية اتفاقية نحو إن كان الإنسان ناطقا فالحمار أ، هق وأجاب بأن تمكنهم من العلم منزلة العلم لا سيما وقد نبههم على ذلك بذكر خلقهم الأوّل الذي هو أنموذج القدرة الدالة على الإعادة بالطريق الأولى، وقوله ليس بأهون عليبما لم يقل الإعادة أهون عليه على وفق النظم قيل: لئلا يحتاج إلى التأويل بأهون بالنسبة ومن غفل عنه أوّله هنا وقيل: إنه إشعار بأنه يكفي في المطلوب فتأمل. قوله: (أو الخطاب مع القبيلين) في نسخة القبيلتين والأولى أصح وهو معطوف على قوله مع الذين كفروا السابق في تفسير: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ} والمراد بالقبيلين المؤمنون والكافرون وتبيين دلائل التوحيد بقوله اعبدوا ربكم الخ والنبوة بقوله: {وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ} [سورة البقرة، الآية: 23] الخ والوعيد على الكفر بقوله: {فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ} الخ والنعم
11! امة بقوله: {الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ} الخ والخاصة قيل في قوله: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ} الخ. وقيل في قوله: {وَكُنتُمْ أَمْوَاتاً} باعتبار ما في ضمنها من حياتهم فرادى فرادى، ميل: هي الحياة الثانية الأبدية لأنها تخص الإنسان، ولك أن تقول المراد به الإيمان والعلم على تفسير الحياة به واستقباح الكفر في قوله: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ} الخ. ليتحامى المؤمنون عن
ااكفر وتنزجر الكافرون. قوله: (مع أن المعدود عليهم(2/110)
نعمة الخ) إشارة إلى ما في الكشاف من،، جيه وقوع الماضوية حالاً بدون قد بأنّ الواو ولم تدخل على {كُنتُمْ أَمْوَاتاً} وحده بل على " وله: {كُنتُمْ أَمْوَاتاً} إلى {تُرْجَعُونَ} أنه قيل: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ} وقصتكم هذه وحالكم أنكم ر تم أمواتا نطفا في أصلاب آبائكم فجعلكم أحياء {ثُمَّ يُمِيتُكُمْ} بعد هذه الحياة ثم يحييكم!! د الموت ثم يحاسبكم ثم أجاب عن أنه كيف يكون المجموع حالاً وب4 الماضي والمستقبل! قلاهما لا يثسح أن يكون حالاً حاضراً فما الحال الذي وقع بأنه هو العلم بالقصة كأنه قيل: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ} وأنتم عالمون بهذه القصة وبأوّلها وآخرها وحاصله على ما قرر. الشارح قدس سره أنه ليس مما وقع فيه الجملة الماضوية حالاً فيحتاج إلى قد بل الواو الحالية كالواو العاطفة افصة على أخرى وكون مجموع القصة حالأ مما تفرّد به والمعتبر في الحال المقارنة لزمان، نرع العامل لا الزمن الحاخسر الذي هو زمان التكلم للقطع بصحة قولنا جاء زيد في السنة الماضية وقد ركب وسيجيء زيد يركب وفي التنزيل: {سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [سورة غافر، الابه: 60] فإن قيل: ينبغي أن لا يشترط في الماضي قد وأن لا يشترط في المضارع التجرد عن حرف الاستقبال وأنه يصح جئت وقام الأمير بدون إضمار قد وسيجيء زيد سيركب لصحة
المقارنة والحضور وقت الفعل على أنّ قد إنما تفيد التقريب إلى الحال الذي هو زمان التكلم لا زمان وقوع العامل بل ربما تفيد التبعيد كما في قولك جاء زيد قبل هذا بشهور بل دهور وقد ر كب الأمير قلت اشترط التحلي بقد ليشعر بالحضور حال وقوع العامل من جهة كونها في ا، صل للتقريب إلى الحاضر في الجملة فإنّ الماضي لاستقلاله بالمضي لا يفيد المقاربة وإن نان العامل أيضا ماضيا بل ربما يوهم أنه ماض بالنسبة إليه سابق عليه واشتراط التجرّد عن علم الأستقبال لمثل ذلك وليكون مما يصلح للحاضر فليتأمل. اه والحاصل أنّ معنى قولهم لتقرب
الماضي عن الحال أي من حال وقوع العامل لا حال التكلم فتقارنه وهذا صرّح به المحققون من النحاة وكلامه هنا سالم من الطعن بخلاف ما وقع له في شرح التلخيص فإنه كلام مختل تبع فيه الرضي:
وليس أوّل سار غرّه القمر
وأما قول أبي حيان: أنّ ما ذكره الزمخشري تعسف وانّ الجملة الأولى فقط حالية وما بعدها مستأنف وأنّ الماضي يقع حالاً بدون تقدير قد فمخالف للمعقول والمنقول ولا عبرة بتأييده بوقف القراء على الجملة الأولى فإن الوقف لا يلزم أن يكون تاما والتمسك بمثله واه وحاصل الجواب أنها لإيصا ايا إلى النعمة العظمى نعمة والثاني أنّ المجموع نعمة لكل واحد منها وإنما ذكرت لبيان جملة حالهم ولتوقف البعض عليها. قوله: (أو مع المؤمنين خاصة الخ) عطف على قوله مع الكفار أو مع القبيلين وعلى هذا جعل الأمور المذكورة للامتنان وزاد تقرير لتقدم المنة عليهم في قوله وبشر الخ وحمل الموت على الجهل والحياة على العلم مجازاً كما اشتهر التجوّز به قال الزمخشرفي:
لاتعجبن الجهول بزنة فذاك ميت وثوبه كفن
ليكون مختصا بهم ولذا خص الرجوع بالرجوع للثواب والتنعم وعلى الوجه الذي قبله يصح
حمله على ذلك مع الاسندلال وأما على الوجه الأوّل فيتعين الاستدلال والإنكار حينئذ بمعنى أنه لا يكون ذلك وهذا مأخوذ من قوله في التيسير ويجوز أن يكون الخطاب للمسلمين والمعنى كيف تكفرون نعم الله عليكم وقد كنتم آمواتاً بالكفر أو الجهل {فَأَحْيَاكُمْ} بالإيمان أو العلم وهما تفسيران والمصنف رحمه الله جمعهما في قوله العلم والإبمان وعمم لأنّ فيهم من لم يتدنس بالكفر أصلا، فإن قلت على ما في التيسير يكون الكفر كفران النعم وهو يتعذى بنفسه تقول: كفر النعمة ونقيض الإيمان يتعدّى بالباء تقول كفر بالله وما في الآية من الثاني فكيف يصح تفسيره بالأوّل. قلت أجيب عنه بالمنع فإنهما يتعديان نجالباء قال تعالى: {وَبِنِعْمَتِ اللهِ هُمْ يَكْفُرُونَ} [سورة النحل، الآية: 72] وفي كلام الراغب إشارة إليه ولو سلم فباب التضمين والمجاز غير مسدود. قوله: (والحياة حقيقة في القوّة الحساسة الخ) هدّان قولان مذكوران في الكلام فالصحيح نسخة أو العاطفة ووقع في بعضها الواو بدلها واطلاقها على النمو والعلم ونحوه مجاز وعلاقته إما المشابهة أو ما ذكره المصنف رحمه الله، وكونها من طلائعها ظاهر لأنها لا تكون إلا بعده كما في الجنين والموت بإزائها(2/111)
أي مقابل لها تقابل العدم والملكة لا تقابل التضاد والحيّ من أسمائه تعالى، وحياته صحة اتصافه بالعلم والقدرة فتكون مطلقة عليه باعتباو غايتها أو صفة أخرى ذاتية تقتضي ذلك فتكون
استعارة وقوله اللازمة لهذه القوّة فينا زاد فينا لأنها لا تلزم في غير الإنسان وهو حيّ واللزوم في البعض يكفي لصحة المجاز ورجع يكون لازما ومصدره الرجوع ومتعدياً ومصدره الرجع وعلى اللغة الثانية قرى يرجعون مجهولاً وعلى الأخرى قرئ معلوما.
قوله: (بيان نعمة أخرى مرتبة على الأولى الخ) الأولى هي الإحياء الأول والثاني مع ما لخلل بينهما من الموت والثانية هي المعاش والبقاء في الدنيا والآخرة أما البقاء في الدنيا فلا لكون إلا الغذاء ونحوه وهو مترتب على الخلق ومتأخر عنه وهو ظاهر وأما البقاء الأخروي لبالنظر في المخلوقات من الأنفس والآفاق والتمكن منه مع تركه فمن اتصف بالأول يخلد في النعيم ومن اتصف بالثاني يسجن سرمداً في عذاب الجحيم والخلود مترتب على البعث والجزاء متاخر عنه من غير تردّد وعبارة المصنف رحمه الله ناطقة بهذا وصرّح بالبقاء المطلق وأدوج في الانتفاع الانتفاع الديني والاستدلال فمن غفل عنه اعترض بأن ترتب هذه النعمة على الأولى لا لصح لأنه يقتضي التأخر، وآخر الأولى لا يحصل إلا في الآخرة فكيف تتأخر عنه النعم الدنيوية وايضا هذه النعمة خلق ما يتوقف عليه بقاؤهم فيلزم تقدمه على البقاء بلا مرية فيقدم على الإحياء الثاني لتأخيره عن البقاء الأول فلا يتصوّر ترتبها على الأولى، وأجاب بأنّ الترتب بالنظر الى القصد دون الوجود فإن الأولى لما كانت هي المقصودة بالذات والثانية لأجلها صح اعتبار الترتيب القصدي وهو لا ينافي التقدّم الوجودي، وقوله مرّة بعد أخرى إشارة إلى تكرر الإحياء في الآية السابقة وأغرب من هذا من قال المراد بالأرض ما يشمل أرض الجنة فصح الترتب. مإن قلت لا يستفاد من الآية الأولى إلا إحياؤهم وخلقهم دون كونهم قادرين قلت هو معلوم من دلالة الفحوى لأنهم لو لم يكن لهم قدرة لم يستحقوا الوعيد وينكر عليهم ترك السبيل الواضح. قوله: (ومعنى لكم لأجلكم وانتفاعكم الخ) يعني أنّ اللام للتعليل والانتفاع كما يقال دعا له وفي ضده دعا عليه والاستنفاع طلب النفع وقوله بوسط أو بغير وسط دفع لما يخطر يالبال من أن كثيراً منها ضار كالسباع والحشرات وبعضها لا فائدة له أصلاَ كالهوام بأنها كلها
نافعة إما بالذات كالمأكول والمركوب ونحوه وما يتراءى منه خلافه فهو نافع لنا باعتبار تسببه لمنافع غيره ألا ترى السباع الضارية تهلك كثيراً من الحيوانات التي لو بقيت أهلكت الحرث والنسل والثمار والحيات تقتل بسمها الأعداء ويتخذ منها الترياق إلى غير ذلك مما إذا تاتل العاقل عرف ذلك. قوله: (لا على وجه الغرض الخ) إذا ترتب على فعل أثر فذلك الأثر من حيث إنه نتيجة لذلك الفعل وثمرته يسمى فائدة ومن حيث إنه علي، طرف الفعل ونهايته يسمى غاية له ففائدة الفعل وغايته متحدان بالذات ومختلفان بالاعتبار ثم ذلك الأثر المسمى بهذين الاسمين إن كان سببا لإقدام الفاعل على ذلك الفعل يسمى بالقياس إلى الفاعل غرضاً ومقصوداً، ويسمى بالقياس إلى فعله علة غائية فالغرض والعلة الغائية متحدان بالذات ومختلفان بالاعتبار وان لم يكن سببا للإقدام كان فائدة وغاية فقط والغاية أعمّ من العلة الغائية إذا تمهد هذا فنقول أفعال الله تعالى يترتب عليها حكم ومصالح ومنافع راجعة إلى مخلوقاته وليس شيء منها غرضا له وعلة غائية لفعله واستدلوا على ذلك بوجهين أحدهما أنّ من كان فاعلاَ لغرض فلا بد أن يكون وجود ذلك الغرض أولى بالقياس إليه من عدمه وان لم يصح أن يكون غرضاً فيكون الفاعل حينئذ بفعله مستفيدا لتلك الأولوية ومستكملاً بغيره تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا لا يقال إنما يلزم الاستفادة والاستكمال إذا كانت المنفعة راجعة إلى الفاعل وأما إذا رجعت إلى غيره كالإحسان إلى المخلوقات فلا لأنا نقول إن كان إحسانه وعدم إحسانه إليهم متساويين بالنسبة إليه تعالى لم يصح الإحسان أن يكون غرضاً وان كان الإحسان أرجح وأولى به لزم الاستكمال، والثاني من الوجهين أنّ غرض الفاعل لما كان سبباً لإقدامه على فعله كان ذلك الفاعل ناقصا في فاعليته مستفيدا لها من غيره(2/112)
ولا مجال إليه كما لا يخفى بل كمال الله تعالى في ذاته وصفاته يقتضي الكمالية في فاعليته وأفعاله وكمالية أفعاله تقتضي أن يترتب عليها مصالح راجعة إلى عباده فتلك مصالح غايات وثمرات لا علل غائية لها واتضح بما حققناه أن ليس شيء من أفعاله عبثاً أي خاليا عن الحكم والمصلحة وأن لا سبيل إلى الاستكمال والنقصان إلا سقوط عظمته وكبريائه وهذا مذهب صحيح لا تشوبه شبهة ولا تحوم حوله ريبة وما ورد في الآيات والأحاديث من تعليل أفعاله فهو محمول على هذا، ومن قال بتعليلها بناء على شهادة ظواهرها فقد غفل عما تشهد به الأنظار الصحيحة والأفكار الدقيقة أو أراد إظهار ما يناسب أفهام العامّة ليكلم الناس على قدر عقولهم وهذا زبدة ما ارتغ! ماه الشريف المرتضى في تعليقة له على هذه المسألة، وكلام المصنف رحمه الله زبدة هذه الزبدة. قوله:) وهو يقتضي إباحة الآشياء النافعة الخ) كذا في الكشاف يعني أنّ الأصل في كل شيء الحل وهي مسألة
أصولية واعترض عليه في الانتصاف بأنه مذهب فرقة من المعتزلة بنوه على التحسين والتقبيح،، لآ، ل صاحب الإنصاف أنه قال به جماعة من أهل السنة من الشافعية والحنفية واختاره الرازي ير المحصول وجعله من القواعد الكلية فليس مختصا بالمعتزلة كما زعم ولذا تبعه المصنف ر حمه الله وإنما قال: النافعة لأنّ الضارة لا اختلاف في حرمتها وكون الأصل الإباحة لا يضرّه المنع من بعضها لملكية الغبى ونحوهما لأنه عارض ولو سلم فإنما أبيح الكل للكل لا كل فرد) ممل فرد فقوله فإنه جواب تسليمي. قوله: (1 لا إذا أريد به جهة السفل الخ) يعني من قال معنى: {خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ} [سورة البقرة، الآية: 29] خلق لكم الأرض وما فيها إنما، صح إذا كني بالأرض عن الجهات السفلية دون حقيقة الأرض الغبراء لأنها وما فيها واقعة في ا) جهات السفلية وأمّا إذا أجريت على الحقيقة فلا فإنّ الشيء لا يحصل في نفسه ولا يكون ظرفا اطا مع أنه قيل: إنه من امتناع ظرفية الأجزاء للكل وليس من ظرفية الشيء لنفسه للتغاير الاعتباري بينهما وقوله كما يراد بالسماء جهة العلو غير قول الزمخشرقي: والمراد بالسماء حهات العلو لما يرد عليه من أنه لا باعث عليه مع أنّ تفسيره ثم استوى لا يلائمه وإن أجيب كمه مع أنّ التقابل يقتضي التفسير المذكور كما لا يخفى وأما حمل هذا على تقدير معطوف أي خلق ما في الأرض " والآرض على حدّ راكب الناقة طليحان " فتكلف دعا إليه في المثال تثنية الخبر وهنا لا داعي له وقوله وجميعاً حال من الموصول الثاني أي من ما بمعنى كل ولا دلالة ا! اعلى الاجتماع الزماني وهذا هو الفارق بين تولنا جاؤوا جميعا وجاؤوا معا، وإنما بين إكلرابه احترازاً عن كونه حالاً من ضمير لكم أو من الأرض! فإنه لا مبالغة فيه. قوله: (قصد أليها بإرادته من قولهم استوى إليه الخ) قال الراغب: الاستواء له معنيان. الأوّل أن يسند إلى " اعلين نحو استوى زيد وعمرو في كذا والثاني أن يقال: لاعتدال الشيء في ذاته ومتى عدى، هلى أقتضى الاستيلاء وإذا عدى بإلى اقتضى معنى الانتهاء إليه إما بالذات أو بالتدبير والإرادة، " نسوية الشيء جعله سواء انتهى. وهو مراد المصنف رحمه الله حيث فسره أولاً بقصد إليها رهإرادته، وقوله يلوي بمعنى يعطف، ثم بين مأخذه وأن أصله من استوى افتعل وذكر فيه معنى الطلب إما لأن افتعل يكون بمعنى استفعل كما ذكره في التسهيل، أو أن من جعل الشيء سواء ثانه طلب ذلك من نفسه كما في استخرجت الوتد فلا يرد أنّ السين من بنية الكلمة وهو افتعال
لا استفعال فإنّ مثله لا يخفى على مثل المصنف رحمه الله كما توهم وكيف يتأتى ذلك وقد قال: إنه من السواء فأشار إلى أنّ السين فيه أصلية لا زائدة ولما لم يمكن حمله على معناه الحقيقيّ لأنه من خواص الأجسام أوّله أوّلاً بقصد بإرادته، وقوله: ولا يمكن حمله أي حمل لفظ الاستواء هنا على طلب السواء أي اقتضاء تسوية وضع أجزائه لأنه من خواص الأجسام، ومن فسره بحمله على الله فقدسها فتأمل ثم قال إنه قيل: إنه بمعنى استولى وإنما ضعفه لأنه يتعدى بعلى كما مرّ وكون إلى بمعنى على كما قيل: خلاف الظاهر وبشر المذكور في البيت هو بشر بن مروان أخو عبد الملك ووزيره وكان ولاه العراق فقيل: فيه ذلك، ومهراق بمعنى مراق أي مسفوح والهاء زائدة وكونه أوفق بأصل معناه أي طلب السواء(2/113)
وقيل: استوى إليه كالسهم لأنّ القصد إلى الشيء يناسب الاستواء ويترتب على القصد له فعله به التسوية لا استيلاؤه وهو ظاهر وأمر التعدية معلوم مما مرّ، وجعل الزمخشرفي الاستواء حقيقة في ألاعتدال والاستقامة ثم نقل مجازا إلى القصد المستوى من غير ميل إلى شيء آخر ثم شبه بذلك القصد الذي في الأجسام إرإدته تعالى خلق السماء من غير إرادة إلى خلق شيء آخر، واستعير لها لفظ الاستواء فهي استعارة مصرحة تبعية مترتبة على مجاز أو مجاز في المرتبة الثانية كذا قرّره القطب في شرحه وظاهر كلام المصنف يخالفه فإنه جعل الاعتدال ليس هو معناه الحقيقيّ. قوله: (والمراد بالسماء الخ) فسره بالأجرام بناء على أنّ الأرض بمعناها الظاهري فإن كانت بمعنى جهة السفل يكون مقابلها بمعنى جهة العلو وقيل: عليه إنّ الجهات كيف تحدد من علو وسفل ولم يكن سماء ولا أرض، وأجيب بأنه يكفي في التحدد جسم واحد محيط بالكل كريّ وكان موجوداً وهو العرس على أنه كما يجعل اليوم فرضياً يمكن أن تجعل الجهات كذلك أي بأن يكون إثبات الجهات العلوية والسفلية والأيام الستة والأربعة قبل خلق السماء مبنيا على التقدير والتمثيل ومن قال: إنه لا حاجة إليه إذ المراد ما يسمى الآن بالسفل والعلو لم يعرف أنه عين التمثيل مع أنه أحوجته إليه الأيام وأمّا ما قيل: إنه لا حاجة إلر، جعلها بمعنى جهات العلو بعد تفسير الاستواء بالإرادة فسترى عدم توجهه. قوله: (وثم لعله لتفاوت ما بين الخلقين الخ) اعلم أنّ خلق السماء وما فيها والأرض وما فيها باعتبار التقدم والتأخر وردت آيات فيه وأحاديث متعارضة ولم تزل الناس من عهد الصحابة إلى الآن تستصعب ذلك وتوفق بينها ولهم في التوفيق طرق شتى سنبينها لك بما لا مزيد عليه ونبين الحق منها مستمدين منه التوفيق فاصغ بإذن القبول لما أقول اعلم أنه تعالى قال في هذه السورة: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء} [سورة البقرة، الآية: 29] وقال في سورة السجدة: {أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ} [سورة فصلت، الآية: 9] إلى قوله: {وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا
فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاء لِّلسَّائِلِينَ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاء أَمْرَهَا} [سورة مصلت، الآيات: 10- 11- 12] وقال في النازعات: {أَمِ السَّمَاء بَنَاهَا رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءهَا وَمَرْعَاهَا وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا مَتَاعًا لَّكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ} [سورة النازعات، الآيات: 27- 28- 29- 30- 31- 32- 33] فاقتضت الآيات الأول تقدم الأرض! والأخيرة تأخرها وقد روى الحاكم والبيهقي لإسناد صحيح عن سعيد بن جبير قال جاء رجل إلى ابن عباس رضي الله عنهما فقال رأيت أشياء تختلف عليّ في القرآن قال: هات ما اختلف عليك من ذاك قال أسمع الله تعالى يقول: {أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ} [سورة فصلت، الآية: 9] حتى بلغ طائعين فبدأ بخلق الأرض! في هذه الآية قبل خلق السماء ثم قال في الآية الأخرى: {أَمِ السَّمَاء بَنَاهَا} ثم قال: {وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} فبدأ بخلق السماء في هذه الآية قبل خلق الأرض! فقال ابن عباس رضي الله عنهما أمّا خلق الأرض في يومين فإنّ الأرض! خلقت قبل السماء وكانت السماء دخاناً {فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} في يومين بعد خلق الأرض وأما قوله: {وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} يقول جعل فيها جبلا وجعل فيها نهراً وجعل فيها شجرا وجعل فيها بحور انت! ى. يعني أن قوله أخرج منها ماءها بدل أو عطف بيان لدحاها بمعنى بسطها مبين للمراد منه فيكون تأخرها في هذه الآية ليس لمعنى تأخر ذاتها بل بمعنى تأخر خلق ما فيها وتكميله وترتيبه بل خلق التمتع والانتفاع به فإنّ البعدية كما تكون باعتبار نفس الشيء تكون باعتبار جزئه الأخير وقيده المذكور كما لو قلت بعثت إليك رسولاً ثم كنت بعثت فلانا لينظر ما يبلغه فبعث الثاني وإن تقدم لكن ما بعث لأجله متأخر عنه فجعل نفسه متأخرا وقد أشاروا إلى مثله فالفضل للمتقدم وإذا جاء نهر الله بطل نهر معقل فإن قلت كيف هذا مع ما رواه ابن جرير وغيره وصححوه عن ابن عباس أيضا رضي الله عنهما " أن اليهود أتت النبي صلى الله عليه وسلم فسألتة عن خلق السموات والأرضر فقال: خلق الله الأرض يوم الأحد والاثنين وخلق الجبال وما فيهق من المنافع يوم الثلالاء وخلق يوم الأربعاء الشجر والماء والمدائن(2/114)
والعمران والخراب فهذه أربعة فقال تعالى: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ
فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاء لِّلسَّائِلِينَ} أسورة فصلت، الآية: 9 و 10] " وخلق يوم الخميس السماء وخلق يوم الجمعة النجوم والشمس والقمر والملاتكة " فإنه يخالف الأوّل لاقتضائه خلق ما في الأرض من الأشجار والأنهار ونحوها قبل خلق السماء. قلت: الظاهر حمله على أنه خلق فيهاه، دة ذلك وأصوله وحدده إذ لا يتصوّر العمران والخراب قبل خلق السماء فعطفه عليها قرينة لذلك فلا تعارض بين الحديثين كما أنه ليس بين الآيات اختلاف ولذا قيل: لا بدّ على تقدير حمل ثم على التراخي في الوقت هنا من التأويل أما في الخلق بحمله على التقدير أو في المخلوق بإرادة مادته إذ لا شبهة في أنّ جميع ما في الأرض! لم يخلق قبل السماء كما نشاهده فلا تبقى مخالفة بين الآيتين ومثله لا يكون بالرأس فإمّا أن يؤخذ من الحديث أو يسكت عنه، والمصنف رحمه الله ذهب إلى تقدم خلق السماء على الأرضى وهذه الآية تنافيه فقال: إنّ ثم للتفاوت في الرتبة المنزلة منزلة التراخي الزماني كما في قوله تعالى: {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا} [سورة البلد، الآية: 17] فإن اسم كان ضمير يرجع إلى فاعل فلا اقتحم وهو الإنسان الكافر وقوله: {فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ} تفسير للعقبة والترتيب الظاهري يوجب تقديم الإيمان عليهما لكن ثم هنا للتراخي في الرتبة مجازا وتشبث بأنه يخالف الآية الأخرى المصرّح فيها بالبعدية وبينه بأنها تدل على تأخر دحو الأرض أي بسطها وتمهيدها المتقدم على خلق ما فيها وأشار إلى تأويله بما ذكره ولا يخفى تكلفه وبعده وأنت في غنية عنه بما مرّ وقيل: الجواب بأنّ تقدم خلق جرم الأرض على خلق السماء لا ينافي تأخر وجودها عنه ليس على ما ينبغي لأنّ ثم تدل على تأخر خلق السماء عن خلق ما في الأرض! من عجائب الصنائع حتى أسباب اللذات والآلام وأنواع الحيوانات حتى الهوام على ما ذكر لا عن مجرّد خلق جرم الأرض، وسيذكر في حم السجدة ما يدل على تأخر إيجاد السماء عن خلق الأرض! ودحوها جميعا حتى قيل: إنه خلق الأرض وما فيها في أربعة أيام ثم خلق السماء وما فيها في يومين وكثر ذلك في الروايات ولا يفيد حمل ثم على تراخي الرتبة إلا أن يعول على رواية إيجاد السماء مقدما على إيجاد الأرض فضلاً عن دحوها على ما روي عن مقاتل والأولى أن يحام حول تأويل قوله تعالى: {وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} ولا يخفى ما فيه فإن ما استبعد. هو المروي عن ابن عباس رضي الله عنهما وهو الحق كما مرّ وليس المراد بدحوها إلا تكميل مخلوقاتها كما عرفت، ومنهم من أوّل البعدية الرتبية وأنه كما يكون في ثم يكون في لفظ بعد كما تذكر جملا ثم تقول وبعد ذلك كيت وكيت ولا حاجة إليه أيضاً. قوله:
) عدلهن وخلقهق الخ) العوج يصح فيه هنا الفتح والكسر كما سيأتي في الكهف والفطور الشقوق وهذا من قبيل ضيق فم الركية وهو ظاهر من كلامه بلا مرية إذ خلقها كذلك يقتضي أنها لم تكن بخلافه، وجوّز في ضمير الجماعة أن يرجع إلى السماء بناء على أنها جمع سماءة أو سماوة لتأويلها بالجمع وهو الأجرام أو يرجع إليها ويجمع باعتبار الخبر أو يعود إلى المتأخر كلها احتمالات يأتي بيان الأرجح منها. قوله: (وإلا فمبهم يفسره ما بعده) قال في الكشاف: إن هذا هو الوجه العربي لأن الجمعية لم تثبت والتأويل خلاف الظاهر ويتعين على هذا أن يكون سبع سموات تمييزاً كما يعلم من مثاله وبه صرّح في غير هذا المحل فلا يرد عليه ما قيل إق الضمير يعود على متأخر لفظا ورتبة قياث في مواضع منها ضمير الشأن ويسمى ضمير المجهول والقصة ومنها الضمير المرفوع بنعم وبئس وما جرى مجراهما والضمير المجرور برلث العائد على مميزه والمرفوع بأوّل المتنازعين على مذهب البصريين والضمير المجعول خبره مفسراً له والضمير الذي أبدل منه مفسره، وفي هذا الأخير خلاف: منهم من أجازه ومنهم من منعه وعليه أبو حيان هنا ولهذا اعترض! على قول الزمخشري: إذ فهم من كلامه أنه بدل وكذا اعترض عليه إذ جوّز في قوله تعالى: {فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا} أسورة الأحقاف، الآية: 24] في الأحقاف كون الضمير عائدا إلى العارض وهو تمييز أو حال وخالفه في شرح التسهيل وفيه نظر، وقال الثليبيّ: الضمير في سواهن إذا رجع إلى السماء على(2/115)
المعنى كان سبع سموات حالاً إن فسر سواهن كائنة سبع سموات وأذا كان مبهماً كان سبع سموات نصبا على التمييز نص عليه في السجدة، وفي نصب سبع خمسة أوجه البدل من الضمير المبهم أو العائد إلى السماء أو مفعول به والتقدير سوى منهن وهذا يناسب زياث تها على السغ أو أن سوى فيه معنى صير فينصب مفعولين وقيل: إنه لم يثبت أو حال مقدرة، وقوله أو تفسير أي تمييز، والإرصاد جمع رصد وهو معروف وكونه مشكوكا عند أهل الشرع وأشار المصنف رحمه الله إلى جوابه على تقدير صحته بقوله وان صح الخ أي العدد مختلف إلا أنه إن ضم إلى ما قاله أهل الشرع الكرسي والعرس لم يبق بينهم خلاف قال السيد في خطبة المواقف سبع سموات هي الأفلاك السبعة السيارة والنجمان الآخران يسميان عرشاً وكرسيا انتهى. وهو توفيق حسن وكون العدد لا يدل! على نفي الزائد مسألة أصولية في مفهوم العدد هل هو معتبر أولاً وفيه خلاف مشهور بينهم. قوله: {وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} فإن قلت عليم من علم وهو متعدّ بنفسه فكيف تعدى بالباء فان كان لضعفه بتقدم معموله فالتقوية باللام فقط قلت قالوا: إنّ أمثلة المبالغة خالفت أفعالها لأتها أشبهت أفعل التفضيل لما فيها من الدلالة على الزيادة فأعطيت حكمه في التعدية حاسية الشهاب / ج 2 / م 12
وهو أنه إن كان فعله متعدّيا فإن أفهم علماً أو جهلاً تعدى بالباء نحو هو أعلم به وأجهل به وعليم به وجهول به والا تعدى باللام نحو أضرب لزيد وفعال لما يريد والا تعدى بما يتعدى به فعله نحو هو اصبر على النار وهو صبور على كذا وفيه نظر لأنه يقال رحيم به ولو تتبعت الكلام لوجدت ما يخالفه. قوله: (فيه تعليل كأنه قال الخ) الضمير في فيه ليس راجعا إلى قوله وهو بكل شيء عليم بل إلى الكلام المعلوم من السياق والمقصود بيان ارتباط هذه الجملة بما قبلها سواء كانت حالية أو معترضة تذييلية فإن نظرنا لآخر الكلام كان علة لما قبله فإنه لما أوجد هذه الأشياء العظيمة الدالة على قدرة عظيمة كاملة على أتقن الوجوه وأحسنها وأتمها كان إيجادها دليلاَ على علم شامل للجزئيات والكليات قبل وقوعها فإن الصانع إذا بنى بناء عظيماً ونحوه لا بد من تصوّره قبل إيجاده، وبهذا استدل في علم الكلام على شمول علمه لجميع المعلومات وقالوا الأفعال المتقنة تدلى على علم فاعلها، ومن تفكر في بدائع الآيات السماوية والأرضية وفي نفسه وجد دقائق حكم تدل على كمال حكمة صانعها وعلمه الكامل كما قال تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [سورة فصلت، الآية: 53] والنتيجة تصلح بعد تقررها تعليلا للدليل والكل من مقدماته كما تقول تغير العالم لحدوثه العالم متغير لحدوثه، ولا خفاء في مثله فلا يرد عليه ما قيل إنّ علة خلق ما خلق على هذا النمط ليس لكونه عالماً بل لكونه عالماً قادراً وأنه لا يصح عطف التعليل على الدعوى وإن بين كونه تعليلا واستدلا تنافيا وعلمه بالكنه مأخوذ من صيغة المبالغة والنمط الطريقة وكونه عالماً مرّ وجهه وحكيماً مأخوذ من إتقانه ورحمته من الأنفع فإن قلت كلام المصنف رحمه الله يقتضي أنّ نظام العالم هو الأصلح الأكمل الذي لا يمكن شيء فوقه كما قال الغزالي: ليس في الإمكان أباع مما كان وفي الفتوحات له تفصيل قلت: أنكر العلماء هذا وقالوا إنّ الله قادر على أن يوجد عالماً آخر أكمل من هذا وأحسن وأعظم كما هو مذهبنا ومعتزلة بغداد ذهبوا إلى وجوب الأصلح في الدين والدنيا بالنسبة إلى كل شخص، ومعتزلة البصرة إلى وجوب الأصلح في الدين فقط والفلاسفة إلى الأصلح بالنسبة إلى الكل من حيث هو كل لنظام العالم ونحن لا نرى بشيء منها (قلت) : مراده أنها أصلح وأكمل بحسب ما نشاهده ونعلمه ويصل إليه فهمنا لا بمعنى أنه ليس في مقدور الباري ما هو أباع منها كما هو رأي الفلاسفة لأنّ العقيدة أنّ كلا من مقدوراته ومعلوماته لا تتناهى كما صرّح به حجة الإسلام في عقيدته، وأمّا ما نقل عنه فقد قيل: إنه دسيسة أو غفلة واعتزض عليه وعلى المصنف بعض أرباب الحواشي وقد سمعت توجيه كلام المصنف وبه صرّح ابن الهمام في المسايرة، وأمّ كلام الغزالي فله وجه وجيه لأنّ
الله علم بإيجاد العالم على هذا النظام الخاص الذي اقتضت الحكمة أكمليته فبعد تقديره في علمه الأزليّ يكون خلافه ممتنعا لئلا يلزم الجهل فهو مستحيل بالعرض لا بالذات ومثله يصح إطلاق عدم الإمكان عليه بلا تكلف فلا تغترّ بتشنيع بعضهم عليه، وللعلماء في هذه المسألة(2/116)
تآليف مستقلة والكلام فيها كثير اكتفينا منه هنا بهذا القدر. قوله: (وإزاحة لما يختلج في صدورهم الخ) أشار بقوله يختلج إلى ضعفه لأن الاختلاح حركة ضعيفة وقوله واتصلت بما يثاكلها يعني عناصرها الأصلية لها، وقوله تعالى: {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [سورة يس، الآية: 79] فإنّ فيها ذكر عموم العلم لإثبات المعاد، وقوله مبنية في نسخة مبتنية أي مترتبة عليها وهذا وجه آخر للارتباط وقوله قابلة للجمع أي على أصل من قال إق الإعدام تفريق الأجزاء لا إفناؤها وتعاقب الاجتماع والافتراق والموت والحياة مبنيّ على شمول الموت للعدم الأوّل فلا يرد عليه أنه لا تعاقب بينها بل تعقيب الاجتماع بالافتراق وتعقيب الحياة بالموت بدون العكس كما قيل، وكون القبول ذاتيا هو المتبادر وأمّا احتمال اشتراطه بشيء آخر فلا دليل عليه، وقوله: فإنه عالم يصح فيه الكسر والفتح بتقدير فهي أنه وسد الحاجة بالفتح بما يحتاجون إليه، وفي قوله: جلت بمعنى عظمت ودقت بمعنى أنها دقيقة طباق بديعي وتسكين وهو بعد حرف العطف لغة لأنه معها يشبه كلمة واحدة مضمومة العين فيجوز تسكينها للتخفيف كما يقال: عضد وعضد وهو مطرد فيهما. قوله: (تعداد لنعمة ثالثة الخ) الأولى نعمة الإيجاد و! باس الحياة والثانية خلق ما في الأرض من النعم واللذات والطاعات والعبادات، والثالثة خلق أبينا وتكريمه بما جعله هو وذريته أفضل من الملائكة وجميع المخلوقات، وقوله: واذ ظرف الخ المراد بالنسبة الأولى نسبة الجملة المضاف إليها
وبالثانية نسبة العامل الذي تعلقت به ولذلك لزم إضافتها للجمل كما أنّ حيث في ظروف المكان كذلك فلذا لزم إضافتها للجمل الأعلى سبيل الشذوذ ولافتقارها للجملة المضاف إليها أشبهت الموصول المفتقر لجملة الصلة فتشابها وان كان في إذ علة أخرى وهي الشبه الوضعي لوضعها على حرفين وقوله واستعملتا للتعليل والمجازاة أي أصك وضعهما للظرفية ولكن قد تستعملان لذلك واتفقوا على أنه لف ونشر مرتب وأنّ التعليل را- جع لإذ والمجازاة لاذا لأنه العروف إذ لم ترد إذ للتعليل واذ للشرط أما العكس فمقرر لأن إذ وردت له كثيراً كقوله تعالى: {وَلَن يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذ ظَّلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ} اسورة الزخرف، الآية: 39] أي لأجل ظلمكم إذ ليس زمان الظلم زمان الاشتراك وهل هو معنى حقيقي لها أو مستفاد من المقام قولان مفصلان في العربية، وكذا ورود إذا شرطية كثير لكن لا يجزم بها في السعه، ولك أن تجعله راجعا لهما معاً لأن إذا وحيث بل سائر الظروف تستعمل للتعليل عند الزمخشريّ لاستواء مؤدّي التعليل والظرف في قولك ضربته لإساءته وضربته إذا أساء لأنك إذا ضربته في وقت إساءته فإنما ضربته فيه لوجود إساءته فيه فأجرى مجرى التعليل كما أشار إليه الزمخشريّ في سورة محمد وارتضاه شراح المفتاح وكذا إذ نستعمل شرطية مع زيادة ما معها وهي جازمة ونقل في همع الهوامع أنها تكون شرطية بدون ما أيضا فقال ولا يجازي ولا يجزم بحيث واذ مجردتين من ما وأجازه الفراء قياسا على إن وأخواتها وردّ بأنه لم يسمع فيهما إلا مقرونتين بما انتهى. فكأنه نسيه هنا فقال: هنا هو لف ونشر فإن إذ هي التي تستعمل للتعليل وإذا هي التي تستعمل للمجازاة ولا يعرف وجود إذ للمجازاة ولا إذا للتعليل وقد سألني الخطيب عند كتابته على هذا المحل فأجبته بذلك انتهى ووقع في عبارة المفتاح إذ شرطية وخرجها عليها الشارحان المحققان فاحفظه فإنه من النوادر. قوله: (وبنيتا تشبيهاً بالموصولات الخ) هذا أحد مذهبين للنحاة في مثله قال السيرافيئ في شرح الكتاب إذ مبنية على السكون والذي أوجب بناءها أنها تقع على الأزمنة الماضية كلها وهي محتاجة إلى الإيضاح فصارت بمنزلة الذي المحتاجة إلى الصلة انتهى، وهذا بناء على أنّ علة البناء لا تنحصر في شبه الحرف بل تكون لمشابهة غيره من المبنيات واليه ذهب الزمخشريّ وابن الحاجب كما فصله في الأشباه النحوية ومن غفل عنه رده. قوله: (ومحلهما النصب أبدا بالظرفية الخ (هذا مدّهب لبعض النحاة وفي المغني أنّ لها أربعة استعمالات أحدها أن تكون ظرفا وهو الغالب، والثاني أن تكون مفعولاً به نحو قوله تعالى: {وَاذْكُرُواْ إِذْ كُنتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ} [سورة الأعراف، الآية: 86، والغالب في أوائل الآيات من التنزيل ذلك بتقدير اذكر، وبعض المعربين يقول فيه إنه ظرف لا ذكر(2/117)
محذوفاً وهو وهم
فاحش لاقتضائه أنّ الأمر بالذكر في ذلك الوقت وليس كذلك بل المعنى اذكر الوقت نفسه، رالثالث أن تكون بدلاً من المفعول نحو واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت والرابع أن يكون مضافا إليها اسم زمان نحو يومئذ وبعد إذ هديتنا وزعم الجمهور أنها لا تقع إلا ظرفا إو مضافا إليها، وأما إذا فالجه طور على أنها لا تخرج عن الظرفية وجوّز بعض النحاة جرّهأ بحتى ووقوعها مبتدأ وخبراً ومفعولىلآ وبدلاً من مجرور انتهى. (وههنا بحثان) الأوّل أنّ قول المصنف رحمه الله ومحلهما النصب أبدا لا يوافق مذهبا من المذاهب لأنها تكون في محل جرّ في نحو يرمئذ كثيراً بالاتفاق وكذا تعليلية فإنّ الظروف الغير المتصرفة يدخل عليها بعض حروف الجرّ والممتنع فيها النصب على المفعولية، والرفع في هذه على الفاعلية ممنوع بالاتفاق ولا وجه للتردّد في وجهه لأنّ المفعول شبيه بالظرف لكونه فضلة ولذا تنصب توسعا بالاتفاق أيضا، الثاني أنّ ما عده في المغني وهما فاحشا سلموه له وليس بوارد لأنّ الظرفية يكفي في صحتها ظرفية المفعول نحو رميت الصيد في الحرم كما سياتي في الأنعام وقوله لما ذكرناه هو أنه وضعت لزمان النسبة.
