بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الكتاب: حَاشِيةُ الشِّهَابِ عَلَى تفْسيرِ البَيضَاوِي (الْمُسَمَّاة: عِنَايةُ القَاضِى وكِفَايةُ الرَّاضِى عَلَى تفْسيرِ البَيضَاوي)
المؤلف: أحمد بن محمد بن عمر شهاب الدين الخفاجي المصري الحنفي
دار النشر: دار صادر ـ بيروت
عدد الأجزاء: 8
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]
__________
تعريف بالكتاب:
هذه حاشية الشهاب الخفاجي على تفسير الإمام البيضاوي "أنور التنزيل وأسرار التأويل" وهي من أعظم الحواشي فائدة وأكثرها نفعاً وأسهلها عبارة، وقد قال الشهاب في مقدمة حاشيته: "نظمتها في سلك التحرير عقداً، واجتهدت في أن أقلد بها جيد هذا العصر العاطل تقليداً، فجاءت مواردها صافية من الكدر ورياضها محروسة بعين القضاء والقدر"، فجاءت هذه الحاشية كما قال.
ولا بد هنا من كلمة حول تفسير الإمام البيضاوي، فننقل ما قاله حاجي خليفة في كشف الظنون. قال: "وتفسيره هذا كتاب عظيم الشأن غني عن البيان، لخص فيه من الكشاف ما يتعلق بالإعراب والمعاني والبيان، ومن التفسير الكبير ما يتعلق بالحكمة والكلام، ومن تفسير الراغب ما يتعلق بالاشتقاق وغوامض الحقائق ولطائف الإشارات. وضم إليه ما ورى زناد فكره من الوجود المعقول والتصرفات المقبولة فجلا رين الشك عن السريرة وزاد في العلم بسطة وبصيرة".
قال: "ولكونه متبحراً جال في ميدان فرسان الكلام فأظهر مهارته في العلوم حسبما يليق بالمقام، كشف القناع تارة عن وجوه محاسن الإشارة وملح الاستعارة، وهتك أستار أخرى ممن أسرار المعقولات بيد الحكمة ولسانها وترجمان الناطقة وبنانها، فحل ما أشكل على الأنام، وذلل لهم صعب المرام وأورد في المباحث الدقيقة ما يؤمن به عن الشبه المضلة، وأوضح له مناهج الأدلة ... ".(/)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
المقدمة
يا مفيض البركات ومنزل الآيات البينات، افتح عيون بصائرنا لمشاهدة أنوارك، وارزقنا من موائد كرمك ذوق حلاوة أسرارك، ووفقنا لشكر آلائك، والتوفيق له من جملة نعمائك، واجعلنا ممن تمسك بعرا اليقين، واعتصم بحبلك المتين، من كتابك الكريم المنزل نجوماً مشرقة بنور الهدى، ورجوماً لشياطين الغواية المسترقة لسمع التحدّي في ظلمات الردي، فقطع علاقتهم عن طريق الحقيقة، فلم يهتدوا إلى المجاز، حتى تصغى أسماعهم إلى هيمنة الإعجاز، فظل كل شاعر في واد يهيم لا يجد شعوراً، وكل خطيب لسن يرى أسجاعه هباء منثورا، إلا من لمعت له أنوار ذاته، من خلف سرادقات صفاته، قد حل عكاظ الحقائق، وفاز بمتاع أسرار الدّقائق، بالوساطة المحمدية لا زالت الملائكة تهدي منا إليه كل حين أنفس صلاة وسلام وتحية، فإنه جزاه الله عنا خير الجزاء ختمت به الأديان، وفتحت به أبواب الرحمة وقصور الجنان، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه عرانين الكرم ومصابيح الدجى والظلم، حماة بيضة الهدى، وكماة حومة الوغى، ما لمعت بروق البراهين، من مطالع اليقين.
(هذا) وإنّ الله تعالى لما خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور، خط على مهارق البسيطة آيات توحيده معربة بالنبات منقوطة بالزهوره
والأرض طرس والرياض سطوره
والزهر شكل بينها وحروف
وجعل أديم الخضراء المحيط بالستور لأوراقها جلد مذهباً بالشموس والبدور، بعدما
خاط دفاتر الرياض بإبر الطل وخيوط الوسمي الفياض، ثم نشر صحفها على كراسي الروابي، بأيدي الصبا والقبول حتى درسنها بمكتب الهيولي أطفال الطبائع والعقول، فردّدها خرير الماء الجاري، وخطبت بسجعها على منابر القصب فصحاء القماري، فآذان الزهور لها مصغية، ورؤوس الجبال مطرقة، وعيون سيارة الزهر لها حائرة باهتة محدقة، فلم تهتد لها قلوب ميتة ظلت أجسامها لها قبورا: {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} [الإسراء: 44] فسبحان ما أوضح دلائل توحيده، وما أفصح ألسنة(1/1)
الكائنات الناطقة بتمجيده، كما أبداه ترجمة الحضرة القدسية، دوحة جرثومة المجد الأبطحية، من قرع هامة العز والشرف، وشنف مسامع الدهر بدرر لا تعرف آذان الصدف، من كتاب تدفقت مياه البلاغة من حياضه، وتفجرت ينابيع الإعجاز خلال رياضه، فشرقت بها المصاقع حدا، وغصت بعريض العجز كمداً.
كما قال الوليد وقد أصاخ له:
" والله إنّ له لحلاوة وإنّ عليه لطلاوة وإنّ أسفله لمغدق وان أعلاه لمثمر وما هذا بقول
بشر ".
والفضل ما شهدت به الأعداء، فكل من ينعم النظر فيه ويمعنه يقول هذا طراز ما أحسنه،
وهم ما هم في الجلاد والجدال، وفتح أكمام الأفواه عن أنوار المقال من كل من ساجل الدهر حتى مل ساجلتة، وصبر حتى وجد صبره من الفرج ضالتة، وكانت مناهل تفسيره تردها سابلة الأفهام، والمورد العذب كثير الزحام، وتفسير البيضاوي له من بينها اليد البيضاء لاقتناصه رواتع الأصلين وبدائع الشريعة الغرّاء، وقد تقدم رتبة وأن جاز منه أخيرا، فلسان حاله يتلو {وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} [الفرقان: 33] وإن أمعنت في تأويله نظراً ليس حسيرا ولا كليلاً، فهو خير وأحسن تأويلاَ.
أتيت بها يدا بيضاء حتى ~ كأنك في الذي أبدعت موسى
وقد أحييت موتى الفضل فيها ~ كما قد كان يحيى الميت عيسى
له فيه وفور حظ وسلاسة لفظ كما قال البحتري:
قد ركبن اللفظ القريب فأدرك ~ ن به غاية المرام البعيد
بل لفظه قريب لكنه أمنع من معشوق له رقيب، وشاؤه بعيد، ولكن ليس لنفس الفكر
وراءه تصعيد فيه أنضر روض طابت ثماره، وتفتحت بيد النسيم أنواره، سقاه من صيب البلاغة هتونه، حتى تشعبت فروعه وتهدلت غصونه، نجوه بصوب الوحي مغدق، ودوحه في ربيع المعاني مثمر مورق وكنت ممن اجتنى باكورة أبكاره، وتمشت في حدائقه أحداق أفكاره، وقد كثرت حواشيه، ونمّ على ضمائر أسراره وأشيه، وتبرّج القليب بعذب ماؤه، وبإنفاق المال يزكو نماؤه، وبصقل الفرند يبدو جوهره وعنقه، ويزيد في عطر المسك الذكي سحقه، راقت محاسنه فالعيون والأذان تهواها، فلو مني الحسن أمانيّ ما تعدّاها.
إذا امتحنت محاسنه أتته ~ غرائب جمة من كل باب
وكيف تتشبث يد المحجن بأهداب سحره، أو يصل غائص النظر إلى قرار فكره، والتفاسير جداول تنصبّ في لجة بحره ولكني رأيت البغاث ربما تفكهت بأعذب الثمار، ووردت قبل الضواري غير الأنهار فحداني ذلك إلى موارده ومصادره، وحثني على الغوص على فرائد جواهره، وأن أكتب عليه حواشي تكون سياجا لثماره، ومقدمات لنتائج أفكاره، التي تحير فيها البيان، ونادت الفضل للمتقدم في كل زمان، ولما ثقبت دررها من الأقلام المثاقب، وكان فكر الشهاب لها هو الثاقب.
ولاح نور من سنا أفقها ~ لا يدعيه البدر والشمس
نظمتها في سلك التحرير عقودا، واجتهدت في أن أقلد بها جيد هذا العصر العاطل
تقليداً، فجاءت مواردها صافية من الكدر، ورياضها محروسة بعين القضاء والقدر، لا زالت وجوهها ناضرة، وعيون معانيها إلى ربها ناظرة، ما انجلى صدأ القلوب والأفهام بتدبر ما في الذكر الحكيم من الأحكام فرحم الله من استصبح من نور القرآن، واستضاء بقبس البيان، وجعل ذلك مطية إلى سبل الجنان.
أخلق بذي الصبر أن يحظى بحاجته ومد من القرع للأبواب أن يلجأ
ولما وقفت دهم الأقلام على ساحل التمام، سميتها " عناية القاضي وكفاية الراضي "، وها أنا أقول مستعطياً بكف الضراعة القبول.
(مصنف هذا الكتاب) أبو سعيد عبد الله بن عمر بن محمد بن علي أبو الخير القاضي ناصر الدين البيضاوي نسبة إلى البيضاء قرية من أعمال شيراز كان إماماً في فقه الشافعيّ رحمه الله تعالى(1/2)
والتفسير والأصلين والعربية، والمنطق نظارا زاهدا متعبدا، ومن مصنفاته هذا التفسير وهو أجلها ومنهاج الأصول وشرحه، وشرح مختصر ابن الحاجب ومتن في علم الهيئة وشرح المنتخب للرازي والطوالع والإيضاح في أصول الدين، والغاية القصوى في فقه الشافمي وشرح المصابيح ومختصر الكافية وتاريخ الدول الفارسية الذي سماه نظام التواريخ، وتوفي سنة خمس وثمانين وستمائة بتبريز وقال السبكي: سنة إحدى وتسعين وستمائة قدس الله روحه، ونوّر ضريحه.
أقول هذا هو المشهور والذي اعتمده وصححه المؤرّخون في التواريخ الفارسية أنه توفي
في شهر جمادى الأول سنة تسع عشرة وسبعمائة تقريبا ويشهد له ما في آخر تاريخه نظام التواريخ وهو المعتمد:
قوله: (الحمد لله الخ) براعة استهلال وفي نسخة القرآن بدل الفرقان والأولى موافقة للتنزيل إن فسر بما يكون مفرّقاً في النزول لا بالفارق بين الحق والباطل ونحوه بحسب الظاهر
بناء على الفرق بين التنزيل والإنزال بأن الأول التدريجي والثاني الدفعيّ، وهل هو أكثريّ أو كليّ أو عند القابل وضعيّ مستفاد مما يدلّ عليه التكثير أولاً ذهب إلى كل طائفة.
وسيأتي في محله ولا يرد هنا السؤال الوارد على النظم في سورة الفرقان بأنّ الموصول يقتضي سبق العلم بالصلة ليتعرّف بها وهذا ليس كذلك، فيجاب بأنه نزل منزلة المعلوم لسطوع برهانه ونحوه لأنه علم بعد ذلك فضلاً عن زمان التصنيف، والنزول وإن استعمل في الأجسام، والأعراض لا يوصف به إلا باعتبار محالها والقرآن من الأعراض الغير القارّة فلا يتصوّر إنزاله ولو بتبعية المحل فهو مجاز متعارف لوقوعه على مبلغه كما يقال نزل حكم الأمير من القصر، أو التنزيل مجاز عن إيحائه من الأعلى رتبة إلى عبده تدريجاً كالتجوّز في الطرف أو الإسناد، والقرآن مصدر قرأ قراءة وقرآناً صار حقيقة في المقروء وهو كلام الله الذي بين دفتي المصحف ويطلق على المجموع، وعلى المشترك بينه وبين الأجزاء المختصة به، وعلى تلك الأجزاء، وعلى الكلام النفسيّ القائم بذاته، والظاهر اشتراكه بينها خلافاً لمن جعله حقيقة في أحدها، وقيل: المعرّف مخصوص بالجميع بخلاف المنكر حتى لو حلف لا يقرأ القرآن لا يحنث إلاً بقراءة الجميع بخلاف ما لو حلف لا يقرأ قراناً ثم إنّ المصنف رحمه الله تعالى لم يقل تبارك مع أنه الموافق للنظم والمناسب للاقتباس المتعارف فيه ترجيحاً لمقتضي المقام من التصريح بالحمد.
وقيل: لا حاجة إلى العذر لأنه عند ارتكاب خلاف الظاهر إلا أن يقال إنه هو الظاهر بعد قصد الاقتباس، فإذا عارضه مقتضى المقام فرعايته أولى لأنّ مبنى البلاغة على مطابقته والاقتباس من المحسنات، وفيه نظر ثم إنه رتب استحقاق الحمد على تنزيل القرآن لبراعة الاستهلال مع أنه من أعظم النعم لأنّ به نظام المعاش والمعاد وقال على عبده موافقة للنظم، ولأنه أشرف الأوصاف لاقتضائه التمحيض لجانب الحق بخلاف النبوّة والرسالة، ولذا قال: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} [الإسراء: 1] كما قال الشاعر:
لاتدعني إلا بياعبدها ~ فإنه أشرف أسمائي
وإضافته لله للتشريف وفي كيفية نزوله كلام فقيل نزل جملة من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا، وأمرت السفرة بانتساخه، ثم نزل إلى الأرض منجّما في ثلاث وعشرين سنة على حسب المصالح وإنّ جبريل تلقاه في مقامه عند سدرة المنتهى من حضرة القدس إمّا بسماعه بلا صوت ولا حرف أو بصوت من جميع الجهات على خلاف العادة أو من جهة بصوت غير مكتسب للعباد، وقيل: أخذ المعنى وخلق فيه علم ضروري بعبارته، وقيل: تلقاه بلفظه ومعناه بالذات أو بواسطة ملك آخر كما فصل في محله وقوله: (ليكون) فيه ضمير مستتر للعبد وهو الأظهر أو للقرآن، وقد جوّز أن يكون لله، ونذير بمعنى منذر أو مصدر بمعنى الإنذار كالنكير
والاقتصار على الإنذار إمّا اكتفاء والمعطوف مقدّر أي وبشيراً، وحذف لتوافق النظم وفيل لأنه يعمّ الكل بخلاف البشير، والأوجه أن يقال اقتصر عليه ليوافق قوله فتحدّي إلخ إذ المعارضة إنما صدرت من الكفرة واللائق بهم الإنذار لا التبشير، وعلى تقدير عمومه فهو للبشر أو للثقلين، وهو المناسب للعالمين، لا يشمل الملائكة إلا بتكلف أنّ إنذار الثقلين إنذار لهم وما قيل من أنه إن كان المراد بالإنذار(1/3)
والبشارة ما هو بطريق التعيين مثل فلان يدخل الجنة وفلان يدخل النار، فلا عموم في شيء منهما وإلا فهما سيان في العموم نحو من اتصف بكذا يثاب، أو يعاقب فليس بشيء إذا المراد الثاني والعصاة، والكفرة من حيث العصيان والكفر منذرون غير مبشرين بلا شبهة، وتحقيق الحمد ومعنى العالمين سيأتي في محله، ولام ليكون تعليلية، وهو ظاهر على رأي من جوّز تعليل أفعاله تعالى، ومن منعه يقول لها ثمرات وحكم نزلت منزلة العلل أو هي لام العاقبة، وسيأتي تحقيقه إن شاء الله تعالى قوله: (فتحذّي الخ) التحدّي طلب المعارضة ويكون بمعنى المعارضة نفسها كما صرّح به أهل اللغة لكنه غير مناسب هنا كما توهم إلا بتعسف لا حاجة إليه وأصله من الحداء، وهو التغني لحث الإبل على سرعة السير، ثم توسعوا فيه وصار حقيقة لما مرّ، ولذا قيل إن فيه إيماء إلى اختصاصه بالإنس بل العرب لأنهم أصحاب إبل فيكون تمهيدا لما بعده، وجملة تحدّي لا تحتاج إلى رابط وإن عطفت على جملة الصلة، وكان الضمير فيها عائدا إلى العبد كما هو الظاهر لتكلف عوده إلى القرآن من غير حاجة إليه إذ الفاء تجعلهما كجملة واحدة، فيكتفي بالضمير الواقع في إحداهما مثل الذي يطير الذباب فيغضب عمرو كما قرّره النحاة سواء قلنا الفاء سببية فقط، أو سببية وعاطفة كما ارتضاه الرضى فإن كان الضمير لله فهو ظاهر، والتحدّي كما ينسب للنبيّ صلى الله عليه وسلم لقوله: {وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسورة مِّن مِّثْلِهِ} [البقرة: 23] وهذا مما لا مرية فيه وإنما الكلام في أنه إن أريد بالقرآن المجموع لم يصح دخول الفاء لأنّ التحدّي لم يكن بعد نزول المجموع وإن لم يرد لم يصح رجوع الضمير في من سورة إليه إذ هي بعض من الأوّل دون الثاني، كما في بعض الحواشي، وقد أجيب عنه بوجوه:
الأوّل: أنّ المراد المجموع لكنه تجوّز به عن الإرادة كما في قوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} [المائدة: 6] ولا يلائمه ما بعده لأنّ الإنذار بما نزل لا بما أريد إنزاله اللهمّ إلا أن يقال إرادة إنزال الكل لا تنافي إنزال مقدار يتحدّى به وينذر ولا يظهر أيضاً كونه محمودا عليه، وإن كان الأمر فيه سهلاً.
الثاني: أنّ المراد به الثاني والتفريع باعتباره، وإرجاع الضمير إليه باعتبار المجموع استخداماً، ولا يخفي ما فيه، فإنّ المقام لا يناسبه، وإرجاع الضمير إليه لأنه من جنسه كعندي درهم، ونصفه أقرب وإن قيل إنه استخدام أيضاً.
الثالث: أنّ الفاء للترتيب الرتبيّ لا الوجوديّ كما في يرحم الله المحلقين فالمقصرين لأنّ التنزيل أعلى وأشرف رتبة من التحدّي لأنه من أعظم النعم في هداية المؤمنين ولذا جعل محموداً عليه أو للترتيب في الوجود لكنه بالنسبة إلى إنزال بعض القرآن لكون التحدي في أثناء التنزيل قاله الفاضل الليثيّ في حواشيه، ثم اعترف ببعده ونوّره بقوله وهو وان كان بحسب الظاهر بعيداً لكنهم اعتبروا مثله فإنهم ذكروا أنّ المعطوف إذا كان ذا أجزاء تحصل بتمامه في زمان طويل جاز عطفه بالفاء إذا كان أوّل أجزائه متعقبا وجاز عطفه بثم نظرا إلى تمامه، وعلى هذا إذا كان المعطوف عليه كذلك والمعطوف متعقباً لآخره جاز الفاء نظرا إلى آخره وثم نظراً لأوّله كما قرّره التفتازاني في " شرح المفتاح " في قوله: فأصح ثم اختل في الالتفات، وان ردّه الشريف، فدل على أنّ تراخي المعطوف لا يجب أن يكون عن جميع المعطوف عليه بل يجوز أن يكون مجتمعاً مع بعض أجزائه متراخيا عن بعض فلا يبعد تجويز مثله في التعقيب والمقصود مجرّد التمثيل لاعتبارهم في الترتيب بين المعطوف والمعطوف عليه بعض الأجزاء، ولا ينافي ذلك الاعتبار تعقيب الأمر الممتدّ المتعقب أوّل أجزائه بالمعطوف عليه، ووصفه بكونه عقيبه لأنه كذلك حقيقة، أو في العرف نظراً إلى عدم تخلل زمان بين زمان وجوده وزمان المعطوف عليه بخلاف ما ذكرنا لأنا نذعي أنّ ذلك متعارف.
والرابع: أنّ المراد بالقرآن الجنس من حيث الوجود لا المجموع ولا المفهوم الكلي،
وهو أقرب إذ به يصح التفريع وعود الضمير بلا تكلف وتأوّل، لكنه لا يخلو عن نظر وكون المتحدي به اقصر سورة يؤخذ من التنوين في قوله تعالى: {فَأْتُواْ بِسورة مِّن مِّثْلِهِ} [البقرة: 23] وقوله من سوره احتراز عن سور غيره من الكتب السماوية، فإن فيها سورا أيضاً كما صرّحوا به. قوله: (مصاقع الخطباء (جمع خطيب وهو من يأتي بالخطبة وهي الكلام البليغ المقول على رؤوس الأشهاد وأن لم يكن على الوجه المتعارف الآن، ولا يشترط فيه السجع أيضاً كما توهم والمصقع(1/4)
بكسر الميم بزنة منبر البليغ ومن لا يرتج عليه كلامه، والجهير صوته، ومثله لفظا ومعنى مجهر من صقع الديك إذا صاح، أو من الصقع بمعنى الجانب لأنه يأخذ في كل جانب من الكلام، أو من صقعه إذا ضرب صوقعته وهي وسط رأسه، والعرباء كالعاربة الخلص الصريح، وقال ابن قتيبة: العرب العاربة ولد اسماعيل والمتعرّبة غيرهم وهذا معنى آخر غير مراد هنا لأنه للتأكيد من لفظه كليل أليل وظل ظليل كما هو دأبهم إذا ارادوا المبالغة ومن في قوله: من العرب الخ تبعيضية سواء أريد ما هو أعمّ من الفصحاء او خص بهم بقرينة ما بعده لأن منهم خطيبا وشاعر وغيره وليس خاصا بالخطباء، ويجوز أن تكون بيانية بتاويله بما من شأنه ذلك وقيل هي على الأوّل تبعيضية، وعلى الثاني بيانية. وقيل: الأوجه على التقديرين أن تجعل بيانية لأنّ مصاقع الخطباء أخص من مطلق الفصحاء، ولا يخفى أنّ فيه ما هو غنيّ عن البيان. قوله: (فلم يجد به قديرا) قيل أي لم
يجدهم أو لم يصب إشارة إلى ما في الرضى من أنّ وجد لإصابة الشيء على صفة ومن خصائص أفعال القلوب أنك إذا وجدته على صفة لزم أن تعلمه عليها بعد أن لم يكن معلوما انتهى يعني أنّ أصل معناها الإصابة كوجد ضالتة فيتعدّى لواحد قال المتنبي:
والظلم من شيم النفوس فإن تجد~ذاعفة فلعله لا يظلم
ثم إنها إذا دلت على الوجدان العلمي، كانت مثله في التعدي لاثنين، وهذا يخالف ما
في التسهيل من أنّ كلا منهما معنى على حدة، وليس هذا محل تفصيله، والوجهان جائزان هنا، ولو قيل إنه على تعديه لاثنين مفعوله الأوّل تقديره هنا فلم يجد المتحدي بصيغة المفعول وبه صلتة لتعديه بالباء والضمير للفرقان لم يبعد، وهو أقرب من تعلقه بيجد على أنّ الباء للسببية، أو الملابسة أو بمعنى مع، والضمير للفرقان أولاً قصر سورة أو للتحدي لا للعبد لما فيه من البعد أو هو متعلق بقدير قدم للفاصلة أو للقصر لقدرتهم على غيره والباء بمعنى على كما قال النحاة في قوله تعالى: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ} [آل عمران: 75] وقوله تعالى: {وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ} [المطففين: 30] أو على ظاهرها لأنه في معنى لاطاقة له به، فلا يعترض عليه بأنّ صلتة على لا الباء لا يقال لا يلزم من نفي كامل القدرة الخاص نفي من له قدرة ما العام لما قيل من أنّ قديرا هنا بمعنى قادر جرّد عن قيد المبالغة أو هو كقوله تعالى: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ} [فصلت: 46] أحد الوجوه، وهو أنّ المبالغة في النفي لا المنفيّ على ما فيه، وقيل: إن المبالغة في وصف العبد به لا تضرّ لأنها باعتبار تعلمه وكسبه. وقيل: إنه لا ضير فيه إذا الآتي بالكامل في البلاغة لا بد من كونه كاملاً كما ستراه في سورة الأنبياء في تفسير قوله: {لَا يَسْتَحْسِرُونَ} [الأنبياء: 19] على أن المراد بمثله نفى أصل الفعل وعبر بهذا للدلالة على أنه يقتضي الغاية من ذلك، وقيل الباء للملابسة فيصح أن يكون نفي قدير نفي الكامل على ظاهره بلا تكلف، والباء متعلقة بقدير أي لم يجد من يقدر عليه فضلاً عن وجوده، فعدم الوجدان لعالم الغيب والشهادة كناية عن نفي الوجود، وأيضا المبالغة ليست لازمة لفعيل إلا إذا كان من فعل بضم العين، وليس هذا كذلك حتى يلزم أن عدم وجدان القدير لا ينافي ثبوت من يقدر عليه في الجملة، ولو سلم أنه من نفس الصيغة فلا ضير فيه كما مرّ آنفاً، وقيل: عليه أنّ القول بالنقل إنما هو في الصغة المشبهة من المتعدي ولزوم الضرر بعد التعدي ظاهر إذ الآتي بالكامل في البلاغة لا يلزم أن يكون كامل القدرة في ذلك الإتيان وإن كان كاملاً في الجملة فلا يلزم من نفي كامل القدرة نفي الآتي مطلقاً، ولا يخفي ما فيه من الخبط فإن هذا القائل أرجع ضمير يجد لله ليستلزم نفيه نفي الوجود وتصح الكناية، وما ذكر ليس بلازم حتى يرتكب مخالفة الظاهر، وما ذكره في الصيغة لا وجه له كما بينه المعترض مع أنه لم يقف على المراد فإنه عين ما حققه المصنف رحمه الله كغيره في سورة الأنبياء وستعرفه، والأوجه أن الباء بمعنى في الظرفية متعلقة بيجد كقولك
خطب إذا نزل لم نجد فيه معينا أي في شأنه وحاله والضمير للتحدّي، وإذا لم يوجد إذا تحدّى بأقله ذو قدرة تامّة فغيره بالطريق الأولى، وأولى من هذا كله ما قرّره العز بن عبد السلام في الأسئلة القرآنية أن المبالغة كما تكون في الكيف تكون في الكمّ، فالمراد كثرة العجزة عن إعجازه.
واعلم أن الإمام الراغب قال: إن القدير لا يطلق على غير الله تعالى بخلاف المقتدر ففي إطلاقه هنا نظر لا يخفى فتأمّل(1/5)
قوله: (وأفحم الخ) وفي نسخ أفحم بدون عاطف لأنه بيان أو توكيد لقوله: لم يجديه قديرا، فالعطف إمّا لعدم قصد ذلك أو لعطفه على جملة تحدّى ويجوز كونه استئنافاً بيانيا حينئذ أيضا والإفحام إسكات الخصم عجزاً حتى كانه لافتضاحه اسودّ وجهه وصار كالفحم كما قيل:
*فتعجبوا لسواد وجه الكاذب*
وتصدّى بمعنى تعرّض، وأصله تصدّد، فأبدلت الدال الأخيرة حرف علة هرباً من ثقل التكرار، كما قالوا في تقضض تقضي، فالمراد أسكتهم للعجز لا للصرفة كما يشهد له السياق، وهذا يدلّ على وجود التصدّي للمعارضة وقوله في) الكشاف) : فلم يتصدّ للاتيان بما يوازيه أو يدانيه واحد من فصحائهم يدلّ على عدمه وكلام المصنف رحمه الله هو الموافق للواقع وما في الكشاف أمّا محمول على نفي القيد أي لم يأتوا وإن تصدّوا بموازيه، أو على تنزيل تصدّيهم منزلة العدم لعدم ثمرته، وأمّا كون من تصدّي غير فصيح، فليس بشيء، وقد اعترف به الوليد مع بلاغتة ومبالغته في كفره في كلامه المعروف في السير، وقول قريش له صباً والله
فإن قلت لم خالفه المصنف رحمه الله، وهو أبلغ كما قيل من وجهين، لأن عدم التصدّي مع كمال الحرص عليه أدل على العجز من عدم الإتيان بعد التصدّي كما أن عدم تصدّي واحد للإتيان بما يدانيه فضلاَ عن مساويه كذلك، ولا احتمال أن ذلك لقلة المبالاة.
قلت: هو كما ذكرت في إلا بلغية لكنه مخالف للواقع وموهم للصرفة إيهاماً قوياً فلذا
رجحه المصنف رحمه الله تعالى فاختر لنفسك ما يحلو فاثباته للتصدّي يدلّ على أنه ليس للصرفة أو الإخبار بالمغيبات، قيل: ولو قال أفحم به اندفع توهم أن الإفحام بالصرفة لا للبلاغة، وفيه أن السياق يدفعه مع أنه لا مجال له هنا إذا الصرف فعله تعالى وإلا فحام مسند إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وعبارة الكشاف توهمه لإسناده الإفحام إلى الله تعالى، فلذا زاد به مع أنه لولا دلالة السياق أيضاً لم يفهم أنه بالبلاغة لاحتمال أنه لاشتماله على المغيبات والسلامة من التناقض والاختلاف، ولا يخفى أن زيادة به تدفعه لأن مقدار أقصر سورة لا يجري فيه ذلك نعم لو قيل: هو لا يدفع كونه بالنظم الغريب المخالف لغيره أو بمجموع النظم والبلاغة، كما ذهب إليه الباقلانيّ لم يبعد ولا يخفى ما فيه من التعسف.
وفي تهذيب الأزهريّ. اختلف الناس في العرب، ولم سموا عرباً فقال بعضهم أوّل من نطق بالعربية يعرب بن قحطان أبو اليمن وهم العرب العاربة ونشأ إسماعيل عليه الصلاة والسلام معهم فتكلم بلسانهم وأولاده العرب المستعرية، وقال آخرون: نشأ بعربة وهي بلدة من تهامة فنسبوا إلى بلدهم وفي الحديث " خمسة أنبياء من العرب إسماعيل ومحمد وشعيب وصالح وهود، وهذا يدلّ على أن لسان العرب قديم وكل من يسكن جزيرة العرب وتكلم بلسانهم فهو منهم انتهى فقوله عدنان وقحطان إشارة إلى قسمي العرب العارية والمستعربة وكناية عن جميعهم، وعدنان أبو معدّ أحد أجداده صلى الله عليه وسلم، وإضافة الفصاحة إلى عدنان، والبلاغة إلى قحطان إمّا تفنن أو بناء على المتعارف من إطلاق الفصاحة على الكلام العذب السهل، والبلاغة المتين الجزيل، وهو الغالب في اللغة القديمة، والإضافة لهما لأنهما من أولادهما أو لأنهما أريد بهما القبيلة كما يقال تميم لأولاده، وهو مجاز مشهور، ثم إن المراد بالفصحاء هنا ما يشمل البلغاء، والشيخ في الدلائل كثيراً ما يستعمل الفصاحة بمعنى البلاغة فلا يقال إن الفصاحة لا دخل لها في الإعجاز مع ما يرد عليه من المنع الظاهر قوله: (حتى حسبوا الخ) السحر كل ما لطف ماخذه ورق وما يخيل شيأ ليس بواقع واقعاً وفعله سحر مخففاً ومشدّدا وقد يمدح به نحو إنّ من البيان لسحرا على أحد الوجهين فيه وحسبوا بمعنى ظنوا، وقد يرد بمعنى اليقين نادراً كقوله:
~ حسبت التقى والجود خير تجارة
وليس بمراد هنا، وفيه إشارة إلى أنه ظن فاسد، وتوهم كاسد إذ ليس عجزهم لسحر
ونحوه وحسبانهم لعدم الفرق بين المعجزة والسحر وسيأتي تحقيقه وليس في هذا إشعار
بالصرفة لأن جعل المانع عن الإتيان بمثله السحر يشعر بأن لهم قدرة في حد ذاتهم، ولذا قيل
إن إظهار الحسبان لدفع الخجالة والتليس على سفهائهم لعلمهم بأنه ليس بساحر وان نسبوه له
مكابرة وعنادا، ولو اعترفوا بصرف الله عن معارضتة اعترفوا بأنه من عنده فمثل هذا الخيال
الفارغ لا يضرّنا، وقيل في عبارة الحسبان ردّ على معتقدي الصرفة لدلالتة على أنه مجرّد توهم
وفيه نظر(1/6)
وسحروا مبنى للمجهول، وحسبوا معلوم، ويصح فيه بناء المجهول، والمعنى على
الأول حسبوا أنفسهم، وعلى الثاني حسبهم من رآهم من الناس، وقد قيل: إنه أبلغ قوله: (ثم
بين للناس الخ) ثم لتفاوت ما بين مرتبتي المنكر المتحدّي والمؤمن المتدبر أو للتراخي لأنه أمر
ممتدّ فعطف بثم باعتبار أوّله وإن قارنه ويعقبه بعض منه حتى جاز فيه الفاء أيضاً كما مرّ وقيل
هو للإشارة إلى جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب، وإن لم يجز عن وقت الحاجة، وفيه
نظر ولام للناس صلة أو تعليلية والعموم لا يقتضي ثبوته لكل فرد فرد، وكذا قوله ليدبروا.
ونزوله إليهم بواسطة الرسول، وهم المقصودون بالذات والجن بالتبع، وأمّا تفسير الناس بالإنس والجن كما في الصحاح فمع كونه خلاف الظاهر لا يوافق ما ارتضاه المصنف رحمه الله في سورة الناس وسيأتي ما فيه فإن قلت هل نسبة التنزيل إليهم مجاز ونسبته إلى الرسول حقيقة لأنها له أوّلاً وبالذات ولامّته ثانياً وبالعرض كحركة السفينة وراكبها كما في بعض الحواشي. قلت: لا فإن الأصل الحقيقة وقوله تعالى: {لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ} [سورة الأنبياء: 10] يتبادر منه ذلك لأن المراد بإنزاله إليهم إيصاله لهم ليأتمروا بأوامره، وينتهوا بنواهيه لا الوحي وخطاب جبريل عليه الصلاة والسلام، فإن فسر بهذا لزم اختصاص معناه الحقيقي بالرسول ولا حاجة تدعو إليه. قوله: (حسبما عن الخ (أي بمقدار أو على مقدار ما سنح وعرض من قولهم لا أفعله ما عن في السماء نجم أي طلع وظهر وما موصولة أو موصوفة عبارة عن الأمور والحوادث التي لها أحكام بينها الشارع وحسب منصوب على نزع الخافض أو على الظرفية لأنه بمعنى وقت الحاجة وعامله بين أو نزل أو هو حال أي بقدر ما عن لهم وسينه مفتوحة، وقد تسكن وتبيينه كما قيل يشمل القياس، ودليل العقل لارشاده إلى ما يدلّ عليه فما رجع إليه رجع في الحقيقة إلى بيان الرسول، وفي هذا تلميح إلى قوله تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44] قيل وظاهره أن القرآن كله محتاج للبيان ولذا قال الإمام: المراد بيان ما يحتاج إلى البيان من مجمله ونحوه ولا حاجة لهذا إن فسر البيان بالإعلام والتبليغ الذي لولاه لم يعرف وقد ورد هذا المعنى في القرآن كقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} [إبراهيم: 4] الآية ولذا عمم في تفسيره يقوله فكشف الخ ليشمل جميع الأقسام ورعايته لمصالحهم تفضل منه لا بطريق الوجوب كما ذهب إليه المعتزلة، والتدبر النظر في عواقب الأمور وأدبارها، والتذكر الإيقاظ و (لمحالحظة عليها لحفظها والألباب جمع لبّ وهو العقل فانه لبّ الإنسان والبدن قشره واللباس قشر القشر، وبما ذكرناه من تفسير البيان اندفع ما أورد عليه من أنه بعد البيان لا يحتاج إلى التفكر لمعرفة ما ذكر حتى يجاب باً نه لم يبين جميع الآيات بل البعض ليتفكر في نظائره ويستنبط منها وقد يكون اللفظ بحيث لا يمكن التفكر فيه إلا بعد البيان في الجملة لكمال صعوبتة قوله: (تذكيرا (مصدر من غير فعله أو مصدر فعل مقدّر أو مصدر المجهول فيؤل إلى معنى التذكير قيل وفيه دقة لأنّ المراد تذكيرهم أنفسهم، فالتذكر تذكير بهذا الاعتبار فقصد هذا وان جاز أن يرأد تذكير الغير لأجل السجع، ويجوز أن يكون من ذكره الشيء فتذكر أي ليستحضروا ويذكروا ما هو مركوز في عقولهم مع تمكنهم من معرفتة للدلائل المنصوبة عليه، فان القرآن بيان لما لا يعرف إلا من الشرع وارشاد إلى ما يستقل به العقل ولعل التدبر للأوّل والتذكر للثاني وفيه اقتباس مع تغيير مّا وقد جوّزوه إذا لم يقصد به التلاوة (وألوا) وفي (ليدبروا) ضمير) أولى الألباب) على التنازع وأعمال الثاني أو للناس قوله: (فكشف قناع
الانغلاق) الكشف إزالة ما يستر الشيء عن المستور به والقناع بالكسر ما يستر به الرأس وهو أوسع من المقنعة والانغلاق انفعال من غلق الباب إذا سده وضرب عليه ما يمنع فتحه كالقفل وقد شاع فيما يشق الوصول إليه وما يشتد خفاؤه فيقال استغلق عليه الكلام وكلام مغلق وضده الفتح والإضافة فيه من قبيل لجين الماء، فالتقدير كشف انغلاقاً كالقناع، ولما كان المناسب للانغلاق الفتح والكشف يناسب القناع يقال كشفت قناعها وألقت جلبابها كما في الأساس جعلوا الكشف هنا ترجيحا للتشبيه وفيه ما فيه، وفي الحواشي أنه يحتمل المكنية والتخييل والترشيح تشبيها لهذا الخفاء بخفاء ما تحت القناع، وقيل: شبه الآيات تارة بمخزونات النفائس، وأخرى بمحتجبات العرائس(1/7)
على طريق الكناية وأثبت للأولى الانغلاق وللثانية القناع ففيه استعارتان مكنيتان وتخييليتان وهو وجه وجيه ذكر أهل المعاني نظيره في قوله تعالى: {جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ} [سورة الأنبياء: 5 ا] كما في شرح المفتاح فمن ظن أنه لم يسبق إليه فقد وهم إلا أنّ ما في الآية من أعلى طبقات البلاغة وما هنا أضيف أحد التخييلين للآخر والمعروف فيه عدم الإضافة كما في هذه الآية، أو إضافة التخييل مكنية، كإظفار المنية فلو كان النظم جعلناهم في حصاد الخمود كان مما نحن فيه لا يقال الانغلاق من لوازم الخزانة دون المخزونات والقناع أثبت للإنغلاق لا للآيات لأنا نقول إذا كان من لوازم الخزانة كان من لوازم المخزون بواسطة ومثله كثير، ولما شبه الانغلاق بالقناع تشبيهاً بليغا صيره من جنسه كزيد أسد كان ثابتا لللآيات ادّعاء إن كان على هذا الوجه من قبيل لجين الماء أيضا إلا أنه يكون القناع مسوقاً للتشبيه فيبعد جعله تخييلاَ واثبات الكشف له كما مرّ.
وعلى كل حال فركاكته ظاهرة والقوم صرّحوا بجواز أجتماع المصرّحة والمكنية في لفظ
واحد كما في قوله تعالى: {فَأَذَاقَهَا اللهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ} [النحل: 112] فلو
حمل ما هنا عليه كان أوجه وأقرب مما ذكر فيقال استعير الانغلاق لخفاء المعاني وصعوبة
فهمها ثم لما شاع في الاستعمال استعير مرّة أخرى على طريق الكناية فشبه خفاء المعاني في
ألفاظها باحتجاب العرائس، وتسترها بقناعها وأثبت ذلك لها تخييلاً فتدبر قوله: (عن آيات
محكمات الخ (فسر المصنف رحمه الله في سورة آل عمران المحكم بما أحكمت عبارته بأن
حفظت عن الاحتمال والاشتباه والمتشابه بخلافه فيندرج في المحكم النص والظاهر وفي
المتشابه ما يخالفه كالمجمل والمؤوّل، وهو مصطلح الشافعية في أصولهم، فيشملان جميع
أقسام النظم وعند الحنفية المحكم ما زاد ظهوره حتى سذ احتمال النسخ معنى وإن احتمله لفظا
وتلاوة والمتشابه ما خفي بنفسه فلا يدري أصلاً فلا يشمل الأقسام، ويرد عليه أن كشف قناع
الانغلاق يقتضي سبق الاستتار فيه، وهو غير ظاهر في المحكم، وأجيب عنه بأنّ معاني
المحكمات قبل نزول الوحي والقائه على الناس كانت مخفية، وبالقاء النبيّ الكلمات ظهرت
معانيها، وزال خفاؤها لبروزها من فناع الكمون إلى تجلي الظهور قوله: (تأويلاَ وتقسيرا) لف ونشر غير مرتب وهما منصوبان على المصدرية لأنهما نوعان من الكشف أو على التمييز أو الحالية أي مؤوّلاً ومفسرا، فالأوّل للتشابهات، والثاني للمحكمات كما في التفسير، وتسميتة تفسيراً على هذا بالنظر إلى المعنى اللغويّ، وهو التبيين والمراد به ما يتناول التلبيغ، أو المراد ما يتناول التعبير عن مراد الله بعبارة أوضح بالنسبة إلى متفاهم العامة وحينئذ الانغلاق عبارة عن خفائها بالنسبة إلى متفاهمهم أيضاً، وقيل: لما كانت في عرضة الانغلاق كالمتشابهات، وحفظت عنه جعلها مكشوفة عنها على حدّ قولهم ضيق فم الركية، ولا يخفي ما فيه من التكلف ومنافاته لقوله تفسيرا مع تكلف الجمع بين الحقيقة والمجاز، وإن قال به المصنف رحمه الله تعالى، ومع أنه لا يناسب نسبة الكشف إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ولذا قيل إنه على تقدير إرجاع الضمائر لله تعالى، وأمّا على ارجاعها للعبد كما هو المتبادر من الإفحام وقرائنه فالوجه أن يراد بالمحكم غير ما ذكره المصنف ثمة وفي الدرّ المنثور المحكم ما عرف المراد منه إمّا بالظهور وإمّا بالتأويل، والمتشابه ما استأثر الله بعمله، وقيل ما لا يحتمل من التأويل إلا وجها واحد والمتشابه ما احتمل أوجهاً، وقيل ما كان معقول المعنى وما خالفه وفيه ما فيه، ومن قال في شرحه كشف لثام الانغلاق عن آيات محكمات واضحات لا تقبل النسخ فقد غفل عن مذهب المصنف رحمه الله تعالى، والمراد بكونها أمّ الكتاب أنها أصله الذي يردّ إليه وأفردها لأن المراد كل واحدة منها أو لأنها بمنزلة شيء واحد لاشتراكها كلها في الظهور وللمتشابه أسباب مختلفة، والرمز الإشارة بشفة أو حاجب والمراد ما أفيد لا بطريق الظهور، فلا يرد أنه يناسب ما فسر به الحنفية المتشابه والخطاب توجيه الكلام نحو الغير للافهام ويطلق على الكلام الموجه نفسه والتأويل من الأول وهو الرجوع لأنه بيان ما يرجع إليه بمقتضى القواعد والنظر الصحيح؛ أو بيان عاقبة الأمر كما سيأتيء
ولينى هو التفسير بالرأي المنهي عنه في حديث:) من فسر القرآن برأيه فليتبوّأ(1/8)
مقعده من النار لأنه ما كان بمجرّد التشهي وما يتكلف فيه أو يجزم فيه بأنه مراد الله تعالى، والتفسير ما
كان برواية معتبرة، وفد يراد به مطلق التبيين ولهما معان أخر، ومن السلف من أنكر هذا الحديث لما رأى السلف والخلف على خلافه، ولا حاجة إليه كما عرفت، وما قيل من أنّ نسبة المتشابه إلى غيره تعالى تدلّ على أنّ المصنف رحمه الله تعالى لا يقف على إلا الله فيه أنّ من وقف فسر المتشابه بما استأثر الله بعلمه كوقت الساعة ومن لم يقف لا يفسر بذلك كما يسأتي قوله: (وأبرز غوامض الحقائق) أبرز بمعنى أخرج وأظهر لأنه جعله في براز من الأرض أي مرتفع وغوامض جمع غامضة أو غامض بمعنى خفي لأن فاعلاً في الأسماء وصفات غير العقلاء يجمع على فواعل، واللطيف ضدّ الكثيف والحقيقة ماهية الشيء وكنهه ولا يخفي مناسبتها للغموض، لأن حقائق الأشياء تخفي معرفتها حتى تحتاج للنظر التام بخلاف المعرفة بوجه ومناسبة الدفائق وهي الأمور المحتاجة لدقة النظر للطائف في غاية الظهور أيضاً ومنهم من فسر الحقائق بعالم الشهادة الدقائق بعالم الغيب، أو نفس العوالم وأحوالها، والإضافة لامية، أو من إضافة الصفة إلى الموصوف، وعطفه بالواو لأنه لم يقصد به تفسير ما قبله ولو قصده لصح، أو لجعل مجموع الكشف والإبراز بياناً للتبيين قوله: (لتنجلي لهم خقايا الملك والملكوت الخ) متعلق بقوله أبرز والإنجلاء الظهور والانكشاف، والملك بالضم التصرف في الأمور، وميأني تحقيقه والفرق بينه، وبين الملك بالكسر في سورة الفاتحة، وخفايا جمع خفية وهي ضدّ الظاهرة والملكوت عظيم الملك، لأنه مبالغة فيه كالرهبوت ولذا فسر الملك بعالم الشهادة، والملكوت بعالم الغيب، وهو عالم الأمر، وقيل: الملك ما يدرك بالحس والملكوت ما لا يدرك به، والخبايا جمع خبية من خبأته إذا سترته، وفي أمالي الغزالي: عالم الملك ما ظهر للحواس تميز بعضه من بعض بقدرته تعالى، والملكوت ما أوجده بالأمر الأزليّ بلا تدريج، وبقاؤه فوق الأوّل، وعالم الجبروت ما بينهما مما يصح أن يلحق بكل منهما انتهى، والقدس بضم القاف والدال، وتسكن الطهارة والتنزه عن دنس النقص وشوائبه، والجبروت القهر والكبرياء والعظمة ويقابله الرأفة، وفي القاموس: إنه تكبر من ليس لأحد عليه حق،
وإضافة القدس له لأنّ جبروت الله متنزه عن النقص بخلاف العباد فإن تجبرهم ظلم وتعدو في نسخة القدس، والجبروت بالعطف وهو أنسب بما قبله، والمراد أن تعرّفوا ما في قهره من الحكم والمصالح، فإنه بسورة باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب، وفي الحواشي الليثية المراد بخبايا قدس الجبروت صفات الله تعالى، وذكرها بعد خفايا الملك والملكوت تخصيص بعد تعميم لزيادة شرفها، ويجوز عطف خبايا قدس الجبروت على غوامض الحقائق، والتخصيص لما ذكرنا، وجوّز أن يكون المراد بخبايا قدس الجبروت صفات الأفعال، ويؤيده قوله: (ليتفكروا) فإنّ المناسب بحسب المعنى أن يكون الإبراز باعتبار تعلقه بالغوامض واللطائف معللاً بالتجلي، وباعتبار تعلقه بخبايا قدس الجبروت معللاً بالتفكر وان كان المناسب بحسب اللفظ عطفه على خفايا وحينئذ، فقوله ليتفكروا متعلق بتنجلي، وانما قلنا المناسب ذلك لأنّ صفات الذات وجمال الحضرة الإلهية، كما قاله حجة الإسلام في نهاية الإشراق والعقول لا تطيق النظر إليها إلا من آثار الصفات كما ترى الشمس إذا انكشف بعضها في طشت فيه ماء فكذا الأفعال واسطة لمشاهدة صفات الفاعل لئلا تبهر أنوار ذاته، وهذا سرّ قوله في الحديث " تفكروا في خلق الله ولا تفكروا في ذاته ") (ولذا قال الأصفهانيّ في شرح قول المصنف في المطالع إبراز أسرار اللاهوت عن أستار الجبروت أنّ أسرار اللاهوت صفات الذات، وأستار الجبروت صفات الأفعال انتهى.
ولذا قال الدواتي في شرح الهياكل المراد بالجبروت عالم العقول ويسمى أيضا بالملكوت الأعلى والأعظم ذكره الشيخ في كتاب برنونامه. قيل: وإنما سمي به لأنها مجبورة على كمالاتها النظرية، ولأنه حفظها وجبر نقصها الإمكاني بحصول ما يمكن لها بالعقل انتهى، وقال القرطبيّ في " شرح الأسماء الحسنى) : الجبروت التكبر وا العظمة ولما وقع هذا الاسم بين العزيز والمتكبر علم أن المراد به ذو الجبروت، وفي الحديث الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال في ركوعه وسجوده ص سبحان ذي الملك والملكوت سبحان ذي العزة(1/9)
والجبروت " فجاء في الحديث بعد الملك والملكوت والعزة على ترتيب الأسماء فمعنى الجبار ذو الجبروت أي المستعلي المتعاظم، وقيل: هو الصفات السلبية، وقيل: الجبروت الملأ الأعلى لأنه جبر به نقص الإمكان بالكمال بالفعل، أو لأنهم مجبورون على حفظ كمالاتهم وهو بعيد رواية ودراية، فإن
قلت انجلاء الخفايا والخبايا بحسب المآل هو ابراز الغوامض، فكيف يجعل غاية وعلة له،
وهل هذا إلا كتعليل الشيء بنفسه ولا يخفي ما فيه.
قلت إبراز غوامض الحقائق والدقائق المراد به إظهار حقائق الموجودات المحسوسة
والمعاني المعقولة بقدر ما تسعه الطاقة البشرية، وانجلاء خفايا عالم الغيب والشهادة في الملك
والملكوت معرفة الصانع والعقائد الحقة، والحاصل أنه أوجد العالم ليدل على موجده،
ويصدق بكل مّا جاء منه فما قيل من أنّ قوله لتنجلي غاية للإبراز، وترتب الغاية على ذي الغاية
غير لازم، ولذا قالوا غاية العلوم الغير الآلية أنفسها تعسف من غير داع له. قوله: (ليتفكروا
فيها تفكيرا) التفكير بمعنى التفكر واختياره لرعاية السجع كما مرّ.
وقيل المراد بالتفكر حصول العقل المستفاد منه، وفيه إشارة إلى أصول علم الكلام فتدبر
قوله: (ومهد لهم قواعد الآحكام وأوضاعها) التمهيد وضع المهاد، وهو البساط استعير للتهيئة
والإعداد والقواعد جمع قاعدة وهي المسائل والقضايا الكلية، والأحكام جمع حكم، وهو
النسبة التامّة وخطاب الله تعالى المتعلق بأفعال المكلفين عملاً واعتقادا، والمراد بالأوضاع جمع
وضع أئا بالمعنى للغوي من وضع كذا في كذا أو عليه إذا كان في داخله أو متمكنا عليه
والمعنى أنه بين الأحكام وأحوالها أو مصطلح أهل الأصول المسمي بخطاب الوضع، وهو بيان
أسباب الأحكام وشروطها ونحوهما، والضمير للقوإعد أو للأحكام والنصوص جمع نص،
وهو ما كان معناه صريحا غير محتمل لمعنى آخر، والإلماع جمع لمع كضوء وأضواء، وهو
لمعان الضوء ونحوه والمراد به إشارة النص، وليس جمع لامع كما قيل. قوله: (ليذهب عنهم
الرجس ويطهرهم تطهيرا) علة لقوله مهد أو لجميع ما مرّ والرجس اسم لما يستقذر والتطهير
إزالته والمراد إزالة الأقذار الحسية والمعنوية لتكفل الشريعة بالطهارتين، واكثر على أنّ المراد
الثاني فإن قلت معنى الطهارة إزالة الحدث أو الخبث، وكونها بمعنى إزالة دنس الذنوب مجاز
على طريق تشبيهها بالطهارة الحسية والتأكيد بالمصدر ينافي المجازية. قلت: هكذا قرّره بعض
أهل العربية لكن ذهب بعض المحققين إلى أنّ الفعل المؤكد بالمصدر لا يتعين استعماله في
معناه الحقيقي، لما ورد في كلام العرب مما يدلّ على خلافه، كما فصل شرّاح التسهيل، ولك
أن توفق بينهما بأنه إذا لم تقم قرينة تعينت الحقيقة والا فلا أو أنه إذا اشتهر المجاز جاز كما هنا
لالتحاقه بالحقيقة، فإن الطهارة. كذلك ولذا ورد) الصدقة أوساخ الناس) (1 (وسمي المشركون
نجسا، وفيه اقتباس مع تغيير يسير، والمراد بالرجس هنا الجهل والذنب وتطهيره بالعلوم
والملكات الفاضلة قيل: وهو مناسب لما قيل في الآية من أنّ المراد بأهل البيت الأمّة لأنهم
أهل بيت الشريعة، والقرينة الأولى للإشارة إلى إفادة القرآن للمسائل الكلامية، والثابة لبيان
إفادته للمسائل الأصولية والفرعية كما أنّ ما قبلهما لبيان كشفه تعالى للمعاني القرآنية بالقرآن وغيره والكل للحمد الذاتي وغيره قوله: (فمن كان له قلب الخ) نكر القلب لتفخيمه، وللإشعار بأن كل قلب لا يتفكر ولا يتدبر أي من كان له قلب واع يتفكر في حقائق القرآن، وما بين له فيه، أو أصغي لسماعه، وهو حاضر بذهنه ليفهم معانيه أو شاهد بصدقه فيتعظ بمواعظه، وينزجر بزواجره فهو حميد محمود في الدنيا سعيد في الآخرة، وهذا على اللف والنشر التقديري أو فيهما وهذا اقتباس من قوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق: 37] وفي بعض رسائل الرازي أنه إشارة إلى أنّ المدرك هو القلب لا الدماغ كما بين في محله، فإن قلت العطف بالواو هنا أليق من أو الفارقة لأن القلب محل الإدراك وإلقاء السمع عبارة عن الجدّ في تحصيل المدرك ولا بدّ من الأمرين. قلت: إن أريد به ظاهره فالمراد بالأوّل من له كماد في معرفته وقلبه مشتغل باستخرأج حقائقه ودقائقه وبالثاني من سواه، وقريب منه ما قيل: إنّ المراد بمن له قلب ذوو الأنفس القدسية الغنية عن الكسب والتعلم، وبمن ألقى السمع المحتاج إلى ذلك وقيل الأوّل(1/10)
إشارة إلى رتبة الاجتهاد والثاني إلى التقليد، وعلى كل تقدير فأوفى موقعها، وعلى التأويل، فالأمر أظهر وهذا بيان لحال المكلفين بما بين فيه والمأمورين بالاهتداء بنوره المبين والفاء تفريعية أو قصيحة قوله:
(ومن لم يرفع إليه رأسه الخ) يعش مجزوم في جواب الشرط، ويصل سعيراً مجزوم بعطفه عليه وفي نسخة وسيصلى سعيرا بالرفع على الاستئناف والقطع، ولذا قيل عرّاه عن الجزم ليفيد الجزم لأنّ دخوله النار محقق، ولذا أتي بالسين الدالة على التأكيد والتحقيق عند الزمخشريّ، كما فصل في المغني وشروحه بخلاف معيشتة مذموماً فإنه قد لا يقع في الدنيا وهو بيان لحاله في الدارين كمقابله فإن المراد بكونه في عيشة مذمومة أنها مستحقة للذم، أو هي كذلك عند الله، وعند المؤمنين، وهذا محقق أيضاً وعدم رفع الرأس عبارة عن تركه أو عدم الالتفات له والاعتداد به وقد يكنى به أيضاً عن الحياء والخجل وليس بمراد هنا كقوله:
خجل البنفسج حين لاح عذاره ~ أو ما تراه ليس يرفع رأسه
وهمزة رأسه لسكونها بعد فتحة يجوز إبدالها ألفاً وهو المناسب هنا ليشاكل قوله نبراسه،
وأطفأ مهموز من قولهم أطفأت النار، وقد يرد معتلاَ وضمير إليه للنبي صلى الله عليه وسلم وللقرآن، والنبراس المصباح وبزنته، والضمير المضاف إليه إن عاد إلى من، فالمراد به نور العقل أو الفطرة التي يولد كل مولود عليها وإطفاؤه بريح الجهل والعناد، وعوده إلى النبيّ أو القرآن على معنى أراد إطفاءه بعيد جدا. قوله: (ذميماً) بالذال المعجمة بمعنى مذموم في الدنيا ما دام حياً وكونه بالدال المهملة بمعنى قبيح غير مناسب هنا، وإن جوّزه بعضهم ويصل سعيرا أي يدخل جهنم في الآخرة، ويقابله ما في الفقرة السابقة، فإن أريد بمن له قلب صاحب القوة القدسية، وبمن ألقى المسمع صاحب العقل المستفاد فمن لم يرفع رأسه ذو الغباوة والغواية وان أريد بالأول
المجتهد، وبالثاني المقلد فهذا هو المنهمل في الجهل والضلال، وقيل: الأوّل صاحب التأويل والثاني صاحب التفسير وهذا الجاهل البحت وفي قوله: (نبراسه) إشارة إلى مكنية فإن فهمت فنور على نور وفي قوله يرفع إليه رأسه إشارة إلى علوّ مرتبتة ورفعة منزلته لأنّ الناظر إنما يرفع رأسه لما كان عالياً عليه مرتفعاً فوقه، وهكذا هو يعلو ولا يعلى عليه فوله: (فيا واجب الوجودا لما كان جميع ما سبق إلى هنا يدل على ان كلامه المعجز الذي بلغه رسول الله صلى الله عليه وسلم وتحدّى به، وأبرز فيه خفايا الملك والملكوت، وخبايا قدس الجبروت من الصفات القدسية الدالة على وجوب وجوده، وإنعامه بجلائل النعم بواسطة ما أنزله على نبيه صلى الله عليه وسلم، وأمره أن يصدع به فبذل طاقته في تبليغه وتبيينه على أحسن وجه يرتسم في مرآة البصائر والعقول صار كأنه مشاهد لذلك في حضرة قدسه واقف بين يدبه مناج له فلهذا التفت بعد الغيبة وفرع النداء بالفاء على ما مرّ، كما سبأني في الفاتحة، فقال: فيا واجب الخ.
وقيل: لما لزم من كون القرآن معجزا كون المتكلم به واجب الوجود إذ الممكن الوجود، لو قدر على مثله لم يكن ذلك معجزاً ومن كونه مكملاَ للناس بحسب القوّتين كونه فائض الوجود، وكان المقصود الأصلي والغرض الأولي لكل من استكمل بالكمالين تحصيل الرضوان، ومشاهدة جمال الرحمن فرّع عليه قوله: فيا واجب الوجود الخ.
وقيل: إن هذه الفاء سببية رابطة لما بعدها بشرط مفهوم من الكلام السابق أي، من كان
بهذه المثابة من السعي في أعلاء كلمتك، والشفقة على خلقك فصل عليه يا واجب الوجود الغنيّ بالذات، وهذا يناسب كون الأفعال السابقة مسندة للعبد كما لا يخفى، وستسمع عن قريب توجيهاً آخر اخترناه فيه كفاية عن القيل والقال، ووجوب الوجود كون ذاته مقتضية لوجوده، أو كونه عين وجوده، وهو يقابل الامتناع والإمكان، فإن كان ذاتياً فمعناه ما لا يمكن عدمه، كما فصل في علم الكلام، وإطلاق واجب الوجود على الله مبني على ما ذهب إليه الغزالي رحمه الله تعالى من جواز إطلاق ما علم اتصافه تعالى به على طريق التوصيف دون التسمية لأنّ إجراء الصفة إخبار بثبوت مدلولها فيجوز إذا تحقق بدون مانع بخلاف التسمية، فإنها تصرّف في المسمى لمن له الولاية، وهو منزه عن ذلك. قوله: (ويا فائض الجود) فسر الحكماء الفيض بفعل فاعل يفعل دائماً لا لعوض ولا لغرض، والجود بإفادة ما ينبغي لمن يبغي لا لعوض(1/11)
لأن من فعل لعوض يناله فهو فقير، أو متجر والغنيّ هو الذي لا يحتاج في ذاته وكماله إلى غيره، والغنيّ المطلق هو الذي وجوده من ذاته، وهو نور الأنوار ولا غرض له في صنعه بل ذاته فياضة للرحمة، وهو الملك المطلق كما في هياكل النور، وأصل الفيض سيلان الماء من جوانب ما هو فيه لزيادته، ووجه الثبه كثرة المنافع، أو هو من فاض الخبر إذا شاع فيكون حقيقة كما فصل في حواشي شرح المطالع، وفائض الجواد وصف بحال المتعلق كواجب الوجود أي فائض جوده وواجب وجوده. قوله: (ويا غاية كل مقصود) أي كل مطلوب يطلبه كل طالب لا بدّ أن ينتهي إليك، فإنك المفيض للخير لا سواك من الوسايط، فالمراد
بالغاية معناها اللغوي وهو المنتهى، وهذا هو الظاهر، أو هو من العلة الغائية، ومعنى كونه العلة الغائية أنّ ذاته كافية في وجود ما يوجد، ويصدر عنه، فهو بذاته علة فاعلية من حيث التأثير، وعلة غائية من حيث كونه المقتضي لفاعليته على نحو ما حقق في كون صفاته تعالى عين ذاته، كما قاله الدواني في " شرح هياكل النور " فتأمّل في الوجهين، واختر لنفسك ما يحلو، ويحتمل أن يكون المعنى أنه أسنى المقاصد وأعلاها فإن جميع الموجودات وسيلة لمعرفته التي هي نهاية المآرب، وقبلة وجوه المطالب.
لمانما أنت مغناطيس أنفسنا فحيثما كنت دارت نحوك الصور
وإطلاق الغاية وقع في كلام الحكماء كالمبدإ، ولما كان غاية الغايات دعا بعد التوجه إليه للواسطة بيننا وبينه، فقال: صلى عليه أي على عبدك ونبيك السابق ذكره. قوله: (توازي غناءه الخ (سيأتي معنى الصلاة، وتوازى بمعنى تقابل، وتساوى وماضيه آزى، وتبدل همزته واواً في المضارع فيقال: يوازي ولا يبدل في الماضي، فيقال: وازى، وهي مولدة عند بعض أهل اللغة، وقال التبريزي: يجوز حملاَ على المضارع وتجازى تكون جزاء وعوضا، والغناء بفتح الغين المعجمة والمد النفع، وقيل: معناه اقامته للدين لقوله في القاموس: ما فيه غناء ذاك أي إقامته، ولا يخفى ما فيه من الركاكة، والعناء بالمهملة التعب، ونفعه عليه الصلاة والسلام في الدارين أجلى من البيان، وتعبه في تبليغ الرسالة، واعلاء كلمة الله على ما فصل في السير مما لا تفي به طاقة البشر، والمعنى صل عليه صلاة لا تحصى ولا تعد، كما أنّ منافعه وما تحمله من اعباء الرسالة كذلك، والغناء بالمعجمة في الأوّل، وبالمهملة في الثاني، وأجاز بعضهم عكسه، وجزالة المعنى تأباه، وفي قوله توازى وتجازى جناس مضارع، وفي قوله غناءه وعناءه جناس مصحف، وهذا مأخوذ مما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما موقوفا من أن من قال: جزى اثبما عنا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ما هو أهله، أتعب سبعين كاتبا ألف صباح. قوله: (وعلى من أعانه الخ) الإعانة المساعدة قولاً وفعلاً، والمراد بهم الصحابة رضي الله عنهم، وبما يعده من خلفهم من التابعين وعلماء الدين والتقرير والتقوية والتثبت، وتبيانه بكسر التاء المثناة الفوقية مصدر بمعنى البيان، وفي وزن تفعال بالكسر كلام سيأتي في محله، وفي نسخة بنيانه بضم الباء الموحدة مصدر بناه يبنيه، وهو استعارة لما أتى به من الشرع وأحكامه كما في الحديث) بني الإسلام على خمس " (1 (والتقرير على النسخة الأولى من قرّر المسألة حققها وبينها فجعلها قارّة في الأذهان أو في نفسها، وعلى الثانية من القرار والبقاء ترشيحا لاستعارة البناء، لأنه من شأنه
أو استعارة أخرى تبعية، وتقريرا مصدر مؤكد. قوله: (وأفض علينا من بركاتهم الخ) قد مرّ تحقيق الإفاضة، وما يدلّ على أنها الإحسان الكثير والبركة للزيادة والنماء، وهي هنا زيادة معنوية، والمعنى حصل لنا الخيرات بالتوسل بهم إليك حتى كان ذلك من نفس خيراتهم، أو علمنا علومهم، وأفض علينا من معارفهم. قوله: (واسلك بنا مسالك كرامائهم) أي أدخلنا في الطريق التي أوصلتهم إلى إكرامك لهم بنيل المراتب العلية عندك، وبما أعددته لهم مما هو، كالمنزل لهم في دار البقاء، وهذا أحد معاني الكرامة، وقال بعض الفضلاء ذكرهما بين صل وسلم لكونه أقرب إلى الاستجابة لوقوعهما بين المستجابين، ولو بالنسبة إلى بعض المدعوّ لهم، والباء في بنا للدلالة على التكرير والدوام، فإنّ السلك بالفتح بمعنى الإدخال متعد قال تعالى: {كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ} [الشعراء: 200] وفي لغة أخرى يقال أسلك فيه، وأدرج دعاء التسليم على من أراده بضمير علينا في دعاء التسليم على النبي صلى الله(1/12)
عليه وسلم
ومن أعانه حيث أخر سليما رجاء استجابتة مع رعاية السجع فيه انتهى.
وقيل إن الدوام فهم من الملابسة المحمولة على الكمال فتدبر.
واعلم أكرمك الله أنّ زبدة ما قصده المصنف رحمه الله من أوّل الخطبة إلى هنا مع رعاية
براعة الاستهلال أنه حمد الله بعد حمد. الذاتي على نعمه التي من أجلها تنزيل معجز كلامه على أعظم رسله المرشد. لكافة الاً نام بما بلغه من الأحكام، كما أومأ إليه بقوله، ثم بين الخ وبما قرّره من حقائق العلوم اللدنية، ودقائقها المشار إليه بقوله: وأبرز الخ.
وبما أبداه من العقائد الحقة الدالة على التحميد والتمجيد بصفات الذات والأفعال المرموز إليه بقوله لينجلي إلى آخره، وأدرج فيه بعدما أفاضه بالوساطة المحمدية من جلائل النعم ما قاساه في حمل اً عباء الرسالة في مغازاة الجاهلية من الشدائد والمهالك المكنى عنه بقوله: فتحدى، ومن لم يرفع إليه رأسه، ونحوه ليتفكر العارف تفكيرا وتشرق به مشكاة قلبه، وتنفتح عين بصيرته حتى يشاهد جمال ذاته من مشرق صفاته قائما في مقام الإحسان كأنه يراه، وهذا هو السبب في التفاته لخطابه والتماس الفيض من جنابه، فلهذا فرّعه عليه بالفاء واصفاً له بوجوب الوجود وافاضة الجود اللذين هما أصل صفات الذات والأفعال، والتمس منه غاية مناه من سعادة الدارين بعد الدعاء للواسطة في ذلك والثناء عليه، واذا عرفت هذا فاعلم أيضا أنّ المناسب لمغزاه أن يرجع الضمائر ويسند الأفعال السابقة عليها للنبي صلى الله عليه وسلم ليدل ذلك صراحة على غنائه، ونفعه بإرشاده وتعليمه، وغير ذلك مما أثمر السعادة العظمى، وعلى عنائه وتعبه في تحدّيه وعناد أعدائه الداعي للقتل والقتال، فيأخذ الكلام بعضه بحجز بعض ويضمخ بمسك ختامه مفارق افتتاحه، وهذا مما من الله به بفيض كرمه. قوله: (وبعد فإن أعظم العلوم مقدارا)
الكلام على بعد وكون الفاء لتوهم أمّا أو تقديرها أشهر من قفا فيك فإعادته تعدّ من الففمول والمقدار والقد وبمعنى والمراد به هنا المنزلة والشرف الرقبيّ والعلوم إن كان المراد بها صا العلوم الشرعية، وهي التفسير والحديث والفقه على أنّ تعريفها عهدي، وهو المتبادر منه إذا أطلق، ولذا اختاره بعض المحشين فلا شبهة في كونه أعظمها وإن كان الصراد ما يشصل سائرها، فكذلك لأنه عظم بشرف موضوعه، وشرف معلومه وغايتة، وئذّة الاحتياج إليه، وهو حائز لجميعها، فإنّ موضوعه كلام الله الذي هو معدن الحكم ولا شك في أت أشرف الموضوعات، ومعلومه أشرف المعلومات مع أنه مراد الله تعالى الدالى عليه كلامه الجامع للعقائد الحقة والأحكام الشرعية وغير دّلك مما لا بدّ منه كما قألا تعالى: {مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ} [الأنعام: 38] وغايته الاعتصام بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها، والوصول إلى سعادة الدارين وشدّة الاحتياج إليه ظاهرة لتوقف الأدلة والأمحمال والأحكام علبه، فإن قلت: موضوع علم الكلام دّات الله وصفاته، وس أشرف من كل شيء فيكون علم الكلام أشرف منه. فلت: المتقدّمون على أنّ موضوع علم الكلام المعلوم " وقيل: الموجود من حبث يتعلق به إثبات العقائد الدينية على ما فصلوه، وحينئذ لا يلزم ى ن موضوعه أشرف، وذهب القاضي الأرمويّ من المتأخرين إلى أنّ موضوعه ذات الله، وذهب صأحب الصحائف إلى أنه ذات الله من حيث هي، وذات الممكنات من حيث اسننادها إليه، وردّ يأنه لو كان كذلك ما كان اثبات من المطالب الكلامية كما في شرح المقاصد، وليى هذا محل تفصيله إلا أنا إذا سلمناه نقول كلام الله مشتمل على التوحيد والعقائد الحقة يختد وج في موضوعه موضوع الكلام، وزيادة الخير خير أو فقول مجموع الثلاثة لا تجتمع في غيره هـ وقال بعض الفضلاء رحمه الله تعالى: فإن قيل قد ذكروا أن علم الكلام أساص العلوم الشرعية ت وعليه مبنى الثرائع والأحكام إذ لولا ثبوت الصانع وصفلايه لم يتصوّر علم العنسير والحديث وكذا الفقه والأصول، وكلام المصنف رحمه الله تعألى يدلّ على خلافه وتخصيصه بما سوى الأحكام خلاف الظاهر. فلنا: السمعيات من الكلام دليلها القرآق أو ما يتوقف حجيته عليه وما يستقل بإثباته العقل لا يعتدّ به ما لم يؤخذ من الشرع، فيستند إليه أيضاً من حيث الاعتداد به والاستدلال به يتوتف على علم المكسير، وهذا لا ينافي كون الكلام أساسه باعتار القسم الأخير صن حيث التصديق لا من حيث الاعتداد به أنتهى.
قلت: قد علمت مما مرّ عدم ورود هذا السؤال، وأمّا كون(1/13)
ما يستقل به العقل كالإيمان بوجود الباري يوخذ من الشرع فهو بناء على ما قاله بعض الأشرية وخالفه بعضهم، وبعض الماتريدية قال في التلويح وغيره إن ثبوت الشرع موقوف على الإيمان به وجود الباري وعلمه وقدرته وكلامه، وعلى التصديق بنبوّة النبي صلى الله عليه وسلم بدلالة معجزأته، فلو توقف شيء من هده الأحكام على الشرع لزم الدور انتهى وفيه كلام ليى هذا محله، وما يل، من أن المراد أنه من
أعظمها لكن قصد المبالغة في مقام الخطابة بعيد. فوله: (وأرفعها شرفاً ومنارا) الشرف علوّ القدر والمكان العالي والمراد الأوّل أو الثاني على أنه استعار لئلا يتكرّر مع ما فبله، وهو الأنسب لما بعده أيضاً، ومن فسره بالعلماء لم يصب والمنار كالمنارة ويقال منورة على الأصل موضع النار وجمعه مناور ومناير كما في كتاب النبات وشاع في كل بناء عال يهتدى به سالك الطريق، ولما يوضع عليه السراج وشاع في العرف لمحل الأذان المعروف وفسر هنا بالدليل ولا وجه له إلا أن يريد به بيان حاله فإنّ المراد أنه أعلى العلوم من جهة شرفه، ودلالتة على طرق النجاح، والكسير يطلق على بيان معنى كلام الله رواية ويقابله التاويل، وهو ما كان بطريق الدارية ويطلق على بيان معناه مطلقا وعلى ذكر ما يتوقف ذلك عليه، وهو المراد هنا وموضوعة القرآن بمعنى الكل أو الكلي، والحنسير تفعيل من الفسر وهو الكشف، ومنه التفسير لما يعرف به الطبيب المرض، وفيل: إنه مقلوب من السفر ومنه أسفر الصحيح. فوله: (رئيس العلوم الدينية ورأسها) الرئيس سيد القوم ومقدّمهم والرأس عضو معروف، ويكون بمعنى الرئيس أيضاً وهو هنا استعارة، أو تشبيه بليغ فجعله رئيساً لنفاذ حكمه عليها وتوقفها عليه، لأنّ مرجع أدلتها إليه ورأصاً لأن به بقاء البدن، وبحواسه يتصرّف في مهماته وبه يتم غيره من العلوم ويتمشى معتمدا عليه لما فيه من الحقائق، وهمزته مبدلة ألفاً لما مرّ والمبني موضع البناء، والأساس ما يوضع عليه غيره، وهو المراد لما فيه من الأدلة التي يبنى عليها، والقواعد جمع قاعدة، وهي الأساس وساق البناء والصف الأوّل منه أيضاً، وهو معطوف على المبني عطف تفسير لا على القواعد لئلا يلزم اختلاف حركة ما هو كالرويّ المعيب لا التكرار كما توهم قوله: (لا يليق لتعاطيه الخ) التعاطي في أصل اللغة تفاعل من العطاء، ثم أطلق على الأخذ والتناول وهو المراد، وخص في عرف الفقهاء بالأخذ من غير إيجاب ولا قبول، وفي عرف الناس بالسؤال، والتصدّي التعرّض، وبرع بفتح الموحدة وفتح الراء المهملة. وضمها، وعين مهملة براعة وبروعاً فاق غيره في علم وغيره، والدينية ما له انتساب وتعلق بالدين كالفقه والحديث والأصلين، وأصولها وفروعها بدل قصد به التعميم أي كلها، فإن قلت في كلامه هنا اختلال ظاهر، فإنّ كونه رئيس العلوم الدينية ورأسها، يستلزم توقف البراعة، والتفوّق فيها عليه، فتتوقف على تعاطيه والتكلم قيه أيضا، فكيف يتوقف تعاطيه والتصدّي للتكلم فيه على وجه اللياقة على البراعة فيها قلت: المراد بتعاطيه والتكلم فيه أخذه من كتب التفسير والتكلم بكلامهم فيها، فإنه يتوقف على البراعة في العلوم الدينية، كما قيل: فالأوّل بالنظر إلى السلف المقتبسين لأنوار التنزيل من مشكاة النبوّة بواسطة، أو بدونها، وأصحاب الأنفس القدسية والسليقة العربية، والثاني ما عداهم. وقيل تقدّمه بالذات إذ ما من علم من العلوم الدينية إلا وهو محتاج إلى كلام الله تعالى الذي لا يتحصل بدون علم التفسير، وأمّا تاخره فمن حيث التعلم لأنّ العلماء بينوه بها وهو قريب مما مرّ فليس جواباً مستقلاَ كما توهم وقد قال بعض
الفضلاء المتأخرين: إنه لا طائل تحت السؤال إذ دعوى الاستلزام غير ظاهرة لما مرّ أنّ المتوقف عليه الاعتداد بها أي لا يعتد بها ما لم تؤخذ من الشرع، وكذا الأوجه للقول بأنّ الأوّل بالنسبة للسلف، والأصحاب والثاني بالنسبة لغيرهم، لأن المراد بالعلوم العلوم المدوّنة المشهورة، وهي بعد الصدر الأوّل والمقصود الترغيب فيه من بينها لتبقى علوم السلف خارجة انتهى. وفيه دخل يعلم مما قذمناه ولبعضهم هنا كلام تركه أتم فاثدة من ذكره. قوله: (وفاق في الصناعات العربية الخ) قيل: العلم إن لم يتعلق بكيفية عمل كان مقصوداً في نفسه، ويختمى باسم العلم، وإذا تعلق بها، وكان المقصود منه ذلك العمل يسمى صناعة في عرف الخاصة، وينقسم إلى قسمين قسم يكون حصوله بمجرّد النظر والاستدلال كالطب، وقسم لا يحصل إلا بمزاولة العمل كالخياطة، وهذا القسم يختص باسم الصناعة في عرف العامة، والظاهر أنه لا يطلق العلم على مثل الخياطة والحياكة إلا أن يراد أنه علم لغة، وعلم الأدب عرّفوه بعلم يحترز به عن الخلل في كلام العرب لفظا أو كتابة وقسموه إلى اثني عشر قسماً على ما في شرح المفتاح.
وسميت أدبية لتوقف أدب النفس والدرس عليها بقي أنه قيل إن بعض فنون الأدب لا يستمد منه التفسير، وهو العروض والقافية وقرض الشعر والإنشاء فمراده بأنواعها أنواعها الكاملة المعتبرة، ولا شك أن من أراد النظر فيه على أتمّ الوجوه يحتاج إليها، أمّا الخط فإن الرسم العثمانيّ يحتاج إليه فيه، فلا بد من معرفتة ليعلم ما جرى على وفقه ووجه مخالفة ما خالفه، وكذلك قرض الشعر والعروض والقافية لو لم ينظر فيها لم يفرق بينه وبين الشعر حتى يعرف معنى قوله {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ} [يس: 69] مع وقوع أنواع من الموزون فيه، وكذا الإنشاء ينظر فيه ليعرف مخالفة النظم المعجز له كما قيل: عرفت الشرّ لا للشرّ لكن لتوقيه، ثم قال: إن علم القراآت لا بد منه أيضاً في التفسير ولم يعد من العلوم الأدبية فإمّا أن يدرج في الدينية لاختصاصه بالفرآن، أو في علم التفسير كما يشعر به كلام المصنف رحمه الله فيما سيأتي ويعرّف التفسير حينئذ بما يعرف به معاني كلام الله وألفاظه بحسب الطاقة البشرية، وتكون تسميته بالتفسير تسمية له بأشرف أجزائه، ولا يخفى ما فيه فإن أحداً لم يعدّ القرا آت من التفسير مع أن أكثر مسائله المتعلقة بالأداء لم يذكر فيه، والمصنف لم يحصر ما يتوقف عليه التفسير فيما ذكره فكم من أمور تلزم فيه أحيانا ولم يذكرها، ثم إنّ المصنف رحمه الله أن جعل قوله بأنواعها قافية لفروعها فلا يخفى ما فيه من اختلاف الردف فكأنه لم يقصد التقفية فيه، وفي تعبيره عن الشرعيات بالعلوم وعن غيرها بالصناعة حسن أدب لطيف.
تنبيه: قال الجواليقيّ في) شرح أدب الكاتب ": الأدب في اللغة حسن الأخلاق، وفعل المكارم، واطلاقه على علوم العربية المذكورة مولد حدث في الإسلام، وكذا قاله الإمام
المطرزيّ رحمه الله. قوله: (ولطالما أحدِّث نفسي الخ) هذه اللام زائدة للتأكيد أو جواب قسم مقدّر وليست توطئة وما كافة عن طلب الفاعل، فإن قل وكثر وطال تكف بها ولا تتصل ما الكافة بفعل غير هذه الأفعال الثلاثة، أو هي مصدرية فترسم منفصلة، والموجود في أكثر النسخ اتصالها ويليها الماضي في اكثر نحو طالما دار في خلدي والمضارع كقوله:
فلمما يبرح الحبيب إلى ما~يورث المجد داعياً ومجيبا
وتقديره هنا بنحو طالما كنت أحدث الخ تكلف لا داعي له، ويحتوي بمعنى يشتمل والصفوة مثلث الصاد المهملة بمعنى الخالص، والصحابة بفتح الصاد بمعنى الأصحاب وكذا الصحبة، وقال المرزوقيّ في شرح الفصيح: صحابة مصدر بمعنى صحبة لكنه وصف به، وقد يجعل الصحبة جمعا كالرفقة، وفي التسهيل: صحبة اسم جمع لصاحبة، وكذا صحابة اسم جمع كلراية اسم جمع للقريب.
والصحابي كل مسلم لتى النبي صلى الله عليه وسلم أو اجتمع معه وهو يعقل وهذا أحسن من قولهم رأى لشموله الأعمى ولا يشترط طول الصحبة ولا الرواية عنه ولا يثترط بقاؤ. على الإسلام أيضا وانما يشترط موته عليه، وعظماؤهم كابن عباس وابن مسعود رضي الله عنهم والتابعين: جمع تابع، وهو من لقي الصحابي، واشترط بعضهم فيه طول الصحبة بخلاف الصحابيّ لأن نور النبوّة مؤثر فيمن لمحه طرفة عين، ومن دونهم من بعد التابعين، والمرويّ عنه التفسير من الصحابة كثير والمعروف منهم الخلفاء وابن عباس، وقد كثر عنه ذلك حتى سمي ترجمان القرآن، وكذا يروى عن ابن مسعود ما لا يحصى، والمشهور من التابعين مجاهد وعطاء وعكرمة وسعيد بن جبير وطاوس وزيد بن أسلم وبعد هؤلاء ألفت تفاسير جمع فيها أقوال الصحابة والتابعين، كتفسير سفيان بن عيينة ووكيع وشعبة وعبد الرزاق وزيد بن هرون، وبعد هؤلاء أبن جرير وتفسيره أجل تفسير للمتقدّمين ثم استفاض التأليف حتى انتهى للزجاج والرماني، ومنهما أخذ الزمخشريّ، ثم جاء بعدهم من كثر السواد بأقوال الحكماء والصوفية كالرازي حتى قيل في تفسيره كل شيء إلا التفسير، وقوله أحدث نفسي حديث النفس هنا مستعار للخواطر والأماني استعارة مشهورة كقوله:(1/14)
أكذب النفس إذا حدثتها ... إنّ صدق النفس يزري بالأمل
قوله: (وينطوي على نكث الخ) انطوى مطاوع طواه ضد نشره وضمن معنى الاشتمال
فعدّاه بعلى أي ينطوي مشتملاً على النكت وهو جمع نكتة بضم النون، وهي اللطيفة المستخرجة بقوّة الفكر من نكت في الأرض إذا نبشها بإصبع، أو قضيب ونحوه سميت بها
لمقارنتها لذلك غالباً، أو لأنّ تأثير الفكر كالنكت في القلب، ويصح أن ينقل من نكتة الأديم والثوب، وهي ما تخالف لونه لكونها تخالف غيرها بلطافتها، وبارعة بمعنى فائقة، ورائعة من الروع بفتح الراء، وهو الإعجاب يقال راعني الشيء إذا أعجبني ورافني أو من راعه إذا أفزعه كان الرائع الجميل يفرط حتى يروع من يراه قاله السهيلي في) الروض الأنف) : وقيل إنه من الريع بمعنى الزيادة والنماء، والاستنباط أصل معناه إستخرج ماء البئر ونحوه، فاستعير لاستخراج المعاتي بجدّ واجتهاد وفيه تشبيه المعاني بالماء للطفه، وصفائه، أو لأنه سبب الحياة، ومراده رحمه الله بالأفاضل الزمخشريّ والراغب والرازي، فإنّ معوّل المصنف رحمه الله على هؤلاء في الأثر حتى قيل: إنّ كل ما فيه من العربية وما فيه من اللغة من الراغب، وما فيه من الكلام من التفسير الكبير. قوله: (ويعرب عن وجوه القراآث الخ) المعزية ويقال: معزوّة بمعنى منسوبة، وفعله عزيتة وعزوته، والثاني كثر والثمانية هم القرّاء السبعة المشهورون، والثامن يعقوب بن إسحاق الحضرمي البصري وراوياه روح بفتح الراء وروشى بالتصغير، والشاذ ما وراء السبعة والأصح أنه ما فوق العشرة، وأحكامه مبسوطة في محلها قوله: (الثمانية الخ) إشارة إلى وجه اختياره الثامنة دون باقيها لأنها اشتهرت حتى قيل إنها الشائعة في الصدر الأوّل إلى رأس الثلثمائة، ثم أسقطها منها ابن مجاهد وأثبت بدلها قراءة الكسائي، وقد قالوا: إنّ يعقوب كان أعلم أهل عصره بالعربية، ووجوه القراآت كما في الإتقان وغيره. قوله: " لا أن قصور بضاعتي الخ) في الأساص قصر عنه قصورا عجز عنه، ولم ينله والبضاعة المتاع المجلوب،. فنسبة القصور إليه مجازية، والأصل قصوري عن تكثير بضاعتي، أو ترويجها وهو استعارة شبه العلم والاشتغال به بالمال الذي يتجر فيه أهله، وقلة معلوماته بقلة رأس مال التجارة، وثبطه عن الأمر عوقه عنه، وأبطأه عتة، قوله: (ويمنعني عن الانتصاب في هذا المقام) ويعني به مقام تأليف ما ذكره. وقوله: (أن أوسمه) أي أجعل سمة وعلامة والمعروف فيه وسمه يسمه كوعده يعده، وأمّا وسم المشدّد، فإنه بمعنى حضر الوسم، فإن صح روايته هنا، فهو لأجل الازدواج مع قوله أتممه، وصمم على صيغة المبني للفاعل أي خلص عن التردّد، وموجب التوقف وصار ماضياً لا فتور فيه. يقال صمم في السفر ونحوه أي مضى، وصمم السيف نفذ للعظم وقطعه، وصمم أي عض ونشب فلم يرسل ما عضه ويجوز كون صمم مبنياً للمفعول من هذه اللغة أي أخذ عزمي ولم يرسله قوله: (بأنوار التنزيل الخ) النور هو الظاهر بنفسه المظهر لغيره فإن فهمت، فهو نور والسر ما يلزم كتمانه ولب الشيء ولا يخفى مناسبته
للتأويل، والسول السؤل أبدلت همزته واوا على القياس، وفي بعض النسخ مسؤل بدله، وأقول هنا نزل منزل اللازم فلا سول له، أو سوله ومقوله ما بعده على الحكاية.
سورة فاتحة الكتاب
السورة مهموزة وغير مهموزة بإبدال إن كانت من السؤر وهو البقية، لأن بقية كل شيء بعضه، وبدونه إن كانت من سور البناء، وهي المنزلة منه أو من سور المدينة لإحاطتها بآياتها، ومته السوار المحيط أو من التسوّر، وهو العلوّ والارتفاع نقلت إلى مقدار من القرآن يشتمل على آيات ذي فاتحة، وخاتمة أقلها ثلاث آيات، وقيل: السورة الطائفة المترجمة، والترجمة في الأصل تفسير لغة بأخرى وتطلق على التبليغ مطلقا كما في قوله:
إنّ الثمانين وبلغتها قد أحوجت سمعي إلى ترجمان
وتطلق على التسمية كثيراً في كلام المصنفين وهو المراد هنا وأسماء السور كلها توقيفية
ثابتة بالأحاديث(1/15)
والآثار، والمراد بالطائفة قطعة مستقلة أو آيات مخصوصة منه فلا يراد آية الكرسي لأنها غير مستقلة إذ هي بعض من سورة البقرة وآية واحدة أيضا، ودفعه بأنّ المراد بالترجمة أنها مسماة بالسورة ضعفه غنيّ عن البيان، وإنما جعل القرآن سورا لأنه أسهلى للحفظ وأ نشط.
وقال الشريف قدس سره: الفاتحة مصدر كالكاذبة بمعنى الكذب، ثم أطلق على أوّل الشيء تسمية للمفعول بالمصدر لأنّ الفتح يتعلق به أوّلاً، ثم بواسطته يتعلق بالمجموع، فهو المفتوح الأوّل، وهذا بالنسبة للمقروء، والمكتوب مطلقاً، فقول بعض المتصلفين من أهل العصر أنه إنما يتحقق في المكتوب إذا كان كالطومار من خمود الفكر وجموده، وقيل: الفاتحة صفة جعلت اسماً لأوّل الشيء إذ به يتعلق الفتح مجموعه، كالباعث على الفتح فالتاء علامة للنقل من الوصفية إلى الإسمية، وقيل: للمبالغة ولا اختصاص لها بزنة علامة كما توهم، وهذا أقرب لقلة فاعلة في المصادر قيل، ولم يجعل آلة، وأن أطلق عليها فاعل كالقاطع والقاتل لأنّ الآلة لا تتصف بالفعل، وهذه متلبسة بالفتح، ولا باعثاً لأنه لا يقارن الفعل، وهذه قارنت الفتح، وفيه أنه إن ادّعى كلية ما ذكر، فليس كذلك فإنّ الصبغ آلة للصباغ يصبغ أيضاً، وفي نحو قعدت عن الحرب جبناً الجبن باعث على القعود،، وهو مقارن وإن ادّعى الأغلبية لم يفد لأنه يقال له هذا من غير الغالب، اللهمّ إلا أن يقال كفى بالندرة باعثاً على الترك أو المراد أنه لا يقصد اتصافها به، وما ذكر لا يعد باعثا مع أنّ جعل بعض القرآن آلة غير مناسب لإيهام أنه غير مقصود منه وحيسئذ يتمّ هذا وجهاً، والحاصل أنه مفتوح من جهة، وفاتح من أخرى، فنظر كل فريق إلى جانب، وجوّز أن يكون للنسبة أي ذات فتح مع وجوه أخرى مرجوحة لم نكثر بها السواد، ثم قال: الكتاب بمعنى المكتوب والمصحف يطلق على المجموع وعلى جزئه وعلى المشترك بينه وبين أجزائه، وفاتحة الكتاب صارت علما بالغلبة لهذه السورة، فالفاتحة علم آخر، والألف واللام عوض عن الإضافة وفيه نظر، وذكر بعضهم أنّ هذه الإضافة بمعنى
من لأنّ أوّل الشيء بعضه، ورد بأن البعض يراد به الجزئي كزيد للإنسان، والجزء كاليد لزيد
واضافة الأوّل بيانية بمعنى من، وإضافة الثاني على معنى اللام وليس الكتاب جنسا شاملاً هنا
لأنّ فتح الفاتحة بالقياس إلى المجموع لا إلى الكل الذي هو القدر المشترك، فإن قيل في
الكشاف أن معنى إضافة اللهو إلى الحديث التبيين، وهي الإضافة بمعنى من أي من يشتري
اللهو من الحديث، فبين اللهو بالحديث لأنه قد يكون من الحديث، وقد يكون من غيره
والمراد بالحديث المنكر كما ورد) الحديث في المسجد يأكل الحسنات ") 1 (ويجوز أن تكون
الإضافة بمعنى من التبعيضية، كأنه قيل: ومن الناس من يشتري بعض الحديث الذي اللهو منه،
فعلى التقدير الثاني إن أريد بالحديث مطلقه كان جنسا للهو صادقا عليه، كما يطلق عليه
الحديث المنكر، فتكون الإضافة بيانية لا مقابلة لها وإت أريد العموم والاستغراق، كان لهو
الحديث جزأ منه، فقد ثبت أنّ إضافة الجزء إلى كله بمعنى من التبعيضية وإن لم تكن مشهورة
قيل الظاهر أنّ المراد مطلق الحديث، لكن العلامة دقق النظر في إضافة الشيء إلى ما هو
صادق عليه، فإن حسن فيه جعل المضاف إليه بياناً وتمييزاً للمضاف كالساج للباب، والحديث
المنكر للهو جعلها بيانية، وان لم يحسن ذلك فيه كالحديث المطلق للهو جعلها تبعيضية ميلاً
إلى جانب المعنى. أقول هذا ردّ لما في الكشاف تبع فيه الشارح المحقق، وليس بوارد عليه
وما ذكره المدقق مخالف لكلام قدماء النحاة كشرّاح الكتاب، ومن حذا حذوهم، فإن إضافة
نحو يذ زيد على معنى اللام، وقال قوم منهم كابن كيسان والسيرافي: إن إضافة ما هو جزء من
المضاف إليه بمعنى من التبعيضية، واستدلوا عليه بفصله عن الإضافة بمن كقوله:
كأنّ على الكتفين منه إذا انتحى ~ مداك عروس أو صلاية حنظل
وهو شائع كما فصله أبو حيان في شرح التسهيل، ومنهم من ذهب إلى أنّ من المقذرة
في الإضافة مطلقا تبعيضية من غير فرق بين الجزء والجزئي، كما في لمع ابن جني وشرحه
للثمانين، وعبارته: إن كان الأوّل جزأ من الثاني كانت الإضافة بمعنى من نحو باب ساج، ودار
آجرّ وجبة صوف، وتقديره باب من ساح ودار من آجرّ(1/16)
والأوّل في هذا جزء من الثاني ومن فيه
للتبعيض انتهى.
فادعاء أنها غير موجودة، أو غير مشهورة مكابرة لمخالفته ما سطر في كتبهم المعوّل
عليها، وفيما ذكره في توجيه كلام الكشف دقة لا يتحملها نظر أهل العربية، ثم إنّ للناظرين في
كلام الشريف وجوهاً شتى كلها خارجة عن قانون العربية، لاقتصارهم على ما لا يغني، ولا يسمن من كلام المتأخرين ولذا أضربنا عنهما صفحا، وأمّا إضافة السورة فحن إضافة المسمى
إلى الاسم كيوم الأحد وهي مشهورة، ثم إنهم أطلقوا كون الإضافة إلى الجزئي بيانية، وهو
مخالف لما صرّح به كثير من المتقدمين والمتأخرين من أنها إنما تكون كذلك إذا كان بينهما عموم وخصوص وجهيّ، كخاتم فضة، فإن كان مطلقاً كمدينة بغداد فهي لامية، وذهب شاوح الهادي إلى أنها بيانية أيضا، ولذا تراهم يجعلون شجر الأراك من الإضافة اللامية تارة، ومن البيانية أخرى، وهذا مما غفل عته كثير من الناس فاحفظه. قوله: (وتسمى أمّ القرآن) عطف على مقذر رأى تسمى بفاتحة، أو على سورة الفاتحة باعتبار المعنى، أو التقدير هذه سورة فاتحة الكتاب وتسمى الخ وعطف الفعلية على الاسمية شائع كعكسه، والمراد بالتسمية وضع العلم لا الإطلاق.
وتال الفاضل الشريف: فاتحة ألكتاب صارت علما بالغلبة للسورة وقد ذكر. في الكشف أيضاً، وفي اجتماع الغلبة والتجوّز نظر مع أنه مناف لما مرّ من النقل قيل: وفيه خفاء أيضاً لأنّ القول بعلمية الجنس ضروريّ لمنع الصرف ونحوه من الأحكام ويجب في العلمية الشخصية تشخص المعنى ولا تشخص هنا، والأصح أن أسماء السور موضوعة لتلك الألفاظ المقروأة، فتكون واحدة بالنوع كما في التلويح وشرح المقاصد إلا أن يقال مثل هذا المؤلف بحسب العرف يعد شخصا، وأمّا جعلها وأمثالها من قبيل أسماء الإشارة في عموم الوضع وخصوص الموضوع له فبعيد جداً، وما ذكر من السبب في عدم اعتباوه فيها من أنها لو كانت موضوعة لشيء من الخصوصيات كانت في غيره مجازيات، وإن كانت موضوعة لكل منها كانت مشتركة بين معان غير محصووة، وإن كانت. موضوعة لمعان كلية لزم كونها مجازات لا حقائق لها، والكل فاسد لا يتاتى هنا إذ قلما تستعمل في شخص، والأكثر استعمالها في الكل، فلا يلزم ما ذكر وتفصيله في شرج الرسالة الوضعية.
، أقول الذي عليه المعوّل في أسماء السور وأسماء الكتب والعلوم، ونحوها أنها أعلام شخصية لتلك الألفاظ المخصوصة لا للصور الذهنية، ولا للنقوس، ولا للمركب منها وهي تعد في العرف شيأ واحدا شخصا، واختلاف اللافظ، وتعدّده كتعدد أمكنة زيد لا يغير تشخصه، لأنها غير معتبرة فيه، ومما يشهد له شهادة يزكيها الاستقراء تسميتها بالجمل ك {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} و {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} ومثله معهود معروف في الاعلام كتأبط شرّا وبرق نحره وصردر دون اسم الجنس، فإئه وان لم يكن مفقوداً فيها نادر، وأمّا الاسندلال بدخول اللام عليه كالكافية والثافية، فليس بشيء، لأنه ليس مما يستدلّ بمثله، وما قيل من أنّ العلمية الجنسية ضرورية مما تفرّد به الرضيّ، وهو غير مسلم عند النحاة، ودلالة الموصول على ماهية نوعية أو جنسية لا ترد عليه نقضا.
وفي شرح الفوائد العتابية لشيخ مشايخنا أسماء العلوم كأسماء الكتب أعلام أجناس عند
التحقيق وضعت لأنواع وأعراض تتعدد بتعدد محالها القائمة بها كزيد وعمرو، وقد تجعل أعلاما شخصية باعتبار أن المتعدد باعتبار المحل يعد واحداً في العرف، وهو إنما يتتم إذا لم تكن موضوعة للمفهوم الاجماليّ وتردّد السبكيّ في أسماء العلوم هل هي أعلام بالغلبة أو منقولات عرفية كالدابة ورجح الثانية، وسيأتي تتمة لهذا المبحث في تعريف الجلالة الكريمة. قوله: (لأنها مفتتحه ومبدؤه الخ) الأمّ في اللغة الأصل والوالدة ثم أطلق على الفاتحة ومحكم القرآن قال تعالى: {مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ} [اس عمران: 7] ومفتتح اسم مفعول أو اسم مكان أو مصدر ميمي، وقال صاحب القاموس في شرح الديباجة المفتتح لغة شائعة فصيحة يقال فتحه وافتتحه نقيض أغلقه، وأمّا المختتم فغير فصيحة، ولا تكاد توجد عند لغويّ ثبت، والمراد به غير الأوّل ولذا عطف عليه قوله ومبدؤه عطفاً تفسيرياً، ولما كان افتتاحه وابتداؤه بها في كتابة المصاحف، أو في التلاوة، أو في الصلاة أو في النزول بناء على أنها أوّل سورة نزلت ويتلوها ما عداها في ذلك جعلت أمّا وأصلاَ له(1/17)
ومنشأ بطريق التسبب لأنّ الولد يتكوّن ويوجد بعه أمّه، ولذلك سميت أساساً لتوقف بقية البناء وابتنائه عليه، ووجوده بعده وبهذا التقرير سقط ما في بعض الحواشي من الأوهام مثل ما قيل من أنّ المبدأ يقال للجزء الأوّل، ولما منه ذلك الشيء، والفاتحة مبدأ بالمعنى الأوّل، وأمّ بالمعنى الثاني، فجعل هذا وجها لتسميتها أمّا غير مرضي، وكذا ما قيل أنه لا فائدة لذكر الأصالة والمنشئية إذ ليس في الفاتحة سوى المبدئية، وان كانتا موجودتين في المنقول عنه، وهي الوالدة والأمّ في اللغة الأصل، ومنه قيل للوالدة: أصل وحينئذ لا يناسب ذكر كان، لأن الجزء الأوّل من الشيء أصل ينبني عليه باقي الأجزاء من حيث أنها أجزاء متأخرة انتهى.
وقيل: إنها سميت اماً لجمعها كل خير كأمّ الدماغ الجامعة للحوأس، أو لأنها مفزع أهل الإيمان كما تسمى الراية أمّا وركاكته ظاهرة، فإن قلت: زعم بعض فضلاء العصر أنّ قوله في الكشاف، وتسمى أمّ القرآن لأنّ أم الشيء أصله وهي مشتمدف على كليات معاني القرآن أولى مما ذكره المصنف، لأنّ الاشتمال أنسب بالأمّ من الافتتاح، والمبتدئية بمعنى الابتداء، وان كان ما ذكره صحيحا أيضاً.
قلت: هذا وهم منه فإنّ المصنف ذكر ما في الكشاف بعينه وزاد عليه وجها آخر قدمه
عليه إشارة لأرجحيته عنده لأنّ أصل معنى القرآن والكتاب الألفاظ لا المعاني، وهو فيما اختاره باق على أصله بخلافه في الوجه الثاني فإنه محتاج إلى التجوّز أو التقدير. أي أمّ معاني القرآن، وهو بعيد كحمل القرآن على المعاني، وهذا لم ينبه عليه أحد وتنبه له.
واعلم أنّ في كلام المصنف هنا وجهين:
أحدهما: أن يكون قوله مفتتحه بيانا لوجه التسمية بفاتحة الكتاب، ومبدؤه لأمّ القرآن لفا
ونشراً. وقوله: (فكأنها الخ) بيان لمشابهته للمعنى الأصلي للامّ في المبتدئية حقيقة للمعنى العرفي وهو الوالدة فيما له زيادة خصوصية واشتهار به أعني المبتدئية، والمنشئية ادّعاء دون المتبدئية الأوّلية، وكونه مفتتحاً غنيّ عن البيان.
والثاني: أن يكون مبدؤه عطفا تفسيرياً وهما علة لقوله أمّ القرآن، وترك تسميتها بالفاتحة لظهوره.
قال الفاضل الليثيّ: وهو وجه وجيه إلا أنه مخالف لما نقل عن المصنف في حواشيه من
أنّ قوله لأنها مفتتحه تعليل لما تضمنه قوله سورة فاتحة الكتاب من الجملة الخبرية التي تقديرها تسمى فاتحة الكتاب، في هذا الوجه يكون المنقول عته بالمعنى العرفيّ أنسب، كما أنّ الوجه الأوّل بالأصليّ أنسب، وان جرى كل منهما في كل منهما. وقوله: (ولذلك) أي لكونها أصلاَ وهو ظاهر، ثم أنها تسمى أيضاً أمّ الكتاب، وفاتحة القرآن ووجهه يعلم مما مرّ، ثم أنه قيل: إن في كلام المصنف إشارة إلى أنّ التسمية بفاتحة الكتاب من قبيل تسمية المكان باسم الفاعل، وهي من فروع الإسناد إليه، واذا كان مصدراً كالعافية، فمن فروع تسمية المكان بالمصدر وجعلها من تسمية المفعول بالمصدر إذ فاتحة الشيء أوّله والفتح يتعلق به أوّلاً وبتبعيته للمجموع، فهو المفتوح الأوّل بعيد إذ تسمية المفعول بالمصدر غير مشهورة، وقيل: فاتحة الشيء، وأوّله آلة لفتحه، وهو من تسمية الآلة بالفاعل كالباصرة والسامعة، وعلى اشتقاقها تاؤها للنقل لا للتأنيث بتقدير طائفة فاتحة ولا للمبالغة لقلة مجيئه في غير صيغ المبالغة، وعدم مناسبته هنا وجعله من النسب كتامر بعيد غير مسموع إذ هو مقصور على السماع انتهى.
ولا يخفى ما فيه من التعسف، لأنه ليس بمكان حقيقيّ، فنقل اسم الفاعل إلى المكان المتجوز به عن الأوّل مع صحة تسمية الأوّل فاتحاً لحصول الفتح به تطويل بغير طائل، وقد مز ما فيه غنية عنه، والذي حمله على هذا قوله مفتتحه. قوله: (أو لأنها تشتمل على ما فيه الخ (في بعض الحواشي أن المراد جميع ما فيه يعني ادّعاء واجمالاً ويأباه قوله فيما بعد أو على جملة معانيه إلا أن يكون تفنناً في التعبير، والذي في الحواشي الشريفية وغيرها تفسيره بأصول ما فيه، ومقاصده، وهو الظاهر فلا يرد عليه أن فيه القصص وغيرها، وان قيل إنها ترجع لما ذكر لما فيها من العبرة والإتعاظ، وهذا هو الوجه الثاني لكونها اً مّا. وعليه اقتصر في الكشاف كما مرّ. قوله: (والتعبد بأمره ونهيه (أي التكليف، وهو في إياك نعبد لأن العبادة قيام العبد بما تعبد به من امتثال الأوامر واجتناب النواهي كما قيل، وأورد عليه أق في قوله إياك نعبد التنسك الذي هو وصف العبد لا التكليف، وأجيب بأنه بناء على أنه على لسان العباد تعليما لهم(1/18)
وطلبا لعبادتهم فهو تكليف، ثم إنّ تفسير التعبد بالتكليف لا تساعده اللغة إلا أن يقال هو تفسير له بلازم معناه، وحقيقته اتخذه عبداً، أو تضمين لتعذيه بالباء كذا قيل.
(وأنا أقول) الذي دعا الشريف وغيره لتفسير التعبد بما ذكر أنه ليس المراد مطلق التنسك
لتقييده بأمر الله ونهيه، بل تعبد المرء تنسكه بما كلفه الشارع به، فتفسيره بالتكليف إمّا لأنه
أظهر في العبادة المقصودة هنا سواء كانت الآية تعليماً للعباد أم لا نعم إذا كانت تعليما كانت
أظهر وأنور فهو كقولهم حصول الصورة أو هو حقيقة لغة قال السمين في " مفرداته ": قوله
تعالى: {أَنْ عَبَّدتَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الشعراء: 22] أي اتخذتهم عبيداً وقيل ذللتهم ذلة
العبيد وقيل كلفتهم الأعمال الشاقة التي يكلف مثلها العباد، وبهذا وقفت على ما في كلام هذا
القائل، وأن قوله لا تساعده اللغة من قصور الباع وعدم الإطلاع، ثم إنّ الإيمان بالله ورسله
داخل في التعبد، لأنه مع توقف العبادة عليه مأمور به في آمنوا بالله ورسله، فلا يتوهم أنه
خارج وهو أجل المقاصد، واشتمالها على الثناء من الحمد واجراء الصفات المذكورة، والتعبد
في قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} كما مرّ وفي قوله: {الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ} إن أريد به ملة الإسلام،
وقيل: هو في قوله الحمد لله لأنه بتقدير قولوا وفيه نظر، وأمّا الوعد والوعيد، ففي قوله:
{أَنعَمتَ} و {المَغضُوبِ} عليهم أو في يوم الدين والجزاء لتناوله الثواب والعقاب، ولما كانت
مقاصد الأمور نتائجها والنسل أعظم المقاصد ونتيجة مقذمات الأعمار شبهت بالولد، ولذا
سمي نتاجا ووجه الشبه ظاهر كما قيل:
لنامن بنات الفكر نسل بهانسلو
وإنما كانت هذ. مقاصد وأصولاً، لأنه أنزل إرشاداً للعباد، إلى معرفة المبدإ والمعاد
ليؤدّوا حق المبدإ بامتثال أوامره ونواهيه، ويدّخروا للمعاد مثوبة كبرى، ولأنه كافل لسعادة
الإنسان، وذلك بمعرفة مولاه، والتوصل بما يقرّ به والتنصل عما يبعده منه، والباعث عليه
الوعد والزاجر عنه الوعيد، والا حجب عن نور الأنوار، وهوى في ظلمات بعضها فوق
بعض، وأمّا الدعاء والسؤال، فوسيلة يعتبر منها ما تعلق بالمعاد، ولا يرد اشتمال غير هذه
السورة على مثل ما ذكر لأن وجه التسمية لا يلزم اطراده ولأنها استحقته بالسبق إليه، والترتيب
الخاص والإجمال المفصل في غيرها فضاهت مكة في تسميتها أمّ القرى لما تقذمت، ودحيت
الأرض عنها، وتمام تفصيله في شروج الكشاف، وفي بعض الحواشي أنّ ابن سيرين كره
تسميتها أمّ القرآن والحسن البصري تسميتها أمّ الكتاب، وردّ بثبوته في الصحيحين وغيرهما
كحديث " الحمد لله أمّ القرآن وأمّ الكتاب " (1 (قوله: (أو على جملة معانيه الخ) الجملة بمعنى
الجميع، وبمعنى الإجمال والمراد الثاني، والحكم جمع حكمة وهي لغة العلم الحق المحكم
عن قبول الشبه، ولذا فسرها ابن عباس في قوله عز وجل: {وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} [البقرة: 269] بعلم القرآن وفسرها الحكماء بمعرفة حقائق الأشياء على ما هي عليه بقدر الطاقة البشرية، وهو قريب مما قبله، والنظرية نسبة للنظر بمعنى الفكر والمراد ما لا تعلق له بالعمل من العقائد الحقة الشاملة لأمر المعاد والنبوّة وسائر الإلهيات ونحوها مما المقصود منه بالذات العلم دون العمل، والأحكام مرّ تفسيرها، والعملية منها العبادات، وكل ما ذكر في الفروع، والأوّل مستفاد من أوّل السورة إلى قوله: {يَوْمِ الدِّينِ} والثاني من قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} وما بعده، وسلوك الطريق المستقيم من قوله اهدنا الصراط، والإطلاع بتشديد الطاء افتعال من طلع ظهر، وبسكونها أفعال منه والأوّل أظهر وهو من قوله: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ} الخ وفيه، وعد ووعيد فدخلا فيه، والأمثال والقصص المقصود بها الاتعاظ، وكذا الدعاء واك اء فهذه جملة المعاني القرآنية إجمالاً مطابقة، والتزاما فقوله من الحكم بيان لجملة وقوله: (التي الخ) في موصوفه احتمالات، لأنه يحتمل أن يكون صفة جملة أو معان أيضاً المبينة بالحكم، والأحكام فيكون في المعنى صفة لهما من غير تكلف، كما في القول بأنه صفة لهما معا وليس صفة للأحكام وحدها كما في بعض الحواشي قيل: لأن السلوك شامل للنظرية والعملية، وقيل لأنه لا يصح الحكم عليها بأنها سلوك الطريق المستقيم، لأنه العمل لا الحكم يخحتاج إلى تقدير مضاف أي أحكام الخ، وكلاهما على طرف الثمام، ومنهم من جعل المشير إلى الأحكام العملية الصراط المستقيم، وإلى النظرية ذكر السعداء والأشقياء على أنه لف ونشر غير مرتب مع أنّ ذكر الصفات دال على ما هو من الحكم(1/19)
النظرية أيضا، وقوله والإطلاع الخ إن قرىء بالجرّ على أنه معطوف على الحكم في قوله من الحكم فالأقسام ثلاثة، والإطلاع على مراتب السعداء للإقتداء، وعلى منازل الأشقياء للإتقاء، والأوّل من قوله: {أَنْعَمْتُ} والثاني من {غَيرِ المَغضُوبِ} الخ وهذا لا يختص بالنظرية، ولا بالعملية بل هو من آثارهما وثمراتهما، وان رفع فهو معطوف على قوله سلوك الطريق على أن التي صفة للحكم، والأحكام معنى أو حقيقة لا للثاني، ولذا قيل الإطلاع ناظر إلى الحكم النظرية، ولم يراع ترتيب اللف محافظة على ما عليه التنزيل من تقديم الأوّل أعني {اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ} وتاخير الثاني أعني الذين أنعمت الخ. وقد قيل عليه أيضا: إنه محتاج إلى التقدير أي بعيد سلوك الخ أو أصله التي غايتها أي المقصود منها، فلما حذف المضاف ارتفع الضمير، وانفصل أو هو محمول عليه مبالغة وادّعاء، وليس هذا مخصوصاً بكونه صفة للأحكام فقط كما توهم.) قلت (نقل هنا بعض أهل العصر عن المصنف حاشية قال فيها: الحكم النظرية معرفة الله
تعالى بصفات الكمال المشتمل عليها الحمد لله إلى قوله {يَوْمِ الدِّينِ} والأحكام العملية هي سلوك الطريق المستقيم، والإطلاع على مراتب السعداء والأشقياء المشتمل عليها {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} إلى آخر السورة انتهى.
فإن صح عنه ما ذكر فهو مخالف لما مرّ، وصاحب البيت أدرى بالذي فيه تدبر، وعبر
في السعداء بالمراتب لاشعاره بالعلوّ والرفعة لأنه من رتب بمعنى انتصب قائماً كما في الفائق، وفي الأشقياء بالمنازل لاً نه من النزول، وهو الانحطاط المقابل به كما قيل: درج الجنة ودرك النار، والفرق بين التوجيهين قد مرّ، وقيل: مبنى الأوّل على اشتمال ألفاظه باعتباره جميع أجزائها والثاني على اشتمالها باعتبار ما هو دعامتها ولو عكس كان أظهر، ولذا قيل: إنّ الأوّل بيان لاشتمالها على ما يستفاد منه أصول المعاني القرآنية وأساس مقاصدها. والثاني لاشتمالها على جملة مقاصده المستفادة من تلك الأصول وكونها أماً على هذا لتأخر التفصيل عن الإجمال تأخر الولد عن الأمّ، كما قيل في أمّ القرى وقيل إنّ هذا التوجيه متضمن لوجه تسميتها فاتحة أيضاً لأن ما يدلّ على الشيء إجمالاً حقه أن يكون فاتحة، كعنوان الكتاب الدال على ما فيه، ويدل عليه عطف قوله وتسمى، وذكر المبدأ بعد المفتتح والمنشأ بعد الأصل، والتأسيس أولى من التكيد مع مناسبة ألفاظه للفتح لفظاً ومعنى، والمبدأ لللامّ، ولا يخفى ما فيه من التكلف مع أنه قد اعترف بما ينافيه وقد علم مما ذكرناه ضعف ما قيل: من أنّ ما ذكر هنا مستفاد من الوجه السابق لأنّ الحكم، وهي الأحكام الاعتقادية تستفاد من إجراء صفات الكمالى عليه تعالى، والأحكام العملية من تفاصيل التكاليف المشار إليها بالتعبد، والإطلاع المذكور من الوعد والوعيد، ونوقش بأن الإطلاع من قبيل العلم والمعاني معلومات فكيف يعد منها، ودفع بأنّ المراد به الاطلاع بقرينة السياق وقال بعض المدققين: لا يخفى ما في جعل الثناء مقابلاً للتعبد أي التكليف بالعبادة، والوعد والوعيد من عدم المناسبة، وأيضا لا يظهر من الدليل جعل الثناء مقصوداً أصليا من الكتاب بل المقصود معرفته تعالى وقد أشير إليها بقوله {رَبِّ الْعَالَمِينَ} أي موجدهم ومربيهم، وأبعد منه جعل الوعد والوعيد مقصودين وهما مقحمان باعثان على العبادة، وقد عرفت مما قدمناه الجواب عنه، وبقي هنا وجوه أخر لم نسودّ بها وجه القرطاس، فإن قلت اشتمال الفاتحة على جميع المعاني القرآنية مناف لما في الحديث من أنها تعدل ثلثي (1) القرآن قلت: إن صح فلا منافاة، لأنّ الإجمال لا يساوي التفصيل فزيادة مبانيه تنزل منزلة ثلث آخر في الثواب، ومن العجب ما قيل هنا من أنّ ذلك لاشتمالها على دلالة التضمن والالتزام، وهما ثلثا الدلالات، وقيل الحقوق ثلاثة حق الحق على العبد وعكسه، وحق العبد على العبد، وقد تضمنت الأوّلين فلذا جعلت ثلثيه. قوله: (وسورة الكئز الخ الذلك أي لاشتمالها على مقاصد القرآن، أو جملة معانيه التي هي كالجواهر النفيسة المكنوزة لأنها ذخر المعاد، والسعادة الأبدية فتفي، وتكفي في ذلك، وقيل سميت وافية لأنها لا تنصف في الصلاة كغيرها وكافية لأنها تكفي المصلي دون غيرها، وهذه الألفاظ كلها
منصوبة عطفا على قوله أمّ القرآن، وهو الموافق لتصريحهم بأنّ الوافية والكافية بدون إضافة سورة من أسمائها، وإن وقع في كلام بعضهم خلافه وجرهما يستلزم حذف جزء العلم، أو العطف عليه، وقد قيل حذفه جائز إذا أمن اللبس كما سيأتي في شهر(1/20)
رمضان وان كان من قبيل حذف بعض الكلمة نظراً لأصله إلا أنه قيل عليه أنه في مقام بيان الاسم لا يؤمن الإلباس وانما يلزم ما ذكر لو لم يكن كل منهما بدون السورة، وقد قيل به، ويؤيده ما جاء في الحديث مما يدل على أنه يطلق عليها الكنز بدون السورة وهو قوله عليه الصلاة والسلام " إن الله قال فيما من به على رسوله إتي أعطيتك فاتحة الكتاب وهي كنز من كنوز عرشي " وقد قالوا إنه سبب تسميتها به ثم إنّ كونها كنزا أو من كنز استعارة وتمثيل لعظم ما فيها وهو أنفس من الجواهر بل هي عنده من الحجارة، أو أخس وجعل العرس، والسموات مهبطه، لأنها محل ابتداء ظهوره وفيضه، ولذا رفعت الأيدي في الدعاء نحوها وان تنزه الله عن المحل والجهة وقيل: إنه من المتشابه الذي استأثر به وهو أسلم. قوله: (سورة الحمد والشكر الخ الاشتمالها عليها أي على المذكورات أمّا اشتمالها على الحمد فظاهر، وكذا على الشكر لأنه في مقابلة نعمة الربوبية والرحمة الشاملة كما سيأني، وليس هذا مبنيا على تقدير قل كما قيل واستشكل بأنه في مقابلة النعمة بل النعمة الواصلة للشاكر، وأين ذلك هنا إلا أن يقال إنّ توصيفه برب العالمين يشعر بالعلمية وأنّ الحمد لذلك كما صرّح به الإمام، وهذا لا يتم إذا جعل حمداً من الله لذاته الأقدس، ولذا قيل إنه شكر إذا قرأه العبد في مقابلة نعمة، وهو تكلف ولا يخفى سقوطه، لأنه سواء قدر قل، أولا فإن كل قارىء منعم عليه فإذا حمد كان في مقابلة ذلك، ولا حاجة إلى ما قيل إنه يؤخذ من قوله: (أنست الخ (بل لا وجه له، فإنها مشتملة على الحمد وهو أعم من الشكر والحمد الحقيقي شكر لغوفي فتدبر. وقوله: (والدعاءا لوقوعه فيها وتعليم المسألة بأن يثنى ويبظم المسؤول، ثم يتوجه إليه بصفاته، والمسألة هنا مصدر ميمي بمعنى السؤال، والمراد تعليم كيفية السؤال، وطريقه وليس محل السؤال لاحتياجه إلى التكلف، والشكر وما بعده مجرورات، وفيه ما مرّ من حذف جزء العلم أو العطف عليه، وكون التسمية بمعنى الإطلاق لا وضع العلم، ونصبها على أنّ العلم الشكر وما بعده بعيد، وفي التفسير الكبير الاسم العاشر السؤال يروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن رب العزة سبحانه وتعالى قال: من شغله ذكرى عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين " (2) وقد فعل الخليل عليه الصلاة والسلام
ذلك حيث قال: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ} [الشعراء: 78] إلى قوله: {رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [الشعرأء: 83] ففي هذه السورة وقعت البداءة بالثناء عليه تعالى، ثم ذكر العبودية، ثم ذكر الاستعانة، ثم وقع الختم على طلب الهداية.
وأورد عليه أنه لا يتحصل مما ذكره الدلالة على تسميتها بالسؤال الذي أراده، ثم مقتضى الحديث تجرّد الذكر عن السؤال والسورة جامعة بينهما، فلا مناسبة لهذا الحديث هنا، وليس كما توهمه المعترض بل المراد أنّ تسميتها بالسؤال، لأنها مشتملة على تعليمه وبيان كيفيته اللائقة بالكاملين كما مرّ، ويشهد له قصة الخليل عليه الصلاة والسلام، وكذلك هذا الحديث القدسي أيضا بناء على أنّ المراد منه اشتغاله بذكره في ابتداء توجهه للسؤال لأنه نصب عينيه وقبلة اقباله، ومن أحب شيأ أكثر من ذكره ويؤيده ما ذكره بعده نعم هو لا يخلو من الخفاء وكون المراد بالحديث ما ذكر غير مسلم، وقد سئل بعض التابعين عما ورد في الحديث " أفضل ما دعاني به عبدي، لا إله إلاً الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد ") 1 (فقيل كيف سمي هذا دعاء، وهو صرف ذكر، فقال هو دعاء أيضاً لحديث " من شغله ذكري " الخ ثم نقل هذا الجواب لبعض السلف فقال: هو كما قال فإنّ الثناء على الكريم سؤال وطلب، فقيل: هل عرف مثله فقال: نعم أما سمعت قول أمية بن أبي الصلت في ابن جدعان في قصيدته المشهور ة:
" ذكرحاجتي أم قدكفاني حياؤك إنّ سميتك الحياء
إذا أثنى عليك المرءيوما كفاه من تعرّضك الثناء
ونحوه قول الغنوي:
واذا طلبت إلى كريم حاجة فلقاؤه يكفيك والتسليم
وهو معنى بديع سيأتي بيانه. قوله: (لاشتمالها عليها) أي على المسألة، وكيفية تعليمها
ولو قال: عليه بإرجاع الضمير للتعليم كان أظهر وفي تفسير ابن برحان من آداب الدعاء وحلية السؤال، والضراعة إلى الملك(1/21)
الملك الأمر كله أن يقدم العبد بين يدي دعائه التوحيد والتعظيم والإجلال، ثم يحمد الله بمحامده التي هو لها أهل، ويثني عليه ويمجده ويتبرأ إليه من حوله وقوّته، ثم يسأل الله الهداية إلى ما يرضيه، وحسن العون على ذكره، ئم يسأل الله بعدما ما يشاء، لعموم قوله الحق: " ولعبدي ما سأل " ومن قدم أمر الآخرة على أمر الدنيا نظمه الله في نظام الاقتداء بأمّ القرآن وإنّ المطلوب الأعظم لفي أمّ القرآن مجملاً ويحق ما قال بعضهم: لو قرئت أمّ القرآن على ميت فحي ما كان ذلك بعجب لأنّ الحمد اسم من أسماء الله وكذلك سائر الحروف كلها فافهم انتهى. قوله: (والصلاة لوجوب قراءتها الخ الفعل الصلاة يجوز جرّ. ونصبه هنا لأنها كما تسمى سورة الصلاة، تسمى الصلاة أيضاً، وهو من تسمية الجزء باسم كله، أو تسمية أحد المتلازمين باسم الآخر والصلاة بمعنى العبادة المعروفة. قوله. (واستحبابها) قيل عليه إنه لا قائل بالاستحباب لأنها فرض عند الشافعي وواجبة عند أبي حنيفة، وانما تبع صاحب الكشاف في قوله لأنها تكون فاضلة أو مجزئة بقراءتها فيها، وما ذكروا رد عليه أيضاً، ولذا قال في المدارك لأنها واجبة أو فريضة، وهو أحسن لأنه لا قائل بالاستحباب كما عرفت هذا زبدة ما في جميع الحواشي، وهو لا يسمن ولا يغني من جوع (وأنا أقول) كون المذاهب الأربعة متفقة على عدم الاستحباب، وأنه لا صلاة بدونها مما اتفق عليه هنا لما رووه في كتب الفقه المشهورة خصوصا كتب الحنفية، وليس كذلك، فإنّ المصنف شافعي المذهب، وفي كتبهم المعتمدة ما يخالفه، وعبارة الإمام الغزالي في شرح الوجيز الفاتحة متعينة في الصلاة خلافا لأبي حنيفة حيث قال: فرض الصلاة قراءة آية ما طويلة أو قصيرة، وان كان ترك الفاتحة مكروها انتهى.
وعليه اعتمد المصنف رحمه الله، فالاستحباب عنده مذهب أبي حنيفة، ولو سلم عدم صحة ما ذكر فالسلف لهم في أكثر الأحكام أقول شتى، ومذاهب مختلفة، وان لم يرخص لنا العمل بها، وقد نقل الإمام الجصاص رحمه الله في كتاب أحكام القرآن مذهب ابن عباس رضي الله عنهما أنه يجزىء في الصلاة قراءة شيء ما من القرآن، ولا تتعين الفاتحة، وبه فسر قوله تعالى: إ فاقرؤا ما تيسر من القرآن} [المزمل: 20] فإن أردت تفصيله فراجعه فإذا ثبت عن بعض الصحاية ومجتهدي السلف أنها غير واجبة في الصلاة مطلقا، وأنّ المراد بقوله في الحديث " لا صلاة إلاً بفاتحة الكتاب " (1 (نفي الكمال لا الصحة، فمراد المصنف والزمخشرفي الإشارة إلى مذهب هؤلاء لا إلى شيء من المذاهب الأربعة حتى يحتاج إلى ما قالوه من التعسف هنا: من أنّ استحبابها إشارة إلى مذهب أبي حنيفة رحمه الله بناء على تفسير المستحب بما يشمل الواجب والسنة لا المستحب المتعارف على أنّ الواجب بمعنى الفرض والمستحب ما يقابله، أو هو مبني على أنّ الوجوب في الكل عند الشافعي رحمه الله أو الركعتين الأوليين عند أبي حنيفة والاستحباب فيما عداهما عنده، أو في صلاة النفل في رواية
عن الشافعي، وأبعد منه ما قيل من أنه مذهب ابن حنبل، وأنه لورعه كان لا يطلق الواجب على ما لم يتواتر عن السلف إطلاقه عليه، وقد جوز أن يكون المراد بالصلاة هنا الدعاء فيكون كتسميتها بسورة الدعاء، فإن قلت هل لما قيل من تعين الجرّ هنا وجه وان كان النصب بناء على تسميتها صلاة الحديث " قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين الحديث " (11 لأن تعليل المصنف يناسب معنى الجرّ لا النصب، لأنّ تسميتها في الحديث بالصلاة من إطلاق اسم الكل، وارادة الجزء الذي هو ركن تنتفي الحقيقة بانتفائه، وهو غير منايسب لقوله، أو استحبابه مع أن بعضهم قدر في الحديث مضافا أي قراءة الصلاة، أو ذكر الصلاة قلت لا، فإنّ ما ذكره من الشرط غير مسلم عند المحققين من أهل الأصول، مع عدم تعين التجوّز أيضاً فتدبر. قوله: (الشافية والشفاء الخ) بالنصب أي تسمى الشافية الخ. كما صرّحوا به ويجوز جرّه.
وفي الكشاف أنها تسمى سورة الشفاء. وقيل: إنّ المصنف ذهب إلى أئه يطلق عليها هذا
بدون سورة، ولولاه لقدّم الشفاء على الشافية وفيه نظر، وقد ورد في البخاري أيضا تسميتها سورة الرقية، وهو قريب مما هنا والحديث الذي ذكره المصنف (2) صحيح أخرجه البيهقي، والدارميّ، وغيرهما، إلا أنه قيل عليه إنه لا يدل على تسميتها بذلك إذ لا يدل قولنا زيد كاتب على غير اتصافه، وصدق كاتب عليه، وأمّا تسميته به فلا، وقريب منه ما قيل(1/22)
الحديث إنما يدل على أنها شفاء في نفس الأمر وأنه أطلق عليها الشفاء شرعا، وليست التسمية هنا بمعنى الإطلاق إلا أن يقال وضمع الاسم ثبت بالنقل عن الثقات، ولا حاجة لدعوى الاجماع كما قيل، فالحديث إنما ذكر لبيان سند ما نقل ولا ثبات الباعث على التسمية به. قوله: (والسبع المثاني الخ) السبع منصوب. وقوله: (لآنها الخ) علة لتسميتها سبعا، وفيه أنه ذكر في التيسير أنها ثمان آيات عند الحسن البصريّ وست آيات في قول الحسن الجعفي، وقد نقل عن بعضهم أنها تسع أيضا فكيف يتأتي دعوى الإتفاق أو الإجماع المذكور في كثير من التفاسير وعليه المصنف فقيل أراد اتفاق الجمهور ومن يعتد به فخلاف غيرهم بمنزلة العدم، ومخالفة واحد أو اثنين تسمى خلافا لا اختلافاً، فلا يخرج بها الحكم بكونه متفقا عليه، وقيل المراد اتفاق القرّاء، وقيل اتفاق الحنفية، والشافعية وما له لما مرّ فلا وجه لردّه به، وقيل: إنه لا خلاف فيه والزيادة
وأخرجه الديلمي 4385 والبيهقي في الشعب كما في الدر 1 / 22 من حديث أبي سعيد الخدري بلفظ " فاتحة الكتاب شفاء من السم ". وللحديث شواهد أخرى انظر الدر المنثور 1 / 22- 23.
والنقص وهم من الراوي لأنه لما رأى عد {أَنعَمتَ عَلَيهِمْ} آية ظن أنه في الباقي مع غيره ولما رأى عدّ التسمية فيه كذلك، وهو مراد المصنف بقوله إلا أنّ الخ وفي قوله: {أَنعَمتَ عَلَيهِمْ} تسامح أي {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ} الخ لظهور أنّ الموصول بدون صلته، والمضاف بدون المضاف إليه لا يعد آية فمبدؤها معلوم وانما الخلاف في آخرها قوله: (ومنهم من عكس) أي عد أنعمت عليهم آية دون التسمية والمناسب لما جعل عكسا له أن يكون المراد أنه جعل التسمية جزأ من آية كما ذهب إليه البعض، فيلزمه عدم التعرّض لمذهب الحنفية وهو أنّ التسمية خارجة عن السورة. وقوله: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ} آية وقوله {غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ} آية أخرى، وان لم يحمل عليه يلزم عدم التعرّض لبعض المذاهب وأمره سهل إذ ليس في كلامه ما يدل على الانحصار قيل: ولا يبعد أن يجعل قوله: ومنهم من عكس إشارة إليهما على أنّ المراد بعدم جعل التسمية آية ما يتناول خروجها عنها وجعلها جزأ منها وليس في القرآن سورة آياتها سبع غير الفاتحة، وسورة أرأيت. قوله: (وتثني في الصلاة الخ) أي تكرّر وأصل معنى ثني الشيء ردّ بعضه على بعض. قال الراغب سمي القرآن مثاني لأنه يثني على مرور الأوقات، ويكزر فلا يدرس وينقطع، ولا تنقضي عجائبه، ويصح أن يكون من الثناء لأنه يثنى عليه، وعلى من يتلوه ويعمل به وجوّز فيه أن يكون جمع مثنى كمرمى أو مثنى مشدّد النون أو مثنى مخففاً مته، وكلها مع هاء التأنيث وبدونها، والجمع بالنظر للآيات، وهذا بيان لإطلاق المثاني عليها وهي من التثنية، وقد فسرت هنا بالتكرير ولا يرد أنها تثلث في المغرب، وتربع في الرباعية مع أنه اقتصار على الأقل، فلا ينفي الزيادة، ولا ترد الركعة الواحدة، وصلاة الجنازة لأنّ المراد المتعارف الأغلب من الصلاة، وغير المصنف عبارة الكشاف وهي قوله: تثني في كل ركعة وهي عبارة مأثورة عن عمر بن الخطاب رضي الله عته، وقد أورد عليها أنها تثني في الصلاة لا في الركعة وأجيب عنه بأنه مجاز مبالغة في أنّ كل صلاة فعلة واحدة كركعة أو أنها تكرّر في كل ركعة بالقياس إلى أخرى، وقيل: في للمصاحبة أي تثني مع كل ركعة، ويفهم منه عرفا أنّ كل ركعة تثني معها كما إذا قيل فلان يأكل مع كل أحد لا يفهم مته إلا أنه يأكل مع كل أحد يأكل معه، وهذا مع كونه تكلفا بارداً زعم قائله أنه أحسن الوجوه وأولاها، وقيل الأشبه أن يراد بيان محل التكرير على معنى أنّ الفاتحة تكرّر في كل الصلاة بحسب الركعة لا بحسب أركانها كلها، كالطمأنينة ولا بحسب ركعتين ركعتين كالتشهد في الرباعية ولا بحسب كل صلاة كالتسليم، فإن تعددت الركعة تعدّدت الفاتحة والا فلا كأنه قيل تثني باعتبار الركعة واعترض عليه بأنّ هذا المعنى، وان كان واضحاً في نفسه إلا أنّ دلالة هذه العبارة عليه في غاية الخفاء ويردّ بأنّ مراده أنّ لفظ في ههنا، كما في قولهم يستعمل في وضع الشرع لكذا بمعنى أنه مستعمل بحسبه، واعتباره وهو واضح، وان خفي عن الفاضل المعترض (وأقول) هو لم يخف عليه كيف وهو أبو عذرته كما حققه في شرح العضد في قول
ابن الحاجب الحقيقة اللفظ المستعمل في وضع أوّل حيث قال: هذا يحتاج لتمهيد مقدمة وهي أنّ في ليس ظرفاً للاستعمال تحقيقا، بل تقديراً، فإنه لما تعلق بالمعنى تعلقا مخصوصا صار كأنه ظرف للاستعمال محيط به، ولا شك أنّ الاستعمال متعلق بالوضع ناشىء عنه بحيث يتصوّر فيه ظرفية تقديرية، فكما يقال(1/23)
استعمل اللفظ في معنى كذا بناء عليها يقال استعمل في وضع كذا أيضاً لأنّ مآل الظرفية هنا إلى تعلق خاص تستعمل فيه اللام كثيراً وان كان في أكثر وههنا أيضاً ما لها إلى السببية والباء فيه أكثر وفي تستعمل فيه أيضاً نتهى وليس إنكار خفائه وتكلفه مسموعا وان لم تنكر صحته فكيف يعترض عليه بما مرّ وليس الغافل إلا المعترض، ثم إنّ، الظرفية المجازية به إنما تظهر وتحسن إذا لم يكن مقارن في صالحاً للظرفية الحقيقية كما في التوضيح فليس وزان في كل ركعة وزانها في قوله المستعمل في وضع أول فتأمل، ثم قال: والذي أدّى إليه الخاطر القاصر أن اضطرابهم في هذه العبارة إنما نشأ من حمل الظرفية على اللغوية المتعلقة بتثني وهو مستقرّ، والتقدير تثني واقعة في كل ركعة، وقال بعض علماء العصر: لا يخفي ما فيه.
أمّا أوّلاً: فلأنه مع التقدير فيه لا فائدة فيه بالنظر لهذا المقام لتعزضه للوقوع في الركعة والكلام في بيان تكرارها وليس هذا قيد للتكرار بل خارج عنه.
وأمّ ثانياً: فلأنه لا يصح قوله باعتبار كل ركعة إذ الصحيح أن تكرارها باعتبار تعذد كل
ركعة وفهمه من هذه العبارة في غاية الخفاء كما قاله السيد السند رحمه الله والمعترض لم يفهم مراده وفيه بحث وقيل إنه لا يبعد حمل العبارة على التضمين أي تثني مقروأة في كل ركعة وقيل يرد عليه أنه مع الاستغناء عنه فاسد لظهور أنّ التكرار ليس في حال القراءة في كل ركعة، بل في حال القراءة في الركعة الثانية والثالثة والرابعة، فإذا قلنا زيد يقوم في زمان قيام كل واحد من القوم لا يفهم منه إلا أن يكون قيام زيد مقارنا لزمان قيام كل واحد لا لزمان قيام المجموع من حيث هو مجموع فافهم. قوله: (أو الإنزال) عطف على الصلاة إلا أنّ العامل وهو تثني لا يظهر تعلقه به لأن تثنية الإنزال قد وقعت فعاملها فعل ماض لا مضارع، ففي هذه العبارة خلل ظاهر، ولذا قيل إنّ تثني للاستمرار بالنسبة إلى الصلاة وماض بالنسبة إلى الإنزال والتعبير بالمضارع لاستحضار الصورة وحكاية الحال الماضية بناء على وأي المصنص رحمه الله في جواز إرادة معني اللفظ معاً أو على عموم المجاز بأن يراد مطلق الزمان الشامل للماضي وغيره يعني أنّ المضارع لدلالته على الحال الحاضر الذي من شأنه أن يشاهد قد يذكر ليستحضر به ما مضى، فيستمر وتثني لاستحضار التسمية المعللة بالتثنية ولا يفعل ذلك إلا بما يهتم بمشاهدته لغرابته أو فظاعته، كما ذكره أهل المعاني، وهو مجاز، ولذا لما لزم المصنف الجمع بين الحقيقة، والمجاز أشار المحشي إلى دفعه بما ذكر ولا يخفى بعده لاختصاصه بما يستغرب ولا غرابة هنا، والأقرب عندي أن يقال إنّ المراعى تحقق الاستقبال وغيره زمان الحكم لا زمان
التكلم كما حقق في كتب الأصول والتسمية مقدمة على تثنيتها في الصلاة، وكذا على تكرار الإنزال لأنها توقيفية، فإن كان الواضع هو الله في الأزل فاستقبال الإنزال ظاهر وان كان الرسول صلى الله عليه وسلم، فالتسمية في أوّل النزولين وتكرر النزول إنما يتحقق بالثاني فهو مستقبل من غير تكلف لتقدير متعلق أو عطف معمول ماض على معمول مستقبل، وأمّا كونه من قبيل.
*علفتها تبناً وماء باردا*
فلا يخفى برودته وركاكته مع أنهم لم يذكروه إلا مع اختلاف الحدثين دون الزمانين وان
كان القياس لا يأباه فتدبر. قوله: (إن صح أنها نزلت بمكة) هذا بناء على جواز تكرّر النزول وهو في الآيات متفق عليه وفي السورة مختلف فيه، فأنكره بعضهم مطلقاً لعدم الفائدة فيه قيل ولذا قال المصنف: إن صح واستدل المنكر له بأنّ نزوله ظهوره من عالم الغيب إلى الشهادة والظهور به لا يقبل التكرر فإن ظهور الظاهر ظاهر البطلان كتحصيل الحاصل وايجاد الموجود ويرد بأنه ليس من هذا القبيل، وفي منازل السائرين من توإضع للدين لم يعارض بمعقول منقولاً، ولم يتهم دليلاً، ولم ير إلى الخلاف سبيلاً، وقال الزركشي في البرهان: قد ينزل الشيء مرتين تعظيماً لشأنه وتذكيرا عند حدوث سببه خوفاً لنسيانه وفي جمال القراء للسخاوي فائدة نزول الفاتحة مرتين أنها نزلت أوّلاً على حرف، وبعده على آخر كملك ومالك، ويجري هذا في وجوه القرا آت وقد قيل إنها نزلت مرّة أخرى بعد تحويل القبلة ليعلم أنها ركن في الصلاة كما كانت وقيل: نزلت مرّة بالبسملة، وأخرى بدونها، واستحسنه ابن حجر والجزري، وبه جمع بين المذاهب، والروايات وسقط ما قاله المعترض من أنه لا فائدة في تكرر النزول، وذهب الغزالي رحمه الله إلى أنه ليس في القرآن(1/24)
مكرر أصلاً لأنه يفسر بمعان مختلفة وما توهم من أنه لو تكرّر نزولها كانت أربع عشرة آية توهم باطل ومعنى قوله إن صح الخ إن صح مجموع هذين الأمرين لأنه لا تردّد في نزولها بمكة ولذا قيل لو قال إن صح أنها نزلت بالمدينة لما حوّلت القبلة وقد صح الخ كان أوضح وأخصر، وقد علم مما مرّ أنّ في تكرّر النزول مذاهب. قوله: (وقد صح أنها مكية الخ) هذا قول ابن عباس وأكثر الصحابة والمفسرين والمراد بكونها مكية أنها نزلت بمكة لأنه أشهر معانيه كما سيأني وقيل: إنه لم يقل نزلت بمكة لأنه ليس بصدد إثبات ما في الشرطية بل بصدد بيان كون السورة مكية باصطلاح المفسرين وأمّا القول بأنها مدنية وهو قول مجاهد فقد قيل إنه هفوة منه والقول بأنّ بعضها مكي وبعضها مدنيّ في غاية الضعف، وكون المراد بالسبع المثاني في الحجر الفاتحة عليه أكثر المفسرين، وقد ورد التفسير به مسندا إلى النبي صلى الله عليه وسلم في صحيح البخاري وقيل هي السبع الطوال وقيل الحواميم وقيل غير ذلك، فإن قيل اسمها السبع المثاني والواقع في الآية سبعا من المثاني فلم جعلت عين المثاني قيل من في الآية بيانية فمؤداهما واحد لأن الجار والمجرور صفة والمعنى سبعاً هي المثاني مع أنّ كونها مثاني مخصوصة لا ينافي كونها بعضا من مطلق المثاني وكونها مكية
بالنص على ما في بعض النسخ وقد سقط من بعضها، وأورد عليه أنّ المكية والمدنية إنما يعلم من الصحابة والتابعين لا بالنقل عن النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه أمر لم يؤمر به ولا يلزم بيانه؟ " ضاسخ والمنسوخ كما نقله في الإتقان، وفيه أنه لا مانع من نقله عنه عليه الصلاة والسلام كان يقول بمكة أو بالمدينة بملا من الصحابة (أنزل علئ اليوم أو الساعة كذا) ثم ينقل ذلك عنه عليه الصلاة والسلام وقد وقع مثله وقيل المراد بالنص هنا نص العلماء أي تصريحهم بأنها مكية فهو بالمعنى اللغوي، والنص له معان منها اللفظ المفيد لمعنى لا يحتل غيره ويقابله الظاهر، ومنها ما يقابل القياس والإجماع والاستنباط فيراد به أدلة الكتاب والسنة، ويطلق في الفروع على ما يقابل التخريج أي القول المأخوذ من النعى، كما قاله ابن أبي شريف رحمه الله، وقيل إنه هنا بمعناه المتعارف، فإنّ ما قبلها وما بعدها إلى آخر السورة في حق أهل مكة، وظاهر أن الله لم يمن على النبي صلى الله عليه وسلم بإتيانه السبع المثاني بمكة ثم نزلها بالمدينة، وما قيل عليه من أنه لا بعد في الإمتنان بما هو محقق الوقوع قبل وقوعه لبيان شأنه، وقد وقع قوله. {إِنَّا فَتَحْنَا} [الفتح: ا، الآية والمجاز المتعارف يساوي الحقيقة في جواز الإرادة فلا يعترض عليه بأنّ الأصل الحقيقة سقوطه في غاية الظهور لأنه لا يدفع الظهور، وأمّا بعد صلاة النبي صلى الله عليه وسلم بمكة بضع عشرة سنة بلا فاتحة الكتاب، وفرض الصلاة كان بمكة ففيه أنه أمر ظني مستقل في إثبات مكيتها خارج عن الاستدلال بالآية والكلام فيه، وقيل المراد بالنص صريح النقل عن الصحابة لأنه ثبت عن ابن عباس رضي الله عنهما، وكلام الصحابة فيما لا اجتهاد فيه له حكم المرفوع، فلذا أطلق عليه النص، وبما ذكرناه علم حال ما قيل من أنا لا نسلم أنّ المراد بالسبع المثاني في الآية الفاتحة للاختلاف في تفسيرها وكون آتيناك فيها من قبل، ونادى أصحاب الجنة، وأنه لو سلم لا ينافي نزولها مرة أخرى بالمدينة ولا يخفى عليك أنّ كون ما قبلها، وما بعدها في حق أهل مكة إنما يكون مؤيداً على القول بأنّ المكي ما كان في حق أهل مكة، والمشهور خلافه، وكون سورة الحجر نزلت بمكة بعد الفتح لم يقل به أحد، وفيه نظر، وفي الوجيزأنّ ترتيب السور، ووضع الشملة في أوّلها بوحي له عليه الصلاة والسلام، ولو كان من الصحابة لكان بحسب النزول، ولا خلاف في ترتيب الآيات، وقال ابن عطية: إن زيدا رضي الله عنه لما جمع القرآن في المرة الأولى جمعه غير مرتب السور، ونقل عن القاضي أن ترتيب السور اليوم من تلقاء زيد رضي الله عنه مع مشاركة عثمان رضي الله عنه، ومن معه في المرة الثانية، وذكر نحوه مكي أيضا والصحيح أنه بوحي له عليه الصلاة والسلام في العرضة الأخيرة.
بسم الله الرحمن الرحيم
ويقال لمن قال بسم الله الرحمن الرحيم: بسمل بالنحت كحمدل وحوقل، وهو كثير في
كلام العرب إلا أنه قيل إن بسمل لغة مولدة لم تسمع من النبيّ لمجيرو، ولا من فصحاء العرب والمشهور خلافه، وقد أثبتها(1/25)
كثير من أهل اللغة كابن السكيت والمطرزي، ووردت في قول عمر بن أبي ربيعة:
لقد بسملت ليلى غداة لقيتها فياحبذاذاك الحديث المبسمل
قوله: (من الفاتحة الخ) في البسملة في غير النمل، فإنها فيها بعض آية بالاتفاق أقول عشرة.
الأوّل: أنها ليست آية من السور أصلأ.
الثاني: أنها آية من جميعها غير براءة.
والثالث: أنها آية من الفاتحة دون غيرها.
الرابع: أنها بعض آية منها فقط.
الخامس: أنها آية فذة أنزلت لبيان رؤوس السور تيمنا، وللفصل بينها وهذا وإن ارتضاه متأخرو الحنفية لا نظير له إذ ليس لنا قرآن كير سورة، ولا بعض منها.
السادس: أنه يجوز جعلها آية منها وجعلها ليست منها بناء على أنها نزلت بعضاً منها
مرّة، ولم تنزل أخرى لتكرّر النزول استقلالاً أو لمدارسة جبريل له عليه الصلاة والسلام في كل عام، وهكذا سانر القراآت وهو المشار إليه في حديث: أنزل القرآن على سبعة احرف كلها كاف شاف وهذا أغربها، وكان ابن حجر يرتضيه، ويقرّره في دروسه، ويدفع به الاعتراض بأنّ القرآن فطعيّ التواتر، فكيف يصح إثباته، أو نفيه، بدونه، فيقول: إثباتها ونفيها حينئذ متواتران كسائر القراآت، وقد نقله القرّاء كأبي شامة وغيره، وأطنب في تحسينه السيوطي في حواشيه، فإن قلت لو سلم هذا لجاز على سائر المذاهب الجهر بها وعدمه ولا قائل به، وأيضا لم يعهد في وجوه القرا آت اختلاف في الآيات بل في الحروف وهيآتها، ووقع في بعض حروف المعاني، وهذا سرّ التعبير عن القرا آت بالأحرف في الحديث وتقليلها، وان اندفع به الاعتراض بأنه قرىء بالبسملة في السبعة، وهي متواترة فيما عدا الأدأء، فكيف صح تركها قلت: هذا غير وارد، فإنه يجوز ترجيح أحد المتواترين، وان لم يبلغ غيره مرتبته مع تواتره كما في وجوه القرا آت السبعة، وكونه خلاف المعروف يبعده ولا يبطله.
والسابع أنها بعض آية من جميع السور كما نقله السيد رحمه الله والثامن أنها آية من الفاتحة وجزء آية من السور.
والتا سع: عكسه.
والعاشر: أنها آية فذ وان أنزلت مراراً، وعلى هذا اختلف الأداء وبنوا علية فصلها ووصلها وتركها، فابن كثير وعاصم والكسائي يعتقدون أنّ البسملة آية من كل سورة الفاتحة وغيرها وقرّاء المدينة، وأبو عمرو يرونها آية من الأوائل وحمزة يراها آية من الفاتحة فقط كما تاله الجعبري.
والمصنف سكت عن سائر السور، فلا ينافيه أنّ قزاء مكة ومن تبعهم ذهبوا إلى أنها آية
من كل سورة مصدرة بها، وكلامه شامل لكونها آية وبعض آية، وقرّاء مكة ابن كثير ورواته، والكوفة عاصم وحمزة والكسائي ورواتهم، والمدينة نافع ورواته، والبصرة أبو عمرو ويعقوب ورواتهما والشام ابن عامر ورواته، ومالك من فقهاء المدينة، والأوزاعي هو الإمام عبد الرحمن الشامي منسوب للأوزاع، وهي قبيلة معروفة، وذكر مالك والأوزاعي من ذكر الخاص بعد العام للتنبيه على جلالته. قوله: (وفقهاؤهما) كذا هو في كثير من النسخ بالتثنية رجوعا إلى البصرة، والشام فقط دون المدينة. وفي الكشاف: وفقهاؤها بضمير الجمع للجميع، وتعقبه البلقيني بأنه يقتضي اتفاق أهل المدينة عليه وليس كذلك، فإنّ جماعة من فقهاء المدينة من الصحابة والتابعين كابن عمر والزهري وغيرهما يرونها آية من الفاتحة وغيرها، فكأن المصنف رحمه الله غير عبارته إشارة إلى إصلاحها بذلك، وفي بعض النسخ فقهاؤها كما في الكشاف، وقدّم كونها من الفاتحة على خلافه ترجيحاً لمذهبه، ولذا عكسه الزمخشري. قوله: (ولم ينص أبو حتيفة الخ) ضمير فيه يرجع إلى كونها من الفاتحة المعلوم من السياق، وهي المراد بالسورة لحضورها أو كل سورة، ولما كان المصنف رحمه الله شافعيا قائلاً بمفهوم المخالفة مع أنه مراعى في الروايات وعبارات المصنفين، ومفهوم قوله لم ينص أي لم يصرّح أنّ في كلامه إشارة، وتلويحا يورث الظن كاخفائها في قراءة الصلاة، فصح تفريع قوله فظن عليه فلا يرد عليه أنّ عدم النص على الشيء نفيا واثباتا لا يتسبب ويتفزع عليه ظن عدمه، ولا حاجة إلى ما قيل إنه بناء على أنه من أهل الكوفة الذاهبين إلى كونها من الفاتحة كما مر، فسكوته يشعر بمخالفته لهم لما تقرّر في الأصول من أنّ السكوت في موضع الحاجة إلى البيان بيان ولا مرية في أنّ هذا موضعه، وأورد عليه أن سكوته يجوز أن يكون احترازاً عن الخوض فيما لا دليل عليه كما ذهب إليه الإمام أو لتعارض أدلته، واقتصر على الظن دون(1/26)
نفي القرآنية رأسا لأنه أدنى مراتب الخلاف مع قيام الأدلة على قرآنيتها، وكذا ذهب بعض الحنفية إلى أن الصحيح أنها آية فذة أنزلت للفصل أو لبيان أوائل السور فلا يرد عليه الفاتحة حتى يقال هو بالنسبة لعود الخاتم إلى الصدر. وقوله: (ليست من السورة عنده) يحتمل القولين وقيل الفاء لمجرّد تأخر الظن عن عدم
النص، وسبب الظن أمر بالإسرار بها، وقال الكرخي: لا أعرف هذا المسألة بعينها لمتقدمي أصحابنا إلا أن أمرهم باخفائها يدل على أنها ليست من السورة، وقيل: إنه لم ينص فيها بشيء ظن أنه أبقاها على أصلها من العدم حتى يظهر الثبوت وقيل: ظن في هذه العبارة ليس فعلاَ مجهولاً بل مصدر منوّن مرفوع لأنه خبر أنّ مقدم والمراد تزييف نسبته إليه، والردّ على الزمخشري في قوله: إنه مذهب أبي حنيفة تلميحاً لقوله تعالى: {إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} (قلت) وهو من بعض الظن أيضا. وما في الكشاف: إن لم نقل أنه ظفر برواية عنه بناء على إطلاق مذهب أبي حنيفة على ما يشمل كلام أصحابه كما هو المتداول بينهم. فمان قلت: كيف يصح القول بأنها ليست منها وأن أبا حنيفة لم ينص فيها بشيء مع أنّ محمد بن القاسم، والبرهان الكافي وغيرهما نقلوا عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى إيجابها في الصلاة، حتى قال الزيلعي رحمه الله: يجب سجود السهو بتركها، ونقل عن المجتبى وجوبها في كل ركعة قلت: قال أستاذي المقدسي في كتاب الرمز عن شرح المختار لشيخه السمديسي: إنها ليست بواجبة فقد حكى المحققون كالإمام أبي بكر الرازي والكاشافي وغيرهما أن الخلاف في السنية لا في الوجوب، وقال بعض المحققين: القول بوجوب البسماة ليس له أصل في الرواية وما نسب إلى أبي حنيفة من الخلاف في الوجوب من طغيان اليراع، وكذا ما ذكره الزيلعي ويلزم مما ذكر أنها ليست آية من غيرها أيضاً إذ لا قائل بأنها آية من غير الفاتحة فقط قوله: (وسئل محمد الخ) الدف والدفة بفتح الدال المهملة وتشديد الفاء الجنب من كل شيء، ودفتا المصحف جانبا جلده المتضمن له ونحوه وهو أيضاً لم ينص على نفي، وإثبات تأدّيا وان كان المراد قرآنيتها، والمراد المصاحف العثمانية القديمة المتداولة، فلا يرد كتابة القنوت في مصحف ابن مسعود رضي الله عنه. فإدط قلت: ما بين دفتي المصحف صور الألفاظ ونقوشها وكلام الله إمّا لفظيّ أو نفسيّ فما وجه إطلاقه عليها.
قلت: في المواقف أنّ الكلام يطلق بالاشتراك عليها وعلى صور الألفاظ، والصور دلائل
ألفاظ القرآن، ولشذة الامتزاج يقال لها قرآن انتهى وأورد عليه أنه كلام متناقض، لأنّ قوله بالاشتراك يقتضي أنه حقيقة، وقوله لشدة الامتزاج يدل على أنه مجاز، وهو من إطلاق الدال على مدلوله، وفي قوله لشذة الامتزاج تسامح ظاهر، ورذ بأنه لا منافاة لأنه مجاز بالعلاقة المذكورة شاع فصار حقيقة عرفية، ولما قال محمد: هذا قيل له لم نسرّ بها فلم يجب إشارة إلى أنه أمر تعبدي لا ينبغي الخوض فيه، وما قيل في توجيهه من أنّ نزولها للفصل والتبرك ولا يلزم أن يثبت لها سائر أحكام القرآن، أو هي لقوّة الشبهة في قرآنيتها في أوائل السور ألحقت بالأذكار، والأصل فيها استحباب الإسرار فسكوت محمد رحمه الله أبلغ منه، فإنها كيف تكون للفصل، وهي في الابتداء، ولو قيل بالتبرك وحده، فهو لا يدري مع الإخفاء، والحاق القرآن بالأذكار فيه عبرة لأولى الأبصار فتدبر. قوله: النا أحاديث كثيرة الخ) أي يدل لنا، والأحاديث
جمع حديث لا أحدوثة على خلاف القياس والضمير لأصحاب المذهب الأوّل، وقد عرف اًن منهم من يقول بكونهم بعض آية من السور، وان لم يذكره المصنف، كما أنّ منهم من يقول بكونها آية من كل سورة وهم المذكورون على ما في الكشاف وشروحه. فمجموع الفريقين يستدل على المدعى الأعمّ المشترك بالحديثين على التوزيع أي من يقول بكونها آية من كل سورة يستدل بحديث أبي هريرة رضي الله عنه على جزء دعواه وهو المعنى الأعم، ومن يقول بكونها بعض آية من السورة يستدل بحديث أم سلمة رضي الله عنها عليه، وما قيل. من أنّ الاستدلال على جزء المدعى بما ينافي الكل غير مستحسن خصوصا عند الحاجة إلى ارتكابه لا وجه له إذ عدم المنافاة ظاهر، وأما الإجماع والوفاق مع المبالغة في التجريد فلنمي مذهب المخالف إذ لا يلزم من كونها كلام الله بل من القرآن كونها من الفاتحة، ونقل عن المصنف هنا حاشية، وهي هذان الدليلان يدلان على أنها من القرآن(1/27)
لا أنها من الفاتحة اللهم إلا أن يضم إلى الدليل الأوّل في كل محل أثبتت فيه، والى الثاني عما ليس بقرآن في محله والقيدان في حيز المنع انتهى.
وأنت تعلم أنه على تقدير تسليم القيدين لا يلزم كونها جزأ من الفاتحة لجواز كونها قرانأ
في صدر السورة، وليست جزأ منها، وكون القرآن مفصلاً سورا وسوره آيات فإذا كانت من القرآن كانت من سوره قطعاً ممنوع عند الخصم واذا حمل قوله ليست من السورة عنده على.، ذهب إليه المتقدمون لم يكن المصنف رحمه الله متعرّضا إلا لخلاف من قال: إنها ليست ص، القرآن أصلاً لا لمن قال إنها آية فذة فيلزم من قرآنيتها كونها من الفاتحة لعدم القاثل بالفصل إلا أنه إنما ينفع في إلزام الخصم لا في إثبات المدّعى وهذا تحقيق حقيق بالقبول، وإن كان هـ أعلى أنّ المراد بالسورة في كلام المصنف رحمه الله الجنس لا الفاتحة بقرينة مقابلة وتد مز، وتفصيله في المطوّلات، فاستدل الشافعيّ رحمه الله بهذا الحديث، وما ضاهاه، وتد قيل عاء4 إنه موقوف، وفي سنده ضعف، وهو معارض بما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه أيضاً أ / " تعالى قال: < قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل فإذا قال الحمد لله رب العالمين قال الله حمدتي عبدي >) 3) الحديث. وما ذكر خبر واحد والمسألة مما يطلب هـ " اليقين. وأجيب بأنه روى من طرف أخرى تقوّى بها وأنّ له حكم المرفوع لأنّ مثله لا يقال. من قبل الرأي، وما رووه من الحديث القدسي مداره على العلاء بن عبد الرحمن وقد ضعمه الم،
معين، وهو انفرد بروايته مع احتماله التأويل بأنّ التقسيم لما يخص الفاتحة والبسملة مشتركة بينها وبين غيرها، وردّه ابن عبد السلام رحمه الله بأنّ ظاهره ليس بمراد، لأنّ الصلاة ليست مقسومة بالإجماع بدليل السورة المضمومة بل بعض القراءة، فالتقدير قسمت بعض قراءة الصلاة، وبعض قراءة الصلاة لا يستلزم الفاتحة فالمقسوم بعض الفاتحة، ونحن نقول به انتهى. وفيه نظر بعد، وكونه مما يطلب فيه اليقين قول القاضي أبي بكر الباقلاني، وقد خالفوه
حتى قال القرطبي رحمه الله المسألة اجتهادية ظنية لا قطعية، كما ظنه بعض الجهلة من المتفقهة.
) أقول (فيه إنّ القرآن على المشهور إنما ثبت بالتواتر وهو قطعي، فكيف يقال إنّ المسألة
ظنية ويجهل من قال بقطعيتها وقد أجيب بأنّ المتواتر كونه منزلاً من عند الفه للإعجاز بنوعه وقرآنيته وأمّا كونه جزأ منه في بعض معين فليس بمتواتر والا لم يسمع الاختلاف فيه، وتحقيقه كما في تفسير السمين المسمى بالوجيز أنّ الأحاديث تدل على أنّ البسملة آية من الفاتحة، وهي متعاضدة محصلة للظن القوي بكونها قرآنآ والمطلوب هنا الظن لا القطع خلافاً لأبي بكر الباقلاني حيث قال: لا يكتفى هنا بالظن، وشنع على الشافعية، وقال: كيف يثبت القرآن بالظن، وأنكر عليه الغزالي رحمه الله، وأقام الدليل على الإكتفاء بالظن، فيما نحن فيه كحديث كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يعرف ختم السورة حتى تنزل عليه بسم الله الرحمن الرحيم (1 (والقاضي معترف بهذا، ويتأوّل على أنها كانت تنزل، ولم تكن قرآناً، وليى كل منزل قرآنا قال الغزالي رحمه الله ما من منصف إلا وششبرد هدّا التأويل ويضعفه انتهى.
(أقول (هذه مسألة أصولية اختلف فيها وحاصلها أنه هل يكفي فيما نحن فيه الظن لأنّ التواتر إنما يشترط فيما يثبت قرآناً على سبيل القطع كغيرها من القرآن فأما ما يثبت قرآنا على سبيل الحكم فيكفي فيه الظن كما مرّ عن الغزالي ومعنى كونه على سبيل الحكم أنّ له حكم القرآن مبن الكتابة بين الدفتين ووجوب القراءة وهو الأصح عند الشافعية وذهبت الحنفية إلى أن كل ما يشمى قرآنا لا بد فيه من القطع والتواتر في نفسه ومحله كما في سورة النمل، وما بين السور ليس كذلك فحيث انتفى ذلك انتفت القرآنية والشافعية مختلفون في هذه المسألة، فمن ذاهب إلى المنع على الأصح عندهم، ومن ذاهب إلى التسليم مذع لثبوت موجبه لأنّ اثباتها في جميع المصاحف في معنى التواتر وانما لم يتواتر تسميتها قرآنا، وآية بالنقل عنه عليه الصلاة والسلام إذ لو تواتر لكفر جاحدها، وهو لا يكفر بالاتفاق بينهم، ولا ضير فيه إذ لا يلزم من انتفاء تحققه تحقق انتفائه، وهو المذعى لهم.
قوله:) وقول أمّ سلمة الخ) هي أمّ المؤمنين رضي الله عنها من كبار الصحابة وسلمة بفتح
السين المهملة واللام والميم، وحديث أبي هريرة رضي الله عنه أخرجه الطبراني وابن مردوية والبيهقي وصحح الدارقطني ما يفيد معناه وحديث أمّ سلمة رضي(1/28)
الله عنها لم يثبت بهذا اللفعل، وانما الوارد في طرقه أنه عد البسلمة آية وصحح البيهقي بعض طرقه، وتفصيله في حاشية السيوطي رحمه الله، وقد طعن الطحاوي فيه بأنه رواه ابن مليكة ولم يثبت سماعه منها مع أنه روى عنها ما يخالفه.
وأجيب: بأنّ له حكم الاتصال لأنه تإبعي أدركها وعدم السماع خلاف الأصل وقد روى الشيخان ما يعارضه من حديث كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفتتح القراءة بالحمد لله رلث العالمين وتأويله بأنّ معناه يفتتح القراءة بهذه السورة لأنه علم لها خلاف الظاهر، وقد رووا أحاديث كثيرة تؤيده، وقد حمل النفي الواود على نفي السماع والجهر، وقيلى: إنّ عليا رضي الله عنه كان مبالغاً في الجهر فشدد بنو أمية في المنع منه إبطالاً لآثاره، واضطراب رواية أنس فيه لا يبعد أن يكون لخوف بني أمية، ولا يخفى فساده لما فيه من سوء الظن بالسلف، وقول الدارقطني: لم يصح في الجهر حديث يشهد على فساده وما قيل من أن الخلاف في التسمية ينفي تواتر القرآن، فلا بد من القول بعدم جزئيتها حتى يكون القرآن متواتراً ردّ بما في النشر من أنّ هذا الاختلاف كاختلاف القراآت بالزيادة والنقص، ولكنها عند الجمهور ليس لها حكم القرا آت في جواز الترك احتياطا ليحصل الخروح من فرض الصلاة يقينا. قوله: (ومن أجله الخ (بإفراد الضمير أي من أجل اختلاف الرواية، أو من أجل ما ذكر، وفي بعض النسخ من أجلهما بضمير التثنية أي من أجل الروايتين أو الحديثين، فإن قلت: الحديثان متعارضان، وليس هذا مما يقع فيه النسخ حتى يقال: المتأخر ناسخ للمتقدّم ما لم يمكن الجمع بينهما. قلت: قد جمع بينهما بأنّ أمّ سلمة فهمت كونها بعض آية من الوصل والوقف على العالمين، وهو لا يدل على ذلك مع أنّ حديث أمّ سلمة لم يصح بهذا اللفظ، كما في الإتقان. قوله: (والإجماع على أنّ الخ) هو مرفوع لعطفه على أحاديث أو لأنه مبتدأ خبره على أنّ الخ. قيل: من المخالفين من نفي كونها من الفاتحة، ومنهم من نفى كونها في أوّل السورة قرآنا، والمصنف أراد أن يصرح برد كل منهما فأتى بالأحاديث لرد الأوّل وبالإجماع لردّ الثاني والإجماع المشهور قول وفعل، والأوّل أقوى ولذا قدّمه وعبر عن الثاني بالوفاق، وأورد عليه أنهما لا يثبتان كونها جزأ من الفاتحة لما مرّ، وجوابه يعلم مما قدمناه، والمراد بالمصحف هنا المصحف العثماني، وما جرى على وسمه من المصاحف القديمة، وهي مجردة عن أسماء السورة وغيرها فلا يرد أنه يكتب في المصاحف أسماء السور وعدد آياتها، وكونها مكية أو مدنية ولو أطلق، فالمراد بما فيه ما فيه احتمال القرآنية، وهذه خارجة بالإتفافي، والمخصص عقلي فبقي الثاني على عمومه قطعاً وثبت بحجة قطعية أو أمر ظني كما مرّ، فلا يرد أنّ العام إذا خص منه البعض لم يبق
حجة قطعا ولا حاجة إلى الجواب بأنه مميز بكتابته بلون آخر أو خط آخر، وما نقل عن ابن مسعود رضي الله عنه من أنّ الفاتحة والمعوّذتين ليست من القرآن لا أصل له، وأن اذكر في مطاعن القرآن من الكلام. قوله: (مع المبالنة في تجريد القرآن الخ) يعني أنّ الإجماع والإتفاق المذكورين مع المبالغة ني تجريده بحسب الظاهر يقتضي أنها من القرآن في ذلك المحل، والمخالف فيه لا يسلمه ويقول: إنه إنما يقتضي أنها قرآن وأمّا كونها من السورة، فلا ولا يرد أنه لا نزاع في هذا الإجماع، فكيف جاز للحنفية مخالفته، وقد روى عن ابن مسعود رضي الله عنه جرّدوا القرآن، ويروى جرّدوا المصاحف أخرجه عبد الرزاق والطبراني عن ابن عباس وعن ابن مسعود أنه كان يكره التعشير في المصاحف، وقال البيهقي: المراد لا تخالطوا به غيره وعن قرظة بن كعب أنه قال لما خرجنا إلى العراق قيل: إنكم تأتون أهل قرية لهم دويّ بالقرآن كدوقي النحل، فلا تشغلوهم بالأحاديث، فتصدوهم وجرّدوا القرآن كما في غريب الحديث. وفيه أنه يحتمل أمرين التجريد في التلاوة وأن لا يخلط به غيره والتجريد في الخط، والنقط والتعشير حتى قيل يكره نقطه وشكله وأوّل من فعل الأوّل أبو الأسود الدؤلي، وأوّل من فعل الثاني الخليل بن أحمد، والمتأخرون على أنه بدعة حسنة، وقيل: هو أمر بتعليم القرآن وحده دون غيره من كتب الله لتحريفها. قوله: (حتى لم يكتب آمين) غاية لتجريد القرآن عن غيره، لأنها أبعد أفراد ما ليس بقرآن عن عدم الكتابة لأنها مأمور بذكرها بعدها، ولذا قيل إنه دليل على السلب الكلي المستفاد من المبالغة في التجريد، وهو لا شيء مما ليس من(1/29)
القرآن أذن في كتابته لأنّ أنسب الأشياء بالإذن آمين، فإذا لم يؤذن فيه كان غيره أولى، وقد قيل عليه لا نسلم هذا بل أنسب الأشياء مما ليس من القرآن البسملة، فإنّ من ذهب إلى أنها ليست من القرآن يقول أثبتت فيه للتبرك والفصل، والإذن من الشارع إلى غير ذلك مما لا يوجد في آمين ولا يخفى أنه محل النزاع 0 قوله: (والياء متعلقة بمحذوف الخ (تقديره أي تقدير المحذوف وحروف الجرّ تسمى حروث- الإضافة أيضاً وهي تفضي بمعاني الأفعال وما أشبهها، وما يفضي بمعناه يسمى متعلقا لها بفتح اللام وهي متعلقة بكسرها وقد يعكس ذلك، ثم قال: وسائر الظروف منها ما هو لغو، وما هو مستقرّ بفتح القاف لأن معنى العامل استقرّ فيه فهو من الحذف والإيصال، واختلف في تفسيرهما فقيل: اللغو ما يكون عامله مذكوراً، والمستقرّ ما يكون محذوفا مطلقاً، وقيل: المستقرّ ما يكون عامله عامّا من معنى الحصول والاستقرار، وهو مقدّر واللغو بخلافه كما في اللب، ويسمى مستقرّ التقدير معنى الاستقرار، والمفهوم من اللب وشرحه أنّ اللغو ما يكون عامله خارجا عن الظرف غير مفهوم منه سواء ذكر أو لا والمستقرّ ما فهم منه معنى عامله المقدر الذي هو من الأفعال العامة، ولما كان تقدير الأفعال العامة مطرداً اعتبره النحاة، وفسروا المستقرّ بما عامله محذوف عام وكائن المقذر هنا من كان التامة، وإلا تسلسلت التقديرات، كما قاله الفاضل الشارح، وتقديره خاصاً هنا لأنه أولى عند قيام قرينة الخصوص، وأتم فائدة وكون
هذا لغواً أو مستقرّا علم مما ذكر، والحاصل أنّ متعلقه أما مذكور أو محذوف، وعلى الثاني مؤخر أو مقدم عام أو خاص، فعل أو اسم، مفرد أو جملة، ويضم له معاني الباء فتزيد احتمالاته على ثلاثين، واختار المصنف منها كونه فعلاً خاصاً مؤخرا، وفي الكشاف تقديره أقرأ أو أتلو إشارة إلى أنه لا يتعين هنا لفظ بل كل ما يؤذي هذا المعنى ولظهوره تركه المصخف فلا يتوهم أنّ الأحسن ذكره كما قيل. قوله: (بسم الله أقر " بلفظ المضارع ورجح بعضهم تقديره ماضيا لوروده كذلك كما في الحديث " باسم ربي وضعت جنبي " (1 (ومنهم من قدره أمرا وعن الفراء أنه قال المقدّر فعل أمر لأنه تعالى قدم التسمية حثا 4 للعباد على فعل ذلك، فالتقدير ابدؤا أو اقرؤا ورواه السيوطي عن ابن عباس رضي الله عنهما، وهو المناسب لتعليم العباد الآتي. قوله: (لأن الذي يتلوه مقروء الخ) ضمير يتلوه للفظ التسمية، ومقروّ بتشديد الواو وتخفيفها قبل همزة لأنه يقال: صحيفة مقروّة ومقروأة ومقرية، والمراد بما يتلوه ما جعل التسمية مبدأ له، وفي الحواشي الشريفية فإن قلت: الأولى أن يقال لأنّ الذي يتلوه قراءة لأنّ المقصود افتتاح القراءة بالتسمية كما يدل عليه قوله وكذلك يضمر كل فاعل الخ قلت: المراد بتلو المقروّ تلو القراءة لاستلزامه إياه وانما ترك ذكره ودلّ عليه يتلو المقروّ رعاية للمجانسة بين التالي والمتلو إذا أمكنت، وبيانه أنّ البسملة يتلوها فيما نحن فيه شيئان.
أحدهما: من جنسها ويتلو ذكره ذكرها وهو المقروّ.
والثاني: من غير جنسها، ويتلو وجوده ذكرها، وهو القراءة، وتلو كل واحد منهما مستلزم تلو الآخر، فصرّح بتلوّ الأوّل ليفهم الثاني مع المحافظة على التجانس، وإنما قلنا إذا أمكنت الرعاية، لأن تسمية الذابح مثلاً لا يتلوها إلا الذبح لتبع وجوده لذكرها، وأمّا المذبوح فلا يتغ ذكرها لا في الوجود ولا في الذكر فلا يستقيم أن يقال ما يتلو التسمية مذبوح انتهى. فإن قلت على تقدير كونها من القرآن أو السورة كيف يتأتى تقدير أقرأ فعل المتكلم وهي متقدمة على قراءة هذا القارىء بل على وجوده وكيف يتأتى أن يقال القراءة قرينة لهذا المقدر، فينبغي أن يقدر اقرؤا من أمر الله للعباد ليتحد قائل الملفوظ، والمقدر، ويكون على نسق ما نطق به التنزيل. قلت: الظاهر أنه على هذا يقدر قبل قراءة كل قارىء ويكون إخباراً منه تعالى عما يصدر من عباده وليس المراد باقرأ متكلما مخصوصا، بل من يصح منه التكلم على حد قوله: {وَلَوْ تَرَىَ إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النَّارِ} [الأنعام: 27] وبعد الوقوع ينوي كل بالضمير نفسه كما في الاستفتاح بقوله: " وجهت وجهي " الخ ومن هنا يتبين لك وجه جعل القرينة المقروّ دون القراءة، لأن ذلك القدر اقتضى تقديره في الأزل يدل عليه المقروّ قبل وجود القراءة، فعبر به
المصنف رحمه الله بناء على مذهبه، والزمخشري ليشمل المذاهب فلا حاجة لما ذكره قدس سره ولا للاعتذار بأنّ القرينة اللفظية أظهر، ثم قوله إنّ المذبوح الخ إن أراد به(1/30)
الشاة وإن لم تذبح، فمثله لا يسمى مذبوحا حقيقة، وان أراد بعد تعلق الذبح به، فكونه لا يليه في الوجود غير مسلم إذ المذبوح من حيث هو مذبوح تال له بلا مرية، فإن قلت مقدّرات القرآن هل هي منه حتى يطلق عليها كلام الله أم لا قلت: معانيها مما يدل عليها لفظ الكتاب التزاما للزومها في متعارف اللسان فهي من المعاني القرآنية، وأمّا ألفاظها فليست منه لأنها معدومة، ومنها ما لا يجوز التلفظ به أصلاً كالضمائر المستترة وجوبا، وأمّا جعلها مقدرة فامر اصطلاحي ادّعاه النحاة تقريبا للفهم، فانظره فإنه من الحور المقصورات في الخيام، ثم إنّ في جريان هذا التقدير على القول بأنها آية فذة، ولذا وقف عليها بعض القراء نظر أو بتفسير ما يتلوها بما مر مما قصد جعله تالياً لها، وجعلت مبدأ له، وان كان يقارنه غيره سقط ما قيل من أنّ الذي يتلوها، كما وقع عليه القراءة وقع كثير من الأفعال، ككونه ملفوظا ومحدثا ومؤلفا وغير ذلك، والمراد بقوله: كل فاعل الفاعل الذي جعل التسمية مبدأ لفعله بقرينة السياق لسقوط غيره عن درجة الاعتبار، والمراد بالإضمار معناه اللغوي أي أنّ كل فاعل يتصوّر ما هو بصدده من الأفعال، فالظاهر أن يقدر بحسب الصناعة ما يليق به، فلا يرد عليه ما قيل لا نسلم أنّ كل فاعل يضمر اللفظ المذكور بل يقصد المعنى، وينويه ولا حاجة إلى الجواب: بأن النفس تعوّدت ملاحظة المعاني، وأخذها من الألفاظ حتى تناجي نفسها بألفاظ متخيلة كما نقله السيد عن ابن سينا، وان كان هذا أمراً عقليا وجدانياً لا منطقيا اصطلاحيا كما توهم، ثم اختار مقروّا على متلوّ مع ما فيه من التجنيس حتى قيل: إنّ تقديره أحسن لما فيه من الإبهام المشوس لذهن السامع فما اختاره أظهر، وبمقام التفسير أنسب قوله:) وكذب يضمر الخ) أي كالقارىء الذي يضمر القراءة التي جعلت التسمية مبدأ لها يضمر الخ، وهذا تتميم للفائدة بوضع قاعدة مطردة كلية في تقدير كل متعلق باسم الله، وقد تبع 10 لمصنف في هذه العبارة الزمخشري، وفيها تسامح كما في عامة حواشيه، فإنّ التسمية جعلت مبدأ للفعل الحقيقي كالقراءة والحلول والإرتحال، والمضمر الفعل النحوي الدال عليه فلا بد من تقدير في الكلام في آخره بأن يقدر ما جعل التسمية مبدأ لمعناه أي معنى مصدره، وهو معناه التضمني أو في أوّله بأن يقدر لفظ ما تجعل التسمية مبدأ له وهذا مختار الشريف تبعا للشارح المحقق، وتبعه المحشون للكشاف وهذا الكتاب، وقد قيل عليه إنّ اعتبار الحذف قبل مسيس الحاجة إليه غير مرضي وهنا كما يحتمل أن يكون المراد بكلمة ما في عبارتهم المذكورة المعنى يحتمل أن يكون اللفظ، ووقوعها بعد قوله يضمر الخ يقتضي الثاني، فالأول الحمل عليه بلا تقدير، فإذا جاء قوله ما جعل التسمية الخ مست الحاجة للتقدير فيقدر فيه معنى، ويؤيده أنّ ما جعل التسمية مبدأ له الفعل الحقيقي أي القراءة، والمضمر فعل اصطلاحي، وهو أقرأ والقول بأن أقرأ لفظ للقراءة، كما اقتضاه تقديرهم غير متعارف بخلاف القول بأن القراءة معنى أقرأ
اللازم لتقديرنا، فإن معنى اللفظ يراد به المعنى التضمني كثيرا، وقيل عليه أيضا إن هذا الإضمار إنما يحسن لو كان المقدر مصدراً، وقد يقال يجوز أن يراد بالإضمار الإخفاء في القلب لا الحذف، فيتعلق بالمعنى لكنه لا يلائم المشبه به، أو يجعل ما مفعولاً لفاعل، وفيه أنّ المقصود بالبيان التقدير، ولم يحصل إلا أن يقال علم من التشبيه، وقد يوجه بالاستخدام بأن يراد بلفظ ما اللفظ وبضميرة المعنى.
(أقول) : ما ذهب إليه الشراح هو الأظهر، وكونه قثل الاحتياج إليه أمر سهل، فإنّ المبادرة إلى الإصلاح أصلح وأوضح، واذا كان جزء المعنى يطلق عليه معنى فلا بعد في جعل اللفظ له، وما ذكر من كون المقدّر مصدرا غير صحيح لما عرفت من أنه معنى تضمني لا مطابقي، فإن قلت: الذابح مثلاً إذا ذكر البسملة يريد التيمن بالقرآن وتقدير أذبح لا يناسب كونها قرآنا، وتقدير أقرأ لا يناسب فعله قلت: هذا تخيل فاسد تخيله بعض الناس، وليس بشيء، فإن كالاقتباس لفظه منقول من لفظ القرآن إلى معنى آخر كما نبه عليه علماء البديع، فإن قلت كيف قيل هنا بالاستخدام، وتعريفه لا يصدق عليه، لأنه ليس هنا معنيان برجع الضمير لأحدهما قلت: هو كقولك بعته بدرهم ونصفه، وسيأتي بيانه في قوله تعالى: {وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ} [فاطر: اا] الآية ولفظ ما عام عموما بدليا، وقد أريد به أحد ما يصدق علبه، وأرجع إليه الضمير باعتبار الآخر مع أن(1/31)
أبا عذرته لم يصرح بالاستخدام ومن لم يقف على مراده قال إنه غير صحيح، وغاية توجيهه أنّ كل لفظ إذا أطلق يصح أن يراد به معناه الموضوع له ونفس لفظه كما في نحو ضرب فعل فما عبارة عن الفعل باعتبار لفظه أو باعتبار معناه ولا يخفى فساده، فإنه لم يؤت بلفظ الفعل ولا بما يصدق عليه بل بما المكنيّ به عنه فتدبر. قوله: (وذلك أولى الخ) ردّ على من زعم أن تقدير الإبتداء أولى لأنهم يقدرون متعلق الظرف المستقرّ عاما كالكون والحصول، ولأنه مسثقل بما قصد بالتسمية من وقوعها مبتدأ بها، فتقديره أوقع في المعنى ولا يرد عليه {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} لأنّ الأهم هنا فعل القراءة لا الابتداء لوقوعه في أوّل البعثة قبل أن يألف القراءة المطلوبة منه، ولذا صرح به وقدم، وردّه صاحب الإنصاف بأن تقدير الخصوصيات أحسن وأليق بالمقام، وأولى بتأدية المرام لأن تقدير أقرأ يدل على تلبس القراءة كلها بالتسمية على وجه التبرك والإستعانة وابتدىء يفيد تلبس ابتدائها، وتقدير النحاة لا يجد به لأنه تمثيل، وتقريب اقتصروا عليه لإطراده، وأذا قامت قرينة الخصوص نحو زيد على الفرس، فلا شك في أنها أولى، وأمّا قوله إنّ الغرض وقوع التسمية مبتدأ بها فمسلم لكن معناه أن يجعل في الأوائل سواء قدز لفظ الابتداء أو لا، وقد قيل إن في تقدير أقرأ امتثالاً للحديث فعلاً فقط، وفي تقدير أبدأ امتثالاً له قولاً وفعلاً، ولا شك أنه أولى. (قلت) هذه مغالطة لا يلتفت إليها بعد ما نوّر. شراح الكشاف لأن الامتثال القوليّ إن أراد
به أنّ معنى قوله لا يبدأ فيه باسم الله لا يقدر فيه أبدأ فغير صحيح لأنه أمر اصطلاحي حادث
بعد عصر النبوّة فلا يصح حمله عليه وان أراد مجرّد الموافقة اللفظية، فيعارض بما يرجح مقابله كإفادة تلبس الفعل كله بالتبرك ونحوه، وفي بعض الحوإشي فإن قلت الحديث المشهور المستدعي للابتداء بالبسملة، ووقوعها في الابتداء قرينة ظاهرة على تقدير أبدأ قلت: لا يصلح شيء منهما لذلك أمّا الحديث، فلأنه يستدعي تقدّم البسملة على الأمر ذي البال، والتلفظ بها في ابتداء ذلك الأمر ولا يستدعي تقدير ابتدىء أو فعل آخر، وأمّا الوقوع في الابتداء، فإنه وان صلح مع حث الشارع على وقوعه فيه قرينة لكنها ليست بظاهرة لأنه لو كفى قرينة على تقدير أبدأ لكفى الوقوع في النهاية والوسط على تقدير الانتهاء والتوسط، وليس كذلك، وهو كلام حسن، وفي قول المصنف رحمه الله لعدم ما يطابقه إشارة ما إليه إذ معناه أنّ كل ما صرح فيه بالمتعلق ذكر مخصوصاً نحو باسمك ربي وضعت جنبي وغيره مما ضاهاه، وقيل: المراد عدم ما يطابقه في القرآن لوقوع القراءة مستعلقاً في قوله: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} [العلق: ا] ولم تقع الباء فيه متعلقة بإبدأ، وردّ بأنه في الآية ليس تعلقه به متعيناً، ولو سلم فلا يلزم كون ما في أوائل السور مثله، ولذا قيل: إنّ المطابقة بهذا الاعتبار لا تصلح مرجحاً بدون ملاحظة ما ذكر عند وجود القرينة الدالة على تعيين المحذوف في محل التكلم، فلا يلتفت إليها فيصلح لأن يعتبر ضميمة لا استقلالاً.
(بقي ههنا بحث) وهو أنّ الشريف كغيره قال في تقرر تقديره عاماً زعم بعض النحاة أنّ تقدير الابتداء أولى فيقال بسم الله ابتدىء القراءة مثلاَ، ولا يخفى أنّ ابتداء القراءة أخص من القراءة لا أعم لصدقها على قراءة الأوّل والوسط والآخر واختصاص ابتداء القراءة بالأوّل وليس هذا هو الكون، والحصول الذي قدره النحاة حتى يحتاج إلى الجواب وما قيل من عموم ابتدئ باعتبار أنه منزل منزلة اللازم لكته يعلم بقرينة المقام أنّ المبتدأ به هو القراءة، أو باعتبار أصل العامل في الجميع لا يخفى فساده، فإنه إذا دل المقام على إرادته ما معنى تنزيله منزلة اللازبم حينئذ وكونه باعتبار الأصل لا يدفع السؤال باعتبار الحال فتدبر. قوله: (لعدم ما يطابقه وما يدل عليه) وفي نسخة ويدل عليه بدون ما والضمير المرفوع للموصول والمنصوب لأبدأ، والمراد بما يدل عليه القرينة الدالة عليه دلالة ظاهرة، وإن وجد الدليل في الجملة، فلا يرد عليه أنه يدل على عدم صحة إضمار أبدأ لا على مرجوحيته، وقوله أولى يدل على خلافه فإنّ ابتداءه بالبسملة قرينة لإرادة البدء لكنها في الظهور ليست بمنزلة الأولى، فسقط أنّ وقوعه في الابتداء دال عليه كغيره من الدلالات الحالية إذ لا قرينة إلا مقارنة الفعل وهي داعية إلى تقدير شيء من جنسه لا إلى تقدير الابتداء وقيل معنى قوله: وذلك أولى أن إضمار كل فاعل ما جعل التسمية مبدأ له أولى من إضماراً بدأ لعدم ما يطابقه فيما إذا كان(1/32)
الفعل الواقع بعده غير ممتدّ، ولا يخفى بعده.
وأمّا كون تالي التسمية ما يصدق عليه مقروء لأنفسه فسهل لأنّ تحقق ما يصدق عليه الشيء تحقق له، وقد يقال يمكن اعتبار مثله عند تقدير ابدا لأن الفعل المبدوء بالتسمية يصدق عليه المبدوء بها، وقد أجيب عته بأنّ عنوان القراءة أقرب إلى الفهم لأنه المقصود من التصدير بالتسمية، وفيه نظر ظاهر. قوله: (أو ابتدائي لزيادة إضمار فيه) ومو إضمار المصدر وفاعله والخبر سواء جعل الجار والمجرور متعلقاً بالمصدر المذكور أو خبراً، وسواء قدر ابتدائي أو بدئي وهذه احتمالات عقلية والا فكلامه مقتض لتعلق الجار بابتدائي والسياق صريح فيه، ويلاحظ هذا مع ما مر من عدم المطابقة والدلالة، وأقرأ وان كان جملة فعلية والفاعل مستترة، وأقل لما مرّ ودلالة الإسمية على الثبوت معارضة بدلالة المضارع على الاستمرار التجددي المناسب للمقام، وقيل زيادة الحذف هنا باعتبار زيادة الحروف فلا بد أن حذف الجملة ليس أقل من حذف المضاف والمضاف إليه، وأورد عليه أن النظر هنا متوجه إلى المعنى كما مرّ في كلام الكشاف في ذكر أقرأ وأتلو، وهنا لو قذر بدئي لا زيادة له في الحروف وانما ارتكب هذا التكلف بناء على أنّ أهل المعاني لا يطلقون الحذف على إضمار العام، وأنت تعلم أن كلا منا في زيادة الإضمار سواء أطلق عليه الحذف عند أهل المعاني أم لا، ثم إنّ المصنف رحمه الله لما أتمّ الكلام على تقديره فعلاً خاصاً شرع في بيان تقديمه. قوله: (وتقديم السول ههنا أوقع الخ) هنا إشارة إلى البسملة في أوائل السور، وأوقع بمعنى أحسن مرقعاً وأنسب بمقامه يقال: إنه ليقع مني في موقع مسرة وله موقع حسن كما في الأساس، وقيل: أوقع بمعنى أثبت وأمكن من وقع الحق إذا ثبت وثباته باعتبار وقوعه في محل يقتضيه الحال، وفي نسخة بدل المعمول المفعول أي المفعول بواسطة حرف الجر وقوله ههنا للاحتراز عن نحو: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} [العلق: أ] مما يقتضي المقام تقديم عامله لأنه أوّل نازل من الآيات اهتماما بثأن القراءة وان كان اسم الله أهم في ذاته كما سيأتي. قوله: كما في قوله: {بِسْمِ اللهِ مَجْرَاهَا} [هود: 41] تنظير له باعتبار المتبادر لا استشهاد ونقل الفاضل الليثي هنا حاشية عن المصنف رحمه الله وهي أي على تقدير أن يكون معناه مجراها وفي نسخة مجراة بالنصب والتنوين باسم الله وجوز فيه غير هذا الوجه انتهى.
يعني أن التمثيل به على تقدير أن يكون عاملاَ في باسم الله بناء على وجواز تقديم معمول المصدر عليه مطلقا، واذا كان جاراً ومجروراً لأنه مصدر ميمي بمعنى الإجراء والإرساء أي ذلك باسم الله لا بهبوب الرياح والقاء المرساة بكسر الميم وقيل إنه إشارة إلى وجه كون الجملة الإسمية حالاً بدون الواو لأنها في تأويل المفرد كما في قوله: {بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} [البقرة: 36] أي متعادين وفيه نظر ستراه ثمة، وقيل: هو تنظير لمجرّد التوضيح حيث قذم فيه هذا الظرف بعينه إلا أنه مستقز، وفيما نحن فيه لغو فدل على تقدم المتعلق هنا خصوصاً على القول بأنّ المبتدأ عامل في الخبر والاستشهاد أيضا، إنما يتأتى إذا جعل اسم الله خبرا
لمجراها لا متعلقا باركبوا كما أشار إليه المصنف رحمه الله حيث قال إنه حال من الواو أي اركبوا فيها مسمين الله أو قائلين باسم الله وقت إجرائها وإرسائها أو مكانهما على أنّ المجرى والمرسي للوقت أو المكان أو المصدر والمضاف محذوف كقولك آتيك خفوق النجم وانتصابهما بما قدر حالاً أو جملة اسمية من مبتدأ وخبر انتهى.
وقيل عليه: إنّ الاستشهاد ليس بصحيح على الوجوه كلها لأنها منافية له، ودفعه يعلم
مما مرّ، واياك نعبد مثال لتقديم مطلق المعمول. قوله: (لآنه أهم الخ) الظاهر أنّ الضمير للمعمول فإن أهميته تقتضي التقديم حتى صار قولهم المهم المقدم كالمثل كما قال:
فقلت له هاتيك نعمى أتمها ودع غيرها إنّ المهم المقدم
لكن قوله أدل وما بعده يقتضي كون الضمير للتقديم لأنها من صفاته إلا أن يكون فيه
تقدير تقديمه ولذا قيل إنّ الضمير للتقديم وإن كان أهميته باعتبار ما أضيف إليه لأنّ قوله أدل وما بعده معطوف على أهم ولا يصح أن يقال المعمول أدل إلا بتكلف أن يكون المراد وتقديمه أدل بحذف المضاف واقامة المضاف إليه مقامه وفيه ما فيه، وأهميته ذاتية لاشتماله على اسم الذات الأقدس المعبود بحق لأن الاستعانة نصب خاطره في كل أمر خطر، ولظهوره لم يصرح بوجه الأهمية فيه، فلا يرد عليه ما قيل إنه لا يكفي أن يقال(1/33)
قدم كذا للأهمية من غير بيان وجه الاهتمام كما صرح به الشيخ عبد القاهر، فالظاهر أن يقول لأنه أدل على الاختصاص ولا يجوز أن يكون عطفاً تفسيريا لأنه لا يحسن تفسير الشيء بما يوجبه، وكلام المصنف رحمه أدلّه صريح في خلافه أيضا فسقط ما قيل من أنّ الردّ على المشركين المبتدئين بأسماء الأصنام منوط على الاختصاص المستفاد من التقديم وقيل عليه إنه من فوائد الاختصاص المذكور، فلا وجه لجعله من نكات التقديم نعم لو قلنا إن المشركين يبتدؤن أفعالهم بذكر آلهتهم الباطلة، فالمنأنسب لنا الابتداء بذكره سبحانه لكان وجها انتهى.
وقد عرفت مما قدمناه ما يغنيك عنه ومن الناس من جعل أدل وما بعده معطوفا على
أوتع، وقال: لما كان دليل الوسطين معلوما، ودليل الطرفين غير معلوم تعرّض للأوّل بقوله لأنه أهم وللرابع بقوله فإنّ اسمه الخ واكتفى بذلك لأنّ دليلهما دليل الوسط بعينه، وقول عبد القاهر، إنهم لم يعتمدوا في التقديم شيأ يجري مجرى الأصل غير العناية والاهتمام، ونقله عن سيبويه ليس لإبطال إفادته الحصر كما توهمه ابن الحاجب وأبو حيان بل إشارة إلى أنّ العناية أمر كلي مجملى لا بد له من وجه كالتعظيم والاختصاص، ولذا قيل إن قوله وأدل الخ بيان وتفصيل للأهم لكنه كان الأظهر أن يقول لأنه أدل، واعتذر له بأنه إشارة إلى تمييز الأهمية الناشئة من ذاته عن غيرها، وحذف متعلق اسم التفضيل لمعلوميته والقصد لأهميته أي أهم من غيره كالعامل، وقيل: إنه مجرّد عن التفضيل مؤوّل باسم الفاعل أو الصفة المشبهة. قوله:
(وأدل على الاختصاص) أمّا الاختصاص فلابتداء المشركين بأسماء آلهتهم استعانة وتبركا فقطع الموحد عرق الشرك باختصاصه ردّاً عليهم وقوله أدل يستدعي وجود أصل الدلالة بدون التقديم ووجه بأنّ التخصيص بالذكر قد يفيد الحصر بمعونة السياق وتعليق الحكم بالأوصاف يشعر بالعلية وانتفاء العلة يستلزم انتفاء المعلول في المقام الخطابي إذا لم تطهر علة أخرى فيفيد الاختصاص أيضاً، فكأنه قيل باسمه أقرا لأنه الرحمن الرحيم لا سيما عند القائل بمفهوم الصفة لإشعاره بأنّ من لم يتصف بها لا يتبرك باسمه وقيل: الظاهر أنّ المراد بالاختصاص مطلق التعلق لا الحصر، فيكون التقديم المفيد للحصر دلالته أظهر على اختصاص القراءة باسم الله وتكلفه غني عن البيان، ثم إنّ هذا القصر كما قالوه قصر إفراد لأنهم لا ينكرون التبرك باسم الله تعالى، فإن قلت: المعروف في قصر الإفراد أنّ المخاطب بالكلام الواقع فيه يعتقد أن المتكلم مشرك لصفتين، أو أكثر في موصوف واحد، أو لموصوفين فأكثر في صفة واحدة، والمخاطب بقصر القلب يعتقد أن المتكلم بعكس الحكم، وما نحن فيه ليس كذلك كما لا يخفى قلت: هذا مما اعترف بوروده بعض الفضلاء وفي شرج الفاضل المحقق ما يشير إلى الجواب عنه بأنه غير لازم، وإن ترك القوم بيانه في كتبهم، والشارج المحقق جعل قصره قصر إفراد وتبعه فيه السيد السند ولم يجزم به لاحتمال كونه قصر قلب لأنّ ابتداءهم بأسماء آلهتهم لما كثر وقوعه منهم على الإنفراد قلبه الموحد، ثم إنّ اعتبار مخاطب لكل موحد غير من خاطبه في غاية التكلف وتوجيه السعد رحمه الله له بأن المشركين لما كانوا يبتدؤن بأسماء آلهتهم كان مظنة أن يتوهم المخاطب أن سائر الناس كذلك تعسف بعيد، وقال قدس سره: التقديم من المشركين لمجرّد الاهتمام لا للإختصاص، فوجب على الموحد أن يقصد قطع شركة الأصنام لئلا يتوهم تجويز الابتداء بأسمائها، وكتب في حواشيه أنه لردّ السؤال السابق وهذا القدر كاف في قصر الأفراد إذ لا يجب أن يكون معتقداً للشركة بل ربما كان متوهما وهنا مظنة توهم الشركة، وأورد عليه أنه ادّعاء منه مخالف لما صرح به أهل المعاني إلا أن يقال أنه ليس قصر أفراد على الحقيقة بل على التشبيه، وتنزيله منزلته.
(وأنا أقول) : ليت شعري ما الداعي لما ارتكبوه من التكلفات مع إمكان جعله قصرآ حقيقيا ولو ادّعائيا حتى لا يحتاج فيه إلى مخاطب ولا إلى اعتقاده فمرد الموحد التبرك في أفعاله باسم الله لا اسم غيره وهو يتضمن الردّ على المشركين فإياك من الوقوف في حضيض التقليد إذأ أمكنك الصعود لقصر التحقيق المشيد، وأمّا توهم التنافي بين قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} وبين الاستعانة باسمه في البسملة الكريمة بناء على أنّ الباء للاستعانة فما لا ينبغي أن يذكر وان تكلف له بعض المتأخرين بأنه هنا استعانة توسل، والمنفي ثمة استعانة تحصل المستعان فيه، ثم إنه قال(1/34)
في الكشاف: فوجب على الموحد أن يقصد معنى اختصاص اسم الله بالابتداء، وذلك بتقديمه، فأورد عليه أنه لا يناسب ما هو بصدده من ترجيح تقدير أقرأ مؤخرأ ولذا قيل
إنّ المصنف حذفه لذلك وان وجه بأنه إشارة إلى جواز تقدير ابتدىء أيضا، وبأنه أراد ابتداء الفعل الذي شرع فيه كالقراءة لا مفهومه الحقيقي وقد قيل إنه إيماء إلى دفع مناقشة أخرى وهي كيف يكون قصر الموحد ابتداء قراءته، ونحوها باسمه تعالى ردا على المشرك الذي لا يقرأ أبدا وانما يصير ردّاً عليه لو حصر مطلق الابتداء، وقد مرّ أنه يكفي فيه التوهم فيذكره ثم إنه أورد على قول الزمخشري وغيره أنّ تقديم الفعل في قوله: (اقرأ باسم ربك) أوقع لأنها أوّل ما نزل، فالأمر بالقراءة فيه أهم كما مر أنّ هذا العارض وان كان يقتضي أن يكون الأمر بالقراءة أهم إلا أنّ العارض الأوّل وهو ابتداء المشركين باسماء اكهتهم يقتضي أن يكون اسم الله تعالى أهم، فأنى يرجح هذا على ذاك وكان السكاكي نظر إلى هذا حيث جعله متعلقاً باقرأ الثاني، ويمكن أن يقال لما تعارض العارضان قدّم العامل على المعمول بحكم الأصالة انتهى.
(قلت) : الظاهر أنّ المراد أنه نازل أوّلاً على النبيّ الأميّ صلى الله عليه وسلم فأمر فيه بالقراءة ليتدرّب
لتلقي الوحي من غير قصد إلى أمره بتبليغ ولا إنذار حنى يقصد فيه الردّ على من خالفه ولذا قال صلى الله عليه وسلم: ما أنا بقارىء) 1 (فلا حاجة إلى ما ادّعاه مما لا يقتضيه المقام ولا فحوى الكلام فتدبر. قوله: (وأدخل في التعظيم الخ) من قولهم هو حسن الدخلة، والمدخل أي المذهب في أموره من دخل بمعنى جاز، والمعنى أنّ دلالة وتسببا في تعظيمه، وأتى بأفعل لأنّ الابتداء به والتبرك فيه تعظيم له فإذا قدم على متعلقه المقدر كان أقوى في ذلك وقيل في تعظيم الاسم تعظيم المسمى. وقوله: (وأوفق للوجود من وفق أمره) أي وجد موافقا أو حسن كما في شرح أدب الكاتب لا من وافقه حتى يكون على خلاف القياس، والمراد بكونه أكثر موافقة للوجود أي لما في الخارج أو نفس الأمر أنّ اسمه تعالى مقدم على القراءة والمقروء، فتقديمه على عامله المقدر أوفق من تأخيره تقديرا، وقيل: لأنّ ذات واجب الوجود قبل كل موجود واسم السابق سابق فتدبر فإن قوله إن اسمه تعالى مقدّم على القراءة يأباه، ثم إنه أيد ذلك بوجه يدل على مغنى الباء ويدخل به لتفسيرها، وهو قوله كيف لا الخ ولفظة لا سقطت من بعفى النسخ فقدّرها بعضهم أي كيف لا يكون اسمه تعالى مقدما على القراءة، وقد تقدم عليها بالذات، ومن حيث الكمال والاعتداد بها شرعا لأنها جعلت آلة، وهي لا بد من تقدمها في الوجود. وقوله:) من حيث الخ) بيان لجعلها آلة على أنّ الباء للإستعانة والظرف لغو باعتبار أنّ الفعل لا يتم ويعتد به شرعا ما لم يصدر بالتسمية أي تجعل في أوّله لأنّ الصدر إستعير للأوّل اسنعارة مشهورة حتى صار كأنه حقيقة فيه فمعنى كونه ا-لة له توقفه عليه حتى كأنه فعل به، فلا يرد عليه أنّ مذهب الشافعية أنها من الفاتحة فلا يناسب جعلها للآلة المغايرة لما يستعان بها فيه ولا أنّ الآلية تقتضي الامتهان فلا يلائم التعظيم والآلة هي الواسطة بين الفاعل ومنفعله في وصول الأثر
إليه وقوله ما لم يصدر أي جميع أوقات عدم التصدير فتدبر. قوله: (لقوله عليه الصلاة والسلام كل أمر الخ) الأبتر هو الناقص الآخر والمقطوع الذنب ولذا قيل لمن لا عقب له أبتر واستدل بالحديث على ترجيح الآلة لدلالته على عدم التمام بدونها التزاما بخلاف المصاحبة فإنها لا دلالة لها على ذلك فلا توافق معنى الحديث وفي طبقات السبكي رحمه الله روى ابن ماجة عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه عليه الصلاة والسلام قال: " كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بالحمد لله فهو، دطع " (2) ورواه البغوي بحمد الله والكل بلفظ " أ-دطع) وعن ابن شهاب " أجذم " وأدخل الفاء في الخبر وليس في أكثر الروايات، وقد يروى " كل كلام " وجاء موضع أقطع أجذم وأبتر، وجاء الجمع بينهما، وجاء موضع يبدأ يفتتح، وموضع الحمد الذكر، ويروى أيضا ببسم الله الرحمن الرحيم، وقد وقع الاضطراب في هذا الحديث سنداً ومتناً، ثم قال: والحمل على الذكر الأعم أولى لأنّ المطلق إذا قيد بقيدين متنافيين لم يحمل على واحد منهما ويردّ إلى أصل الإطلاق، ثم إنّ الحديث في فضائل الأعمال فيغتفر فيه ذلك لا سيما وقد تقوّى بالمتابعة معنى إلى آخر ما فصله، فقول ابن حجر رحمه الله: إنا لم نجده بهذا اللفظ، فكأنه رواية بالمعنى
وقريب منه(1/35)
ما في الكشف لا يلتفت إليه، فإنّ من حفظ حجة على من لم يحفظ، وفي لفظ أبتر مبالغة في نقصانه حتى كأنه سرى لآخره وقيل فيه ترك للمبالغة فإنّ الحيوان المقطوع الرأس منتف بالكلية لا المقطوع الآخر والبال الشأن والحال وأمر ذو بال أي شريف عظيم يهتم به والبال القلب في الأصل كأنّ الأمر ملك قلب صاحبه لاشتغاله به، وقيل: شبه الأمر العظيم بذي قلب على الاستعارة المكنية والتخييلية، والوصف به تقييدي لتعظيم اسمه تعالى حيث ابتدىء به في الأمور المعتد بها دون غيرها، وللتيسير على الناس في محقرات الأمور، والتصدير عرفي أو شامل للحقيقي، والإضافي فلا تعارض بين الروايات، وشهرته تغني عن ذكره. قوله: (وقيل الباء للمصاحبة) اختار كونها للاستعانة مخالفا للزمخشريّ في ترجيح المصاحبة لأنها أعرب وأحسن.
قال قدس سره: أمّا أنها أعرب أي أدخل في لغة العرب أو أفصح أو أبين فلأن باء المصاحبة والملابسة أكثر في الاستعمال من باء الاستعانة لا سيما في المعاني وما يجري مجراها من الأفعال وأمّا أنها أحسن أي أوفق لمقتضى المقام، فإن التبرك باسم الله تعالى تأدّب معه وتعظيم له بخلاف جعله آلة فإنها مبتذلة غير مقصودة بذاتها، ولأنّ ابتداء المشركين بأسماء آلهتهم كان على وجه التبرك فينبغي أن يردّ عليهم في ذلك ولأن الباء إذا حملت على المصاحبة كانت أدل على ملابسة جميع أجزاء الفعل لاسم الله منها إذا جعلت داخلة على الآلة، ولأنّ التبرك باسم الله معنى ظاهر يفهمه كل أحد ممن يبتدىء به والتأويل المذكور في كونه آلة لا يهتدى إليه إلا بنظر دقيق، ولأنّ كون اسم الله تعالى آلة للفعل ليس إلا باعتبار أنه متوسل إليه ببركته فقد رجع بالآخرة إلى معنى التبرك، وقد أيد الوجه الأوّل بأنّ جعله آلة يشعر بأن له زيادة مدخل في الفعل ويشتمل على جعل الموجود لفوات كما له بمنزلة المعدوم ومثله يعد من محسنات الكلام انتهى، وقد أيد الثاني أيضا بأن جعل اسمه آلة لقراءة الفاتحة لا يتأتي على مذهب من يقول بأنّ البسملة من السورة، ومنهم المصنف رحمه الله فاللائق جعل الباء للمصاحبة ومما يستأنس به للمصاحبة كما ذكره البلقيني في تفسيره ما روى في السنن عنه عليه الصلاة والسلام من قوله: " باسم الله الذي لا يضرّ مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم ") 1 (. فإنّ قوله مع اسمه صريح في إرادة المصاحبة.
(أقول) : كل ما ذكر أمور اقناعية غير مسلمة ولذا كرّ عليها بالإبطال في الحواشي 0
فقيل: على الأول: إثبات الأكثرية دونها خرط القتاد وباء الاستعانة تدخل كثيراً على المعاني كما في قوله:) اسنعينوا بالصبر والصلاة (اسورة البقرة: 153] وإنما نشأ هذا التوهم من تمثيلهم في الآلة بالمحسوسات، وليس كل استعانة بآلة ممتهنة ولا شك في صحة
استعنت بالله، وقد ورد في لسان الشرع وهو إذن في إطلاقه، فلا يقال إنه موهم للنقصى فلا يصح هنا وقد يقال إنّ اكثرية علمت بنقل الثقات وقد قال سيبويه رحمه الله تعالى أصل معاني الباء الإلصاق وجميع معانيها ترجع له وهو إن لم يكن عين المصاحبة فليس ببعيد منها فتأمله. وأمّا الثاني: وهو أنّ التبرك باسم الله تعالى تأذب الخ فردّ بأنّ جهة الابتذال غير ملحوظة
هنا بل الملحوظ كون الفعل غير معتد به شرعا ما لم يصدر باسمه تعالى كما مرّ وهو يعارض التبرك بل أرجح منه، وفي الانتصاف أنّ معناها اعتراف العبد في أوّل فعله بأنه جار على يديه وأنّ وجود فعله بقدرة الله وايجاده لا بفعله تسليما لله من أوّل الأمر والزمخشرفي لا يستطيع هذا لنزعات الشيطان الاعتزالية، وليت شعري ما يصنع بقوله: {وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} إذ المراد أنه لا يطلب المعونة إلا من الله والتوفيق على عبادته في جميع أحواله ولا يلزم من كون الله معينا ما تصوّر في القلم كأنه يقول اقرأ باستظهاره ومكانته عند مسماه، وفي الحقيقة هو المعين في كل جزء كما قاله الطيبي رحمه الله ولا يتوهم اتحاد المستعان والمستعان به، أو عدم الفرق بينهما كما قيل، وقيل عليه: إنه تعصب لأنه يريد أنّ في التبرك تعظيما وتكريما ليس في الآلة وان لم يدل على التحقير واللفظ الدال على التعظيم في حقه تعالى أولى من غيره مما لا يدل عليه أو يوهم خلافه، وإن كان معناه صحيحاً ثابتاً له ألا ترى أنه لا يقال خالق الخنازير وان كان خالق كل شيء، ولك أن تقول التبرك ليس معنى الباء كما سيأتي، وما ذكر إنما هو فيما يدل على الآلة وضحعا بالمادّة، كلفظ ا-لة أو بالهيئة كمفتاح، فإنه لا يطلق عليه تعالى، ولذا استقبح ابن رشيق في العمدة(1/36)
قول أبي تمام:
والله مفتاح باب المعقل الأشب
أمّا الحروف الداخلة على الآلة إذا دخلت على ما يتعلق به تعالى بطريق المشابهة المكنية، وقامت القرينة على وجه الشبه لا نقص فيه فلا مانع من الحمل عليه إذا قصد به ما يدل على التعظيم، وايهام ما لا يليق وان كفى مرجحا إلا أنه مغتفر لبعده وظهور قرينة ضده فإذا ساعده المرجح رجح.
وأما الثالث: وهو أنّ المشركين كانوا يبدؤن بأسماء اكهتهم للتبرك الخ فغير مسلم بل
كانوا يقصدون الاستعانة أيضا لعدها وسايط يتقرّب بها إليه تعالى وهذا شبيه بالآلة.
وأما الرابع: وهو إنّ المصاحبة أدل على ملابسة جميع أجزاء الفعل الىخ فقد مر أنّ اقرأ
يدل على ذلك دون ابتدىء ولا يلزم من مصاحبة شيء لشيء ملابسته لجميع أجزائه في جميع أزمانه، والآلة لا بد من وجودها إلى آخر الفعل والا لم يتم، وفيه أن تقدير أقر، إذا دل على ذلك فمع ما يدل على المصاحبة يكون أظهر ولذلك قال أدل وأمّا الخامس وهو أن التيرك معنى ظاهر الخ فإن أراد أنّ المصاحبة معنا. التبرك، فظاهر البطلان لأنه لا تبرك في نحو دخلت عليه
ا / م هـ
بثياب السفر وقد مثلوا لها برجع بخفي حتين ومعناها خائباً كما صرحوا به فكيف يتوهم التبرك فيما هو بمعنى الخيبة، وإن أراد أنه يفهم منها بالقرينة إذ لا معنى لمصاحبتها لجميع الفعل إلا مصاحبة بركتها فلك أن تقول تلك القرينة باقية بعينها، فتفيده إذا قصد الآلة لتوقف الاعتداد بها شرعا عليها، وأما كون التبرك معنى ظاهراً لكل أحد، فغير مسلم أنه مأخوذ من خصوص معنى المصاحبة كما عرفت فما قيل عليه من أن العمدة والنظر للخواص، والعوامّ كالهوامّ، والدقة من أسباب الترجيح لا الرد مما لا حاجة إليه وإن ردّ بأنه ذهول عن المراد فإنه ينادي على أنّ كل أحد من الخواص والعوام والبله والحذاق مأمورون بذلك من الشارع فلو لم يكن معناه مكشوفا لكل أحد لكانوا مأمورين بما لم يعرفوه وهو بعيد جداً.
وأمّا السادص: فإنّ ما يفتح به الشيء لا مانع من كونه جزأ له كالطومار والكتاب يفتح
بأوّل أجزائه، وقد مرّ أنّ الفاتحة مفتتح القرآن مع كونها جزأ بلا خلاف، ولو سلم فجعلها مفتتحاً ومبدأ بالنسبة لما عداها وأمّا الاستئناس بالحديث فقد قيل عليه: إن المراد بما في الحديث الإخبار عن أنه لا يضر مع ذكر اسمه شيء من مخلوق، والمصاحبة تستدعي أمراً حاصلاَ عندها نحو جاءكم الرسول بالحق والقراءة لم تحصل حينئذ فتعذرت حقيقة المصاحبة فيه، ولا وجه له فإن المصاحبة هنا ليست محسوسة، وكونها إخباراً بنفي صحبة الضرر يفهم منه صحبة النفع والبركة كما لا يخفى، والمراد بالبركة دفع الوسوسة عن القارىء مع جزيل الثواب كما قاله ابن عبد السلام رحمه الله، فلا يتوهم أنّ القرآن أشرف من البسملة فكيف يطلب له بركتها، وقيل: الباء للإلصاق، وقيل: بمعنى على وقيل زائدة ومن الغريب ما قيل إنها قسمية.
(وأعلم) : أنّ الجمهور على أنّ الظرف إذا كانت الباء للملابسة والمصاحبة ظرف مستقرّ
فإذا كانت للاسنعانة والآلية لغو لأنّ مدخونها سبب للفعل متعلق به بواسطة الباء من غير اعتبار معنى فعل آخر عامل في الظرف وجوّز الرضى، وصاحب اللباب اللغوية على الأوّل أيضاً قال في اللباب: ولا صادّ عندي من الإلغاء كما في باء الاستعانة وقال الفاضل الليثي: إنه إذا قصد بباء المصاحبة مجرّد كون سول الفعل مصاحبا لمجرورها زمان تعلقه به من غير مشاركة في معنى العامل، فمستقرّ ني موضع الحال وان قصد مشاركته فيه فلغو ويؤيده التمثيل بإشترى الفرس بسرجه لاحتماله لكلا المعنيين، فعلى أحد الوجهين يكون مشترى دون الآخر بخلاف نحو نمت بالعمامة، فإنه لا يحتمل اللغوية وكذا ما نحن فيه إذ لم يقصد إيقاع القراءة على اسم الله وفيه نظر ظاهر لمنعه خصوصاً على مذهب المصنف وقد قيل عليه أيضاً أنّ المصاحبة إفما هي المعنى الأوّل، وأما الثاني فهو معنى الإلصاق وليس بشيء إذ الإلصاق لا ينافي المصاحبة خصوصاً على مذهب القائل بعدم انفكاكه عنها وقولهم متبركاً ليس لبيان المتعلق بل بيان لمعنى الملابسة، وعلى الد صاحبة تعنقه بالفعل إلمقذر معنويّ لا صناعيّ، فهو متعلق بحال هو قيد له
فكأنه متعلق به إلا أنه لا يلائم ظاهر كلامهم، واختلافهم في تقدير عامل عام أو خاص كما مرّ، وكيف يتأتى هذا في قول الكشاف تعلقت الباء بمحذوف تقديره بسم الله اقرأ انتهى.
وليس المقصود بالحصر حينئذ التبرك(1/37)
على معنى أني لا أبدأ إلا متبركا بل حصر التبرك
في اسمه تعالى لأنّ دخول الحصر على مقيد كدخول النفي في وجوهه. قوله: (والمعنى متبركاً الخ) هو بيان للمعنى على الثاني لأن المصاحبة وإن كان معناها مجرّد لملابسة لكنها بمعونة قرائن المقام محمولة على الملابسة بطريق التبرك، ولا يصح رجوعه إليهما بناء على أنّ كونه اسم اكة ليس إلا باعتبار التوسل ببركتة فيرجع بالآخرة إلى هذا كما يعلم من الكشاف وشروحه: وليس المراد أنّ الباء صلة التبرك كما توهم بل هو تصوير للمعنى، وبيان للملابسة فإنها تكون على وجوه شتى فلا يرد أنّ التبرك لم يعد من معاني الباء أصلاً، وما قيل من أنّ الباء موضوعة لجزئيات الملابسة، ومنها التبرك فحملت على بعض معانيها بقرينة المقام بشيء لأنه لا يلزم من 6لصاف بعض جزئياتها بالتبرك كون التبرك موضوعا له لأنه وضع لذوات الجزئيات لا لصفاتها كما لا يخفى، ثم إنّ الشارح المحقق قال في شرح قول الزمخشري هنا على معنى متبركا يعني أنّ التقدير ملتبساً باسم الله ليكون المقدر من الأفعال العامة لكن المعنى بحسب القرينة على هذا، فلهذا يجعل الظرف مستقراً إلا لغواً انتهى.
فقيل عليه: إنه مبنيّ على أنّ المقدر في الظرف المستقرّ عام البتة وان كان المعنى على الخصوص، فيناقض ما سبق مته من أنّ النحويين إنما يقدرون متعلق الظرف المستقرّ عاما إذا لم توجد قرينة الخصوص، ودفع بأنه لا مناقضة لأنّ العموم الذي نفى لزومه في متعلق الظرف المستقرّ هو العموم المطلق البالغ الغاية، كما أنّ الكون والحصول الذي دل كلامه هنا على لزومه هو العموم بالإضافة إلى متبركاً ونور، بأنّ هذا القسم من الظروف سمي مستقرّاً لاستقرار معنى المتعلق فيه وانفهامه منه وكل ظرف يفهم مته حصول شيء ما فيه، فبعضها ما لا يفهم منه إلا ذلك كزيد في الدار وبعضها يفهم مته خصوصيته بوجه كزيد على الفرس، وفيما نحن فيه ليس للظرف نفسه دلالة على التبرك فلو قدر متعلقه متبركا خرج عن كونه مستقرّاً بخلاف ما إذا قدّر ملتبساً مع أنّ فيه أيضاً خصوصية بالنسبة إلى كائن وحاصل، فإنه لا يخرج عن كونه مستقرّ الانفهام معنى ملتبساً منه، ويدل عليه جعله ملتبساً من الأفعال العامة انتهى ولا يخفى أنّ هذا وإن حصل به التوفيق بين كلاميه إلا أنه معنى معقد من غير فائدة ولذا اعترف بعض الفضلاء بأنه واود غير مندفع فتدبر. قوله: (وهذا وما بعده الخ) هذا راجع إلى الوجهين السابقين كما نبه عليه كثير من أصحاب الحواشي وهو الأظهر، فإن خص بالثاني لذكر التبرك ونحوه على أنه من مقول قيل، فالوجه الأول يعلم أمره بالمقايسة على الثاني إلا أنّ بيان متعلقات ما مرّضه وترك ما اختاره بعيد، وهذا جواب سؤال نشأ مما مرّ، فإنه بحسب الظاهر لا يليق بجناب العزة أن يقول أقرأ متبركا وكذا الاستعانة ونحوها، والتبرك مفهوم من البسملة لأن الاستعانة لا تخلو عنه أيضاً
والحمد من قوله الحمد لله وكونه على نعمه من قوله رب العالمين الرحمن الرحيم لا لأن الحمد في مقابلة النعمة والسؤال من فضله من قوله: {اهْدِنَا} الخ ويعلم منه أيضاً بقية ما فيها، فلا يرد عليه أنه لم يتعرّض لقوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} حتى يتكلف ادخاله فيما ذكر. قوله: {لِيَعْلَمُواْ} الظاهر أنه بالتخفيف من العلم، ويجوز أن يكون من التعليم ونقل الطيبيّ رحمه الله تعالى عن الزمخشرفي أنه قال: مثاله إذا أمرك إنسان أن تكتب رسالة من جهته إلى غيره فإنك تكتب كتبت هذه الاً حرف، وانما تفعله على لسان آمرك، وليس فيه قل مقدرة كما يتوهم إذ المراد أنه تعالى حمد نفسه ليقتدى به ومدح النفس، وان استقبح من العباد يحسن منه تعالى كما قيل: ويقبح من سواك الشيء عندي وتفعله فيحسن منه ذاكا
مع أنه ليس كذلك مطلقا ولذا قال يوسف عليه الصلاة السلام: {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف: 55] وقال البلقيني رحمه الله: إنّ جعله مقولاً على آلسنة العباد نزغة اعتزالية لم يتنبه لها من اتبعه، فقيل: إنه باطل وقيل: وجهه أنّ المعتزلة يقولون أنه يكلم الله خلقه الكلام على لسان غيره فتدبر، وقوله في الكشاف هنا: فكيف قال الله متبركا باسم الله الخ وهي ليست من السورة عنده ظاهر لمن له أذن واعية. قوله: (كيف يتبرك الخ) يتبرك بصيغة المجهول أي يتبرك العباد، ومعنى كيف يتبرك كما قاله الشريف بأي عبارة يتبركون فلا يرد أنّ ما ذكر تعليم للتبرك باسمه لا لكيفية التبرك به انتهى.
يعني أنّ الإستفهام هنا حقيقي(1/38)
وهو عن التبرك، فإنه إنما يكون في كلام العبد لا في كلام
الله تعالى، فكيف استفهم عن كيفيته دونه، فأشار إلى أنّ المراد بالكيفية العبارة المخصوصة لأنها لباسه الذي يبرز فيه، فكأنها كيفية وحالة، فما قيل من أنه استفهام إنكارفي استعيرت صيغته للاستبعاد لأنّ الإنكار مجاز مشهور، وتعلق الإستفهام سواء كان إنكارا أو استبعادا بمدخول كيف واقحامه للمبالغة بطريق الكناية عن انتفاء الشيء بانتفاء كيفيته إذ لا بد لكل ماله خطر- من الوقوع على كيفية مّا على ما حقق في تفسير قوله تعالى: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ} [البقرة: 28] ومن لم يتنبه لهذا اعترض بأنه تعليم للتبرك لا لكيفيته، كما سمعته آنفا ليس بشيء لأنه استفهام حقيقيّ لا إنكاريّ حتى يحتاج لما ذكر، وكذا ما قيل من أنه ليس المراد بالكيفية العبارة بل أي كيفية متبرك بها من اعتبار تقديم المتعلق وتأخيره، والدلالة على الاختصاص وغيره، وفيه أنّ ذلك التقديم والتأخير في النص ليس بحسب اللفظ، فإن علم العباد ما يوجب اعتبار هذا التقديم والتأخير، فلا حاجة إلى تعليم تلك الكيفية، وان لم يعلموه لم يعلموا ذلك التقديم والتأخير، فكيف يكون فيه تعليم لهم، فإنه تعسف من غير داع له، وقريب مته ما قيل: من أنه لا خفاء في أنّ ما ذكره يشتمل على التبرك باسمه تعالى بملى وجه معين وكيفية مخصوصة، وبهذا الإعتبار يصح أن يقع جوابا للسؤال عن كيفية التبرك من غير احتياج لاعتبار العبارة، وصرفه للسؤال عنها وهذا غريب منه فإنه عين ما أفاده الشريف إلا أنه
كما قيل:
إذا محاسني اللاتي أدلّ بها كانت عيوبي فقل لي كيف أعتذر
ثم إنّ التبرك بتقديم اسمه لا ينافي تقدّم لفظ اسم إذ المراد منه بعد الإضافة اسمه تعالى
إذ الإضافة إن كانت لمطلق الاختصاص شمل أسماء الذات والصفات فيفيد التبرك بجميع أسمائه، ويعلم منه وجه إقحامه ورجحه بعضهم، وإن كانت للاختصاص الوضعي الكامل يختص بلفظ الله لأنه اسم وضع للذات، وما عداه أسماء صفات وأما الباء فهي وسيلة إلى ذكره على وجه يؤدّي إلى جعله مبدأ للفعل فهي تتمة لذكره على الوجه المطلوب. قوله: (وإنما كسرت الخ) أي حروف المعاني الموضوعة على حرف واحد، وحروف المعاني ما يقابل الأسماء والأفعال، وحروف المباني ما تركب وبني منه الكلم، ولما كان البناء لا يختلف بتعاقب العوامل كان أصله السكون لخفته، فإنّ الدائم بالخفيف أولى، وأيضا أصل الإعراب أن يكون وجوديا لكونه أثر العامل وعلما للمعاني، فحق مقابله أن يكون عدميا، وقد امتنع البناء على السكون في الحروف التي جاءت على حرف واحد لأنها من حيث كونها كلمة برأسها مظنة للابتداء بها، وقد رفضوا الابتداء بالساكن لتعذره أو تعسر. كما سيأتي بيانه فحقها أن تبني على الفتحة التي هي أخت السكون في الخفة، وان كانت الكسرة أختا له في المخرج لأنها اً دوات كثيرة الدور على الألسنة فاستحقت الأخف كما قاله الشارح المحقق، وبقوله كثيرة الدور الخ اندفع عنه ما قيل من أنه معارض بأنّ الكسر يناسب العدم بقلته، والساكن إذا حرك حرك بالكسر إلا أنه قيل عليه أن لا مخرج للسكون يوأخى فيه فقيل: إن أراد أنّ السكون ليس له مخرج، ومخرج الكسرة لضعفه قريب من العدم مناسب له أو المراد أنّ مخرج الحرف الساكن يناسب مخرج الحرف المكسور، ولا يخفى عليك ضعف الجواب الأوّل وفساد الثاني ولو قيل: المخرج في كلامه مصدر ميمي بمعنى الخروج لا المخرح المعروف يعني أنّ الأصل في الخروج من السكون والتخلص منه أن يكون بالكسر كما صرح به النحاة لم يبعد فتدبر. قوله: (لاختصاصها بلزوم الحرفية الخ) في الكشاف لكونها لازمة للحرفية والجر والمصنف رحمه الله عدل عنه لما ذكره فزاد الاختصاص وغير لازمة بلزوم الخ كما رأيته ومناسبة الحرفية للكسر لأنّ الأصل فيها البناء وأصله السكون الذي هو عدم الحركة والكسر قليل، والقلة أخت العدم، وأما الجرّ فلمناسبته لعمله وأثره، وقد اقتصر بعضهم على الثاني قيل: وهو الأظهر.
وقد اعترض على ما في الكشاف بأنها ليست لازمة لهما بل ملزومة فالصواب أن يقال ملزومة للحرفية والجر، ولذلك غير المصنف رحمه الله عبارته لأنّ اللزوم مصدر مضاف لفاعله، فالحرفية والجر لازم لا ملزوم، ومن لم يتنبه له أوّل عبارته أيضاً بناء على أنه مضاف إلى(1/39)
المفعول ثم قال: ويحتمل أن تكون الإضافة للفاعل، وتبعه القائل بأن إضافة اللزوم للمفعول، فالحرفية والجر ملزومة واللازم الباء ولم يضف اللزوم للباء إذ بعد إضافته إليها لا
يحس القصر عليها لأنه لا يتصور أن يتجاوز لزوم الباء إياهما عن الباء، فيحتاج إلى التكنف والتجريد عن تلك الإضافة بأن يراد أنّ عدم الإنفكاك عن الأمرين مقصور على الباء، وقيل: إلى الفاعل ونظيره ما ضرب زيد إلا لعمرو، وهو من قصر الفعل المسند إلى الفاعل على المفعول، وردّ بأن القصر منحصر في قصر الموصوف على الصفة، والصفة على الموصوف، والضرب المسند إلى زيد وإن اعتبر تعلقه بالمفعول ليس صفة لعمرو وإلا أن يقال: إنّ الضرب المذكور صفة لزيد لكنه بحسب تعلقه بعمر ويحصل له صفة اعتبارية، كما في الوصف بحال المتعلق والقصر باعتباره، وسيأني ما في الاختصاص الذي زاده المصنف رحمه الله، وقد أجيب عما ذكر من اللزوم بأنّ المراد باللازم للشيء هنا ما لا يفارقه كما يدل عليه تقسيمهم العارض إلى لازم ومفارق، ومعنى عدم مفارقة شيء لآخر أن لا يوجد الثاني بدونه لا العكس، ولذا صح انقسام اللازم إلى الأعم والمساوي، وكتب اللغة ناطقة به كما في الصحاح والأساس وعليه قوله تعالى: {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى} [الفتح: 26] فمرجع اللزوم لغة إلى عدم الإنفكاك، وهم يقولون لزم فلان بيته إذا لم يفارقه، فلا يخلو البيت منه، ويلزمه عدم خروجه عنه، وهو معنى كنائيّ، ومنه قولهم أم المتصلة لازمة لهمزة الإستفهام فمن قال: إنّ ما ذكر معنى اللازم الاصطلاحي، وله معنى آخر لغويّ فقد وهم، وما قيل: إنّ ما ذكر لا يدفع الإعتراض، وإن الصواب في دفعه أن يقال: إنّ اللازم بمعنى الملزوم مجازا مبالغة في اللزوم، وقد نبه عليه السعد بتفسيره لازمة بملاصقة غير منفكة عنهما، فلا توجد بدونهما كما هو معنى اللزوم في اصطلاح الحكمة إلا أنه لم يصب في زعمه أنه معنى اصطلاحيّ لا لغويّ ليس بشيء لأنّ عدم الدنع مكابرة معلومة مما نوّرناه والمجازية هنا فاسدة لعدم القرينة المصححة له، ولا حاجة له مع أنه مآل المعنى اللغوي الحقيقي، كما اعترف به، والتخريج على متعارف أهل اللغة أنسب مع أنه قيل عليه: إنه غير مطابق لمصطلح الحكمة لأنه لا يلزم أن يكون كل حرف جار باء لأنهئم إذا قالوا الكتابة لازمة للإنسان، أرادوا أنه كلما وجد الإنسان وجدت الكتابة، وهو فاسد هنا، وتكلف بعضهم توجيهه بما نحن في غنية عنه.
(والذي نصححه) : ما في حواشي بعض الفضلاء العصريين من أنّ الصحيح من نسخ
شرح الفاضل التفتازاني على ما هو معنى الملزوم في اصطلاح الحكماء بصيغة المفعول، وما في بعض النسخ من معنى اللزوم بصيغة المصدر لا صحة له وواية ودراية فإن قلت: إن الباء تكفّ بما عن العمل كما في حرف الميم من مغنى اللبيب فكيف يتم أمر اللزوم قلت: كأنه لقلته بالنسبة لعملها جعل كالمعدوم، أو أنه الأصل ما لم يعارضه معارض فتدبر واللزوم أحد المصادر التي جاءت على فعول للمتعذي وهي محفوظة، وأمّا قيد الاختصاص الذي زاده المصنف على الكشاف فذهب ناس إلى أنها زيادة ضارة فتركها أولى وآخرون إلى لزومها أو حسنها لأنّ اللزوم قد يكون عرفياً غير كليّ عقليّ، فأشار بإقحامه إلى أنه كليّ عقليّ، وما قيل
في توجيهه من أنه لا يطلق حرف الجر على غير الباء لا يسمن ولا يغني من جوع وقيل: إنه زيد لئلا يتوجه عليه شيء من النقوض الآتية إذ معناه لامتيازها من بين الحروف باللزوم وظاهر أنه إنما يصح إذا اعتبرت صووة الحرف من حيث دلالتها على معنى مع قطع النظر عن خصوصية نشأت من الإضافة أو غيرها، فإن شيأ من حروف الجر المفردة من حيث هو حرف لا ينفك عن الحرفية والجر فيلزم أن تكون كلها مكسورة، فلا بد من قطع النظر عن الخصوصية والباء داخلة على المقصور كما هو المشهور وكل من الحرفية والجر مناسب للكسر كما مرّ ثم إنه قيل إنهما وجهان ونقص الأوّل بواو والعطف وفائه اللازمتين للحرفية والثاني بكاف التشبيه اللازمة للجر، وقيل: هما وجه واحد فاندفع النقضان لكن بقي النقض بواو القسم وتائه ودفع بأنّ عملهما بالنيابة عن الباء فكان الجر ليس أثرهما واحترز بلزوم الحرفية عن كاف التشبيه، وقيل هو مستدرك لأنها لا تعمل الجر إذا كانت اسما إلا أن يقال إنه على قول قوله: (كما كسرت لام الأمر الخ) التثبيه في أنها خالفت الحروف المفردة التي حقها الفتح لعلة اقتضت المخالفة، وهي هنا دفع اللبس المذكور ولام(1/40)
الإضافة هي لام الجر، وبعض النحاة يسمى حروف الجر حروف الإضافة لأن الإضافة إفضاء لإيصالها معاني متعلقها إلى مجرورها ولام الابتداء هي الداخلة على بعض أجزاء الجملة الإسمية سميت بها لدخولها في الابتداء بحسب الأصل كما بينه، وما ذكر لا ينافي فتح غيرها كلام الجواب والقسمية، وكسرت لام الجر لما ذكر مع مناسبة عملها أيضاً وكسرت لام الأمر حملاً عليها لأنها مشابهة لها في مطلق العمل أو في الاختصاص بنوع من الكلم وأثرها يثبه أثرها في كونه من خواص بعض الكلمات، وفتحت الجارة للضمير على الأصل من غير نظر للفرق المذكور لأنه حاصل بجوهر المدخول عليه، ولم ينظر لإعراب مدخولها لأنه قد لا يظهر كما في حالة الوقف ونحوها، وهذا كلام غير مطرد مجمل إذ اللام الداخلة على الضمير قد تكسر إذا دخلت على ياء المتكلم واللام غير العاملة مفتوحة وان لم تكن لام ابتداء كما مرّ ولام الاستغانة والتعجب مفتوحة مع جرها للمظهر، وان وجهوها بأنها واقعة في موقع اللام الجارة للمضمر وهو كاف أدعوك لكن هذه علل نحوية بعد الوقوع كما قيل.
عهدالذي أهوى وميثاقه أضعف من حجة نحويّ
فلا نطيل الكلام فيها. قوله: (والاسم عند أصحابنا الخ) عند ظرف متعلق بالثبوت المفهوم من نسبة الخبر إلى المبتدأ والإعجاز جمع عجز وهو الآخر، وفيه لغات أي هو عندهم محذوف اللام مثتق من السمو وهو الرفعة لأن المسمى يرتفع ذكره باسمه، فيعرف به، واذا جهل اسمه كان خاملاَ، وفي الأمالي الشجرية يقال فلان له اسم إذا كان شهيراً، وأصل اسم سمو كجأع وأجذاع أو فعل كقفل وأقفال أو فعلى كرطب وأرطاب، ومن قال: اسم حذف لامه وسكن فاءه وعوّض همزة الوصل كما في ابق ومن قال سم لم يعوض وقوله أصحابنا إشارة إلى
أنه يقول بقول البصريين بعد من يوافق رأيه رأيه صاحباً له كما يقول الحنفي أصحابنا الحنفية يقولون كذا، وخالفهم الكوفيون، فزعموا أنّ المحذوف فاؤه ومن الوسم والسمة، وهي العلامة وأصله وسم بالكسر أو وسم بالفتح، ويدل عليه تصغيره وتكسيره وفعله وأنك لا تجد في العربية اسما حذفت فاؤه وعوّض عنها همزة الوصل وانما عوّضوا من حذف الفاء تاء التأنيث في عدة وثقة ونظائرهما. قوله: (لكثرة الاستعمال) يعني به أنه حذف لمجرّد التخفيف الذي أوجبه كثرة الاستعمال، فصار نسيا منسيا وما قبله محل للإعراب، وليس حذفا إعلاليا حتى يكون الحرف الأخير منونا والإعراب مقدر عليه واجتلاب الهمزة لا ينافي التخفيف لسقوطها درجا. قوله: (وبنيت أوائلها على السكون الخ) أي استعملت هكذا تخفيفا وان كانت متحركة بحسب الأصل وأصله سمو بالضم أو الكسر، وهذا أحد مذهبي البصريين والآخر أنهم أدخلوا الهمزة على المتحرك، ثم سكنوه تخفيفا ومعنى بنيت صيغت ووضعت لأن البناء في اصطلاح النحاة يطلق على هذا، وعلى ما يقابل الإعراب وليس المراد الثاني لأنه يختص بالآخر وقوله: (وأدخل الخ) لأنّ من دأبهم الابتداء بالمتحرك، وقوله: (مبتد " أي واقعاً في الابتداء منصوب على الحال من ضمير عليها أو من الهمزة لأنهم لما احتاجوا إلى حرف يثبت في الابتداء ويسقط في الدرج دفعا للضرورة بمقدارها لم يجدوا ما يصلح له غيرها وخصوها لقوّتها من بين حروف الزوائد وكونها من ابتداء المخارج وفي قوله دأبهم أي عادتهم إشارة إلى أنّ الابتداء بالساكن ممكن، لكن ترك لما فيه من اللكنة والبشاعة وقد قيل: إنه موجود في لغة العجم وانما ترك لتعسره ولا لتعذره واختاره الشريف وقال غيره الحق أنّ وجوده في الفارسية غير ثابت وان لم يقم الدليل على استحالته والاستدلال على هذا، وعلى كون الحركة مع الحرف أو قبله أو بعده مما لا طائل تحته، وقيل: إن كان السكون ذاتياً كسكون الألف امتنع والا أمكن فالأقوال فيه ثلاثة وانما كان الوقف على الساكن لأنه ضد الابتداء فأعطى ضد وصفه، ولأنه انتهاء وعدم فناسب السكون، والأسماء المذكورة على ما في المفصل أحد عشر اسما ابن وابنة بزيادة الميم للتأكيد، وتيل: هي بدل من اللام واثنان واثنتان وامرؤ وامرأة وايم الله وأيمن الله واسم واست والكلام عليه مشروح في المطوّلات، ولاختلافهم في عددها لاختلاف النظر فيه لم يذكره المصنف رحمه(1/41)
الله كما في الكشاف. والحركة والسكون حقيقة من صفات الأجسام، وهما هنا صفة اللسان وصف الحرف بهما مجازاً، ثم شاع حتى صار حقيقة عرفية أيص. قوله: (ويشهد له تصريفه الخ) بإفراد الضمير للاسم وفي نسخة تصريفهم بضمير الجمع للعرب والتصريف الخويل ومنه تصريف الرياح والمرإد نقله وتحويله إلى صيغ وأبنية مختلفة وأسامي جمع أسماء فهو جمع الجمع ويأوه في الأصل مشددة، ويجوز تخفيفها قياساً مطردا في نحوه كأماني وأثافي، ولهذا رسم بالياء في النسخ، فلا وجه لما قيلى: من أنّ الأصح رسمه بدون ياء كما ني
ياء قاضى إلا أن يكون جمع أسماء فإنه أفاعيل بياءين وهذه اللفظة غير مذكور في الكشاف، وفي نسخ تفسير القاضي كتبت بالياء انتهى.
وسمي مصغر، ولو لم يكن كذلك قيل أوسام ووسيم ووسمت ونحوه وقوله: (ومجيء
سمى الخ) معطوف على قوله تصريفه ولغة بالنصب على أنه حال من سمى أو بنزع الخافض أي في اللغة ففي الاسم لغات اسم بالضمّ والكسر وسم بالضم والكسر أيضا وسمة وسماة مثلثين كما في القاموس وسمى كهدى ورضى ووزن اسم أفع. قوله: (والله أسماك سمى مباركاً الخ البيت) هو لأبي خالد القتاني نسبة إلى قتان بن سلمة بن مذحج وأسماك لغة في سماك المشدد بمعناه، وروى مشذدا أيضا ومعناه وضع له اسماً ويكون بمعنى دعاه باسمه كما في شرج الشواهد، وسمى مفعول أسماك، وهو يتعدى بنفسه وبالباء وآثرك بالمد بمعنى اختصك باسم مبارك أي متبرك به تفاؤلاً كغانم وسعيد وفي شرح الإصلاح لابن جني رحمه الله المعنى آثرك الله بالتسمية الفاضلة، كما آثرك بالفضل، وهو مفعول مطلق للتشبيه كضربت ضرب الأمير، وقيل: إيثارك للمعالي والذكر الحسن، وهو مفعول مطلق على هذا أيضا وقيل هو مفعول لأجله، وقيل: منصوب بنزع الخافض أي كإيثارك، واستشهد به على أنّ سمى كهدى لغ في الاسم، ولا دليل فيه لاحتمال أن يكون على لغة من يقول سما بضم السين غير مقصورة ونصب على أنه مفعول ثان لأسماك، وفي شرح كتاب سيبويه أنه يجوز أن يكون سمى غير مقصورة فألفه ألف تنوين بدليل إنه روى سما بالكسر، ور وى بدل إيثارك تبارك، وهو بيت من أرجوزة لم أقف عليها. قوله: (والقلب بعيدا لأنه خلاف الظاهر وقوله غير مطرد محتمل لمعنيين أحدهما أن يراد أنه شاذ لا يقاس عليه، فلا ينبغي تخريج ما ذكر عليه والثاني أن يراد أنه غير مطرد في جميع تصاريف الكلمة إذ لا تكون كلمة مقلوبة خولف الأصل فيها بالتقديم والتأخير في جميع تصاريفها حتى لو وجد مثله قيل هما مادّتان مختلفتان ليس أحدهما مقلوب الآخر كما في جبذ وجذب كيف، وشأن الجمع والتصغير ونحوهما رذا لشيء إلى أصله، وهذا ردّ الجواب الكوفيين عما ذكر مما استدل به البصريون، وحينئذ لا يرد أنه لم يعهد دخول الهمزة على ما حذف صدره لأنه حينئذ مما حذف عجزه وما قيل من أنه يحتمل أن يراد قلب الواو همزة في أسماء لما في المفصل وغيره، ومن أن إبدال الهمزة من حروف اللين مطرد في المضمومة وغير مطرد في غيرها كما في إشاح، واعاء لا يلتفت إليه أصلاً. قوله:) من السموّ) مشددا كالعلو وزنا ومعنى أي مأخوذ منه على هذا الوجه، والشعار بكسر الشين المعجمة وفتحها أصلها ما يلي شعر الجسد من اللباس، وهو عطف على الرفعة أي لكونه زينة، ومعدا لما يعتني به مما يقصد تعريفه، فاندفع عنه ما قيل عليه: من أنّ الشعار يناسب الوسم والعلامة،
فينبغي ذكره معه وقيل العلامات الحسية مرتفعة في اكثر والاسم يرفع مسماه من حضيض الخفاء إلى الأوح والظهور والجلاء فظهر مناسبته له مناسبة معنوية تراعى في الاشتقاق والاسم ليس هو المقابل للفعل والحرف، بل هو بالمعنى اللغوي الأعم، ولو خص به لم يبعد أيضاً. قوله: (ومن السمة) بكسر السين وهي العلامة والاسم علامة على مسماه حذفت الواو وعوض عنها الهمزة وقيل قلبت همزة على خلاف القياس، ثم جعلت همزة وصل تخفيفاً وقوله ليقل أعلاله علة لكونه من السمة أو للحكم في قوله وأصله وسم أو علة للتعويض، والإعلال هنا بمعنى مطلق التغيير لا الإصطلاحي، وهو تغيير حرف العلة بالقلب أو الحذف أو الإسكان، وقلة تغييره لأنه ليس فيه إلا حذف الواو، وسينه كانت ساكنة وقيل كان الأحسن أن يقول من الوسم لأنّ سين سمة محركة وإنما ذكرها لأنها أشهر في معنى العلامة وليغاير بين المشتق والمشتق منه، ومن قال: إنه(1/42)
من الوسم تسامح أو كسر الواو كما قيل ليتغايرا والمعترض لم يفرق بينهما، وفيل إنّ قوله ليقل إعلاله متعلق بقوله عوض عنها همزة الوصل أي عوضت الهمزة من الواو المحذوفة ليقل تغييره إذ بزيادة الهمزة يجبر نقصان الحذف.
وتلخيصه: أنّ الحذف يجبر نقصان كمية ما يتركب منه الكلمة وانعدام خصوصية حرف
منه وبالتعويض ينتفي الأوّل فيقل التغيير، أو بقوله من السمة والمراد قلة إعلاله بالنسبة إلى كونه من السموّ فإنه على الأول الإعلال في أوّله فقط، وعلى الثاني في أوّله وآخره معاً وفيه تكلف ظاهر انتهى.
ولا يخفى أنّ ما ظنه تكلفاً هو المراد، وما قذمه مشترك بين القولين، فلا وجه لذكره هنا فتدبر. قؤله: (ورذ الخ) قدّم جوابهم عنه وما فيه فتذكره، ولغاته مرّ تفصيلها وأنها تزيد على العشرة، يعني أنّ ارتكاب زيادة الإعلال أحسن من عدم النظير لأنّ المعروف تعويض الهمزة عن اللام المحذوفة، والهاء عن الفاء كعدة وسعة وزنة. قوله: (باسم الذي في كل سورة سمه الخ) هو بيت أو مصراع باعتبار أنه من مشطور الرجز أو تمامه وهو من أرجوزة لرؤبة بن العجاج وبعده:
أرسل فيها بازلاً ضث مه فهوبهاينحوطريقاً يعلمه
الخ والباء متعلقة بأرسل والضمير للراعي أي أرسل الراعي في الإبل جملاً بازلاً للنتاج متبركاً باسم الله الذي برّك به في أوّل كل سورة، ويقرّمه بمعنى ترك استعماله في الركوب والحمل ليقوى الفحل، وهو من التقريم لا الإقرام كما توهم والجملة صفة بازلاً، وقيل: حال
من المرسل فهو أي البازل ينحو أي يقصد بتلك إلا بل طريقاً يعلمه لاعتياد سلوكه، وذكره للإشارة إلى ما في جعل الهمزة عوضاً لما فيه من حذف العو ضوالمعوّض إلا أن يقال من يحذفها لا يقول بأنها عوض، واليه يشير قول المصنف إنها لغة، والبازل البعير الذي انشق نابه وهو في السنة التاسعة وسمه كما في شرح المفصل بكسر السين وضمها كما في سمى البيت السابق ويجوز فتحها، كما في كتب اللغة فسينه مثلثة. قوله: (والاسم إن أريد به الخ) قد اشتهر في كتب الأصول ذكر الخلاف في أنّ الاسم هو عين المسمى أو التسمية أو هو غيرهما، وقد تحير الناس في المراد من ذلك وذكروا له تأويلات لم تظهر لها ثمرة، ولم يتحرّر إلى الآن محل الخلاف ومقطعه، وأشار إلى ذلك المصنف رحمه الله ولم يذكر القول بأنه عين التسمية أو غيرها وإن كان قولاً لبعض المعتزلة لأنه في غاية الضعف والبعد والمراد بالتسمية أيضاً العبارة المعبر بها عن المسمى كما نقل عن الأشعري رحمه الله. وقوله: (فنير المسمى) يعني به أنه لم يتحرّر له محل النزاع لأنه إن أريد بالاسم لفظه فهو غير المسمى بلا نزاع لأنه يتألف من أصوات غير تارة أو من هيآت وكيفيات للأصوات يتميز بها كل صوت من غيره على ما حققه الرئيس في بعض رسائله، والمسمى ليس كذلك دائما، وان اتفق ذلك له في بعضها كالقرآن ونحوه مما اسمه ومسماه لفظاً أيضاً، وان أريد به ذات الشيء، فهو المسمى لكنه لا يصلح محلاً للنزاع، ولا يناسبه ما ذكر في الاستدلال وان أريد به الصفة أو الأعم لا يصح الجزم بأحد طرفيه، وقد أراد السيد السند في شرح المواقف تحرير المبحث فلم يتم له الدست، وقد ذكره برمته وما له وما عليه هنا بعض أرباب الحواشي، فأعرضنا عنه لعدم الفائدة فيه. قوله: (لأنه يتألف من أصوات الخ) الصوت كما قال الرئيس كيفية تحدث من تموّج الهواء المنضغط بين قارع ومقروع، وزعم النظام أنه جسم، وفي التفسير الكبير بعد ما ذكره إبطاله وما أبطلوه به أقول: النظام كان من أذكياء الناس، ويبعد أن يذهب إلى أنّ الصوت نفس الجسم إلا أنه لما ذهب إلى أنّ سبب حدوث الصوت تموّج الهواء ظن الجهال أنه يقول: إنه عين ذلك الهواء انتهى (وأنا أقول) الظاهر أنه إن ذهب إلى أن الصوت هو الهواء المتموّج المنضغط، فلا يرد عليه شيء مما زعمه، وأي مانع يمنع عنه إلا التحكم البحت، وقول المصنف رحمه الله أنّ الاسم مؤلف من الأصوات ظاهر فيه فاندفع عنه ما قيل من أنه تسمح أو رجوع عما اختاره في الطوالع من أنّ الصوت عارض للحرف. قوله: (ويتعذّد) أي الاسم مع إتحاد المسمى كما في المترادفات، واجتماع العلم والكنية واللقب واتحاد الاسم مع تعدد المسمى كما في المشتركات، وهذا كله إثبات لتغايرهما إن أريد بالاسم اللفظ.(1/43)
ق(1/44)
وله: (والمسمى لا يكون كذلك (قيل هو رفع للإيجاب الكليّ كما مرّت الإشارة إليه، والا فسمى
القصيدة والشعر يتألف من أصوات مقطعة غير قارّة، وأورد عليه أنّ الإيجاب الكليّ لا يصدق في حق الاسم أيضاً إذ ليس اختلافه باختلاف الاسم أمرا مطردا، وأجيب بأنّ قوله والمسمى الخ يمكن أن يكون حالاً من الجمل الثلاث يعني يتألف الخ حال كون مسماه ليس كذلك، وهكذا يختلف، ويتعدد الاسم والأحسن أن يقال معنى الكلام إن اسم باعتبار نوعه، وان تحقق فيه بعض منها، فذلك من خصوصية المادّة. قوله: وقوله تعالى ة {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ} [الرحمن: 78] في نسخة {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ} [سررة الأعلى: ا] وهو إمّا إشارة إلى جواب سؤال مقدّر، ورد على قوله لكنه لم يشتهر بهذا المعنى أو إلى الردّ على من ادّعى أنّ الاسم هو الذات مستدلاً بما ذكر كما نجصله الإمام وأشار إليه المصنف رحمه الله لأنّ المتبارك والمسبح هو الذات لا اللفظ الدال عليها فدفعه بأنّ الاسم هنا المراد به لفظه وكما يجب تعظيم ذاته تعالى يجب تعظيم أسمائه وتنزيهها عما لا يليق بها. وقوله: (عن الرفث) أي الفحش، وما يستهجن ذكره، ولا يليق كالتأويلات الفاسدة، واطلاقها على غيره وقيل الاسم مجازفيه عن الذات، وقيل: هو كناية عن تسبيح ذاته كما يقال سلام على المجلس الشريف والنادي الرفيع. قوله: (أو الاسم فيه مقحم الخ) في الأصل اسم مفعول من أقحمه إذا أرما. أو أدخله في شيء ثم تجوز به عن الزيادة وشاع فيها فقيل لكل مزيد مقحم، ولا شعاره بالتحقير تحاشوا عن إطلاق الزيادة والإقحام على ما وقع في كلام الله تأدّبا فسموا الزائد صلة، وتفسيره بما أدخل تعسف من غير ضرورة واحتياج وغير مناسب هنا إلا أن يريد بيان ما وضع له بي نفسه وهذا جواب آخر عما استدلوا به من أن الاسم هو المسمى بما ورد في النص من نحو قوله: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ} [، الأعلئ الآية: ا] وتأخيره إشارة إلى أنّ الأصل عدم الزيادة فالمراد باسم السلام السلام نفسه، وهو مسماه فأضيف الاسم إلى مسماه كما يضاف المسمى إلى الاسم في يوم الأحد ونحوه والإقحام كثير في كلام العرب، ومقبول إذا كان لنكته كما في الآيات لأنه إذا نزه اسمه، فكيف بذاته. قوله: " لى الحول الخ) هو من شعر لبيد بن ربيعة بن مالك الشاعر المشهور وأوّله:
تمنى ابنتاي أن يعيش أبوهما وهل أنا إلا من ربيعة أو مضر
فقوما وقولا بالذي تعلمانه ولاتخمشا وجها ولا تكشفا شعر
وقولا هو المرء الذي لا صديقه أضاع ولا خان الخليل ولا غدر
إلى الحول ثم اسم السلام عليكم ومن يبك حولا كاملاَفقد اعتذر
قاله قبيل موته وكان من المعمرين عاس مائة وثلاثين سنة. وقوله: (إلى الحول) متعلق يقوله قولاً أو بما يفهم مما قبله، وتقديره أفعلا جميع ما ذكر إلى الحول أي إلى تمام الحول وهو السنة، والمراد سنة موته، وقوله وهل أنا إلا من ربيعة الخ يعني أنه من البشر والنوع الذي لا بدّ له من ورود حوض المنية، فأنا من أمّة قد خلت، وأنا ماض على أثرهم كما قال أبو نواس:
وهل أنا إلا هالك وابن هالك وذو نسب في الهالكين عريق
وقوله ولا تخمشا بالخاء والشين المعجمتين من خمش وجهه إذا لطمه لطمياً يدميه، ويخدشه بأظفاره فنهاهما عن ذلك، وكان العزاء، البكاء في الجاهلية إلى حول، والسلام هنا سلام متاركة، وهو كناية عن أمرهما بترك ما كان قد أمرهما به، وثم هنا للتراخي بين أوّل الفعل والترك، واقحام الاسم هنا في غاية الحسن لأنه ليس بسلام حقيقيّ فما لهم منه إلا اسمه كماقيل:
قال السلام مودّعا لمحبه هيهات هيهات السلامة بعده
ومن في البيت شرطية ووقع لبعض شرّاح الأبيات أنه قدر هنا بكيت بكسر التاء وجعل
إلى الحول متعلقا به والخطاب لزوجته وهي غفلة نشأت من عدم الوقوف على الشعر وحرّف بعضهم ثم بالمثلثة بتم بالمثناة الفوقية وهو غلط منه. قوله: (وإن أريد به الصفة الخ (الصفة لها إطلاقات النعت النحويّ وما يدل على معنى قائم بالغير كالعلم والحلم والمشتق كاسم الفاعل والصفة المشبهة وما شاكلهما وقول(1/45)
الآمديّ ذهب الأشعري، وعامة الأصحاب إلا أنّ من الصفات ما هو عين الموصوف كالوجود وما هو غيره.
وهو كل صفة أمكن مفارقتها عن الموصوف كصفات الأفعال من كونه خالقا ورازقا.
ومنها ما يقال إنه لا عين ولا غير، وهو ما يمتنع انفكاكه كالعلم والقدرة يدلّ على أنه
أراد بالصفة المعنى الثاني ومدلول الاسم المدلول التضمني وبعد ما فسر الغير بما ذكر لا يرد عليه أنّ الصفة أمر خارج عن الذات، فكيف تكون عينه وأنه يلزمه تقسيم الشيء إلى نفسه وغيره، وقوله في شرح المواقف أنه قد اشتهر الخلاف في أنّ الاسم هل هو نفس المسمى أو غيره ولا يشك عاقل في أنه ليس النزاع في لفظ فرس أنه الحيوان المخصوص أو غيره بل في مدلول الاسم أهو الذات من حيث هي أم باعتبار أمر آخر عارض له صادق عليه، فلذلك قال الشيخ قد يكون الاسم عين المسمى نحو الله، وقد يكون غيره كالخالق والرازق، وقد يكون لا هو ولا غيره كالعالم والقادر يقتضي أنه أراد المعنى الأخير، وأنّ الكلام في الاسم مطلقا صفة
أو جامداً وصريح في أنه أراد بالمدلول المطابقي، وقد أورد عليه أنّ ما ذكره الشيخ من أنّ الاسم قد يكون عين المسمى الخ لا يتفرع على ما ذكره من أنّ مدلول الاسم هو الذات من حيث هي أم باعتبار أمر صادق عليه إذ لو كان الذات باعتبار أمر صادق عليه مدلول الاسم لكان لا محالة بهذا الاعتبار مسماه، فيكون الاسم عين المسمى كما إذا كان مدلوله هو الذات من حيث هي هي، وما نقل عن الشيخ من أنّ اسم الله علم للذات من غير اعتبار معنى فيه ممنوع، إذ قد اعتبر فيه المعبودية بحق، أو الاتصاف بجميع صفات الكمال كيف لا وذاته من حيث هي هي غير معقولة لنا كما لا يخفي، ثم إنّ ما نقله مخالف لما في الكتاب من أنّ الاسم الذي هو عين المسمى مدلوله الذات من حيث هي، ومن أنه أن أريد بالاسم الصفة فقد تكون عين الذات وغير. ولا عينه ولا غنره.
والجواب أمّا عن الأوّل فهو أنّ تفريعه ظاهر لأن مراده بالمسمى ذات المسمى، وعينه لا مدلول الاسم مطلقا، وقد يستعمل ويراد به كل منهما والقرينة قائمة على أنّ المراد الأول.
وأمّ الجواب عن الثاني فسيأني في عملية الجلالة الكريمة.
وأمّا عن الثالث فالمخالفة إنما نشأت من الاختلاف في معنى كلام الشيخ أو من اختلاف الروأية عنه.
ثم أنّ للقوم في تحرير محل الخلاف هنا وجوها أخر منها أنّ الاسم يطلق ويراد به اللفظ
كما في كتبت زيد أو يطلق ويراد به المسمى كما في كتب زيد فإذا ورد ما يحتملهما من غير قرينة مرجحة كرأيت زيد فالقائل بالغيرية يحمله على اللفظ، وبالعينية على المسمى قيل وهو أحسن الوجوه ولا يخفي أنّ الموضوع له قمحداً المسمى، وأرادة اللفظ مجاز بوضمع غير قصدى مع أنّ ما ذكر لا مساس له بالأصول.
". ومنها ما ذكره الإمام وادّعى لطفه ودقته وهو أنّ لفظ الاسم اسم لك لفظ دال على معنى في نفسه غير مقترن بزمان ولفظ الاسم كذلك فيكون الاسم اسما لنفسه وعين مسماه وهذا إنما يصح لو كان النزاع في لفظ اسم ولا يصلح محلاً للخلاف حتى ينكره المعتزلة مع أنه مبنيّ على أق الاسم موضوع بإزاء كل فرد منه لا بإزاء المفهوم الكليّ أو على حمل المسمى على ما يطلق عليه عيناً كان أو فرداً وهذا لا يخص الاسم بل يجري في غيره كلفظ لفظ وككلمة كلمة ولفظ موضوع ونحوه، فلا حاجة إلى ما تكلف به بعضهم فمثله بضمير الغائب إذا عاد على مثله نحو هو زيد وهو ضمير غائب وهو تكلف بارد، ولو قيل أنه مخصوص بأسماء صفات الله، ولذا أطبقوا على ذكرها في الأصول وأنّ المراد أنّ وضعها هل هو للذات المقدسة أولاً وبالذات، والمعنى الوضعيّ مقصود بالتبع، أو وضعت لأمر كليّ، وهو ذات مّا متصفة بما دل عليه مأخذ اشتقاقها على ما حقق في الوضعيات، فعلى الأوّل يكون المقصود بالوضع أوّلا عين
المسمى وذاته وعلى الثاني غيره لمغايرة الكلي للجزئيّ حقيقة، وليس المراد بالغيرة مصطلح الأشعري، وبعد كل كلام فلم نر في هذه المسألة ما فيه ثلج الصدور وشفاء الغليل.
وللسهيليّ فيها كلام ادّعى أنه الحق وصنف في ردّه ابن السيد رسالة مستقلة لا يسع تفصيلها هذا المقام. وقوله: (كما هو الخ) إن كان نقل عن الشيخ في هذه المسألة أن المراد بالاسم الصفة فالكاف تتعلق بأريد كما في بعض الحواشي، والا فهو قيد للصفة كما ارتضاه كثر أرباب الحواشي، لكن قال بعض الفضلاء أن الظاهر أنّ الظرف متعلق بالإرادة دون الصفة، وهو(1/46)
الموافق لما نمى عليه الشيخ في كتاب الصفات من أنّ الاسم هو الصفة، فما ذكروه مردود لأنه ناشىء من عدم الإطلاع، ومن حفظ حجة على من لم يحفظ، وبقي هنا أمور كثيرة قصر مسافتها أليق بالرأي السديد ثم إنّ السبكي رحمه الله قال في كتاب القواعد: إنهم بنوا على هذه المسألة فروعا فقهية منها ما إذا قال اسملث طالق هل يقع به الطلاق أم لا. ومنها ما لو قال باسم الله لأفعلن كذا هل يكون يميناً أم لا، ومنه عرفت نكتة في تعقيب المصنف رحمه الله تعالى لهذه المسألة بما بعدها وهو. قوله: (وإنما قال بسم الله الخ) قيل إنه محتمل لوجهين:
أحدهما: أن يراد لم يبدا باسم خاص من أسمائه تعالى، وبدأ بما يدلّ عليها اجمالاً.
والثاني: أنه لم يتبرك بذاته تعالى بل تبرّك باسمه، وفيه أنّ قوله لأن التبرّك الخ يعين الثاني، وعلل بأنه الذي يتلبس به الفاعل ويأتي به دون الذات لتنزهها عن أن يتلبس بها أحد ويأتي بها، وقيل عليه، إنّ التلبس بالذات من حيث هي هي غير ممكن لكنه من حيث الاستحضار بالذكر ممكن، وردّ بأنّ مرجعه أيضا إلى الإتيان بالاسم، وهو أولى بالاعتبار، وظواهر النصوص دالة على أنّ الابتدأء بالاسم، وأمّا الاستعانة بالذات المقدس نحو بك استعين، فأكثر من أن تحصر وحقيقة الاستعانة كما مرج التوسل بمد خولها لتشريف المشروع فيه والاعتداد بشأنه، ولو كان فيه ترك أدب لم ينسب للاسم أيضا غايته أنه احترز عن إطلاق لفظ الآلة وتخلص منه بأنّ الشرع عين الاسم لذلك فاتغ، وتعين الاسم له ليس بصحيح ألا ترى قوله تعالى: {اسْتَعِينُوا بِاللهِ وَاصْبِرُواْ} [الأعراف: 128] وانما جاءهم هذا من عدم الفرق بين الاستعانة والآلية، وإنما يقتضيان الابتذال وهو غلط نشأ من التمثيل بكتبت بالقلم، والصواب أنّ الاستعانة طلب العون، وهي تتعدى بنفسها كما في {وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} وبالباء كما في اسنعينوا بالله، والاستعانة تسند إلى الله تعالى حقيقة، فيقال أعانني الله، وهو خير معين وسيأني تحقيقه في قوله: و {إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} فاحفظه فإنه معين على ما مرّ، وفي قوله لأنّ التبرّك الخ لف ونشر غير مرتب لأن التبرّك بناء لى أن الباء للمصاحبة والاستعانة على الوجه الأوّل وقدم المصاحبة وان كانت مرجوحة عنده لأنها أظهر فلا يقال كان الظاهر العكس،
وبين اليمين والتيمن تجنيس، والتيمن تفعل من اليمن بالضم وهو البركة، وهو من اليمن لأنّ العرب تنسب الخير إلى اليمين والشرّ إلى الشمال، وبه فسر قوله تعالى: {تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ} [الصافات: 28] أي تصدوننا عن فعل الخير، وقال قدس سرّه: لفظ ذكر في قوله بذكر اسمه للتصريح بالمراد، فإنّ تصدير الفعل باسم الله إنما يقع بذكره، ويقع على وجهين. أحدهما: أن يذكر اسم خاص من أسمائه تعالى كلفظ الله مثلاً.
والثاني: أن يذكر لفظ دالّ على اسمه كما في التسمية، فإنّ لفظ اسم مضاف إلى الله يراد
به اسمه تعالى، فقد ذكر هنا اسم لا بخصوصه بل بلفظ دال عليه مطلقاً فيستفاد أنّ التبرّك والاستعانة بجميع أسمائه والباء وسيلة لذكره على وجه يؤذن بجعله مبدأ للفعل، فهو من تتمته فبطل توهم أنّ الابتداء بالتسمية ليس ابتداء باسم الله، ثم قال: إن فائدة لفظ اسم تعميم التبرّك بأسمائه وتمييز التيمن عن اليمين فإنّ التيمن إنما يكون باسمه لا بذاته واسمه آلة لا ذاته واليمين إنما يكون به لا بأسمائه التي هي ألفاظ انتهى.
وأورد عليه أمور منها أق بعض الأسماء لم يعهد فيها ذلك كالقهار والمذل والمتكبر ويدفعه أنه لا يلزم من التبرّك ونحوه بجميع أسمائه جملة أن يتأتى أو يحسن ذلك بها فرداً فرداً، ويدلّ عليه أنّ الأوّل واقع دون الثاني، فإنه ورد في الحديث: " أسألك بكل اسم هو لك أظهرت عليه أحدا من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك " (1 (وهو ظاهر ومنها أنّ اليمين أيضا باسمه تعالى لا بذاته كما في عامة كتب الفقه، وفي الهداية اليمين باسم الله، وقال الشرّاح: أي بهذا الاسم أو باسم آخر كالرحمن أو بصفة، من صفاته كالعزة والكبرياء وقد صرّحوا بأنّ الكفارة شرعت لدفع هتك حرمة اسم الله وهو شاهد لأنّ اليمين باسمه لا بذاته، فلا يتم الفرق المذكور وفيه ما فيه، وأيضا لفظ باسم الله يمين إذ نوى به اليمين وفي رواية ابن رستم عن محمد رحمه الله أنه يمين وأن لم ينو فلا يتم ما ذكر وهو قول للشافعيّ أيضاً رحمه الله بهما في قواعد السبكي، فلا يتوهم أنه غير وارد على المصنف رحمه الله لأنه ليس من مذهبه، وبقوله واسمه آلة لا ذاته على ما بيناه لك يسقط ما قيل من أنّ التبرّك، وان سلم أنه لا يكون(1/47)
إلا بالاسم فالاستعانة لا تكون حقيقة إلا بالذات كيف لا وقد قال تعالى: {وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} فحصر مطلق التلبس، والاستعانة في الاسم ممنوع فلا أقل مما قاله بعض الفضلاء
من أنّ الاستعانة، وإن كانت حقيقة بالذات إلا أنّ الطريق إلى تحصيلها لما كان ذكر اسمه جعل مستعانا به تعظيماً وان لم يكن مراد، فإنه ناشىء من عدم الفرق بين استعنت المتعدي بنفسه الذي معناه طلب المعونة منه، وبين المتعد بالباء المتعلق بغير ذوي العلم غالباً نحو: {اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ} [البفرة: 153] .
ومنها أن قوله فيستفاد أنّ التبرّك والاستعانة بجميع أسمائه ليس بمسلم وقد قال التفتازاني
في شرح تلخيص جامع الخلأطي معنى إضافة الاسم إلى الله إن كان الاختصاص شمل أسماءه كلها، وأن كان الاختصاص وصفا نذاته المتصف بالكمالات المستجمع له الصفات فهو لفظ الله خاصة للإتفاق على أنّ ما سواه معان وصفات، وفي التبرك بالإسم غاية التعظيم للمسمى، وقيل إثالاسم صلة أتى به للتبرك وللفرق بينه وبين القسم قليل الجدوى، لأن الابتداء إنما هو بالاسم لا بالذات انتهى.
وأمّا تصلف المورد على السيد السند هنا والبحث معه، بأنه إن أراد بالابتداء الذي ذكره الابتداء الحقيقي فلا يتم بما ذكره وان أراد الإضافي أو الأعم، فالتوهم باطل ولا يتفرّع بطلانه على ما ذكر مع أنه لا يتمّ أيضا إذا دلت البسملة على الاستعانة والتبرك بجميع أسمائه وبالله الرحمن الرحيم على وقوعه باسم واحد وهو ممنوع، ولا يصح إرادة اللفظ مع وصفه بالرحمن الرحيم، فالأولى أنه لم يقل بالله الخ لما فيه من إساءة الأدب بجعله تعالى آلة أو مصاحبا لفعل العبد فسراب يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيأ لأنّ المراد الابتداء الحقيقي وعدم تمامه مكابرة ودلالته على جميع الأسماء من عموم الاسم المضاف أظهر من الشمس، والوحدة في مقابلة العموم واساءة الأدب لا تتوهم مع ما مرّ من أنّ معنى الآلية توقف الفعل أو الاعتداد به عليها وماكها التبرك والمصاحبة لا تنكر بعد التصريح بها في قوله: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ} [الحديد: 4] فقد وضح الصبح لذي عينين وما على الأعمى من حرج. قوله: (ولم تكتب الألف) أي لم ترسم ألف اسم بعد الباء على ما هو مقتضى الظاهر من الرسم إذ الأصل في كل كلمة أن تكتب باعتبار ما يتلفظ بها في الوقف والابتداء، وفي الابتداء هنا يلفظ بالهمزة، وهي ألف لأنّ الألف كما في الصحاح لينة وغير لينة، وهي الهمزة فلا حاجة لما قيل من أنها سميت ألفا لأنها تكتب بصورتها قال أبو حيان رحمه الله: إن قلت باسم زيد، أو تبركت باسم الله تعالى ترسم الألف لأنّ الأوّل لم يضف إلى الله تعالى، والثاني ذكر فيه متعلق الباء وقال الدمامينيّ ما حاصله: إنه لا بد لحذف الألف من أمرين عدم ذكر المتغفق، واضافة لفظ اسم للجلالة وهل يثترط تمام البسملة فيه تردّد وظاهر كلام التسهيل اشتراطه قيل: وإنما طوّلت الباء عوضا عنها لتكون الباء بمنزلة ألف اسم الله، فيكون الابتداء ببسم الله ابتداء باسمّ الله فاعرفه، فإنه ليس من عمل الأفهام بل من مبذولات الإلهام، وهو من مبتذلات الأوهام وخصت هذ. الأسماء بالابتداء لأنّ الذات مقدّمة على سائر الموجودات فناسب الابتداء باسمها
وهو الله كما مرّ وكذا الرحمن الرحيم لقوله: " سبقت رحمتي) (1) وهذه نكتة حسنة، وتحذف ألف الرحمن مع أل وبدونها وفي الكشاف قال عمر بن عبد العزيز لكاتبه طوّل الباء وأظهر السينات ودور الميم قال فدّس سره (2) : تحسيناً للخط ومحافظة على تفخيم اللفظ الذي أريد به الأسماء المعظمة ييهبرياء سيماها وهو إيماء إلى أنه لا دليل فيه على التعويض حتى يعترض عليه بذلك كما توهم والموجود في النسخ السينات بدل السنات وفيه مبالغة، كائنه جعل كل سِنَّة كسين في الظهور، وهو دفع لما قيل من أنه ليس في البسملة سينات بل سِنات لسين واحدة ولو أراد تعددها باعتبار أفراد البسملة لقال الباآت والميمات أيضاً.
وأجيبّ بأنّ المراد من السين السئة تسمية للجزء باسم كله إذا ما عداه مطروح خطاً قيل
وهو على طرف الئمام ومبناه على حرف واحد وهو أنّ السئات هنا جمع السّن لا جمع السين فإنه لا يقال في جمع سٍنّة سينات حذراً من الالتباس بالمصادر التي تجىء على يخغال كما قال الجوهريّ في دينار أصله دنار بالتشديد فأبدل من حرف التضعيف ياء لئلا يلتبس بالمصادر التي تجيء على يخغال نحو جمذب، ثم أنّ هذا القائل تجج وقال: هذا ما عنلإي في تحقق المقام، ولعمري إنّ اشتباه السين على هؤلاء الفضلاء شين تام فنعم(1/48)
الكلائم كلائم أبي تمام كم ترك الأول للأخر، ولعمري إن في زوايا الأفكار خبايا، وفي أبكار الخواطر سبايا لكن قد تقاصرت الهمم، ونكصت العزائم فصار قصارى الآخر أن يتبع الأول، وهذا كما قيل في الياسمين لا يساوي تجفغة وقد قال عليه بعض فضلاء عصره الإبدال المذكور مخصوص بمغال الاسم بدون هاء وسنات يخغلات لا يخغال فما افتخر به ليس بصواب، وهذا كله صيد مق المفلاة ففي حواشي المالول الحسنية بعدما تنبه لهذا الاعتراض دفعه بقوله أبدل فيه أحد حرفي التضعيف لوقوعه في بناء ممتد ولما لم يتنبه شارحوه لهذه الدقيقة التجؤ إلى المجاز، وأنت خبير بأنه مشروطاً بالقرينة الصارفة والا ارتفع الوثوق، وأشار بقوله بناء ممتد إلى أنّ فعلات تشبه فعالاً في الامتداد والوزن العروضي، وأيده بقول الزمخشري في سورة الحديد في قراءة الحسن تيلآ بفتح اللام، وسكون الياء وحكاه قطرب بكسر اللام، ووجه بأنه حذفت فيه همزة أن وأدغمت نونها في لام لا فصار للإثم أبدل من اللام المدغمة كما في ديوان انتهى.
ولا يخفى أنه بعد الإبدال يلتبس جمع السين بجمع السن، فإن قامت عليه قرينة، فهي
بعينها قرينة المجاز، وهو مع بلاغته لاشتماله على نكتة أسهل مما تكلفه من ذلك الأمر الغير القياسي والقرينة هنا حالية، وهو أنّ في البسملة سنات لا سينات والجواب الممرض أظهر
وإنما جمعها دون أخويها لأنّ لها أجزاء في الخط. قوله: (لكئرة الاستعمال) قيل الظاهر أنّ المراد كثرة الكتابة، فلما كثرت كتابته حذف تخفيفا على الكاتب كما خفف تلفظه به، وكثرة التلفظ لا دخل لها في الحذف الخطي فما قيل في شرحه لكثرة الاستعمال بحسب اللفعل والكتابة، وفيه نظر لأنه لا دخل للأوّل هنا ليس بشيء، فإنهما كالمتلازمين، وكل يناسب الآخر، فمثله لا ينبغي ذكره، والعلل لا يلزم إطرادها حتى يقال هذا يقتضي حذف ألف الله، قيجاب بأنها عوض، أو أنه لئلا يلزم الإجحاف لحذف ألفه الثانية خطاً، أو لئلا يلتيس بقولك لله مجرورا، وبشدّة الامتزاج به، وما ذكر هو المشهور، وهو منقول عن مكي (1) رحمه الله وقيل إنه لا حذف فيه وإنّ الباء داخلة على ييمم بكسر السين أو ضمها أحد لغات اسم كما مرّ، ثم سكنت سينه هربا من توالي كسرتين، أو انتقال من كسرة لضمة، وهو بعيد. قوله: (والله أصله إله الخ) اعلم أنّ في لفظ الجلالة باعتبار أصلها واشتقاقها وكونها عربية أو غير عربية أقوالاً واختلافالب كثير؟ حتى قالوا: كما تاهت العقلاء في ذاته وصفاته لاحتجابها بنور العظمة تحيروا في لفظ الله لأنه انعكس له من تلك الأنوار أشعة بهرت أعين المستبصرين، وقد قال أمير المؤمنين علي رضي الله عنه دون صفاته تخئز الصفات وضل هناك تصاريف اللغات ففيه أقوال لا تحصر اختار المصنف رحمه الله منها أربعة، وقال في الكشاف: الله أصله الإله قال: معاذ الإله أن يكون كظبية
فحذفت الهمزة، وعوض عنها حرف التعريف فقيل عليه: إن كان أصله الإله معرفاً باللام
لم يكن حرف التعريف عوض الهمزة، لما يلزمه من الجمع بين العوض والمعوض، ولذا قال أبو عليّ إنه كالعوض.
وأجيب بأنّ حرف التعريف في الإله من الحكاية لا من المحكى فهو يعني أنّ أصله إله
وإنما أدخل عليه حرف التعريف للحصر رداً على من قال أنّ أصله لاه إذ لم ئقل لاه إلا نادرا، ولو شلم أنها من المحكي ففيه مضاف مقدر أي لزوئم أو لازمية حرف التعريف، فلما رأى المصنف ما ورد عليه عدل عنه إلى قول أصله إله لأنه أسلم، ومعنى التعويض على رأي جماعة منهم المصنف أن يورد ما يكون عوضاً وعلى المشهور جعله عوضا وقيل المراد به اعتباره عوضا لا إيراده وهل حذث هذه الهمزة اعتباط على غير القياس، فلذا لم يمنع الإدغام وعوض عنها أل أو هو قياس بأن نقلت حركتها إلى ما قبلها ثم حذفت لالتقاء الساكنين الهمزة بعد نقل الحركة إلى اللام قبلها فلزوم الحذف والتعويض، وعدم منع الإدغام مع أنّ المحذوف لعله كالموجود من الأمور الشاذة التي اختص بها هذا الاسم الأعظم قولان أظهرهما الأوّل والمراد
بالأصل هنا الأصل الإعلالي لا الإشتقاقي وعدل المصنف رحمه الله عن قول الزمخشريّ حرف التعريف إلى قوله الألف واللام، ليكون نصاً في تعويض الحرفين معا فيقتضي القطع، لأنه على القول بأنه اللام فقط يحتاج إلى أن يقال وتبغتة الهمزة كما في شروج الكشاف.
هذا زبدة ما هنا من القيل والقال بعد طرح مقذمات منتجة للملال، وفيه(1/49)
أنّ ما أجابوا به
عن الزمخشري ليس بشيء أمّا كونه من الحكاية، فكيف يتأتى مع أن إنشا إه الشعر المذكور لإثبات تعريف المنقول عنه، ولو كان من الحكاية كان يضرب عنه صفحاً، وكذا ما زعموه من أنّ المعوض اللزوم، فإنه مع كونه خلاف الظاهر لأنّ تعويض الأمور المعنوية عما حذف لم يعهد، ويأباه أيضاً قوله إن المعرف باللام من الإعلام الغالبة، واللام لازمة في مثله كما صرحوا به، فالمحذور باق.
فالصواب أن يقال إنّ المراد بالعوضية اعتبارها جزأ من الكلمة وعوضاً عن الهمزة لا
الإيراد للعوضمية فاللام قبل الحذف للتعريف، ثم جردت عنه وصارت عوضاً، فلا عوضية قبل الحذف، ولا جمعية بعده كما في قولهم عدة أصله وعدة، ثم إنّ تعريفه بأل جار على القياس المطزد لكنه بعد الغلبة والشيوع الذي نزل منزلة العلم الشخص خفف، واستغني بمخمفه وهو الله عن الإله حتى صار كالفضالت المرفوض فما قيل من أنّ الشاعر اضطر فيه والضرورة تردّ الأشياء لأصولها، وفي إوادته العلم المردود إلى الأصل بحث لا مكان إرادة المعنى الوضعي وأيضاً في جعل الإله المعرف من الإعلام الغالبة خفاء إذ اسنعماله لا يوجد إلا قليلاَ، فكيف يكون من الإعلام الغالبة، ودعوى أنه كان منها قبل شهرة الله أيضاً غير ظاهرة من ترّهات الأوهام، ولغو الكلام الذي أوقعه فيه جمود الأفهام. قوله: (ولذلك قيل يا أدلّه بالقطع) أي لكونها عوضاً عن المحذوف قيل يا ألله بقطع الهمزة لأنها جزء من عوض الحرف الأصليّ مع أنّ كون المعوض عنه همزة قطع فيه تمائم المناسبة بينهما قطعاً. وتوفم أبو علي أنها أيضاً عوض فيئ- الناس إذ لا يقال الأناس في السغة وزدّ بكثرة استعمال ناسق ئنكراً دون لاه، وبامتناع يا ألناس دون يا ألله كذا قال المحقق ودفع الأخير بقول الرضى: إنما جاز يا ألله بالقطع لاجتماع شيئين في هدّا لزومها الكلمة إلا نادراً كما في لافة الكتار، وكونها بدل همزة إله، وأمّا النجم وأمثاله فلامها لازمة لكنها ليست بدلاً من الفاء وأمّا الناس، فاللام عو ضمن الفاء إلا أنها ليست لازمة إذ يقال في السعة ناس هذا وانما اختص القطع بالنداء إذ هناك يتمحض الحرف للعوضية بلا شائبة تعريف للاحتراز عن اجتماع أداتي التعريف وفي غير النداء يجري الحرف على أصله، ثم أنه قيل أنّ كلام المصنف رحمه الله يحتمل أن يكون بياناً لعلة اجتماع أداتي التعريف والقطع معاً وأن يكون للقطع وحده والأول أوجه وان كان الثاني هو الظاهر من العبارة يعني أنه كان القياس أن لا يدخل عليها بالعدم اجتماع التي التعريف، واذا دخلت تسقط الهمزة في الدرج كما في غير هذه الكلمة لكن أدخل عليها حرف النداء، ولم تسقط الهمزة لأنه
صار عوضا، فيضمحل عنه معنى التعريف والعوض لا يحذف غالباً إن صار جزأ والجزأ لا يحذف في الدرج كاكرم وتجغل المصنف العوضية علة إذ المراد العوضية على سبيل الجزئية كما فحن فيه، وان سلم فالمراد أنه علة ناقصة لا علة نامة، ولا يتوهم أنّ الأصل عدم الجمع والقطع، فاذكر يعارض الأصل فتساقطاً فلم رجح ذلك لما عرفت من أنّ فيه نكتتين على أنّ ذلك غير متوجه إذ لا يلزم الترجيح بين النكات بل يكفي الإرادة، ولذا قد يراعي الأصل مع وجود تلك النكتة ولا مقتضى للعدول فإن قلت كان يجب القطع في غير النداء لوجود علته. قلت: قد روعي فيه جانب الزيادة والأصالة فروعى الأصل تارة والتعويض أخرى، فإن
فلت قد مرّ أنّ فيه نكتتين لعدم الحذف، فكيف رجحوا جانب الأصل المرجوح.
قلت: قيل إنه لا يلزم البليغ رعاية الأرجح والأبلغ وله العدول عنه كما في شرح الفوائد النياثية وفيه أنّ قول أهل المعاني إن كذا يذكر لكونه أصلاً ولا يقتضي العدول يقتضي أنه لا يجوز مع وجود العارض رعاية الأصل لضعفه، فكيف جوز ذلك إلا أن يحمل على أن المراد ان لم يخالف مقتضى الحال، وقال المحقق التفتازاني رحمه الله: قد يقال في قطع الهمزة إنه نوى فيه الوقف على حرف النداء تفخيما للاسم الشريف، ونقله بعضهم عن سيبويه رحمه الله وقيل في توجيهه إنّ المعالم الجليل القدر ئغذ نداؤه باسمه من سوء الأدب، فلذا جعل النداء " لمحالمنقطع عما بعده والاسم الكريم كأنه غير منادى لا يقال إنه قد ورد نداء الله تعالى في الحديث الشريف كثيراً وفي المأثور يا رحمن الدنيا والآخرة (11 لأنّ النداء بالوصف المادح ليس كالنداء بالعلم المجرد والمقصود من النداء كالخطاب التوجه إلى الله بقلبه وقالبه، ليقبل عليه يإحسانه، ولطفه فالمراد بالتفخيم إمّا تعظيم مسماه(1/50)
بالتأني في دعائه أو اسمه بإثبات حرف المد وتفخيم لامه وإبقاء حروفه، ولو وصل فات بعض هذا والثاني هو المراد والأمر فيه يختلف باختلاف المقام، والعبارة ناطقة بخلاف ما قاله القائل، ثم قطع الهمزة في النداء أكثري كما ذكره الرضى، وتجغل عقة القطع العوضية لا اللزوم لأنه غير كاف بدليل قوله:
بحقك يا التي حيرت قلبي
بالوصل وبعضهم جعل العلة العوضية واللزوم فتدبر. قوله: (إلا أنه يختص بالمعبود
، لحق الخ) يعني أنه بعد التغيير والحذف اختص بالمعبود بالحق بحيث لم يستعمل في غيره أصلاً وصار المراد به الذات كما في سائر الإعلام فصح التوحيد والغلبة كما قال الشارح المحقق أن يكون لففظ عموم فيحصل له بحسب الاستعمال خصوصية لشيء بمعنى زيادة اختصاص إمّا إلى حد التشخص فيصير علما كالنجم أو لا فيصير اسما غالبا كالسنة أو صفة
غلابة كالرحمن ثم أنّ الغلبة بحسب الاصطلاح أعم من أن تستعمل أوّلاً في غيره أو لا تستعمل أصلاً وهي في الأول تحقيقية كالإله والنجم وفي الثاني تقديرية، وقياسية كالذترّان (1) والله ولا عبرة بما قاله الأستاذ الخال من أن غلبة ألله تحقيقية، وان اسندل عليه بما لا يجديه وكلام المصنف رحمه الله مخالف لما في الكشاف من جعله اسم جنس لا وصفاً، فمن توهم أنه بمعناه، وأنّ قوله المعبود لم يرد به أن مرادف له ليكون صفة فينا في أنه اسم غير صفة فقد غفل عما ذكر ولا ينافي غلبة الإله قلة الاسنعمال فإنه يكفي أن يكون غيره أقل منه، فسقط ما قيل من أنّ في الغلبة مع ندرة الاسنعمال خفاء. ثم إنّ كلام المصنف رحمه الله محتمل لأن يكون المراد أنّ الإله المعرف باللام يقع على كل معبود وغلب على المعبود بحق أي على ذاته المخصوصة فصار علماً بالغلبة ينصرف إليه عند الإطلاق، ثم أكد الاختصاص بالتغيير فصار مختصاً به فالإله المعرّف قبل الهمزة وبعده علم لتلك الذات إلا أنه قبل الحذف قد يطلق على غيره وبعده لا يطلق أصلاً وهذا ما اختاره فذس سره، ويحتمل أن تكون اللام للعهد إشارة إلى الأصل المذكور أوّلاً فيكون المراد أنّ إلهاً المنكر مستعمل للمعبود مطلقاً والمعرف صار بالغلبة مختصاً بالمعبود بالحق بدون أن يصير علماً والله علم لذات معين هو المعبود بالحق سبحانه وتعالى وهذا ما اختاره السعد وحمل عليه كلام الكشاف، واستشهد له بتنكيره الحق في الأوّل وتعريفه في الثاني وذكر أنّ الإله اسم لفهوم كليّ هو المعبود بحق والله علم لذات معين هو المعبود بالحق تبارك وتعالى وبهذا الاعتبار كان قولنا لا إله إلا الله كلمة توحيد وقال قدّس سره أنّ الاستشهاد المذكور لا يجديه نفعاً لأن المفيد لتعين ذات المعبود أو عدم تعينه تعريفه أو تنكيره، ولا مدخل في ذلك لتعريف الحق ولا تنكيره كما في قولك جاء الذي له عليك الحق أو الذي له عليك حق، وتأييد بكلمة التوحيد في غاية الضعف لاقتضائه اختصاص المنكر بذلك المفهوم الأخص، وبطلانه ظاهر قال ولا يشتبه على أحد أنّ المقصود من قوله على كل معبود هو الذاهت المعبودة لا المفهوم المتبادر لها، واللام في قوله على المعبود بحق إشارة إلى بعض تلك الذات المعبودة لا إلى مفهوم أخص من مفهومه الأصليّ، ولما كان المراد بلفظ الحق مفهومه المقابل للباطل، ولا تعدّد فيه فلا حاجة إلى تعريفه ذكره ثانياً منكراً أيضاً، وعرفه ثالثا تفنناً فكان الثالث أولى لتقدم ذكره مرتين وئو عرف الأوّل وقال: على كل معبود بالحق لم يتعين المقصود من المعبود انتهى ولا يخفى عليك أنّ الباء في قوله بالحق باء الملابسة وملابسة العبادة للحقية بمعنى اتصافها بها وكون العبادة حقة تستلزم حقية المعبود، وهي المراد هنا بطريق الكناية، فإن المقصود منه أنه المعبود الحق وتغيراً لحق بتعريفه تعين للمعبود وهو تشخصه فيقتضي أنّ المراد منه الذات المقدّس الموجود في الخارج وتنكيره بقرينة المقابلة
يقتضي إرادة المفهوم لأن المعبود الحق واجب التوحيد فكليته باعتبار مفهومه لا باعتبار أفراده وهو لا غبار عليه ويؤيده ما نبه عليه المحقق رحمه الله من تمثيله له بالسنة ولا شبهة في عدم علميتها، ولذا قال رحمه الله: وأمّا تشبيه الإله بالنجم وغيره من الأعلام فليس في العلمية بل في مجرّد الغلبة سواء انتهت إلى حد العلمية أو لا. ألا ترى أنّ السنة ليست علماً شخصيا ولا جنسياً إذ لا ضرورة تدعو إليه، وجواب الشريف عنه بقوله أما السنة فظاهر التثبيه يقتضي كونه علماً كسائر أخواته، إلا أن فيه مانعا مخصوصاً يخرجها عن ذلك إذ لا يفهم منها معنى شخصي حتى تجعل من أعلام الأشخاص، وليست(1/51)
فيها ضرورة ملجئة إلى جعلها علماً جنسياً اعتراف منه بوروده، فذكره في صدد الجواب من العجب العجاب وأما ما ذكره في تفسير كلمة التوحيد من قوله: أي لا معبود بحق إلا ذلك الواحد، فلا يقتضي ما أورده عليه لأنه تأييد لعلمية الله وهو لا يقتضي اختصاص المنكر، وهو من قبيل العام المخصوص بقرينة، ولذا فسره بذلك كما بين في محله، وما ذكره في توجيه التنكير غير لائق بنظره اللطيف، ومقامه الشريف، وقيل في الجواب عما قاله الشريف إنّ ما قاله السعد في غاية القؤة والمتانة، وتقريره أنّ الشارع جعل هذه كلمة توحيد وهو مستلزم لكون الله علما لما ذكرنا مما لا مجال لمنعه كما سيأتي تحقيقه وإشارة تعريفه وتنكيره لما ذكره ليست مبنية على الوضع اللغوي والمعنى الأصلي بل هي من نكات البلاغة والاعتبارات المناسبة فحيث لم يكن في المعنى تعين بوجه لم يورد في الكلام تعريفاً أصلاً، فقلت اسم الله يقع على كل معبود بحق أو باطل فإذا حصل بالعلمية تعين ما أورد في الكلام المعبر عنه تعريفاً، فقال: ثم غلب على المعبود بحق، فإذا ازداد التعريف زاد فيه تعريفاً، ولا يخفى على المنصف أنه اعتبار مناسب صالح لكونه، إشارة لما ذكره ولا يرد عليه ما أورده قدس سره نظراً إلى الوضع اللغويّ مع أنّ قوله لا مدخل في ذلك لتعريف الحق، وتنكيره محل نظر إذ تعريفه إذا كان إشارة إلى الحق المختص بالله تعالى يفيد تعين ذات المعبود إفادة تامّة واضحة، فلا يصح القول بأنه لا مدخل لتعريفه وتنكيره في ذلك، ولا يخفى أنه لا معنى له، فإنّ نكات البلاغة لا بد لها من دليل في الكلام وضعي أو تابع له، فلا تثبت بمجرّد التشهي، وقد عرفت ما يغنيك عن مثله، ثم إنّ قوله: إن مفهومه المقابل للباطل لا تعدّد فيه ممنوع سواء أراد في نفس الأمر، أو في الذهن وعند العقل*
تنبيه: كان عندي فيما قاله الشيخان هنا في لفظ الله، وما فيه للشراح من قيل، وقال شبه
لم أبدها تأدّبا حنى رأيت ابن مالك رحمه الله في شرح التسهيل صرّح بها حيث قال الله من الأعلام التي قارن وضعها أل، وليس أصله الإله كما زعموا بل هو علم جامع لمعاني الأسماء الحسنى كلها، ولذا يقال لكل ما سواه الله بلا عكس، ولو لم يرد على من قال أصله إلا له إلا انه ادّعى ما لا دليل عليه لكان ذلك كافياً لأن الله، والإله مختلفان لفظاً ومعنى، أمّا لفظاً فلأنّ احدهما معتل العين والثاني مهموز الفاء صحيح العين واللام، فهما من مادّتين فرذهما إلى أصل
واحد تحكم من سوء التصريف، وأمّا معنى فلأنّ الله خاص به تعالى جاهلية واسلاما والإله ليس كذلك لأنه اسم لكل معبود ويوضحه قول الأنصاري:
باسم الإله وبه بدينا ولوعبدناغيره شقينا
ومن قال: أصله الإله لا يخلو حاله من أمرين لأنه إمّا أن يقول الهمزة حذفت ابتداء ثم أدغمت اللام، أو يقول نقلت حركة الهمزة إلى اللام وحذفت على القياس، وهو باطل لأنه ادعاء حذف بلا سبب ولا مشابهة ذي سبب من ثلاثيّ فذكر الفاء تنبيه على أنّ حذفها ابتداء أشد استبعاداً من حذف العين واللام لأنّ الأواخر وما يتصل بها أحق بالتغيير، وقولي بلا سبب تنبين على أنّ الفاء قد تحذف لسبب كواو عدة مصدر يعد حمل المصدر على الفعل فحذف للتشاكل، وقولي ولا مشابهة ذي سبب كرقة بمعنى ورق حذفت فاؤه بلا سبب لشبهه بعدة وزنا، إعلالاً ولو أنّ رقة بمعنى ورقة لتعين الحاقة بالثنائي المحذوف اللام نحو لغة، فإن قيل قد حذفت الفاء بلا سبب في الناس فإن أصله أناس، قلنا لو صح أنّ الناس مفرع على أناص لم يجز أن يحمل عليه غيره لأن الحمل عليه زيادة في الشذوذ وكثرة مخالفة الأصل بلا سبب ملجىء لذلك، فكيف والصحيح أن ناسا في أناس بمعنى من مادّتين مختلفتين نوس وأنس كاوقية ورقية وأمثاله كثيرة، وأمّا ادّعاء نقل حركة همزة إله إلى اللام فأحق بالبطلان لأنه يستلزم مخالفة الأصل من وجوه.