قوله: (وأما قوله تعالى {وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ} الخ) جواب ما يرد عليه من أنه هنا بدل من المفعول ولا يصح أن يكون ظرفا لأن الذكر ليس في ذلك الوقت فأجاب بتقدير الحادث وهو ظرف له قائم مقامه في الدلالة على معناه لا أنه يحل محله حتى يلزم كونه مفعولاً به، ثم إنّ تقدير الحادث إما مضافا أي حادث أخي عاد وهو هود عليه الصلاة والسلام أو معطوفا أي وحادثه، ومنهم من دّره صفة لأخي عاد ولا يخفى ركاكته والظاهر تقدير أمر، ثم إق في كلامه نظرا لم ينهوا عليه لأنه إذا قدر حادث أو نحوه فهو العامل فيه لا أذكر فإن جعل عاملا باعتبار وقوع المفعول فيه كما مرّ لم يفد التقدير فائدة جديدة فتأمل، واستدل على تقديرا اذكر بأنه ورد مصرحا به في آيات كثيرة وأما تقدير بدأ خلقكم فقيل إنه غير محرر لأنّ ابتداء خلقناكم لم يكن وقت ذلك القول بل قبله وليس بوارد لأنه يعتبر وقتا ممتداً لا حين القول، ومعمر بفتح الميمين أبن المثنى وهو أبو عبيدة اللغوي النحوي كما صرّح به القرطبي رحمه الله لا المحدث وقوله هذا مردود في غاية الضعف عند النحاة وعلى تقدير بدأ وتعلقه بقالوا يكون معطوفا على صلة الذي وعلى تقدير أذكر يكون من عطف القصة على القصة أو عطف على بشر وما بينهما اعتراض! أو على أمر مقدر نحو تذكر هذه النعم واذكر الخ. قوله: (والملافكة جمع ملاك على
الأصل كالشمائل جمع شمأل) وهي ريح الشمال ولا خلاف في أنّ أصل ملك ملأك وقد جاء على الأصل في قوله:
وليست لانسيّ ولكن لملأك تنزل من جوّالسماءيصوب
وانما الخلاف في وزنه فقال ابن كيسان: وزنه فعأل والهمزة زائدة وهو من م ل ك، وماذته تدل على القوّة وبه يشعر تمثيل الزمخشريّ بشمأل وان احتمل أن يريد الشبه الصوري من غير نظر إلى زيادة وأصالة كما هو مراد المصنف رحمه الله بدليل ما سيصرج به من القلب وقوة الملك ظاهرة والمشهور أنّ ملأك مقلوب مألك وبه قال الكسائي: والليث الأزهري من الألوكة بمعنى الرسالة وأما الأك بمعنى أرسل فلم يشتهر فإن ثبت فهو أولى لسلامته من القلب ويكون مصدراً ميميا استعمل بمعنى المفعول أو جعل موضع الرسالة مبالغة وقد كثر في الاستعمال ألكني بمعنى أرسلني، وقال ابن الأنباري رحمه الله أصله ألئكني فحوّلت كسرة الهمزة إلى اللام وحذفت لالتقاء الساكنين وقد نقله الأزهري رحمه الله أيضا وإذا ثبت الأك ففيه غنيمة عن ثبوت لأك فيؤخذ منه لا من الألوكة لأنّ كثرة استعماله تأبى حمله على القلب وعلم منه أنّ هذا القول ليس بضعيف كما توهم شارحو كلام ابن الحاجب وهو الذي ارتضاه المصنف رحمه الله ولذا جعله مقلوبا ولا ينافي هذا قوله على الأصل لأن أصله حينئذ مألك ولو جمع لقيل: ماكك كمآرب لكنه بعد القلب صار أصلاً ثانيا له، وتسميتهم رسلاً لإرسالهم إلى الأنبياء عليهم الصلاة(2/118)
والسلام بالذات والى الأمم الواسطة وتأنيث الجمع لأنه بمعنى الجماعة. قوله: (واختلف الناص في حقيقتهم الخ) مذصب الملبين أنهم أجسام لطيفة نورانية قابلة للتشكل لأنّ الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كانوا يرونهم في صور مختلفة وأما قول النصارى فيرده هذه الآية لأنها قبل خلق البشر والحكماء قالوا: إنها مجرّدات عن النفوس البشرية وهي العقول العشرة والنفوس الفلكية التي تحرك الأفلاك وقوله منقسمة راجع إلى القول الأوّل بقرينة أنّ الحكماء لا يقولون بهذا ولا عبرة بقول النصارى فإنه باطل والملائكة المقربون هم الكروبيون، وقوله والمقول لهم أي في هذه الآية جميع الملائكة لعموم اللفظ وعدم المخصص وقيل: القرينة
على تخصيص ملائكة الأرض كونهم مجعولين خليفة فيها وقوله فبعث عليهم ضمن معنى سلط فلذا تعدى بعلى وفي نسخة إليهم. قوله: (وجاعل من جعل الذي له مفعولان الخ) بين معناه ومصحح عمله من كونه مستقبلاً معتمدا على ما هو معروف في النحو وإذا كان بمعنى خالق فله مفعول واحد وفي الأرض ظرف متعلق به، قيل معناه حينئذ بعداً اللتيا والتي إني جاعل خليفة ص ق الخلائف أو خليفة بعيته كائنا في الأرض فإنّ خبر صار في الحقيقة هو الكون المقدر العامل في الظرف ولا ريب في أنّ ذلك ليس مما يقتضيه المقام وأنما الذي يقتضيه هو الإخبار بجعل ادم خليفة فيها كما يعربءضه جواب الملائكة فإذا قوله تعالى: خليفة مفعول ثان والظرف متعلق بجاعل قدم على المفعول الصريح للتشويق إلى ما أخر أو بمحذوف وقع حالاً مما بعده لكونه نكرة وأما المفعول الأوّل فمحذوف تعويلاَ على القرينة الدالة عليه كما في قوله تعالى: {وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِيَاماً} [سورة النساء، الآية: 5] ولا ريب في تحقق القرينة هنا أما إن حمل على الحذف عند وقوع المحكي فهو واضح لوقوعه في أثناء ذكر الله له كاً نه قيل إني خالق بشرا من طين وجاعله خليفة في الأرض، وأما إن حمل على أنه لم يحذف هناك بل في الحكاية فالقرينة جواب الملائكة، وهذه قعقعة لا طائل تحتها كما هو دأبه فإنه على الوجه المرضي عند المحققين لا شك أنه إذا قيل للمستولي على محل إني مول عليه آخر أفاد تبديله بغيره فإن كان ذلك غير معلوما بالشخص على ما جوّز هو أن يكون المراد بالخليفة معيناًفلا معنى لجعل المستخلف كائنا في الأرض بدلهم إلا استخلافه فيها وإن لم لكن معيناً فقد أشاروا إلى جوابه بأنهم يعلمون أنّ العصمة من خواصهم فيطابقه الجواب من غير حذف وتتهدير ولم يجر لآدم ذكر إلى الآن فهل هذا إلا تعسف. قوله: (والخليفة من يخلف غيره الخ) إنما جعل الهاء فيه للمبالغة لإطلاقه على الواحد المذكر فلو جعلت الهاء للتأنيث لجاز لإطلاقه على الجماعة كما يقال: فرقة باغية، وضمير استخلفهم راجع إلى آدم ومن ذكر من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لا إلى كل حتى يقال: إنه جمع باعتبار المعنى، وقوله: لأنه كان خليفة الله الخ أي أوّل خليفة فلذا خص هنا، وقوله: لا لحاجة يعني ليس
استخلافه تعالى كاستخلاف غير. فإنّ شأن الغير أنه إنما يستخلف لغيبة أو عجز بل لقصور المستخلف عليه كالسلطان يأمر خاصته بتبليغ أوامره للعامة ويأمرهم تارة بالدّات وأخرى بالواسطة وهذه حكمة أنه لو جعل ملكا خليفة لكان رجلا وقوله بحيث يكاد زيتها الخ شبه قلوبهم بالمصباح وذواتهم بالمشكاة وما أوح فيهم من القوّة القدسية بزيت من شجرة مباركة {لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ} تضيء من غير نار لشدة لمعانه ثم أوضح ذلك بالغضروف وهو مضموم الأوّل والثالث والثاني معجم وهو عضو مفرد ليس صلابة العظم لكته أصلب من باقي الأعضاء اللينة قال الأطباء: المنفعة في خلقه أن يحسن اتصمال العظام بالأعضاء اللينة بأن يتوسط بينهما فلا يكون الصلب واللين قد تركبا بلا وأسطة فيتأذى اللين بالصلب خصوصاً عند الضربة والسقطة والمصنف ذكر أنه لإمداده وهو أمر ظاهر، وقوله أو هو وذرّيته الخ في جعل مضر وهاشم مما استغنى به فيه نظر. قال القرافي قد ينقل العلم الموضوع لمعين إلى ما لا يتناهى من ذرّيتة كربيعة ومضر وقيس انتهى فليس من الاستغناء بل هو منقول للجملة إلا أن يقال: في الأول كان كذلك ثم غلب في الاستعمال حتى صار حقيؤة وحينئذ لا يكون فيه نقل إلا بحسب التقدير ولذا قيل: بينهما فرق لأنّ مضر وهاشماً، سما قبيلة بخلاف الخليفة، ورد بأنهما من الإعلام الغالبة والتمثيل بالنظر إلى أصل الاستعمال قبل الغلبة فلا إشكال وكان المجيب لم يفهم الاعتراض فإنّ محصله أنّ علم أبي القبيلة يطلق عليهم، وهذا ليس(2/119)
يعلم بل وصف ونظيره ما سيأتي من إطلاق فرعون على قومه، واعترض عليه بأنه ليس أبا لهم فلا يطلق كإطلاق القبائل فكان ينبغي أن يقول: إنه ليس بشرط لوجود العلاقة فتأمل وفي الكشف أنه استشهاد لأنّ ما نحن فيه ليس من ذلك القبيل لأنّ آدم جاز أن يعبر به عن الكل لا وضعه الدال عليه والمعنى كما أن الاستغناء هنالك لأن أبا القبيلة أصلهم الجامع كذلك هم ورثوا الخلافة منه فخلافته الأصل الجامع اهـ. وقوله أو على تأويل من يخلفكم أي بلفظ عام شامل للقليل والكثير، ويعلم من قوله السابق أعلى رتبة أنّ موسى عليه الصلاة والسلام أفضل الأنبياء بعد نبينا عليه الصلاة والسلام وقد تردد بعضهم في تفضيله على إبراهيم عليه الصلاة والسلام ويكفي لتخصيصه على سائر التوجيهات أوّليته فيها، وعلى القول بشمول الخليفة لذرّيته يظهر قول الملائكة من يفسد بلا تأويل وعلى غيره لأنه منشؤهم وأصلهم وقوله أو خلقا يخلفكم خلق
بالخاء المعجمة والقاف وجوّز فيه أيضاً الفاء وقوله بأن بشر بوجوده الخ قيل: عليه ليس هذا مقام البشارة لأنه ليس بسارّ عليهم نظرا إليهم على ما يفصح عنه قوله ونحن نسبح بحمدك وتأويله بالإخبار يأباه سببية تعظيم المجعول فتأمل وقوله: واظهار فضله الراجح. قيل: هو أص كأ من قول الزمخشري صيانة لهم عن اعتراض! الشبهة في وقت استخلافهم لأنّ ذلك ليس من شأنهم سؤالهم إنما هو للتعجب كما سيأتي. وفيه نظر لأنه سيذكره بعينه وعلى هذه الوجوه إن كانت الملائكة ملائكة الأرض فقولهم أتجعل الخ ظاهر، وإن كانت الجميع فالقائل إفا هم أيضا لأن سكان الأرض! مثلهم فيما ذكر أو بعضهم وأسند إلى الجميع كما يقال بنو فلان قتلوا قتيلاً والقائل بعضهم لأنّ ما وقع بينهم كأنه صدر من جميعهم. قوله: (تعجب من أن يستخلف الخ (إنص حمله على التعجب لأنّ الإنكار لا يليق بهم فصرف لما يليق وقد استدل به الحشوية على عدم عصمة الملائكة عليهم الصلاة والسلام فأشاروا إلى ردّه بهذا، وقيل: كان الظاهر المطابق لما قبله أتجعل فيها خليفة من يفسد وإنما عدلوا عنه صرفا للتعجب إلى جعل المفسد في الأرض مع قطع النظر عن كونه خليفة فكأنهم قالوا إنّ أصل جعلهم في الأرض مستبعد فأنى الخلافة ولدقة هذا المعنى وذهابه على الزمخشريّ والمصنف وغيره صرفوا التعجب إلى استخلافهم. (قلت) : ما ذكره المصنف وغيره هو معنى النظم ومقتضى ترتبه على ما قبله من غير ريبة وهو المراد على كل حال وما ذكره القائل نكتة للعدول في التعبير عن مقتضى الظاهر لا تنافيه، وقد أشار المصنف إلى تنبهه لهذه النكتة بقوله فيما سيأتي لا تقتضي الحكمة إيجاد. فضلاً عن استخلافه، وقيل: أيضاً إنّ هذا ينافي كونه تعليما للمشاورة لأنّ مقتضاه أن يكون ألاستفسار والاستخباو مطلوبا منهم، ويكونوا مأذونين في السؤال والجواب فيناسب مقابلتهم
بالاستفسار لا التعجب وليس بوارد لأنّ قوله وليس باعتراض يبين أنّ الممنوع فيه الاعتراض والاستفسار والتعجب لا ينافيه فتأمل ثم إنه ليس مشاورة لأنه تعالى غنيّ عن العالمين لكن تلك المعاملة ترشد للمشاورة لشبهها بها وكذا ترشد ل! خبار بما من شأنه أن يسرّ، فسقط الاعتراض على البشارة السابق أيضا وقوله: أو يستخلف مكان أهل الطاعة الخ الطاعة تستفاد من قوله: ونحن نسبح بحمدك الخ كما أنّ المعصحية من سفك الدم والاستكشاف طلب الكشف، وبهر بمعنى غلب وألغاه جعله لغواً. قوله: (وليس باعتراض على الله الخ) عطف على تعجب وعلى وجه الغيبة أي طريقها في الذم وإن لم تكن غيبة حقيقية وهو حرم ومكرمون أي معصومون وقوله: وإنما عرفوا ذلك إشارة إلى ما روي عن السدى رحمه الله تعالى إن الله تعالى لما قال لهم ذلك قالوا وما يكون من ذلك الخليفة قال يكون له ذرّية يفسدون في الأرض ويقتل بعضهم بعضا. وهذا أسلم الوجوه ولذلك قدمه فإنّ اطلاعهم على ذلك من اللوح يرد عليه أن في اللوح أيضا شرف بني آدم وحكمة خلقهم فلو أخذوه منه فلم يبق شبهة د إن كان مدفوعاً بأن الله منعهم عن النظر إلى جميع ما فيه فإنهم لا يفعلون إلا ما يؤمرون وكذا الاستنباط لا يمنع عرق الشبهة فإنه يقال: كيف أرتكز في عقولهم فإن قيل: بأن أخبرهم الله به أو رأوه في اللوح رجع إلى الأوّل وان قيل: بأن خلق(2/120)
فيهم سبحانه علماً ضرورياً فإن كان بأن لا يعصم فرداً ما سواهم فهو خلاف الواقع أو نوعا مطلقاً وإن عصم بعض أفراده كالأنبياء عليهم الصلاة والسلام وهو المراد صح لكن لا يلائم قوله لا علم لنا إلا ما علمتنا، مع أن غاية ما يلزم من علمهم باختصاص العصمة بهم علمهم بصدور الذنب المطلق لا خصوصية الفساد وسفك الدماء، والمطلوب هذا دون ذاك إلا أن يقال وجه الاستنباط ما سيأتي من أنهم علموا عصمتهم ورأوا تأليف الإنسان يقتضي القوة الشهوية والغضبية المستلزمة للفساد والسفك أو أنهم علموا ذلك من تسميته خليفة لأن الخلافة تقتضي الإصلاح وقهر المستخلف عليه وهو يستلزم أن يصدر منه فسادا مّا في ذاته بمقتضى الشهوة أو في غيره من السفك، ووجه القياس أنهم علموا حال مثلهم في التناكح والتناسل فقاسوهم عليهم وقوله والسفك الخ هو من فقه اللغة وما ذكره عن ابن فارس، وقال المهدوي: لا يستعمل السفك إلا في الدم، وقيل: إنّ السفك والسفح يستعملان
نن نشر الكلام والقدرة عليه وبين قراءة المجهول وأشار في ضمنها إلى أنّ من يجوز فيها أن نكون موصولة وموصوفة وترك ما في الكشاف من أنه قرئ بضم الفاء وكسرها. قوله: (حال مقرّرة لجهة الإشكال الخ) أي جملة حالية مقرّرة ومؤكدة لسؤالهم لدفع ما عرض لهم من الثسبهة ولما تراءى من ظاهر هذا الكلام أنه اعتراض! دفعه بأنّ المقصود منه الاستفسار وكما أنّ هذه الجملة مقرّرة للسؤال دافعة أيضا الاحتمال الاعتراض فإنهم إذا نزهوه أكمل تنزيه علموا أنه لا يصدر عنه ما لا تقتضيه الحكمة فلا يرد أن في كلام المصنف رحمه الله تصريحا بأن قولهم هذا ناشئ من اعتراض الشبهة وقد عرفت أنه لا يليق بثأنهم فالصواب أن يقال: إنه حال مقرّرة لجهة الاستخبار عن حكمة الاستخلاف خاليا عن اعتراض الشبهة في موافقته الحكمة، فإن! لت إن ابن مالك قال في شرح الألفية إن كانت الجملة الاسمية حالاً مؤكدة لزم الضمير وترك الواو نحو هو الحق لا شبهة فيه وذلك الكتاب لا ريب فيه وقال ابن هشام: وتمتنع الوأو في المؤكدة، ووجهه أنّ واو الحال عاطفة بحسب الأصل والمؤكدة لا يعطف على المؤكد لما لينهما من شدة الاتصال وقد صرح به أهل المعاني أيضاً. قلت هو ليس بمسلم فإنهم صرحوا لخلافه أيضا كما في شرح التسهيل أنّ جملة وأنتم معرضون في قوله تعالى: {ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنكُمْ وَأَنتُم مِّعْرِضُونَ} [سورة البقرة، الآية: 83] حال مؤكدة وقد ينزل المؤكد منزلة المغاير لكونه أوفى بتأدية المراد فيقرن بعاطف ونحوه كما سيأتي إن شاء الله تعالى وعطف التفاخر على العجب بضم فسكون تفسيريّ وقوله وكأنهم علموا الخ. يعني بعلم ضروري خلق فيهم أو إخبار كما مر وشهوية بسكون الهاء نسبة إلى الشهوة، وقوله إلى الغ! ساد وسفك الدماء لف ونشر مرتب أن خص الفساد وقوله: ونظروا إليها أي إلى كل من الشهوية والغضبية فإن مقتضاهما ما ذكر وليس في هذا طعن في الملائكة بإسناد سوء الظن إليهم فإنه استخبار وقوله لا تقتضي الحكمة إيجاده إنما عبر بالإيجاد لأنه أبلغ من الاستخلاف مع دلالة الاستخلاف عليه التزاما فلا
يقال: إنّ هذا يقتضي تفسير جاعل بخالق وفيه ما مر ثم أشار إلى أن كلاً من القوّتين لها إفراط وتفريط مذموم وحاق وسطهما مهذب ممدوح ومطواعة صيغة مبالغة والتاء للمبالغة لا للتأنيث ومتمرّنة معتادة فالعفة وسط القوة الشهوية والشجاعة وسط الغضبية وافراطها تهوّر وتفريطها جبن ومجاهدة الهوى بترك الشهوات ثمرة العفة، والإنصاف في المعاملات كذلك، وقيل: إنه ثمرة الشجاعة، والتركيب من أجزاء مختلفة يفيد قوّة تقصر عنها الآحاد المفردة الغير المركبة كأراك الجزئيات بالقوى الظاهرة والباطنة التي خلت عنها الملائكة كما سيأتي. ولما ورد أنه كان ينبغي بيان ذلك أشار إلى أنه بينه إجمالاً بقوله إني أعلم الخ لما فيه من إحاطة علم آدم عليه الصلاة والسلام كما سيأتي. ونرك قول الزمخشري كفى العباد أن يعلموا أنّ أفعال الله تعالى كلها حسنة وحكمة وان خفى عليهم وجه الحسن والحكمة لأنه أورد عليه أنه إن أراد أن من شأنهم أن يعلموا ذلك ولو بعد حين لما فيهم من القوة العقلية فليس بكاف في ترك التعجب وأن أراد أنهم كانوا يعلمون ذلك فليس بمعلوم ولا في العبارة ما يدل عليه، وفيه نظر لأن(2/121)
تنزيه الله وتقديسه عن كل نقص يدل على أنه لا يصدر عنه إلا الأفعال الحسنة الجاربة على وفق الحكمة ثم إنه أتى بهذه الجملة مؤكدة لأنها في جواب السؤال الذي يستحسن تأكيده، وقيل: لتنزيلهم منزلة المنكر لما اعترض لهم من الشبهة التي لا ينبغي أن تعرض وش! تفسر عنها وأعلم فعل مضارع وما مفعوله وهو الظاهر، وما إمّا موصولة أو موصوفة والعائد محذوف أي تعلمونه وقال أبو البقا: وغيره أنه اسم تفضيل استعمل بمعنى عالم فما في محل جر بالإضافة أو نصب بأعلم ولم ينون لعدم انصرافه وضعف بأنّ فيه جعل أفعل بمعنى فاعل وهو خلاف الظاهر وأن فيه عمل اسم التفضيل بمعنى الفاعل والجمهور لا يثبتونه. وقيل: إنه على بابه والمفضل عليه محذوف أي أعلم منكم وما منصوبة بفعل محذوف دل عليه أفعل أي أعلم ما لا تعلمون لأن أفعل لا ينصب المفعول به. قوله:) والتسبيح تبعيد الله سبحانه وتعالى عن السوء الخ (وفي نسخة تنزيه الله عن السوء وتبعيده عنه أي الحكم بنزاهته وبعده وألتلفظ بما يدل عليه وكذلك التقديس. وقد روي هذا التفسير عن النبي عليه الصلاة والسلام وزاد القرطبي فيه على وجه التعظيم، وقوله وكذلك التقديس يفهم منه ترادفهما. قال الراغب: السبح المرّ السريع في الىء أو الهواء يقال سبح سبحا وسباحة واستعير لمرّ النجوم في الفلك ولجري الفرس، والتسبيح
تنزيهه تعالى وأصله المرّ السريع في عبادته، وفي الكشف أنّ الزمخشريّ جعلهما مترادفين أصلاَ ونقلا والأشبه تغايرهما وان رجعا إلى نفي النقصان بالنظر في التسبيح إلى أنّ العارف أتى المستطاع في التنزبه ولم يتركه فإنه على حسب المعرفة وفي التقديس إلى أنّ الذات الكاملة التي لا يمكن أن تتصوّر بما يدانيها لها الطهارة عن كل سوء أطلق عليه لفظ دال عليه أو لم يطلق لوحظ في الأوّل العارف وفي الثاني المعروف، وفي قولهم هذا لطيفة إذ جعلوا سفك الدماء نهاية الإفساد وقابلوه بالتقديس الذي هو نهاية التنزيه وترقوا من العرفان إلى المعروف، وحاصله أن التسبيح تنزيهنا له عما لا يليق به والتقدي! تنزهه في ذاته على ما يراه لائقا بنفسه فهو أبلغ ويشهد له أنه حيث جمع بينهما أخر نحو سبوح قدوس. قوله: (وبحمدك في موضع الحال) نقل عن الزمخشري أن الباء لاستدامة الصحبة والمعية لا إحداثها وهو حسن، وفي الكشاف أي لسبح حامدين لك وملتبسين بحمدك لأنه لولا إنعامك علينا بالتوفيق واللطف لم نتمكن من عبادتك، وهذا كما في الحديث: " سبحانك وبحمدك " لأن المعنى وبحمدك نسبح، وإضافة الحمد إما إلى الفاعل والمراد لازمه مجازاً من التوفيق والهداية أو إلى المفعول والمعنى متلبسين بحمدنا لك كذا أفاده الكرماني في شرح البخاري. وأراد المصنف والعلامة الأوّل وبه تعلم معنى كلامهم ويندفع ما يتوهم من أن الحمد لم يقل أحد أن معناه التوفيق والإلهام وقوله لداركوا الخ وهذا كما قالط داود عليه الصلاة والسلام: يا رب كيف أقدر أن أشكرك وأنا لا أصل إلى شكر نعمتك إلا بنعمتك يعني أقدارك وتوفيقك واليه أشار محمود الوراق بقوله: إذاكان شكري نعمة الله نعمة عليئ له في مثلهايجب الشكر
فكيف بلوغ الشكر إلا بفضله وان طالت الأيام واتسع العمر
فإن مس! بالنعماء عم سرورها وان مس بالضراء أعقبها الأجر
وقال الغزالي رحمه الله: أنّ داود عليه الصلاة والسلام لما قال ذلك أوحى الله إليه إذا
،، مت هذا فقد شكرتني وروي إذا عرفت أنّ النعم مني رضيت بذلك منك شكرا. قوله: (ئطهر ومرسنا من الذنوب لأجلك (لما كان التقدي! والتسبيح مترادفين بحسب الظاهر مع أنهما. "، ءيان بغير حرف وقد قيل: إنهما يتعذيان باللام أيضاً فسره بما يفيد تعديته بنفسه كما هو 511! روف ويندفع به التكرار أي نطهر به أنفسنا فالتسبيح لله والتقديس لهم، وظاهر قوله واللام.، و، - ة أنه لم يرتض تعديه بها وإنما ضعفه لأنه خلاف الظاهر وقيل التسبيح التبعيد يعدى بتفسه) ، االام وكذلك التقديس فاللام في لك في المعنى متعلق بالفعلين، وكذا الحال أعني بحمدك
وفائدة الجمع بين التسبيح والتقديس وان كان ظاهر كلامه(2/122)
ترادفهما أن التسبيح بالطاعات والعبادات والتقدي! بالمعارف والاعتقادات وقيل: عليه إن ما هنا أولى فإنّ توسيط الحال بين العاملين والحمل على التنازع في لك وتخصيص التسبيح بالعبادات والتقديس بالمعارف بلا دليل بعيد وقيل: الأولى أن يفسر بأنا نقدسك لأجلك واستحقاقك لأجلنا من طمع ثواب أو خوف عقاب. قوله: (إما بخلق علم ضروويّ بها فيه الخ) هذه المسألة أصولية دائرة على الاختلاف في واضع اللغات هل هو الله أو البشر، وفي كيفيته وهو مفصل في أصول الفقه مع أدلته وما عليه وما له ومذهب الأشعري أنّ الواضع لها كلها هو الله ابتداء مع جواز حدوث بعض أوضاع من البشر كما يضع الرجل علم ابنه واستدل بهذه الآية وقالت المعتزلة: الواضع من البشر آدم أو غيره وشممى مدّهب الاصطلاح والثالث مذهب ألتوزيع بأن وضع الله بعضها والباقي البثر وأشار المصنف إلى الأوّل وطريق المعرفة بوضع الله لها أنه خلق في آدم علما ضرورياً بأسماعه إياها وخلق علم ضروريّ بأنّ هذا معنى هذا ورده أبو منصور: بأنّ الضروريّ إما بديهيّ أو مدرك بالحواس ولو كان كذلك لشاركتهم الملائكة فيه فلا بدّ أن يكون بإلهام أو بإرسال ملك لم يكلفه الأنباء، والروع بضم الراء والعين المهملة القلب والذهن والعقل والفرق بينهما إن الأوّل يكون بدون مباشرة الأسباب والثاني تكون معه فهو أعلى من الأوّل أو مغاير لأن الإلهام لا يكون ضرورياً ولأنه بغير إلقاء لفظ فتأمّل. قوله: (ولا يفتقر إلى سابقة اصطلاح الخ) لأنّ الاصطلاح يكون بالتكلم ويرجع الكلام إليه فإمّ أن يدور أو يتسلسل ولو سلم توقفه عليه فيجوز أن يعرف القدر المحتاج إليه في الاصطلاح بالترديد والقرائن كما يشاهد في الأطفال. قوله: (والتعليم فعل يترتب عليه العلم فالباً) دفع لما أورد عليه من أن خلق ذلك العلم والإلهام ليس تعليما إذ المعهود فيه أن يكون بإلقاء الألفاظ فيفتقر إلى سابقة اصطلاح فدفعه بأنه فعل يترتب عليه العلم مطلقا فلا يرد عليه أنّ هذا متمسك المنكرين لكون الأسماء معلمة من الله. قوله: (ولذلك يقال علمتة فلم يتعلم) هذا أيضا مما اختلف فيه عإنّ المطاوع هل ينفك عن مطاوعه م! قاً أو في بعض الموادّ أو لا ينفك أصلاً فعلم هل يستدعي التعلم أو لا فقيل: يستلزمه لقوله تعالى: {مَن يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي} [سورة الأعراف، الآية: 178] ونحوه وقيل لا يستلزمه لقوله تعالى: {وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْيَانًا} [سورة الإسراء، الآية: 60] لأن التخويف حصل ولم يحصل للكفار خوف نأفع فعلى الأوّل تكون الفاء في نحو أخرجته فخرج للتعقيب في الرتبة لا في الزمان ولا يصح أخرجته فما خرج إلا مجازاً، وعلى الثاني
تكون الفاء للتعقيب ويكون أخرجته فما خرج حقيقة واختار السبكي التفصيل، فقال: يقال علمته فما تعلم ولا يقال كسرته فما انكسر والفرق إن حصول العلم في القلب يتوقف على أمور من المعلم والمتعلم فكان علمته موضوعا للمخبر الذي من المعلم فقط لعدم إمكان فعل من المخلوق يحصل به العلم ولا بد بخلاف الكسر فإنّ أثره لا واسطة بينه وبين الانكسار وتفصيله في شروح ابن الحاجب. قوله: (وآدم الخ) اختلف في آدم هل هو عربي من الأدمة أو مبئ أديم الأرض لأنه خلق من تراب فوزنه أفعل وأصله " دم بهمزتين فأبدلت الهمزة الثانية ألفا لسكونها بعد فتحة، أو أعجمي ووزنه فاعل بفتح العين وهو وزن يكثر في الأسماء الأعجمية كآزر وشالخ بالشين والخاء المعجمتين علمين وقد يستعمل في أسماء الآلات كقالب وخاتم ويشهد له جمعه على أوادم بالواو لا 6ادم بالهمزة وان اعتذر عنه الجوهريّ بأنّ الهمزة إذا لم يكن لها أصل جعلت واواً فإنه غير مسلم منه وإذا كان أعجميا لا يجري فيه الاشتقاق حتى قالط أبو عبيدة أن من أجرى الاشتقاق فيها كمن جمع بين الضب والنون ولا كلام فيه إذ اشتقاقه من تلك اللغة لا نعلمه ومن غيرها لا يصح والتوافق بين اللغات بعيد جذاً نعم قد يذكرون فيه ذلك إشارة إلى انه بعد التعريف ألحقوه بكلامهم واعتبروا فيه اشتقاقا تقديريا ليعرف وزنه والزائد فيه من غيره، فحيث أطلقوا عليه ذلك تسمحاً فمرادهم ما ذكر، واشتقاقه من الأدمة بضم فسكون وهي السمرة ولا ينافي ذلك كونه من أجمل البشر ومنهم من فسرها بالبياض أو الأدمة بفتحتين وهي الأسوة و القدوة وأديم الأرض ما ظهر منها، ولا يلزم من كون أصله ذلك أن(2/123)