أحدها: نقل حركة من كلمتين على سبيل اللزوم ولا نظير له.
والثاني: نقل حركة همزة إلى مثل ما بعدها فيوجب اجتماع مثلين متحرّكين، وهو أثقل
من تحقيق الهمزة بعد ساكن لأنّ اجتنابه في الكلام آكد، وهو ملتزم إلا في أفعال الروية لأنّ العرب تلتزمه إلا تيم اللات.
، الثالث: من مخالفة الأصل تسكين المنقول إليه الحركة فيوجب كونه عملاَ كلا عمل وهو بمنزلة من نقل في بض، ولا يخفى ما فيه من القبح مع كونه في كلمة، فما هو في كلمتين أمكن في الاستقباح(1/52)
وأحق بالإطراح.
الرابع: إدغام المنقول إليه فيما بعد الهمزة، وهو بمعزل عن القياس لأن الهمزة المنقولة الحركة في تقدير الثبوت فإدغام ما قبلها فيما بعدها، كادغام أحد المنفصلين وقد اعتبر أبو عمرو رحمه الله في الإدغام الكبير الفصل بواجب الحذف نحو يتبع غير فلم يدغم فاعتبار غير واجب الحذف أولى، ولأجل الاعتداد بالمحذوف تخفيفاً جاز أن يقول في إغدودن من وأل وول بتقدير واوين، وأصله وأوأل ثم نقلت حركة الهمزتين إلى الواوين واغتفر تقديرهما دون قلب أولاهما همزة لانفصالهما بالهمزة تقديراً وهذا مثل ما ندر في لكن أنا إذ قيل فيه لكنا إلا أنّ هذا ليس ملتزما، ثم زعم أن أصل الله إله يقول الألف واللام عوض من الهمزة، ولو كان
كذلك لم يحذفا في لاه أبوك أي دلّه أبوك إذ لا يحذف عوض ومعوض في حالة واحدة، وقالوا لهي أيضاً فحذفوا لام الجرّ والألف واللام وقدّموا الهاء وسكنوها فصارت الألف ياء، وعلم بذلك أنّ الألف كانت منقلبة لتحرّكها وانفتاح ما قبلها، فلما وليت ساكنا عادت إلى أصلها، وفتحتها فتحة بناء، وسبب البناء تضمين معنى التعريف، هذا قول أبي علي وهو عندي ضعيف لأنّ الألف واللام في الله زائدة مع التسمية مستغنى عن معناها بالعلمية، واذا حذفت لم يبق لها معنى يتضمن، والذي أراه أنّ لهي مبنى لتضمن معنى حرف التعجب وإن لم يكن له حرف موضوع كما قالوه في اسم الإشارة يعني أنه من المعاني التي حقها أن يوضع لها حرف إذ لا ئقع لهي في غير التعجب، وهو مع بنائه في موضع جرّ باللام المحذوفة واللام ومجرورها في موضع رفع خبر، وأبوك مبتدأ انتهى.
ما قاله ابن مالك ملخصا، وفي شرح ناظر الجيش أنه لا مريد عليه في الحسن والتحقيق
إلا أنّ في ردّه على أبي علي في سبب بناء لهي أبوك نظراً لأنه حكم بزيادة الألف واللام، وليس القول بزيادتها متعينا عند أبي علي فيلزمه ما ألزم به بناء مثل انتهى.
وبهذا علم أنّ كلامهم مع مخالفة القياس مبنيّ على غير أساص فأعرفه.
(أقول) : هذا زبدة ما قالوه.
وأنا أقول إنّ الخلاف فيه مبنيّ على خلاف آخر ذكره ابن الشجري في أماليه، وهو أن جمهور البصريين ذهبوا إلى أنّ أناساً وناسا من مادّة واحدة وهي أنس لاً نس بعضهم ببعض، وناس وزنه عال وبنوا عليه ما تقدّم تبعا لسيبويه، والقول الآخر ما ارتضاه الكسائي والفرّاء، وكثير من النحاة أنهما ماذتان مختلفتان معنى ومبنى فأناس من أنس وناس من نوس بمعنى تحرّك، واستدلوا بتصغيره على نويس دون أنيس، وعليه بنى ما قاله ابن مالك ومن تبعه وهو عندي أوضح معنى وأقوى دليلاً، وجوابهم بأن ألفه لوقوعها ثانية عوملت معاملة الزائدة في التصغير تكلف لا داعي له عندي، وهو الحق الحقيق بالقبول. قوله: (واشتقاقه من أله الخ) ما مرّ بيان لأصله الإعلاليّ، وما يترتب عليه، وهذا شروع في بيان أصله الاشتقاقي، وقد اختلفوا فيه فقيل إنه غير مشتق، وقيل مثتق، وفي المشتق منه أقوال اختار منها المصنف أنه من أله بفتح الهمزة واللام، فإن قلنا بأن المشتق مته الفعل فهو على ظاهره، والا فهو بتقدير مضاف أي من مصدر إله أو المراد أنه مأخوذ من هذه المادة ومصدره إلاهة بزنة عبارة، وألوهة بالضم كنبوّة، وألوهية بالضم والياء المشددة كعبودية وتأله واستأله بمعنى تعبد وانقطع إلى الله، وضمير اشتقاقه المضاف إليه راجع لأصل الجلالة، وعبد بفتحتين كما قيد في نسخ الجوهري او هو مجهول، كما قيل لأن الظاهر من كلامهم أنه متعد لالازم يعين أنّ إلها فعال بمعنى مألوه اي معبود فهو صفة مشبهة ككتاب بمعنى مكتوب، وامام بمعنى مؤتم به، وهذا منقول عن
المصنف هنا، وفعال قد يكون اسم ا-لة سماعاً كركاب لما يركب به وهو كثير وخالف المصنف رحمه الله الزمخشري فيما اختاره من أنّ الفعل وبقية المادّة هنا مشتقة من ازله اسم العين كاستجمر واستنوق وتجوهر لأنه على خلاف القياس لا سيما في الثلاثيّ، كأبل إذا أحسن رعي الإبل والقيام عليها، والمعروف كون معنى المشتق منه مراعى في المشتق، وهذا بالعكس إلى غير ذلك مما فصل في شرّاح الكشاف وذهب الإمام المرزوقي وصاحب المدارك إلى أنّ الإله مصدر كالإلاهة، وهو خلاف المشهور، ولا وجه لما قيل عليه من أنه لم يوجد في اللغة مع أنّ المرزوقي أمام أهلها فكفى به مقتدى. قوله: (وقيل من إله إذا تحير الخ) أله يأله في هذا وفيما بعده(1/53)
كفرح يفرح، وضعفه إمّ لأنّ الأصل في الإشتقاق أن يكون لمعنى قائم بالمشتق، والحيرة قائمة هنا بالخلق لتحيرهم في ذاته وصفاته أو لكون أله بهذا المعنى واوي عند أهل اللغة كالجوهريّ وغيره، فعدّه أصلاَ آخر لا وجه له لأنّ همزته مبدلة من الواو، وإن ذهب بعض أهل اللغة إلى أنها أصلية، وعليه صاحب القاموس حيث ذكره بهذا المعنى في المادّتين، والقول بأنه اشتقاق كبير بعيد إذا النزاع في الصغير فإن سلم إبدالها من الواو اتحد الوجهان، ومن حاول إثبات التغاير بينهما زاد في الشطرنج بعلة، وقوله: (في معرفته) أي في معرفة الله، والظاهر في معرفة الأله لأن الكلام في اشتقاق أصل الجلالة، إذ لا وجه لكون الأصل مشتقاً من غير ما اشتق منه الفرع، ولا لكونهما من أصل واحد كما قيل، فتحير العقول في مطلق المعبود لاتخاذ اكهة شتى وزعم كل أنه على الحق، أو المراد التحير في معرفته تعالى والكفرة، وإن أثبتوا شركاء معترفون بأنه إله الآلهة وأعظمها. قوله: (أو من ألهت إلى فلان أي سكنت إليه) سكن إليه بمعنى استأنس من السكون، وعدم الإضطراب، أو هو مجاز من السكنى، ومته السكن بفتحتين، فإنه ما يؤلف من نحو الصديق والأهل والحبيب والمنزل قال:
". سا بارقا أذكرالحشى سكنه منزلنا بالعقيق من سكنه
ويقال ألهنا بمكان كذا أي أقمنا قال:
ألهنا بدار ما تبيد رسومها كأنّ بقاياها وشام على يد
وقيل: إنه ذكر في اللباب بعد ذكر السكون الثبات، واستشهد له بهذا البيت، فاللائق للمصنف ذكر الثبات أيضاً بعد السكون ليكون الإطمثنان مرتبطاً بالأول والسكون وبالثاني، ولا وجه له رواية ودراية والهنا في البيت بمعنى سكنا فهو لغو من القول. قوله: (لأن القلوب تطمئن بذكوه والأرواح تسكن لمعرفتة) يقال اطمأن يطمئن اطمئنانا وطمأنينة بمعنى سكن، وهو مطمئن إلى كذا وذاك مطمأنّ إليه، فهو حقيقة في المكان واطمئنان القلب، والنفس مجاز كما في الأساس، ومنه النغس المطمئنة إلا أنة شاع حتى صار حقيقة في استقرارها بزوال القلق
والاضطراب، وهو لا يتاتى تعالى الله، فلذا قدم المتعلق للحصر في قوله: {أَلاَ بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد: 28] أي لا بغيره فإن الطمأنينة لما عداه غرور والثقة به مجز واستهداف للبلاء، وطمانينة القلب والنفس بمعرفة الله والتسليم له منقادة بزمام الطاعة وحينئذ تصل الروح بنور المعرفة إلى مستقرّها في مقعد صدق، فإن قلت كيف يتأتى هذا الوجه فى الآلهة الباطلة وصرفه إلى إطلاق الإله عليه تعالى غير مناسب للسياق والسباق قلت: قد قيل فى دفعه إنه لا يبعد أن يكون ملحوظ واضع اللغة في وضع الإله للمعبود اطمئنان القلوب بذكر المعبود الحق لما مرّ من الحصر، ثم استعمل في الآلهة الباطلة بعد عبادتها على زعمهم أو لاعتراف الكل به كما قيل، ومن العجب ما قيل إنّ الأحسن أن يقال كل شيء يطمئن تحت فغائه، ولا يستطيع أن يضطرب في دفع امضائه، وقيل: إنّ هذا بالنسبة إلى المعبود بحق لعد ما سواه كالعدم وفيه نظر لا يخفى. قوله: (أو من أله إذا فزع الخ) في الأساس فزعت إليه فأفزعني أي أزال فزعي، وفزع عن قلوبهم كشف، وقال الراغب: الفزع انقباض، ونفار يعترى الإنسان من الشيء المخيف وهو من جنس الفزع، ولا يقال فزعت من الله كما يقال خفت منه، وفزع إليه استغاث به عند الفزع وفزع له أغاثه انتهى.
ففزع إليه بمعنى لجأ واله فعال بمعنى مفعول أي مفزوع إليه، وأفزعه وفزعه يكونان للسلب وآلهة بالمد مزيد أله وأصله " لهه بمهمزتين أبدلت الثانية ألفاً علي القياس قيل وفي ذكره آلهه المزيد إشارة إلى صحة اشتقاق الإله منه، فيكون فعالاً من الأفعال بمعنى الفاعل، وكلاهما منظور فيه وليس بشيء إذ الظاهر أنه لم يقصد ما ذكره، وإنما أشار إلى كثرة مجيء مادّته ني معنى الفزع، وما يتبعه كالسلب وقيل إنه يعني أنه مأخوذ منه أخذ الوجه من المواجهة باعتبار اللزوم، وحاصله تحقق العلاقة بين الإله وإله ولازمه أيضا ولا يخفى ما فيه، وانما قال حقيقة أو بزعمه ليشمل الإله الحق والباطل، لأنّ الزعم بتثليث أوّله، وان كان بمعنى الظن غلب امتعماله في الباطل، ولم يصرّح به فيما قبله إمّا لظهور أنه جار ذلك فيه بطريق(1/54)
المقايسة، أو لأنّ ذاك واقع بخلاف الإغاثة، فإنها غير واقعة، وفيه نظر لما مرّ قيل: ويمكن أن يكون كلاهما ناظرا للحق بناء على ارجاع ضمير اشتقاقه لله، فإنه تعالى لا يجبر كل أحد لكن كل أحد يزعم ؤلك، ثم إن إيراد المصنف لهذا في مقابلة وله الواوي مشعر بأنّ الهمزة فيه أصلية كما في القاموس، وهو مخالف لما في التيسير من تفسيره، وله بفزع إلا أن يثبت الترادف. وقوله: (إذ العائذ) تعليل وتوجيه لاشتقاقه وهو من العوذ بالعين المهملة والذالط المعجمة بمعنى الالتجاء، وإنما ذكره توضحيا وتحقيقاً له إذ من شأن من يفزع من أمر أن يلتجىء لمن يخلصه منه وهو كبيره، فما قيل من أنه لا دخل لوصف العياذة هنا، وإنّ قوله يفزع إليه ناظر إلى المعنى الأوّل، وهو يجرّه إلى الثاني من ضيق العطن فتدبر. قوله: (أو من إله الفصيل الخ (الفصيل هو
رضيع الإبل، وأولع وولع بمعنى لازم محبتها وألح في اتباعها وأله بمعناه إذا أسند إلى الفصيل والعباد الظاهر أنه بكسر العين وفتح الباء المخففة جمع عبد، وجوّ ز بعضهم ضم عينه وتشديد بائه على أنه جمع عابد، ومولعون جمع مولع بضم الميم وفتح اللام قال في الصحاح: أولع به فهو مولع به بفتح اللام أي مغرى به، فلا يفارق جنابه والتضرّع التذلل والخضوع والشدائد جمع شديدة، وهي المصيبة وكل ما يصعب ويشتد، وأولع في بعض النسخ بالهمزة من المزيد ووقع في بعض الحواشي ولع بدونها قال: وكان المناسب أن يقول إذ العباد والعون لكنه لم يستعمل والع بل مولع والباء صلة مولع ولا حاجة إلى ما قيل من أنها سببية لمن له أدنى تأمّل وضمير إليه إن رجع إلى الإله مطلقاً كان شاملاً للفريقين، ولا مانع منه وان رجع إلى الله كما هو المتبادر فقدم ذكره لما مرّ من كونه حقيقة أو على زعمهم، وعلى الوجه الأوّل فيه إشارة إلى هذا التخصيص لأنهم كانوا إذ أنزل بهم ما يدهشهم لا يلجؤن إلا إلى الله كما قال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُكُم إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللهِ تَدْعُونَ} [الأنعام: 40] وقيل: فيه اكتفاء عن عبدة غير الله تعالى للعلم بحالهم، ولا يخفى بعده. قوله: (أو من وله إذا تحير إلخ الم يذكر وجهه لعلمه مما مرّ وفيه تصريح بأنّ أله ووله لغتان لا أنّ أصل أله وله كما ذكره الجوهريّ رحمه الله، ولا أنّ بينهما فرقا لأن هذا التحير من تخبط العقل أي اختلاله، وذاك لكماله حيث دهش في عظمته لأنه خلاف الظاهر، وان ارتضاه بعض المتأخرين، والتخبط تفعل من الخبط، وهو الضرب بالأرض ونحوه أريد به فساد العقل من الخباطة بالضم، وهي شيء كالجنون قال تعالى: {الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} [البقرة: 275] وسيأني تحقيقه. قوله: (وكأنّ أصله ولاه الأن إبدال الواو المكسورة في أوّل الكلم همرة مطرد في لغة هذيل، كما في التسهيل، ولم يجزم به لعدم سماع ولاه إن كانت العبارة كأنّ بفتح الكاف والهمزة وتشديد النون، ويجوز أن يكون مخففاً بالألف ماضي كان الناقصة وما قيل من أنه لا يصح لأنه يجب حينثذ نصب ولاه ورسمه بألف وليس كذلك هو في النسخ ليس بشيء لأنه يجوز حكاية لفظه كما في بعض الحواشي فيمنع صرفه، وقوله وقيل إله عطف على قوله فقلبت وتقديره فقلبت ثم حذفت إن كان الضمير لله كما مرّ. قوله: (ويردّه الجمع الخ (يعني لو كان أصله ذلك سمع فيه أولهة كأوعية لأنّ الجمع يردّ الأشياء إلى أصولها، ويبعد قلب الواو ألفا إذا لم تتحرّك لمخالفته القياس، فلا وجه للتوجيه به كما قيل وما قيل من أنه لتوهم كون الهمزة أصلاَ لعدم استعمال ولاه، وشيوع إله لا يدفعه، بل يحققه لأنه خلاف الظاهر. قوله: (وقيل أصله لاه الخ (هذا معطوف على قوله والله أصله إله الخ والضمير راجع إلى الله لا إلى الإله، وان جاز لأنه إذا كان هذا أصل إله لزم كونه أصل الجلالة أيضا، لأن
أصل الأصل أصل ولاه مصدر، وفي بعض كتب اللغة لا يليه ليها إذا احتجب ولاه يلوه إذا ارتفع والمصنف رحمه الله جعلهما أي الارتفاع، والاحتجاب معنيين من مادّة واحدة، وبينهما على طريق اللف والنشر وهو ظاهر، وليس المراد أنه مستعمل فيهما معا بناء على مذهبه في المشترك بل صحة النقل من كل منهما، وهذا المذهب منقول عن سيبويه رحمه الله بناء على ما حقق في كتب اللغة، وقال ابن خروف: إنه منقول من لفظ متوهم كباب، وهو مقلوب من وله لأن باب لوه وليه ليس في كلام العرب كما قاله السيوطي، وقيل: لاه يليه بمعنى ارتفع ليس بلغة. قوله: (لآنه تعالى محجوب الخ) هو بيان للأوّل قال:(1/55)
لاهت فما عرفت يوماً بجارحة يا ليتها خرجت حتى رأيناها
وقد اعترض عليه بما قاله الإمام من أنّ حقيقة الصمدية محتجبة عن العقول، ولا يجوز
أن يقال محجوبة لأنّ المحجوب مقهور وهو العبد، وأمّا الحق فقاهر ففي عبارة المصنف رحمه الله قصور أو خطأ، والصواب محتجب كما في بعض النسخ، وهكذا قاله الفاضل الليثي وغيره (وأئا أقول) في حكم ابن عطاء الله نفعنا الله به الحق ليس بمحجوب إنما يحتجب عن النظر إليه إذ لو حجبه شيء لستره، ولو كان له ساتر لكان لوجوده حاصر، وكل حاصر لشيء فهو لوجوده قاهر، وهو القاهر فوق عباده انتهى.
وفي الشفاء ما وقع في حديث الإسراء من ذكر الحجاب هو في حق المخلوق لا في حق الخالق، فهم المحجوبون والباري جل اسمه منزه عما يحجبه، والحجب إنما يحيط بمقدر محسوس، ولكن حجبه عن أبصار خلقه وبصائرهم، وإدراكاتهم بما شاء، وكيف شاء، ومتى شاء لقوله تعالى: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ} [المطففين: 5 ا] انتهى. يعني أنّ الحجاب حقيقته المنع والستر، وانما يكون في الأجرام المحدودة، والله تعالى منزه عن ذلك، فهو إمّا تمثيل لمجرّد المنع عن رؤيته تعالى مشاهدة، وإحاطة أو هو في حق المخلوق دونه، حينئذ فالمحجوب يطلق على الخلق حقيقة، لأنهم حجبوا عن رؤيته أو قربه، أو نحو ذلك كما في قوله تعالى: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ} فإن أسند إليه تعالى كما ورد في الأحاديث، فهو تمثيل لارتفاع شأنه وعظمته كما صرحوا به، أو مجارّ عن منعه لهم فهو مانع وممنوع وانما الممنوع منع ما سواه له وفي الدرر والغرر لعلم الهدى قذس سرّه في قوله تعالى: {مِن وَرَاء حِجَابٍ} [الشورى: 51] أنه تعالى يوصف بالحجاب بمعنى الخفاء وعدم الظهور والعرب تستعمله بهذا المعنى فتقول بيني وبين هذا الأمر حجاب أي مانع وساتر انتهى. وفي شرج المواقف المحجوب مقهور، وهو عز شأنه منزه عنه وهو كما يصدق عليه أنه محتجب يصدق عليه أنه جعل ذاته محجوبا لأن الخفاء من فرط الظهور، فلا غبار على كلام المصنف كما سمعته، وقوله لها بفتحهما سان لأصله، وقيل: أصل لوها أولوها كما في الدرّ المصون فلا حاجة إلى القول بأن قلب ياء لبها الساكنة الفا على خلاف القياس،
وقد أثبت الكرماني ما ذكر بأنه قرىء في الشواذ وهو الذي في السماء لاه، والمصنف رحمه الله ثقة يعتمد نقله فلا يلتفت لما قيل أنّ لاه يليه لم يثبت في اللغة، وكذا كون لاه مصدرا، وقوله: مرتفع أي عال منز؟ عنا لا يليق بجانب كبريائه بيان للمعنى الثاني. قوله: (ويشهد له قول الثاعر:
كحلفة من أبي رباح يشهدها لاهه الكبار)
أنشده الفرّاء ولم يبين قائله وهو الأعشى كما في شروح الكتاب والشواهد، والأعشى
اسمه ميمون بن قيس وهو من قصيدة أوّلها:
ألم تروا ارما وعادا أفناهم الليل والنهار
وهي في ديوانه، وحلفة بفتح فسكون وفاء المرة من الحلف وهو اليمين، وهو شاهد للاه بمعنى إله.
وروى كدعوة، وأبو رباح براء مهملة مفتوحة وموحدة مفتوحة، وآخره حاء مهملة اسم
رجل من بني ضبيعة، وهو حصن بن عمرو بن بدر، وكان قتل رجلاً من بني سعد بن ثعلبة، فسألوه أن يحلف أو يدي، فحلف ثم قتل بعد حلفته، فضربته العرب مثلاً لما لا يغني من الحلف كما قاله ابن دريد في شرح ديوان الأعشى، ويشهدها بمعنى يحضرها ويطلع عليها، وروى يسمعها الواحد الكبار، وهو بضم الكاف، وتخفيف الباء هنا، ويجوز تشديدها في غيره كما قرىء به، وهو مبالغة في الكبير، والمراد بلاهه الكبار ضمه، وروى أيضاً لأهم الكبار بضم الميم، واستشهد به النحاة على مجيء لاهم في اللهم مخفف الميم في غير النداء لأنه فاعل، فلا يكون على بعض الوجوه شاهداً لما ذكره المصنف رحمه الله قيلى: والاستشهاد بما مرّ من اثقراءة الشاذة أولى. قوله: (وقيل علم لذاته الخ) هذا معطوف على قوله: والله أصله إله أي هو علم بحسب أصله وضع ابتداء لذات مخصوصة، وليس باسم جنس، أو صفة غلب عليه حتى صار علماً كما مرّ قيل: ولا يخفى أنّ الأدلة المذكورة لا تفيد ذلك أصلاً، فلا يبعد أن يكون مراده بيان القول بالعلمية مع قطع النظر عن أنه مشتق(1/56)
أولاً فقد ثبت القول بالعلمية مع الاشتقاق أيضاً، فالمصنف بجد ما ذكر أنّ أصله له بمعنى المعبود، واشتقاقه نقل قولاً بالعلمية بعبارة جامعة بينهما، واستدل عليه ثم نفاه مطلتما، وقال: الحق إنه ليس كذلك بل هو باق على ما قلناه من المعنى واختص بالغلبة لا بالعلمية، ولو لم يحمل كلام المصنف على ذلك لم يكن في كلامه ذكر القول بالعلمية مع الاشتقاق والأصالة مع أنه المذهب المختار عند صاحب الكشاف وغيره، وهذا تكلف لا حاجة إليه، وستعرف انطباق الأدلة على المدعى مع أنه لا يهم المصنف ذلك لأنه ليس مختاراً له حتى يضرّه الخلل في أدلته وقوله: (لذاته) إشارة إلى أنّ هذا
القائل لم يعتبر فيه صفة أصلاً، وبه صرّحوا وإن قال العلامة أنه ممنوع بل اعتبر فيه صفة كالذات المستجمعة للكمالات، أو المستحق لجميع المحامد، وسيأتي ما له وعليه فتدبر. قوله: (لأنه يوصف الخ) قيل عليه إنّ هذا إنما يدلّ على كونه اسماً على كونه علماً مع أنّ الزمخشريّ صرّح في سورة فاطر بجواز كون لفظ الله صفة اسم الإشارة وودّ بأن الاختلاف وقع فيه بعد تسليم اختصاصه به تعالى، فموصوفيتة تقتضي ذلك اقتضاء راجحاً يكفي في مثله، وأمّا وصفه اسم الإشارة فعلى خلاف القياس لوقوعه بالجوامد في نحو ذلك الرجل وهذا الكتاب، ونيس المنظور فيه سوى رفع الإبهام فهو مستثنى مما ذكر، والزمخشريّ تفرّد بقياس العلم عليها فلا وجه لما ذكره، وأمّا قراءة العزيز الحميد الله بالجرّ، فقيل إنه عطف بيان لا صفة، وقوله لذاته المخصوصة استعمل الذات فيه تعالى بمعنى العين والحقيقة لأنه ورد إطلاقه عليه في الأحاديث الصحيحة نحو: " لا تتفكروا في ذات الله " فلا عبرة بمن أنكر إطلاقه على الله لأنه مؤنث وتفصيله في شرح الكشاف وغيره. قوله: (ولأنه لا بد له من اسم تجري عليه الخ) أي يجعلها جارية عليه بأن تكون نعتاً له لأن العرب لم تاع شيئاً إلا وضعت له اسماً كما هو دأبهم وعادتهم، وليس هذا محالاً لأنّ المحال هو وجود صفة بدون موصوف لا بدون ما وضع له، وإنما هو أمر استقرائي استحساني، وكونه اسم جنس معرّفاً بأل، وإن كفى لكن الظاهر أن يكون خاصاً به وضعاً، وهو العلم وكونه علما منقولاً من الوصفية لا يكفي إذ عليه لم يكن له اسم في أصل الوضع تجري عليه صفاته. قوله: (ولأنه لو كان وصفاً الخ الأنه حينئذ موضوع لأمر كليّ، وكذا لو كان اسم جنس لأن ثبوت الأعم لا يقتضي ثبوت الأخص بقي أنه قيل عليه أنه لو كفى في التوحيد اختصاص المستثنى بذاته في الواقع فلا إله إلا الرحمن كذلك لاختصاصه به، وإن لم يكف واقتضى ما يعينه بحيث لا تجوز فيه الشركة لم يكن لا إله إلا الله كذلك لأنه لا يحضر ذاته لنا على وجه التشخص، وأجيب بأنّ الألفاظ تنوب في الشرع عن المعاني الموضوعة لها ألا ترى أنّ أنت طالق يفيد الطلاق، وإن لم يقصد فالله تعالى، وإن لم يمكن احضاره بذاته، لكن لفظة الله تنوب مناب احضاره، فنزل ذكوه في التوحيد منزلتة بخلاف الرحمن انتهى.
وردّ بأنه لا وجه للحكم بإيمان أحد بمجرّد لفظ لا يعرف معناه، وما توهمه في مسألة الطلاق فاسد إذ لا بدّ فيه من استعمال اللفظ واستحضار المعنى، ولذ لا يقع بسبق اللسان به ولا من النائم والأعجمي الذي لا يعرف مدلوله، نعم لا يعتبر فيه قصد إيقاع الطلاق لمن تلفظ به اختياراً مع علم معناه، وإن لم ينو إيقاعه، والقائل لم يفرق بين عدم اعتبار المعنى وعدم اعتبار قصده، والأقرب أن يقال إنه توحيد بالنظر للمشركين القائلين إنّ غير تعالى مستحق للعبادة لقطعه هذا الاستحقاق، وأمّا من اعتقد الشركة في وجوب الوجود، فلا نسلم الحكم بتوحيده بمجرّد تكدسه بهذه الكلمة، ولم ينقل عنه عليه الصلاة والسلام ذلك، وأمّا معاوضته
بقل هو الله أحد بأنه لو دلّ على التوحيد لم يكن لذكر الأحدية فائدة معه، فسيأتي ما يدفعه ثمة من تفسير الأحدية بعدم قبول التعدد بوجه من الوجوه وهو ليس من لوازم العلمية وأما ما قيل عليه من أنه لا يخفى ما فيه من الركاكة لأنّ وضع العلم لإحضار المسمى على ما وضع له، ولا شك في أن الله علم، وعدم حضور الله تعالى بشخصه لا ينافي علميته، والعجب كيف خفي عليه هذا مع ظهوره، فلا محصل له والعجب من ابن أمّه، وقد نقل عن المصنف هنا حاشية قال فيها نظر لجواز أن يكون التوحيد مستفادا من الشرع انتهى.
وغير خاف أن سرّ ما أفاده الشرع هو هذا، فإن فرقه بين إلا الله والا الرحمن لا بدّ له من
وجه، ولذا قيل كون لا إله إلا الله(1/57)
مفيداً بنفسه ثبوت ذلك الفرد الواجب وعدم كون لا إله إلاً الرحمن كذلك سر أن الشارع جعل لا إله إلا الله توحيدا دون لا إله إلا الرحمن وأورد أيضا أنه لا يثبت عدم الاشتقاق، والأصل لجواز الاشتقاق من مثتق منه عرضيّ اعتبر مرجحاً للتسمية، ويكون له أصل كما في الكشاف إلا أنه لما غيره الواضع جعله علماً فالأدلة الثلاثة لا تفيد المدعى إن جعلناه خاصا على ما مرّ ولا يخفى أنه لو كان مشتقا لكان كلياً بحسب الأصل وجزئيته الآن ثابتة، فالظاهر أنه كان قبل ذلك كذلك، فيتمّ الدليل على ضعفه عند المصنف رحمه الله، وقد مرّ ما فيه وسيأتي تنويره، وقيل: الحق أنّ إيجاب إحضاره سبحانه على الوجه المذكور تكليف بما لا يطاق فالمطلوب إنما هو إحضاره على وجه كلي منحصر في فرد، وعدم حصول التوحيد بالرحمن لإطلاقه مضافا على غيره كرحمن اليمامة، فإن قلت: إن قدر الخبر هنا موجود لم يفد نفي إمكان آخر وأن قدر ممكن لم يلزم منه وجود المستثنى بل إمكانه، قلت أجابوا عنه بأنه يقدر موجود ولا يلزم أن يفهم من هذه الكلمة نفي الإمكان لإله آخر فإنه للردّ على المشركين في إثبات الشركاء، قيل: ويمكن أن يستنبط منها نفي إمكان إله آخر على تقدير موجود أيضا لأنّ المراد بالإله المعبود بحق والكلمة إذا دلت على نفي معبود بالحق غيره تعالى دلت غلى نفي إمكانه، إذ لو كان معبود بحق غيره تعالى ممكنا كان موجودا، إذ من استحق أن يكون معبود يجب اتصافه بصفات الكمال، فلم يكن له نقص وكيف يستحق الناقعى العبادة مع وجود الكامل من جميع الوجوه فيكون واجباً موجودا، وهذا ظاهر لمن له حدس صائب، ومن هذا يعلم أنه لو قيل بتقدير الخبر ممكن، فالمطلوب حاصل أيضاً لأنه لما كان المستثنى معبودا بحق وجب أن يكون موجوداً لما مرّ وقيل عليه أنه تكلف والحصول لا يلزم الخصم، وفيه نظر، ولو قدر الخبر إله اندفع ذلك، ويكون المعنى لا إله إله إلا الله أي ليس ما يعتقد أنه معبود معبود بالحق إلا الذات الفرد الصمد.
ونقل عن الشريف أنه قال: إنه تحقق بديع وصنف فيه مقالة مستقلة، ولم نره لغيره ومنع احتياج لا إلى الخبر بناء على ما نقل عن ابن الحاجب من أن بني تميم لا يثبتون خبرها مما لا يعوّل عليه، وقد قال الأندلسي: لا أدري من أين نقله والحق أنّ بني تميم يحذفونه وجوبا، إذا
وقع في جواب سؤال، وقامت عليه قرينة، وإلا فلا يحذفونه مع أنه يدل على حذفه لا على عدم تقديره، فإن قلت هذه كلمة لا تصدق إلا إذا أريد بالإله المنفيّ المعبود بحق وهو أعم قلت هو مخصوص بقرينة عقلية قائمة عليه وهي أنّ المعبود بغير حق موجود متعدد، وهو لشهرته لا يخفي على أحد، فلا يصح نفيه من عاقل. قوله:) والأظهر أنه وصف الخ) في نسخة والحق بدله، ثم إنه قيل: إنه مذهب ثالث وقيل: بل هو المذهب الأوّل، وهو أنّ ألله مثتق إلا أنه مختص بالمعبود بحق، فأشار إلى تأييده، وبطلان الثاني، وربط بتحرير المدعي ما يردّ به الوجوه السالفة، ثم أنه قدص سرّه حقق في هذا المقام أنّ الاسم قد يوضمع لذات مبهمة باعتباره معنى يقوم به، فيكون مدلوله مركبا من ذات مبهمة لم يلاحظ معه خصوصية أصلاً، ومن صفة معينة، فيصح إطلاقه على كل متصل بتلك الصفة، ومثل ذلك الاسم يسمى صفة، وذلك المعنى المعتبر فيه يسمى مصححا للإطلاق كالمعبود مثلاً، وقد يوضحع لذات معينة بلا ملاحظة قيام معنى بها، فيكون إسما لأ يشتبه قطعا بالصفة كالفرس، وقد يوضع لها ويلاحظ في الوضع معنى له نوع تعلق بها، وهو على قسمين:
الآوّل: ما يكون ذلك المعنى خارجا عن الموضوع له، وسببا باعثا على تعيين الاسم بإزائه، كأحمر إذا جعل علماً لمولود فيه حمرة، وكالدابة إذا جعلت اسما لذوات الأربع في أنفسها، وجعل الدبيب سببا لوضع هذا الاسم بازائها لآجزأ من مفهوم اللفظ.
الثاني: أن يكون ذلك المعنى داخلاً في الموضوع له، فيتركب مفهومه من ذات معينة،
ومعنى مخصوص كأسماء الآلة والزمان والمكان، وكالدابة إذا جعلت اسما لذوات الأربع مع دبيبها.
وهذان القسمان أيضا من الأسماء لكن ربما يشتبهان بالصفات، والقسم الأخير أشد التباساً بها، لأنّ المعنى المعتبر في الوضع داخل في كل منهما، ومعيار الفرق أنهما يوصفان بشيء، ولا يوصف بهما شيء على عكس الصفات، ولما وجد لي الاستعمال إله واحد ولم يوجد شيء إله مع كثرة دورانه على الألسنة علم أنه من الأسماء دون الصفات وهكذا حكم كتاب وإمام، وسائر ما اعتبر فيه المعاني مع خصوصية الذوات انتهى.
وهو برمّته مأخوذ من(1/58)
كلام العضد، وفيه على فرض تسليمه للبحث مجال.
أمّا أوّلاً: فإنّ الفرق بين الصمفة وأسماء المكان وما جرى مجراها بأن الذات في الأوّل
مبهمة دون الثاني مما لم يقم عليه دليل فإن ضاربا كما أنه ذات صدر عنها الضرب كذا مضرب مكان مّا وقع فيه الضرب حنى لو اعتبر خصوصيته كمدرسة، ومقبرة خرج عن بابه وألحق بأسماء الأجناس كما صرّحوا به، لا يقال لم يعتبر فيه مطلق الذات بل خصوصية كونه مكانا
دثبة الشهاب / ج ا / م 7
لأنا نقول يلزم على هذا أنّ الصفات المخصوصة ببعض العقلاء أو بغيرهم خارجة عنها كمرضع وحائض وبازل ولا قائل به لا يقال لما أعلموا القسم الأوّل دون الثاني، واستتر فيه الضمير دلنا ذلك على أنهم لاحظوا خصوص الوصفية فيه، لأنا نقول يجوز أن يكون الثاني لما دل على المكان، وما ضاهاه ألحقوه بالجوامد مع أنّ ما ذكر أمور سماعية لا يلزم الوقوف على أسرارها، وقد استدلّ له بعض المحققين بأنّ شخصا لو فتح القفل بإصبعه لم يقل له مفتاح لأنه اعتبر فيه هيئة متعارفة وفيه نظر.
وأمّا ثانياً: فلان وصفه وعدم الوصف به يجوز أن يكون لإجرائه مجرى الأسماء كأجرع وأبطح وهو كثير في كلامهم.
وأمّا ثالثاً: فلأن الدابة بمعنى ما يدب مطلقاً لا شهة في أنها صفة وتخصيص العرف لها ببعض أفرادها لا يخرجها عن الوصفية ألا ترى أنّ مملوكا صفة لكل متصف بالمملوكية، وتخصيصه بالرقيق لا يخرجه عن الوصفية لاستتار الضمير فيه، وعمله في الظاهر نحو عندي رقيق مملوك نصفه، وليس هذا مناقشة في المثال ألا ترى قوله تعالى: {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ} [الأنعام: 38] حيث تعلق بها الجارّ والمجرور، ولا نقول قارورة في الدار متعلق الجارّ فقول المصنف وحمه الله إنه وصف لا يتأتى على تحقيق الشريف، إلا أن يكون غير مسلم عنده، ولذا قال بعضهم: يحتمل أن يكون مراده بالوصفية اعتباره المعنى مع الذات، وإن كانت الذات معينة، فيكون اسما اصطلاحيا، وهذا إذا لم يمتنع فهو بعيد جدّاً. قوله: (لكنه لما غلب عليه بحيث الخ) الغلبة كما مرّ أن يكون للفعل عموم بحسب المعنى، فيحصل له بحسب الاستعمال تخصيص ببعض إفراده إمّا إلى حدّ التشخص، فيصير علماً كالنجم أولا فيصير اسماً غالباً كالكتاب للقرآن أو صفة غالبة كالرحمن وهو أعم من أن يستعمل في غيره نادرا أو لا، وتسمى غلبة تقديرية، وهذا جواب عما مز من أدلة العلمية وظاهره أنه استعمل في غيره ث ولفظ الله لم يستعمل في غيره اتفاقا، ويردّ بجعل مجموع المعطوف والمعطوف عليه، وهو قوله: (وصار الخ) مدخول حيث، فاللازم عدم تحقق المجموع قبل العلمية، وانتفاء المجموع يتحقق بانتفاء المعطوف فقط إلا أنّ ظاهر قوله: صاو كالعلم إنه عنده ليس من الأعلام الغالبة أيضاً، ولا يجوز أن يكون مراده من العلم العلم الابتدائي لتبادره عند الإطلاق كما ذهب إليه بعض أرباب الحواشي، وادّعى أنّ المصنف رحمه الله ذهب إلى أنه من الأعلام الغالبة، ويبعده أنّ ما ذكر في نفي علميته مشترك بين الابتداء وغيره ولذا اختلف في قوله: كالثريا فعلى الأوّل هو تمثيل للعلم، وعلى هذا لما صار كالعلم، وسيأتي ما ينوّره. قوله: (مثل الثريا والصعق) الثريا تصغير ثروي مؤنث ثرو إن جعل اسماً للنجم لكثرة كواكبه، ونقل علماً لامرأة أيضاً وكواكبها ستة أو سبعة كما قال:
خليلي إني للثريا لحاسه واني على ريب الزمان لواجد
تجمع فيها شملها وهي سبعة وأفقدمن أحببته وهوواحد
والصعق بفتح العين شدّة الصوت، وبكسر العين الشديد الصوت، والمتوقع للصاعقة والنازلة عليه، ولقب خويلد بن نفيل فارس بني كلاب، وتسكن عيته ويقال صعق كإبل لقب به لأنّ تميما أصابوا رأسه بضربة، فكان إذا سمع صوتا صعق أو لأنه اتخذ طعاماً فكفأت الريح قدره، فلعنها فأرسل الله عليه صاعقة، وهما وصفان في الأصل صارا علماً بالغلبة، والغلبة في الله، والثريا تقديرية، وفي الصعق تحقيقية. وقوله: (أجرى مجراه الخ) فسره المصنف رحمه الله بما فيه غني عن غيره، وقد علمت حالة مما مرّ، وهذا جواب عن دليل العلمية بأنه يوصف ولا يوصف به، ومنه يعلم جواب ما معه برمته لأنه صار اسماً تجري عليه صفاته وتعين تعينا قطع الشركة وصح به التوحيد ويرد عليه أنه قبل العلمية لم يوصف به أصلاً إذا لم يسمع شيء إله فتدبر.(1/59)
قوله: (لأنّ ذاته من حيث هو الخ (ظاهره عدم صحة العلمية فيه بطريق الوضع القصدي وفي شرح المواقف من ذهب إلى جواز تعقل ذاته تعالى جوّز أن يكون له اسم بإزاء حقيقته المخصوصة، ومن ذهب إلى امتناع تعقل ذاته تعالى لم يجوّزه، لأنّ وضع الاسم لمعنى فرع تعقله ووسيلة إلى تفهمه فإذا لم يمكن أن يعقل ويفهم لم يتصوّر وضع اسم بإزائه، وفيه بحث لأن الخلاف في تعقل كنه ذاته ووضع الاسم بإزائه لا يتوقف عليه، إذ يجوز تعقل ذات بوجه من وجوهها، ويوضع الاسم لخصوصها، ويقصد تفهيمها باعتبار ما لا يكنهها، ويكون ذلك مصححا للوضع وخارجا عن مفهوم الاسم على ما عرف أنّ لفظ الله اسم علم موضوع لذاته من غير اعتبار فيه انتهى.
قال شيخ مشايخنا السيد عيسى قدس يى س هـ: إعلم أنهم عرفوا العلم بما وضع لشخص
بعينه، والمتبادر منه أن يكون التشخص ملاحظا للواضع، وأورد يهليه صدر الأفاضل أنه يلزم أن لا يمكن تسمية ما لا نعرت بعينه كالولد والمملوك الغائبين، وأن لا نعلم معاني الأسماء الموضوعة لما لا نعرفه كالله والملائكة والأنبياء، وعليه يترتب أنه لا يمكن لغير الله وضع لفظ له، والجواب أنه ليس المراد الشخص، والتشخص بعينه، وملاحظته حين الوضع بل يجوز الوضع له، وان كنا نلاحظه بوجه مساوله في الواقع، ومن المعلرم أنّ الوضمع لشيء لا يستلزم معرفة الموضوع له بالكنه، ولا بوجه مشخص بل مساو كما تقرّر في المبهما. ت، فاندفع الأوّل والمعلوم في الأشخاص المذكورين هو بوجوه مساوية ولا خلف في الجهل بالشخص، والكنه إلا أنه يبقى على الأوّل أنه ذكر في الرسالة الوضعية عند تقسيم الموضعات إلى الإعلام وغيرها أنّ اللفظ الذي مدلوله مشخص إن كان وضعه شخصيا فهو علم وان كان كليا فغيره من المبهمات ونحوها، وعرف الوضع الشخصيّ بأن يكون الموضوع له ملاحظا بخصوصه مقصوداً
بعينه، والوضع الكليّ بأن يكون الموضوع له متصوّراً بوجه كليّ، فوضع لكل من الجزئيات ووافقه غيره، والحق أنه كلام مموّه ومؤوّل وليس العلم منحصراً فيما ذكر لما مرّ من كلام شرح المواقف، وقد صرّحوا في تفسير العلم بما وضع لشيء مع جميع مشخصاته بأنّ المراد أن تكون ملاحظتها بوجه مختص وضعه لفرد المخصوص بل في كثير من المواضع اضطرّوا لذلك، كما في أعلام الكتب والعلوم إن لم نقل بانها أعلام جنسية بل جميع المشخصات قلما تكون ملاحظة بالذات كما في الإنسان المتولد المتغيرة تشخصاته من الولادة إلى الموت فالتشخص المستمر الباقي من الأوّل إلى الآخر قلما يعرفه أحد إلا بوجه مجمل صادق عليه، فعند التحقيق يجب القول بذلك، وحيث تحقق هذا لم يبق في المقام إشكال بعون الملك المتعال، فظهر أنّ ما توهمه الفاضل المرشدي في هذا المقام من أنّ الوضع في العلم الشخصي شخصيّ إن أراد بالتشخص الجزئي الحقيقي بحسب المفهوم، فهو توهم ناشىء من ظاهر عبارة الرسالة وغيرها، والتحقيق خلافه، وإن أراد أنه أمر مخصوص مشخص في نفس الأمر، فله وجه لكن لا يضرنا، ثم إن أردت تحقيق هذا المقام، فلا بد من النظر في أنه هل يجب في العلم أن يكون الملاحظ أمرا خاصا بشخص في نفس الأمر فيوضع لذلك الشخص، وفي المبهمات أمرا كلياً في نفس الأمر يوضع لكل فرد، فيكون ذلك مدار الفرق، وهو الأظهر أو لا يلزم ذلك بل يمكن ملاحظة الكليّ، والوضع العلمي لكل واحد من أفراده على ما قيل في أسماء الكتب والعلوم ونحوها محل نظر، وحنيئذ إثبات الفرق بين المبهمات والأعلام على تحقيق السيد مشكل فلا بدّ من نظر دقيق، وبعد فالمقام لا يخلو من كلام، والغلبة التي ذهب إليها المصنف رحمه الله أسلم الطرق، ومما مرّ عن شرح المواقف علم جواب ما أورده وأمّا إن العرب وضعت لكل شيء اسماً تجري عليه صفاته، فقد قيل إنه فيما تعرف حقيقته، وأمّا ما ليس كذلك فعدم الوقوف عليه سبب لعدم الوضع له، وتقرير الدليل بأنّ ذاته من حيث هو بلا ملاخظة صفة غير معقول للبشر، والعلم ما وضع للذات من غير صفة، فلو كان علما كان دالاً على الذات، والذات لا يكون مدلولاً عليه بلفظ، فلا يكون علما له: قيل: وهو مبني على مقدمات ضعيفة، أمّ الأولى فلا نسلم أنّ ذاته من غير صفة غير معقول للبشر بل مذهب أهل السنة جواز معرفة الله بالكنة لغير الله، وان سلم فلم لا يجوز أن يكون الواضع هو، وهو يعلم كنهه، وان كان الواضمع غيره وقلنا هو على التفصيل غير واقع، فلم لا يجوز(1/60)
ملاحظته على الإجمال، ولا نسلم أنّ ملاحظة المجمل إنما هي بوجه وصفة خارجة بل هو نوع من التعقل للذات انتهى.
وقيل: عليه إنّ القائل به هو عنده غير واقع فلا يكفي به الجواز، ولأنه لو كان الواضع
هو الله علم من تتبع موارد الاستعمال، وهو يتوقف على فهم ما أرد ولأنه لا معنى للإجمال في البسيط، إلا ما ذكر وقد قيل أيضاً إنّ الظاهر أن واضع اللغة لا يفعل إلا ما فيه فائدة معتدّ بها،
بل كل عاقل كذلك والشيء الذي له صفات وجهات كثير يعلم بوضع أسماء الصفات فوضع العلم إنما تكون فائدته معرفة الذات من غير صفة إذ لو قصد ما يحصل بوضع الصفات لم يكن في وضع العلم فائدة يعتدّ بها، فإذا فرض أن تلك الذات من حيث هي لا يمكن تفهيمها واعلامها للمخاطب لا يبقى لوضع العلم فائدة أصلاً، وهو غير مسلم أيضا عند الذاهب إلى العلمية لأنه يقول لها فوائد أخرى، كإجراء الصفات، وهو لا ينفي أيضا كونه اسم جنس، فهو اقناعي لا يحسم عرق النزاع، وقد نقل هنا عن المصنف حاشية قال فيها ما نصه فيه نظر إذ يكفي في وضع العلم تعقله بوجه يمتاز به عن غيره من غير أن يعتبر ما به الامتياز في المسمى، فيمكن وضع العلم لمجرّد الذات المعقولة في ضمن بعض الصفات، وقد تقرّر في الكلام أنه يمكن أن يخلق الله العلم بكنه ذاته في البشر، ولأنه إنما يتمشى إذا لم يكن الواضع هو الله، والتحقيق أن تصور الموضوع له بوجه ما كاف في وضع العلم، وكذا في فهم السامع عند استعماله انتهى.
ويعلم أمره مما مرّ، وانما أطلنا الكلام هنا لكثرة ما فيه من القيل والقال، فربما ظن أنا
لم نحط بما تالوا خبرا، وقد بينا علمية الاسم الشريف في رسالة مستقلة حققنا فيها معنى التشخص فمن أراد تحقيق هذا المقام فلينظر ما كتبناه فيها.
واعلم أنّ علمية العلم بالغلبة بالوضع أيضا كما صرّح به بعض أرباب الحواشي، وعند الرضى أنها لا تحتاج إلى وضع قال: وقد يصير بعض الأعلام اتفاقيا أي يصيرعلما لا بوضع واضع معين بل لأجل الغلبة، وكثرة الاستعمال في فرد، وقيل: فيه وضع غير قصدى، وبه يندفع ما قيل من أنّ ما ذكره المصنف على تقدير تمامه يفيد أنه ليس من الإعلام الغالبة أيضا إذ الإعلام بها صارت موضوعات لأشخاص معينة يدل بها عليه، وهو ليس كذلك. قوله: (فلا يمكن أن يدل عليه) بالبناء للمجهول وفي بعض النسخ، فلا يمكته أن يدل بصيغة المعلوم أي لا يمكن البشر أن يدل عليه غيره، وهو على تقدير كون الواضع البشر. قوله: (لما أفاد ظاهر الخ) فإنّ ظاهره أنه متعلق به باعتبار معناه الوضمي كمعبود ونحو.، وانما قال ظاهر لأنه يحتمل تعلقه بيعلم في قوله تعالى: {يَعْلَمُ سِرَّكُمْ} [الأنعام: 3] الخ ويحتمل تعلقه به باعتبار معنى خارج عته لازم له أو مشتهر به اشتهار حاتم بالجود كقوله:
أسد عليّ وفي الحروب نعامة
وأمّا كون الاسمية لا تقتضي الدلالة على مجرّد الذات كما في أسماء الزمان والآلة، يلم يلتفت إليه المعكحنف رحمه الله، وسيأتي تفصيله في سورة الأنعام فاندفع ما قيل عليه إن صحة معناه كما تكون متعلقة بلفظ الله مع العلمية بالغلبة، تكون باعتبار تضمنه معنى المعبودية، أو
اشتهاره بها. قوله: (لأنّ معنى الاشتقاق هو كون أحد اللفظين مشاركاً للاخر الخ) الاشتقاق إن اعتبر فيه الحروف الأصول مع الترتيب وموافقة الأصل في المعنى فهو الاشتقاق الصغير، وإلا فإن اعتبر الحروف الأصول مع عدم الترتيب فالكبير، وإلا فإن اعتبر مناسبة الحروف في النوعية أو المخرج مع عدم الموافقة في جميع الحروف الأصول فاكبر ولا بد من تناسب المعنيين في الجملة وزيادة معنى أحدهما على الآخر ويعتبر في لفظه أن يتغاير المشتق والمشتق منه، وهو يعرّف باعتبار العلم، فيقال: هو أن تجد بين اللفظين تناسبا وباعتبار العمل، فيقال: هو أن تأخذ من اللفظ ما يناسبه، وباعتبار حال اللفظ، فيعرف بما ذكره المصنف فلا يرد عليه ما توهم من أن تعريف بالمباين، ويقال هو مسامحة منه، وظاهر أنه ليس باسم زمان، ولا مكان وباب قارورة وأحمر نادر، والمدعى ظني فيكفي هذا في إثبات وصفيته على ضعف فيه فاندفع ما أورد عليه من أنه لا يستلزم الوصفية إذ لا يسمى الزمان والمكان اشتقاقا بهذا المعنى من غير وصفية، وأيضا الكتاب والإمام من المشتقات بهذأ المعنى ولا وصفية فيهما، والمنكر لاشتقاقه لا يسلم التوافق في المعنى. قوله: (وقيل أصله لاها الخ) فهي على هذا غير عربية سريانية كما ذكره المصنف وغيره، أوءجرانية كما ذكره الإمام(1/61)
والعبري والعبراني بكسر العين لغة بني إسرائيل من اليهود، والسريانية لغة آدم.
وقال ابن حبيب: كان اللسان الذي نزل به آدم من الجنة عربياً، ثم حرّف وصار سريانيا،
وهو منسوب إلى أرض سريانة وهي جزيرة كان بها نوح عليها السلام، وقومه قبل الغرق وهو يشاكل اللسان العربي إلا أنه محرّف، وكان لسان جميع من في الأرض إلا رجلاَ واحدة يقال له: حر فلسانه عربيّ كذا في الزاهر لابن الأنباري رحمه الله، وهم يلحقون ألفاً في أواخر الكلم، فيقولون لاها رحمانا كما في الفارسية ومعناه ذو القدرة، ويحتمل أنه من توافق اللغات كما ذكره الإمام رحمه الله، وأخر هذا القول لضعفه إذ لا وجه للذهاب إلى العجمة من غير دليل مع أنّ قولهم تأله وأله ياباه، فلا وجه لما قيل من أنه كان ينبغي ذكره مع الأقوال السالفة لبيان أصله مع أنّ تلك مبنية على عربيته، وليس هو من عدادها قيل: والتصرف فيه يدل على أنه لم يكن علماً في غير العربية ألا تراهم اشترطوا في منع صرف العجمة كون الأعجمي علماً في العجمية لما مرّ من تصرّف العرب فيه المضعف ليجمته. قوله: (فعرّب بحذف الألف الأخيرة وإدخال اللام عليه) يقال عرب اللفظ با أضشديد، وأعرب أي نقل إلى لغة العرب، وهل يشترط فيه تغيير اللفظ أم لا فيه اختلاف، والأصح أنه أكثريّ، وفي كلام المصنف ميل إلى القول الأوّل قوله: (وتفخيم لامه (أي لام الله وفي كلامه ما يوهم اختصاص التفخيم بهذا
الاسم، وليس كذلك لأنّ من القرّاء من يغلظ اللام المفتوحة إذا تقدّمها صاد أو طاء أو ظاء مفتوحة أو ساكنة، والتفخيم هنا ضدّ الترقيق، ويطلق على ما يقابل الإمالة، وعلى إمالة الألف نحو مخرج الواو كما يعرفه أهل الأداء في الصلاة، واشتهر في لسمان القراء التفخيم في الراء، والتغليظ في اللام، وضدهما الترقيق والتفخيم بعد الضم والفتح أمر لازم يكاد ينعقد الإجماع عليه، إلا ما نقله الداني وتبعه في الإقناع في رواية شاذة عن السوسيّ، وروح من ترقيقها وقد ردّها الجمهور، وقالوا: إنها لم تصح رواية ودارية، وأمّا التفخيم بعد الكسر، فقال ابن الجزريّ: إنه متفق على تركه ولم يقله غير الزجاج، ونقله الشيخان والقراء لم يلتفتوا إليه ولم يعدوه خارقا للإجماع ولذا مرضه، واضطرب فيه كلام الكشاف، فقول السيد والسعد قد أطبقوا على أنه لا تفخيم عند كسر ما قبلها فيه نظر وقد يقال أنهما لم يعتد بالشاذ فإن قلت إذا أميلت الفتحة هل ترقق اللام معها أو تفخم قلت فيه وجهان كما في نرى الله بالإمالة، والتفخيم لتعظيم اسمه، وقيل: للفرق بينه وبين اللات إذا وقف عيها بالهاء وتفصيله في كتب القراآت وقوله سنة أي طريقة معروفة عند الناس والقراء.
تنبيه: الترقيق انحاف الحرف عن صوته ويقابله التفخيم وعبر عنه القراء في اللام بالتغليط
فإن خص باللام فالتفخيم، وقال الجعبري: هما مترادفان والحروف بالنسبة للتفخيم والترقيق أربعة أقسام: مفخم وهو حروف الإطباق الضاد والطاء والظاء والصاد ونحوها، ومرقق وهو ما عداها، وله تفصيل في علم القراآت. قوله: (وحذف ألفه (أي ألف الله التي بعد اللام لحن أي خطأ في اللغة وفسر في القاموس اللحن بالخطا في القراءة، فلا وجه لما قيل من أن اللحن مخالفة صواب الإعراب وما هنا ليس منه، وقال الأسنويّ رحمه الله: إنه لغة حكاها ابن الصلاح عن الزجاجي فلا لحن فيه حينئذ، وفي التيسير إنه لغة جائزة في الوقف دون الوصل، والأفصح إثباتها، وإن تملح به المولدون في أشعارهم كثيرا كقوله:
أيها المستبيح قتلى خف الله وأت عينيك للدم المستحقة
قوله: (ولا ينعقد به صريح اليمين) يشير إلى أنه تنعقد به الكتابة مع النية كما ذكره الجويني والغزالي من الشافعية، وان قال النوويّ منهم: إنه ينبغي أن لا يكون يميناً أصلاً لأنّ بله يحتمل أن يكون يخعذ من البلل، وهو الرطوبة، ولذا فسدت به الصلاة لتغييره المعنى، ونقل ما ذكر أرباب الحواشي من كتب الشافعية ولم ينقلوه عن الحنفية، وقد نقلى شيخنا المقدسيّ في الرمز عن كتب المذهب، أنه إذا قال بله لا يكون يميناً إلا إذا أعرب الهاء بالكسر أو نوى اليمين انتهى. وقوله: (تفسد به الصلاة) أي إذا وقع في لفظ القرآن كما في الحمد لله، أو في البسملة إذا قلنا أنها من السوإة، كما هو مذهب المصنف، وفي التفسير الكبير أنه في التكبيرة.(1/62)
قوله: (ألا لأبارك الله في سهيل الخ الم أقف على تانله، وهو دعاء على رجل اسمه سهيل
بعدم البركة والله مرفوع فاعل بارك وما زائدة، وروى إذا ما بارك الله في الرجال، فالتمثيل به في موضعين. قوله: (والوحمن الرحيم اسمان بنيا الخ) أي لأجل المبالغة والذي ذكره النحاة ير باب اسم الفاعل أنّ منه صيغا بنيت للمبالغة، ونقلت من فاعل إلى فعال كضراب، وفعول كشروب، ومفعال كمنحار، وفعيل كسميع، وفعل كعمل، وهي تعمل عمل اسم الفاعل رفعاً ونصباً.
كقوله:
ضروب بنصل السيف سوق سمانها
ومنع الكوفيون عملها مطلقاً لأنها لا تجاري الفعل وزنا، ولزيادة المبالغة فيها لا تساويه
معنى فقدروا للمنصوب بعدها عاملاً، وسيبويه جوّز أعمال الخمسة وخالفه كثر البصريين في أعمال فعيل وفعل دون غيرهما إلا أنهم لم يذكروا موازن رحمن فيها ولم يشترط أحد من النحاة لزوم فعلها وانما اشترطوه في الصفة المشبهة لأنها لا بذ لها من ملاقاة فعل لازم ومن ثبوت معناها، ولذا قال في شرح التسهيل: إنّ ربا وملكا ورحمن ليست منها التعدّي أفعالها، ولم يقل أحد بنقل فعل ما تعدى منها الفعل المضموم العين، والمسطرفي المتون المعوّل عليها أنّ فعل بفتح العين وكسرها إذا قصد به التعجب يحوّل إلى فعل المضمون كقصو الرجل بمعنى ما أقصاه، وحيحئذ فيه اختلاف هل يعطي حكم نعم أو فعل التعجب كما فصلوه ثمة والحاقهم له بنعم كالصريح في عدم تصرّفه، وأنه لا يؤخذ منه صفة أصلأ، فما نقلوه عن الفائق في فقير ورفيع مع أني راجعتة، فلم أجده فيه وان كانت الثقة بناتله تأبى سوء الظن به مخالف لما صرّح به الزمخشريّ في غيره، كالمفصل بل لا صحة له لأنّ قولهم رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما بالإضافة للمفعول دون الفاعل يقتضي عدم اللزوم وأنه ليس بصفة مشبهة، وقد يقال: إنّ تمثيل المصنف له بعليم دون مريض وسقيم فيه إيماء إلى ما ذكر إلا أنّ كلام النحاة لا يخلو عن شيء لعدم ذكر نحو رحمن في أبنية المبالغة حتى صار باعثا لاذعاء العلمية فيه لبعض أهل العربية، فقد ظهر مما مرّأن فيهما وجهين.
أحدهما: وهو الأصح أنهما من أبنية المبالغة الملحقة باسم الفاعل فهما من فعل متعد
بلا تردّد.
وثانيهما: أنهما صفة مشبهة على ما فيه.
وقول الشريف تبعاً للشارح الفاضل، فإن قيل الرحمن صفة مشئهة فكيف يشتق من رحم، وكذا القول في رب وملك حيث عدا صفة مشبهة، وأمّا الرحيم فإن جعل صيغة مبالغة كمأ نص عليه سيبويه في قولهم هو رحيم فلاناً، فلا إشكال فيه، وان جعل من الصفات المشبهة، كما يشعر به تمثيلهم بمريض وسقيم اتجه عليه السؤال أيضا وأجيب بأنّ
الفعل المتعدي قد يجعل لازما بمنزلة الغرائز فينقل إلى فعل بضم العين، ثم يشتق منه الصفة المشبهة، وهذا مطرد في باب المدح والذم كما نص عليه في تصريف المفتاح، وذكره المصنف في فقير ورفيع ومن ثمة قيل معنى رفيع الدرجات رفيع درجاته لا رافع الدرجات أنتهى كلام مموّه مختل من وجوه:
الأوّل: أنه ذكر في شرح التسهيل إنّ رباً ليس صفة مشبهة بل اسبم فاعل لأنّ أصله رابب
فقصر منه أو ربب كحذر فهو من صيغ المبالغة الملحقة باسم الفاعل.
الثاني: أنّ نقل الفعل الذي ذكروه لا وجه له رواية ودراية، كما عرفته.
الثالث: أنّ ما نقل عن تصريف المفتاح على ما بيناه لك لا يطابق مدعاه، ولا داعي لهذه التخيلات سوى ادّعاء أنه صفة مشبهة ودونه خرط القتاد.
الرابع: أن استناده لما ذكر في رفيع الدرجات لا يجدي وانما فسروه بما ذكر لأنّ
المراد درجات عزه وجبروته ليناسب المراد من. قوله: {ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ} [غافر- الآية 15] وهي بسطة ملكه وسعة ملكوته، وتلك الدرجات ليست مرفوعة بفعل كما نبه عليه بعض الفضلاء والمبالغة في الكمّ والكيف، وفيه الدوام والثبات.
فإن قلت قد قال الدمامينيّ رحمة الله. إنّ صفاته تعالى التي على صيغ المبالغة كرحيم مجازية إذ لا مبالغة في صفاته تعالى لأنها تنسب للشيء أكثر مما له، أو تدل على الزيادة فيما يقبلها وصفات الباري منزهة عن ذلك.
قلت: هو ليس بشيء لأنّ صفات الأفعال قابلة للزيادة، وكذا صفات الذات باعتبار متعلقاتها وان لم تقبله في ذاتها كما صرحوا به. قوله: {مَن رَّحِمَ} بكسر الحاء لا بضمها لنقله لفعل المضموأ العين كما توهم لما مرّ. وقوله: {غَضْبَانَ} قيل في هذه التشبيه سوء أدب، والأولى التشبيه بالمنان من المن وليس بشيء لأنه مثله في اشتقاق فعلان(1/63)
من فعل بكسر العين ومن ليس من هذا الباب بل من باب حسن مع أنّ إطلاق غضبان عليه تعالى وارد وفي الحديث " سبقت رحمتي غضبي " (1 (فأين سوء الآدب، ولذا لم يذكر المصنف رحمه الله تعالى سكران الذي مثل به الزمخشرقي، وفي تمثيله لرحيم بعليم مريض وسقيم الذي مثل الزمخشريّ إشارة إلى أنه من المتعدّي لإلحاقه باسم الفاعل دون الصفة المشبهة، وما قيل: من أنه جعل لازما بالنقل وهم، وما قيل من أنّ الرحمن معرّب وهو بالعبرية رخمانا بالمعجمة، ويدل عليه قولهم ما الرحمن لما سمعوه قول واه وما ذكر تعنت في الكفر كما بين في محله. قوله: (والرحمة في اللغة وقة القلب الخ) قيل الانعطاف المقتضي للإحسان أمر روحاني، وانعطاف الرحم على ما
فيه جسمانيّ وبينهما مباينة تنافي أخذ أحدهما من الآخر فلا وجه قوله ومنه الرحم.
وأجيب بأنّ الانعطافين سببان للحفظ، فاستعيرت الرحمة لانعطاف الرحم، واشتق منها
اسم لها، وقيل: أنه أراد هنا بالانعطاف الميل الروحاني أعني الشفقة والرقة لا الجسماني لأنه ليس مفى الرحمة، وان كان مسبباً عنه ومشابها له، ومدلولاً لبعض ما يلاقيه في الاشتقاق كالرحم والميل الروحاني هو المقتضى للتفضل والإحسان يعني أنّ وصفه بالاقتضاء المذكور للاحتراز عن الجسماني، فإنه ليس معنى الرحمة كما صرح به بعضهم، وهذا كله واه، فاصغ لما يتلي عليك، فإنه ورد في الحديمف الصحيح) الرحم شجنة من الرحمن " (1) .
وقال الإمام القرطبيّ: إنه نص في الاشتقاق فلا مجال للشقاق.
وقال الراغب في معنى الحديث أنه تعالى لما جعل بين نفسه وبين عباده سبباً كما أنه
كتب على نفسه الرحمة لهم وأوجب في مقابلتها شكر نعمته لما كان هو السبب الأوّل في وجودهم وخلق قواهم، وقدرهم وسائر خيراتهم كذلك جعل بين ذوي اللحمة بعضهم مع بعض سببا أوجب على الأعلى التوقر على الأدنى، وعلى الأدنى توقير الأعلى فصار بين الرحم والرحمة مناسبة معنوية كما أنّ بينهما مناسبة لفظية، ولذا عظم شكر الوالدين، وقرنه بشكره لأنهما السبب الأخير في الوجود يعني أنّ بين الرحمة والرحم مع الاشتراك في الحروف مناسبة ومثابهة معنوية، وذلك كاف في صحة الاشتقاق كما يرشدك إليه تعريفه السابق، فإن لنا حالة روحانية تثبت للنفس وكيفية أخرى للقلب وحالة ثالثة جسمانية تشابه الأولى في الحفظ، وقد تنشأ وتتسبب شنها كما يثاهد في اعتناق الأحباب، وهؤلاء توهموا أنه لا بد من اتحاد معناهما، وهو من قصور النظر فلا يغرّنك ما هنا من الأوهام الناشئة من عدم، فهم المرام كقول بعض علماء اأحصر أنّ المصنف إنما فصلها بقوله: ومنه إشارة إلى أنه مشترك مع الرحمة في المادّة لأ. أنه مشتق منها فافهم. قوله: (ومنه الرحم لانعطافها على ما فيها) الرحم بفتح الراء وكسر الحاء موضمع يكون الولد فيه، وقد يخفف بتسكين الحاء مع فتح الراء وكسرها في لغة، وفي لغة بكسر الحاء اتباعاً للراء ثم سميت القرابة رحماً، وهي مؤنثة وقد تذكر. وقوله: (لانعطافها الخ) إشارة إلى س ابينهما من المشابهة، والمناسبة الكافية في صحة الاشتقاق كما عرفته. قوله: (وأسماء الله تعالى إنما تؤخذ الخ) قيل المراد مطلق أسماء الله تعالى، أو المأخوذة من الرحمة، كالرحمن الرحيم وأرحم الراحمين، وكان المراد الثاني لكن سياق المصنف رحمه الله حيسئذ ركيك مخالف للظاهر.
وأمّا الأوّل: فغير صحيح لأنّ من أسمائه ما هو حقيقة من غير تأويل كالله الحيّ القاهر
العليم ونحوها، ومنها ما أطلق عليه استعارة ثم صار كالحقيقة فيه، ومنها ما هو مجاز بطريق آخر يعرفه من نظر في أسمائه الحسنى وشروحها وقيل إنه يعني أنه إذا أخذ اسم له تعالى مما ينبىء عن الانفعال المنزه هو عنه يؤخذ باعتبار غايته، وحاصله أنه يجعل مجازاً عنها بعلاقة السببية، نالرحمة والرقة سبب للتفضل والإحسان، ولو جعل مجازاً لمحن إرادة الإنعام لجاز، فإنها سبب للإرادة أولاً وللإنعام.
ثانياً: كما جعل الزمخشري الغضب مجازاً عن إرادة الانتقام فيما سيأتي فالحصر في
قوله: إنما تؤخذ الخ إضافيّ بالنسبة إلى المبادي أو المراد هي أفعال مثلاً، فإنّ إرادتها أيضاً من الغايات أو المراد بها المسببات وهي مسببة عن تلك الانفعالات انتهى.
قيل وإنما اعتبر التجوّز في مبدأ الاشتقاق دون المشتق لئلا يحتاج إلى بيان التجوّز في كل
فا يطلق عليه تعالى من المشتقات. أقول: (ما ذكره المصنف برمته من التفسير الكبير) ، فالعهدة عليه إلا أنه كلام غير مهذب، ولذا(1/64)
اضطرب فيه كلام الحواشي، فإنه أطلق في الأسماء وليس على إطلاقه، وذكر أنّ مباديها انفعالات وغايتها المقصودة منها أفعال، وليس كذلك في كل اسم مؤوّل منها حتى ما نحن فيه، فإنّ الرحمة الشفقة والرقة وهي في الحقيقة كيفية لا انفعال، ولذا قيل إنّ الانفعال لازم لها لأنّ حصولها بتبعية المزأج الذي هو كيفية حاصلة من تفاعل البسائط بين فاعل ومنفعل، والله تعالى منزه عن ذلك كله، وقيل المراد بالإنفعال ما ليس بفعل الكيفيات، وليس هو بالمعنى المشهور، ثم إنه إذا جعل التأويل والتصرّف في مأخذ تلك الأفعال ومصادرها، كما قرّره أهل المعاني في الاستعارة التبعية، فهو غير جار هنا لأنه مجاز مرسل لا يحتاج للتبعية كما صرحوا به، فلذا اعتذر عنه بما مرّ مما لا يخلو عن شيء، وأيضاً من الأسماء ما أخذ باعتبار المبدأ كالسلام بمعنى معطى السلامة فيما قيل، فلذا قيل: إنّ المراد أن ما احتاج منها للتأويل يؤول بما يليق بجلاله، وأذا ظهر المراد سقط الإيراد، وما قيل من أنّ الأقرب هنا أن يقال أنه حقيقة شرعية لأنه يراد سنه الإنعام من غير أن تخطر رقة القلب بالبال لا ينافي ما ذكره باعتبار حقيقته اللغوية كما لا يخفى، وقوله قدس سره: إنه يجوز فيه أن يكون استعارة على سبيل التمثيل كما في الغضب فيه ما سيأتي بيانه. قوله (أبلغ من الرحيم) أي أكثر مبالغة، فهو أفعل من المزيد على خلاف القياس، لأنه سمع من العرب أو هو على قول الأخفش الذي جوّزه، وليس من البلاغة على القياس بمعنى أزيد بلاغة لأنّ البلاغة لا يوصف بها المفرد كما صرّحوا به إلا أن يقال: إنه اصطلاحيّ أو أغلبيّ، وأمّا إنّ المراد بغير المفرد المركب من الغير أو مع الغير كما قيل فتكلف، وقيل الرحيم أبلغ لتأخره.
وأنه يؤيده قول ابن المبارك الرحمن إذا سئل أعطى والرحيم إذا لم يسأل غضب وفيه
نظر، وقيل هما سواء وقيل كل أبلغ من وجه. قوله: (لأن زيادة البناء الخ) هذه القاعدة أوّل من
أسسها ابن جنى في الخصائص وقرّرها في المثل السائر بما حاصله أنّ اللفظ إذا كان على وزن من الأوزان، ثم نقل إلى وزن آخر أكثر منه لا لغرض آخر لفظيّ، كالإلحاق فلا بد أن يتضمن المنقول إليه معنى أكثر مما تضمنه الأوّل لأنّ الألفاظ ظروف المعاني، فإفراغها في ظرف أوسع مما كانت فيه من غير فائدة عبث، وهذا مما لا نزاع فيه نحو خشن واخشوشن وقال: إنه لا بدّ أن يكون ذلك في فعل أو مشتق، وظنه بعضهم مطلقاً، فأورد عليه أنّ عليماً أبلغ من عالم مع تساويهما وأورد غيره نحو رجل ورجيل ثم اعتذر عنه بأنه زيادة نقص لا مبالغة كما قال بعض الشعراء يذم صديقاً له:
صحبته ولم يكن نظيري ~ نقصت إذا جعلته تكثيري
كما تزاد الياء للتصغير وله نظائر من كلام الأدباء المتظرفين وأطال فيه بما نحن في غنية
عنه، وأنت إذا تنبهت لأنّ القاعدة مخصوصة باكثر الذي نقلته العرب عن الأقل وغيرته عنه علمت أنّ أكثر ما أورد مدفوع بالتي هي أحسن وأنّ قوله قدس سره كغيره: إنه منقوض بمثل حذر وحاذر، وجوابه بأنّ شرطه بعد تلاقي الكلمتين في الاشتقاق اتحادهما في النوع كفرح فرحا وأنه أكثريّ، فلا نقض وبأن حذراً إنما كان أبلغ لإلحاقه في الثبوت بالأمور الجبلية كشره وفطن فجاز أن يكون حاذر أبلغ من حذر لدلالته على زيادة الحذر وان لم يدل على ثبوته ولزومه مع اندفاعه لا يخلو من الكدو فإنهم صرحوا بأنه قد كثر استعمال فعيل في الغرائز كشريف وكريم وفعلان في غيرها كغضبان وسكران، فيقتضي أنّ عليماً أبلغ، ولو من وجه وأن قوله أنّ حذرا يدل على الثبوت يقتضي أق حذرا صفة مشبهة، وقد صرح ابن الحاجب وغيره بأنه من أبنية المبالغة المعدودة من اسم الفاعل فهما متحدان نوعا، وعلى تسليم تخصيصه بالمشتقات لا يرد عليه شقدف وشقنداف للمحمل الصغير والكبير كما في الكشاف حتى يقال إنه أغلبيّ لما في القاموس من أنّ الشقدف مركب معروف بالحجاز وأمّا الشقنداف فليس من كلامهم، " ولا ينافيه نقل الزمخشريّ له عن بعض الإعراب لأنه قاله هزلاً وتمليحاً، ومثله لا تثبت به اللغة كما قيل لبعضهم لم صار الدينار خيراً من الدرهم والدرهم خيراً من الفلس فقال: لأنّ الفلس ثلاثة أحرف، والدرهم أوبعة والدينار خمسة، وقطع في كلام المصنف الأوّل مخفف الطاء، والثاني مشدد وكبار الأوّل بضم الكاف وتخفيف الموحدة،(1/65)
والثاني بتشديدها مبالغة في كبير بمعنى عظيم. قوله: (وذلك إنما ثؤخذ الخ) إشارة إلى الزيادة المدلول عليها بزيادة البناء المستلزمة للأبلغية، وهي أمّا باعتبار الكمية في مبدأ الاشتقاق، وهو الرحمة والكمية العدد نسبة إلى كم بعد ما شدّدت ميمه جريا على القاعدة المعروفة في باب النسب والكيفية نسبة إلى كيف التي يسأل بها عن الحال الذي يسمونه مقولة الكيف، وكيفيتها جلالتها وعظمتها ونفاستها، وكثرة كميتها إمّ باعتبار كثرة افراد متعلقها من المرحومين، أو بتعدد ما تتعلق فيه من الدنيا والآخرة أو باعتبار كثرة ما يحصل به من النعم أو بكثرة زمانه الواقع فيه كزمان الآخرة
المؤبد، فهذه وجوه أربعة سيأتي شرحها وتمثيلها. قوله: (فعلى الأوّل قيل يا رحمن الدنيا الخ) أي على اعتبار المبالغة في الكمية خص الرحمن بالدنيا دون الرحيم، فإنه خص بالآخرة لكثرة المرحومين فيها كما بينه المصنف رحمه الله، وهذا بناء على أنّ النعم فيها تعم المؤمن والكافر والبر والفاجر، وان كانت النعمة التامّة مخصوصة بالمؤمنين لاتصالها بسعادة الأبد، وقيل لا نعمة لله على كافر والصواب ما مرّ، فإن فلت كيف تختص رحمة الآخرة بالمؤمنين، وفد ورد في الحديث الشريف شفاعته صلى الله عليه وسلم لعامّة الناس من هول الموقف) 1) وأدهـ يخفف عنهم العذاب في الآخرة كما ورد في حق أبي طالب (2 (وارتضاه المصنف رحمه الله في سورة الزلزلة، فلو قال: لعموم رحمة الدنيا لجميع المؤمنين والكافرين خفت المؤنة قلت: قد أورد هذا بعضهم، وأجاب عنه بأنّ الكفار في الأوّل تبع غير مقصودين كيف، وهم بعد الموقف يلاقون ما هو أشد من هو له، فليس ذلك رحمة في حقهم، وتخفيف العذاب سما تردّد فيه المصنف رحمه الله، وعلى فرض تخفيفه قيل أنه ينزل من مرتبة من مراتب الغضب إلى مرتبة دونها، فليس رحمة من كل الوجوه، ولا ينافي العذاب فتدبر. قوله:) وعلى الثاني قيل يا رحمن الدنيا والآخرة ورحيم الدنيا) أي على اعتبار المبالغة في الكيفية قيل ذلك وبين بأن كثرة الجلائل تستلزم كثرة الجلالة، وهي كيفية النعم إلا أنه قيل عليه إنّ هذا يصح أن يكون بالاعتبار الأوّل لأنّ نعم الدنيا والآخرة تزيد على نعم الدنيا، وردّ بأنه يلزم أن يكون ذكر رحيم الدنيا بعده لغواً إذا لمراد معطى نعمهما كليهما، وقد حصل بإضافة الرحمن إليهما.
وأجيب عنه بأن لا نسلم أنّ المراد مجرّد ذلك بل مقصود القائل التوسل بكلا الاسمين المشتقين من الرحمة في مقام طلبها مشيراً إلى عموم الأوّل وخصوص الثاني، ويحصل في ضمته الاهتمام برحمته الدنيوية الواصلة إليه بالباعثة لمزيد شكره، وقد اعترض عليه بأنّ الوارد في الأحاديث المرفوعة كما رواه الترمذي والحاكم في دعاء مأثور فيه: " الهم فارج الهئم ى ف النمّ مجيب دعوة المضطر رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما أنت ترحمني فارحمني وحمة تغنيني بها عمن سواك " وليس الآخران مرويين ولا صحيحين حتى يستدل بهما والقول بأنّ المصنف لم يذكر أنهما واردان في الحديث، فيكفي كونهما من كلام السلف الأخيار ليس بشيء، وأمّا
احتمال أن يراد في الأوّل جلائل النعم، وفي الثاني دقائقها فلا يجدي. قوله: (لأنّ النعم الأخروية الخ) الجسام جمع جسيم بمعنى عظيم ومعناه في الأصل عظيم الجسم، فاستعير لما ذكر أو أطلق عليه إطلاق المشفر والمرسن يعني أنّ إضافة الرحمن للدارين باعتبار ما فيهما من الجلائل، وإضافة الرحيم للدنيا، وان اشتملت على حلائل النعم ودقائقها باعتبار الثاني لأنه متمم لما قبله، ولذا أخر عنه كما سيأتي وقد عرفت ما فيه رواية ودراية فتدبر. قوله: (وإنما قذّم الخ) أي قياس نظائره مما جمع فيه بين وصفين أحدهما أبلغ والقياس هنا بمعنى القاعدة أو اللائق المعقول قال قدس سره الأبلغ إذا كان أخصر مما دونه، ومشتملاً على مفهومه تعين في الإثبات الترقي وفي النفي عكسه، إذا لو قدّم كان ذكر الآخر عارياً عن الفائدة كما في عالم تحرير، واذا لم يكن الأبلغ مشتملاً على مفهوم الأدنى كالرحمن والرحيم إذا أريد بالأوّل جلائل النعم وبالثاني دقائقها يجوز كل من طريقي التتميم والترقي نظرا لمقتضى الحال، ولما كان الملتفت إليه بالقصد الأوّل في مقام العظمة والكبرياء عظائم النعم دون دقائقها قدم الرحمة وأردفه بالرحيم كالتتمة تنبيها على أن الكل منه لشمول عنايته ذرّات الوجود ير لا يتوهم أنّ المحقرات لا تليق به، فيستحيا أن يسألها(1/66)
وقد توهم أنّ تأخير الرحيم للترقي، وأنه أبلغ من الرحمن لأنّ فعيلاَ للأمور الغريزية كشريف وكريم وفعلان للعارضة كسكران وغضبان، وأبطل بأنه من باب فعل بالضم لا من صيغة فعيل انتهى. وهذا بعينه كلام المدقق في الكشف وفيه بحث من وجوه: منها أنه لا يلزم أن يكون الأبلغ مشتملاً على معنى الأدنى بل يكفي أن يستلزم وجوده وجود الآخر بالطريق الأولى، وكذا عكسه في النفي بحيث يكون ذكر الآخر بعده لغواً لا يليق بكلام البليغ وبليغ الكلام، ألا تراك تقول فلان يهب المئات والألوف، ولو عكست قبح وقد اعتبر الزمخشريّ الترقي في قوله تعالى: {لَّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً لِّلّهِ وَلاَ الْمَلآئِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ} [النساء: 172] وفي قوله:
". وما مثله ممن يجاور حاتم ولا البحر ذو الأمواج يلتج زاخره
مع أنّ الملائكة والبحر ليسا من جنس ما قبلهما كما في شرح الطيبي طيب الله ثراه.
ومنها أنّ قوله واذا لم يكن الأبلغ مشتملاَ على مفهوم الأدنى الخ تبع فيه صاحب التقريب حيث قال: إنّ ذلك فيما إذا كان الثاني فيه من جنس الأوّل وفيه زيادة عليه، والرحمن لجلائل النعم وأصولها، والرحيم لدقائقها وفروعها فلما لم يكن في الثاني زيادة على الأوّل كان كائنه من جنس آخر، وقد ردّه الكرماني في حواشيه بقوله إن أراد إن الجنسية تعتبر فيما يجري فيه الترقي، فلم قال: إنها مفقودة في هاتين الصيغتين مع اشتمالهما على معنى الرحمة وأحدهما أبلغ من الآخر وان أراد أنّ الصيغتين لا بد أن يتفقا في خصوص المعنى كجواد وفياض فغير
مسلم لما بيناه في البحث الأوّل فهو لا يوافق كلام العلامة، ولو اقتصر على ما بعده كان وجهاً وجيهاً لأنّ المراد أنهما ذكر الإفادة الشمول والعموم كما تقول الكبير والصغير يعرفا، ولو عكست صح وكالط المعنى بحاله، ومثله لا يلزم فيه الترتيب كما فصله في المثل السائر، ولولا خوف الإطالة لا وردناه برمتة ومنها أنّ قوله وأبطل الخ فيه ما مرّ فإنّ من النحاة وشرّاح الكشاف من ذهب إلى أنّ (الرحيم والرحمن) صفتان مشبهتان، فلا بدّ من لزوم فعلهما معاً فلا يصح الفرق والنقل لباب فعل بالضم، وذهب ابن ما لك وغيره إلى أنهما من مبالغة اسم الفاعل فلا كلزم اللزوم ولا يتأتى ما ذكره، فإن قلت كيف يدّعي اللزوم، وقد ورد رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما بالإضافة إلى المفعول. قلت: من يدعيه يقول: إنه على التوسع، كما بينه النحاة في باب الظروف، ثم أنّ المدقق قال في الكشف: والتحقيق يقتضي أن يرد النظم على هذا الوجه، ولا يجوز غيره لأنّ الله اسم للذات الإلهية باعتبار أنّ الكل منه واليه وجوداً ورتبة وماهية، والرحمن اسم له باعتبار تخصيص كل ممكن بحصة من الرحمة، وهي الوجود الخاص، وما يتبعه من وجود كمالاته فلو لم يورد كذلك لم يكن على النهج الواقع المحقق ذوقا وشهودا عقلاَ ووجوداً، وأيضاً لما كان المقصود تعليم وجه التيمن بأسمائه الحسنى وتقديمها عند كل مسلم كان المناسب أن يبدأ من الأعلى فالأعلى إرشادا لمن يقتصر على واحد أن يقتصر على الأولى فالأولى وتقريراً في ذهن السامع لوجه التنزل أوّلاً فأوّلاً انتهى.
(قلت) : يؤيده أنه صلى الله عليه وسلم كان يكتب بسم الله الرحمن حتى نزلت سورة النمل فدقق النظر
ليتم الظفر، وما قيل على هذه القاعدة من أنها غير مطردة لقوله تعالى: {رَسُولًا نَّبِيًّا} [مريم: 51] ليس بوارد لما ذكر ثمة من أنهما بالمعنى اللغويّ أو كل أبلغ من وجه أو هو لرعاية الفاصلة. قوله: (لتقذّم رحمة الدنيا الخ) أي تقدما زمانيا وجوديا فروعي ذلك في لفظه على كلا الاعتبارين لإضافته فيهما الدنيا، وقيل إنما هو إذا قصد المبالغة في الرحمن باعتبار المرحومين، والظاهر أنه باعتبار ما ذكره أوّلاً من قوله رحمن الدنيا ورحيم الآخرة، وما قيل من أنّ الرحمن يتناول رحمة الدنيا على كل حال سواء اعتبر الكمية أو الكيفية بخلاف الرحيم ورحمة الدنيا مقدّمة في الوجود، فناسب تقديم ما يدل عليها ففيه أنّ الرحمن بالاعتبار الثاني لا تعلق له بالثاني فتقديمه أولى قوله: (ولآنه صار كالعلم الخ) أي أشبه في اختصاصه به استعمالاً ومعنى إلا لتعنت في الكفر كقولهم لمسيلمة رحمن اليمامة، فناسب مقارنة العلم، وتقدمه على الوصف المحض، ولأنه بمنزلة الموصوف لمحض الوصف، واقتضاء السياق تقديمه باعتبار المعنى الوصفي، وبهذه المشابهة ضعف فيه ذلك، فلم يعلم به، وله مناسبة بالعلم والوصف، فناسب توسطه بينهما، وما قيل: على هذه الوجوه(1/67)
من أنها مبنية على كون الرحيم وصفاً محضا لا غالباً وهو إذا عرف باللام من الأوصاف الغالبة أيضاً ليس بشيء لأن القائل بذلك لا ينكر إطلاقه على غير الله فكيف يدّعي الغلبة فيه، وذهب الأعلم وتبعه ابن هشام وغيره إلى أنه علم
وأنه بدل لا نعت، واستدل باختصاصه به ومجيثه غير تابع نحو الرحمن على العرس استوى، ولا يخفى ما فيه وأنّ استفاضة إضافته نحو رحمن الدنيا تنافيه، وفي شرح الكتاب لابن خروف أنّ الرحمن صفة غالبة ولم يقع تابعاً إلا لله في بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله، ولذا حكم. عليه بغلبة الإسمية وقل استعماله منكر أو مضافاً فوجب كونه بدلاً لا صفة لكون لفظ الله أعرف المعارف انتهى.
وقد نبهنا عليه في السوانح. قوله: (لا يوصف به غيره الاختصاصه به معرفاً ومنكراً حتى
صار علما أو كالعلم وأمّا قول الشاعر في مسيلمة لعنه الله:
سموت بالمجد يا ابن اكرمين أبا وأنت غيث الورى لا زلت رحمانا
فقد قالوا: إنّ إطلاقه عليه غير صحيحي لغة وشرعا، وهذا من غلوّهم في الكفر إذ سموا المخلوق باسم الخالق كما سموا الحجارة آلهة، وفيه أنه إذا كان إطلاقه على الله مجازا أو بالغلبة فكيف يقال إنّ استعماله في حقيقته وأصل معناه خطأ لغة، وقد ذهب السبكيّ رحمه الله إلى أنّ المخصوص به تعالى هو المعرّف بأل دون المنكر والمضاف لو روده لغيره في اللغة، ورذ به على القول بأنه مجاز لا حقيقة له، وإن صحة المجاز إنما تقتضي الوضع للحقيقة لا الاستعمال، نعم هو في لسان الشرع يمتنع إطلاقه على غيره مطلقا، وان جاز لغة كالصلاة على الأنبياء عليهم الصلاة والسلا اوهو كلام سديد وبه صرّح ابن عبد السلام وقال إنه صحيح مطلقا لغة وأنما منع شرعا. قوله: (لأنّ معناه المنعم الحقيقئ الخ) قيل الحقيقيّ هو الذي لا يستند إنعامه إلى غيره فهو الحقيق باسم المنعم بخلاف العبد فإنه كالواسطة، فالنسبة في قوله الحقيقي إلى الحقيق بمعنى الحرى للمبالغة كأحمري ودواري، أو هو من حق بمعنى ثبت أي من ثبتت فيه صفة الإنعام غير متجاوزة لغيره، كالعبد الذي يستند إنعامه إلى غيره وهو الله فليس ثابتاً متقرّرا فيه، والذي دعاه لما ذكر ما سيأني ولذا لم نجعله منسوبا للحقيقة المقابلة للمجاز مع أنه المعروف المتبادر إذ هو المنعم بلا عوض، ولاءس ض وهو الغني المطلق الخالق للنعمة والمنعم عليه فلما أريد به المبالغة إلى النهاية دل على إرأدة أعظم أفراده، فقوله البالغ في الرحمة غايتها يحتمل أن يكون تفسيرا لما قبله وأن يكون معنى آخر ودلالته على ذلك بقرينة الاختصاص وتبا إر الفرد ا! مل من صيغ المبالغة فلا يرد عليه أنّ معناه اللغوي المبالغ في الرحمة، وأمّا وصوله إلى الغاية القصوى فليس مقتضى وضمع اللغة إلا أن يقال إنه معنى عرفي ولا أنه صفة مى ششقة فلا فرق بينها وبين غيرها إلا بالمبالغة، فلا يدل على كونه منعما حقيقياً مع أنّ اعتباره ينافي الوصفية، إذ هي تستلزم الدلالة على ذات مبهمة وهذا موجب لتعينها، وأيضا أنه يفهم مته أن لفظ المنعم لا يطلق على غيره إلا مجازاً وهو غير ظاهر لاقتضائه أنّ نسبة سائر الأفعال إلى العباد مجازية ولا يخفى أنه غير وارد إذا فسر الحقيقي بما مرّ وهو الداعي إلى تفسير. به، وقوله إنه لا يفيده مكابرة مع أنه لفا اختص به تعالى، وألحق بالإعلام خرج عن
نظائره، وألحق بالأسماء واختصاصه به لإرادة أكمل أفراده فلا يلزم اختصاص المنعم أيضا كما توهمه فتدبر. قوله: (وذلك لا يصدق على غيره (أي ذلك المعنى المذكور وان كان بحسب الوضع مفهوما كلياً، فهو منحصر في فرد كالشمس، والصدق ضد الكذب تجوّز به أو نقل للدلالة على بعض أفراد معناه كما هو معروف في كلامهم أي لا يطلق عليه وقوله مستعيض بالعين المهملة أي طالب للعوض! لا بالفاء، وان صح هنا بتكلف وهو تعليل لكون المنعم الحقيقي لا يصدق على غيره أو لكون المنعم الحقيقي هو البالغ نهاية ذلك لأنّ الإنعام والجود إفادة ما ينبغي سمن ينبغي لا لعوض كما في الإشارات حتى قالوا من جاد لعوض، فهو فقير كما في الهياكل وفيه تأمّل. قوله: (يريد) تفسير لكونه مستعيضا ولما لم يكن المراد به العوض المالي، لأن طالبه تاجر لا واهب بل المنافع المعنوية بينه بما ذكر. وقوله: (جزيل ثواب الخ) من إضافة الصفة للموصوف أي الثواب الجزيل، والثناء الجميل(1/68)
وهو لبيان الواقع إذ الثناء لا يكون إلا جميلاَ، والثواب سصكماعف كما وعد الكريم به فهو جزيل بالنسبة بما أعطاه أبدا، فلا وجه لما قيل من أنّ الأظهر أن يقول يريد به ثوابا إذ العموم أنسب، فيعتذر بأنه لموازنة ما بعده، ويزيح بزاي معجمة وحاء مهملة مضارع أزاج بمعنى أزال، وفي نسخة مزيح بصيغة اسم الفاعل منه معطوف على مستعيض وهذه أعواض سلبية بخلاف ما قبلها. وقوله: (أنفة الخسة) الأنفة كثمرة ما يستنكف من عاره، والخسة بالخاء المعجمة الدناءة أي يقصد بما يعطيه ذلك أو عدم لحوق عار الخسة، وفي نسخة رقة الجنسية وهي الأصح رواية عند الفاضل الليثي، والمراد ألم رقة الجنسية كما وقع كذلك في عبارة الغزالي، ونقله هذا الفاضل في حواشيه يعني أنه يرق قلبه، ويتأثر بما يشاهد. من احتياج أبناء جنسه وسوء حالهم فيزيل ذلك الألم عنه بإحسانه، وهذا عوض وفائدة عائدة عليه ولو قيل الرقة هنا بمعنى الضعف، كما في قوله عجبت من قلة ماله، ورقة حاله، كما في الأساس لم يبعد فسقط ما قيل من أنه وقع بهذه العبارة في كتب الكلام في مبحث الحسن والقبح، وليس لها كبير معنى. قوله: (ثم إنه كالواسطة الخ أقيل: إنّ ما قبله تعليل لعدم صدق البالغ في الرحمة غايتها على غير.، وهذا تعليل لعدم صدق المنعم الحقيقي على غيره، وقيل: إنه بيان لكونه منعما حقيقيا إذ لولاه لم يكن محسن، ولا إحسان، والأظهر أنه بيان لأنه لا منعم غيره مطلقا وهو أبلغ مما قبله، ولذا عطف بثم لتفاوت رتبتهما لأنه في الأوّل أثبت لغيره إنعاما وهنا نفاه، وقال: كالواسطة دون واسطة لأنها ما يتوقف عليه فعل الفاعل وفعله تعالى لا يتوقف على شيء، وقيل: لأنّ كل ما له دخل في الإنعام فهو بخلقه تعالى حتى الكسب على رأي الأشعري. . قوله: (لأن ذات النعم الخ) أي ذات النعم حاصلة من خلقه لها، ومعنى كون وجودهاً من خلقه أنّ ثبوته لها مستند له
أيضاً، فلا وبر4 لما قيل من أنّ نسبة الخلق إلى الوجود غير ظاهرة وأنه بناء على أن الماهيات مجعولة، والداعية هي الخاطر المشوّق للفعل حتى كأنه يدعوه. قوله: (الباعثة الخ) تفسير له، والقوى جمع قوّة، وهي معروفة شاملة للباطنة والظاهرة المبينة في الحكمة. قوله: (أو لأن الرحمن الخ) يعني أنّ الوجوه السابقة مبنية على أنّ الأب! خ مشتمل على معنى ما بعده، وهذا ليس كذلك على هذا، لأنّ الرحمن المنعم بجلائل النعم وأصولها كالإيجاد، والرحيم المنعم بما عداها، فأردف به ليتناول ما بقي منها كالتتميم وذكر الرديف وهو البالغ المتمم وإنما يتعين الترتيب المذكور على الأوّل، إذ لو عكس عراً عن الفائدة، وعلى هذا ليس كذلك فلذا أردف الرحيم تنبيها على شمول عنايته ذرات الوجود لئلا يتوهم أنه لا تطلب منه المحقرات لعظيم جنابه كما أفاده الشريف، وفيه ما مرّ فتدبر. قوله: (أو للمحافظة الخ) الآي جمع آية ورؤوسها أواخرها التي تنتهي بها سميت رأساً مجازاً تشبيهاً لها برأس الجبل والنخلة، ونهايتها التي ينتهي إليها الصاعد من أسفلها، وئذا يقال رأس السنة لآخرها وفي الحديث أنه صلى الله عليه وسلم بعث على رأس الأربعين أي آخرها كما بين في السير، وقيل: لأنها عليها مباني الآيات كما أنّ الرأس مبني الإنسان وفيل: عبر عن الآخر بالرأس للتعظيم تأدّبا والمحافظة عليها بمجانسة ما قبل الآخر من الرويّ وحرف اللين وهذا بناء على أنّ في القرآن سجعاً، وفيه كلام سيأني في سورة يس، وقيل وؤوس الآي أوائلها والمعنى لتكون رؤوس الآي بعد كلمات متناسبة، ولا يخفي ما فيه من التكلف، ثم إنّ المحافظة لا تجري في كل سورة بل فيها ما يقتضي خلاف هذا كورة الرحمن ولهذا قيل: إنّ هذا في غاية الضعف لابتنائه على أنّ الفاتحة أوّل نازل! فروعي فيها ذلك، ثم طرد في غيرها وعلى أنها آية من السورة. قوله: (والأظهر أنه غير مصروف الخ) في التسهيل وشروحه ؤمنع صفة على فعلان ذي فعلى بإجماع النحاة، كسكران سكرى للصفة، والزيادتين المشابهتين لألفي التأنيث في عدم قبولها التأنيث، فلو قبلها انصرف كندمان ندمانة، واختلف فيما لزم تذكيره كلحيان بمعنى كبير اللحية فمن منعه ألحقه بباب سكران لأنه أكثر ومن صرفه رأى أنه ضعيف وادّعى منعه والأصل الصرف انتهى.
وقال ابن الحاجب: الألف والنون إن كانا في اسم، فشرطه العلمية، أو في صفة انتفاء فعلانة، وقيل: وجود فعلي ومن ثمت اختلف في رحمن دون سكران وندمان، وبنو أسد يصرفون(1/69)
جميع فعلان لأنهم-قولون في كل مؤنث له فعلانة انتهى.
وقيل: أحسن ما قيل في تقريره إنّ شرط كون مؤنثه فعلي إنما اعتبر لتحقق انتفاء فعلانة
إذ به تتحقق مضارعتها لألفي التأنيث والاختصاص العارض كما منع وجود فعلي منع وجود
فعلانة فإن نظر إلى انتفاء فعلي وجب أن لا يمنع صرفه لأنّ وجودها شرط للمنع ومناط له في الحقيقة إلا أنه لخفائه جعل وجود فعلى علامة له، فاعتبار الاختصاص العارض يوجب امتناع الصرف وعدمه، وهو محال فلزم أن يعتبر انتفاؤهما لسببه وأن يرجع إلى أصل هذه الكلمة قبل الاختصاص، ويتعرّف حالها قبله، وذلك بالقياس على نظائرها من باب فعلي بالفتح، وإذا كانت كلها، وأكثرها ممنوعة من الصرف لتحقق وجود فعلي فيها علم أنّ هذه الكلمة أيضا مما لولا المانع تحقق فيها وجود فعلي فيمتنع صرفها مثلها، وأورد عليه أنه لا يصح حينئذ ما ذكر من أنه اختلف في الرحمن، فمن اشترط وجود فعلي صرفه على الإطلاق ويمنعه من الصرف من اشترط انتفاء فعلانة قال الرضى: إذا كان المقصود من وجود فعلي انتفاء فعلانة، وقد حصل هذا المقصود في الرحمن يجب أن يكون غير منصرف ولشرّاح الكشاف هنا مناقضات وكلام لا تحتمل العربية دقته، وأنما عدلوا إلى الاستدلال لأنه لم يسمع إلا مضافا أو معرفاً بأل أو منادى، وقد شذ قوله:
وأنت غيث الورى لا زلت رحمانا
مع أنه لا يصلح شاهدا للصرف ولا لعدمه لاحتمال أن يكون ممنوعاً وألفه للإطلاق ومصروفا، وألفه بدل من تنوين المنصوب كقوله:
تبارك رحمانا رحيماً وموئلا
ولا يرد هنا ما قيل من أنّ ما مرّ يستلزم كون الحمل على النظائر من علل الصرف، ولا
ما قيل من أنا لا نسلم أنّ الأصل في فعلان منع الصرف سلمناه لكن كون الأصل في الاسم الصرف مطلقا وان لم يترجح عليه يعارضه فتدبره، وفي الكتاب وشروحه هنا كلام مخالف لما قالوه ذكرناه في حواشي الرضى. قوله: (إن حظر اختصاصه الخ) حظر بالحاء المهملة، والظاء المعجمة بمعنى منع، وهذا إشارة إلى أنه إن لم يحظر كلاهما بل الثاني فقط كان عدم الإنصراف أولر،، أو إلى أنه إن لم يحظر الاختصاص العارض إياهما بل كان انتفاء فعلانة مع قطع النظر عنه، وكان فعلي موجود أو منتفيا لهذا العارض كاز عدم الانصراف أو أظهريته أولى، وعلى كلا التقديرين فالأولى بالاستلزام للجزاء أخص من نقيض الشرط ولا يخفى أنه بعيد عن مواطن استعمال إن الوصلية أمّا على الأوّل فلأن نقيض الشرط يتناول حظر وجود فعلي دون فعلانة وعدم حظر شيء منهما ولا استلزام لهما للجزاء، وأمّا على الثاني فلأدأ نقيض الشرط يتناول انتفاء فعلي ل! ختصاص أو مع قطع النظر عنه ووجودها، وليس شيء منهما أولى بالالتزام للجزاء هكذا قاله وارتضاه بعض المدققين يعني أنّ الوصلية موجبها ثبوت الحكم بالطريق الأولى عند نقيض شرطها والحكم هنا أظهرية منع صرف رحمن والشرط منع اختصاص وجود مؤنث له مطلقا كما تفيده كلمة أو بعد المنع الذي هو نفي معنى والنقض عدم
ذلك المنع وهو يتحقق بوجهين:
أحلدم! ما: أن لا يكون فيه اختصاص، فلا منع وحينئذ، أمّ أن ينتفي فعلي فقط، فيجب الصرف أو فعلانة، فيجب منع الصرف، وعلى التقديرين لا تتحقق الأظهرية فضلاَ عن أولويتها وأمّا أن ينتفيا فثبوت الحكم عنده مثل ثبوته عند الشرط بل دونه إذ عند الشرط دليل انتفاء فعلانة، وهو الاختصاص موجود.
وثانيهما أن يكون فيه الإختصاص، ولا يمنع وجود شيء من المؤنثين فتجىء الترديدات الثلاثة أو يمنع فعلانة فقط، وحينئذاً أمّا أن توجد فعلي فيجب منع الصرف أو لا توجد، فالحكم فيه كما في صورة الشرط أو ئمفع فعلي فقط، فأمّا أن توجد فعلانة، فيجب الصرف أو لا فكما في صورة الشرط، فالأولوية لا تتحقق في شيء من صور النقيض كما قرّره بعض الفضلاء، وهذا كله تطويل نلا طائل أوردناه لئلا يتوهم من يراه غفلتنا عنه وهو مندفع بأدنى تأمّل فإنّ قوله وان حظر اختصاصه الخ كناية المقصود منها إنه لم يتحقق شرط المنع على المذهبين ولا شك أنّ نقيضه أنّ ذلك محقق، والأظهرية عليه ثابته بالطريق الأولى فإن قلت: لو سلم ما ذكرت لم يسلم أنّ مغ الصرف حينئذ للإلحاق بالأغلب بل هو واجب لوجود شرطه قلت: لا يلزم النظر لذلك، بل يكفي النظر لنفس الشرط على أنا نلتزمه، ونقول إذا وجد الشرط الأغلب منع(1/70)
صرفه أيضاً لأنه قد يصرف نادراً مع وجود شرط آخر لضرورة أو تناسب أو لأمر آخر على خلاف القياس في بابه. قوله: (على فعلي) بغير تنوين وفعلانة يجوز صرفه، وعدمه على ما بين في محله. قوله: (بما هو الغالب في بابه) يعني بباب فعلان الذي مؤنثة، فعلى بفتح العين، فإنّ الغالب فيه أنه غير منصرف، ومؤنثه على فعلي إلا ماشد كخشيان، فإنه منصرف ومؤنثه خشيانة كما ذكره المرزوقي، ولذا تيده المنصف بالغالب وخالف قول الزمخشركيئ إلحاقاً بإخوانه من غير ذكر للغالب فيه، وان قيل إن الذي في الصحاح أنّ خشيان مؤنثه خشي على القياس، وهو الذي ارتضاه العلامة، ثم إنه قيل إنّ العمل بالغالب وان كان الأصل يعارضه إذ الأصل في الأسماء مطلقاً الصرف مخالف لما عليه الفقهاء من ترجيح الأصل، على الغالب إلا أنّ رجحان الغالب أظهر لأنّ الغالب يقتضي إلحاقه بنوعه، وهو أولى من إلحاقه بما هو الأصل في جنسه، وهو مطلق الاسم، وليس ما نقل عن الفقهاء صحيحا بل المصرّح به خلافه كما في أء ول الشافعية الذين منهم المصنف، وقد قال السبكي رحمه الله في قواعده إنما يرجح الأصل جزما إذا عارضه احتمال مجرّد، والا فقد يرجح غيره كما فصله. قوله: (وتخصيص! التسمية بهذه الأسماء الثلاثة) وهي الله والرحمن والرحيم والمراد بالتسمية البسملة لأنها تطلق عليها أو المعنى المصدري، وهو إطلاق الاسم وأل عهدية، وخصى العارف بالذكر لأنه الذي يتأتى منه ما بعده، ومعرفته بما ذكر من تعلق الإستعانة بالوصف المشعر
بالعلية، ومجامع الأمور المهمة المعزوم عليها أو جميعها. قوله: (المعبود الحقيقي) إشارة إلى الجلالة الكريمة، ومولى لنعم بضم الميم بزنة اسم الفاعل وما بعده مشير لما مرّ، وجليل النعم وحقيرها، لف ونشر للاسمين، أو كناية عن الكل على نهج قوله ولا صغيرة ولا كبيرة. قوله: (فيتوجه بشراشره) جمع شرشرة بالفتح وتستعمل بمعنى النفس والجسد فيقال ألقى عليه شراشره اي نفسه حرصا ومحبة قال ذو الرمة:
وكائن ترى من شدة ومحبة ومن عته تلقي عليها الشراشر
وتكون بمعنى الانتقال والثبات وهدب الإزار وقطعه، وتحقيقه أنه في الأصل أطراف الأجنحة والذنب، وفي كتاب النبات أنّ شرشرة الطائر تعريثه قال ابن هرمة:
فعوين يستعجلنه ولقينه يضربنه بشراشر الأذناب
فكنى به عن الجملة كما يقال أخذه بأطرافه، ويمثل به لمن يتوجه بكليته فيقال: ألقى
عليه شراشره كما قال الأصمعي كأنه لتهالكه طرح عليه نفسه بكليته، وهو الذي عناه المصنف رحمه الله إذ مراده التوجه ظاهر أو باطناً ولذا خصه بالعارف.
وفي الكشف أنّ من مذهب صاحب الكشاف أن يجعل تكرار الشيء للمبالغة كما في
زلزل ودمدم، وكأنه لنقل الشر في الأصل، ثم استعمل في الإلقاء بالكلية مطلقاً شرا كان أو غيره واعترض عليه صاحب القاموس رحمه الله في شرح ديباجة الكشاف بأنه غير جيد لأنّ مادّة شرشر ليست مونحموعة لضد الخير وانما هي موضوعة للتفرّق والانتشار وسميت الأثقال شراشر لتفرّقها انتهى. وفيه نظر. قوله: (إلى جناب القدس) أي إلى الله المنزه المقدس جنابه عز وعلا وحبل التوفيق كلجين الماء أو مكنية أو تخييلية أو الكلام بجملته تمثيل، كأنه لتوجهه إلى عالي جنابه وتقرّبه منه كمن يترقى بحبل إلى العلو، والسرّ في الأصل الخفي وما يكتم وكنى به هنا عن الباطن، وقيل: هي حالة للمعارف تكون سببا للفيض، وفي كتاب البدائع لابن القيم نقلاَ عن ابن عقيل: أنّ من قال بين الله وفلان سرّ فقد كفر وكذبك وقولهم أسالك بالسرّ الذي بينك وبين أنبيائك وأوليائك حماقة، وأي سرّ بين الله وعبده وردّه ابن الجوزي رحمه الله بأنهم يعنون به العبادة المستورة عن الخلق ونحوها انتهى. والذي يظهر لي من السرّ أنه أسماء الله وصفاته ونحوها مما وقف الله عليها بعض خلص! عباده وأعلمهم أنه متى سئل بها أجاب كما ورد في الآثار الصحيحة أسألك بكل اسم هو لك استأثرت به أو علمته أحداً من خلقك، وقد اشتهر أن اسمه الأعظم الذي يجاب به الدعاء لا يعلمه كل أحد وعن متعلقه بيشغل أو بحال مقدرة أي معرضاً محن غيره، وقيل عن هنا بدلية قيد للاستمداد وهو تعسف. وقوله:) فيتوجه الخ) إشارة
إلى ما سيأني في الفاتحة(1/71)
في الإلتفات فتدبر. قوله: (الحمد هو الثناء الخ) اختلف أهل اللغة في الثناء فقال ابن القطاع: إنه يستعمل في الخير والشرّ، والأصح كما قاله ابن السيد أنه لا يستعمل إلا في الخير وإنّ العام هو الثناء بتقديم النون عى المثلثة، وما ورد على خلافه على ضرب من التأويل والتجوّز كالمشاكلة والتهكم، فهو ذكرى الجميل، وهل يشترط فيه اللسان أم لا فقيل لا، وحقيقة الحمد إظهار الصفات الكمالية سواء كان ذلك باللسان أم لا، ومن ذكر اللسان لم يرد العضو المخصوص، والا لم يكن الله حامداً لنفسه ولا لغيره حقيقة، وهو ظاهر البطلان بل قوّة التكلم وليس حقيقة التكلم إلا الإفاضة والإعلام مع شعور الفيض، وارادته وبؤيده حديث " لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك " (1 (وإن حمل على المشاكلة أو التجوّز فالمعنى عظمت نفسك أو ذكرت نفسك بكلامك القديم بناء على مذهب الشهرستاتي، أو التخصيص باللسان بالنسبة لحمد العباد، وقيل عليه إنّ قوله والا لم يكن حامدا الخ لا يخلو عن شيء لأنه إن أراد أنه لا يكون كذلك على هذا القول حقيقة فمسلم، لكن قوله ظاهر البطلان في حيز المنع بل هو باطل لأنّ صريح إطلاقهم يدل على خلافه كقول الزمخشريّ والحمد هو الثناء باللسان وحده، وقال في الحواشي الشريفية: ادّعى اختصاصه باللسان لكونه أشبع وأدلّ، فظهر أنّ المراد العضو المخصوص ولو سلم أنه ليس بمراد فليس بمعنى قوة التكلم المذكورة أي لعدم لزوم الإفاضة في حمده لنفسه، وان أراد أنه لاث كون حامد إلا حقيقة ولا مجازا فغير مسلم لجواز إطلاق عليه مجازا كالرحمة، ففي عدم الاحتياج إلى قيد اللسان مناقشة ظاهرة كما أشار إليه الخطابي، وزاد بعضهم فيه على جهة التعظيم ليخرج الهزؤ والسخرية، وقيل لا حاجة إليه أصلاً أما على تعريف الحمد الأول، فلاستغنائه عنه بلفظ اأشناء إذ المتبادر منه ما طابق فيه اللسان الجنان، وأمّا على الثاني فلأن إظهار الصفات الكمالية معتبر فيه قيد الحيثية كما في سائر التعاريف فيخرج ما ذكر، وما قيل أن لفظ الثناء لا يأباه لأنهم فسروه بمطلق الذكر بالخير ليس بشيء على أنه قيل إنّ الوصف على طريقة الاستهزاء ليس وصفة بالجميل حقيقة إذ المستهزىء يريد ضذه على نهج الاستعارة التهكمية وقد يوصف بالجميل ظاهرا بلا قصد للتعظيم ولا للاستهزاء بل حكاية لما يزعمه الموصوف تعريفاً له، وقد فيل أنّ قوله تعالى: {ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} [الدخان: 49] يحتملهما وهو أيضاً خارج فتدبر. قوله: (على الجميل الاختياري الخ) الجميل ضفة مشبهة من جمل الرجل بالضم والكسر جمالاً فهو جميل وامرأة جميلة وقال سيبويه رحمه الله: الجمال دقة الحسن والأصل جمالة بالهاء كصباحة فخفف لكثرة الاستعمال، وتجمل تجملاً بمعنى تزين وتحسن فالجميل بمعنى الحسن، فتوصف به الذوات والأفعال كما عليه أهل اللغة قاطبة، فما قيل أنّ الجميل هنا صفة للفعل، ولذا ترك في الكشاف قيد الاختياري يرد عليه أنّ معناه اللغوي أعم،
ولذا قال بعض الفضلاء في حواشيه لا دليل على أنه صفة الفعل إلا أن يقال إنه أخذه من الأمثلة، وفبه بحث. وقال قدّس سره: إذا خص الحمد بالأفعال الإختيارية لزم أن لا يحمد الله سبحانه على صفاته الذاتية كالعلم والقدرة سواء جعلت عين ذاته، أو زائدة عليها بل على انعاماته الصادرة عنه باختبار؟ ، اللهم إلا أن تجعل تلك الصفات لكون ذاته كافية فيها بمنزلة أفعال اختيارية، وقيل إنّ الاختياري كما يجيء بمعنى ما صدر بالإختيار يجيء بمعنى ما صدر من المختار، وهو المراد هنا على ما فيه، وقيل إنها صادرة بالاختيار بمعنى إن شاء فعل وان لم يشأ لم يفعل لا بمعنى صحة الفعل والترك فيشمل ما صدر بالاختيار وبالايجاب فالاختيار بالمعنى الأعم، وهو الأوّل والثاني أخص أو هو بالمعنى الأخص، ولا نسلم كون الصفات الذاتية غير صادرة بالاختيار لجواز أن يكون سبق الاختيار عليها ذاتياً كسبق الوجود على الوجوب لا زمانياً حتى يلزم حدوثها، وقيل إنه بالنظر إلى حمد البشر فالمراد ما جنسه اختياريّ كما قيل في قيد اللسان في الثناء، وإن لم يثترط فيه الاختيارية فالأمر ظاهر ولا يخفى عليك ما يتوجه على ما ذكر، أما أوّلها فإنه مع كونه خلاف الظاهر إنما يحسن إذا كان المعتاد في الأفعال الإختيارية كون فاعلها مستقلاً في إيجادها من غير احتياج إلى شيء آخر من آلة وغيرها(1/72)
ليظهر استقامة تثبيه الصفات الذاتية بها، وتنزيلها منزلتها لذلك وليس كذلك، فإن كل فعل اختياري يحتاج إلى علم فاعله وقدرته، وأكثرها محتاج إلى آلات وأسباب أخر كما ذكر. بعض الفضلاء، وانه على تسليم استعمال الاختياري بالمعنى الثاني لا نسلم اتصاف الصفات الذاتية بالصدور إلا بتكلف يأباه لفظه، وأمّا كونها صادرة بالاختيار بالمعنى الأخص على ما قرّر في الكلام من أنّ الفلاسفة ادّعوا إيجاد العالم بطريق الإيجاب فلزمهم أن لا يكون لموجده إرادة واختيار، وقيل بانهم يقولون بأنه فاعل مختار بمعنى إن شاء فعل الخ. وصدق الشرطية لا يقتضي وجود مقدمها ولا عدمه، فقدم الشرطية الأولى بالنسبة إلى وجود العالم دائم الوقوع ومقدّم الثانية دائم اللا وقوع، ولهذا أطلق عليه الصانع وهو من له الإرادة بالإتفاق وهذا وأن ارتضوه ففي نهاية الطوسي إنه كلام لا تحقيق له لأنّ الواقع بالإرادة والاختيار ما يصح وجوده بالنظر إلى ذات الفاعلى، فإن أريد بالدوام واللا دوام المذكورين أنه مع صحة وقوع نقيضهما فهو مخالف لما صرحوا به من أنه موجب بالذات للعالم بحيث لا يصح عدم وقوعه منه، وان اريد دوامهما مع امتناع نقيضهما فليس هناك حقيقة الإرادة، والاختيار بل مجرّد اللفظ، ومتعلق الإوادة لا محيص عن حدوثه، والعالم عندهم قديم، فما هذا إلا تمويه وتلبيس انتهى. وأيضا ما ذكر من تفسير الاختيار بمختار المتكلمين لا الفلاسفة، مع أنه قد قيل عليه هنا أنه لا يجري في صفة المشيئة، وما يسبق عليها من الحياة والعلم والقدرة، ولذا قال في رسالة الحمد: إنه تكلف لا يتأتى في صفة القدرة، لأنّ صدورها ليس بالاختيار والألزم تقدّم الشيء على نفسه، فما ذكر ليس بحاسم للسؤال، ولا قاطع لمادّة الإشكال ولك أن تدفع ما ذكر باختيار الشق الأوّل، فتقول الصادر عن الموجب بالذات ليس واجبا بالدّات بل باعتبار صدوره عن الواجب
بالذات، وهو في حد ذاته ممكن، وقوله: إنه قديم ليس المراد به القدم الذاتي، فنقول بصحة وقوع نقيضيما وان لم يقع لأنّ صحة الوقوع أعمّ من الوقوع، فإن قلت هذا ظاهر في العالم فما حال الصفات الذاتية، قلت: هي وان لم تكن مخلوقة لأنّ الخلق الإيجاد بعد العدم، فهي ممكنة في حد ذاتها عند بعض المحققين لأنها مستندة للذات ومحتاجة لها، وكل محتاج لغيره ممكن، فليست واجبة بالذات، وان كانت قديمة حتى يلزم تعدد الواجب، وان قيل بعدم امتناعه إذ الممتنع تعدّد ذوات واجبة، وفي التفسير الكبير الذات كالمبدأ للصفات، وهو صريح فيما ذكر، ثم إنه قيل على قول الشريف يلزم أن لا يحمد الله الخ أنه إن أراد أنه يلزم أن لا يحمد مطلقاً عليها حقيقة أو مجازا، فالشرطية بينة البطلان إذ التخصيص بالأفعال الاختيارية إنما هو في المعنى الحقيقيّ، وان أراد أنه يلزم أن لا يحمد حقيقة، فليس لقوله اللهم الخ وجه لأنه يقتضي أنّ هذا الجعل مما يصحح الحمد الحقيقيّ، وليس بصحيح، إذ عليه يكون الحمد مجازيا لأنّ الحقيقيّ ما يكون على الاختيار حقيقة، وهو غير وارد لأنّ مراده قدّس سر. أنه يحمد عليها، وهي غير داخلة في التعريف، فليس بجامع فأدخلها فيه بهذا التأويل، فالتجوّز في التعريف لا المعرّف، ولما كان المجاز في التعاريف فيه ما فيه أشار إلى ضعفه بقوله اللهم، وقد خطأ الرازي في هذا بعض علماء المغرب وأشبعنا الكلام فيه في شرح الشفاء.
واعلم أنّ ما عرّفه المصنف هو الحمد اللغوفي، مورده ص اهـ ومتعلقه عامّ، والشكر اللغويّ ما ينبىء عن تعظيم المنعم على الشاكر فعلاً أو قولاً أو غير ذلك ومورده عام ومتعلقه خاص، والحمد عرفا فعل ما يشعر بتعظيم المنعم من حيث أنه منعم على الحامد أو غيره، والشكر عرفا صرف العبد جميع ما أنعم الله عليه به لما خلق لأجله والنسبة بينها معروفة، والمراد بالعرف هنا عرف اللغة المستعمل، والحق الحقيق بالاتباع أن الحمد اللغويّ لا يكون إلا بالأفعال الاختيارية قال تعالى: {وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ} أسورة آل عمران: 1188 فالحمد بالصفات الذاتية حمد عرفيّ لدلالته على تعظيمه. قوله:) من نعمة أو غيرها (قيل في فذا وفي قوله على علمه إشارة إلى أنه ليس المراد بالجميل الفعل بالمعنى المصدريّ اللهم إلا أن يقال المراد بالنعمة الإنعام بها والعلم بمعناه المصدريّ انتهى. قيل: وفي قوله اللهم إشارة إلى بعد هذا المراد كيف والمنظور إليه في مقام حمد العالم والكريم ما لهما من الكمال الذي تميزا به، وهو الملكة(1/73)
لا المعنى المصدريّ وان كان له تعلق بذلك الكمال وهو ممنوع ثم إنه استشكل التقييد بالاختيار بقوله تعالى: {عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا} [الإسراء: 79] وأجيب بأنه حال من قوله يبعثك أو نعت لمقاما، والمعنى محموداً فيه إليه بشفاعته أو الله لتفضله عليه بالإذن في الشفاعة على الحذف والإيصال، أو هو مما يدّعى فيه قيد الاختيار، وسيأني ما فيه، وقيل: المراد بالنعمة الإنعام مجازاً أو حقيقة لورودها بمعناه أيضاً أو المراد إنعام نعمه بتقدير مضاف.
واعلم أنّ الفاضل ابن المعز قال في بعض تعليقاته إن الاختيار في اللغة كما في المحكم
وغيره بمعنى الانتقاء والاصطفاء يقال خاره واختاره وتخيره فهو مختار والاسم منه الخيرة إذا ارتضاه لكونه خيراً عنده، وأمّا كونه بمعنى الإرادة كما هنا فلم يرد في اللغة، وانما هو من اصطلاح المتكلمين، والمعنى اللغويّ أخص منه ومن لم يتفطن لهذا فسر به قوله تعالى: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَارُ} [القصص: 68] وسيأني تحقيقه في سورة القصص. قوله: (والمدح الخ) يعني أنّ الحمد يختص بالثناء على الفعل الاختياري لذوي العلم، والمدح يكون في الاختياري وغيره وفي ذوي العلم وغيرهم كما يقال مدحت اللؤلؤة على صفائها، وفي بدائع ابن القيم الفرق بينهما بأنّ الحمد يتضمن العلم بما يثني به على الكمال بخلاف المدح فهو أعم منه، ولذا لم يرد في الكتاب والسنة حمد الله فلانا كما جاء مدحه وأثنى عليه، فهو لا يحمد إلا نفسه، وردّ بأنه غير مسلم، وقد ورد ما أنكره كما في الأثر أنه صلى الله عليه وسلم شضيّ محمدا لأن الله وملائكته حمدوه، فالصحيح أنّ الأخبار عن محاسن الغير إن أفرد بالصحبة والإجلال فحمد، والا فمدح، ولذا كان الحمد خبرا يتضمن إنشاء، والمدح خبر محض وتسمح من فسره بالرضا والمحبة وان لم يمنع حمد الله لعباده، فإن ذلك بحسب ما يضاف له فهو من الله إكراما وإلقاء لإجلاله في قلوب خلقه انتهى. وكون العلم اختياريا لحصوله باستعمال الحواس ونحوها وكذا الكرم إن كان بمعنى الإعطاء، وكذا إن كان بمعنى السخاء بناء على أن الملكات كسبية فإن كان بمعنى الشرف كما ورد إطلاقه عليه فلا يلزم كونه اختياريا إلا بتكلف، ولذا حمل هنا على الأوّلين، وما قيل من أنّ المراد بالاختياري هنا ما للاختيار مدخل في تحققه في بعض المواد وما من شأنه ذلك، ويؤيده ما ذكره المصنف رحمه الله فإنّ العلم كيفية انفعالية فائضة بفضل الله وليست من الأفعال الاختيارية لنفس، وكذا الكرم فأنه غريزة مجبول عليها لا يناسب المقام لعوده على الفرق بما ينافيه فتدبر. قوله: (ولا تقول حمدته على حسنه بل مدحته) فلا يلزم أن يكون المدح اختياريا ولم يتعرض لوقوعه في الاختياري لأنه ليس محلاَ للنزاع قيل: ثبوت مدعاه من عدم الترادف متوقف على صدور ما ذكر عن البلغاء الموثوق يهم، وهو غير ظاهر مع أنّ الترداف لا يقتضي استعمال كل منهما حيث يستعمل الآخر وليس بلازم كما صرحوا به، ولا يخفى أنه ناف لا مثبت حتى يطالب بالاستعمال، وعدم وقوع أحد المترادفين موقع الآخر من غير مانع ما غير ظاهر، ولا يرد عليه الحمد الذاتي لله لأنه بمعنى استحقاقه له بجميع صفاته من غير تعيين، ولما كانت ذاته كافية في اتصافه بها جعل ذاتياً كما ذكره الشريف وسيأتي تحقيقه إن شاء الله. قوله: (وقيل هما أخوان) هذا ردّ على الزمخشري: بناء على فهمه منه، وقد قال السعد في شرحه إنّ الشائع في كتب العلامة أنه يريد بكون اللفظين أخوين أن يكون بينهما اشتقاق كبير بأن يشتركا في الحروف الأصول من غير ترتيب أو أكبر، بأن يشتركا في أكثر الحروف مع اتحاد في المعنى، أو تناسب كما مرّ، وقال الشريف: المراد
أنهما مترادفان، والترادف بعدم اعتبار قيد الاختياو فيهما أو باعتباره فيهما، وهذا هو المراد وإن ذهب بعضهم إلى الأوّل ويدلّ على ذلك أنه قال في الفائق الحمد هو المدح والوصف بالجميل، وأنه جعل ههنا نقيض المدح أعني الذمّ نقيضاً للحمد، فإن قيل نقيض المدح هو الهجو دون الذمّ قلنا المدح يطلق على الثناء الخاص، وهو الوصف بالجميل ويقابله الذمّ، وقد يخص بعدّ المآثر ويقابله الهجو أي عدّ المثالب وكلامنا في المعنى الأوّل ثم أيده بأنّ ما ذكره أوجب حمل الأخوة على الترادف وبأنه قال في الكشاف في تفسير قوله تعالى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ} [الحجرات: 7] إنّ المدح لا يكون بفعل الغير، وتأوّل التمدح بإجمال وصباحة الوجه، فالمدح أيضاً(1/74)
مخصوص بالاختياري عنده وتركه اعتماداً على الأمثلة، والجميل الفعل وهو ما يكون بالاختيار، وقد نوقش بأنّ الأدباء يجوّزون التعريف بالأعم، والنقيض في كلامه بمعناه اللغويّ، ويجوز أن يكون شيء واحد نقيضاً لشيئين بينهما عموم وخصوص بهذا المعنى، وهذا مراد القاضي رحمه الله بقوله الذم نقيض المدح مع أنه أخص من المدح عنده فئهون الذمّ نقيضاً لهما لا يدل على إتحادهما إلا أنها مع سوق كلام الكشاف قرينة ظنية على الترادف كافية في المطلوب، وقيل على هذا إنّ الواجب أن يحافظ في كل مبحث على ما هو وظيفته فلا يطالب في الظنيات باليقين، ولا يكتفي في اليقينيات بالظن، ومثل هذا المقام من الظنيات، والظاهر الغالب من التعريف بيان أصل المفهوم والتعريف بالأعئم، دمان كان جائزاً لكنه نادر بالنسبة لغيره، فالمطلق لا ينصرف إلا لبيان تمام المفهوم والنقيض وإن كان بالمعنى اللغويّ بمعنى المقابل الذي لا يجتمع مع الشيء فالظاهر عدم كون شيء مقابلاَ للأمرين ولولا هذا لأمكن أن يكون مراد الزمخشريّ بالأخوين المتشابهين فإن الأخوّة شاعت في المشابهة كما في الفائق أيضاً، وما ذكر من مقابلة المدح بالذمّ لا يعارضه قول أبي تمام:
كريم متى أمدحه أمدحه والورى ~ معي ومتى ما لمته لمته وحدي
فإنه مدخول وعدل عن مقابلته به إشارة إلى أنه لا يمكن ذمه، فإن قلت كيف ينكر المدح
على غير الاختياري، وقد قال البحتري في مدح شفيع، وهو ممن يستشهد بكلامه في المعاني: حاز شكري وللرياح اللواتي ~ تحلب الغيث مثل مدح الغيوم
وقال آخر:
أرح المسك مدحة الغزلان
ومثله أكثر من أن يحصى، فكيف يسمع ما قيل من أنّ مثال اللؤلؤة مصنوع.
(قلت) وروده في كلام الموثوق به لا يمكن إنكاره، فمن أنكره يقول إنه وأمثاله من قبيل التمثيل والتنزيل، نعم هو مخالف لما قاله علماء البلاغة، فقد قال الآمديّ في الموازنة وناهيك به ما نصه: جمال الوجه وحسنه مما يتمدح به لأنه يتيمن به، ويدل على الخصال الممدوحة، والدمامة يذمّ بها لعكس ذلك، وقد غلط فيه من ظن أنه لا ينبغي أن يذكر في مدح العظماء
انتهى. مع أنه يقتضي أنه لم ينكر مطلقا وإنما أنكر مدح عظماء الرجال به دون النساء ونحوهن فتفطن له، وانما مرّض المصنف رحمه الله قول الزمخشري إنهما أخوان لجزمه بأنه أراد الترادف كما ذهب إليه السيد السند. قوله: (والشكر الخ) الواقع في النسخ عطف العمل وقرينه بالواو، وهو المرويّ عن المصنف رحمه الله في الحواشي، وقيل إنه وقع في بعضها أو بدل الواو، وهما بمعنى لأنّ الواو بمعنى أو هنا كما يدل عليه قوله بعده أعمّ إذ المعنى أنّ الشكر كل ما أنبأ عن تعظيمه سواء كان ثناء باللسان وخضوعاً بالأركان أو محبة واعتقادا بالجنان وقولاً منصوب بنزع الخافض أي بالقول، وما قيل من أنه كان الظاهر أن يقول المصنف مقابلة القول، والعمل والاعتقاد بالنعمة إذ يقال قابلت كتابي بكتابه لا وجه له، وما مثل به ليس من كلام العرب الموثوق بهم بل من استعمال المولدين والمفاعلة تنسب لكل من الطرفين على حدّ سواء، ولو سلم ما ذكره فلك أن تقول إضافنه للنعمة لأدنى ملابسة.
وقولا مفعوله وأصله مقابلة القول بالنعمة ويجوز أن يكون تمييزاً أو خبر كان مقدرة، والتقدير سواء كانت قولاً الخ ثم إنه قال: المراد بالقول، وأخويه الحاصل بالمصدر فيوأفق ما قيل إنه فعل ينبىء عن تعظيم المنعم سواء كان عملاً أو لا، فإن المراد بالقول والعمل فيه المعنى المصدري وأمّا الاعتقاد فجعله شكرا على التسامح والمراد تحصيله ويصدق على المعنى المصدريّ أنه مقابلة النعمة بالمعنى الحاصل بالمصدر، والواو بمعنى أو لما مرّ ولأنه لا يقال لأجزاء الشيء شعبه بل لأقسامه ومعنى مقابلة النعمة الخ أنه يثنى على المنعم بلسانه ويدأب في الطاعة له ويعتقد أنه وليّ النعمة، وقيل لا يكفي الاعتقاد بل لا بد من انبعاث محبته وتعظيمه له في القلب انتهى. وقيل عليه أنّ صيغة المصدر تطلق حقيقة على كون الذات بحيث صدر عنها الحدث، وبهذا الاعتبار يسمى المبنيّ للفاعل، وعلى كونها بحيث وقع عليها، وبهذا الاعتبار يسمى المبنيّ للمفعول، وعلى نفس ذلك الحدث الصادر عنها، وبهذا الاعتبار(1/75)
يسمى الحاصل بالمصدر، وهو المفعول المطلق كما في الرضى. وحاصل كلامه أنه حمل هذا التعريف على التعريف المشهور بحمل القول والعمل في كلام المصنف رحمه الله على الحاصل بالمصدر، وفي المشهور على المصدر المبنيّ للفاعل، واذعى كون المقابلة بالفعل والقول صادقة على المعنى المصدرفي، ويرد عليه أنّ تفسير الفعل المنبىء عن تعظيم المنعم بالكون الذي هو من الاعتبارات العقلية، والعدول عن الحاصل بالمصدر الذي هو أمر موجود في الخارج مشاهد واضح الدلالة على التعظيم غير مرضيّ، فما معنى قوله ويصدق الخ. وحمل المقابلة بالفعل والقول على أضدادها خروج عن الجادّة من غير ضرورة، ولا فائدة، والمعتبر في الشكر اللغويّ وصول النعمة إلى الشاكر، ولذا قالوا: إنه عين الحمد العرفي لو اعتبر فيه أيضا وصول النعمة للحامد، وأخص منه إن لم يعتبر، ويشترط فيه موافقة القول والعمل للاعتقاد، والشكر الجنانيّ كما قال قدّس سره: إنه اعتقاد اتصاف المنعم بصفات الكمال، وهو من حيث إظهاره أو إظهار ما يدل عليه تعظيم للمنعم مستلزم لمحبته ظاهراً فلا يرد عليه ما قيل من أنّ الظاهر أن يقال: إنه محبة المنعم لإنعامه إذ العدوّ قد يعتقد اتصاف عدوّه بالكمال، ولا يعد بمجرّد ذلك شاكراً.
(أقول) ما ذكره القائل مبنيّ على ما أسسه في مقالته المعقودة لبيان المصدر، والحاصل بالمصدر، وهو كلام مموّه بينا ما له، وما عليه ثمة، والذي عناه الفاضل الليثيّ أنّ مدلول المصدر الفعل، والتأثير نفسه، ويطلق حقيقة على أثره، وهو الحاصل بالمصدر، فإنهما كشيء واحد تعدد بتعدّد محله فباعتبار تعلقه بالفاعل تأثير، وبالمفعول تأثر وأثر، ونظيره ما قيل إنّ التعليم والتعلم واحد، وبهذا عرفت سقوط ما أورد عليه برمّته نعم في كلامه نظر آخر، لأنّ قوله إنه لا يقال لأجزاء الشيء شعبه غير مسلم، وما ذكره من التسامح منشؤه، كما قيل ذكر الفعل في تعريفه، وقد قيل إنهم أرادوا به الأمر الحادث لا التأثير، فيشمل الاعتقاد وفيه تأمّل. قوله: (أفادتكم النعماء الخ) هذا البيت لم يذكر أصحاب الشواهد قائله ولا ما قبله وما بعده، وفي بعض الحواشي أنه لأعرابيّ أتى علياً رضي الله عنه سائلاَ، فأعطاه درهماً فلما استقله ولم يكن عند غير درع له ناوله إياها فامتدحه بشعر هذا من جملته، ولست على ثقة منه، وأفاد من الفائدة، وهي الزيادة تحصل للإنسان، ومعناه أعطى يقال أفدته ما لا إذا أعطيته، وأفدت منه ما لا أخذت، وكرهوا أن يقال أفاد الرجل ما لا إفادة إذا استفاده، وبعض العرب تقوله كما في المصباح، والنعماء بفتح النون والمد بمعنى النعمة فاعل أفاد وثلاثة مفعوله ويدي وما عطف عليه بدل منه، ومني متعلق بأفاد أو حال من ثلاثة متقدمة عليها لكونها نكرة واليد واللسان معروفتان ويتجوّر بهما عن معان مشهورة أيضا، وضمير الإنسان قلبه وباطنه ونيته المضمرة في قلبه، ويجمع على ضمائر على التشبيه بسريرة وسرائر، وحقه أن لا يجمع عليها والمحجب بمعنى الخفي وسيأتي معنى توصيف الضمير به، وقال الشارح المحقق: المراد التمثيل لجميع شعب الشكر لا الاستشهاد والاستدلال على أنّ لفظ الشكر يطلق عليها.
وقال قدس سره: هو استشهاد معنويّ على أنّ الشكر يطلق على أفعال الموارد الثلاثة،
وبيانه أنه جعلها بإزاء النعمة جزاء لها متفرعا عليها، وكل ما هو جزاء للنعمة عرفا يطلق عليه الشكر لغة، ومن لم يتنبه لذلك زعم أنّ المقصود مجرّد التمثيل لجميع شعب الشكر لا الاستشهاد على أن لفظ الشكر يطلق عليها، فإنه غير مذكور، وما يقال من أن الشاعر جعل مجموعها بإزاء النعمة، فيستفاد منه أنه يطلق عليه لا على كل واحد منها، فجوابه أنه لا شبهة في إطلاقه على فعل اللسان حتى توهم كثير اختصاص الشكر لغة به، وإنما الاشتباه في إطلاقه على فعل القلب والجوارح فلما جمع مع الأوّل علم أن كلا شكر على حدة، فكأنه قيل كثرت نعماؤكم عندي وعظمت، فاقتضت استيفاء أنواع الشكر، وبولغ في ذلك حتى جعلت مواردها واقعة بإزاء النعماء ملكا لأصحابها مستفاداً منها، وفي وصف الضمير بالحجب إشارة إلى أنهم
ملكوا ظاهره وباطنه انتهى. وقد قيل عليه إنّ المقدمة الأولى ظاهرة لا تحتاج لإثبات بمثل هذا الشعر والثانية غير مسلمة لما في التيسير وغيره في الفرق بين الحمد والشكر من أنّ الأوّل بالقول، والثاني بالعمل وقيل الأوّل على النعم الظاهرة، والثاني على الباطنة، وقال الراغب:(1/76)
الشكر هو الثناء على المحسن كيف، وقد ذكر هو أنّ كثيراً من الناس ذهب إلى تخصيص الشكر باللسان، ومثله لا يندفع بمجرّد دعوى القائل من غير دليل، ويرد عليه أيضاً أنّ كون المقدمة الأولى ظاهرة في غاية الخفاء لاحتمال أن يكون مراد الشاعر أنكم ملكتم بإحسانكم ظاهري، وباطني، وأسرتموني جملة، فلا قدرة لي على مفارقتكم كقول بعض العرب علي يدا مطلقها، وأرق رقبة معتقها، ومنه أخذ أبو تمام قوله:
هممي معلقة عليك رقابها ~ مغلولة إنّ العطاء أسار
وسرق منه السارق أبو الطيب فقال:
ومن وجد الإحسان قيدا تقيدا
وأيضا قوله يدي لا يدل على مدعاه من تعظيم الأركان والجوارح لأنها إن كانت بالمعنى الحقيقيّ لم يفده، فإنه تجوّز بها عن الإنعام على أنّ المراد مكافأة نعمهم كما قيل، فمثله قد لا يعد شكرا ألا ترى أنّ من وهبك برداً، فأعطيته ضعف ثمنه لا يقال إنك شكرته بل ربما يشعر ذلك بعدم قبول منته وارتضائه منعما، ولذا عد الفقهاء الهبة المعوّضة بيعاً، وقيل ابتغاء العوض ربا وتجارة، ولا يكون كذلك إلا إذا كانت مجازاً عن القوة أو التصرف، كقوله تعالى: {بِيَدِهِ الْمُلْكُ} [الملك: 1] والمراد المنع والدفع عن المنعم والثناء عليه، والعزيمة على ذلك من صميم فؤاده لخلوص طويته فيكون حينئذ شاكراً له فتنبه له، فإنهم لم يتعرّضوا لتفسير اليد بما يؤيدهم، فإن كان المجموع تمثيلاً أو كناية عن تملكه بأسره، فإن الإنسان عبد الإحسان، كانت على ظاهرها وفي ترتيبه نكتة حسنة حيث بدأ باليد التي هي من الأعضاء الظإهرة وثنى باللسان الذي هو واسطة بين الظاهر والباطن، وأتبعه القلب الخفيّ، ووصفه بما يدل على ذلك، ففي كون اليد والاعتقاد والعمل مما اعتبره الشاعر جزاء للنعمة نظر لا يخفى، وقد قيل عليه أيضا إنّ المدعى هنا إطلاق الشكر على الموارد الثلاثة، وقد جعل هذا المذعى جزأ من إثبات الاستشهاد، وهو دور ظاهر وقيل عليه مصادرة أيضا، ؤردّا بأن ما جعل جزأ لإثبات الاستشهاد كلية مشتملة على الدعوى اشتمال الكبرى الكلية في الشكل الأوّل على المطلوب، ومثله لا ضير فيه كما توهم، وقيل الدعوى يتوقف ثباتها على الاستشهاد وجعلها جزا لإثباته لا يستلزم الدور نعم جعلها جزأ لنفس الاستشهاد أي ذكرها فيه لا في إثباته يستلزم الدور، والفرق واضح على أنه لم يجعل الدعوى جزأ لإثبات الاستشهاد أيضا إثباته بأنّ البيت ذكر لإثبات إطلاق الشكر على الأفعال المذكورة وكل ما هو كذلك يكون استشهاداً، أقا
الكبرى فظاهرة، وأمّا الصغرى فلأن كلا من الثلاثة جزاء للنعمة، وكل ما هو جزاء لها شكر، فالدعوى مقدّمة لدليل صغرى إثبات الاسنشهاد، وأمّا العلاوة فمندفعة كيف، وكون الشكر عبارة عن مقابلة النعمة أظهر من أن ينكر، ولو سلم فغاية ما لزم العلامة إيراد النقل وقول الطيبي مع ورود هذا المعنى في اللغة وشيوعه غير مسموع. وقوله: (توهم كثيرا الخ) كيف يصير منثأ للتعجب مع تصريحه بأنه مردود عنده بل ربما يعلم منه عدم صحة الاستشهاد بقول الطيبي أيضاً، وقيل فيه نظر.
أمّا أوّلاً: فقوله وجعلها جزا لإثبات الاستشهاد لا يستلزم الدور باطل كيف، والاستشهاد موقوف على جعله والدعوى متوقفة على الاستشهاد والمتوقف على المتوقف متوقف.
وأما ثانياً: فلان قوله نعم الخ فاسد إذ لا فرق بينهما في استلزام الدور غايته أنه يزيل
مرتبة التوقف على الأوّل.
وأمّا ثالثاً: فلانّ قوله على أنه لم يجعل الدعوى الخ تطويل بغير طائل، إذ غايته أن يكون المدّعى جزا لإثبات مقدّمة من دليل الاستشهاد، وهو لا يدفع الدور إذ معنى الدور متحقق بل يحصل التوقف مرّة أخرى.
وأمّا رابعاً: فلما في قوله وأمّا العلاوة الخ إذ اندفاعها لا يظهر مما ذكر.
وأما خامساً: فلما في قوله كيف، وكون الشكر الخ لأنه إن أريد أنه بديهيّ، وهو أمر لغويّ نقليّ لا مجال للعقل فيه فهو مما لا يقوله عاقل ودعوى ظهوره بعد مخالفة كثير من العلماء كصاحب التيسير والمرزوقي في شرج الحماسة وغيرهم من العلماء الأعلام محل تعجب، وجعل السيد له توهماً لا يوجب عدم الاعتداد به في الواقع، وفيه كلام تركناه لطوله، وسنورده في تعليقه مستقلة فتدبر. قوله: (فهو أعغ الخ) أي الشكر أعم من الحمد والمدح من وجه، وهو المورد وأخص من وجه آخر وهو المتعلق فبينه وبينهما عموم وخصوص وجهيّ، ثم لما جعل في الحديث " الحمد رأس الشكر " (1) وهي جزء يتبادر مته كونه(1/77)
أعمّ منه أو مساويا له كما هو شأن الخبر، وكذا قوله ما شكر الله عبد لم يحمده لأق الأعنم من وجه لا يلزم من انتفائه انتفاؤه أشار إلى دفعه بقوله: ولما كان الخ. فهذا جواب عن سؤال مقذر. قوله: (من شعب الشكر) جمع شعبة كغرف جمع غرفة من تشعب بمعنى تفرق ويكون بمعنى تجمع فهو من الأضداد وأصل الشعبة الخشبة المشعبة وقال شمر: الشعبة من كل شيء القطعة، والطائفة فهي لغة تكون للأجزاء، والأقسام، فتخصيصها هنا بالثاني إن كان عرفياً فمسلم.
قال قدّس سره: وهو إحدى شعب الشكر باعتبار المورد وإن كان الشكر إحدى شعبه باعتبار المتعلق، وعبر عن الأقسام بالشعب لتشعبها من مقسمها، فإذا لم يعترف العبد بإنعام المولى، ولم يبن عليه ما دلّ على تعظيمه لم يظهر مته شكر ظهورا كاملاَ، وان اعتقد وعمل لم يعدّ شاكرا، لأن حقيقة الشكر إظهار النعمة والكشف عنها، كما أنّ كفرانها إخفاؤها وسترها، والاعتقاد أمر خفيّ في نفسه وعمل الجوارح، وإن كان ظاهراً إلا أنه يحتمل خلاف ما يقصد به إذا لم يعين له بخلاف النطق، فإنه ظاهر في نفسه، ومعين لما أربد وضعا فهو الذي يفصح عن كل خفيّ، فلا خفاء فيه، وعلى كل نسبة، فلا احتمال له، وكما أنّ الرأس أظهر الأعضاء، وأعلاها وعمدة لبقائها كذلك الحمد أظهر أنواع الشكر وأشملها على حقيقته، حتى إذا فقد كان ما عداه بمنزلة العدم انتهى.
فجعل أنواع الشكر بمنزلة الجسد والحمد بمنزلة رأسه لما ذكره، ولما كان المقصود بالتشبيه كونه عمدة البقاء مع العلوّ والظهور خص دون القلب كما لا يخفى، فلا يرد عليه ما قيل إنّ العمدة القلب إذ لو لم يوافقه اللسان لا يكون القول معتبراً ولا يعتدّ به، ولا حاجة إلى قوله ويمكن أن يقال جنس الحمد رأس الشكر لكونه من اللسان الذي اعتبره الشارع في مقام الإظهار، وقيل إنه عليه الصلاة والسلام شبه الشكر بشجرة لأنه مشتمل على أمر خفيّ به قوامه وصلاحه وهو الاعتقاد، وعلى أمر ظاهر وهو القول، وعلى متوسط بينهما وهو العمل فقال " الحمد رأس الشكر " فذكر الشكر استعارة بالكناية واثبات الرأس تخييل، فقصد الردّ عليه لملاءمة الشعب لما ذكره، وهو لم يقع في الحديث مع أنه يطلق على ما بين القدمين أيضاً، والحديث يدل على عدم وجود الشكر بدون الحمد، وما ذكره لا يناسبه، وفي قوله ذكر الشكر الخ تسامح ظاهر، فلا وجه لتخطثته فيه والقول بأنه اصطلاح جديد. قوله: (أشيع للنعمة وأدلّ على مكانها) أشيع بمعنى أكثر إشاعة، وإظهاراً من بقية شعبه وأقسامه، وهذا بناء على مذهب سيبويه في جواز أخذ أفعل التفضيل من الأفعال المزيدة، وعليه الرضى لكثرته استعمالاً والجمهور على أنه نادر موقوف على السماع، ولك أن تقول لا حاجة لهذا لأنه من شعت الشيء كبعته ة ذا أظهرته كما في القاموس، ولم يتعد بالباء بل باللام لأنه أفعل تفضيل يطرد تعديته بها كما فصله النحاة وكان الأظهر أن يقول للتعظيم بدل قوله للنعمة لأن الحمد لا يلزم أن يكون في مقابلتها، وأدلّ بمعنى أظهر دلا أت، ومكان النعمة المراد به النعمة على طريق الكناية، كما يقال المجلس العالي كناية عمن هو فيه، ولفظة مكان مقحمة لورودها كذلك في كلام العرب كقول الشماخ:
وماء قد نقيت به بكوراً ~ مكان الذنب كالرجل اللعين
أو مكان النعمة المنعم عليه، وأمّا كونه مصدراً ميمياً بمعنى الكون، والثبوت فبعيد وبين الأظهرية بقوله لخفاء الخ. قوله: (وما في إدآب الجوارح من الاحتمال) الإدآب بالهمزة والدال المهملة، وآخره موحدة كالاتعاب وزناً ومعنى، والدأب بمعنى العادة منه، والجوارح أعضاء الإنسان لأنه بها يكتسب مأخوذ من جرح بمعنى اكتسب، ومنه جوارح الطير لما تصيد منه، وهذا صريح في أنّ دلالة الألفاظ على المعاني أقوى من دلالة الأفعال عليها لما ذكره قيل وفيه نظر لأنّ من الأفعال ما يدل على المعنى المراد منه دلالة قطعية لا يتطرّق لها شبهة، واحتمال فطعاً، فإن حمل الشخص مراراً للثقيل يدل على قدرته على ذلك قطعا واشتغاله بصنعة يدل على علمه بها وادارتها بلا احتمال، ويشهد له المثل لسان الحال أنطق من لسان المقال بخلاف الألفاظ، فإنه ليس شيء منها يخلو من احتمال الاشتراك ولتجوّز والزيادة والنقصان نعم يصير بعضها قطعيا فيما يراد منه بواسطة قرينة فأمّا ينفسها فلا، وكذا قيل إنّ المدلول يتخلف عن الدال(1/78)
في القول ولا يتخلف في الفعل ولا يخفى أنّ ما ذكر من احتمال التجوّز خلاف الظاهر كالاستهزاء، وأمّا الأفعال فقلما يخلو شيء منها من الاحتمال، وما ذكر من الأمثلة إنما صار قطعياً لط احتف به من قرائن الأحوال، وكيف يدعى أنّ الأفعال أدلّ من الأقوال، والمرإد من المدلول هنا تعظيم المنعم ونحوه، وأعظم أفراده تعظيم الله بحمده وشكره، وأعظم أفعاله العبادة، وكلها موافقة للعادة كقيام الصلاة، وجلوسها والذهاب للحج ومباشرة أركانه، وما منها إلا والاحتمال فيه أظهر من أن يخفى بخلاف حمدت الله وشكرته وعظمته ومجدته، ولا احتمال فيه لولا التعنت والمكابرة، وما ذكر من المثل أمر ادّعائي كما هو المعروف في أمثاله، ولذا قال بعض المتأخرين في دفع ما ذكر أنّ دلالة القول على التعظيم الذي منشؤه الإنعام أظهر، فإنّ الة حل، وإن دل على التعظيم لكنه لا يدل من هذه الحيثية، والأظهر أنّ الحمد اللساني لما تحقق بذكر النعمة دون غيره، وذكر النعمة أتم في إشاعتها كان أدل انتهى. والاحتثال افتعال من الحمل تقول حملتة المتاع فاحتمله تجوّزوا به عن جواز أمرين، أو معنيين فكثر، وليس من كلام العرب، وفي الأساس من المجاز هذه الآية تحتمل وجهين، وفي المصباح الاحتمال في اصطلاح الفقهاء والمتكلمين بجواز استعماله بمعنى الوهم، والجواز فيكون لازماً وبمعنى الاقتضاء، والتضمن فيكون متعديا مثل احتمل أن يكون كذا واحتمال الحال وجوها كثيرة انتهى. قوله: (فقال عليه الصلاة والسلام الحمد رأس الشكر الخ) هذا الحا. يث رواه عبد الرزاق من طريقة الديلمي عت معمر عن قتادة عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما وانكار الطيبي له، وقوله لم يوجد في الأصول لا يلتفت إليه، وفيه دليل على أنّ الشكر يكون بغير القول كما في قوله تعالى: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا} [سبأ: 13] فلا عبرة بما قيل إنه غير لغويّ، ومنه علم وجه كونه أعمّ من وجه كما مرّ فتدبر. وقوله: <ما شكر الله من لم يحمده> أي لتفويته ما هو العمدة في الشكر مع تيسير مع غير تعب، ولأنه إذا لم يعترف
العبد بإنعام مولاه ويثنى عليه لم يظهر منه شكر ظهوراً تاما، وإن اعتقد أو عمل لا يعذ شاكرأ لأن حقيقة الشكر إظهار النعمة، كما أن الكفران سترها.
) قلت) سئل عن الحديث السخاوي فقال بعدما مرّ إن فيه القطاعا بين قتادة وابن عمر، ولكن له شاهد عند ابن السني والديلمي أيضا من طريق يزيد بن الحباب عن عمر بن عبد الله بن أبي خثعم عن يحيى بن أبي كثير عن أنس قال: قال رسول الله كلاقي: " إنّ إبراهيم سأل ربه فقال يا رب ما جزاء من حمدك قال الحمد مفتاح الشكر والشكر يعرج به إلى عرس رب العالمين قال فما جزاء من سبحك قال لا يعلم تأويل التسبيح إلا رب العالمين ") 1 (وهو منقطع أيضا.
واعلم أنّ في قوله رأس الحمد استعارة مكنية وتخييدية لأنه حقيقة الشكر إشاعة النعم والكشف عنها، فجعل بمنزلة شخص يعاون وظهوره برأسه، ونظيره مفتاح الشكر فاعرفه. قوله: (والذمّ نقيض الحمد الخ) أمّ الثاني: فظاهر قال تعالى: {لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم: 7] لأنه إظهار النعمة والكفران جحودها وسترها وهذا بناء على أن أصل معناه أظهر كمقلوبه كشر إذا أظهر أنيابه، وقيل: معناه الإمتلاء. ومنه عين شكرى أي ممتلئة، وأمّا الأوّل فلأنه الثناء بالجميل، وذكر المحاسن والذمّ ذكر القبائح وكذا المدح، فإطلاق الذمّ في مقابلته مشهور، وأمّا المدح بمعنى عد المناقب فمقابله الهجو بمعنى عذ المعايب والمراد بالنقيض المنافي، ومنافي العام منافي للخاص، فلا يرد أنه مقابل للمدح، والمثشف رحمه الله غير قائل بترادف المدح والحمد، فكيف ذكر أنه نقيض الحمد، ومن وهم أنّ اشتهار الذمّ في مقابلة المدح يبطل كونه نقيض الحمد، أو كون المدح أعنم من الحمد فقد وهم، وقد مال قدس سره إلى أنّ اتحاد نقيضهما يقتضي ترادفهما كما مرّ، وقد قيل عليه أيضا إنه إن أراد بالنقيض متعارف أرباب الميزان، فظاهر أنّ الذم ليس نقيضا للحمد بذلك المعنى إذا ليس هو رفعه لوجود رفعه في صورة السكوت بدون الذمّ، وان أراد معنى الضد، فلا يلزم أن يكون للشيء ضد واحد غير متعدد البتة إن أراد به الضد المشهور، وان أراد الضد الحقيقي المعتبر فيه غاية الخلاف، فلا نسلم ذلك أيضا، وما ذكره الحكماء من أنّ ضدّ الواحد إذا كان حقيقيا يكون واد غير مسلم عند المتكلمين والحكماء(1/79)
لا يقولون بثبوته بالبرهان القاطع بل يدعون فيه الإستقراء، وهذا كله تعسف وتنزيل كلام اللغويين على مدعي الحكماء حرزة، والنقيض عند اللغويين كما مرّ المقابل المنافي، فلا حاجة لشيء مما ذكر. قوله:) ورفعه بالابتداء الخ) كون العامل الإبتداء هو القول الأصح المشهور، وذكر هذا الإعراب مع ظهوره إمّا لدفع ما يتوهم من أنّ المجرور معمول المصدر واللام للتقوية، فذكر رفعه بالابتداء ليتعين
لشهاب لم ج ا / م 9
أنّ لله خبره و) يربط به ما بعده، وقيل إنه لدفع توهم رفعه بفعل محذوف مجهول أي حمد الحمد مع أنه أوفق بأصله، ولا يخفى فساده وقيل الأولى أن يقال إنه للتنبيه على أنّ الحمد يستحق التقديم على لله باعتبار الحال والأصل، وتوهم كون الظرف أو المجرور معمولاً للحمد يرتفع ببيان كون لله خبراً ولا دخل للتعرّض لرفع الحمد إلا أن يقال التعرّض لرفعه لتوطئة بيان الخبرية، وهي لدفع التوهم المذكور، وكله على طرف التمام. قوله: (وأصله النصب الخ) قال سيبويه: من العرب من ينصب المصادر بالألف واللام، ومن ذلك الحمد لله ينصبها عامّة بني تميم وكثير من العرب، وسمعنا العرب الموثوق بهم يقولون العجب لك، فتفسير نصب هذا كتفسيره حيث كان نكرة، كأنك قلت حمداً وعجباً، ثم جئت بلك لتبيين معنى من يعني، ولم تجعله مبنياً عليه فتبتدىء به، وقولك الحمد لله والعجب لك والويل لك، إنما استحق الرفع لأنه صار معرفة، فقوي في الابتداء بمنزل عبد الذ انتهى. وفي شرح السيرافي دخل الألف واللام المصدر حسن الابتداء به، كما في الحمد لله والويل لك، فإذا أنكر ضعف الابتداء به، إلا أن يكون فيه معنى المنصوب نحو سلام عليكم، وخيبة لزيد مما يدعى به، ويجوز فيه النصب والرفع ويجري مجرى المنصوب في حسنه، وان كان الابتداء بنكرة، وليس كل ظرف يفعل به ذلك، كما أنه ليس كل حرف يدخله الألف واللام، فلو قلت السقي لك والرعي لك لم يجز إلا عند الجرمي والمبرد لأنه لم يسمع، والحمد دلّه وان ابتدىء به ففيه معنى المنصوب وهو إخبار فإذا نصب فمعناه أحمد الله حمداً، واذا رفع فكأنه قال: أمري وشأتي فيما أفعله الحمد لله هذا زبدة ما في الكتاب وشرحه في باب كسره عليه، وهو مأخذ الزمخشريّ وعليه اعتماده.
وقال قدّس سوه: إنما كان أصله النصب، لأنّ المصادر أحداث متعلقة بمحالها، فيقتضي
أن تدل على نسبتها إليها، والأصل في بيان النسب والتعلقات هو الأفعال، فهذه مناسبة تستدفي أن يلاحظ مع المصادر أفعالها لفظاً، فتسدّ مسدّها وتستوفي حقها لفظاً، ومعنى فلا يستعملونهما معا ويجعلون ذكر أفعالها، كالشريغة المنسوخة في أنه خروج عن طريقة معهودة إلى طريقة مهجورة يستنكرها المتدين بعقائد اللغة، ولا يرد عليه ما قيل من أنه لا يدل على أنّ أصله النصب بل على أنّ المقام مقام الأتيان بالجملة الفعلية لأنه حينئذ إذا أتى بمصادرها كان حقها النصب كما سمعته عن سيبويه، وقراءة النصب هنا شاذة منسوبة لهرون بن موسى العتكي، والقراءة الشاذة يستدل بها النحاة، والنصب على المصدرية بفعل محذوف تقديره نحمد بنون الجماعة لأنه مقول على ألسنة العباد ومناسب. لقوله: (نعبد ونستعين الا بنون العظمة لعدم مناسبته لمقام العبادة المقتضي لغاية التذلل والخضوع وليس مفعولاً به بتقدير اقرؤا، وأن جوّزه بعضهم لما مرّ، وقراءة الرفع أولى لدلالة الجملة الإسمية على الدوام والثبوت بقرينة المقام بخلاف الفعلية فإنها تدل على التجذد والحدوث، واذا كان الخبر ظرفاً
فإن قدّر متعلقه اسماً فهو ظاهر، وإلا فقيل الخبر الفعل إنما يفيد الحدوث إذا كان مصرّحاً به مع إنه قيل إنّ المعدولة تفيد ذلك مطلقاً فيفيد العدول، والتعريف بلام الاستغراق ثبوت الحمد الشامل لجميع أفراده لله تعالى، وإلى هذا أشار المصنف فيما بعده، وهو قوله وإنما عدل عنه إلى الرفع الخ. وقد شرحناه على وجه يعلم منه مراده إجمالاً وسنفصله ونحققه على أتم وجه. قوله: (على عموم الحمد) قيل إنّ هذا على تقدير أن تكون اللام في المبتدأ للعموم، وفيه نظر لأنه أريد به معناه الذي يفيده النصب من إنشاء الحمد من نفس الحامد، واللام في النصب متعينة للجنسية إذ يمتنع إنشاء الحمد الذي يقوم بغيره، فكذا في حالة الرفع كذا نقل عن المصنف في حاشية كتبها هنا، وقيل على ما نقل عنه أنّ الإنشائية(1/80)
غير متعينة لجواز أن تكون خبرا، وأن يريد أنّ معنى قوله نحمد ننشىء الحمد، فإن كان هذا خبراً والمفعول المطلق ما أوجده فاعل الفعل المذكور، فلا شك أنه ههنا لا توجد جميع أفراد الحمد حتى الصادر عن غيره مثل الملائكة ومن حمده قبله وحتى ما لم يأت به أحد من أفراده الممكنة عقلاً، فإن جميع ما ذكر مندرج في الحمد على تقدير الإستغراق كما صرّج به الإمام، وفيه نظر لأنه لا يجب أن يكون المراد بالحمد حال الرفع ما أريد به حال النصب إذ المانع من حمله على الاستغراق حال النصب منتف حال الرفع، وان حمل كلامه على أنه في حال النصب إنشاء، والجملة أيضا إنشائية فهو ممنوع لأنّ كلام الكشاف صريح في خبريتة، وقيل المشهور أنّ جملة الحمد إنشائية وأن كانت خبرية في الأصل والاستغراق لا ينافيه، ولا يستلزم كونه منشئا لكل حمد وموجدا له، بل يكفي كونه منشئاً للأخبار بأنّ كل حمد ثابت له وهو محمود به، وليس العموم الذي ذكره المصنف بحسب الأزمنة، لأنّ قوله بعده وثباته يخلو عن الفائدة، ودلالة العدول على ما ذكر لأنه إذا جرّد عن التجدد والحدوث ناسب قصد الدوام بمعونة المقام، ولذا قيل إن عمومه شموله لكل حمد لا حمد المتكلم وحده كما جمو مدلول حمدت حمدا وردّ بأنه يقدر الفعل نحمد، كما في الكشاف فيفيد عموم الحمد إذ المراد به كل من يصلح لأن يكون حامدا، وفيه أن نحمد يدل على عموم صدور الحمد لا على عموم نفس الحمد إذ يجوز أن يكون الثابت له تعالى فردا من حمد كل حامد، وقد يحمل العموم على عموم مفهومه بأن لا يلاحظ فيه زمان بوجه لا خاصا ولا عاما، والثبات وإن دل على شمول الأزمنة لكنه مدلول الجملة الاسمية لا الحمد وفيه نظر، وقد يحمل العموم على الاستغراق الصريح والتضمني على تقدير كون اللام للاستغراق أو الجنس، وأورد عليه أن يستفاد من اللام لا من العدول، وهو حاصل على تقدير النصب أيضا، وأمّا أنه إنشاء فلا وجه للاستغراق فيه ففد مرّ ما فيه: وقد يحمل على شمول جميع الأزمنة فالثبات تفسير له وأيد بتعرّضه للتجدّد المقابل للثبوت دون مقابل العموم، وقيل العدول يدل على أنّ الحمد بالمعنى المصدري والدلالة على الثبات لا
تناسبه لتجدده بل تنالسب الحاصل بالمصدر إلا أن يقال بعد العدول لا يلزم اعتبار ما كان بحسب الأصل من التجدّد، وفيه أنا لا نسلم أنّ المصدر متجدد، فالدلالة على الثبات لا تناسبه بل التجدد في الفعل لمقارنة حدثه للزمان كما ستعرفه عن قريب. قوله: (وثباته له ثرن تجتده وحدوثه (وفي نسخة دون التجذد والحدوث والثبات اسم مصدر من ثبت الشيء يثبت ثبوتاً إذا دام واستغرق كما في المصباح، ولما كان الرفع دالاً على الثبوت المجرّد عن قيد التجذد والحدوث قصد به ما ذكر بمعونة المقام كما مرّ بخلاف النصب لتقدير الفعل الدال على التجدد والحدوث وضعاً معه، وقولهم المضارع يفيد الإستمرار المراد به الإستمرار التجددي في المستقبل لا في جميع الأزمنة، فلا ينافيه وكون الخبر الظرف تصير به الإسمية كالفعلية في التجدّد مرّ بياكه مع أنه قيل إنه لا تقدير فيه، وما ذكره النحاة لأمر صناعي اقتضاه وقولهم الظرفية اختصار الفعلية كذلك، وعطف الحدوث تفسيرى إشارة إلى أنّ التجدّد بمعنى الحدوث لا التقضي شيأ فشيأ، فإن الفعل لا يفيده إلا من قرينة خارجية واستعماله في الأمور الثابتة، كعلم الله قيل إنه مجازيّ ولا شعار النصب بالتجدد اختار سيبويه النصب في إذا له صوت صوت حمار، لأنّ الصوت عرض غير قارّ والرفع في فإذا له علم علم الفقهاء.
واعلم أن الشيخ قال في دلائل الإعجاز أنه لا دلالة لقولنا زيد منطلق على أكثر من ثبوت الإنطلاق لزيد وهو مناف لما ذكر هنا، وقد وفق بينهما بأنّ الجملة الاسمية بمجرّدها لا تدل على الدوام والثبوت بل مع انضمام العدول وغيره تفيدهما، وهذا هو المفهوم من كلامه قدس سره في شرح المفتاح، والظاهر عندي أنّ كلام الكشاف والمفتاح على خلاف كلام الشيخ، فإنهما قالا إنّ المنافقين أخبروا عن إيمانهم بالجملة الفعلية الدالة على الحدوث لرواج الحدوث دون الثبات منهم، وعن كفرهم بالإسمية المفيدة للثبوت، فإنّ دوام ذلك راسخ فيهم، وفي المفتاح في الحالة المقتضية لذكر المسند أنه قد يذكر لتعين كونه ظرفا، فيحتمل الثبوت والتجدد بحسب التقديرين، فالظاهر أنهما جعلا الأصل في الإسمية الثبوت لأنهما اعتبرا ذلك فائدتها على وجه الإطلاق بلا تقييد، فالاسمية الجامدة الخبر مفيدة للثبوت والظرفية(1/81)
الخبر محتملة عندهما وقد صرحوا به في مواضع كثيرة.
(أقول) قد ذكر الفاضل الحفيد هذا في أكثر تأليفه اعتناء به وحاول بعضهم الجواب عنه
وكله ناشىء من عدم تدبر كلام الشيخ رحمه الله، فإنه قال في بحث الحال من الدلائل فرق لطيف تصمق الحاجة في علم البلاغة، إليه بيانه أق موضوع الإسم على أن يثبت به المعنى للشيء من غير أن يقتضي تجدد شيأ فشيأ، وأمّا الفعل فموضوعه على أن يقتضي تجدد المعنى المثبت به شيأ بعد شيء، فإذا قلت زيد منطلق فقد أثبت الانطلاق فعلاَ له من غير أن تجعله يتجدّد، ويحدث منه شيأ فشيأ، بل يكون المعنى فيه كالمعنى في قولك زيد طويل وعمرو قصير فكما لا تقصد ههنا إلى أن تجعل الطول والقصر يتجددان ويحدثان، بل توجبهما وتثبتهما
فقط، وتقضي بوجودهما على الإطلاق كذلك لا تتعرّض في قولك زيد منطلق لأكثر من إثباته لزيد، وأما الفعل فإنك تقصد فيه إلى ذلك، فإذا قلت زيد ينطلق فقد زعمت أنّ الإنطلاق يقع منه جزأ فجزأ وجعلته يزاوله ويوجبه انتهى.
فمعنى قوله لا دلالة له على أكثر من ثبوت الانطلاق أراد به أنه يدل على الثبوت دون التجدد، وإذا كان ذلك بالفحوى صح اعتباره تارة وعدم اعتباره أخرى كما حققه قدّس سرّه. ومن هنا ظهرت فائدة هي إنّ حذف المعمول كما يدل على العموم يدل عليه أيضاً حذف العامل، فليست على ذكر منك.
(وههنا بحث) وهو أنّ أهل المعاني قاطبة قالوا: إنّ الاسم يدل على الثبوت مطلقا وهو مخالف لقول النحاة إنّ الصفة المشبهة تدل على ثبات معناها، واستمراره بغير تجدد بخلاف اسم الفاعل، فإنه دال على ذلك، فإذا أريد الثبوت قيل صدره ضيق، واذا لم يرد قيل ضائق ولذا قال تعالى: {ضَآئِقٌ بِهِ صَدْرُكَ} [هود 2 ا] وخالفهم فيه الرضى فقال الذي أرى أن الصفة المشبهة كما أنها ليست موضوعة للحدوث ليسست موضوعة للاستمرار في جميع الأزمنة ما لم تقم قرينة على خلافه، فانظر التوفيق بينهما، وما مرّ من معنى التجدد هو الظاهر لكن ما نقلناه عن الشيخ في الدلائل يخالفه فتدئر، وهذا البحث ذكره بعض النحاة ولم يجب عنه، ثم رأيت في بعض كتب المعاني التعرّض له والجواب عنه بأنّ دلالة اسم الفاعل على الحدوث بالعرض دون جوهر اللفظ، وانما جاز ذلك في اسم الفاعل دون الصفة المشئهة لأنه على عدد حروف المضارع وزنته في حركاته وسكناته، بخلاف الصفة المشبهة، فلا تدل وضعا إلآ على الثبوت المجردّ أو عليه مع الدوام بمعونة المقام، وفيه أنّ الصفة المشبهة تكون موازنة لاسم الفاعل كثيرا، فلا يتم ما ذكر من الفرق ولعل الجواب ما أشير إليه في قولهم أنّ اسم الفاعل حقيقة في الحال من أنه باعتبار العمل فتدبز قوله: (وهو من المصادر إلخ) في الكشاف أنه من المصادر التي تنصبها العرب بأفعال مضمرة في معنى الأخبار كقولهم شكراً وكفرا وعجبا وما أشبه ذلك، ومنها سبحانك ومعاذ الله ينزلونها منزلة أفعالها، ويسدون بها مسدّها ولذلك لا يستعملونها معها ويجعلون استعمالها معها كالشريعة المنسوخة انتهى وفي التسهيل هذا في ذكر المصدر الذي يحذف عامله وجوبا لكونه بدلاً من لفظ الفعل وفي خبر بحسب الصيغة إنشاء بحسب المعنى وفي شرحه للدمامينيّ تمثيلاَ للثاني نحو حمداً وشكراً صرّح به الشلويين، وأورد عليه سؤالاً وهو أنه يجوز أن يقول حمدت الله حمداً أو أحمده حمدا فكيف يقال أنّ هذا لا يظهر فعله وأجاب بأنه مع التلقظ بالفعل يكون خبراً لا إنشاء، واذا كان إنشاء كان المصدر والفعل متعافيئ يريد أنهما لا يجتمعان ولكن إن أتيت بالمصدر تركت الفعل وجوبا وان أتيت بالفعل لم يجز أن تذكر المصدر انتهى، وقال الرضى: يجب حذف الفعل قياساً، والمراد بالقياس أن يكون هناك ضابط كليّ يحذف الفعل حيث حصل ذلك الضابط والضابط ههنا ما
ذكرنا من ذكر الفاعل أو المفعول بعد المصدر مضافا إليه أو بحرف الجرّ لا لبيان النوع انتهى، وفصله بتفصيل يطول، وحاصله أنّ من المصادر ما يجب حذف عامله مطلقاً، ومنها ما يجب حذف عامله إذا بين فاعله أو مفعوله بحرف جرّ نحو سقيا لك، أو لإضافة نحو صبغة الله ووعد الله لأنّ حق الفاعل والمفعول أن يتصلا بالفعل، فلما حذف لداع بين المصدر المبهم لإضافة أو بحرف جز، فلو ظهر الفعل ورجع الفاعل والمفعول لمركزهما انتقض الغرض المذكور، فوزانه وزان أن امرؤ هلك، واذا أصخت لما تلونا عرفت أنّ كلامهم في حذف فعل هذا المصدر مختلف مضطرب، وظاهر كلام بعض أنه ليس(1/82)
بواجب الحذف مطلقاً وظاهر كلام آخرين أنه واجب مطلقا، وذهب ابن مالك والشلويين إلى أنه يجب في الإنشاء دون الخبر وفي كلام الكشاف ميل له، ولذا قال المدقق في الكشف في قوله في معنى الإخبار لا الإنشاء، ولذا فضل عنه سبحان الله ونحوه لأنه في معنى الإنشاء، وقيل: لأنه غير متصرّف انتهى وذهب الرضى تبعاً لغيره أنه يجب إذا بين فاعله أو مفعوله باللام أو بالإضافة، ويفهم منه أنه يذكر في غير ذلك من غير تعرّض لقلّته أو كثرته، لأنه إنما يوقف عليه بالاستقراء والتامّ منه متعذر والناقص لا يفيد فقول المصنف رحمه الله (لا تكاد إلخ أليس بكلام منقح وعدوله عما في الكشاف وهو كلام مهذب لا يخلو من الخلل، ولذا قال بعض علماء العصر في حواشيه إنّ ما ذكره المصتف إنما يتحقق فيما يستعمل باللام نحو عفوآلك على ما صرّح به في العربية بخلاف نحو سقاك الله سقيا لكن قوله أنه مراد المصتف رحمه الله وترك للعلم به، ولأن ما نحن فيه كذلك غير صحيح، ومن قال بعدما ذكر كلام الرضى يحتمل أن يكون المصئف رحمه الله يشير بهذه العبارة إلى قلة استعمالها بدون معمول فعلها، ويحتمل أن يكون الضمير راجعاً إلى الحمد المخصوص المذكور مع معمول العامل فلا تكاد إلخ إشارة إلى عدم استعماله مع العامل انتهى كلام مغ اختلاله لا معنى له أصلاً، وكذا ما في بعض الحواشي من أنه دل بتغيير الأسلوب على أنّ الجفلة إنشاء لا إخبار على ما شاع في أصله، ونبه بقوله لا تكاد إلخ على ضعف قول من قال: لا يجب حذف عامل الحمد لثبوت حمدت حمدا انتهى. وقوله: (لا تكاد تستعمل إلخ) أي المصادر مع الأفعال أو الأفعال مع المصادر قوله: (والتعريف فيه للجنس إلخ) ذهب المحققون كالشريف وغيره إلى أنّ التعريف يقصد به معين عند السامع من حيث هو معين، فهو إشارة إلى تعيين معنى اللفظ وحضوره في الذهن، فإذا دخلت اللام على اسم الجنس فإمّا أن يشار بها إلى حصة معينة فرداً كان أو أفراداً، وتسمى لام العهد الخارجي، وامّا أن يشار بها إلى الجنس نفسه وحينئذ فإمّا أن يقصد الجنس من حيث هو كما في التعريفات، فاللام حينئذ تسمى لام الحقيقة والطبيعة، وقد تسمى لام الجنس ونظيره العلم الجنسي،، وامّا أن يقصد الجنس من حيث هو موجود في ضمن جميع الأفراد وتسمى لام الإستغراق أو في ضمن بعض الأفراد الغير المعينة، وتسمى لام العهد الذهني، ولى جعل العهد الخارجي قسيما للجنسي والذهني
والاستغراق قسماً منه، وكان في وجهه خفاء جعله بعضهم تحكما وخلاف التحقيق، وذهب إلى أنّ التحقيق أنّ اللام موضوعة للإشارة إلى الماهية بشرط شيء ويتشعب منها أربع شعب، لأنه إن اكتفى بأصل الموضوع له، ولم يقصد معنى زائد تسمى لام الحقيقة، وان قصد به الماهية في ضمن فرد وبشرط شيء فإنّ عين ذلك الفرد لسبق ذكر أو علم أو غير ذلك تسمى لام العهد الخارجي، وإن لم تقم قرينة معينة لذلك البعض، وكانت قائمة على إرادة بعض مّا كأدخل السوق، فإنّ الدخول قرينة له، فهو العهد الذهني، وهو كالنكرة في الإثبات، وأن وجدت قرينة العموم فهي لام الاستغراق والقصد إلى الماهية من حيث هي لم يعتبر لأنه لا يقع في المحاورات، فجميع أقسام اللام ترجع إلى الجنس والإستغراق والفرد المعين، وما عداها أمور زائدة على الموضوع له، ولا يلزم أن يكون اللفظ فيها مجازا لأنها إنما تستفاد من القرائن واللفظ مستعمل في الموضوع له، فقولهم قصد به البعض يعنونه بمعونة المقام وما ينضمّ إليه، وفي المطوّل احتمال ثالث وهو جعل الأقسام أربعة وهي أصول متقابلة وقدم الجنس ترجيحا له بتبالره إلى الفهم بخلاف الفرد المعين وجميع الأفراد، والإشارة بمعنى الإشارة الذهنية التي هي كناية عن حضوره في الذهن، وهو معنى التعريف ثم إنّ المصتف رحمه الله أختار تبعا للزمخشري أنّ التعريف هنا للجنس والمراد به الحقيقة، وانما ترجح لأنّ مدخول اللام حمد وهو اسم جنس واللام لتعيينه، ولذا قيل إن الاستغراق إنما يستفاد بمعونة المقام، وثبوت جميع المحامد له تعالى على هذا التقدير ثابت بالطريق البرهاني، إذ لو خرج فرد منه خرجت الحقيقة في ضمنه أيضا، فيلزم عدم اختصاص الحقيقة وهدّا مبني على أنّ الاختصاص المستفاد من اللام بمعنى الحصر، وسيأتي ما فيه قوله: (ومعناه الإشارة إلى ما يعرفه كل أحد) أي معنى تعريف جنس الحمد وقد بيئا لك المراد بالإشارة هنا(1/83)
ومعنى التعريف كما اختاره بعض المحققين الإشارة إلى أنّ مدلول اللفظ معلوم حاضر في ذهن السامع، فمعنى التعريف هنا الإشارة إلى معلومية مفهوم الحمد لا الإشارة إلى ما يعرفه كل أحد من أنّ الحمد ما هو ففي العبارة تسامح، وكأنه على حذف مضاف أي معلومية ما يعرفه كل أحد، وبيانه بأنّ الحمد ما هو تسامح والمراد جواب هذا السؤال وما يقع جوابا لماهية الحمد، ولما كانت اللام في الأصل للإشارة، وكان المخاطب في هذا المقام عاما كانت إشارة إلى ما يعرفه كل أحد أي كل أحد عالم بالوضع، فتعريفه كتعريف الخطاب العام قوله: (أو للإستنراق) وفي نسخة وقيل للا ستغراق.
وفي الكشاف هو نحو التعريف في أرسلها العراك، وهو ته ريف الجنس ومعناه الإشارة
إلى ما يعرفه كل أحد من أنّ الحمد ما هو، والعراك ما هو من بين أجناس الأفعال، والاستغراق الذي يتوهمه كثير من الناس وهم منهم انتهى. وفي كتاب سيبويه في باب ما جاء من المصدر بالألف واللام وذلك قولك أرسلها العراك قال لبيد:
فأرسلها العراك ولم يذدها ولم يشفق على بعض الدخال
كأنه قال اعتراكا. وليس كل المصادر في هذا الباب تدخله الألف واللام، كما أنه ليس
كل مصدر في باب الحمد دلّه والعجب لك تدخله الألف واللام، وانما شبه هذا بهذا حيث كان مصدراً، وكان غير الأوّل انتهى. وفي شرج السيرافي العراك المزاحمة، وقد جعل العراك في موضع الحال وهو معرفة، وذلك شاذ وإنما يجوز هذا لأنه مصدر ولو كان اسم فاعل ما جاز إذ لم تقل العرب مثل أرسلها المعارك، وانما وضعوا بعض المصادر المعارف في موضع الحال، فمنها مصادر بالألف واللام، ومنها مصادر مضافة إلى معارف نحو فعلته جهدي وطاقتي أي مجتهداً انتهى.
فإذا قرّطت سمعك بما تلوناه علصت معزاه ومرمى سهام الأنظار فيه من أنّ المصدر المعرف يقع حالاً ومفعولاً مطلقاً غير نوقي، وهو حيمئذ في المعنى نكرة لأنها الأصل فيه وما عرف منه على خلاف القياس مقصور على السماع، والنكرة لا دلالة لها على غير الجنس ولا يصح فيها الاستغراق في الإثبات، فأحمد الحمد بمعنى أحمد حمداً، وكذا ما عدل عته، وانما يفهم ذلك منه بقرينة السياق، ولذا قيل إنّ الاستغراق ليس من التعريف في شيء، وكفاك شاهداً استغراق لا رجل، وتمرة خير من جرادة، فلا بد معه من تعيين ذهنيّ أو خارجيّ، وهو مسمى التعريف ولذا حصر في المفصل معنى اللام في التعريف والتعريف في العهد والجنس، وقد صرّح به صاحب اللباب في إعراب الفاتحة، وهو معنى ما نقل عن المصثف رحمه الله في حواشيه من أنّ اللام لا تفيد سوى التعريف، والإشارة إلى حضوره، والاسم لا يدل إلآ على مسماه، وقد وقع في الشروح هنا كلمات كلها مجروحة مرجوحة، كما قيل إنّ الوهم في كون الاستغراق معنى تعريف الجنس لا كونه مستفاداً من المعرّف باللام بمعونة المقام، فقوله بتوهمه أي بوهم أنه معنى تعريف الجنس بدليل قوله ما معنى التعريف، وقيل: إنه مبنيّ على مسئلة خلق الأعمال فإن أفعال العباد لما كانت مخلوقة لهم عند المعتزلة، كانت المحامد عليها راجعة إليهم، فلا يصح تخصيص المحامد كلها به تعالى، وفساده ظاهر لأنّ اختصاص الجنس به يستلزم اختصاص أفراد. أيضا إذ لو وجد فرد منه لغيره ثبت الجنس له في ضمنه وصح هذا عندهم، لأنّ الأفعال الحسنة التي يستحق بها الحمد عندهم إنما هي بتمكين الله واقداره عليها، فبهذا الاعتبار رجع الحمد كله إليه، وأمّا حمد غيره فاعتداد بأنّ النعمة جرت على يده، وقد قيل إنه جعل الجنس في المقام الخطابيّ منصرفا إلى الكامل كأنه كل الحقيقة كما في ذلك الكتاب، ومنه ظهر أنّ في الحمل على الجنس محافظة على مذهبه، ويردّ بأنه يجوز في الاستغراق أيضاً بأن يجعل ما عدا محامده منزلاً منزلة العدم بالقياس إلى محامده فلا فرق بين اختصحاص الجنس والاستغراق في أنهما ظاهرا منافيان مذهب الاعتزال، وتدفع المنافاة بالتأويل نعم فرق بين مذهب أهل الحق والمعتزلة بأنّ كل فعل جميل سواء كان من الله تعالى محضا أو
بكسب العبد يصلح أن يحمد الله عليه بالحقيقة باعتبار خلقه له على المذهب الحق لا على مذهب المعتزلة، وأيضاً المحامد الراجعة إلى العباد لما كانت أنفسها بخلقه تعالى على المذصب الحق كان القول بكون جميع المحامد مختصة به تعالى أقرب، وأظهر منه على مذهب المعتزلة، وقيل مبناه على(1/84)
أنّ المصادر نائبة مناب الأفعال سادّة مسدها والأفعال لا تعد ودلالتها عن الحقيقة إلى الاستغراق وردّ بأنّ ذلك لا ينافي قصد الاستغراق بمعونة قرائن الأحوال، وقيل إنما اختاره بناء على أنّ الجنس هو المتبادر إلى الفهم الشائع في الاستعمال لا سيما في المصادر، وعند خفاء القرائن وردّ بأنّ المحلي بلام الجنس في المقامات الخطابية يتبادر منه الاستغراق، وهو الشائع في الاستعمال هناك مصدرا كان أو غيره وأي مقام أولى بملاحظة الشمول والاستغراق من مقام تخصيص الحمد به سبحانه تعظيما، فقرينة الاستغراق كنار على علم، والحق أنّ سبب الاختيار هو أنّ اختصاص الجنس مستفاد من جوهر الكلام، ومستلزم لاختصاص جميع الأفراد فلا حاجة في تأدية المقصود الذي هو ثبوت الحمد له تعالى، وانتفاؤه عن غيره إلى أن يلاحظ الشمول والإحاطة، ويستعان فيه بالأمور الخارجية بل نقول على ما اختاره يكون اختصاص جميع الأفراد ثابت بطريق برهاني، فيكون أقوى من إثباته ابتداء انتهى. وفيه أنّ ملخص ما ذكره من أنّ اختصاص الجنس يستفاد من جوهر الكلام من غير حاجة إلى الإستعانة فيه بأمور خارجية أنّ الجنس هو المتبادر إلى الفهم لأنه لا معنى للتبادر إلاً التسارع، واذا كان فهمه من جوهره قبل ملاحظة أعرا منه فلا شبهة في سرعته إلى الفهم قبل كل شيء، وقد ردّه آنفا واذا كان اختصاص جميع الأفراد بطريق برهاني، فلا شبهة في خفائه، فكيف يقال إنه كنار على علم.
ونوله أي مقام أولى إلخ فيه بحث ظاهر مع أنّ الاختصاص المدعى مبنيّ على أنّ مدلول
اللام الاختصاص بمعنى القصر وهو غير ثابت، وكلامهم فيما يفيد الاختصاص هنا مضطرب، كما فصله بعض الفضلاء ولولا خوف السآمة أوردناه برمته، ولما رأى المصتف رحمه الله أنّ كل ما ذكر من الوجوه مقتض لمرجوحية الاستغراق دون كونه، وهما عدل عن عبارته في الكشاف ومبناه على أنّ معاني اللام كل منها أصل برأسه كما مرّ، فاندفع عنه ما قيل إنه إن أراد المصتف رحمه الله أنّ التعريف للاستغراق في مقابلة كونه للجنس، فهو ظاهر البطلان إذ اللام لتعريف مدخولها قطعاً، وليس مدلول لام الجنس الاستغراق، وان أراد أنّ الحمد محمول على الاستغراق بمعونة المقام، فصحيح إلاً أنه لا يقابل قوله والتعريف للجنس، إلاً أن يحمل على أنّ التعريف للجنس بلا انضمام استغراق معه قوله: (إذ الحمد في الحقيقة كله له) المصنفون يستعملون قولهم في الحقيقة كما بينه شراح الهداية فيما إذا دل أمر بحسب ظاهره على شيء، فإذا دقق النظر فيه علم أنه يؤل إلى شيء آخر هو المراد منه، فليس المراد بها مقابل المجاز كما قد يتوهم قيل ويرد على ما قاله المصتف أنّ حمد العبد بصفته الجميلة على الجميل الاختياري
القائم به ليس حمد الله تعالى لامتناع وصفه بصفات العباد وان خلقها، والمتبادر من كون الحمد لله أنه المستحق له وأنه محمود له إلاً أن يراد بالحمد المحمدة، فإنّ كل محمدة له تعالى إما لكونها صفة له أو صادرة منه أو يراد بكون الحمد له أعم من كونه متعلقا به تعقق الفعل بالمفعول به، أو مستند إليه باعتبار استناد المحمود به أو المحمود عليه إليه خلقاً، أو يقال لما كان كل جميل إمّا له أو منه فاذا حمد العبد على فعل الجميل، فكأنه حمد الله على خلقه فيه ووصفه بما يليق بشأنه ويأباه قوله في الحقيقة وقد ذكر في سبأ ما يدلّ على أنّ بعض أفراد الحمد يستحقه العبد حيث قال ثمة إنّ تقديم الصلة للاختصاص، فإنّ النعم الدنيوية قد يتوسط فيها من يستحق الحمد لأجلها بخلاف نعم الآخرة انتهى. وقد اعترض عليه بأنّ ظاهره أنّ شيئاً من حمد العبد لا يحمد به الله تعالى، ولا يخفى أنّ المحمود به وعليه إذا كان وصفاً بيته وبين عباده، كالعلم والجود يصح أن يقال إنه المستحق له إذا جرّد عن إضات، للعبد إلاً أن يكون ذلك مما تنره عنه سبحانه اللهتم إلاً أن يقال هذا على رأي من يقول لا اشتراك بين الله وغيره في شيء من الصفات إلأ بحسب اللفظ، فالوجه أن يقال أنه لم يرد بكون الحمد كله لله جعله محمودا بعين تلك المحامد موصوفا بئلمك الأوصاف نفسها، ويدل عليه قوله: (ما من خير إلخ) إذ الإيلاء لا يقتضي الاتصاف بل يريد أنّ كل حمد لسواه مستلزم لحمد الله وهو أنه مولى لتلك النعمة وموصلها فهو حامد بلسان الحال، والأوّل كالمعدوم في جنب الثاني بمنزلة الواسطة إلى المقصود ففي الحقيقة لا وجود(1/85)
لمحامد الغير، وانما الموجود في كل حمد حمده، وأيضا حمل الحمد على المحمدة، قيل إنه لا يفيد لأنّ الكلام في الحمد بمعناه الحقيقيّ لا بمعنى المحمدة، والأولى أن يقال الحصر بناء على عدم الاعتداد بحمد العبد باعتبار كسبه، وأيضاً قوله ويأباه قوله في الحقيقة ليس بمسلم على ما مرّ من معناه.
(أقول) ما ذكره المصتف هنا برمّته مأخوذ من الإمام وقد قدم طرفا منه في تفسير لفظ الرحمن زحاصله أنّ كل ما هو في الوجود موجود مما هو ممدوح ومحمود صفات وأفعالاً بخلقه تعالى ابتداء أو بوسط كلا وسط، إذ هو خالق لفاعله وممكن له من فعله وموجد لدواعيه، وهذا لا ينكره أحد من العقلاء فإنّ إنكاره تعطيل فحينئذ إذا حصر الحمد فيه، وقيل إنه لا يحمد سواه نظراً لهذا أي ضير فيه، وهذا مما يجري في المقام الخطابي ادّعاء ومبالغة لا سيما إذا انسلخت الأخبار من الخبرية إلى الإنثاء، فإن أراد هؤلاء أنه لا يتأتى باعتبار اللغة، وعرف التخاعب حقيقة فقد وقع في كلامهم مرّة بعد أخرى ما يدفعه، فتذكره ولا تكن من الغافلين، وأمّا كون ما ذكره في سورة سبأ مما ينافيه مع أنه صريح فيه فغنيئ عن الجواب. وقوله: " ذ الحمد إلخ) تعليل للاستغراق، وأفرده بالتعليل لأنّ الجنس معنى ظاهر أصليّ وما جاء على الأصل مستغن عن بيان وجهه وعلته كما قيل ويحتمل أنه تعليل لهما أي لم يجعل لفرد معين لما ذكر، والأوّل هو الظاهر، والمولى بضم الميم وكسر اللام كالمعطى زنة ومعنى،
فالوسايط بمنزلة الشروط والآلات ولا مؤثر سواه، وهو مذهب المشايخ والحكماء أيضاً كما في الإشارات قوله: كما قال تعالى {وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ} [النحل 53] ) ذكر. مؤيد الكون كل خير منه إذ لا فرق بين الخيرات المتعدية والقاصرة أو أنعم هنا بمعنى أعطاه الله وأوجده مطلقا وفي هذه الآية إشكال سيأني في كلام المصثف دفعه قال ابن الحاجب في إيضاح المفصل: الشرط وما شبه به الأوّل فيه شرط للثاني نحو أسلم تدخل الجنة وهنا على العكس، وهو أنّ الأوّل استقرار النعمة بالمخاطبين، والثاني كونها من الله عز وجل، ولا يستقيم أن يكون الأوّل فيه سببا للثاني لكونه فرعا عته، وتأويله أنّ الآية جيء بها لإخبار قوم استقرّت بهيم نعم جهلوا معطيها وشكوا فيه فاستقرارها مشكوكة أو مجهولة سبب للإخبار بكونها من الله عز وجل، وجواب الشرط جملة قصد تبيين مضمونها، أو الإعلام بها فيصير الشرط سبباً للمشروط ومن ثمة وهم من قال إنّ الشرط قد يكون مسببا انتهى قيل: ويمكن أن يقال وجود النعمة بهم سبب لكونها من عند الله إذ كونها من عند الله متوقف على أصل الكون، وقد ذكر الرضى أنّ الشرط يدلّ على لزوم الجزاء للشرط ولا يخفى ما فيه من التعسف، وما نقله عن الرضى هو ما قال ابن الحاجب إنه وهم وسيأتي فيه كلام في محله قوله: (وقيه إشعار إلخ) أي في قوله الحمد لله، أو في إثبات الحمد له، وهو من اعتبار الاختيار فيه، ولذا قيل إنّ فيه إشارة إلى إيثار الحمد على المدح أيضا لا في اختصاص جميع المحامد به تعالى كما توهم لما فيه من التكلف، وقيل بل فيه إشعار بثبوت جميع الكمالات له تعالى، إذ يفهم منه اختصاص جميع أفراد الحمد، وكل كمال يصلح لأن يقع في مقابلة حمد، فالمستحق لجميع المحامد متصف بجميع الكمالات، والإشعار الذي ذكره بناء على أنّ المحمود لا بذ له من أن يكون مختاراً، والمختار يتصف بتلك الصفات، وقدرته تعالى عند أهل الحق كونه بحيث يصح منه صدور الفعل وعدم صدوره بالقصد، والقدرة في الحيوان مصححة للفعل وعدمه، وارادته تعالى صفة مخصصمة لأحد المقدورين، وقيل هي في الحيوان شوق يؤدّي إلى حصول المراد، وقيل إنها مغايرة للشوق إذ هي ميل اختياريّ، والشوق ميل طبيعي، وإرادة الله عند الحكماء علمه بنظام الكل على الوجه الأكمل، فإنّ العلم عندهم من حيث أنه كاف، ومرجح لطرف وجوده على عدمه إرادة، والحياة في الحيوان صفة تقتضي الحس والإرادة، وحياة الله عند المتكلمين صفة مصححة للقدرة والإرادة وتال الحكماء الحيّ الدرّاك الفقال وفي إشعار الحمد باتصافه بالحياة والعلم والقدرة، والإرادة على مذهب المتكلمين نظر إلاً أن يقال الحمد مشعر بأصل الإتصاف، وكيفيته معلومة من خارح، والحق أنه يفهم من اتصاف إنسان ما بالاختيار اتصافه بهذه الصفات، فمن يعتقد اتصافه بالاختيار أيضا يعتقد تلك الصفات في حقه لكن مع سلب النقائص الناشئة عن انتسابها إلى الإنسان، واليه أشار(1/86)
بقوله إذ الحمد إلخ قوله: (وقرىء إلخ)
الأولى قراءة الحسن البصري والثانية قراءة إبراهيم بن أبي عبلة وقوله: (تنزيلاَ إلخ) إشارة إلى قول الزمخشري الذي جسرهم على ذلك والاتباع إنما يكون في كلمة واحدة كقولهم منحدر الجبل ومغيرة تنزل الكلمتين منزلة كلمة لكثرة استعمالهما مقترنتين، وأشف القراءتين أي أفضلهما قراءة إبراهيم حيث جعل الحركة البنائية تابعة للإعرابية التي هي أقوى، وعدل عنه المصنف رحمه الله لما فيه من الإشارة إلى أنّ القراءة تكون بالرأي، وسيأتي ردّه مع أنّ ما ذكره قد ردّ بأنّ الأكثر في اللغة جعل الثاني متبوعا وكون غير اللازمة تابعة أولى، وكون الحركة الإعرابية أقوى غير مسلم والإتباع يتعدّى إلى مفعول واحد وإلى اثنين واختلفوا في أنّ ما كان فاعلاَ له قبل الهمزة هل يصير مفعولاً أوّلاً أو ثانياً فيحتمل كون الدال تابعاً وعكسه فتدبر (بقي هنا شيء شريف) وهو أنّ الماتريدي في التأويلات جعل هذا حمداً من الله لنفسه قال: وانما حمد نفسه ليعلم الخلق فإن قيل كيف يجوز ومثله في الخلق غير محمود.
قيل إنه لوجهين:
أحدهما أنه استحق بذاته لا بأحد فيكون في ذلك تعريف الخلق لما يزلفهم لديه بما أثنى
على نفسه ليثنوا عليه وغير. إنما يكون ذلك لرئه عز وجل، فعليه توجيه الحمد إليه لا إلى نفسه إذ نفسه لا تستوجبه بها بل بالله تعالى.
والثاني أنه تعالى حقيق بذلك إذ لا عيب يمسه ولا آفة تحل به، فيدخل نقصاناً في ذلك،
ولا هو خاص بشيء والعبد لا يخلو عن عيوب تمسه، وآفات تحل به ويمدح بالايتمار ويذم بتركه وفي ذلك تمكن النقصان انتهى. يعني أنه لا يقاس على غيره فإنه تعالى متصف بالمحامد من ذاته فله أن يحمد ذاته بذاته، وأيضاً مدح النفس نهي عنه لما فيه من النقص والغرور والافتخار على الغير المؤذي لانكساره وهو منزه عنه، ولهذا لا يذمّ إذا سلم من ذلك كأن يكون تحدثا بالنعمة أو سبباً للاقتداء به، والحث على مثله مثلاً، فعلى الأوّل لا يسمى مادح نفسه حامداً، وعلى الثاني يصح والزمخشريّ لم يجعله حمداً لنفسه فقال: والمعنى تحمد الله حمداً، ولذلك قيل: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} لأنه بيان لحمدهم له كأنه قيل كيف تحمدون فقيل: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} إلخ وقد قيل عليه إنه تعكيس، لأنّ جعل صدر الكلام متبوعا أولى من العكس والمحققون على تعميم الحمد، وانما ترك العاطف في قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} لأنّ الكلام الأوّل جار على مدح الغائب لاستحقاقه كل حمد، والثاني حكاية عن نفس الحامد من بيان أحواله بين يدي ذلك الغائب، فترك العاطف للفرق بين الحالتين لا للبيان وبدلّ عليه أنّ الالتفات إنما يكون في سياق واحد لمعلوم واحد وكأنه حين قرّر الالتفات نسي هذا.
وما بالعهد من قدم.
وفي هذا كلام طويل تركناه خوف السآمة، وكأنّ المصتف لم يتعرّض لهذا رأساً لما رأى
فيه من الاضطراب والخفاء، ولعل التوبة تفضي إلى بيانه أتم بيان إن شاء الله تعالى قوله: (الرث في الأصل إلخ) المراد بالأصل حالة وضعه الأوّل، فهو فيه مصدر أطلق على الفاعل مبالغة كما يقال: عدل بمعنى عادل بدون تأويل، ولا تقدير مضاف لأنه يفوتها، فالرب والتربية مترادفان، وربه يربه ورباه تربية بمعنى والتربية من ربى الصغير بالتخفيف كعلا يعلو إذا نشأ فعدى بالتضعيف، وقيل أصل رباه رببه فجعلت إحدى البا آت ياء والرت كما يكون بمعنى المربى يكون بمعنى المالك وقد فسر بهما، وعلى الأوّل قوله: {مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ} معنى جديد، وعلى الثاني تخصيص بعد تعميم قيل، وكلامه في الكشاف يميل إلى اختيار الثاني قوله: (وهي تبليغ الشيء إلى كماله إلخ) المراد بكماله ما يتمّ به الشيء في صفاته، ويطلق على الخروج من القوّة إلى الفعل والفرق بينه وبين المقام أنّ الثاني يشعر بالانقطاع كما قال:
إذا تم أمر بدا نقصه تيقن زوالاً إذا قيل تم
وقوله تعالى: {مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاء رَكَّبَكَ} [الانفطار 6] تفصيل لما دلّ عليه الرث فلا يقال إجراء هذه الصفات على الرت يقتضي عدم تضمنه لمعناها كما توهم وقوله: (شيئا فشيئاً) منصوب على الحال لأنّ المراد منه متدرجاً أو مترتباً وفيه إشارة إلى أنّ التفعيل يدلّ على التدريج كما صرّج به الزمخشري في قوله تعالى: {يَتَسَاءلُونَ} [النور 3 آ] فقال أي قليلاً قليلاً، ونظيره تدرج وتدخل، وفي المثل درّج(1/87)
الأيام تندرج، وعلى هذا فإضافته معنوية وجعله بمعنى الصفة المشبهة أو اسم الفاعل غير مرضيّ، كما حقق في شرج التلخيص، وقوله ثم وصف به للمبالغة بصميغة المجهول المسند للجار والمجرور أو هو مسند لضمير الله وهو بمعنى المالك مأخوذ من هذا، أو منقول منه كما سيأتي بيانه قوله: (وقيل هو نعت إلخ) المراد بالنعت الصفة المشتقة التي من شأنها أن ينعت بها، وهو صالح للصفة المشبهة وغيرها، وشراح الكشاف قالوا المراد أنه صفة مشبهة.
وفي شرح التسهيل كونه صفة مشبهة ممنوع، والظاهر أنه من مبالغة اسم الفاعل، أو هو
اسم فاعل وأصله رإت فخفف، وكلام ابن مالك في التصريف يشهد له، ويؤيده قوله: {رَبِّ الْعَالَمِينَ} فإنه متعد مضاف إلى المفعول والصفة المشبهة تضاف لل نماعل، وقال قدس سرّه: لما كان مجيء الصفة على فعل من باب فعل يفعل بفتح الماضي وضتم المضارع عزيزاً استشهد له، فقال: نمّ ينئم بالضم والكسر فهو نمّ، ولا بد فيه من النقل أيضا، وفي ترك المفعول إشارة إليه وفي التمثيل به أيضا غاية المناسبة للممثل له حيث وصف بالمصدر، وهو النم كالرث، وفي نظر لا يخفى، فإنه يجوز أن لا يكون نمّ من مضموم العين بل من مكسورها، وكلام القاموس على أنه يجيء من كل منهما، ونمّ متعذ بنفسه للحديث، ويعلي واللام للمنقول عنه كما في من نمّ لك نمّ عليك، والنميمة نقل الكلام على وجه الإفساد وقوله مجيء الصفة على فعل إن كان على أنه محرّك العين فغير صحيح، وان كان بسكونها فغير مسلم.
قال ابن الصائغ في حواشيه على الكشاف: ومن خطه نقلت لم يتعرّضوا لوزنه، وينبغي
أن يكون فعلاَ بكسر العين، فأدغم لا فعلاً لأنه جمع على أرباب، وأفعال لا يقاس فيه فتدبر قوله: (ثم سمي به المالك إلخ) أي نقل له بعدما كان مصدراً بمعنى التربية، أو نعتاً بمعنى المربي ولما كان تبليغ الشيء لكماله من شأن المالك سمي به وأيضاً هو لا يسمى بدون حفظه، فلذا أطلق على الحافظ، وهذه المناسبة لا تنافي كونه حقيقة إذ هي تراعى في المنقولات وغيرها من الموضوعات، فمن قال إنه ردّ على الواحديّ حيث قال: الرب في اللغة له معنيان التربية والمالك لم يات بشيء مع أنّ كلام الواحدي لا يقتضيه أيضاً، وفي بعض التفاسير أنه يطلق على المالك والشهيد والمربي والمدبر والمنعم والمصلح والمعبود، وقال ابن عبد السلام حمله على المصلح أولى لعمومه قوله: (لأنه يحفظ ما يملكه ويربيه) معطوف على يحفظ أو يملك، وقد مرّ بيانه قيل هو إشارة إلى أنّ معنى الحفظ معتبر في أصل معناه إذ لا يتصوّر التبليغ إلى الكمال بدونه لكن في كونه جزءاً من معناه نظر، وقيل في ردّه إنّ الحفعل من جملة التربية بل تبليغ الشيء إلى كماله مستلزم لحفظه، فلا خفاء في كون معنى الحفظ جزءاً لمعنى الرب بحسب الأصل وليس برمته شيئاً قوله: (ولا يطلق على غيره تعالى الآ مقيداً) بإضافة ونحوها مما يدل على ربوبية مخصوصة سواء كان إضافة أولاً قال في المصباح: الرث يطلق على الله تعالى معرّفاً بالألف واللام ومضافا، ويطلق على مالك الشيء الذي لا يعقل مضافا إليه، فيقال رب الدين، ورب المال، وفي التنزيل {فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا} [يوسف 41] قالوا ولا يجوز استعماله بالألف واللام للمخلوق بمعنى المالك لأنّ اللام للعموم، والمخلوق لا يملك جميع المخلوقات، وربما جاء باللام عوضاً عن الإضافة إذا كان بمعنى السيد قال الحارث بن حلزة:
فهو الرب والشهيد على يوم الجبارين والبلاء بلاء
ومنع بعضهم أن يقال: هذا رب العبد، وأن يقول العبد هذا ربي وقوله عليه الصلاة والسلام: " حتى تلد الأمة ربتها " (1) في رواية حجة عليه انتهى. وحاصل ما قالوه أنه إذا كان بمعنى المالك لا يطلق على غيره تعالى إلاً مقيداً بإضافة، وما هو بمعناها لأنّ المالك الحقيقي هو الله والملك المطلق له، ولو كان بمعنى غير المالك جاز مع القرينة إطلاقه على غيره وكذا إذا أضيف لفظ كرث الدار أو معنى كزيد رب الإبل والرب يتصرّف كما يريد وكذا إذا كانت
اللام عوضاً عن الإضافة كما مرّ، فلا وجه لما قيل في القاموس مز، أنه لا يطلق باللام إلاً على الله لأنّ ما ذكر يرذه ولا حاجة إلى ما قيل من أنه كان في الجاهلية، وقد نسخه الإسلاه أو هو جهل بالحكم الإسلاميّ، وهذا أيضاً إذا كان مفردا فإذا جمع كالأرباب جاز إطلاقه على الله، وعلى غيره إذ لم يطلق على الله أو على الله وحده، وكان حقه أن لا يجمع لكنه ورد جمعاً كما في قوله تعالى: {أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ} [يوسف 39](1/88)
وهذا وارد على زعمهم، وما قيل من أنه يجوز إطلاقه كما في هذه الآية، وتقييده كما في رب الأرباب قيل: إنه سهو لأن المقيد الرب لا الأرباب ولك أن تقول إنّ المراد التقييد المعنوي كما مرّ لأنه بإضافة الرث إليه علم أنّ المقصود به ما سوى الله من الآلهة، وقوله كقوله تعالى: {ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ} [يوشف 50] عدل عن تمثيل الزمخشري بقوله: {إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ} [يوسف 23] لأنه قيل إنه عنى به الله تعالى، وقيل عنى الملك الذي رتاه كما قاله الراغب. وأما هذه الآية فالمراد فيها الملك ولا وجه لما قيل من أنّ استشهاده بما حكي عن يوسف عليه الصلاة والسلام يشعر بأنّ كلامه غير مختص بالإسلام لأنّ ما قمق علينا من شرع من قبلنا من غير إنكار، ولا إشعار باختصاص بتلك الأمة فهو شرع لنا كما صرّحوا به، والقول بأنه يزعم المخاطب به لا يناسب الاستشهاد به. وأمّا قوله عليه الصلاة والسلام: " لا يقل أحدكم أسق ربك " فهو نهي تنزيه، وقد قال النوويّ رحمه الله إنه مكروه مطلقاً وقيل إنه منسوخ قوله:) والعالم اسم لما يعلم به إلخ) أي يكون وسيلة للعلم به، وهو شامل للأشخاص وغيرها كما سيأتي، وهو اسم آلة مشتقة من العلم كالخاتم من الختم لكنه غير مطرد، ولذا لم يذكر في علم التصريف، وقالب بفتح اللام ويجوز كسرها آلة معروفة يفرغ فيها الجواهر المذابة، وهو في الأصل غير عربيّ معرّب كالب كما في بعض كتب اللغة، وقيل عربيّ اسم لما يقلب به الشيء، فإنه يقلب الشيء من شكله الأصليّ إلى شكله نفسه، وقدم المصتف رحمه الله هذا الوجه لأنه أدخل في المدح، والزمخشري أخره، والمراد بالصانع الله تعالى، وإطلاقه عليه قد ورد في حديث صحيح رواه الحاكم والبيهقي عن حذيفة ولفظه: " إنّ الله تعالى صانع كل صانع وصنعته " (1 (ولا يتوهم أنه مشاكلة فلا يجوز إطلاقه عليه منفردا لما سيأتي، وسئل السبكي رحمه الله عن إطلاق المتكلمين الصانع على الله عز وجل مع أئه لم يرد في أسمائه الحسنى، فأجاب بأنه ورد في القرآن {صُنْعَ اللَّهِ} [النمل 88] وقرىء في {صبغة الله} [البقرة 138] صنعة الله بالعين المهملة، وفي طبقات النحاة أنه إنما يتمشى على رأي من يكتفي في صحة الإطلاق عليه تعالى بورود الماذة، والأصل ولا حاجة إليه لما سمعته، وأيضا روى الطبرانيّ في حديث آخر: " اتقوا الله فإنّ الله
فاتح وصانع " قوله: (وهو كل ما سواه إلخ الما ذكر أنه اسم جنس غلب على ما يعلم به الصانع سواء كان من ذوي العلم أو لا فسره بكوله وهو إلخ. ولما كان ظاهره يوهم أنه اسم لمجموع ما سواه بحيث لا يطلق على أنواعه وأجناسه، قالوا إنّ المراد به القدر المشترك من أجناس ما سوا. تعالى، فإنه يطلق على كل جنس مما يعلم به الخالق أعني غيره جل وعلا كما يطلق أيضا على جنسين منه فصاعداً فيقال عالم الملك، وعالم الإنس وعالم الجن وعالم الأفلاك إلى غير ذلك، ويطلق على مجموعها أيضاً لأنّ مجموعها فرد من جملة ما يعلم به الصانع، فهو مشترك بين المجموع، وما تحته من الأجناس والأنواع والأصناف، ولا يطلق على فرد كزيد مثلاً كما سيأتي أو كل ما يعلم به الصانع من الأجناس، فكلمة ما على الأوّل عبارة عما وضع له لفظ العالم بالغلبة، وعلى الثاني عما يطلق عليه بها وليس اسما للمجموع فقط، والاً استحال جمعه وكونه من قبيل قوله نحن الغالبون في إطلاق الجمع تعظيماً على فرد واحد خلاف الظاهر، وغير مناسب للمقام وقوله: (من الجواهر إلخ) الجوهر ما يقابل العرض، وهو مما اصطلحوا عليه وليس معنى لغويا لكنه حقيقة عرفية، وقد قيل إنّ عبارة المصتف رحمه الله أحسن من قول صاحب الكشاف من الأجسام والأعراض لأنه لا يتناول الجواهر الفردة ولا المركب من جوهرين منها على رأي المعتزلة، واعتذر عنه بأنّ الاستدلال إنما هو بما يشاهد وهو الأجسام والأعراض فلذا لا يضرّ خروج المجردات، وصفات الله والأمور المعقولة منه قوله: (فإنها إلخ) الضمير المؤنث لما باعتبار معناها أو للجواهر والأعراض، وهما بمعنى واحد والدليل عند أهل المعقول القياس المنطقي وهو محمول على أقوال يؤدّي التصديق بها إلى التصديق بقول آخر وهو النتيجة وأهل الأصول يطلقونه على ما يدل وقوعه، أو وقوع شيء من أحواله وصفاته على وقوع غيره من ذالب أو صفة، فيقولون العالم دليل على وجود الصانع قالعالم بفسه عندهم دليل لأن صفاته وهي الحدوث، أو الإمكان تدل على الصانع وهو المدلول فقول المصتف رحمه الله تدلّ على ظاهره وقيل: إنه إشارة إلى مقدمتي دليل ثبوت الصانع أعني العالم ممكن، وكل ممكن له موجد مؤثر، وفيه إشارة إلى(1/89)
ما تقرّر في الكلام من أنّ الممكن محتاج إلى السبب إلاً أنّ ذلك عند الفلاسفة، وبعض المتكلمين لا مكانه، وعند قدماء المتكلمين لحدوثه، وهو عبارة عن مسبوقية الوجود بالعدم، وليس هو نفس الوجود كما يتوهم وقيل هو الإمكان مع الحدوث، وقيل بشرط الحدوث وأدلتهم وابطال كل فريق ما ذهب إليه غير. مبسوطة في المطوّلات، وستأتي أيضا في محلّها وفي شرح المقاصد أنّ ما ذكر علة بحسب العقل بمعنى أنه ملاحظ الإمكان أو الحدوث فنحكم بالاحتياج كما يقال علة الحصول في التحيز هو التحيز لا بحسب الخارج بأن يتحقق الإمكان أو الحدوث فيوجد الاحتياج، فما ذكروه في الإبطالات مغالطة، والقول بأنه الإمكان أظهر وبالقبول أجدر، واعترض بأنه لو كان علة الاحتياج إلى المؤثر هو الإمكان أو الحدوث، وهما لازء، ن للممكن والحادث لزم
احتياجهما حالة البقاء له لدوام المعلول بدوام العلة واللازم باطل لأنّ التأثير حينئذ إمّا في الوجود وقد حصل بمجرّد وجود المؤثر فيلزم تحصيل الحاصل بحصول سابق، وأما في البقاء أو في أمر آخر متجدد وهو التأثير في غير الثاني أعني الممكن والحادث، فيلزم استغناؤهما عن المؤثر وفي كون الإمكان علة الاحتياج فساد آخر، وهو احتياح الممكن إلى المؤثر حال عدمه السابق مع أنه نفي محض أزليّ لا يعقل له مؤثر، وأجيب بأنّ معنى احتياج الممكن أو الحادث إلى المؤثر توقف حصول الوجود له أو العدم أو استمرارهما على تحقق أمر أو انتفائه بمعنى امتناعه بدون ذلك، وهو معنى دوام الأثر بدوام المؤثر، واذا تحققت فاستمرار الوجود أعني البقاء ليس إلاً وجودا مأخوذاً بالإضافة إلى الزمان الثاني، وصحة قولنا وجد ولم يبق ولم يستمر لا يدلّ على مغايرة البقاء لمطلق الوجود ولا نزاع في ذلك فتدبر قوله: (واجب لذاته) أي واجب ولازم وجوده من ذاته لذاته بحيث لا يستند لغيره، ويحتاج إليه قيل: هذا بناء على ما يقال بعد هذا الدليل، وهو مؤثر العالم إن كان واجب الوجود فهو المطلوب، والاً كان ممكنا فله مؤثر، ويعود الكلام فيه ويلزم الدور أو التسلسل أو الأنتهاء إلى مؤثر واجب الوجود. والأوّلان باطلان فتعين الثالث وهو مبنيّ على كون المحوج هو الإمكان وهو مختار المصثف رحمه الله تعالى في الطوالع، ومن حكم بأنه الحدوث، أو الإمكان معه، أو بشرطه انسدّ عليه باب إثبات الوأجب لجواز أن يكون علة الحوادث ممكنا قديما، ولا حاجة إلى سبب على هذا التقدير، ولذا من تمسك نجالحدوث في إثبات الصانع، ولم يجعل الإمكان وحده محوجا للمؤثر ما أثبت إلآ قديماً تنتهي إليه الحوادث كما صرّحوا به، وبهذا يظهر ضعف ما نقل هنا عن المصئف رحمه الله تعالى، وهو قوله لو قال بدل قوله لإمكانها لحدوثها، أو ضم له الحدوث كان أحسن لأنّ علة الافتقار هي الحدوث، أو الإمكان بشرط الحدوث أو كلاهما، ويجوز على بعد حمل كلام المصتف رحمه الله على ما يوافق مذهب المتكلمين بأن يقال أراد بالافتقار سببه المستلزم له وهو الحدوث، أو يقال جعل جهة الدلالة الإمكان والافتقار ولم يجعل الافتقار مسببا عنه وحده فلعله مسبب عنهما، والوجه ما تقذم.
(أقول (فيه بحث من وجوه:
الأوّل أنّ قوله ويلزم الدور إلخ. الأولى تركه لأنّ إثبات الواجب لا يتوقف برهانه على
ذلك كما فصل في الرسالة الجلالية وشروحها، إذ على تقدير التسلسل يقال مجموع الممكنات أيضا ممكن محتاج إلى مؤثر واجب الوجود لذاته، والحاصل أنّ كل فرد من الجوهر والعرض يدلّ على وجود الواجب، وهو ممكن مفتقر إلى مؤثر والمؤثر لا بذ أن يكون واجباً بلا واسطة، أو معه والأ تسلسل، وكل سلسلة أيضا ممكنة تحتاج إلى الواجب، وإلاً يلزم علة الشيءلنفسه.
اشية الشهاب / ج ا / م 10
الثافي أنّ ادّعاءه انسداد باب إثبات الصانع الواجب الوجود على ما ذكره غير مسلم لما مرّ
من كلام المحقق في شرح المقاصد أنّ هذ. العلة بحسب التعقل والتصديق لا بحسب الخارح فالمعلول، وهو قدم الصانع كذلك والقدم المتقرّر في العقل لا يتخلف فيقتضي وجوب الوجود.
ولذا قالوا ما ثبت قدمه استحال عدمه فهذه مغالطة أيضا.
الثالث أنّ ما نقله عن المصئف رحمه الله في حواشيه وادّعى سقوطه لقوّة ضعفه الظاهر
أنه ليس كما اذعاه، وأنّ المصتف رحمه الله مراده غير ما فهمه عنه، فإنّ مراده أنّ ما ذكره لا يناسب شيئاً من المذاهب المقرّرة في الكلام كما تلوناه عليك لأنّ أحداً لم يقل أنّ العلة الإمكان والافتقار، فلو بدل الإمكان بالحدوث، وعطف عليه الافتقار على أنه تفسير له(1/90)
ولو ادّعا أو بدل الافتقار بالحدوث، وضم إلى الإمكان كان أظهر إلا أنه يبقى ما الداعي للمصنف إلى تعبيره بما ذكر حتى احتاج إلى التاويل والتبديل فتدبر ثم إنّ هذه النكتة مصححة للإطلاق لا موجبة حتى يقال إنه يلزمه أن يطلق على الأشخاص لجريانها فيها. قوله: (وإنما جمعه إلخ) في الكشاف، فإن قلت لم جمع قلت ليشمل كل جنس مما سمى به انتهى. وفي شرحه للمحقق يعني أنّ الإفراد هو الأصل وهو مع اللام يفيد الشمول بل ربما يكون أشمل، وتوجيه الجواب أنه لو أفرد ربما يتبادر إلى انفهم أنه إشارة إلى هذا العالم المشاهد بشهادة العرف أو إلى الجنس والحقيقة لظهوره عند عدم العهد، فجمع ليشمل كل جنس سمى بالعالم لأنه لا عهد، وفي الجمع إشارة إلى أق القصد إلى الإفراد دون الحقيقة وما زعموه من إبطال الجمعية إنما هو حيث لا عهد ولا استغراق، وما قيل من أنه لو أفرد ما دل على أجناس مختلفة تشملها الربوبية فجمع ليدل على ذلك، كالطهارات معناه أنه موضوع للأجناس، فدل جمعه على عموم الأجناسق بخلاف ما لو أفرد فانه ربما يكون لعموم أفراد جنس واحد لكنه إنما يتتم إذا صح إطلاق العالم على فرد كزيد وكون استغراق الفرد إشمل يأني مفصلاً في محله.
وقال قذس سرّه: إنّ معناه أنّ الإفراد هو الأصل الأخف ولو أفرد مع اللام توهم أن القصد إلى استغراق الإفراد فزال التوهم بلا شبهة، وما قاله الشارح مردود أما أوّلاً فلأنّ المقام يقتضي ملاحظة شمول آحاد الأشياء المخلوقة كلها كما يشهد به قوله هنا مالكاً للعالمين لا يخرج منهم شيئء من ملكوته، وقوله في تفسيره {وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعَالَمِينَ} [آل عمران: 98 ا] نكر ظلما وجمع العالمين على معنى ما يريد شيئا من الظلم لأحد من خلقه، وقد اتضح لك وجه الشمول وأمّا ثانياً فلأنّ المقابل للعالم المشاهد هو العالم الغائب فإذا أوهم الإفراد القصد لأ الأوّل ناسب أن يثني ليتناولهما معاً، فانّ الكل مندرج فيهما قطعا، وهذا يدل أنّ الجمعية باقية في الجمع المعزف باللام إذا أريد بها الاستغرأق، فالحكم على
جماعة جماعة ولا يلزم عدم شمول الحكم لكل فرد لأنه لو خرج عنه فرد فهذا الفرد مع كل فردين آخرين جماعة لم يثبت لها الحكم، سواء ثبت لبعضهم أم لا، فلا يصح الحكم بشمول ذلك الحكم لكل جماعة لاستلزامه الثبوت لكل فرد، واعتراض الفاضل على كون الحكم على كل جماعة باستلزامه التكراو في مفهوم الجمع المستغرق لأنّ الثلاثة مثلاً جماعة مندرجة فيه بنفسها، وهي جزء من الأربعة والخمسة، وما فوقها فيندرج فيه أيضاً في ضمنها بل نقول الكل من حيث هو كل جماعة، فيكون معتبراً في الجمع المستغرق، وما عداه من الجماعات مندرج فيه، فلو اعتبر كل واحدة منها كان أيضا تكرارا محضاً مدفوع بأنه لو لزم ما ذكر لزم أيضاً في مثل قوله تعالى {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [المؤمنون: 53] وقوله {فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ} [التوبة: 22 ا] وأن لم يلزم منه فساد فتدبر وأيضا إن كان مراده لزوم التكرار له ذهنا، فهو ممنوع إذ المفهوم منه أمر مجمل ليس فيه ملاحظة فرد مما صدق عليه أصلاً فضلاً عن تكراره، وكذا إن أريد لزمه خارجاً لأنّ ثبوت الحكم فيه لكل جماعة ولكل فرد واحد لا يتفاوت بأيّ عبارة يعبر بها عنه بلا مرية.
أقول العالم اسم جمع لكونه على زنة المفردات كخاتم وقالب، وقد حقق النحاة كما في
شرح ألفية ابن مالك أنّ الاسم الداذ على أكثر من اثنين إن كان موضوعا للأحاد المجتمعة دالاً عليها دلالة تكرار الواحد بالعطف فهو الجمع، وإن كان موضوعا للحقيقة ملغى فيه اعتبار الفردية، فهو اسم الجنس الجمعي كتمر وتمرة، وإن كان موضوعا لمجموع الآحاد فهو اسم جمع سواء كان له واحد كركب أو لا كرهط ومنه العالم، وأما عالمون فقال ابن هشام هو اسم جمع على وزن جمع السلامة ولا نظير له وفيه نظر، وقال ابن مالك: ليس جمعاً لعالم لأنه يعم العقلاء، وغيرهم وعالمون خاص بالعقلاء وضعا، وردّ بكونه جمعاً له بعد تخصيصه بالعقلاء، وفي الكشف لو قيل عالم وعالمون كعرفة وعرفات لم يبعد وأنت إذا فهمت ما ذكر عرفت أنّ كلام السعد هو الموافق لكلام النحاة، وعبارة الشيخين صريحة فيه بغير شك لمن تدبر فقوله قدس سرّه في ردّه إنّ ملاحظة المقام تقتضي شموله للآحاد إن أراد وضعا فلا ضير فيه وان أراد ما هو أعمّ منه كدلالته عليه بالالتزام ونحوه كما مرّ فممنوع للزومه له، كما سمعتة آنفاً وفرق بين الإطلاق والشمول، فكما أنّ الجمع إذا عرّف استغرق آحاد مفردة، وان لم يصدق عليها كذا عالم إذا(1/91)
عرّف شمل أفراد جنسه، فالعالمون كجمع الجمع كالأقاويل يتناول كل فرد كذلك يتناول العالمين.
وقوله المقابل للعالم المشاهد إلخ. يجاب عنه بأنه لو ثنى تبادر الذهن إلى مجرّد الجنسين وربوبيتهما لا تستلزم ربوبية ما تحتهما، والجمع في إفاد 9 استغراقه لجميع ما تحتهما أظهر من التثنية، وإن صح إرادة ذلك منهما أيضا، وما أورد عليه من أنّ اللام إذا كانت لاستغراق آحاد الجنس والجمع لا يفيد إلا تعدّد الجنس، فاستغراق الأجناس من أين يفهم
فجوابه أنّ استغراق الآحاد إنما جاء من استغراق الجموع، وانما سكت عنه لظهوره إذ اللام الاستغراقية تدل على استغراق أفراد ما دخلت عليه وهو الأجناس، والبحث فيه بأنّ التوهم الحاصل في صورة الإفراد وان انتفى عن الجمع لكن فيه إيهام آخر، وهو أنّ المراد منه الجنس دون الاستغراق كالأنهار في قوله تعالى {تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} [البقرة: 25، مدفوع بأنّ التوهم في الافراد أقوى منه في الجمع لأنّ المتبادر منه الاستغم- اق فإنه من صيغ العموم كما تقرّر في الأصول، وسيأتي في قوله تعالى {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ} [البقرة: 228] تتمة له، وقد بقي هنا مباحث أخر مذكرة في شروج المفتاح وحواشي المطوّل يضيق عنها هنا نطاق البيان. قوله: (وغلب العقلاء منهم (لما كان هذا الجمع مخصوصاً بما هو علم أو صفة لممذكر عاقل بشروطه المذكورة في كتب النحو وقد جمع هنا عالم مع عدم استيفائه شروطه نبه على ذلك بما ذكره إشارة إلى تصحيح جمعيته، ولذا قيل إنما يجمع بالياء والنون صفات العقلاء أو ما هو في حكمها من الأعلام فإنها تؤوّل بمسمى به، وتقديم فائدة الجمع مطلقاً على صحة الجمعية المفيدة لأنّ بيان فائدة المطلق مقذم على بيان وجه صحة المقيد، أو للاهتمام بشأن الفوائد والمعاني والاحتياج إلى بيان وجه صحته بانتفاء شرطيه معا فإنه اسم لا صفة شامل لغير العقلاء، وتعرّض المصنف للأخير إنما هو لظهور الأوّل تنزيلاَ لا تحقيقأ فإنه اسم يشابه الصفة لاعتبار معنى فيه وهو العلم به، وصاحب الكشاف تعرّض للأوّل دون الأخير لظهوره أيضاً أو لأنه عنده صفة وليس المراد بالاسم هنا ما يقابل الصفة بدليل قوله كسائر أوصافهيم إلا أن يراد بالأوصاف ما يتناول الحقيقية والتنزيلية، ولا يخفى أنه غلب فيه الذكور أيضاً وان في قوله منهم تغليبين، وفيه نظر لأنّ تأويل العلم المسمى به ليس لما ذكره، كما فصل في كتب العربية ولأنّ كونه وصفا لا يصح لأق قوله ما يعلم به، وتمثيله السابق صريح في أنه اسم آلة، وهي لا تسمى وصفاً كما لا يخفى. قوله: (كسائر أوصافهم) أي كباقي أوصافهم فإنها غبى الصحيح بمعنى الباقي لا الجميع، وقال بالياء والنون ولم يقل بالواو والنون كما في الكشاف لموافقته للنظم وهو اعتبر أوّل أحواله وأشرفها. قوله: (وقيل اسم وضع إلخ) أي هو اسم يطلق على كل جنس من أجناس ذوي العلم لا على كل فرد أو للقدر المشترك بين ذلك فيقال عالم الملك وعالم الإنس وعالم الجن، ولم يرتض المصنف هذا لما يأتي، والمراد بالاستتباع تبعية غير هؤلاء لهم، فتدل ربوبيتهم على ربوبيتهم كدلالة قولك جاء السلطان على مجيء أتباعه وجنده أو مستتبعات اك راكيب، وهي ما يدل عليه بالالتزام، وهو دلالة النص أو إشارته عند الأصوليين إذ من رت أشرف الموجودات رب غيرهم، وهذا جواب عما يخطر بالبال من أنه تخصيص غير مناسب للمقام، وحيحئذ لا تغليب ولا تجوّز فيه والظاهر أنّ القائل بهذا لا يوجه به الجمعية لأنه ليس بصفة عنده، وانما جرى مجراها، كما مرّ فما قيل من أنه مرضه لأنّ هذه الصيغة لم تسمع إلا اسم ا-لة لا اسم فاعل ليس بشيء لأنّ من يرجحه
كالزمخشريّ لم يرد ذلك كما بينه شراحه فإن وهم من قوله لذوي العلم، فوهم على وهم إذ لا يلزم من كون معناه ذوي العلم كونه اسم فاعل، وانما مرض لأنه إن قيل إنه حقيقة خالف اللغة وإن قيل إنه مجاز لم يفد فائدة، قيل وجمع جمع قلة على الأصح لقلتهم في جنب عظمة قدرته أو بالنسبة لما عداهم وفيه نظر ولفظ اسم بمعنى مقابل الفعل أو مقابل الصفة، وما قيل من أنه على هذا مأخوذ من العلم وعلى ما مرّ من العلامة دعوى بلا دليل. قوله:) من الملاتكة إلخ) بيان لذوي العلم، والثقلان الجن والإنس لأنهما ثقلا الأرض والاستدلال به على تجسم الجن في غاية الوهن. قوله: (وقيل عنى به الناس ههنا إلخ) عنى بمعنى قصد مبنيّ للمجهول أو للمعلوم، والضمير المستتر فيه لله تعالى لأنه معلوم بقرينة المقام والتعبير به إشارة إلى أنه معنى مجازيّ، وهذا القول(1/92)
نسب إلى الحسين بن فضل، واحتج بآيات منها قوله تعالى {أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 165] وهو منقول عن أهل البيت أيضاً، ونقله الراغب عن جعفر الصادق،: عبارته عبارة المصنف بعينها، والمراد أنه في الأصل والحقيقة كل ما سوى الله من الجواهر والأعراض، وقصد به هنا الناس خاصة لتنزيله منزلة جميع الموجودات لأنه فذلكة جميع الموجودات ونسخة كل الكائنات المنقولة من اللوح الرباني بالقلم كما أشار إليه المصنف رحمه الله بقوله من حيث إلخ واياه عنى القائل:
وتزعم أنك جرم صغير وفيك انطوى العالم الأكبر
وهو منزع صوفيّ، فمن قال في شرحه: إنّ تخصيصه بهم لأنّ المقصود بالذات من التكليف بالأحكام من الحلال والحرام وإرسال الرسل عليهم الصلاة والسلام، وانزال الكتب هو الإنسان قال الله تعالى {لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} [الفرقان: ا] لم يقف على مراده، ولم يحم حول مرامه، وعلى هذا هو شائع في أفي اد البشر مشترك بينها اشتراكا معنويا فكل فرد منه بمنزلة جنس من تلك الأجناس، ومرّضه المصنف رحمه الله لمخالفته لأصله من غير مقتض، ولا دليل يدل عليه إذ المناسب للمقام التعميم، فلا يرد عليه أنه قد يختص بهؤلاء كما في قوله تعالى {وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} [الجاثية: 116. قوله: (من حيث أنه يشتمل إلخ) قيد الحيثية في كلام المصنفين يستعمل على وجوه هي الإطلاق كمايقال إنّ الإنسان من حيث هو إنسان مدرك للكليات والجزئيات، والتقييد كما يقال دلالة التضمن دلالة اللفظ على جزء معناه من حيث هو جزؤه، والتعليل كما يقال الأفيون من حيث إخراجه للحرارة الغريزية يسخن ظاهر البدن وهذا هو المقصود هنا، ويشتمل افتعال من الشمول وهو الإحاطة والفرق بين الاشتمال، والشمول أنّ الشمول يوصف به المفهوم الكليّ بالنسبة إلى جزئياته، والاشتمال يوصف به الكل بالنسبة لأجزائه وهذا أغلبيّ، فلا يرد عليه ما يخالفه، والمراد بالعالم الكبير عالم الملك وهو السماء، وما تحويه بأسره، واشتماله كما في حاشية متقولة عنه لأنّ ما في ذلك العالم من شيء إلا وفي الإنسان نظيره مما يحكيه، ويفيد ما يفيده
في الجملة إذ بدن الإنسان بمنزلة العالم السفليّ، وأخلاطه كعناصره، فالسوداء كالأرض والتراب لكونها باردة يابسة، والبلغم كالماء لكونه باردا رطباً، والدم كالهواء حارّ رطب، والصفراء كالنار حار يابس، ورأسه بما فيه من الحواس الظاهرة والباطنة على رأى، كالعالم العلوي لأنه منبت للأعضاء التي هي محل الحس، والحركة كما أنّ العالم العلوي منوط به أمر السفليات على ما قال تعالى {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاء إِلَى الْأَرْضِ} [السجدة: 5] ما مع انفرد به من الكمالات المتنوّعة، والهيئات النافعة، والمناظر البهية، والتراكيب العجيبة المبنية في علم التشريح ونحوه مما لا يحصى، كالتمكن من الأفعال الغريبة، واستنباط الصنائع المختلفة، فسبحان من زوّج الآباء العلوية بالأمّهات السفلية، ونقل نسخ الوجود بقلم قدرته العلية إلى الصحف المكرّمة الإنسانية. قوله: (من الجواهو والأعراض) يجوز أن يكون بيانا للنظائر، ولما أضيف إليه، قيل والأوّل أظهر ليكون قوله يعلم بها متعلقا بما هو أقرب وفي قوله بما أبدعه في العالم إشعار بأنّ المشبه به مبدع بخلاف المشبه لنكتة، وهي أنه لما جعله نظيراً للعالم الكبير كان مسبوقا بالمثل في الجملة، وان كان نوعه باعتبار صورته الخاصة به مبدعا على أحسن تقويم. ومن لم يتنبه له أورد عليه أنّ الإبداع إيجاد الشيء من غير سبق مثال وهذا متحقق بالنسبة إلى العالم الصغير والكبير. قوله: (ولذلك سوّى إلخ) ذلك إشارة إلى الاشتمال على النظائر المعلوم مما قبله، والنظر بمعنى الابصار بالعين، وبمعنى التفكر، والتفات النفس بالبصيرة للمعاني، وهو المراد هنا لتعديه بفي، وهو في الأصل مصدر شامل للقليل والكثير، وحقه أن لا يثنى، ولا يجمع فلذا أفرده، فلا وجه لما قيل من أنّ الظاهر أن يقال بين النظرين لاقتضاء بين التعدّد، فكأنه اكتفى بالتعدد المعنوقي من قوله فيهما ضرورة أن النظر فني أحدهما عين النظر في الآخر انتهى، وضمير فيهما عائد على العالم الكبير والصغير، وهو الإنسان والتسوية واقعة في النظم، أمّا في قوله تعالى {وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} [الذاريات: 20- 21] وهو الظاهر أو في قوله {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ} [صورة فصلت: 53] وقوله: (وقال إلخ (معطوف على(1/93)
قوله سوّي عطف تفسيريّ، فتكون التسوية إشارة إلى الآية الأولى أو هو أمر مستقل مغاير لما عطف عليه، فالتسوية بما في الآية الثانية وهي سنيريهم إله. وقوله وفي الأرض إن أريد به ظاهره فتخصيصها من بين دلائل الآفاق لظهورها لمن على ظهورها، وفي قوله {أَفَلَا تُبْصِرُونَ} من غير تمييز بين الإبصار المتعلق بالأنفس، والمتعلق بما يقابلها إشارة إلى شذة ظهورها إذ سوّى بين المحسوس وغيره حتى، كأنّ الجميع محسوس. قوله: (وقرىء رث العالمين بالنصب إلخ) مثل هذا النصب على ا) قطع، وكونه على المدح مستفاد من المقام إذا قدر أمدح وليس بمتعين فقد يقدر
غيره كاذم وأذكر وأعني ونحوه وفي شرح العمدة لابن مالك أنّ المنعوت إذا كان متعيناً لم يقدر أعني بل أذكر، وهذه قراءة زيد بن عليّ، وهي من الشواذ وضعفت بالاتباع بعد القطع إلا أنه قيل إنّ زيداً قرأ بنصب الرحمن الرحيم أيضاً فلا ضعف فيها، وقال أبو حيان قرىء بالنصب، وهي فصيحة لولا خفض الصمفات بعدها، لأنهم نصوا على أنّ الاتباع بعد القطع في النعوت غير جائز، إلا أن يقال الرحمن بدل لا نعت وهو مبنيّ على وجوب تقديم المتبع، وهو غير متفق عليه فإنّ صاحب البسيط جوّزه، وروى شواهد تدل عليه ونصبه على النداء ظاهر لكته، كما في الدرّ المصون أضعف الوجوه لما فيه من الليس والفصل بين الصفة والموصوف، وفيه أيضاً التفات إلا أنه لا يجري فيه ما سيأتي. قوله: (أو بالفعل الذي دل عليه الحمد) فهو منصوب بفعل مقدر هو أحمد أو نحمد لدلالة الحمد عليه، ليس على التوهم، فقول أبي حيان إنه ضعيف لأنه للتوهم، وهو من خصائص العطف توهم غير صحيح مع أنه لا يختص بالعطف أيضاً كما بين في محله، ونصبه به صادق بأن يكون مفعوله أو صفة مفعوله، فإنّ صاحب الكشاف قدر. نحمد الله رب العالمين لأنّ رث صفة لا بد له من موصوف يجري عليه في الأفصح، ولم يجعل الحمد المذكور عاملاً فيه لقلة أعماله محلى باللام، ولأنه يلزم الفصل بين العامل ومعموله بالخبر، وهو أجنبيّ كما قيل وأورد عليه في بعض الحواشي أنّ الزمخشري ذكر في قوله تعالى {وَصِيَّةً لِّأَزْوَاجِهِم مَّتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ} [البقرة: 240] في قراءة أبيّ أنّ متاعاً نصب بمتاع، لأنه في معنى التمتع كقولك الحمد لله حمد الشاكرين فقال التفتازانيّ جاز نصب حمد الشاكرين بالحمد، وهو مصدر معرّف أيضا مع الفصل بالخبر لأنه في الأصل معمول للحمد في موضع المفعول كما تقول حمداً له فجاز لذلك، وكذا كل مصدر جعل متعلقه خبراً عنه، ويؤيده أنّ صاحب الكشاف والمصنف قالا في قوله تعالى {أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي} [مريم: 46] إنّ راغب خبر مقدم مع تعلق عن اكهتي به، وفي الكشف جاز هذا بناء على أنّ المبتدأ ليس أجنبيا من كل وجه فالمبتدأ والخبر لاتحادهما معنى كشيء واحد لا يعد الفصل بأحدهما من الفصل بالأجنبيّ، وهو قدس سره عده منه.
وأنا أقول فيما ذكر اختلاف للنحاة، أمّا أعماله معزفاً ففيه أربعة مذاصب إجازته مطلقا وهو مذهب سيبويه، ومنعه مطلقا وهو مذهب الكوفيين، وجوازه على قبح، وهو مذهب الفارسيّ، وبعض البصريين، والتفصيل بين أن يعاقب فيه أل الضمير فيجوز أولاً فيمتنع، وكذا اعماله مع الفصل مطلقا سواء كان بأجنبيّ أو لا فمنعه بعض النحاة وأجازه بعضهم لقوله تعالى {إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ} [الطارق: 8] لتعلق يوم برجعه، ومن منعه قدر عاملاً على أنّ منهم من تساهل في الظروف، وقيل الأظهر في توجيه هذه القراءة أنه مفتوح فتحة بناء لأنه ماض يقال ربه يربه إذا ملكه، ولا يخفى بعده وتكلفه فإنّ هذه الجملة لا بد لها من موضع ولا يصح أن يكون هنا صفة، والحالية غير مناسبة معنى مع أنه قرىء بنصب الرحمن الرحيم،
فالمناسب كون ما قبله منصوباً، فما اذعى أظهريتة ليس بظاهر. قوله: (وفيه دليل إلخ) أي في توصيف الله برب العالمين دليل على ما ذكر، ومن حكم بأن المحوج إلى المؤثر هو الإمكان قال: إنّ اتصاف الممكن بالوجود ليس من مقتضى ذاته حدوثا وبقاء، فهو في ابتداء وجوده، واستمراره محتاج إليه، ومن قال بأنّ المحوج له هو الحدوث لزمه استغناؤه عنه حال بقائه، ودفع بأن شرط بقاء الجوهر العرض، وهو متجدد محتاج إلى المؤثر في كل حين، فكان الجوهر محتاجا إليه حال بقائه بواسطة احتياج شرطه، فلا استغناء له أصلاً فرجع إلى المذهب المنصور بلا اختلاف في احتياجه إليه في البقاء(1/94)
وانما الخلاف في أنه بالذات أولاً وهو سهل، وكذلك افتقار. إلى المبقي في كلام المصنف رحمه الله، ووجه الدلالة أنّ التربية تبليغ الأشياء إلى كمالها شيئاً فشيئا إلى انقضائها فيلزم استنادها إليه بقاء وحدوثا، وأيضا العالم ما يعلم به الصانع ولا يكون ذلك إلاً بعد وجوده وهو ظاهر، وكذا الملك لما يلزم من الحفظ والاستناد إلى المالك فسقط ما قيل من أنّ الدلالة فيها كلام، فإنّ التربية والمالكية تجامعان استغناء الممكنات عن المبقى، وان دفعه القائل بأنه يمكن أن يقال إنّ الحفظ معتبر في معنى الرب أو لازم له إذ معناه إدامة وجود الممكنات وإبقاؤها كما ذكره الغزاليّ، وأورد عليه أنّ الحفظ له معنيان كما صرّح به الإمام أحدهما ما ذكر، والآخر صيانة المتعاديات والمتضادّات بعضها عن بعض، ففي كون المعتبر في مفهومه، أو لازمه هو الأوّل نظر إلا أن يراد بالمبقى أعمّ مما يديم الوجود أو يصونه، وما قيل من أنّ بقاء الممكنات من جملة بلوغها إلى الكمال، واحتياجها في بلوغ الكمال إلى المؤثر يدل على احتياجها إليه مطلقاً، فالرب من حيث تبليغها إلى البقاء مبق كما أنه من حيث إخراجها من العدم إلى الوجود مبدع لا محصل له، وقد عرفت ما يغنيك عن أمثاله، فإنّ البقاء ليس إلا وجوداً مأخوذاً بالإضافة إلى الزمان الثاني، والوجود في الزمان الثاني متوقف على ما قبله ومحتاج والمحتاج إلى المحتاج محتاج بديهة، فإنّ اتصافه بالوجود لما لم يكن ذأقياً أوّلاً كان كذلك فيما بعده لاستواء نسبته إلى الوجود في سائر الأزمان وتجدد الوجود له في كل حين هو التربية الإلهية ولا حاجة إلى أن يقال الدليل في كلامه ليس بمعنى البرهان القطعيّ بل ما يقتضيه الفحوى ويشهد به الذوق، والمصنف رحمه الله كثيراً ما يريد به هذا. قوله: (كرّره إلخ) ما سيذكره هو قوله وإجراء إلخ. فان ترتب الحكم على الوصف مشعر بالعلية، فهذا تعليل لاستحقاقه للحمد وأنه لاتصافه تعالى بهما، كما أنّ ذكرهما في البسملة تعليل للابتداء باسمه والتبرّك به، وهذا بناء على مذهبه من أنّ البسملة من الفاتحة أو جواب عما قيل أنّ البسملة ليست من السورة، والا لزم تكرار الاسمين من غير فائدة وفي التفسير الكبير الحكمة في تكريره أنه في التقدير، كأنه قيل اذكر أني إله رب مرة، واذكر أني رحمن رحيم مرّتين ليعلم أنّ العناية بالرحمة أكثر من سواها، ثم لما بين تضاعف الرحمة قال: لا تغترّ بذلك فإني مالك يوم الدين فهو كقوله {غَافِرِ الذَّنبِ} [غافر: 3] إلخ وفيه أنّ
الألوهية مكرّرة أيضاً فتدبر. قوله: (قرأه عاصم إلخ (ضمير قرأه راجع إلى مالك بالألف لأنه معلوم من تقدّم ذكره، ويعضده بمعنى يؤيد. ويقوّيه، يقال عضده إذا صار له عضدا أي معينا وناصرا، وأصل العضد في اليد من المرفق إلى الكتف فاشعير للمعنى المذكور ثم شاع حتى صار حقيقة فيه وجعل هذه الآية مؤيدة لهذه القراءة لأنها مأخوذة من الملك بالكسر، وسيأتي الفرق بيته وبين الملك بالضم، فإنّ المراد باليوم فيها يوم القيامة، وهو يوم الدين أيضا، ونفى المالكية عما سواه يقتضي إثباتها له إذ السياق لبيان عظمتة تعالى، ومجرّد نفي المالكية عن غيره لا يقتضيها بشهادة الفحوى والذوق، وتنكير الأسماء الثلاثة للتعميم، وتعميم الأخير لشموله الضرّ والنفع والقليل والكثير، وأورد عليه أنّ قوله {وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} [الانفطار: 19] ظاهره يعضد قراءة ملك لمناسبته للأمر مناسبة تامّة، وقد فسره في التيسير وغيره بأنّ الحكم حكمه ولا قاضي سواه، وهو صريح في إثبات الملك بالضم له، ولذا قيل إنه يؤيد خلاقه وقيل إنها مقوّية، ومؤيدة لا نص موجب لمدّعاه فيكفي موافقة معناه لأوّلها مع أنّ آخرها موافق له اً يضا فإنّ المراد بالأمر المالكية فلما نفاها أوّلاً عن غيره صرّح بعده بإثباتها على العموم له كما هو المعروف في أمثاله من التذييل، نعم هو على هذا بمنطوقه مؤكد لمفهوم ما قبله، ولو فسر الأمر بالحملك بالضم كما مرّ أو بالأعمّ منه كان تأسيسا متضمناً للتأكيد على وجه أبلغ، ومن هنا ظهر ضعف ما قيل أنه تعالى لما نفى مالكية أحد لشيء على العموم أثبت بعده أنّ جميع الأمور مملوكة له تعالى في ذلك اليوم، فلا يشاركه أحد في مالكية شيء منها، وهو معنى مالك يوم الدين ولا وجه لكونه مشتقا من الملك بالضم، لأنّ المقام يقتضي نفي التصرّف مطلقا لا نفي التصرّف بطريق التكليف فقط، والقرآن يفسر بعضه بعضا، ويعقوب بن إسحاق الحضرمي البصري هو التاسع من القرّاء العشرة. قوله: (وقرأ الباقون ملك) أورد(1/95)
عليه أنّ قراءة خلف بن هشام توافق الة راءة الأولى، وردّ بأنّ المراد بالباقين هنا باقي الثمانية الذين قدم المصنف ذكرهم بقوله الأئمة الثمانية المشهورون، وقوله وهو المختار قيل عليه قد رجح كل فريق إحدى القراءتين على الأخرى ترجيحا يكاد يسقط مقابلتها وهو غير مرضيّ لتواترهما، وقد زوي عن ثعلب أنه تال: إذا اختلف إعراب القراءات السبعة لا أفضل إعرابا على إعراب في القرآن بخلاف ما إذا وقع في كلام الناس، وقريب منه ما قيل لو أبدل المختار بالأبلغ، كان أولى لتواترهما ووصف إحداهما بالمختار يوهم أنّ الأخرى بخلافه.
وأنا أقول في الفقه الأكبر أنّ الآيات لا يكون بعضها أفضل من بعض باعتبار التلاوة إنما
يكون باعتبار المعنى، فسورة الإخلاص مثلاً أفضل معنى من سورة تبت لأنّ معنى الأولى توحيد وهذه في صفة بعض الكفار، والأوّل أفضل من هذه الجهة كآية الكرسي، ولا شبهة أيضاً في أنّ بعض القراءات أفصح من بعض كقراءة ابن عامر {قَتْلَ أَوْلاَدِهِمْ شُرَكَآؤُهُمْ} [
الأنعام: 137] لا يخفى على ذي تمييز أنّ قراءة الجمهور أفصح منها وأنّ بعض القراءات أشهر من الأخرى، كالقراءة المتفرّد بها راو وغيرها المتفق عليها الباقي وكبعض القراءات الجارية على مقتضى الظاهر، ومقابلها الجاري على خلافه لنكتة، فعلى هذا ما المانع من أن يقال أنّ بعضها مختار لبعض العلماء أو الرواة، ولا يلزم من كونه مختاراً نقص مقابله، والقرّاء يقولونه من غير إنكار فهذا الإمام الجعبري يقول دائماً ومختاري، كذا من غير تردّد منه. قوله: (لأنه قراءة أهل الحرمين) قيل عليه أنه لو سلم كون أوائلهم أعلم بالقرآن لا نسلم ذلك ني عهد القرّاء المشهورين ألا ترى صحيح البخاري يقدّم على موطأ مالك، وهو عالم المدينة على أنّ القراءات المشهورة كلها متواترة، وبعد التواتر المفيد للقطع لا يلتفت إلى أحوال الرواة، اللهتم إلا أن يريد زيادة الفصاحة فإنّ لغتهم أفصح، وقد وافقهم قرّاء البصرة، والثأم وحمزة من الكوفيين أيضاً، ولذا قيل هم أولى الناس بأن يقرؤا القرآن غضاً طريا ما أنزل وهم الأعلون فصاحة ورواية وعليه أرباب الحواشي بأسرهم، والمصنف رحمه الله تغ الزمخشريّ في ذلك، ولم يعترضوا عليه بل أوردوه مسلماً، وقال الفاضل لعلوّ رتبة القاري رواية وفصاحة.
قلت: لا يخفى أنّ أهل الحرمين قديما وحديثاً أعلم بالقرآن والأحكام، ولذا استدل
بعض الفقهاء بعمل أهل المدينة، وأمّ مجرّد فصاحتهم التي توكأ عليها ذلك القائل، فلا يجد به نفعاً لأنّ القراءة سماعية لا دخل للراوي، والفصاحة في روايتها أصلاَ. قوله: (ولقوله تعالى إلخ) فقد وصف ذاته بأنه الملك يوم القيامة، وهو يوم الدين والقرآن يفسر بعضه بعضاً، والآية السابقة لا تعارضه لأنها ليست نصاً في المالكية كما مرّ، وكل منها مقوّ لا دليل قاطع، ولم يذكر قوله تعالى {مَلِكِ النَّاسِ} [الناس: 2] مؤيداً كما في الكشاف لمغايرة معناها لما هنا لئلا يتكرّر مع قوله رب الناس، وأمّا رب العالمين، فلا تكرار فيه لأنه فسر بما يدل على صئانعه، فيختص بالدنيا وما بعده في الآخرة، ولو فسر بالأعئم أيضاً يكون ذكر الخاص بعده اعتناء بشأنه غير مكرّر، ولو سلم فمثله كثير وباب التأكيد مشهور. قوله: (ولما فيه من التعظيم) فإنّ لفظ الملك كالسلطان فيه دلالة على العظمة، لأنّ الناس قلما يخلو أحد منهم من كونه مالكاً، ولا يكون الملك إلا أعلاهم، فهو ما بينهم عزيز قليل، وتصرّفه عام قويّ كما سيأتي، فلذا أردفه المصنف رحمه الله ببيانه فقال: والمالك هو المتصرّف إلخ، وفي الكشاف أنّ الملك بالضم يعغ وبالكسر يخص فقال المدقق في الكشف لم يرد به العموم والخصوص المصطلحين لأنّ أحدهما لا يدخل في مفهوم الآخر، فلا يفرص شاملاَ له، وهذا بحسب العرف الطارىء في الملك بالكسر، وفي التحقيق الملك بالكسر جنس للملك بالضم، والمم اد أنّ ما تحت حياطة الملك من حيث كونه ملكاً والعموم والخصوص لغة يقع على مثل هذا، وجاز أن يراد أنّ شمول سياسته فوق سياسة المانك، والتحقيق أنّ الملك بالضم نسبة بين من
قام به ومن تعلق، وان شئت قلت صفة قائمة بذاته متعلقة بالغير تعلق التصرف التام المقتضي استغناء المتصرف، وافتقار المتصرف فيه، ولذا لم يصح على الإطلاق إلا لله وهو أخص من الملك بالكسر لأنه تعلق الاستيلاء مع ضبط، وتمكن من التصغيئ في الموضوع اللغويّ، وبزيادة كونه حقاً في الشرع من غير نظر إلى استغناء وافتقار، وانّ ما يملكه الملك من المتملك عليه أعنى(1/96)
سياسته الخاصة ملكه فيه أتتم مما ملكه المالك أمّا ما لا يملكه الملك ويملكه المالك، فليس موود البحث كعكسه، فقد لاح أنّ ما يتوهمه بعض العامّة من أنّ تصرّف المالك في الملوك أتمّ من تصرّف الملك في الرعايا منشؤه من عدم فرض اتحاد المورد والنظر إلى العرف الفقهيّ، والكلام في الموضوع اللغويّ بل المعنى الأصليّ المشترك بين اللغات كلها، وقولهم الملك بالضم التصرّف بالأمر والنهي في الجمهور، ويختص بسياسة الناطقين، والملك بالكسر ضبط الشيء المتصرّف فيه بالحكم بناء على العرف العامي، ولذا قلنا لا يدخل أحدهما في مفهوم الآخر، ويرجح هذه القراءة تكرار الرث بمعنى المالك، ووصفه تعالى ذاته بالملكية عند المبالغة دون المالكية في قوله تعالى {مَالِكَ الْمُلْكِ} [آل عمران: 26] انتهى. أقول هذا مما تلقوه بالقبول ولخصه قذس سره من غير تصرّف فيه، وهو مأخوذ من كلام الراغب، وقد قال السمين في مفرداته أنه مخصوص بصفات الآدميين، وأمّا في صفته تعالى فالمالك والملك بمعنى واحد، والظاهر أنّ بين المالك والملك عموما وخصوصا وجهيا لغة وعرفاً، فيوسف الصديق عليه الصلاة والسلام بناء على أنه ملك رقاب أهل مصر في القحط بناء على شرعهم ملك ومالك، والتاجر مالك غيره ملك والسلطان على بلد لا ملك له فيها ملك غير مالك وأمّا ما مرّ ففيه نظر من وجوه:
الأوّل أنّ قوله إنّ أحدهما لا يدخل في مفهوم الآخر غير مسلم لأنّ الظاهر أنّ الملك بالضم هو التصرّف في كل ما في مملكته كما يرى وبالكسر تصرّف خاص فيما تحت يده فالأول أعمّ وكذا الملك وا اصالك وما ذكره من معنى العموم والخصوص اللغويّ خلاف المتبادر ولا يذهب لمثله من غير داع وان صح في نفسه. . قوله: (والتحقيق إلخ) مؤيد لما قلنا.
والثاتي أنّ قوله من غير نظر إلى استغناء وافتقار فيه نظر لأنّ ذلك من شأن المالك والمملوك فلو نظر إلى ما يخالفه نادراً كان الأوّل كذلك من غير فرق.
والثالث أنّ قوله التصرف بالأمر والنهي إلخ غير مسلم أيضا لأنّ المعروف خلافه، فإنّ الملك يملك بالسلطنة الحصون، والبلاد وغيرها مما لا يعقل، وله التصرّف فيها أيضا فلا وجه لهذا التخصيص فأعرفه. قوله: (والمالك هو المتصرّف إلخ) قيل عليه أنه لا يناسب المقام وإنما يلائم كون المالك أولى لأنّ المالكية سبب لإطلاق التصرّف دون الملكية، ويمكن أن
يقال مراده أنّ المالك هو المتصرّف فىب الأعيان المملوكة له كيف شاء، والملك هو المتصرّف بالأمر والنهي في المأمورين الذين هم رعيتة جميعاً، فيتناول تصرّف الأعيان المملوكة وغيرها من المالكين لها وغيرهم، فالمالك من حيث هو مالك دون الملك، وما ذكر من أنّ الملك هو المتصرف بالأمر والنهي في المامورين بناء على أنّ الملك يضاف عرفا إلى ما ينفذ فيه التصرّف بالأمر والنهي، ولا ينافي كونه أكثر حياطة وتصرفا هذا، وما ذكر إنما هو بالنظر إلى اللفظ والى مجرّد مفهومي الفردين، وأمّا بعد الإضافة إلى الأمور كلها، فكونه مالكاً للأمور كلها في يوم الدين في قوّة كونه ملكاً، ولذا قال مالكاً لأمورهم يوم الثواب والعقاب بعد اختيار الملك.
أقول هذا غريب منه مع دقة نظره، فانّ مراد المصنف أنّ الملك بالكسر مختص بالأعيان
من غير العقلاء كالثياب والأنعام، والرقيق أيضاً له حكمها لالحاقه بما لا يعقل، والملك بالضم مختص بالعقلاء، وتملكهم أشرف وأقوى، ومن يملكهم يملك غيرهم بالطريق الأولى، فكيف يكون هذا مرجحا للمالك، وهذا معنى لغويّ لا عرفيّ كما قيل. قولى: (وقرىء ملك بالتخفيف) أي بفتح الميم وسكون اللام بعد كسرها، ولذا سماه تخفيفاً، فإنّ السكون أخف من الكسر، وفعل المكسور والمضموم عينه يجوز تسكينه قياسا بخلاف المفتوح، وهي قراءة شاذة، وظاهر. أنه ليس لغة أصلية، وقد ذهب بعض أهل اللغة إلى أنه غير مخفف وأنه صفة بزنة صعب أو مصدر وصف به مبالغة كما في القاموس. وقوله. (بلفظ الفعل) أي الماضي المفتوح العين واللام ونصب اليوم وفي الكشاف قرأ أبو حنيفة رضي الله عنه ملك يوم الدين بلفظ الفعل إلخ وفي نشر ابن الجزري القراءات المنسوبة لأبي حنيفة التي جمعها أبو الفضل محمد بن جعفر الخزاعي ونقلها عنه أبو القاسم الهذلي وغيره لا أصل لها، قال أبو العلاء الواسطيّ: إنّ الخزاعي وضع هذا الكتاب ونسبه إلى أبي حنيفة، فأخذت خطوط الدارقطني وجماعة على أن هذا الكتاب موضوع لا أصل له قلت وقد(1/97)
رأيت الكتاب المذكور، وفيه {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء} [فاطر: 28] برفع الهاء ونصب الهمزة، وقد راح ذلك على أكثر المفسرين، ونسبوها إليه، وتكلفوا توجيهها، وأبو حنيفة رضي الله عنه بريء منها انتهى. فإيراد هذه القراءة غير لائق من الشيخين، ومن قال إنها قراءة حسنة لاحتمالها معنى القراءتين لجواز كونه من الملك والملك، وهذه الجملة صفة لموصوف تقديره اله ملك إلخ وهو بدل من المعرفة لوصفه، فقد زاد في الطنبور نغمة وذكر ما يحسن تركه، وقال أبو حيان: إنها جملة لا موضع لها، ويجوز أن تكون حالاً. قوله: (ومالكاً بالنصب على المدح إلخ) وفي بعض النسخ وملكا بدون ألف، وهي قراءة أيضا كما في حواشي الليثي، وقيل نصبه على الحال وفي التيسير أنه على النداء وهو بعيد، ولذا قيل أنّ غيره أولى منه لإفادته علية هذه الصفات للعبادة، فلذا تركه الأكثر، والمراد بالمدح تقدير أمدح ونحوه، وهو في عرف النحاة
في النعت بمعنى القطع إلا أنّ النكرة لا توصف بها المعرفة، فهو تسامح منه أو بناء على ما ذكره بعض النحاة من أنّ النعت المقطوع لا يلزم فيه موافقة منعوتة تعريفا وتنكيراً، وانما يلزم لو تبع منعوته وعلى تنوينه يوم ظرف أو مفعول به، وما قيل من أنه إذا نوّن رفعا ونصبا بألف ودونها منصوب على الظرفية لا غير لأنّ الصفة لا تعمل النصب، واسم الفاعل إنما يعمل بمعنى الحال أو الاستقبال، وصفاته تعالى أزلية ليس بشيء لأنّ نصبه على التوسع فيجوز عطلقا، وأيضا الأزلية لا تنافي العمل لشمولها للحال والاستقبال، وما ذكر غير متفق عليه. قوله: (ويوم الدين إلخ) الدين له معان كالعبادة والملة وسيأتي وقيل بين الدين والجزاء فرق، فإنّ الدين ما كان بقدر فعل المجازي والجزاء أعئم، واختار يوم الدين على غيره من أسماء القيامة رعاية للفاصلة وافادة للعموم، فإنّ الجزاء يتناول جميع أحوال الآخرة إلى الأبد وكما تدين تدان معناه كما تفعل تجازى، وهو من المشاكلة إلا أنه قذم فيه المشاكل وهو جائز وان كان المشهور خلافه كما في البيت، وقد قرّره شرّاج المفتاح في قوله:
أوما إلى الكوماء هذاطارق نحرتني الأعداء إن لم تنحر
وقيل معناه كما تجازي غيرك تجازى، فلا مشاكلة فيه، وهو مثل أوّل من قاله خالد بن نفيل، وله قصة في مجمع الأمثال، وقد تمثل به النبيّ تعليم في حديث رواه أبو الدرداء وهو " البرّ لا يبلى والإثم لا ينسى والديان لا يموت فكن كما شئت كما تدين تدان ") 1 (. وفي التوراة ما معناه كما تدين تدان، وكما تزرع تحصد وفي الإنجيل كما تدين تدان وكما تكيل تكتال، والجارّ والمجرور أو الكاف فيه صفة مصدر مقدّر أي دينا مثل دينك. قوله: (وبيت الحماسة إلخ) أي ومنه بيت الحماسة وأصل معنى الحماسة الشدة والشجاعة وهو اسم الكتاب المعروف لأبي تمام الطائي والشعر المذكور من قصيدة في حرب البسوس لشاعر يسمى الفند الزماني وأوّلها:
صفحنا عن أبي ذهل ولخا القوم إخوان
ولم يبق سوى العدوا ~ ن دناهم كما دانوا
وقوله دناهم جواب لما، والعدوان بضم العين الظلم، وبقية القصيدة، والكلام عليها في
شرح المرزوقي وغيره. قوله: (وأضاف اسم الفاعل إلخ) الظرف إمّا متصرّف، وهو الذي لا يلزم الظرفية، أو غير متصرّف، وهو مقابله، والأوّل كيوم والليلة فلك أن تتوسع فيهما بأن ترفع، أو تجرّأ وتنصب من غير أن يقدر فيه معنى في، فيجري مجرى المفعول به لتساويهما في عدم تقدبر في فيهما، فإذا قلت سرت اليوم كان منصوباً انتصاب زيد في نحو ضربت زيدا ويجري سرت مجرى ضربت في التعدي مجازا، لأنّ السير لا يؤثر في اليوم تأثير الضرب في زيد، ولا يخرج بذلك عن معنى الظرفية، ولذا يتعذى إليه الفعل اللازم ولا يظهر الفرق في الاسم الظاهر، وإنما يظهر في الضمير لأنك إذا أضمرت في قلت سرت فيه، والا قلت سرته كما في بيت الكتاب:
ويوم شهدناه سليما وعامرا قليل سوى طعن النهار نوافله
واذا توسع في الظرف إن كان فعله غير متعد صار متعديا، وان كان متعدّيا إلى واحد
صار متعذيا إلى اثنين(1/98)
كحفرت بئر اليوم. وان كان متعذيا إلى مفعولين فمن النحويين من أبى الإتساع فيه لأنه يصير متعدياً إلى ثلاثة وهو قليل، ومنهم من جوّزه وان كان متعدياً إلى ثلاثة لم يجز، لأنه يصير متعدّيا إلى أربعة ولا نظير له، وحكى ابن السراج عن بعضهم جوازه هذا خلاصة مذاهب جميع النحاة كما في شرح الهادي، وهذا نصه وتحقيقه أنّ التوسع في الظروف جعل نسبة الفعل إليها وتلقه بها باعتبار كونه واقعا فيها بمنزلة نسبته إلى المفعول به الواقع عليه لما بيبهما من الملازمة والمشابهة لأنّ نحو زيداً المفعول، كمحل الفعل لظهور أثره فيه، فالتوسع هنا تجوّز حكمي في النسبة الظرفية الواقعة بعد نسبة المفعول به الحقيقيّ وأثره يظهر في الإضمار كما مرّ، فلذا كان اللازم معه متعدّيا والمتعدي متعديا لأكثر مما كان يتعدى له فالمتعدي قبله باق على حاله، حتى إذا لم يذكر مفعوله قدر أو نزل منزلة اللازم، ومنه عرفت أنّ الجمع بين الحقيقة والمجاز في المجاز الحكميّ ليس محل الخلاف، ولذا قال الرضيّ: اتفقوا على أنّ معنى الظرف متوسعا فيه وغير متوسع فيه سواء لا ما توهمه بعض أرباب الحواشي، وهذا مما يعض عليه بالنواجذ لكثرة جدواه كما ستراه، وفي قوله اسم الفاعل دون مالك مع أنه أخصر دقيقة وهو أنه على القراءة الأخرى إن قيل أنه صيغة مبالغة كحذر كان ملحقا باسم الفاعل، وله حكمه فيدخل فيه على ألطف وجه، وأخصره وإلا فهو إمّا صفة مشبهة أو ملحق بأسماء الأجناس الجامدة كسلطان، فلا كلام في إضافته، قويل إنه تعرّض لإضافة مالك مع أنه غير مختار عنده، لأنه لا إشكال فيه إذ هو صفة مشبهة مضافة إلى غير معمولها،
فإضافته معنوية، فيوصف به المعرفة، وفي إضافة اسم الفاعل خفاء، فلذا تعرّض لتخصيصها، ونص على ظرفية يوم الدين لإفادة أنّ مملوكيته غير حقيقية، واليوم من الفجر الصادق أو من طلوع الشمس إلى الغروب ويطلق على مطلق الوقت قليلاً أو كثيرا، ويوم القيامة حقيقة شرعية في معناه المعروف ومجرى بضم الميم من الإجراء، وهو اسم مكان مجازفي ويجوز فتح الميم أيضاً قيل: وقد يتوهم أنّ مجرى بزنة موسى دون مرض ليناسب الإجراء، ونحن نجعله على وزن مرضى بفتح الميم ليدل على أنّ المفعول به يجري في هذا المكان بنفسه بخلاف الظرف، فإنه يجري بإجراء المتكلم لأنه ليس مذهبه، نعم لو جعل مجرى مفعولاً مطلقاً كان الأظهر جعله كموسى، وأورد عليه أنّ المفعول المطلق من المصدر لم يسمع وليس معه فعل يكون هو مفعوله وهو غفلة منه، فإنه مصرّح بخلافه في متون النحو، وقد مرّ قريبا ما في الكشاف من أنّ متاعا في قوله تعالى {؟ متاعاً إلى الحول} [البقرة: 245] منصوب بمتاع الأوّل. قوله: (يا سارق الليلة أهل الدار) يقال سرقه مالاً يسرقه من باب ضرب، وسرق منه مالاً يتعدى إلى الأوّل بنفسه، والى الثاني بالحرف، وقد يحذف فيتعدى له بنفسه كما في المصباح، وهذا شاهد على أنّ هذه الإضافة للمفعول المجازيّ كما مرّ، وهو بيان لحكمه في نفس الأمر كما بينه النحاة لا تصحيح لوصف المعرفة به، لأنّ المعمولية غير مناسبة له، ولو كان كذلك لم يصرحوا به بعده، فما قيل من أنه جواب لسؤال مقدر، وهو أنّ هذه الإضافة لفظية إذ هي من إضافة الصفة لمعمولها فكيف وصف به المعرفة، فأجيب بما ذكره المصنف رحمه الله لا وجه له، ثم إنك قد عرفت مما تلوناه عليك أنّ هذا المفعول لا بدّ من زيادته على مفعوله الأوّل إن كان متعدّيا وأكثر أرباب الحواشي هنا لم يقفوا على تفصيله فخبطوا خبط عشواء، فمنهم من قال أنّ انتصاب أهل الدار بمقدر أي احدّر، وقد يجعل مفعولاً أوّل لسارق لأنه قد ينصب مفعولين كما مرّ، فتوهم أنه ينافي نصب المفعول، فاحتاج إلى التقدير أو تعديه لاثنين، وكذا من قال إنّ المفعول الذي صرف النسبة مته إلى الظرف في هذا البيت محذوف كما في مالك يوم الدين وأهل الدار غير ذلك المفعول، فإنه يقال سرقه مالاً وسرق منه مالاً كما مرّ وعلى الثاني أهل الدار منصوب بنزع الخافض، فلا يرد أنه ينافي كونه مجازاً حكميا ذكر المفعول لأنّ المفعول المجازيّ لا يجتمع مع المفعول الحقيقيّ، ولا مع مفعول آخر مجازفي، فلا يقال أجرى النهر الماء، ولا أجريت النهر الزرع انتهى. وهو كله من ضيق العطن لما مرّ فتدبر، وقوله قدس سره: من قال الإضافة في مالك يوم الدين مجاز حكمي، ثم زعم أنّ المفعول به محذوف عامّ يشهد لعمومه الحذف بلا قرينة خصوص، ويرد عليه أنّ(1/99)
مثل هذا المحذوف المقدر في حكم الملفوظ فلا مجاز حكمي، كما في نحو واسأل القرية إذا كان الأهل مقدراً انتهى ناشىء من عدم تحرير المبحث، ثم قال وأمّا إضافة ملك فلا إشكال فيها لأنها إضافة الصفة المشبة إلى غير معمولها كما في رث العالمين، فهي حقيقية فإنها تضاف إلى الفاعل دون
المفعول، لأنها لا تعمل النصب أصلاً، واذا توسع فيه نصب الظرف نصب المفعول به أو إضيف إليه على معنى اللام، ولم يعتد بالإضافة بمعنى في، وأن رفعت مؤنة الإتساع وما يتبعه من الإشكال إمّالأنّ الاتساع محقق في الضمائر المنصوبة لأنها لا تنصب على الظرفية، فحمل على ما هو محقق، وامّا لأنّ في الاتساع قخامة المعنى فكان أولى بالاعتبار ومن أثبتها نظر إلى الظاهر من غير تحقيق، وأهل الدار منصوب بسراق لاعتماد. على حرف النداء كقولك يا ضاربا زيداً ويا طالعا جبلاً، وتحقيقه أنّ النداء يناسب الذات، فاقتضى تقدير موصوف أي يا رجلاَ ضارباً انتهى.
وفيه يحث كا وجوه:
الأوّل أن قوله إنّ الصفة المشبهة لا تعمل النصب مخالف لما صرّحوا به من أنها تنصب معمولها على التشبيه بالمفعول به، فإن قيل المراد أنهالا تنصب حقيقة فهذا المفعول هنا غير حقيقيّ أيضاً فكأنه أراد أنها لا تعمل النصب في محل المضاف إليه لأنه فاعل واذا نصب نصب على التسمح، واذا أضيف ردّ لأصله إذ لا داعي لمخالفته، وهذا من الكشف، وعبارته لأنّ الصفة المشبهة لا تعمل النصب أبدا، ألا ترى إلى قولهم إنّ الصفة المشبهة تضاف إلى فاعلها في بحث الإضافة، وهي ناطة ة بهذا.
الثاني أنّ النحاة صرّحوا بأنّ إضافة الصفة المشبهة غير محضة ليست على معنى حرف، والفرق بين معمول ومعمول تحكم محتاج لنقل.
الثالث أنّ ابن مالك لما ذكر الاعتماد على النداء تبعاً لبعضهم اعترضوا عليه بأنه ليس كالاستفهام والنفي في التقريب من الفعل لاختصا عالنداء بالأسماء، فكيف يكون مقرّباً من الفعل.
". فأجيب بأنّ الاعتماد في مثله على موصوف مقذر، واليه جنح قدس سرّه، إلا أن الرضمى قال في باب الموصول إنّ تقدير الموصوف فيه لا سند له في كلام العرب ولا شاهد لهم على ما ادّعوه هنا، وقال بعض حذاق العصر حرف النداء قام مقام أدهو وهذا يكفي في التقرب، ولو أجيز الاعتماد على المقدر لفات شرط الاعتماد، إذ لا بد للصفة من موصوف تجري عليه ملفوظ أو مقدّر وليس بشيء لأنّ كون يا بمعنى أدعو يقتض ي كون المنإدى مفعولاً، والأصل فيه الاسمية فلا تقريب فيه أيضاً، وليس كل مكان يقذر فيه الموصوف نا لم يكن يقتضيه ويتقاضاه، ثم إنه جعل هنا التوسع والإضافة لأدنى ملابسة مجازاً لغويا وبينهما مخالفة ظاهرة وسيأتي تحقيقه في محله.
بقي هنا فائدة وهي أنّ السعد رحمه الله تعالى صرّح بأنّ الإضافة بمعنى في معنوية وتبعه قدّس سرّه، وقد ذكر الرضى أنّ إضافة مالك يوم الدين سواء كانت بمعنى في أو متوسعا فيها
لفظية لأنّ المضاف إليه إمّا مفعول فيه أو به، وعلى أيّ تقدير هو معمول الصفة، ووفق بينهما بأنّ الأوّل محمول على ما إذا كان معنى في مدلولاً للإضافة، ومالك يوم الدين إذا لم يرد به الماضي أو الاستمرار بل الاستقبال وتعمل الصفة في اليوم لا يكون معنى في فيه مدلولاً للإضافة لأنه قد كان حاصلاَ قبلها، وتأثير الإضافة في اللفظ فتدبر. قوله: (ومعناه ملك الأمور يوم الدين) قوله معناه صريح في أنه لم يرد تقدير الأمور في النظم حتى يلزم كون اليوم ظرفا محضا، فيفوت تنزيله منزلة المفعول به وعموم الأمر يفهم من حذف المفعول بلا قرينة الخصوص لتأ هب النفس كل مذهب، أو من جعل مالكيته ليوم الدين كناية عن كونه مالكا للأمر كله لأنّ تملك الزمان كتملك المكان يستلزم تملك جميع ما فيه بناء على أنه لا يلزم في الكناية إمكان المعنى الحقيقيّ، فإنّ الزمان عند بعض المتكلمين معدوم وتملك المعدوم ممتنع، وعلى أنّ الاستلزام بمعنى الانتقال في الجملة لا بمعنى امتناع الانفكاك، فلا يرد منع الاستلزام. قوله: (على طريقة ونادى أصحاب الجنة إلخ) يعني أنّ اسم الفاعل كالمفعول يخالف الصفة المشبهة الدالة على الثبوت، فهو حقيقة في الحال إلا أنه منزل منزلة الماضي في تحقق الوقوع، فاستعير له استعارة تبعية كما في قوله تعالى {وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ} [الأعراف: 44] فإنه بمعنى ينادي، وارادة الماضي منه، ولو بالتنزيل مانعة عن العمل كما أإرادة الحال ولو حكاية كما في قوله تعالى {وَكَلْبُهُم بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ} [الكهف: 8 ا] كافية فيه هذا هو المشهور(1/100)
وقيل إنه حقيقة فيه، وفي الماضي أيضاً، وأمّا في المستقبل فمجاز اتفاقاً ونقل عن المصنف رحمه الله أنه مجاز في الماضي المنقطع لا مطلقا وهو مخالف للمشهور وبنى عليه أن مالك يوم الدين حقيقة عنده، وان لم يعتبر استمراره وكيف يتأتى هذا مع قوله إنه على طريقة ونادى أصحاب الجنة، وهذا مقرّر في الأصول الفقهية، والمعاني وذكره بعض النحاة وفيه إشكال ظاهر، لأنّ الدال على الزمان وضعا بالاتفاق، إنما هو الفعل وما قالوه مخالف له وليس كالصبوح والغبوق، ولذا ذهب بعض الأصوليين إلى أنه لا دلالة له على الزمان أصلاً وفي شرح المصنف أنه اأحق، ثم إنه قيل إذا كان مجازا في الماضي كما في التلويح كان اسم الفاعلى هنا على تقدير كونه بمعنى الماضي، وقد كان مستعملاً في المستقبل مجازا في المرتبة الثانية وهو مما حرّره السيد في تفسير قوله تعالى {وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم} [البقرة: 9] والطيبي.
(أقول) هذا زبدة أنظار من كتب الحواشي من المدققين هنا، وفيه نظر أ 14 أؤلأ فانّ قولهم
إنه في المستقبل مجاز اتفاقا غير صحيح لأنّ من أهل الأصول من ذهب إلى أنه حقيقة في الحال والمستقبل، وأمّ ثانياً فما ادّعوه من أنه مجاز في المرتبة الثانية مع ما فيه من التعسف غير مسلم كما يعلم مما سيأتي في تقريره مع أنّ شرط ذلك المجاز المشهور غير مقرّر هنا، وأمّا ثالثاً فالتجوز المذكور إذا كان كالتجوز في نادي مما ذكروه في أكثر الكتب، وأورد نحوه ابن
هشام في رب من المغني، وقد أورد عليه شارحه أنه يقتضي أنّ المستقبل حينئذ عبر به عن ماض متجوّز به عن المستقبل، وهو مع تكلفه ني صحته تردد لا يخفى وجهه فتدبر.، وهذا مأخوذ من الكشف وسيأتي تحقيقه، وأمّا الإشكال فدفعه أنّ الوصف لما كان موضوعاً لذات متصفة بحدث سواء كان في الماضي أو الحال أو الإسنقبال خصه العرف بأحد أفراده تخصيص الداية فصار حقيقة عرفية إمّا لتبادره منه مطلقا أو في حال العمل لأنه يتمّ به مشابهة المضارع، وقوله في المطوّل إنه حقيقة في الحال بالإتفاق غير مرضيّ وليست دلالة التزام لأنه لا يلزمه زمان معين، وقول نجم الأئمة الرض إنه مدلول العمل كأنه أراد به مدلوله في حال العمل وسيأتي تفسير قوله ة {هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 2] ما يتممه. قوله: (أوله الملك في هذا اليوم إلخ) عطف على قوله ملك إلخ يعني أنه بمعنى الماضي، أو المراد به الاستمرار لا الحال، أو الاستقبال لتكون إضافته حقيقية فيوصف به المعرفة كما فصله المصتف رحمه الله بعد.
(وههنا بحث) مشهور وهو أن الشيخين في سورة الأنعام جعلا إضافة جاعل إلى الليل في
قوله تعالى: {؟ وتجعل الليل سكناً} [الأنعام: 96] لفظية لأنه دال على جعل مستمرّ، وهنا جعلا الإضافة حقيقية إذا قصد الاستمرار، وبينهما تناف ظاهر، وقد وفق بينهما بوجوه منها أنّ الزمان المستمرّ شامل للأزمنة الثلاثة، فيجوز النظر فيه إلى الماضي، فلا يعمل وتكون إضافته حقيقية، والنظر لمقابله فيعمل، وتكون إضافته لفظية فيراعى ما يقتضيه المقام، فروعي الثاني في الأنعام لئلا يلزم مخالفة الظاهر بنصب سكنا بمقدر، وروعي الأوّل هنا لئلا يقطع مالك عن الوصفية إلى البدلية، ولا يأباه ما في نحو المفتاح من أنّ اسم الفاعل يعمل عمل فعله المبنيّ للفاعل إذا كان على أحد زماني ما يجري عليه، وهو المضارع دون الماضي والاسبتمرار، فإنّ اتباع مذهبه غير لازم وسيأتي ما فيه، ومنها أنّ المذكور ثمة عمله دون إضافتة، فلا منافاة بينهما لجواز أن يكون الوصف عاملاً واضافته حقيقية، لأنّ المستمرّ لما احتوى على الماضي ومقابليه روعي الجهتان معاً فجعلت الإضاءة حقيقية نظراً إلى الأولى، واسم الفاعل عاملاً نظراً إلى الثانية، وليس بشيء لأنّ مدار كون إضافته حقيقية، أو غيرها على كونه عاملاً أو غير عامل، ومنها أنّ الاسنمرار ههنا ثبوتيّ وثمة تجددي متعاقب الافراد، فعمل الثاني لورود المضارع بمعناه دون الأوّل، قيل: والمراد بالثبوت ما لم يعتبر معه الحدوث في زمان لا ما ينافي التجدّد حتى يرد أنّ ما وقع في يوم الدين متجدّد، ومالكية الشيء تتوقف على وجوده واستمرارها يكون متجذدا قطعاً، والباعث على اعتبار التجدّد في جاعل الليل لا هنا عدم مخالفة الظاهر فيهما، فاندفع ما قيل أنّ المصنف جعل إضافة {غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ} [دورة غافر: 3] حقيقية لأنه لم يرد بهما زمان مخصوصر، ولا شك أنّ استمرارها تجددئ فإن أريد بمالكية يوم الدين القدرة ضلى تصرّف الإيجاد والإعدام والنقل من صفة إلى صفة، كقا
ذكره الإمام لم يبق خفاء في أنّ استمرار مالك ثبوتيّ، وستراه عن(1/101)
قريب مع ما فيه والملك كالملك قال الراغب: يكون بمعنى قوّة التصرّف، وقدرته ويكون بمعنى التصرّف نفسه، وقال الإمام: هو القدرة على التصرّف، والله تعالى مالك الموجودات أي قادر على نقلها من الوجود إلى العدم، وعلى نقلها من صفة إلى أخرى، ومعنى مالك الملك القادر على القدرة آي كل ما يقدر عليه الخلق فهو بإقداره وملك يوم الدين بإحياء الموتى، وليس هذا كله إلاً لله، فهو الملك الحق، فإن قيل المالك لا يكون مالكاً للشيء إلاً إذا كان المملوك موجوداً والقيامة غير موجودة في اكحال، فالواجب أن يقال ملك يوم الدين لا مالكه، ولهذا قالوا لو قال أنا قاتل زيد بالإضافة فهو إقرار، ولو قال قاتل زبداً بالعمل والتنوين فهو وعيد، قيل هذا حق إلاً أنّ قيام القيامة لما كان محققا جعل كالقائم في الحال، وأيضا من مات فقد قامت قيامته فكانت القيامة حاصلة في الحال، فزال السؤال اتتهى. وقد قيل عليه إنّ اسم الفاعل ليس حقيقة في المستمرّ، فيكون مجازا على المجاز، وإنّ معنى الاستمرار هو الثبات من غير أن يعتبر معه الحدوث في أحد الأزمنة، وذلك ممكن في المستقبل كأنه قيل هو ثابت المالكية في يوم الدين، واذا لم يعتبر في مفهومه الحدوث لا يعمل لانتفاء مشابهة الفعل على أنه إذا إريد بالمالكية القدرة على التصرّف لا يبقى في الاستمرار خفاء كما مرّ. بخلاف ما إذا كان مالك بمعنى ملك إذ لا يراد هنا المالكية المستمرّة الغير الحادثة، وهي تتوقف على وجود المملوك، فلذلك يحتاح إلى التأويل.
(أقول) هذا زبدة ما قرّروه وكرروه وزعموا أنهم حققوه وحرّروه، وللنظر فيه مجال، فإنّ الاستمرار اسنفعال من المرور، ولذا ورد بمعنى الذهاب، وعدم البقاء كما في قوله تعالى: {سحر مستمرّ} [القمر: 2] على وجه، وبمعنى الدرام والثبات، وهو المراد هنا إلآ أنه على وجوهـ، فإنه يكون بمعنى الوجود في جميع الأزمنة الثلاثة، وبمعنى عدم اعتبار الحدوث، وماتارنة الزمان له كالأمور الجبلية وعدم الانقطاع أزلم لأ وأبداً كما في الصفات الذاتية، وجاعل ومالك وصفان ثبوتيان، والجعل من صفات الأفعال، وكذا الملك إن فسر بالتصرّف، فإن فسر بالقدرة، كما هو رأي الإمام كان من الصفات الذاتية، واتصافه تعالى بالثانية أزلاً وأبداً متفق عليه، وأمّ الأولى فذهب الماتريدية إلى أنها مثلها من غير فرق فنقل عن أبي حنيفة رحمه الله أنه قال: كان الله خالقاً قبلى أن يخلق ورازقاً قبل أن يرزق، ووافقهم عليه بعض الأشعرية. قال الزركشيّ رحمه الله في البحر: إطلاق الخالق والرازق ونحوهما فى حقه تعالى قبل وجود الخلق والرزق حقيقة، وان قلنا صفات الفعل من الخلق والرزق ونحوهما حادثة ورده ابن شريف: بأنه ممنوع عند الأشعرية القائلين بحدوثها، وفيه بحث فحينئذ يقال لا شك أنّ النحاة بأسرهم اشترطوا في عمل اسم الفاعل غير صلة أل، وفي كون إضافته لفظية أن يكون بمعنى الحال أو الاستقبال ليتمّ شبه المضارع له، فيعمل عمله ولم يخالف فيه غير الكسائيّ،
فالاستمرار بالمعاني الثلاثة يقتضي عدم العمل وأنّ الإضافة حقيقية لتخلف شرطه، فلا غباو على ما نحن فيه، ولا يأباه كونه من صفاته تعالى مطلقاً، وأمّا ما في سورة الأنعام فمشكل، وان لم يكن له تعنق بالإضافة فإنه لا يصح فيه شرط العمل، أمّا على الأوّل فلأنّ الأزمنة الثلاثة تشمل الماضي، وهو مناف لعمله عند الجمهور، وقد صرّح به صاحب المفتاح كما مرّ، وأما على الثاني فلأنه إما أن يلحق بالصفة المشبهة كما صرّحوا به في طاهر القلب ونحوه، أو بالأسماء الجامدة كما قالوه في نحو والد وكاهل، فلا يعمل النصب أو لا يعمل أصلاً، وكذا هو على الثالث بالطريق الأولى مع أنه برمته لا يتسنى لسلامة الأمر في صفاته تعالى كما سمعته ولك أن تقول المراد به الأوّل ثمة فاستمراره بالنظر إلى الحال المستمرة في المستقبل، ولما كان الحال أجزاء من الماضي والمستقبل شمل حكمه الماضي مطلقاً لعدم الفارق والمضارع يستعمل بهذا المعنى أيضا، وبه صرّج السيرافي في شرح الكتاب فقال يجوز أن يكون جاعل في معنى فعل ماض، ويجوز أن يكون في معنى فعل مستقبل، فإذا جعلته في معنى الفعل الماضي ة فتقديره ومعناه قدّر الليل لهذا، وهو الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه، وهو أظهر الوجهين، وينصب الشمس والقمر بإضمار فعل ومن جعله بمعنى المستقبل، فهو على تقدير يجعل وذلك لأته فعل لم ينقطع لأن الليالي يتصل بها ما قد كان، وما يكون منها(1/102)
فهو بمنزلة زبد ياكل إذا كان في حال كله قد تقضى بعضه وبقي بعضه انتهى. وهذا قريب من الجواب الأوّل إذا دقق فيه النظر، وقال أبو حيان في البحر: اسم الفاعل إذا كان بمعنى الحال، أو الاستقبال جاز فيه وجهان: أحدهما ما قدمناه من أنه لا يتعرّف بالإضافة لأنه منويّ الانفصال، فكأنه عمل النصب والثاني أن يتعرّف بها إذا كان صفة معرّفة فيلحظ أنّ الموصوف صار معروفا بهذا الوصف، فكان تقييده بالزمان غير معتبر، وهذا الوجه غريب لا يعرفه إلآ من له اطلاع على كتاب سيبويه وتنقيب عن لطائفه وقد قال فيه ما نصه: زعم يونس والخليل أنّ الصافات المضافة التي صارت صفة للنكرة قد يجوز فيهن كلهن أن يكن معرفة، وذلك معروف في كلام العرب انتهى. وهو كلام يض، ج إلى تأمّل تامّ. قوله: (لتكون الإضافة حقيقية) قد عرفته وما له وما عليه، فإن قلت: كون الظرف هنا مفعولاً به على التوسع يقتضي أن اسم الفاعل مضاف لمفعوله، وهو يأبى كون الإضافة حقيقية قلت قال الشريف: كون الإضافة معنوية لا ينافي التوشع في الظرف لأنّ المراد أنه مفعول من حيث المعنى لا من حيث الإعراب، أي يتعلق المالك به تعقق المملوكية حتى لو كانت شرائط العمل حاصلة عمل فيه وفيه تأمّل، وقد بقي في كلام شروج الكشاف كلام كنا ذكرناه هنا ثم طويناه لطوله وسيأتي تتمته في الأنعام إن شاء الله. قوله: (وقيل الدين الشريعة إلخ) قال الراغب الدين الطاعة والجزاء واستعير للشريعة، والدين كالملة لكنه يقال اعتبارا بالطاعة والانقياد للشريعة انتهى. والشريعة وضع إلهيّ سائق لذوي العقول باختيارهم المحمود إلى ما هو خير لهم بالذات كذا عرفها الأصوليون، والدين
كما سمعته يكون بمعنى الملة، وهي أعم من الدين لشمولها الدين الحق وغيره، وهو مقول عليهما بالاشتراك اللفظيّ كما قال تعالى: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون: 6] وهو كثير في الفرآن، ومن عرّفه بما عرفت به الشريعة نظر لمعناه الغالب المتبادر منه عند الإطلاق فلا وجه للاعتراض عليه، ومرضه المصتف رحمه الله لأنه معنى مجازيّ، ومحتاج للتقدير عنده كما أشار إليه قوله: (والمعنى يوم جزاء الدين) قدّره لأنه ليس يوماً للتكاليف، وانما هو للجزاء وهو على التفسيرين قيل، وهو على الأوّل بتقدير مضاف آي جزاء أحكام الشريعة أو جزاء قبول الدين وترك قبوله أو جزاء العمل به من الثواب والعقاب، ويجوز أن تكون إضافته لما بينهما من الملابسة باعتبار الجزاء من غير تقدير، وقيل البلاغة تحكم بأولوية عدم التقدير إذ يقال في يوم ظهور سلطان أحد وغلبة ما يتعلق به إنّ اليوم يوم فلان، فبذلك الاعتبار يقال يوم الشريعة أيضا، وقيل أيضاً إن كان المراد بالطاعة العبادة احتاج إلى التقدير، فإن أريد الانقياد المطلق كما فسر به في كتب اللغة، فلا حاجة للتقدير، فإنّ الناس في الدنيا بين منقاد وغير منقاد بخلافهم في ذلك اليوم لانقياد الكل ظاهرا وباطنا وهو وجه وجيه. قوله: (وتخصيص اليوم بالإضافة إلخ) الإضمافة مصدر المبنيّ للمفعول أي إضافة مالك أو ملك إلى يوم الدين مع كونه مالكاً للأيام كلها ولجميع الأمور وهذا هو المراد، وقد قيل إنه محتمل لوجوه أربعة لأنه إمّا بمعنى كونه مضافاً إليه أو كونه مضافا إلى الدين وعليهما مدخول الباء مقصور أو مقصور عليه، وقوله: (لتعظيمه) أي لتعظيم اليوم المستلزم لتعظيم مالكه، ويجوز أن يكون الضمير لله للعلم به من السياق، وقوله: (بنفوذ الآمر فيه) يقال: نفذ الأمر نفوذا ونفاذاً بالذال المعجمة بمعنى مضى وقيل على الفور بلا تردّد وأصله من نفذ السهم في الرمية إذا خرقها، وأمّا نفذ بالمهملة فمعناه فني وانقطع والأمر هنا مقابل النهي، وفي نسخة الأمور بالجمع. قال الليثيّ في حواشيه: الظاهر الأوامر به له أي خص لتفرده بالتصرّف فيه إذ الأمر يومئذ لله الواحد القفار، ولا ملك لأحد سواه بخلاف أيام الدنيا فإنّ لغيره فيها أمراً ونفوذا ظاهراً وان كان المنفذ له في الحقيقة هو الله، وما ادّعى ظهوره بناء على ما تعارفوه، ووقع في كلام الأصوليين من أنّ الأمر بمعنى القول المخصوص يجمع على أوامر، وبمعنى الفعل والشأن على اً مور وهو مما تفرّد به الجوهريّ واللغة وقواعد العربية لا تساعده وفيه كلام طويل، قيل والأحسن أن يقال: إنه. للإشارة إلى المعاد بعد الإشارة إلى المبدأ بقوله رب العالمين، وبما بينهما لما بين النشأتين كأنه قيل الحمد لمن منه الابداء وباحسانه البقاء وبحكمته إليه الانتهاء، وهو غفلة عما بعده، فإنّ ما ذكر مأخوذ من إجراء(1/103)
تلك الصفات كما أشار إليه المصثف رحمه الله، فهذا أتم فائدة، وأطلق الإضافة ليشمل القراءتين وقيل الأوّل علة لكونه مالكاً، وهذا لكونه ملكا كقوله تعالى: {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ} [الفرقان: 26]
واليوم معروف كما مرّ واطلاقه هنا على التشبيه لأنه زمان له مبدأ ومنتهى كما قال تعالى، وإن
يوماً عند ربك كألف سنة، وقيل خص لإفادة ملكه لجميع الأمور لدلالة تملك الزمان والمكان على تملك ما فيه كما مرّ وهو يرجح كون الإضافة لامية لا على معنى في لأنّ كونه مالكا في يوم الدين لا يقتضي العموم كما قاله قدس سرّه. قوله: (وإجراء هذه الأوصاف إلخ) الإجراء هنا مستعار من إجراء الماء إلى ما يستقى به أو من إجراء الوظيفة على من يأخذها بمعنى إيصالها إليه من غير انقطاع، وهو حقيقة عرفية، وإن استعير من الأوّل لجعله صفة تابعة لموصوفها وصار هذا حقيقة عند المصنفين أيضاً، وهذا ملخص ما في الكشاف كما بئنه شراحه.