يكون لونه ترابيا ألا ترى النبات على لطافة ألوانه مخلوقا من الأرض وأخيافا بمعنى مختلفين والأدم والأدمة الموافقة والألفة مأخوذ من إدام الطعام، ووجه كونه تعسفا ما مر. وادرش! من الدرس لكثرة دراستة للعلوم وكذا يعقوب من العقب لمجيئه عقب إسحق وإبليس من الإبلاس وهو اليأس من رحمة الله وعلى هذا فهو عربيّ واختاره ابن جرير وقال إنه منع صرفه لأنه لا نظير له في الأسماء وأورد عليه أنّ هذا لم يعذ من موانع الصرف مع أنّ له نظائر كاغريض واصليت، وفيه لظر. قوله: (لما روي عنه عليه الصلاة والسلام الخ) قال السيوطي: أخرجه أحمد والترمذي وصححه ابن جرير وغيره ولله درّ القائل:
الناس كالأرض ومنها همو من خشن الص! ق ومن لين
فجلمد ترمي به أرجل واثمديجعل في الأعين
قوله: (والاسم باعتبار الاشتقاق الخ) هذا بالنظر إلى المذهبين اشتقاقه من الوسم بمعنى العلامة أو من السموّ وهو العلوّ لرفعه مسماه من حضيض الجهل إلى ذروة التعقل والمراد بالعرف العرف العامّ والمخبر عنه الاسم والخبر الفعل، والرابطة الحرف وفي الاصطلاح يطلق على ما ذكر. وعلى ما يقابل الصفة وعلى ما يقابل الكية واللقب والمعنى المصطلح لا تصح إرادته هنا لأنه محدث بعد نزول القرآن فالمراد إمّا الأوّل وهو العلامة الدالة مطلقا المبينة بقوله من الألفاظ الخ والمراد بالصفات والأفعال معناها اللغوي فهو أعمّ من الثاني. قال الإمام: وقيل: المراد بالأسماء صفات الأشياء ونعوتها وخواصها لأنها علامات دالة على ماهياتها فجاز أن يعبر عنها بالأسماء، وفيه نظر لأنه لم يعهد إطلاق الاسم على مثله حتى يفسر به النظم والظاهر أن المراد الثاني قال الإمام المراد أسماء كل ما خلق من أجناس المحدثات من جميع اللغات المختلفة التي يتكلم بها اليوم أولاده من العربية والفارسية والزنجية وغيرها وكان ولد آدم يتكلمون بهذه اللغات فلما مات آدم وتفرّقت أولاده في نواحي العالم تكلم كل واحد منهم بلغة معينة فلما طالت المدة نسوا سائر اللغات. قوله: (والمعنى أنه سبحانه وتعالى خلقه من أجزاء مختلفة الخ) يعني أنه لا يلزم من معرفة الدوالّ من حيث هي دوالّ معرفة مدلولاتها وأشار به إلى جواب سؤال وهو أنه بتعليم الله ولو علمهم لأجابوا السؤال وأيضاً معرفة جميع الأشياء لا تمكن ولم تقع فأجاب بأن تعليمه لما خلق فيه من القوى الجسمانية الظاهرة والباطنة التي أعطته استعداداً ليس فيهم لإدراك الجزئيات والكليات والمخيلات والموهومات التي يقتدو على معرفتها ومعرفة خواصها وضبط أصولها وقوانينها لا جزئياتها الغير ا) ! تناهية. قوله: (الضمير فيه للمسميات المدلول عليها الخ) قال الشارح المحقق: إنما احتاج إلى اعتبار هذا
الحذف ليتحقق مرجع ضمير عرضهم وينتظم أنبؤني بأسماء هؤلاء ولم يجعل المحذوف مضافا إلى مسميات الأسماء لينتظم تعليق الأنباء بالأسماء فيما ذكر بعد التعليم وظاهر كلامه أنّ اللام عوض عن المضاف إليه كما هو مذهب الكوفيين وقد نفى ذلك في قوله تعالى: {إِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى} [سورة النازعات، الآية: 39] ولم يقل به في قوله تعالى: {وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا} [سورة مريم، الآية: 4] فوجب أن يحمل على ما ذكرنا في {جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} [سورة البقرة، الآية: 25] وان كان ظاهر عبارته على خلافه أو يقال ليس كل ما يذكره من المحتملات مختارا عنده وفيما ذكر إشارة إلى الردّ على من زعم أنّ الاسم عين المسمى وأنّ عود ضمير عرضهم إلى الأسماء باعتبار أنها المسميات مجازا على طريق الاستخدام. (أقول) : هذا الكلام وان وقع من عامّة الشراح هنا لكته ليس بمحرّر لأنّ المعرف بالألف واللام العهدية في معنى المضاف إضافة عهدية إذ لا فرق بين قولك رأيت الأمير وأمير البلد وليس الخلاف متصوّرا فيه إنما الخلاف في محل يكون المضاف إليه ضميراً في مقام محتاج إلى الرابط كما صرح به ابن هثام في شرح بانت سعاد حيث قال بعد ما فصل المسألة نيابة أل عن الضمير في نحو حسن الوجه من حيث هو ضمير لا من حيث هو مضاف إليه وربما توهم من كلامهم الثاني وقد استجرّ ذلك الزمخشري حتى جوّز نيابتها عن المضاف إليه المظهر في قوله تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء}(2/124)
ولا أعلم أحدا قال بهذا قبله، وقال الرضي: لا تعوّض اللام عند البصريين في كل موضع شرط فيه الضمير كالصلة وجملة الصفة والخبر والوصف المشتق منه ويجوز في غيره كقوله:
لحا في لحاف الضيف والبرد برده
أي وبردى برده فلا ينبغي أن يعدّ ما نحن فيه منه ولا كل محل من مسائل الخلاف بين البصريين والكوفيين، وهذا مما غفلوا عنه فاعرفه لترى ما في كلام الشارح مع جلالته من الخلل ولو قال المصنف رحمه الله بدل قوله إذ التقدير أو التقدير لكان الأوّل وجها مستقلا معناه عود الضمير على ما يفهم من الكلام إذ الأسماء لا بد لها من مسميات، والظاهر أن معنى عرضها إخبارهم بما سيوجده من العقلاء وغيرهم إجمالاً، وسؤالهم عما لا بد لهم منه من العلوم والصنائع التي بها نظام معاشهم ومعادهم إجمالاً والا فالتفصيل لا يمكن علمه لغير الله فكأنه قال: سأوجد كذا وكذا فأخبروني بمالهم وما عليهم وما أسماء تلك الأنواع من قولهم
عرضت أمري على فلان فقال لي: كذا فلا يرد أن المسميات أعيان ومعان وعرض الأعيان ظاهر فكيف عرضت المعاني كالسرور والحزن والعلم والجهل ولا حاجة إلى ما قيل: إنّ المعاتي في عالم الملكوت متشكلة بحيث ترى وهذا مثل عالم المثال الذي أثبتوه وقال: إنه قامت الأدلة على إثباته وأنه صنف فيه رسالة ونقل عن عبد الغفار القوصي إنّ المعاني تتجسم ولا يمتنع ذلك على الله، وتذكير الضمير المخصوص بالعقلاء لا جمعه كما قيل: لتغليبهم. قوله: (وقرئ عرضهن الخ) قال قدّس سره: إنما لم يجعل الضمير للمسميات المحذوف من قوله وعلم آم الأسماء لأنّ اعتبار ذلك الحذف إنما كان لأجل ضمير عرضهم وأمّا على تقدير عرضها أو عرضهن فيصح عود الضمير إلى الأسماء فلا يعتبر حذف المسميات ثمة مضافا إليه بل هنا مضافا لئلا يكون نزعا للخف قبل الوصول إلى الماء فليتأمل اهـ. وأورد عليه أنّ ما ذكره صحيح في ضمير عرضها دون عرضهن لأنه ضمير جمع المؤنث والأسماء ليس كذلك فلا بد من رجوعه إلى المسميات فيعتبر بالضرورة حذفها ثمة مضافا إليه فإنه نزع للخف بعد الوصول إلى الماء اص. (أقول) هذا بناء منه على أنّ ضميرهن مختص بالنسوة العقلاء وقد صرح الدماميني في شرح التسهيل بخلافه ومثله له بقوله تعالى: {خَلَقَهُنَّ} بعد قوله: {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ} [سورة فصلت، الآية: 37] ولو كان كما زعم هذا القائل لزمه تغليب المؤنث على المذكر. قوله: (تبكيت لهم وتنبيه على عجزهم) إشارة إلى أنّ الأمر هنا تعجيزي والتبكيت غلبة الخصم بالحجة ولا يصح أن يكون للتكليف في هذا المحل حتى ينبني على مسألة تكليف ما لا يطاف المختلف فيها كما مر إذ إعلام من لم يعلم غير ممكن، وقيل: إنه غفلة عن قوله إن كنتم صادقين والا لما توهم لزوم التكليف بالمحال على تقدير كون الأمر للتكليف فإنّ المعلق بالشرط لا يوجد قبل وجوده وفيه نظر وقوله والأنباء الخ قال الراغب: النبأ خبر ذو فائدة عظيمة يحصل به علم أو غلبة ظن ولتضميته معنى الخبر يقال: أنبأته بكذا كقولك أعلمته بكذا اص. فقول المصنف رحمه الله يجري مجرى كل واحد منهما أي يستعمل استعماله في التعدية بالباء تارة وبنفسه أخرى وألا أصل معناه مطلق الأخبار كما هنا فإنه تعانى غنيّ عن الأعلام أي إيجاد العلم. قوله: (في زعمكم أنكم أحقاء الخ (هو لبيان ترتب الجزاء على الشرط أي إن كنتم صادقين في أنكم أحق بالاستخلاف أو في أنّ استخلافهم لا يليق فأثبتوه ببيان ما فيكم من شرائطها السابقة وقوله فتبينوا كذا في النسخ وسقط من بعضها وتبين يكون متعديا كبين بمعنى أظهر ولازما بمعنى اتضح كما في القاموس وهو هنا متعد أي فأوضحوا ذلك
وأثبتوا مدعاكم المذكور قال قدس سره: فإن قلت هذا ينافي ما سبق من أنهم عرفوا ذلك ب! خبار من الله أو من جهة اللوج أو نحو ذلك فإنه صريح في كونهم صادقين. قلت المراد بذلك مجرّد كون بني آدم من يصدر عنهم الفساد والقتل فإن قلت فما وجه ارتباط الأمر بالأنباء بهذا الشرط وما معنى إن كنتم صادقين فيما زعمتم فأنبؤني باسماء هؤلاء قلت معناه إن كنتم صادقين فيما زعمتم من خلوهم عن المنافع والأسباب الصالحة للاستخلاف فقد ادّعيتم العلم بكثير من خفيات الأمور فأنبؤني بهذه الأسماء فإنها ليست في ذلك الخفاء، ولقوّة(2/125)
هذين السؤالين ذهب كثير من المفسرين إلى أنّ المعنى إن كنتم صادقين أني لا أخلق خلقاً إلا أنتم أعلم منه وأفضل إلا أنه لا دلالة في الكلام عليه. (أقول) : نقل الحافظ السيوطي أنه ورد أنهم قالوا لن يخلق الله خلقا أكرم عليه منا ولا أعلم أخرجه ابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنهما والحسن البصري وتتادة والربيع بن أنس فالتقدير إن كنتم صادقين في قول ذلك ومثى عليه الواحدي رحمه الله فما رذه هو التفسير المأثور وهو أحق بالاتباع وأمّا قوله لا دلالة في الكلام عليه فممنوع فإنّ قوله ونحن نسبح بحمدك ونقدّس لك يدل على أفضليتهم وتنزيه الله،. تقديسه أو تقديسهم أنفسهم يدل على كمال العلم أيضاً، ثم إنّ جوابه الأوّل لا يدفع السؤال فالظاهر في دفعه أن علمهم بذلك لا يقتضي علمهم بأنه مخالف للحكمة فتامّل. وأيضاً المناسب أنبؤني بدقائق الأمور التي تفضلكم عليهم لا بظوإهرها كما ذكر. وقال ابن جرير: الأولى أن يقدر إن كنتم صادقين في أني إن جعلت خليفة غيركم أفسد وسفك الدماء وان جعلتكم فيها أطعتم واتبعتم أمري فإنكم إذا كنتم لا تعلمون أسماء هؤلاء الذين عرضتهم عليكم من خلقي وهم مخلوقون موجودون ترونهم وتعاينونهم فأنتم بما هو غير موجود من الأمور التي ستكون أحرى بأن تكونوا غير عالمين فلا تسألوني ما ليس لكم به علم فإني أعلم بما يصلحكم ويصلح خلقي، ثم إنه اعترض! على إسناد هذا الزعم إليهم بأنه يفضي إلى تجويزهم صدور ما يخالف الحكمة عنه تعالى وهم أجل من ذلك، ولذا حمل السؤال في أتجعل على الاستخبار لا الإنكار وفيه نظر. توله: (وهو وإن لم يصرحوا به لكته لارّم مقالتهم) قيل: مثل هذا التركيب واقع في عباراتهم وظاهره غير مستقيم وغاية ما يمكن فيه أن يقال الواو زائدة كما في:
وكنت وما ينهنهي الوعيد
وان من حروف الزوائد والمعنى وهو غير مصرح به فيصح الاستدراك) أقول) هذا التركيب خرّجوه كما قال الشارح المحقق في سورة النساء في قول الزمخشري لأنّ عرض الدنيا وإن كان عاجلاً قريبا في الصورة إلا أنه فإن كل مبتدأ عقب بان الوصلية يؤتى في خبره بألا أو
لكن الاستدراكية مثل هذا الكتاب وإن صغر حجمه لكن كثر علمه لما في المبتدأ باعتبار تقييده بأن 10 لوصلية من المعنى الذي يصلح الخبر استدواكاً له واشتماله على مفروض وجعل بعض الفضلاء الخبر مقدرا، والقائل غفل عن هذا لأنّ إن الوصلية لا تأني بدون الواو فما ذكره خطأ واستدلا ا 4 بالشعر ليس في محله وقوله لكنه لازم مقالتهم الأوّل لازم لقوله: {وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ} الخ والثاني لقوله أتجعل الخ وبجعله لازما لما قالوه لا أنهم صرّحوا به واعتقدوه سقط ما مر من الاعتراض بأنه لا يليق إسناده إليهم وعلم أنّ المصنف 0- حمه الله ليس بغافل عنه والغافل من اعترض عليه، وما ذكره من أنّ التصديق وكذا التكذيب يكون لما يتضمنه الكلام وان كان إنشاء ظاهر. قوله: (اعتواف بالعجز والقمور الخ) إشارة إلى أنّ الكلام ملقي لعالم بفائدة الخبر ولازمها فلا بد من أن يقصد به بعض لوازمه وهو هنا اعترافهم بعجزهم وقصورهم عن إدراك حكمته إلا بتوفيق منه وهو ظاهر، وقوله وأشعار الخ وجهه أن نفيهم شامل لأحوال آدم وخلافته ومن لا يعلم شيئا لا يعترض عليه بل يسأل عنه ولا ينافي هذا ما مر من أنه تعجب لأنّ التعجب إنما يكون عند خفاء السبب، وأمّا احتمال أن يكون اعتراضاً وهذا توبة ورجوع عنه فبعيد، وظهور ما خفي عنهم علم من تعجيزهم إجمالاً وتلويحاً بأن ثمة من يعلم ذلك، وشكر النعمة يفهم من قوله علمتنا فإنه اعتراف بنعمة تعليمه تعالى لهم واعتقل بالعين المهملة والمثناة الفوقية واللام بمعنى حبس في الأصل والمراد به هنا أشكل وتصح فراءته مجهولاً ومعلوما. قوله: (وسبحان مصدر كغفران الخ) قدم معنى التسبيح وسبحان قيل: إنه اسم مصدر لا فعل له وأمّا سبح المشدد فمأخوذ من سبحان الله كهلل أي قال سبحان الله ولا إله إلا الله وقيل: إنه مصدر سمع له فعل وهو سبح مخففا بمعنى نزه وقدّس، قال الراغب: والسبوح والقدّوس من أسمائه تعالى وليس في كلامهم فعول بالضم سواهما، وقد يفتحان ككلوب وسمور والسبحة التسبيح ويقال: للخرزات التي يسبح بها سبحة ا!. وهو مصدر لا ينصرف أي لازم النصب على المصدرية وكان المصنف(2/126)
أقحم يكاد إشارة إلى ما نقل عن الكسائي أنه يكون منادى فيقال: يا سبحان الله، وأمّا قوله أجرى علماً للتسبيح أي علم جنس للمعنى كما قالوا شعوب للمنية وفجار للفجرة فتابع فيه الزمخشري في المفصل حيث قال: سموا التسبيح بسبحان وقال ابن الحاجب في شرحه: قيل: هذا ليس بمستقيم لأنّ سبحان ليس اسما للتسبيح لأنه مصدرش ح ومعنى سبح: قال سبحان الله فمدلوله لفظ ومدلول سبحان تنزبه وهو معنى لا لفظ فتبين أنه ليس علماً للتسبيح وأجيب بأنه لو لم يرد التسبيح بمعنى التنزيه لكان كذلك وأمّا
إذا ورد فلا إشكال والذي يدل على أنه علم قوله:
سبحان من علقمة الفاخر
ولولا أنه علم لوجب صرفه لأن الألف والنون في غير الصفات إنما تمنع مع العلمية ولا يستعمل سبحان علما إلا شاذاً وأكثر استعماله مضافاً وإذا كان مضافاً فليس بعلم لأنّ الأعلام لا تضاف لتعريفها وقيل إنّ سبحان في البيت على حذف المضاف إليه يعني سبحان الله وهو مراد للعلم به، وقيل: إنه مضاف لعلقمة ومن زائدة والمراد التهكم به وهو في قوله:
سبحانه ثم سبحانا نعوذ به وقبلنا سبح الجودي والحمد
مصروف عند سيبويه رحمه الله للضرورة اهـ. والحاصل أنّ القول بعلميته لا داير له إلا استعماله ممنوعا من الصرف وهو مع شذوذ يجوز تخريجه على وجوه أخر، وقد سمع خلافه وادّعى سيبويه رحمه الله تعالى أنه ضرووة مقابل بالمثل وقال ابن يعيش رحمه الله سبحان علم واقع على معنى التسبيح وهو مصدر معناه البراءة والتنزيه وليس منه فعل وإنما هو واقع موقع التسبيح الذي هو المصدر في الحقيقة جعل علماً على هذا المعنى فهو معرفة لا ينصرف فإن أضفته يصير معرفة بالإضافة وقوله بإضمار فعله هذا بناء على أنه له فعل إمّا مخفف أو مشدد على الخلاف فيه فإن لم يكن له فعل يقدر ما هو معناه، وإذا أضيف فليس بعلم خلافاً للزمخشري ولا حاجة إلى القول بأنه نكر وأضيف إذ لم يعهد تنكير أعلام الأجناس لأنها في المعنى نكرة وعلميتها للضرورة، وقد جاء بالألف واللام في قوله:
سبحانك اللهم ذا السبحان
وفيه شذوذ آخر لخروجه من النصب على المصدرية. قوله: (سبحان من علقمة الفاخر)
هو من قصيدة للأعشى وسببها أنه لما فاخر علقمة بن علاثة ابن عمه عامر بن الطفيل العامريين وكان علقمة كريماً رئيسا وعامر عاهراً سفيهاً ساقا إبلا لينحرها المقرّ له فهاب حكام العرب أن يحكموا بينهما بشيء فأتيا هرم بن قطنة بن سنان فقال: أنتما كركبتي البعير تقعالت معا وتنهضان معاً قالا فأين اليمين قال كلا كما يمين فأمّا ما سنة لا يجسر أحد أن يحكم بينهما ثم إنّ الأعشى وصل إلى علقمة مستجيراً فقال: أجيرك من الأسود والأحمر، قال ومن الموت قال: لا فأتى عامراً فقال له: مثل ذلك، فقال: ومن الموت قال: نعم قال: وكيف قال: إن مت في جواري وديتك فبلغ ذلك علقمة فقال لو علمت أنّ ذلك مراده لهان عليّ فركب الأعشى ناقته ووقف في نادي القوم وأنشدهم قوله يهجو علقمة وينفر عليه عامراً أي يفضله:
شاقتك من قبلة أطلالها بالشط فالجزع إلى حاجر
حتى إذا بلغ إلى قوله في القصيدة:
ياعجباللدهر إذ سويا كماضاحك منه ومن ساخر
إنّ الذي فيه تماريتما بين للسامع والناظر
ما جعل الجد الظنون الذي جنب صوب اللجب الماطر
مثل الفراتيّ إذا ما جرى يقذف بالبوصيّ والماهر
أقول لما جاءني فخره سبحان من علقمة الفاخر
علقم لاتسفه ولاتجعلن عرضك للوارد والصادر
الخ. والفاخر بالخاء الفوقية ذو الفخر وقيل: أراد سبحان الله على معنى التعجب ولا شاهد فيه لما مر ويحتمل أنه بناه لأنه لما أراد به ا! تعجب أجراه مجرى اسم الفعل في البناء. قوله: (وتصدير الكلام الخ) يعني أنهم لما نزهوه عما لا يليق بالحكمة دل على أن الاستخلاف لا ينبغي السؤال عنه وأنهم غير عالمين بما فيه من الحكم(2/127)
الخفية وهو يشبه التوبة لأنّ السؤال لما لم يلق أشبه الذنب، ووجه ذكره مع التوب الإشعار بالعذر في ارتكاب الذنب بأنه لا منزه إلا هو أو تنزيهه عن ردّها لكرمه وتغير العليم بالذي لا يخفى عليه خافية أخذه من صيغة المبالغة وتفسير الحكيم بالمحكم سيأتي ما فيه في بديع السموات والأرض، وأنت ضمير فصل والخلاف في أنه له محل من الإعراب أم لا مشهور، وإذا كان تأكيداً فهو معرب محلا بإعراب متبوعه وقوله أعلمهم فسره باعتبار المآل والا فهو مراد به الإخبار المترتب عليه العلم ولذا عدى بالباء ولو كان بمعنى العلم لتعدى بنفسه. قوله: (وقرئ بقلب الهمزة ياء وحذفها بكسر الهاء فيهما) ضمير حذفها جوّز فيه أن يعود إلى الهمزة لأن قلبها يتضمن حذفها لكن المعهود في مثله التعبير بالقلب والى الياء المنقلبة عنها لأنه بعد القلب يصير كالأمر المعتل الآخر فيحذف آخره كارم وقوله فيهما أي في قلب الهمزة وحذفها ونقلاً عن حمزة. قوله: (إني أعلم غيب السموات والأرض الخ) فيه إيجاز بديع لأنه كان الظاهر {أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} وشهادتهما {وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ} وما ستبدون وتكتمون فاقتصر على غيب السموات والأزض لأنه يعلم منه شهادتهما بالطريق الأولى وكذلك اقتصر من الماضي على المكتوم لأنه يعلم منه البادي بالأولى وعلى المبدي من المستقبل لأنه قبل الوقوع خفيّ فلا فرق
لينه وبين غيره من خفياته، ثم إنه قيل: لا بد من بيان النكتة في تغيير الأسلوب حيث لم يقل ما تكتمون ولعلها إفادة استمرار الكتمان فإن المعنى {أَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ} قبل أن تبدوه وأعلم ما تستمرون على كتمانه وهذا مبنيّ على إن كان للاسنمرار وهو مجاز لا قرينة عليه وفيما مر غنية عنه. قوله: (استحضار لقوله اعلم الخ) إنما كان أبسط لتعرضه للتفاصيل وإن كان ما لا تعلمون أوجز وأشمل اللهمّ إذا خص بما خفي من مصالح الاستخلاف فحينئذ يكون أشمل، وقال الطيبي رحمه الله: إنما قال أبسط ولم يقل بيان له لأن معلوماته تعالى لا نهاية لها وغيب السموات والأرض وما يبدونه وما يكتمونه قطرة منه لكنه فيه نوع بسط لما أجمل فيه، فإن قلت ما يبدونه وما يكتمونه ليس مندرجاً فيما لا يعلمون، قلت المراد اندراح الأوّل في الثاني لا العكس كما أشار إليه بقوله فإنه تعالى لما علم الخ. أو يقال: إنّ قوله أعلم ما لا تعلمون كناية عن شمول علمه ويدل عليه قوله قال: ألم أقل لكم فإنه يقتضي سبقه بعينه أو بمساويه أو مقاربه، ووجه التعريض ظاهر ومترصدين بمعنى منتظرين. قوله: (استبطانهم أنهم أحقاء الخ) ليس المراد بالاستبطان الإخفاء عن الله الذي يعلمون أنه لا تخفى عليه خافية بل عدم التصريح له والرمز إليه في ونحن نسبح بحمدك وقوله وأسر منهم إبليس من المعصية الخ قال ابن عطية وجاء تكتمون على الجماعة والكاتم واحد منهم على عادة العرب في الاتساع كما إذا جنى! ض قوم جناية يقال لهم أنتم فعلتم كذا والفاعل بعضهم وقوله والهمزة الخ الإنكار في معنى النفي والجحد بمعنى النفي ونفي النفي إثبات. قوله: (تدل على شرف الإنسان ومزية العلم الخ) ، نه قدم عليهم في الاستخلاف وبين أنّ وجه تقديمه له علمه وقوله وأنّ التعليم الخ وجه إسناده إليه ظاهر وأمّا عدم إطلاقه عليه. أمّا على القول بالتوقيف فظاهر لأنه لم يرد إطلاقه عليه وأمّا على القول بعدمه خصوصاً في الصفات فإنّ شرطه أن لا يوهم نقصاً وفيه ذلك لأنه تعورف فيما! حترف به ولا عبرة بأنه أطلق على الله معلم الملكوت ولا بأنّ بعض الحكماء والمفسرين لأنه "! ورف فيما يحترف به ولا عبرة بأنه أطلق على الله معلم الملكوت ولا بأن بعض الحكماء االمفسرين أطلق المعلم الأوّل على الله. قوله: (وأنّ اللغات توفيفية الخ) هذا أحد المذاهب السابقة وارتضاه المصنف رحمه الله تعالى وخالفه في المنهإج، وقوله بخصوص هو بناء على
أنّ المراد بالاسم المعنى العرفي والعموم بناء على المعنى الاشتقاقي وقبل عليه أنه على العموم لا يدل على تعليم جميع أنواعه وبه تمسك المخالفون ولا يخفى أنه إذا أريد جميع أنواعه أثبت المراد لدخول الألفاظ فيه وكلها صريح فيه و وله وتعليمها الخ جواب عن قول المخالف إنّ التعليم بمعنى الإلهام فلا يلزم التوقيف أو أنها كانت لغات سكان الأرض قبله فعلموها له. قوله: (وأنّ مفهوم الحكمة الخ) معنى قوله زائد إن كان بمعنى مشتمل على معناه زيادة فيكون ذكره بعده للترقي في الإثبات ولا يكون تكراراً وهو المتبادر لكن كان ينبغي أن(2/128)
يفسر الحكيم بالعالم بالأشياء الموجد لها على الأحكام كما قال الراغب: الحكمة منه تعالى معرفة الأشياء وايجادها على غاية الإحكام لا بما فسره به سابقا فإنه يقتضي المغايرة وإن كان يستلزم العلم، وإن أراد أنه صفة أخرى زائدة على العلم مترتبة عليه فهو ظاهر، وقيل: قدمه ليتصل بقوله وعلم الخ. قوله: (وأن علوم الملانكة الخ) يعني جميعهم والا لم يخالف كلام الحكماء أمّا إن كان الخطاب مع الجميع كما مر فظاهر وأمّا إذا كان مع البعض فلأنّ الفرق تحكم في عالم الملكوت وإنما دل على ذلك لأنه أعلمهم بما لم يكن عندهم علمه فزادوا علما، وأراد بالحكماء الإسلاميين بدليل استدلالهم بالآية وهي {وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ} أي مرتبة في العلم لا يتجاوزها. قوله: (أفضل من هؤلاء الملائكة الم يقل أفضل من الملائكة لأنّ الآية إنما تدل على أفضليته على المذكوربن فإن كان الجميع مذكورا فهو أفضل منهم وإن كان البعض فالآية تدل على تفضيله عليهم، وأمّ قوله لأنه أعلم منهم والأعلم أفضل فقيل: عليه إن أراد أنه أعلم منهم على الإطلاق فالآية لا تدل إلا على أعلميته بما أعلم به وان أراد أعلم في الجملة فلا يتم التقرير وكذا كون الأعلم أفضل إن أراد أفضل مطلقاً فغير مسلم وان أراد من جهة العلم فلا يتم التقرير أيضاً وأيضاً لو كان المعلم أفضل من المعلم لزم أفضلية جبريل على نبينا عليهما الصلاة والسلام والقول بأنه ليس بمعلم والمعلم هو الله لا وجه له وكذا آية: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي} إنما تدل على تفضيل العالم على الجاهل لا على من سواه، وقد قيل: في الجواب أن التفضيل شرعا معلوم أنه إمّا بالعلم أو بالعمل وقد فضل علم آدم عليه السلام على علمهم فعلم أنه أفضل منهم مطلقاً، والذين لا يعلمون عام شامل للعابدين وغيرهم فدل على ذلك فتدبر. قوله: (وأنه سبحانه وتعالى يعلم الأشياء قبل حدوثها الأنه تعالى علم آدم عليه الصلاة والسلام قبل
خلقه وما فيه من المصالح والحكم وغير ذلك قبل وجوده. قوله: (تعالى واذ قلنا للملانكة اسجدوا لآدم) غير الأسلوب فقال: أوّلاً {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ} وهنا واذ قلنا بضمير العظمة لأنه في الأوّل ذكر خلق آدم واستخلافه فناسب ذكر الربوبية مضافة إلى أحب خلفائه، وهنا المقام " مقام امر يناسب العظمة وأيضا السجود للتعظيم فلما أمر بفعله لغيره أشار إلى كبريائه الغنيمة عن التعظيم ونحوه في التعبير ما مر من قوله للملائكة أنبؤني ليكون عجزهم عنده أعظم عليهم وقال لآدم عليه الصلاة والسلام أنبئهم تلطفا به وإظهار الفضلة عليهم. قوله: (أمرها بالسجود) يعني أن الأمر في هذه الآية منجز والفاء التعقيبية في قوله فسجدوا ظاهرة في عدم تراخي سجودهم عن الأمر وهذا يقتضي أن يكون بعد التعليم والأنباء وقوله اعترافا علة للسجود، وأداء لحقه إذ علمهم ما لم يعلموا وحق الأستاذ على من علمه حق تعظيم حتى قيل: لو جاز السجود لمخلوق لاستحقه المعلم ممن علمه ومن قال الأمر للفور استدل بذمّ إبليس على ترك الفور ولا دليل عليه سوى الأمر، وأجيب بأنّ دليل الفور ليس مطلق الأمر بل الفاء قيل: وعلى هذا لا لصح قوله اعترافا بفضله وأداء لحقه اعتذارا عما قالوه لكن التحقيق أن الفاء الجزائية لا تدل على التعقيب من غير تراخ كما في التلويح فتأمّل. قوله: (وقيل أمرهم به قبل أن يسوّي خلقه الخ) فيكون أمرا غير تنجيزيّ وحكمة الامتحان لهم ليعلم المطيع من غيره وليظهر فضله حين سألوا عنه وهذا أيضا في التفسير الكبير والمصنف رحمه الله تعالى أشار إلى عدم ارتضائه ولم لشر إلى جواب استدلاله بالآية وهو أن الفاء الجوابية لا تقتضي التعقيب كما في قوله تعالى: {إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [سورة الجمعة، الآية: 9] فإنه لا يجب السعي عقبه ومنهم من أوّل هذه الآية بأنها لا تعارض! الأخرى إذ ليس فيها ما يقتضي وقوعها بعد الإنباء لعطفها بالواو ومنهم من رآها لذكرها بعد الأنباء ظاهرة في التأخر فقال: إنّ الأمر بالسجود وقع مرتين مرة عقب خلقه ومرة بعد أنبائه وضعفه بعضهم وادّعى آخرون أنه مشهور وأتا ما قيل: إنّ المراد بنفخ الروح في هذه الآية التعليم لما اشتهر أن العلم حياة والجهل موت فبعيد. قوله: (والعاطف عطف الظرف على الظرف الخ) والمراد العامل المقدر وهو أذكر كما مر أو بدأ خلقكم أي الذكر الحادث وقت قوله للملائكة إني جاعل والآخر عند أمرهم بالسجود، فإن لم يقدر في الأوّل يقدر في هذا أطاعوه فسجدوا ولا يعطف بدون تقدير لأن(2/129)
الظرف الأول منصوب حينئذ بقالوا فلا يصح عطفه عليه لأنّ قولهم ذاك ليس وقت أمرهم
بالسجود بل مقدّم عليه ولا يرد هذا على الأوّل كما توهم فتأمل. ولما قدّروه خبرا قال: إنه على هذا من عطف القصة قيل لئلا يلزم عطف الخبر على الإنشاء وردّ بأنه فاسد لأنّ كليتهما خبرية بل لأنّ مضمون هذه القصة نعمة رابعة مستقلة فناسب أن يعطف على مضمون القصة السابقة التي هي أيضا نعمة مستقلة فتأمل وباسرها يعني جميعها وأصله ما ربط به الأسير فإذا سلم به فقد سلم جميعا. قوله: (والسجود في الأصل تذلل مع تطامن) أي انخفاض! ولو بالانحناء وغيره كما في الشعر المذكور وهو لزيد الخيل لما أغار على بني عامر فقتل منهم وأسر وقال:
بني عامر هل تعرفون إذا بدا أبا مكنف قد شد عقد الدوائر
بجمع تضل البلق في حجراته ترى اكم فيه سجداللحوافر
وجمع كمثل الليل مرتجز الوغى كثير حواشيه سريع البوادر
أبت عادة للورد أن تكره القنا وحاجة رمحي في غير بن عامر
ومعناه أن خيله لكثرتها لا ترى البلق منها فيها وأنها تحفر ا! م والروابي التي تحتها
لشدة عدوها فجعلها لانخفاضها كأنها سجدت لحوافر خيله وهو شاهد لكونه بمعنى مطلق الانخفاض! لا مع التذلل لأنها لا تعقل فتذل إلا أن يكون ادّعاء أو التذلل أعم من الذل، وخيل مذللة أي سهلة وهو بعيد، وقيل: المراد أنك تجد خيلنا تستعلي على الأماكن المرتفعة ولا تستعصي عليها فكأنها مطيعة لها: وا! م بالسكون للتخفيف جمع أكمة وهي المرتفع من الأرض وليس تسكينها ضرورة وسجد! جمع ساجد، والحوافر جمع حافر وهو في الفرس ونحوه معروف. قوله: (وقلن له اسجد لليلي فأسجدا) هو لأعرابي من بني أسد وقيل: هو من شعر لحميد بن ثور وأوّله:
فقدن لها وهما أبيا خطامه
وقلن الخ روي بالواو وبالفاء واسجد بوزن أكرم بقطع الهمزة بمعنى طأطأ رأسه ليركب،
وقال ابن فارس في فقه اللغة: إن العرب لا تعرف السجود إلا بمعنى الطأطأة والانحناء تقول أسجد الرجل إذا فعل ذلك وأمّا في الشرع فوضمع الجبهة على الأرض قصدا للعبادة فلا يكون حقيقة إلا لله لأنه المعبود حتى قال الإمام رحمه الله تعالى: أنه لغيره تعالى كفر فلذلك أولوه
هنا إن أريد به معناه الشرعي بأن السجود لله وآدم عليه السلام جعله قبلة وجهة له كالكعبة واعترض عليه بأنه لو كان لله ما امتنع إبليس عنه إذ لا فرق بين كون آدم عليه الصلاة والسلام لبله وغيره وبانه لا يدل على تفضيله عليهم وقوله أرأيتك هذا الذي كزمت عليّ يدل عليه ألا ترى أن الكعبة ليست بأكرم ممن سجد إليها كالنبيّ صلى الله عليه وسلم فتعين كونها سجدة تحية، ولك أن تقول لخصيصط جعله جهة لها دونهم يقتضي ذلك وسيأتي في كلامه ما يدفعه أيضا فتأمّل. قوله: (أو سببا لوجوبه) كما جعل لوقت سببا لوجوب الصلاة والبيت سببا لوجوب الحج ثم بين وجه كونه قبلة وسببا على وجه يقتضي تعظيمه بقوله فكأنه تعالى الخ. أي أنه خلقه في أحسن تقويم وجعل فيه مثالاً من كل موجود فمن العالم الروحاني وهم الملائكة العقل والعبادة ومن الجسمانيّ التركيب من العناصر فكان ذريعة أي وسيلة إلى تكميل علمهم بانبائهم ومشاهدتهم لحكمته في مخلوقاته وتمييز بعضهم عن بعض بمعرفة المطيع من غيره فاللام على كونه بمعنى القبلة بمعنى إلى كما في قول حسان رضي الله تعالى عنه أليس أوّل إلى آخره وهو حضرة عليّ رضي الله تعالى عنه وقبله:
ماكنت أحسب هذا الأمرمنصرفاً عن هاشم ثم منها عن أبي حسن
والسنن جمع سنة وعلى الثاني للسببية كما في قوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} وأنموذج قال في القاموس: أنه لحن والصواب نموذج بفتح النون وهو مثال الشيء معرب نمونه او نموذة أو نموذان وأصل معناه صورة تتخذ على مثال صورة الشيء ليعرف منه حاله ولم تعرّبه العرب قديما وتبع فيه الصاغاني وتبعه هنا بعض أرباب الحواشي وليس كذلك قال في المصباح المنير الأنموذج بضم الهمزة مثال الشيء معرب(2/130)
وان أنكره الصاغاني، ومنهم من جوّز أن يكون المسجود له آدم عليه الصلاة والسلام حقيقة وأن السجود للمخلوق إنما منع في شرعنا ويجوز أن لا يكون كفراً في شريعة من قبلنا وحمل عليه قول الزمخشري: يجوز أن يختلف باختلاف
الأحوال والأوقات وقيل: إنه مخالف لإجماع المفسرين ولذا تركه المصنف وفيه نظر. قوله: (وأمّا المعنى اللغوي وهو التواضع الخ) معطوف على قوله: إما المعنى الشرعي فالمراد به مطلق الانخفاض ولو بالانحناء وكانت التحية بالانحناء فلما جاء الإسلام أبطله بالسلام فصار حراماً نص عليه الثعالبي والفقهاء قال القرطبي رحمه الله اختلف الناس في كيفية سجود الملائكة لآدم عليه الصلاة والسلام بعد اتفاقهم على أنه ليس سجود عبادة فقال الجمهور: كان بوضع الجباه على الأرض! كسجود الصلاة لأنه المتبادر منه لأنه كان تكرمة لآدم عليه الصلاة والسلام وطاعة لله وكان آدم عليه الصلاة والسلام لهم كالقبلة لنا، وقال قوم لم يكن بوضع الجباه بل كان مجرّد تذلل وانقياد ثم اختلف القائلون بالأوّل فقيل: كان ذلك السجود خاصا بآدم عليه الصلاة والسلام لم يجز لغيره وقيل: كان جائزا بعده إلى زمان يعقوب عليه الصلاة والسلام لقوله وخروا له سجدا وكان آخر ما أبيح من السجود للمخلوق وأكثر على أنه كان مباحا إلى عصر نبينا صلى الله عليه وسلم وقد نقله القائل أوّلاً بأنه مخالف لإجماع المفسرين وهو عجيب منه. قوله: (أو التذلل والانقياد الخ (لا الانحناء وضمير معاشهم وكمالهم راجع إلى آدم عليه الصلاة والسلام وبنيه المفهوم من الكلام لا إلى الملائكة كما يتوهم إذ لا يصح إضافة المعاس إليهم والمراد منه حينئذ أمر الملائكة بالسعي في أمورهم فإنّ بعض الملائكة حفظة وبعضهم موكل بالرزق ونحو ذلك.
تنبيه: من لم يعرف اللغة يستغرب أسجد بزنة أكرم كقوله:
فقلن له اسجد لليلي فاسجدا
كما ذكره المصنف رحمه الله وهو كثير في كلامهم كما في أدب الكاتب ولكنهم اختلفوا
فيه هل بينهما فرق أم لا وفي شرحه لابن السيد وغيره سجد معروف وأسجد بمعنى أنحني وقد فسر به قوله تعالى: {ادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّداً} لأنهم لم يؤمروا بالدخوأسا على جباههم وإنما أمروا بالانحناء ويحتمل أنه حال مقدرة وقال أبو عمرو: السجود عند العرب الانحناء قيل: ومنه قوله تعالى: {اسْجُدُواْ لآدَمَ} فإنه سجود تحية بمعنى الانحناء وقال ابن حيوة القصري يقال سجد إذا وضع جبهته على الأرض وس! ف وأسجد إذا طاطأ رأسه وانحنى واسجد أدام النظر قال كثير:
أغرّك منا أنّ ذلك عندنا واسجاد عينيك الصيود بن رابح
انتهى فالسجود في أصل اللغة يكون بمعنى الركوع. قوله: {أَبَى وَاسْتَكْبَرَ} استئناف جواب لمن قال: ما فعل وقال أبو البقاء: إنه في موضع نصب على الحال أي آبيا مستكبرا
والإباء الامتناع باختيار أي مع تمكنه من الفعل فهو أبلغ منه وان أفاد فائدته ولذا صح بعده الاستثناء المفرّغ واستكبار بمعنى التكبر وقدم الإباء عليه وإن كان متأخرا عنه في الرتبة لأله من الأحوال الظاهرة بخلاف الاستكبار فإنه نفسانيّ وأصل معنى التشبع تكلف الشبع ثم تجوز به عن التحلي بغير ما فيه، وقوله من أن يتخذه وصلة الخ راجع إلى جعله قبلة، وقوله أو بعظمه بناء على أنه تحية وقوله أو يخدمه الخ رأجع إلى الوجه الأخير وهو ظاهر. قوله: (في علم الله او صار الخ) إنما أوّلت الآية بما ذكر لأنه لم يحكم بكفره قبل ذلك ولم يجر منه ما يقتضيه فإقا أن يكون التعبير بكان باعتبار ما سبق من علم الله بكفره وتقديره ذلك وقيل: كان بمعنى صار وهو مما أثبته بعض النحاة وردّة ابن فورك وقال تردّه الأصول ولأنه كان الظاهر حينئذ فكان بالفاء والأظهر أنها على بابها والمعنى وكان من القوم الكافرين الذين كانوا في الأرض قبل خلق آدم فيكون كقوله: {كَانَ مِنَ الْجِنِّ} أو كان في علم الله وقوله باستقباحه بيان لكفره متعلق به على الوجهين وقيل إنه متعلق بصار أي تحوّل وانقلب حاله إلى الكفر بسبب استقباحه وانكاره كفره قكيف استقباحه وأنه ردّ على الراغب في قوله إنه ليس بمعنى صاروا لمضي باعتبار زمان الأخبار أو لأنّ الكفر لما أحبط ما قبله صار كأنه كافر قبل ذلك وهو تكلف لا دليل عليه، وقوله والتوسل به في نسخة أو وهو(2/131)
إشارة إلى كونه قبلة وفيه نظر، ثم إنّ جواب الراغب مبنيّ على اعتبار زمان التكلم والإخبار وكذا من قال: معترضا على المصنف رحمه الله: كان إنما تدلّ على كون المذكور بعده واقعا في وقت من الأوقات الماضية أيّ وقت كان وذلك متحقق في كفره لأنه كفر وقت إبائه وهو ماض بالنظر إلى قوله كما أشار إليه في الكشاف وشرحه في سورة ص، وقوله لا بترك الواجب فإنه لا يوجب الكفر في ملتنا ولم يعلم إيجابه قبل ذلك وفيه نظر. قوله: (والآية تدل على أنّ آدم الخ) قيل: عليه هذا إذا كان السجود له أمّا إذا جعل قبلة فلا دلالة عليه وكذا إذا كان تحية كالسلام وأجيب بأن جعل الكعبة قبلة يدل على كونها أفضل البقاع فجعل آدم قبلة دون غيره يدلّ على كونه أفضل، وقيل: إنه مأخوذ من التعليم لآنه المعروف فيه فالأنسب جمعه مع فوائد الآية، وقوله ولو من وجه لأنه لا يلزم التفضيل من كل الوجوه إذ قد يفضلون بالقرب ونحوه، وعليه يحمل ما يقع من تفضيلهم والخلاف فيه مشهور
وقال فخر الإسلام أنه لا طائل تحته والأحسن الكف عنه وما ذكره المصنف رحمه الله فيه إشارة إلى هذا وسيأتي تحقيقه إن شاء الله تعالى، وقوله وأنّ إبليس كان من الملائكة لأنه استثناه منهم ودخوله في الأمر يدل على ذلك وقد نقل عن ابن عباس وغيره وكونه منقطعا ونحوه خلاف المتبادر فمعنى قوله ولم يصح يعني على الاتصال المتبادر وأما قوله: {كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ} الآية فتنافي هذا بحسب الظاهر فأوّلها المصنف رحمه الله بأنه منهم فعلاً لا نوعاً كما قال الشاعر:
نحن قوم بالجن في زيّ ناص
لكنه استبعد بأنه رتب على كونه من الجن فعلهم بقوله ففسق وبأنه مخالف لما سيذكره
في تفسير الآية من أنها دالة على أن الملائكة لا تعصى البتة فهو جني في أصله، وقال علم الهدى: يحتمل أن يكون المعنى أنه صار من الجن بعدما كان ملكا بأن مسخ كما مسخ بعض بني آدم قردة وهو قول ثالث غريب وما رواه عن ابن عباس رضي الله عنهما من أن الملائكة نوعان نوع مجرّدون مطهرون ونوع ليسوا كذلك يناسب قوله فيما سيأتي ولعل ضربا من الملائكة الخ وسيأتي الكلام عليه إن شاء الله تعالى. قوله: (ولمن زعم أنه لم يكن من الملانكة الخ الما تعارضت النصوص فاقتضى بعضها كون إبليس من الجن وبعضها كونه من الملائكة احتاجوا إلى التأويل في أحد الطرفين فاختار المصنف أنه من الملائكة والزمخشرفي أنه من الجن فأشار إلى ضعفه بالتعبير بالزعم وهم يقولون إنه جني سبته الملائكة فأقام معهم فغلبوا عليه لكثرتهم وشرفهم فالاستثناء متصل أيضاً قيل: لأنّ العبرة بالدخول في الحكم لا في حقيقة اللفظ فمن قال إنّ الاستثناء متصل إن كان من الملائكة ومنقطع إن لم يكن منهم لم يصب، وهذا ردّ على السعد وغيره وليس بوارد قال القرافي في العقد المنظوم النحاة وأهل الأصول يقولون المنقطع المستثنى من غير جنسه والمتصل المستثنى من جنسه وهو غلط فيهما فإنّ قوله تعالى: {لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ} [سورة البقرة، الآية: 188] من جنس ما قبله وكذا قوله: {لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى} [سورة الدخان، الآية: 56] وهو منقطع فبطل الحدّان وكذا {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلاَّ خَطَئًا} والحق أن المتصل ما حكم فيه على جنس ما حكمت عليه أوّلاً بنقيض ما حكمت به ولا بذ من هذين القيدين فمتى انخرم أحدهما فهو منقطع بأن كان غير الجنس سواء حكم عليه بنقيضه
أولاً، نحو رأيت القوم إلا فرساً فالمنقطع نوعان والمتصل نوع واحد ويكون المنقطع كنقيض المتصل فان نقيض المركب بعدم أجزائه، فقوله تعالى: {لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ} [سورة الدخان، الآية: 56] منقطع بسبب الحكم بغير النقيض لأنّ نقيضه ذا قوة فيها وليس " كذلك وكذلك إلا أن تكون تجارة لأنها لا تؤكل بالباطل بل بحق وكذلك إلا خطأ لأنه ليس له القتل مطلقاً والا لكان مباحا فتنوع المنقطع إلى ثلاثة أنواع الحكم على الجنس بغير النقيض والحكم على غيره به أو بغيره والمتصلى نوع واحد فهذا هو الضابط فما نحن فيه منقطع إن لم يكن منهم فتأمّل. قوله: (أو الجن كانوا أيضا مأمورين الخ (قيل: الفرق بينه وبين الوجه الأوّل أن التغليب في الأوّل على إبليس فقط وفي هذا على الجن المطلق الداخل فيه إبليس، وكان يحتمل أن يكون الثاني من قبيل دلالة النص لولا قوله والضمير في فسجدوا راجع إلى القبيلين وعلى المادير يكون الاستثناء متصلا(2/132)
لا منقطعا. (أقول (: الظاهر أنّ المصنف رحمه الله أراد الوجه الذي ذكره الإمام بقوله أو يقال: إنه أمر بلفظ غير مذكور في القرآن لقوله تعالى: {إِذْ أَمَرْتُكَ} [سورة الأعراف، الآية: 2 ا] يعني أنه يقتضي أن يكون مأموراً صريحا لا ضمناً فيكون مقدراً وهو وقلنا للجن اسجدوا وقوله فإنه إذا علم الخ بيان للقرينة الدالة عليه فالفرق بينه وبين الأوّل عموم الأمر للجن، والدلالة على ذلك بلفظ مقدر فليس من التغليب في شيء وأمر الضمير ظاهر حينئذ. قوله: (وأنّ من الملائكة من ليس بمعصوم الغ (عطف على انّ إبليس وهو مبنيّ على ما ارتضاه من أنه ملك قال علم الهدى زوال العصمة عن أفراد الملائكة بتحقق المعصية منهم جائز إذا تعلق به عاقبة حميدة لا وخيمة بخلاف الأنبياء عليهم الصلاة والسلام عندنا، وسيأتي الكلام عليه في قصة هاروت وماروت، وفي التيسير وأمّا وصف الملائكة بأنهم لا يعصون ولا يستكبرون فدليل لتصوّر العصيان منهم ولولا تصوّره لما صرّح به لكان طاعتهم طبع وعصيانهم تكلف وطاعة البشر تكلف ومتابعة الهوى منهم طبع ولا يستنكر من الملائكة صدور العصيان مع قصة هاروت وماروت. قوله: (ولعل ضرباً من الملانكة الخ (قال ابن إسحق: الجن اسم للملائكة أيضا لاجتنانهم أي استتارهم عن أعين الناس وهذا معنى قول المصنف يشملهما أي بحسب الاشتقاق وأصل اللغة وقال تعالى: {وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا} [سورة الصافات، الآية: 158] فسر بالملائكة، وورد مثله في كلام العرب قال الأعشى في سليمان عليه الصلاة والسلام:
وسخرمن جن الملائك تسعة قياماً لديه يعملون بلا أجر
وقيل الجن صنف من الملائكة لا تراهم الملائكة مثلنا وقوله كما قاله ابن عباس رضي
الله عنهما لأنه قال: إنّ من الملائكة ضربا يتوالدون يقال لهم الجن أي يطلق عليهم الجن من إطلاق العامّ على الخاص فيكون كقوله يشملهما بلا فرق فلا يرد عليه ما قيل: إن ما ذكره سابقاً عنه أنّ الجن ضرب من الملائكة وأنّ إبليس من ذلك الضرب، وما ذكره ههنا إنه من صنف الجن المقابل لصنف الملائكة منهم ينافيه فأين هذا من ذاك، وقوله فلذلك صح عليه التغير يعني بعد تسليم كونه من الملائكة فلا يرد عليه ما قيل: في التفريع نظر فإنّ صحة تغير حاله لا تقتضي عدم مغايرته الملائكة بالذات بل هو على تقديره أظهر، وقوله كما أشار إليه هذا بناء أيضاً على تفسيره السابق بأنه كان منهم فعلا، فلا يرد عليه أنّ هذه الآية لا تدلّ على أنه من جنسهم. قوله: (لا يقال كيف يصح ذلك) أي عدم المخالفة بينهما بالذات وما ذكره عن عائشة رضي الله تعالى عنها حديث صحيح رواه مسلم. وقوله لأنه كالتمثيل جواب للسؤال المذكور ولم يقل: إنه تمثيل حتى يرد عليه أنه إخراج للنصوص عن ظاهرها كما يذهب إليه الباطنية وكثير من المعتزلة كما توهم لأنّ المفهوم من قوله فإنّ المراد بالنور الخ أنه أمر حقيقيّ وأنه إشارة إلى اتحاد ماذتهما بالجنس واختلافها بالعوارض فهو مشابه للتمثيل في تصوير مدعاه واظهاره ونكص بمعنى رجع وجذعة بمعنى حديثة فتية يقول من يريد الرجوع لأمر مضى إن شئت أعدتها جذعة، وأورد عليه أنه يدلّ على أنّ الجن من نار مخلوطة بالدخان كما صرّح به المصنف وغيره إلا أن يقال: المراد بصفائها صفاؤها بحسب ظاهر الجنس وهو لا ينافي اختلاطها به في الواقع.) أقول) : معنى المرج لغة الخلط فمارج بمعنى مختلط وبه فسره
الراغب فاختلاطه إمّا باعتبار اختلاط بعضه ببعض حال اشتعاله أو باعتبار اختلاطه بالأجزاء النارية التي فيها الحراوة والإحراق الذي هو سبب التأذي والاتقاد، وهو المراد فالخالص منه يكون نورا محضا والمختلط به يكون مارجا فلا يرد عليه شيء وتفسيره النور بالجوهر المضيء احتراز عن الضوء فلذلك يطلق على الله دونه وان كان أبلغ من وجه آخر كما مرّ والمراد بالنصوص الآيات الأحاديث فإنّ فيها ما يخالفه كما في التأويلات مثل ما روي أن تحت العرش نهراً إذا اغتسل فيه جبريل عليه الصلاة والسلام وانتقض يخلق من كل قطرة منه ملك وفيه أيضا إن الله خلق ملائكة من نار وملائكة من الثلج إلى غير ذلك مما يدل بحسب الظاهر على خلقها من غير النور. قوله: (ومن فوائد الآية استقباج الاستكبار الخ) عدها من(2/133)
الفوائد لأنّ فيها إشارة إليها ولا تدلّ عليها ألا ترى أنّ الآية لا تدل على مطلق الاستكبار، ومطلق الأمر وكذا الدلالة على الوجوب إنما تعلم من قوله أفعصيت أمري ونحوه مما هو خارج عنها فلا يرد ما قيل: إنّ كفر إبليس ليس لمخالفة الأمر بل لاستقباح أمره وهو كفر فتأمّله، وكذا دلالتها على أنّ الكافر حقيقة من علم الله موته على الكفر وهو مأخوذ من قوله من الكافرين إذ المراد به أنه في علمه الأزاي كذلك وهذه مسألة الموافاة ومعناها أنّ العبرة بالإيمان الذي يوافي العبد عليه أي يأتي متصفاً به في آخر حياته وأوّل منازل آخرته، ومن فروع هذه المسألة أنه يصح أن يقول: أنا مؤمن إن شاء الله وحيث أطلقت مسألة الموافاة فالمراد بها ذلك وهي مما اختلف فيها الشافعية والحنفية والأشعرية والماتريدية وللسبكي فيها تأليف مستقل وينبني عليها مسألة الإحباط في الأعمال بالردّة وقوله إذ العبرة بالخواتم وفي نسخة بالخواتيم بالياء والقياس الأوّل لأنه جمع خاتمة وروي في الحديث الصحيح: " الأعمال بالخواتيم " وهذا مما جوّزه بعض النحاة في جمع فاعل بالإشباع.
تنبيه: مسألة الموافاة من أمّهات المسائلى وفصلها النسفيّ في شرح التمهيد فقال ما حاصله إنّ الشافعيّ رحمه الله تعالى يقول إق الشقي شقيّ في بطن أمه وكذا السعيد فلا تبديل في ذلك ويظهر ذلك عند الموت ولقاء الله وهو معنى الموافاة والماتريدية رحمهم الله يقولون: {يَمْحُو اللهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ} فيصير السعيد شقياً والشقيّ سعيداً إلا أنهم يقولون من مات مسلماً
مخلد في الجنة ومن مات ك افراً مخلد في العذاب باتفاق الفريقين فلا ثمرة للخلاف أصلاً إلا أن يقال: إن من كان مسلماً وورث أباه المسلم إذا مات كافراً يردّ ما أخذه على بقية الورثة المسلمين وكذا الكافر وتبطل جميع أعماله والمنقول في المذهب خلافه فحينئذ لا ثمرة له إلا أنه يصح منه أن يقولط أنا مؤمن إن شاء الله بقصد التعليق في المستقبل حتى لا يكون شكا في الإيمان حالاً ولا حاجة لتأويله والماتريدية يمنعون ذلك مطلقاً. قوله: (السكنى من السكون الخ) يعني أنّ اسكن أمر من السكنى بمعنى اتخاذ المسكن لا من السكون بمعنى ترك الحركة ولذا ذكر متعلقه بدون في إلا أنّ مرجع السكنى إلى السكون وتأكيد ضمير اسكن المستتر بأنت لئلا يلزم العطف على الضمير المتصل بلا فصل وهو ممتنع في فصيح الكلام وصحة أمر الغائب بصيغة أفعل للتغليب مثل أنا وزيد فعلنا وايثاره على اسكنا للإشعار بالأصالة والتبعية هكذا قاله قدس سرّه: يعني أنّ السكون والسكنى من أصل واحد وأنّ المقصود هنا هو الثاني والجنة مفعول به لأنّ معناه أتخذ الجنة مسكنا وأمّا إذا كان من السكون فهو مفعول فيه فيجب إظهار في لأنه ليس بمكان مبهم وأنّ التأكيد ليصح العطف إذ شرطه الفصل سواء كان بتأكيد أو غيره وزوجك اسم ظاهر، وهو من قبيل الغيبة وأسكن أمر للمخاطب المذكر فلا يصح جعله مأمورا به ولذا قدّر فيه بعضهم وليسكن زوجك وجعله من عطف الجمل لأنه لا يصح هنا حلول المعطوف محل المعطوف عليه والمجوّز له قال: هو ليس بلازم كما يصح تقوم هند وزيد بلا خلاف وجعلوه تغليبا بل تغليبين لأنه غلب فيه المخاطب على الغائب والمذكر على المؤنث إلا أنّ هذا التغليب خفاء مع أنه يلزم فيه تغليب المؤنث على المذكر في نحو تقوم هند وزيد إذ معنى السكون والأمر موجود فيهما حقيقة، والتغليب من المجاز فإمّا أن يلتزم أنه قد يكون مجازا غير لغويّ بأن يكون التجوّز في الإسناد أو يقال: إنه لغويّ لأنّ صيغة هذا الأمر للمخاطب وقد استعملت في الأعمّ منه فتأمّل ثم إنّ المذكور في المعاني أنّ التأكيد لتقرير النسبة ونحوه ولم يذكروا من فوائده تصحيح العطف ولا ضير فيه لأنه أمر لفظيّ تكفل به النحو وقد جوّز في هذا الأمر أن يكون من السكون أيضا لكنه مرجوح لمنافاته لقوله حيث شئتما واحتياجه إلى التجوّز ونكتة التغليب ما ذكروه من الدلالة على التبعية، وأمّا كون نصبه على أنه مفعول معه ففيه نظر ظاهر مع أنه ليس بلازم سلوك أحد الطريقين المتساويين ثم إنّ الأمر والنهي في هذه الآية منسوخان بقوله اهبطوا. قوله: (والجنة دار الثواب الخ) أي التي لا يقع الثواب الحقيقي إلا فيها وكون التعريف للعهد لأنها معلومة لهم ولغيرهم لأنها المتبادرة عند الإطلاق ولسبق(2/134)
ذكرها في هذه السورة، وهذا هو المعروف عند المفسرين وأمّا القول الآخر فمرجوح ولا عبرة بقوله في التأويلات الأحوط والأسلم هو الكف عن تعيينها والقطع به، قال القرطبيّ رحمه الله: حكي عن بعض المشايخ أنّ أهل السنة مجمعون على أنّ جنة الخلد هي التي أهبط
منها آدم عليه الصلاة والسلام فلا معنى لقول المخالف كيف يطلب شجرة الخلد وهو في دار الخلد لعكسه بأن يقال: كيف يطلب شجرة الخلد في دار الفناء وكأنه فهم من قوله اسكن أنها عارية مستردّة فطلب سبب البقاء وهي والنار موجودتان وبعضهم نفى وجودهما كما بين في الأصول فأوّلها هنا بالمعنى االمغوفي وهو البستان وأوّل الإهباط وهو النزول من العلو على يمكبيل القهر بخلاف الإنزال فإنه أعتم كما قاله الراغب: بمجرّد الانتقال من أرض! إلى أخرى كما في أهبطوا مصراً وفلسطين بكسر الفاء وفتحها كورة بالشأم وقرية بالعراق وعلى الثاني ما في التيسير قلوا هذه الجنة كانت بستانا بين فارس وكرمان من أرضى فارس وعلى الأول كلام المصنف رحمه الله ولذا قال: أو بين الخ فلا يرد عليه ما قيل: إنّ الأولى طرح أو من البين لما في التيسيو وقيل: إنه كان بعدن، وقوله امتحانا لآدم عليه السلام إذ كان سبباً لهذه القصة.