وقوله من كونه ربا هكذا هو في أكثر النسخ من كونه رباً للعالمين موجداً لهم، وفي نسخة موجدا للعالمين رباً لهم وفي أخرى ربا موجداً للعالمين ربا لهم، وهذه أقلها ولا معول عليها والكل متقاربة ولا خفاء فيه، والتربية دالة على الإيجاد تضمناً أو التزاما فتقديم كونه موجداً رعاية للترتيب في الوجود وتأخيره لتقدم ما يدل عليه رتبة، وقيل إنه لما كانت تربيته للعالمين أنه رقاهم في مدارج الكما اط فإفاضة الوجود واعداد أسباب الكمالات وكان الإيجاد مبدأ التربية جعله كأنه خارج عنها، والأحسن ما قيل من أنّ قوله موجدا وما بعده تفصيل لربوبيته، وقوله رباًيهم تعميم بعد تخصيص لمزيد الاهتمام لأنّ الكمال الأوّل الذي هو أساس جميع الكمالات لا ينبغي إخراجه من مفهوم الربوبية مع أنّ ربوبيته لهم بإضافة سائر الكمالات لا تستلزم كونه موجداً لهم، ولا حاجة إلى أن يقال إنه مبنيّ على كون الرب بمعنى المالك وموجداً، وربا خبراً كون، أو أحدهما خبر والآخر حال. قوله: (منعماً عليهم إلخ) هذا تفصيل لمعنى الرحمن الرحيم فقوله: بالنعم كلي من فحوى كونه المعطي للجلائل والدقائق، فإنه عبارة عن العموم والشمول كما مرّ، وفصل عمومه وفسره بقوله ظاهرها وباطنها. وقوله:) عاجلها وآجلها) من كونه رحمن الدنيا والآخرة، فلا وجه لما قيل من أنّ ما ذكر فهم من قرينة ذكرهما في مقام المدح وانّ الأنسب ذكر جليلها وحقيرها بدل قوله ظاهرها وباطنها، فإنه مذكور في تفسير الرحمن الرحيم، وقد تبع الزمخشريّ في الظاهر والباطن، وزاد عليه العاجل والآجل تفسيراً لهما، فإن النعم الدنيوية ظاهرة والأخروبة باطنة، ومما هو مشهور معروف أنّ الدنيا ظاهر والآخرة باطن قال تعالى: {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [صورة الروم: 7] ولم يعد لفظ من كونه كما في الكشاف لأنّ المجموع عنده وجه واحد وإعادته تشعر بالاستقلال وقال قدس سرّه: إنّ الوصف الأوّل متعقق بالإبداء والثاني والثالث بالبقاء والرابع بالإعادة وهو ثماأ هر، وليس مبنياً على أنه فسر الرت بالمالك كما توهم. قوله:) مالكاً إلخ) الثواب والعقاب من الدين كما مرّ، وهو تفسير له على القراءتين لأنّ كلاً منهما يؤدّي مؤدّى الآخر إذ لا منافاة بينهما ألا ترى قوله تعالى: {مَالِكَ الْمُلْكِ} [آل
عمران: 26] فليس على إحدى القراءتين كما توهم حتى يقال إنّ المناسب لما اختاره أن يقول ملكاً الأ أنه اختاره لكون أصل التفسير عليه وقوله للدلالة خبر قوله إجراء. قوله: (للدلالة على أنه الحقيق إلخ) في الكشاف، وهذه الأوصاف التي أجريت على الله سبحانه بعد الدلالة على اختصاص الحمد به، وأنه به حقيق في قوله الحمد لله دليل على أنّ من كانت هذه صفاته لم يكن أحد أحق منه بالحمد والثناء عليه بما هو أهله انتهى.
فقال الفاضل الليثيّ رحمه الله إنّ قول المصئف رحمه الله للدلالة إن كان مصدر الدليل بمعنى الحجة وافق ما في الكشاف، والاً وهو الظاهر خالفه لأنّ إفادة الحمد لله الحصر محل خفاء واشتباه، فإنّ المقيد للحصر إمّ اللام الجنسية أو اللام الجارّة وارادة الجنس من حيث هو لا تفيد الحصر في مثل المنطلق زيد وفي مثل الحمد لله إفادته الحصر تتوقف على استلزام استحقاقه تعالى حمداً باعتبار عدم استحقاق غيره له باعتبار آخر وهو محل نظر على أنّ المختار حمل الحمد على الجنس من حيث هو، وأمّا اللام الجارّة ففي مواضع من الكشاف ما يدل على إفادتها الحصر دلالة واضحة وبه صرّح المحقق السعد والسيد السند، وقالا لام الاختصاص(1/104)
للحصر وقوله قذس سرّه في الحمد لله: دل بلام التعريف والاختصاص على أنّ جنس الحمد مختص به تعالى دال على أنّ لام التعريف للجنس ولام الاختصاص للحصر، ولم يرد أنهما دليلان على الحصر بناء على أنّ تعريف الجنس يفيد الحصر لأنّ إفادته على تقدير الحمل على الاستغراق، والحمد محمول على الجنس نفسه، ولو كان لام الجنس مفيداً للحصر كلام الاختصاص أفاد قوله الحمد لله قصر الحمد على المختص بالله غير متجاوز إلى المختص بغير. أو غير المختص به وهو غير مراد، وذكر السعد رحمه الله في قوله تعالى: {الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً} [المائدة: 48، أنّ دلالة لام الجرّ على الاختضاص الحصري ممنوع، وذكر الشريف مثله في تقديم المسند من المفتاح، ويعضده أنها لو كانت للحصر كان نحو ما المال إلأ لزيد مفيداً لحصر المال في الاختصاص بزيد لا حصره في زيد لحصوله قبل ورود النفي والاستثناء، وقولك الحمد لله مفيداً لقصر الحمد على الاختصاص بالله وكذا قوله الحمد لله على تقدير الحمل على الاستغراق، أو كانت اللام فيها مجردة عن معنى الاختصاص للتعقق الخاص مجازاً والأوّل إفادة ما ليس بمقصود، والثاني يستلزم اشتمال الكلام على المجاوز وزيادة ما والاً وتقديم ما حقه التأخير لإنادة معنى يحصل بدودن ارتكاب شيء منها، وقال الزمخشريّ في سورة التغابن في قوله تعالى: {لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ} [التغأبن: ا] قدّم الظرفان ليدل بتقديمهما على معنى اختصاص الملك والحمد بالله وهو يدل على أنّ هذا الحصر غير مستفاد من الكلام عند التاخير والآ لم يكن التقديم للدلالة عليه ولم يكن للتقديم وهو خلاف الأصل وجه إلاً أنه لما دل كلامه في مواضح اخر على إفادة اللام الحصر. قال في الكشف: أراد تاكيد الاختصاص المدلول عليه بلامي التعريف والتخصيص، ووجه
إفادته تأكيد ذلك الاختصاص مع أنّ المستفاد من التقديم هو حصر الملك والحمدش الاختصاص بالله المدلول عليه باللامين أي اختصاص الملك والحمد بالله تعالى أنّ حصرهما في الاختصاص بالله يتضمن إثبات الإختصاص به تعالى لهما، وهو حاصل على تقدير التأخير أيضا ونفى مقابله عنهما، وهو يتضمن إثبات الاختصاص، فإن نفى أحد الوصفين المسلم س ثبوت أحدهما على ما هو مقتضى القصر يستلزم ثبوت الآخر سيما إذا كان أحدهما سلبا للآخر، لكن الظاهر أنّ هذا الحصر غير مقصود، ويعضدّه جعل الرضى إضافة العام للخاص مطلقا واضافة المظروف للظرف كضرب اليوم بمعنى اللام المفيدة للاختصاص واللام في نحو لأوّل ليلة باقية على اختصاصها الأصلي، والأوّل اختصاص الفعل بالزمان لوقوعه فيه، والثاني اختصاصه بوقوعه بعده، وبالجملة فالظاهر أنّ زيدا ثبت له القيام، وقائم متساويان في عدم إفادة القصر، وأما عدم عدهم اللام من طرق الحصر كسائر الحروف المشعرة به فلأنه في اصطلاحهم كما في شرح المفتاح جعل أحد طرفي النسبة مخصوصا بالآخر بطرق معهودة واللام ليست مفيدة لجعل أحد إلخ لكونها جزءاً من أحد الطرفين، ولذا لم يعد لفظ الاختصاص، ونحوه من طرق القصر، والحق أنّ معناها التعقق الخاص، وأنها قد تفيد الحصر بحسب المقام وقرائن الحال، وتمثيل النحاة شاهد صدق عليه، فحيث كان المقام مقتضيا للحصر، ولم يكن فيه ما يدل عليه غيرها نسب القصر لها، وحيث لم يقتض ذلك أو كان فيه ما هو أدل عليه منها استراحت من الحصر، فلذا ترى العلامة الزمخشريّ نسبه لها في موضع دون موضع من غير تعارض في كلامه كما يوهمه كلام هذا الفاضل رحمه الله، وأمّا كون طرقه خارجة عن طرفي النسبة طارئة عليهما فليس بلازم، ألا ترى أنّ ضمير الفصل منها، وقد قيل إنه مبتدأ نعم ما يدل عليه بصريح الوضع كلفظ خص وحصر لا يعد منها لأنه من وظائف اللغة دون المعاني الناشئة عن خواص التراكيب كما لا يخفى، وقد حرّرنا هذا المبحث بما لا مزيد عليه، فليكن على ذكر منك إذا مست الخاجة له. قوله: (لا أحد أحق به منه) أراد بقوله إنه الحقيق الحصر والمفيد له تقديم المسند إليه أو تعريف الخبر على أنّ المراد به الاستغراق، وظاهر عبارة الكشاف تدلّ على أنّ الحمد حقيق به لا بغيره، حيث قال بعد الدلالة على اختصاص الحمد به وأنه به حقيق، ويفهم من كون المحامد حقيقة به كونه حقيقا بها.
فلم تك تصلح إلا له. ولم يك يصلح الآلها فلذا قال: لم يكن أحد أحق منه يعني أنه
أحق من كل أحد ونسب الزمخشريّ الدلالة إلر، الحمد لله(1/105)
والمصتف نظر إلى أنّ جملة الحمد إنما تدل على ثبوت المحامد له تعالى على قصر الحقيقة، فنسب الدلالة إلى إجراء الأوصاف، واكتفى بثبوت الحقيقة، أوّلاً نظراً إلى جل النظر، ثم ترقى فقال لا أحد إلخ. ثم ترقى في النظر فالأوّل تدافع بين قوله أنه الحقيق النافي استحقاق غيره بتعريف الخبر وقوله لا أحد أحق إلخ المفيد لمشاركة غيره في الاستحقاق لكن الحصر ادّعائي بتنزيل استحقاق الغير منزلة العدم،
وقيل إنه لم يرد به الحصر لئلا ينافي كونه أحق ولئلا يصير قوله بل لا يستحقه إلخ. لغوا وكون تنزيل استحقاق الغير منزلة العدم بالنسبة إلى استحقاقه لا يستلزم عدم استحقاقه في الحقيقة لا يضرنا إذا دققنا النظر فيه، وقيل: إنه لم يكتف بالقصمر المستفاد منه فزاد هذا للتاكيد والمبالغة ولما فهم من ظاهر نفي الأحقية عن الغير أصل استحقاقه نفاه بقوله بل لا يستحقه على الحقيقة سواه، وقال: على الحقيقة، لأن استحقاقه في الجملة ثابت لا ينكر، وقال قدّس سرّه. المناسب لكون الحمد حقيقا به دون غيره أن يقال: لم يكن غيره حقيقاً بالحمد لأن قوله أحق يدل على أنّ غيره حقيق في الجملة، فكأنه لما أشار أوّلأ إلى انحصار الحمد فيه تعالى نبه هنا كلى أنه ادعائي على ما سبق من التأويل إيماء إلى مذهبه انتهى. والمصنف لما تبعه في أوّل كلامه أضرب عن ذلك بما يدل على أنّ الحصر حقيقي لا ادعائي إيماء إلى مخالفته وفيه نظر، ولا أحق منه كقولهم لا أفضل في البلد من زيد ومعناه أنه أضمل من الكل بحسب العرف إذ يستفاد منه نفي المساواة، وفي شرج المقاصد في بحث تفضيل الصحابة السر فيه أنّ الغالب فيما بين كل شخصين الأفضلية، / أو المفضولية لا التساوي، فلهذا نفى الأفضلية دون المساواة، وانما لم يستحقه سواه على الحقيقة لما قيل من أنّ الأفعال الاختيارية للعباد مخلوقة له تعالى ولا تأثير بل لا مدخل لاختيارهم فيها أصلاً، فلا يستحقون الحمد عليهيا ومعنى الاستحقاق المنفي كونه حقا لازما لهم، وأها الاستحقاق بمعنى ترتبه عليها عقلاً وعادة، فلا نزاع فيه كاستحقاق الئواب، ولا يلزم من نفي الاستحقاق بالمعنى المذكور كون حمد غيرهم مجازاً لأنه لغة الثناء على الجميل الاختياري أي المنسوب إلى الاختيار ونسبته إليه بكونه مسبباً عنه، وله مدخل في حقيقته أو مقارنته له، وأمّا كونه لا اختيار لغير الله عند أهل الحق فيختص الحمد به حقيقة لاختصاصه بالجميل الاختياري، فيلزم أن يكون إطلاقه في حق غيره مجازا ففيه أنه إن أريد نفي الاختيار الذي له مدخل في الفعل، فانمكاؤه مسلم لكن لا يتجه القول بمجازية الحمد إذ أطلق على غيره تعالى، فإنهم قائلون بوجود الاختيار للعبادو بانتساب أفعال العباد إلى الاختيار بالمقارنة، وفي شرح المواتف ليس لقدرة البشر تأثير في أفعالهم بل الله أجرى عادته بأن يوجد في العباد قدرة، واختياراً فإن لم يكن هناك مانع أوجد فيه فعله المقدور مقارنا لهما وساغ إطلاق الاختياري في كلام أهل الحق على أفعالهم، واد أريد نفي الاختيار مطلقا فممنوع.
(أتول) ما ذكره في معنى الاستحقاق تساعده اللغة.
قال في المصباح: قولهم هو أحق بكذا له معنيان أحدهما اختصاصه بذلك من غير مشاركة نحو زيد أحق بماله أي لا حق لغيره فيه. والثاتي أن يكون أفعل تفضيل، فيقتضي اشتراكه مع غيره وترجيحه عليه قاله الأزهريّ واستحق فلان الأمر استوجبه قاله الفارابي
وجماعة انتهى. وكذا ما حكاه من كون حمد العباد ليس بمجازي الأ أنّ الذي نراه أنّ كلام المصنف أظهر مما يذكر فتدبر فيما بعده. قوله: (فإن ترتب الحكم إلخ الما ذكر أنه الحقيق ولا أحق منه، ثم أضرب عن الأحقية إلى نفي استحقاق الغير رأسا أشار إلى وجه ذلك، والحكم هو ثبوت الحمد لله المعلوم من جملة الحمد لله، والترتب المذكور معنويّ فإنك إذا قلت كرم هذا الرجل العالم فهم منه أنّ سبب إكرامه علمه، ولذا قيل إنّ في قوله تعالى: {مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} [الانفطار: 6] تلقينا للحجة وهو من ألطف الكرم، والوصف وإنّ تأخر عن موصوفه لفظاً، وكذا عن الحكم عليه فهو مقدم عليه رتبة لتقدم العلة على المعلول والسبب على المسبب بالذات والاضتبار فلا يقال إنه ليس من ترتب الحكم على الوصف بل الأمر بالعكس كما توهم وهذا ما وعده قبل بقوله كرّره للتعليل على ما سنذكره، والظاهر أنّ كل واحد من هذه الأوصاف المذكورة علة لاستقلاله في إيجاب الحمد عقلاً كما ستراه لا المجموع كما قيل، وقد قيل عليه إنّ انحصار العلة في المذكورات إنما يتم إن كان الحكم ثبوت(1/106)
جنس الحمد على وجه الاسنحقاق الحقيقي، والأ فالعلل كثير وفيه نظر وأيضا الإشعار بالعلية لا يفيد حصر الاستحقاق فيه تعالى، وأنما يفيد حصر العلية في الوصف وقد ردّ هذا بأنّ ثبوت العلية مع عدم ظهور علة أخرى يقيد الظن بحصر العلية، وهو كاف في مثله قيل: ولاحتياح ما اختاره المصتف إلى العناية قال في الكشاف: بعد الدلالة على اختصاص الحمد به، فجعل الاستحقاق مستفاداً من اللامين، وفيما مرّ غني عنه، فإن قلت كيف يصح ذلك وله تعالى صفات ذاتية وفعلية موجبة للاستحقاق غير ما ذكر قلت أجابوا بأنّ الصفات الذاتية لا تصلح لأن تكون محموداً عليها بالحقيقة لكونها غير اختيارية، وأما الصفات الفعلية الموجبة للحمد، فليس شيء منها خارجا عما ذكر فيما قيل وقيل: للحصر جزآن، وهذا دليل جزء منه ويدل على عدم استحقاق الغير بمفهوم المخالفة لانتفاء تلك الأوصاف فيه، وفيه أنّ ما بعده يدل على عدم اعتبار المفهوم أوّلاً.
(أقول) ولا يخفى عليك أنا سواء قلنا كل من هذه الأوصاف أو المجموع علة للحمد
سواء كان جنسه أو جميع إفراده، وكل منها لا يوجد في غيره تعالى لزم أن لا يوجد الحمد في أحد سوى الله المحمود في كل أفعاله وأنه لا يستحقه غيره حقيقة، وفرق بين هذه الحقيقة والحقيقة اللغوية التي يذكرها النحاة، وسائر أهل العربية واللغة، فإنها مبنية على المتعارف في التخاطب، ويسمى السبب العادي فيه فاعلاً حقيقياً كمن يقوم به الفعل والوصف دون من أوجده، والمتكلمون والمشايخ لا يطلقون الحقيقي على غير من أوجده ولعدم الفرق بيت الفاعلى اللغوي والفاعل في نفس الأمر وبين الحقيقتين غلطوا في أمور كثيرة كما نبه عليه الأبهري في شرح العضد، وكل جميل هو فعل الله وهو الفاعل له دون من عداه فكيف يحمد غيره عليه أيحبون اًن يحمدوا بما لم يفعلوا، وهو له في الدنيا والآخرة فالحمد لله حمداً يليق
بجنابه. قوله: (وللإشعار من طريق المفهوم) معطوف على قوله للدلالة، وفي نسخة أو بدل الواو إشارة إلى أنّ كلاً منهما نكتة مستقلة، والإشعار على ما ذكره أهل اللغة قاطبة الإعلام يقال أشعرته الأمر وأشعرته به والمصنفون يستعملونه لما ليس بصريح فهو عندهم كالإيماء والإشارة وهو الذي عناه المصتف رحمه الله، فكأنه في اصطلاحهم من أشعر الهدي إذا جعل فيه علامة فهو استعارة مشهورة بمنزلة الحقيقة قيل: ولا يخفى أنّ مؤدّى الإشعار المذكور هو مؤدّى الدلالة السابقة فعطفه عليه ليس بظاهر، وزيادة قوله من طريق المفهوم غير مقيدة لزيادة تسوّغ العطف، فإن فيه تعليق الحكم بالأوصاف المذكورة أيضاً وما ذكر من أن ترتب الحكم إلخ وجه لإفادته انتفاء الحكم عند عدمه، ويمكن أن يقال إنه جعل الإشعار مستندا أيضا لعلة مفهوم المخالفة، وهي أن تعليق الحكم بالوصف يفيد انتفاءه عند عدمه والدلالة بوجه آخر من الدلالة وأيضاف لم يجعل متعلق الإشعار مجرّد استحقاق الغير للحمد بل عدم استحقاقه للعبادة بالطريق الأولى انتهى. وهذا الأخير هو الذي عوّل عليه بعض المتأخرين، فقال إنه ذكر للإجراء فائدتين الآولى أنّ الكلام بمنطوقه دليل على اختصاص الحمد به بواسطة إشعاره بعلية تلك الأوصاف للحكم وبالعلم الضروري بانتفائها عما سواه تعالى. والثانية أنه بمفهوم المخالفة دال على اختصاص العبادة به تعالى لأنّ من لم يتصف بها لا يليق به الحمد فعدم كونه أهلاً لأن يعبد أولى، فالأوّل تأييد لما قبله، وهذا تمهيد لما بعده، فيأخذ الكلام بعضه بحجز بعض، وسياق الكلام لا يلائمه، وتصريحه بالدلالة في الأوّل، وبالمفهوم في الثاتي ينادي على أنّ مراده أنّ الأوّل مبنى إفادته لحصر الحمد، أو استحقاقه فيه تعالى بواسطة الألف واللام ولام الاختصاص، ودلالته على انتفائه عما سواه من توابع المنطوق الملحق به والإجراء تأييد له، أو حجة وبرهان عليه وهذا مأخوذ من طريق المفهوم، فلذا جعل الأوّل دلالة وهذا إشعارا، وصرّح بأنه مفهوم لا منطوق، ودلالة فتدبر. قوله: (لا يستأهل لأن يحمد إلخ) بالهمزة والألف المبدلة منها استفعال من الأهل أي لا يستحق وشوجب وقال الحريري: إنه بهذا المعنى مولد لم يسمع من العرب والمسموع استأهل بمعنى أخذ الإهالة وهي الشحم المذاب، وليس كما زعم فقد قال الأزهري: خطأ بعضهم من يقوله، فأمّا أنا فلا أنكره، ولا أخطىء من قاله لأني سمعت أعرابيا فصيحاً من بني أسد يقول لرجل شكر عنده يداً أولاها تستأهل أبا حازم بمحضر(1/107)
جماعة من الأعرأب فما أنكروها وأنكره المازني، وقال يستأهل لا يدل على معنى يستوجب لأنّ معناه أن يطلب أن يكون من أهل كذا، وقد بسطنا الكلام عليه في شرح الدرّة، وقوله فضلا مصدر يتوسط بين أدنى وأعلى للتنبيه بنفي الأدنى واستبعاده عن الوقوع على نفي الأعلى، واستحالته عادة وفيه كلام طويل في شروح الكشاف والمفتاح، وصثف فيه ابن هشام رسالة مستقلة، وقوله ليكون بالياء التحتية أو التاء الفوقية أي لتكون الأوصاف المذكورة أو كل واحد منها أو أجزاؤها، وأفرد دليلا لأنه على وزن فعيل أو في عداد الأسماء أو جعلها كشيء
واحد، وهذا مما زاده المصئف رحمه الله على الكشاف. قوله: (فالوصف الأوّل إيخ) قيل عليه إنّ- كلامه أوّلاً يشعر بأنّ الأوصاف المذكورة علل الحمد ويشعر بعليتها ترتب الحكم جمليها وهذا يدل على أن الموجب للحمد مدلول الوصف الأوّل وذكر الأوصافي الأخر لفوائد أخر فكأنه جعل ما يفهم من الأوصاف الآخر مندرجا في معنى الرب إجمالاً اكن اندراج غقاب الكافر في معنى الرب غير ظاهر.
وأجيب بأنه يوفق بينهما بأنّ علية امملربوبية مشروطة بالاتجتيإرأ المستفاد منها، فإن نظر إلى
ذات العلية خكم بأنها الربوبية وإن نظر إلى أنّ الذات بدون الشرط لا تؤثر قيل: كل واحد منهما علة، لأنّ له مدخلاَ في العلية، فأوّل الكلام إجمال وآخره تفصيل، وما مرّ من الجواب فيه ما فيه وعدم اندراج عقاب الكافر مع تضمن المالك له يجاب عنه بأنّ تربيته للمؤمن لا يجابه زيادة الشكر ومعرفة قدر الإيمان ونحوه، وقيل: خذا البيان الموجب لثبوت. المحمد فلا ينافي ما تقدم من أنّ علة حصره هو المجموع، وقيل هذا شروع في بيان فائدة كل واحدة منها بعد بيان فائدة مجموعها، ولذا فرعه بالفاء التفصيلية لتفرّع التفصيل على الإجمال كما بينه المصتف رحمه الله.
(أقول) قد جعلوا الفاء- هنا. تفصيلية، ولما فيه من الخفاء قيل ما قيل والظاهر أنها فصيحة جواب لسؤال نشا مما مرّ، فكأنه لما بين أنّ استحقاق جميع المحامد مختص به، وأنّ إجراء تلك الصفات مجموعها أو كل واحدة منها أو الأعمّ منهما دال على علته منطوفاً ومفهومأ قيل هل هذا واجب وما يوجبه فأجيب بما ذكر فهي واقعة في جواب شرط تقديره إذا اختص به، ووجب فالمبين لإيجابه ما ذكر من الصفات أيضاً ففيها مع ما سبق من الفوائد بيان لما يوجبه أو هي تفريعية كأنّ ذلك لما كان ثابتاً للذات بالذات قبل وجود الكائنات تفرع عليه وجوبه عليهم بعد البروز لساحة الوجود فالصفة الأولى لبيان الموجب، وما بعدها تحقيق للإيجاب، فإنه لو كان صدوره عنه بإيجاب، أو وجوب عليه لم يتحقهق الاستحقاق أو كماله لأنه يكون كالملجأ فلا يحمد ويحمد من ألجأه؟ كما قيل:
وكنا كالسهام متى أصابت ~ مراميها فراميها أصابا
ومن وجب عليه دين فأدّاه لا يحمد أو لا يعتدّ بحمده، ولما تمت الفائدة بما ذكر بين أنّ
فائدة ما بعده من تحقيقه تحقيقه للاختصاص الحث على أداء ما وجب بوعده ووعيده، وهذا أمر آخر غير ماتقدم أتمّ فائدة وأحسن عائدة.
واعلم أنّ الإمام رحمه الله قال: إنّ من ذهب إلى وجوب الشكر عقلاَ قبل مجيء الشرع استدل بقوله الحمد لله لأنه يدل على أنّ الحمد حقه وملكه على الإطلاق فيدل على ثبوته قبل الشرع ولأنه قال رب العالمين، وقد ثبت أنّ ترتب الحكم على الوصف المناسب يدل على
كون الحكم معللاً بالوصف فلما أثبت الحمد لنفسه ووصفه بكونه رباً للعالمين رحمانا رحيما بهم مالكاً لعاقبة أمرهم في القيامة دذ على ثبوت الحمد له قبل الشرع وبعده، فكأنّ المصثف رحمه الله أشار بما ذكر إلى الردّ عليه، فإنه بيان من الله لإيجابه فهو سمعيّ لا عقليّ فما ذكر دليل عليه لا له فتدبر. قوله:) متفضل بذلك) المذكور من الإيجاد والتربية، ودلالتهما عليه لأنّ المراد بالرحمة في حقه تعالى أثرها من التفضل والإحسان الاختياريين وضمير يصدر راجع إلى ذلك، وانتفاء الإيجاب بالذإت يلزم من كونه مختارا إن فسر الاختيار بصحة الفعل والترك، فإن كان المختار من إن شاء فعل وان شاء ترك لم يلزمه إنتفاء الإيجاب، ففيما ذكره المصنف رحمه الله نظر، وجوابه يعلم مما مرّ، وهو رذ على الفلاسفة وتحقيقه في الأصول.
وقوله أو وجوب عليه ردّ على المعتزلة فإنهم يزعمون وجوب أمور عليه تعالى كثواب المطيع ورعاية الأصلح، وما قيل في بيانه من أنّ الأعمال(1/108)
السابقة من العبد توجب على الله الآلاء اللاحقة به كما قال تعالى: {لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم: 7] وما أورد عليه من أنّ المعتزلة لا يقولون بالوجوب عليه تعالى في غير الثواب والعقاب، كما بين في الكلام ليس بشيء، وقوله قضية مصدر أو اسم مصدو بمعنى القضاء كالعطية بمعنى العطاء والقضاء بمعنى الأداء، كما في قوله تعالى: {فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاَةَ} [النساء: 03 ا] أي أديتموها وقيل الحكم.
وفي المصباج إنّ استعمال الفقهاء القضاء لما يفعل خارج الوقت مقابلاَ للأدأء اصطلاح مخالف للوضع اللغويّ، وهو تعليل للوجوب يعني أنّ الوجوب عندهم لقضاء حق الأعمال السابقة من العبد وأدائها، وهو منصوب على أن مفعول لأجله لقوله وجوب، وقيل ليصدر من حيق التعلق بالوجوب واللام متعلقة بقضية، ونصبه مع أنه ليس فعلاً لفاعل الفعل المعلل لأنه في الحقيقة علة لما هو مضاف إليه الوجوب معنى، وهو الإيجاد والتربية على أنّ الرضمى لم يرض اشتراط ذلك، والمراد بقضاء سوابق الأعمال الإتيان بمثلها من الجزاء، وهذا علة لبعض ما يوجبونه عليه، ومعنى الوجوب عليه اللزوم في موجب الحكمة بحيث يحكم العقل بامتناع عدم صدور الفعل منه، وقد يضم له أنه لو لم يفعل يستحق الذم بمخالفته الحكم، وانتفاؤه يلزم منه كونه متفضلاً كذا قيل، وأورد عليه أنه يصير المعنى حينئذ ليس إيجاد. وتربيته لقضاء سوابق الأعمال، وهو وان تصوّر في بعض أفراده القريبة لا يتصوّر في الإيجاد أن يكون لقضائها، وقد علمت سقوطه مما مرّ وان كانت العبارة لا تخلو عن قصور مّا. قوله: (حتى يستحق به الحمد) هو غاية لقوله متفضل بذلك مختار ومستقبل بالنسبة إليه، فيجوز فيه الرفع والنصب كما في قوله تعالى: {وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ} [البقرة: 214، وقيل
حتى استئنافية ويستحق مرفوع مسبب عما قبله وقصد به حكاية الحال الماضية وفيه نظر أي لو لما يكن متفضلاً مختاراً لم يستحق الحمد كما مرّ، وهو في الحقيقة متعلق بالتفضل دون الاختيار إذ من أدّى ما يجب عليه لا يحمد أو لا يعتد بحمده، ولذا قال الفقهاء إنّ الهبة بعوض بيع معنى، فلا يرد عليه أنّ الوجوب بالمعنى المذكور يجامع القدرة على الترك والتمكن منه نعم الوجوب بمعنى منافي الاختيار ينافي الاستحقاق، وليس كالوجوب على العبد كما قيل لا لما ذكر من أنّ هذا الوجوب بمعنى عدم قدرته على الترك إذ هو واقع كما عرفت بل لأنّ الوجوب الشرعي عدم منافاته للاختيار ظاهر جدا، فلا يناسب التشبيه إلا أن يكون باعتبار إرادة المبالغة في عدم استلزام الوجوب عليه لسلب الاختيار، وقد عرفت ما يرده واذا ظهر المراد سقط الإيراد. قوله: (لتحقيق الاختصاص) أي اختصاص الحمد بالله وعدم قبول مالكية يوم الدين للشركة فيه ظاهر بخلاف الربوبية والرحمة فإنها بحسب الظاهر بتصوّر فيها الشركة، وان كانت بالنظر للمعنى المراد كما مرّ لا تقبلها أيضاً واختصاص الحمد لاختصاص المحمود به أو عليه، وتضمين إلخ بالجرّ معطوف على تحقيق، والوعد والوعيد من الدين بمعنى الجزاء، وما قيل عليه من أنّ اختصاص الأمور به في يوم الدين لا يوجب اختصاص الحمد لجواز أن يحمد على غير ما في هذا اليوم وأنه لا دخل لتضمين الوعد والوعيد فيما هو بصدده من بيان وجه إجراء الصفات عليه، فكان ينبغي أن يقول واجراء هذه الصفات للدلالة إلخ وللحث على الحمد والنهي عن الإعراض ليرتبط الكلام لا يرد لأنّ الحمد على ما في غيره، واختصاصه أيضاً علم من رب العالمين وقرينيه، وأكد بهذا الظهور اختصاصه، ووعد الحامدين يقتضي استحقاق الحمد وينبه على لزومه فمناسبته للمقام ظاهرة، وعبر بالتضمين لما فيه من زيادة الوعيد مع أنه وعد للمؤمنين أيضا كما قيل:
مصائب قوم عند قوم فوائد
وقوله للمعرضين أي عن حمده أو عنه وعن عبادته. قوله: (ثم إنه لما ذكر إلخ) ثم للعطف مع مهلة، وهي هنا للانتقال من كلام إلى آخر، ولما كانت العبادة أهمّ عطفها بها للدلالة على تفاوت الرتبة أو هو إشارة إلى بعد طريق الخطاب عن طريق الغيبة والضمير للشأن وخالف الزمخشريّ في تقديم ما ذكر لأنه المقصود بالذات قيل: ولو قال بدل ذكر حمد كان أولى وهو اشتغال بما لا يعني وتميز صفة لصفات وعظام جمع عظيمة هنا ويكون جمع عظيم، وجمع عظم أيضاً كما صرّح به صدر الأفاضل، فمن قصره على الأخير فقد وهم وتعفق عطف على تميز بحذف العائد، ووقع في بعض النسخ بدون(1/109)
واو فهو جواب لما وعلى الأوّل خوطب جوابها وفي نسخة فخوطب بالفاء، وباء بذلك سببية أو ا-لية فالإشارة للتميز أو للفظه قيل والذكر
يحتمل أنه ذكر الله ذلك حكاية عن العباد تعليما لهم، فحصول التميز والتعلّق على ظاهره لكن قوله خوطب ليس على ظاهر إذ هو تعالى ليس بمخاطب في تلك المرتبة بل المراد منه حكاية خطابه تعليماً، ويحتمل أن يراد ذكر العباد ذلك في مقام الحمد والقراءة كما علمهم، فحصول التمييز والتعلق بالنسبة إلى من عنده التمييز والعلم باعتبار التفات جديد لازم للقراءة والخطاب على ظاهره، وقيل وجه سببية الذكر والوصف المستلزمين للتميز والعلم التنزيل الغائب بواسطة أوصافه المذكورة التي أوجبت تميزه وانكشافه حتى صار كأنه يبدل خفاء غيبته بجلاء حضوره منزلة المخاطب في التميز والظهور فيصح إطلاق ما هو موضوع للمخاطب عليه، وظاهره أنّ الحق سبحانه لا يخاطب حقيقة ولا يظهر وجه لصحته كيف ولا يثترط في الخطاب إلاً السماع لا المشاهدة والعيان، والآ يلزم أن لا يخاطب الأعمى حقيقة ولا من هو خارج الدار من في داخلها ولم يقل به أحد انتهى.
(أقول) هذا مشكل من أهمّ المهمات بيانه وكلام كتب المعاني كلها أو جلّها ناطق بمثل باردة، فلا بدّ من بيان معنى الخطاب المدلول عليه بضمائره ونحوها فإنه إن قيل إنّ حقيقته توجد إذا اجتمع المتخاطبان بجث يرى كل منهما الآخر، ويسمعه لم يكن خطاب الداعين لله حقيقيا، وكذا خطاب الأعمى ومن هو خارج الدار ونحوه والبدإهة شاهدة بخلافه، فإن لم يشترط ذلك لزم أنّ كل من وجه له الخطاب غائبا كان أو حاضراً مخاطب حقيقة، وفساده ظاهر فلا بدّ من بيان المراد منه حتى تتميز حقيقته من مجازه، والذي لاح لي بعد إمعان النظر فيه أنّ كل شيء له تحقق في الخارج ونفس الأمر وتحقق ذهناً باعتبار دلالة العبارة عليه، ولا تلازم بينهما فتحقق الخطاب في الأوّل بحيث يعدّ حقيقة يكفي فيه سماع المخاطب ووجوده عنده، وإن لم يحوهما مكان واحد ولم يركل منهما الآخر فالعبد يخاطب الله في دعائه حقيقة لسماعه دعاءنا وهو معنا، وأمّا باعتبار استعمال ما وضع للخطاب كضمائره، فإن وقع ذلك ابتداء في حال التكلّم كان مدلولها مخاطباً حقيقة، والاً فلا، وإن وقع في أثناء الكلام ينظر لما قبله فإن كان لفظاً موضوعاً للمخاطب، فكذلك هو حقيقيّ حتى يعد ما خالفه التفاتا، والاً فهو مجازي، لأنّ الحكم وقع عليه أوّلاً من غير دلالة على توجه النفس إليه توجه الخطاب سواء كان كذلك أو لا حسبما يقتضيه الحال ألا ترى الرجل بين يدي الملك لمهانته يخاطب بعض خدامه، ويقول أنا راج أن يحسن إليّ السلطان ويخلصني بعدله من العدوان، ولا يعدّ التعبير بالغيبة فيه مجازاً والتفاتاً مع أنه بمسمع منه ومرأى، وهكذا جرى القياس ومتعارف الناس، ولما كان الغالب المتعارف كون المخاطب حاضراً محسوساً وغيره ليس كذلك جعلوه معيار الحقيقة والمجاز، ولما ذكر الله هنا بطريق الغيبة جعل إجراء الأوصاف المعينة لتميزه في قوّة التعبير عنه بما يدل على الخطاب، ولما لم يكن كذلك حقيقة جعل التفاتا وهو الذي عناه ذلك الفاضل، فبيته وبين ما أورد عليه بعد المشرقين، وقد وضح الصبح لذي عينين، وهذا سرّ حديث:
" الإحسان: أن تعبد الله كأنك تراه " كما قال الشاعر:
واني لأرجو الله حتى كأنما أرى بجميل الظن ما الله صانع
قوله: (أي يا من هذا شأنه إلخ) فيه إشارة إلى المرجح بعد المصحح، وكأنّ الخطاب المعلل بهذه الفوائد مسبب عما تقدّم، ولما كان في إطلاقه عليه ملاحظة لتلك الأوصاف صار الحكم مرتبا على الوصف المناسب، فكأنه قيل يا من اتصف بتلك الأوصاف، وتميز بها نعبدك فيشعر من طريق المفهوم باختصاص العبادة به، فيكون ما خوطب به أدل على الاختصاص من إياه نعبد لاشتراكهما في الدلالة على الاختصاص بالتقديم، واختصاص الأوّل بالدلالة من طريق المفهوم أو المعنى ليكون الخطاب أدل على الاختصاص من الغيبة، لأنه ربما يفهم من الصفات السابقة معه لا به، وقال قذس سرّه: حاصل ما ذكر أنه لو قيل إياه نعبد واياه نستعين كما يقتضيه السياق ظاهراً لم يكن فيه دلالة على أنّ العبادة له والاستعانة به لأجل اتصافه بتلك الصفات المجراة عليه وتميزه بها عن غيره، لأنّ ذلك الضمير(1/110)
راجع إلى ذاته بمقتضى وصفه، وليس فيه ملاحظة لأوصافه، وان اتصف بها فالحكم متعقق بذاته فلا يفهم منه تسببه عرفا، واذا قيل إياك بدله نزل الغائب بواسطة أوصافه المذكورة الكاشفة له كما مرّ منزلة المخاطب في التميز والحضور، وأطلق عليه ما هو موضوع له، ففهم منه عرفا أن ذلك لتميزه بتلك الصفات ونظير إياك هنا اسم الإشارة الآتي في قوله أولئك على هدى، فإثبته له في الخطاب بطريق برهاني بخلاف الغيبة فلذا قال أدل. قوله: (نخصك بالعبادة إلخ) قال الفاضل الليثي: فيه تصريح بفائدة التقديم والخطاب والباء داخلة على المقصور لأنّ الاختصاص والتخصيص والخصوص يقتضي بحسب مفهومه الأصلي دخول الباء في المقصور عليه كقوله مخصوص بالمعبود يالحق، وهذا عربي كثير إلآ أن الأكثر في الاستعمال دخولها على المقصور ووجهه استعمال ماذة التخصيص في معنى التمييز أو التميز لكون تخصيص شيء بآخر في قوّة تمييز الآخر به أو تميز. به، وقد تبع في الشريف قدّس سرّه كما حققه في حواشيه على المطوّل حيث قال معنى نخصك بالعبادة نميزك، ونفردك من بين المعبودين فتكون العبادة مقصورة عليه تعالى، وكذأ قوله واختص بوا أي ميز المندوب عن المنادي بوا فتكون مختصة بالمندوب وكذا قوله تعالى: {يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاء} أسورة آل عمران سا الآية: 74] وبالجملة تخصيص شيء بآخر في قوّة تمييز الآخر، وأمّا أن يجعل التخصيص مجازاً عن التمييز مشهوراً في العرف حتى صار كأنه حقيقة فيه، وأمّا أن يجعل من باب التضمين، فيلاحظ المعنيان معا وتكون الباء
المذكورة صلة المضمن، ويقدر للمضمن فيه أخرى فيقال ونخصك بالعبادة مثلاً نميزك بها مخصصين إياها لك (وههنا بحثان (: الآوّل أنّ المصرّح به في كتب اللغة أنّ الباء تدخل على المقصور قال في الأساس خصه بكذا فاختص به، وفي مفردات الراغب: التخصيص تفرّد بعض الشيء بما لا يشاركه فيه الجملة، وكذا قال الجوهرفي خصه بالشيء فاتفقوا كلهم على تفسيره بالتفرّد والتميز وعلى إدخال الباء على المقصور، وهو الوارد في القرآن المجيد كقوله تعالى: {يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاء} [آل عمران: 74] فما الداير إلى ارتكاب التجوّز والتضمين مع ما في الثاني من التكلّف المخالف للمعهود في أمثاله وهو يكون لازما ومتعديا لمفعول بنفسه وللآخر بالباء، وقد يتعدى لمفعولين كقوله:
إن أمر أخصني عمدا مودّته
ويحتمل الحذف والإيصال، فقول الشارح المحقق: المعنى نخصك بالعبادة أي نجعلك منفرداً بها لا نعبد غيرك وهذا هو الاستعمال العربي ولو قال: نخص العبادة، لكان استعمالاً عرفياً انتهى هو الصواب فلله دره والعجب من المدقق بعدما سمع هذا قال ما قال {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ} [يونس: 32] الثاني: القصر هنا حقيقيّ، فلا يتوهم أنه يكون لردّ خطأ المخاطب، ولا مجال له هنا لأنه في القصر الإضافي ومن لم يفرق بينهما فقد سها، وأعجب منه ما قيل إنه اعترض بأنّ المعنى نخص العبادة، وطلب المعونة بك لا نخصك بالعبادة، وكأنه نظر إلى أنهم علموا أنّ ذلك يكون لغير الله أو له ولغيره فقال: نخص العبادة بك قصر قلب على الأوّل، وافراد على الثاني، فوجب حمل كلام المصتف على القلب، وفيه أن ردّ الخطأ في القصر على المخاطب وهو هنا محال، وأجيب بأنه على سبيل التعريض، وهو غير صحيح كما سيأتي، وهو من قصر الفعل على المفعول قلبا لكن النظر في دفع الخطأ لم يندفع انتهى. قوله: (والترقي من البرهان إلى العيان) الترقي في أكثر النسخ بدون لام، ووقع في بعضها وللترقي مصرحا بها كما في بعض الحواشي، فلذا احتمل أن يكون معطوفا على قوله ليكون أو على الاختصاص، أو على أدل وهذا أبعدها، ولما ذكر أوّلأ المصحح للخطاب والالتفات أتبعه بالمرجح له، وهو أنه أدل على الاختصاص به تعالى كما مرّ، وفيه الترقي المذكور مع فوائد ونكات أخر مفصلة في المعاني قيل وكون ما خوطب به أو الخطاب أدل على الترقي، والانتقال محل نظر، فالوجه أن يعطف على مدخول اللام فيكون ين فوائد الخطاب لكن ترتبهما عليه ليس في الوجود الخارجي بل في الوجود العلمي فإن الترقي والانتقال المذكورين متقدمان على الخطاب، وهذا إذا أريد به الحالتان الداعيتان للخطاب، وأمّا إذا أريد بهما الترقي، والانتفال من حيث التعبير بالعبارة الدالة على الحالين فليسا بمتقذمين عليه، والعيان بكسر العين وفتحها خطأ هو مشاهدة العين(1/111)
والذات. قوله: (والانتقال إلخ) قيل
ب / بم ا / م 1
حضوراً بنى أوّل الكلام على ما هو مبادىء حال العارف من الذكو والفكر والتأمّل في أسمائه، والنظر في آلائه، والاستدلال بصنائعه على عظيم شأنه، وباهر سلطانه ثم قفي بما هو منتهى أمره، وهو أن يخوض لجة الوصول، ويصيره من أهل المشاهدة، فيراه عيانا إنه عطف تفسيريّ وليس المراد بالشهود الرؤية الحقيقية لعدم وقوعها وإن لم يمتنع بل التوجه التامّ لحضرة القدس والإعراض عما سواه:
وثمّ وراء الذوق معنى يدق عن مدارك أرباب العقول السليمة
وقوله بنى أوّل الكلام إلخ جملة مستأنفة استئنافا بيانياً، أو مفسرة ومبينة لما قبلها فلذا لم تعطف، وقيل: الأولى أن يذكر في مبادي حاله تهذيب الظاهر بوظائف العبادات المستفاد من الحمد إن كان بمعناه العرفي ودلالتة إن حمل على المعنى اللغوي لأنّ من عرف أنّ جميع النعم له يلزمه أن ث ممره بجميع الموارد وقيل أواسط حاله الإيمان بالشرع وما لا طريق للعقل إليه إلاً من جهة الوحي رجاء وعده ووعيده وقد تضمنه {مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ} فلم يفت النظم أواسط حاله وفيه نظر إذ كيف يكون الإيمان بالشرع من أواسط حال العارف بل أواسط حاله تزكية البطن عن الأخلاق الرديئة، والملكات الذميمة وتخلقه بأضدادها والجتة والنار صورة تلك الأخلاق، فمالك يوم الدير، فيه إشارة إليها لكن لا كما توهم، ويمكن أن يقال التحلي بالأخلاق الفاضلة والتخلي عن الملكات الرديئة من مقتض الرحمة الرحمانية لأنه من النعم الجليلة الدنيوية، وجزاؤه في الآخرة من مقتضيات الرحمة الرحيمية فالاسمان يشعران بأواسط حاله، وهذا كله تكلف ناشىء من الغفلة عن قوله العارف فإنه في اصطلاحهم من أشهده الله ذاته وصفاته، وأسماءه وأفعاله والعارف تكفيه الإشارة. قوله: (من الذكر إلخ) الذكر من الجلالة أو من جملة الحمد لله لأنه ذكر للأوصاف الجميلة إجمالاً والفكر في الآفاق والأنفس من رب العالمين، والتأمّل التدبز دماعادة النظر مرّة بعد أخرى في الشيء حتى تعرفه من الأمل، وهو الرجاء كأنك كنت ترجوه والآلاء بالفتح والمد جمع إلى بكسرة الهمزة وفتحها مع فتح اللام، وئبسكونها بمعنى النعمة من الرحمن الرحيم، والاستدلال من مالك يوم الدين، والظاهر أنه من الرحمن الرحيم أيضاً والمشاهدة المذكورة من الخطاب والصنائع جمع صنيعة وهي الإحسان، أو صناعة والتعبير بالتأمّل في الأسماء والنظر في الآلاء ظاهر، والباهر من بهر بمعنى فضل وغلب، السلطان الحجة والولاية والسلطنة وكل منها صحيح هنا، وهو إشارة إلى مقامات العارفين في السلوك والسير إلى الله فتدبر. قوله: (ثم قفى إلخ) قفى بالتخفيف بمعنى تبع وبالتشديد بمعنى أتبعه كأنه جعله خلف قفاه.
قيل وفيه بحث أمّا أوّلاً فلأنّ منتهى حال العارف مرتبة حق اليقين والظاهر أنّ ما ذكره
إشارة إلى مرتبة عين اليقين وامّ ثانياً فلما ذكره بعض العلماء من أنّ الخطاب لا يقتضي إلآ كون المتكلم بحيث يراه المخاطب، ويسمع صوته لا كونه رائيا للمخاطب ومشاهداً له، وفيه نظر لأنه لا يفهم من كلام المصتف استدعاء الخطاب مطلقا شهود المتكلم بل يفهم أنّ الخطاب
الواقع بعد إجراء الصفات الموجبة لليقين يوجب كون المخاطب كأنه مشاهد ولا شبهة في صحة هذا الكلام، والجواب عن الأوّل أنّ هذا منتهى السير إلى الله فلذا عدت منتهى حاله، وفب نظر لا يخفى، ومنتهى اسم مفعول أو مصدر ميمي بمعنى النهاية والخوص الدخول في الماء، والمجة الماء المجتمع من البحار ونحوها وهو استعارة تمثيلية أو يخوض استعارة تبعية بمعنى يشرع، واللجة ترشيح له أو لجة الوصول من قبيل لجين الماء، والمراد من العين الذات المعاينة، والأثر فسر هنا بالخبر، وهو المناسب للسمع ولمراده إذ المراد الدعاء بأن يكون ممن كثف له الغطاء فلم يقف على السماع والمعروف في الأثر المقابل للعين أنه بمعنى العلامة، وفي المثل لا أثر بعد عين، والمناجاة المكالمة، والشفاه مصدر بمعنى المشافهة. قوله: (ومن عادة العرب إلخ) قدّم المصنف رحمه الله نكتة إلالتفات الخاصة بهذا المقام لشدة ارتباطها بتفسيره، وللاهتمام بها.
3 أشار إلى فائدته العامّة من جهة المتكلم وهي التصرّف في وجوه الكلام واظهار القدرة عليها، ولذا قال ابن جني رحمه الله إنه شجاعة العربية، وأردفها بفائدة أخرى من جهة الكلام، وهي التطرية أي تجديد أسلوبه وابراز عرائس المعاني في حلة بعد حلة، وفائدة أخرى من جهة السامع وهي تنشيطه وله فوائد خاصة بكل مقام كما أشار إليه أوّلاً بقوله ليكون إلخ. والتفنن ط لإفتنان الإتيان بفنون، وأنواع من الكلام(1/112)
وهو أعمّ من ألالتفات لشموله اختلاف وجوه الإعراب في النعوت المقطوعة، والأسلوب بضم الهمزة الطريق والفن ويصمح إرادة كل وإحد منهما هنا، والتطرئة بهمزة بعد الراء أو ياء فهو مهموز وغير مهموز وقيل بمعنى التجديد، إمّا من الطراوة أو من طرأ بمعنى ورد وحدث، وفي المصباح طرو بالواو بزنة قرب فهو طريّ بين الطراوة وطري وزان تعب لغة، وطرأ فلان علينا يطرأ مهموز بفتحتين طرو أصلع فهو طارىء، وطرأ الشيء يطرأ أيضا طرآنا مهموز حصل بغتة وأطريته بالياء والهمزة مدحته اهـ وتنشيط السامع ترغيبه في الاستماع واذهاب كسله وملله من قولهم رجل نثيط أي طيب النفس للعمل، والمصنف رحمه الله جعل التنشيط علة للعدول، والمفهوم من كتب المعاني أنه غرض التطرية والأمر فيه سهل. قوله: (فتعدل من الخطاب إلخ) فأقسامه ستة وهي ظاهرة، وهو عند السكاكي مخالفة الظاهر في التعبير عن الشيء بالعدول عن إحدى الطرق الثلاث إلى غيرها تحقيقاً أو تقديرا، ومنهم من اشترط سبق تعبير بطريق آخر معدول عنه وهو ظاهر كلام الممتف، ويقرب منه التجريد المذكور في البديع، والفرق بينهما بين في محله، ووضع الظاهر موضح المفمر قد يكون التفاتا وقد لا يكون، وهل الالتفات حقيقة أو مجاز والحق أنه قد يكون جمقة وقد يكون مجازاً، ولذا ذكر في المعاني، وقيل إنه حقيقة حيث كان معه تجريد
وهو كلام سطحيّ، وقد اتفقوا على أنّ ما نحن فيه من الالتفات، وأنّ فيه التفاتاً واحداً، وفي شرح التلخيص للسبكي فيه نظر لأنّ الالتفات خلاف الظاهر مطلقاً، فإن كان التقدير قولوا الحمد لله إلخ ففي الكلام المامور به التفاتان أحدهما في الجلالة، وأصله الحمد لك لأنه تعالى حاضر والثاني في إياك لمجيئه على خلاف أسلوب ما قبله، وان لم يقدّر كان في الحمد لله التفات من التكلم للغيبة، لأنه تعالى حمد نفسه، ولا يكون في إياك التفات لتقدير قولوا معها قطعاً، فيلزم الشيخين العلامة والسكاكيّ أحد أمرين، إمّا أن يكون هنا التفاتان أو لا يكون التفات أصلاَ إن قلنا برأي السكاكي، وهو مقتضى كلام الزمخشريّ لجعله في الشعر ثلاث التفاتات، وان قلنا برأي الجمهور ولم نقدّر قولوا فلا التفات لأنا نقدر قولوا إياك نعبد فإن قدر قولوا قبل الحمد لله كان فيه التفات واحد في إياك، وبطل قول الزمخشريّ: إنّ في الشعر ثلاث التفاتات اهـ وهذا كلام مشوّس، ويعلم حاله مما قرّروه، فلا يلتفت له فتدئر. قوله: (وبالعكس كقوله تعالى إلخ) متعلق بجميع ما سبق وسكت عن قسمي العدول من الخطاب إلى التكلم، وبالعكس قيل لقلة وقوعهما في التراكيب، أو لأنهما يعلمان بالمقايسة إلى ما ذكر بل بالأولى إذ القرب بين التكلم والخطاب أشد قيل: وفي الوجهين نظر إذ الأوّل غير ظاهر، والثاني لا يختصى بالوجهين، وكون القرب بين التكلم والخطاب أشد من قرب التكلم من الغيبة غير ظاهر، وقد يفال. المصمراع الأوّل من الأبيات إشارة إلى النقل من التكلم إلى الخطاب على طريقة السكاكي، وانكاره القرب بين التكلم والخطاب سهو أو مكابرة، فإنّ بينهما تلازماً ظاهراً بخلاف ائثكلم والغيبة. قوله: (وقوط امرىء القيس إلخ) قائله امرؤ القيس بن عانس بالنون والسين المهملة ابن المنذر بن امرىء القيس بن السمط الكندي على الأصح المعروف عند الرواة، وهو صحابيّ وفد كلى النبيّ صلى الله عليه وسلم وأسلم وكان نزل الكوفة، وفي الصحابة عذة رجال يسمون بامرىء القيس غيره، وقيل: إنّ قائله امرؤ القيس بن حجر الكندي الشاعر الجاهليّ المعروف وهذا هو الثابت في كتاب أشعار الشعراء الستة، وعليه صاحب المفتاح وأكثر أهل المعاني، ونص ابن دريد على أنه وهم.
وقال ابن الكلبي: هو لعمرو بن معد يكرب في قتله بني مازن بأخيه عبد الله واخراجهم
عن بلادهم وأثمد اسم موضع وهو بفتح الهمزة وسكون المثلثة وضم الميم وروي فتحها أيضا، وروي بكسر الهمزة والميم كاسم الكحل والعائر كالعوار القذى الرطب الذي تلفظه العين في الوجع، وبمعنى الرمد أيضأ ويطلق على محله فيحتاج إلى تقدير أي ذي الجفن العائر، والمراد
تشبيه نفسه بذي العائرللأرمد في القلق والاضطراب، وتشبيه ليلته بليلته في الطول، والخليّ الخالي من الحزن وأبو الأسود صاحب له نعاه أو من بلغه خبر أبيه، وأبو الأسود كنيته واسمه ظالم بن عمرو من بني الجون أكل المرار، وهو(1/113)
ابن عمّ امرىء القيس رثاه بهذه القصيدة، وقيل أبى أب مضاف لياء المتكلم والأسود صفته وهو أفعل من السودر أو السواد، والنبأ الخبر أو خبرس فيه فائدة عظيمة وعما له شالط فهو أخص مته، والشعر هو-هلى ا:
تطاول ليلك بالإثمد ونام الخليّ ولم ترقد
وبات وباتت له ليلة كليلة ذي العائر الأرمد
وذلك من نبا جاءني ونبئته عن أبي الأسود
ولو عن نبأ غيره جاءني وجرح اللسان كجرح اليد
لقلت من القول مايلايزال يؤثرعني يدالمسند
بأقي علاقتنا يزعمون أعن دم عمروعلى مرثد
فإن تدفنوا الهداء لانخفه وأن تبعثوا الداء لا نقعد
وإن تقتلونا نقتلكم وان تقصدوا الدم لم نقصد
متى عهدنا بطعان الكما ة والمجد والحمد والسودد
وملء القباب وملء الجفان والنار والحطب الموقد
وأعددت للحرب وثابة جواد المجيئة والمورد سبوخاجموحاواحصارها كمعمعة السعف الموقد
ومطرد كرشاء الجزو رمن جلب النخلة الأجرد
وذي شطب غامض كله إذاصاب بالعظم لم يتأد
ومسدودة السبك موضونة تضاءل بالطرّ بالمبرد
تفيض على المرء أردانها كفيض الأنيئ على الخدخد
وهي مشروحة في كتب الشواهد، وقال قدس سرّه: اعلم أنّ قوله تطاول ليلك إن حمل
على الالتفات لم يكن تجريداً وان عد تجريداً كقوله:
وهل تطيق وداعا أيها الرجل
لم يكن التفاتا لأنّ مبنى التجريد على مغايرة المنتزع للمنتزع منه حتى ترتب عليه ما قصد
به من المبالغة في الوصف، ومدار الالتفات على اتحاد المعنى ليحصل به ما أريد من إرادة إبراز المعنى في صورة أخرى مغايرة لما يستحقه بحسب الظاهر، فالقول بأنّ أحد أقسام التجريد، وهو مخاطبة الإنسان نفسه التفات مما لا يعتد به، وهذا لم يرتضه بعض الفضلاء وقال فإن قيل مبنى الالتفات على ملاحظة اتحاد المعنى، والافتتنان في التعبير عن معنى واحد
بطرق مختلفة، ومبنى التجريد على اعتبار التغاير ادّعاء قلنا يكفي في الالتفات، والافتتان اتحاد المعنى في نفس الأمر، ولا ينافيه اعتبار التغاير ادّعاء ألا ترى أنّ صاحب المفتاج جوّز أن يكون فائدة الالتفات في مثل تطاول ليلك أنّ المتكلم لشدّة المصيبة وقع شاكاً في اتحاده مع نفسه، فأقامها مقام مكروب يخاطبها فلا ينافي الالتفات أن تعتبر المغايرة أيضا بحيث ينزع منه مصاب آخر نعم لا تلزم المغايرة والانتزاع في الالتفات.
(وأنا أقول) الظاهر أنّ المقصود بالذات في التجريد التغاير لابتنائه على المبالغة الحاصلة
به، وفي الالتفات الاتحاد لابتنائه على تلوين الخطاب المقتضي لاتحاد المعنى، فلا ينافي إيهام خلافه لنكتة ألا ترى أنّ صاحب المفتاح لما نزله منزلة المصاب جعل ذلك لذهوله، فكأنه لو لم يقدر نفسه ذاهلا لا يتأتى التغاير ثم إنه نقل عن المصنف رحمه الله هنا أنه قال إنّ ليلك بفتح الكاف وان كان خطابا لنفسه لأنه أقامها مقام مكروب ذي حرقة، أو مقام المستحق للعقاب على ما صرّح به في المفتاج بدليل الخطاب في لم ترقد، فإنه مذكر والاً قيل لم ترقدي بإظهار الضمير وقيل عليه إنّ ضعف هذا الدليل غنيّ عن التفصيل وسيأني تحقيقه وما فيه، وقد اختلفوا في عدد الالتفات في هذه الأبيات فعذها الزمخشرقي ثلاثة في ليلك لأنّ حقه أن يقول ليلي، وفي بات لعدوله إلى الغيبة بعد الخطاب، وفي جاءني لعدوله بعدها إلى التكلم، واكثر على(1/114)
أنّ فيها التفاتين فقط، وأنّ الأوّل ليس بالتفات بل تجريد، وقيل إنّ الثاني والثالث ذلك وجاءني ورجحه في الإيضاح أو ذلك وخبرته ورجحه في عروس الأفراح، وقيل فيه أربع التفاتات، وقيل هي سبع في ليلك وترقد وبات وله وذلك وجاءني وخبرته. قوله: (وأيا ضمير منصوب إلخ) ذكر صاحب البسيط فيه أقوالاً سبعة وبينها وأدلتها فذهب الزجاج إلى أنّ أيا اسم مظهر مبهم مضاف للضمائر بعده، والخليل إلى أنه ضمير مضاف للضمير بعده، وكون الضمير يضاف ردّه النحاة، وذهب ابن كيسان وغيره إلى أنّ أياً دعامة وما بعدها هو الضمير، وقوم إلى أنّ إياك بجملته ضمير وآخرون إلى أنّ أيا هو الضمير وما بعده حروف مبنية للمراد به وهو الأصح وقد ارتضاه المصتف رحمه الله تعالى. قوله: (كالتاء في أنت إلخ) أمّا الكاف في أرأيتك بمعنى أخبرني فحرف بلا خلاف في المشهور وأما تاء أنت ففيها خلاف، فمنهم من ذهب إلى أنها ضمير وما قبلها دعامة فلا يصح جعلها مقيسا عليها، وان كان ذلك مما سبق المصتف رحمه الله إليه ابن الحاجب ووجهه أنّ الخلاف فيها ضعيف لم يعتدوا به، ولذا قال في شرح اللب أنها حرف بالإجماع. قوله: (واحتج إلخ) أي الخليل احتج لما قاله من أنه ضمير مضاف
بسماع إضافته للاسم الظاهر، وجره له وكون الضمائر لا تضاف غير مسلم عنده أو هو يقول لا مانع من إضافة هذا النوع منها لأنّ الأحكام العامّة قد تتخفف في بعض الصور كتخلف لدن عن جر غدوة وتخلف لولا عن وقوع الضمير المرفوع بعدها، فكذا هذا تخلف عن حكم المضمرات في منع الإضافة. قوله: (أيضاً واحتج إلخ) قال سيبويه: وحذثني من لا أتهم عن الخليل أنه سمع أعرابيا يقول فذكره، والشوالت بالتشديد جمع شابة كدواث جمع دابة الفتية من النساء بالغ في التحذير، فأدخل أيا على الثواب كأنه توفم أنّ كلا منهما محذر من الآخر أي عليه أن يقي نفسه عن التعرّض للشواب، ونهين عن التعرّض له فعليهن مثل ذلك وهذا شاذ لا يرد على المخالف واعترض عليه بأنه وان كان شاذاً لا يقاس عليه، لكنه لا ينكر شهادته لإضافة أيا إلى ما بعده ولا يصح دفعه بأنه لم يصدر عمن يعتد به مع نقل سيبويه السابق، ومعناه نهيه إذا بلغ هذا السن عن الشواب لأنهن يرغبنه في الجماع وهو مفن له، وفي حواشي الكشاف لابن الصائغ من رواه السوآت بالمهملة والتاء الفوقية جمع سوأة وهي الفعل القبيح فقد صحف ولا خصوصية لبالغ الستين بذلك، وردّ بأنه رواه كذلك صاحب البسيط وقال: إنه أبلغ في التحذير من الجماع عند الكبر، والمعنى ينبغي للشيخ العفة عن كل قبيح، وقال الزركشيّ رحمه إلله تعالى أنه يبطل دعوى التصحيف فيه وفي إياك لغات فتح الهمزة وكسرها وتشديد الياء وتخفيفها وابدال الهمزة هاء وواواً. قوله: (والعبادة أقصى غاية الخضوع) أقصى بمعنى أبعد والمراد البعد المعنوي ففيه إستعارة ويجوز أن يكون تمثيلا والغاية النهاية ولما كان الخضوع والتذلل نهايات ولفظ الغاية شامل لها لكونه اسم جنس مضافا صح إضافة أقصى إليه، كأنه قيل أقص غاياته كما قال قدس سرّه: فاندفع أنّ الغاية والنهاية لا تنقسم لأقصى وأقرب وأوسط إلأ بتجوّز، وليس هنا قرينة تدل عليه، وأنّ أفعل التفضيل لا يضاف إلاً إلى ما هو بعضه مما يصدق عليه، فهو إمّا مفرد نكرة نحو أفضل رجل، أو معرفة مجموعة، أو في معناها نحو البرني أفضل التمر على ما قرّر. النحاة واسم الجنس المضاف هنا في معنى الجمع لكن قيل عليه إنه لا وجه للفرق بينه، وبين اسم الجنس المعرّف باللام إذا لم يقصد به العهد، وفيه نظر فتامّل. قوله: (ومنه طريق معبد إلخ (المذلل هنا إمّا من الذل بالضم بمعنى الإهانة أو من الذل بالكسر وهو السهولة واللين ومعبد كمكرّم بمعنى مذلل بالفتح في كل منهما لكثرة وطئه، وثوب ذو عبدة بفتحتين أي متانة ومثله يكثر لبسه فيذلل، وقيل لما فيه من اللين أو هو ضد والصفاقة بالصاد المهملة والفاء والقاف ضد السخافة، وفي القاموس ثوب سخيف قليل الغزل. قوله: (ولذلك إلخ) 3 ي لكون معنى العبادة ما ذكر اختص بالله سواء كان ذلك بالتسخير أو بالاختيار كما فصله الراغب والاستعمال استفعال من العمل، وفي المصباح استعملته جعلته عاملا واستعملته سألته أن يعمل، واستعمدت الثوب ونحوه أعملته فيما يعدّ له اهـ فالعبادة لما كانت
أقصى غايات الخضوع لم تستعمل إلآ في الخضوع لله(1/115)
المستحق لذلك، لأنه المولى لأعظم النعم، كالوجود والحياة وما يتبعهما، وأورد عليه أنّ دليله لا يفيد انحصار أقصى غاية الخضوع في الخضوع دلّه إلاً أن يقال أنّ ما لا يقع في موقعه غير معتبر، فهو بمنزلة العدم فناسب أن لا يستعمل ذلك لغيره، وهو منتقض بقوله تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ} [الأنبياء: 98] وغيره مما تكرّر في القرآن، ولسان الشرع إلاً أن يقال العبادة عند عدم التقييد بالمفعول، لا تستعمل إلاً في الخضوع له تعالى، ونقل عن المصئف رحمه الله هنا حاشية لا يرد عليها هذا، وهي قوله أي لا يجوز شرعا ولا عقلاً فعل العبادة إلآ لله تعالى لأنّ المستحق لأقصى غاية الخضوع من كان موليا لأعظم النعم من الوجود، والحياة وتوابعهما، ولنهلك يحرم السجود لغير الله قعالى لأن وضع أشرف الأعضاء على أهون الأشياء، وهو التراب غاية الخضوع اهـ. قيل وهو مبنيّ على أنّ المراد بقوله لا يستعمل لا يفعل ويأباه قوله إلا في الخضوع دثه إذ الواجب حينئذ إلا لله وليس بشيء لأن مراده أنه لم يستعمل في لسان الشرع ولغة العرب المعتد بها مطلقا لغيره تعالى بخلاف العبودية والخضوع والتواضع ونحوه وما ورد في القرآن ونحوه وارد على زعمهم تعريضا لهم ونداء على غباوتهم ولذا حرم السجود لغير الله وخص التحريم به لغاية ظهوره في قصد العبادة، فلا حاجة لأن يقال إنه لا مانع من أن يراد لا يجوز فعل أقصى غاية الخضوع، إلاة في ضمن خضوعه لله تعالى، وسخافته تغني عن ردّه وبتفسير غاية الخضوع بما ذكرناه سقط ما قيل: إنّ العبادة إذا كانت أقصى غايات الخضوع يلزم أن لا يكون أكثر الناس بل أكثر المؤمنين عابدين لله. قوله: (والاستعانة طلب المعونة إلخ) العون الظهير على الأمر والجمع أعوان، واستعان به فأعانه، وقد يتعدى بنفسه فيقال: استعانه والاسم المعونة والمعانة أيضاً بالفتح، ووزن المعونة مفعلة بضم العين فنقلت ضمته لثقلها على الواو، وقيل الميم أصلية مأخوذة من الماعون، فوزنها فعولة على هذا، والمراد بها المعنى اللغوي،. وهو الإعانة مطلقاً لا ما اصطلح عليه أهل الكلام من أنه بمعنى القدرة، وهي الصفة المؤثرة على وفق الإرادة العدم صدقها على شيء مما ذكره المصتف رحمه الله سوى اقتدار الفاعل، ولا القدرة بمعنى ما يتمكن به العبد من أداء ما لزمه بقسميه من الممكنة والميسرة على ما فصله الحنفية في كتب الأصول، وفي بعض الحواشي أنه المراد قيل: وهو مردود من وجوه.
أمّ أؤلاً فلعدم صدقه على شيء مما سيذكره.
وأمّ ثانياً فلأنّ القسم الأوّل من الفدرة يتوقف عليه صحة التكليف كما سيذكره المصئف رحمه الله بطريق المفهوم، فتتوقف عليها العبادة فتتقدم عليها بالضرورة، وطلبه في عامة المهمات الداخلة فيها العبادة بخصوصها يقتضي تأخره عنها فيلزم التنافي، والقسم الثاني وان لم يتوقف عليه صحة التكليف لكن العبادة الواجبة على تقدير كونها ميسرة بالمعنى الاصطلاحي
متوقفة عليه فتتقدم عليه وطلبه فيها يقتضي لتاخر عنها فيلزم التنافي أيضاً.
وأمّا ثالمثاً فلأنّ طلب قدرة قجب بها العبادة ممكنة كانت أو ميسرة، مما لا معنى له إذ
حاصله طلب الوجوب عليه والمقصود طلب الإعانة في تبرئة الذمم عما يجب عليها.
وأمّا رابعا فلأنّ قوله اهدنا إلخ لا يصح أن يكون بيانا للمعونة بهذا المعنى، وألمصئف
جعله بيانا ولعمري لقد أطال بما لم يفد غير الملال والداعى له ما وقع لهم من الاضطراب والاختلال، والحق أنّ المصنف رحمه الله لم يرد شيئا مما قالوه أمّ القدرة فلأنها عند المصتف لها معنى غير ما ذكروه، وهو شافعيّ أشعريّ فلا يليق تفسير كلامه بما في أصول الحنفية مع أنّ ما ذكره المصتف لا يوافقه كما سنذكره، وأمّا المعنى اللغويّ فكذلك لأنّ المعاونة في اللغة والعرف العام المساعدة والمظاهرة بالأمور المحسوسة كالمال والرجال وتكون بالبدن كرفع الحمل الثقيل معه، وبالمقال كبيان حجة، والمطلوب هنا لا يختص بما ذكر ألا ترى إلى قوله:
{اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ} [البقرة: 153] ونحوه مما يعد استعانة فيهما، فالمراد كما أشار إليه الإمام ومته أخذ المصتف تيسير الله له ما يريده على وفق رضاه وهو معنى لا حول ولا قوّة إلآ. بالله أي لا حول عن معصيته، ولا طاقة لطاعته إلاً بتوفيقه فيشمل الأسباب البعيدة والقريبةاالضرورية وغيرها وتندرىء به الشبهات كما سترأه إن شاء الله تعالى. قوله:
(والضرورية إلخ) سميت ضرورية لتوقف الفعل عليها ضرورة، وهي مناط التكليف بالاتفاق(1/116)
ولا يصح تفسيرها هنا بالقدرة الممكنة كما في بعض الحواشي لأنها مما يتمكن به المأمور من أدإء ما أمر به بدنيا أو ماليا من غير حرج غالمبا قال صدر الشريعة: إفما قيدفا بهذا لأنهم جعلوا الزاد والراحلة في الحبئ من قبيل القدرة المصكنة على ما بين ثمة، والمصئف رحمه الله سيصرّح نجلافه. قوله: (كاقتدار الفاعل الخ) - قيل عليه لا شبهة في أنّ ما ذكر ليس من إفرأد المعونة وكأنه أراد به مباديه من الأقدار والتصبوير والتحصيل بقرينة تمثيل الثاني بالتحصيل ولذا فسر الاقتدار بإعطاء الاقتدار في بعض الحواشي، ففي كلامه تسامح ووقع في بعض النسخ كإقدار ووجهه ظاهر، وقيل المراد بالمعونة ما يعان به وفيه نظر وضرورية التصوّرلأنّ طلب المجهول وتكليفه لا يتأتى، وتوقفه على المادّة والآلة ظاهر لأنّ الفعل الموقوف عليهما لا يتأتى بدونهما وضمير بها للألة، وفيها للمادّة والجملة مستانفة لا صفة. قوله: (وعند استجماعها إلخ) أي حصولها والمصدر مضاف للفاعل. قال في المصباح: اجتمع القوم واستجمعوا بمعنى تجمعوا واستجمعت شرائط الإمامة واجتمعت بمعنى حصلت فالفعلان لازمان اهـ. والاستطاعة عند الأشعرية بمعنى القدرة وهو المعنى اللغوي عند بعض أهل اللغة أيضا وقال الراغب في مفرداته: الاستطاعة استفعالة من الطوع وذلك وجود ما يصير به الفعل متأتياً، وهي عند المحققين اسم للمعاني التي بها يتمكن الإنسان مما يريده من إحداث الفعل، وهي أربعة أشياء بنية مخصوصة للفاعل، وتصوّر للفعل، ومادّة قإبلة لتأثيره وآلة إن كان الفعل آليا كالكتابة اهـ
وهو مأخذ كلام المصتف وبه يقتدى في المعاني اللغوية في كتابه هذا غالباً. قوله: (يوصف الرجل بالاستطاعة) في نسخة ويصلح أن أي لأن يوصف بالاستطاعة والطاقة المعبر بها عن سلامة الأسباب والآلات إلاً أنّ الاستطاعة لكونها من الطاعة تخص الإنسان دون الطاقة فيقال البعير يطيق الحمل ولا يقال يستطيعه، وقوله بالفعل إن أراد به مقابل القوّة، فظاهر لأنّ تكليف ما لا يطاق وان صح عند الأشعري لكنه غير واقع كما ستراه وان أراد الحدث وواحد الأفعال، فالمراد الصحة المقارنة للوجود وهي تستلزم الوقوع ولذا أخرها عن الاستطاعة، والقدرة عندهم مع الفعل لا قبله فلا يقال إنه لا قرينة على أن المصنف رحمه الله أراد هذا، ولا يرد عليه أنه يجوز تكليف العاجز، وإن لم يقع لا تتوقف صحة التكليف على ما ذكر لأنّ الصحة فيه غير مقارنة للفعل، إن قلت لا بد من رفع المانع وقصد الفاعل، والعزم والشوق إن كان مغايرا للإرادة والتصديق بالفائدة إن لم نقل الإرادة كافية في الترجيح لأنها مما يصح به أصل التكليف فيما قيل قلت: هذه داخلة في الاقتدار والتصوّر من غير احتياح لما قيل من أنّ المصنف أتى بأداة التشبيه إشارة إلى عدم الانحصار فيما ذكره، وأمّا البلوغ فيفهم من التكليف بطريق الاقتضاء، كما يشير إليه ذكر الرجل في عبارته، وإن قيل: الأولى ذكر الشخمى بدله ليشمل المرأة فتأمّل. قوله: (وغير الضرورية إلخ) قيل المراد بالتحصيل تحصيله للفاعل لا تحصيل الفاعل وهذا الفاعل متصف عنده عرفا بالتوفيق والجد. وقوله: (كالراحلة) مثال لما يتيسر به الفعل والمراد بتحصيلها ملكها ذاتا أو منفعة، وهذا من القدرة الممكنة عند الأصولين فإنّ القدرة على السفر لا تتحقق بدونه عادة اهـ وهذا ليس بشيء لأنه على مصطلح الحنفية والشابعية لم يحدّوا القدرة، ولم يقولوا بتقسيمها لما ذكر كما مرّت الإشارة إليه وعطف يسهل على يتيسر عطف تفسيري والمراد بقربه معرفة فائدته المترتبة عليه والداعية الباعثة على الفعل بناء على ما تقرّر في أصولهم قال الأسنوي في شرح منهاج المصنف رحمه الله: مجموع القدرة والداعية يسمى بالعلة التامّة، فإذا وجدت يجب وقوع الفعل وقيل: لا يجب بل يصير الفعل أولى، وإذا عدمت الداعية امتنع وقوعه على المختار الذي جزم به الإمام، ونقل الأصفهانيّ في شرح المحصول أنّ أكثر المتكلمين على أنّ الفعل لا يتوقف عليها. اهـ. قوله: (والمراد طلب المعونة إلخ) العموم من الإطلاق مع خفاء قرينة التقييد ولزوم الترجيح بلا مرجح في الحمل على البعض وقدّمه المصنف رحمه الله لأنه الراجح عنده لما ذكر، ولأنه المروي عن ابن عباس رضي الله عنهما وأمّا تقييده بأداء العبادات (1) بحذف متعلق خاص يقدر هنا بقرينة مقارنة
العبادة، ويظهر تناسب(1/117)
الجمل وشدة ارتباطها ويظهر كون اهدنا بيانا للمعونة فيتم الاتصال بين الجملتين ووجه التخصيص كمال احتياج والعبادة إلى طلب الإعانة لكونها على خلاف مقتضى النفس، وبكون العموم من حذف المتعلق وتنزيل الفعل بالنسبة إليه منزلة اللازم سقط ما يتوهم من أنّ الفعل لا عموم له كمصدره. قوله: (والضمير المستكن إلخ) المستكن بتشديد النون اسم فاعل من استكن بمعنى استتر هو بمعنى المستتر، وهو ضمير المتكلم مع الغير، ويكون للمعظم نفسه لتنزيله منزلة الجمع الكثير:
فالف س ألف منهموكواحد وواحد كالألف إن أمر عنا
ولكون هذا غير مناسب هنا قال المصئف رحمه الله: إنه له ولمن معه من الحفظة أي الملائكة جمع حافظ وليس المراد حفظة القرآن كما توهم أو للجماعة في الصلاة أو لسائر الموحدين، وأمّا تعميمه لسائر الخلق أو العقلاء فلا يناسب المقام وان قيل إنه الأقرب، لأنّ المشركين أيضا يعبدونه ويستعينون به، ولذا قيل إنه غفلة عما فيه من الحصر إذ هو غير متحقق في المشرك، وهو نكتة اختيار المصتف رحمه الله لفظ الموحدين على المؤمنين لى، فيه من الإشارة إلى توجيه الحصر، فلله دره ما أبعد مرماه وهذه الوجوه بعضها بالنسبة إلى المصلى وقراءتها في الصلاة، وهي المقدّمة اهتماما بها وبعضها بالنسبة لغيره، وقيل هي جميعها للمصلي الآ أنّ بعضها بالنسبة للمصلي مع الجماعة، وبعضها للمنفرد ثم بين وجهه والنكتة فيه. قوله: (أدرج عبادنه في تضاعيف عبادتهم) أي أدخلها في جملتها وأثنائها، وفي الأساس من المجاز هو في أضعاف الكتاب وتضاعيفه في أثنائه وأوساطه قال رؤبة:
والله بين القلب والاضعاف
يريد بواطن الإنسان وأحشاء. اهـ. ولم يفصح عن المراد بالتضاعيف، وأن مرد. ما هو،
وقد ذكره في شرح مقاماته قال التضاعيف جمع تضعيف بمعنى ضعيف وسمى الضعف بالتضعيف كما يسمى النبت بالتنبيت قال رؤبة:
وبلدة ليس بها تنبيت
اهـ وقد أوضحناه في كتابنا شفء الغليل ومن لم يقف على ما فصلناه قال بعدما فسره بما
مرّ لم يذكر في القاموس هذا المعنى للتضاعيف، ثم فسر أضعاف الكتاب بأثناء سطوره وحواشيه، فالظاهر أنه جمع تضعيف فإنه يدل على الكثرة والجمع للمبالغة والمقام يستدعيها، فالمعنى أدرج عبادته في عبادتهم الموصوفة بغاية الكثرة، إذ كلما كان المدرج فيه أكثر كان رجاء القبول ببركة الاندراج أكثر. قوله: (لعلها تقبل ببركتها (قيل ضمير لعلها لمجموع العبادة
والحاجة تنزيلاً لهما منزلة أمر واحد لتمام مناسبتهما فإنّ العبادة ما يتقرّب به العباد إلى ربهم وحاجتهم ما يطلبونه منه من الإعانة، وأيضاً العبادة وسيلة إلى حاجتهم في الجملة، وحاجتهم وسيلة إليها الجملة أيضاً، وهذا على تقدير تعميم الاستعانة، فإن خصت بالعبادة، فحاجتهم وسيلة إلى العبادة دون العكس، وضمير تقبل لعبادته، وضمير بركتها لعبادتهم، وضمير تجاب بصيغة المؤنث وبناء المفعول لحاجته وضمير إليها أي منضمة إليها لحاجتهم على طريق اللف والنثر المرتب، ويجوز أن يكون ضمير إليها لحاجته والظرف قائم مقام الفاعل، فإن إلى قد تكون صلة الإجابة كما في قول صاحب الكشاف ليستوجبوا الإجابة إليها، وقيل عليه: إن تكلفه ظاهر ؤقبول الحاجة مما لا صحة له بظاهره وليس بشيء فإنّ ما ذكره ظاهر لمن تأمّله، والحاجة هنا لما كانت دعاء كان قبولها ظاهرا، وما ذكر من تعدي الجواب بإلى كثير في كلام العرب كقوله:
وداع دعا يا من يجيب إلى الندا فلم يستجبه عند ذاك مجيب
فلا حاجة لإثباته بعبارة الزمخشريّ يعني أنه لما خلط أموره بأمور غيره ممن يقبل منه
ذلك كان ذلك أدعى لقبولها، فإنّ كرمه تعالى يأبى قبول بعض وردّ بعض ونظروا له بما إذا اشترى أحد ثيابا في صفقة واحدة ووجد بعضها معيبا، فليس له ردّ المعيب بل إنما يردّ الجميع، أو يقبل الجميع، فكأنه يقول إلهي رفعت حاجتي مع حاجة خلص عبادك، فاقبلها مني ببركتهم وجملة لعلها مستأنفة أو حال من ضمير إدرج، وخلط أي راجياً ذلك وأيضا في تغليب المخلصين على غيرهم تحاس عن وصمة الكذب بين يدي مالك الملك لأنه قصر الاستعانة عليه تعالى وكثيراً ما يستعان بغيره فيكون فيه مظنة الكذب، وبهذا يسلم منها حتى قال مالك بن دينار(1/118)
لولا أن الآية مأمور بقراءتها ما قرأتها لعدم صدقي فيها، وروي أنّ العبد إذا قرأها يقول الله تبارك وبعالى كذبت لو كنت إياي تعبد لم تطع غيري، ولو كنت بي تستعين لم ترفع حوائجك إلى ذليك مثلك، ولم تسكن لمالك وكسبك. قوله: (ولهذا شرعت الجماعة) أي مشروعية الجماعة في الصلإة والجمع، ووقوف عرفة والاستسقاء ونحوه رجاء لإجابة دعائهم لا لغير ذلك من الآراء، ولذا شرعت صلاة النوافل في المنازل فسقط ما قيل من أنه لا وجه لتقديم الظرف المشعر بالحصر. قوله: (وقدّم المفعول إلخ) المراد بالتعظيم تعظيمه لشرفه، فهو ذاتيئ والاهتمام ما نشأ من المقام لكونه نصب عينه لا مطلق الاعتناء، فلا يرد عليه ما قيل من أنّ هذا يدلّ على أنّ مجرّد الاهتمام به نكتة مستقلة غير التعظيم والحصر، وليس كذلك بل لا بذ أن يكون بطريق من الطرق المعتبرة كما قال الشيخ عبد ابقاهر لا يكفي أن يقال قدم الشيء للاهتمام به بل لا بد من بيان وجه الأهمية، فحق العبارة أن يقال للاهتمام وهو إمّا للتعظيم أو للحصر اهـ. قوله: (والدلالة على الحصر (أنكر أبو حيان وابن الحاجب وكثير من النحاة دلالة التقديم على الحصر لقوله في الكتاب إذا قلت ضربت زيداً وزيداً ضربت فالتقديم والتأخير
سواء، وردّه في الانتصاف بأنه ليس في كلام سيبويه ما ينفيه بل هو مسكوت عنه، وقد زاده أصحاب المعاني، وكم لهم من دقائق زادوها على النحاة والذي في الكشاف الاختصاص والمصنف رحمه الله عبر بالحصر، والمشهور أنهما بمعنى وفرق بينهما السبكيّ رحمه الله وأفرد لذلك رسالة سماها الاقتناص في الفرق بين الحصر والاختصاص قيل: فلا خلاف بين الزمخشريّ وأبي حيان والاختصاص عنده افتعال من الخصوص والخصوص في نحو ضربت زيداً كون مطلق الضرب واقعا منك على زيد فقد يكون قصد المتكلم لهذه الثلاثة على السواء، وقد يترجح عت ده بعضها ويعرف ذلك بابتدائه فإنّ الابتداء بالشيء يدل على الاعتناء به، من غير قصد لغيره بإثبات أو نفي، ومعنى الحصر نفي غير المذكور، واثبات المذكور ويدل عليه بما والاً وانما، وهو معنى زائد على الاختصاص، وقد استشهد لمدّعاهم بشواهد كثيرة، كقوله ونوحاً هدينا وأنه لو دل على الحصر لم يكن غيره من الرسل مهديا وليس بصحيح، وردّه في الفلك الدائر بأنهم لم يدعوا اللزوم بل الغلبة.
(أقول) : الحق أنّ ما ذكر من الفرق بين الحصر والاختصاص مسلم، فإنّ اختصاص شيء
بشيء ثبوته له على وجه خاص به، فلا يقتضي القصر، وان كان لا ينافيه، ولذا حمل عليه في كثير من المواضع، وكون التقديم دالاً على الحصر وضعا غير صحيح، فإنه لا يمكن أن يقال إنه مدلول وضعي للفظ المقدّم كإياك هنا، فإنّ مدلوله ذات المخاطب لا غير، ولا للتقديم أيضا، فإنه قد يكون لأمور أخر لا سيما في الشعر والإنشاء، وهو أمر معنوي لا معنى لوضعه أيضا فلا يوصف بالدلالة بمعناها المعروف ولا فرق بينه وبين الاختصاص والعناية والاهتمام، فلم يبق إلاً أن يقال إنّ عدول البليغ عما هو الأصل من غير ضرورة لا بد له من وجه، وقد فهم منه أهل اللسان أنه الاهتمام، واهتمام العاقل بشر، ء لا يكون إلأ لمعنى وهو مختلف باختلاف المقامات فقد يكون ذلك المعنى اختصاص المقدّم بما بعده من حكم ونحوه، فان قلت الاختصاص من حيث هو لا يعقل اقتضاؤه للتقديم ألا تراهم التزموا في غيره من الطرق تاخير المقصور عليه كأنما قلت: هذا لو سلم لم يضرّنا، فكم في لسان العرب من أمور متواترة لا يعقلى معناها كالأمور التعبدية في الوضع الشرعي، أو نقول كون الشيء لم يلزم من سواه يقتضي غالبا شهرة انتسابه له، فلذا لم نجعل إة، دته مقصودة بالذت وأخر، ومما ذكرت عرفت أنّ الاختلاف فيه لفظيّ فاعرفه، وما قيل هنا من أنّ في الحصر أشكالاً إذ قل من يصدق في دعواه إلآ أن ئدعي تغليب المخلصين الصادقين على غيرهم جوابه ظاهر مما أسلفناه. قوله: (ولذلك قا ا، ابن عبّاس رضي الله عنهما إلخ) إشارة إلى ما استدل به على إفادة التقديم للحصر كالأثر الذي يرويه عن ابن عباس رضي الله عنهما وهو صحيح مأثور عنه كما رواه ابن جرير وابن أبي حاتم من طريق الضحاك، وعن أبي عبيد أنه قال لامرأة شتمته في جمع من تعني فقالت إئاك أعني فقال خصتني بالشتم، وأورد عليه أنّ تفسير ابن عباس رضي الله عنهما لا يدل
على أنّ الحصر مستفاد من التقديم بل يكفي كون الجملة دالة على الحصر من طريق(1/119)
الخطاب فإنه لدلالته على الأوصاف يدل على الحصر كما مرّ، ولا يندفع هذا بأن يقال إنه إسناد له إلى أقوى شيء يمكن استناده إليه وأظهره إذ هذه الدعوى غير ظاهرة، وغير مسلمة عند بعضى النحاة كما بيناه، ولذا قيل: إنه ليس باستدلال بل استثناس له، وتقديم لذلك ليس للحصر بل للاهتمام لكون الدلالة مقصودة، وكون لعلة متقدمة في الوجوه. قوله: (وتقديم ما هو مقدّم في الوجود) وفي نسخة المقدم بالتعريف، والمقدم في الوجود مدلول إياك لأنه القديم الواجب وجوده قبل كل موجود فجعل لفظه موافقا لمعناه وهذا إمّا معطوف على التعظيم أو الدلالة ويجوز أيضا عطفه على الحصر ولكونه خلاف الظاهر لم يذهب إليه أرباب الحواشي مع أنه أورد على ما قبله أنّ التقديم المذكور ليس علة للتقديم حقيقة، وانما العلة كونه ضدّماً في الوجود، أو تقدم ما هو مقدم في الوجود في العبارة وهذا أبعد من نحو ضربته للتأديب، وإن اشتركا في أنّ المعلل والعلة واحد في الحقيقة والعلة في الحقيقة أثر المذكور أي التقدم، والتأدب لنوع اشتراك في المفهوم إلاً أن يقال التقديم هنا بمعنى التقدم على أنه مصدر المبنيّ للمفعول أي لكونه مقذما، أو يؤخر من قدم بمعنى تقدم لوروده في اللغة إذ حصول تقديم ما هو مقذم في الوجود غاية لتقدم المفعول أو يحصل ضمنه كما إذا قدم زيد العالم في مجلس يقال قذم زيد على غيره لتقديم العالم، وقيل أيضاً تقديم ما هو المقدم عليه لتقدم المفعول لا العكس كما يقتضيه التركيب الآ أن يقال: إنه من قبيل ضربته للتأديب لا من قبيل قعدت عن الحرب جبناً، والمعنى قدم المفعول ليتحقق تقا- يم ما هو المقدّم في الوجود فتأمّل. قوله: (بل من حيث " أنها نسبة شريفة إليه) النسبة معناها في اللغة الوصلة بالقرابة فتجوّز بها هنا عن مطلق الوصلة ولذا عطفها المصنف رحمه الله عليها عطفا تفسيريا، فالمراد بها التقرّب إلى الله بطاعته وهو وصلة معنوية، وحقيقة العبادة كما في كتاب النثأتين للراغب فعل اختياري مناف للشهوات البدنية يصدر عن نية يراد بها التقرّب إلى الله طاعة للشريعة، وجعلها نفس النسبة، والوصلة مبالغة في تقريبها إلى الله، فما قيل من أنّ في النسبة هنا استعارة فشبه ما بين العابد والمعبود، بما بين الطرفين من الارتباط تكلف مستغنى عت "، وكذا ما قيل من أنّ التنبيه عليه حصل من هيئة تركب الفعل مع المفعول به. قوله: (فإن العارف إنما يحق وصوله إلخ) العارف عند أهل السلوك من أشهده الله ذاته وأسماءه وصفاته وأفعاله، وأمّا في اللغة والعرف فأشهر من أن يذكر، ويحق بفتح ألياء وضم الحاء وكسرها بصيغة المعلوم بمعنى يثبت، ويتحقق ويقع بلا شك، وفعله لازم أو هو من حق بمعنى أوجب، فالوصرل مفعوله واستغرق بمعنى تمحض
معرضاً عن غير ما استغرق أ، وهو إمّا من الاستغراق بمعنى الاستيعاب لاستيعاب أوفاته، أو نظره في ذلك، أو بمعنى اشتغل به، وتفرّغ عن غيره، وفي القاموس فلأنه تغترق نظرهم أي تشغلهم بالنظر إليها عن النظر إلى غيرها لحسنها، والملاحظة من لاحظته ملاحظة، ولحاظا بمعنى رأقبته وأصله النظر باللحظ وهو مؤخر العين يقال لحظته بالعين ولحظت إليه لحظا، والجناب بالفتح الفناء والجانب والقدس بضم القاف والدال وتسكن في اكثر الأفصح بمعنى النزاهة والطهارة، وجناب النزاهة عبارة عنه سبحانه وتعالى بمعنى المقدس، وحظيرة القدس الجثة كما قاله الراغب. وقوله: (حتى أنه إلخ) غاية لاستغراقه لأنه إذا استغرق غاب عن ذهنه كل شيء حتى نفسه. قوله: (1 لأ من حيث إلخ الما كان قوله: فإنّ العارف إلخ تعليلاً لقوله: ينبغي لأنّ العابد إمّا عارف أو بصدد أن يكون عارفاً وعلى الأوّل الاستغراق مقتضى حاله وعلى الثاني هو طالب لأن يكون حاله. وقوله: (من حيث أنها إلخ) ملاحظة إن كان بكسر الحاء اسم فاعل فضمير إنها راجع للنفس وضمير له للجناب كما في بعض الحواشي، وإن كان بفتحها فهو مصدر وفسمير أنها للملاحظة المفهومة من يلاحظ كما ذهب إليه بعض المحشن، وما ارتكبه دعاه إليه تصحيح الحمل والمعنى حينئذ لا يلاحظ نفسه وأحوالها إلاً من حيث أنّ ملاحظتها ملاحظة للمعبود واستبعده بعضهم وقال الأولى أنّ المعنى إلاً من حيث أنّ النفس، وأحوالها اكة ملاحظة له تعالى، ومرآة تشاهد فيها، كما هو شأن كل مصنوع غايته أنه جعل آلة الشيء نفسه مبالغة في كونه آلة ومثله شائع وهو تكلف، وقوله ومنتسبة بالواو(1/120)
العاطفة وفي بعض النسخ بدونها لأنه كالتفسير لما قبله. قوله: (ولذلك إلخ) أي لأنّ العارف إنما يحق وصوله إلخ أو لأنّ العابد ينبغي أن يكون نظره إلخ فضل لما فيه من ملاحظة الحق قبل نفسه بالتقديم عليها قيل، والوجه هو الثاني لأنّ المحكيّ عن الحبيب فيه النظر إلى المعبود أوّلاً بخلاف المحكيّ عن الكليم، وأمّا من حيث الاستغراق في جناب القدس لا يظهر به وجه التفضيل بل صيغة المتكلم مع الغير في الأوّل والمتكلم وحده في الثاني توهم خلافه إلاً أن يقال شأن المستغرق تقديم ما استغرق فيه ولئن سلم، فالوجه الثاني أظهر في المقصود، ولا يخفى أنه إذا غابت نفسه عنه، وأحوالها من جملة ما تضمنه قوله نعبد كان مقتضاه أن لا يذكر ذلك فضلاً عن أن يقدّم وهذا أبلغ ولذا قدمه، وأمّا ذكر المتكلم مع الغير ثمة وهنا، هو المطابق للواقع فلا وجه لما ادّعاه، ثم إنه قيل هنا لكل وجهة فالحبيب قدّم الاسم لأنه في مقام تسكين روع الصديق بالإرشاد إلى ملاحظة الحق والاعتماد عليه والرجوع في كل مهمّ إليه، والكليم عليه السلام قدّم الظرف في جواب قول قومه {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} [الشعراء: 61] تنبيهاً على اختصاصه ومن تبعه بالمعية، كأنه قال: إنّ معي واتباعي ربي لا معهم فالهداية إلى طريق النجاة لي لا لهم، فإن قيل الكليم أيضا في مقام التسكين لروع قومه قيل: هو وإن
كان كذلك إلأ أنه غير منظور إليه أوّلاً بل إلى ملزومه وهو اختصاصه بالمعية الموجبة للنجاة ردّ للقوم لما جزموا بلحوقهم، ثم إن تعليقه المعية باسم الذات دون الوصف، كما فعله الكليم عليه السلام ما لا يخفى من علوّ شرفه في موارد النبوّة، فإنّ ما حكاه الله عن حبيبه عليه الصلاة والسلام، وان كان أفضل مما حكى عن كليمه صلى الله عليه وسلم من الجهة المذكورة لكن الأمر بالعكس من حيث إفادة الثاني للحصر دون الأوّل قيل إنّ الحصر فيه أيضاً مستفاد من نفس النسبة لامتناع كونه مع المعاندين ناصرا لهم، فإنّ معنى قوله تعالى عنه {إِنَّ اللهَ مَعَنَا} [التوبة: 40] أنه تعالى معنا بالعصمة والمعونة، ثم إنّ في تعبيره بالحبيب والكليم دون محمد وموسى نكتة لطيفة وهي مناسية ذلك للمعية لأنّ المرء مع من أحب، واقتضاء المكالمة للاجتماع ظاهر أيضاً. قوله: (وكرّر الضمير إلخ الاحتمال تقديره مؤخرا عند الحذف، وعذم نصوصية الخطاب في الحصر وعلى تقدير تقديره مقدما وعدم اعتبار تقديره مؤخراً أنّ التصريح بتقديمه تنصيص بخلاف نصب القرينة على تقديمه، وأيضاً يختمل تعلق الحصر بالمجموع وبالتكرار يرتفع ذلك، وفي قوله المستعان به إيماء إلى أنه يتعدى بنفسه وبالباء وأنهما بمعنى.
وقوله لتوافق رؤوس الآي ظاهره أنّ القرآن فيه سجع وسيأتي ما فيه. قوله: (ويعلم إلخ)
يعلم مرفوع ويجوز نصبه أيضا، ويؤيده أنه وقع في نسخة وليعلم، والوسيلة كل ما يتقرّب به يقال توسل إلى الله بوسيلة أي تقرّب إليه بعمل كذا في المصباح: وأدعى أفعل تفضيل من دعاه إلى كذا إذا حثه على قصده أي تقديم السائل على سؤاله شيئاً يرضاه المسؤول منه كهدية أو تعظيم أو ثناء، ونحوه يقتضي إجابتة، ولذا قدمت العبادة على الدعاء في الواقع.
وسن الدعاء عقب الصلوات، فقدم هنا لفظ العبادة على الإستعانة ليوافق ترتيب الألفاظ ترتيب معانيها، فيرشد الترتيب الذكري للترتيب الخارجيّ، ومن خصوصية المادّة يتفطن أنه لكونه أدعى إلى الإجابة، وهذا مراد المصتف رحمه الله تبعا للزمخشريّ في توجيه الترتيب، وهو جواب عن سؤال تقديره إنّ العبادة تقرّبهم لمولاهم، والاستعانة طلب الفعل المولى، فكان ينبغي تقديمه، فلم عكس ذلك، ثم إنهم قالوا قد مرّ أنّ الاستعانة المذكورة طلب المعونة في المهمات كلها، أو في أداء العبادات، وعلى الثاني العبادة مقصودة لذاتها، والإعانة وسيلة لها دون العكسى، فهذا على الوجه الأول فقط، وهو الراجح عند المصنف رحمه الله، فصنيعه أحسن مما في الكشاف لا يقال جائز أن يكون بعض العبادات وسيلة إلى الإعانة على البعض لأنا نقول لا اختصاص، لقوله نعبد ونستعين ببعضها لإطلاقهما، فحينئذ ينبغي أن يقال وجه تقديم العبادة أنّ الإعانة مطلوبة لتكميل العبادة بالزيادة أو الثبات، ويؤيده كون اهدنا بيانا لها،
وطلب ما يزداد به الشيء، أو يدوم متأخر عنه، وإن جعلت الإعانة مطلوبة لتحصيل العبادة ابتداء، فالتقديم لأنها مقصودة بالنسبة إلى الاستعانة وعلى الأوّل إن أريد بالمهمات ما لا يتناول العبادة، لتبادره مع أنه المعروف المناسب على ما اختاره قذس سرّه فكون العبادة وسيلة إلى الإعانة ظاهر، ووجه التقديم(1/121)
ما ذكره المصتف رحمه الله كما بيناه لك، وان أريد ما يتناولها لعدم قيام القرينة على التقييد يقال: الإعانة المطلقة وان كان بعض أفرادها وسيلة إلى العبادة إلاً أنّ كثيرا من أفرادها يتوسل بالعبادة إليه وهو ما يترتب على العبادة، ويكون نتيجة لها فكونها وسيلة معتبر بالقياس إلى بعض أفراد الإعانة لا إلى جميعها، وتقديمها في الذكر للإشارة لما مّر من أنّ تقديم الوسيلة أدعى للإجابة، وفيه تكلف ظاهر، ولو قيل العبادة وسيلة إلى بعض أفراد الإعانة، ومقصودة من البعض، فتقديمه بالنسبة إلى الأوّل لما ذكر، وبالنسبة إلى الثاني لما سبق كان وجهاً هكذا قرّره الفاضل الليثيّ تبعاً للسيد السند، وهو حاصل ما في شروح الكشاف، ومن لغو القول هنا ما قيل إنّ كلام المصتف رحمه الله مناف لما سيأتي منه في سورة هود في تفسير قوله تعالى: {وَاسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ} [هود: 90] ولا يليق الاشتغال به إلاً أنّ فيما قاله هؤلاء هنا بحثاً، وهو أنّ هذا كما لا يتأتى على الثاني أصلاً، أو بغير تكقف لا يتأتى على الأوّل أيضاً على ما يقتضيه كلام المصتف رحمه الله لأنه قسم المعونة إلى ضرورية يتوقف عليها صحة التكليف، وغير ضرورية يتيسر بها الفعل مطلقاً، فإن بنى كلامه هنا على أنّ المراد مجموع المعونتين، أو الأولى أو الأعنم لزم توقفها على العبادة لتوقف التكليف عليها، فلا يتأتى ما ذكر على الأوّل أيضاً إلأ إذا أريد بالمعونة غير الضرورية، وبالمهمات المهمات الدنيوية لا الدينية، ولا ما يشملهما، فيندرج فيه العبادة، وانما نشأ هذا من توهم اتحاد كلام المصنف وكلام الزمخشريّ، وقد عرفت معنى الوسيلة، وأنها ليست بمعنى السبب كما يتوهم وحينثذ، فالظاهر أنّ المراد بالمهمات كلها مهمات كل عبد في أمور دنياه، فإنه المتبادر منها والمعونة كل ما له مساعدة على فعل، أو تحصيل غرض مّا من الأمور المحسوسة فهي بالمعنى اللغوي فإن قلنا إنها عامة شاملة للعبادة، وكذا إن قلنا إنها إعانة على أداء العبادة، فالجواب ما قيل من أن العبادة مع العلم بأنها مما يتوّسل به إلى إجابة طلب الحاجة، وذكر الاسنعانة المطلوب منها المعونة في العبادة المستلزم كونها وسيلة للعبادة قرينة على أنّ العبادة باعتبار بعض أفرادها وسيلة، وباعتبار بعض آخر يتوسل إليها بالاستعانة فلا إشكال، وعلى ما ذهب إليه المصنف رحمه الله لا بد في الخلاص عما مرّ من التزام ما ذكر إلاً أنه محتاج إلى تكقف فتأمّل. قوله: (وأقول لما نسب إلخ) اعترض عليه بأنّ المتبادر منه أنه من خواصه التي تفرّد بها، وهو بعينه مذكور في التفسير الكبير، والحمل على التوارد، أو أنه دل بذلك عمى اختياره له، كما قيل بعيد كما لا يخفى. وقوله: (تبجحاً) تفعل من البجح بالباء الموحدة
الشهاب / ج ا /
والجيم والحاء المهملة، ومعناه الفرح والسرور كما في الصحاح، وقد فشر بالافتخار الناشىء من العجب والكبر، وهو أنسب بالمقام، ويستتبّ بسين مهملة وتاءين فوقيتين من استتمث الأمر إذا تهيأ واستقام كما في الصحاح، أو هو من التباب بمعنى الهلاك وهو يتبع التمام فكان ما تمّ يطلبه كما في الأساس، وهو منزع حسن وعليه قوله:
إذا تم أمر بدا نقصه ~ تيقن زوالاً إذا قيل تم
وفسر أيضاً بيستمرّ أو يستقل.
وقال الراغب: التبب الخسار وتببته قلت له ذلك، وقضمنه الاستمرار قيل: استتب لفلان
كذا إذا استمرّ اهـ. وما قيل من أنه لم يثبت عند صاحب القاموس، فلذا لم يذكره من قصره باع الاطلاع، وفي كلامه تصريح بأنّ المراد بالمعونة التوفيق، وبه يتمّ التوفيق.
(فإن قلت) : هل هذا جاو على الوجهين أو مخصوص بأنّ الاستعانة في أدأء العبادة على الوجه الراجح المستحسن كما قيل، وعلى كل حال كيف يفهم هذا من قصر الاستعانة على الله وإنما يفيده لو قيل لا يصدر منا أمر الأ باستعانة منك قلت: هذا من قبيل الاحترام، واتباع الكلام يما يزيل إبهامه كقوله:
فسقى ديارك غير مفسدها
وهو من ذكره بعد مطلقاً ومقتض لتأخيره فما ذكر لا وجه له مع أنّ قوله: إنه الراجح من عدم الفرق بين كلام الثيخين بل هو على مقابله أوضح والمعنى المذكور يؤخذ من عدم تقييده بمتعلق ظاهر ولك أن تقول إنه مغاير لما مرّ أيضاً. قوله: (وقيل الواو إلخ) ليس هذا من قبيل قمت واصك وجهه بناء على تجويزه شذوذا، أو تقدير مبتدأ فيه أي، ونحن إياك نستعين كما توهم حتى يورد عليه أنه غير فصيح، أو ينازع في المثال، وان كان الاشتغال(1/122)
بمثله ليس من دأب المحصلين، فيقال: إنّ الزمخشرفي جعل أصك حكاية حال ماضية، والواو معه عاطفة وتقديره قمت، وصككت وجهه، فابرز في صورة المسمقبل حكاية لتلك الحالة العجيبة الشأن، فإنّ ما ذكره النحاة إذا كان المضارع في صدر جملة أمّا إذا تقدم عليه شيء من متعلقاته، فيجوز اقترانه بالواو لمشابهته للاسمية صورة، وقد أشار إلى ما ذكر ابن مالك في تسهيله، وأمّا تجوبز الزمخشريّ الحالية من غير تقدير فيه، فمعترض عليه كما ستراه، فاحفظه فإنه مما خفي على أرباب الحواشي.
قوله: (وقوئ بكسو النون الخ) هي قراءة الأعمش ونسبت لغيره، وهي لغة قيس وتميم
وأسد وربيعة وهذيل، وهي مطردة عندهم بشرط أن لا يكون ياء مثناة تحتية لثقل الكسرة على الياء على أنّ بعضهم قال: يجل بكسر ياء المضارع من وجل وقركأ أيضا فإنهم يعلمون، وهذا مما يقتض عدم صحة ذلك الاستثاء، وأن يكون ماضيه مكسور العين كعلم أوفى أوّله همزة
وصل كنستعين أو تاء مطاوعة نحو تتكلم، فلا يجوز في نضرب، ونقتل كسر حرف المضارعة ونحوها من الأفعال بشرط أن لا ينضم ما بعدها لاستثقال الخروج من الكسرة إلى الضمة فإن توسط حرف وإن كان ساكنا جاز.
وأعلم أنه قرىء وإياك يعبد بصيغة المجهول بوضع ضمير النصب موضع ضمير الرفع والالتفات وهو غريب نادر لة ول بعض أهل المعاني إنّ وقوع الملتفت والملتفت عنه في جملة واحدة لم يعهد. قوله: (بيان للمعونة إلخ) هو بيان لتناسب الجمل، وارتباطها لا لترك العاطف كما قيل لاختلافها خبراً وانشاء، والقول بأن نستعين لدلالتة على الطلب بمعنى أعنا، فهو إنشاء معنى تبرع لمن لا يقبل وفي الكشاف، والأحسن أن تراد الاستعانة به وبتوفيقه على أداء العبادة، ويكون قوله اهدنا بياناً للمطلوب من المعونة كأنه قيل كيف أعينكم فقالوا: اهدنا الصراط المستقيم، وإنما كان أحسن لتلاؤم الكلام، وأخذ بعضه بحجز بعض، وقال قدس سرّه: أي لتناسب الجمل الواقعة فيه، وانتظام بعضها مع بعض حيث دلّ إياك نستعين على طلب الإعانة على العبادة، وصار اهدنا بياناً للإعانة المطلوبة، فكملت الملاءمة بين الجمل الثلاث لمزيد ارتباط بينها، وربما يقال إتاك نعبد بيان للحمد، واستئناف نشا من إجراء تلك الأوصاف على ما مرّ، فتكون الجمل الأربع التي في الفاتحة متلاصقة متلاحقة وأذا جعلت الاستعانة عامّة، لم يكن اهدنا بياناً للمعونة المطلوبة، ولا المعونة مخصوصة بالعبادة، فلم يكن الاتصال بين الجمل بتلك المثاية اهـ.
فالبيان بمعناه اللغوي لأنه استئناف بياني في جواب سؤال متدّر تقديره ما ذكر فعليه ترك العاطف، لأنه مستأنف لا لكمال الاتصال كما توفم فإنّ تقدير السؤال يأباه، وقيل: إنّ المصثف وحمه الله عنى أنّ ترك الواو إمّا لكمال الاتصال، كما في الوجه الأوّل، أو الانقطاع كما في الثاتي، وفساده ظاهر وسوف يرى إذا انجلى الغبار. قوله: (كانه قال كيف أعينكم) قيل: المناسب لكونه بيانا للمعونة أن يقدر أيّ إعانة تطلبون يعني أنّ البيان حقه أن يكون عين الميين لا فرد منه، وإن كان قد يكون المطلوب منه بيان الكيفية، ولا يخفى أنه مع قيام القرينة على أنّ المراد المعونة في المهمات كلها أو في أداء العبادة يتعين الإعانة، فلا يبقى لهذا السؤال وجه، وإنما يحتاج إلى بيان كيفيته ولذا اتفق الشيخان على تقدير ما ذكر فلا تغفل ثم إنه أورد على ما مرّ من أنّ قوله إياك إلخ بيان للحمد كأنه قيل كيف تحمدونه، فقيل: إتاك نعبد إلخ مع أنه لا حاجة إلي، لا صحة له في نفسه، فإن السؤال المقدر لا بذ أن يكون بحيث يقتضيه انتظام الكلام وتنساق إليه الأذهان والأفهام، ولا ريب في أنّ الحامد بعد ما ساق حمده تعالى على تلك الكيفية اللائقة لا يخطر ببال أحد أن يسأل عن كيفيته على أنّ ما قدر من السؤال غير مطابز، للجواب، فإنه مسوق لتعيين المعبود لا لبيان العبادة حتى يتوهم كونه بياناً لحمدهم، والاعتذار بأنّ المعنى نخصك بالعبادة، وبه يتبين كيفية الحمد تعكيس للأمر، وتمحل لتوفيق المنزل المقرّر بالموهوم المقدّو، وبعد اللتيا والتي إن فرض السؤال من جهته عز وجل فاتت
نكتة الالتفات التي أجمع عليها السلف والخلف، وان فرض من جهة الغير يختل النظام لابتناء الجواب على خطابه تعالى، وبهذا يتضح فساد ما قيل من أنه استئناف جواب لسؤال يقتضيه إجراء تلك الصفات العظام على الموصوف بها، فكأنه قيل ما شأنكم معه، وكيف توجهتم إليه، فأجيب بحصر العبادة والإستعانة فيه، فإن تناسى جانب السائل(1/123)
بالكلية، وبناء الجواب على خطابه عز وعلا مما يجب تنزيه ساحة التنزيل عن أمثاله، والحق الذي لا محيد عنه أنه استئناف صدر عن إلحاقه بمحض ملاحظة اتصافه تعالى بما ذكر من النعوت الجليلة الموجبة للإقبال الكلي عليه من غير أن يتوسط هناك شيء آخر كما ستحيط به خبراً.
(أقول) هذا مع أنه على طرف التمام مسروق من حواشي الطيبي، وليس أوّل سار غرّه القمر، فإنّ هذا السؤال ليس محققاً ولا مقدراً في النظم حتى يلزم ما توهموه وانما هو أمر ينساق إليه الكلام السابق حتى نزل منزلة السؤال، وماكه إلى اقتضاء ما قبله للخطاب، وحينئذ يكون أشذ اتصالاً به سواء قدر من جهة الله أو لا، ولو جعل استئنافا حقيقيا لم يرتبط به لكونه في حكم كلامين والإلتفات فيه لا يلتفت إليه، ولكون العبادة أجل تعظيم وأظهره صح أن تجعل كالمبين للحمد لأنه أخو الشكر، فتبين أنه ليس بمجرّد اللسان بل ظاهره مطابق لباطنه فيه، ولا يلزم من الالتفات اتحاد الخطاب كما صرح به ابن الأثير، وأشار إليه السكاكي، فما ذكره من التعكيس وغيره ساقط. قوله: (أو أفراد إلخ) وقع في نسخة بالواو يعني أفرد بالذكر كبدل البعض من الكل في الجملة نحو أمدّكم بما تعلمون أمدكم بأنعام وبنين، ولا ينافيه اختلافهما خبرا وانشاء ولا حاجة لتأويل نستعين بأعنا، وقيل إنه توجيه لتخصيص الهداية بالطلب في مقام الجواب عن قوله كيف أعينكم وليس بيانا لكونه من ذكر الخاص بعد العامّ كما في قوله تعالى: {حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى} [البقرة: 238] لأنّ الطريقة المسلوكة فيه العطف بالواو، وكون الهداية للصراط مقصودة لا يضره كونه طريقا وفيه ما فيه ط وأمّا ما قيل من أنه ابتداء دعاء وسؤال حينئذ إذ لم يجعل مربوطا فيكون ترك الواو لكمال الانقطاع بين الجملتين لاختلافهما في الخبرية والإنشائية، فغير سديد كما أشرنا إليه، وقيل: إن كان المراد بالاستعانة طلب المعونة في المهمات كلها، فإن كان المراد بالصراط المستقيم طريق الوصول إليها كان اهدنا بيانا للمعونة المطلوبة، وان كان المراد به ما يخص العبادات كان إفراداً لما هو المقصود الأعظم منها والأوّل وان كان خلاف المتبادر لكنه محتمل، وبه يلتثم الكلامان، وينتظمان أشدّ انتظام، وان كان المراد بالاستعانة طلب المعونة في أداء العبادات كان اهدنا بيانا للمعونة المطلوبة لكون الصراط ما يوصل إلى العبادة، كما هو الظاهر فيتلاءم الكلام وتنتظم جمله أشد انتظام وحكم السيد بأنه على عموم الاستعانة لا يكون اهدنا بيانا للمعونة بناء على حمل الزمخشريّ الصراط المستقيم على ملة الإسلام، فإن قلت: كيف يكون اهدنا بياناً للمعونة المطلوبة، وخلق القدرة ممكة كانت أو ميسرة من المعونة المطلوبة ولا تندرح في الهداية قلت بتقييد اللطف في تعريف الهداية تندرج فيها لإنه عندنا خلق
القدرة على الطاعة كما في شرح المقاصد، فإذا اندرج فيها جاز أن تكون المعونة المطلوبة هي الهداية إلى طريق الوصول إلى المهمات على الأوّل، والى العبادات على الثاني، فيحمل عليه الكلام ليتلاءم، ويجوز أن يقال المراد أنّ المعونة المطلوبة إن كانت الهداية، فاهدنا بيان لها، وان كانت ما يتناولها، فافراد لما هو إلخ ثم إنه سيجيء أنّ المطلوب إمّ زيادة الهدى أو الثبات عليه، أو حصول المراتب المترتبة عليه، فكون اهدنا بياناً بناء على أنّ زيادة الهدى أو الثبات عليه إعانة على بعض ما يستعان فيه قطعاً، وانّ الإعانة على البعض إعانة على الكل لتوقفه عليه، أو على أنّ المستعان فيه تكميل العبادات، أو المهمات بأحد الوجهين الازدياد، أو الثبات وأمّا الهداية إلى المراتب المترتبة عليه، وكونها بيانا للمعونة على أداء العبادات، فإنما يصح إذا كانت وسيلة إلى العبادة، وقد قيل عليه إنّ قوله في صدر كلامه إن كان إلخ غير متأت هنا لأنّ الأوّل يأباه ما في الدرّ المنثور عن ابن عباس وضي الله عنهما من تفسير الهداية إلى الصراط المستقيم بالهام الدين الحق، ولذا فنره في الكشاف، وغيره بملة الإسلام، فهو مخالف لما عليه المفسرون، وكذا كون صراط الذين أنعمت عليهم بدلاً منه.
وقوله وا ن كان المراد بالاستعانة طلب المعونة في أداء العبادات كان اهدنا بيانا للمعونة المطلوبة لكون الصراط ما يوصل إلى العبادة مخالف للمتبادر من كلام المصتف، فإنه يفهم منه إنّ البيان على تقدير تخصيص الاستعانة بالعبادات، والافراد على تقدير تعميمها، وعليه أكثر أرباب الحواشي بل كلهم، وقوله(1/124)
فإن قلت إلخ قد يجاب أيضا بأنه يمكن أن يقدر متعلق الاستعانة ما ينطبق أحد هذه الأمور عليه، فليتأمّل انتهى وفيه ما فيه. قوله: (والهداية دلالة إلخ (هذا برمته مأخوذ من كلام الرإغب رحمه الله في مفرداته، إلاً أنه وقع في نسخة بدل قوله بلطف بتلطف، والأولى أولى رواية ودراية، وانما قيده به لدلالة اشتقاقه وماذته عليه ولذا أطلق على المشي برفق تهاد وسميت الهداية لطفا، ومن لم يدر هذا قال لاً نها في اللغة الإرشاد، وهو عين اللطف، ولذا قال ابن عطية إنها لغة الإرشاد، وهل يعتبر في هذه الدلالة الإيصال أم لا فيه خلاف سيأتي تحقيقه، ونعني باللطف كما في الصحاح وغيره من كتب اللغة الرفق المقابل للعنف وهو في صفة الأجسام مقابل للغلظ والكثافة، ويكون اللطف واللطافة أيضاً عبارة عن الحركة الخفية، وتعاطي الأمور الدقيقة وقد يعبر به عما لا تدركه الحاسة كما قاله الراغب وهذا تحقيقه باعتبار الوضع اللغوي مطلقا.
وأمّا هو في صفاته تعالى، فمعناه كما قاله الراغب أيضاً إمّ العالم بدقائق الأمور والخفيات
أو الرفيق بالعباد في هدايتهم وغيرها انتهى. وفي شرج الأسماء الحسنى للشيخ بهاء الدين قدس سرّه، اللطيف الذي يعامل عباده معاملة اللطف لأنّ ألطافه في الدارين لا تتناهى، والله لطيف بعباده يرزق من يشاء فيهيىء مصالح الناس من حيث لا يشعرون وتيل اللطيف العليم بالغوامض والدقائق ولذا قيل لكل حاذق لطيف ويحتمل أن يكون من اللطافة مقابل الكثافة، وهو وأن وصفت به الأجسام ظاهراً إلاً أنّ الجسمية لا تنفك عن الكثافة، ولطافتها إضافية، فاللطافة
المطلقة لا يوصف بها الآ نور الأنوار المتعالي عن إدراك البصائر والأبصار، ووصف غيره بها بالإضافة لما هو دونه، فهو من الأسماء الدالة على الصفات الذاتية، وعلى الأولين يرجع إلى الفعل ويقاربه اسم الكريم انتهى. وسيأتي في تفسير قوله تعالى: {وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الأنعام: 53 ا] ما يشير لما ذكر، فما نقل هنا عن السيد السند من أنّ اللطف عندنا خلق قدرة الطاعة في العبد وعند المعتزلة اللطف ما يختار المكلف عنده الطاعة، أو يقرب منها ولا يفضي إلى القسر والإلجاء إن كان تفسيرا لما وصف به العباد، فهو مخالف لما حققه أهل اللغة وإن كان لما وصف به الباري، فهو مخالف أيضاً لما في النظم ولما عليه أئمة التفسير فتدبر. قوله: (ولذلك تستعمل في الخيرا لأنه المناسب للطف كما سمعته. وقوله: (على التهكم) إشارة إلى أنّ ما ذكر ونحوه لا يرد نقضاً، على أنه إنما يستعمل في الخير لأنه معتبر في معناه الحقيقي، وهذا مجاز استعارة تمثيلية أو تبعية، فلا يرد نقضاً، وقيل: ليس هذا من الهداية بمعنى الدلالة بل من الهداية بمعنى التقديم والتخوز أحسن وأبلغ وقوله ومنه الهدية فصله لأنه مغاير له بحسب المعنى واللفظ، لأنّ فعل الأوّل هدى، وفعل الثاني بمعنى الإعطاء أهدى كأهديت الهدية والهدى إلا أنه يشاركه في أصل المعنى والمادّة كما مرّ. قوله: (وهوادي الوحش إلخ) الهوادي جمع هاد وهو العنق، وأوّل القطيع من الظباء ونحوها والوحش بفتح الواو، وسكون الحاء المهملة، والشين المعجمة الوحوس، وهي حيوان البر الواحد وحش ويقال حمار وحش بالإضافة وحمار وحش، فالوحش يكون للواحد والجمع، ولا تختص الهوادي بالوحش كما يوهمه كلام المصنف رحمه الله، وفي الصحاح والهادي العنق، وأقبلت هوادي الخيل إذا بدت أعناقها ويقال أوّل رعيل منها وقول امرىء القيس:
". كأنّ دماء الهاديات بنحره
يعني به أوائل الوحش انتهى. وظاهر كلام أهل اللغة أنه حقيقة في العنق، وإطلاقه على
الأوّل مجاز وإن اشتهر فيه كما في الأساس فقوله لمقدّماتها بفتح الدال المتقدمة منها في الورود ونحوه، أو أعضاؤها المتقدمة كالرأس والعنق لأنها تسمى هوادي أيضاً كما سمعته. قوله: (والفعل منه) أي من الهداية المقصودة بالذكر هنا لا من مجموع ما مرّ فلا يرد عليه أنّ فعل الهدية أهدى كما مرّ. وقوله: (وأصله أن يعدى إلخ) أي إلى المفعول الثاني وقد يحذف منه الحرف فيتعدّى إليه بنفسه كاختار فإنه يتعدى لأحد المفعولين بنفسه وللآخر بمن وقد يتعدى له بنفسه، كقوله: {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ} [الأعراف: 155] على الحذف، وا لإيصال هذا ما قاله المصنف تبعاً للزمخشري وقيل: هما لغتان كما في الصحاح هديته الطريق لغة أهل الحجاز وإليه لغة غيرهم، والفاء في قوله فعومل فصيحة، وقيل: إنه إذا عدّي باللام مصدره
الهدي، وإذا عدّي بإلى مصدره الهداية كما في الديوان وغيره(1/125)
ومنهم من فرق بينهما كما قال قدّس سرّه: ونقل عن المصئف رحمه الله إن هداه لكذا أو إلى كذا إنما يقال إذا لم يكن في ذلك فيصل بالهداية إليه، وهداه كذا لمن يكون فيه، فيزداد أو يثبت، ومن لا يكون فيه فيصل. قيل: ولا نزاع في الاستعمالات الثلاثة إلاً أنّ منهم من فرق بينهما بأنّ المتعدّي بنفسه هو الإيصال إلى المطلوب، ولا يكون إلاً فعل الله، فلا يسند لغيره كقوله: {لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت: 69] ومعنى المتعدّي بالحرف الدلالة على الموصل، فيسند له وللقرآن والبيّ صلى الله عليه وسلم انتهى.
قيل: وعلى الفرق الأوّل يظهر الجواب عن النقض المشهور على تعريف الهداية بالدلالة الموصلة بقوله تعالى: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ} [فصلت: 17] إلخ إذ يجوز أن يكون التعريف للهداية المتعدّية بنفسها، والهداية في الآية متعدّية بالحرف، فترك المفعول بواسطة اختصاراً من غير احتياج إلى تجوّز ونحوه، وقيل: الهداية تتضمن معاني يقتضي بعضها تعديتها بنفسها وبعضها التعدية بالحرف، كالإرادة والإشارة والتلويح، وليس بشيء وسيأتي تتمته، واعترض على الفرق الثاني بقوله تعالى حكاية عن الخليل عليه الصلاة والسلام {يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا} [مريم، الآية؟ 43] ونحوه، ودفعه بأنه إسناد مجازيّ مخالف للظاهر. قوله: (لا يحصيها عدّ) أي لا يحصى إفرادها الجزئية أحد يعدّ، وأصل الإحصاء العد بالحصى، ثم صار حقيقة في مطلق العدّ كما هنا، فإسناده إلى العدّ مجاز للمبالغة، ولما كان إطلاق نفيه يوهم عدم انحصار أنواعها وأجناسها استدرك ما يدفع ذلك الإيهام وقيل إنّ المصنف رحمه الله تعالى فسر الهداية المطلوبة بقوله اهدنا بالدلالة السالفة ثم قال وهداية الله إلخ ولم يقل، وهي تتنوّع لأنّ ما ذكر من الإفاضة والنصب والإرسال والإنزال، لا تصدق عليه الدلالة إلاً بضرب من التأويل، ولو سلم فالمقسم لهذه الأجناس خصوص هداية الله تعالى، فالوجه أن يقال المقسم ما يطلق عليه هداية الله بوجه، أو فيه مضاف مقدّر أي أسباب هداية الله.
(أ+دول) الظاهر أنّ الدلالة الساباتة أعمّ من هذه، كما ينطق به وينادي عليه فحوى كلامه، فكون ما ذكر لا يطلق عليه الدلالة غير مستقيم، فإنّ إطلاقه الهداية عليه يأباه والإظهار في مقام يقتضي ظاهره الإضمار إشارة إلى أنه ليس عين ما قدّمه، والمر1د بكونها هداية الله أنها بخلقه وإحسانه، فلا ينافي إسنادها لغيره كما يشهد له ما ذكره من قوله: {يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا} [الأنبياء: 73] فافهم. قوله: (1 لأوّل إفاضة القوى إلخ) المراد بالإفاضة الإيجاد بالفيض، وهو الإحسان والجود الإلهي، والقوى جمع قوّة وهي لغة بمعنى القدرة، والتهيؤ كما فاله
الراغب وفي اصطلاح الحكماء كما قالوه مبدأ التغير من أمر إلى آخر من حيث هو آخر، وهذا هو المراد هنا، وهي عند الأطباء ثلاثة أجناس لأنّ فعلها إمّا مع شعور أو لا، والأوّل يسمى فوّة نفسانية، والثاني إن اختص بالحيوان فقوّة حيوانية والاً فهي طبيعية، وعند الفلاسفة أربعة لأنّ كل قوّة إمّا أن يصدر عنها فعل واحد أو أكثر، وعلى التقديرين إمّا مع شعور أو لا، فالتي فعلها متغير مع الشعور قوّة حيوانية والتي فعلها متغير بدونه قوّة نباتية، والتي فعلها غير متغير مع الشعور قوّة فلكية، والتي بلا شعور طبيعية إن كانت في البسائط كالنار وخاصية في المركب كتخدير الأفيون، وهذه هداية إلى طريق التعقل والإحساس وفيها ما لا يختص بالإنسان، وإلى العامّ منها الإشارة بقوله تعالى: {أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه: 50] واثبات الحواس الباطنة وإن كان رأي الفلاسفة، فقد ذهب إليه كثير من أهل السنة، وقال الغزاليّ: الذي أبطلوه استقلالها بالإدراك والتأثير وما أثبتوه لها مما هو مبنيّ على أصولهم الواهية ومجرّدها لا ضير فيه لما فيه من الحكم البديعة والقدرة الباهرة. وفي شرح المقاصد: لا يخفى إنا إذا جعلنا القوى الجسمانية ا-لة للإحساس، وادراك الجزئيات والمدرك هو النفس ارتفع النزاع، فلا وجه لما قيل: من أنّ اللائق بالمصتف أن لا يذكرها لابتنائها على هذيانات الفلاسفة، ونفصيلها في مطوّلات الكلام، وكتب الحكمة، والمشاعر الحواس الظاهرة جمع مشعر جعلت محلاً للشعور، وهو الإحساس، وجعل الأولى حواس والثانية مشاعر تفنناً. قوله: (والثاتي نصب الدلائل إلخ) الظاهر أنّ المراد بهذه القوّة النظرية والفكر في الأنفس، والآفاق حتى يعلم أنّ له صانعا ورباً قديراً، ولأجل هذا أوح الله فيه العقل والقوى(1/126)
الظاهرة والباطنة، فظهر من هذا كونه مترتباً على ما قبله، وما قيل من أنّ الحق والباطل إشارة إلى الكمال بجسب القوّة النظرية والصلاح والفساد بحسب القوّة العملية لا وجه له، وقيل: من جملة هذه. الدلائل المعجزات المفضية إلى ثبوت الشرع الموقوف عليه الأدلة السمعية، وفيه نظر. قوله: (وإليه أشار إلخ) أي إلى نصب الدلائل العقلية أشير في هذه الآية الكريمة، والنجد المكان الغليظ المرتفع، وهو مثل لطريقي الحق والباطل في الاعتقاد، والصدق والكذب في المقال، والجميل والقبيح ني الفعال فبين أنه عرفهما كقوله: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} [الإنسان: 3] قيل وما ذكره المصتف تبع فيه الزمخشريّ، والهداية فيه متعدّية بنفسها وليست بمعنى الإيصال بل بمعنى الإراءة ألا ترى إلى قوله: {فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ} قال المصنف: فلم يشكر تلك الأيادي باقتحام العقبة فإنّ الإيصال إلى طريق الشرّ ليس من الأيادي بخلاف إراءته من حيث أنه طريق شر يحترز عنه فإنه يكون خيراً في حقه، وعلى ما يفهم من كلامه أوّلاً من اختصاصها بالخير في قوله: {هَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد: 10] تغليب انتهى. ولا يخفى ما فيه من الاضطراب، فإنّ المصتف رحمه الله لم يقل هنا أنّ المتعدي بنفسه
يفيد الإيصال حنى ينافيه ما وقع في النظم، ثم إنه على ما ذكره لا يحتاج إلى التغليب فكان عليه أن لا يذكره أو يجعله وجهاً آخر فتدئر. قوله: (وقال وأمّا ثمود إلخ) قيل إنّ كلامه في تفسيره يدل على أنّ المراد بالهداية فيه ليس الجنس الثاني فقط حيث قال: فدللناهم على الحق بنصب الحجج، وارسال الرسل، ولعله أولى لأنه أدل على شقاوتهم، والرسل هنا رسل الله من البشر. قوله: (والثالث إلخ) قيل الظاهر أنّ المراد بالرسل ما يعم الملائكة ليتناول هذا الجنس من الهداية الأنبياء، ثم جعل المنحصر في الأجناس هداية الله يقتضي أن يكون المراد هداية الله تعالى بإرسال الرسل، وانزال الكتب والعبارة أيضا تفيد هذا المعنى، وعلى هذا في قوله واياها عنى إلخ نظر، فإن قيل الهداية فيها صفته تعالى أسندت إليهم والى القرآن مجازاً كما يقال قطع السكين قلنا لو سلم ذلك في الثاني فلا نسلمه في الأوّل، وقد قال المصئف في تفسير.: وجعلناهم أئمة يقتدى بهم يهدون الناس إلى الحق بأمرنا لهم بذلك، وإرسالنا إياهم حتى صاروا مكملين نعم جعلهم أئمة يهدون بأمره هداية منه تعالى بإرسال الرسل لكن ظاهر قوله واياها عنى بقوله: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً} [الأنبياء: 73] إلخ يشعر بأنه إياها عنى بالهداية المذكورة فيه، وقد يتكلف له فيقال المراد بهداية الله المنحصرة في الأجناس الهداية المنتسبة إليه تعالى بوجه، وهداية الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، كذلك لكونها بأمره تعالى، وارساله وبالهداية لإرسال الرسل وانزال الكتب الهداية الحاصلة بهما سواء كانت قائمة بالرسل والمنزل، أو بمن هداه وأمره بالهداية، وقس عليها هداية القرآن إن كان متصفا بها حقيقة، وقال الغزالي: الهادي من العباد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، والعلماء المرشدون للسعادة الأخروية، والدالون على الصراط المستقيم بل الله الهادي بهم، وعلى اً لسنتهم، وهم مسخرون بقدرته وتدبيره، فالهداية المسندة لهم من هداية الله، ومندرجة- تحت جنس الهداية بإرسال الرسل عليهم الصلاة والسلام بهذا الاعتبار.
(أقول الك أن تجعله شاملاً للأنبياء عليهم الصلاة والسلام من غير تأويل بما ذكره، فإنهم مأمورون أيضاً بما أوحي إليهم كما لا يخفى، وأمّا أمر الحصر والتوفيق بينه، وبين ما ذكر فغير محتاج إلى تكلف ادّعاء مجازية الإسناد مع أنّ الظاهر الحقيقة، ولا موجب للعدول عنها في الآية الأولى بخلاف الثانية، وان توهموا العكس فإنّ قوله تعالى بأمرنا صريح في أنّ الله هداهم حيث أمرهم بالعمل والتبليغ، وهذا مراد المصتف رحمه الله ومحل استشهاده، وأمّا القرآن في نفسه فليس هو الهادي حقيقة فتدبر. وقوله: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي} [الإسراء: 9] أي يدل على خصلة، أو ملة أقوم مما عداها. قوله: (والرابع أن يكشف إلخ) مغايرته
لما قبله ظاهرة لاختصاصه بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام والأولياء إذ المراد بالوحي كشف الحقائق وإظهارها لهم بغير الطرق المعهودة ولا وجه لتعميمه والإلهام إلقاء الخير في القلب إذ غيره يقال له وسوسة وأمّا قوله تعالى: {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشمس: 8] فمؤوّل كما سيأتي في محله، والمنامات الصادقة هي(1/127)
الميشرات وهي جزء من أجزاء اليحوّة كما ورد في الحديث المشهور (1) ، وانكشاف الحقائق بها يقيناً مخصوص برؤياهم سواء أوّلت، أو وقعت بعينها. وقوله: (كما هي) أي كما هي هي في نفس الأمر، كقولهم من حيث هو هو وإعرابه مشهور. وقوله: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ} [الأنعام: 90] الآية الشاهد فيها في الهداية الأولى أو فيهما والمراد بهداهم ما توافقوا عليه من التوحيد، وأصول الدين كما سيأتي في سورة الأنعام تحقيقه، فلا وجه لما قيل من أنه يمكن حملها على الثالث حتى توهم بعضهم أنه أظهر وأولى، وعدى المصتف رحمه الله الكشف بعلى، لأنه مضمن أو متجوّز به عن معنى جلا وأظهر، وان لم يخل من ركاكة العجمة والنيل الوصول. قوله: (والذين جاهدوا إلخ) قال المصتف رحمه الله في تفسيره: والذين جاهدوا في حقنا، واطلاق المجاهدة ليعمّ جهاد الأعادي الظاهرة والباطنة بأنواعه {لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [صورة العنكبوت: 69] سبل السير إلينا والوصول إلى جنابنا أو لنزيدنهم هداية إلى سبيل الخير وتوفيقاً لسلوكها إهـ. ولعل هداية سبيل السير إليه تعالى أن يكشف عن قلوبهم السرائر ويريهم الأشياء كما هي، وقال الطيبيّ: طيب الله ثراه الاستشهاد فيه أنه تعالى أثبت لهم الجهاد على لفظ الماضي، وأوقع ضمير التعظيم ظرفاً له على المبالغة أي في سبيلنا ووجهنا مخلصين لنا ولا يكون مثل هذا الجهاد إلاً هداية لا غاية بعدها، ثم قال: لنهدينهم سبلنا على الاستقبال، وصرّح بلفظ سبلنا ولا يستقيم تأويله إلآ بما ذكر من طلب الزيادة بمنح الألطاف اهـ. والسرائر جمع سريرة، وهي ما يسره المرء في قلبه وأواد بها المصتف رحمه الله السرّ الإلهيّ، وليس ببعيد وان كان خلاف المعروف من استعماله. قوله: (أمّا زيادة ما منحوه إلخ) منح بمعنى أعطى يتعدى لمفعولين وهو مبنيّ للمجهول هنا والزيادة نزول الآيات وظهور الأحاديث في زمانه عليه الصلاة والسلام وظهور طرق الاحتياط والأخذ عن أهل العلم بعده، وقال قدس سرّه: إنه يعني أنّ من خص الحمد به تعالى وأجرى عليه تلك الصفات فهو مهتد فكيف طلب الهداية. فالمطلوب لزيادة أو الثبات أو ثمرة ذلك من سعادة الدارين، ثم إن حمل لفظ الهداية على التثبيت، كان مجازاً وان
حمل على الزيادة فإن كان مفهوم الزيادة داخلاَ في المعنى المستعمل فيه كان مجازا أيضاً وان جعل خارجاً عنه مدلولاً عليه بالقرائن كان حقيقة لأنّ الهداية الزائدة هداية كما أنّ العبادة الزائدة عبادة فلا يلزم الجمع بين الحقيقة، والمجاز وإن جاز كما سيأتي بيانه وتبعه أرباب الحواشي هنا برمّتهم كما قيل إنه جواب عما يقال من أنّ ما قبله منزل على ألسنة العباد الذين حمدوه وخصوا الحمد به تعالى، ووصفوه بغاية الكمال وخصوه بالعبادة، والاستعانة ومثل هؤلاء لا يصح منهم طلب الهداية إلى الصراط المستقيم بمعنييه لحصوله لهم، ففيه تحصيل الحاصل فأجاب عنه بقوله فالمطلوب إلخ. فهو جواب شرط مقدّر أي إذا انقسمت الهداية لما ذكر، وكثره حاصل لهم فالمطلوب الزيادة والثبات أي مجموعهما، وفي نسخة أو الثبات بأو بدل الواو، وهي الموافقة لما في الكشاف والحاصل أنّ الهداية مطلقة، فتصرف للكمال، وهو بما ذكر من الزيادة أو الثبات أو حصول مراتب أخرى من جنسها، وقد قيل عليه أنه إن أريد بالإيصال المفهوم من الدلالة الإيصال القريب، وبالصراط المستقيم ما يشمل العقائد الحقة والأعمال الصالحة، فلا مرية في أنّ من خص الحمد به تعالى وأجرى عليه تلك الصفات لا يلزم أن يكون مهتدياً بهذا المعنى لأنّ الموصل القريب لها الأدلة وإن أريد البعيد صح ولكن لا يتعين الحمل عليه، وأيضاً جزمه بالتجؤز إذا أريد الثبات وتفصيله في الزيادة فيه بأنه إن جعل الثبات داخلاً في المعنى المستعمل فيه كان مجازا وإلاً فهو حقيقة من غير فرق بينهما تحكم ورد بأنّ الموصل القريب لا ينحصر فيما ذكر، إذ يكون بما عرف سماعا من الشرع، وبالعقل السليم والثبات ليس كالزيادة لخروجه عن مفهومه بغير شك (أقول والهداية منه وإليه أليس كلام المصنف رحمه الله مطابقاً لما في الكشاف حتى يشرح بما شرح به ويورد عليه ما أورد عليه، فإنه في الكشاف لم يتعرّض لشيء مما ذكره المصتف أصلاً، فالحق أن يقال في بيان ما هنا إنه لما فسر الهداية المطلقة بالدلالة بلطف ونوّع منها هداية الله تعالى، وفسر الصراط بما ذكر، صار المعنى يا ربنا دلنا على طريق الحق بسلامة(1/128)
القوى ووقفنا على أدلة الآفاق والأنفس ووفقنا لتلقي الأدلة السمعية من الرسل عليهم الصلاة والسلام والكتب حتى نصل لها فالتفريع هنا على ما قبله من تنويع الهداية الربانية إذ المطلوب هدايته لما يوصل إليه منها وكلها أو جلها حاصل لهم، فالمطلوب الزيادة إلخ والفاء فصيحة أي إذا تنوّعت الهداية لما هو معلوم الحصول، فالمطلوب ما ذكر وتفريعه على ما في النظم كما في الحواشي أبعد بعيد فعليك بالنظر السديد إذا صعدت من صعيد التقليد. قوله: (من الهدى) قال بعض الفضلاء: الهدى جاء لازماً بمعنى الاهتداء ومتعدّياً بمعنى الدلالة والأوّل هو المراد بقرينة قوله منحوه. والمراد بزيادة الهدى إمّا زيادة الله إياهم الهدى كما في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى} [ئحمد: 17] أو ازدياد الهدى على أنّ المراد بالمطلوب المطلوب الأصليّ الذي يطلب ما أريد بمصدر اهد لأجله، وهو زيادة الله إياهم الهدى أو الهداية، أو زيادة الهدى والهداية الزائدة والمراد
بالثبات، أمّ ثباته تعالى على الهدى بمعنى الهداية على سبيل الاستخدام، أو ثباتهم على الهدى على قياس ما عرفت في زيادة الهدى، وعلى الثاني المراد بالهداية تثبتهم على الهدى أو ثباته تعالى على هدايتهم أي دوامه.
(بقي) هنا أنه قد يقال الصراط بمعنييه لا يخلو إثا أن يراد جميعه أو بعض منه معين أو
غير معين لا سبيل إلى الأوّل لأنّ هؤلاء لم يحصلوا جميع طرقه، وجميع الأعمال الصالحة والعقائد الحقة والبعض المعين لا بد له من قرينة تعيينه ولا قرينة هنا فإن أريد بعض غير معين، فلا ريب في صحة طلب البعض لآخر من غير تأويل أو تجوّز فتأمّل. قوله: (فإذا قاله العارف إلخ) الظاهر أنه تفريع على قوله حصول المراتب المترتبة عليه وأنّ هذا من جملتها، ولذا قالوا إنّ العارف لا يزال مسافرا فكلما ألقى عصاه بدا له سفر، فهو من معنى الهداية المترتبة على أحد الأربعة، وقيل: الحصر فيها بالنسبة إلى السالك، وهذا متفرع عليها بعد التكميل، فلا يرد عليه ما قيل لا يخفى إنّ الإرشاد المذكور جنس خاسى من الهداية، فإنّ الرابع هو هداية السير إلى الله كما سبق، فالحصر في الأجناس الأربعة غير مستقيم، وقد رد أيضا بأنه قد قيل إنّ الفناء عبارة عن نهاية السير إلى الله عر وجل، والبقاء عبارة عن بداية المسير في الله سبحانه والسير إنما ينتهي إذا قطع بادية الوجود بالكلية، وبعده يتحقق السير فيه بالإتصاف بالأوصاف الإلهية، والتخلق بالأخلاق الربانية، وقطع بادية الوجود عبارة عن فناء الحظوظ الدنيوية والأخروية، ويلزمه بقاء طلب الحق سبحانه بل يندرج فيه السير إليه أيضا، كما أنّ قوله تعالى: {لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت: 69] يشملهما فالحصر مستقيم، والعارف الواقف على الأسرار الإلهية، والسير في الفتوحات أن يكشف له عجائب الملكوت، فتنتقش في جوهر نفسه فيفرّ إلى الله مسافرا عما سواه إلى أن يراه في كل شيء ويطلق عندهم أيضاً على الانتقال من اسم إلهيّ إلى. آخر:
فيا دارها بالخيف إنّ مزارها قريب ولكن دون ذلك أهوال
قوله: (أوشدنا) عذاه بنفسه على الحذف والإيصال، أو ضمنه معنى أرنا لأنه يتعدى بالحرف وفي المصباح أرشدني إلى الشيء وعليه وله قاله أبو زيد، ونمحو بالنون والتاء الفوقية والياء التحتية، وكذا نميط في الوجوه الثلاثة ونمحو بمعنى نزيل، ونميط بمعنى نبعد وننحى، والغواشي جمع غاشية بمعجمتين ما يغشى أي يعرض ويكون بمعنى الغطاء، ومنه غاشية السرج لغلافه فغواشي الأبدان المراد بها هي بأنفسها، أو ما يطرأ عليها من كدورات البشرية وظلمات الهيولى، ونور قدسه الملكات الفاضلة أو الفيوض الإلهية. وقوله: (فنزاك بنورك) أي نشاهدك بما أودعته في سثمكاة قلوبنا من الأنوار، والله نور السموات والأرض، فإذا فهمت فنور على نور. قوله: (والأمر والدعاء) المراد بهما مفهوما هما، أو ما صدقا عليه، كصم وصل أو
المعنى المصدري، وقيل: هذا تكلف من غير حاجة داعية له، فإنّ صيغة افعل لا تدل على مصدر أمر ودعا، وان تحقق عند تحققها وفيه نظر، والمنقول في أصول الشافعية كما في شروح جمع الجوامع أنه لا يعتبر في مسمى الأمر ولا في حدّه علو ولا استعلاء، واعتبر فيه المعتزلة وهو المشهور عنهم، وأبو إسحاق الشيرازي وابن الصباغ والسمعانيّ العلو، وأبو الحسين من المعتزلة، والإمام الرازي والآمدي، وابن الحاجب الاستعلاء،(1/129)
وتابعهم المصنف وحمه الله هنا وخالفهم في منهاج الأصول، ورذ مذهب المعتزلة المشهور من اشتراط العلوّ قي الأمر وضد. في الدعاء، وقيل بالرتبة وهو مختار الزمخشريّ والاشتراك اللفظي بينهما كونهما بصيغة واحدة في الأكثر، وهي أفعل والمعنوي إنّ فيهما معنى الطلب الذي هو كالجنس لهما. وقوله: (ويتفاوقان) أي يتغايران ويفترقان بأنّ الطلب إن كان استعلاء فأمر، وان سفلا فدعاء والاً فيسمى التماساً وقال بعض المعتزلة: إن كان عالي الرتبة فأمر وان كان سافلها فدعاء هذا ما أراده المصتف رحمه الله، فمن توهم أنه لا مغايرة بين القول الأوّل والثاني فقد وهم لأنّ الاستفعال قد يكون لعد الشيء متصفا بشيء، وان لم يكن كذلك كاستحسنه، وان لم يكن حسناً وكذا التفعل كتحلم وان يكن حليماً فالاستعلاء والتسفل يقابل العلو، والسفل وتفصيله في الأصول. قوله: (والسراط إلخ) السراط هو الطريق السهل، أو الواضح المستوي من سرط الطعام، كفرح ونصر ابتلعه وزرده فقيل: إنه يتصوّر أن يبلعه سالكه، أو يبتلع هو سالكه ألا تراهم قالوا قتل أرضا عالمها، وقتلت أرض جاهلها وعلى النظرين قال أبو تمام:
رعته الفيافي بعدما كان حقبة رعاها وماء المزن ينهل ساكبه
فقوله: كأنه يسترط السابلة تتبع فيه الزمخشريّ، وفي الكشف لو قال لأنهم يسترطون السبل، وهي تسترطهم كان أولى، وفي نسخة يسرط من الثلاثي وهذا بيان لوجه أخذه منه، والسابلة الطريق ومن يسلكها والمراد الثاني. وقوله: (ولذلك) باللام وفي نسخة بالكاف، وهي صحيحة أيضا، واللقم بفتحتين معظم الطريق أو طرفه أو وسطه من الالتقام، وهو الابتلاع ففعل بمعنى فاعل أو مفعول كالسراط، والمصنف رحمه الله اقتصر على الأوّل لوضوحه، وعن الأزهري أكلته لمفازة إذا نهكته لسيره فيها، وأكل المفازة إذا قطعها بسهولة، وقيل: إنّ السابلة إذا ذهبوا من عندنا، فحالهم بالنسبة إلينا شبيهة بابتلاع الطريق، فإذا جاؤوا إلينا، فكأنهم يبتلعون الطريق ويلتقمونه. قوله: (والصراط من قلب السين إلخ) إنما قلبت السين صادا لمناسبة الطاء في الإطباق، وفي انخة اض السين مع تفخيم الراء استثقال للانتقال من سفل إلى علو بخلاف العكس نحو طست لأنّ الأوّل عمل والثاتي ترك كما قرّره أهل الأداء. وقوله: (ليطابق) أي ليوافق مجانسه مع الأطباق والصاد والضاد والطاء والظاء مطبقة، ويقال منطبقة لانطباق اللسان معها على الحنك. وقوله: (وقد يشئم إلخ اليكون أقرب إلى المبدل منه لأنّ
الزاي والسين من المنخفضة المنفتحة، ولأنّ مخرجهما من بين الثنايا، وقيل: ليكتسب بذلك نوع جهر ويزداد قربها من الطاء، والإشمام هنا خلط الصاد بالزاي وعرفه الفرّاء بخلط حرف بآخر وكل وفي الوقف ضم الشفتين مع انفراج بينهما، ولا يدركه إلاً البصير، وله معان أخر سيأني تفصيلها ني سورة يوسف والزاي اسم هذا الحرف المعجم بياء بعد الألف، للفرق يينها وبين الراء المهملة، وفي النشر يقال زاء معجمة بالمد، وزاي بالف وياء وزيّ بالكسئر والتشديد اهـ وعامّة بلادنا يقولون زين، وهو غلط وشين. قوله: (والباقون بالصاد إلخ الغة قريش إبدال السين صادا هنا، وفي كل موضع بعدها عين أو خاء أو قاف باطراد، وقول الجوهري السراط لغة في الصراط لا يقتضي أصالتها، ولذا رسمت صادا لما روي عن عثمان رضي الله عنه أنه قال: إذا اختلفتم في شيء فاكتبوه بلغة قريش، فإنّ القرآن نزل بها وقرىء بالزاي الخالصة أيضا. قوله: (والثابت في الإمام) أي المثبت كتابة وخطأ في مصحف عثمان رضي الله تعالى عنه المسمى إماماً عند القرّاء والمفسرين وغيرهم، فإنّ الإمام لغة ما يؤتم ويقتدى به، فيتبع وان لم يكن من العقلاء، ولهذا أطلق على اللوح والكتاب كما فال تعالى: {وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً} [الأحقاف: 2 ا] فسمى الكتاب إماماً على وجه، وقد كان في سنة ثلانين لما سار حذيفة رضي الله عنه لبعض الغزوات وعاد قال لعثمان رضي الله عنه: إني رأيت أمراً عجيباً رأيت الناس يقول بعضهم لبعض قراءتي خير من قراءتك، فإن تركوا ليختلفوا في القرآن، فيكون لذلك أمر، فجمع عثمان الصحابة رضي الله عنهم واستشارهم، فأشاروا عليه بجمعهم على مصحف واحد، فارسل إلى حفصة أمّ المؤمنين رضي الله عنها لترسل الصحف لتنسخ، وكان أبو بكر رضي الله عنه جمعها لما كثر قتل الصحابة رضي(1/130)
الله عنهم باليمامة، وهو الجمع الأوّل، فأرسلتها إليه، فامر عثمان رضي الله عنه زيد بن ثابت وابن الزبير وسعيد بن العاصن. وعبد الرحمن بن الحارث، فنسخوها في مصاحف اختلف في عددها كما في شرح الرائبة للسخاوي رحمه الله وأرسل إلى كل مصر مصحفا، وحرّق ما سواها، فسمي كل من تلك المصاحف إماماً لا المصحف الذي كان عند عثمان وحده كما قيل.
فإن قلت: قد قيل على ما ذكره المصتف رحمه الله أنّ جميع القراءات السبعة بل العشرة
ثابتة في الإمام لأنهم قالوا: لا بد فيها من أمور ثلاثة صحة السند وموافقة قواعد العربية، ومطابقة الرسم العثماني الثابت في الإمام.
قلت: المراد بالثبوت فيه الثبوت، ولو تقديراً كما فصله في النشر وقال: انظر كيف كتبوا الصراط، والمصيطرون باله ماد المبدلة من السين وعدلوا عن السين التي هي الأصل لتكون قراءة السين، وان خالفت الرسم من وجه قد أتت على الأصل فيعتدلان، وتكون قراءة الإشمام
محتملة ولو كتب بالسين على الأصل فات وعدت قراءة غير السين مخالفة للرسم، فلا إشكال. قوله: (وجمعه شزط الخ) ظاهره أنّ هذا الجمع يكون له مطلقاً سواء ذكر أم أنث ولذا قدّمه، وقد قيل إنه إن ذكر جمع على أفعلة في القلة وعلى فعل في الكثرة كحمار وحمر وأحمرة وان أنث فقياسه أن يجمع على أفعل كذراع وأذرع، وفسر المستقيم وهو الذي لا اعوجاح فيه بالمستوى، وهو من قولهم سوّى الأرض والمكان فاستوى هو بأن لا يكون في سطحه وحدوده اختلاف، ومته قوله تعالى: {لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ} [النساء: 42] أي يوضع عليهم ترابها ويسطح. وقيل: وصف الطريق به له معنيان: أحدهما أنه مستو بنفسه. والآخر أنّ سالكه يستقيم فيه. وقوله: (كالطريق إلخ) هو مثله معنى وقيل: بينهما فرق، فإنّ الطريق ما يسلك مطلقاً، والسبيل ما هو معتاد السلوك والسراط ما لا عوجاح فيه يمنة، ويسرة فهو أخصها، فإن قيل فما فائدة وصفه حينئذ بالمستقيم قيل: لأنّ الصراط يطلق على ما فيه صعود أو هبوط، والمستقيم ما لا ميل فيه إلى شيء من الجوانب، وأصل الاستقامة في الشخص القائم. قوله: (والمراد به طريق الحق إلخ) هذان التفسيران رواهما ابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنهما، وذكرهما المصنف والزمخشريّ إلاً أنّ الزمخشريّ قال المراد به طريق الحق وهو ملة الإسلام قجعلهما متحدين والمصتف رحمه الله تعالى أشار إلى الرد عليه وجعلهما متغايرين، وقد ذهب بعض أرباب الحواشي إلى أنّ الحق ما فهمه الزمخشريّ وقال ابن تيمية الخلاف بين السلف في التفسير قليل جدّا، وهو في الأحكام أكثر وغالب ما روي عنهم من الأوّل راجع إلى تنوّع العبارة وإليه أشار الزمخشريّ، وعلى ما فهمه المصئف هما متغايران إمّا لأنّ ملة الإسلام تختص بالأصول والإعتقاد، وطريق الحق أعمّ لشموله الفروع والأصول سواء فسر الحق هنا بما يخالف الباطل أو بأنه اسم الله فإنه ورد إطلاقه عليه، وهو مخالف لقوله قدس سرّه: إن ملة الإسلام تشمل الأحكام الأصلية والفرعية، وإن قيل: إنه مبني على مسلك الزمخشريّ.
وقيل: طريق الحق مطلقاً تتناول ملة الإسلام، وما فيها من العبادة كما هو المناسب لتنوّع
الهد اية.
وقيل: طريق الحق أخصى لشمول ملة الإسلام للفرق الضالة كالقدرية.
وقيل: اصحق أعمية الحق لشموله السير في الله، وما يترتب على الهداية من المراتب كما
مرّ وقيل الطريق المستقيم هنا العبادة، لقوله تعالى: {وَأَنْ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ} [يس: 61] والقرآن يفسر بعضه بعضاً وفيه نظر، وقول الفاضل الليثي: إنه ليس المراد تعفق الهداية بجميع ملة الإسلام، بل ببعضها سواء أريد به التثبت أو الزيادة ناشىء من عدم النظر للوقوع، وعموم الطلب فتأمّل. قوله: (بدل من الأوّل الخ) بدل خبر مبتدأ مقدر أي هذا بدل
من الصراط الأوّل. وقوله: (بدل الكل من الكل) بدل من البدل، وهو من حسن الإتفاق الذي سماه المتأخرون في البديع تسمية النوع، وقد عاب ابن مالك رحمه الله في بعض كتبه هذه العبارة على النحويين لأنّ الكلية لا تصح في مثل {صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ. اللهِ} [إبراهيم: ا- 2] فإنها إنما تقال فيما ينقسم ويتجزئ، والله سبحانه وتعالى منزه عن ذلك، فالأولى أن يقال فيه البدل الموافق أو المطابق.
والورع البارد في نحوه يغنيك عنه النظرالحامي(1/131)
وقوله: (وهو في حكم تكرير العامل) هذه عبارة مهذبة صادقة على مذهبي التقدير وعدمه
فلا وجه لما قيل إنّ هذا مذهب الأخفش والرمّاني والفارسي وأكثر المتأخرين، وبدل عليه كلام صاحب الكشاف في بحث البدل من المفصل، لكن ذهب جماعة إلى أنّ العامل في البدل هو العامل في المبف ل منه، وعد الرضي صاحب الكشف منهم. قوله: (من حيث إنه المقصود إلخ) قيل: إنه إشارة إلى ما استدل به الفريق الأوّل على تقدير عامل من جنس الأوّل لكونه مستقلاً أو مقصودا بالذكر، واذا لم يشترط مطابقتة للمبدل منه تعريفا وتنكيراً.
وأجيب: بأنّ استقلال الثاني، وكونه مقصودا يوذنان بأنّ العامل هو الأوّل لا مقدّر آخر
لأنّ المتبوع أذن كالساقط، فكأنّ العامل لم يعمل في الأوّل، ولم يباشره بل عمل في الثاتي والمعتى أنه مهصود بالنسبة دون متبوعه، وبهذا فارق العطف، وأورد عليه أنّ صرف العامل عن المبدل منه إلى البدل ينافي تكريره.
وأجيب عنه بأنه في حكم تكريره مع كلمة بل، وأورد عليه أنه لا يفهم من التكرير إلأ تقرير الأوّل وكلمة بل إضراب عنه، والحق أنّ الإضراب إنما هو من صرف خصوص نسبة العامل إلى خصوص آخر، ىأصل النسبة باق، فإن قلت النسبة تتغير بتغير أحد طرفيها قلت: إذا لم يكن " البدل أجنبيا عن المبدل مته لم تتغير بالكلية خصوصا في بدل الكل، فإنّ الإضراب فيه إنما هو باعتبار الوصف لا الذات، ثم إنما ذكر إنما يتأتى إذا كان للمبدل منه نسبة، فلا ينتقض بإبدال الجمل التي لا محل لها من الإعراب من مثلها، وقد جوّزه النحاة، وأهل المعاني، وترك المصئف رحمه الله ما استدل به في الكشاف لما فيه، كما لا يخفى على من له بصيرة نقادة. قوله: (وفأئدته التثيد إلخ) في الكشاف فائدة البدل التوكيد، لما فيه من التثنية والتكرير والإشعار بأنّ الطريق المستقيم بيانه، وتفسيره صراط المسلمين ليكون ذلك شهادة لصراط المسلمين بالاستقامة على أبلغ وجه، وآكده كما تقول: هل أدلك على أكرم الناس وأفضلهم فلان، فيكون ذلك أبلغ في وصفه بالكرم والفضل من قولك هل أدلك على فلان الأكرم الأفضل، لأنك ئنيت ذكره مجملاً أوّلاً، ومفصلاً ثانيا وأوقعت فلانا تفسيرا، وايضاحا للأكرم الأفضل فجعلته علما في الكرم والفضل، فكأنك قلت: من أراد رجلاً جامعاً للخصلتين فعليه
بفلان، فهو المشخص المعين لاجتماعهما فيه من غير مدافع ولا منازع اهـ.
وهو جواب عن نكتة التكرار والعدول عن الاختصار بأنه لفائدتين إحداهما قصده بالنسبة، وتكرير العامل حكما، والثانية تفسيره وبيانه به، ومذه مشتركة بينه وبين عطف البيان أو هي أظهر في الثاني، ومن دأب المصنف رحمه الله أنه إذا غير عبارة الكشاف، أو أسقط منها شيثاً أنه يشير بذلك إلى ردّ ضمني أو أنه غير مرضيّ، فلذا أسقط هنا تمثيله للبدل بالمنعوت المتقدم عليه نعته نحو أدلك على أكرم الناس زيد لأنه غير مسلم عند علماء المعاني، وفي المطوّل كل صفة أجرى عليها الموصوف نحو جاءني الفاضل الكامل زيد، فالأحسن أنّ الموصوف فيه عطف بيان لما فيه من إيضاح الصفة المبهمة، وفيه إشعار بكونه علما في هذه الصفة، وفي الحواشي الثريفية أنه أشار إلى أن جعله عطف بيان أحسن من جعله بدلاً من وجهين: أحدهما أنه يوضح تلك الصفة المبهمة، والإيضاح من شأن عطف البيان دون البدل والثاتي أنّ الإشعانة بكونه علما فيما ذكر إنما تتفرّع من جعل فلان تفسيرا للأكرم الأفضل، وايضاحا له فجعلته علماً في الكرم والفضل، ولا شك أنّ إيضاج المتبوع وتفسيره فائدة عطف البيان دون البدل، ولك أن تقول أنه اختار البدل في الآية وذكر له فائدتين الأولى تأكيد النسبة بناء على أنّ البدل في حكم تكرير العامل والثانية الإشعار بأنّ الطريق المستقيم بيانه وتفسيره صراط المسلمين فيكون ذلك شهادة لصراطهم بالاستقامة على أبلغ وجه وآكده، ولا خفاء في أنّ هاتين الفائدتين مطلوبتان في الآية الكريمة، فوجب أن يختار فيها البدل لأنّ الفائدة الأولى مختصة به، وأمّا الثانية فتحصل منه أيضا إذ قد يقصد ببدل الكل تفسير المتبوع، وايضاحه كما سيأتي إلآ أن ذلك لا يكون مقصودا أصليا منه كما في عطف البيان، وانما شبهه بقولك: هل أدلك إلخ إذا ورد في مقام ية صحمد فيه تكرير النسبة، وايضاح المتبوع معاً لا مطلقاً، وهناك يتعين البدل ولا يجوز عطف(1/132)
البيان فضلاً عن أن يكون أحسن، ولا بد من اعتبار هذا التقييد في التشبيه به ليوافق المشبه، ويتحصل به غرضه اهـ. والحاصل أنّ المبدل منه إذا كان وصفاً لفظاً أو تقديرا أثر في العناية بالبدل والقصد إليه فجعله في نية الطرح وجعل اسم الذات تابعاً له يومىء إلى أنّ تلك الصفات كمشخصاته التي يدل عليها اسمه، وانّ ثبوتها له أمر ظاهر مسفم وهي نكتة بديعة يشعر بها الكلام.
وبالغ المصتف رحمه الله في ذلك فجعله نصا فيها إلاً أنهم اختلفوا فيها، وفي منشئها فمنهم من جعله توضيح الموصوف باسم الذات، وجعله مشتركا بين البدل وعطف البيان، والمرجح للبدلية أمر خارج، وهو الفائدة الأولى المخصوصة به، وجعله قدس سرّه مجموع الفائدتين، فيختص بالبدل لأنّ الثانية متفرّعة على التأكيد بالوجهين، والإشعاو بأنّ الطريق المستقيم بيانه، وتفسيره صراط المسلمين، كما أوضحوه والتفصيل بعد الإجمال أبين وأقوى في الشهادة، وتكرير العامل يوذن بالقصد فيجب أن يكون علماً في الصفة المذكورة ليكون،
أوفى بتأدية ما قصد من اتصافه بالصفة المذكورة، فيستحق أن يستأنف القصد إليه، ولذا رجح المدقق في الكشف كونه بدلاً في الآية، والمثال مطلقاً على كونه عطف بيان، لأنّ استئناف القصد يدل على أنه أوضح من الأوّل في إفادة المقصود، فيلزم أن يكون هو الشخص غير مدافع ولا منازع اهـ.
وما أورد على الشريف من أنه يأباه عدم تعرّض الزمخشريّ في بيانها لتكرير العامل والنسبة كما ترى ليس بشيء، فإنه قدس سرّه إنما جزم بما ذكره لقوله في الكشاف لما فيه من التثنية والتكرير لأن جعلهما بمعنى قليل الجدوى، فحمل التثية على تكرير لفظه لتبادره منه وحمل التكرير على تكرير العامل والنسبة، وقرينة الأوّل ظاهرة، وقرينة الثاني اشتهاره في البدل. وقوله: (المشهود عليه) عداه بعلى لتضمته معنى المحكوم أو المجمع، وفي الكشاف المشهود له قيل: وتعبيره أوّلاً بالمسلمين، وثانياً بالمؤمنين إيماء لترادف الإيمان والإسلام وقيل: لاتحادهما صدقا فلا ينافيه تصريحه في شرح المصابيح بتباينهما وأنّ {الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ} المؤمنون، وأن النعمة الإيمان إذ لا نعمة أعظم منه، ولذا أطلق لأنّ المنعم عليه بها كانه منعم عليه بجميع النعم. وقوله: (لأنه جعل إلخ) تعليل للتنصيص. وقيل: إنه تعليل لقوله على آكد وجه. قوله: (من البين الذي لا خفاء فيه إلخ) قيل: عليه جعله بيانا، وتفسيراً للطريق المستقيم يقتضي أن لا يكون كون الطريق المستقيم طريق المؤمنين كالبين الذي لا خفاء فيه بل إنما يقتضي كون طريق المؤمنين علماً في الاستقامة متعينا ليصح تفسير المبهم به، وقيل: إنه إنما يرد إذا كان المقصود من التفسير دفع الإبهام، وأمّا إذا لم يقصد مته ذلك، وقصد كون المذكور في معرض التفسير علماً بيناً متعيناً على ما ذكره بقرينة كمال ظهوره فلا يرد ذلك، فإن فلت: سلمتا أنّ التفسير حينئذ لا يقتضي ذلك لكن كونه من البين الذي لا خفاء فيه من أين يفهم قلت: إذا تقرّر كون طريق المؤمنين كالعلم المتعين في الاستقامة مع ادّعائه أنّ هذه العلمية والتعين مشهود عليه معلوم عند كل أحد يفهم منه ذلك بلا شبهة. قوله: (وقيل الذين أنعمت عليهم الأنبياء إلخ) عطف على ما فهم مما سبق من انه طريق المؤنين مطلقاً وهو المنقول عن السدّي وقتادة، وصراطهم المطلوب هدايتنا إليه ما توافقوا عليه من التوحيد، وأصول الدين دون الفروع المختلف فيها فإنها ليست صراطاً مضافا للكل، أو ما اشتمل على التوحيد والعبادة والعدل واجتناب المعاصي والعمليات التي لم تنسخ، والنبوّة أجل النعم على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام والأمم، وفي الدر المنثور عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه فسره بطريق من أنعمت عليهم من الملائكة والنبيين والشهداء والصالحين، ومن أطاعه وعبده، وهو يشمل الأقوال الثلاثة، ويوافق قوله تعالى {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ} [مريم، الآية: 58] الآية. قوله: (وقيل أصحاب موسى الخ) أي المصدقون بهما وبما جاءا به قبل ما صدر من بعضهم من التحريف وقبل نسخ شيء مما جاءا به وهذا منقول عن ابن عباس رضي الله عنهما وخصوا لشهرة أمرهم وكثرتهم ووجودهم في عصر نبينا عليه أفضل الصلاة والسلام والتحريف تغيير ما في الكتابين كذكر نبئنا صلى الله عليه وسلم حيث أرادوا إخفاءه ويابى الله إلاً أن يتم نوره، ولو كره الكافرون، والنسخ رفع بعض الأحكام من شريعتهم وانتهاؤها، قيل: وفيه لف ونشر(1/133)
مرتب، فالأوّل بالنسبة لأصحاب موسى عليه الصلاة والسلام، والثاني بالنسبة لأصحاب عيسى عليه الصلاة والسلام، والظاهر أن كلاً منهما بالنسبة إلى كل منهما وقيل: هم مؤمنو الأمم السابقة وقيل: هم المؤمنون مطلقاً، وهو الأولى والأنسب، وليس بزائد على ما مرّ كما توهم.
واعلم أنّ التوراة والإنجيل اللذين عند اليهود والنصارى الآن اختلف فيهما هل هما مبدلان ومحرّفان لفظا أو تأويلاً، فأمّا التوراة فأفرط فيها قوم وقالوا كلها أو جلها مبدل حتى جوّزوا الاستنجاء بها، فليست المنزلة على موسى عليه الصلاة والسلام، وذهبت طائفة من الفقهاء والمحدّثين إلى أنّ ذلك إنما وقع في التأويل فقط كما صرّح به البخاري، واختاره الفخر الرازي وغيره لقوله تعالى: {قُلْ فَأْتُواْ بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} [أل عمران: 93] وهو أمر للنبيّ عليه الصلاة والسلام بالاحتجاج بها والمبدّل لا يحتج به، ولما اختلفوا في الرجم لم يمكنهم تغيير آيته منها، وتوسطت طائفة وهو الحق فقالوا: بدل بعض منها وحرف لفظه، وأوّل بعض منها بغير المراد منه، وإنه لم يعط منها موسى عليه الصلاة والسلام لبني إسرائيل غير سورة واحدة، وجعل ما عداها عند أولاد هارون، فلم تزل عندهم حتى قتلوا عن آخرهم في وقعة بختنصر، وبعد ذلك جمع عزير بعضاً منها ممن حفظها، فهو الذي عندهم اليوم وليس أصلها وفيه زيادة ونقص، واختلاف ترجمة وتأويل، وأمّا الإنجيل ففيه تبديل وتحريف في بعض ألفاظه ومعانيه، وهو مختلف النسخ، والأناجيل أربعة كما فصله بعضهم في كتاب عقده لذلك سماه المفيد في التوحيد. قوله: (صراط من أنعمت) فيه دليل على جواز إطلاق الأسماء المبهمة كمن على الله كما ورد في الأحاديث المشهورة يا من بيده الخير ونحوه، فلا يغرنك ما نقله الحفيد عن صاحب المتوسط من منعه. قوله: (والإنعام للصال النعمة إلخ) قال الراغب: النعمة الحالة الحسنة، لأنّ بناء الفعلة بالكسر للهيئة كالجلسة والركبة والنعمة بالفتح للمرّة كالضربة، وهو بمعنى التنعم، ولذا قيل كم ذي نعمة لا نعمة له أي لا يتنعم بما رزقه الله، والإنعام إيصال الإحسان إلى الغير من العقلاء كما قاله الراغب فلا يقال: أنعم على فرسه، ولذا قيل إنّ النعمة نفع الإنسان من هو دونه لغير عوض، والنعماء إزالة الضراء، والنعمى ضد البؤسى ونعمه بالتشديد جعله في نعيم، ولين عيش وناعم وناعمة من
نعومة المسلمين، وأصل معناه لغة من النعمة بالفتح، وأصله في المستلذات الحسية، ثم أطلقت على المعنوية، كنعمة الإسلام لأنّ اللذة عند المحققين أمر تحمد عاقبته، ولذا خصها بعضهم بالمعارف، وقيل: لا نعمة لله على كافر، ولما فيها من الإيصال والإنهاء كان حقها أن تعدّى بإلى لكنها عديت بعلى إشارة لعلو المنعم، ولذا قيل اليد العليا خير من اليد السفلى فقوله: من النعمة بالفتح، وهي اللين ظاهر، وفي نسخة من نعمة الإسلام؟ وهي الدين وهي صحيحة أيضا، وليست تحريفا لأنّ إضافته بيانية قال تعالى: {وَمَن يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللهِ} [سورة البقرة: 211] وكذا ما في بعضها من النعهمة، وهي الدين مع ما فيه من الركاكة، ولا ينافي تخصيصها بنعمة الإسلام الإطلاق المستفاد من ظاهره لشمول الإسلام لكل نعمة، وششلذ. بمعنى يجده لذيذاً وقد يعدى بالباء، وعدى الإطلاق باللام، وهو معدّى بعلى لكونه بمعنى الاسنعمال أي استعملت فيما يلائم من الأمور الموجبة لتلك الحالة، فهو من إطلاق المسبب على السبب. وقوله: (لا تحصى) أي لا تعد أنواعها فضلاً عن أفرادها قال تعالى: {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللهِ لاَ تُحْصُوهَا} [النحل: 8 ا] أي نعمه تعالى، لأنّ الإضافة تفيد ما تفيده اللام قيل: وقيه نكتة حيث قال: نعمة دون نعم مع أنّ عدّ الواحد هين بل ليس هو بعدد لاشتمال كل فرد منها على نعم لا تحص كنعمة الصحة مثلاً، لو أريد تفصيلها جزءاً جزءا ظاهرا وباطنا أعجزت العادّ، وفسرها بعض الفضلاء بقوله: إن تشرعوا في عد أفراد نعمة من نعمه لا تطيقوه فتدبر. قوله: (روحانئ كنفخ الروح إلخ) تحقيق التسوية ونفخ الروح على ما نقله في كتاب الروح عن حجة الإسلام أنّ التسوية تهيئة المحل القابل للروح، كطينة آدم عليه الصلاة والسلام ونطفة بنيه، لأن يقبلها كالفتيلة التي تتقد بشرب الدهن لتعلق النار بها، وأصل النفخ إخراح هواء من جوف النافخ إلى جوف المنفوخ، وهو غير متصوّر في حقه تعالى، إلاً أنّ النفخ لما كان سبباً لاشتعال النار في بعض الأجساد، ويعذ ذلك نتيجة له عبر عن نتيجة النفخ بالنفخ وان لم يكن على صورة النفخ، والسبب الذي اشتعل به نور الروح في فتيلة النطفة(1/134)
صفة في الفاعل وصفة في المحل القابل، فالأوّل الجود الإلهيّ الذي هو ينبوع الوجود على ما يقبله وصفة القابل هو الاعتدال الحاصل بالتسوية، كما قال تعالى: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي} [الحجر: 29] وهو في الأصل استعارة تمثيلية أو تصريحية أو مجاز مرسل، ثم صار حقيقة شرعية في فيض الأرواح على ذويها، وسيأني إن شاء الله تعالى تفصيله في سورة الحجر وما قاله المصئف فيه، ثم إنّ المصتف رحمه الله قسم ومثل بالأنعام تسمحاً، أو المراد الحاصل بالمصدر وتقسيمه على سبيل منع الخلو، فلا يرد عليه أنّ معرفة الله تعالى دنيوية وأخروية، ولا حاجة إلى ادّعاء تغايرهما ونحوه، وبدؤه بما ذكر إشارة إلى أنّ الحياة أصل النعم وأنها نعمة في
ذاتها ويتوقف جمليها الانتفاع بغيرها والشيء لا يكمل إلآ إذا أمكن الانتفاع به، وما قيل نقلاً عن التأويلات النهجة أنّ النعم.
إمّا ظاهرة كإرسال الرسل وانزال الكتب والتوفيق لقبوله وإتيانه به والثبات على قدم الصدق ولزوم العبودية.
وإمّا باطنة وهي ما أصاب الأرواح في عالم الذرّ من رشاس نور النور:
وأوّل الغيث قطر ثم ينسكب
فكان على المصنف أن يدخله في تقسيمه ليس بشيء لدخول ما ذكر في الروحاني، إذ
نعمة العقل والفهم إنما تعد نعمة إذا اهتدى بها للتصديق بما ذكر، وقيل: إنه لم يتعرّض لها لأنه لم يلتزم تعداد جزئيات النعم، وانما حصر أجناسها وهذه داخلة في النعم الدنيوية الموهبية، وقد جعل أيضا قسمي الموهبية من الدنيوية نظرا إلى أنها موهبة في الدنيا حالاً، وان كانت من الأخروية مالاً، والروحاني بضم الراء ما فيه الروح، وكذلك النسبة إلى الملك والجن، وهي نسبة على خلاف القياس، وأراد به هنا ما يقابل الجسماني مما يتعفق بالروح، وجسماني بالضم نسبة إلى الجسمان وهو الجسم، والجثمان بالثاء المثلثة بمعناه أيضا، ولك أن تقول إنه الروح لمشاكلته الجسماني. قوله: (وإشراقه بالعقل) ضمير إشراقه للمنفوخ فيه المعلوم من النفخ، وفيل: هو للإنسان أو للبدن كضمير فيه لفهمه من السياق وأرجعه بعضهم للروح لتأويله بمذكر، فإنها مؤنث سماعيّ، والعقل قوّة للنفس تدرك بها الكليات والجزئيات المجردة، ويتبعها ذلك الإدراك ويسمى نطقا وهو المراد بالناطق في تعريف الإنسان، ويكون بمعنى ما يعبر به عما في الضمير، وهذا معناه الحقيقي في اللغة والعرف العامّ، والفكر ترتيب أمور معلومة لتؤدّي إلى مجهول، والكلام عليه مفصل في محله وعلم ما أدى إليه الفكر هو الفهم وهذه أمور كسبية، والقوى جمع قوّة والمراد بها النفسانية التي هي مبدأ النطق وأخويه قيل: وهي عين العقل ومتحدة بقوّة الفهم ويتبعها أيضا سرعة الانتقال إلى المطالب، ويمكن أن يطلق عليه الفهم والذكر، وهو العلم بالشيء بعد ذهابه عن النفس ويطلق عليه الفكر والتعبير عما في النفس نطق، والآخر كسبيّ، والأولان قد يكونان فيما للاختيار دخل فيه، ومباديها قوى موهبية تابعة للعقل، فينبغي أن يحمل عليها إذا عرفت هذا، فالتمثيل بالنطق لا يخفى ما فيه لأنه بمعنى إدراك الكليات كسبيّ، كما برهن عليه في المنطق والقوّة التي هي مبدؤه عين العقل، وهو بمعنى التكقم أو مبدئه جسمانيّ، وجعل للعقل إشراقا على طريق التمثيل لأنه نور إلهيّ، وقد عرّف بذلك وقيل القوى تعم الحواس الظاهرة والباطنة لكن قوله كالفهم إلخ يقتضي تعميمه بحيث يشملهما، وادراكهما وادراك العقل وما يترتب عليه، والفهم المطلق بمعنى الإدراك، والفكر ترتيب المعلومات والنطق إدراك الكليات أو ما يعبر به عنها والقوى البدنية
كالنامية وأخواتها، ويحتمل أن يراد بها ما يعم الحواس، ويراد بالأولى الإدراكات، فإنها يقوى بها العقل فتدبر. قوله: (كتخليق البدن إلخ) البدن والجسد بمعنى، وقد يفرق بينهما وتخليقه إعطاؤه خلقه، وتكميل بنيته والقوى الحالة فيه معطوف على تخليق، والمراد بها القوى الطبيعية التي قسمها الحكماء والأطباء إلى خادمة ومخدومة متصرّفة لأجل التشخص أو لأجل النوع كالنامية والغاذية والجاذبة والدافعة، والهيئات العارضة جمع هيئة، وهي عندهم مرادفة للعرض فقوله العارضة أي للبدن صفة مفسرة. وقوله: (من الصحة إلخ) بيان لها، فإنّ الصحة عندهم هيئة بدنية تكون الأفعال بها سليمة لذاتها ويقابلها المرض، وكمال الأعضاء ظاهر. قوله: (والكسبي إلخ) الظاهر أنّ الكسبي أعمّ من أن يكون ووحانياً كتزكية النفس، أو جسمانياً كتزيين البدن، أو خارجا عنهما وسيلة(1/135)
إليهما كحصول المال، وقيل: إن الكسبيّ ينقسم أيضاً إلى روحانيّ وجسماني، والمصتف رحمه الله أشار إلى الأوّل بتزكية النفس عن الرذائل وتحليتها بالأخلاق والملكات الفاضلة، وإلى الثاني بتزيين البدن إلخ وأورد عليه أن جعل حصول المال والجاه من الجسماني تكلّف، والمراد بالكسبيّ ما للكسب مدخل فيه، وإن لم يستقل به، ولا يرد عليه الصحة لأنها قد تحصل بمعالجات طبية كما توهم لأنّ أصل الصحة لا دخل للكسب فيها والمعالجات إنما هي لدفع ما يضادّها كما صرّحوا به، وتزكية النفس تطهيرها من دنس النقائمى، وفي كلامه إشارة إلى أنّ التخلية بالإعجام مقدّمة على انتحلية بالمهملة، والملكات شاملة للصانع، والمطبوعة بمعنى المقبولة الراجحة في ميزان الطبيعة، وقد وقع هذا اللفظ بهذا المعنى في كلام من يوثق به كالثعالبي، وقال المرزوقي: الشعر منه مصنوع ومطبوع، فلا عبرة بإنكار بعضهم له. وقوله: إنه لم يوجد في اللغة، وفي مفردات السمين، ومن خطه نقلت طبعت البكيال ملأته لكون الملء، كالعلامة المانعة عن تناول ما فيه، والطبع المطبوع أي المملوء اهـ وكذا قال الراغب.
وفي كلام علي رضي الله عنه العقل عقلان مطبوع ومسموع، وهو فيه بمعنى الجبليّ،
وفسر هنا بالعارضة لنفس البدن كتطهيره من الأوساخ وقمى الشارب ونحوه مما يورث البدن زينة والحلي بكسر الحاء مقصور جمع حلية، وهي الزينة المجاورة للبدن كاللباس، وجوّز فيه ضم الحاء وكسر اللام وتشديد الياء. قوله: (أن ينفر إلخ الم يتعرّض لتقسيمه، كما مرّ لعدم تعفق الغرض به، وقد قسم إلى روحاني كعلم ما لهم من الرضوان وجسمانيّ، كنعيم الجنة المحسوس، ووهبي كمغفرة الله وعفوه، وكسبي كجزاء الأعمال، وقيل: ليس فيها كسبي لأنه لا يجب على الله شيء ولكل وجهة، ويبوّئه مضارع بوّأه بباء موحدة، ثم واو مشددة وهمزة من التبوئة، وهي الإسكان، وعليين أعلى الجتة، أو موضع في السماء السابعة تصعد إليه أرواح
المؤمنين، وهو في الأصل جمع علية أو عليّ بمعنى الغرفة أو لا واحد له، وجمعه جمع سلامة على خلاف القياس، وأبد الآبف ين كدهر الداهرين يستعمل للتأبيد والخلود.
وفي القاموس: الأبد محركة الدهر والجمع آباد وأبود، والدائم والقديم الأزليّ، والولد
الذي أتت عليه سنة، ولا آتيه أبد الأبدية، وأبد الآبدين وأبد الأبدين، كأرضين، وأبد الأبد محرّكة، وأبد الأبيد وأبد الآباد وأبد الدهر، وأبيد الأبيد بمعنى اهـ فالآبدين جمع آبد وهو مبالغة الأبد كما أنّ الداهر مبالغة الدهر لزيادة المبالغة بالياء والنون على خلاف القياس أو المراد بالآبد الدائم جمع بهما تغليباً للعقلاء كالعالمين وإضافة الأبد للمبالغة. وقوله: (فرط منه) بالفاء وتخفيف الراء يقال فرط من باب قتلى إذا تقدّم، والمراد ما فعله قبل من الذنوب، وهو إشارة إلى ما فيه من التخلية والتحلية. قوله: (والمراد هو القسم الأخير إلخ) أي المراد بالإنعام المدلول عليه بقوله: أنعمت النعم الأخروية، وما يتوصل بها إليها من الدنيوية، كتزكية النفس وما معها لا ما قبله لأنه لا يخص المؤمن، فلا وجه لإدراجه في الدعاء بنيله ولا يرد عليه أنه داخل في الوصلة، وإن لم يختص، فلا حاجة إلى حمل ألوصلة على ما يشمل القريبة والبعيدة ويتكلف تاويله والتعبير بالماضي لتغليب ما مضى منه لتوقف النعم الأخروية عليه، وإن كانت أجل، وقيل: إنه لتحققه أو لأن المراد أنعمت عليهم في علمك ففيه استعارة تبعية، والأوّل أحسن وأولى، وفي كلامه إشارة إلى ما ارتضاه من تفسير الذين أنعمت عليهم بالمؤمنين لا أنه شامل لجميع المكلفين كما توهم، وقيل: إنه يلزمه جعل ترك الأولى من الأولياء والأنبياء عليهم الصلاة والسلام من الزلات المغتفرة إلاً أن يجعل الأوّل للمذنب والأخيران للمعصوم مع أنه، وإن خالف صريح كلامه غير محتاج إليه رأساً ولا مخالفة بين المصنف والزمخشريّ، كما توهمه السيوطي، وعبارته في الكشاف: الذين أنعمت عليهم هم المؤمنون، وأطلق الإنعام ليشمل كل إنعام لأنّ من أنعم الله عليه بنعمة الإسلام لم تبق نعمة إلاً أصابته واشتملت عليه، وإنما عدل عنه المصتف رحمه الله إلى ما هو أخصر وأظهر لما يوهم من مخالفة ما تقرّر في الأصول، إذ لم يفرق فيه بين المطلق والعامّ مع ظهور الفرق بينهما، وهذا إنما نشأ من عدم الفرق بين المطلق اللغوي والأصولي، والمراد الأوّل كما أشار إليه في الكشف، وأوضحه قدس سرّه فقال: المراد أنه لم يقيده بشيء معين مما يتعدى إليه بالباء ليستغرق بمعونة(1/136)
المقام كل إنعام بنعمة ولما كان هذا الشمول ادّعائياً قال: لأنّ من أنعم إلخ ومن لم يفهم ما قالوه هنا قال بعدما أورد من كلامهم أقول ينافي هذا التأويل إسناد العموم إلى الإطلاق إذ لو قيد وقيل: أنعمت عليهم بنعمة الإسلام، أو الذين أنعمتة عليهم يستفاد منه العموم، ولا دخل للإطلاق في إفادة العموم فحينئذ يكون الحذف للاختصار، ويمكن أن يجاب عنه بأنه ليس المراد أنّ مفعول أنعمت المحذوف هو نعمة الإسلام حتى يرد عليه ما ذكر بل هو عام، وجعل المطلوب باهدنا
الذي هو سلوك طريق الإسلام عامّا إنما استفيد من تقييد الطلب بصراط من أنعمت، وتعليقه به على ادّعاء إن الإسلام كل نعمة، وقد خبط خبط عشواء، ولم يهتد للصراط المستقيم وهو أظهر من أن يخفى. قوله: (يشترك إلخ (في بدائع ابن القيم اختلف السلف هل لله على كافر نعمة فقيل: لا نعمة له عليه لظاهر قوله تعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ} [مريم: 58] الآية وقيل: قد يكون منعماً عليه، والصواب إنّ مطلق النعم يعم البرّ والفاجر والنعم التامّة مختصة بالمؤمنين لاتصالها بسعادة الأبد وهو الحق اهـ وهو ملخص كلام الإمام هنا. قوله: (بدل من الذين أو صفة إلخ) قدم البدلية إشارة لترجيحها لما فيها من وجوه المبالغة والنكت السالفة، وهو بدل كل من كل ولم يجعله بدلاً من ضمير عليهم لا لأنه يلزم خلو الصلة عن الضمير لأنّ المبدل منه ليس في نية الطرح حقيقة، كما يتوهم بل لأنه لا يخلو من الركاكة بحسب المعنى، وهذا مختار أبي عليّ، وقول أبي حيان: إنه ضعيف لأنّ غير في أصل وضعه صفة بمعنى مغاير والبدل بالوصف ضعيف ولذا أعربه سيبوبه صفة غير متجه لأنّ غير أغلبت عليه الإسمية، ولذا كان في الأكثر غير مجرى وقدم الصفة المبينة، وهي الكاشفة المنزلة منزلة التعريف كما صرّحوا به، لأنّ المنعم عليهم بالإسلام المهتدين لطريق الاستقامة لا يكونون من أهل الغضب، واذا أريد بهم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فالأمر ظاهر، ولذا لم يبينه صريحاً لأنّ قوله على إلخ يحتمل رجوعه إلى الوجوه الثلاثة أماة الآوّل فلكونه عينه ولأنّ الصفة والموصوف كشيء واحد لما مز، ومنهم من أرجعه إلى الأوّل فقط وجعل قوله هم الذين سلموا نظير ما مرّ من قوله فهو المشخص المعين، وهذا بناء على ما وقع في بعض النسخ، وهو بدل من الذين على معنى أنّ المنعم عليهم هم الذين سلموا من الغضب والضلال، أو صفة له مبينة أو مقيدة على معنى أنهم جمعوا بين النعمة المطلقة، وهي نعمة الإيمان وبين السلامة من الغضب والضلال اهـ وهذه عبارة الكشاف بعينها وفي بعض الحواشي هنا تصخيح هذا الوجه أيضا فيتجه حينئذ وقال قدس سرّه: إذا جعل غير المغضوب بدلاً من الذين أريد بالثاني الذات مع قصد تكرير العامل وتفسير المبهم، فيؤخذ منه تلك المبالغات، فقوله: هم الذين سلموا نظير لقوله: فهو المشخص المعين، وبذلك يظهر أن الإبدال أوقع، وإن جعل صفة كان المعنى أنهم جمعوا بين النعم المطلقة التي أثبتت لهم بطريق الصلة وبين السلامة التي أثبتت لهم بطريق الصفة، وفي قوله: ههنا نعمة الإيمان إشاوة إلى أنّ الإيمان متحد بالإسلام ومشتمل على الأعمال كما هو مذهبه، وحينئذ يكون الوصف بالسلامة من الغضب والضلال بعد إثبات ألإيمان تأكيداً لا تقييداً وتخصيصا، وهو المراد بالصفة المقيدة إلآ إذا حمل الإيمان على التصمديق وحده أو مع الإقرار كما ذهب إليه غيره اهـ. ومما مرّ علم معنى المبينة والمقيدة وأنّ الإيمان إن شمل الأعمال فالصفة مبينة والآ فهي مقيدة، وقد أورد على ما في الحواشي الشريفية أنّ قوله، فهو المشخص المعين حكم على البدل بالتشخص
والتعين بما يشتمل عليه المبدل منه من الصفة الذي هو كالعلم فيها، وقوله: هم الذين سلموا حكم على المبدل منه بالبدل وانحصار الأوّل في الثاني، أو عكسه بل هو حكم بالاتحاد، وهو المناسب لكون الثاني تفسيرا للأوّل فكيف يكون نظيراً له، ويمكن أن يقال إذا أريد به قصر المسند إليه على المسند أفاد ما يفيده. قوله: فهو المشخص المعين إلخ من الحصر. وهذه العبارة في كلام المصتف رحمه الله نظير قوله الطريق المستقيم ما يكون طريق المؤمنين لا نظير قوله: طريق المسلمين هو المشهود عليه بالاستقامة، ثم جعله بدلاً على تقدير كون الموصول عبارة عن كمل المؤمنين المشتمل إيمانهم على الأعمال والمراد بالمغضوب عليهم والضالين مطلقهما كما يشعر به(1/137)
قوله سلموا من الغضب والضلال، ليكون ذات البدل عين ذات المبدل منه، وان اكتفى في اتحادهما ذاتا بمجرد صدق أحدهما على ما صدق عليه الآخر، فلا يخفى أن ما ذكر من الفائدة يتوقف على ما ذكرنا وتعقب هذا بأنه صح عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، كما في الدرّ المنثور وغيره أن المغضوب عليهم اليهود والضالين النصارى، فلو كان الموصول عبارة عن مطلق المؤمنين وأبدل منه غير الفريقين كان حسناً بلا محذور وحينئذ يفسر قول المصنف رحمه الله سلموا إلخ بالسلامة عن مثل الغضب والضلال الكائن فيهما، ومنهم من قال في تفسيره: إنه قد سبق أنّ المراد بالموصول المؤمنون، وقيل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وقيل أصحاب موسى وعيسى إلخ فإن كان الأوّل، فالمراد بالمغضوب عليهم والضالين إن كان الذين أريد الانتقام منهم والعادلين عن الطريق السويّ، أو العصاة والجاهلين بالله فالصفة مقيدة إلاً أن يراد المؤمنون إيمانا كاملاَ كما يدل عليه قوله فيما سيأتي لأنّ المنعم عليه من وفق للجمع بين معرفة الحق لذاته والخير للعمل به، وإن كان اليهود والنصارى فمبينة بل مؤكدة وان كان الثاني فمبينة على أي تفسير فسر المغضوب عليهم والضالين، وإن كان الثالث فكالأوّل، ثم إنّ قوله فيما سبق والمراد هو القسم الأخير إلخ يشير إلى وجه آخر، وهو أنّ المراد بالموصول المنعم عليهم بالنعم الأخروية، وما يتوصل به إليها من الدنيوية فإن حمل على المنعم عليه بجميع ذلك فالصفة مبينة، وان حمل على المنعم عليه في الجملة فمقيدة على المعنى الأوّل والثاني للمغضوب عليهم والضالين، ومبينة على المعنى الثالث. قوله: (على معنى أنّ المنعم إلخ) قيل فيما مرّ دلالة على أنّ الإيمان ينافي العصيان. وقوله: (على معنى إلخ) إنما يلائم الابدال والوصف الكاشف لا الوصف المقيد المخصص لأنّ المنعم عليه على هذا التقدير يكون أعمّ، فلا يصح الحمل هو هو إذ لا يقال الحيوان هو الإنسان، فكان عليه أن يؤخر قوله أو مقيدة عن هذا التفسير لثلا يقع الفصل بالأجنبي بين المفسر والمفسر، وهذا مع أنه غير مسلم إنما يرد على غير ما في النسخة الأولى، وقيل إنه إشارة إلى حمل الموصول على المؤمنين والنعمة على الإيمان والمغضوب عليهم والضالين على الأوّل أو الثاني، ويجوز أن
يراد أيضاً أنها مبينة بحسب الظاهر، ومقيدة بحسب العاقبة والنظر إلى الموافاة، ثم إنّ لفظ الذين يقع صفة وموصوفاً بخلاف من وما من الموصولات فإنهما لا يوصف بهما كما في الرضى وغيره من كتب العريية، وفي نسخة بين النعم المطلقة التي أثبتت لهم بطريق الصلة، وبين السلامة من الغضب والضلالة التي أثبتت لهم بطريق الصفة وسمي الإيمان نعمة مطلقة لاشتماله على سعادة النشأتين، فكأنه مشتمل على جميع النعم فينصرف المطلق إليه. قوله: (وذلك إنما يصح الخ) إشارة إلى الوصفية أو اصا سبق، وهو جواب عن سؤال مقدّر وهو أن غير أو مثلاَ ونحوهما من الأسماء المتوغلة في الإبهام قال النحاة: إنها لا تتعرّف بالإضافة، فلا يوصف بها المعرفة ولا يبدل على المشهور من مغ إبدال النكرة من المعرفة كما سيأتي، فما وجه ما مرّ من تجويز ما ينافيه فأجاب بوجهين إمّا من جانب الموصوف أو من جانب الصفة، فالأوّل أنّ الموصوف هنا معنى كالنكرة، فيصح أن يوصف بها لأنه لم يرد بالذين أنعمت عليهم قوم بأعيانهم ولا جميعهم، فهو عهد ذهني وحكمه حكم النكرة وإن جاز مراعاة لفظه، وظاهره بمعاملته معاملة المعرفة والموصول حكمه حكم المعرف باللام، فتجري فيه أقسامه وأحكامه هذا محصل ما قرّروه هنا، ولما وود عليه أنّ الموصول حمل أوّلاً على المؤمنين أو أصحاب موسى وعيسى أو الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فهو معهود خارجيّ ولو سلم عدم العهدية في الأوّل، فلا ينبغي سلبها على الإطلاق لعدم جربه على جميع الوجوه أشار الشارح المحقق إلى دفعه بأنه جواب جدليّ أي لا نسلم أنّ غير المغضوب على تقدير الوصفية صفة للمعرفة، ولو سلم فلا نسلم أنه نكرة ومعوّل الزمخشريّ على تعريف غير، ولذا أخره وقال قدّس سرّه: يجوز أن يريد بما ذكره أو لا طائفة من المؤمنين لا بأعيانهم وإذا حمل على الاستغراق المتبادر من العبارة تعين أن يكون ما ذكر في الجواب وجهاً رابعاً لتلك الثلاثة، وهو العهد الذهني كما يشهد له. تشبيهه بقول الشاعر، وذكر بعضهم أنّ المستغرق لا يحيط العلم بحصره لكثرته فاشبه النكرة، وعومل معاملتها، وهذا مع كدم اشتهاره في الاسنعمال يدفعه(1/138)
ذلك التثبيه دفعاً ظاهراً، واعترض عليه بأنه تعسف يأباه النظر الصحيح، وحمل الموصول على ما ذكر مع بعده غير مناسب لجعل طريقهم مشهودا عليه بالإشقامة علماً فيها مع أنه يؤل بالآخرة لذلك، ولا فرق بين كونه جدلياً، وكونه وجها آخر غير ما قدّمه (بقي ههنا بحبث ينبني التنببه له) : فإنّ أهل الأصول جعلوا الموصول من صيغ العموم. والنحويون وأهل المعاني، جعلوه معرفة، وقالوا تعريفه بالعهد الذي في الصلة على ما حقق في شرح الرسالة الوضعية وكلامهم هنا على أنّ المقصود من الموصول أما المعهود الذي هو حصة معينة من الجنس أو الجنس من حيث تحققه في ضمن فرد مّا، وهذه مسالك متباعدة أو متنافية متنافرة، وقول المحقق هنا بعدما قرّر الجواب نعم يتجه أن يقال: جواز الوصف بالنكرة إنما يكون إذا أريد البعض المبهم كاللثيم ولا
كذلك الموصول ههنا فكأنه مال إلى تعريف غير وعول عليه، ولذا أخره ليس بشاف فليحرّر وقوله كالمحلي باللام هذه عبارة مشهورة لأهل العربية، فيقولون للمعرف باللام محلي جعلوا التعريف حلة للنكرة، فهو استعارة صار حقيقة اصطلاحية فيما ذكر، وقيل إن التعبير إشارة إلى أن اللام لمجرّد تزيين اللفظ من غير زيادة معنى فيه. وفيه نظر. قوله: (ولقد أمرّ على اللئيم إلخ) هذا الشعر لرجل من بني سلول وهو هكذا:
ولقدأمرّعلى اللئيم يسبني فمضيت ثمت قلت لايعنيني
غضبان ممتلئاعليّ إهابه إني وربك سخطه يرضيني
وروى فأعف ثم أقول وكون جملة يسبني صفة أظهر دلالة على المعنى المقصود منه،
وهو التمدّح بالوقار لأنّ المعنى على لئيم عادته المستمرّة سبه لي، وهو اقعد وأدل على ما أراد ولا شك أنه لم يرد كل لئيم ولا لئيماً معينا وأمرّ بمعنى مررت، وعبر بالمضارع حكاية للحال الماضية كما في خصائص ابن جني أو للاستمرار التجددي وهذا أولى من جعل قوله: فمضيت قرينة على أنّ المراد بأمر مررت فمضيت بمعنى أمضي، وعبر به للدلالة على تحقق إعراضه عنه، ولم يرتضوا الحالية في جملة يسبني لأنّ المعنى ليس على تقييد المرور بحال السب بل على أنّ مروراً مستمرّا في أوقات متعاقبة على لئيم مّا من اللئام اتخذ سبه دأبا له، وهو يضرب عنه صفحا لاغضائه عن السفهاء وقد قالوا ما تساث اثنان الآ غلب ألامهما فالسكوت أجمل، وقال بعض الأعراب:
لايغضب الحرّعلى سفلة ~ والحرّ لا يغضبه النذل
إذا لئيم سبني جهده ~ أقول زدني فلي الفضل
ولذا قال تعالى: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا} [الفرقان: 63] ولا يعنيني بمعنى لا يريدني أو لا يهمني الاشتغال به، والانتقام منه وقيل: كأنه يسب نفسه في تصوّرها بصورة أخرى وثمت، ثم العاطفة، وتختص زيادة التاء فيها بعطف الجمل عند المازني وخالفه بعض النحاة فيه، وهي هنا للتراخي في الرتبة. قوله: (إني لامرّ إلخ) مثال آخر لما لا يتعرّف بالإضافة، وقد وصف به المعرفة لأنها في معنى النكرة، وهو أظهر في الوصفية من البيت لاحتمال الحال فيه، وذهب الأخفش إلى أنّ اللام في هذا المثال زائدة، وارتضاه أبو علي وابن جني ورده غيرهم من النحاة، وفي الدرّ المصون: إنّ الموصول لإبهامه يشبه النكرة فيصح أن يوصف بالنكرة وإن لم يؤوّل وفيه نظر. قوله: (أو جعل غير معرفة بالإضافة إلخ) قال صدر الأفاضل: غير لها ثلاثة مواضع أحدها أن تقع موقعاً لا تكون فيه معرفة وذلك إذا أريد
بها النفي الساذج نحو مررت برجل غير زيد الثاني أن تقع موقعا لا تكون فيه إلأ معرفة، وذلك إذا أريد بها شيء قد عرف بمضادّة المضاف إليه في معنى لا يضاده فيه إلاً هو، كما إذا قلت مررت بغيرك أي بالمعروف بمضادّتك إلاً أنه في هذا لا يجري صفة، فتذكر غير جارية على موصوف الثالث أن تقع موقعاً تكون فيه نكرة تارة ومعرفة أخرى كقولك مررت برجل كريم غير لئيم اهـ قيل ومن هنا تبين أنّ من قال: إنها لا تتعرّف أصلاً لم يصب، وكذا ما قاله المصتف هنا لأنّ ما ذكر لم يعرف بمضادة المضاف إليه، وهو الشرط فلا تعرف وان سلم فهي لا يوصف بها فلا يفيده ما ادعاه شيئاً، وليس بشيء فإن المغضوب عليه ضد للمنعم عليه، وانكاره مكابرة، وأمّا كونه لا يقع صفة، فلا بدّ له من دليل وكلام صدر(1/139)
الأفاضل لا يعارض ما قاله مثل الزمخشريّ، وابن السراج، وقد نقله أبو علي في التذكرة عن الفراء، وناهيك به إلآ أنّ أبا عليّ ردّه في التذكرة بقوله تعالى: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ} [فاطر: 37] وأجاب عنه ابن الصائغ في حواشيه على الكشاف بأنّ صالحا حال قدّمت على صاحبها، وهو غير الذي أو غير الذي بدل من صالحا، ولو قيل: ضد الصالح الطالح، والذي كانوا يعملون فرد من أفراده، فليس بضد لم يبعد، ثم إنّ ما ذهبوا إليه من عدم تعرّف مثل وغير وحسب وسوى اختلفوا في وجهه فقال ابن السراج والسيرافيّ: هو شدّة الإبهام لأنّ غير صالح لكل مغاير.
وقال سيبويه والمبرد: هو كونه بمعنى اسم الفاعل، وهو مغاير ومماثل وكاف وما ذكره المصثف رحمه الله كما في الدرّ المصون إنما يتمشى على مذهب ابن السراج، وهو مرجوح أمّا على مذهب سيبويه فلا لأنّ ما إضافته غير محضة إذا قصد به الثبوت يتعرف بالإضافة كما مرّ، وأحد الضدين هنا المنعم عليه لأنّ المراد به المؤمنون الكاملون علماً وعملاً، والآخر المغضوب عليهم إن اتحدوا مع الف لين أو مجموعهما إن لم يتحدوا فلا يرد أنه ليس له ضد وإحد بل ضمدان، وضمير هو للضد والضمير في يتعين لغير وقوله تعين الحركة غير السكون في نسخة من غير السكون بمعنى تبينها بها وغيرها.
وبضدها تتبين الأشياء والبحث هنا بأنه كما لا يجوز وصف المعرفة بالنكرة لا يجوز إبدالها منها.
والجواب عنه بأنّ ذلك إنما هو إذا لم يفد البدل معنى زائدا على المبدل منه، فإن أفاده
جاز كمررت بابنك خير منك غير متجه لما عرفته من أنه توجيه للبدلية والوصفية معا صراحة وضمنا لاتحادهما على ما ذكر تعريفا وتنكيراً، وفي جوابه أيضا شيء، فإنهم صرحوا بجوازه مطلقاً، واشترط الكوفيون في إبدال النكرة من المعرفة شرطين اتحاد اللفظ، وأن تكون النثرة موصوفة نحو لنسفعاً بالناصية ناصية كاذبة، ووافقهم ابن أبي الربيع على الثاني وما ذكر لا يوافق
شيئاً من المذاهب فتأمّل. قوله: (وعن ابن كثير نصبه على الحال) قال قدس سرّه فلا بدّ أن يكون نكرة على الوجه الذي أشرنا إليه، وقد يجعل بمعنى مغاير لتكون إضافته لفظية، كما يشهد له إدخال اللام عليه في عبارة كثير من العلماء لكنه مما لا يرتضيه الأدباء، وقالوا لم نجد له شاهدا في كلام يستشهد به اهـ وما أشار إليه هو كون التضاد ليس بمحقق، فيكون نكرة على أصله من مذهب ابن السراح وكونه بمعنى مغاير مذهب سيبويه كما مرّ، وفي قوله لتكون إضافته لفظية قصور ظاهر مما أسلفناه، وأيضا إذا لم يكن دخول اللام عليه مرضيا للأدباء وهم علماء العربية ومنهم أهل اللغة كيف يتأتى استشهاده به. وفي المصباح لم يسمع دخول اللام عليه واجترأ بعضهم، فأدخلها عليه لأنه لما شابه المعرفة بإضافته إلى المعرفة جاز أن يدخل عليه ما يعاقب الإضافة وهو الألف واللام، ولك أن تمنع الاستدلال وتقول الإضافة هنا ليست للتعريف بل للتخصيص والألف واللام لا تفيد تخصيصاً، فلا تعاقب إضافة التخصيص مثل سوى وحسب فإنه يضاف للتخصيص ولا تدخله الألف واللام اهـ وفي الدرّ المصون تعريفه باللام خطأ وجعله حالاً من الذين ضعيف لأنه ليس من مواضع الحال من المضاف إليه، وصرح بأنّ العامل أنعمت مع ظهوره إشارة إلى اتحاد عامل الحال وذيها، فإنّ المشهور لزومه ومنهم من جوز اختلاف العامل في الحال وصاحبها كما نقله الرضى عن المالكيّ، أمّا الأوّل فظاهر، وأمّ الثاني فلأنّ الذي في محل نصب أو رفع عند التحقيق هو المجرور، وقولهم الجارّ والمجرور في محل كذا تسامح، قيل: وهو في غير الخبر وتقدير أعني مذهب الخليل، قيل: وعليه فالمراد بالذين أنعمت عليهم المؤمنون الكاملون كما إذا كان بدلاً أو صفة كاشفة، وهو بناء على ما يتبادر من أنه للتفسير، والمفسر عين المفسر، وقيل عليه: إنه غير لازم لأنه قد يراد أعني منهم، فلا ينافي العموم، وقد قال شيخنا في الآيات البينات إنّ الغالب في كلام المصنفين استعمال أي فيما هو ظاهر وأعني فيما فيه نوع خفاء وقد يستعملان بمعنى قيل وهذه الرواية عن ابن كثير شاذة خارجة عن السبعة. قوله: (أو بالاستثناء إلخ) قد تقرّر في النحو أنّ غيرا يستثنى بها، فتكون منصوبة عن تمام الكلام عند المغاربة، كانتصاب الاسم بعد إلاً عندهم واختاره ابن عصفور، وعلى الحال عند الفارسيّ، واختاره ابن مالك، وعلى التشبيه بظرف المكان عند جماعة، واختار. ابن الباذس وقوله(1/140)
بالاستثناء يجري على الأقوال والظاهر أنه على الأول منها، والمراد بالقبيلين في كلامه المؤمن والكافر لأنّ مطلق النعم على ما مرّ يشملهما، وقيل: المغضوب عليهم والضالين، والأوّل هو الصحيح وإنما قيده بذلك ليكون الاستثناء متصلاً على الأصل وليس بلازم، وقد ذهب جماعة هنا إلى أنه منقطع فلا حاجة له غير بيان الراجح عنده، وقد اعترض الفراء على الاستثناء بأنّ لا لا تزاد إلاً إذا تقدمها نفي كقوله:
ما كان ب رضى رسول الله فعلتها والطيبان أبو بكر ولا عمر
ومنع مستندا إلى أنها وردت زائدة من غير تقدّم نفي كقوله تعالى: {مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ} [الأعراف، الآية: 12] وقوله:
وتلحفني في اللهو أن لا أحبه وللهو داع دائب غير غافل
وغيره مما لا يحصى من الشواهد، وكأنه أراد أنها لا تزاد بعد الواو العاطفة، وحينئذ لا
يتم السند فتأمّل. قوله: (والنضب إلخ) الثوران بفتحات كهيجان لفظاً، ومعنى من ثار يثور إذا تحرّك بسرعة، والنفس تطلق على معان منها الذات والروح، والدم والقوى الحيوانية المقابلة للقوى العقلية، كما قاله الغزالي رحمه الله في كتاب معارج القدس. والمراد هنا إمّا النفس الناطقة لأن الغضب من كيفياتها أو الدم كما قال الراغب الغضب ثوران دم القلب لأنه يكون من تحرّك الحرارة الغريزية لحركة النفس ولذا ورد في الحديث: " اتقوا النضب فإنه جمرة تتوقد في قلب ابن آدم " ألم تروا إلى انتفاخ أوداجه وحمرة عينيه، والدم مركب الروح الحيواني، فلذا احمرّ الوجه وانتفخت العروق حينئذ، ويجوز أن يراد بها القوى الحيوانية، والانتقام افتعال من النقمة وهي العقوية قال تعالى: {فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ} [الأعراف: 136] أي عاقبناهم أشد عقوبة، وقوله إرادة منصوب على أنه مفعول له، والغضب فسر تارة بحركة للنفس مبدؤها إرادة الانتقام كما في شرح المفتاح للسعد وتارة بإرادة الانتقام كما في شرح الكشاف له، وتارة بكيفية تعرض للنفس، فيتبعها حركة الروح إلى خارج طلباً للانتقام كما في شرح المقاصد، ويقرب منه ما قيل إنه تغير يحدث عند غليان دم القلب وقال قدّس سرّه: إنه سبب قريب لإرادة الانتقام، وسبب بعيد لنفس الانتقام، وأمّا شهوة القلب للانتقام وميله إليه فمتقدّمة على الغضب، ولذا وفق بعض المحققين بين جعل إرإدة الانتقام متقدمة تارة ومتأخرة أخرى بأن قال: إرادة الانتقام سبب الغضب إرادة بالإرادة الشهوة، وغايته إرادة الضرر، فقول المصتف رحمه الله أرادة الانتقام إمّا علة متقدّمة أو غاية متأخرة، وعلى الأوّل فمراده بالمنتهى الانتقام، وعلى الثاني إرادته أو نفسه إطلاقا لاسم السبب على مسببه القريب أو البعيد. قوله: (على ما مرّ) أي في أسمائه تعالى قال العلامة القرافي في كتاب القواعد: كل ما يستحيل حقيقة عليه تعالى، فهو محمول على المجاز كالرحمة والغضب، واختلف السلف فيه فقال الأشعريّ: المراد به إرادة الإحسان، وارادة العقاب. وقال أبو بكر الباقلاتي: المراد أنه يعاملهم معاملة الراحم والغضبان، فيراد بالأوّل الإحسان نفسه، وبالثاني العقاب نفسه وقس عليه، وفي القرآن مواضع منها ما يشهد للأوّل كقوله تعالى: {وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا} [غافر:
) 1 (أخرجه الترمذي 92 1 2 وأحمد 3 لم 319 وأبو يعلى 1 0 1 1 من حديث أبي سعيد الخدري مطولاً، قال الترمذي: حسن صحيح اهـ. وفي إسناده علي بن زيد بن جدعان وهو ضعيف.
وأخرجه الديلمي 4313 من حديث أنس.
7] فإن الاقتران بالعلم والوصف بالسعة لعموم تعلق الإرادة، ومنها ما يشهد للثاتي كقوله: {هَذَا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي} [000:. . .] فإنّ الإشارة للسدّ وهو إحسان منه، ومنها ما يحتملهما كما في الفاتحة اهـ.
وما ذكره المصنف رحمه الله تعالى أخذه بحروفه من التفسير الكبير، وقولهم إنما يؤخذ باعتبار الغايات دون المبادي الحصر فيه إضافيّ، والمراد بالمبادي مبادبه المخصوصة المستحيلة على الله كرقة القلب وثورإن النفس، فلا يرد عليه أنه قد يؤخذ باعتبار الأسباب كما اختاره التفتازاني، وقد يجعل اسنعارة من غير نظر للمباديء والغايات كما سيأني وما في الكشاف من أن معنى غضب الله إرادة الانتقام من العصاة وإنزال العقوبة بهم وأن يفعل بهم ما يفعله الملك إذا غضب على من تحت يده حمله الشارح المحقق على أنّ الغضب مجاز عن سببه، وهو إرادة الانتقام وضبط إنزال العقوبة بكسر اللام عطفاً على الانتقام، وكذا وأن يفعل، وقال قدّس سرّه: الغضب والرحمة من الأعراض النفسانية المستحيل إطلاقها عليه تعالى، فيصرف الكلام عن ظاهره، وذلك من وجوه الأوّل أن تجعل الرحمة إرادة الإنعام والغضب إرادة الانتقام إطلاقا لاسم السبب. على المسبب القريب(1/141)
الثاتي أن يجعلا مجازاً عن الإنعام والانتقام إطلاقا لاسم السبب على المسبب البعيد الثالث أن يحمل الكلام على الاستعارة التمثيلية، والمصنف اختار في الرحمة الثاني وفي الغضب التمثيلية بأن تشبه حاله تعالى مع العصاة في عصيانهم له، وإرادته الانتقام منهم وإنزاله العقوية بهم بحال الملك إذا غضب على من عصاه فأراد أن ينتقم منه ويعاقبه ألا ترى إلى قوله: وأن يفعل بهم إلخ فإنه نبه به على علاقة المشابهة، وإلى اعتبار التركيب حيث قال: هو إرادة الانتقام، وإنزال العقوية برفع اللام كما في النسخ المعوّل عليها فقوله، وان يفعل مرفوع المحل أيضاً، وتوهم الجر لجعل الغضب مجازاً عن الإرادة لا الانتقام والرحمة الإنعام دون إرادته إشارة إلى سبق رحمته غضبه مخالف للنسخ ولا يكون لقوله: وإنزال العقوبة فائدة وعليه، فالتعرّض للتشبيه مستدوك فالواجب أن يقال لأنّ الملك إذا غضب على من عصاه أراد أن ينتقم منه ونكتة السبق مجرّد تخيل، فإنّ إرادته تعالى إذا تعلقت بأفعاله أفضت إليها إجماعا، والوصف بالإنعام والانتقام أقوى في الترغيب والترهيب من الوصف بإرادتهما، وقال ابن جني: إنه صرح بإسناد النعمة إليه تقرباً وروى عنه إسناد الغضب تأدّباً كأنه قيل: الإنعام فائض من جنابك، وأمّ أولئك فيستحقون أن يغضب عليهم.
(أقول) لنا فيه كلام من وجوه:
(الأوّل) إنّ تأييد الرفع الذي بنى عليه بعض مدّعاه بصحتة رواية لأنه الموجود في النسخ المعتمدة مع أنه ضبط قلم معارض بأن قوام الدين الاتقاني ضبطه بكسر اللام، وقال فيما كتبه عليه: هكذا هو بخط المصنف، كما في بعض الحواشي.
(الثاني، اًنّ قوله: ولا يكون لقوله: وانزال العقوبة فائدة ليس كما قال بل له فائدة أحسن
مما ذكره، وهو تفسير الانتقام إذا وصف به العزيز المنتقم لأنه قد يكون بمعنى الإنكار كما في قوله تعالى: {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ} [البروج: 8، وتشفي النفس كعطفه عليه عطفاً تفسيريا للاحتراز وأقي فائدة أتتم من هذه.
(الثالث) أنّ ما عوّل عليه من استدراك التشبيه غير وارد لأنّ هذه عبارة السلف كما أسلفناه وفيها معنى دقيق، وهو الإشارة إلى أنّ هذه السببية معروفة مشهورة، وأنها باعتبار غضب العظماء، فإنّ غضب غيرهم لا يلزمه ما ذكر وأن أفعاله تعالى لا ترتبط بالأسباب وانما هو جار على نهج كلامهم فتدبر.
(الرابع (أنه يلزمه أن تكون هذه الاستعارة التمثيلية مما اقتصر فيه على ذكر بعض ألفاظ الهيئة المشبه بها كما سيأتي في قوله تعالى: {أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى} [ممورة البقرة: 5] وأنه إنما يكون إذا كان مدلوله هو العمدة في تلك الهيئة كما حققه ثمة ولا شك أنّ معنى الغضب ليس كذلك بل قيل: إنه ليس من أجزاء الهيئة المشبه بها إذ لا نظير له في الهيئة المشبهة وأمّا قوله وأن يفعل إلخ فظاهر مما مرّ وقيل إنه إشارة إلى أنّ علاقة السحبية في نوع المعنى المجازي كما ذكر أنّ الرحمة مجاز عن إنعامه لأنّ الملك إذا عطف على رعيته ورق لهم أصابهم بمعروفه وانعامه. وقوله هو أي غضب الله إرادة الانتقام لا يلائم الاستعارة التمثيلية فإنها جميع الألفاظ الدالة على الهيئة المشبه بها ولا شيء منها بمستعمل في غير ما وضع له وانما يراد بالمجموع الهيئة المشبهة، فلا يكون معنى غضب الله ما ذكره والآ لكان مستعملاَ فيه، وليس كذلك كما عرفته فاعرفه ترشد.
(الخاس) أنّ قوله: ونكتة السبق مجرّد تخيل إلى السبق المذكور ورد في الحديث الصحيح،، فلا يصح أن يقال فيه أنه تخيل وانما أراد أنّ ابتناء تفسير الرحمة بالإنعام، والغضب بإرادة الانتقام عليه مجرّد تخيل لا يدل عليه كلام الزمخشريّ، ولا يقتضيه النظم القرآني، ومثله الغاز لا يليق ببلاغة القرآن، فإن أردت توضيحه فاصح لما يتلى عليك فنقول السبق فسر في الحديث بمعنا. الظاهر، وهو التقدّم، وبالغلبة أي الزيادة الكثيرة، فلما جعلت الرحمة، والغضب تارة من صفات الأفعال وأخرى من صفات الذات جاز حملهما معا على أحدهما، وحمل أحدهما على وجه دون لآخر، فالاحتمالات أربعة والظاهر كونهما على نهج واحد، ولا يعدل عنه إلاً لنكتة يخصصها المقام فيجعل اقتضاؤه قرينة على تغايرهما، والزمخشريّ لما فسر الأول بالإنعام الذي هو صفة فعل، والثاني بالإرادة التي هي صفة ذاتية، ومثله لا يقرع له العصا علم أنه أنسب بالنظم، وهو كذلك لأنه قدم لفظاً وكرر معنى، وص هح بوقوعه في قوله أنعمت، فناسب ذلك تفسيره بالإنعام، لأنه وصف جميل وهو في مقام المدح والامتنان يقتضي الوقوع
عاجلاً وخير البرّ عاجله، فينبغي تفسيره بما يدل على ذلك(1/142)
وهو الإنعام والانتقام العقاب، فهو وعيد تمدّح بخلفه ولذا قال الطيبي رحمه الله غضبه تعالى على عباده وعيد، وهو كريم يتجاوز عنه بفضله كما قال:
واني وان أوعدته أو وعدته لمخلف إيعادي ومنجز موعدي
فلا يرد عليه أنّ الإرادة صفة ذاتية قديمة، فتفسير الرحمة بالإرادة أوفق للحديث، وأمّا
كونه أنسب بمقام الترغيب والترهيب فقد يقال: المقام مقام ترغيب لا غير فنفي إرادة الانتقام أبلغ من نفيه، وأنسب لحال المؤمنين المقصودين بالذات هنا، ثم إق الغضب وان كان منفيا صريحا فهو مثبت ضمناً، وقد أسند إليه في غير هذه الآية فلا يرد أن ادخمضب منفيّ فلا حاجة للتجوّز فيه، وسيأتي تحقيقه في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي} [البقرة: 26] الآية وأمّا ما قيل: من أنّ الغضب مشترك بين ما ذكرو.، وبين ما يصح إطلاقه عليه تعالى كالإرادة المذكورة فإطلاقه على الله حقيقة كغيره من الصفات التي تطلق على العباد كالسميع البصير إن أراد أنه كذلك في الوضع اللغوي، فمخالف للمعقول والمنقول، وان أراد في عرف الشرع ولسانه جاز لكنه لا يرد على من حقق مجازيته، ونحن أطلنا هنا فإنه لا يسأم من الخير. قوله: (وعليهاً في محل رفع إلخ (لا يخفى أنّ معنى الإعراب المحليّ أن يكون فيما لا يقبل الإعراب لفظاً، كالمبني والجمل بحيث لو حل محله اسم مفرد خال من موانع الإعراب كلها مستوف لشرائطه أعرب بذلك الإعراب، ولا يشترط أن يكون قابلاً للإتصاف به بالفعل، إذ لا يتصوّر فيما مرّ مع اتفاقهم على إعرابه محلاً، فلا معنى لما قالوه هنا من أنّ في هذا تسمحا إذ ليس في محل الرفع إلاً المجرور، إلاً أنّ الخبر إذا كان ظرفا أو جاراً ومجرورا فهو كله في محل رفع لأنه القائم مقام الخبر عندهم، وفي الحجة أنّ حروف الجر تنزل منزلة بعض حروف الفعل فباء ذهب به بمنزلة همزة أذهبه، وقد تنزل منزلة بعض حروف الاسم المجرور بها في حكم الإعراب، وما قيل من أنّ نائب الفاعل فاعل عند نحاة البصرة ومن تبعهم، وليس بفاعل عند ابن الحاجب وغيره من النحاة، وكلام المصتف بناء على المذهب الثاني إلأ أنه خالفه في سورة الجن في إعراب قوله تعالى: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ} [الجن: ا] فأعربه فاعلاً الأمر فيه سهل لمن تدبز. وقوله: (بخلاف الأوّل) هو عليهم في أنعمت عليهم، فإنه في محل نصب على المفعولية. قوله: (ولا مزيدة إلخ) قيل كلمة لا في ولا الضالين مزيدة عند أهل البصرة بل وانما تزاد بعد الواو العاطفة في سياق النفي للتأكيد وا أضصريح، لشمول النفي لكل واحد من المعطوف والمعطوف عليه لئلا يتوهم أنّ النفي هو المجموع من حيث هو مجموع، فليست زيادتها مؤدّية إلى لغويتها وانما ذلك بحسب أصل المعنى المراد والكوفيون يجعلونها هنا بمعنى غير، وقد مرّ أ+نه لم يقل غير الذين غضبت تأذبا فتذكره. قوله: (فكأنه قيل لا المغضوب عليهم ولا الضالين) . قيل على هذا أنّ كلمة لا في قول المصتف رحمه الله لا
لث! اب / ج / م هـ ا
المغضوب عليهم ليست عاطفة، إذ لم يرد اهدنا صراط المنعم عليهم لا صراط المغضوب عليهم، فيتعين كونها بمعنى غير، وهو مقرّر عند النحاة حتى قال السخاوي: إنّ لا فد تكون اسماً مراد، فا أنحير لكنه يظهر إعرابه فيما بعده، لكونه على صورة الحرف، ولذا جاز تقديم معمول ما بعدها عليها كما سيأتي، فلا فائدة في تبديل غير بلا هنا في تصوير المعنى.
وأجيب عنه بأنه لما كانت موضوعة للنفي مشتهرة فيه فهي أمّ بابه والعلم في الدلالة عليه صارت أظهر في إفادة معناه، وهذا هو فائدة التبديل هنا، ثم إنهم قالوا إنّ معنى النفي إمّا لازم معناها كما يفيده كلام السيد السند وإمّا جزء معناها، كما يدل عليه كلام المحقق التفتازاني وعليهما، فإثبات المغايرة متضمن للنفي، فيجوز تكبده بلا، وقد ترد لصريح النفي، ولك أن تقول إنّ الأوّل بحسب معناها الوضعيّ، والثاني بحسب ما يفهم من موارد استعمالها فلا مخالفة بين الوجهين. قوله: (ولذلك جاز أنا زيدا غير ضارب إلخ) أي لأنّ غير لتضمنه معنى النفي صار بمنزلة لا في جواز تقديم ما في حيزه عليه، وإن كان السول إنما يجوز تقدمه إذا جاز تقدّم عامله، والمضاف إليه لا يجوز تقدمه على المضاف، فكذا سوله إلاً أنه لما ذكر صارت إضافته كلا إضافة وانما يمنع النفي تقدم ما بعده عليه إذا كان بما لان، فإنهما لدخولهما على الفعل والاسم أشبها الاستفهام، فطلبا صدر الكلام بخلاف لم، ولن فإنهما اختصا(1/143)
بالفعل وعملا فيه وصارا كالجزء منه فجاز أن يقال زيدا لم أضرب وعمراً لن أضرب، وأمّ لا فإنها مع دخولها على القبيلين جاز التقديم معها لأنها حرف متصرّف فيه حيث أعمل ما قبلها فيما بعدها، كما في أريد أن لا تخرج وجئت بلا طائل، فجاز أيضاً أن يتقدم عليها سول ما بعدها بخلاف ما إذ لا يتخطاها العامل أصلاً، وإن جوّز الكوفيون تقديم ما في حيزها عليها قياساً على أخواتها.
(أقول) هذا ما قاله قدس سرّه وارتصاه هنا ولا يخفى ما فيه، فإنه لما حقق أنّ صدارة أدوات الئفي إنما هي إذا لم تختص بقبيل، وكانت لا كذلك استشعر منافاته لما هو المقصود فدفعه بأنه جاز فيها ذلك لتخطي العامل رقبتها، وهو مصادرة منافية لما أراد فإنّ تخطيه لها إنما هو لعدم صدارتها وهذا غريب منه، وقد قال أبو حيان رحمه الله بعدما ذكر ما في الكشاف: أورد الزمخشريّ هذه المسئلة على أنها مسئلة مقرّرة مفروغ عنها ليقوّي بها التناسب بين غير، ولا إذ لم يذكر فيها خلافاً، وما ذهب إليه مذهب ضعيف جدّا، وقد بناه على جواز أنا زيدأ لا ضارب، وفي تقديم معمول ما بعد لا عليها ثلاثة مذاهب، وكون اللفظ يقارب اللفظ في المعنى لا يقضي له أن تجري أحكامه عليه، ولا يثبت تركيب إلاً بسماع من العرب، ولم يسمع أنا زيدا غير ضارب، وقد ذكر النحاة قول من جوّزه وردّوه اهـ. قوله: (وإن امتنع أنا زيدا مثل ضارب) تبع المصتف رحمه الله فيه الزمخشريّ وهو أخذه برمته من تفسير الزجاح كما نقله الطيبي، وقد مرّ اعتراض أبي حيان عليه.
(فإن قلت) إذا كان تاويل المضاف بحرف مختلف في صدارته مجوّزاً لتقديم ما في حيزه عليه، فلم امتغ أنا زيداً مثل ضارب مع أنّ مثل بمعنى الكاف، وان كانت العلل النحوية لا يلزم إطرادها (قلت) هذا وارد بغير شبهة، وفي حواشي ابن الصائغ أنّ أبا الفتح بن جني أجازه أيضا لأنّ معنى مثل ضارب أشبه ضارباً أو كضارب، ومنعه ابن السراح على تقدير عمل المضاف إليه، وأجازه على تقدير عمل ما يدل عليه، وبه أخذ أكثر المتأخرين وابن مالك، وذكر الجرجاني في نظم القرآن أنّ فائدة دخول لا في، ولا الضالين نفي توهم عطف الضالين على الذين، وقراءة غير الضالين نسبها السجاوندي إلى عمر وعليّ وأبي بكر رضي الله عنهم، وهي تؤيد كون لا وغير بمعنى لتعاقبهما ولذا أوردها المصنف وحمه الله هنا، وفي القاموس وأمّا قراءة غير الضالين فمحمولة ععى أنّ ذلدث على وجه التفسير، وفيه نظر ظاهر. قوله: (والضلال العدول إلخ) هذا كلام الراغب بعينه، والسوفي والمستوي بمعنى المستقيم، والمراد المسلوك الموصل وفسره بعنصهم بفقدان الطريق السويّ سواء وجده أو لا وهو قريب مما ذكره المصتف. وقوله:) وله عرض عريض) ذكر الأدباء كالمرزوقي وصاحب الموازنة أنّ العرض على ضربين في المجسمات وفي غيرها، وفي الثاني يراد اتساع الشيء وامتداد وقته، وأكثر ما يستعمل فيه العرض دون الطول كنعمة عريضة، وجنة عرضها السموأت والأرض فذو دعاء عريض، وربما جمعوا بينهما فقالوا عشنا زمانا طويلاً عريضا، والدهر العريض الطويل فيراد الكمال والاتساع قال كثير:
بطاحيّ له نسب مصفى وأخلاف لها عرض وطول
فهذا على التشبيه بالمجسمات والقصد إلى السعة، وقد عيب على أبي تمام قوله:
بيوم كطول الدهر في عرض مثله ووجدي 3 ص هذا وهذاك أطول
وقيل جعل للزمان عرضا مع أنه لا حاجة إليه إذ كان بذكر الطول قد استوفى المعنى،
وهذا من قائله ظلم لأنه سلك مثل طريقه كثير من التشبيه بالمجسمة، وهذا كما قال في الأخلاق: لي عرض وطول وكذا في الزمان له كذا في عرض مثله ولا فصل.
(واعلم) أق في هذه العبارة منزعاً بديعا لم ينبهوا عليه، وهو كما أشار إليه في الأساس
أنّ حقيقة الضلال في الطريق المحسوس المسلوك لفقده، حتى لا يصل لقص ره ثم استعير لفقد العلم والعمل الموصل للسعادة، وشاع ذلك حتى صار حقيقة في عرف اللغة والشرع فقوله العدول إلخ إن أريد به ظاهره فهو بيان لمعناه الأصلي، وان أريد ما يطلق عليه الطريق القويم، والصراط المستقيم فهو بيان لمعناه الثاني المراد في النظم وعرض عريض صالح لهما كما مرّ، وان كان ما بعده ظاهراً في الثاني(1/144)
ويقابله الهداية، ولما كان ما مرّ من تنويع مراتبها يقتضي تنوع
ما هنا أيضاً أشار إلى أنه لا ينضبط، ولا يعتنى به مع أنه قد يهتدي له من التقابل، وفي قوله عرض عريض مبالغة ليل أليل حيث أثبت للعرض عرضاً وما في قوله ما بين زائدة، وأدنى الضلال أقله إثماً كالزلات وأقصاه أعظمه، وهو الكفر قال تعالى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13] . قوله: (وقيل المنضوب إلخ) قيل هذا ضعيف لأنّ منكري الصانع والمشركين أخبث ديناً من اليهود والنصارى، فكان الاحتراز عن دينهم أولى.
(وأتول) الغضب والضلال، وردا جميعاً في القرآن لجميع الكفار على العموم حيث قال:
{وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللهِ} [ادنساء: 671] وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللهِ قَدْ ضَلُّواْ ضَلاَلاً بَعِيدًا} [النساء: 167] ولليهود والنصارى جميعا على الخصوص حيث قال في حق اليهود من لعنه الله وغضب عليه إلخ. وفي حق النصارى {وَلاَ تَتَّبِعُواْ أَهْوَاء قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ} [المائدة: 77] كما في التيسير فالاستشهاد بهاتين الآيتين على أنّ المراد بالمغضوب عليهم اليهود وبالضالين النصارى ليس بسديد انتهى.
وقد قيل: على ما ذكره أوّلاً أن ابن أبي حاتم رحمه الله قال: لا أعلم خلافاً بين المفسرين في تفسير المغضوب عليهم باليهود والضالين بالنصارى (1) كما صححه ابن حبان والحاكم وحسنه الترمذي، وأخرجه جم غفير من المحدّثين كما قاله في الدرّ المنثور فهذا لا يصدر إلاً ممن لا إطلاع له على أقوال المفسرين والمحدّثين أعاذنا الله من الجراءة على تفسير كتابه، وقد يقال أيضا: من لا ملة له لا اعتداد به وهؤلاء أشدّ في الكفر والعناد وأعظم في الخبث والفساد، ولذا ضربت عليهم الذلة، وخص النصارى بالضلال لفرط جهلهم في التثليث ولكونهبم أقرب من اليهود للإسلام وصفوا بالضلال لأنّ الضالّ قد يهتدي. قوله: (لقوله تعالى فيهم {مَن لَّعَنَهُ اللهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ} [المائدة: 60] فيهم ليس من لفظ التلاوة بل من كلام المصتف رحمه الله ومعناه في حقهم وشأنهم وهكذا صحح في النسخ كما قاله بعض الفضلاء، ووقع في بعضها منهم بدل فيهم وهو تحريف من الناسخ، فلذا اعترض عليه بأنّ الآية في سورة المائدة وليس فيها منهم، فهو غلط في التلاوة والاستشهاد بالآيتين بناء على أنه ورد عن السلف تفسيرهما بذلك لما مرّ، فلا وجه للاعتراض على المصئف رحمه الله بأنّ الغضب والضلال مما وصف به الكفرة مطلقاً في مواضع كثيرة من القرآن كما في بعض الحواشي. وقوله: (وقيل إلخ) وقع في بعض النسخ بدون واو عاطفة، على أنها جملة مستأنفة لنقل بعض الأقاويل، وفي بعضها بها عطفا على ما علم من السياق من الإطلاق لوقوعه في
مقابلة من أنعم عليه بالنعمة المطلقة، وهي نعمة*الإيمان كما مرّ وفي بدائع ابن القيم ليس المراد بهذا التفسير التخصيص، فإنّ اليهود ضالون والنصارى مغضوبون، وإنما ذكر كل طائفة بأشهر صفاتها، وأخصها وفيه نظر. قوله: (وقد روي مرفوعاً إلخ) أخرجه أحمد في مسنده وحسنه ابن حبان في صحيحه عن عدفي بن حاتم وأخرجه ابن مردوية عن أبي ذرّ رضي الله عنهما بلفظ سالت وسول الله صلى الله عليه وسلم عن قول الله غير المغضوب عليهم قال: " هم اليهود ولا الضالين قال النصارى " (1) وأخرجه ابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنهما وابن مسعود رضي الله عنه وقال ابن أبي حاتم: لا أعلم فيه خلافا عن المفسرين، فهذه حكاية إجماع منهم فكيف يعدل عنه بالرأي. قوله: (ويتجه إلخ) أي يسنح، ويظهر ظهوراً موجها وقيل معناه أنه لو فسر بهذا كان كلاماً موجها، وأن خالف ما عليه الجمهور ففيه إيماء إلى أنه ليس أولى كما قاله الإمام رحمه الله، فإنه اختاره في تفسيره فالمنعم عليه العالم العامل وأراد بالحق العقائد الثابتة في نفس الأمر المطابقة للواقع، وعبر عنها بذلك لأنها مقصودة لذاتها والتصديق بها لا للعمل كالفروع الشرعية، وتسمية هذه خيراً ظاهر، وفي ترك التعبير عنها بالحق إشعار بانها خير، وإن أخطأ المجتهد فيها إذ يثاب على العمل بها، ولم يذكر الشرّ للاجتناب عته كما في قوله تعالى: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} أسورة البدد: 10] أي طريقي الخير والشر لدخوله في الخير بهذا الاعتبار واستلزام معرفته وقيل المراد بالحق ذاته تعالى وصفاته والذي عناه المصنف رحمه الله ما مرّ، وهو الموافق للأية الآتية وقوله لذاته متعلّق بالمعرفة، والمراد من كون المخل بالعمل مغضوباً عليه أنه مستحق لذلك عدلاً، فلا ينافي العفو تفضلاً وكرما، فسقط ما توهم من أنّ الغضب الانتقام أو إرادته، وإرادة الله لا تتخلف عن المراد، فيلزمه القطع(1/145)
بتعذيب المؤمن العاصي، وهو مخالف لما عليه أهل الحق. قوله: (والمخل بالعمل إلخ) في نسخة بالعقل والتقابل في الأولى أظهر. وقوله: (وقرىء ولا الضالين) أي بهمزة مفتوحة مبدلة من الألف اللينة وهذه قراءة أيوب السختياني كما قاله ابن جني، وهي شاذة وهي لغة فاشية، ولا يلزم أن يكون بعد الألف ساكن، فإنه سمع في غيره كقوله:
وخندف هامة هذا العألم
بهمز العالم وقالوا في قراءة ابن ذكوان: منسأته بهمزة ساكنة أنّ أصلها ألف فقلبت بهمزة ساكنة. وقوله: (من جذ) أي اجتهد وبالغ، والهرب من التقاء الساكنين لأنّ التقاءهما إذا كان أولهما حرف لين والثاني مدغماً مغتفر ومن ترك الجائز فقد بالغ في الترك، والهرب مجاز عن الترك هنا، وفي التعبير به لطف لا يخفى.
(فائدة وتكميل) وقد مرّ قول ابن جني رحمه الله أنه أسند النعمة إليه في قوله تعالى
{أَنعَمتَ عَلَيهِمْ} تقرباً وانحرف عن ذلك عند ذكر الغضب إلى الغيبة تأدّباً وقال الشارح المحقق: هو كلام حسن ومعنى الغيبة ترك الخطاب، فكأنه فسره مع ظهوره إيماء إلى أنه افتنان لا التفات وفي المثل السائر وعلى نحو من الالتفات جاء قوله: {صِرَاطَ الَّذِينَ} إلخ فصرح بالخطاب لما ذكر النعمة، ثم قال غير المغضوب عليهم، ولم يقل الذين غضبت عليهم، لأنّ الأوّل موضع التقرّب إلى الله بذكر نعمته، فلما صار إلى ذكر الغضب زوى عنه لفظه تحنناً ولطفاً، فانظر إلى هذا الموضع، وتناسب هذه المعاني الشريفة التي الأقدام لا تكاد تطؤها والأفهام مع قربها صافحة عنها، وهذه السورة قد انتقل في أوّلها من الغيبة إلى الخطاب لتعظيم شأن المخاطب، ثم انتقل في آخرها من الخطاب إلى الغيبة لتلك العلة بعينها، وهي تعظيم شأن المخاطب أيضا لأن مخاطبة الرب تعالى بإسناد النعمة إليه تعظيم لشأنه، وكذلك ترك مخاطبته بإسناد الغضب إليه تعظيم لخطابه، فينبغي أن يكون صاحب هذا الفن من الفصاحة والبلاغة عالماً بوضع أنواعه في مواضعها اهـ وفي عروس الأفراح ذكر التنوخي في الأقصى القريب، وابن الأثير في كنز البلاغة، وابن الغلس في طرق الفصاحة نوعا غريبا من الالتفات، وهو بناء الفعل للمفعول بعد خطاب فاعله كقوله تعالى: {غَيرِ المَغضُوبِ} إلخ وفيه نظر. ولا نظر فيه عندي بل إمّا على رأي الأدباء والمتقذمين في اسنعمال الالتفات بمعنى الافتنان، فلا غبار عليه وأمّ على المتعارف فلك أن تقول على طريق السكاكي الذي لا يشترط تعدد التعبير بل مخالفة مقتضى الطا*ص أنّ المخاطب إذا ترك خطابه، وبنى ما أسند إليه للمفعول، والمحذوف كالغائب، فلا مانع من أن يسمى التفاتا، فكما يجري في الانتقال من مقدّر إلى محقق يجري في عكسه وهو معنى بديع ينبغي التنبه له. قوله: (لقوله تعالى إلخ) قيل عليه إنّ الاستشهاد بما ذكر لا يتم، نإنّ الغضب في المخل بالاعتفاد أيضاً على أنه لا يقتضي كون كل من أخل بالعمل مغضوبا عليه، ويدفعه ما قيل من أنّ مقابلة الضالين بالمغضوب عليهم تقتضي أن يراد بالضالين غير ما أريد بالمغضوب عليهم، ولما ورد الغضب في حق لمفاسق، والضلال في حق المخل بالاعتقاد ناسب أن يراد بالأوّل العصاة وبالثاني الجاهلون بالله تعالى، وليس مبنياً على عدم ورود الضلال في حق الفاسق فتأمّل. قوله:) اسم الفعل إلخ) ءدل عن قوله في الكشاف آمين اسم صوت لأنه غير ظاهر حتى أوّله شراحه بأنه تجوّز لقرب أسماء الأفعال من أسماء الأصوات، ولذا أوردهما النحاة في فصل واحد، أو لأنه اصطلح على أنّ الأسماء التي لا
يعرف وجه وضعها يعبر عنها بالأصوات وأسماء الأفعال مفروغ عنها في كتب النحو ومذهب البصريين أنها أسماء لتنوينها ووجود بعض علامات الأسماء فيها، وقال الكوفيون: أفعال نظرا لمعناها. وقيل: إنها خارجة عن أقسام الكلمة الثلاثة وتسمى عند هؤلاء خالفة وعلى الأوّل الجمهور، وهل هي اسم لمعنى الفعل، أو للفظه قولان، ولا محل لها من الإعراب وقيل: محلها النصب على المصدرية وقيل: في محل رفع على الابتداء، ولا خبر لها لسدّ معمولها مسده وحكمها حكم أفعالها في التعدي واللزوم غالبا ولا علامة للمضمر المرتفع بها قيل: وخرج بقيد الغلبة آمين فإنه بمعنى استجب المتعدي ولم يسمع له مفعول (أقول) قال النحاة: إنه كفعله غالبا ومن غير الغالب آمين وايه بمعنى زد، فإنه لم يسمع له مفعول وقيل لما لم يقع الأ بعد دعاء متقدّم، وكذا بعد حديث أريد به زيادته استغنى عن ذكر مفعوله، فهو إمّا معدى، أو منزل منزلة اللازم وسينه ليست للطلب، وانما هي مؤكدة ومعناه أجب وقال(1/146)
العصام إنه ليس متعديا، وانما وضع لحدث متعد وهو استجابة الدعاء كالادلاج لسير الليل، ولا يقال أدلج الليل إذا سار ليلاً، فمعناه استجب دعاني والمفعول داخل في معناه، وهو معنى قول ابن مالك رحمه الله إنه لازم في معنى المتعدّي. وقوله: (الذي هو استجب) توضيح لما أراده من أنه اسم مسماه ألفاظ الأفعال، وإن قيل إنه تكلف لأنّ قائل آمين لا يخطر بباله لفظ استجب ولأنه لم يعهد فيما وضع للألفاظ الدالة على معانيها. وقيل: إنها موضوعة للمصادر السادة مسدّ أفعالها وردوه بوجوه مفصلة في شرح الكشاف والخلاف بين الفاضلين والانتصار لكل من الجانبين معروف مشهور، وقيل: إنه أعجمي معرب همين لأنّ فاعيل كقابيل ليس من أوزان العرب وردّ بأنه يكون وزنا لا نظير له ونظائره كثيرة ولذا قيل: إنه في الأصل مقصور وزنه فعيل فأشبع، ومن الغريب ما قيل أنه اسم الله، وتأويله بأنّ الضمير المستتر فيه لما كان راجعاً على الله قيل: إنه من أسمائه أغرب منه. قوله: (وعن ابن عبّاس (1) إلخ) قال الزيلمي رحمه الله في تخريج أحاديث الكشاف: إنه واه جدا، وأخرجه الثعلبي عن أبي صانح عنه، وهو مع مخالفته للمشهور لا يصح في كل مقام نحو لا تعذبنا وليس فيه تأييد لأنه اسم للفظ كما قيل، ولذا قيل إنّ المصنف رحمه الله جعل تفسيره باستجب أصلاً لعدم الثقة بهذه الرواية مع مخالفتها لتفسيره المشهور، وما قيل: من أنّ ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما يدل على أنّ النهي لطلب الكف، لا لطلب عدم الفعل، وإلاً لكان آمين في مثل لا تهلكنا بمعنى لا تفعل مردود بأن افعل فيه طلب لتعلق الإرادة بما هو المطلوب سواء كان فعلاَ أو تركاً لا إيجاد لأثرها، كما يوهمه ظاهر اللفظ وقيل كلمة آمين مثلاً ليست موضوعة للفظ استجب وحده بل لما هو أعمّ مته،
ومن مرادفه أو لكل واحد منهما على الوضع العام للموضوع له الخاص، على أنّ كلام ابن عباس رضي الله عنهما يدل على أنه ليس موضوعا لمجردّ استجب، ولا لأعثم منه، ومن مرادفه فقط، ولا لكل واحد منهما بل للأعمّ منهما ومن لفظ افعل أو لكل منهما، وأما جعل افعل وحده موضوعا له، فبعيد وهو تعسف وتكلف فتدبر. قوله: (بني على الفتح الخفته وثقل الكسر مع الياء ولم يصرح به لظهوره مما نظره به، وما قيل: من أنّ علته إنما ئقتضي البناء على الحركة، فاختيار الفتح للخفة فيما يكثر استعماله أضعف من علة نحويّ فأين هو من قوله كأين واختلف في مده، وقصره أيهما الأصل فذهب إلى كل طائفة وأمّا تشديد ميمه فذكر الواحديّ رحمه الله أنه لغة فيه وقيل: إنه جمع آمّ بمعنى قاصد منصوب باجعلنا، ونحوه مقدراً وقيل إنه خطأ ولحن إلآ أنه لا تفسد به الصلاة وبه يفتي كما قاله شيخنا المقدسي رحمه الله، ولا وجه للفساد، فإنه ليس من القرآن بل دعاء ومعناه صحيح. قوله: (ويرحم الله إلخ) هذا من شعر رواه الأدباء لصاحب الحماسة البصرية لمجنون عامر، وهو قيس بن معاذ المعروف بالملوج وشعره وديوانه مشهور، وفيه من فنون الفنون ما يقول راويه وراثيه أساحر هو أم مجنون، فمنه ما قيل إنه حبئ مع أبيه فقال له تعلق بأستار الكعبة واح الله أن يريحك من حب ليلى فقال: اللهمّ زدني من حبها، فضربه فبكى، وأنشد يقول:
يارب إنك ذو قن ومغفرة بيت بعافية ليلى المحبينا
الذاكرين الهوى والناس قد رقدوا والساهرين على الأيدي مكبينا
باتف رقودا وسار الركب مدلجا وما الأوانس في فكر كسارينا
كأنّ ريقتهامسك على ضرب شيبت بأصهب من بيع الشآمينا
يارب لاتسلبني حبها أبداً ويرحم الله عبداً قال آمينا
وهذا شاهد على المدّ، وقد بسطنا الكلام فيه في الروض النضير في شرح شواهد التفسير. قوله: (أمين فزاد الله إلخ) قال في شرح الفصيح: هو من شعر قائله جبير بن الأضبط، وكان سأل الأسديّ جماله فحرمه، والأسدي اسمه فطحل بفتح الفاء، وسكون الطاء المهملة، وفتح الحاء المهملة، واللام كجعفر، وروى بضمهما والمعنى تباعد لأن سألته، وما زائدة أو موصولة، وأمين مقدّم من تأخير للاهتمام بالإجابة، أو هو تأمين على دعاء مقدّر لعلمه من فحواه وتقديره أبعده الله عني فلا حاجة لما قيل: إنّ حقه التأخير عن قوله فزاد الله إلخ وإن(1/147)
هذا لضرورة الوزن، وقال ابن درستويه في شرح الفصيح: القصر ليس بمعروف وإنما قصره الشاعر
للضرورة، وقد قيل: تلجىء الضرورات في الأمور إلى سلوك ما لا يليق بالأدب وقيل الرواية فيه المدّ أيضاً وما هنا محرّف وهو هكذا:
تباعد مني فطحل وابن أمه فآمين زاد الله ما بيننا بعدا
ويروى سألته، ولقيتة بدل قوله دعوته. قوله: (وليس من القرآن) أي بالإجماع، وما نقل
في بعض الكتب لا ينبغي نقله كما في التيسير أنها من السورة عند ابن مجاهد ولعدم اعتداد المصئف رحمه الله به قال: وفاقاً فلا حاجة لما قيل: إنه محمول على إجماع من بعد عصر مجاهد، ولذا سن الفصل بيته وبين السورة، ولم يكتب في الإمام، ولا في غيره من المصاحف أصلاً. قوله: (لقوله عليه الصلاة والسلام " علمني جبريل (1) " إلخ) هو تعليل لكونه سنة، ويجوز أن يكون تعليلاً أيضاً لكونه ليس من القرآن لقوله عند فراكي من قراءة الفاتحة، فإنه صريح في أنه ليس منها، وإن كان الأول هو الظاهر، وقد روى ابن شيبة في مصنفه، والبيهقيّ في الدلائل عن أي ميسرة أنّ جبريل عليه السلام أقرأ النبيّ صلّى الله عليه وسقم فاتحة الكتاب، فلما قال: ولا الضالين قال له: قل آمين فقاله (2 (. وروى أبو داود في سننه عن أبي زهير النميري أحد الصحابة أنه قا اط: آمين سثل الطابع على الصحيفة أخبركم عن ذلك خرجنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسأ3 ذات ليلة، فأتينا على رجل قد ألخ في المسئلة لحقال عليه الصلاة والسلام: " أوجب إن ختم " فقال رجل من القوم: بأفي شيء يختم؟ فقال: " بآمين " (3) وفي نواهد الأبكار أنه عرف بهذا أنّ المصتف رحمه الله أورد حديثين لا حديثاً واحدا، وأنّ الضمير في قوله وقال للنبيّ صقى الله عليه وسقم لا لجبريل عليه السلام كما يتوهم، وفي الكشاف لقنني بدل قوله عفمني وهما بمعنى، وقوله كالختم وجه الشبه فيه أنه لا يعتد بالدعاء بدونه كما أنّ الكتاب لا يعتد به إذا لم يختم لا ما قيل من أنّ معناه أنه يوجب الاعتداد بالدعاء، كما أنّ ختم القاضي على الكتاب يوجب الاعتداد به لأنه أمر حادث وما للقاضي وكئابه هنا، وفي أكثر الحواشي أنّ معناه أنه يمنعه عن الخيبة وعدم القبول أو يمنغه عن أن يضيع ما فيه لأنّ غير المختوم يطلع الناس على أسراره فيضيع، ولك أن تقول إنّ المراد أنه علامة الإجابة كما تعارفه الناس وهو معنى ما ورد في الأثر أنّ الدراهم خواتيم الله في أرضه. قوله: (وفي معناه قول علئ إلخ) جعله
لقربه منه في معناه وقول الصحابي فيما لا يقال مثله بالرأي في حكم المرفوع لكنه يدل على تشبيهه بالخاتم نفسه وقد قيل الظاهر أنّ قراءته كالختم ونفسه كالخاتم، وفي تخريج أحاديث الكشاف إنّ هذا لم يوجد في شيء من كتب الأحاديث وقال الحافظ السيوطيّ: لم أقف عليه عن عليّ رضي الله عنه وانما خرّجه الطبراني في الدعاء وابن عديّ في الكامل وابن مردوية في التفسير بسند ضعيف عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: " آمين خاتم رب العالمين على عباده المؤمنين) (1) والخاتم والطابع بالفتح بمعنى، وهو ما يطبع به أي يختم. قوله: (يقوله الإمام ويجهر به إلخ) عند الحنفية أنه يؤمّن الإمام والمأموم سرّا ومذهب المصتف وغيره من الشافعية كما في شرح الوجيز أنه يستحب لكل من قرأ الفاتحة خارج الصلاة أو فيها أن يقول عقبها آمين بعد سكتة لطيفة ليتميز القرآن عن غيره ويستوي في استحبابها الإمام والمأموم والمنفرد ويجهر بها الإمام والمنفرد في الجهرية تبعاً للقراءة لحديث وائل المذكور، وأما المأموم ففي القديم يؤمّن جهراً أيضاً وفي الجديد لا يجهر واختلفوا فقال الأكثرون في المسئلة قولان: أحدهما أنه لا يجهر كما لا يجهر بالتكبير وان جهر الإمام والأصح، وبه قال الإمام أحمد رضي الله عنه أنه يجهر لما روي عن عطاء وغيره: كنت أسمع الأئمة، ومن خلفهم يقولون آمين حنى إنّ للمسجد ضجة، ومنهم من أثبت في المسئلة قولين إذا جهر الإمام أمّا إذا لم يجهر، فيجهر المأموم لينبه الإمام وغيره، ومنهم من حمل النصين على أنّ قوله لا يجهر الماموم إذا قلوا أو صغر المسجد وبلغ صوت الإمام القوم، وألا يجهروا حتى يبلغ الكل، والأحب أن يكون تأمين الإمام والمأموم معاً، فإن لم يتفق ذلك أمّن عقب تأمينه وعن مالك في أحد قوليه أنه لا يسن التامين للمصلي أصلاً انتهى وهل يقولها الإمام والمأموم أو المأموم فقط لحديث " إذا قال الإمام ولا الضالين فقولوا آمين " (2) وهو رواية عن أبي حنيفة، وبي رواية أخرى " يؤمّنان معاً "، وتفصيله في الفروع وكتب(1/148)
الحديث، وأجاب الحنفية عما قالوه نجأنه عليه الصلاة والسلام جهر بها للتعليم، ثم خافت أو أنّ ذلك إذا كان فذاً ولأنه دعاء ومن شأنه الإخفاء والجهر به مع القرآن يوهم أنه منه وفيه نظر. قوله: (لما روي عن وائل (3) إلخ) هذا الحديث أخرجه أبو داود، والترمذيّ، والدارقطنيّ، وصححه ابن حبان،
ووائل بهمزة بعد الألف يليها لام، وهو وائل بن حجر بضم الحاء المهملة، وسكون الجيم ابن ربيعة الحضرمي الصحابي كان أبوه من أقيال اليمن أي ملوكها، فإنّ الملك يسمى عندهم قيلاَ، ووفد على النبيّ صفى الله عليه وسقم واستقطعه أرضاً فأقطعه إياها وقال: هذا وائل سيد الأقيال، وله مع معاوية رضي الله عته قصة ولما صار خليفة قدم عليه فاستقبله وأكرمه وتوفي رضي الله عنه في عهده، وقد سمعت ما أجيب به عن هذا الحديث. وقوله: (وعن أبي حتيفة إلخ) هدّه رواية عنه ضعيفة جداً موافقة لأحد قولي مالك والذي صححوه عنه ما مرّ كما أشار إليه المصتف رحمه الله. وقوله: (ووفع بها صوته) قد مرّ جواب الحنفية عنه أنه تعليم، ثم خافت وخافتوا وأوود عليه أنّ الصلاة مقام مناجاة فلا يناسب التوجه إلى الغير لقصد العليم، وجوابه ظاهر. وقوله: (لا يقوله) قيل: لأنه داع بقوله: اهدنا ولا يخفى أنه لا تنافي بين كونه داعياً وطالباً للإجابة فتدبر. قوله: (كما روا 0 عبد الله بن مغفل إلخ) العراقي وتبعه من بعده من الحفاظ لم أقف على هذا الحديث من هذه الطريق، وأخرج الطبرانيّ في الكبير عن أبي وائل قال: كان عليّ وعبد الذ بن مسعود لا يجهران بالتأمين، وعبد الذ بن مغفل بن غنم من مشاهير الصحابة توفي بالبصرة سنة ستين ومغفل بضم الميم وفتح الغين المعجمة، وتشديد الفاء المفتوحة وبعدها لام بزنة اسم المفعول. قوله: (إذا قال الإمام (1)) الحديث أخرجه البخارفي ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، ووقع في أمالي الجرجاني في آخر هذا الحديث زيادة " وما تأخر " وعليها اعتمد الغزاليّ رحمه الله تعالى في الوسيط، وأحسن ما فسر به هذا الحديث ما رواه عبد الرزاق عن عكرمة رضي الله عنه قال: صفوف أهل الأرض تلي صفوف أهل السماء، فإذا وافق آمين في الأرض آمين في السماء غفر للعبد قال ابن حجر رحمه الله: مثل هذا لا يقال بالرأي فالمصير إليه أولى وفي بعض النسخ كما في وسيط الواحديّ إذا
قال الإمام ولا الضايىن فقولوا إلخ وأورد عليه أن الدليل لا يوافق المدعى وهو تأمين الإمام والمأموم معا لا يراده بعد قوله والمأموم يؤمن معه، وليس في الحديث غير تامين المؤتم، وما قيل: إن تأميبئ الإمام قد علم من الأحاديث الأخر لا وجه له وفي أكثر النسخ كما في التيسير والمعالم هكذا، فإنّ الملائكة تقول آمين والإمام يقول آمين: فمن وافق تأمينه إلخ وعليه فلا إشكال أصلاَ.
(أقول) وقد وقع نحو من هذا في البخاري فقال ابن بطال في شرحه بعدما أورد هذا الحديث أنه يعلم مته تأمين الإمام لأنّ المأموم مامور بالاقتداء بالإمام، وقد ثبت في الحديث سابقاً أنّ الإمام يجهر بالتأمين فلزم جهره بجهره، وتعقب بأنه يلزمه أن يجهر الماموم باً لقراءة لأنّ الإمام جهر بها.
وأجيب عته بأن الجهر بالقراءة خلف الإمام نهي عنه فبقى التأمين داخلاَ تحت عموم
الأمر باتباع الإمام واستدل بقوله فأمنوا على تأخير تاسين المأموم عن تأمين الإمام لترتبه عليه بالفاء وفيه كلام في كتب الأصول، فذهب بعضهم إلى أنها تدل على التسبب دون التعقيب، وقيل المعنى إ 16 أراد الإمام، وقال الجمهور الفاء في جواب الشرط تدل على المقارنة، والمراد بالملائكة جميعهم وقيل: الحفظة، وقيل: الذين يتعاقبون إن قيل: إنهم غير الحفظة، فالمراد بموافقة الملائكة وقوع تأمين المصلي والملائكة في وقت واحد وقيل المراد الموافقة في الإخلاص والخشوع لأنه المناسب للمغفرة، وقال ابن حجر رحمه الله: المراد الأوّل لما رواه عبد الرزاق عن عكرمة قال صفوف أهل الأرض إلخ وهذا يدل على أنّ المراد بالملائكة غير ما مرّ، وقال بعض فضلاء العصر في حواشيه: المخاطب بقوله عليه الصلاة والسلام قولوا آمين الإمام والمأموم جميعاً، والمعنى أيها المصلون 1 قولوا جميعاً إمامكم ومأمومكم آمين، ويؤيد. أنّ تعليق المغفرة بالموافقة ترغيب، وحث على ما ينبغي أن يعم الإمام والمأموم جميعا، فلا يحرم الإمام هذه الفضيلة ومثله لا يتم بسلامة الأمير فتدبر. قوله: (وعن أبي هريرة إلخ) هو صحابيّ مشهور، - اسمه عبد الرحمن على " الأصح وهريرة تصغير هرّة وهي معروفة، وهو غير منوّن لأنه جزء العلم وتحقيقه مشهور في(1/149)
محله وابيّ بصيغدة المصغر هو أبيّ بن كعب الصحابي المعروف، وهدّا الحديث صحيح وليس بموضوع كما توهم وان كان آكثر الأحاديث المروية عن أبيّ في فضائل السور موضوعة وضعها رجل من عبادان من الكرامية وهم يرون جواز وضع الحديث للترغيب ويجيبون عن الاستدلال جديث " من كذب علئ متعمداً فليتبوّأ مقعده من النار " (1) بأنه كذب له لا عليه، وقد اعترف به واضعه وقال رأيت رغبة الناس عن حفظ القرآن وتلاوته فوضعته، والمفسرون منهم من ذكره في أوائل السور حثاً على تلاوتها ومنهم من أخره
لأنه صفة لها فحقها التأخير عن موصوفها كما نقل عن الزمخشريّ. وقوله: (ينزل) بالياء التحتية وهو ظاهر وروي بالمثناة الفوقية مع تذكير مثل فقيل: إنه بتقدير سورة مثلها أو لأنّ المراد بالمثل السورة، فروعي معناه وقيل لاكتساب المضاف التأنيث مما أضيف إليه، ورد بأنّ الرضى وغبره صرحوا بأنّ شرط الاكتساب المذكور أن يكون المضاف بعضاً من المضاف إليه، أو كالبعض وهذا لا بد فيه من صحة المعنى مع سقوطه وهذا ليس كذلك وفيه أنه ليس بمسلم، فإن مثل يصح إسقاطها من الكلام مع بقاء المعنى بحاله فتقول في نحو زيد هو مثل الأسد هو الأسد فيؤذي المعنى على وجه أبلغ، كما تقرّر في المعاني على أنّ صاحب الكشاف ذكر في قوله تعالى: {لاَ يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا} [الأنعام: 58 ا] على قراءة التاء الفوقية أنها لإضافة الإبمان إلى ضمير المؤنث الذي هو بعضه وقال الشارج المحقق: ثمة أنهم يعنون بالبعض ما هو أعمّ من الأجزاء أو الصفات القائمة بها وسيأتي تفصيله في سورة الأنعام، وما قيل من أن ما نقل عن الرضى شرط لوجوب الاكتساب غنيّ عن الرذ وخصى التوراة والإنجيل لأنهما أعظم الكتب السماوية، وقيل لأنها لم تتل تلاوتهما أو لأن منها ما هو تابع للتوراة لا ناسخ لها. قوله: (قلت بلى إلخ) في الكشاف ما لفظه هكذا، وعن النبيّ صقى الله عليه وسلّم أنه قال لأبيّ بن كعب: " ألا " خبرك بسورة لم ينزل في التوراة والإنجيل والقرآن مثلها قلت: بلى يا رسول الله قال: فاتحة الكتاب " (1) إلخ اهـ قال الشارح المحقق: فيه حذف أيّ قال أبيّ رضي الله عنه: قلت بلى وقال قدس سرّه: ظاهر سياق الكلام يقتضي أن يقال قال: بلى يا رسول الله أي قال أبيئ ذلك في جوابه فلذا احتيج إلى تقدير وعن أبيّ رضي الله عنه أنه قال: قلت لكنه اختصر في العبارة، ولا يكفي تقدير قال وحده كما توهم إذ يصير المعنى قال أبيّ في جواب رسول الله صقى الله عليه وسلّم قلت: بلى وفساده ظاهر بين ورده المدقق الليثي بأنه إن كان المراد نقل ما وقع في مجلس النبيئ صقى الله عليه وسلّم من المكالمة بينه وبين أبيّ، فكما لا يصح تقدير قال وحده كذلك لا يصح تقدير، وعن أبيّ أنه قال إذ يصير المعنى على كل تقدير قال أبيّ في جواب الرسول صلّى الله عليه وسفم قلت بلى، وان أريد نقل كلامه عليه الصلاة والسلام وما وقع من أبيّ رضي الله عنه في غير مجلسه من حكاية قوله، فكلاهما صحيح غايته أنّ ما ذكره الشريف أظهر دلالة على المقصود قيل: ولما كانت عبارة الكشاف تحتاج إلى تكلف كثير عدل عنها المصئف رحمه الله وصرح باسم الراوي حيث قال: وعن أبي هريرة إلخ لئلا يرد عليه ما مرّ لأنّ الظاهر أنّ أبا هريرة رضي الله عنه هو المجيب بقوله بلى إلخ تشوّفا إلى بيانه عليه الصلاة والسلام وان كان المخاطب له عليه الصلاة والسلام في مثله غير متعين
فحاصله أنه روي عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه عليه الصلاة والسلام لما قال لأبي رضي الله عنه: ألا أخبرك إلخ بادرت إلى الجواب وقلت: بلى إلخ وهو كلام لا يرد عليه شيء، ولم يفرق كثير بين كلام الكشاف والقاضي ولم ينبهوا على وجه عدول المصنف رحمه الله بناء على أن أبا هريرة رضي الله عنه روى ما وقع في مجلسه عليه الصلاة والسلام من المكالمة بين أبيّ وبينه والسياق يقتضي أن يقول قال دون قلت: وأورد عليه أنه حينئذ لا فائدة في عدول المصئف رحمه الله إلأ تقوية الإيراد، لأنه يرد عليه ما لا يدفع بما مرّ، إذ رواية أبي هريرة تكون قاصرة عن إفادة المقصود وهو ظاهر وفي بعض نسخ المصتف قال: بدل قلت والمشهور الثاني حتى قيل إن الأولى من تصرّف النساخ ثم إنّ قوله بلى في الحديث مخالف لما اتفق عليه النحاة من أنّ بلى إنما يجاب بها النفي، لكنه وقع في كثير من الأحاديث ما يخالفه كما ورد في مسلم أنت الذي لقيتني بمكة فقال بلى، فلا يلتفت لما خالفه وان اعترض عليه في المغني، وينزل بضم الياء وفتحها.(1/150)
قوله: (إنها السبع المثاني إلخ) إشارة إلى قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِي} [الحجر: 87] الآية وسيأتي تتمة في محله والقرآن بالرفع عطف على خبر إن والموصول صفته وأوتيته بضم التاء قيل: في الحديث ما يدل على أنّ القرآن العظيم في الآية بمعنى الفاتحة وأنه اسم لها ولم يذكروه هنا ولا في سورة الحجر ولم يعده أحد من أسمائها كالسبع المثاني وأم القرآن، ولا يخفى أنّ القرآن العظيم يطلق على الفاتحة بالمعنى الكلي ولا يطلق عليها بمعنى الكل إلاً مبالغة نحو أنت الرجل، فإن أريد هذا فلا مانع منه، وأمّا كونه اسماً فلا وجه له لأنه لا يلزم من الحمل المساواة. قوله: (وعن ابن عباس رضي الله عنهما (1) إلخ) هو حديث رواه مسلم بمعناه ووسول الله مرفوع مبتدأ خبره مقدر أي جالس ونحوه، ويقال بينا وبينما وتقع بعدها إذا وإذ الفجائيتين وقال الرض اكثر في جواب بينما إذ وفي جواب بينا إذا وما زعمه الحريري من أنه خطأ خطأ وألف بينا للإشباع أو كافة أو بعض من ما، وقال الرضى ة لما قصد إضافة بين إلى جملة ومثله يلزم الإضافة إلى المفرد والإضافة إلى الجمل كلا إضافة زادوا عليها ما تارة وأشبعوها أخرى، وقيل: أصله بين أوقات كذا والجمل مما يضاف إليها أسماء الزمان ثم حذف المضاف الذي هو وقت، وأقيم بين مقامه، والملك في الحديث غير جبريل عليه السلام لما في مسلم بينا جبريل عنده عليه الصلاة والسلام إذ سمع نقيضاً من فوقه فرفع رأسه وتال: " هذا باب من السماء فتح لم يفتح إلاً اليوم نزل مته ملك لم ينزل إلاً اليوم فسقم " (2) إلخ والنقيض بمعجمات هنا صرير الباب، وأبشر كأكرم بمعنى صر ذا بشارة وخبر سارّ، وقوله بنورين أي أمرين عظيمين من الكلام الموحى
إليك يدلان على علمين عظيمين من العلوم اللدنية، والعلم والوحي يطلق عليه النور كص تطلق الظلمة على مقابله قال تعالى: {انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ} [الحديد: 13] . وقوله: (لم يؤتهما) إلخ أي هو مخصوص به صلّى الله عليه وسلّم من بين الأنبياء، والمرسلين عليهم الصلاة والسلام، وفاتحة الكتاب وما عطف عليه بالجرّ عطف بيان أو بدل مما قبله ويجوز رفعه ونصبه، وخواتم سورة البقر من قوله: ولمن الرسول} [البقرة: 285] إلخ وخواتم بميم بعد المثناة وفي نسخة خواتيم بياء تحتية جمع خاتمة على خلاف القياس وهو مسموع كما نقله الثقات وفي الحديث: " الآعمال بخواتيمها " (1 (وقيل سميا نورين لاشتمالهما على الحروف النورانية، وهي أربعة عشر حرفا مذكورة في أوائل السورة وهو بعيد، والمخاطب النبيّ عليه الصلاة والسلام حقيقة وإن شمل أمّته معنى. قوله: (لن تقرأ حرفاً إلخ) الحرف واحد الحروف المعروفة، ويكون بمعنى الكلمة وكل محتمل هنا وضمير أعطيته راجع له وقيل إنه راجع لما وعده أي أعطيت ما وعدته من الثواب، وقيل إنه راجع للنور الشامل للنورين، وما قيل من أنّ المراد أعطيت ثوابا لأجل قراءة ذلك الحرف سوى ثواب كلماتها وثواب المجموع المؤلف منها أو المراد أعطيت به ما لا يحصيه إلاً الله، أو لن تدعو بحرف منها وفيه دعاء كاهدنا إلاً أجبت، أو المراد أعفيت ذلك الحرف بأن تتصرف به فيما تشاء، لأنّ الملك مظهر الأسماء ومتصرف الحروف العالية التي هي الملائكة لا يدفع ما أورد عليه من أنّ ما ذكر مشترك بينه وبين سائر القرآن الكريم، وان تشبث به ذلك القائل بزعمه. قوله: (وعن حذيفة بن اليمان (2) إلخ) حذيفة بن اليمان العبسي من كبار الصحابة وكان أبوه يسمى حنبلاً، فأصاب دماً وهرب إلى المدينة فخالف بني عبد الأشهل فسماه قومه اليماني لكونه حالف اليمانية، وهو نسبة إلى اليمن وأصله يمنيّ، فعوض عن إحدى ياءيه ألف ورسم بغير ياء كما هو معروف في علم الرسم وكان يقال له صاحب السرّ لقوله حذثني رسول الله صلّى الله عليه وسفم عما كان، وما هو كائن إلى يوم القيامة ومات بالمدائن في ست وثلاثين، وكان عمر رضي إلله عنه استعمله عليها، وهذا الحديث أسند. الثعلبي، وقال العراقي: إنه موضوع. وقيل: إنه ضعيف. والمعنى أن من الناس من يبعث عليه بشؤم معاصيه الموجبة للعقاب عذاب، ثم يؤخر عنهم ببركة قراءة صبيانهم ما
ذكر وحتماً بمعنى واجباً ومقضياً بمعنى أنه تعلق به قضاء الله أزلاً أو قدر، وسطر في اللوج المحفوظ، وفيه دليل على أنّ القضاء يكون غير مبرم فيغير أو يؤخر والمعنيّ برفعه تأخيره لا إزالته لقوله أربعين سنة ولولاه صار حشواً، والكتاب بوزن رمّان هنا بمعنى المكتب، وقد أثبته الجوهريّ واستفاض استعماله بهذا اله سنى كقوله:(1/151)
وأتوا بكتاب لو انبسطت يدي فيهم رددتهم إلى الكتاب
وأصله جمع كاتب مثل كتبة، فأطلق على محله مجازا للمجاورة وليس موضوعا له ابتداء
كما قيل، وقال الأزهريّ عن الليث: إنه لغة، وعن المبرّد الموضحع المكتب والكتاب الصبيان ومن جعله الموضع فقد أخطأ، وفي الكشف الاعتماد على نقل الليث لترجيحه من وجوه. وقوله: (الحمد لله إلخ) منصوب مفعول ليقرأ، أو مرفوع على الحكاية لأنّ المراد به السورة، والعذاب بالنصب مفعول يرفع (تمت) السورة الكريمة بحمد الله، ومنه نفع الله بأسرارها، وأشرق في مشكاة قلوبنا ساطع أنوارها وأعاد علينا شامل بركاتها إنه قريب مجيب، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
سورة البقرة
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله: (مدنية وآيها إلخ (مرّ الكلام في المدني والمكي والأقوال فيه مشهورة وكونها مدنية
قيل إنه بالإجماع، وقيل فيها آخر آية نزلت {وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ} [البقرة: 281، الآية وقيل هذه الآية ليست بمدنية نزلت في حجة الوداع يوم النحر وهو كلام واه وآي بالمد والتخفيف جمع آية أو اسم جنس جمعيّ لها كتمر وتمرة، وفي وزنها وأصلها كلام معروف في اللغة والتصريف وهي في اللغة العلامة والجماعة والرسالة والمناسبة ظاهرة، وفي عددها اختلاف فقيل مائتان وست وقيل سبع أو خمس وثمانون، والسورة تهمز ولا تهمز كما قاله ابن قتيبة، فمن همز جعلها من السؤر وهو ما بقي من الطعام في الإناء لأنها قطعة من القرآن ومن لم يهمزها أبدل همزتها واوا لسكونها وضم ما قبلها، أو جعلها منقولة من السورة بمعنى المنزلة كأنّ السور منازل، فهي منزلة بعد منزلة، ويؤيده ما في الحديث من استعارة الحال المرتحل للقارىء وهي للمنزلة الحسية والمعنوية، كالمرتبة المرتفعة قال النابغة:
ألم تر أنّ الله أعطاك سورة ترى كل ملك حولها يتذبذب
وقيل: إنها من سور المدينة لإحاطتها بآياتها واجتماعها فيها اجتماع البيوت في الحصن،
ومنه السوار لإحاطته بالساعد أو لارتفاعها بأنها كلام الله، أو لتركب بعضها على بعض من التسوّر بمعنى التصاعد ومنه {إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ} أسررة ص: 21] وفي شرج الشاطبية حد السورة ما يشتمل على آي ذات فاتحة وخاتمة، وأقلها ثلاث آيات وقيل: السورة الطائفة المترجمة توقيفا أي المسماة باسم خاص، وبهذا خرج العشر والحزب والآية وآية الكرسيّ لأنه مجرّد إضافة لا تسمية وتلقيب وفيه نظر، إذ لا بد من قيد كونها مستقلة أو مفصولة من غيرها بالبسملة إذ لولاه دخلت آية الكرسي. وقوله لأنه مجرّد إضافة لا يجدي، فإنّ سورة البقرة بل أكثر السور إضافات، وأسماء السور كلها توقيفية ثابتة بالحديث كما في الإتقان، وسيأتي بيانه وكره بعضهم أن يقال سورة البقرة ونحوه، لما روى البيهقيّ وغيره عن أنس رضي الله عنه مرفوعاً " لا تقولوا سورة البقرة، ولا سورة آل عمران، ولا سورة النساء، وكذا القرآن كله، ولكن قولوا السورة التي تذكر فيها البقرة، والتي يذكر فيها أل عمران وهكذا " واسناده ضعيف وادّعى ابن الجوزي أنه موضوع، وردّه ابن حجر رحمه الله بأنّ البيهقيّ رواه بسند صحيح موقوف عن عليّ رضي الله عنه، وقد صح إطلاق سورة البقرة وغيرها مما منع في هذا الأثر عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وفي الصحيح عن ابن مسعود رضي الله عنه هذا مقام الذي أنزلت عليه سورة البقرة، وهو معارض له، ومن ثمة أجازه الجمهور من صير كراهة، ولك أن توفق بينهما بأنه كمان مكروهاً في بدء الإسلام وقبل الهجرة لاستهزاء كفار قريش بذلك، وقد أخرح ابن أبي حاتم عن عكرمة أنّ المشركين قالوا سورة البقرة وسورة العنكبوت يستهزؤن بهما فنزل {إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ} [الحجر: 95] ثم بعد سطوع نور الإسلام نسخ النهي عنه، فشاع من غير نكير، وورد في الحديث بيانا لجوازه. قوله: (ألم وسائر الألفاظ إلخ) أي هذه وباقيها فإنّ سائر بمعنى باق أو جميعها إن قلنا به، والخلاف فيه معروف بين أهل اللغة(1/152)
وسيأتي تفصيله. وقولى:) يتهجى بها (قال في الأساس: هجا الحروف وهجاها وتهجاها وهو يهجوها ويتهجاها ولتهجوها يعددها وقيل لرجل من قيس: أتهجو القرآن فقال: والله ما أهجو منه حرفا، ومن المجاز فلان يهجو فلاناً هجاء يعدد معايبه ونحوه في الصحاح، وفي التهذيب الهجو والهجاء الض اءة فيقال أتقرأ القرآن فيقال: لا أهجو فيه حرفاً أي لا أقرأ، وكنت أروي القصيدة، فلا أهر اليوم منها بيتين أي لا أروي وفي القاموس الهجاء ككساء تقطيع اللفظة بحروفها وهجيت الحروف وتهجيتها، ونقل عن الزمخشرفي في حواشيه المروية عته أنّ التهجي تعداد حروف الهجماء بأشياء منها ألف باء تاء، فإذا وعيت ما ذكرناه لك عن أئمة اللغة، وعرفت أنّ هذا الفعل متعد بنفسه ومفعوله لا يخلو من أن يكون الكلم المنظومة والكلام المركب منها أو الحروف المركبما منها بأنفسها أو أسمائها الدالة عليها، ومعناه على الأوّل القراءة وعلى الأخيرين تعداد الثروف بأنفسها وهو التقطيع أو بأسمائها، وهو ظاهر أو مطلق التعديد، وكلام الأساس ظافر في الأخير وكلام الحواشي فيما قبله، وكلام القاموس في الثاني وكلام الأزهرفي في الأوّل، فإمّا أن نقول هو مشترك بين هذه المعاني المتغايرة، أو هو حقيقة في بعضها مجاز مسموع من العرب في غيره لأنه هو الذي يعتني به اللغويون، وعلى كل حال فمفعوله كالكلم، والحروف ليس داخلاً في مسماه والا لم يكن متعدياً، كأثمر الشجر بمعنى أطلع الثمر، فإنّ الثمر لما دخل في مسماه لم نقل أثمر الشجر الثمر حتى أنّ السكاكيّ لما استعمله متعديا أوّله الشراح، وهو مثل ما تقدم في آمين، وذكر أئمة اللغة له كما سمعته دالّ على ذلك وإنما الكلام في دخول متعلقه المجرور بالباء سواء قلنا إنها للصلة، أو للآلة فيحتمل دخوله فيه دخول البصر في أبصرت زيداً أي شاهدته ببصري فلا يذكر إلا على ضرب من التأويل أو المسامحة أو خروجه خروجا العصا في ضربته بالعصا، فإنه قيد خارج قد يذكر وقد يترك، ولما قال العلامة: الألفاظ التي يتهجى بها أسماء ذكر المدقق في الكشف ما مرّ من كلام اللغويين، وقال إنه
المناسب المطرد في العرف، ونقله سلمه الله عن الأساس وكلام الجوهريّ والأزهريّ ينزل عليه، والباء في قوله بها لتضمين معنى الإتيان أي يؤتى بها مهجوّة اهـ يعني أنه موضوع لتعداد مخصوص، وهو تعداد الحروف المركب منها الكلم بأسمائها وقيد بأسمائها داخل في مسماه، فلذا أوّل ذكره في عبارة الكشاف بالتضمين والشارح المحقق لم يرتضه وجعله خارجا والباء للصلة والآلة، والمعنى يتهجى بها الحروف أي تعدد على حذف المفعول بلا واسطة وقال: إنّ حملها على التضمين أي يؤتى بها مهجوة سهو لأنّ المهجوة المسميات لا الأسماء، وقيل: التهجي مجرّد عن قيد الأسماء، فهو بمعنى عد الحروف مطلقاً، فالمفعول بلا واسطة محذوف والجارّ والمجرور قائم مقام الفاعل، والباء فيه للآلة أو هو مضمن معنى الإتيان أي يؤتى بها مهجوة مسمياتها، أو هو من قبيل أبصرته بعيني، فيبني الفعل للمفعول بواسطة كأبصر بالعين وفيه بعد فأوّل العبارة بوجوه منها ما مرّ ودفع السهو الذي مرّ بتقدير مضاف، كما في قوله أيضاً والسبب في أن قصرت متهجاه، فإنّ المراد متهجى مسمياتها، وقيل عليه: إنه ليس في اللفظ ما يدل عليه، فهو سهو بلا مرية وتمسكه بعبارته الآتية مع احتمالها التأويل لا يجدي، وقوله: إنّ أمثال أبصرته بعيني مستبعد لا ينبغي افإنه كثير في كلامهم، وقد ورد في النظم يقولون بأفواههم مع أنه ليس أبعد مما ارتضاه.
(بقي هنا) أنه على تقدير تسليم أنّ القيد داخل في مفهومه، فالتهجي من المعاني النسبية، كالوضع فيوصف به اللافظ ويقال: هو متهج والحرف نفسه فيقال متهجي بصيغة المفعول، فإذا وصف به اسمه الذي به التهجي، فلا بد من توسط الحرف وذكره فضلاً عن أن يكون زائدا محتاجاً للتأويل كما أنّ الوضع إذا وصف به اللفظ قيل موضوع، فإن وصف به المعنى قيل موضوع له ذلك اللفظ، فإنما يكون كذلك إذا جرى على ما هو له، فأمّا إذا جرى على غيره مما هو لسببية فلا بد من الصلة والعجب أنّ هذا مع وضوحه كيف خفي على هؤلاء الفحول فتدبر. قوله: (لدخولها في حدّ الاسم إلخ (لدلالتها على معنى، وهو حروف المباني دون اقتران بأحد الأزمنة، والاعتوار في الأصل الأخذ باليد ويكون بمعنى التعاقب أيضا، كما في الأساس الاسم تعتوره حركات الإعراب، وتعاورت الرياج(1/153)
رسم الدار فلا حاجة إلى تكلف أن يقال كأنّ ما ذكر يأخذ هذه الألفاظ على التعاقب، وهو متعد بنفسه والنحاة تعدية بعلى إمّا لتضمته معنى التعاقب، أو لحمله عليه لأنه بمعناه ولتوهم بعضهم أنها حروف أيده المصنف رحمه الله بالنقل عن إمامي العربية الخليل وأبي عليّ الفارسي في كتاب الحخة، وتقديم قوله به للاهتمام لا للحصر وان صح، وفيه من علامات الاسم غير ما ذكر وتركه المصنف رحمه الله لظهوره كما ترك قول الزمخشريّ كالإمالة والتفخيم لأنه غنر مسلم اختصاصه بالاسيم، وقد كفانا المصنف مؤنثه، فلا حاجة للجواب عما أورد عليه، والمراد بالحد التعريف الجامع المانع، أو مصطلح أهل المنطق. قوله: (وما روى ابن مسعود إلخ (هذا الحديث رواه عبد الله
بن مسعود رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " من قرأ حرفاً من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول ألم حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف " وروى ابن أبي شيبة والبزار في مسنديهما عن عوف بن مالك أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: " من قرأ حرفاً من كتاب الله كتبت له به حسنة لا أقول ألم حرف وكن الحروف المقطعة الآلف حرف واللام حرف والميم حرف ". قال الحافظ مدار إسناده على موسى بن عبيدة الربذي وهو ضعيف ورواه الطبراني في الكبير من غير طريقه ولفظه " من قرأ حرفاً من القرآن كتبت له حسنة ولا أقول ألم ذلك الكتاب حرف ولكن الآلف حرف واللام حرف والميم حرف والذال حرف والكاف حرف " (3 (. وقال أبو عمرو الداني في كتاب العدد: إنا على صور الكلم في الرسم دون اللفظ ألا ترى أن صورة ألم في الكتابة ثلاثة أحرف، وهي في التلاوة تسعة أحرف، فلو كانت الكلمة إنما تعدّ حروفها على حال استقرارها في اللفظ دون الرسم، لوجب أن يكون لقارىء ألم تسعون حسنة، فلما قال: إنها ثلاثة أحرف ولقارئها ثلاثون حسنة بكل حرف عشر حسنات ثبت انّ حروف الكلمة، إنما تعدّ على صورة الكتابة دون ايلاوة والثواب جار على ذلك اهـ. وأورد عليه صاحب مصاعد النظر أنّ العامل إنما يثاب على أله لا على عمل غيره، فالقارىء يثاب على نطقه بالحروف سواء كتبت أم لا ثبت ما يكتب في الرسم أم لا، وما قاله يلزمه تعطيل بعض الحروف التي نطق بها بلسانه وهو لا يرضاه أحد، فإن ثوابه على بعض عمله دون بعض تحكم والذي يكشف لك معنى الحديث حمل الحرف على الكلمة، ولما رسمت ألم بصورة كلمة واحدة بين في الحديث أنها ثلاث كلمات، فإنّ المنطوق به أسماء الحروف لا مسمياتها، وكل اسم منها كلمة بلا شك، وهذا ما ارتضاه صاحب النشر وهو حسن وبما ذكرناه سقط ما قيل: إن ما ذكره المصنف لم يوجد في كتب الحديث، فإنه مروقي كما في الترمذي والطبراني، وكثير من كتب الحديث وصححه الحاكم وإن كان فيه اختلاف يسير لا يحوجنا إلى القول بأنه رواية بالمعنى. وقوله: (بعشر أمثالها) متعلق بمقدر أي يجازى بعشر إلخ. قوله: (فالمراد به إلخ) هذا خبر ما في قوله ما روي فإنها
موصول اسميّ مرفوع محلاً بالابتداء، والموصول إذا وقع مبتدأ يجوز أن يقرن خبره بالفاء، لكونه في معنى الشرط، كما قرره النحاة، وهذا جواب عن سؤال تقديره إنّ ابن مسعود رضي الله عنه من كبار الصحابة، وأهل اللسان، وقد أطلق عليها الحرف، وهذا مناف لما قلت فأجاب بأنه إنما يعارضه لو قصد به المعنى المصطلح بين النحاة وهو الكلمة الدالة على معنى، حفي غيرها، وليس بمراد بل لا يصح إرادته هنا فإنّ حقيقة الحرف لغة كما قاله الجوهري طرف كل شيء، وواحد حروف التهجي، وحروف المباني التي تركب منها الكلم، وما ذكر هو حروف المعاني واطلاق الحروف عليها عرف جديد أحدثه النحاة بعد العصر الأوّل، فكيف يصح إرادته في الحديث وتفسيره به، ويكون بمعنى الكلمة كما في قول بعض العرب، وقد قيل له: أتقرأ القرآن فقال: والله لا أهجو منه حرفا، أي لا أقرأ منه كلمة كما ذكره الأزهريّ، وان أهمله الجوهريّ، وصاحب القاموس، وهو معنى حقيقيّ أو مجازفي مسموع من العرب أي مجاز مرسل من إطلاق الجزء على الكل، أو استعارة لأنها من الكلام بمنزلة الحرف من الكلمة، وقوله في الأساس من المجاز، هو على حرف من أمره أي طرف لا يعارض ما قاله الجوهرفي، لأنّ حقيقته الطرف الحسي، ولولا هذا الحمل تناقض كلامه. قوله: (فإنّ تخصيص الحرف به (أي بالمعنى الذي اصطلح عليه(1/154)
النحاة إن كان المراد بالمعنى الآتي الكلمة، فكونه تخصيصاً ظاهر لأنه قسم منه، ولذا اختاره كثير من أرباب الحواشي فإن لم يرد فالتخصيص ليس في مفابلة الإطلاق بل بمعنى التعيين مطلقاً، كما في قولهم الوضع تخصيص شيء بشيء، فلا حاجة إلى التكفف في توجيهه مثل ما قيل: من أنّ مراد المصنف بالمعنى اللغويّ الطرف وهو متناول لجميع حروف المباني، وأقسام الكلمة لخروج أصواتها من طرف اللسان، فهي حروف بالمعنى المذكور. قوله: (بل المعنى اللنويّ) وهو الكلمات كما مرّ تحقيقه، فقوله ولعله سماه إلخ جواب آخر إذ المراد منه حينئذ حروف المباني، فإن أريد بالمعنى اللغويّ ما ذكر من الحروف المقطعة، وهي حروف المباني بالتحتية فهما جواب واحد، وليس المراد به الطرف كما توهم. قوله: (ولعله سماه باسم مدلوله (هذا ما ذكره الإمام في تفسيره، وعبارته توهم أنه من بنات فكره، وعلى هذا فالحكم على ما ذكر بالحرفية باعتبار مدلوله فهو معنى حقيقي له لا مجازيّ، وما قاله الإمام ومن حذا حذوه من أنه سماه حرفا مجازاً لكونه اسم الحرف واطلاق أحد المتلازمين على الآخر مجاز مشهور ليس بشيء ويعلم مما ذكر غيره مما يشاركه في معناه ولا يرد عليه أنه إذا كان في الحديث بالمعنى اللغويّ يصير معناه من قرأ كلمة من كتاب الله أيّ كلمة كانت بدليل أنه ضم إليه في رواية، كما مرّ ذلك الكتاب، وليست كل كلماته مسماها الحروف حتى يصح تسميته باسم مدلوله فالظاهر أن يقال إنه جعل الكلمات بمنزلة حروفه، ولا يخفى ما فيه من التعسف لأنه على ما ذكر لا يراد بالحروف الكلمات بل حروف التهجي كما بيناه، فهذا تخليط منه وان كان ما ذكره من الرواية ينبو عنه إلا بتوفيق من بيده التوفيق، والحاصل أنّ ما ذكر إنما يدل على حرفية المسميات لا على حرفية هذه الألفاظ
لما اشتهر من أنّ الحكم في القضية على مدلولى الموضوع لا على عنوانه، ولا كلام في حرفية المسمى هنا، والعجب من بعض الناس إذ توهم هذا وجهاً آخر ثمّ قال إنّ المصنف رحمه الله لم يلتفت إليه لأنه غير قطعيّ في سقوط المعارضة، فإنّ كلام المعارض مبنيّ على أنّ ما ذكر من نحو ألف ولام وميم إعلام لا نفسها فيصح أن يطلق كل واحد منها، ويراد به ذلك اللفظ ويحكم عليه بأنه حرف، كما في قولك من حرف جر وضرب فعل ماض ونحوه وهذا لمن له بصيرة نقاذة خلط، وخبط نثر. خير من نشره فإنه ليس من قبيل الألفاظ الموضوعة لا نفسها إذ مدلول لام ل، وهو مغاير لاسمه الدال عليه وان أتفق كونه جزءاً له كلفظ كلمة كلمة الذي هو من جزئياتها كما مرّ نعم عبارة المصنف لا تخلو من الركاكة وهذا هو الذي أوقعه فيما وقع فيه، فإن قلت المقصود من الحديث تكثير الحسنات، وهو لا يناسب جعل ألف حرفا وهي ثلاثة أحرف قلت أجيب بأنّ المراد مسماه وهو بسيط، وفيه أنّ المقروء هنا الاسم والحسنة باعتبار القراءة إلا أن يقال قراءة الأسماء تقتضي قراءة المسميات وفيه نظر، فإن قيل المراد بسائط هو المركب أعني أنه اكتفى بذكر بسيط واحد عن كل واحد من الأسامي الثلاثة اختصاراً فهو بعيد، ولذا قيل إن الأوجه أن يراد بالحرف الكلمة. قوله: (ولما كانت مسمياتها حروفاً وحداناً) وحدان بضم الواو جمع واحد كراكب وركبان وهذا زبدة ما في الكشاف من أنه ووعيت في هذه التسمية لطيفة، وهي أنّ المسميات لما كانت اً لفاظا كأساميها وهي حروف وحدان، والأسامي عدد حروفها مرتق إلى الثلاثة اتجه لهم أن يدلوا في التسمية على المسمى، فلم يغفلوها وجعلوا المسمى صدر كل اسم منها، كما ترى إلا الألف، فإنهم استعاروا الهمزة مكان مسماها لأنه لا يكون إلا ساكنا، ومما يضاهيه في إيداع اللفظ دلالة على المعنى التهليل والحوقلة، وتسميه النحاة نحتا، والمصنف رحمه الله تبعه في ذلك، إلا أنه عدل عن قوله، والأسامي عدد حروفها مرتق إلى الثلاثة إلى قوله وهي مركبة لأنه أخصر وأظهر، وفيه إشارة إلى أنّ ارتقاءه لذلك لا تتوقف عليه هذه اللطيفة، وإنما هو بيان للواقع، وفي شروح الكشاف كلام لا مساس له بعبارة المصنف رحمه الله، وهذا برمّته من كلام ابن جني في سرّ الصناعة حيث قال فيه: كل حرف يقرأ أوّل حروف تسميته لفظه بعينه ألا ترى أنك إذا قلت جيم، فأوّل حروفه ج وإذا قلت: ألف فأوّل الحروف التي نطقت بها همزة، ولما لم يمكن الواضع أن يبتدىء بالألف التي هي مذة ساكنة دعمها باللام قبلها متحرّكة ليتمكن من الابتداء بها(1/155)
فقالوا لا بزنة ما، فلا تقل كما يقول المعلمون لام ألف فانه خطأ، وخص اللام بالدعامة لأنهم توصلوا للنطق بلام التعريف بأن جعلوا قبلها الهمزة التي هي أختها، فتوصلوا فيها باللام لضرب من المعاوضة بين الحرفين فالألف التي هي أوّل حروف المعجم صورة الهمزة في الحقيقة اهـ. وقال ابن فارس في كتابه فقه اللغة: يزعم قوم أنّ العرب لا تعرف الحروف بأسمائها، والدليل على ذلك ما حكاه عن بعض الأعراب إنه قيل له أتهمز إسرائيل فقال إني إذاً لرجل سوء لأنه لا يعرف من الهمز إلا الضغط، والعصر ويرده أنهم أهل مدر ووبر، ومنهم من يعرف الكتابة
سورة البقرة / الآية 2431 السمع، واستعيرت الهمزة مكان الألف لتعذر الابتداء بها، وهي ما لم تلها العوامل موقوفة والحروف ومنهم من لا يعرفها كالإعرإب اهـ فقول الزمخشريّ ومن تبعه هنا إلاً الألف مخالف لكلام ابن جني، فإنها عنده اسم الهمزة، والألف اللينة اسمها لا التي يعبر عنها المعلمون بلام ألف، كما سيأتي فاللطيفة تامّة بلا توجهية، والهمزة صفة لها لأنها تسهل وتبدل، وذلك كالعصر لها وليس اسما مستحدثاً كما قيل، وذهب غيره إلى أنّ الألف اسم للينة إلا أنها أبدلت همزة لتعذر الابتداء بها وهو المرإد بالاستعارة هنا، فاللطيفة جارية فيها باعتبار أصلها ولم تتخلف اضطراراً.