تنبيه: قول المصنف دار ثواب يقتضي أن في الجنة تكليفا والمشهور خلافه كما فصله ابن فورك فقال: فيها أقوال فذهب قوم إلى أنه لا تكليف فيها أصلاً وما أوهم خلافه فمؤوّل وما ذكر عن آدم إنما هو نعيم تفضلاً من الله وذهب آخرون إلى أنها لا تكليف فيها بعد الحشر، وقبله فيها ذلك وبه يجمع بين الآيات وأنها دار دعة ونعيم والدنيا دار تعب ونصب وعلى هذا كان ستر عورة آدم واجبا عليه فاعرفه. قوله: (واسعاً رافها) صفة مصدر محذوف أي أكلاً رغدا والرغد الهنيء الذي لا عناء فيه، وقال الليث: يأكل ما شاء متى شاء حيث شاء فيكون حيث شئتما كالتفسير له والرافه والرفيه بمعنى المخصب اللين، وقيل: إنه حال بتأويل راغدين مرفهين. قوله: (أي مكان من الجنة شئتما الخ (قيل: حيث للمكان المبهم ففسر بالعموم لقرينة المقام وعدم المرجح ولم يجعله تعلقا باسكن مع أنه أظهر من جهة المعنى لوقوع الفاصل وفيه نظر لأنّ التكريم في أكل من كل ما يريد منها لا في عدم تعيين السكنى، ولأنّ قوله فكلا من حيث شئتما في محل آخر يدلّ عليه وكذا ما بعده من قوله ولا تقربا هذه الشجرة ومنه تعلم حال ما قيل: إنّ الأول تعليقه بهما معنى وجعله من التنازع، وتوسيع الأمر بعدم حصره في ماكول مخصوص حتى يمل، والإزاحة الإزالة وكما وسع الأمر ضميق النهي والفائتة للمحصر لمعنى السابقة له يقال: فاتني كذا أي سبقني وسبق الحصر كناية لطيفة عن عدمه. قوله: (فيه مبالغات تعليق النهي بالقرب الخ) أي مبالغة من وجوه، منها أنّ المنهيّ عنه الأكل منها فنهى عن قرب الشجرة المأكول منها ومنها أنّ العصيان مع كونه مرتباً على أكل رتبه على القرب،، منها أنّ الظاهر أن يقال فتأثماً فعبر بالظلم الذي يطلق على الكبائر ولم يكتف بأن يقول ظالمين
بل قال: من الظالمين على ما تقرّر وسيأتي إن شاء الله تعالى أنّ قولك زيد من العالمين أبلغ من قولك زيد عالم لجعله عريقا في العلم أى عن جد وكذا تكونا لأنها تدلّ على الدوام ومن غفل عن هذا قال: كأنه أطلق الجمع وأراد التثنية لأن المبالغة هنا بطريقين، أحدهما تعليق النهي بالقرب كما بينه وثانيهما جعله سبباً لكونهما من الظالمين أو يقال: الأولى لما تضمنت اعتبارات جعلت أكثر من واحدة وضمير تحريمه وعنه للقرب اهـ وقيل: لا تقرب بفتح الراء نهى عن التلبس بالفعل وبضمها بمعنى لا تدن منه وضمير يأخذ للميل ومجامع القلب أي أطراف ما يحيط به، وقوله كما روي الخ هو حديث أخرجه أبو داود عن أبي الدرداء رضي الله عنه مرفوعاً وقال الميدانيّ معناه يخفي عنك معائبه ويصم أذنيك عن سماع مساويه كما قال الشاعر:
وكذبت طرفي فيك والطرف صادق وأسمعت أذني فيك ما ليس يسمع
قوله:) وجعله الخ) أي القرب وفسر الظلم بظلم نفسه بالمعصية إما بناء على تجويز مثله
أو أنه قبل البنوّة أو ليس في دار التكليف أو بمعنى نقص الحظ إن لم يكن كذلك لأن الظلم يكون بمعنى نقص الشيء من حقه كما أشار إليه الراغب رحمه الله، وأورد عليه أنه مخالف لقطعه فيما سبق بكون النهي المذكور للتحريم(2/135)
بناء على الظاهر المتبادر.
قوله: (تفيد السببية سواء جعلته الخ (يعني أنه إمّا مجزوم بحذف النون معطوف على
تقربا فيكون منهيا عنه أو على مذهب الكسائي فإنه يجوّز لا تكفر تدخل النار وكان جملى أصل معناها أو منصوب بحذفها على أنه جواب للنهي كقوله تعالى: {وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ} [سورة طه، الآية: 81] والنصب بإضمار أن عند البصريين وبالفاء نفسها عند الجرمي وبالخلاف عند الكوفيين وكان حينئذ بمعنى صار. قوله: (والشجرة الخ) وقيل: هي الحنظلة وقيل: النخلة إلى غير ذلك والأولى عدم القطع والتعيين كما أن الله لم يعينها باسمها في الآية ولا يترتب على تعيين الشجرة ثمرة والشجر ما له ساق، وقيل: كل ما تفرّع له أغصان وعيدان وقيل: أعمّ من
ذلك لقوله تعالى: {شَجَرَةً مِّن يَقْطِينٍ} [سورة الصافات، الآية: 146] وقوله: من أكل منها أحدث أي تغوّط ولا حدث في الجنة. قوله: (وقرئ بكسر الشين الخ) قال السمين رحمه الله: قرئ الشجرة بكسر الشين والجيم هإبدالها ياء مع فتح الشين وكسرها لقربها منها مخرجاً وبقية القراآت ظاهرة. قوله: (أصدر زلتهما عن الشجرة الخ) في الكشاف وتحقيقه فأصدر الشيطان زلتهما عنها، وعن هذه مثلها في قوله تعالى: {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} [سورة الكهف، الآية: 82، وقوله:
ينهون عن أكل وعن شرب
قال العلامة: يعني لما كان عن ههنا للسببية فاصل الكلام أن يقال: فازذ بهما فاستعمال
عن لأنه معنى الإصدار كقوله وما فعلته عن أمري أي ما فعلته بسبب أمري وتحقيقه ما أصدرته عن اجتهادي ورأي وإنما فعلته بأمر الله. اهـ فضمن الفعل معنى الإصدار وعلق به عن التعليلية مع بقاء معنى المجاوزة فيها في الجملة لأنّ المعلول إذا برز بعلته فقد تجاوزها ومثله قول بعض العرب يصدر عن رأيه أي أنّ رايه سبب لما يصدر منه من الأفعال لا غير فاعرفه فإنّ بعض الناس لم يعرف معناه وسياتي في محله وقوله وحملهما على الزلة قيل: يعني يجوز أن يكون من قولك زل الرجل إذا أتى زلة وأزله غيره حمله على ذلك فيكون الضمير للشجرة والمعنى فحملهما الشيطان على الزلة بسببها وتحقيقه فأصدر الشيطان زلتهما عنها، وبهذا التاويل عدى بعن، وقيل: إنه إشارة إلى أنّ في الإصدار عن الشجرة تجوّزا بتنزيل السبب منزلة الفاعل بجعل الشجرة التي هي سبب الزلة فاعلاَ مصدرأ لها كالسكين للقطع ومنه يعلم أن ما يقال: إن طريق التضمين أن يجعل الفعل المضمن في المعنى حالاً ليس بلازم، وقوله ونظيرة عن هذه في قوله في الكلأم مقدر أي عن في قوله أو موجودة في قوله الخ أي ما أصدرت فله عن اجتهادي ورأي وإنما فعلته بأمر الله. قوله: (أو أزلهما عن الجنة بمعنى أذهبهما) من قولهم زل عني كذا إذا ذصب وأصل معناه كما قال الراغب: استرسال الرجل من غير قصد يتهال: زلت رجله تزلّ والمزلة المكان الزلق وقيل: للذنب من غير قصد زلة وإليه أشار المصنف بقوله إن زل يقتضي عثرة، وقوله ويعفده الخ لم يقل يدذ عليه لاحتمال عوده إلى الشجرة بتقدير مضاف أي عن محلها أو تجوّز، ولا ينافي هذه القراءة قوله فاخرجهما لما سيأتي في تفسيره، ولا يعارضه
قراءة ابن مسعود رضي الله عنه فوسوس لهما الشيطان عنها أي عن الشجرة لأنها شاذة مع أنه يصح عود الضمير إلى الجنة بتضمين الإذهاب ونحوه، وقوله ومقاسمته إياهما إني لكما لمن الناصحين أي مقاسمته على ذلك أو بقوله ذلك وسيأتي تفسيرها وقد قالوا أوّل مخلوق كذب وحسد إبليس. قوله: (واختلف في أنه تمثل لهما فقاولهما الخ) أي تمثل في صورة غيره فكالمهما بما ذكر من الكلمات أو ألقاه بطريق الوسوسة من غير تصوّر وتكلم كما هو الآن وقيل: الأمر في قوله أخرج يحتمل أن يكون للإهانة كما في قوله كونوا حجارة وهو بعيد. قوله: (قام عند الباب فناداهما) اعترض عليه بأنه لا يصح مع قوله: {فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ} إذ الوسوسة الصوت الخفيّ وله أن يقول: إنه أصل معناها كما سيأتي وقد تستعمل للكلام على وجه الإفساد مطلقا. قوله: (بعض اتباعه) قوّاه الإمام بأنهما كانا يعرفانه ويعرفان عداوته وحينئذ فيستحيلى أن يقبلا قوله وقيل: عليه كانه لم يتأمل قوله تعالى: {وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا} إلى قوله {إِنَّ الشَّيْطَآنَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ} فإنه صريح في مباشرة الشيطان نفسه وفيه نظر وقوله والعلم عند الله إشارة إلى ما قال أبو منصور رحمه الله تعالى ليس لنا البحث عن كيفية ذلك ولا نقطع القول بلا دليل. قوله: (أي من(2/136)
الكرامة والنعيم) اختار هذا التفسير لصحته على كل من الاحتمالين المذكورين في مرجع ضمير عنها وأما تفسيره بالجخة فمخصوص بعوده إلى الشجرة وهو ظاهر، وقيل: أخرجهما من لباسهما الذي كانا فيه من نور أو حلة أو ظفر لأنهم لما أكلا منها تهافت عنهما. قوله: (خطاب لآدم عليه الصلاة والسلام وحواء الخ) في الكشاف والصحيح أنه لآدم وحواء، والمراد هما وذرّيتهما الخ واستدل بالآية المذكورة لتعين الخطاب فيها لهما والقصة واحدة وبعضكم لبعض عدوّ حكم فيما بين الذرية وليس المراد التعادي بينهما وبين إبليس بل فيما بين بني آدم لقوله تعالى: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ} [سورة طه، الآية: 23 ا] الخ حيث قسمهم إلى المؤمنين والكافرين وبين ما لكل فريق من الجزاء وقوله وجمع الضمير الخ ظاهر. أنه لتنزيلهما منزلة البشر كلهم بهذا الاعتبار لا لشمول الخطاب لهم ولذلك ترك قول الزمخشريّ والمراد الخ لأنه وأن ارتبط به ما بعده كما قرره شرإحه وقد نقلناه لكنه لا مساغ له إلا على القول بأنّ خطاب المشافهة يشمل المعدوم، فتأمل. قوله: (أو لهما وإبليس) معطوف على قوله لاً دم ولما اقتضى هذا اهباطه معهما وقد طرد منها قبل ذلك وجهه بأنه منع من دخولها على وجه التكرمة
لا من دخولها للوسوسة أو مسارقة أو إنّ المأمور به ليس هو هبوطهم من الجنة بل من السماء التي هي أعم فيشمل ذلك إبميس لعارض! ، وقد رجح هذا بعضهم لأنه تفسير السلف كمجاهد وابن عباس رضي الله عنهما ولا يلزمه تكلف كجعل الخطاب شاملا للمعدوم والحال مقدرة وفي التيسير أنّ أمر اهبطوا ينتظمهم ولا يلزم أن يكون دفعة واحدة حتى يرد عليه ما قيل إن إبليس خرج قبل ذلك وهو مخالف للظاهر وقيل لهما والحية وهذا يقتضي كون الحية عاقلة واستبعد الإمام حكاية الدخول في فم الحية بأنه لم يتمثل حية ابتداء ولم عوقبت الحية مع أنها ليست ى قلة، وهذا الأمر تكويني فلا يستلزم أنها عاقلة، فتأمل. قوله: (حال استغنى فيها عبالواو عن الضمير الخ) قيل: الاكتفا بالضمير في الجملة الاسمية ضعيف لا يليق بالنظم المعجز، ولذلك جعل بعض المعربين هذه الجملة استئنافية ووجه بأنّ الجملة هنا مؤوّلة بالمفرد لأن بعضكم لبعض عدوّ بمعنى متعادين كما أشار إليه المصنف رحمه الله ومثلها يستغني فيه بالضمير عن الواو أو أنّ هذه الحال دائمة والحال الدائمة لا تكون بالواو، فلا حاجة إلى التأويل (أقول) التحقيق ما ذكره أبو السعادات في كتاب البديع من أن الجملة الحالية لا تخلو من أن تكون من سببي ذي الص ل أو أجنبية فإن كانت من سببيه لزمها العائد والواو تقول: جاء زيد وأبوه منطلق وخرج عمرو ويده على رأسه إلا ما شذ من نحو كلمته فوه إلى فيّ، وان كانت أجنبية لزمتها الواو نائبة عن العائد وقد يجمع بينهما نحو قدم عمرو وبشر قام إليه وقد جاءت بلا واو ولا ضميرقال:
ثم انتصبظ جبال ا) ! غد معرضة عن اليسط روعن أيماننا جدد
فجبال الصغد معرضة حال اهـ. وبقي قسم ثالث وهي أن تكون صفة ذي الحال نحو
وليتم وأنتم معرضون وكلام النحاة يدلّ على أنه يجوز فيها الوجهان بالمراد وما نحن فيه إن كان الخطاب لهما وللذرية فهو من هذا القسم لصدور التعادي منهم حتى من آدم عليه الصلاة والسلام لعداوته لبعض أولاده كما يعلم من قصة قابيل وهابيل وكذا على الوجه الآخر فعليك بتطبيق كلامهم على هذا حيث جوّزوه تارة ومنعو. أخرى، وأما التأويل بالمفرد فليس بشيء لأن كل حال مؤوّلة به وواقعة موقعه ألا ترى أنّ فوه إلى فيّ بمعنى مثافها مع أنهم ضعفوه وكذا الفرق بين الدائمة وغيرها فاحفظه، وهذه الحال مقدرة ويصح أن تكون مقارنة على الوجه الثاني فإن قلت: كيف يقيد الأمر بالتعادي وهو منهيّ عنه فإنك لو قلت لأحد قم ضاحكاً وأنت تنهاه عن الضحك لم يصح، قلت الأمر كذلك إذا كان تكليفا أما إذا كان تكوينا كما في قوله كونوا قردة خاسئين فلا، ولذا نقل عن ابن عباس رضمي الله عنيما أنّ الجن كلهم مامورون بالهبوط وقد قيل إنهم غير مكلفين، وأما قول أبي حيان رحمه الله أنّ الفعل إذا كان مأمورا به من يسند إليه في حال من أحواله لم تكن تلك الحال مأمورا بها لأنّ النسبة الحالية نسبة تقييدية لا إسناد
به فلو كانت مأمورا بها لم تكن تقييدية فليس بشيء لأن المنظور إليه في الكلام القيد فإذا قيل(2/137)
صل قائماً أو مستتراً فهو مأمور به بلا شك وما خالف ذلك يحتاج إلى التأويل وقوله بتضليله قيل: إن كان الشيطان داخلا فيه فهو ظاهر، وأما على تقدير التخصيص بآدم وحواء فباعتبار أن يراد بهما ذريتهما إما بالتجوّز كإطلاق تميم على أولاده كلهم أو يكتفي بذكرهما عنهم وفيه نظر لأن معناه يظلم بعضكم بعضاً بسبب تضليل الشيطان وهذا إن لم يكن على خروجه أظهر فليس الاحتمال الآخر أولى به منه. قوله: (موضع استقرار الخ) يعني أنه إما اسم مكان أو مصدر ميمي ولم يعرّج على كونه اسم زمان وإن احتمله اللفظ لأنه يتكرر مع قوله ومتاع إلى حين وكذا احتمال كونه اسم مفعول بمعنى ما استقرّ ملكهم عليه وجاز تصرفهم فيه كما ذكره الماوردي لاً نه خلاف الظاهر مع احتياجه إلى الحذف والإيصال. قوله: (تمتع الخ) المتاع البلغة ماخوذ من متع النهار إذا ارتفع والمتاع الانتفاع الممتد وقته ولا يختص بالحقير وقد يستعمل فيه والى حين متعلق بمتاع أو به وبمستقر على التنازع إن كان مصدراً وقيل: إنه في محل رفع صفة لمتاع والحين مقدار من الزمان طويلاً أو قصيرا. قوله: (يريد به وقت الموت أو القيامة) استشكل الثاني بأن المتاع التمتع بالعيش وليس بعد الموت تمتع وأجيب بأن المراد به حصول الثواب والعقاب وتمتع الكافر تهكم على التغليب أو يجعل ابتداء القيامة من الموت لأنّ من مات فقد قاصت قيامته أو جعلت مقدمات الشيء من جملته ولا يخفى أنّ التفسيرين حينئذ واحد أو جعل السكنى في القبر تمتعا في الأرض قيل: وهو أقرب ولا يخفى أنه إذا فسر لكم بأنه لكل أحد احتاج إلى التأويل أما إذا فسر بأنه لجنسكم ولمجموعكم فلا إشكال فتأمل. قوله: (استقبلها بالأخذ والقبول والعمل بها) قال الراغب يقال لقي فلان خيراً وشراً ويقال لقيته بكذا إذا استقبلته به قال تعالى: {وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا} [سورة الإنسان، الآية: 11] وتلقاه كذا قال تعالى: {وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ} [سورة الأنبياء، الآية: 103] وقيل التلقي لغة الأخذ فالعمل خارج عنه فكيف أدرج فيه فقال الطيبي مشيراً إلى دفعه أنه مستعار من التلقي بمعنى استقبال بعض الناس من يعز عليهم إذا قدم بعد غيبته وهو يكون بأنواع الإكرام واكرام الكلمات الواردة من الحضرة الإلهية العمل بها فعلى رفع الكلمات يكون استعارة أيضاً بجعلها كأنها مكرمة له لكونها سبب العفو عنه، وقوله وبلغته إشارة إلى مآل المعنى بعد التجوّز والقول الأوّل هو الأصح المأثور عن ابن عباس رضي الله عنهما وغيره، والثاني أخرجه البيهقي وقوله وبحمدك قال الكرمانيّ أي وسبحتك بحمدك أي بتوفيقك وهدايتك لا بحولي وقوّتي ففيه شكر لله على
هذه النعمة والاعتراف بها والتفويض إلى الله، والواو في وبحمدك أما للحال وأما لعطف الجملة سواء قلنا إضافة الحمد إلى الفاعل والمراد لازمه مجازا وهو ما يوجب الحمد من التوفيق والهداية أو إلى المفعول ويكون معناه سبحت ملتبساً بحمدي لك وقيل: الواو زائدة، وفي الأساس تلقيتة استقبلته وتلقيتة منه من لقيته الشيء فلقاه منه قيل: وإنما لم يجعل من هذا مع ظهوره حيث استعمل بمن ليرتب عليه الأخذ والقبول والعمل وسائر ما يدخل في استقبال الرب! أعزته وأحبابه فعلى هذا يكون من ربه حالاً من كلمات يعني أنّ التوبة إنما تترتب على التلقي ترتباً ظاهرا إلا إذا كان بمعنى الاستقبال المقتضي للإكرام بالقبول والعمل ولذا قال وسائر ما الخ فإنّ من جملته قبول المستقبل، ومن غفل عن مراده قال: فيه بحث لأنّ الترتيب المذكور إنما يتاتى بعد صحة استعمال اللفظ في المعني الذي هو فيه وهو غيرظاهر فكيف يصح جعل الترتيب جهة لصحة الاستعمال فالصواب أن يقال: لأنّ تلقي الكلمات لا يترتب على الإهباط بلا تراخ بخلاف الاستقبال فإنّ ابتداءه وهو الانتظار للكلمات حصل عقيبه بلا تراخ وكذا ما قيل /: الأظهر أنه لم يلتفت إليه لأنه لا يحتمله قرأءة رفع كلمات وبعض هذه القرا آت مفسر لبعض وعلى هذه القراءة لم يؤنث للفصل ومعناها كالقراءة الأخرى لأنّ بعض الأفعال يكون إسنادها إلى الفاعل كإسنادها إلى المفعول من غير فرق نحو نالني خير ونلت خيراً، ومنه تقول لقيت زيدا ولقيني زيد قال قدّس سرّه: ثم إنّ التعبير بالتلقي فيه نكتة غير أبلغية المجاز وهي الإيماء إلى أنّ آدم كان في ذلك الوقت في مقام البعد لأن التلقي استقبال من جاء من بعيد وتصدير هذه الجملة بالفاء ظاهر، وعلمها إما من التعليم(2/138)
المجهول أو من العلم المعلوم. قوله: (وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال يا رب الخ) هذا الحديث أخرجه الحاكم في المستدرك وغيره وصححه وبيدك بمعنى قدرتك وبلى وقع بدلها نعم في بعض التفاسير وقوله: أراجعني قال قدس سره اسم فاعل أضيف إلى المفعول وأنت فاعله لاعتماده على الاستفهام أو مبتدأ وأما نسخة زين المشايخ وقيل: عليها السماع أراجعيّ بتشديد الياء فحملها على سهو القلم أقرب من أن يجعل راجمي جمعا مضافا إلى ياء المتكلم واقعاً خبر أنت أي أنت راجعوني إلى الجنة كما في قوله:
ألا فارحموني يا إله محمد
وعلى النسختين فوقوع الجملة الاسمية جزاء الشرط محل بحث انتهى. (أقول) هذا مما
لم يصححه شراح الكشاف وجملة ما قالوه ما ذكره الشارح المحقق فإن صحت الرواية به فلها
عندي وجه بديع أشار إليه الرضيّ وتفصيله على ما قال الجعبرفي في شرح الرائية أنّ بني يربوع يزيدون على ياء الضميرياء أخرى صلة لها حملاً على هاء الضمير المكسورة بجامع الإضمار والخفاء كما زادوها على تاء المخاطبة نحو قوله رميتيه فأصبت وما أخطأت الرمية ونقل عن سيبويه رحمه الله قريباً منه فقوله فحملها الخ مردود وقوله محل بحث مردود أيضا لأنه كيف يتردد في صحة وقوع الجملة الاستفهامية جزاء وهو في القرآن أكثر من أن يحصى كقوله: {أَرَأَيْتَ إِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى} [سورة العلق، الآية: 13] قال الرضي: هل لا تقع في الجزاء بدون الفاء أبدا بخلاف الهمزة وأسماء الاستفهام فإنه يجوز معها الوجهان والهمزة في الجزاء عند التحقيق متقدّمة على الشرط فقولك إن جئتني أتكرمني مآله أن جئتني تكرمني ومن لم يحققه قال إنه مخالف لما في شرح التلخيص من تجويز وقوع الجزاء طلبياً نحو إن جاءني زيد فأكرمه إلا أن يفرق بين الأمر والاستفهام وقوله في الحديث من روحك معناه من روح خلقتها والإضافة للتعظيم كما ذكره الراغب، ثم ذكر إن الكلام والكلمة من الكلم وهو الجرح والتأثير وفي قوله المدرك بإحدى الحاستين تسمح أي المدرك أثره والكلام والجراحة لف ونشر مرتب. قوله: (رجع عليه بالرحمة وقبول التوية الخ) التوية إذا أسندت إلى المجد فمعناها الرجوع عنه مع الندم والعزم على عدم العود إليه كما أشار إليه المصنف رحمه الله وفي حقوق العباد المالية ونحوها لا بذ من الرد والاستحلال ولم يذكره المصنف رحمه الله لدخوله في كلامه لأن الغاصب ما دام الغصب في يده أو ذمته لا يقال إنه رجع وإذا أسندت إلى الله فمعناها قبول التوبة والعفو عن الذنب ونحوه أو التوفيق لها ولما كانت الفاء للتعقيب وقد روي أنهما بكيا مائتي سنة ونحوه مما يدل على خلافه أشار إلى جوابه بقوله وإنما رتبه الخ فأما أن يريد أن ما قبله وهو تلقي الكلمات بالقبول والعمل بها هو عين التوبة أو مستلزم لها وقبول التوبة مترتب عليه فهي لمجزد السببية أو أن التوبة لما دام عليها يصح التعقيب باعتبار آخرها إذ لا فاصل بينهما ولا حاجة إلى ما قيل: إنه كان منتظراً لقبولها فترتب ذلك على آخر انتظاره وليس في الكلام حذف حتى تكون الفاء فصيحة كما توهم وقوله وهو الاعتراف ذكر ضمير التوبة مراعاة للخبر. قوله: (واكتفى بذكر آدم) عليه الصلاة والسلام يعني لم يقل عليهما لأن النساء متبع يغني عنهن ذكر المتبوع وترك التصريح أحسن وفسر التوبة في الثواب بالرجوع إلى المغفرة لأنه أوفق بمعناه اللغوي مع استلزامه للمعاني الأخر والكثرة من صيغة المبالغة وذكر
الرحمة إحسان على إحسان. قوله: (كرّر للتثيد الخ) ولذا لم يعطف وحسنه أنه رتب على الأوّل غير ما رتب على الثاني وهو نوع من البديع يسمى الترديد وقد يعاد المبنيّ عليه تأكيدا وتذكبراً له لطول الفصل، كما سيأتي في آل عمران في فلا تحسبنهم فمن قال التكرار في الكلام التام خصوصا بعد الفصل بالأجنبيّ المحض للتأكيد بيد جداً ولذلك عطف الزمخشريّ عليه ما ذكر من النكتة بالواو لم يصب وقدم على هذا التوبة والتلقي لفرط الاهتمام بصلاح حاله وفراغ باله والإخبار بقبول توبته والتجاوز عن هفوته وإزالة ما عسى تتشبث به الملائكة عليهم الصلاة والسلام وقد فضل عليهم وأمروا بالسجود له فإن كان كذلك في المحكيّ فلا كلام فيه والا فالحكاية تراعي فيها تلك النكت أيضا فلا يرد عليه شيء كما توهم. قوله: (أو لاختلاف المقصود الخ)(2/139)
فالفصل عن السابق ليس لأنه تأكيد بل لتباين الغرضين من الجملتين وهو من جهات الفصل ثم بين التغاير بينهما بأنهم ذكر إهباطهم أوّلاً للتعادي وعدم الخلود فالأمر فيه تكوينيّ، وثانيا ليهتدي من يهتدي ويضل من يضل فالأمر فيه تكليفيّ إذ لم يكن لهم تكليف قبله بغير المنع من الشجرة، وعبر في الأوّل بدلّ لأنه منطوقه فالتعادي والابتلاء من قوله بعضكم الخ وعدم الخلود من قوله إلى حين، وفي الثاني بأشعر لأنه من فحوى الكلام إذ لم يصرح فيه بتكليف وإنما أخذ من تعقيبه بالفاء واهتدى الهدى إما على الحذف والإيصال أي إلى الهدى أو على تضمينه فعل الهدى أو سلك الهدى ونحوه. قوله: (والتنبيه على أن مخافة الإهباط الخ) الأمر إن هما ما ذكر مع الأوّل من التعادي وزوال الخلود وما ذكر مع الثاني من التكليف معنى فكان ينبغي أن لا يخالفا لخوف الإهباط لأحد هذين الأمرين فكيف بجميعهما فلو لم يعد الأمر لعطف فإما يأتينكم على الأوّل فيكون المعاقب به هو الإهباط المترتب عليه جميع هذه الأمور والحازم بالحاء المهملة والزاي المعجمة الضابط لأموره المستوثق فيها، وقوله ولكنه نسي الخ اقتباس لبيان عذره بأنه نسي ما أمر به ولو لم ينسه لخاف من الطرد المترتب عليه ما ذكر وقوله وان كلى واحد توضيح لما مر وبيان له في نفسه. قوله: (وقيل الأول من الجنة الخ) وهو ضعيف لأنه يأباه قوله في الأوّل: {وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ} [سورة البقرة، الآية: 36] الخ ولأنّ الظاهر اتحاد مرجع الضمائر ثمّ وما قاله الإمام من أنه لما من إلله عليهما بالقبول ربما توهم الإعادة إلى الجنة فبين أنه أمر محتوم وقضاء مبرم فهو حسن ولا ذكر
للسماء هنا وأما ما قيل: إن التوبة إنما صدرت وهو في الأرض فلا خفاء في ضعف ترتبها على الهبوط إلى السما الدنيا بالفاء فقيل: إنه ليس بذاك إذ لم يثبت أنه عليه الصلاة والسلام تاب بعد الهبوط بل الظاهر من قوله فتلقى حيث عطف بالفاء الدالة على عدم تراخيه عنه أنه عليه الصلاة والسلام تاب قبل الهبوط لأنه تدريجي، فلو تأخرت عنه التوبة لتأخر عن الأمر المذكور زمانا، وجميعاً حال من فاعل اهبطوا أي مجتمعين سواء كان في زمان واحد أم لا وهذا هو الفرق بين جاؤوا جميعاً وجاؤوا معا فإن الثاني يقتضي اتحاد الزمان بخلاف الأوّل وقد وهم في هذا بعضهم نعم قد يفهم من سياق الكلام في بعض المقامات ولذا قال المصنف رحمه الله في تفسير قوله تعالى: {فَسَجَدَ الْمَلآئِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} في سورة الحجر أنه أكد بكل للإحاطة وبأجمعين للدلالة على أنهم سجدوا مجتمعين دفعة فلا يقال: إنه مناف لكلامه فتأمل. وقيل: إنه تأكيد لمصدر محذوف أي هبوطا جميعا وإنما أتى بالضمير المنفصل في قوله أنتم أجمعون لأنه لا يصح تكيد الضمير المتصل بألفاظ التأكيد قبل تأكيده بالمنفصلى وهو وان اختص بالنفس والعين وجوباً فإنه يحسن في غيره بالقياس عليه فلا يقال إنه اشتبه عليه التأكيد بأجمعين بالتأكيد بالنفس وقوله كما ترى كناية عن ظهور ضعفه بحيث يغني إدراكه عن بيانه. قوله: (الشرط الثاني الخ) الشرط الثاني هو من الشرطية ومنهم من أعربها موصولة والفاء تدخل في حيزها لتضمنها معنى الشرط وجعله مع جوابه جواب الأوّل ومنهم من قدر جواب الأوّل محذوفا ومهم من قال الجواب لهما والأصح ما ذكره المصنف رحمه الله وإذا زيدت ما التأكيدية على أن الشرطية كد الفعل بعدها بنون التأكيد لأنّ التأكيد أوّلأ وطأ لذكره ثانيا ولذا قال المصنف رحمه الله ولذلك الخ. مع أن الشرطية لا يؤكد فيها في الأكثر وإنما يكثر في الطلب والقسم ثم إنه هل هو على سبيل الوجوب حتى إنه لا يخالف إلا في ضرورة أو شذوذ كقوله:
أما ترى رأسي حاكى لونه
أو هو الحسن الشائع قولان للنحاة اختار المصنف رحمه الله الثاني لأنّ الأصل عدمه فإذا
رجع إليه لا ينبغي أن يقال إنه ضرورة. قوله: (وإنما جيء بحرف الشك الخ الما كان الظاهر إذا قال الزمخشريّ: أنه للإيذان بأنّ الإيمان بالله والتوحيد لا يشترط فيه بعثة الرسل دمانزال الكتب وأنه إن لم يبعث رسولاً ولم ينزل كتابا كان الإيمان به وتوحيده واجبا لما ركب فيهم من العقول ونصب لهم من الأدلة ومكنهم من النظر والاستدلال يعني أنه لو لم يكن طريق العقل
كافياً لكان إتيان الكتاب والرسول واجبا فلم يكن يصح الإتيان بكلمة الشك فلما(2/140)
أتى بها آذن أنه ليس بواجب فتعين الوجوب بطريق العقل وهذا على أصول المعتزلة وأما عندنا فلا وجوب على الله فوجه كلمة إن ظاهر إذ لا قطع بالوقوع بل إن شاء هدى وان شاء ترك لكن لما علم من لضله ورحمته أكد كلمة أن بما إيماء إلى رجحان الوقوع وهذا معنى كلام المصنف رحمه الله مهو ردّ عليه لابتنائه على التحسين والتقبيح العقليين وقيل: إنّ الهدى الخاص بإنزال الكتب والإرسال ليس بواجب عند المعتزلة أيضاً فلا ردّ فيه فتأمّل وقيل: إنّ إنّ إذا قرنت بما! لا نقتضي الشك واعترض عليه بأنّ المفهوم منه أن ما يحتمل في نفسه لكونه غير واجب عقلاً من مواقع إن وهو ينافي ما مر في قوله تعالى: {فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ} [سورة البقرة، الآية: 240] وفيه لظر، ومتى متعلق بيأتينكم لأنّ الخير كله منه. قوله: (وكرر لفظ الهدى الخ) النكرة إذا أعيدت معرفة فهي عين فكان الظاهر الإضمار لكته ليس بكليّ وهي هنا غير لأنّ الأوّل الهداية الحاصلة بالرسل والكتب، والثاني أعم لأنه شامل لما يحصل بالاستدلال والعقل وليس هذا مبنيا على مذهب المعتزلة كما توهم، وقيل إنه جعل الهدى أوّلاً بمنزلة الإمام المتبع المقتدى به ثم ذكر. مضافا إلى نفسه وفيه من التعظيم ما لا يكون لو أتى به معرّفاً باللام وإن كان ذلك سبيل ما يكون نكرة ثم بعاد فكيف لو اكتفى عنه بالضمير وهذا وجه وجيه للعدول من غير احتياج إلى مخالفة القاعدة وهو من قول الطيبي أنه وضع المظهر موضمع المضمر للعلية لأنّ الهدى بالنظر إلى ذاته واجب الاتباع وبالنظر إلى أنه أضيف إلى الله إضافة تشريف أحرى وأحق أن يتبع وهذا موافق لقوله: {وَالَّذِينَ كَفَرواْ} في مقابلة {مَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ} فالمقابل له حكم المقابل، وقوله ما أتاه الخ بيان للعموم السابق. قوله: (فلا خوف عليهم فضلاَ الخ (خوف مبتدأ وعليهم خبره او عاملة عمل ليس والأوّل أولى، وقرىء بالرفع وترك التنوين لنية الإضافة وبالفتح والخوف الفزع مما يكون في المستقبل فيكون قبل وقوعه منفيه يدل على نفي الوقوع بالطريق الأولى وليس المراد نفي الخوف بالكلية بل نفيه عنهم في الآخرة كما سيأتي وقوله ولا هم ممن يفوت عنهم محبوب تفسير للحزن وهو ضد السرور مأخوذ من الحزن وهو ما غلظ من الأرض! فكأنه ما غلظ من الهمّ ولا يكون إلا في الأمر ال! ماضي عند بعضهم فيؤوّل حينئذ {إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَن تَذْهَبُواْ بِهِ} [سورة يوسف، الآية: 13] ونحوه بعلمه بذلك الواقع وقيل: إنه والخوف كلاهما في المستقبل لكن الخوف استشعار لفقد مطلوب والحزن استشعار غمّ لفوت محبوب كما في إني ليحزنني الآية وقيل: لا خوف عليهم من الضلالة في الدنيا ولا حزن من الشقاوة في العقبى وقدم انتفاء الخوف لأنّ انتفاء الخوف فيما هو آت أكثر من انتفاء الحزن على ما فات ولدّ! صدر بالنكرة التي هي أدخل في النفي وقدّم الضمير إشارة إلى اختصاصهم بانتفاء الحزن وأنّ غيرهم
يحزن والظاهر عموم نفي الخوف والحزن عنهم لكن يخص بما بعد الدنيا لأنه قد يلحق المؤمن الخوف والحزن في الدنيا فلا يمكن الحمل على ذلك وعلى جعله كناية كما قال المصنف رحمه الله لا يبقى وجه لهذا فتأمل. قوله: (نفى عنهم العقاب الخ) لأنّ نفي الخوف كناية عن نفي العقاب ونفي الحزن كناية عن إثبات الثواب وهي أبلغ من الصريح وآكد لأنها إثبات الشيء ببينة كما تقرّر في محله. قوله: (وقرئ هديّ الخ) أي بإبدال الألف ياء وادغامها وهي لغة هذيل في كل مقصور أضيف للياء لأنه يكسر ما قبلها في الصحيح فأتوا بالياء التي هي أختها محافظة على ذلك ولا يفعلون ذلك في ألف التثنية وهذه قراءة جحدر وابن إسحق وهي شاذة. قوله: (عطف على من تبع الخ) قيل: وأفرد الأوّل إشارة إلى قلة أهل الهدى بخلاف أهل الكفر ثم اعتذر عن جمع ضميرهم بأنه إشارة إلى كثرتهم في الغناء ولا يخفى أنه تكلف بارد لا داعي له لأنّ من مفرد اللفظ مجموع المعنى وليس المقام يقتضي ملاحظة هذه النكت وقوله قسيم له فيه نظر لأن من لم يتبع شامل لمن لم تبلغه الدعوة ولم يكن من المكلفين، فالعدول عن الظاهر لعله لإخراج أمثالهم، ومن الناس من أغرب فقال: هو أبلغ من قوله ومن لم يتبع هداي وان كان التقسيم اللفظيّ يقتضيه لأن نفي الشيء على وجوه كعدم القابلية لخلقه وعقله وتعمد تركه فأبرز في صورة ثبوتية مزيلة لباقي الاحتمالات التي ينتظمها(2/141)
النفي اهـ. فانظر ما بين أوّل كلامه وآخره من التنافر وأصحاب النار سكان النار ويراد بهم الكفار في الأكثر كما يخص الصاحب بالوزير، وهو إمّا جمع صاحب على خلاف القياس أو جمع صحب الذي هو جمع صاحب أو مخففة وإذا أطلق الكفر تبادر منه الكفر بالله فإن أريد هنا فظاهر وبآياتنا متعلق بكذبوا وان لم يرد تنازع الفعلان الجارّ والمجرور فالكفر بالآيات إنكارها بالقلب والتكذيب إنكارها باللسان فلا تكرار.
قوله: (والآية في الأصل العلامة الظاهرة) قال الراغب: هي العلامة الظاهرة وحقيقتها كل
شيء ظاهر هو ملازم لشيء آخر لا يظهر ظهوره فمتى أدرك مدرك الظاهر منهما علم أنه أدرك الآخر الذي لم يدركه بذاته إذ كان حى كمهما سواء وذلك ظاهر في المحسوسات والمعقولات
لمن علم ملازمة العلم للطريق المنهج ثم وجد العلم علم أنه وجد الطريق وكذا إذا علم شيئا مصنوعا علم أنه لا بدّ له من صانع اص. وفي أصلها ووزنها ستة أقوال فمذهب سيبويه والخليل اق أصلها أيية بفتحات قلبت ياؤها الأولى ألفاً لتحرّكها وانفتاح ما قبلها على خلاف القياس لأنه إذا اجتمع حرفا علة أعل الآخر لأنه محل التغيير نحو جوى وهوى ومثله في الشذوذ غاية وراية ومذهب الكسائيّ إن وزنها آثية على وزن فاعله فكان القياس أن تدغم كداية إلا أنه ترك ذلك تخفيفا فحذفوا عينها كما خففوا كينونة ومذهب الفراء أنها فعلة بسكون العين من تأيا القوم إذا اجتمعوا، وقالوا في الجمع آياء فظهرت الياء والهمزة الأخيرة بدل من ياء ووزنه أفعال والألف الثانية بدل من همزة هي فاء الكلمة ولو كانت عينها واواً لقالوا في الجمع آواء، ثم إنهمءقلبوا الياء الساكنة ألفا على غير قياس لأن حرف العلة لا يقلب حتى يتحرّك وينفتح ما قبله وذهب بعض الكوفيين إلى أنّ وزنها أيية كنبقة فأعل وهو في الشذوذ كمذهب سيبويه والخليل وقيل: وزنها فعلة بضم العين وقيل: اصلها إياة فقدمت اللام وأخرت العين وهو ضعيف فهذه ستة مذاهب لا يخلو واحد منها من شذوذ. قال ابن الأنباري في الزاهي: وفي آية القرآن قولان فقيل: إنها بمعنى العلامة لأنها علامة لانقطاع الكلام الذي بعدها والذي قبلها قال الأحوص: ومن رسم آيات عفون ومنزل قديم يعفيه الأعاصر محول
وقيل: لأنها جماعة من القرآن وطائفة من الحروف، قال أبو عمرو: يقال: خرج القوم
لآيتهم أي بجماعتهم وهو باعتبار الأكثر الأغلب، فلا يرد عليه أنها تكون كلمة واحدة كمدهامتان كما قيل: وفيها قول ثالث وهو أن تكون سميت آية لأنها عجب يتعجب من إعجازه كما يقال فلان آية من الآيات اهـ وقول المصنف رحمه الله: من حيث إنها تدل إشارة إلى القول الأوّل وقوله لكل طائفة إشارة إلى الثاني فكان عليه أن يميز بين القولين ولذلك اعترض عليه بأنه لم يصب في خلطهما. وقوله واشتقاقها من أيّ بتشديد الياء عينه ولامه ياء، وقوله: لأنها تبين أيا من أيّ بالتشديد أيضاً قيل معناه شيء يسئل عنه بأفي أي جوابه أي تميز أمرا مجهولاً من آخر التيس هذا هو المراد، وقيل: إنّ العبارة آيا من آي بالمد أي شخصا من شخص وشيئا من شيء لأنّ الآي بالمد بمعنى الشخص وفيه نظر، وقوله أو من أوى إليه لأنها بمنزلة المنزل الذي ياوي إليه القارئ فعينها واو وقوله وأصلها آية على القول الأوّل وأوية على القول الثاني وكونها على خلاف القياس لما مرّ والآيات إمّا آيات القرآن أو مطلق الدوال وهو ظاهر لكن التكذيب يأباه إلا بأن ينزل المعقول منزله الملفوظ ولذا أخره المصنف رحمه الله عنه، والرمكة أنثى البراذين. نوله:) وقد تمسكت الحشوية بهذه القصة على عدم عصمة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام) الحشوية بسكون الشين وفتحها قوم تمسكوا بالظواهر فذهبوا إلى التجسيم وغيره وهم من الفرق الضالة، قال السبكيّ في شرح أصول ابن الحاجب: الحشوية طائفة ضلوا عن سواء السبيل وعميت أبصارهم يجرون آيات الله على ظاهرها ويعتقدون أنه المراد سموا بذلك لأنهم كانوا في
حلقة الحسن البصري فوجدهم يتكلمون كلاما فقال: ردّوا هؤلاء إلى حشا الحلقة فنسبوا إلى حشافهم حشوية بفتح الشين، وقيل سموا بذلك لأنّ منهم المجسمة أو هم والجسم حشو فعلى هذا القياس فيه الحشوية(2/142)
بسكون الشين نسبة إلى الحشو، وقيل: المراد بالحشوية طائفة لا يرون البحث في آيات الصفات التي يتعذر إجراؤها على ظاهرها بل يؤمنون بما أراده الله مع جزمهم بأنّ الظاهر غير مراد ويفوّضون التأويل إلى الله وعلى هذا فإطلاق الحشوية عليهم غير مستحسن لأنه مذهب السلف. اهـ وقيل: طائفة يجوّزون أن يخاطب الله تعالى بالمهمل ويطلقونه على الدين قالوا الدين يتلقى من الكتاب والسنة وهو المناسب هنا اهـ والأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم لا يجوز عليهم الكفر وتعمد الكذب في التبليغ بلا خلاف وأمّا غيرهما فالكب ئر يمتنع صدورها عمدأ بعد النبوّة عند الجمهور إلا الحشوية وهو مراد المصنف وأمّا صدورها سهوا أو خطأ في التأويل بعد النبوّة فجوّزه قوم والمختار خلافه، وأمّا قبل النبوّة فذهب الجمهور إلى أنه لا يمتنع صدور الكبائر عنهم ومنعه بعضهم وأمّا صدور الصغائر عمدا فجوّزه الجمهور إلا الجبائي وأمّا سهواً فجائز اتفاقا إلا ما فيه خسة كسرقة لقمة، وقال الجاحظ يجوز أن يصدر عنهم غير الصغائر خسيسة بشرط أن ينبهوا عليها فينتهوا عنها وتبعه كثير وبه أخذ الأشاعرة وذهب كثير من المفسرين إلى أنهم معصومون من الكل قبلها وبعدها سهوا وعمداً والقلب إليه أميل والعصمة ملكة يخلقها الله فيهم تمنع عما لا يليق بالطبع. قوله: (1 لأوّل أن آدم عليه الصلاة والسلام كان نبياً الخ) أي قبل، إهباطه لأنه خاطبه، والخطاب منه خاص بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام والمنهيّ عنه قرب الشجرة وكونه عاوصيا لأنّ الظاهر من النهي التحريم وجعله ظالماً بقوله فتكونا من الظالمين والظلم التعدي وهو مخصوص بالكبائر، وقوله: والظالم ملعون جراءة عظيمة كان الأولى تركها والظلم في الآية المذكورة المراد به الكفر فلا دليل فيها، وقوله أسند إليه العصيان والغيّ وهو الغواية والضلال وهو كبيرة وتلقين التوبة يقتضي أنها كبيرة بحسب الظاهر وكذا الخسران وعقوبته بالإبعاد ونص-. قوله: (الآوّل أنه لم يكن نبياً الخ الأنه ليس له أمّة ولم يؤمر بتبليغ ولئن سلم فالنهي تنزيهيّ والخسران والظلم بمعناه اللغوي وما سيأتي هو أنه تعظيم للزلة وزجر لأولاده وأمره بالتوبة لتلافي التقصير وتهذيبه أتم تهذيب وأمّا ما جرى عليه فليس للإهانة
لل لتحقيق الخلافة الموعود بها ولئن سلم أنها كبيرة والنهي تحريمي فإنه صدر منه وهو ناس فلا يعذ ذنبا أو يعد صغيرة في حقه لأنّ النسيان وان حط عن الأمم لم يحط عن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لجلالتهم ولذا يعاتب الرئيس فيما لا يعاتب به غيره وقال الجنيد: حسنات الأبرار سيئات المقرّبين، وقيل: " إنّ النسيان لم يرفع عن الأمم السالفة مطلقاً وإنما هو من خصائص! هذه الأمّة كما ورد في الأحاديث الصحيحة ". قوله: (أشدّ الناس بلاء الخ (هذا الحديث أخرجه الترمذيّ والنسائيّ وابن ماجه وصححوه لكن ليس فيه ثم الأولياء وأخرجه الحاكم بلفظ الأنبياء ثم العلماء ثم الصالحون وقال القشيري: ليس كل أحد أهلا للبلاء إنّ البلاء لأرباب الولاء فأمّا الأجانب فيتجاوز عنهم ويخلي سبيلهم لا لكرامة محلهم ولكن لحقارة لدرهم. قوله: (أو أذى الخ) عطف على قوله عوتب جواب آخر عن أنه إذا كان ناسياً وقلت إنه عوتب عليه لما مرّ فلم جرى عليه ما جرى فذكر أنّ جريانه لأنه تعالى قدّر تسببه عنه فضره في الدنيا ولو تعمده لضرّه في الدارين كأكل السمّ عامدا أو جاهلا ووجه السؤال أنّ ما ذكر من المقاسمة على أمر الشجرة لا يتصوّر معه النسيان وجوابه ظاهر لكنه قيل: عليه أنه إنما يتوجه لو ثان بينهما عهد طويل وفي الحديث ما يخالفه إلا أن يقال: إنّ الحديث لم يصح عنده. قوله:
(والرابع أنه عليه الصلاة والسلام أقدم عليه الخ) يعني أنه أخطأ في اجتهاده إذ ظن أنّ النهي تنزيهيّ أو أنّ الإشارة إلى فرد معين فكل من غيره فإنّ الإشارة قد تكون للنوع كما في " الحديث " المذكور وهو حديث صحيح في الأربعة وقوله وإنما جرى إشارة إلى جواب ما قيل: كيف يكون تنزيها وقد وصف بالظلم وجرى عليه ما جرى فقال: إنه تفظيع أي تعظيم وتخويف من جنس الخطيئة وان لم يكن هذا خطيئة، فإن قلت هذأ لا يوافق أنّ المجتهد يثاب على الخطأ، وفيه إيجاب أن يجتنب أولاده الاجتهاد قلت لا دلالة له على ذلك لأنه ليس اجتهادا في محله كما لو اجتهد صحابيّ بحضرة النبيّ صلى الله عليه(2/143)
وسلم فأخطأ فتأمل ووجود الجنة مضرح به في الآية وعلوّها مأخوذ من الهبوط والمعتزلة خالفوا في وجودها، وقبول التوبة تفضل منه وقد وغد به من لا يخلف الميعاد لا وجوبا كما زعمه المعتزلة وقوله وأنّ غيره لا يخلد الخ بناء على حمل الخلود على التأبيد بالقرائن وافادة مثل هو قائلها الحصر، ولك أن تقول إنه ليس بناء على هذا بل إنه لما ذكر الفريقين وخص الخلود بأحدهما دل على أنه ليس صفة لغيرهم وهو الظاهر من قوله مفهوم فافهم. قوله: (لما ذكر دلائل التوحيد والنبوّة الخ) هذا إشارة إلى ارتباط الآية بما قبلها ويزيدها ربطاً ذكر بني إسرائيل بعد المكذبين ودلائل التوحيد من قوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ} [سورة البقرة، الآية: 21] الخ ودلائل النبوّة {إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ} الخ والمعاد من.
توله: {فَاتَّقُواْ النَّارَ} الخ وقوله وعقبها تعداد النعم إن قرئ بالتخفيف فتعداد فاعله وان شدّد فتعداد منصوب بنزع الخافض أو بتضمينه التصيير ونحوه فمن قال: الصواب بتعداد النعم استسمن ذا ورم وكلامه بين في الارتباط وخاطب الخ جواب لم واقتفاء الحجج أي اتباع الدلائل لأنهم أعلم بها من غيرهم فكان ينبغي أن يكونوا أوّل من آمن به عليه الصلاة والسلام. قوله:) أي أولاد يعقوب الخ) يعني أنّ الابن وان كان مختصاً بالولد الذكر لكنه إذا أضيف وقيل: بنو فلان يعم الذكور والإناث وهو معنى عرفيّ فيكون في معنى الأولاد مطلقا، واسرائيل اسم يعقوب عليه الصلاة والسلام، وبني جمع ابن شيبه بجمع التكسير لتغير مفرده ولذا ألحق في فعله تاء التأنيث نحو قالت بنو فلان وقد أعرب بالحروف وهل لامه ياء لأنه مشتق من البناء لأنّ الابن فرع الأب ومبنيّ عليه أو واو لقولهم البنوّة كالأبوّة والأخوّة قولان الصحيح الأوّل ولذأ اقتصر المصنف عليه وأمّا البنوّة فلا دلالة فيها لأنهم قالوا الفتوّة ولا خلاف أنها من ذوات الياء إلا أنّ الأخفش رجح الثاني لأنّ حذف الواو أكثر، واختلف في وزنه فقيل: بنى بفتح العين وقيل: بني بسكونها وهو أحد الأسماء العشرة التي سكنت فاؤها وعوّض من لامها همزة الوصل وقوله مبنيّ اً بيه تجوّز أي متولد وكل ما يحصل من فعل أحد يتسبب فهو ولده فيقال أبو الحرب للمحراب وللقصيدة ونحوها بنت الفكر وهو من النسبة إلى الآلة مجازا والانتساب في الحقيقة إلى المفكر فلذلك عطف على ما هو مثال للمنسوب إلى الصانع وجعلى إسرائيل لقباً لإشعاره بالمدح لأنه بمعنى صفوة الله أو عبد الذ وايل في لغتهم بمعنى الله. قوله: (أي بالتفكر فيها الخ) الذكر بكسر الذال وضمها بمعنى واحد ويكونان باللسان والجنان، وقال الكسائي: هو بالكسر للسان وبالضم للقلب وضدّ الأوّل الصمت وضد الثاني النسيان وعلى العموم فإمّا أن يكون مثتركا بينهما أو موضوعاً لمعنى عامّ شامل لهما والظاهر الأوّل فأشار المصنف إلى أنّ المم اد التصؤر التفكر في النعمة وأنّ اله غصود من الأمر بذلك الشكر والقيام بحقوقها كما تقول: أتذكر إحساني لك فإنّ المراد هلا وفيت حقه فلذلك عطف عليه القيام بشكرها عطفاً تفسيريا فلا يرد عليه ما قيل: الذكر هنا قلبيّ، والمطلوب به هو القيام بشكرها إيماء إلى أنها من النعم الجسام التي لا مانع للعاقل
عن القيام بشكرها إلا الغفلة عنها والذهاب هذه الدقيقة على المصنف رحمه الله عطف القيام بشكرها على التفكر فيها كأنه أدرجه في معنى الذكر، وفيه من التكلف ما لا يخفى وهو بعينه مراد المصنف رحمه الله. قوله: (والتقييد بهم) وفي نسخة وتقييد النعم بهم يعني بالوصف بقوله التي الخ والظاهر أنّ المراد بالنعمة وهي المنعم بها مطلق النعم الإلهية العامّة لكل مخلوق كبعث الرسل عليهم الصلاة والسلام وخلق ااتحوي والرزق ولكن قيدت في النظم بهم ولم تطلق أو تعمم بأن يقال: أنعمت بها على عبادي أو تخص! بغيرهم بأن يقال: على أمّة محمد صلى الله عليه وسلم ليكون أدعى لشكرهم لأنها لو لم تخص بهم لربما حملهم الحسد والغيرة على كفرانها وما قيل: إنه حمل النعمة ههنا على النعمة التي أنعم بها على آبائهم حمل لكلامه من غير دليل على ما لم يرده. قوله: (وقيل أراد بها ما أندم الخ) هذا هو الذي ارتضاه الزمخشريّ والمصنف رحمه الله تعالى ضعفه لأنّ السياق ينافيه فإن قوله: {وَآمِنُواْ بِمَا أَنزَلْتُ} [سورة البقرة، الآية: 41، لا يتصوّر في حق آبائهم مع أنه قيل: عليه أنّ فيه جمعاً(2/144)
بين الحقيقة والمجاز حيث جعل قوله عليكم مراداً به ما أنعم عليهم وعلى آبائهم فينبغي أن يحمل على حذف أو اعتبار معنى جامع بأن يجعل الخطاب لجميع بني إسرائيل الحاضرين والغائبين وقوله ما أنعم الله به إشارة إلى حذف العائد على الموصول، وأورد عليه أن الأنعام على الآباء إنعام في حق الأنباء بواسطة ولا يخرج بذلك عن كونه إنعاما حقيقة في حقهم حتى يلزم الجمع بين الحقيقة والمجاز فيحتاج في دفعه إلى ارتكاب حذف أو معنى جامع أو تغليب كما توهم، والحاصل أنّ المعنى أني أنعمت عليكم بأن شزفتكم بالشرفين التالد والطريف الذي أعظمه إدراك زمن أشرف الأنبياء لمجي! وجعلتكم من جملة أمّة الدعوة له فتخصيصه بالذكر لدلالة السياق عليه فلا يرد عليه أنه لا دلالة للعام على الخاص فتأمل. وعائد الموصول محذوف أي أنعمت بها فإن قيل: شرطوا في حذفه إذا كان مجروراً أن يجرّ الموصول بمثل ذلك الحرف ويتحد متعلقهما وهو مفقود هنا قيل: إنه إنما حذف هنا بعد أن صار منصوبا بحذف الجارّ اتساعا فبقي أنعمتها كما قيل: في كالذي خاضوا وفيه نظر: وقراءة ادّكروا بالدال المهملة المشددة مذكورة في الصرف، ودرجا بمعنى وصلا وحذفها حينئذ لالتقاء الساكنين وقوله: وهو مذهب من لا يحرّك الياء ا! مكسور أي لغته واحترز بالمكسور ما قبلها عن نحو محياي. قوله: (بالإيمان والطاعة) متعلق بأوفوا أو بعهدي أو بهما على التنازع وكذا قوله بحسن الإثابة. قوله: (أوف بعهدكم) مجزوم في جواب الأمر إمّا به نفسه أو بشرط مقدر وقوله والعهد يضاف إلى المعاهد والمعاهد الخ يقال ة أوفى ووفى مخففاً ومشدداً بمعنى وقيل: يقال
اوفيت ووفيت بالعهد وأوفيت الكيل لا غير واللغات الثلاث وردت في القرآن كما بينه المعرب وجاء أوفى بمعنى ارتفع نحو:
ربما أوفيت في علم
ومعناه هنا أتممت وكملت ويكون ضد الغدر والترك والعهد حفظ الشيء ومراعاته وسمي
له الموثق للزوم مراعاته وقال الطيبي رحمه الله: إنّ الزمخشريّ قال فيما سبق إن العهد الموثق وعهد إليه في كذا إذا أوصاه ووثقه عليه واستعهد منه إذا اشترط عليه واستوثق منه فاللائق بهذا المقام الثاني فيكون المراد بالعهد ما استعهد من آدم في قوله فإمّا يأتينكم الخ لتنتظم الآيات وفي كلامه إشعار به اص. واضافته إلى كل منهما لأنّ مدلوله نسبة بين شيئين فيصح إضافته لكل منهما كما يضاف المصدر تارة إلى فاعله وتارة إلى مفعوله، قيل: ولا خفاء في أنّ الفاعل هو الموفي فإن أضيف إلى الموفي مثل أوفيت بعهدي ومن أوفى بعهده فهو مضاف إلى الفاعل وأن أضيف إلى غيره مثل أوفيت بعهدك ف! لى المفعول ففي أوفوا بعهدي أوف بعهدكم تكون الإضافة إلى المفعول فلذا قال: بما عاهدتموني من الإيمان والتزام الطاعة أوف بما عاهدتكم من حسن الإثابة ولا يستقيم غير هذا إذ لا معنى لقولك أوف أنت ما عاهد عليه غيرك، فما بترهم أنّ المذكور في الكتاب مبنيّ على رعاية الأولى والأنسب ليس بشيء اص. وهذا ردّ على الزمخشريّ ومن تبعه كالمصنف رحمه الله ومن جعله أنسب وهو صاحب الكشف وردّ بأنه إن! سر الإيفاء بإتمام العهد تكون الإضافة إلى المفعول في الموضعين وهو مختار بعض المفسرين، وان فسر بمراعاته تكون الإضمافة الأولى للفاعل والثانية للمفعول كما ذكره العلامة إ المصنف رحمه الله فالمعترض! قصر في النظر حيث قصر معنى الإيفاء على الإتمام ومبنى الكلام على معناه الآخر ومن الناس من ظن أنّ كلام المصنف رحمه الله مخالف لكلام الكشاف؟ لم يصب وقيل: إنهم رجحوا هذا التوجيه على جعله مضافا فيهما على نهج واحد لأن الأصل، الأكثر الإضافة إلى الفاعل فلا يعدل عنه إلا لصارف وهنا لا صارف في الأوّل لأنه تعالى عهد إليهم بقوله يأتينكم الخ وفي الثاني صارف إذ لا عهد منهم وما اعترض به مدفوع بأنّ العهد المعلق على فعل المعاهد يكون الوفاء به من المفعول بالإتيان بالمعلق عليه ومن الفاعل بالإتيان لالمعلق وإذا ثبت جعل أداء المعلق عليه وفاء بالعهد فليكن أوفوا المشاكلة أوف. اهـ ولا يخفى ما في الكلام من الاختلال سؤالاً وجواباً أمّا السؤال فلأنّ قوله لا معنى لقولك أوف أنت ما طاهد عليه غيرك ليس مثالاً نحن فيه وإنما مثاله ما عاهدك(2/145)
عليه غيرك ولا شبهة ير صحته،، أتا قوله ولا خفاء في أنّ الفاعل هو الموفي فكلمة حق أريد بها باطل لأنه إذا سلم أنّ العهد سبة بينهما فكل منهما موف وموفي قال في الكشف: فسر العهد بالمعاهد عليه وأضافه إلى من
له لا من هو به وذلك لأنّ المعاهدة وان كانت بين اثنين إلا أنّ المعاهد عليه مختلف من العبد الالتزام ومن الله الإكرام، أمّا إذا كان شيئاً واحدا اختلف تعلقه كالعطاء بالنسبة إلى المولى والمولى أو اتحد كاثنين تواثقا على سفر ونحوه فلا يفترق المعنى بين الإضافتين إذ لا أولوية من الجانبين وفيما نحن فيه إضافته إلى من قام به أولى إن صح المعنى عليهما والا فالمعوّل عليه جانبه ولهذا أضيف في الآية إلى من هو له لأنه لما طلب الوفاء ووعد الإيفاء كان المناسب إيثارها مفسرة بما عاهدتموني وهو الإيمان بي والطاعة لي أو الإيمان بنبيّ الرحمة صلى الله عليه وسلم والكتاب المعجز وهو مقتضى النظم وما عاهدتكم عليه من حسن الثواب على التقديرين، وقيل رفع الآصار والأغلال على الثاني اهـ. وأمّا ما ذكره المجيب من تفسير الوفاء فليس في كلامهم إشارة إليه على أنّ العهد معنى والتوفية معنى آخر يتعلق به والكلام في الثاني وقد يختلف فاعل المعنيين وإن كان بينهما مناسبة نحو أعجبني ضربك زيداً فتامّل. قوله: (وللوفاء بهما عرض عريض الخ) ضمير بهما لعهد الله وعهدنا وكون كلمتي الشهادة وحقن الدماء أوّل المراتب باعتبار الظاهر المشاهد الذي يترتب عليه أحكام الشرع فلا ينافي أنّ الأوّل الحقيقيّ لها النظر في دلائل التوحيد وموهبة العلم بالوحدة والنبوّة مع أنّ هذه ثمرة لها منزلة منزلتها. قوله:) وآخرها منا ألاستنراق الخ الا يخفى ما في الاستغراق مع البحر من الإيهام والتورية وقوله بحيث يغفل عن نفسه أي،! غفل كل مستغرق أو كل واحد منا والا كان الظاهر نغفل عن أنفسنا. قوله: (وما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما الخ) رواه ابن جرير بسند صحيح وكذا ما بعده لكن في سنده ضعف والآصار جمع اصر وهو مشقة التكليف وكون هذه وسايط ظاهر لأنّ اتباع محمد صلى الله عليه وسلم شامل لغير كلمتي الشهادة. قوله: (وقيل كلاهما مضاف إلى المفعول الخ (قيل: هذا ما أشار إليه الزمخشريّ ثانياً بقوله ومعنى وأوفوا بعهدي وأوفوا بما عاهدتموني عليه من الإيمان والطاعة لي، وقوله والتزام الطاعة أقحم لفظ التزام لأنّ الطاعة بالفعل قد يعوق عن فعلها عائق
ويعد وافيا وهو ظاهر، وقد خفي هذا مع ظهوره على بعضهم وقوله وقرئ أوف بالتشديد وهي قراءة الزهريّ. قوله: (وخصوصاً في نقض العهدا لدلالة السياق عليه ولذا خصه الزمخشري وإن كان الأولى الإطلاق. قوله: (وهو كد في إفادة التخصيص الخ) هذا من مسائل الكتاب وهو مما اختلفوا فيه واضطربت أقوالهم وها أنا ذاكر لك زبدة ما قالوه على وجه سترفع فيه يد البيان نقاب الإشكال فأقول، قال سيبويه: في باب عقده لهذه المسألة فقال في أوّله الأمر والنهي يختار فيهما النصب في الاسم الذي يبني عليه كما اختير في باب الاستفهام ثبم قال: وذلك قولك زيدا اضربه وزيدا أمر ربه ومثل ذلك أما زيدا فاقتله فإنك إذا قلت زيد فاضربه لم يستقم أن تحمله على الابتداء ألا ترى أنك لو قلت زيد فمنطلق لم يستقم فإن شئت نصبت على شيء هذا تفسيره وان شئت على تقدير عليك زيدا ومن ذلك قوله:
وقائلة خولان فانكح فتاتهم
وقال أبو الحسن: تقول زيدا فاضرب فالعامل اضرب بعده والفاء معلقة بما قبلها واعلم
أن الدعاء بمنزلة الأمر والنهي وأما قوله: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} فمحمول على إضمار مما أذكر لكم حكمه لا على حد وقائلة خولان الخ. وقد قرئ: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} وهو في العربية على ما ذكرت لك من القوّة هذا محصل كلامه وقال السيرافيّ في شرحه إذ! قدصت الاسم وأخرت الفعل كنت في إدخال الفاء بالخيار إن شئت أدخلتها وهي بمنزلتها في جواب أمّا وان شئت أخرجتها وذلك قولك زيدا أضرب وزيدا فأضرب فإذا قلت زيدا أضرب فتقدير. اضرب زيدا وإذا أدخلت الفاء فلأنّ حكم الأمر أن يكون الفعل فيه مقدما فلما قدمت الاسم أضمرت فعلاً وجعلت الفاء جوابا له، وأعملت ما بعد الفاء في الاسم عوضاً من الفعل المحذوف وتقديره تأهب فاضرب(2/146)
زيدا وما أشبهه فلما حذفته قدمت زيداً ليكون عوضاً من المحذوف وأعملت فيه ما بعد الفاء كما أعملت ما بعد الفاء في جواب أما فيما قبلها فإذا قلت زيدا فاضربه فهو على تقديرين أحدهما اضرب زيدا فأضربه، والثاني عليك زيدا فاضربه، وأمّا قوله: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا} [سورة المائدة، الآية: 38] فهذا عند سيبويه مبنيّ على ما قبله كأنه قال: ومما يقمق عليكم: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} ثم قال: {فَاقْطَعُواْ} فجعل الفاء جوابا للجملة وهذا محصل مذهب سيبويه ومحل الكلام مخصوص بما إذا اقترن الفعل بالفاء وكان طلبيا والمنصوب ينتصب بالفعل الذي بعدها إذا لم يشتغل بضمير لكن بطريق النيابة عن فعل مدلول عليه في قوّة المذكور فالفاء عاطفة بحسب الأصل وهي الآن زائدة وان اشتغل بالضمير فلا تكلف فيه حينئذ وفي الكشاف واياي فارهبون فلا تنقضوا عهدي وهو من قولك زيدا رهبته وهو اوكد في إفادة الاختصاص من إياك نعبد اص. وقال قدس سرّه في شرحه إن مثل زيدا ضربت
يفيد اختصاصا فإذا نقل إلى الإضمار على شريطة التفسير مثل زيدا ضربته ودلت القرينة على أن المحذوف يقدر مؤخرا كان أوكد في إفادة الاختصاص لأنّ الاختصاص عبارة عن إثبات ونفي فإذا تكرّر الإثبات صار أوكد على أنّ الإئبات اللاحق يمكن أن يعتبر على وجه الاختصاص، وقد يقال: تقدم المعمول صورة دال عليه بقرينة كونه تفسيرا للسابق وإن لم يكن هناك شيء من أدوات الحصر وحينئذ يتكرّر الاختصاص فيصير أوكد وكذا الكلام فيما إذا كان الفعل أمراً أو نهيا مثل زيدا أضرب وزيدا لا تضرب وقد يؤكد الاختصاص بدخول الفاء في مثل زيدا فأضرب وعليه بل الله فاعبد أي إن كنت عابدا فالله فاعبد وذكر المصنف في قوله تعالى: {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} [سورة المدثر، الآية: 3] واختص ربك بالتكبير ودخلت الفاء لمعنى الشرط كانه قيل: وما كان فلا تدع تكبيره أي مهما يكن من شيء فلا تترك وصفه بالكبرياء وقريب منه ما يقال: إنّ مثله على حذف أمّا وقد يجعل الفعل مشغولاً بالضمير نحو زيدأ فأضربه وعليه قوله واياي فارهبون وينبغي أن يكون أوكد من الأوكد إذ تقديره عند المصنف ومهما يكن من شيء فإياي فارهبوني فتكرير التعلق تأكيد للاختصاص وتعليقه بالشرط العام الذي هو وقوع شيء مّا تاكيد على تأكيد (وههنا مباحث) : الأوّل أنّ إياي ارهبون ليس على شريطة التفسير لامتناع توسط الفاء بين الفعل والمفعول وما لا يعمل لا يفسر عاملاً، ودفعه إن أصله فإياي ارهبون زحلقت الفاء لشغل حيز الشرط الثاني أنه لا حاجة إلى جعلها جزائية مع ظهور العطف الذي اختاره في المفتاح ولا يقدج فيه اجتماعها مع واو العطف ونحوها لأنها لعطف المحذوف على ما قبله وهذه الفاء لعطف المذكور على المحذوف ووجه التغاير أنه بمعنى ارهبوني رهبة بعد رهبة أو الأوّل بطريق الاختصاص والثاني بدونه أو أنّ رتبة المفسر بعد المفسر، وهذه كلها تعسفات فلذا ترك العطف ومنهم من وفق بين مسلكي الشيخين بأنها عاطفة بحسب الأصل وبعد الحذف زحلقت وجعلت جزائية وكلام المفتاح صريح في خلافه فانظره وتأخير الفعل مفوّض إلى القرينة وأفا على تقدير أمّا فلا بد منه ونقل عن المصنف أنه قال: في إياي فارهبون وجوه من التأكيد تقديم الضمير المنفصل وتأخير المتصل والفاء الموجبة معطوفا عليه ومعطوفا تقديره إياي ارهبوا فارهبون أحدهما مضمر والثاني مظهر وما في ذلك من تكرير الرهبة وما فيه من معنى الشرط بدلالة الفاء كأنه قيل: إن كنتم راهبين شيئا فارهبون اص. محصله (وأنا أقول) قد سمعت كلام المتقدمين في هذه المسألة ومحصله أنّ الفاء فيه زائدة وأنه إذا ذكر فيه الضمير فهو من باب الإضمار على شريطة التفسير، وأنها عاطفة على فعل طلبيّ مقدر والفعل الطلبي يتضمن معنى الشرط كما في نحو أسلم تدخل الجنة إذ مه خاه إن تسلم تدخل الجنة ولذا جوّزوا جرم جوابه وأمّا اتحاد الشرط وجوابه والمعطوف والمعطوف عليه فعلى حد قوله فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله وهو مما يفيد تحقق الفعل وتقرّره على أبلغ وجه وآكده، وقد يستلزم ذلك الحصر لأنه أبلغ في التحقق، ويؤيده هنا تقدّم المعمول معنى وإن لم يكن مقدما لفظا كما في