(تنبيه) قول معلمي الصبيان لام ألف خطأ فإنّ اسمها لا وقول بشار:
يخط في الطريق لام ألف
ليس معناه هذا فإنه في وصف السكران يجرّ رجليه في التراب فأثرهما فيه معوجاً يعود
شكل لام، ومستقيما شكل ألف.
(وأقول) الشعر صريح فيه. قوله: (ليكون تأديتها بالمسمى أوّل ما يقرع السمع) قيل الباء زائدة، كما في قولهم أخذت بالخطام، وأنه ليس المراد بالتأدية الدلالة حتى يقال: كان الأنسب ذكر المسميات في الآخر لأنّ فهم المعنى بعد فهم اللفظ بل إحضار المسمى بذاته لأنهم لما قصدوا أن يضعوا لهذه البسائط أسامي مركبة لمصلحة راعوا هذه اللطيفة في التسمية بأن ركبوا كل اسم من مسماه مع غيره، وقدموا المسمى ليكون أوّل ما يقرع السمع لزيادة مناسبة وللإشارة إلى أنّ هذه التأدية ليست من جنس تلك التأدية، فلو لم يكن الاسم مركبا من عدة حروف والمسمى حرف مفرد لم تتيسر هذه النكتة فيه، فانظر فائدة هذه القيود، ووقوع كل منها في محزه. (أقول الا يخفى أن تأويله بالإحضار وحده لا يدفع ما ذكر، ولا يكفي في أداء ما قصده بدون قيد بذاته، ولا قرينة على تقديره هنا، فالظاهر أنّ ضمير تأديتها راجع لقوله: حروفها وحدانا والباء للملابسة لا زائدة، لأن زيادتها في المفعول غير مقيسة كما صرّحوا به أي إيصال المتكلم لتلك الحروف من جهة كونها مسمى، ومدلولاً عليها أوّل إلخ وأصل معنى التأدية الإيصال، فإنها تفعلة من الأداء قال تعالى: {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء: 58] ومنه أداء الدين من الدين، وفي عرف الفقهاء يكون بمعنى إيقاع الفعل في وقته، ويقابله القضاء وهو مضاف للمفعول لأنه متعد بنفسه، والقرع مس جسم باخر بحيث يسمع له صوت والصوت يسمع بوصول الهواء إلى مقعر الأذن شبه وصوله بالقرع، وصار حقيقة فيه، فلذا تال يقرع السمع دون يسمع مع أنه أخصر. قوله:) واستعيرت الهمزة) أي جعلت أوّلاً في مكانها لتعذر الابتداء بها كما مرّ، فالاستعارة ههنا بمعناها اللغويّ على ضرب من التوسع، وهذا إذا لم تكن الألف موضوعة في الأصل للهمزة، واستعمالها في المدة على التوسع كما نقل عن ابن جني لأنها تد تصير مدة، أو هي مشتركة بينهما كما ذهب إليه بعض
أهل اللخة. قوله: (وهي ما لم تلها العوامل إلخ) المراد بكونها تليها أن تتصل وتفترن بها سواء كانت مقدمة أو مؤخرة لأنّ الولي يكون بمعنى الاتصال، كما يكون بمعنى وقوعها بعدها ومنه التالي، وليس هذا مراداً والاً كان الظاهر العكس، وهذا إمّا بناء على الأصل أو المراد به ما كان كذلك حقيقة أو حكماً، فلا يضره فصل الجملة المحترضهه ونحوها، ولا يرد عليه العوامل المعنوية، حتى يقال إنه باعتبار اكثر والعوامل جمع عامل وهو مشهور. قوله: (موقوفة خالية عن الإعراب (قال أبو حيان في شرح التسهيلى الأسماء المتمكنة قبل التركيب كحروف الهجاء المسرودة ألف باء تاء ثاء، وأسماء العدد نحو واحد اثنان ثلاثة أربعة فيها للنحاة ثلاثة أقوال، فاختار ابن مالك رحمه الله أنها مبنية على السكون لشبهها بالحروف في كونها غير عامله ولا معمولة، وهذا عتك. يسمى بالشبه الإهمالي، وذهب غيره إلى أنها ليست معربة لعدم تركبها مع العامل ولا مبنية لسكون آخرها في حالة الوصل، وما قبله ساكن(1/156)
وليس في المبنيات ما هو كذلك وذهب بعضهم إلى أنها معربة يعني حكما لا لفظا، والمراد به قابلية الإعراب، وائه بالقوّة كذلك ولولاه لم يعل فتى لتحرّكه وانفتاح ما قبله، وهذا الخلاف مبنيّ على اختلافهم في تفسير المعروب والمبني، فإن فسر المعرب بالمركب الذي لم يشبه مبنيّ الأصل شبها تافآ، والمبنيّ بما خالفه فهي مبنية، وان فسرا بما شابهه وخلافه، ولم نقل بالشبه الإهمالي، فهي معربة تنزيلاً لما هو بالقوّة منزلة ما هو بالفعل، وان قلنا المعرب ما سلم من الشبه وتركب مع العامل والمبني ما شابهه فهي واسطة:
وللناس فيما يعشقون مذاهب
فالخلاف لفظيّ، والأمر فيه سهل، وكلام الكشاف مبنيّ على الثاني وكلام المصنف محتمل له ولما، حده وان كان الأوّل أظهر، ثم إنه قيل إنّ المحققين حصروا سبب بناء الأسماء في مناسبة ما لا تمكن له أصلاً، وسموا الأسماء الخالية عنها معربة، وجعلوا سكون أعجازها قبل التركيب وقفاً لا بناء، واستدلوا على ذلك بأنّ العرب جوّزت في الأسماء قبل التراكيب التقاء الساكنين كما في الوقف، فقالوا زيد عمر وصاد قاف، ولو كان سكونها بناء لما جمعوا بينهما، كما في سائر الأسماء المبنية نحو كيف وأخواتها لا يقال ربما عددت الأسماء مساكنة الإعجاز متصلاً بعضها ببعض، فلا يكون سكونها، وقفاً بل بناء لأنا نقول هي قبل التركيب في حكم الوقف سواء كانت متفاصلة، أو متواصلة إذ ليس فيها قبله ما يوجب الوصلة، فالمتواصلة منها في نية الوقف، فتكون ساكنة بخلاف كيف، وأين وحيث وجير إذا عذدت وصلاً، فإن حركتها لكونها لازمة لا تزول إلا بوجود الوقف حقيقة اهـ (أقول) ما ذكر وان كاد زهرة لا يحتمل إلا أنه يرد عليه أنّ صاحب المذهب الآخر يقول: إنّ ما استدلوا به من التقاء الساكنين فيها، وهو لا يجوز في المبنيّ غير تائم لأنه بناء عارض، كبناء المنادي واسم لا والتقاء الساكنين يغتفر فيه لمشابهته للمعرب في أنه على معرض الزوال، وليس هذا بأبعد من نية الوقف فيما لا
يوقف عليه كألف في ألم. وقوله لا يصح الوصل بنية الوقف، في نحو جير غير مسلم أيضاً مع أنه قائل بأن فيها مناسبة لغير المتمكن لمشابهتها للحرف، كما مرّ عن ابن مالك ثم إنّ المصنف رحمه الله عدل في الكشاف لنكتة، كما هو دأبه إذا غير عبارته فأتى مع الإيجاز بعبارة محتملة للمذهبين سالمة عما في قوله: هي أسماء معربة، وإنما سكنت سكون زيد وعمرو وغيرهما من الأسماء حيث لا يمسها إعراب إلخ من شبه التناقض، وان كان مدفوعاً بأنّ المثبت الإعراب بالقوّة، والمنفي ما هو بالفعل فمن توخم أنه عينه فردّ ذلك التوفيق، فهو ممن حرم نعمة التوفيق، ثم إنّ الوقف له معان يكون بحسبها متعديا ولازما، فيكون بمعنى التأخير كقولهم يوقف الميراث لوضع الحمل، وبمعنى الإمساك والمنع، وبمعنى تسكين آخر الكلمة دون بناء لقطعها عما بعدها حقيقة، أو حكماً وهذا هو المراد هنا لا كونها غر معربة ولا مبنية وان صح كما أشرنا إليه، فلذا أورد عليه بعض المتأخرين أنه بهذا المعنى لا يمكن في نحو قولك صيم امرىء ولام الرجل، وهكذا كل مضاف. ذكر على سبيل التعداد، وأجيب بأنه مخصوص بما إذا لم يمنع منه مانع، وفيه نظر لأنه لا تعرف هذه الحركة فيه، كما لا يعرف علامة الإعراب الحرفية، وحال النعت في الأسماء، كما إذا قلت: اثنان ثلاثة وقلت: الفصل الأوّل الفصل الثاني. قوله: (معرّضة له) بزنة اسم المفعول من التعريض أي مهياة له، ومستعدة لقابليتهاءله، كما يقال فلان عرضة للوائم إذا استحق اللوم، وقيل: معناه محل لعروض الإعراب بمعنى الحركات الإعرابية لا بمعنى كونه بحيث لو اختلفت عليه العوامل اختلف آخره، وموجبه أي موجب الإعراب بكسر الجيم، وهو العامل ومقتضيه، وهو المعاني المعتورة عليه من نحو ألفاً علية والمفعولية، والإضافة وليسا بمعنى واحد وهو العامل لأنّ ما ذكر أتم فائدة. قوله: (إذ لم تناسب إلخ) تعليل لكونها معرّضة للإعراب وقابلة له وليس استدلالاً مبنياً على انحصار علة البناء في المناسبة المذكورة، كما قيل لأنّ كلامه غير متعين له كما قدّمناه وكذا ما قيل من أنه أشار إلى أنّ الاسم يبنى تارة لعدم الموجب وتارة لمناسبته مبنيّ الأصل، وان وجد الموجب وما نحن فيه من الأوّل إن حمل على ما ذهب إليه الجمهور من أنّ المبني ما ناسب مبني الأصل أو وقع غير مركب، فان حمل على أنه ما شابه مبني الأصل، وما عداه معرب فالمراد بقوله خالية عن الإعراب خلوّها من ظهور الإعراب لفظا أو تقديرا، فإنه محل نظر ويرد على المصنف رحمه الله أنها مناسبة لمبنى الأصلي عند ابن(1/157)
مالك لما فيها من الشبه الإهمالي فتدبر. قوله: (ولذلك إلخ) قد عرفت أنه تعليل لكونها غير مبنية وهذا ما ذهب إليه من تقدمه من أهل العربية، فإنهم جوّزوا التقاء الساكنين في الوقف، ولو على غير حدة ولم يجوّزوه في غيره كحالة البناء فسكون هذه الأسماء سكون وقف لا بناء، ولا يرد عليه حيث وجير وغيرهما من المبنيات مما إذا وقف عليه سكن نعم من يقول إنه بناء عارض وهو يجوز فيه ذلك لاشيقول بما ذكره المصنف كما مرّ، والاعتراض على هذا بأنه قياس بغيو جامع في اللغة ظاهر السقوط.
قوله: (ثم إنّ مسمياتها إلخ) شروع في تفسيرها وتوجيه افتتاح السور بها، وقد ذكر في الكشاف وجوهاً ثلاثة أوّلها أنها أسماء للسور، والثاني الإيقاظ، والثالث أنها مقدمة لدلائل الإعجاز، والمصنف وحمه الله ذكر الأخيرين وأخر الأوّل، وأورده بقيل، ثم أورد بلا يقال وجوها أربعة مزيفة، ثم أورد أربعة أخرى بصيغة التمريض فالوجوه أحد عشر، وما ذكر من الوجهين يشتركان في الإشارة إلى أمارة الإعجاز ويفترقان بأنّ الأوّل بالنظر إلى حال الكلام المنزل، والثاني بالنظر إلى حال المتكلم به، والعنصر بضم العين وسكون النون وضم الصاد المهملة، وقد يفتح للتخفيف ووزنه فنعل، ويحتمل أن يكون فعلل على ما بين فالصرف ومعناه الأصل وهو المراد هنا، وبسائط جمع بسيطة وهي الحروف المفردة فقوله التي تركب منها تفسير له فمن قال إنه جمع بسيطة بمعنى مبسوطة وهي المنثورة لم يصب المحز، وعطف بسائطه تفسيري أيضاً، وقوله بطائفة منها أي من الأسماء إذ هي المفتتح بها، وليس فيه تفكيك الضمائر المحذور لظهور القرينة عليه، وتعريف السور للعهد أي التي افتتحت بالحروف، وفي نسخة السورة بتاء الوحدة والأولى أولى رواية ودراية، وأمّا على الثانية فقيل تعريفها للعهد الخارجي، والمعهود سورة البقرة لا للاستغراق لأنّ من السور ما لم يفتتح بطائفة منها مثل ص وق. ويحتمل العهد الذهني على تقدير أنّ المصنف قدّم هذا الوجه لأنه الأصل الأظهر ولطوله فلو أخر أتى بعد ذهاب النشاط فقد لا يحيط به السامع خبرا، وحاصله أنّ المراد بها إمّا مسماها من الحروف المقطعة أو لا، وعلى الأوّل فالافتتاح بها وتخصيص البعض به في أبلغ الكلام لا بد له من وجه فوجه الأوّل بوجهين ولم يجعل كلاً منهما تأويلاً مستقلاً كما فعله الزمخشريّ قصرا للمسافة لتقاربهما واتحادهما مآلا، ثم إنّ بعض أرباب الحواشي أورد هنا ما في الكشاف من السؤال عن رسمها على صور الحروف بأنفسها دون صور أساميها وما أجاب به من أنه مبنيّ على ما. جرت به العادة المألوفة من أنه يقال للكاتب إذا أملى عليه اكتب باء جيم فيكتب مسماها هكذاب ح. ولكونه مع اختصاره مأمون الليس، ولأنّ خط المصحف كخط العروضيين سنة متبعة لا يلتزم أن يجري على قياس الرسم، ولم يتنبه لأنّ هذا إنما يتجه على الوجه الآتي وهو كونها اسماً للسورة، فإنها إذا قصد بها الحروف أنفسها فالمعروف أن تكتب كما هنا إلا أنها في غير المصحف تكتب غير متصلة، فيقال هجاء ضرب ض رب وغفل أيضاً عن إيراد العلامة له ثمة وقوله: استمرّت العادة لمن تهجى أن يلفظ بالأسماء، وتقع في الكتابة الحروف أنفسها. قوله: (إيقاظاً لمن تحدّى بالقرآن) الإيقاظ مصدر أيقظه إذا نبهه من نومه والتنبه منه يقظة بفتحات وتسكين القاف في قوله:
فالعمرنوم والمنية يقظة والمرءبينهما خيال ساري
ضرورة وقيل إنه جائز سعة، وتحدى بصيغة المجهول من التحدي وهو طلب المعارصة
أو المعارضة نفسها كما تقدم أي ليوقظ من تحداه، وعارضه من نومة الغفلة، فينبهه على أنّ ما تلي عليه منظم مما تركب منه كلامهم فعجزهم عن معارضته مع علوّ كعبهم في صناعة الكلام ليس إلا لأنه من غير جنس كلام البشر لأنّ ما فيه من الخواص، والمزايا خارج عن طوقهم، والتظاهر التعاون وأصله أن يسند كل إلى ظهر آخر، ويدانيه بمعنى يقاربه، فإن قيل إعجاز القرآن ليس بتركيب الحروف بل بتركيب الكلمات التي يكون المركب منها معجزاً بمطابقته لمقتضى الحال، فاللائق بما ذكر سرد ما يتركب منه الكلام، وهو الكلمات لا الحروف قيل المراد أن يذكر المادّة التي تتركب منها الكلمة وهي الحروف ومادة الكلام، وهي الكلم أنفسها معاً غير أنه اكتفي بالأول لظهور أن القدرة على الحروف وحدها لا تفي بأداء ما هو بصدده من الإتيان بكلام بليغ(1/158)
معجز لا يقال حينئذ ينبغي الاكتفاء بالكلمات عن الحروف، لأنّ التركيب من الكلمات يستلزم التركيب من الحروف بلا عكس لأنا نقول هو كما ذكرت إلا أنه لا يحصل بهذه الإيقاظ لأنه لو سردت كلماته موضوعة على هذا النمط توجه الذهب إلى تحصيل معناها وطلب ارتباطها لا إلى ما ذكر من الإشارة فتدبر. قوله: (وتنبيهاً على أن المتلوّ عليهم إلخ) هذا وما عطف هو عليه منصوب على أنه مفعول له، فإن قلت دلالة اللفظ كغيره إمّا وضعية أو عقلية أو طبيعية، والمراد بالوضعية ما للوضع مدخل فيه، فيشمل الدلالات الثلاث والمجاز والكناية، وهذه الألفاظ موضوعة للحروف المقطعة، فكيف تدل على الإيقاظ، وعلى ما يتيقظ له من الإعجاز، ولا يظهر في طريق من طرق الدلالة المذكورة. قلت: هو مما يحتاج للتنبيه عليه والإيقاظ ولم يتعرّض له أحد من أرباب الحواشي والشروح (والذي ظهر لي) بالتأمّل الصادق أنه من الدلالة العقلية، وهي قد تدل على أمور متعددة كصوت غناء من وراء جدار يدل على أن خلفه ناساً في لهو ولعب، واجتماع لما يسرّهم وهنا لما صذر الكلام بهذه الحروف، وليس المراد إفادة مسماها والمتكلم بليغ يصون كلامه عن العبث دل عقلاً على أنّ المراد به الإشارة إلى أنّ ما بعده كلام مركب، ونحن إذا سمعنا المعلم يهجي طفلأ علمنا منه أنه سيقرئه والتنبيه على هذا بخصوصه مع أنه كلام مركب منها لا بد له من وجه، فإذا أصاخ له اللبيب تفطن لما ذكر ولله در العلامة خطيب المفسرين إذ أشار لما ذكر بقوله كالإيقاظ وقرع العصا، فجعله كقرع العصا إيماء إلى أنّ دلالته عقلية صرفة موكولة لفطنة السامع إذ دلالة قرع العصا لذي الحلم المضروب به المثل في قوله:
إن العصا قرعت لذي الحلم
لكونها على خلاف المعتاد تدل على خطئه كما نبه قرع الأسماع هنا على خطا هؤلاء،
وتال في الكبير: بيانه أنه عليه الصلاة والسلام كان يتحداهم بالقرآن فلما ذكر هذه الحروف دتت قرينة الحال على أنّ مراده من ذكرها أن يقول لهم هذا القرآن إنما نزل بهذه الحروف التي أنتم قادرون عليها فلو كان هذا من فعل البشر لوجب أن تقدروا على الإتيان بمثله اه. قوله:
(عن آخرهم) هذه عبارة مشهورة مسموعة من العرب قديماً أي عبارة عن الاستيعاب والشمول. وقال العلامة هو أبلغ من جميعهم لأن عن للمجاوزة، فالمراد عجزوا عجزاً متجاوزاً عن آخرهم وإذا تجاوز العجز عن آخرهم شملهم كلهم أوّلاً وتجاوز عنهم ثانيا، فهو أبلغ من عجزوا جميعا، وقيل عليه بل المعنى عجزاً صادراً عن آخرهم لا متجاوزاً عنه، لأنّ معنى تجاوز عنه عفا عنه، وغفروا ما بمعنى التعدّي فالمجاوزة فيه متعدّية بنفسها، ودفع بتضمين معنى التباعد بمعونة المقام إذ لا محل للعفو هنا مع أنه تعدى بكلمة عن أيضا في كلام من يوثق به، وقيل المعنى حينئذ عجزاً صادراً عن آخرهم إلى أوّلهم، وفيه أن مقابل كلمة إلى من الابتدائية لا عن، فإن قيل هذا تطويل بغير فائدة، إذ قدر التجاوز وضمنه معنى التباعد فهلا قدر التباعد ابتداء، فإنه يتعدّى بعن في كلام العرب كما مرّ في قوله:
تباعد عني فطحل إذ دعوته
قيل بل فيه فائدة، وهي أنّ التباعد عن الآخر هنا بطريق المجاوزة لا بطريق عدم الوصول
إلى الآخر أو المحاذاة، فلو لم يقدّر كذلك توهم هذا، وإن كان المقام قد يأباه، وقيل إنه غير وارد لأن مراد ذلك القائل بيان معنى عن واظهار وجه تعلقه بالفعل، ونظيره قول ابن الحاجب في معنى جلست عن يمينه متراخيا عنه، كأنه متجاوز عن موضعه إلى الموضع الذي بحيال يمينه، وله نظائر ولا يخفى عليك أنه إذا تعلّقت عن بالفعل لا تفيد هذا المعنى الذي ادعاه هذا القائل لأنّ معنى العجز عن الآخر أنهم لا يقدرون على الآخر لا أنّ الآخر عجز وتجاوزه العجز، ولو كان مراده ذلك لقال متجاوزا الآخر، ولا يخفى ما فيه من الخلل، ثم أنهم لم يستندوا في التعدية المذكورة إلى نقل، وقول الشريف من يوثق به أراد به الرضى كما أشار إليه في حواشيه عليه (وأنا أقول) إنه وقع بهذا المعنى معذى بعن في قول أبي تمام:
فلا ملك فرد المواهب واللها ~ تجاوز لي عنه ولا رشأ فرد
قال التبريزي في شرحه: لا نفي لتجاوز الملك، والتقدير لا تجاوز لي عنه الملك الفرد،
ولا الرشأ أي متى ملكني لم يقدر على تنحيتي عنه ملك بذال ولا رشأ فرد اهـ فمثل أبي تمام إذا استعمله، وما يقول بمنزلة ما يرويه كما سيأتي(1/159)
ومثل التبريزي من أئمة اللغة، وناهيك به لم يعترضه، وأشار إلى تعديه بعن لما فنه من معنى التنحية المعذاة بها كفى دليلاً عليه، وقيل عن بمعنى من مع وجوه أخر متكلفة ضربنا عنها صفحا لركاكتها. قوله:) وليكون أوّل ما يقرع الأسماع إلخ) عطف على قوله: إيقاظا وأظهر اللام تفننا، وللإشارة إلى أنه وجه آخر وحذفت من الأوّل دونه لوجود شرط النصب، وهو كون المفعول له فعلاً لفاعل الفعل المعلل إلا أنه قيل عليه أنه إذا عطف على إيقاظا تعلق بافتتحت، وسببية عنصرية المسميات للكلام للافتتاح المعلل بكون أول ما يقرع الأسماع مستقلاً بنوع من الإعجاز غير ظاهرة فلا يجعل المعطوف
في حكم المعطوف عليه من حيث كونه جواب السائل في مجرّد افتتاح السورة بطائفة منها وفيه ما فيه، اللهمّ إلا أن يقال عنصريتها للكلام تستدعي تقديمها، فناسبه أن يكون ذكر أساميها المستقلة بنوع من الإعجاز أول ما يقرع السمع، ثم إن هذا ظاهر إن كانت البسملة ليست من السورة، والأ فالمراد أنه أوّل ما يقرعه مما يختص بها.
وقال قدس سرّه: إشارة إلى أنّ المقصود من الأغراب في أوائل السور أن يكون دليلأ
على إعجاز ما يرد بعدها ومقدّمة منبهة عليه، فالفواتح على ما قبله نبه بها على أنّ هذا المتلوّ لتركبه مما يتركب منه كلامهم على قواعدهم ليس إعجازه ببلاغته الفائقة إلا لكونه من الله، وعلى هذا نبه بها على أنها لاستقلالها بوجه من الاغراب من حيث صدورها ممن يستبعد منه أمارة على إعجاز ما بعدها بالنسبة إلى حال من ظهر على لسانه اغتراب بكلمة مما يستغرب منه إشارة إلى تكلمه بما يعد منه معجزا، فالوجهان ناظران إلى الوجهين في تفسير قوله تعالى: {فَأْتُواْ بِسورة مِّن مِّثْلِهِ} [البقرة: 23] وفيه أنّ قوله أمارة على إعجاز ما بعدها مع قوله قبله لاستقلالها بوجه من الاغراب فيه تناف يحتاج إلى التوفيق، واعترض بأنه يمكن تعلم أسماء الحروف، ولو بسماع من صبيّ في أقصر مدة فلا إغراب فيه، وأجيب بأنه وإن أمكن ذلك لكن صدوره ممن لم يشتهر أنه تعلم، وهو بين قوم أمّيين مستبعد جدا، وفيه بحث وأما ما يذكر بعده من لطائف تلك الحروف فمع كونه لا يختص بهذا الوجه يبعد كونه من تتمة الجواب، لأنه لا يتفطن له إلاً الماهر في أوصاف الحروف فضلاً عمن لا يقرأ ولا يدرس فكيف يعجزهم، ويتحذاهم بما لا يفهمونه، فلا وجه للجواب عنه بأنه ليس المستغرب مجزد التلفظ بها بل مع رعاية اللطائف التي ذكرت متصلة بها، وقول المصنف رحمه الله سيما إشارة إلى هذا الجواب، والكتاب بضم فتشديد جمع كاتب لا بمعنى المكتب لأنه غير مناسب هنا وان أثبته بعض أهل اللغة، والأميّ الذي لا يقرأ ولا يكتب نسبة إلى الأمّ لأنه خرج من بطن أت أو نسبة إلى أمة العرب لأنهم كانوا كذلك، أو إلى أمّ القرى لأنّ أهلها كذلك والحاصل أنّ ذكرها يدل على إعجازه في نفسه أو بالنسبة إلى من أنزل عليه. قوله: (كالكتابة والتلاوة (إدراجه الكتابة بين تلفظه بأسماء الحروف، والتلاوة الواقعين منه على خرق العادة يقتضي اً نه صلى الله عليه وسلم كتب من غير تعلم بل على خرق العادة وسيأتي فيه كلام في قوله تعالى: {وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ} [العنكبرت: 48، فعلى المشهور التمثيل لمجرّد استغرابه وإن لم يقع. وقوله: (سيما إلخ (الكلام على سيما ومعنى قول بعض النحاة أنه للاستثناء مفصل في حواشينا على الرضى وحاصله أن سيّ بمعنى مثل يقال هما سيان أي مثلان، فمعنى لا سيما لا مثل ما، وما زائدة أو موصولة أو موصوفة، وعدهم له من كلمات الاستثناء لأنه للاستثناء عن الحكم المتقدم ليحكم عليه على وجه أتمّ من جنس
الحكم السابق، والمعروف ذكر اسم بعده معرب بالوجوه الثلاثة كما في قول امرىء القيس: ولا سما يوم بدارة جلجل
وايقاع الجملة الحالية بعده كما وقع في عبارة المصنف رحمه الله وان كثر في كلام المصنفين إلا أنّ النحاة لم يذكروه، كما ننه عليه بعض المتأخرين، وحكى الرض أنه يقال سيما بالتشديد والتخفيف مع حذف لا كما هنا، وقال الدماميني في شرح التسهيل: لم أقف عليه لغيره، وهو كثير في كلام المصنفين، وقال أبو حيان ما يوجد في كلام المولدين من حذف لا لا يوجد في كلام من يوثق به، ونص عليه أبو عليّ الفارسيّ وقال حذفها غير جائز، وكذا في البارع والتهذيب، وقال في المصباح: ربما حذفت لا في الشعر وهي مرادة للعلم بها، والأديب العارف بفنون العربية، وما يلحق بها مما فصل في أوّل شرح المفتاح، وتسميتها أدباً(1/160)
والعارف بها أديباً من الاصطلاحات المولدة، ومعناه في لغة العرب الأخلاق والصفات الحميدة كما ورد في الحديث " أذبني ربي فأحسن تأديبي " أا (قال المطرزي في شرح المقامات: والأريب بالراء العاقل وجملة وقد راعى حالية. قوله: (وهو أنه أورد إلخ) الضمير راجع إلى ما في قوله ما يعجز وكونها نصفا بإسقاط المكرّر ظاهر ولم يورد الكل لأن أداء ما ذكر تام بدونه، فاقتصر منه على ما هو بمنزلته، وحروف المعجم ليس من إضافة الموصوف للصفة إن كان المعجم مصدراً ميمياً بمعنى الإعجام، أو هو منها إن كان اسم مفعول وقلنا بذلك كصلاة الأولى، أو هو مؤوّل أي حروف الخط المعجم وصلاة الفريضة الأولى أي الذي من شأنه ذلك والإعجام من العجم بمعنى النقط، وقد شاع في كلام المصنفين تخصيص المعجمة بالمنقوطة وتسمية غيرها مهملة، أو هو بمعنى الإبهام والإخفاء، ومنه عجم الزبيبة لاستتاره، والعجم وان كان هنا للإيضاح لا للإبهام، فإنما جاءه هذا من جهة كون همزته للسلب كاشكيته إذا أزلت شكايته، وأشكلت ا. لكتاب أزلت إشكاله، وقالوا أيضا: عجمت الكتاب على التفعيل للسلب كمرّضته بمعنى داويته، وأزلت مرضه، وقذيت عينه أزلت عنها القذى، وهذا رأي أبي عليّ الفارسيّ، وهو حسن ومن لم يقف عليه اعترض بأنّ السلب غير مقيس، وإذا سمع هذا اللفظ بعينه من العرب ودل بفحواه على ما ذكر كان هذا من فضول الكلام ولا يقال عجم مخففاً بل عجم وأعجم. قوله: (إن لم يعدّ الألف إلخ) ضمحر فيها المؤنث لحروف المعجم، وفي بعضها فيه وهو تحريف من الناسخ قال ابن جني في سر الصناعة: أعلم أنّ أصول حروف المعجم عند الكافة تسعة وعشرون حرفاً، أوّلها الألف، وآخرها الياء على المشهور من ترتيب حروف
المعجم إلا أبا العباس، فمانه كان يعدها ثمانية وعثرين حرفا أوّلها الباء الموحدة، ويدع الألف من أوّلها ويقول هي همزة لا تثبت على صورة واحدة، وليس لها صورة مستقرّة فلا أعدها مع الحروف التي أشكالها معروفة محفوظة، وهو غير مرضيّ عندنا اهـ. فإن كان هذا مراد المصنف ليوافق النقل المذكور، فالمراد بالألف الهمزة لأنها غير مستقلة لتبعيتها لغيرها لفظاً وخطاً، وان كان المراد بها المدّة التي هي حرف لين كما قيل: فمعنى عدم عذها برأسها درجها مع الهمزة تحت الألف، أو بأن لا تعتبر أصلاً بناء على أنها مدة منقلبة غالباً عن الواو والياء، وهو المناسب إذ المراد بالألف المعدودة الهمزة ومعنى قوله برأسها مستقلة غير مندرجة مع غيرها تحت اسم واحد، والرأس حقيقتها معروفة ثم إنهم توسعوا فيها لمعان كالأول في قولهم رأس السنة، والرئيس في قوله هو رأسهم أي رئيسهم وهي هنا بمعنى الاستقلال وهو في كلام المولدين مشهور، والعلاقة فيه اللزوم لأنه لا يستقل بدونها. قوله: (بعددها إذا عدّ فيها الألف إلخ) إشارة إلى أنه سلك في الأوّل طريقا فيه عدم عذها ثم سلك في الثاني طريق عدّها اعتباراً لكل منهما واحترازاً عن تعطيل واحد منهما، وقوله مشتملة بالنصب صفة أربعة عشر أو حال منها وكون المذكورات إنصافاً تقريبيّ، لأنّ في بعضها زيادة يسيرة ونقصا يسيرا يجبر كل منهما الآخر. وقيل: قد مرّ أنّ الهمزة اسم مستحدث، فلو جعل الألف حرفا برأسه أيضا، فلا اسم لمسمى الهمزة في زمان نزول القرآن، فالواقع في الفواتح نصف أسامي الحروف على كل حال، وأجيب بأن مراده نصف أسامي جميع الحروف وعلى تقدير عد الألف حرفا برأسه لا يتحقق لجميع الحروف أسامي، وهذا يستلزم عدم تحقق نصف أسامي الجميع وقيل الألف مثترك بين الخاص، وهو المدة والعام الشامل لها وللهمزة وهذا مبيّ على عدها حرفا برأسها، وهو تكلف مبنيّ على أنّ لفظ الهمزة بهذا المعنى لم يثبت عن العرب، وقد مرّ أنه لا أصل له لا يقال ما ذكر من الأنواع اصطلاحات أحدثها أرباب العربية حتى دوّنوها، فكيف تقصد حين نزول القرآن المتقدّم عليها، لأنا نقول المستحدث الأسامي والعبارات لا المعاني المرادة بها، وهي المقصودة ههنا وقيل: إن كون المذكور أنصافا لها باعتبار الأكثر وإلا فقد يشتمل على ثلثي بعض الأنواع كما في حروف الصفير، وهي الصاد والزاي والسين والحلقية وقد يشتمل على تمام النوع كحروف الغنة، وهي الميم والنون الساكنة والحرف المكرّر وهو الراء وأراد بالأنواع مشاهيرها المعتبرة لأنّ بعضهم زاد فيها إلى ما يبلغ أربعة وأربعين إلى غير ذلك. قوله: (وهي ما يضعف إلخ) وقع في بعض النسخ هو بدل هي فذكره باعتبار(1/161)
الخبر أو لتأويلها بالنوع، والمهموسة اسم مفعول من همست الكلام، وهو متعد من باب ضرب ومصدر. الهمس، وهو في اللغة مقابل للجهر وفسر بالإخفاء كما فسر الجهر بالإعلان، وقيل معناه الخفاء وفي الصحاح الهمس الصوت الخفيّ، والظاهر أنّ حقيقته إخفاء الصوت لا المطلق ثم توسع فيه فأطلق على الخفاء، وتجوّز فيه فأطلق على المهموس نفسه وصار حقيقة فيه، ويوصف به
الكلام والحروف، وتقول العرب ما سمعت له همسا ولا خرساً وهما الخفيّ من الصوت لأنه المسموع قال تعالى: {فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا} [طه: 108] وفي الاصطلاح ما ذكره المصنف بقوله ما يضعف إلخ وعليه النحاة وأهل الأداء تبعا لما في كتاب سيبويه حيث قال المهموس حرف ضعيف الاعتماد في موضعه حتى جرى معه النفس، ولم ينقطع جريه حتى أمكن أن يتلفظ به ويتنفس فلذا سميت بذلك لجريان النفس معها لضعفها، وضعف الاعتماد عليها في مخارجها قيل وجعل الضعفين علة للجريان أولى من ضمهما إليه وجعل المجموع علة للتسمية ومن ضم الأول خاصة وجعل الثاني بانفراده علة للجريان فتأمّلء قوله: (ستثحثك خصفه) هو تركيب لجمع الحروف المذكورة وضبطها ليسهل استحضارها كقولهم: فحثه شخص سكت ونحوه والسين هنا حرف تنفيس ويشحث بمعنى يلح في السؤال ومثله يكدي وبه فسر في حواشي الكشاف والمكدي السائل وليس لحنا أو مغيراً من محدي، وهو طالب الحداء كما توهمه الحريريّ في الدرة ولا معربا من كدال كردن كما توهمه بعض فضلاء العصر بل هو عربيّ صحيح استعمله من يوثق به، وذكر. الراغب في مفرفى اته، ومن قولهم يستحث أخذ شحاث للسائل الملح وسمي شحاثة برنة ثلاثة، وقال ابن برّي: كغيره أنه محرف من شحاذ فالعلم شحاذة أيضا، وفي القاموس الشحاث للشحاذ من لحن العوام، وأصل الشحذ السن فاسنعير لإلحاح السائل، وقد صحح لغة على أنه من الأبدال، فإنّ الذال تبدل ثاء فلا غلط فيه، وخصفه بفتحات علم ويكون بمعنى سلة التمر وورد في الحديث بمعنى الحصير، وهو المعروف في الاستعمال اليوم، ولو فسر بما ذكر هنا كان أظهر أي ستطلب منك ما ذكر، وما قيل من أنه لا يبعد أن يكون يشحث ماخوذا من شحثاً، وهي كلمة سريانية يفتح بها المغاليق بغير مفتاح أي ستفتح مغاليقك بلا مفتاح خصفه تعسف غير محتاج له، وقوله نصفها بالنصب مفعول لقوله ذكر وقوله الحاء بدل منه، أو عطف بيان تفسير له. قوله: (ومن البواقي المجهورة) معطوف على قوله من المهموسة إلخ والمجهورة اسم مفعول من جهر الشيء يجهر بفتحتين ظهر، وأجهرته بالألف أظهرته يتعدى بنفسه، وبالباء أيضاً فيقال: جهرته وجهرت به كما في المصباح، ولم يعرّف المصنف المجهورة لأنّ ذلك عرف من جعلها مقابلة للمهموسة، فهي ما يقوي الاعتماد على مخرجه ولذلك كان مجهورا لأنه لا يخرج إلا بصوت قويّ يمنع النفس من الجري معه، وهي ثمانية عشر حرفاً، رالمذكور منها نصفها تحقيقاً وهي تسعة أحرف معروفة، وبهذا علم حدها وعدها. قوله: (ومن الشديدة الثمانية) الذي ذكره النحاة، وأهل الأداء من القراء إنّ الحروف إمّا شديدة أو رخوة أو متوسطة بينهما، وسموها بينية نسبة إلى بين بمعنى التوسط وقالوا معنى الشدة على ما ذكره سيبويه امتناع الصوت أن يجري في الحروف، فلو رمت مد صوتك في القاف والجيم مثلاً نحو الحق والحج لامتنع عليك، والشديدة هي
ثمانية المذكورة والمتوسطة بين الشديدة والرخوة فيها خلاف بين النحاة والقراء، فأكثر النحاة على أنها ثمانية يجمعها لم يروعنا أو ولينا عمر، وأكثر القراء على أنها خمسة وهي حروف لن عمر أي كن لينا يا عمر وما عداهما رخوة والرخوة صفة مشبهة مصدرها الرخاوة، ومعناها اللين الذي هو ضدّ الشذة، وقالوا الرخوة حروف ضعف الاعتماد عليها في مواضعها، فجرى معها الصوت فكأنها تلين عند النطق بها، وفي البينية يجري بعض الصوت معها وينحصر بعضه فإن قلت هل بين المجهورة، والشديدة فرق أم لا قلت: قد فرقوا بينهما باعتبار عدم جري النفس في المجهورة وعدم جري الصوت في الشديدة، وكذا الف ق بين الهمس والرخاوة أنّ الجاري في الهمس النفس، وفي الرخاوة الصوت كما في شروح التسهيل والثافية، وقد يجري النفس ولا يجري الصوت كما في الكاف والتاء، وقد يجري الصوت، ولا يجري النفس كالغين والضاد المعجمتين(1/162)
وما وقع في بعض شروح الجزرية من أنّ الشدّة تمنع النفس من الجري غير صحيح، فظهر أنّ بين المجهور والشديد عموما من وجه إذ ليس كل شديد مجهوراً ولا كل مجهور شديداً وقيل: بينهما عموم مطلق فكلى شديد مجهور، فالشدة تؤكد الجهر ولا عكس، ومادّة الاجتماع على الأوّل حروف أجد قط بكت إلاً الكاف والتاء، ومادتا الإفتراق أحداهما الكاف والتاء، والأخرى جميع المجهورة إلا مادّة الاجتماع المذكورة فظهر لك مما قررناه أنّ ما محره المصنف رحمه الله هنا غير موافق لما عليه الجمهور. وقوله:) عشرة (بناء على أن الألف ليس حرفا برأسه، وأجدت من الإجادة والطبق معروف، والأقط بفتح الهمزة وكسر القاف ثم طاء مهملة طعام يتخذ من اللبن، والحمس بزنة حمر مهمل الحروف جمع أحمس، وهو المشدد في دينه ولذا قيل لقريش الحمس، ومنه الحماسة ويعدى بعلى أي هم أشداء على نصره. قوله: (ومن المطبقة التي هي الصاد إلخ) حروف الأطباق الأربعة المذكورة هي بعضى من المستعلية الآتية، وسميت بها لإطباق بعض اللسان عند خروجها على ما يحاذيه من الحنك الأعلى.
ولذا قال الجعبريّ: الإطباق تلاقي طائفتي اللسان والحنك الأعلى عند لفظها وكون المطبق طائفة من اللسان لا ينافي تسمية الحرف مطبقا مجازا بأن يكون الأصل مطبق عنده أي عند خروجه فاخحصر وقيل مطبق كما قيل للمشترك فيه مشترك، وجوّز بعض شراح الجزرية في بائه الكسر على التجوّز فيه كالتجوّز في المستعلي، والإطباق لغة بمعنى الإلصاق، ويقابله المنفتحة بصيغة اسم الفاعل لا غير من الانفتاج وهو الافتراق سميت بها لانفتاج ما بين اللسان، والحنك عند خروجها والنطق بها، وهو في الأصل مجاز لأن الحروف نفسها لا تنفتح، د ة نما ينفتح عندها اللسان عن الحنك. قوله: (ومن القلقلة وهي إلخ) فيه مضاف مقدر أي حروف
الشهاب / ج ا / م 97
القلقلة أو سماها بالمصدر توسعا، ومثله سهل ويقال لها حروف القلقلة، واللقلقة وكلاهما بمعنى الحركة، وإليه أشار المصنف بقوله تضطرب لأنه افتعال من الضرب معناه ما ذكر قال في المصباح: يقال رميته، فما اضطرب أي ما تحرّك، ومنه اضطراب الأمور بمعنى اختلافها لما يلزمها من ذلك، وإنما سميت بها لأنّ صوتها لا يكاد يتبين به سكونها ما لم يخرج إلى شبه المتحرّك لثدة أمرها، وإنما حصل لها ذلك لكونها شديدة مجهورة، فالجهر يمنع النفس أن يجري معها والشدة تمنع الصوت من جريه معها فاحتاح بيانها إلى تكلف، وحصل ما حصل من الضغط للمتكلم عند النطق بها ساكنة حتى تخرج إلى شبه تحريكها لقصد بيانها، ومنهم من عللها بأنها حين سكونها تتقلقل عند خروجها حتى يسمع لها صوت ونبرة، وفيه تجوز لأنه أراد بتقلقلها مثابهتها للمتقلقل لا تحرّكها حقيقة، وإلا لزم اجتماع السكون، والتحرّك في حالة واحدة، ومن علل بأنها إذا وقف عليها تقلقل اللسان بها عند خروجها فقد سها لأنّ الباء منها، وهي شفوية لا يتحرّك اللسان بها، وقد حرف تحقيق وطبج ماض من الطبج، وهو الضرب على شيء مجوف، وله معان أخر وفي قوله نصفها الأقل تسامح، والمراد أقل من نصفها لأنها لا نصف لها صحيح ولم يزد لقلتها وثقلها. وقوله: (ومن اللينتين إلخ) أنثه لأن أسماء الحروف مؤنثة سماعية وأراد الياء والواو ولم يذكر الألف لما مرّ، وهذا بناء على أنه ليس المراد باللينة الألف، وما يشملها وخصت الياء لأنها أخف وأكثر من أختها، وحروف اللين هذان والألف واللين أعم من المدّ لأنه لا يطلق عليها في المشهور إلا إذا سكنت، وجانسها ما قبلها من الحركة، وسميت بذلك لأنها تخرج بلين، وعدم كلفة على اللسان. قوله: (ومن المستعلية الخ) سميت هذه الحروف مستعلية لاستعلاء اللسان عند النطق بها إلى الحنك الأعلى لأن حقيقة الاستعلاء لغة طلب العلو، وهو الارتفاع وقد يطلق على الارتفاع نفسه، فلذا سمي مقابلها منخفضاً ومستفلاً بالفاء والحنك بحاء مهملة مفتوحة ونون وكاف إن كان حقيقته سقف أعلى الفم، كما في الأساس أو باطن أعلى الفم من داخل فالأعلى صفة كاشفة مؤكدة، وان أطلق على اللحيين فهي مقيدة وتوصيف الحروف بأنها مستعلية قالوا: إنه مجاز في النسبة أو في الطرف لأنّ المستعلي حقيقة اللسان، والظاهر أنّ وقوعه صفة للصوت كما في عبارة المصنف حقيقة، وان كان بتبعية اللسان وقد يقال: إنه مجاز، وفي بعض الحواشي أنّ ما ذكره المصنف رحمه الله أحسن من تعريفها بما يرتفع به اللسان(1/163)
إلى الحنك لما فيه من الاشتباه بالمنطبقة، وليس بشيء لأنهم صرحوا بأنّ الاستعلاء المذكور قد يكون مع انطباق اللسان على الحنك الأعلى، وقد لا يكون فعلى الأوّل يسمى الحرف مستعليا ومطبقاً، وعلى الثاني يسمى مستعليا فقط، فكل مطبق مستعل وليس كل مستعل مطبقا لأنّ الإطباق يستلزم الاستعلاء والاستعلاء لا يستلزم الإطباق، فهذا أعم ولا ضير في صدقه عليه، واسمهما صريح في ذلك، فإن قلت الخاء المعجمة من المستعلية، وهي من الحروف الحلقية، فكيف يقال إنّ اللسان يستعلي بها قلت: هذا مما استشكله بعض القراء.
فأجيب بأنه يستعلي عند ذلك تبعا وان لم يكن مخرجا لها كما يشهد به الحس وقد
يقال: إنّ المصنف لأجل ذلك عدل عن قولهم يستعلي اللسان إلى قوله يتصعد الصوت كما في بعض شروح التسهيل: إنّ الريح يخرج مستعليا، ولذا منع من الإمالة فتدبر. وقوله: (نصفها الأقل ومن البواقي المنخفضة اليتعادلا، وما وقع هنا في بعض النسخ نصفها الأكثر سبق قلم. قوله: (ومن حروف البدل إلخ) باب الإبدال واسع وقد أطالوا فيه في المفصلات، حخى إنّ ابن السكيت أفرد. بتأليف وقد اختلفوا في عدد حروفه، وزادوا فيها لنحو خمسة وعشرين، والذي ارتضاه النحاة أن حروفه الشائعة في غير الإدغام لأنّ بدل الإدغام يجري في الحروف كلها غير الألف اثنان وعشرون اللام والجيم والدال، والصاد والراء والفاء والشين والكاف، والسين والهمزة والألف والميم والنون والطاء والياء والتاء، والواو والباء والعين والزاي والثاء والهاء، وما بقي منها لا يبدل، وقسموا الابدال إلى ضروريّ لازم وجائز وقالوا: خرج بقيد الشائعة إبدال الذال من الدالى في قرأءة الأعمش " فشرذبهم " وذكر في المفصل أنها ثلاثة عشر، والخلاف فيه كاللفظيّ لأنّ منيم من اقتصر على الاً شهر، ومنهم من استقصاه لكل وجهة، والمراد الحروف التي تبدل من غيرها كالتي يبدل منها غيرها، وأشار بقوله على ما ذكره سيبويه إلى أنّ فيها اختلافا، وأنّ ما ذكر هو الشائع المقيس، وما زاد منه قليل ومنه نادر شاذ ومنه ما وقع ضرورة لقافية ونحوها، والفرق بين البدل والقلب يعلم من كلامهم فيه، وابن جني الإمام أبو الفتح المشهور، وليس منسوبا إلى الجن، وإنما هو معرب كني كما في شرح المغني. وقوله: (الستة) معطوف على مفعول ذكر في أوّل الكلام. وقوله: (أجد إلخ) مثال لما يجمع حروفها واجد أمر من الإجادة، وطويت فعل من الطيّ مسند للضمير ومنها منها، وما ذكر لأجل جمع الحروف تقرؤه كيفما شئت، ولا حاجة لتفسيره حتى يتكلف كما قيل إن اهطمين من الهطم، وهو الكسر. قوله: (وقد زاد بعضهم) ظاهر سياقه أنّ هذه الزيادة على ما ذكر سيبوبه في الكتاب، وليس كذلك فإنّ سيبويه قال في باب الإبدال: وقد أبدلوا اللام وذلك قليل جدا قالوا: أصيلال، وإنما هو أصيلان اهـ وأصيلال اللام فيه مبدلة من النون، فإنّ الأصيل وهو الوقت الذي بين العصر والمغرب جمعه أصل وآصال وأصائل، وقد يجمع على أصلان مثل بعير وبعران، ثم صغروا الجمع فقالوا: أصيلان ثم أبدلوا من النون لاما فقالوا أصيلال، وفي تذكرة أبي عليّ الفارسيّ إن قيل: في أصيلال كيف زعمتم أنّ اللام بدل من النون في أصيلان، وهلا قلتم إنّ اللام مكرّرة والنون بدل منها قيل: إنه لا يجوز لأنّ اللام لو كانت أصلاً لم تثبت في التحقير الألف قبل اللام، ولا تقلب ياء ألا ترى أنه لا يجوز في شملال
شمليل، فلو كان الأصل اللام كان مثل شمليل في التحقير، ولا يكون أصيلال جمعا لأنّ هذا الضرب من الجمع لا يحقر ولكنه اسم اختص به التحقير كسائر الأسماء التي لم تستعمل في التحقير، وفي شرح المعلقات لابن النحاس في قول النابغة:
وقفت فيها أصيلانا أسائلها
أصيلان تصغير أصلان جمع أصيل وقيل: هو مفرد بمنزلة غفران، وهذا أصلح لأن الجمع لا يصغر إلا أن يردّ إلى أقل العدد اهـ. قوله: (والصاد والزاي في صراط إلخ) يعني أنّ سينه أبدلت صاداً وزايا معجمة خالصة أو بالإشمام كما مرّ، وقوله والفاء في أجداف بالجيم ودال مهملة وألف وفاء جمع جدف، وأصله جدث بالثاء المثلثة ومعناه القبر فأبدلت ثاؤه فاء، وقوله والثاء في ثروغ الدلو تعني أنّ ثاءه بدل من الفاء وأصله فروغ، وهو جمع فرخ والفرغ مخرج الماء من الدلو من بين العراقي، وقد دل كلامه على أنّ بين الثاء والفاء تقارضا. قوله: (والعين في أعن) أي العين تبدل من الهمزة، وفي شرح(1/164)
التسهيل عن الخليل أنّ لغة تميم وقبائل من قيس إبدال العين من الهمزة والهمزة من العين فيتقارضان وهذه اللغة تسمى العنعنة، وهي مشهورة فيقولون في أنّ المشددة المفتوحة والمكسورة عن، وفي أن المصدرية عن، وفي إن الشرطية عن قال ذو الرمة:
أعن توسمت من خرقاءمنزلة ماءالصبابة من عينيك مسجوم
فقول المصنف رحمه الله أعن يجوز فيه فتح العين وكسرها ونونه ساكنة مخففة، والهمزة مفتوحة ووقع في نسخة بفتح الهمزة، وكسر العين وتشديد النون وأصله أانّ. قوله: (والباء في با اسملث) أي تبدل الميم بالموحدة لتقاربهما مخرجا وما استفهامية والاسم معروف، وسمع إبدال ميمه باء أيضا با اسبك بباءين وهذه لغة بني مازن فيبدلونها كذلك قال المازنيّ: دخلت على الخليفة الواثق بالله فقال لي: ممن الداخل فقلت: من مازن فقال لي: با اسبك يريد ما اسمك بلغة قومي في قصة مشهورة، فصارت ثمانية عشر، وقد ذكر منها نصفها وهو تسعة. قوله: (ومما يدغم في مثله إلخ) الإدغام في عبارة الكوفيين أفعال بسكون الدال، وفي عبارة سيبويه ادّغام بتشديدها افتعال، وهو لا يكون إلا في المثلين أو المتقاربين مع أنه يرجع في المتقاربين إلى المثلين، لأنّ المقارب يقلب من جنس الحرف الآخر، وأوّل المثلين يدغم وجوبا إن سكن وفيه تفصيل في المفصلات فيه موافقة للمصنف من وجه ومخالفة من وجه. وقوله: (والهاء إلخ (أورد عليه أنّ النحاة قالوا كما في شرح التسهيل والمفصل: إنّ الهاء تدغم في الحاء نحو أحبه حاتماً وعغسه نحو أمدح هذا إلا أن سيبويه نص على أنه لا تدغم الحاء في
الهاء. وقوله: (لما في الإدغام من الخفة والفصاحة) إشارة إلى وجه اختيار النصف اكثز في هذا والأقل فيما قبله وان أردت بسط هذا وما له وعليه فراجع شروح الكتاب. وقوله: (نصفها) متصوب كما مرّ. وقوله-: (ومن الأربعة إلخ) في النسخ بعد الألف الزاي ياء، فهي معجمة لا غير والسين مهملة فظهر أنّ المذكور نصفها وسقط ما قيل عليه من أنه غير صحيح إن كان الزاء والشين في عبارته معجمتين وكذا إن كانتا مهملتين. قوله: (ولما كانت الحروف الذلقية إلخ) هذه الحروف يقالط لها: ذلقية وذولقية ومذلقة وما عداها مصمتة وفي التمهيد المصمتة غير هذه وغير الألف، فهي اثنان وعشرون حرفاً وفي شرح التسهيل لابن عقيل بعدما نقل هذا إنه يقتضي دخول الهمزة، والواو والياء فيها، وهي طريقة وأسقط الخليل هذه من المصمتة، وسميت مذلقة لخروجها من طرف أسلة اللسان، وهي ذلقة بالسكون كما في التهذيب والتحقيق ما في شرح الشاطبية للجعبري من أنها سميت به لخروجها من ذلق اللسان والشفة والمراد كما حققه بعض فضلاء العصر أنّ بعضها يخرج من ذلق اللسان، وهو طرفه وبعضها من الشفلة التي هي ذلق المخارج، فالذلق مطلق الطرف ثم خص هنا بمطلق طرف المخارج بقرينة المقام، فلا يختص باللسان كما يوهمه قول أهل العربية، كصاحب المفصل حروف الذلاقة ما في قولك مر بنفل والذلاقة الاعتماد بها على ذلق اللسان وذولقه وهو طرفه، ويقابله الإصمات لأنه لم يكد توجد كلمة رباعية أو خماسية معراة من حروف الذلاقة، فكأنها هي المنطوق بها ومقابلها لأنه كالمسكوت عنه مصمت وقال ابن الحاجب في إ يضاحه: هذا غير مستقيم من جهتها في نفسها، ومن جهة أمر مضادها من المصمتة أما من جهتها فلأنها لا يعتمد على طرف اللسان إلا بعضها فالميم والباء والفاء لا مدخل لها في طرف اللسان، فكيف يصح تسميتها بذلك مع خروج بعضها عن ذلك المعنى ومن جهة القسم الآخر المضاد لها فلأنه إنما سمي مصمتا لأنه كالمسكوت عنه، فلا ينبغي أن يقابل المنطوق بطرف اللسان، وإنما الأولى أن يقال: سميت حروف ذلاقة أي سهولة من قولهم لسان ذلق من الذلق الذي هو مجرى الحبل في البكرة لسهولة جريه فيه، فلما كانت كذلك ألزموا أن لا يخلو رباعي أو خماسي منها وكان هذا هو الحكم المعتبر في تسميتها إلا أنهم استغنوا بسببه، وهو الذلاقة فأضافوها إليه، والمصمتة على هذا المعنى تكون ضدها، وهي الحروف التي لا يتركب منها على انفرادها رباعي أو خماسي لكونها ليست مثلها في الخفة، فكأنها صمت عنها لقلتها ولم يقصد في تفسيره إلا إلى ذلك، وإنما وقع الوهم من أخذ الذلاقة من الطرف، وجعها من طرف اللسان(1/165)
لما ذكرناه اه.
(أقول (ما في المفصل هو بعينه كلام ابن جني في سر الصناعة، وبعيد من مثل هؤلاء الفحول الغفلة كما أورده ابن الحاجب والذي دعاه لما ذكر ما فهمه من اختصاص الذلاقة بطرف اللسان، وقد عرفت أنه لا يختص به، فلا يرد عليه ما ذكر، ولو سلم بناء على أن أئمة اللغة كالأزهريّ والجوهريّ ذكروا ما يقتضيه، فيجاب عما ذكره على فرض تسليمه بأنه غلب فيه طرف اللسان على طرف الشفة مع أنّ في قولهم الاعتماد على طرف اللسان إشارة إلى أنّ المراد أنه آلة للنطق عليها الاعتماد فيه، وهو لا ينافي مشاركة غيره فيه، وقد قال: إنّ الحروف تنسب تارة إلى مخارجها وأخرى إلى ما يجاورها، والأوّل كحرف حلقيّ والثاني كهوائيّ، وقريب منه ما قيل: إنه أراد بالاعتماد على ذلق اللسان الاعتماد عليه حقيقة أو حكما، فإنّ الشفويّ، والمعتمد عليه متقاربان ولتقاربهما سميا ذولقية، ومر أمر منه، والنفل من الغنيمة معروف ومن يعطاه منفل وكثر الحلقية والذولقية معروفة بالاستقراء وصريح أئمة اللغة، ولذا قالوا إنه لا يخلو من الذولقية كلمة رباعية أو خماسية إلا أن تكون معرّبة أو دخيلة او شاذة أو فيها ما يقرب منها فيسد مسدها كالعسجد بمعنى الذهب والدهدقة بدالين منهملتين مفتوحتين وهاء وقاف بمعنى الكسر كما قاله الجاربردي، والزهزقة بزاءين معجمتين بمعنى شدة الضحك، والعسطوس بفتح العين والسين المهملتين اسم لشجر، ولكثرتها ذكر ثلثاها ومن مقابلها أقل من نصفها (بقي هنا بحث) وهو أنّ ما قرّرناه متفق عليه في كتب العربية والقراءات إلا أنه يخالفه ما في الكشاف في سورة التكوير من قوله: إنّ الظاء المعجمة من طرف اللسان وأصول الثنايا العليا وهي أحد الأحرف الذولقية أخت الذال والثاء اهـ فجعله الظاء ثمة بل وأختيها ذولقية ينافي ما تقرّر هنا، وقول أهل العربية والأداء أن مخرج هذه الثلاثة من طرف اللسان وأصول الثنايا العليا ويقال: لها الثوية نسبة للثة وهي اللحم النابت حول الأسنان لمجاورتها إياها لا أنها مخرج كما قيل يقتفخيه أيضا، فإذا كانت من طرف اللسان كما يشهد به الحس، فكيف لا تكون ذولقية كما قاله العلامة في سورة التكوير، وما وجه تركهم لذكرها، وقول المدقق في الكشف كون الظاء ذولقية مخالف لما في المفصل وغيره، وأمّا الاشتقاق من ذلق اللسان وذولقه أي حده فلا يخالف ما في الكشاف أيضا إلخ يشير لما ذكرناه أيضا فتدبر. قوله: (ذكر ثلثيها إلخ) هو جواب لما، وهو من كل منهما أربعة كما لا يخفى. وقوله: (ولما كانت أبنية المزيد إلخ (قال في التسهيل: بعدما قسم الكلم المتمكنة إلى مجرّد، ومزيد فيه ولا يتجاوز المجرد خمسة أحرف إن كان اسما، ولا أربعة إن كان فعلاً ولا ينقصان عن ثلاثة والمزيد فيه إن كان اسما لم يتجاوز سبعة إلا بهاء التأنيث، أو زيادتي التثنية، أو التصحيح أو النسب، وان كان فعلاَ لم يتجاوز ستة إلا بحرف التنفيس، أو تاء التأنيث، أو نون التوكيد اهـ وفي شرحه لأبي حيان أنه باعتبار المشهور الأكثر إذ قد ورد من الاسم المزيد ما هو ثماني نحو كذبذبان بتشديد الذال الأولى، ووزنه فعلعلان مع ألفاظ أخر ذكرها فقوله: لا تتجاوز عن السباعية هنا باعتبار الأغلب
أيضاً وتعديته للتجاوز بعن، وليس بمعنى المغفرة قد علمته قريباً وإن منهم من قال إنه لم يرد عن العرب فتذكره. قوله: (اليوم تنساه) وبعضهم جمعها في قوله سألتمونيها وبعضهم في قوله أمان وتسهيل، وهو ألطف وما أحسن قول القيراطي في قصيدته النبوية التي عارض بها بانت سعاد: وفارغ ما له شغل سوى عذلي والناس بالناس في الدنيا مشاغيل
فأين تصريف ألفاظ زوائدها فيها أمان لذي خوف وتسهيل
وقوله على ذلك الإشارة إلى عدم تجاوزها ما ذكر المفهوم مما قبله، فإن قيل كون المذكور سبعة مبيّ على عد الهمزة والاً لف واحدا وكونها عثرة مبنيّ على خلافه، فلا يناسبه قيل: إنها في نفس الأمر عثرة فلذا بني أوّل كلامه عليه، ولما لم يذكر الألف والهمزة معا في أسماء السور ناسب عدّهما واحداً لأنه أمر اعتباريّ بني عليه آخر الكلام إشارة إلى الوجهين كما قيل. قوله: (ولو استقريت) الاستقراء استفعال من القراءة يقال استقرأت بالهمزة، وقد تبدل ياء فيقال استقريت كما وقع في النسخ هنا، ومعناه تتبع(1/166)
الأشباه لمعرفة أحوالها، والكلم واحده كلمة، وهي معروفة ولما ذكر المصنف رحمه الله أنّ المذكور من أنواعها أنصافها تقريبا أشار هنا إلى أنه، وإن كان بحسب الظاهر كذلك، وهذا أدخل في الإيقاظ إلا أنه لو دتق النظر عرف أن ما ذكر في الحقيقة أكثرها، وجلها فهو منزل منزلة الكل حتى كأنه عدد لهم جميع حروف المباني مشتملة على هذه اللطائف لما ذكر من الإعجاز. وقوله: (مكثورة) أي زائدة عليها، وغالبة لها في الكثرة يقال كاثرته فكثرته إذا غلبته في الكثرة فهو مكثور أي مغلوب، فلا يتوهم أنّ كثر بضم الثاء المخففة كقل لازم، فكيف بني منه اسم مفعول بغير واسطة، ثم إنه لما بين التشارك في المادّة أشار بقوله ثم إلخ إلى أنها تشاركها في الصورة أيضاً ليكون الإلزام أتمّ وأقوى، وتوله إيذانا أي إعلاماً تعليل لذكرها كذلك أو هو تفنن على عادتهم. وقوله: (إلى الخمسة) هذا باعتبار الأصل في المفرد المجرّد كما مرّ. قوله: (وذكر ثلاث مفردات) هي ص ق ن. وقوله: (في الأقسام الثلاثة) ففي الاسم ككاف الضمير وتائه، وفي الفعل نحوق فعل أمر من الوقاية، وهكذا كل أمر من ثلاثيّ معتل الطرفين كوعى وع، وفي الحرف كثير كواو العطف، وقد قيل عليه إنه لا يتصوّر ذكر ثلاث مفردة فيما دون سور، فالبنية موقوف عليها لا تقال بدونها فتدبر، والأربع الثنائية هي طه طس يس حم. وقوله: (لأنها إلخ) تعليل لكونها أربعة، وفيه تسامح لأنه مع عدم ظهوره يرد أنها تكون في الحرف بدون حذف نحو من، وبه
نحو ان المخففة فن الثقيلة بالفتح والكسر كما هو معروف، فالتربيع لهم يتمكبئ له والحواميم ست بإسقاط الشورى، فلو أسقط ما زاده على الكشاف كان أولى وأولى. وقوله: (على ثلاثة أوجه) هي فتح الأوّل وكسره وضممه، والحاصل من ضربها في مثلها تسعة، وفي تسع متعلق بذكر المقدر أو المتقدم، وهو الظاهر. وقوله: (على لغة من جرّبها) احتراز عن غيره فإنها حينئذ تكرن اسما كما فصله النحاة، والثلاثيات الم الر طسم. قوله: (تنبيهاً على أنّ أجمول الأبنية إلخ) هي جمع بناء، وله كما في شرح الهادي ثلاثة " معان الهيئة والصيغة، كقولنا بناء فعل للسجايا وتحويل صيغة إلى أخرى كقول الصرفي ابن لي مثال جعفر، وثبوت أواخر الكلم على حالة واحدة ووجه الضبط أنّ الأوّل لا يكون إلا متحرّكا بثلاث حركات والآخر- غير معتبر، والوسط متحرّك بثلاث حركات أو ساكن، والحاصل من ضرب ثلاثة في أربعة اثنا عشر سقط منها اثنان فعل بضم الفاء، وكسر العين وعكسه؟ لثقلهما وأوّل أصل الأفعال، وهو الماضي مفتوح لا غير، وعينه لا تكون ساكنة فأبنيته ثلاثة ولم يعتبر المجهول لأنه فرع المعلوم فخرج بقوله أصول، ولهذا أقحمه ولم يقل إنّ الأبنية، وقد أورد عليه دئل ونحوه وأجيب عنه في محله والرباعيتان المر في سورتين والخماسيتان كهيعص وحمعسق. قوله: (أصلاَ إلخ) المراد بالأصل ما وضعت عليه الكلمة ابتداء، *والملحق الكلمة التي فيها زيادة لم يقصد بها إلا جعل ثلاثي أو رباعي موازنا، لما فوقه محكوماً له بحكم مقابله غالبا ومساوياً له مطلقاً في تجرّده من غير ما يحصل به الإلحاق وفي تضمن زيادته إن كان مزيداً فيه، وفي حكمه ووزن مصدره الشائع إن كان فعلاً نحو علقي الملحق بجعفر، وهو لا يكون إلا في الأسماء والأفعال، فلزم كون هذه القسمة رباعية، والإلحاق له باب مستقل فصك فيه أحكامه، وما قيل من أنّ الكلمة المركبة من أربعة أحرف أو خمسة لا توجد في الحرف بل في الاسم، وليس في الأصول ما هو مركب من خمسة أحرف سهو لوجود لكن المشدّدة ونحوها مما لا حاجة إلى تعداده، وجعفر اسم للنهر وعلم شخص وسفرجل معروف، وتردد بزنة جعفر ملحق به ولذا لم يدغم كمهدد، وهو الجبل أو ما ارتفع من الأرض ويجمع على قرادد وقراديد، وقولهم اركب من الأمر قراديده أي ما شق منه استعارة، وجحنفل بزنة سفرجل ملحق به لأنه من الجحفلة ومعناه ما هو بمنزلة الشفة من الخيل والبغال والحمير، فلذا قيل: جحنفل للغليظ الشفة. قوله: (ولعلها فرّقت إلخ) جواب عن سؤال مقدر تقدير. " إتها إذا ذكرت ألفاظ لإعجاز ما تركب منها أو مبلغها، فلم لم تذكر جملتها أو ما اختير منها دفعة في أوّل التنزيل، فأجاب بأنها فرقت لتدل
على ما ذكره بقوله، ثم إنه ذكرها مفردة إلخ ولو جمعت لم يتنبه لهذا وهو الفائدة المشار إليها بقوله لهذه الفائدة. وقوله: (مع ما فيه إلخ) إمارة إلى جواب ثان، وهو أن فيما ذكر(1/167)
قوّة ليست في جمعها في محل واحد، وهكذا كل تكريير جاء في القرآن كالواقع في سورة الرحمن. وقوله: (وتكرير الثنبيه) عطف على قوله إمحادة التحدي للتفسير وبيان المراد منه، فإنّ في كل منها إشارة إلى إعجازه المقتضي لطلب التحدي. قوله:) والمعنى أنّ هذا المتحدي به إلخ (كذا هنا كناية عن كونه متحدى به قيل إنه يعني أنّ تقدير الكلام هكذا على أنه جملة اسمية بتقدير مبتدأ لهذه الحروف المكنى بها عن المؤلف المركب منها أو تقدير خبر لها بتأويلها بالمركص من هذه الخروف، والخبر متحدى به، ولا يخفى أنّ " نظم التعداد مستغن عن هذا التأويل مميد لما قصد به من غير تأويل وتقدير، وهو المفهوم من الكشاف فإنها إنما يكون لها حظ من الإعراب عنده إذا كانت أسماء للسور، وقيل إنّ المصنف لم يقصد ما ذكر، وإنما هو بيان لما في المعنى ومحصله من غير نظر لإعرابه وعدمه فلا مخالفة بين كلام الشيخين فيه إلا أد تصريحه بوجهي الكدير ينبو عنه، وإن قيل إنّ مقصوده أنّ المقصود من سياق التعداد مجمل يمكن أن يعبر عنه بكل من الوجهين، وقيل إنه كما يجوز أن لا يكون لها محل من الإعراب كسائر الأسماء المسرودة على نمط التعديد كدإر غلام جارية يجوز أيضاً أن يكون لها محل بتأويلها بالمؤلف منها على ما مر من الوجهين وكلام المصنف محتمل لهما، وإن كان المتبادر منه الأوّل، وفيه إنه سيصرّج بخلاف هذا كله. قوله: (وقيل هي أسماء للسور إلخ (هو عطف على ما تضمنه قوله ثم إنّ مسمياتها إلخ. فكأنه قال: هذه الفواتح أسماء حروف ذكرت لما مر وقيل هي إلخ. وقوله: (وعليه أطباق الأكثر (أي من المفسرين اتفقوا عليه يقال: أطبق الناس على كذا إذا اجتمعوا واتفقوا عليه وأصل معنى أطبق وضع الطبق، ثم الستعمل لما دكر بملاحظة ما فيه من معنى الإحاطة والشمول كما يستعمل للدوام في إطباق الحمى والجنرن، وأتى بصيغة التمريض لأن الأوّل أرجح عنده، ولذا قدمه وقد قيل إنه عنى أنه في غابه الضعف، وإنما ذكره هنا لانتسابه للأكثر وقيل إنه تبع في هذه النسبة الإمام إلا أنّ عبارته هكدأ هو قول أكثر المتكلمين، واختاره الخليل وسيبويه ونعما هي فإق الأكثر لم يذهبوا إليه، ولد أورد عليه ما سيأتي وأقوى ما عليه وان لم يذكروه أنّ أسماء السور توقيفية، ولم ينقل تسميحها بها عن أحد من الصحابة- والتابعين لا مرفوعا ولا موقوفا، فوجب إلغاء القول به وهذا كله. كا ضيق العطن لأنه توهم أنّ مراد الإمام بالمتكلمين أهل الكلام ولا وجه له إذ ليس لأهل الكلام هنا مقال أصلاً وانجما أراد بالمتكلمين المفسرين الذين تكلموا على الآية وبحثوا فيها وما مهـ*اأوّلاً غني غن الردّ، ثم إنه كيف يقول: إنهم لم يذكروه، وقد قال الإمام معترضا هنا: لو كانت
أسماء للسور وجب اشتهارها بها وليس كذلك لاشتهارها بخلافها كسورة البقرة وآل عمران وغير ذلك، ثم إنه كيف يتأتى له ما قاله على سعة حفظه، وقد ورد عن النبيّ عليه الصلاة والسلام: " يس قلب القرآن ومن قرأ حم حفظ إلى أن يصبح) (1) وقال ابن مسعود حم ديباج القرآن، وفي السنن روي حديثا فيه أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم سجد في ص فكيف يدعي عدم الورود وإذا ثبت في البعض ثبت في الجميع إذ لا فارق بينها فقوله إنه لم يشتهر غير صحيح مع أن شهرة أحد علمين لا يضر علمية الآخر فكم من مسمى لا يعرف اسمه لاشتهاره بكنيته أو لقبه كأبي هريرة رضي الله عنه وعدم اشتهار بعضها لكونه مشتركا بينها وبين غيرها، فترك استعماله لعدم تمييزه واحتياجه لضميمة كالم هنا. قوله: (إشعارا بأنها كلمات إلخ) هذا بيان لوجه التسمية وهو الدلالة على أنها كلمات عربية من جنس كلامهم مادّة وصورة كما مرّ وقد قال قدس سرّه الأولى في الاعلام المنقولة أن يراعى مناسبة معانيها الأصلية عند التسمية، وربما تراعى عند الإطلاق باقتضاء المقام ولما كانت هذه السور مركبة من حروف مخصوصة لها أسماء في لغتهم وجعلت تلك الأسماء أعلاما لها كان ذلك لتركبها من تلك الحروف على قاعدة لغتهم فإذا أطلقت عليها لوحظ هذا المعنى لاقتضا التحدي له وحيث كان القرآن نوعاً واحدا، فالإشعار في بعضه إشعار بأنّ المجموع كذلك.
(قلت) وللإشعار بذلك اتضح جعلها لقبا كما سيأتي لدلالتها على أقصى ما يمدح به الكلام، وهو الإعجاز فلا وجه للتوقف فيه، والمقدرة مثلثة الدال مصدر ميمي بمعنى القدرة، ودون معارضتها بمعنى قبل أو عند معارضتها، وتتساقط بمعنى تساقط مبالغة وبما(1/168)
ذكر فهم أنّ في هذا الوجه إيقاظا للأعجاز أيضاً، كما في الأول إلا أنه كما قيل مقصود إفادته بالذات فيه، وهنا بالعرض لأنّ الإشعار به جاء من لمح الأصل المنقول عنه لترجيح التسمية به دون غيره، وقد قالوا إنّ العرب سصت بها أيضاً غير الحروف المقطعة كلام اسم رجل من طيىء وعين للماء، وغين للسحاب وقاف للجبل وقد نقله بعض اللغويين في جميع أسمائها وأفرده بالتدوين ابن خالويه، والضمير في قوله بأنها للسور. قوله: (بأنها لو لم تكن مفهمة إلخ) فهم كتعب متعد لواحد ويتعدى بالهمزة، والتضعيف لمفعولين فيقال أفهمته المسئلة، ويكون أفهم متعذيا لوأحد أيضا ولا يقال: انفهم، فإنه لحن فمفهمة في كلامه إما بكسر الهاء اسم فاعل من المتعدّي لواحد بمعنى دالة على شيء أو بفتحها اسم مفعول من الافهام أي معلومة المراد منها بحسب العلم بالوضعفكأنّ الواضع أفهمنا المعنى المراد بها.
وفيه تنبيه على أنه لا دخل للرأي في معرفتها بل يجب استفادتها من الغير كما قيل، والمراد بكونها مفهمة أن يراد بها ما يكون طرف نسبة مقصودة في الخطاب، فلا يرد أنها
موضوعة لحروف الهجاء والإفهام لازم للعلم بالوضع، وحاصله أنها إما مفهمة أولاً وعلى الثاني تكون كالرطانة وعلى الأوّل إما أن تفهم منها السور لأنها أعلام لها أولاً والثاني باطل لأنها إما أن تفيد ما وضعت له في لغتهم وهو الحروف ولا معنى له أو غيره ولا يصح لأنهم لا يخاطبون بغير لغتهم فتعين أنها أعلام ولا يخفى ضعفه ووجهه أنه يصح أن يراد بها الحروف، ومعناه أنّ المتحدى به من جنسها كما مرّ ثم إنّ قوله لم تكن مفهمة إن أراد إفهام جميع الناس، فلا نسلم أنه موجود في العلمية، وإن أراد إفهام المخاطب بها وهو هنا الرسول فيجوز أن يكون سرا بينه وبين ربه فلا ينافي كونه عربيا مبينا، ونحوه لأنه كذلك بالنسبة إليه وأما التحدي فليس بجميع أجزائه، وكون أوّل السور ينبغي أن يكون مما يتحدى به ليس بمسلّم. قوله: (كالخطاب بالمهمل) المهمل بزنة اسم مفعول الأبل ونحوها تترك بغير راع، ثم استعير لما لم يوضع أو جعل مجازاً مرسلاَ عن مطلق الترك وصار هذا حقيقة في الاصطلاح، ووجه الشبه هنا عدم الدلالة إلا أنّ ما يترتب عليه من عدم الصحة ليس بصحيح لأنه يجوز أن يكون من المتشابه الذي لا يوقف عليه، وان أمرنا بتلاوته فإنه ليس كل ما أمرنا به معقولاً لنا وقوله العربي أي المتكلم بالكلام العربي. وقوله: (بيانا) أي معربا عما في الضمير، وقوله وهدى لأنّ الهداية فرع الدلالة.
وقوله ولما أمكن التحدي به أي بما ذكر أو بالقرآن كله إذ ظهور النقص دليل على أنه من
عند غير الله فيردّ بلا معارضة. قوله: (التي هي مستهلها) المستهل بفتح الهاء وتشديد اللام على صيغة المفعول وأصله من طلوع الهلال، ولما كان الهلال إنما يسمى هلالاً في أوّل الشهر، ثم هو بعده قمر وبدر قيل لكل أوّل مستهل، ثم شاع حتى صار فيه حقيقة فيقال: مستهل القصيدة لأوّلها ومطلعها، وقد أولع بعضهم بكسر هائه على زنة اسم الفاعل، وهو خطأ كما قاله الدماميني في شرح التسهيل، وخطأ بعض الشعراء في قوله:
أنا من أدمعي ووجهك أرّكأت غرامي بمستهل وغرّه
فإنّ التورية إنما تتم له بما ذكر، فليس هذا استعارة من قولهم استهل الصبيّ إذا صاح عند الولادة، فشبهت السورة بالصبيّ الصائح كما قيل، ولا من استهل المطر إذا نزل. قوله: (على أنها ألقابها) قد قدمنا لك بيانه، فإنه يدل على الإعجاز وناهيك به من صفة مادحة، فإنّ اللقب ما أشعر بمدح كمحمد أو ذم كأبي جهل، فإن اشترط فيه أن يدل على ذلك بحسب معناه الوضعي، فتسميتها ألقابا على طريق الادعاء والتشبيه، وهي أعلام منقولة على هذا لا أعلام بالغلبة فلا يرد عليه ما قيل: من أنّ الإشعار هنا خفيّ، ولعل وجهه ما مرّ من أنها كلمات
معروفة التركيب، وأما اشتراط الإضافة، أو دخول أل فهو في الاعلام الغالبة لا المنقولة مع أنه، وان اشقر فيه خلاف إذ لم، يشترطه بعض أئمة العربية. كما في شرح التسهيل.
وقوله وظاهر أنه ليس كذلك يبطله ما مرّ في بيان الوجه الأوّل. وقوله: (لقولمه قعالى) تعليل لما قبله، ويحتمل أن يكون تعليلاَ لجميع ما سبق، والأوّل أظهر. قوله: (لا يقال إلخ) منع للاستدلال بأنها لو لم تكن أعلاما يلزم ما ذكر مستنداً إلى جواز الزيادة للدلالة على الاستئناف، ونقله عن قطرب لغرابتة إذ لم يعهد الاسخئناف بمثله بل بقولهم دع ذا ونحوه، كما ذكره الأدباء(1/169)
والبسملة مغنية عنه مع أنه لا يتأتى على القول بأنها آية من كل سورة وقطرب لقب لإمام في العربية، وهو صحمد بن المستنير تلميذ سيبويه، وهو الذي لقبه به لما كان يبكر إليه فيقول له ما أنت إلا قطرب ليل والقطرب اسم دويبة لا تزال تمشي ليلاً وتسكن نهارا، ولذا أطلقه الأطباء على نوع من الجنون. قوله: (اقتصرت عليها، ألخ) هكذا وقع في النسخ وقد قيل: إنه سهو لأنه مجهول وعليها قائم مقام فاعله أي وقع الاقتصار عليها اقتصار الشاعر في قوله إلخ ولا يصح أن يقال مرّت بهند بتأنيث المجهول لتأنيث المجرور وقد سبقه إلى هذا في المطوّل في قول الخطيب في بحث الفصاحة صوحبت معها، فذكر ما هنا بعينه، وليس كما قالوه فإنّ مثله جائز، ولم يشتهر استعماله وقد قرآه مجاهد في قراءة شاذة: في توله تعالى {إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مِّنكُمْ نُعَذِّبْ طَآئِفَةً} [التوبة: 66] كما سيأتي تفصيله ثمة قال ابن جني في المحتسب: عن مجاهد إن تعف عن طائفة بالتاء في تعف، والوجه يعف بالياء لتذكير الظرف ولقولك قصدت هند وقصد إليها لكنه حمل على. المعنى كإنه قال: تسامح وترحم وزاد في الأنس تأنيث تعذب بعده اهـ وهنا أيضاً يحمل على معنى أفردت، وفيه دليل على أنّ المحل للمجرور وأنه المسند إليه في الحقيقة وإذا اكتسب المضاف التأنيث من المضاف إليه، فلا يعد في اكتساب الظرف التأنيث من مجروره والمعترض غافل عن هذا كله، وهذا شروع في إيراده وجوه ضعيفة وردها والمراد بقوله للتنبيه تنبيه المخاطب للكلام الملقى إليه حتى يصغي له مثل ألا وأما في حروف الاستفتاج.
وقوله ملى انقطاع كلام متعفق بالدلالة، وقيل بالتنبيه وعطف الدلالة تفسيرفي، ولا يبعد تنازعهما له، وما نقله المصنف عن ضقطرب نقل عنه في البحر ما يخالفه، أو إشارة معطوفة على مزيدة. قوله: (قلت لها قفي فقالت قاف) هذا من أبيات الكتاب، وهو من رجز للوليد بن
المغيرة عامل عثمان بن عفان رضي الله عنه قاله يخاطب به عديّ بن حاتم، وقد نزل معه لما امتحصه عثمان رضي الله عنه، وقد اتهم بشرب الخمر في قصة مشهورة في التواريغ فقال: قلت لهاقفي فقالت قاف لاخباشدنسينا الإيجاف والنشوات من معتق صاف وعزف قينات علينا عزاف
إلخ وقيل إنّ الصواب ما أورده ابن جني رحمه الله في الخصائص وهو هكذا.
قلت لها قفي لنا قالت قاف
فإنّ ما في نسخ القاضي محزف، وغير موزون وليس كما قاله فإنّ عروض هذا لت قاف
وزنه فعلن، وهو أحد أعاريض الرجز، وهم يكثرون زحافه، ولا يبالون به حتى ذهب كثيرون إلى أنّ الرجز ليس بشعر، وليس هذا محل تفصيله، والإيجاف سرعة سير الخيل. قوله: (كما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما) قيل هذا إنما روي عن أبي العالية كما أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم وروايته عن أبي العالية لا تمنع روايته عن غيره، والآلاء بوزن أفعال ممدود مهموز الأوّل والآخر، ومعناه النعم وهو جمع واحده إلى، وفيه لغات فتح الهمزة وسكون اللام، وكسرها وسكون اللام وألو بالفتح والسكون أيضا والى بكسر الهمزة وفتح اللام والقصر كإلى الجازة وقد جوز هذا في قوله تعالى {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 123 كما سيأتي واللطف معروف. وقوله: (ملكه) بضم الميم ويحتمل الكسر قيل المعنى على هذا: أن القرآن يشتمل على آلاء الله ولطفه وملكه، وقيل إنه يحتمل أن يكون المعنى اذكر آلاء الله ولطفه وملكه لتعلم أنّ القرآن من أعظمها إذ لطف بإنزاله على مماليكه رحمة عليهم، وهذا بطريق الرمز والإيماء. قوله: (وعتة أنّ الر إلخ) في الوجه السابق كل حرف إشارة إلى كلمة، وفي هذا فرّقت حروف الكلمة ونظر إلى المرسوم منها دون الملفوظ فلذا أسقطت الألف، وقد قيل إن المعنى المراد منه أنه إذا جمعت هذه الحروف في الكتابة استنبط منها اسم الرحمن لا إنه إذا تلفظ بها تلفظ بالرحمن إذ لشى هنا همزة بعدها راء مشدّدة تليها حاء ساكنة بعدها ميم مفتوحة وألف ونون، ولبعده أخره المصنف رحمه الله وقد أخرجه مسنداً إلى ابن عباس رضمي الله عنهما ابن أبي حاتم كما قاله السيوطي رحمه الله. قوله:) وعنه أنّ الم معناه إلخ) أخرجه عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر، وابن أبي حاتم من طرق عنه، وهذا كالأوّل في أنه حروف مقطعة من الكلم إلا أنه روعي في الأوّل كون الحرف المأخوذ أوّلاً من كل كلمة، وهذا لم يلاحظ فيه ذلك وقوله ونحو ذلك إلخ كما قيل في الر أنا الله أرى، وفي الممأنا الله أفصل، وهو مروقي عن سعيد بن(1/170)
جبير واستحسنه الزجاج. وقوله: (وعنه إلخ) قيل إن هذا لم يعرف
عن ابن عباس، ولا عن غيره من السلف. وقوله: (أي القرآن إلخ) يعني أنه رمز باقتطاع هذه الحروف من هذه الكلمات إلى ما ذكر، ولا يخفى بعده. قوله: (أو إلى مدد أقوام وآجال) وفي نسخة إلى مدد آجال أقوام وهذا معطوف على قوله إلى كلمات المتعلق بالإشارة وأقوام جمع قوم اسم جمع، وله حكم المفرد في اطراد جمعه، وآجال بالمد جمع أجل وهو العمر أو نهايته والحساب بمعنى العد معروف والجمل بضم الجيم وفتح الميم المشددة يليها لام حساب حروف المعجم وهو كبير وصغير كما هو معروف عند أهله وجوّز بعض تخفيف ميمه، وقال أبو منصور الجواليقي: هو عربيّ صحيح، وما روي عن أبي العالية أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم. وقوله: (بما روي أنه عليه الصلاة والسلام) هذا الحديث أخرجه البخاريّ في تاريخه وابن جرير من طريق ابن إسحاق عن الكلبيّ عن أبي صالح عن ابن عباس عن جابر بن عبد الله بن وثاب وسنده ضعيف، وجابر المذكور صحابيّ آخر غير جابر المشهور كما في الاستيعاب. وفي الإصابة أنه أنصاريّ وروايته قليلة جدا وقصته هي أنه مرّ أبو ياسر بن أخطب برسول
الله صلى الله عليه وسلم، وهو يتلو سورة البقرة الم ذلك الكتاب ثم أتى أخوه حيي بن أخطب وكعب بن الأشرف فسألوه صلّى الله عليه وسلم عن ألم وقالوا: ننشدك الله الذي لا إله إلا هو الحق أنها أتتك من السصاء، فقال عليه الصلاة والسلام: " نعم كذلك أنزلت " فقال حييّ: إن كنت صادقا إني لأعلم أجل هذه الأمة من السنين ثم قال: كيف ندخل في دين رجل دلت هذه الحروف بحساب الجمل على منتهى أجل مدته إحدى وسبعون سنة، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقال حييّ: فهل غير هذا فقال: " نعم المص " فقال حييّ هذا أكثر من الأوّل هذا مائة واحدى وستون سنة فهل غير هذا قال: " نعم الر ". تال حييّ: هذا أكثر من الأول والثاني، فنحن نشهدك إن كنت صادقا ما ملك أمّتك إلا مائتان واحدى وثلاثون سنة، فهل غير هذا قال: " نعم المر " قال: فنحن نشهدك أنا من الذين لا يؤمنون، ولا ندري بأفي أقوالك نأخذ فقال أبو ياسر: أما أنا فأشهد أنّ أنبياءنا أخبرونا عن ملك هذه الأمة، ولم ئتئنوا أنها كم تكون، فإن كان محمد صادقاً فيما يقول: فإني لأراه يستجمع له ذلك كله فقام اليهود وقالوا: اشتبه علينا أمرك فلا ندري أبالقليل نأخذ أم بالكثير (1) اهـ وهذا تفصيل ما ذكره المصنف رحمه الله. وقوله: (فحسبوه) بزنة ضربوه ماض من الحساب. قوله: (دليل على ذلك إلخ) ذلك إشارة إلى
المدد والآجال المارّة وهذا جواب عن سؤال تقدير. كيف يكون قول اليهود حجة فأجيب بأنّ الدليل هو عدم إنكاره وتقريره لهم على ما ذكروه، وتبسمه صلى الله عليه وسلم ليس للإنكار بل إشارة إلى غلطهم في تعيينهم للمعدود المذكور، وهذا لا يقتضي إنكار أصله وفيه نظر. قوله: (وهذه الدلالة وإن لم تكن عربية إلخ) جواب عما يقال من أنّ هذه الدلالة إن سلم صحتها، فهي غير عربية لانتفاء الوضع العربي فيها والقرآن نزل بلسان عربيّ مبين، فأجاب بأنّ هذه الدلالة لاشتهارها ألحقت بالمعرّبات التي عدت بعد التعريب عربية، فكذا ما ألحق بها، وتلحق مسند للدلالة إسناداً مجازياً. وقوله: (كالمشكاة إلخ) تمثيل للمعرّب وهي الكوّة، وسجيل كسكيت معرّب سنك، وكل أي حجر وطين، والقسطاس بالضم والكسر الميزان وسيأتي بيانها، وظاهره أنها موضوعة في غير لغة العرب، وقد قيل إنه معروف في اللغات القديمة كالعبرانية وهو كثير في التوراة كما في رسالة فضائح اليهود للغزالي، وفي كتاب الملل والنحل أنّ طائفة من الفيثاغورسية ذهبوا إلى أنّ المبادىء هي التأليفات الهندسية على مناسبات عددية حتى سارت طائفة منهم إلى أنّ المباديء هي الحروف المجرّدة عن المادّة، وأوقعوا الألف في مقابلة الواحد والباء في مقابلة الاثنين، ولست أدري لم قدروها ولا على أفي لسان ولغة هي اهـ ولو قيل: إنها مجازية روعي فيها ترتيب أبجد في مراتب الآحاد وما بعدها فهي من دلالة الحالّ على محله ثم على صفته من الأوّلية ونحوها لم يبعد، ولم نر من وجه هذه الدلالة بما يشفي الصدور. قوله: (أو دالة (عطف على قوله مزيدة وهذا قول الأخفش رحمه الله وعبارته أقسم الله تعالى بالحروف المعجمة لشرفها وفضلها، لأنها مباني كتبه المنزلة على الألسنة المختلفة، ومباني أسمائه الحسنى وصفاته العليا، وأصول كلام الأمم بها يتعارفون وبذكرون الله ويوحدونه. قوله: (وما " خطابه(1/171)
هذا) قيل هذا بيان لخطابه والإشارة إلى القرآن، وقيل: إنه ابتداء كلام أي خذ هذا المذكور من أنه لا يقال لم لا يجوز إلخ وهذا في هذا التركيب، ونحوه مرفوع المحل خبر مبتدأ مقدر أي الأمر والشأن هذا أو مبتدأ خبره مقدر أي هذا كما ذكر أو مفعول لفعل تقديره خذ هذا ونحوه، وقيل ها اسم فعل بمعنى خذ وذا مفعوله ويبعده رسمه متصلاً في جميع النسخ والواو بعده واو الحال لا عاطفة لئلا يلزم عطف الخبر على الإنثاء في بعض الوجوه، وقيل: إنه عطف على قوله لم لا يجوز أي لا يقال هذا في تضعيف ذلك القول وهو كقوله تعالى: {هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ} [ص: 55] وهو فيه مبتدأ وقال في المثل السائر: لفظ هذا في هذا المقام من الفصل الذي هو أحسن من الوصل، وهي علاقة وكيدة بين الخروج من كلام إلى كلام آخر وذلك من فصل الخطاب الذي
هو أحسن موقعاً من التخلّص، وعندي أنه منصوب بدع مقدرة لأن عادة العرب في مثله أن يقولواح ذا كما قال:
فاع ذا وسل الهتم عنك بحسرة دمول إذا صام النهار وهجرا
وهذا شروع في إبطال مدعي العلمية بعدما بين ما في دليله أو هو معارضة للاستدلال المذكور بعد المناقضة والمنع للملازمة بين عدم كون الفواتح مفهمة، وكون الخطاب بها بالخطاب بالمهمل مسنداً لما ذكر من الوجوه المروية. قوله: (لأنّ التسمية بثلاثة أسماء فصاعدا إلخ) قال تدس سزه التسمية بأسماء معدودة لم توجد في كلامهم، وما ذكره سيبويه كما سنبينه مجرّد قياس، ولذا قال المصنف رحمه الله مستنكر، ولم يقل باطل ولا غير واقع ونحوه، والمستنكر ما ينكره الناس لكونه غير معروف بخصوصه، وإن كان معروفا بتلاوة ألفاظ نحو سرّ من رأى وشاب قرناها وغيره مما ذكر من الجمل، ولذا قال: أسماء، ولم يقل ألفاظا إلا أنّ الفرق بينهما محتاج للتأمّل الصادق وأمّا ما قيل من أنهم لم يسموا السور بهذه الأسماء ويبعد أن تهمل أسماء سماها الله تعالى في كتابه، فتخيل لا أصل له كما مرّ. قوله:) ويؤذي إلى اتحاد الاسم إلخ البعض أرباب الحواشي هنا تطويل بغير طائل كما قيل: إنّ الاسم هنا جزء من المسمى والجزء لا يغاير الكل وإلا لصار غير نفسه وقيل: الاسم جزء خارجيّ من الكل غير ممتاز عنه في الوجود مثلاً إذا قلت سورة البقرة {الم ذلك الكتاب} إلخ واسم هذه السورة ألم اتجه أن يقال: الاسم متحد مع المسمى بالمعنى المذكور لا بمعنى كونه نفسه، فإذا كان موضوعا للكل كان موضوعاً لنفسه، والمراد أنّ الم مثلاً لو كان علما للسورة كان مسماه المجموع الداخل فيه جميع الأجزاء، فكان اسما للجزء أيضا ويلزمه اتحاد الاسم، وسيأتي بيانه وما فيه. قوله: (ويستدعي تأخر الجزء عن الكل إلخ (أي يستدعي تأخر الجزء مع تقدمه عليه فيلزم توقف الشيء على نفسه لتوتفه على ما يتوقف عليه وهو دور، وفيه ما سيأتي بيانه وهذه الشبهة لا تختص بالإعلام بل تأتي في لفظ القرآن، ولفظ سورة الواقعين في النظم وقد أوردها خاتمة المحققين السيد عيسى الصفوي على بعض الألفاظ القرآنية كالضمائر في نحو قوله تعالى {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ} [يوسف: 2] ، فإنها إخبار عن إنزال القرآن وهذه الجملة من جملته والضمير للقرآن ومنه الضمير نفسه، فيعود حينئذ على نفسه حتى اضطز في دفعها إلى جواز كون الكلام خبراً عن نفسه نحو قول القائل: كل كلامي صادق إذا لم يتكلم بغير هذا اللفظ بناء على ما ذكروه في دفع المغالطة المعروفة بالجزء الأصم فتدبر. قوله: (يتأخر عن المسمى بالرتبة (المعروف أنّ التقدم على خمسة أوجه تقدم بالزمان وهو ظاهر، وتقدم بالطبع كتقدم الواحد على الاثنين، وتقدم بالشرف كتقدم أبي بكر على عمر رضي الله عنهما، وبالعلية للفاعل
المستقل بالتأثير كتقدم حركة اليد على حركة القلم، وتقدم بالرتبة وعرفوه بما كان أقرب من مبدأ محدود كتقدم بعض صفوف المسجد، وقد زادوا سادسا وهو التقدّم بالذات، وهنا بعض من النقض والإيراد مذكور في الحكمة، وفي كون هذا التقدّم رتبيا بالمعنى المصطلح نظر. وقوله: الم تعهد إلخ) أي لم تعرف رتشتهر بما ذكر، وهذا كرّ على رد قول قطرب، وما بعده صريحا بعدما رذه ضمنا، ولما دخل النفي هنا على قيد ومقيد، والقرينة قائمة على نفيهما قيل: إنه نفي لما سبق من وجوه إذ لم تعهد مزيدة للتنبيه على انقطاع كلام واستئناف آخر، فما قيل عليه من أنه ليس مدلول(1/172)
الكلام صريحا وان أمكن استنباطه بضرب من التأويل ليس بوارد، وزاد على هذا أيضا أنه لم يعهد في الكلام زيادة أكثر من اسم، وأمّا ما قيل من أنّ قائل هذا الوجه لا يقول إنها مزيدة بل يقول إنها تفيد بطريق الرمز والإيماء إلى معنى التحدي كما صرّحوا به ولذا فرقت على السور لهذه الفائدة ولإعادة التنبيه على التحدي والمعنى هذا المتحدى به مؤلف من جنس هذه الحروف فليس بشيء لأنه ليس فيما نقله المصنف رحمه الله تعالى عن قطرب شيء مما ذكر بل لا يصح، لأنه يكون قولاً آخر فتدبر. قوله:) والدلالة على الانقطاع إلخ (الدلالة هنا إمّا مجرور بالعطف على ما قبله أو مرفوع بالابتداء يعني أنّ الدلالة على الانقطاع لم تعهد بها وأمثالها وأمّا الاستئناف فحاصل بكل ما وقع في الابتداء، ولا يلزم أن لا يكون له معنى في حيزه وموقعه غير الدلالة على الانقطاع فلم حكم بأنها مزيدة صرفة وليست مما عهد زيادته للاستفتاح نحو ألا، وأما وان رجحه الطيبي. وقوله:) من حيث أنها فواتح السور (بكسر همزة إن، لأنّ حيث لا تطرد إضافتها لغير الجمل وجوّز بعضهم فتحها وخطىء فيه على ما فصله في المغني وشروحه، وقيل عليه: بل يلزمها ذلك من حيث إنها كلمات غير مفهومة المعنى، فيجوز أن لا تدخل في شيء من السورتين المفصولتين بها، فيجوز كون دلالتها على ما ذكر باعتبار عدم الإفهام من غير أن تكون فاتحة السورة أو جزأها، وأجيب بأن احتمال كونها خارجة منها غير متجه لكتابة التسمية قبلها فتعين كونها فاتحة، وبقي الكلام في أنّ دلالتها على ما ذكر من حيث أنها غير مفهمة أو من حيث أنها فاتحة بالمعنى الأوّل لوجود الدلالة على ما ذكر فيما يفهم أيضاً، نعم هو في غير المفهم أظهر إذ لا فائدة فيه غيرها فتدبر. قوله: (ولا يقتضي ذلك إلخ) قيل المطلوب هنا صحة أن لا يكون لها معنى فيستغي عن تكلف جعلها أسماء للسور بلا دليل، فلا طائل لنفي اقتضاء ذلك إذ يكفي لنا ما يصحح وقوع ما ليس فيه إفهام، وقيل التنبيه على ما ذكر إذا لم يتوقف على أن لا يكون لها معنى وتحقق على تقدير أن يكون لها معنى، وكون القرآن هدى وبيانا مع ما هو المتعارف في الخطاب يدل على أن يكون لها معنى فالقول: بأنها ليس لها معنى ترجيح بلا مرجح للمرجوح، وهو غير جائز. نعم لو لم يحصل التنبيه على تقدير كونه مفهماً كان له وجه، وهذا كله تعسف فالحق أنّ مراده أنّ ما ذكر مخالف للمعهود، ومثله لا يرتكب بغير مقتض، ولا مقتضى له هنا فلا وجه لارتكابه فاعرفه،
هاب / ج ا / م 18
وما قيل من أنّ القرآن كلام لا يشبه كلاماً فناسب أن يؤتى فيه بألفاظ تنبيه لم تعهد ليكون أبلغ في قرع السمع، فهو غنيّ عن الردّ. قوله: (ولم تستعمل للاختصار إلخ) جواب عما مرّ أنها مختصرة من كلمات وسنده المنقول عن ابن عباس رضي الله عنهما بأنه لم يرد مثله في كلام العرب والشعر المذكور شاذ، وبؤيده أن حذف بعض الكلم في غير الترخيم لا يجوز عند النحاة، وأمّا ما حمل عليه كلام ابن عباس رضي الله عنهما فيأباه سياقه وما قيل: من أن قاف في البيت أمر من قافاه بمعنى تبعه وبيان معنى البيت بما نقله بعضهم، فمثله من المزخرفات مما لا ينبغي أن تشحن به الدفاتر. قوله: (وأمّا قول ابن عباس رضي الله عنهما إلخ) قيل عليه: إنه يأباه كل الإباء. قوله معناه أنا الله إلخ وليس في كلامه ما يدل على ما ذكره المصنف هنا بوجه من وجوه الدلالة الثلاثة فحمله عليه خروج عن طريق التحقيق ولو كان مقصوده مجزد كون هذه مواد الأسماء لكان ما ذكر من التركيب لا وجه له ولذا منع بعض المتأخرين صحة الرواية وقال: لو صحت لكانت من الرموز التي لا يفهمها إلا صاحب الوحي، أو من تلقى عنه بواسطة أو بدونها كابن عباس رضي الله عنهما. قوله: (ألا ترى أنه عدّ كل حرف إلخ (تقرير لمدعاه بأنه عدها من كلمات متباينة فعدّ الألف تارة من أنا، وتارة من الله وتارة من الآلاء واللام تارة من جبريل، وتارة من لطفه والميم تارة من أعلم وتارة من محمد، وتارة من ملكه واللفظ الواحد لا يمكن أن يكون كذلك. وقوله: (لا تفسير إلخ) عطف على قوله تنبيه. قوله: (ولا لحساب الجمل إلخ) باللام الجازة في أكثر النسخ وهو معطوف على قوله للاختصار ولا لتأكيد النفئي يعني أنّ إلحاتها بالمعزبات فرع استعمال العرب إياها في ذلك ولم يتحقق وفي نسخة بحساب بالباء بدل اللام، وهو معطوف أيضاً على ما عطف عليه ما قبله، واحتمال عطفه على قوله بهذه بعيد، وان قرب، وفي المصباح، واستعملته جعلته عاملاً، واستعملته سألته أن يعمل(1/173)
واستعملت الثوب ونحوه أعملته فيما يعد له اهـ. واستعمال الألفاظ في معانيها مأخوذ من الأخير وهو محدث ويقال استعمل لفظ الضرب بمعنى السير، وفي معنى السير ولمعنى السير والكل شائع في كلامهم فما قيل من أنّ هذه الباء سهو من قلم الناسخ لأنه لم يقل لم يستعمل به بل له سهو من ابن أخث خالته. قوله: (لجواز أنه عليه الصلاة والسلام تبسم تعجباً من جهلهم) قيل جهلهم لتفسيرهم النازل بلسان عربيّ بما ليس من معاني لغة العرب أو لأنهم بعدما سلموا كونه شرع الله لا وجه لعدم دخولهم فيه لقصر مدّته، ويرد بأنّ كلامهم لا يدل على تسليم كونه دين الله في نفس الأمر لجواز أن يكون قولهم في دين مبنيا على ما يدعيه النبيّ عليه
الصلاة والسلام وهو مما لا شبهة فيه، ثم إنّ أبا العالية رحمه الله لم يستدل بتبسمه المفيد للتقرير بل بما بعد التبسم من تلاوته صثى الله عليه وسغ إياها عليهم بالتريب المخصوص، وتقريرهم على استنباطهم وكما جاز كون التبسم لما ذكر جاز أيضا كونه تعجبا من إطلاعهم على المراد، ولهذا مرجحات عند بعضهم والظاهر أنه صلّى الله عليه وسلّم فعل ذلك مجاراة معهم ليلزمهم بما يعرفونه فتأمّل. قوله: (وجعلها مقسماً بها إلخ) جواب عن قوله أو دلالة على الحروف المبسوطة مقسما بها والمضمر حينئذ فعل القسم وفاعله، وحرفه وجوابه لخلوّ ذلك الكتاب مما يتلقى به القسم من أنّ واللام، فلا يصلح لكونه جواباً، وأورد عليه أنهم ارتضوا كونها مقسما بها إذا كانت أسماء لله أو القرآن أو السور، ولم يستضعفوه، لما ذكر وتبعهم في ذلك المصنف رحمه الله فإن قيل إنه لشرف معانيها المناسبة للقسم قيل: هذه أيضا شريفة لأنها منبع أسماء الله وخطابه مع أنّ وجه التضعيف وأورد ثمة بلا فرق، والجواب عنه أنها إذا كانت من أسماء الله أو من صفاته كالقرآن كانت صالحة لأن يقسم بها في نفسها فارتكاب تلك الإضمارات شائع في الجملة أمّا ما لا يصلح لذلك، كأسماء الحروف المقطعة، فيبعد ذلك عنه بمراحل، وما ذكره من التأويل إن سلم أنه يصححه لا يقربه، وقول المصنف رحمه الله غير ممتنع إلخ يشير لما ذكرناه وقوله لا دليل عليها أي دليلاً معينا لها فلا يرد أنّ عطفه المجرور في مثل {قاف والقرآن} دليل فمطرد لأنّ واو والقرآن تحتمل التسمية فلا دليل فيها أيضاً. قوله: (والتسمية بثلانة أسماء إلخ) جواب عن أنّ التسمية بثلاثة أسماء مستنكر في لغة العرب بأنّ المستنكر تركيب ثلاثة أسماء تركيبا مزجياً كحضرموت، وأمّا التسمية بها منثورة غير مركبة كذلك بل مسرودة سرد الاعداد فليس بمنكر، وإذا سموا بنحو شاب قرناها وجاز جعل الجمل علماً كما ذكره سيبويه كيف يستنكر هذا، فإن قلت كيف سلموا هنا أنّ تركيب ثلاثة أسماء ممتنع، وغير ثابت من غير نزاع فيه، وقد ورد في اسم المدينة دارابجرد فإنها في الأصل من دار ومن آب ومن جرد قلت قال قدس سرّه في شرح الكشاف: لما مثل به الزمخشريّ دارابجرد علم بلدة بفارس معرب دارابكرد، وهو مركب من كلمتين إحداهما دارا اسم ملك بناها والثانية بكرد، وقيل هو معرّب دراب كرد فيكون ثلاث كلمات في الأعجمية لأن دراب معناه درآب سمي بذلك لأنه وجد في الماء، وصار بالغلبة اسما واحدا فضمت إليه كلمة أخرى وصار المجموع كبعلبك وعلى هذا تتأكد المشابهة بينه، وبين طسم وقد وجد في نسخة المصنف رحمه الله داربجرد بلا ألف بعد الدال، وهو سهو من طغيان القلم والآفات المقصود وهو إثبات موازن له في كلامهم اهـ. أقول إنما تركه المصنف رحمه الله وغيره، وان ذكره سيبويه رحمه الله وتابعه الزمخشرفي لأنه ليس بعربي والمدعى أنه لا يوجد مثله في كلام العرب إلا أنّ ما ذكره الشريف غير تام رواية ودراية. أقا الأؤل فقد قال ياقوت في معجم البلدان: دارإبجرد
بألفين بعد الألف الثانية ياء موحدة ثم جيم ثم راء ودال مهملة ولاية بفارس وداربجرد بدون ألف كورة بفارس عمرها داراب، وهي معرّب داراب كردود اراب اسم رجل وكرد بمعنى عمل قال الأيادي:
يقاتل من قصور درابجرد ويحمي للمغيرة والرفاد
وهي أكبر من دارابجرد اهـ. فما وقع في خط العلامة صحيح والموازنة فيه ثابتة بحسب الأصل لأنّ دراب بمنزلة طس، وهو ظاهر لا غبار عليه نعم التسمية بأسماء منثورة لم توجد في كلامهم، وما ذكره سيبويه مجزد قياس محتاج للإثبات كما ذكره السيد أيضاً. وقوله: (نثرت (بنون وثاء مثلثة وراء مهملة من النثر ضد النظم(1/174)
والمراد لم تركب أصلاً. قوله: (وناهيك إلبئ) ناهيك بمعنى حسبك، ويكفيك تقول هذا رجل ناهيك من رجل وتأويله أنه بجده وغنائه ينهاك عن تطلب غيره، وهذه امرأة ناهيتك من امرأة تذكر وتؤنث وتثنى وتجمع لأنه اسم فاعل فإذا قلت نهيك أو نهاك لم تثن، ولم تجمع لأنه مصدر في الأصل، وهو مستعمل في المدح لأنه لغاية كفايته كأنه ينهاه عن طلب غيره، وهو كالدليل الآخر هنا، والباء متعلقة به لأنه بمعنى اكتف، وهكذا نقل سماعه عن الثقات قال ابن الأنباري: رحمه الله في الزاهر قولهم ناهيك بفلان معناه كافيك به من تولهم قد نهى الرجل باللحم، وأنهى إذا اكتفى به وشبع اهـ. فلا حاجة لما في بعض الحواشي من أنها زائدة أو متعلقة به نظراً لمآل المعنى، وقيل إنها زائدة في المبتدأ وناهيك خبر مقدم له وربما توهم عكسه، وهو فاسد معنى وصناعة، وفيه نظر، وقيل إنها متعلقة بالتمسك أي ناهيك التمسك بتسوية سيبويه، وأنت في غنية عنه بما مرّ، وتسويته هو قوله في بالب العلم وباب الترخيم لو رخمت تأبط شرّاً من الأسماء لرخمت رجلأ مسمى بقول عنترة:.
يا دار عبلة بالجواء تكلمي
اهـ وهو أظهر من أن يذكر. قوله:) والمسمى هو مجموع السورة إلخ (جواب عن أنه يؤدّي إلى اتحاد الاسم، والمسمى قال العلامة: ليست هذه التسمية تصير الاسم والمسمى واحد لأنها تسمية مؤلف بمفرد، والمؤلف غير المفرد ألا ترى أنهم جعلوا اسم الحرف مؤلفا منه ومن حرفين مضمومين إليه نحو صاد يعني أنهما متغايران ذاتا، وصفة فلا يلزم من تسمية المؤلف بالمفرد اتحاد الاسم، والمسمى كما لا يلزم ذلك من عكسها في أسماء الحروف، وما ذكر من الشبهة مندفع لأن مغايرة الكل لجزئه لا تستلزم مغايرته لكل جزء منه حتى يلزم المحذور فسقط ما قيل من أنّ الجواب المذكور لا يرد لزوم تسمي الشيء باسم نفسه لأن لهذا الجزء حظاً في المسمى بالاسم، ولو مقرونا بسائر الأجزاء. قوله:) وهو مقدّم من حيث ذاته
إلخ) جواب عن شبهة الدور الذي أوردوه، ودفع فساده لإفساد وجود الكل بدون الجزء، وان استلزمه يعني أنّ ذات الجزء متقدمة على ذات الكل، وأمّا ذات الاسم فلا يجب تأخره عن ذات المسمى بل ربما كان جر اً كما في الفواطح فيتقتمه، وربما انعكس الحال فيجب تأخره عن المسمى كما في أسماء الحروف، وإذا لم يكن الاسم جزءاً من المسمى، ولا كلاً له لم يوصف بالتقدم، ولا بالتأخر بأحد الاعتبارين المذكورين نعم وصف الاسمية متأخر عن ذات المسمى لا يقال وقوع الفواتح أجزاء للسور من حيث أنها أسماء لها فإذا كانت الاسمية متأخرة لزم تأخر الجزء أيضا لأنا نقول اللازم على*ذهلد الئقدير تأخر وصف الجزئية عن ذات الكل، ولا استحالة فيه كما حققه خاتمة المدققين فسقط ما قيل من أنّ هذا " الجواب مدخول لأنه إنما وقع جزءا من حيث أنه اسم للسورة على ما هو المفروض فالأولى أن يجاب بمنع لزوم تأخر الاسم عن المسمى بحسب الوجود العيني كما سمعته، وجعله اسما يتوقف على تصوّر الكل لا على تحققه ألا تراك تسمي ولدك قبل أن يولد، وجعله جزءا عند التحقق لا عند التصوّر، وما قيل من أنّ تسمية من سيولد ليست بتسمية حقيقية بل تعليق لها أي إذا ولد كان هذا اسما له. رذ بقوله تعالى: {وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} [الصف: 6] فالبعدية باعتبار الإتيان، والرسالة، والتسمية، ولا يجوز صرف القرآن عن ظاهره بلا موجب، ونظائره كثيرة كيف، وتصوّر الموضوع- له بتشخصه عند الوضع ليس بشرط بل يكفي تصوّر، بوجه مّا على ما مرّ بيانه. قوله: (فلا دور) بطلان الدور واستحالته على ما قزروه، لأنه يستلزم تقدم الشيء على نفسه، وهو ضرورفي الاستحالة على ما بين، وبرهن عليه في الكلام، وهنا لما قال أنّ الاسم مؤخبر عن المسمى، والمسمى- هو الكل، وما تأخر عن الكل تأخر عن جميع أجزائه ضرورة، فإذا كان الاسم جزءا لزم تأخر الاسم عنه، فيلزم تأخره عن نفسه، وتأخر الشيء عن نفسه مستلزم لتقدّمه على نفسه، وهو ظاهر البطلان، وحاصل جوابه أنّ الجزء مقدّم من حيث ذاته مؤخر من حيث وصفه، وهو الاسمية فانفك الدور باختلاف الجهة والشيء الواحد يجوز أن يتقدم من جهة، ويتأخر من أخرى (ومما يتعجب منه هنا) ما قيل من أنّ المحذور المذكور لزوم تأخر الجزء عن الكل حال كونه جزءا متقدما على الكل لا لزوم الدور حتى يحتاج إلى دفعه باختلاف الجهة فلعله أراد أنّ لزوم تأخر الجزء عن الكل على تقدير اسمية الجزء لا يخلو عن(1/175)
لزوم الدور فإن اسمية الجزء للكل موقوفة على وجود الكل، ووجود الكل موقوف على وجود الأجزاء، ومن جملتها الجبزء الذي هو اسم الكل، وهذا دور لأنه توقف الشيء على ما يتوقف عليه فحاصل الجواب ط أن توقف الجزء على الكل إنما هو في وصف الاسمية فيتأخر عن الكل وضعا، وتوقف الكل إنما هو على ذات الجزء لا على وصف اسميته فيتقدم على الكل ذاتا فلا دور. قوله: (والوجه الأؤل أقرب إلخ) يعني به الوجهين الأوّلين لأنهما عنده وجه واحد كما مرّ لاتحادهما بحسب المراد والفال كما مرّ، وصاحب الكشاف جعل كلاً منهما وجهاً على
حدته، وله وجه، وكونه أقرب إلى التحقيق لظهوره، وعدم التجوّز فيه، وسلامته مما يرد على غيره، ولأنّ كونها أسماء الحروف المقطعة محقق لا محالة بخلاف غير.، وقيل المراد تحقيق إعجاز القرآن لأنّ الدلالة فيه على التحدي بالقصد الأوّلي بخلاف غيره، وقوله وأوفق للطائف التنزيل لدلالته على الإعجاز قصداً، وعداه باللام، وفي بعضها بلطائف معدّى بالباء، وكل منهما صحيح، وأورد عليه أنّ كل ما ذكر من النكات على الوجه الأوّل ينافي العلمية أيضا، وأجيب بأنّ الانتقال إلى اللطائف على كونها تعدادا للحروف أسرع إذ على تقدير كونها أسماء للسور يتوجه الذهن ابتداء إلى مسماها فربما غفل عن تلك اللطائف لوجوب التوجه إلى المسمى ابتداء، وليس ذلك موجودا على الأوّل لأنّ احتمال الغفلة عنها منتف هناك إذ لا تحصل بدونها فائدة الخطاب فتأمّل. قوله: (وأسلم من لزوم التقل إلخ (الذي هو الأصل لا سيما في ألفاظ القرآن، وكلمة من هنا للتعليل، ومن التفضيلية مقدّرة، والمعنى أسلم من الوجه الآخر لأجل لزوم النقل في الثاني وليست صلة والاً يلزم سلامة الوجه الثاني أيضا كما أشار إليه بعض الفضلاء فسقط ما قيل من أنه كان الظاهر أن يقول سالم لأنه يقتضي أنّ في الأوّل نقلاَ، وليس كذلك، وكون من غير تفضيلية ظاهر، وأمّا كونها تعليلية فلا حاجة إليه إذ الظاهر أنها صلة لأن سلم يتعدّى بمن فيقال سلم من العيوب، وإذا بنى أفعل مما يتعدّى بمن قد تذكر صلته وتترك من التفضيلية كما وقع في الحديث أقربهما منه لأنّ قرب يتعدى بمن أيضا فتأمّله، وقوله وقوع معطوف على لزوم، وقوله من واضع واحد إشارة إلى أنّ الاشتراك مع تعدد الواضعلا محذور فيه، والاشتراك واقع في بعضها كالم، وهو مناف لمقصود العلمية، وهو التمييز، ثم إنّ الألفاظ وتلك اللطائف، وان وجدت في العلمية لكنها بطريق التبع لا بالقصد الأوّل كما في مختاره فلا ينافي قوله في العلمية سميت بها إشعاراً إلخ، وأمّا كونه مذهب سيبويه، وغيره من المتقدّمين فما صدر عنهم ليس نجص فيه لاحتمال أنهم أرادوا أنها جارية مجراها كما يقولون قرأت بانت سعاد ورويت قفا نبك، وقرأت {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} وإنما نعني ما أوّله واستهلاله ذلك فلما غلب جريانها على الألسنة صارت بمنزلة الاعلام الغالبة فذكرت في باب العلم وأثبت لها أحكامه. قوله: (وقيل إنها أسماء القرآن إلخ) هذا معطوف على ما عطف عليه قيل الأوّل والمراد بالقرآن مجموعه لا القدر المشترك لاتحاد الاسم فيه، والمسمى بحيث لا يدفع ولا ضير في تعذد الاسم لأنه يدلّ على شرف المسمى، وهذا أخرجه ابن جرير عن مجاهد، وأخرجه عبد الرزاق وعبد بن حميد عن تتادة، ولذا قيل إنه أرجح مما اختاره المصنف رحمه الله فإنه لم ينقل عن أحد من السلف. وقوله: (ولذلك أخبر عنها إلخ (لأنّ المتبادر منهما إرادة الجميع، وأنه عين المبتدأ وان احتمل خلافه والإخبار بالكتاب ظاهر كما
في قوله: {الَر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ} [هود: ا] ونحوه، وأمّا القرآن فقيل إنه عطف تفسيريّ، وفيل إنه إشارة إلى قوله: {طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ} [النمل: ا] أو إلى ما في قوله: {الر الَرَ تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُّبِينٍ} [الحجر: ا] وفيه نظر لأنه لم يخبر بالقرآن صريحا كما في الكتاب، وإنما جعلت من آياته في الأوّل، وفي الثاني عطف على ما أضيف إليه الخبر لا على الخبر. قوله: (وقيل إنها أسماء الله إلخ (أخرجه ابن جرير، وإبن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس رضي الله عنهما بسند صحيح فالمعنى هنا يا الم، وما بعده مستأنف، وقوله: (وبدل عليه أن علياً رضي الثه عتة إلخ (أخرجه ابن ماجه في تفسيره من طريق نافع بن أبي نعيم القارىء عن فاطمة بنت عليّ بن أبي طالب أنها سمعت علياً رضي الله عنه يقول يا كهيعص اغفر لي، وقوله: (ولعله أراد إلخ) تأويل له بتقدير مضاف فيه إذ لا يظهر له معنى مناسب كسائر أسمائه(1/176)
وأسماؤه توقيفية، وقيل: إنما المقدر يا عالمهما لاختصاصه بذلك العلم على حقيقته، وقيل إنّ هذا التأويل يرده ويأباه ما ورد في الأحاديث مثل ما أخرجه ابن أبي حاتم عن الربيع بن أنس في قوله: كهيعص قال: معناه يا من يجير ولا يجار عليه فتدبر. قوله: (وقيل الألف إلخ) هذا مع اختصاصه بألم ليس واقعا في محله فهو كالدخول بين العصا ولحائها، وما قيل من أنه تأويل من استغرق في ذكر الله بحيث لا يشغله عن ذكره شاغل حسيّ، أو عقليّ لا يسمن ولا يغني من جوع، وقيل: إنه تتمة لما قبله وهو توجيه لتسميته تعالى به ولا يخفى بعده، ولذا قيل: ليس هذا تعليلاً لأنها أسماء الله متمما لما قبله كما يقتضيه ظاهر الكلام، وسياقه إلا أنه متصل به لقربه، وان كان الإيماء المذكور جاريا فيه وفي غيره، وهو قليل الجدوى. وقوله: (من أقصى الحلق) أي أبعده مما يلي الصدر والمراد بالألف الهمزة، فإنه مخرجها أو الألف اللينة فإنه مخرجها في قول أيضا وقيل: إنها من الجوف أي جوف الفم أو ما يشملهما. قوله: (إنه سر استأثر الله بعلمه) استأثر بالشيء استبد به أو اختص، وهو لازم كما في كتب اللغة وعليه ما هنا في أكثر النسخ وفي الحديث: " من ملك استأثر " وهو مثل أي من قدر آثر نفسه بالدنيا، وأصله أنّ داود عليه الصلاة والسلام، لما أمره الله تبارك وتعالى ببناء بيت المقدس بنى لنفسه بيتاً مثله، فأوحى الله عز وجل له قد أمرتك ببيت لي، فبنيت لنفسك مثله فقاله ووقع في بعض النسخ استأثره الله بعلمه بتعديته للضمير فذهب أرباب الحواشي إلى أنّ حقه أن يتركه لمخالفته للاستعمال وكتب اللغة، وقيل: إنه حمله على خصه، فعداه تعديته والضمير للرسول صلى الله عليه وسلم والياء داخلة على المقصور وقيل: إنه يقال آثره الله بكذا أي أكرمه، وهذا استفعال
منه والضمير للرسول صلى الله عليه وسلم أيضا أي أكرمه الله بعلمه دون غيره، وهذا القول ارتضاه كثير من السلف والمحققين وسئل الشعبي رحمه الله عنها فقال: إن لكل كتاب سرّاً وسر القرآن فواتح السور، فدعها وسل عما بدا لك، فهي من المتشابه الذي لا يعلم تأويله إلاً الله. قوله: (وقد روي عن الخلفاء إلخ) فعن الصدّيق رضي الله عنه في كل كتاب سر وسز الله في القرآن أوائل السور، وعن عمر وعثمان رضي الله عنهما الحروف المقطعة من السرّ المكتوم الذي لا يفسر، وعن عليّ رضي الله عنه أيضاً ما هو بمعناه، والحاصل أنه تفسير مأثور عن أكثر السلف فهو أرجحها ولذا اقتصر عليه بعض المفسرين. وقوله: (ولعلهم إلخ (ضمير أرادوا للحلفاء أولهم وللذاهبين إلى هذا القول، وإنما أوّل بما ذكر اقتداء بالإمام وانتصاراً لمذهب الشافعي رضي الله عنه في المتشابه وأن الله والراسخين يعلمونه كما سيأتي تحقيقه في آل عمران والذي اختص الله تعالى به من علم الغيب هو علمه تفصيلاَ ذاتا وزمانا من غير واسطة أصلا فلا ينافيه علم بعض الأولياء والأنبياء عليهم الصلاة والسلام له بواسطة ذلك أو إلهام من الله. وقوله: (إذ يبعد الخطاب إلخ (هو دليل الشافعية في تفسير المتشابه والمخالف فيه يقول لا حاجة إلى هذا التأويل ولا يلزم اللغو والعبث لجواز كون بعض القرآن لا للإفهام بل للتنبيه على اختصاص بعض الأسرار بعلمه تعالى على أنّ فيه فائدة، وهي الثواب في تلاوته وابتلاء الراسخين بمنعهم عن التفكر فيما يوصلهم إلى مبلغهم من العلم كما يبتلى الجهلة بتحصيله، ولكل وجهة فتأمل. قوله: (فإن جعلتها إلخ) شروع في بيان إعرابها بعدما بين معانيها واستوفى الأقوال المشهورة منها وما لها وعليها، وحظها في الوجوه الثلاثة ظاهر لأنها أسماء منقولة من مفرد أو مركب وإعرابها بالوجوه الثلاثة، فالرفع على أنها خبر مبتدأ محذوف أي الله أو القرآن أو السور الم، أو على الابتداء وتقدير ما ذكر مؤخراً وهذا إن لم يكن بعدها ما يصلح للحمل عليها نحو (الم الله) و {الم ذَلِكَ الْكِتَابُ} [البقرة: 1] فإن كان جاز عدم التقدير كما فصلوه. وقوله على الابتداء أو الخبر والخبر مصدر بمعنى الخبرية لعطفه على الابتداء الصريح في المصدرية أو الابتداء مؤول بالمبتدأ كضرب الأمير بمعنى مضروبه. قوله: (أو النصب بتقدير فعل القسم إلخ) فالنصب بفعل القسم المقدر بعد حذف حرفه، وإيصاله للمقسم به نحو الله لأفعلن كما قالوا استغفر الله ذنبا، لكن في القسم لا يحذف حرفه إلا مع حذف الفعل، فلا يقال حلفت الله في فصيح الكلام وظاهر تقديم المصنف رحمه الله النصب ترجيحه على الجز، لأنه يضعف عند بعض النحاة حذف حرف الجرّ(1/177)
وإبقاء عمله من غير عوض عنه وان لم يضمر القسم أضمر اذكر ونحوه مما يناسب المقام فقوله: أو غيره بالجرّ معطوف على فعل القسم، وذكره النصب من غير إيماء لمرجوحيته في بعض المواضع مخالف لما في الكشاف فإنه زيفه لعدم استقامته في {ن وَالْقَلَمِ} [القلم: 1] و {يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ} [يس: 1] لاستكراه أئمة العربية له لما فيه من اجتماع قسمين على مقسم واحد، ولا يجوز كون الواو عاطفة للمخالفة في الإعراب، ولذا جاز على تقدير الجرّ فيه، وقيل: لا مخالفة بينهما فإنّ مبنى وكلام المصنف رحمه الله على التوزيع والتفصيل دون التعميم فتجري كلها فيما يصح فيه وبعضها فيما يصح فيه البعض دون البعض إذ لم يدع جريان جميع الوجوه في كل واحدة منها حتى يمتنع حمل كلامه على ما ذكر، فإن قلت كيف منعوا أو استكرهوا توارد قسمين على مقسم عليه واحد من غير عطف لأحد القسمين على الآخر،، فلم يقولوا والله والرسول لأفعلن كذا- مع أن القسم مقوّ ومؤكد للجواب ولا مانع من ورود تأكيدين بل تأكيدات بغير عطف على مؤكد واحد نحو قام القوم كلهم أجمعون أكتعون، وأيضاً إذا اجتمع القسم والشرط على جواب واحد يجعل ذلك الجواب لأحدهما لفظاً ومعنى، وللآخر معنى فقط من غير استكراه أصلاً، فلم لا يجوزون ذلك هنا من غير استكراه، وما السرّ فيه قلت: - قد- صرحوا بأنه المسموع من العرب ووجهه، كما قاله السيد السند تبعاً للسراج قصور العبارة عما قصد من التشريك في المقسم عليه لإيهامه أن كل قسم يقتضي جوابا برأسه، وقيل: إنه لو جعل الواو للقسم كان كل واحد قسماً مستقلاَ بقصد يقتضي ارتباط الجواب به ارتباط الجزاء بالشرط، فينتقل من كلام إلى آخر قبل تمامه، فإن القسم الأوّل إنما يتمّ بالمقسم عليه، وقد فصل بينهما بالقسم الثاني فاقتضى القياس منعه إلا أنّ الثاني لما توجه لما توجه له الأوّل لم يكن احتياجا من كل الوجوه، فجار على استكراه، ولا يخفى ما فيه، فإنه لا مانع- من جعل أحد القسمين مؤكدا للآخر من غير عطف فيكتفي بجواب واحد، أو يقال: هما لما كانا مؤكدين لشيء واحد وهو الجواب جاز ذلك، فأي وجه للاستكراه إلا أن لما قاله سيبويه والخليل رحمهما الله تلقوه بالقبول، فليس على مستمع هذا الكلام غير تصديق حذام، وكأنّ هذا هو الداعي للمصنف رحمه الله غلى ترك ما في الكشاف فتدبر. قوله: (أو الجرّ الخ) قال في المغني: من الوهم قول كثير من المعربين والمفسرين في فوقح السور أنه يجوز كونها في موضع جرّ بإسقاط حرف القسم، وهذا مردود، فإنّ ذلك مختص عند البصريين باسم الله سبحانه، وبأنه لا أجوبة؟ - " للقسم في سورة البقرة وآل عمران، ويونس، وهود ونحوهن، ولا يصح أن يقال قدر ذلك الكتاب في البقرة و {اللهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ} [آل عمران: 2] في آل عمران جوابا وحذفت اللام من الجملة الاسمية كحذفها في قوله:
ورب السموات العلا وبروجها ~ والأرض وما فيها المقدر كائن
لأنّ ذلك على قلته مخصوص باستطالة القسم اهـ، ولعمري قد استسمن ذا ورم، وفد
وهمهم وهم الواهم وقد ساقه هنا بعضهم ظنا منه أنه وارد غير مندفع، وهو كلام واه فإنّ إتباع
البصريين ليس بفرض، فكفى لصحة ما ذكر كونه على مذهب الكوفيين، وأمّا اعتراضه الثاني بأنه ليس في تلك السور أجوبة، فجوابه ظاهر لأنه كثيراً ما يستغني عن الجواب بما يدل عليه كمتعلقه في قوله تعالى: {يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ} [النازعات: 6] أي ليبعثن وهنا المقسم عليه مضمون ما بعده، فهو قرينة قريبة وقد صرح بهذا في التسهيل وشروحه، وأمّا حديث الاستطالة، وهو حذف اللام الجوابية لطول القسم كقول بعض العرب أقسم بمن بعث النبيين مبشرين ومنذرين، وختمهم بالمرسل رحمة للعالمين هو سيدهم أجمعين فهو إلخ جواب حذفت لامه لما ذكر، فليس بلازم بل هو الأغلب كما صرّح به ابن مالك رحمه الله وإن قال أبو حيان في شرح التسهيل: لم يذكر أصحابنا لاستغناء عن اللام وعن إنّ في الجملة الاسمية، فينبغي أن يحمل على الندور بحيث لا يقاس عليه، ولم يخص المصنف رحمه الله الإضمار بالباء، كما في الكشاف حتى يحتاج إلى الاعتذار له بأصالتها في القسم وكثرة استعمالها فيه دون الواو والتاء، وأخر هذا الوجه لما فيه مما سمعته، وعبر بالإضمار دون الحذف، لأنهم فرقوا بينهما بأنّ الإضمار الحذف مع بقاء الأثر لأنه يشعر بوجود مقدّر له، والحذف أعم منه، وقد يستعمل كل(1/178)
منهما بمعنى الآخر كما يعلم بالاستقراء. قوله: (ويتأتى الإعراب إلخ) أي يجوز من غير محذور ويتسهل قال في المصباح: وتأتى له الأمر تسهل وتهيأ، وتأتى في أمره ترنق، وهو قريب منه، ولما بين الإعراب فيها تممه ببيان كونه لفظاً أو محلاً فقال: إنه في المفرد والمركب الذي على وزن المفردات كحم بزنة قابيل يكون ملفوظا أو محكيا بأن يسكن حكاية لحاله قبله ويقدر إعرابه، وما خالفهما نحو كهيعص يحكي لا غير لأنه ليس مفرداً ولا بزنته. وقوله: (والحكاية) هي أن يجيء باللفظ بعد نقله على صورته الأولى، وقد تبع المصنف رحمه الله الزمخشريّ فيما ذكره، وأورد عليه أنّ الحكاية في الاعلام إنما تجري في الجمل كتأبط شرا الرعاية صورها المنبئة عن أسباب نقلها إلى العلمية وفي الألفاظ التي وقعت إعلاماً لأنفسها، كقولك ضرب فعل ماض لحفظ المجانسة مع المسمى والإشعار بأنها لم تنقل عن أصلها بالكلية، وأمّا في غيرهما، فلا وجه للحكاية سواء كان مفرداً أو مركباً إضافياً أو مزجياً، ألا ترى ضرب إذا سميت به مجرّدا عن الضمير لم يحك، وما نحن فيه من هذا القبيل، فيتعين فيه الإعراب لا الحكاية والنوع الأوّل لا يمكن فيه الإعراب، فوجب أن يحكي ضرورة ولا ضرورة في الثاني.
وأجيب بأنّ أسماء الحروف كثر استعمالها مقدرة ساكنة الإعجاز موقوفة حتى صارت هذه
الحالة كأنها أصل فيها، وما عداها عارض لها، فلما جعلت أسماء للسور جازت حكايتها على تلك الهيئة الراسخة فيها تنبيهاً على أنّ فيها شبهاً من ملاحظة الأصل لأنّ مسمياتها مركبة من مدلولاتها الأصلية أعني الحروف المبسوطة، والمقصود من التسمية بها الألفاظ وقرع العصا، فتجويز الحكاية مخصوص بهذه الأسماء إعلاماً للسور، فلو سمى رجل بصاد، أو بسورة الفاتحة لم تجز الحكاية، وكذا غاق علماً معرب لا محكيّ على بنائه، وأمّا غاق حكاية صوت
الغراب فقد أريد به لفظه فلذا حكي بناؤه.
(أقول (هذا ما حققه قدس سرّه، وهو زبدة ما في شروح الكشاف، والذي في الكشاف
برمّته من كتاب سيبويه حرفاً بحرف، ولا غبار عليه، وما اتفقوا عليه من أنّ الحكاية تختص بالاعلام المنقولة كدرّاج وبالألفاظ التي جعلت أسماء لأنفسها نحو من حرف جرّ غير متجه لمخالفته لما صرّح به في باب الحكاية كما في التسهيل وغيره، فإنهم أطبقوا على أنّ المفردات تحكى بعد من وأيّ الاستفهاميتين كما تقول لمن قال: رأيت زيداً من زيداً وبدونهما أيضا كقولهم دعنا من تمرتان، فكيف يختص هذا باسم السور، ويعلل بما ذكر وأنت إذا راجعت الكتاب وشروحه اتضح لك ما قلناه، فلا تكن من الغافلين. قوله: (والحكاية ليس إلخ) في نسخة ليست أي ما لم يكن مفرداً، ولا موازيا لمفرد ليس فيه غير الحكاية لما كان عليه ولا يعرب نحو كهيعص لأنه موقوف على تركيبه وجعله اسما واحدا، وهو فيما فوق الاسمين خروج عن قانون العرب ولا خفاء في امتناع إعراب عذة كلمات بإعراب واحد قيل: الحكاية مبتدأ خبره ما بعده أي الحكاية ليس يتأتى إلا هي فيما عدا ذلك. وقوله: (فيما عدا ذلك) أي ما يجاوز المفرد، وما وازنه وزاد عليه، وهو خبر ليس والأولى تقديم الخبر لأنه من تتمة الصفة، وقد منع كثير قصر الصفة قبل تمامها وأراد بالموصوف الحكاية، وبالصفة الكون فيما عدا ذلك، وبالقصر أن لا يتصف بهذا، لكون غيرها، وهذا صريح في أنّ ضمير ليس لا يرجع إلى الحكاية بل إلى يتأتى، وكلام المصنف صريح في رجوع الضمير إلى الحكاية، وكون فيما عدا خبر ليس غير ظاهر بل هو ظرف للحصر والتقدير الحكاية ليست الحالة المتأتية إلا إياها فيما عدا المفرد، وموازنه كما يقال في جاء زيد ليس إلا المعنى ليس الجائي إلا زيدا فالمعنى ليس المتأتي إلا إياها، فحذف المستثنى لفهم المعنى، وقد جوزه النحاة بشرط كون أداة الاستثناء إلأ، أو غير وتقدم النفي بليس وأجازه بعضهم مع لا يكون وتفسيره بفقط بيان لحاصل المعنى. قوله: (وإن أبقيتها على معانيها إلخ) عطف على قوله: فإن جعلتها أسماء، وأبقيتها بالألف بمعنى جعلتها باقية وفي نسخة وبقيتها بدونها مشددة القاف، وفيه مخالفة لما في الكشاف من قوله: ومن لم يجعلها أسماء للسور لم يتصوّر أن يكون لها محل من الإعراب، فردّه بأنها إنما تكون كذلك إذا كانت مسرودة على نمط التعديد فإنها لا تعرب لعدم المقتضى، والعامل كما في قولنا دار غلام جارية، وهذا لا يستلزم نفي محلية الإعراب عند إبقائها على معانيها مطلقاً إلا أن ما ذكره الزمخشريّ بناء على الظاهر قبل(1/179)
التأويل. وقوله: (فإن قدرت إلخ) إشارة إلى التأويل الذي صارت به مبتدأ أو خبراً. وقوله على ما مرّ إشارة إلى قوله سابقاً، والمعنى هذا المتحدى به مؤلف من جنس هذه الحروف، أو المؤلف منها، ومن هنا تبين المراد به ثمة، فان قلت: موجب كون هذه الأسامي معرضة للإعراب لعدم مناسبتها مبنى
الأصل أن يكون إعرابها لفظياً لا محليا قلت: إذا أوّلت بما ذكر كانت واقعة في التركيب معرضة لما ذكر إلا أنه لما تعذر فيها الإعراب اللفظيّ. لاشتغال آخرها بالسكون المحكيّ قدر إعرابها لأنّ الحكاية تستلزم إبقاء صورته الأولى. قوله: (وإن جعلتها مقسماً بها إلخ) إشارة إلى ما قدّمه من جعل الحروف، المبسوطة مقسماً بها لشرفها من حيث أنها بسائط أسماء الله ومادّة خطابه. وقوله علىء الالغتين ة لعد حذف حرف الجرّ وتقدير. فإنّ فيه لغتين النصب والجر. وقوله: (تكون كل كلمة منها منصوبة أو مجرورة) وفي نسخة منصوبا أو مجروراً والظاهر أنّ المحل لمجموع الاسم لا لأجزائه، 1. لذا قيل إنّ المراد بالكلمة ما وقع في افتتاح كل سورة دمالاً فمجموع المذكورة مقسم به لأزا 4 تعدد القسم على مقسم عليه واحد مستكره كما مرّ، وامّا أنّ المجموع استحق إعرابا وكل- فىء منه صالح له فيقدر الإعراب في كل جزء نحو جاؤوا ثلاثة ثلاهلة حيث أجرى إعراب الحالى " 3 على كل منهما والحال واحدة بتأويل مفصلاً بهذا التفصيل، فتكلف بعيد لا يرتكب من غير داع هو ثمة موجود لظهور إعرابه على أجزائه، وقيل الرفع بالابتداء أيضا جائز على تقدير القسب ها بأن يقدر ألم قسمي كما ذكروه في لعمرك لأفعلن ورد بما صرح به الرضى وغيره من أن هذا الى " ررير مخصوص بما إذا كان المبتدأ صريحا في القسمية ومتعينا لها.
(بقي ههنا) أنّ جعل بعض الفواتح منصوبة نحو {ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ} [. . . .:. . . .] مع جرّ ما عطف عليه مستلزم لمخالفة المعطوف للمعطوف عليه أو لاجتماع قسمين علرلأ مقسم عليه واحد ولذا قيل إنه مقيد بما إذا لم يمنع منه مانع كأحد هذين المحذورين " ءحينئذ يتعين الجرّ ولا يأباه تفسير كل كلمة بما مز فتدبر. قوله: (وإن جعلتها أبعاض كلمات إلخ) الأبعاض جمع بعض، والمراد به الحروف المقتصر عليها، كما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما والمناقشة في هذا بأنه يجوز أن يكون لها محل بتنزيلها منزلة ما هي أبعاض له واهية جدّاً، وإن ذهب إليه صاحب الدرّ المصون وقال: إنه يجري عليها إعراب كلها، كالأسماء المرخمة نعم في التعليل قصور، لأنها ليست أبعاضا حقيقية حتى يقال: إنّ أبعاض الكد أت لا يتصوّر أن تعرب لأنها أسماء أبعاض فلا يتمّ ما ذكر ألا ترى أنّ قاف في قلت لها قاف " لها محل لأنها مفعول القول والمراد بكونها أصواتا كونها مزيدة للفصل ونحوه لمشابهتها لاسماء الأصوات وترك قول أبي العالية أو أدخله في الأصوات، فإنّ بعض أرباب الحواشي قال: إنه يدخل فيها ستة وجوه الأوّلان، وهما الألفاظ وكونها أسماء، وما قاله قطرب وأبو العالية وما حكاه بقيل من أن الألف من أقصى الحلق إلخ وما روي عن الخلفاء وان كان الظاهر- لأفه، والجمل المبتدآت هي المستأنفة التي لا محل لها من الإعراب، والمفردات المعدودة هي االمسرودة على نمط التعديد، ولا إعراب لها أيضاً لفظا ومحلاً وأورد مثالين ليطابق الممثل له من الفواتح، فإنّ بعضها مركب كالجمل وبعضها مفرد، وقد أشرنا إلى أنّ
تفصيل المصنف رحمه الله مخالف لما في الكشاف من قوله ومن لم يجعلها أسماء للسور لم يتصور أن يكون لها محل في مذهبه.