الله يبسط الرزق فما ذكره(2/147)
الموفق هو الحق الذي ساعده التوفيق والعجب من المعترض عفيه أنه نقل عن الزمخشري في آخر كلامه كما سمعت ما هو صريح فيه فإنه صرح أوّلاً بالعطف ثم جعله في آخر كلامه منه شرطا فهو يقول له:
إياك أعني فاسمعي يا جاره
ولذلك شبهه سيبويه رحمه الله بوقوع الفاء في خبر الموصول ومنه يعلم أنه لا فرق بين
تقدير أمّا وتقدير أن لأنه ليس تقديرا حقيقيا وليس للشيخين في هذا رأي سوى بيان وجه ما ذكره النحاة وتوضيح لطائفه، ومن لم يفهم هذا أورد هنا كلاما لا طائل تحته ومنهم من جعل كلام المصنف رحمه الله مخالفاً لكلام الزمخشريّ ثم إنه يفيد التخصيص على أبلغ وجه وآكده لما عرفت وكونه أبلغ من {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} ظاهر. قوله: زوالرهبة خوف مع تحررّ) في الكشف تيل: الرهبة خوف مع تحرّز الإتقاء مع حزم فالأوّل للعامّة والثاني للأئمة والأشبه بمواقع الاستعمال أنّ الاتقاء التحفظ عن المخوف وأن يجعل نفسه في وقاية منه، والرهبة نفس الخوف فافترقا والمناسب أن يخافوا المحذور ثم يحفظوا أنفسهم عن الوقوع فيه فلذلك قدّم الأمر بالرهبة وعقب الأوّل عن ذكر النعمة والوفاء بعهد المنعم لأنّ عظم الجرم بحسب عظم النعمة المكفورة وعظم من وجه بالمخالفة والثاني عن الإيمان المفصل بالمنزل على محمد صلى الله عليه وسلم لأنّ التقوى نتيجة الإيمان المعتد به إذا كان التصديق عن طمأنينة سواء كانت عيانية أو برهانية أو بيانية. قوله: (والآية متضمنة للوعد والوعيد الخ) الوعد في قوله تعالى: {أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} والوعيد في إياي فارهبون، ووجوب الشكر في قوله اذكروا نعمتي لأنه بمعنى اشكروا والوفاء بالعهد ظاهر، وكونه لا يخاف إلا الله من حصر الرهبة وإنما قال في الأوّل متضمنة لأنه ليس بصريح بخلاف ما بعده وهو ظاهر. قوله: (إفراد للإيمان بالأمر به الخ (لما أمر أولاً بالوفاء بالعهد والمراد به الإيمان والطاعات كما مر إفرده بعد ذلك بالأمر وفي تكراره حث عليه واشارة الى أنه العمدة المقصود منها. قوله: (وتقييد المنزل بأفه الخ) إشارة إلى أنه حال مقيدة، وما انزلت عبارة عن الكتب السماوية المعهودة وقوله من حيث بيان وتعليل لتصديقه بأنه مطابق لنعمته الواقع فيها ولما لم ينسخ كالقصص والمواعظ وبعض المحرّمات كالكذب والزنا والربا
وهذا لا خفاء فيه إنما الخفاء فيما نسخته شريعتنا فبينه بأنه مطابق لها باعتبار أنه كان بمقتضى الزمان ومصالح تلك الأمم وقد انتهى ذلك والشيء ينتهي بانتهاء زمانه فكان البيان الأوّل كان مؤقتا والمؤقت يدل على حدوث خلافه فليس بداء كما يتوهمون، وقوله وفيما يخالفها الخ عطف على قوله في القصص كأنه قيل: مطابق لها فيما يوافقها من القصص الخ وفيما يخالفها من جزئيات الخ ولما كانت المطابقة مع المخالفة مشكلة بحسب الظاهر بين وجهها بقوله من حيث الخ. قوله: (لو كان موسى عليه الصلاة والسلام الخ) خصه لأنه أعظم أولي العزم شريعة وكتابا، وهذا الحديث أخرجه الإمام أحمد وأبو يعلى في مسنديهما من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما وسببه أنّ عمر رضي الله عنه استأذنه صلى الله عليه وسلم في أشياء كتبها من التوراة ليقراها فيزداد بها علما وهو يدل على النهي عن قراءتها، وحسب إذا جرى بحرف فتحت سينه والا فهي ساكنة ما لم يضطر شاعر وقيل: عليه ليس معنى الحديث ووجهه ما ذكره والا لم يكن جهة فضيلة له فإنه عام شامل لجميع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فإن كل نبيّ متقدم لو بقي حيا إلى زمان المتأخر لما وسعه إلا اتباعه لنسخ شريعته بل معناه عموم الرسالة الذي هو من خصائصه صلى الله عليه وسلم فلا يسع أحدا بعده إلا اتباعه صلى الله عليه وسلم ولا يخفى أنّ عموم الرسالة يقتضي عدم العمل بغير شريعته صلى الله عليه وسلم ووجهه أنّ شريعته أكمل الشرائع المقتضي ذلك لكونها مسك الختام وهو المراد فتأمّل وتنبيه خبر تقييد. قوله: (بل يوجبه ولذلك عرّضى الخ الما فيها من الإعلام به والتصديق له ولما علم من الكلام أنه بطريق التعريض والتلويح لا التصريح اندفع ما قيل: بأنه لو أوجبه لكان حق النظم فلا تكونوا بالفاء التفريعية لا الواو ولذلك ذكر التعريض هنا مع أنه سيأتي في الجواب فافهم. والتعريض أن يذكر شيء والمراد منه شيء آخر كقول المحتاج جئتك لأنظر إلى وجهك الكريم والغرض الاستعطاف.(2/148)
قوله: (بأنّ الواجب أن يكونوا الخ) هو جواب سؤال سيأتي بسطه تقديره كيف جعلوا أوّل من كفر وقد سبقهم إلى الكفر به مشركو العرب، وكذا ما فائدة التقييد بالآوّلية والكفر منهيّ عنه بكل حال فأجاب بأنه تعريض كنائيّ عبارة عن أنّ الواجب أن يكونوا أوّل من آمن به وأنه بيان لزيادة قبحه وشناعته وتسببه الكفر من بعدهم من أولادهم فنهوا عن أن يستسنوا سنة سيئة فإن قلت: كيف يجب أن يكونوا أوّل من آمن به وقد
سبقهم جمع من أهل مكة بين ظهرانيهم حتى قيل: إنه من تكليف ما لا يطاق قلت الأوّلية أمّا بالنسبة لقوم مخصوصين أو مطلقة، وعلى الأوّل لا إشكال فيه لأنّ المعنى أوّل من اليهود أو من غير أهل الكتاب أو من قومكم لأنكم تعرفونه كما تعرفون أبناءكم أو أوّل من آمن بما معه من التوراة أو مثل أوّل المؤمنين السابقين أو أنه مشاكلة لقولهم إنا نكون أوّل من يتبعه والمراد آمنوا به هان كان عامّا فهو بمعنى السبق وعدم التخلف كما في قوله تعالى: {إِن كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} [سو) ة الزخرف، الآية: 81] أي فأنا أسبق غيري فهو عبارة عن المبادرة والسبق. قوله:) ولأنهم كانوا أهل النظر الخ) عطف على لذلك وهو علة لوجوب الإيمان به والعلم بشأنه لما في كتبهم والاستفتاح طلب الفتح والنصرة عليهم وكانوا يقولون للمشركين سيظهر نبيّ نعته كذا وكذا نقاتلكم معه ونقتلكم {فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ} [سورة البقرة، الآية: 89] والمبشرين بكسر الشين وفتحها، فإن قلت هذا الكلام يقتضي رجوع الضمير إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وقوله: فيما سيأتي فإنّ من كفر بالقرآن فقد كفر بما يصدّقه يقتضي رجوعه إلى القرآن والظاهر ما في الكشاف ولأنهم كانوا المبشرين بزمان من أوحى إليه والمستفتحين على الذين كفروا به وكانوا يعدون اتباعه أوّل الناس كلهم فلما بعث كان أمرهم على العكس. قلت العلم بشأن الرسول ومعجزاته المؤذي إلى الإيمان به يقتضي الإيمان بالقرآن لأنه أعظم معجزاته فهذا بيان لحاصل المعنى وفيه إشارة إلى أنّ الإيمان بما أنزل لا يكون بدون الإيمان بما أنزل عليه ولا صعوبة فيه كما توهم مع أنّ عود الضمير إلى النبي صلى الله عليه وسلم صحيح فيكون في أوّل كلامه إشارة إلى وجه وفي آخره إلى آخر لأنه قيل: إنّ الضمير للقرآن وقيل لمحمد صلى الله عليه وسلم لثبوت ذكره بذكر الإنزال وهو قول أبي العالية، وقيل: لما معكم وهو التوراة فإنّ فيها نعت محمد صلى الله عليه وسلم وعليه الزجاج. قوله: (وأوّل كافر به وقع خبرا عن ضمير الجمع الخ) إنما أوّله لأنّ أفعل التفضيل إذا أضيف إلى نكرة تجب المطابقة بين تلك النكرة وما جرى عليه أفعل التفضيل تقول هو أفضل رجل وهما أفضل اجلين وهم أفضل رجال لأنه والموصوف واحد بالعدد لأنّ المعنى على تفضيل ذلك الواحد إن فضلوا واحداً واحدا وتفضيل ذينك الفردين إن كان التفضيل على اثنين اثنين وحاصل المعنى في زيد أفضل رجل زيد رجل أفضل من كل واحد واحد من الرجال، وتحقيقه أن أفعل التفضيل إذا أضيف إلى المفضل عليه فإن أريد التفضيل باعتبار الذوات لم يكن بد من أن يكون المضاف إليه متعدد معنى ظاهر الدخول في المفضل عليه كما تقول: زيد أفضل القوم ولو قلت: أفضل قوم لم يستقم إذ لم يعلم دخوله فيه فلهذا وجب أن يكون معرفة، وان أريد التفضيل باعتبار العدد المطابق له أضيف إلى النكرة المقصودة بالعددان واحداً فواح! ، وعلى هذا لو أضيف إلى مجرّد العدد لم يعلم الجنس ولم تمكن الإضحافة إليهما
معاً ولو أضيف إلى المعرفة لالتبس بالمعنى الأوّل فأضيف إلى النكرة الدالة على العدد وكان فيه توفير لحق الجنسية لدلالتها عليهما إلا أنّ أحدهما مقصود أصلاً والآخر تبعا وكذا الحكم في أيّ استفهاما وشرطا في الإضحافة إلى معرفة أو نكرة فافهمه فإنه مما اشتبه على كثير فلا بدّ من التأويل أمّا في الأوّل أو في الثاني بأن يقدر موصوف مفرد لفظاً مجموع معنى كفريق أو يؤوّل الأوّل بلا يكن كل واحد منكم بتعميم النفي كما يؤوّل في الإثبات نحو كساني حلة وقيل: لاً نهم لاتفاقهم على الكفر عدوا كشخص واحد أو أن الأصل لا يكن واحد منكم أوّل كافر وقدم تأويل الثاني على الأوّل لأنّ في تأويل الأوّل ارتكاب التأويل قبل الحاجة إليه ولأنه ظاهر في نفي العموم والمقصود عموم النفي فيحتاج إلى تأويل آخر كما قال الشارح المحقق إنه لتعميم النفي وادخال كل بعد اعتبار النفي يعني أصله(2/149)
لا يكن واحد منكم ثم أتى بكل، وأورد عليه أنه لا حاجة للجمعية التي هي بتقدير كل فالأولى أنه لعموم السلب بالقرينة كما في قوله: {لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} اسورة لقمان، الآية: 8 ا] فإن قلت كيف صح لا يكن كل واحد أوّلاً وأوّلية واحد منهم تنافي أوّلية الآخر 0 قلت قد عرفت أنّ الأوّلية ليست حقيقية بل بالإضافة أو مؤوّلة كما مرّ وهذا على مذهب الجمهور القائلين بوجوب المطابقة في الوصف. ومن قال بعدم الوجوب لا يؤوّل. قوله:) قلت المراد به التعريض لا الدلالة على ما نطق به الظاهر الخ) فعلى التعريض أوّل الكافرين غيرهم كما أنّ الجاهل في المثال غيره، وكلامه هنا يقتضي أنّ معنى التعريض أنّ أوّل الكافرين المشركون فلا يتبعونهم والتعريض الأوّل هو أنه ينبغي أن يكونوا أوّل جماعة آمنوا لما عندهم من أسباب الأولية والأوّلية فلا تكرار في التعريضين فتأمّل أو أنّ المفضل عليه كفرة أهل الكتارب بقرينة أنّ الخطاب معهم أو يقدر في الكلام مثل وهو ظاهر، وذهب بعضهم إلى تقدير لا تكونوا أوّل كافر وآخره وقيل: أوّل زائد وهو بعيد. قوله: (أو ممن كفر بما معه) فالضمير لما معكم وعلى الأوّل لما أنزلت وما ذكر من أنهم إذا كفروا بما يصدقه فقد كفروا به قيل: عليه إنما يتمّ لو كان كفرهم به أنه كذب كله وأمّا إذا كفروا بأنه كلامه تعالى واعتقدوا أنّ فيه الصادق والكاذب فلا، ولهذا كان هذا الوجه مرجوحا، وقد يتوهم أنه جواب ثالث عن الإشكال المعنوي وليس بذلك لأنهم ليسوا أوّل كافر بالتوراة بهذا المعنى بل المشركون قبلهم وإنما وقع لهم ذلك بعد الكفر بالقرآن اص. ويرد عليه أن كفرهم به لا يتوقف على اعتقاد أنه كذب كله بل إذا اعتقدوا أنّ فيه كذبا لزم الكفر بكله ضرورة أنّ بعضه يصدّق بعضاً وأنه إذا كذب بعضه تطرق لاحتمال إلى الباقي فكيف يصدق ما معهم فالوجه في مرجوحية هذا أنه واقع في مقابلة آمنوا بما أنزلت فيقتضي اتحاد متعلق الكفر والإيمان وأمّا قوله لأنهم ليسوا أوّل كافر بالتوراة الخ فساقط لأنه ليس معناه أوّل كافر بالتوراة مطلقا بل أوّل كافر بها وهي معه وعنده ليس غيرهم كدّلك وهو ظاهر والمراد بالمعية معرفتهم بها وقراءتهم لها وعلمهم بها كما يقال: صاحب كتاب وأهل كتاب، ولذا قيل: معنى كونه معهم اعتقادهم له
وإذعانهم لقبوله لا مجرد الاقتران الزماني فيختص بأهل الكتاب ولا يتناول المشركين. من الأعراب فلا يرد ما قاله الفاضل. ورذ أيضاً بأنه لا فرق بين لزوم الكفر والتزامه ومن لزمه الكفر لا يسمى كافراً فمشركو مكة ليسوا كافرين بالتوراة وإن لزمهم الكفر بها من الكفر بالثرآن من حيث لا يدرون بخلاف بني إسرائيل لأنهم بإنكار القرآن التزموا إنكار ما في التوراة. قوله:) أوّل أفعل لأقعل له الخ) قال المرزوقي في شرح الفصيح كان ذلك عاما أوّل لا ينوّن لأنه لا يتصرف في المعرفة والنكرة جميعا لكونه أفعل صفة ولذا كان مؤنثه أولى، وأمّا إجازتهم الأوّلة فلأنهم يستعملونها مع الآخرة كثيراً والحكم على الأوّل بأنه أفعل قول البصريين وفاؤه وعينه واو، وهو نادر مثل ددن والهمزة من الأولى تبدل لزوما والاجتماع وارين الأولى مضمونة وأصله وولى " وقال الدريدي: أوّل فوعل وليس بأفعل فقلبت الواو الأولى همزة وأدغمت وفوعل في عين الكلمة اص. وكون وزنه فوعل إن أراد إذا كان اسماً لأن باب أفعل نادر فله وجه حيحئذ يتخالف وزن الكلمة وإن أراد مطلقا يبطله منع صرفه وقولهم أوّل من كذا وقوله لا فعل له هو قول ومادّته على هذا وول والمراد لأفعل له محقق فإنه يجب تقدير. ومنهم من قال: إنه وأل والأصل أوأل وقيل من آل والأصل فيه ااول فقلبت الهمزة فيه واوا واً دغمت في الواو الأخرى وهو ظاهر، ووأل بمعنى تبادر وآل بمعنى رجع وقوله غير قياسي لأنّ قياسه تخفيفه بالفاء حركة الهمزة على الساكن قبلها وحذفها. قوله: (ولا تستبدلوا بالإيمان بها الخ) في الكشاف والاشتراء استعارة للاستبدال كقوله تعالى: {اشْتَرُوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى} [سورة البقرة، الآية: 175] وقوله:
كما اشترى المسلم إذ تنصرا
وقوله:
فإني شريت الحلم بعدك بالجهل
يعني ولا تستبدلوا بآياتي ثمناً والا فالثمن هو المشترى به وفي شرحه للمحقق يعني استعارة تحقيقية مبنية على تشبيه استبدال الرياسة التي كانت لهم بآيات الله بالاشتراء وجرت في الفعل بالتبعية كما في الآية إلا أنه وقع التعبير عن المشتري بالثمن خلاف ما في الاشتراء الحقيقي فلذا جعل قرينة للاستعارة وجعله في الكشف تجريدا من وجه ترشيحا من آخر(2/150)
وهو
غريب في اجتماعهما ولما فيه من الخفاء ذهب أكثر شراحه إلى أنّ المراد أن هذه استعارة لفظية كإطلاق المرسن على الأنف لما أنه استبدال مخصوص استعمل في المطلق لا معنوية مبنية على التشبيه إذ حيئ! ذ تقع الرياسة في مقابلة المشتري والآيات في مقابلة الثمن عكس النظم والتمثيل بالآية في مجرّد إطلاق الاشتراء على الاستبدال، ومنه قيل: يجوز أن يكون من باب القلب في التشبيه كما في قوله إنما البيع مثل الربا وردّ بأنه على تقدير التشبيه لا يكون ههنا إلا تشيه استبدال الرياسة بالآيات بالاشتراء وتشبيه الرياسة لكونها مطلوبة عنده مرغوبة بالمشتري وتشبيه الآيات لكونها مبذولة في مثل الرياسة بالثمن ولم يقع قلب في شيء من التشبيهات الثلاث لأنّ معناه أن يجعل المشبه به مشبهاً بالعكس، فإن قلت فعلى ما ذكرتم فلم عبر عن الرياسة بلفظ الثمن. قلت للإشارة إلى أنها تقتضي أن تكون وسيلة مبذولة مصروفة في نيل المآرب لا مرغوبة مطلوبة ببذل ما هو أعز الأشياء أعني الأيات المضافة إلى من هو منبع كل خير وكمال، وفيه تقريع وتجهيل قويّ حيث جعلوا الأشرف وسيلة إلى الأخس واغراب لطيف حيث جعل المشتري ثمنا بإطلاق لفظ الثمن عليه ثم جعل الثمن مشتري بإيقاعه بدلاً لما جعل ثمنا بدخول الباء عليه ولا يخفى ما في هذا كله من التكلف وجعله مجازا مرسلاً مرشحا كما ذهب إليه أكثر الشراح أقرب الوجوه الثلاثة فإن قيل: الاشتراء بمعنى الاستبدال بالإيمان بها إنما يصح إذا كانوا مؤمنين بها ثم تركوا ذلك لحظوظهم الدنيوية كما في اشتروا الضلالة بالهدى. قيل: مبناه على أنّ الإيمان بالتوراة إيمان بالآيات كما أنّ الكفر بالآيات كفر بالتوراة فيتحقق الاستبدال والاسترذال مأخوذ من التعبير عنها بالثمن كما مرّ ثم إنّ المصنف رحمه الله اختار التعميم لمناسبته لما بعده وذكر تفسرين آخرين على التخصيص. قوله: (بالإيمان وأئباع الحق الخ) ما هو كالمبادي النعم المذكورة لاقتضائها الإيمان واتباع الحق وليست مبادي حقيقية له فلذا أقحم الكاف، والرهبة بمعنى الخوف مقدمة التقوى وعموم الخطاب لجميع أهل الكتاب لأنهم كلهم مأمورون بالإيمان به واطلاق أهل العلم عليهم سابقا بالنسبة إلى من ليس له كتاب فلا ينافي هذا ما مرّ من جعلهم اعلم ونحوه، وقوله أمرهم با أخقوى التي هي منتهاه جعلها منتهى لترتيبها على الخوف كما مرّ ولأنّ لها عر ضعريض هي منتهى باعتبار بعضه وقيل: عليه ليست التقوى مطلقاً منتهى السلوك بل منتهى المرتبة الثالثة منها وفيه نظر. قوله: (عطف على ما قبله واللبس الخ الم يعينه لأنه يجوز عطفه على النهي الأوّل والآخر، ولبس من باب ضرب ولبست عليه الأمر وبى صته بالتشديد فالتبس وفيه لبس ولبس بالضم إذا لم يكن واضحا والباء إمّا صلة أي معدية لأنّ الصلة كما تستعمل بمعنى الزائد تستعمل بمعنى المعدي أو للاستعانة أي لا تجعلوا
الحق ملتبسا مشتبها غير واضح بسبب باطلكم، ورجح الأوّل بأنه أكثر ولا داعي للعدول عنه، وإنما قال: وقد يلزمه لأنه ينفك عنه كثيراً وهو توطثة لاستعماله في الاشتباه وإشارة إلى أنه مجاز، ووصف الباطل باختراعهم بيان للواقع والإلباس كما يكون بإدخال ما ليس منه يكون بتأويله وكتمه وقوله والمعنى الخ إشارة إلى أنّ الباء فيه صلة وقوله بسبب إشارة إلى أنها للاستعانة وأخره لأنه مرجوح. قوله: (كأنهم أمروا بالإيمان وترك الضلال) الأمر بالإيمان في قوله وآمنوا وترك الضلال في قوله ولا تشتروا الخ أو المراد به الكفر وأدرجه تحت الأمر لدلالتة عليه وان كان منهياً عنه، والإضلال للغير إمّا بالتلبيس أو الإخفاء وهو ظاهر. قوله: (أو نصب بإضمار أن على أنّ الواو للجمع الخ) عطف على قوله جزم والواو بمعنى مع وتسمى واو الجمع وواو الصرف لأنها مصروف بها الفعل عن العطف لا يقال النهي لما توجه إلى الجمع جوّز أفراد أحدهما بدون الآخر لأنا نقول النهي عن الجمع لا يدل على جواز الإفراد ولا على عدمه وتد يكون ذلك بقرينة وهي هنا عقلية لقبح كل منهما فإن قلت إذا كان كذلك فما فائدة الجمع. قلت: لما كان كل منهما منهياً عنه ثم نهوا عن الجمع دل على أنهم يجمعون بينهم فنعى عليهم الجمع بين فعلين قبيحين، فإن قلت ليس الحق بالباطل ملزوم لكتمان الحق فكيف نهى عن الجمع بينهما. قلت الملازمة بين اللبس والكتمان المطلقين(2/151)
واللبس هنا شيء مخصوص وكتمان الحق شيء آخر لا ملازمة بينهما. قوله: (ويعضده أنه في مصحف ابن مسعود رضي الله عنه الخ) لأنّ الحال مقارنة والمقارنة والمعية بمعنى ولأنها ليست داخلة تحت النهي فيهما وان كان بينهما فرق وقوله وأنتم تكتمون إشارة إلى أنّ الحال المصدرة بالمضارع لا تقترن بالواو " ذا وردت كذلك يقدر المبتدأ ليصح ذلك وفي الكشف إنّ كلام الزمخشريّ يدل على أن المضارع المثبت يجوز أن يقع حالاً مع الواو، وكرّر هذا المعنى في هذا الكتاب وذكره الجوهريّ وغيره وليس للمانع دليل يعتمد عليه، وقد ورد في التنزيل: {وَقَد تَّعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ} [سورة الصف، الآية: 5] وان اعتذرت عن ذلك بأنّ حرف التحضيق أخرجه عن شبه المضارع فلا وجه لاعتراض المعترض اهـ. ومآل المعنى حينئذ كاتمين وجؤز على هذه القراءة
عطفها على جملة النهي بناء على جوارّ تعاطف الخبر والإنشاء، وقوله: وفيه إشعار أي في التقييد بالحالية وهو جار في المعية أيضا لأنه نحو فولك لا تسيء إليّ وأنا صديقك القديم ولأنّ الإخفاء إذا كان لمصلحة لا يقبح، وقوله: عالمين الخ إشارة إلى انّ الجملة حالية وأن مقوله مقدر مأخوذ مما قبله وقوله: إذ الجاهل قد يعذر يعني تقييد النهي المقصود منه زيادة تقبيح حالهم. قوله: (يعني صلاة السلمين الخ) يريد أن اللام في الصلاة والزكاة والراكعين للعهد والإشارة إلى المعين، ويجوز أن يجعل للجنس والدلالة على أنّ صلاة غير المسلمين ليست بصلاة من تخصيصهم بها والفروع أعمال الجوارج والأصول الإيمان وقد يعدّ بعض الفروع كالصلاة وبقية الخمسة أصولاً لأنها أعظم شعائره فهي فرع من وجه أصل من آخر فلا ينافي هذا حديث بني الإسلام، وقوله وفيه دليل على أنّ الكفار مخاطبون بها أي بالفروع وهو مذهب الشافعيّ رضي الله عنه وبعض الحنفية وغيرهم يقول ليسوا مخاطبين بها ولا خلاف في عدم جواز الأداء حال الكفر ولا في عدم وجوب القضاء بعد الإسلام وإنما الخلاف في أنهم يعاقبون في الآخرة بترك العبادات زيادة على عقوبة الكفر كما يعاقبون بترك الاعتقاد. قوله:) والزكاة من زكاة الزرع إذا نما الخ) الزكاة في اللغة النماء والطهارة ونقلت شرعا لإخراج معروف فإن نقلت من الأوّل فلأنها تزيد بركته أو لأنها تكون في المال النامي، وان نقلت من الثاني فلما ذكره المصنف رحمه الله، ويثمر مخفف ومشدد وهو لازم وكثيراً ما يستعملونه متعدياً كما هنا قال في شرح المفثاح لتضمينه معنى الإفادة فيه كلام في شفاء الغليل، فانظره. قوله: (أي في جماعتهبم الخ) هذا هو الظاهر حتى استدلّ به بعضهم على وجوب الجماعة والمصنف رحمه الله استدل به على تأكدها وأفضليتها وتظاهر النفوس يعني تقوّيهم على العبادة إذا اجتمعوا وإظهار شوكة الإسلام وكثرته، ويجوز حمل المعية على الموافقة وان لم يكونوا معهم والفذ بالفاء والذال المعجمة المشددة المنفرد وهو: " حديث مرفوع أخرجه الشيخان من حديث ابن عمر رضي الله عنهما ". قوله:) وعبر عن الصلاة بالركوع احترازاً عن صلاة اليهود) فإنها لا
ركوع فيها فهو من التعبير عن الكل بالجزء كما تسمى سجودا أو المراد به مطلق الخضوع والانقياد كما في البيت المذكور. قوله: (لا تذل (وروي لا تهين بفتح النون وهو للأضبط بن قريع وهو شاعر أمويّ وقبله:
لكل ضيق من الأمورسعه والمساوالصبح لابقاءمعه
لاتهين الفقيرعلك أن تركع يوما والدهر قد رفعه
وصل حبال البعيد ان وصل الى حبل وأقص القريب إن قطعه
واقبل من المدهرما أتاك به من قرّعينابعيشه نفعه قديجمع المال غيرآكله ويأكل المال غيرمن جمعه
وعلك لغة في لعلك والركوع يعني الانحطاط عن الرتبة ويلزمه الذلة والخضوع. قوله:) تقرير مع توبيخ وتعجيب الخ) قال المحقق: التقرير عندهم الحمل على الإقرار والإلجاء إليه والتحقيق والتثبيت وكلاهما مناسب هنا وأ أنت قلت للناس تقرير بالمعنى الأوّل بأن يقرّ بأنه لم يقل ذلك وفي قوله: {هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ} [سورة المطففين، الآية: 36](2/152)
بالمعنى الثاني، وأمر الناس بالبر ليس موبخا عليه في نفسه بل لمقارنته بالنسيان المذكور والبر الخير الواسع ومنه البرّ ضد البحر وتناوله كل خير بمعنى إطلاقه عليه لا إرادته منه، وقوله كالمنسيات إشارة إلى أن تنسون استعارة تبعية مبنية على تشبيه تركهم أنفسهم عن الخير بالنسيان في الغفلة والإهمال لأنّ نسيان الرجل نفسه محال، وبررت بالفتح بمعنى أتيت بخير وبالكسر ضد العقوق. قوله: (تبكيت الخ) يعني ليس الحال ههنا أيضاً للتقييد بل للتبكيت وزيادة التقبيح. قوله: (قبح صنيعكم فيصدّكم الخ) يعني أن مفعوله مقدر أو منزل منزلة اللازم واليه أشار بقوله أفلا عقل لكم واستدل بهذه الآية على القبح العقلي ورذ بأنه رتب التوبيخ على ما صدر منهم بعد تلاوة
الكتاب فهو دليل على خلافه وفرق بين التوجيه الأول والثاني بحسب المعنى بأن في الأوّل نفي إدراك قبيح الصنيع وفي الثاني نفي إدراك أنه لا ينبغي فعل القبيح مع نفي قوّة هذا الإدراك وقوله والعقل في الأصل الحبس من شد العقال كما أشار إليه القائل:
قد عقلنا والعقل أيّ وثاق وصبرنا والصبر مرّ المذاق
قوله: (والآية ناعية الخ) أصل النعي رفع الصوت بذكر الموت ونعى عليه شهواته شهره
بها قال الأزهريّ: فلان ينعي نفسه بالفواحش إذا شهرها بتعاطيها ونعى فلان على فلان أمرا إذا أظهره ونفسه مرفوع تأكيد للضمير المستتر وسوء صنيعه مفعول ناعية وخبث معطوف عليه، وأنّ فعله فعل الجاهل بناء على تقدير مفعول يعقلون وما بعده على تنزيله منزلة اللازم وفي الصحاج شديد الشكيمة أبيّ النفس لا ينقاد وأصلها الحديدة في فم الفرس، وقوله لتقوم أي لتقوم نفسه بها فيقيم غيره، وقوله لا منع الفاسق عن الوعظ هذا مما تقرّر في الفروع لأن النهي عن المنكر لازم ولو لمرتكبه فإن ترك النهي ذنب وارتكابه ذنب آخر، وإخلاله بأحدهما لا يلزم منه الإخلال بالآخر، وأمّا آية: {لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ} فمخصوصة بسبب النزول وهو أن المسلمين قالوا لو علما أحبّ الأعمال إلى الله لبذلنا فيه أموالنا وأنفسنا فأنزل الله ذلك، وفيه نظر لأنّ التأويل الجاري في هذه الاية يجري فيها لأنه ليس النهي عن القول بل عن عدم الفعل المقارن له فتأمّل. قوله: (متصل بما قبله الخ (يشير إلى أنّ الخطاب لبني إسرائيل أيضا لا لجميع المسلمين كما قيل: لتفكيك النظم وقوله: والمعنى استعينوا الخ فمعنى الصبر الانتظار أو الصوم لأنه صبر عن المفطرات والاستعانة به لما فيه من كسر الشهوة والتصفية، وأمّا
الاستعانة بالصلاة فلما فيي مما يقرّب إلى الله قربا يقتضي الفوز بما يطلب، والأطيبيق الأكل والجماع، وحتى تجابوا متعلق باستعينوا وقوله من الطهارة الخ إشارة إلى ما قال الراغب رحمه الله تعالى من أنّ الصلاة جامعة للعبادات كلها وزائدة عليها لأنها ببذل المال في الساتر ونحوه كالزكاة وللزوم مكان كالاعتكاف وبالتوجه للكعبة كالحج ولذكر الله ورسوله كالشهادتين ولمدافعة الشيطان كالجهاد وللإمساك عن الأطيبين كالصوم وتزيد بالخشوع ووجوب القراءة وغيره وجوّز في الصبر أن يراد به الصبر على الصلاة وسيأتي في كلام المصنف إشارة إليه. قوله: (روي أنه عليه الصلاة والسلام الخ (أخرجه أحمد وأبو داود وحزبه بحاء مهملة وزاي معجمة وباء موحدة بمعنى أهمه ونزل به وضبطه الطيبيّ وغيره حزنه كضربه بالنون من الحزن بمعنى أحزنه أي حصل له حزناً، وفي الدرّ المصون قيل الفتحة معذية للفعل نحو شترت عينه وشترها الله وهذا على قول من يرى أن الحركة تعدي الفعل، وقوله فزع إلى الصلاة أي قام لها ملتجئاً إليها قال المبرّد في الكامل الفزع في كلام العرب على وجهين أحدهما الزعر والآخر الاستنجاد والاستصراخ وهو المراد هنا ويكون فزع بمعنى أغاث. قوله: (وإنها أي الاستعانة الخ الما ذكر الصبر والصلاة كان المتبادر أن يقال: إنهما فجعل الضمير إمّا للصلاة أو الاستعانة فإن فسر الصبر بالصبر على الصلاة فرجوع لضمير إلى الصلاة أشبه لأنه مذكورة لفظا وأقرب والمقصود نفسها وإلا فالى الاستعانة ليكون أشمل وما يقال: من أنّ الاستعانة في نفسها ليست بكبيرة لا طائل تحته فان الاستعانة بالصلاة أخص من(2/153)
فعل الصلاة لأنها أداؤها على وجه الاستعانة بها على الحوائج أو على سائر الطاعات لاستجرارها ذلك وقوله أو جملة ما أمروا الخ فالضمير راجع إلى المذكورات المأمور بها والمنهيّ عنها ومشقتها عليهم ظاهرة، ولما كان الكبر عظم الأجسام بين أنّ المراد لازمه وهو مشقة حمله وأشار إلى أنه مستعمل بهذا المعنى. قوله: (أي المخبتين الخ) الخبت المطمئن من الأرض ويراد به التواضع والخشوع، والخضوع والخشوع متقاربان بمعنى الضراعة والتذلل وأكثر ما يستعمل في الجوارح والضراعة أكثر ما تستعمل في القلب ولذلك روي إذا ضرع القلب خشعت الجوارح كذا قال الراغب
والمصنف رحمه الله، فرق بين الخ! شوع وال! صوع والخشعة بفتحات الرمل المتطأمن أي المنخفض في الأرض. توله: (أي يتوقعون لقاء الله الخ) اللقاء مقابلة الشيء ومصادفته معاً، ويقال للإدراك بالحس، وملاقاة الله تعالى أمّا رؤيته عند المجوّزين لها واليه أشار المصنف رحمه الله ردّاً على الزمخشري بقوله لقاء الله أو عبارة عن القيامة و. عن المصير إليه أو نيل ثوابه وعقابه وهو معنى قول المصنف رحمه المه ونيل ما عنده وليس تعب يراً تفسيرياً فإن كان بمعنى الرؤية أو نيل ما عنده فالظن بمعناه المعروف إن حمل الرجوع إليه على نيل الثواب أيضا فيكون تأكيدا، ولا يصح حمله على النشور والمصير إلى الجزاء فإنه متيقن فإن فسرت الملاقاة بالحشر والرجوع بمطلق الجزاء أحتاج إلى حمل الظن على اليقين، وأيده بقراءة ابن مسعود رضي الله عنه تعلمون وبين وجهه بأنّ الظن الاحتمال الراجح والمتيقن كذلك لما فيه من الرجحان فأطلق الظن على المتيقن المستقبل بجامع الرجحان وأن كلا منهما متوقع أي منتظر قبل الوقوع، ومعنى التضمين كونه في ضمنه لا الاصطلاحيّ، وقال قدس سزه: لا نزاع في امتناع لقاء الله على الحقيقة لكن القائلين بجواز الرؤية يجعلونها مجازاً عنها حيث لا مانع، وأمّا من لم يجوّزها فيفسرها بما يناسب المقام كلقاء الثواب خاصة أو الجزاء مطلقا أو العلم المحقق الشبيه بالمشاهدة والمعاينة، فإن حمل الظن على التوقع والطمع فمعنى ملاقاته لقاء الثواب ونيل ما عند الله من الكرامة لظهور أن لا قطع بذلك وان حمل على اليقين أو قرئ يعلمون بدل يظنون فمعناها ملاقاة الجزاء فإنه مقطوع به عند المؤمن لأنّ التردّد في يوم الجزاء كفر لا يصلح أن يذكر في معرضى المدح كما هنا لكن لا يخفى أنّ الرجوع إلى الله المفسر بالنشور أو المصير إلى الجزاء مما لا يكفي فيه الظن بل يجب القطع فعطف قوله: {وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [سورة البقرة، الآية: 46] على أنهم ملاقوا ربهم يوجب تفسير الظن بالتيقن البتة اللهمّ إلا أن يقدر له عامل أي ويعلمون مع أنه خلاف الظاهر، وقيل: فيه بحث لأنّ العلاقة في هذا المجاز إن كانت المشابهة كان استعارة ولا وجه له ههنا لأنها إمّا تصريحية أو مكنية فلو كانت تصريحية لاستعمل التيقن مكان الظن وقد عكس هنا ولو كانت مكنية لزمها التخييلية وهي منتفية وهذا عجيب منه فإن الظن مستعمل في التيقن لما مرّ وقد ذكر المشبه فهي تصريحية بلا شبهة وكأنّ النكتة في استعارة الظن المبالغة في إيهام أنّ من ظن ذلك كلا يشق عليه فكيف من تيقنه وقوله لتضمين باللام في نسخة إشارة لوجه التجوّز كما مرّ ووقع في بعض الحواشي بالكاف وقال في معناه كما أنّ إطلاق الظن على التوقع بطريق التضمين لا الحقيقة وفيه نظر. قوله: (قال أوس ابن حجر الخ) قال السيوطي: حجر بفتحتين كما ضبطوه وان اشتهر فيه خلافه، وهذا شاهد
لكون الظن بمعنى العلم لقوله مستيقن وهو من قصيدة أوّلها:
تنكر بعدي من أمية صائف فبرك بأعلى ثوالب والمخالف
قال شارح ديوانه تنكر تغير بنون وكاف وراء مهملة، وبرك بكسر الموحدة وراء مهملة وثولب والمخالف كلها أماكن ومنها بعد أبيات يصف صياداً رمى حمار وحش بسهم: فأمهله حتى إذا أنّ كأنه معاطى يد من جمة الماء غارف فسيرسهماراشه بمناكب لؤام ظهار فهوأعجم شائف
فأرسله مستيقن الظن أنه مخالط ما تحت الشراسيف جائف(2/154)
أنّ زائدة أي حتى بلغ الحمار هذا الوقت والمعاطى المناول أي حتى اطمأن وصار في
الماء بمنزلة المعاطى الذي يتناول منه والمناكب أربع ريشات تكون على طرف المنكب واللؤام عدد ملتئم من الريش فيكون بطن قذة إلى ظهر أخرى والظهار ما جعل من ظهر عسيب الريشة والشائف اليابس ورواه الجوهرفي:
فقلب سهماراشه بمناكب ظهارلؤام فهوأعجف شارف
قال يقال لهم سهم شارف إذا وصف بالعتق والقدم والظهار ما جعل من ظهر عسب الريشة وقد قيل: إنّ المراد البازي والرواية ما مرّ والشراسيف أطراف الأضلاع تشرف على البطن، وجائف بالجيم أي طاعن إلى الجوف وقيل: في الاستشهاد به نظر لاحتمال أن يريد تيقن ما هو مظنون لغيره. قوله: (والآلم تثقل عليهم الخ (يعني من تمزن على شيء خ! عليه وكذا من عرف فيه فائدة عظيمة كما ترى بعض العمال إذا زيدت أجرته ولذا جعلها النبيّ عليه الصلاة والسلام لاستلذاذه بها: " قرّة عينه " وهو حديث صحيح سيأتي في آل عمران، وقوله: كرّره الخ أي كرر ما ذكر من النداء وما معه للتأكيد وهو ظاهر وتذكير التفضيل أي التصريح به بعدما تقدّم أيضا ضمناً في إنزال الكتب المستلزم لبعثه لرسل منهم عليهم الصلاة والسلام وبين النكتة فيه بناء على أنّ المنعم عليه واحد فيهما لاحتياجه إلى البيان أمّا إن فسرت النعمة السابقة
بما أنعم به على الأولاد وهذه بما على الآباء كما اختاره فهو ظاهر فلا يقال: الأولى أن يذكره لأنه مختاره. قوله: (أي عالمي رّمانهم الخ) يعني ليس المراد هنا بالعالمين ما سوى الله ليلزم تفضيلهم على الملائكة وعلى نبينا صلى الله عليه وسلم وأتته بل أهل زمانهم لأنّ العالم اسم لكل موجود فيحمل على الموجودين بالفعل ولا يتناول من قبلهم ولا من بعدهم ولو سلم عمومه على المعهود في استعماله فلا يلزم التفضيل من جميع الوجوه كما مرّ ومنه علم وجه ضعف الاستدلال به على تفضيل البشر والمقسط العادل. قوله:) وهو ضعيف (يريد أن الاستدلال بالآية ضعيف لعدم ظهوره فلا ينافي أنه مذهب أهل السنة وأنه صحيح في نفسه كما سيأتي. قوله:) ما فيه من الحساب والعذاب) يعني أنه ليس بظرف إذ ليس المقصود الاتقاء فيه بل مفعول به واتقاؤه بمعنى اتقاء ما فيه إتا مجازاً بجعل الظرف عبارة عن المظروف أو كناية عنه للزومه له والاتقاء يقع على معه محذور، سواء كان فاعل الضرر أو وقته أو سببه فيقال: اتق زيداً واتق ضربه واتق يوما يجيء فيه فليس تفسيره بما فيه لأنه ليس حقيقة بل لأنّ الاتقاء من هذا الزمان لا يمكن لأنه آت لا محالة فالمقدور له اتقاء ما فيه بالعمل الصالح، والمراد بالحساب قيل: حساب المناقشة لا حساب العرض لأنه واقع لا محالة وفيه نظر. قوله: (لا تقضي عنها شيئاً الخ (جزى يكون معتلا ومهموزاً ومعناه على الأوّل قضى وهو متعذ بنفسه لمفعوله الأوّل وبعن للثاني فنفساً منصوب بنزع الخافض أي عن نفس وشيئا مفعول به أو مفعول مطلق قائم مقام المصدر أي جزاء ما وعلى الثاني يكون معناه تغني، وهو لازم فشيئا مفعول مطلق لا غير ويرد متعدّيا بمعنى كفى، وقيل: إنه غير مناسب هنا وفيه نظر. قوله: (وإيراده منكر الخ) أي تنكير شيء ونفس الدال على العموم في الشافع والمشفوع له وفيه ليفيد اليأس الكتي إلا من رحمه الله وهذا اليأس إن كان يأس بني إسرائيل المخاطبين فلا كلام فيه وان كان عافا فإما أن يفسر بظاهر النظم اعتماداً على ما بعده فيؤوّل بتأويله أو للتخويف فإن المغني في الحقيقة هو الله فلا يرد عليه أنه تبع فيه الكاف وهو مذهب المعتزلة المنكرين للشفاعة في العصاة كما سيأتي فإنهم استدلوا بهذه الآية. قوله: (ومن لم يجوّز حذف العائد المجرور الخ (يعني به الكسائيّ رحمه الله والمجوّز سيبويه والأخفش وليس عدم التجويز مطلقاً بل فيما لم يتعين فيه حرف الجرّ ويصير بعد الحذف ملتبسا وإلا فقد اتفقوا على جوازه في قوله
تعالى: {أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا} [سورة الفرقان، الآية: 60] أي تأمرنا به أي بإكرامه فلا حاجة في الحذف حينئذ إلى الإجراء مجرى المفعول به كذا في الرضي وقد جوّز فيه وجه آخر وهو أن يكون التقدير يوم لا تجزي فحذف المضاف وهو بدل من يوما الأوّل وهذا على مذهب الكوفيين، وقوله: أم مال أصابوا هو من شعر قال ابن الشجري: إنه للحرث بن كلدة يعاتب(2/155)
بني عمه على أنهم لم يجيبوا كتابا أرسله لهم وقال غيره إنه لبعض الإعراب وأوّله:
ألا أبلغ معاتبتي وقولي بني عمي فقدحسن العتاب
وسل هل كان لي ذنب إليهم همومنه فاعتبهم غضاب
كتبت إليهموكتبا مرارا فلم يرجع إليّ لهم جواب
فما أدري أغيرهم تناء وطول العهدأم مال أصابوا
فمن يك لا يدوم له وفاء وفيه حين يغترب انقلاب
فعهدي دائم لهمو وودّي على حال إذ! شهدوا وغابوا
وانما قال أم مال أصابوا لأنّ الغني في أكثر الناس يغير الإخوان على الإخوان كما قال
أبو الهول في صديق له أيسر فلم يجده كما يحب:
لئن كانت الدنيا أنالتك ثروة فأصبحت فيها بعد عسرأخا يسر
لقدكشف الإثراء منك خلإئقا من اللؤم كانت تحت ثوب من الفقر
وهذا معنى قوله تعالى في الحديث " إن من عبادي من لا يصلحه إلا الفقر ". قوله: (أي
من النفس الثانية الخ) يشير إلى أنّ المختار أن يرجع الضمير إلى النفس العاصية ليلاً ثم قوله ولا هم ينصرون فإن الضمير فيها للنفوس العاصية وكذا لا يؤخذ منها عدل على الأظهر وليوافق ما ذكر في موضع آخر ولا يقبل منها عدل ولا تنفعها شفاعة ولأنه حيث أريد هذا المعنى أضيفت الشفاعة مثل فما تنفعهم شفاعة الشافعين، وما يقال: في ترجيح الوجه الثاني إن المقصود نفي أن يدفع أحد عن أحد فنفى جميع ما يتصوّر في ذلك من الطرق أعني الإعطاء لنفس الحق وهو الجزاء، أو بدله وهو الفدية أو ترك الإعطاء مع اللطف وهو الشفاعة أو القهر وهو النصرة غايته أنه لم يراع في الذكر الترتيب وغير في طريق النصرة الأسلوب حيث لم يقل:
ولا هي أي النفس الجازية تنصرها أي المجزية مردود وكذا ما قيل: من أنه إشارة إلى أنّ هذا الطريق يستحيل بحيث لا يصح أن يسند إلى أحد وأنه لا خلاص لهم بهذا الطريق البتة لما في تقديم المسند إليه من تقوي الحكم مردود بأنّ المقصود بسوق الآية نفي اندفاع العذاب وعدم الخلاص لأنه المناسب لوجوب الاتقاء وإنما نفي الدافع بالعرض مع أنّ عود لا يؤخذ منها إلى الثانية في غاية الظهور، وحمل ولا هم ينصرون على ما ذكر تكلف نعم لو قيل: إنّ القبول أو عدمه إنما يكون حقيقة من الشفيع لا المشفوع له لكان شيئا اص. وهذا يرد على قول المصنف رحمه الله وكأنه أريد بالآية نفي الخ لكنه دفع بأنّ الآية نزلت لإقناط اليهود من أنّ آباءهم يخلصونهم فالمقصود من سياقها نفي الدفع لا الاندفاع وكون ضمير لا يقبل منها شفاعة رجوعه للأولى غير ظاهر ليس كذلك بل أظهر، وأمّا ما ذكره من تغيير الأسلوب وما معه فجار على قواعد المعانيئ لا تكلف فيه مع أنه لا يرد على المصنف بوجه لأنه أشار لمرجوحيته بتأخيره وتصديره بكأنه، فمن جعله اعتراضاً عليه ألزمه ما لم يلتزمه وإنما هو وارد على الكشف (وبقي وجه ثالث) اختاره الكواشي وهو رجوع الضمير الأوّل إلى النفس الأولى والثاني إلى الثانية على اللف والنشر ولا تفكيك فيه لاتضاحه، وقال الطيبي رحمه الله: أنه من الترقي ولذا اختير تفسير تجزي بتقضي لابتغني كأنه قيل: إنّ النفس الأولى لا تقدر على اسنخلاص صاحبتها من قضاء الواجبات في تدارك التبعات لأنها مشتغلة عنها بشأنها ثم إن قدرت على نفي ما كان بشفاعة لا يقبل منها وان زادت عليه بأن ضمت معها الفداء فلا يؤخذ منها وان حاولت الخلاص بالقهر والغلبة فأنى لها ذلك اهـ. ولا يرد عليه أنه يأباه تأخير الشفاعة في نظيره وأنّ مساق الآية يأباه مع ما فيه لظهور سقوطه، وكون الشفيع مأخوذا من الشفع ظاهر. قوله: (يمنعون من عذاب الثه تعالى والضمير الخ) أصل معنى النصر المعونة وهي تكون بدفع الضرر كما هنا ولما أرجع الضمير إلى النفس الثانية وهي واحدة مؤنثة أشار إلى أنه ليس عائداً إلى النفس المنكرة من حيث كونها لعمومها بالنفي في معنى الكثرة كما قيل: بل إلى ما تدل(2/156)
هي عليه من النفوس الكثيرة حتى إنّ هذا يكون من قبيل ما تقدم ذكره معنى بدلالة لفظ آخر ثم استشعر أنه لما عاد الضمير إلى النفوس كان المناسب هن لا هم فأجاب بأنه لتأويل النفوس بالعباد أو الأناسيّ كما تقول ثلاثة أنفس بالتاء مع تأنيث النفس لتأويل الأنفس بالأشخاص أو الرجال. قوله: (وقد تمسكت المعتغية بهذه الآية على نفي الشفاعة الخ) خصه بأصحاب الكبائر لأنه محل النزاع ولا خلاف في قبول الشفاعة للمطيعين في زيادة الثواب ولا في عدم قبولها للكفار، ووجه الاستدلال ما فيها من العموم كما مرّ وكون الخطاب للكفار والآية نازلة فيهم لا يدفع العموم
المستفاد من اللفظ وقد دفع بأنّ مواقف القيامة كثيرة وزمانها واسع ولا دلالة في الكلام على عموم المواقف والأوقات، ولو سلم فقد خص شيء بالواجب من فعل أو ترك، وشفاعة بالشفاعة للكفار وأهل الكبائر حيث قبلت للمؤمنين في زيادة الثواب مع شمول اللفظ إياها نظراً إلى نفسه والعام الذي خص منه البعض ظتي فيخص بغير أهل الكبائر ونحوه وبي بعض الحواشي أنّ القاضي أجاب عنه بأنّ النصرة منع مع قوة فلا يلزم من نفي النصرة نفي من ينفعهم على طريق آخر وأورد عليه أنّ الاستدلال بقوله: {لاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ} لا بقوله: {وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ} ونحن لا نجد في تفسير القاضي سوى أنّ الآية مخصوصة بالكفار للآيات والأحاديث الواردة في الثفاعة لأهل العبائر. قوله: (تفصيل لما أجمله الخ) الظاهر من التفصيل ذكر جملة أقسامه وهنا أريد ذكر أعظم أنواعه وعطفها على الكل اعتناء بشأنه حتى كأنه مغاير له ولذا قيل: الأولى أنه معطوف على {أَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} وأنه مبدأ التفضيل، وقوله: وأصل آل الخ كون أصله أهل قول البصريين واستدلّ له بتصغيره على أهيل ورذ بأنه تصغير أهل وا! إبدال الهاء ألفا أو همزة ثم ألفاً لم يعهد في الكثير، والجواب بأن الأهل مؤنث لا ينتهض لأنّ المبدل كذلك بل الجواب أنه لم يسمع أويل وسمع أهيل ولو لم يكن أصله كذلك لوجد مصغره فإنه مما يصغر في الجملة، ولا يرد أن اختصاصه بأولى الأخطار يمنعه فإنه قد يرد للتعظيم ويكون للتقليل وهو لا ينافي الشرف مع أنه قد يكون وضيعا بالنسبة لغيره والتعظيم إنما هو للمضاف إليه، وقال الكسائي رحمه الله: أصله أول قال: وسمعنا أعرابيا فصيحا يقول: أويل في تصغيره ولا داعي لقول ثعلب فله أصلان لمعنيين وعن غلام ثعلب الأهل القرابة كان لها تابع أولاً والآل القرابة بتابع والاشتقاق مع الثاني لأن الرجل يؤول إلى أهله فهو أخص من الأهل ولذا لم يستعمل إلا في الإشراف وقلة استعمال مصغره للا؟ خفاء بأهيل عنه ولأن تصغير التعظيم فرع التحقير وقد امتنع والأصل أن يكون لكل مجاز حقيقة وأن لم يجب، وقيل: إنه جرى فيه تخصيصان من حيث إنه لا يضاف إلى البلاد والحرف ونحو ذلك فلا يقال آل مصر وآل الإسلام وآل البيت وآل التجارة كما يقال: أهلها ولا يضاف من العقلاء إلا لمن له خطر ما
قبيح
دينيا أو دنيويا وزاد بعضهم اشتراط التذكير فلا يقال آل فاطمة فإن أرادوا أنه أكثري فمسلم والا فقد ورد في كلام العرب على خلافه فأضافوه إلى الضمير والظاهر غير العاقل كقوله:
وانصر على آل الصلب! ب وعابديه اليوم آلك
و ال الفرزدق:
نجوت ولم يمنن عليك طلاقة سوى زيد التقريب من آل أعوجا
وأعوج فرس مشهور وأضافه عمرو بن أبي ربيعة إلى مؤنث فقال:
أمن آل نعم أنت غاد مبكر
وقال الأخفش: سمع آل المدينة وأهل المدينة، وهذا كله مما ذكره الثقات فإن قلت كيف يخص بالإضافة وهي لا تلزمه كما يقال: هم خير آل قلت: المراد أنه إذا أضيف لا يضاف إلا إليهم أو المراد بالإضافة اللغوية وهي الانتساب وفي الدرّ المصون هو من الأسماء اللازمة ل! ضحافة معنى لا لفظا، وفيه نظر. قوله: (وفرعون الخ) العمالقة أولاد عمليق بن لاوذ ابن سام بن نوح قيل: ويشبه أن يكون مثل فرعون وقيصر وكسرى في هذا المعنى بعدما كان علم شخص صار علم جنس، ولذا منع من الصرف ولكن جمعه باعتبار الإفراد مثل الفراعنة والقياصرة وإلا كأسرة يدل على أنه علم شخص يسمى به كل من يملك ذلك وضعا ابتدائياً وفيه أنه يقتضي أن علم الجنس لا يجمع وليس كذلك لأنه يقال في أسامة أسامات(2/157)
كما صرحوا به ولم يقل إنه نكر فصار بمعنى مسمى بهذا الاسم لأنّ مغ صرفه وتعريفه يناقيه فتأمل. قوله) ولعتوّهم اشتق منه تقر عن الرجل إذا عتا وتجبر) وفي الكشاف ومن ملح بعضهم:
قد جاءه الموسى الكلوم فزاد في
الخ يعمي نفسه وهكذا دأبه في الكشاف إذا ذكر شيئاً من كلام نفسه وقد روينا في ديوانه
في وصف ختان قوله:
في عصرنالبنيك فضل باهر ما نال أيسره بنو أيامه
طهرتهم فرعاً كماطهرتهم أصلاً فحازوا طهرهم بتمامه
وأخو الكتابة لا يجوّد خطه حتى ينال القط من أقلامه
والكرم ليس ينال حسن نموّه إلا على التنقيح من كزامه
والورد ليس يفوح طيب ريحه إلا إذا انفصمت عرا أكمامه
وكتابك المختوم ليس! بواضح معناه إلا بعد ففئ! ختامه
وأخو اللطام عن الذراع مشمر فالكمّ يشغله أوان لطامه
وابن الوغى مالم يسل حسامه عن غمده لم ينتفع مجسامه
قد جاءه موسى الكلوم فزاد في أقصى تفر عنه وفرط عرامه
كلموه وهويريدأن يقتص منه شيءبرئ من قصاص كلامه
والموسى ما يحلق به من أوسى رأسه حلقه فعلى ويؤنث والكلوم فعول من الكلوم وهو الجرح، ولو قال الكليم لكان إيهامه أقوى، وفي الأساس تفر عن النبات قوى والعرام بالمهملة المضمومة الشدة وهذا كناية عن الختان وبه النموّ والقوّة وقدسها فيه بعضهم فقال: إنه كناية عن حلق العانة وخص من الفراعنة اثنين لشهرتهما ووقوعهما في التنزيل، وقوله: وكان بينهما أي بين الفرعونين أو موسى ويوسف وكون اسمه الوليد هو المشهور ولا وجه لتعيين أحدهما، وقوله: وقرئ أنجيتكم قيل: الذي في الكشاف قرئ أنجيناكم ونجيتكم فالظاهر أنّ ما في الكتاب تحريف منه وفيه نظر لأنه ذكره غيره أيضاً. قوله: (يبغونكم الخ) أصل السوم الذهاب للطلب ثم إنه استعمل للذهاب وحده مرّة وللطلب أخرى وهو المراد وجعله كبغى متعديا لمفعولين وقد يتعديان لواحد، والخسف بمعنى الإهانة والذل. قوله: (أفظعه فإنه الخ) أفظعه بمعنى أقبحه وأشده، ولما كان في إضافة سوء إلى العذاب إيهام أ! ، منه ما ليس بسوء فسره بما ذكر والتفضيل مأخوذ من إطلاق المصدر عليه وجعل ما عداه بالنسبة إليه كأنه ليس بسوء. قوله:) حال من الضمير في نجيناكم الخ (كون الحال من شيئين خلاف الأصل وليس هذا من التنازع حتى يقال: إنه لا يجري في الحال إذ لا يلزم هنا تعدد العامل في الحال لأن آل فرعون وان كان معمول من بحسب الظاهر لكنه معمول نجيناكم بواسطة من في الحقيقة. قوله: (بيان ليسومونكم الخ) قد جوّز في هذه الجملة الحالية والبدلية والاستئناف، وما ذكره المصنف رحمه الله هو الوجه الأخير كأنه قيل: ما الذي ساموهم إياه فقال: {يُذَبِّحُونَ} الخ، وأما قوله في المغني أنّ عطف البيان لا يكون جملة فلا ينافيه لأنه ليس عطف بيان اصطلاحي مع أنّ أهل المعاني لا يسلمونه، وأمّا ما وقع في سورة إبراهيم بالعطف فلأنّ البيان قد يعذ لكونه أوفى بالمراد كأنه جنس آخر فيعطف لهذه النكتة أو يفسر سوم العذاب فيها بالتكاليف الشاقة عليهم غير الذبح والقتل فيتغايران ويلزم العطف، فإن قلت على الأوّل لم اعتبرت المغايرة هناك ولم تعتبر هنا قيل: السز فيه أنه وقع قبله وذكرهم بأيام الله ويقتضي التعداد والتفصيل وما هنا ليس
كذلك، وما ذكره عن فرعون ورؤياه رواه ابن جرير وكان رأى ناراً أقبلت من بيت المقدس حتى اشتملت على مصر وأحرقتها فعبروه بمولود يفعل ذلك فأمر بما فعل وكان أمر الله قدراً مقدورا، ومعنى: {يَسْتَحْيُونَ} يبقون في الحياة أي يذبحون الأبناء دون الإناث. قوله: (محنة إن أشير الخ) يعني البلاء مطلق الاختبار فيكون بالمحبوب والمكروه فذلكم أن أشير به إلى صنيع قوم فرعون من السوم وما معه فبلاء بمعنى محنة(2/158)