(فائدة) قال ابن القيم في بدائع الفوائد: ألم مشتملة على الهمزة من أوّل المخارج من لحروف اعتمادا على اللسان، والميم من آخر الحروف لبداية والوسط والنهاية، وكل سورة افتتحت بها، فهي لمبدأ والمعاد وعلى الوسط من التشريع والأوامر فتأملها وتأمل الحروف المفردة فإن سورها مبنية عليها نحو ق إذ ذكر فيها القرآن والخلق، وتكرير القول ومراجعته والقرب وتلقي الملك قول العبد السائق والقرين والإلقاء في جهنم والتقدم بالوعيد وذكر المتقين والقلب والقرون والتنقيب والقيل، وتشقيق الأرض، وإلقاء الرواسي، عيد، ومعانيها مناسبة لشدة القاف، وجهرها وعلوها وانفتاحها وص ذكر فيها الخصومات مع النبيّ صلّى الله عليه وسلّم(1/180)
والاختصام عند داود صلّى الله عليه وسلّم، فإذا تأملت علمت أنه يليق بكل سورة ما بدئت به وهو سرّ من الأسرار البديعة اهـ. قوله: (ويوقف عليها وقف التمام إلخ) التمام بفتح التاء وميمين هذا هو الصحيح الموافق حدة فإن صحت، فالمعنى كوقف الكلام التامّ والوقف قطع من أهل الأداء إلى كامل وتام وحسن وناقص، وهو الذي رسموه قبيحا لأنه إما أن يتم الكلام عنده أم لا، والثاني الناقص نحو بسم ورب والأوّل إما أن يستغني عن تاليه أم لا، والثاني إما أن يتعلق به من جهة المعنى، فالكافي أو من جهة اللفظ، فالحسن والأول إما أن يكون استغناؤه استغناء كلياً أو لا، فالأوّل الكامل كأواخر السور والمفلحون في أول البقرة، والثاني التام كنستعين، وأحوال الوقف القرآني مفردة بالتاليف، وهي معلومة عند أهلها. قوله: (إذا قدرت بحيث لا تحتاج إلى ما بعدها) في الكشاف يوقف على جميعها وقف التمام إذا حملت على معنى مستقل غير محتاج إلى ما بعده وذلك إذا لم تجعل أسماء للسور ونعق بها كما ينعق بالأصوات، أو جعلت وحدها أخبار ابتداء محذوف كقوله عز قائلا: {الم اللهُ} [عمران: 1] ، أي هذه ألم ثم ابتدأ فقال {اللهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ} اهـ فأشار إلى شرطي الوقف التام وهما كون الموقوف عليه غير محتاج لما بعده، وكون ما بعده أيضا مستقلا بنفسه غير مرتبط بما أصلاً والمصنف رحمه الله أخل بالشرط الثاني، فورد عليه أنه يصدق على الوقف على ألم إذا قدر قبله مبتدأ له خبران أحدهما ألم والثاني الله، وعنه احترز الزمخشري بقوله جعلت وحدها اخبار ابتداء محذوف مع أنّ الوقف حينئذ ليس بتام لفقد أحد شرطيه، والزمخشري أشار بالتمثيل إلى اعتبار الأمرين معا والمصنف رحمه الله لم
يذكره فورد عليه ما ورد، وقول بعضهم: تركه اعتماداً على ما أشار إليه من الأمثلة المستقل ما بعدها بقوله إذا قدرت لا يخفى بعده، وكذا ما قيل: من أنّ مراد المصنف رحمه الله من الاحتياج التعلق بينهما بوجه مّا. قوله: (وليس شيء منها آية) هذا هو الصحيح كما في مصاعد النظر للبقاعي فما نقل عن المرشد من أنّ الفواتح في السور كلها آيات عند الكوفيين من غير تفرقة، وكذا ما في الكشف عن بعض الحواشي من أن ألم في آل عمران ليست بآية لا يعارض النقل الصحيح. قوله: (وهذا توقيف لا مجال للقياس فيه) في الكشاف هذا أي عد الآيات القرآنية علم توقيفي لا مجال للقياس فيه كمعرفة السور اهـ (أقول) أمّا عدد الآيات ففيه مذاهب خمسة مدنيّ ومكيّ وكوفيّ، وبصرفي وشاميّ، فالمدنيّ رواه شيبة المدنيئ مولى أمّ سلمة عنها، ويزيد بن القعقاع المدنيّ، والمكيّ رواه ابن كثير وغيره من أهل مكة عن أبيئ وابن عباس رضي الله عنهم، والكوفي عن حمزة بن حبيب الزيات مسنداً إلى عليّ رضي الله عنه، والبصريّ عن المعلى بن عيسى عن عاصم والشاميّ عن ابن ذكوان وابن عامر ومن ثمة اعترض الكوراني في كشف الأسرار بأنّ التوقيف من رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يوجد في الآيات إذ لو كان كذلك لم يقع فيها اختلاف وليس كذلك لاتفاق أهل الأداء على نقل هذه المذاهب، وقد نقل ابن الصائغ في حواشي الكشاف عن شيخه الجعبريّ ما يقرب منه والجواب عنه ما في مصاعد النظر من أنّ موجب اختلافهم في هذا التوقيف كالقراءة قال أبو عمرو: وهذه الأعداد وان كانت موقوفة على هؤلاء الأئمة، فإن لها لا شك مادّة تتصل بها وإن لم نعلمها إذ كل واحد منهم لقي غير واحد من الصحابة وسمع منه، أو لقي من لقي الصحابة مع أنهم لم يكونوا أهل رأي واخترع بل أهل تمسك واتباع، وقال السخاوي رحمه الله: لو كان ذلك راجعاً إلى الرأي لعذ الكوفيون) الر " آية كما عدوا " ألم " ومثله كثير، وأمّا السور فقالوا إنّ عددها علم توقيفاً من رسول الله صلّى الله عليه وسلم على ما روى أبيئ رضي الله عنه ما كنا نعلم آخر السورة إلا إذا قال عليه الصلاة والسلام: " اكتب بسم الله الرحمن الرحيم ") 1 (. وأمّا ترتيبها الذي في مصاحفنا، وهو الذي في المصحف العثمانيّ المنقول من مصحف الصديق المنقول مما كتب بين يدي النبيّ عليه الصلاة والسلام وعليه القراء فهو توقيفي أيضا إلا أنه أورد عليه ما في صحيح مسلم عن حذيفة رضي الله عنه قال: صليت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم ذات ليلة، فافتتح البقرة فقلت يركع عند المائة، ثم مضى فقلت يصلي بها في ركعة، فمضى فقلت
يركع(1/181)
بها، ثم افتتح سورة النساء، ققرأها ثم افتغ آل عمران فقرأها (1) إلخ فإنه كما قال القاضي عياض وحمه الله: يدل لما قيل من أنّ ترتيب السور وقع باجتهاد من المسلمين حين كتبوا المصحف لا من النبيّ صلى الله عليه وسلم بل وكله لأمته بعده، وهو قول مالك رحمه الله وجمهور العلماء، وقال أبو بكر الباقلاني: هو أصح القولين مع احتمالهما، فليس بواجب في الكتابة والقراءة في الصلاة وغيرها، ومن قال بأنه توقيفيّ يؤوّل ذلك على أنه كان قبل التوقيف في العرضة الأخيرة، ولا خلاف في أنّ ترتيب آيات كل سورة على ما هو عليه الآن توقيفيّ كما فصله في شرح طيبة النثر. قوله: (ذلك إشارة إلخ الما لم تصح الإشارة إلى لفعل ألم على بعض الوجوه بين حينئذ أنه اسم للسورة أو ما يؤوّل بالمؤلف على الوجهين الأوّلين أو القرآن ولا يتأتى على بقية الاحتمالات السابقة المذكورة لعدم صحة الحمل والوصف الذي هو في معناه، وذلك في قول المصنف ذلك إشارة فيه إبهام ولطف ظاهر، وقيل: إنه يحتمل أن يراد به نفسه، وأن يراد به الإشارة إلى ما في قوله تعالى: {ذَلِكَ الْكِتَابُ} [البقرة: ا] ولا يخفى أنه يحتاج حينئذ إلى تكلف في اعتبار البعد، وهو بريء من التكلف. قوله: (أو فسر بالسورة إلخ) الكتاب كالقرآن يطلق على المجموع وعلى القدر الشاثع بين الكل والجزء، وهو معنى حقيقيّ لغويّ إذ الكتاب بمعنى مطلق المكتوب فيصح إطلاقه على السورة بلا تكلف، فإذا كان تعريفه للعهد الحضوري أي هذا المقدار الحاضر منه تمّ المراد، فما قيل من أنّ السورة حينئذ يراد بها جميع القرآن مع مخالفته لما عليه اكثر من تفسيرها بالسورة يأباه كل ذوق سليم وكذا كون الكتاب اسم الكل تجوز به عن البعض منه، فإنه تعسف مستغنى عنه. قوله: (فإنه لما تكلاً به وتقضى إلخ) اختلف النحاة فيما وضعله اسم الإشارة فقيل: منها ما وضع للقريب ومنها ما وضح للمتوسط، ومنها ما وضع للبعيد وقيل إنما هي على قسمين بعيد وقريب دون توسط، وكلام المصنف رحمه الله تعالى محتمل للمذهبين ولما كانت الإشارة هنا لألم، وقد ذكر آنفاً فليس ببعيد تبادر الذمن للسؤال عنه، فبينه بوجهين أردفهما الزمخشريّ بثالث هو من تتمة الثاني كما ستراه قريباً، فالأوّل أنّ ذلك لتقضي ذكره، والمتقضي كالمتباعد والإشارة إليه بما يشار به إليه مشهور جار في كل كلام، ولذا قيل:
ما أبعد ما مض، وما قد ناتا
وفي المثل أبعد من أمس فهو لكونه متقضياً معداً للعدم في حكم البعيد لا بعيد عن
الوجود كما قيل، وليس المراد أنه لفظ من قبيل الأعراض السيالة الغير القارّة فكل ما وجد منه اضمحل، وتلاشى وصار صتقضيا غائبا عن الحس وما هو كذلك في حكم البعيد كما توهمه بعضهم، فإن هذا ناشىء من عدم فهم المراد، وسيأتي توضيحه وأنه لا يختص بالألفاظ بل يجري فيها، وفي المعاني والأجسام القارّة ألا ترى تمثيل العلامة لهذا بقوله تعالى: {لاَّ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ} [البقرة: 68] فافهم ترشد والثاني أنه لما وصل من المرسل إلى المرسل إليه وقع في حذ البعد كما تقول لصاحبك، وقد أعطيته شيئا احتفظ بذلك وهذا أمر مطرد في العرف أيضا واعترض عليه بأنه قبل الوصول إلى المرسل إليه كان كذلك.
وأجيب بأنّ المتكلم إذا ألف كلاماً ليلقيه إلى غيره فربما لاحظ في تركيبه وصوله إليه
وبنى كلامه عليه، وقيل: لم يرد بالمرسل إليه النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بل من وصل إليه حال إيجاده بمنزلة السامع لكلامك كملك الوحي، وردّ بأنه مخالف لما يفهم من العبارة، وأيضا إن أراد باللفظ الذي وصل للسامع لفظ ألم، فذلك ليس إشارة إليه وان أراد لفظ جميع السور أو المنزل فقبل أن يصل إليه الجميع كان ذلك على حاله كذا قال قدس سرّه تبعا للفاضل المحقق، ثم قال: ذكر بعضهم إنّ السؤال مخصوص بكون ألم اسما للسورة، وهو عام ويؤيده قوله أي ذلك الكتاب المنزل هو الكتاب الكامل ونحوه، ويمكن أن يقال لما كان مجموع المنزل مرموزا إليه غر مصرح به كالسورة نزل لذلك منزلة البعيد أيضاً، ثم إنّ اسم الإشارة موضوع للمشار - إليه إشارة حسية، ولا يستعمل كي غيره إلا بتنزيله منزلته كما قال السكاكيّ المشار إليه باسم الإشارة امّا مدرك بالبصر أو منزل منزلته، فذلك إن كان إشارة إلى ألم فمدلوله سواء كان اسما للسورة، أو رمزاً لجملة المنزل ليس مبصرا بل منزل منزلته، فإن نظر إلى ابتداء نزوله كان كمعنى حاضر يجعل كالمشاهد لذكره، وفي حكم ألبعيد لزوال ذكره وتقضيه، وان نظر إلى أنه لم ينزل كلتمامه(1/182)
كان كتائب ضمير يجعل كالمشاهد البعيد لما ذكر، وجاز أن تعلل مثاهدته بالذكر وبعده بتقدير وصوله إلى المرسل إليه ووقوعه في حال البعد، وقد توهم بعضهم أنّ المشار إليه إذا كان مذكورا مع اسم الإشارة صفة له لم يلزم أن يكون محسوساً فضلاَ عن أن يكون مشاهدا فلا حاجة لتأويله، وليس بشيء لأنّ المعتبر هنا الإشارة الحسية التي لا تتصوّر في غير مشاهد، فغيره منزل منبزلته فإنّ كل غائب عينا أو معنى إذا ذكر يشار إليه بالقريب نظرا لذكره، وبالبعيد لتقضيه نحو بالله الغالب الطالب في ذلك أو وهذا قسم عظيم لأفعلن كذا، والأغلب أن يؤتى بالقريب اهـ.
(أقول) : ما في الكشاف، وكلام المصنف مأخوذ من أئمة العربية وتحقيقه كما نقله أبو
حيان في شرح قوله في التسهيل: قد يتعاقب صيغة البعيد والقريب مثارا بهما إلى ما ولياه كقوله تعالى في: قصة عيسى عليه الصلاة والسلام {ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ} [آل عمرأن: 58] ثم قال {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ} [آل عمران: 62] وله نظائر في الكتاب
الكريم ونقله الجرجاني وطائفة من النحويين وأنشدوا تأمّل حقاً إنني أنا ذلكا.
وقال السهيلي: إنه باطل لأنّ الشاعر إنما أراد ذلك الذي كنت تحدث عنه، وتسمع به
هو أنا، والذي حداهم إليه قوله تعالى {ألم ذَلِكَ الْكِتَابُ} [البقرة: ا] فإنّ معناه هذا الكتاب ألا تراه قال في آية أخرى، وهذا كتاب أنزلناه فهذا وذلك فيه بمعنى، وليس كذلك لأنّ الإشارة في هدّه الآية إلى ما حصل بحضرتنا وانفصل عن حضرة الربوبية بالتنزيل، فصار مكتوبا مقروءا، فالمعنى ذلك الكتاب الذي عندك يا محمد والمتكلم يقول هذا لما عنده وذلك لما عند المخاطب أو غيره، وقوله: ألم بحروف التهجي التي تقطع بها الحروف، وتكتب حرفا حرفا، والكتابة والتلفظ إنما هو في حقنا وإذا لم تذكر هذه الحروف قيل هذا كتاب أنزلناه، لأنه عنده سبحانه على ما هو عليه حقيقة، وعندنا هو متلوّ مكتوب كما يليق به، فاقتضته البلاغة والإعجاز فصلاً بين المقامين وتفرقة بين الإشارتين اهـ.
(أ-دول) هذا معنى بديع ونظر لطيف رفيع علم منه معنى الوجهين المذكورين هنا أمّ الأوّل
فقد مرّ ما يكفيك مؤنة بيانه، والمراد من الثاني أنّ من أعطى غيره شيئا أو أوصله إليه، ثم ذكره فإن ى ن عنده، أو لاحظ كونه عنده عبر بهذه لأنه في حضرة القرب منه، فإذا أوصله لغيره أو لاحظ وصوله له عبر بذلك لأنه بانفصاله عنه بعيد، أو في حكمه كما قيل: كل ما ليس في يديك بعيد.
وليس هذا هو البعد والقرب الرتبي كما يوهمه كلام الشرّاح هنا، ولما لم يتفطن له بعض أرباب الحوإشي صرح به لظنه أنه اهتدى له ومن لم يهد الله فما له من هاد، وقول المعترض: إنه كان قبل الوصول كذلك مبنيّ عليه، فالاعتراض وجوابه ليس بشيء وتخصيصه بالألفاظ لا يطابق قول العلامة، كما تقول لصاحبك، وقد أعطيته شيئا: احتفظ بذلك. وكون المراد بالمرسل إليه ليس هو النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لا مرية في صحته لمن تحقق ما حكيناه عن النحاة آنفا وكونه مخالفا لما يفهم من العبارة دعوى قام الدليل على خلافها. وقوله وأيضاً إلخ كلام فارغ لا حاصل له، وقد قيل عليه إنه إن أراد أنّ ألم ليس بمشار إليه مطلقا، فممنوع، وان أراد من حيث لفظه فمسلم، لكن المدعي أنه مشار إليه من حيث كونه رمزا للمؤلف من الحروف، وما قيل: من أنّ رجوعه له من هذه الحيثية رجوع لمسماه فيرد عليه ما يرد عليه لا يخفى ما فيه، وأمّا ردّه على الفاضل، فغير وارد لما في شرحه للمفتاج من أن وضع أسماء الإشارة للإشارة إلى محسوس وان كان استعمالها في غيره أكثر من أن يحصر وإذا شاع مثله وقارنه الوصف الدال على المشار إليه تقوى بذلك حتى صح أن يقال إن مثله حقيقة في عرت التخاطب، وله شواهد " لولا خوف الإطالة أوردناها والعجب منه أنه أنكر هذا أشد إنكار، ورجح ما هنا على ما في المفتاح بأنه صار حقيقة فيه فما الفرق بين اللفظ المتقدم والمتأخر، ثم
إنّ صاحب المفتاح ومن تبعه من أهل المعاني ذهبوا إلى أنّ نكتة الإشارة هنا تعظيم المشار إليه بالبعد تنزيلاً لبعد درجته، ورفعة محله منزلة بعد المسافة، وقد يقصد به تعظيم المشير كقول الأمير لبعض حاضريه ذلك قال: كذا ولم يذكروا ما في الكشاف لظنهم أنه مصحح لا مرجح، كما ذهب إليه بعضهم، فلا مخالفة بين المسلكين وكلام المطوّل يميل له، وأمّا كونه محصل الوجه الثاني لأنه بعد رتبي مآله التعظيم فتعسف ياباه النظر السديد، فالحق أنّ المصحح هنا كونه محسوساً أو منزلاً(1/183)
منزلته والمرجح تقضي لفظه وتقدّمه ملاصقاً له أو وصوله من المرسل، وقد قالوا: إنّ ما في الكشاف أرجح لأنه أشهر في العرف، وأجدى في المراد، حتى ادعوا انه صار حقيقة وقد سمعت قول الإمام السهيلي رحمه الله أنه مقتضى المقام والإعجاز. وقوله بالله الطالب الغالب وقع كذا من النحاة والفقهاء، وقد قيل عليه إنّ إطلاق الغالب على الله قد ورد في القرآن في قوله تعالى {غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ} [يوسف: 21] وأمّا الطالب فلم يسمع إلا في حديث ضعيف قاله السيوطي رحمه الله تعالى، وهذه مشاحة في المثال. قوله: (وتذكيره متى أريد إلخ) جواب عن سؤال مقدر، وهو إذا كانت ألم اسم السورة فلم لم يؤنث وأمّا كون ألم علماً لمنزل مخصوص ولا تانيث في لفظه فحقه أن يشار إليه بمذكر واطلاق السورة لا يقتضي تأنيثه إلا إذا عبر به عته كما إذا عبر عن زيد بالتسمية، فقد أجيب عنه بأنه لما اشتهر التعبير عن ذلك المنزل بالسورة، واستمرّ ذلك حتى صار كأن حقه أن يعبر عنه بها، فيقال سورة البقرة مثلاَ، وقصد بوضع العلم تمييزه عن سائر السور كان اعتبار كونه سورة ملحوظا في وضعه له، وكان قوله ألم في قوّة قوله هذه السورة، فحقه أن يؤنث بخلاف إعلام الأماكن والقبائل التي يعبر عنها تارة بألفاظ مذكرة، واخرى بالفاظ مؤنثة ولم يستمرّ فيها شيء منهما فإنه يجوز تذكيرها وتانيثها، فكون مسماه لا يعرف إلا بلفظ مؤنث يقتضي أنه مؤنث سماعيّ، وسيأتثي تحقيقه في سورة آل عمران، فما قيل من أنه لا حاجة لتوجيه التذكير لأنّ الإشارة إمّا للفظ ألم أو لمسماه، وليس واحد منهما بمؤنث غنيّ عن الجواب، وما قيل عليه: من أنه لا وجه لاعتبار الكتاب صفة، وجعل ذلك إشارة إليه إلا أن يحمل الكتاب على المعنى اللغوي أي المكتوب، واللام على الجنس، فإن جعلت للعهد لا يظهر هذا، وأنه يبعد تذكير العائد إلى المذكور بلفظ مؤنث خاص به بمجرّد أنه يجوز التعبير عته بلفظ مذكر غير خاص به مع أنّ الكلام في ابتداء النزول قبل الاشتهار، اللهمّ إلا أن يلاحظ حال الانتهاء كما مرّ نظيره، ليس بوارد عليه لأنّ وصف الإشارة بمذكر هو عينه لتبيينه به لا محذور فيه، كما إذا قلت مكة ذلك المكان الذي شرّفه الله، وليس هذا كتذكير الضمير حتى يرد عليه ما سيأتي عن ابن الحاجب رحمه الله، وما قيل: من أنّ كلام المصنف رحمه الله يدلّ على أنه إذا لم يرد به السورة بل المؤلف، أو المتحدى به لم يحتج تذكيره لتاويل ردّ بأنّ ما ذكر لا يصلح وحد. لأن يكون
مسمى السورة لصدقه على الجميع وما قيل من أنّ لفظ تذكير في قوله لتذكير الكتاب فيه لطف لإيهامه إرادة الموعظة بعيد عن السياق جدّاً. قوله: (فإنه صفته إلخ الا ياباه كونه جامدا لأنه جائز في اسم الإشارة كما ذكر النحاة، وقيل: إنه عطف بيان وعلى هذا ذلك الكتاب خبر (ألم) وإذا كان خبرا، فالجملة خبره واسم الإشارة سادّ مسد العائد وهذا إشارة إلى ما قاله ابن الحاجب في الإيضاح: من أنّ كل لفظتين وضعتا لمعنى واحد واحدهما مؤنثة والأخرى مذكرة، وتوسطهما ضمير، أو ما يجري مجراه كاسم الإشارة، لأنه يوضمع موضع الضمير كما صرح به النحاة جاز تأنيثه، وتذكيره واعتبار الخبر أولى لأنه محط الفائدة، وأمّا الاستشهاد له بمن كانت أمّك فغير مسقم لأنه لا يتعين رجوع الضمير لأمّك لاحتمال رجوعه لمن باعتبار معناه، ولذا تركه المصنف رحمه الله وقد قيل إنّ القاعدة المتقولة عن ابن الحاجب إنما هي في الخبر، ولم يذكرها النحاة في الصفة، فكأنهم قاسوها عليه، لكن تعليل ابن الحاجب يقتضي الفرق بين الصفة والخبر.
وأجيب بأنّ قولهم الأوصاف قبل العلم بها اخبار تصريح بذلك مع أنّ المثبت مقدم على النافي. وقال الزمخشريّ: إذا جعل الكتاب صفة، فاسم الإشارة إنما يشار به إلى الجنس الواقع صفة له، والذي هو هو صفة الخبر أي عينه ويعلم منه حال الصفة بالمقايسة عليه. قوله: (أو إلى الكتاب الخ) فتكون صفته، وهي الكتاب هي المشار إليه حقيقة لا ما قبله لأنّ اسم الإشارة مبهم إلذات وإنما يتغير ذاته ويرتفع إبهامه بالإشارة الحسية أو بالصفة ولذا التزم في نعته أن يكون معرفا بأل أو موصولاً لأنه بمعناه، وأوجبوا فيه المطابقة وعدم الفصل، وظاهر كلام الزمخشريّ أنّ تعريفه للجنس كما مرّ. وقيل: إنه إشارة إلى الكتاب الحاضر، فاللام للعهد الحضوري وقال ابن عصفور كل لام واقعة بعد اسم الإشارة، او أيّ في النداء، أو إذا الفجائية فهي للعهد الحضوري(1/184)
فالكتاب مثار إليه صريحا لا ضمناً كما في الوجه الأول فوجب أن يطابقه في تذكيره، وان كان بمعنى المؤنث، وأمّا أنّ السورة مسماة بالكتاب، فجاز أن تذكر الإشارة إليها لذلك مع قطع النظر عن الخبر، فهو وجه آخر توهم بعضهم إنّ قول الزمخشريّ صريحاً إشارة إليه، كما قال قدس سرّه والإشارة إلى الصفة لا غير والمصنف رحمه الله جوّز أن يشار إليه، والى ألم فتدبر. قوله: (والمراد به الكتاب إلخ) ظاهر. أنه على هذا أعني الوصفية الكتاب هو الموعود وتعريفه للعهد الخارجي وهو مخالف لما في الكشاف فإنه جعله وجهاً مستقلاً فقال: وقيل: معناه ذلك الكتاب الذي وعدوا به، وقال شراحه: إنه جواب آخر بأنه ليس إشارة إلى ألم بل إلى الكتاب الذي وعدوا به على لسان موسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام أو بقوله {سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا} [المزمل: 5] لتقدم نزوله، لكن قيل:
الأنسب على هذا وعد به، ولما لم يكن هذا الجواب مختارا أخر. وان اقتضى ترتيب البحث تقديمه بأن يقال ليس ذلك إشارة إلى ألم وان حمل عليه فهو في حكم البعيد لجعل بعد ذكره في العدة بمنزلة بعده نفسه، وقيل: جعل كالمحسوس بناء على صدق الوعد والموعود إذا حمل على ما في التوراة والإنجيل، وهو القرآن فلا يصح حينئذ أن يكون ذلك الكتاب خبرا لا لم، لكونه جزأه لا هو إلا أن يراد بألم القرآن كله أو يجعل موعوداً في ضمن كله، أو يجعل مبالغة كانت الرجل علماً، وإذا حمل على الموعود الآخر صح، وفيه نظر، لأنّ الموعود هو النبيّ عليه الصلاة والسلام لا الأنبياء السابقون، وإنما هم مبشرون أو واعدون لتبليغهم الوعد فالجمع على كل حال للنبيّ عليه الصلاة والسلام وأمّته ثم إنّ كلام المصنف رحمه الله مخالف للكشاف، لأنه جعل الوعد توجيهاً للبعد والمصنف رحمه الله جعله توجيها للتذكير، ولم يخصه بالوصفية والمصنف خصه، ولا يخفى أنّ مسلك العلامة أظهر، فلا وجه للعدول عنه. قوله: (وهو مصدر إلخ) فهو كالخطاب سمي به المكتوب كالضرب بمعنى المضروب جعل لكمال تعلقه به كأنه عينه للمبالغة قال الراغب: الكتب ضم أديم إلى أديم بالخياطة يقال: كتبت السقاء وفي المتعارف ضم الحروف بعضها إلى بعض، والأصل في الكتابة النظم بالخط، وقد يقال ذلك للمضموم بعضه إلى بعض باللفظ لكن قد يستعار كل واحد للآخر، ولذا سمي كتاب الله وإن لم يكن كتابا والكتاب في الأصل مصدر ثم سمي المكتوب كتاباً، والمكتوب فيه كالكتاب في الأصل اسم للصحيفة مع المكتوب فيها اهـ، وهو مأخذ المصنف رحمه الله وحاصله أنّ أصل حقيقته في اللغة مطلق الضم، ثم خصى بفرد منه وهو ضم الحروف بعضها إلى بعض في الخط، وصار حقيقة فيه لغة أيضاً، ثم شاع في عرف اللغة إطلاقه على الخط والصحيفة المكتوب فيها، فلا يسمى قبل الكتابة كتابا وليس هذا مجازاً من إطلاق الحال على المحل فمن نقل عن الراغب ما اعتوض به على المصنف رحمه الله لم يصب. قوله: (وقيل فعال بمعنى المفعول إلخ) هو على هذا التقدير وما قبله بمعنى المكتوب خطا إلا أنه على الأوّل مجاز وعلى هذا حقيقة، ثم عبر به عن المنظوم عبارة قبل أن تنضم حروفه التي يتألف منها في الخط تسمية له بما يؤول إليه مع المناسبة، والانضمام الاجتماع لانضمام الحروف لفظا أو خطاً، ولا وجه لما قيل من أنه فيهما مجاز غير أنّ التجوّز في الأوّل في الإسناد وفي الثاني في تفسير الكلمة. وقوله: (وأصل الكتب الجمع) بيان للعلاقة بين الكتاب والعبارة في ضمن بيان ما وضع له أو لا، والأصل له معان في اللغة فيكون بمعنى ما يبني عليه غيره، وبمعنى المحتاج إليه كما في المحصول، وبمعنى ما يستند تحقق الشيء إليه كما في المنتهى، وما منه الشيء ومنشؤه، والمراد هنا الأخير وله في الاصطلاح أيضا معان الدليل والراجح والقاعدة الكلية والصورة المقيس عليها وقوله ومنه الكتيبة هي الجيش، أو جماعة الخيل المغيرة من مائة لألف، وفصله بقوله منه على عادة أهل اللغة في بيان ما يؤخذ من الأصل لمناسبة معنوية وان لم تكن ظاهرة.
واعلم أنه على خبرية الكتاب معناه أنّ ذلك هو الكتاب الكامل كأن ما عداه من الكتب
في مقابلته ناقص وهو المستأهل لأن يسمى كتاباً كقوله:
هم القوم كل القوم يا أمّ خالد
لإفادة هذا التركيب الحصر لأنه لا عهد فلامه جنسية ووصف بالكامل تنبيها على أنّ المقصود من حصر الجنس حصر الكمال، وإلا لم يصح إلى آخر ما فصل في الكشاف وشروحه(1/185)
والمصنف رحمه الله لم يتعرّض له لما فيه من الخفاء والإبهام، وقوله: بمعنى المفعول ظاهر، وفي بعض النسخ بني للمفعول، وهو إن صح فبنى معناه صيغ لبيان معنى المفعول، وهو أحد معاني البناء المارة. وقوله: (ثم أطلق على الننظوم إلخ) ولم ينظر حينئذ إلى أنه حروف مجموعة وأصله الجمع مطلقا لأنه أصل مهجور هنا فلا يقال إنه مضيّ إلى المجاز بلا ضرورة كما توفم. قوله: (معناه أنه لوضوحه إلخ (جواب عن أنه كيف نفى الريب استغراقا مع كثرة المرتابين والريب، أي هو لوضوح شأنه، ونير برهانه لا يرتاب فيه ذو نظر صحيح فتعين أنه وحي معجز وما سواه بمنزلة العدم لا يعتد به، ولا بارتيابه فمعنى نفيه عنه أنه ليس محلاً له، ولا مظنة عند العاقل المنصف ولذا قيل إنه لنفي اللياقة، والسطوع ظهور النار والنور، وارتفاعهما استعير لغاية الظهور وقوله بحيث خبر أن وما بينهما اعتراض، وحد الإعجاز له معنياه نهايته ومرتبته والإضافة بيانية أي النهاية التي هي الإعجاز، أو مرتبة هي الإعجاز، وسيأتي تنويره في تفسير قوله تعالى {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا} [النساء: 82] وقد قيل عليه: إن بلوغه حذ الإعجاز هو برهانه الساطع، فالأولى أن يقتصر على كونه وحيا، ولا يذكر قوله بالغا حد الإعجاز، وقيل السطوع إجمال والبلوغ المذكور تفصيل له، والإجمال لا يغني عن التفصيل، على انّ قوله بالغاً إلخ من تتمة بيان محل الارتياب المنفي بعد النظر الصحيح وتلخيصه أنّ ظهور برهانه بحسب نفس الأمر يوجب نفي الارتياب بعد النظر الصحيح في كونه بالغا حذ الإعجاز، فهذا كالعلة لعدم الارتياب في كونه وحياً، فليس في الكلام ما يستغنى عنه حتى يقال: إن الأولى تركه والأحسن أن يقال: إنّ قوله لوضوحه أي لظهور أحواله المخصوصة به علة لكونه وحيا وسطوع برهانه أي كونه في القوّة والنور المبين غير خفيّ علة لبلوغه حد الإعجاز، ففيه لف ونشر. قوله: (لا أنّ أحداً لا يرتاب فيه إلخ) عطف على معناه أي المعنى هذا لا هذا، وقوله: ألا ترى بتاء الخطاب تأييد للنفي وعبر بما ذكر للدلالة على أنه لغاية وضوحه كالمحسوس الذي يرى وبعض الطلبة يقرؤه بالياء التحتية المضمومة تأدبا، والرواية بخلافه أو عدل عن قوله في الكشاف ما نفى أن أحداً لا
يرتاب فيه وإنما المنفي كونه متعلقاً للريب، ومظنة له لأنه من وضوح الدلالة، وسطوع البرهان، بحيث لا ينبغي لمرتاب أن يقع فيه إلخ. فغير العبارة وقدم وأخر إشارة إلى ما فيه مما لا يرتضيه لأنه كما اتفق عليه شراحه كان الظاهر أن يترك لا من قوله إنّ أحدا لا يرتاب إلخ لثلا يفسد المعنى لأنّ نفي نفي الريب إثبات له، وقد وجه بما لم يصف من الكدر فقيل: لا زإئدة وليس بشيء، وقيل: في نفي ضمير مستتر راجع للريب بقرينة السؤال وقيل: إن قبل أنّ حرف جرّ مفدّر، لأنها مفتوحة رواية ودراية، فكسرها توهم فارغ وتقديره ما نفى الريب بأنّ أحدا، أو لأنّ أحداً، أو على معنى أنّ أحداً لا يرتاب فيه، وردّ بأنّ المنفي حينئذ العلة، والتفسير فلا يقابله قوله وإنما المنفي إلخ. فالواجب أن يقال: وإنما نفي لعلة، أو على معنى آخر، وفيه نظر والأحسن ما قاله المحقق من أنّ في الكلام نقصا نوّه عنه لما أشار إليه بعض الفضلاء من أنّ المقابلة نظرا لمآل المعنى، ومحصله أو هو وارد على خلاف مقتضى الظاهر مثلاً بل المعنى ومثله أكثر من أن يحصر، وقيل: معناه ليست القضية الماتي بها سالبة هي هذه فالنفي بمعنى الإتيان بالخبر سالباً لا بمعنى الإعدام، فتصح المقابلة لا أنّ الكلام في استعمال النفي بهذا المعنى مع أنّ الحكم بزيادة لا أقل تكلفا منه كما قال قدس سرّه: والظاهر أنّ النفي بهذا المعنى في كلام المصنف، وعرف التخاطب غير عزيز، وما ذكره من المقابلة غير مسلم، فإنّ المنفي في قوله: إنما المنفي ليس بذلك المعنى، فلا تصح المقابلة ظاهرا والتكلف في تصحيح الأوّلين أقل من التكلف في هذا، ثم قال قدس سرّه: وفي مبالغته في الحصر بقوله وإنما إلخ إشارة إلى أنه ليس المنفي ههنا إلا كون القرآن محلاً صالحا في نفسه لتعلق الريب به، ومظنة له بل هو لوضوج الدلالة وسطوع البرهان على كونه حقا منزلاً من عند الله بحيث لا ينبغي لأحد أن يرتاب فيه، وهذا معنى صحيح لا يقدح في صدقه ارتياب جميع الناس فضلاً عن ارتياب بعضهم "، وفي اختيار إنما إشعار بأنّ كون المنفي ما ذكره أمر مكشوف، كما تقول بعد تلخيص مسئلة على وجه صواب هذا مما لا شك، ولا شبهة فيه مع تردّد المخاطب فيها تريد أنها يقينية لا يليق بأحد أن يشك فيها(1/186)
وتقول لمن ينكر أمراً لا إنكار فيه أي ليس هو محلاً للإنكار وخليقا به هذا زبدة ما حققه السيد السند وفيه مؤاخذات مفصلة في حواشي المطول لا حاجة لإيرادها هنا، والحق كما قاله بعض الفضلاء أنّ في عبارة الكشاف تعسفا على سائر الوجوه فلذا عدل عنها المصنف رحمه الله، فلفه دره. قوله: ( {وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} [البقرة: 23] ) قيل: إنّ مراد المصنف أنّ وجود الريب وان تحقق إلا أنه منزل منزلة العدم لأنه لا يصدر عن عاقل تدبره، وما يصدر عن غيره لا عبرة به، فكأنه غير موجود رأسا فنفيه عنه نفي لكونه محلاَ له، ومظنة لثبوته والدليل على أنه أراد هذا تأييده ما مرّ بقوله ألا ترى إلخ، فليس حاصل جوابه تخصيصا لنفي الريب، كما توهم بل يثير إلى ما نقل هنا عن بعض الفضلاء من أنّ ما في الكشاف معناه ليس القرآن مظنة للريب، ولا ينبغي أن يرتاب فيه، فقيل
عليه: إنه مثنة لريب المرتابين ومع تحقق المئنة كيف يصح نفي المظنة وقول المصنف لا يرتاب العاقل بعد النظر الصحيح تخصيص لنفي الريب العام، ولو صح هذا ما أشكل على أحد، وقد استشكله مهرة المفسرين، فالأصح أنّ معنى ما في الكشاف أنّ الريب بمعنى جنسه منفي على عمومه، وإن كان المتقي في الحقيقة استحقاق الريب ولياقته به لا هو نفسه، وليس المراد تقدير الاستحقاق فيه، ولا أنّ المنفي وجوده بل تعلقه بالقرآن تعلق الوقوع من غير نظر إلى تعلقه بالمرتاب فضلاَ عن أن يكون المنفي هو التعلق الثاني، وذلك أنّ الارتياب له نسبة إلى الطرفين، وكل ما هو كذلك يجوز أن يكون مناط إيجابه، وسلبه تعلقه بأحد الطرفين ليس إلا كما بين في محله، فإن قلت إنهم قالوا قراءة لا ريب بالفتح نص في الاستغراق لأنّ نفي الجنس مستلزم له قطعا، فكيف يتأتى ادّعاء التخصيص قلت: هذا غير مسلم لما قاله بعض المدققين: من أن الموجبة الجزئية والسالبة الجزئية لا يتناقضان، فيجوز أن ينتفي الجنس في ضمن فرد ويثبت في ضمن فرد آخر، إلا أن يقال المفهوم بحسب العرف من نفي الجنس بلا تقييد نفيه بالكلية، وأيضا لا يظهر الكلام على رأي من جعل اسم الجنس موضوعا بازاء فرد، ومن ههنا تبين لك أنه لا فرق بين كلام الشيخين لمن كان صادق النظر. قوله: (فإنه ما أبعد عنهم الريب إلخ) أي لم يجعل الريب بعيداً عنهم فما نافية لا تعجبية وقد أورد عليه أنّ قوله ما أبعد إلخ لا يناسب ما قبله بل المناسب له أن يقول إنّ إن الشرطية هنا بمعنى إذا إلا أنه قصد توبيخهم على الإرتياب، فصوّر بصورة ما لا يثبت إلا على سبيل الفرض والتردد لوجود ما يقلعه من أصله، أو على من لم يقطع بارتيابه على المرتابين وأيضاً إنّ ظاهر قوله: {وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ} [البقرة: 23] الآية لا يفيد القطع بوجود الريب فلا يلائم قوله: لا أن أحداً لا يرتاب إلخ ليحصل التأييد، فالمناسب أن يؤيد بقوله: {مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ مُّفْتَرًى} [سبأ: 43] ونحوه وأجيب بأنّ القطع بوجود الريب كما أنه ينافي القطع بانتفائه كذلك تجويز الريب ينافي القطع بانتفائه واختيار هذه الآية لوجود لفظ الريب فيها وليس بشيء لمن تدبر السياق، لأنّ المصنف رحمه الله قصد بما ذكر. تنوير أمرين أحدهما إنّ معناه نفي ارتياب العاقل بعد النظر الصحيح. والثاني عدم إرادة نفي الإرتياب مطلقاً بقوله ما أبعد الريب إلخ أي جوّزه بكلمة الشك وان كان تجويزه لا يستلزم نفي إبعاده لجواز أن يجوز أمر بعيد لأنه إنما يتأتى إذا كانت كلمة الشك على حقيقتها، وليس كذلك فإنه عبر هنا بصورة الشك عن ريب محقق قطعاً إشعاراً بأنه ليس في محله لسطوع برهانه، وبقوله بل عرفهم الطريق المزيح إلخ فإنه يفيد نفي الارتياب بعد الإزاحة، فظهر أن لا ريب نفي لجنس الريب، رآلمراد منه نفي الريب الخاص، كما مرّ للعلم بوجود جنس الريب بدليل العقل والنقل، وتعيين هذا المعنى المجازي بسطوع البرهان، فلا وجه لما تكلف من البيان. قوله: (عرّفهم الطريق المزيح الخ) المزيح بضم الميم وكسر الزاي المعجمة والياء المثناة التحتية، ثم حاء مهملة كالمزيل لفظاً ومعنى وضمير له
للريب وهو للطريق، لأنه يذكر ويؤنث أو للمزيج، لأنه ففسر له، والاجتهاد في الأمر أن يأتي به على أبلغ ما في وسعه وطاقته، ومنه الاجتهاد في الأمور الشرعية، والنجم المقدار عنه الذي يحصل به التحدي، والنجوم المقادير المفرقة والقرآن نزل نجوما، ونجم عليه الك ين نجعله نجوماً أي مقادير معينة يقال: نجمت المال إذا وزعته، كأنك فرضت أن تدفع إليه عند طلوع كل نجم نصيبا، - ثم صار(1/187)
متعارفا في تقدير دفعه بأي شيء قدرت ذلك كما قاله الراغب والجهد بالضمّ الطاقة وما يقدرون عليه. وقوله: (أن ليس فيه مجال للشبهة) هذا ناظر لقوله لا يرتاب العاقل بعد النظر الصحيح، وأصل المجال محل الجولان، وهو الحركة في الجوانب، وهو كناية عن نفي الشبهة على أبلغ وجه كما يقال لا محل له. قوله: (وقيل معناه إلخ) هذا معطوف على معناه السابق، وهو جواب آخر عن السؤال السابق في توجيه نفي الريب والمرتابين كما مرّ، وعلى هذا فيه صفة لاسم لا وللمتقين خبر لا، ومرّضه المصنف رحمه الله الما قيل عليه من أنّ المعروف في الظرف الواقع بعد لا أن يكون خبراً لا صفة، والمناسب لمقام المدح نفي الريب مطلقا مع أنه ينبو عن وصل المتقين بالذين إذ المعنى حينئذ لا شك في حقيته للمتقين المصدقين بحقيته، ولا يخفى ما فيه، والظاهر توجه النفي إلى القيد حينئذ فيختل المعنى إذ يلزمه وجود الريب إذا لم يكن هاديا مع تنافي القيد، والمقيد ظاهراً وما قيل: من أنه قيد للنفي لا للمنفي حتى لا يرد ما مرّ لا يدفعه، لأنه إثبات لما هو منشأ الإشكال، ونفي لما لم- يصدر عن صاحب هذا المقال، فإن أريد الرذ على غيره، فلا مشاحة ولا جدال.
(أقول) ما توهمه من أنّ منشأ الإشكال كونه قيدا للنفي ليس بصحيح إنما منشؤه أنه إذا لم
يكن هديا اقتضى ثبوت الريب فيه للمتقين، وهو فاسد لأنّ المتقي لا يرتاب أصلاً، ولذا قيل إنّ الحال على هذا الأزمة، فلا يبقى للإشكال مجال، وأمّا جعله قيدا للنفي، كما في قوله تعالى: {فَمَا أَنتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ} [الطور: 29] وقوله ونجي التلخيص لم أبالغ في اختصاره تقريبا فهو مستقيم لكنه لا يدفع الإشكال، وكونه لا يقول به صاحب هذا المقال دعوى غير مسموعة نعم تمريض المصنف له ظاهر لعدم املاءمته للسياق، وقلة جدواه، فإنّ المتقي لا يتصوّر منه الريب حتى ينفي. قوله: (وهدي حال من الضمير المجرور) نفي الراجع على القرآن والمصدر يقع حالاً مبالغة بجعله عين الهدي أو مؤوّلاً بالتأويل المشهور. وقوله: (والعامل فيه) أي في الحال، لأنها تذكر وتؤثث والمراد بالظرف لفظ فيه لأنّ الظرف يطلق على أسماء الظروف نحو عند وحيث، وعلى الجارّ والمجرور لا سيما وفي الجارّة هنا ظرفية وفيه تسامح لأنه أراد بالظرف متعلقه وهو حاصل أو استقرّ، لأنه هو الصفة والعامل حقيقة في الضمير محلاً فلا يرد عليه أنّ العامل في الحال، وهو متعلق الظرف غير العامل في ذيها، وهو في الجارّة حتى يقال إنه على رأي من لم يثترط إتحاد عاملهما قيل: وهذا هو السرّ في إطناب
المصنف هنا بقوله والعامل إلخ وأما تعلق فيه بريب، فردّ بأنه يكون مطوّلا، فيتعين نصبه على اللغة الفصيحة، وإن وجه بأن المراد أنه معمول لما دلّ عليه الريب لا له نفسه كما في الدرّ المصون. قوله: (والريب في الأصل) أي هذا معناه في أصل اللغة ثم استعمل في الشك والكذب والتهمة، وهو مصدر أيضا لكنه بحسب أصل اللغة مجاز من استعمال المسبب في السبب كما أيثحار إليه بقوله: لأنه يقلق قال أبو زيد: يقال رابني من فلان أمر إذا كنت مستيقنا منه بالريب، فإذا أسأت به الظن ولم تستيقن منه بالريب قلت: أرابني من فلان أمر هو فيه إرابة وقد أبان الفرق بين راب وأراب بشار في قوله:
أخوك الذي إن ربته قال إنما ~ أراب وان عاتبته لان جانبه
والارتياب يجري مجرى الإرابة كما قاله الراغب. وقوله. حصل بتشديد الصاد المهملة
من التحصيل، والريبة بكسر الراء، وقلق النفس أصله عدم السكون والقرار كتقلب المريض على فراشه، والإضطراب بمعناه لأنه افتعال من الضرب ويقابله الإطمئنان، ثم عمّ الحركات الحسية والمعنوية. قوله: (سمي به الشك إلخ (ظاهر قوله سمي أنه حقيقة في معنى الشك ويشهد له ظاهر كلام الأساس وغبره من كتب اللغة إلا أن سياقه. وقوله. (لأنه يقلق إلخ (يأباه، ولذا قال: أرباب الحواشي إنّ المصنف رحمه الله أراد أنه عدل به عن معناه المصدري واستعمل في معنى الشك مجازا بعلاقة السببية بذكر المسبب وإرادة السبب، ولو أريد معناه الأصلي لقيل لا ريب له فسمي هنا بمعنى استعمل وهو كثيراً ما يستعمل بهذا المعنى، وان كان الأكثر أنه بمعنى وضع الاسم العلم أو مطلق الوضع، وقيل عليه: إن القرآن لا يتوهم أن يكون رائباً حتى يقال: لا ريب له بل لو كان مصدراً كان الواجب لا ريب فيه، وهو على كل حال مصدر لأنه تجوّز في فعله أيضاً، وهذا من عدم(1/188)
الوقوف على مراده فإنّ مراده بالمصدر المصدر الحقيقي أي القلق، وهو يتعدّى باللام يقال قلق له وان تعدى الشك بقي، وفيه إشارة إلى أنه مجاز في الأصل صار حقيقة في الاستعمال، وعوف اللغة وظاهر. ترادف الشك والريب إلا أنه قيل عليه أنه ليس كذلك لأنّ الريب شك مع تهمة، ولذا قال الإمام: الريب قريب من الشك وفيه زيادة كأنه ظن سيء وقال الراغب الشك وقوف النفس بين شيئين متقابلين بحيث لا يترجح أحدهما على الآخر بأمارة، والمرية التردد في المتقابلين، وطلب الإمارة مأخوذ من مري الضرع إذا مسحه للدّرّ، فكأنه يحصل مع الشك تردد في طلب ما يقتضي غلبة الظن، والريب أن يتوهم في الشيء أمر مّا ثم ينكشف عما توهم فيه، وقال الحوي: يقال الشك لما استوى فيه الاعتقادان، أو لم يستويا ولكن لم ينته أحدهما لدرجة الظهور الذي تنبني عليه الأمور، والريب لما لم يبلغ درجة اليقين، وان ظهر نوع ظهور ولذا حسن هنا لا ريب فيه للإشارة إلى أنه لا يحصل فيه ريب فضلاً عن شك، وعلى هذا ينبني ما في كتب الأصول من الفرق بين الشك
والظن إلا أنّ المصنفين يفسرون بالأعمّ ونحوه كثيراً من غير مبالاة منهم ومثله تعاريف لفظية مبنية على التسامح. وقوله: (لأنه) أي الشك إشارة للعلاقة والطمأنينة السكون ويقابلها القلق وهو الحركة يقال: اطمأنّ القلب إذا سكن، ولم يقلق والاسم الطمأنينة، وأطمأنّ بالموضع أقام به واتخذه وطنا وقال بعضهم: الأصل في اطمأنّ القلب إذا سكن، ولم يقلق والاسم الطمأنينة، واطمأنّ بالموضع أقام به واتخذه وطنا وقال بعضهم: الأصل في اطمأنّ الألف مثل احمارّ واسوادّ، فهمزوه فرارا من الساكنين وقيل الأصل همزة متقدمة على الميم، فقلب على غير القياس بدليل قولهم طأ من الرجل ظهره إذا حناه، والهمزة يجوز تسهيلها. قوله: (وفي الحديث دع ما يريبك الخ (1)) استشهد به على أنّ الريب له معنى غير الشك، وهو القلق كما مرّ إذ لو اتحدا لكان قوله فإنّ الشك بمنزلة قولك فإنّ الأسد غضنفر، وهو من لغو الحديث وقد قالوا: إنّ هذا الحديث رواه الترمذيّ، والنسائيّ وحسناه، وصححه الحاكم هكذا: دع ما يريبك إلى ما لا يريبك فإنّ الصدق طمأنينة والكذب ريبة) 2 (والمعنى دع ذلك إلى ذلك أي استبدله به أو دع ذلك ذاهباً إلى غيره على التقدير أو التضمين. وقوله: (فإق إلخ) معلل، وممهد لما تقدمه. قيل: والمعنى إذا وجدت نفسك ترتاب في الشيء فاتركه فإنّ نفس المؤمن تطمئن إلى الصدق، وترتاب في الكذب، فارتيابك في الشيء ينبىء عن كونه باطلأ، فاحذره واطمئنانك إلى الشيء يشعر بكونه حقاً فاستمسك به، وهذا خاص بذوي النفوس القدسية الطاهرة من وسخ الطبائع، فظهر أنّ قوله: فإنّ الشك ريبة لا يستقيم رواية ودراية، وردّ بأنهما ممنوعان أمّا الدراية، فلأنّ الشيخين بيناه بما لا مزيد عليه، وأمّا الرواية فإنّ إحدى الروايتين لا تبطل الأخرى وكان عليه أن يبين الأخرى التي ادّعاها فإنّ مثله لا يقال بالتشهي، وقد صحح الحافظ ابن حجر ما في الكتاب بعينه وقال: إنه رواه الطبرانيّ، وروى البيهقي " فإن الشرّ ريبة والخير طمأنينة " (3 (فاستشهد به كما مرّ على أنّ الريبة غير الشك، والاً لم يفد الكلام وبمقابلتها للطمأنيثة علم أنها موضوعة للقلق، فانطبق الاستشهاد على تمام المدعى ويريبك في الحديث روي بضمّ الياء وفتحها والثاني هو المناسب هنا.
(بقي) إنّ الظاهر أنه ليس معنى الحديث ما قاله وتبعه فيه الشرّاح بل معنا. كما قاله
المحدثون خذ ما تيقنت حله وحسنه، واترك ما شككت في حله وحسته، كما ورد في الحديث الصحيح " اتقوا الشبهات فإنّ من حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه " (1) ومما هو صريح في ذلك ما روي أنّ وابصة بن معبد رضي الله عنه قال له رسول الله صلى الله عليه وسلّم: " جئت تسال عن البرّ والإثم ". فقال: نعم فجمع أصابعه فضرب بها صدره وقال له: " استفت نفسك يا وابصة ثلاثاً، البرّ مات اطمأنت إليه النفس، واطمأنّ إليه القلب، والإثم ما حاك في النفس، وتردّد في الصدر، وإن أفتاك الناس وأفتوك) (2) فلا وجه لما زعموه من اختصاصه بالأنفس القدسية فتدبر. قوله: (ومنه ريب الزمان) أي مما نقل من القلق إلى ما هو سببه من الشدائد وفصله بقوله: ومنه والضمير للريب المتجوّز فيه مطلقاً، لأنه ليس بمعنى الشك وإنما شاركه فإنّ أصله القلق فسمي به ما هو سبب له كما قال الهذلي:
أمن المنون وريبه تتوجع
وقال الرازي: إنّ هذا قد يرجع إلى معنى الشك، لأنّ ما يخاف من الحوادث محتمل،
فهو كالمشكوك فيه وكذا ما يختلج بالقلب وفيه نظر، والنوائب جمع نائبة، وهي الحادثة من حوادث(1/189)
الدهر خيراً كانت أو شرّاً كما في حديث مسلم نوائب الحق وقال لبيد:
نوائب من خير وشرّكلاهما شلا الشيم ممدود ولا الشرّ لازب
لكن خصت بما يحدث من الشرّ والمصائب وهو المراد هنا وهو المناسب للقلق. قوله:
(يهديهم إلى الحق) إشارة إلى أنه مصدر في الأصل، والمراد به هنا الهادي بأحد الوجوه المعروفة في أمثاله وعبر بالمضارع إشارة إلى الاستمرار التجدّدي، فإنه وان كان مما يدلّ عليه غير المضارع إلا أنّ اسم الفاعل والمفعول يدلان على ذلك في الجملة. وقوله: (في الأصل) إشارة إلى أنه هنا ليس المراد به ذلك، كما عرفته، وهذا وزن نادر في المصادر لم يرد منه فيما قيل إلاً الهدي والتقى والسري والبكي بالقصر في لغة، وزاد الشاطبيّ لغي بالضمّ في لغة أيضا، ولذا قال كالسري إلخ إشارة إلى أنه ليس من أوزان المصادر المطردة المشهورة، وما قيل من
أنّ كلام سيبويه مضطرب فيه، فمرّة قال: هو عوض من المصدر لأذ فعلاً: لا يكون مصدراً وأخرى يقول هو مصدر هدي يدفع بأنّ مراده أنه اسم مصدر لا مصدر لمخالفته لصيغ المصادر، واسم المصدر مصدر عند اللغويين. قوله:. (ومعناه الدلاله إلخ) اختلف السلف في الهداية فقيل: هي الدلالة على ما يوصل إلى المطلوب وقيل هي الدلالة الموصلة إلى المطلوب، ورجح كثير الأوّل ومنهم المصنف، وقيل: مراده الدلالة بلطف بقرينة ما: قدمه في الفاتحة، وإلا كان بين كلاميه مخالفة مّا وليس بشيء، ونسب، الثاني إلى البعض ونقض بقوله تعالى: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى} [فصدت: 17] والأوّل منقوض بقوله {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} واحتمال التجوز مشترك وللمناقشة في امتناع حمله على هك االمعنى مجال لإمكان أنّ الهداية فيمن لا يهتدي بمعنى الدلالة على ما يوصل أي أنت لا تتمكن من إراءة الطريق، لكل من أحببت، وإنما نحن نمكنك لمن أردنا كقوله {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ} [الأنفال: 17] وما قيل / عليه:. من أنه يأباه ما قاله الجمهور من أنها نزلت في أبي طالب وطلب النبيّ صلى الله عليه وسلم إيمانه عند وفاته،، واعراضه لتعيير قريش، وسؤق الاية إذ لا فائدة يعتد بها حينئذ، والهداية بهذا المعنى أي الدلالة واقعة منه بلا خفاء، والكلام في الإيصال ليس بوارد لأنّ المراد تسليته صلى الله عليه وسلم، فكأنه قيل له ليس لك من الأمر شيء فلا تحزن، ويؤيده التمثيل بقوله وماءرمت ولا يتوهم أنّ للمناقشة في امتناع حمل الأية الأولى على المعنى الثاني أيضا مجالاً بأن يقال: معناها أوصلناهم إلى المطلوب فتركوه، فإنه خلاف الواقع وخلاف ما عليه المفسرون ولفظ الاستحباب مناد على خلافه، ووقاءل الفاضل المحقق: إنها تتعدّى بنفسها وبإلى واللام ومعناها على الأوّل الإيصال وعلى غيره إراءة الطريق، ولذا أسند الأوّل لله، والثاني للنبيّ صلى الله عليه وسلم تارة وللقرآن أخرى نحو {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء: 9] فيندفع النقض وفيه أنه ينتقض حصر إسناد الفتعدي ينفسه إلى الله بقوله: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص: 56] وحصر المتعذي بالحرف في غيره بقوله: {يَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [البقرة: 213] إلا أن يقال إنه أغلبيّ أو مخصوص بالإثبات كما قيل: ولا يخفى ما فيه. وقال الجلال الدواني: إنّ المذكور في كلام الأشاعرة أنّ المختار عندهم هو القببرل الثاني وعند المعتزلة القول الأوّل، والمشهور هو العكس. وقيل: يمكن التوفيق بينهما بأنّ كلام الأشاعرة في المعنى الشرفي المراد في أغلب استعمالات الشارع، والمشهور مبني على المعنى اللغوي أو العرفي ويخدشه أنّ صاحب الكشاف مع تصلبه في الاعتزال اختارا الثاني هنا مع أن الظاهر في القرآن هو المعنى الشريئ فالأظهر التوفيق بعكس ما ذكر وأما عند أهل الحق فالهداية مشتركة بين المعنيين المذكورين وعدم الإهلاك فيندفع ما مرّ كما ذكره بعض مدققي أهل الكلام وفيه تفاصيل أخرى تركناها خوف الملل. وقوله: (إلى البغية) بالموحدة والمعجمة بمعنى
المطلوب، والمقصود ويجوز في بائها الكسر والضمّ قال في المصباح: ولي عند. بغية بالكسر، وهي الحاجة التي تبغيها وضمها لغة. وقيل: بالكسر الهيئة، وبالضمّ الحاجة اهـ. قوله: (لأنه جعل مقابل الضلالة إلخ) هذا شروع في مرجحات الثاني الذي ارتضاه الزمخشريّ، واقتصر عليه والمصنف أخره، ومرّضه مخالفاً له وطوى بعضه لما سيأتي عن قريب وهذا هو الدليل الأوّل على ترجيح الثاني، وحاصله أنه مقابل في القرآن والإستعمال بالضلالة(1/190)
والضلال، ولا شك أنّ عدم الوصول معتبر في مفهوم الضلال، فلو لم يعتبر الوصول في مفهوم الضلال لم يتقابلا، وأورد عليه أنّ المقابل للضلال هو الهدي اللازم الذي بمعنى الاهتداء مجازا، أو اشتراكا وكلامنا في المتعدي، ومقابله الإضلال، ولا استدلال به إذ ربما يفسر بالدلالة على ما لا يوصل لا بجعله ضالاً أي غير واصل وأجيب بأنه لا فرق بين اللازم والمتعدّي في باب المطاوعة إلا بأنّ الأوّل تأثر، والثاني تأثير فإذا اعتبر الوصول في اللازم كان معتبراً في المتعدي أيضاً وحينئذ يكون الضمير في مقابله راجعا إلى اللازم على طريق الاستخدام، وهو فاسد لأنّ التمسك بالمطاوعة وجه مستقل، فذكر المقابلة حينئذ مستدرك، فإنّ اعتبار الوصول في الاهتداء مستغن عن الدليل كذا قاله قدس سرّه، وقيل: عليه اعتبار عدم الوصول في مفهوم الضلال ليس لكونه فقدان المطلوب بل فقدان طريق من شأنه الإيصال إليه، كما صرّح به الثقات، وفي الإضلال لاراءة ضده، فمقتضاه كون معنى الهداية اللازمة وجدان طريق من شأنه الإيصال، ومعنى الهداية المتعدية الدلالة على ذلك الطريق، ولو سلمناه، فاستعمال الهداية في أحد فرديها بقرينة المقابلة والكلام في مطلقها.
وههنا أبحاث:
(الأوّل) أنه إذا فسرت بمطلق الدلالة على ما من شأنه الإيصال أوصل أم لا، وفسر الضلال المقابل لها تقابل الإيجاب والسلب بعدم تلك الدلالة المطلقة لزم منه عدم الوصول لأنّ سلب الدلالة المطلقة سلب للدلالة المقيدة بالموصلة إذ سلب الأعمّ يستلزم سلب الأخص كالحيوان، والإنسان، فليس في هذا التقابل ما يرجح الثاني كما لا يخفى، وقوله: فلو لم يعتبر الوصول لم يقع في حيز القبول.
(الثاني) أنّ قوله لا فرق بين اللازم والمتعدي في باب المطاوعة مبنيّ على أنّ المعنى المصدري أمر نسبي بين الفاعل والمفعول متحد بالذات مختلف بالاعتبار كالتعليم والتعلم، وهو وأن اشتهر مشكل لأنّ الأوّل صفة قائمة بالأستاذ، والثاني صفة قائمة بالتلميذ فيلزم أمّا قيام الصفة الواحدة بمحلين متغايرين أو اتحاد، وصفين ونسبتين متغايرتين وكلاهما ظاهر الفساد وقد أجاب عنه بعض الفضلاء بأنّ معنى كونهما واحداً أنّ في المتعلم حالة مخصوصة يسمى قبولها تعلماً، وتحصيلها له تعليما ولا استحالة في قيام صفة واحدة بالذات بمحل يكون لمباينة
معها تعلق التحصيل والتأثير كما هو الواقع في جميع تاء المطاوعة، ولم يريدوا أنّ النسبتين واحدة لأنهما بالضرورة متغايرتان، ففي كل طرف غير ما في الطرف الآخر، ولكن متعلقهما صفة واحدة قائمة بطرف واحد فلا يرد عليه شيء.
(الثالث) إنّ القول بفساد الجواب لاستدراك المقابلة، ولأنّ التمسك بالمطاوعة وجه مستقل مدفوع بأنهما متغايران بالإعتبار، فإنّ مقابلة الضلال المعتبر فيه عدم الوصول تدل على اعتبار الوصول في الهدي أخذاً من مقابله وضده:
وبضدها تتبين الأشياء
والمطاوعة الدالة على الوصول تدلّ على اعتباره فيه باعتبار أنه لازم له لا ينفك عنه، فالفرق مثل الصبح ظاهر. قوله: (ولأنه لا يقال مهديّ إلخ) وفي الكشاف: ويقال: مهديّ في موضع المدح كمهتد، ولا يمدح إلا بالوصول إلى الكمال، واعترض بأنّ التمكن من الوصول أيضا فضيلة يصح أن يمدح بها، وبانّ المهدي فيما ذكر أريد به المنتفع بالهدي مجازاً، ودفع الأوّل بأنّ التمكن مع عدم الوصول نقيصة يذمّ بها كما قيل:
ولم أر في عيوب الناس عيبا كنقصالقادرين على التمام
والثاني بأنّ الأصل في الإطلاق الحقيقة، كما حققه قدس سرّه، والمراد بقول الزمخشريّ
في موضع المدح أنها صفة مادحة وضعاً، وإنما يتمدح بها بهذا المعنى فلا يرد عليه أنّ مقام المدح قرينة لذلك، وانّ المصنف لدّلك عدل عنه، فبين كلاميهما مخالفة، وقيل: عليه إنّ التمكن مع عدم الوصول ليس بنقيصة لمن هو بصدده مجد في بلوغه، وكون الأصل في الإطلاق الحقيقيّ إنما يفيد إذا اسنعمل بلا قرينة والمدح قرينة، وقد مرّ ما يعارضه من الآيات، وما قيل من أنه مجاز عن إفاضة أسباب الاهتداء، وازاحة العلل ردّ بأنّ الأصل الحقيقة، ولولا قرينة الضدح والمقابلة لم يتبادر منه إلا مطلق الدلالة وعليه أكثر أئمة اللغة والتفسير ولا يضرّ. مخالفة الزمخشريّ، فلذا أخره ومرّضه، وكون المهدي لا يستعمل إلا بمعنى المهتدي غير مسفم عندهم.
(بقي هنا دليل) تركه المصنف، وهو إن اهتدى مطاوع هدي، والمطاوعة حصول الأثر
في المفعول(1/191)
بسبب تعلق الفعل المتعدي به، فلا يكون المتعدي مخالفاً لأصله إلا في الأثر والتاثر كما مرّ، فلو لم يكن في الهدي إيصال لم يكن في الاهتداء وصول، ونقض بنحو أمرته فلم يأتمر وعلمته فلم يتعلم، وردّ بأنّ حقيقة الائتمار صيرورته مأموراً، وهو بهذا المعنى مطاوع للأمر ثم اسنعمل في الامتثال مجازا وشاع حتى صار حقيقة عرفية وليس مطاوعا بهذا المعنى، وان ترتب عليه في الجملة على صورة المطاوعة وأمّا نحو علمته فلم يرد به حقيقته أعني حصلت فيه العلم بل المعنى المجازيّ وهو وجهت إليه ما قد يفضي إلى العلم وليس التعلم
مطاوعاً إلا لمعناه الحقيقيّ، فلا حاجة إلى ما قيل: من أنّ المتأثران كان مختار ألم يجب أن يوافق المطاوع أصله والاً وجب نعم كثر في المختار استعمال الأصل في معناه المجازيّ، ولهم في هذه المسئلة أقوال لا يلزم من وجود الفعل وجود مطاوعه مطلقاً يلزم مطلقاً التفصيل بين المختار وغيره، وارتضاه السبكيّ واستشهد لوجوده بدون المطاوع بقوله تعالى: {وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفًا} [الإسراء: 59] وبقوله: {وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْيَانًا} [الإسراء: 60] لوجود التخويف بدون الخوف وأنه يقال علمته فما تعلم، ولا يقال كسرته فما انكسر، والفرق بينهما مفصل في كتاب عروس الأفراح، والمصنف رحمه الله لم يلتفت لهذا الدليل إمّا لأنّ مذهبه تخلف فعل المطاوعة، أو لأنه مختلف فيه، أو لأنّ الدليل الأوّل، وهو مقابلته بالضلال مبنيّ على المطاوعة، فالأدلة ثلاثة وهي عند التحقيق اثنان كما قيل، وأعلم أنهم اختلفوا في الهداية هل هي حقيقة في الدلالة المطلقة مجاز في غيرها أو العكس، أو هي مشتركة بينهما، أو موضوعة لقدر مشترك ذهب إلى كل طائفة، والمصنف رحمه الله اختار الأوّل إلا أنّ فيه بحثاً لأنه فسر الهداية بما يخالف ما هنا بحسب الظاهر، ونوّعها إلى أنواع رابعها كشف الأمور بوحي ونحوه، مما يختص بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام والأولياء، وهي دلالة موصلة بغير شك، والجواب عنه ظاهر لمن تدبر. قوله: (واختصاصه بالمتقين إلخ) قيل: إن أراد بالمتقين المتقين عن الشرك وجعل الذين ابتداء كلام فقصر الاهتداء ظاهر، وان أراد الكاملين في التقوى، والموصول موصول بالمتقين، فالقصر باعتبار كمال الاهتداء، وهذا جواب عن سؤال مقدّر تقديره ظاهر على الوجهين، لأنّ الهدي سواء كان مطلق الدلالة، أو الموصلى منها حاصل بل غير خاص بالمتقي إن أريد المتقي غير الكامل، أو الكامل نعم هو على الأوّل أظهر، فمن قدره بقوله لم خص الهدى بالمتقين مع أنه الدلالة وهي عامة، وقال: صرح به الإمام قصر في فهم المرام، والمراد بالاختصاص في كلام المصنف وحمه الله تعالى التخصيص الذكري الواقع في النظم المستفاد من اللام كالانتفاع في قوله: المنتفعون لأنّ اللام للانتفاع، وعلى للمضرّة في نحو دعا له، وعليه لأنّ هذه اللام زائدة للتقوية، والقول بأنها تفيده في الجملة تكلف لا حاجة إليه مع أنّ مدلول اللام ليس الاختصاص بمعنى الحصر كما حقق في محله، والحاصل أنّ هنا أمرين يختلجان في الصدر إذا سمع النظم الكريم.
الأوّل أنّ المتقي مهتد فما فائدة جعله هدي له وهو تحصيل الحاصل.
الثاني أنّ هداية القرآن عامة للناس، فلم خصت بهؤلاء.
واذا فسرت بالدلالة الموصلة، ورد محذور آخر وهو المهتدي لمقصوده دلالته على ما يوصله إليه لغو، والعلامة اقتصر في الكشاف على دفع الأوّل وقال: هو كقولك للعزيز المكرّم أعزك الله، وكرمك تريد طلب الزيادة إلى ما هو ثابت فيه، واستدامته كقوله {اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ} [صررة الفاتحة: 6] ووجه آخر، وهو أنه سماهم عند مشارفتهم لاكتساء لباس التقوى متقين كقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من قتل قتيلاَ فله سلبه "، ولم يقل الضالين لأنهم فريقان فريق علم بقاؤه على ضلاله ولا يهتدي وما ليس كذلك حق التعبير عنه الصائرين إلى التقوى، فاختصر ليكون سلما لتصدير أولى الزهراوين التي هي سنام القرآن بذكر المرتضى من عباده، وقال قدس سرّه: لا بد من أحد أمرين إمّا أن يراد بالهدي زيادة الهدي إلى مطالب أخر غير حاصلة والتثبيت على ما كان حاصلاَ، كما في اهدنا أو يراد بالمتقين المشارفون للتقوى والأوّل مختاره فإن قلت قد ثبت أنّ الهدي في التثبيت مجاز قطعاً، وفي الزيادة إمّا مجاز، أو حقيقة فكيف جمع بينهما قلت أراد أنّ اللفظ مستعمل في الزيادة فقط والتثبيت لازم له تبعا لا يقال تأويل نحو أعزك الله لازم لأنه طلب مختص بالاستقبال، فلو لم يؤول كان تحصيل الحاصل بخلاف(1/192)
{هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} إذ يجوز أن يكون معناه هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ المهديين بذلك الهدى، كما في السلاج عصمة للمعتصم أي سبب لها إذ لم يفهم منه أن هناك عصمة أخرى مغايرة لما كان معتصماً به، لأنا نقول إذا عبرت عن شيء بما فيه معنى الوصفية، وعلقت به معنى مصدرياً مطلقا فهم منه في عرف اللغة أن ذلك الشيء موصوف بتلك الصفة حال تعلق ذلك المعنى به لا بسببه، فإذا قلت ضربت مضروباً فهم منه أنه موصوف بالمضروبية بضرب آخر حال تعلق ضربك به لا بسبب ضربك إياه، فأخذت مضروبيته على أنها صفة مقزرة له وان لم يضرب، فإذا أردت أنه مضروب بضربك هذا كان مخالفاً للظاهر مجازاً باعتبار الأوّل، فقولك هدي لزيد أو للضالّ واضلال لبكر، أو للمهتدي جار على ظاهره بخلاف هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ واضلالى للضالّ، وحديث العصمة لا يجدي إذ لم يرد معناها المصدري المتضمن للحدوث بل الحاصل بالمصدر، وهو معنى مستقرّ ثابت يضاف للمعتصم فإن أريد المعنى المصدري احتيج لأحد التأويلين، وما يتوهم من أنّ متعلقات الأفعال، وأطراف النسب حقها على الإطلاق أن يعبر عنها بما يستحق التعبير به حال التعفق والنسبة لا حال الحكم بالنسبة حتى لو خولف ذلك كان مجازاً منظوراً فيه، لأنّ قولك عصرت هذا الخل في السنة الماضية مشيراً إلى خل بين يديك لا مجاز فيه مع أنه لم يكن خلاَ زمان العصر، وقولك سأشرب هذا الخل مشيراً إلى عصير عندك مجاز باعتبار المآل، وان كان خلاَ حال الشرب، فالواجب في ذلك كما قال قدّس سرّه أن ترجع إلى وضمع الكلام، وطريقته فإنه كثيراً ما يعتبر زمان النسبة، كما في الأمثلة المتقدّمة، وربما يعتبر زمان إثباتها كما في هذين المثالين، ثم المجاز باعتبار المآل قد يكون بطريق المشارفة، كما في " من قتل قتيلآ " فإنه قتيل حقيقة عقيب تعلق القتل به بلا تراخ كما في تمريض المريض، وقد يكون بطريق الصيرورة مجرّدة عن المشارفة، كما في قوله: {وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا} [سورة نوح: 27] فإنّ الإتصاف بالفجور والكفر متراخ عن الولادة.
(أقول) اختلف أهل العربية، والأصول في الوصف المشتق هل هو حقيقة في الحال، أو الاستقبال، وهل المراد زمان النسبة، أو التكلم من غير واسطة بينهما وما ذكره هنا مخالف للفريقين، والذي عليه المحققون أنه زمان النسبة، فما ذكر. الشارح الفاضل هنا وفي التلويح موافق لما قاله الجمهور، وهو الذي ارتضاه في الكشف، ويرد على ما ادّعاه من أنّ تعلق المعنى المصدري يقتضي- كون اتصافه بالمعنى الوصفي مقرّر مستحقاً له قبل التعلّق أنّ اسم الفاعل نحو السلاج عصمة للمعتصم يكون حقيقة في الماضي، وهو مرجوح، فإن قلت إنه لو لم يكن كذلك يكون لغوا من الكلام إذ لا مفاد لإثبات القتل لمقتول به في من قتل قتيلاً. وما ضاهاه، وهو الداعي لارتكاب ما ارتكبه كما أشار إليه قلت: نعم لو صدر من غير بليغ قصد ظاهره كان كما زعمت أنا إذا قصد أنّ القتل المتصف به صادر عن هذا الفاعل دون غيره فكأنه قيل لم يشاركه في قتله غيره، فسلبه له دون غيره، كما يشير إليه تقدّم له كان كلاما بليغا يفيد الحصر بقرينة عقلية فمعنى المال غنى للغنيّ، لا غنى له إلا بالمال، وكذا إذا قلت الذليل من أذثه الله، فالمعنى هنا لا هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ إلا بكتاب الله المتلألىء نور هدأيته، وإذا وعيت هذا عرفت أنّ الحق مع الفاضلين السعد، وصاحب الكشف، ولا خلاف بينهما إلا في أنّ من قتل قتيلاً حقيقة أم لا، وقد ذهب إلى أنّ الحق هو الأوّل الكرماني والسبكي حتى خطآ من قال: إنه مجاز وأمّا الشبهة الموردة بنحو عصرت هذا الخل، فليست بواردة ولذا قال بعض المدققين بعدما ساق كلام السيد: السند إذا وجد اسم الإشارة مثل أن يقول عصرت هذا الخل، أو هذا المتصف بالخمرية، أو الخلية فالمعتبر زمان الإشارة لا زمان الحكم السابق، فإن صح إطلاق الخل على المشار إليه، وا-لصافه بالخلية مثلاً في زمان الإشارة مع قطع النظر عن الحكم السابق كان حقيقة ولا فمجاز، والحاصل أنه إذا علق حكم على اسم الإشارة الموصوف بما مرّ ففي الحقيقة هنا تعليقان تعليق الحكم السابق بذات المشار إليه وتعليق الإشارة به فالمعتبر زمان الإشارة لا زمان الحكم السابق، وهكذا ينبغي أن يفهم هذا المقام المشتبه على كثير من الأقوام ولذا بسطنا الكلام فيه لأنه يحتاج إليه في مواضع مهمة ستراها في محلها إن شاء الله تعالى، فما نحن فيه غير محتاج للتأويل وليس من المجاز إذ المتقي مهتد بهذا الهدي حقيقة، وهذا ما جنح إليه المصنف رحمه الله ودفع(1/193)
السؤال بوجهين الأوّل أنّ الهداية بمعنى مطلق الدلالة والإرشاد، وان عمت جميع الناس كما صرّح به في قوله تعالى: {هُدًى لِّلنَّاسِ} [البقرة: 85 ا] لكن غيرهم لما لم ينتفع بها كانت هدايتهم كالعدم، فلذا أضرب عنهم صفحا لتنزيلهم منزلة الجماد.
وأعلم أنّ الهداية على مراتب أربعة مرّت في الفاتحة، والتقوى أيضا على مراتب ثلاثة توقي الشرك، وتجنب المعاصي، واجتناب ما عاق عن الحق، وإذا ضربت أنواع الهداية في التقوى فهي اثنا عشر إلا أنّ الهداية بالمعنى الأوّل لا دخل للكتاب فيها، والرابعة وان كانت
تتصوّر فيه لو أريدت، فالمراد بالمتقين الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وهو صحيح ويراد حينئذ من التقوى المرتبة الثالثة، لكنه غير مناسب ومنه يعلم أنّ التقوى بالمعنى الثالث غير مرادة، فبقي من الهداية قسمان نصب مطلق الدلائل، أو السمعي منها وهما يحصلان بالقرآن ومن الهداية قسمان تجنب الشرك وتجنب الآثام، فالصور الباقية أربع، وكلام المصنف رحمه الله في هذا الوجه محتمل لها والمعنى لا ينتفع بالدلائل مطلقاً، أو الدلائل القرآنية إلا المسلمون، أو إلا المجتنبون للمعاصي لعلمهم بما ظهر منها، والأولى أوفق بكلامه، ولا مجاز في النظم على هذا كما توهم. قوله: (بنصبه) قيل هو بضمتين كل ما جعل علامة كما في القاموس، وليس جمعاً هنا وان كان في غير هذا المحل يكون جمعاً لنصاب بمعنى الأصل، وقيل: إنه بفتح النون وسكون الصاد المهملة والباء الموحدة مصدر والمعنى نصب الله تعالى إياه دليلاَ على ذلك لهم دون غيرهم، وفي بعض النسخ بنصه على أنه واحد النصوص، وعليه اقصر بعض أرباب الحواشي، وقال في تفسيره: أي بنص من نصوصه وآية من آياته وليس هذا بتحريف كما قيل، فإنه أقرب مما فالوه نعم هو المناسب للمقام كما سيأتي، وهو الحامل للقائل على ادعاء تحريفه قيل: وهنا نكتة لأنه يؤخذ من قوله {هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} وقوله: {هُدًى لِّلنَّاسِ} [البقرة: 185] أنّ المتقين هم الناس كما قال:
وما الناس إلا أنتمو لا سواكمو
(وههنا بحث) وهو أنه إذا حكم على الوصف بضده وما يقتضي زوال معناه سواء كان
ذلك حمليا كبلغ اليتيم، أو شرطيا كأعط اليتيم ما له إذا بلغ وإذا شفي المريض عرف قيمة العافية، فالوصف ليس متصفاً بمعناه حال تعفق ذلك الحكم به، فهل هو حقيقة أو مجاز، والظاهر أنه حقيقة إمّا لأن اتصافه بمعناه لما لاصق الاتصاف بضده، وقرب منه كان زمانهما في حكم زمان واحد، فيراد اتصافه في زمان الحكم حقيقة أو حكماً، أو لأنه يعتبر الزمانان المتلاصقان زماناً واحداً ممتداً تصف بهما على التعاقب فيه فالحقيقة بالنظر إلى أوّله، والحكم ناظر إلى جزئه الأخير، والظاهر أنّ هذا لا محيد عنه، كما سيأتي في أوّل سورة النساء في {آتُواْ الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 2] حيث جعله المصنف رحمه الله حقيقة بالنظر إلى أصل اللغة، أو بتقدير إذا بلغوا وهو لا يخالف ما في التلويح كما قيل لأنّ كلام المصنف مبنيّ على تقدير الشرط بقرينة الآية الأخرى {فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا} [النساء: 6، وما في التلويح مبنيّ على إرادة معنى ذلك من غير تصمريح، ولا تقدير. وقوله: (وإن كانت دلالته عامة) أي على المختار عنده، وكذا قوله وبهذا الإعتبار، فلا منافاة بين قوله هنا {هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} وقوله في أخرى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ} [البقرة: 85 ا] فلا حاجة لتخصيص الناس فيه. قوله: (أو لآنه لا ينتفع بالتأمّل فيه إلخ) التأمّل
بمعنى التدبر والتفكر كما في كتب اللغة يقال: تأمّلته إذا تدبرته، وفي المصباح هو إعادتك النظر فيه مرة بعد أخرى حتى تعرفه اهـ. فكان معرفته مما تؤمله وترجوه، وصقل بالتخفيف بمعنى جلا من صقل السيف والمرآة، وقد يكون في غيره كالثوب والورق فشبه العقل بالمرآة وجعل النظر والفكر مرارا بمنزلة صقله وهو ظاهر، وضمير لأنه راجع للكتاب والتأمّل النظر الصحيح في معانيه فإنه دليل إذ به الإرشاد، ويمكن التوصل بصحيح النظر فيه إلى المطلوب، واستعمله بمعنى أعمله فيما ذكر والضمير للعقل. وقوله ة (في تدبر الآيات) التدبر أصله النظر في أدبار الأمور وعواقبها، والآيات هنا العلامات، والأدلة الدالة على وجود الصانع ووحدانيته، واتصافه بصفات الكمال، وتنزهه عن سمات النقصان كما قال:
وفي كل شيء له آية ~ تدل على أنه الواحد
ولا يصح حملها هنا على آيات القرآن لمن تدبر. وقوله: (والنظر في المعجزات) أي معجزات النبيّ صلّى الله عليه وسلم وتعرّف النبوّات بالأدلة الدالة على ثبوتها، وثبوت ما لا بد منه للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم ليصدق به، وثبوته(1/194)
بالأدلة العقلية المثبتة لها وقد أجاب المصنف رحمه الله عما أورد على تخصيص الهدى بالمتقين بوجهين استصعب الناظرون فيه الفرق بينهما حتى قيل: إنّ هذا الجواب الثاني هو الأوّل بعينه لأنّ معنى صقل العقل صونه عن طوارق الثبه، وصد الآراء الفاسدة، وتجريده عن انتقاش الصور الباطلة الشاغلة له عن ارتسام الصور الحقة، وهو عين التقوى فلا يحسن عطفه عليه بأو، إلا أن يقال هذا بحسب التقوى في القوّة النظرية، والأوّل بحسبها في القوّة العقلية، فعطف بأو نظرا للقوّتين، وقريب منه ما قيل حاصل الأوّل اختصاصهم بهداه بسبب اختصاصهم بالعمل به، والثاني بحسب معرفة معانيه وإسراره لأنّ غير المتقي لا يصقل عقله باستعماله في تدبر آياته المفضي إلى المعرفة (وقد أعملت بريد النظر هنا) ووقفت على ما في الحواشي، فرأيته دائرا بين أمرين الخطأ في فهم كلام المصنف، كالذي ذكر آنفا والتدليس بالإجمال الغير المفيد مثل ما قيل: إن الفرق بين الوجهين أنّ محصل الأوّل إنّ دلالة الكتاب، وان عمت المتقي وغيره والمسلم والكافر إلا أنّ دلالته نزلت منزلة العدم بالنسبة لمن لم ينتفع بها، والثاني أنّ دلالته عامّة لكل ناظر وإنما يكون حجة بالنسبة للمسلم المصدق بوحدانية الباري وصفاته، وبالرسالة وحقوقها، وهذا إنما يكون لمن صقل عقله عما يمنعه عن الوصول للحق، واستعمله في التفكر فيه وفي دلائله، فلا يكون هدى إلا للمتقي عن الكفر وما يؤدّي إليه (وإن أردت تحقيق هذا المقام) فاعلم أنّ المصنف رحمه الله اقتدى بالإمام حيث قال القرآن كما هو هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ ودلالة لهم على وجود الصانع وعلى دينه وعلى صدق رسوله صلّى الله عليه وسلّم فهو أيضا دلالة للكافرين إلا أنه تعالى ذكر المتقين مدحا ليبين أنهم الذين اهتدوا وانتفعوا به كما قال: {إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا} [النازعات: 45] مع عموم إنذاره ومن فسر الهداية بالدلالة الموصلة فالسؤال زائل عته لأنّ
إيصال القرآن ليس إلا للمتقين ثم قال كل ما يتوفف صحة كون القرآن حجة على صحته لا يكون القرآن هدى فيه كمعرقة ذات الله وصفاته ومعرفة النبوّة فليس من شرط كونه هدى أن يكون هدى في كل شيء بل يكفي فيه أن يكون هدى في بعض الأشياء كتعريف الشرائع، أو يكون هدى في تأكيد ما في العقول وهذا أقوى دليل على أنّ المطلق لا يقتضي العموم، فإنه تعالى وصفه بكونه هدى من غير تقييد لفظاً مع استحالة أن يكون هدى في إثبات الصانع وصفاته، وإثبات النبوّة فثبت أنّ المطلق لا يفيد العموم اهـ ومنه أخذ المصنف رحمه الله ما هنا برمّته، فمعنى الجواب الأوّل أنّ الهداية مطلق الدلالة، وهي لا تختص بالمتقين وإنما خصوا بالذكر، لأنهم أكمل الأفراد وأشرفهم إذ هم المنتفعون بالدلالة وثمرة الإيصال لا أنها مختصة بهم فهي هنا على الحقيقة وكذا التقوى حقيقة في المرتبة الثانية ومعنى الثاني أنّ المراد بهداية " القرآن أيضا دلالته حقيقة، والتقوى حقيقة بمعنى التبري عن الشرك في المرتبة الأولى، ودلالة القرآن أي كونه دليلاً على ما فيه لا يكون إلا بعد الإيمان بالله ورسله وبما جاؤا به عليهم الصلاة والسلام بناء على ما ذهب إليه الماتريدية وبعض الأشعرية من أنّ ثبوت الشرع موقوف على الإيمان بوجود الباري وعلمه وقدرته، وكلامه وعلى التصديق بنبوّة النبيّ صلى الله عليه وسلم بدلالة معجزاته، ولو توقف شيء من هذه الأحكام على الشرع لزم الدور كما قرّر في الأصلين، فدّكر المتقين على المعنى الثاني لأنّ دلالة القرآن موقوفة على التقوى بهذا المعنى، لأنها إنما تثبت بالعقل على المشهور، والانتفاع المذكور في كلام المصنف أوّلاً الانتفاع بالهداية، وهو الاهتداء والانتفاع الثاني الانتفاع بالقرآن، وما فيه من الدلالة بعد وجود ما يتوقف عليه من التصديق، وهم توهموا الانتفاعين بمعنى فخبطوا خبط عشواء فلذا عطفه بأو وأخره لأنه خلاف المشهور عن الأشاعرة كما سيأتي، وبهذا ظهر أنّ ما قيل: إن المعنى أنه مرشد للمؤمنين منتفعون به في تحصيل سائر مراتب التقوى ليس له وجه فظهر وجه التخصيص وعلم فائدة التعلق كما مرّ، ويتبين بطلان ما قيل أنّ تقرير الثاني أنّ المراد به التثبت على ما كان حاصلاً من التقوى فيختصى بهم، ولا يتخطاهم وانّ الحاصل أنّ الهدى حقيقة على الجواب الأوّل، ومجاز على الجواب الثاني ولا حاصل له ولا طائل وقيل: إنّ الثاني فيه المتقي مجاز بمعنى العاقل المتدبر المشارف لها لأنها جلاء عقله عن صد الغفلة، والفساد فانطبع فيها الأدلة(1/195)
السمعية وقيل حاصل الأوّل إن اختصاصه بالمتقين لاختصاصهم بالاهتداء والانتفاع بالقرآن، وحاصل الثاني أن الاختصاص بهم، لأجل أن العلم بأسرار الآيات ودقائقها والاستدلال على صفات الصانع وآثاره كما ينبغي يختص بالمتقين وقد عرفت حقيقة الحال المغنية عن القيل والقال. قوله: (لأنه كالفذاء إلخ) كما قال أبقراط: البدن الغير التقيّ، كلما غذوته إنما تزيده شرّا ومنه أخذ المتنبي قوله:
إذا أنت أكرمت الكريم ملكته وان أنت أكرمت اللئيم تمزدا
ولم يقل- كالدواء س لأنّ الغذاء الحافظ للصحة دواء أيضا، ويزيد عليه أنه يلزم دائماً، كالهداية بخلاف الدواء، فإنه يكون أحياناً للضرورة، فلا يقال الظاهر أن يقول دواء ليطابق ذكر الشفاء في الآية، وسمي شفاء لأنه يشفي من مرض الجهل والعلم يسمى حياة وشفاء، وليس المراد أنه يستشفى به في الرقى، كما توهم فالكتاب لا يجلب نفعا ما لم يكن الإيمان بالله ورسله حاصلاً. قوله: (قوله كمالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء} الآية [الإسراء: 82] ) من بيانية مبينة لما لجوار تقدمها على المبين على ما بين في النحو لا تبعيضية على أنّ المعنى أن منه ما يستشفى به كالفاتحة، وآيات الشفاء، لأنه غير مناسب للسياق إذ المراد أنه شفاء من مرض الجهل والضلال في الدنيا، كما هو رحمة في الآخرة أو في الدارين، وخص الشفاء بالمؤمنين، كما خص الهدى بالمتقين هنا والمراد بالظالمين الكفرة لقوله: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13] ، والخسار لتكذيبهم به، وعدم قبولهم لما جاء به كالمريض الذي لا يفيده العلاج وربما كان الدواء زيادة في الداء. قيل فالوجه الثاني هو المختار إذ علنى الأوّل لا يحسن جعل الذينء يؤمنون صفة، ولا مخصوصا بالمدح رفعا ونصباً، ولا استئنافا لأنّ الضالين الصائرين إلى التقوى ليسوا متصفين بشيء مما ذكر وحمل الكلي على الاستقبال، والمشارفة يأباه سياق الكلام وفيه نظر. قوله: (ولا يقدح ما فيه إلخ) القدح الطعن من قدح الزناد، وهو ضرب بعضه ببعض والمراد به الاعتراض، وهذا جواب عن سؤال تقديره جميف يكون الكتاب هدى ودالاً، وفيه ما لا يفهم من المجمل والمتشابه، كما قاله الإمام وأجاب عنه بما ذكره المصنف، وهو على مذهب الشافعية القائلين بأنّ المتشابه يعلمه غير الله من الراسخين في العلم، كما سيأتي نن سورة آل عمران، وأمّا عند غيرهم، فينبغي أن يقال: إنه لا يستليزم كونه هدى هدايته باعتبار كل جزء منه، وإنما ذكر فيه ذلك ابتلاء لذوي الألباب بما لا تصل إليه العقول، ولما لم يخل عند المصنف من مبين يعين المراد منه كان بعد التبيين فيه هدى ودلالة، وتوقف هدايته على شيء لا يضر فيها، كما أنه على رأي متوقف على تقدم الإيمان بالله ورسله، ومن هنا عرف وجه تأخير ما هنا لتوقفه على ما قبله وارتباطه به، والمعين العقل أو السمع كما صرّحوا به، فسقط ما قيل إذا بين ذلك المراد منه لم يكن هدى في نفسه، وإنما يكون كذلك لو أفاد ابتداء ما يفيده الكتاب. وقوله: (لما لم إلخ) بكسر اللام الجارّة وتخفيف الميم من ما المصدرية أي لعدم انفكاكه إلخ ويجوز فتح اللام مع تشديد الميم إلا أنّ قوله لا يقدح ينبو عنه في الجصلة. قوله: (والمتقي إلخ (أي هو اسم فاعل اتقى مطاوع وقي أبدلت واوه تاء على القاعدة المعروفة، وما ذكر مذهب الزمخشرفي، وخالفه في لباب التفاسير والدرّ المصون، وهو ظاهر كلام أهل اللغة لأنّ الافتعال " له معان: منها الإيجاد قالوا ومنه
اتقى، وقد بين معناه لغة وشرعا، وذكر له مراتب وأراد بالشرك مطلق الكفر، وهو شائع فيه حتى صار كأنه حقيقة، فلا يقال حقه أن يبدل الثرك بالكفر، ولا إلى الجواب بأنّ المراد هذا وما في حكمه مما يوجب العذاب المخلد من وجوه الكفر. وقوله: (والوقاية إلخ) مثلث الواو والفرط بفتح الفاء وسكون الراء المهملة والطاء المهملة بمعنى الزيادة والمبالغة لأنه يكون بمعنى مجاوزة الحدّ كما في القاموس وفيما قاله شيء، لأن المذكور في كتب اللغة تفسيرها بالحفظ والصيانة، وما ذكره من الزيادة زيادة كأنه أخذها من المادّة وما قاله بعض الفضلاء من أن ما ذكر. المصنف لا يوجد في شيء من كتب اللغة المشهورة لا وجه له. وقوله: (في عرف الشرع) أي نقلت لصيانة مخصوصة لها مراتب والمعنى اللغوي شامل لها كما لا يخفى، وإن لم يكن ذلك لازماً. وقوله: (بقي نفسه) في بعض النسخ يتقي عما إلخ بالتاء، وبإسقاط لفظ نفسه وما ذكره بيان للمتقي، ويعلم منه التقوى. قوله: (1 لتجنب عن كل ما يؤثم) التجنب الترك(1/196)
والاحتراز، وأصل معناه الأخذ في جانب غير الجانب الذي هو فيه ويؤثم تفعيل من الإثم أي يوجب استحقاق الإثم أو يوقع فيه. وقوله: (من فعل أو ترك) لأنّ ما به حصول الإثم عام يتناولهما معاً، ولذا قيل إنّ حق العبارة وترك بالعطف بالواو وترك أو، وقد أجيب عنه بأنه مطلق مفسر بأحدهما لكنه وقع بعد ما يتضمن النفي فيفيد الإستغراق كأنه قيل: لا يفعل ما يؤثم من فعل أو ترك أي لا يفعل واحدا منهما كما في قوله: {وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا} [الإنسان: 24] وسيأتي تحقيقه إن شاء الله تعالى في محله، والمراد بكلمة التقوى في قوله تعالى: {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى} [الفتح: 26] كلمة التوحيد، وهي لا إله إلاً الله، وسيأتي بيانها، وكون التقوى فيها بمعنى الإيمان ظاهر. قوله: (حتى الصغائر) في كون اجتناب الصغائر مشثروطاً في وجود التقوى وتحققها قولان فإذا لم يجتنبها هل يقال له متق أم لا، والكلام فيما إذا لم يصرّ عليها وتغلب على حسناته، كما ذكره الفقهاء في كتاب الشهادة، وقالوا: إنه حينئذ تسقط العدالة، وقيل: إنّ هدّا الاختلاف مبني على أن ما يستحق العقوبة بسببه هل يتناول الصغائر أم لا، فمن ذهب إلى تناولها قال احتياجها للتكفير دلّ على أنها سبب لاستحقاق العقوبة، ومن اختار عدمه تمسك بأنها وقعت مكفرة فلم يظهر للاستحقاق بها أثر، فكأنه لا استحقاق فلا تندرج فيما يستحق به العقوبة عند الإطلاق، وقيل: إن فرط الصيانة مقتض لاجتناب الصغائر وكذا حديث: " لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى ياع ما لا بأس به حذرا مما به باس) (1) إن صح وفي كلام المصنف رحمه الله تعالى إشارة إلى أنّ المختار أنّ
اجتنابها غير معتبر في مفهوم التقوى لا لما مرّ قبيله فإنه رأي المعتزلة بل لأنها لا تنافي التقوى ومرتكبها لا يخرج عن زمرة المتقين والاً لخرج الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لعدم عصمتهم عنها عند الجمهور ولأنه قلما يخلو عنها أحد متق والحديث محمول على أكمل المراتب، وهي المرتبة الثالثة، وما زعمه من أنه مذهب المعتزلة ليس كذلك فإنه عليه كثير من المحدثين، وأهل السنة، ولا وجه لتردّده في صحة الحديث مع رواية الترمذي له، وورود ما يعضده مما هو بمعناه في الأحاديث الصحيحة. وقوله: (والمعنئ إلخ) المعنيّ بكسر النون وتشديد الياء اسم مفعول أي المقصود لأنّ عطف اتقوا على آمنوا يؤذن بأنّ المراد بالتقوى فيه الإتيان بالأعمال الصالحة وتجنب المعاصي. قوله: (أن يتنزه عما يشغل سرّه إلخ) أي يبعد نفسه عن ذلك، لأن أصل معنى التنزه البعد كما حقق في اللغة، ويشغل سرّه بمعنى يلهيه يقال شغله الأمر شغلاً من باب نفع، والاسم منه الشغل بالضم وشغلت به أي تلهيت، والسرّ الحديث المكتوم في النفس قال تعالى: {يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ} [صورة التوبة: 78] والمراد به محله من القلب أو الفكر، والحق الظاهر أن المراد به هنا الله تعالى. قال الراغب: الحق الموجد للشيء بحسب ما تقتضيه الحكمة، ولذلك قيل في الله تعالى هو الحق، ويجوز أن يراد به معناه المعروف إلا أنّ المنايسب للتبتل هو الأوّل لأنه الانقطاع إلى الله تعالى بالعبادة، واخلاص النية انقطاعاً يختص بالله لأنّ معنى البتل القطع كالبت. قوله: (بشراشره) أي ينقطع إليه بكليته ونفسه قال صاحب القاموس في شرح الديباجة: الشراشر الأثقال الواحدة شرشرة يقال: ألقى عليه شراً شره أي نفسه حرصا ومحبة وشراشر الذنب ذباذبه، وقد مرّ الكلام فيه مفصلاً في آخر شرح الديباجة. قوله: (وهو التقوى الحقيقي إلخ أليس المراد بالحقيقي مقابل المجازي، بل هو مبالغة في الحقيق كدواريّ أي الأحق بتسميته تقوى، لأنه تقوى خواص الخواص، وإنما فسر هذه الآية به لأن مقتضى النظم المبالغة في التقوى، كما في حق اليقين والأمر فيه للندب لا للوجوب حينئذ، لأنه يلزم أن يأثم كثير من المؤمنين بل هو للحث على تكميل النفس وقطع المراتب ومثله كثير، ولا ينافيه تفسير المصنف رحمه الله هذه الآية بقوله: {حَقَّ تُقَاتِهِ} [آل عمران: 102] حق تقواه وما يجب منها، وهو استفراغ الوسع في القيام بالمواجب، والاجتناب عن المحارم وقيل إنها منسوخة بقوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16]
وفي الكشاف يطلق على الرجل اسم المؤمن لظاهر الحال والمتقي لا يطلق إلا عن خبرة كما لا يجوز إطلاق العدل إلا على المختبر. قوله: (وقد فسر إلخ) فمعناه على الأوّل ذلك الكتاب هدى لمن اتقى الشرك فأمن، وعلى الثاني هدى لمن اتقى جميع الآثام، وعلى الثالث هدى لمن لم يشتغل عن مولاه وانقطع عما سواه، ويجوز أن يفسر بما يعمها، وهذا كله مأخوذ من(1/197)
تفسير الراغب وقيل: وجه تعلق الهدى بهم على الأوّل أنّ المراد به الهدى الذي حصل به ذلك التقوى، أو الزائد عليه من المرتبتين الباقيتين وكذا الثاني، وأمّا الثالث فعلى التفسيرية يتعين إرادة الهدى الذي حصل به ذلك التقوى إذ لا مرتبة بعدها، ولا يخفى ما فيه وأنه لا يتنزل على كلام المصنف بعد التأمّل. قوله: (وأعلم إلخ) هذا معطوف على مقدر أي احفظ ما ذكرناه هـ وأعلم أو استئناف وعادة المصنفين أن يأتوا به في صدر الكلام الذي يهم للدلالة على الشروع في أمر غير ما قبله حثاً عليه وتحريضا، وقد استعمله العرب قديما قال:
وأعلم فعلم المرء ينفعه ~ أن سوف يأتي كل ما قدرا
والأوجه جمع وجه ومعناه الحقيقي معروف، وله معان أخر مجازية، وشاعت حتى صارت كالحقيقي منها النوع وفي الأساس لهذا الكلام وجه صحة أي نوع وضرب منها. وقوله: (ألم مبتدأ إلخ (لم يذكر بقية الاحتمالات السابقة لأنها غير ملائمة لقوله (وذلك إلخ) وجوّز في) ألم) ثلاثة أوجه، فإذا كان اسم السورة فالألف واللام في الكتاب للعهد، والمراد به السورة أو القرآن بالمعنى الكلي، وهو الوحي المقروء وكونه بمعنى الكلي يحتاج إلى تأويل، وإذا أريد به القرآن فهو ظاهر، وإن أريد به المؤلف منها كما سيأتي، فهو أعم من القرآن والمحمول لا بد أن يكون أعم، أو مساوياً ولا يجوز أن يكون أخص، فلذا أوّله بأنّ المراد به مؤلف معجزاً، وهو يخصى القرآن فتساويا، ولا يضرّه كونه أعمّ بحسب الأصل، والأصل له معان مرت والمراد منها القاعدة الكلية، أو الأغلب لا ما يبتنى عليه غيره. قوله: (أو مقدّر إلخ) يعني أنه مؤوّل بهذا بقرينة المقام، وليس المراد التقدير اللفظي، وان أوهمه اللفظ بأن يحذف الجار ومتعلقه، ويقام المجرور مقامه، كما توهم لأنه مع بعده فيه تعسف ظاهر. قوله: (وإن كان أخص إلخ) إشارة لما ترّر في المعقول من أنّ معنى القضية الحملية صدق المحمول على ما اتصف بمعنى الموضوع، فلو كان أعم لزم صدق الأخصى عليه، فلا يكون الأعم أعم والأخص أخصى، ووجهه ما ذكره المصنف بعد*ـ، فهو مثل الإنسان زيد، فإنّ معناه الإنسان الكامل ولولاه لم يصح الحمل، وما قيل: من أنّ الأحسن الأبلغ أن يراد في مثله بالمحكوم عليه الجنس على إطلاقه، ويحمل عليه فرد خاص من افراده بادّعاء أنّ الجنس منحصر فيه، كما يقال زيد هو الإنسان، وهو الرجل كل الرجل كأنّ ما عداه لا يدخل تحت الجنس، ولا
يسمى باسمه لعدم الاعتداد به بالنسب إليه غير موافق لما نحن فيه، فإنّ المحمول هنا ذلك، وهو اسم لجزئي لا لجنس، ولو. كان الكتاب بدونه أمكن ذلك مع أنّ ما ادّعاه من وجه الأبلغية موجود بعينه فيما ذكره المصنف رحمه الله، فالخبر المذكور أخص من المبتدأ ظاهراً، وبحسب الإرادة مساو له. كوله: (الكامل في تأليفه البالغ إلخ) المراد بكونه في أقصى درجاتها أنه أقصى ما وجد منها في الخارج، وأعلى-ما خرج من القوّة إلى الفعل، فلا يرد عليه ما قيل من أن كون القرآن، أو السورة في أقصى درجات البلاغة، والفصاحة غير مسلم، لأنه تعالى قادر " على أن يوجد ما هو أعلى منه، وذلك وإن كان. إشارة لجزئي، فالصفات المذكورة كلية،، وضم الكليّ للكلي لا يفيد نكتة إلا أنه يفيد انحصار موصوفها في شخصه بحسب الخارج، لأنه معلوم نزول بعضه، وتعجيزه لهم، فكأنه قال المؤلف المعلوم عندهم بصفاته ذلك إلخ والدرجات المراقي كالسلم واحدها درجة والمراتب جمع مرتبة وهي محل الرتوب وهو الاستقرار استعير للشرف، كالمنزلة والمكانة والرتبة كما يخاطب العظيم بالمجلس السامي تأدّبا، وليس ما هنا مجرّد تفنن لأنّ المرقاة توصل للرتبة فهي أعلى منها، فلذا أتى بها في البلاغة، إشارة إلى أنها أشرف من الفصاحة، كما تقرّر في محله. قوله: (والكتاب صفة ذلك) هذا حكم الاسم الواقع بعد كل اسم إشارة على المشهور ولا يكون إلا معرفا بأل، وقال ابن مالك إن كان جامدا محضا فهو عطف بيان، وأكثر المتأخرين يقلد بعضهم بعضا في أنه نعت ودعاهم إليه أنّ عطف البيان لا يكون إلا أخص من متبوعه، وهو غير صحيح وممن ذهب إلى أنه عطف بيان الزجاج وابن س جني، وقال ابن عصفور: من حمله على النعت لحظ- فيه محنى الاشتقاق كأنه قال الحاضر والمحسوس، وهو مبني على " أنّ النعت لا يكون إلا بمشتق أو مؤول به، وقد قال ابن الحاجب: إن التحقيق خلافه فما ذهب إليه المصنف أحد الآراء في هذه المسئلة، وأل فيه إذا كان صفة عهدية، وإذا كان عطف(1/198)
بيان حضورية وهي قسم منها، وهذا مما جزم به النحاة، وبعض الناس قال هنا اللام فيه عهدية لأنه المتبادر أيضا لا فائدة في الإخبار عن السورة، أو القرآن بأنه أي المؤلف المخصوص يصدق عليه جنس الكتاب فإنّ قصد الحصر في اسم الإشارة، ثم حمل ذلك الكتاب على القرآن ظاهر، وأمّا على السورة أو المؤلف، فباعتبار صحة إطلاق الكتاب علة الكل والجزء بالاشتراك، فأثبته بالدليل، وهو غني عنه ما في دليله عن المنع الظاهر. قوله: (وأن يكون ألم خبر مبتدأ) قيل تقديره القرآن أو السورة أو المتحدي به ألم أي المؤلف من نجنس طذه الحروف التي ألفوا منها كلامهم، والمقصود من الإخبار الإلزام والتبكيت، وقيل تقديره هذه ألم وصحة الإخبار عن هذه بألم على معنى أن هذه السورة المشهورة بالفضل، والكمال بلاغة وهداية أو على أنها مسماة بهذا الاسم،: ولا يخفى قصوره فإن هذا الإعراب عند المصنف على الوجوه الثلاثة، كما صرّح به في أوّل كلامه إلا أن يكون صرح ببعض الوجوه وأحال الباقي على القياس. قوله: (ولا رب في المشهورة إلخ) المشهورة
صفة لمقدّر أي القراءة المشهورة المتواترة، وهي قراءة الفتح على البناء عليه. وقوله: (لتضمنه) معنى من هو مذهب محققي النحاة فعلة البناء تضمن معنى الحرف الذي هو من الاستغراقية، كما أنّ ما جاءني من رجل نص في الاستغراق بخلاف ما إذا رفع ما بعدها سواء أعملت أو ألغيت، وقيل: إنما بني لتركب لا مع اسمها تركيب خمسة عشر، وقيل إنه معرب حذف تنوينه، وهو ظاهر كلام سيبويه في الكتاب ومنهم من أوّله ومنهم من ردّه، وقالوا: إنّ قراءة الفتح إنما كانت نصاً في الاستغراق، لأنّ نفي الجنس مستلزم له قطعاً وأورد عليه أنّ الموجبة الجزئية، والسالبة الجزئية لا تتناقضان فيجوز أن ينتفي الجنس في ضمن فرد، ويثبت في ضمن فرد آخر إلا أن يقال المفهوم عرفا من نفي الجنس بلا تقييد نفيه بالكلية، وأيضا لا يظهر الكلام على من جعل اسم الجنس بازاء فرد مّا، وليس بوارد لأنّ من ذهب إلى أنها نص في الاستغراق يقول إنها لعموم النفي لا لنفي العموم كما صرّحوا به، وقالوا: لا يجوز لا رجل في الدار بل رجلان ورجال، فكيف تكون سالبة جزئية. قوله: (لأنها نقيضتها) بهاء التأنيث في بعض النسخ، وفي بعضها نقيضها بدون هاء يعني أنها حملت على أنّ في العمل، كما يحمل النقيض على النقيض، لأنّ لا لتأكيد النفي العامّ، وإنّ لتاكيد الإثبات، أو تلك موضوعة للنفي، وهذه للإثبات، أو هو من حمل النظير على النظير استعمالاً لملازمة لا العاطفة لا مطلق لا للأسماء كانّ، وأبو الشعثاء بشين معجمة مفتوحة وعين مهملة ساكنة وثاء مثلة تليها ألف ممدودة، وهو سليم بن الأسود المحاربي التابعي راوي هذه القراءة الثاذة. قوله: (مرفوع بلا إلخ) هذا هو المشهور بين النحاة في رفع ما بعدها على أنها عاملة عمل ليس، وقال ابن مالك: لو ذهب ذاهب إلى أنها لا تعمل عمل ليس كان حسناً إذ لا يحفظ في نظم ولا نثر سوى قوله: تعزفلا شيء على الأرض باقياً ولا وزرمما قضى الله واقيا
وبالجملة في ذلك ثلاثة أقوال الجواز وهو مذهب سيبويه، والمنع وهو مذهب الأخفش والمبرّد، والثالث أنها عاملة في الاسم، وهما جميعا في موضعالابتداء ولا تعمل في الخبر، وحكي عن الزجاح، وسماع نصب الخبر قاض بالمذهب الأوّل. قوله: (وفيه خبره) ضمير خبره راجع للأعلى المذهب المشهور من أنها العاملة الرافعة للخبر وذكر باعتبار اللفظ، أو إلى ريب لأنه مبتدأ بحسب الأصل، فالخبر له واختلفوا في رافع الخبر هل هو لا وحدها أو مع الاسم أو المبتدأ وعلى هذا، فضمير صفته الآتي راجع إليه كضمير خبره من غير تفكيك أو تقدير مضاف أي صفة اسم والمراد على قراءة الرفع أيضاً الاستغراق، لأنه لم يرد نفي ريب واحد كما في البحر، وعلى كونه خبراً على القراءتين محله مختلف، فإن قلت من هذه زائدة كما في المغني وغيره، فكيف يتأتى دلالتها على الاستغراق والزائد لا معنى له وأيضاً الزائد إذا
لم يذكر لا يقدر، فكيف قالوا بالبناء والاستغراق لتضمته معناها، وفي كلام الشريف ما يقتضي الفرق بين ذكرها وعدمه وهو مناف لذلك ظاهراً قلت: الزائد في فصيح الكلام ليس زائداً من كل الوجو.، ولذا يسمى صلة تأدّباً وتحاشيا عن إيهام اللغوية، والفرق بين التضمين، والتقدير ظاهر فيفيد التأكيد لما يدل عليه الكلام والنكرة في سياق النفي(1/199)
ظاهرة في العموم فإذا أكدت تقوى ذلك فصار نصاً في العموم فتدبر. قوله: (ولاً يقدم إلخ) قال قدس سرّه: لما كان المقصود بالنفي ليس هو الريب بل كونه متعلقا له كان مظة لتوهم أن النفي ليس متوجها إلى أصل الريب بل إلى متعلقه الذي هو الظرف فكان ذكره أهمّ، فهلا قدم أجاب العلامة بأن النفي متوجه إلى الريب لا إلى متعلقه، لكن لم يقصد بنفي الريب عته أنه لم يرتب فيه أحد بل قصد إثبات أنه حق وصدق، وأن الريب فيه غير واقع موقعه، ومن المعلوم أنّ هذا القصد لا يقتضي تقديم الظرف، على أن ثمة مانعا منه وهو أنه لو قدم لأفاد معنى بعيداً عن المراد، وهو أنّ الريب ثابت في كتاب آخر لا في هذا الكتاب، وهذا المعنى سواء استقام أو لا لا يناسب المقام إذ لا منازعة فيه، وفي المفتاج أنه لو قدم لدل على أنّ ريباً في سائر كتب الله تعالى، وهو باطل ولا خفاء في اً نه توجيه آخر، وأما لا فيها غول، فإن نظر إلى حاصل المعنى كان قصر الصفة الاغتيال على خمور الدنيا وان روعي القاعدة القائلة بأنّ تقديم المسند يفيد الحصر المستدير قصراً للموصوف على الصفة أي الغول مقصور على عدم الحصول في خمر الجتة لا يتجاوزه إلى عدم الحصول فيما يقابلها أي عدم الغول مقصور على الحصول فيها لا يتجاوزه إلى الحصول في هذه الخمور، والغول الصداع أو مصدر غاله إذا أهلكه، وقد بقي هنا أمور لعل النوبة تفضي إلى بيانها بإذن الله تعالى، وقد أورد على الزمخشريّ أنه لا محذور فيما ذكره لوقوع الريب في كثير من الكتب، وأجيب بأنّ المراد لزوم الريب في الكتب السماوية، وقيل عليه: إنها لما فيها من التحريف محل ريب فلا محذور أيضا وفيه بحث، وقيل: لو قدم لزم نفي حصر الريب فيه فيلزم مشاركته لغيره في الريب، وهذا بناء على أنّ ملاحظة الحصر قبل دخول النفي والأمر بالعكس كما صرّحوا به (وههنا بحث) أورده بعض المتأخرين، وهو أنّ لا ريب فيه لا يصح تقديم الخبر فيه إذ لا يجوز لا فيه ويب من غير تكرار لا لأنه إذا فصلى بينها وبين اسمها وجب الرفع والتكرير ولا عديل للمنفي هنا حتى يصح تكريرها أو يقدر، وهذا وان صح في قراءة أبي الشعثاء، فالزمخشريّ ذكره في المشهورة وسوق القاضي على العموم، ورد بأن وجوب تكريرها فيما ذكر ليس متفقاً عليه لذهاب المبرد وابن كيسان إلى جوازه ولا يخفى أنه قول مرجوح عند النحاة، فإنه عندهم ضرورة، على أنه على فرض جوازه غير فصيح، وانكار أبي حيان إفادة تقديم الخبر للحصر هنا مما لا يلتفت إليه، وان أورد في بعض الحواشي. قرله: (أو صفتة إلخ) معطوف على قوله خبره، وما قيل عليه: من أنّ فيه تفكيك
الضمائر، ولو قال: صفة بدون ضمير كان أوجه لسلامته مما ذكر ليس بشيء لإمكان اتحاد مرجعها كما مرّ، مع / أنّ التفكيك لا محذور فيه إذا ظهر المراد، وذكر في الخبر ثلاثة اأوجه تقريرها ظاهر من كلام المصنف رحمه الله، وحذف الخبر كما في لا ضير أي فيه هو الأفصح الأكثر وقد التزمه بعض العرب وجعله لازما مع القرينة، وحينئذ يصح الوقف على ريب لتط م اللفظة والمعنى قال في المرشد: إن جعلت (لا ريب) بمعنى حقا، فالوقف عليه تامّ، ولا حاجة لتقدير فيه ولولاه كان قبيحاً، وقال الإمام: الأولى الوقف على فيه ليكون الكتاب نفسه هدى وقد ورد في آيات كثيرة وصفه بأنه نور أو هدى وفيه نظر، وهذا الوقف لنافع وعاصم، وقوله على أنّ فيه خبر هدى أي لفظ فيه المذكور وخبر لا فيه أخرى مقدرة. قوله: (وهدى نصب إلخ) ذو الحال ذلك أو الكتاب والعامل على كلا التقديرين اسم الإشارة، ويجوز أن ويكون حالاً من الضمير المجرور في فيه والعامل ما في الظرف من معنى الفعل، وجعل المصدر حالاً على الأوجه المشهورة في أمثاله، وإذا كان العامل فيه ما في هذا من معنى الإشارة فاتحاد عامل الحال وذيها على اشتراطه موجود فيه، وسيأتي إن شاء الله تحقيقه في قوله تعالى: {هَذَا بَعْلِي شَيْخًا} [هود: 72] فلا نطيل الكلام بذكره. قوله: (وأن يكون ذلك مبتدأ إلخ) وصف الكتاب بالكامل إيماء إلى أن المقصود من حصر الجنس حصر الكمال، وإلا لم يصح أي لأنه لكماله في بابه ونقصان ما سواه يستحق دون غيره أن يسمى كتابا، كأنه الجنس كله نحو هو الرجل، وهم القوم، وقد مرّ تحقيقه في تقديم الخبر، وأمّا لزوم نقصان غيره من الكتب السماوية فدفع بأنه لعدم الإعجاز، أو استكمال الأحكام الشرعية، ونقصان الفاضل عن الأفضل لا يخرجه عن كونه فاضلاً خصوصاً إذا اقتضى ذلك حكما ومصالح بخلاف الريب، وهو التردّد في أنها من عند الله(1/200)
فإنه لا يليق، وقد مرّ وجه آخر فتذكره، وإنما لم يقدم هذا على قوله ولا ريب، وينظمه في سلك الوجهين السابقين، لأنهما يعمان الاحتمالات، وهذا خاص بما إذا أريد بألم القرآن كما تنطق به عبارته، وفصله وقيل: إنه أخره إيماء إلى ضعفه، لأنّ ألم إذا كان اسما للسورة، وذلك إشارة إليها كان حصر الكمال فيها إثباتاً للنقصان في سائر السور، فإنها المقابلة لها دون الكتب السالفة، فأما ملاحظة الحصر في السورة باعتبار قرآنيتها لا خصوص كونها سورة، وأن يراد بالسورة القرآن مجازاً، فخلاف الظاهر، ويستأهل بمعنى يصير أهلا المراد به يستحق كما مرّ تفصيله، ولك أن تقول أخره لأنّ ما يليه مبني عليه. قوله: (والأولى أن يقال إلخ) متناسقة بمعنى متناسبة مرتبطة بدون عاطف من نسقت الدر إذا نظمته، ومنه عطف النسق ففي قوله متناسقة إيهام نسق العطف وليس بمراد لأن اللاحقة تقرّر ألسابقة وتؤكدها، ولما بين المؤكد والمؤكد من الاتصال لا يعطف أحدهما على الآخر كما اتفق عليه
أهل المعاني، وإن صرّح النحاة بخلافه في نحو {كَلَّا سَيَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ} [النبأ: 4- 5] كما سيأتي، ولما ذكر ما ذكره من الإعراب الناظر للمفردات، وكان المتبادر منه أنها جملة واحدة، أو في حكمها كما سيظهر للنظر الصادق فيما قدمه أشار إلى أنه لا يليق بجزالة البلاغة، وفخامة المعنى، ومقتضاها أن تجعل جملاً متعددة، فبين ذلك بوجهين وقال فالم إلخ، بالفاء التفصيلية. قوله: (جملة دلت إلخ (كونه جملة اصطلاحية حقيقة إن قدّر خبراً أو مبتدأ، وجعل علما، فإن أريد به طائفة من الحروف للإيقاظ، وأولت بما مرّ فهي في حكم ذلك إن قلنا لها محل من الإعراب، فإن لم نقل به لا يتأتى ما ذكر وإليه أشار بقوله على أنّ المتحدي به هو المؤلف وفي الكشاف نبه على أنه أي (ألم) الكلام المتحدّى به فجعل ألم هو المبتدأ والمتحدي به خبره المقدر والمصنف عكسه، ففيل في وجهه إنه نظر إلى أنّ اتصاف الكتاب بأنه المتحدى به معلوم مكشوف دون اتصافه بأنه المؤلف من جنس ما يركبون منه كلامهم، ولا يخفى ما فيه، فإنّ كونه مؤلفاً من جنس الحروف لا غطاء عليه حتى يكشف بل الظاهر أنه غير مفيد فائدة تامة لظهوره، فلذا أخبر عنه بما ذكر ليجدي، وهذا اظاهر محلى إرادة الحروف، وعلى العلمية لإشعارها بذلك كما مرّ، ولم يلتفت لبقية الأقوال لضعفها عنده. قوله: (مقرّرة لجهة التحدي إلخ) بأنه متعلق بقوله مقرّرة، واتصافه بغاية الكمال في لفظه، ومعناه فهو هاد بالمعنى، والعبارة بخلاف غيره من الكتب، فلا يقال: كيف يفضل بكماله في التحدي على غيره من الكتب ولا إعجاز لها، وفي شرح التلخيص معنى ذلك الكتاب أنه الكامل في الهداية لأنّ الكتب السماوية إنما تتفاوت بحسنها لا غير، فإن قلت: قد تتفاوت الكتب بجزالة النظم وبلاغته كالقرآن الفائق على جميع الكتب بإعجاز نظمه فلت: هذا داخل في الهداية لأنه إرشاد إلى التصديق به ودليل عليه.
(أقول) الحروف المقطعة دالة على الأعجاز الدال على أنه ليس من صنيع البشر بل من
كلام خالق القوى والقدر على ما مرّ وهو المراد بجهة التحدي هنا، فالمقرّر المؤكد له هو كونه هاديا لجميع العباد لخيري المعاس والمعاد، فإنه مقتض أيضا لأنه أمر إلهي، فلا حاجة لإدخال الإعجاز فيما تدل عليه الجملة الثانية بل لا وجه له إذ هو مع أنه كالمصادرة غير مثترك بين الكتب، فلا يلتفت لما قيل في بعض حواشي المطوّل من أنه كلام على السند الأخص، وأن كون البلاغة سبباً في نفسها مما لا يمكق إنكاره غاية الأمر أنه صار سببا لكمال آخر هو الهداية انتهى، وفي نسخ القاضي هنا اختلاف بالزيادة والنقصان. قوله:) ثم سجل إلخ) أي قرّره وأثبته، وفسره الشريف رحمه الله بحكم به حكماً قطعيا ويقال سجل مشددا
وأسجل قال المعري:
طويت الصبا في السجل وزادني ~ زمان له بالشيب حكم وأسجال
وفي شرح مقامات الزمخشريّ له يقال سجل عليه بكذا إذا شهره كأنه كتب به عليه سجلاً
اهـ. فهو استعارة للتشهير والنداء والمصنف رحمه الله استعاره للإثبات وهو قريب منه ولا حجر في المجاز وتعديه بعلى وبالباء ووجهه يعلم مما مرّ أي أظهر كماله بنفي الريب عنه فإن المعجز المرتدي بالكمال لا يرتاب فيه عاقل، وعطف هذا بثم لما بينهما من التفاوت الرتبي فإنّ ما قبله دال على الإعجاز وبلوغ غاية الكمال، وهما صفتان جليلتان(1/201)
لازمتان له وهذا نفي للريب وإثبات للحقيقة، وبينهما بون بعيد. قوله: (لأنه لا كمال أعلى إلخ) في الكشاف لا كمال أكمل مما للحق واليقين، ولا نقص أنقص مما للباطل والشبهة، وقيل لبعض العلماء فيم لذتك فقال في حجة تتبختر اتضاحا، وفي شبهة تتضاءل افتضاحا وقوله لا يحوم الشك حوله مبالغة في كونه يقينا لا تعتريه شبهة أصلاً لأنه إذا نفى قربه منه علم نفيه عنه بالطريق الأولى، ويحوم مضارع حام الطائر حول الماء إذا دار به، وفي الحديث: " من حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه " أي من قارب المعاصي ودنا منها قرب وقوعه فيها وهذه استعارة مكنية بتشبيه اليقين بعين عذبة والشك بطائر يريد الشرب منه، ولا يصل إليه، واثبات الحومان تخييل أو هو استعارة تمثيلية وقيل هو كناية كقوله:
فما جازه جود ولا حل دونه ~ ولكن يصير الجود حيث يصير
فيفيد مبالغة مأخوذة من جعله نفس الهدى.
وأعلم أنّ المصنف تبعاً للزمخشريّ ذكر أنّ هنا جملاً أربعا كل منها مؤكد لما قبله والسكاكي خالفه في ذلك بعدما وافقه في أصل التأكيد، فقال: إنّ بعضها منزل منزلة التأكيد المعنوي لاختلاف معناهما، وبعضها منزلة التأكيد اللفظي لاتحاده، فلا ريب بالنسبة إلى ذلك الكتاب بمنزلة التأكيد المعنوي ولما بولغ في وصف الكتاب بأنه بلغ أقصى الكمال بجعل المبتدأ ذلك، وتعريف الخبر باللام الجنسية المفيد للحصر حقيقة أو ادعاء، أفاد أنّ ما سواه ناقص، وأنه المستحق لأن يسمى كتابا فجاز أن يتوهم أنه رمي به جزء مّا، فاتبع ذلك الكتاب بلا ريب فيه، لنفي ذلك التوهم ووزانه وزان نفسه و {هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} معناه إن ذلك الكتاب بلغ في الهداية درجة لا يدرك كنهها، فهو كزيد زيد إلخ ما فصلى في شروحه وحواشيه، وقال قدس سرّه: لا إشكال فيما سلكه الزمخشريّ، ومن تابعه وما في المفتاح، وكتب المعاني يتجه عليه
أنّ الأنسب أن يعطف هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ على لا ريب فيه لاشتراكهما في أنهما تأكيد لذلك الكتاب عندهم ولا امتناع فيه إنما الممتنع عطف التوكيد على المؤكد لا عطف أحد التأكيدين على الآخر والتفصي عنه أن يقال لما كان لا ريب فيه مؤكداً للجملة الأولى اتحد بها، فالجملة السابقة التي يتوهم العطف عليها هي ذلك الكتاب معتبرا معه ما هو من تتمته، واليه أشار في المفتاح.
(أقول) قد استحسن هذا بعض الفضلاء، وقال: إنه يظهر منه وجه عدم العطف في نحو
قوله تعالى: {فَسَجَدَ الْمَلآئِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} [الحجر: 30] مع اتحاد كلهم وأجمعون في التأكيد به للملائكة، وليس الاستحسان بحسن فإنّ التأكيد إذا تعدد سواء كان من نوع أو لا لا يصح عطفه إذ لم يسمع، ولم يقل به أحد من النحاة ثم إنه قيل عليه أنه يقتضي أن يكون من أسباب الفصل كون الثانية مؤكدة لما أكد بالجملة الأولى، ولو قيل أنه لم يعطف على لا ريب فيه لئلا يتوهم عطفه على ذلك الكتاب جاز، وهو أحسن مما ذكره السيد وأقرب ولا يلزمه اختراع سبب آخر للفصل، ثم إنه قيل إنّ سبب عدول صاحب المفتاح عما في الكشاف أنه لا يجوز أن يكون للتأكيد تأكيد في المفرد المقيس عليه، وان ترك العطف فيما اختاره لأنّ بين اللفظي والمعنوي مباينة تقتضي الفصل، وأنه لا يصح العطف على أمر هو من تتمة أمر آخر، ولا يخفى أنه يرد عليه أنه مخالف لذلك أيضاً في الجملة الأولى، وفي تقديم التأكيد المعنوي على اللفظي، والمعروف خلافه، وقد وجه بما تركه أحسن من ذكره، فالحق أنّ ما ينزل منزلة الشيء لا يلزم أن يكون مثله من جميع الوجوه وما استصعبوه أهون من أن يستصعب فافهم ترشد. قوله: (أو تستتبع كل واحدة إلخ) هذا معطوف على قوله تقرّر اللاحقة منها السابقة. وقوله: (استتباع) بالنصب مفعول مطلق وعامله تستتبع، وهو إمّا نوعي أو تشبيهي كخبط خبط عشواء لأنّ الاستتباع طلب التبعية، والمراد به الاستلزام، وهو على ضروب منها استلزام الدليل لمدلوله أو المراد ما يقرب منه، ويشبهه لما بينهما من التلازم لاستلزام الإعجاز غاية الكمال، وغاية كمال الكلام البليغ ببعده من الريب والشبه لظهور حقيقته، وذلك مقتض لهدايته، وإرشاده فإن نظر إلى اتحاد المعاني بحسب المآل كان الثاني مقرّرا للأوّل، فيترك عطفه وهو الوجه الأوّل، وان نظر لأنّ الأوّل مقتض لما بعده للزومه له بعد التأمّل الصادق، فالأوّل لاستلزامه لما يليه، وكونه في قوّته بجعله منزلاً منه منزلة(1/202)
بدل الاشتمال لما بينهما من الملابسة، والملازمة فوازنه وزان حسنها في أعجبتني الجارية حسنها، فيترك العطف لشدّة الاتصال، كما قرّره أهل المعاني في قوله:
أقول له ارحل لا تقيمن عندنا
وهذا مراد المصنف رحمه لملا لا أنّ الثاني مترتب على الأوّل ترتب المدلول على الدليل، كما توهموه لقصور النظر، فورد عليهم أنّ المعروف في مثله اقتران الثاني بالفاء التفريعية كما عقال العالم متغير وكل متغير حادث، فالعالم حادث وهى وإن لم تكن عاطفة فهي أداة وصل كواو الحال، لأنّ المعتبر عندهم في مثله كونه عاطفا بحسب الأصل والصورة، فدفع بأنّ الظاهر أنه من القسم ااثانن من الاستئناف البياني، وهو أن يكون جوابا عن سؤال عن غير السبب المطلق والخاص، كأنه لما قيل إنه متحدي به مع أنه من جنس كلامكم قيل: فما يلزم من هذا قال إنه يكون هو الكامل دون غيره، وهكذا يقدر فيما بعده إلى أن ينتهي السؤال وينقطع الجواب، ولا يخفى أنه ليس في كلامه ما يدل على ما ذكره وإنما يريد أنه لكون الجملة الثانية معناها لازم للأولى حتى كأنه مستفاد منها اقتضى ترك العطف، كما عرفته آنفا، ولم ينظر إلى تفريعه عليه حتى يقال أيضاً: إنّ الظاهر الفاء، كما في قوله ضرب فانفجرت، وقيل: إن نكتة الفصل على هذا أنّ اللاحق نتيجة السابق، فبينهما كمال الاتصال ففي هذا الوجه كل سابق مقرّر للاحق على عكس التوجيه السابق، وهو لطيف جداً إلا أنا لم نعثر عليه في كلام القوم، والمطابقة لقواعدهم جعل اللاحق مقرّراً للسابق، لأنه لكونه نتجا له متضمنا له، فذكره يتضمن ذكره والفصل على هذا الوجه، لكون اللاحقة مقرّرة للسابقة، فان قلت لم يعهد ذكر النتيجة بلا رابطة فحسن هذا التوجيه، وقبوله يتوقف على استغناء النتيجة عن الرابطة نعم لا تعطف النتيجة، لكن تربط بحرف التعقيب أوالتفريع فقد أحوجه هذا الوجه إلى نكتة ترك حرف التفريع بل إلى وجه صحته قلت: إذا قصد الاستدلال والاستنتاج، فلا بدّ من حرف التفريع، ولم يقصد هتا بل قصد الإخبار بكل جملة استقلالاً إلا أنه كان كل لاحق نتيجة للسابق، فلهذا لم يحسن العطف لعدم صحة عطف النتيجة على الدليل ولما لم يقصد الاستدلال لم يكن لإيراد حرف التفريع معنى اهـ. ولا يخفى ما فيه من الخبط، والخلط فعليك بض النواجذ على ما قدمناه والمراد بالاستتباع هنا الاستلزام كما مرّ، وفي اصطلاح أهل البديع أن يساق الكلام لمدح ونحوه ثم يلوّح ب لمعان أخر كما في قوله:
نهبت من الأعمارما لو حويته ~ لهنئت الدنيا بأنك خالد
وهو قريب منه، ويتشبث بمعنى يتعلق وهو استعارة هنا، ولا محالة بفتح الميم والبناء
على الفتح بمعنى لا بد. قوله: (وفي كل واحدة منها إلخ) يعني أنّ هذه الجمل المتناسقة مع ما تضمنته من الفوائد الجمة في نظمها بدائع أخر، والنكتة الدقيقة اللطيفة معنوية كانت أو لفظية، والمراد الثانية وأصلها من نكت في الأرض بقضيب ونحوه يؤثر فيها، والجزالة مصدر جزل الحطب بالضم إذا عظم وغلظ فهو جزل، ثم استعير في العطاء فقيل أجزل له العطاء إذا وسعه وفي الرأي، فيقال: رأي جزل أي قويّ محكم ومنه ما هنا. وقوله: (ففي الأولى) أي الجملة
الأولى وهي ألم على تقدير التقدير هذه ألم إن جعلت اسماً للسورة، أو أولت نكتة، وهي ما يقتضيه الحذف، وهو من الإيجاز المستحسن، وجعله نفسه نكتة تسمحا والرمز الإشارة الخفية إلى إعجازه لتحديهم بما هو من جنس كلامهم وأصله الإشارة بالشفة أو الحاجب، وهو في الاصطلاح كناية مخصوصة، وهو المراد والمقصود هر التحدي، والتعليل هو أنهم إنما عجزوا عنه لأنه كلام الله، وليس هذا التعليل البديعي المسمى بحسن التعليل، لأنهم اشترطوا فيه أن لا يكون علة في الواقع بل أمر تخييليّ ادعائي كما في قول ابن الرومي:
رأيت خضاب المرء بعد مشيبه ~ حدادا على شرخ الشيبة يلبس
والجملة الثانية ذلك الكتاب، وفخامة التعريف الجنسي لإفادته للحصر لكماله، كما مرّ وإيهام الباطل في الثالثة، وهو كون غيره من الكتب السماوية محلاً للويب وهي منؤهة عنه كما هو مسلك السكاكي، فإن حملت قوله فيما مضى لأنه لم يقصد تخصيص نفي الريب بة على هذا، فالأمر ظاهر، والاً فلما كان فيه وجثان بين أحدهما فيما مضى، والآخر هنا استيفاء للنكات، وقيل: المراد بإيهام الباطل إيهام ما ليس بمقصود، وكل ما ليس بمقصود(1/203)
باطل أو إبهام الريب في كتب الله أو في بعض الصور وهو باطل، وهذا هو الحامل على الوجه الأوّل لئلا يخالف ما مرّ، ومن لم يتنبه لهذا فسر. بالثاني، وفسر السابق بما مرّ، ولك أن تقول ما نحاه الزمخشريّ هو المقصود الأعظم من النظم، وما نحاه السكاكي دفعا لما يوهمه عرض الكلام، فلا منافاة بينهما وأمر الرابعة ظاهر. قوله: (وتخصيص الهدى بالمتقين إلخ) معطوف على قوله الحذف، فهو من جملة نكات الرابعة والاستئناف فيه بعيد وهذا لا ينافي قوله: وفي كل واحدة منها نكتة بالتوحيد لتعدد لنكات في كل واحدة منها، لأنه جعل مجموع ما في كل واحد واحداً لتعلقه بأمر واحد، وقيل: المعنى أنّ شيئا من تلك الجمل لا يخلو عن نكتة واحدة البتة، وهو لا ينافي الزيادة والمراد بالغاية غاية الهدى وفائدته، وهو الانتفاع به كما مر وقيل المراد بالغاية المآل ومجاز الصيرورة كتسمية العصير خمراً والفرق بينه وبين المشارفة أن مجاز الأول إن حصل على الفور نحو: من قتل قتيلاً فهو مجاز المشارفة، وإن كان بعد زمان فهو مجاز الصيرورة، فمآل الوجهين إلى أنّ المتقي مهتد لكنه علق به الهدى باعتبار المآل مشارفة، أو صيرورة إلا أنه كان الظاهر حينئذ العطف بأو دون الواو، وكونها بمعنى أو بعيد، قيل هما وجه واحد وإنّ قوله باعتبار الغاية بيان لعلاقة المجاز لشموله الصيرورة والمشارفة وتسمية إلخ بيان صنفها، وقيل: إنه حقيقة عنده والمجاز على تقدير حمل المتقين على الدرجة الثالثة للتقوى، لأنه يتقي بذلك الهدى، وقيل أوّله بناء على أنه حقيقة وما بعده مجاز فتدبر. قوله: (إيجازاً وتفخيماً إلخ) مع ما فيه من حسن المطلع بتصدير سنام القرآن، وأولى الزهراوين
بأشرف عبارة وعبادة، والإيجاز لأنّ أصله الضالين الصائرين للتقوى، وهذه نكتة تجري في كل مجاز، وقيل لأنّ أصله ينفع هداه ولا وجه له، وضمير لشانه للهدى تعظيما له بأنه لا يليق أن يشد إلا إلى أشرف المخلوقين، ومنهم من أرجعه للمتقي بمعنى من هو بصدد التقوى لمدحه وجعله، كأنه متق بالفعل، ولا يرد عليه أنه لا يليق حينئذ إجراء الذين يؤمنون إلخ عليه لأنّ من هو بصدده نزل منزلة المتصف بالفعل مع أن يؤمنون وما بعده مستقبل وفي بعض شروح الكشاف البحث عن مناسبة الكلم المفرد، وان كان أرسخ في البلاغة إلا أنّ ملاحظة الإرتباط فيما بين الجمل أدق، وألطف لأنها في الأغلب بين الجمل باعتبار المعاني العقلية، وفي المفردات باعتبار المعاني الوضعية، ولا شك أنّ الأولى ألطف، وأخفى وهذا منه بناء على أنّ أحكام الفصل، والوصل تجري في المفردات، كما صرّح به عبد القاهر وأن تبادر من كتب المعاني خلافه فتأمّل. قوله: (أمّا موصول بالمتقين إلخ) ذكر فيه وجوها معلومة من كلامه، والذين يحتمل الرفع والنصب والجرّ على أنه نعت تابع للمتقين، وجوز فيه البدل وعطف البيان، والرفع والنصب على القطع المدحي بتقديرهم، أو أعني ونحوه والابتداء على الاستئناف وأولئك خبره، ثم إنّ الوصف يذكو لأمور كالكشف والتعريف وذلك إذا اتحد مفهومه بمفهوم الموصوف، كالجسم الطويل العريض العميق متحيز، والتمييز إذا كان مفهومها غير مفهوم الموصوف نحو زيد التاجر عندنا، والمدح كما في صفات الباري الذي لا يخفى على أحد ولا يشاركه شيء فيميز عنه، وقد يقصد مدح الصفة نفسها، والدلالة على أنها خصت بالذكر، لأنها أشرف من سائر الصفات كما سيأتي، وفرقوا بين المدح صفة والمدح اختصاصاً بأنّ الوصف في الأوّل أصل، والمدح تبع والثاني بالعكس، وبأنّ المقصود الأصلي من الأوّل إظهار كمال الممدوح، والاستلذاذ بذكره ومن الثاني إظهار أنّ تلك الصفة أحق باستقلال المدح من غيرها إمّا مطلقا أو بحسب المقام، والمصنف قسمها إلى مقيدة وهي ما أفادت قيداً، ومعنى لا يفهم من الموصوف وموضحة وهي بخلافها ومادحة وهي ما لا يقصد به التقييد، ولا الإيضاح وقدم الأولى لأنها الأصل الأغلب. وقوله: (موصول) أي متصل معنى يدخل فيه النعت المقطوع لأنه تابع حقيقة ومعنى، وإن خرج صورة بخلاف المستأنف، وفي تعبيره بالموصول هنا لطافة لا تخفى لما فيه من التورية. قوله: (إن فسر التقوى إلخ) قد مرّ أنّ للتقوى معنى لغويا وهو الصيانة أو فرطها وشرعيا، وله مراتب مرّ تحقيقها، وما ذكر هنا خارج عنها بحسب الظاهر، فأمّا أن يكون معنى آخر عرفياً لها، كما ذهب إليه العلامة في شرح الكشاف، والمراد بالعرف فيه عرف أهل اللغة، أو العرف العام(1/204)
لا عرف الشرع حتى يعود الاستشكال، أو يقال هو من الشرعي، وان لم يكن داخلاً في قسم من الأقسام السابقة على التعيين لأنّ المقصود من تلك المراتب بيان حدّها الأدنى والأوسط والأعلى، فلا ينافي أن يكون بينها مراتب أخر مركبة أو مفردة منها، فسقط ما قيل من أنه إن حمل هذا على المرتبة الأولى،
فالصفة مقيدة باعتبار الصلاة فيما بعدها، لكن لا يتعين فيه ترتيب التحلية على التخلية لأنّ الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، فتقتضي اجتناب المنكرات كلها وهي تحلية أيضاً إلا أن يتكفف وان حمل على المرتبتين الأخيرتين فليست بمقيدة، أو هو لغويّ، لأنّ التقوى في اللغة الاحتراز، وأورد عليه أنّ المراد هنا احتراز خاص فلا يكون حقيقة لغوية، ولذا قيل إنها مقيدة إن فسرت التقوى بما يناسب معناها اللغوي الذي هو الاجتناب أعني ترك ما لا ينبغي شرعاً من المعاصي والمنهيات، ولا يخفى أنه مع ما فيه لا يجدي نفعاً، كالقول بأنه نوع من اللغوي خص لاقتضاء المقام له، والحق اًنّ هذا معنى حقيقي شرعي، أو لغوي كما في الكشف، وهو الأظهر ولا يرد عليه ما مرّ، لأنه إنما يكون كذلك إذا لم يخص بتعريف بأل، أو إضافة وأمّا في ذلك، فلا مرية في أنه معنى حقيقي فرجل وغلام عام أو مطلق لو أريد به زيد وعمرو كان مجازا، ولو قيل الرجل والغلام بالتعريف العهدي وأريد ذلك، فلا وهو أشهر من أن يذكر، والمراد بالمتقي هنا من يتجنب القبائح والمنهيات سواء امتثل لأوامر وأتى بالحسنات أم لا، فالصفة مخصصة كزيد التاجر لدلالتها على ما هو خارج عن معنى الموصوف فإن قيل اجتناب المعاصي لا يتصوّر بدون فعل الطاعات لأنّ ترك الطاعة معصية، كما قال تعالى: {لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ} [التحريم: 6] قيل إن مبنى هذا على أنّ المعصية فعل ما نهى الله عنه وأنّ الترك ليس بفعل، وقيل المراد بالمعاصي ما تعلق به صريح النهي، وترك المأمور به منهي عنه ضممناً، وأورد عليه أنّ الأوّل ضعيف لأن السائل استدل على أن ترك الطاعة معصية بآية {لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ} [التحريم: 6] فلا يدفعه مجرّد أن يقال إنّ المعصية مخصوصة بغير الترك على أن ترك الطاعة بمعنى الكف عنها مما يعاقب عليه، فيكون حراما والكف عن المعصية مما يثاب عليه فيكون واجبا كما تقرّر في الأصول، ويلزم الثاني أن لا تبطل التقوى بارتكاب المنهيات الضمنية المستفادة بإشارة النص أو الاقتضاء، والدلالة وليس كذلك مع أنه يختل بالواجب الذي وقع الوعيد على تركه صريحا فإنه يدخل هذا الترك في المعصية، وبالجملة لا يظهر تخصيص التقوى بما يتعلق صريح النهي به، فإنها الاحتراز عن المعصية مطلقا، وليس بوارد، لأنه ليس الكلام في أنّ هذه الأمور معصية، وان ترك المنهيات، والمعاصي مطلقاً تقوى إنما الكلام في أنها داخلة في مفهوم هذه التقوى أم لا وعلى الثاني، فلزوم اجتنابها مفهوم من الصفة المقيدة، وعلى كل حال فلا بدّ من اجتنابها، ولكن هل يؤخذ هذا من الموصوف، أو من الصفة وعلى كل لا محذور فيه حتى يرد على ما أورده. قوله: (بترك ما لا ينبغي الخ) ينبغي مطاوع بغاه يبغيه إذا طلبه، ويكون لا ينبغي بمعنى لا يصح، ولا يجوز وبمعنى لا يحسن، وهو بهذا المعنى غير متصرف لم يسمع من العرب إلا مضارعه، كما في قوله تعالى: {لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ} [يس: 40] وقد قيل إنه يدخل فيه ترك الكفر، وترك العقائد الفاسدة، وجميع المناهي والإخلال بالأعمال الصالحة،
وترك الكفر عين الإيمان، وإلا لزم ثبوت المنزلة بين المنزلتين، وأمّا دخول جميع الأعمال فقد مرّ مع جوابه، ومن تخلى عما ذكر يجوز تحليه بالطاعات وعدم تحليه بها فلهذا كانت هذه الصفة على هذا مقيدة وقد علم مما مرّ أنه مما ينبغي فكان عليه أن يقتصر على المناهي فافهم ترشد.
(تنبيه في فائدة مهمة) قال الآمدي رحمه الله في ابكار الأفكار: الترك في اللغة يطلق على
عدم الفعل يقال ترك كذا إذا لم يفعله سواء تعرّض لضده أم لا، سواء كان له قصد أم لا كالنائم والغافل، ولا مانع منه لغة وخالفه بعض المتكلمين فشرط أن يكون الفعل مقدوراً له في العادة، فلا يقال ترك خلق الأجسام، وقد يطلق الترك على مقدور مضاف لمقدور آخر عادة نحو ترك الحركة بالسكون وعكسه وعلى هذا إن أوجبنا ربط الثواب، والعقاب بالأفعال، فلا يكون مرتبطا بالترك بمعنى عدم الفعل بالاصطلاح الأصولي، وان لم نوجب ارتباطه بالفعل بل جوزنا نصب العدم علامة على الثواب والعقاب، فلا مانع من ارتباطه بالترك بالمعنى اللغوي على كلا الاصطلاحين فيمتنع إطلاق ترك خلق العالم في الأزل(1/205)
عليه تعالى إذ تحقق أنه في الأزل غير مقدور، ويخصى امتناع ذلك على الاصطلاح الأصولي إذ الترك لذلك فعل مضاف لخلق العالم، وتقدير فعل الله تعالى في الأزل اهـ ومنه علم أنّ الترك فيه خلاف هل هو عدم صرف أم لا، فليكن هذا على ذكر منك، فإنه ينفعك في مواضع كثيرة. قوله: (ترتب التحلية على التخلية) الترتب في كلام المصنفين التفرّع على الشيء، ووقوعه بعده مطلقا أو بحيث يكون الأوّل مقتضياً للثاني بسببية ونحوها، والذي في كتب اللغة رتب رتوباً إذا ثبت، ولم يتحرّك كترتب، فهذا مجاز يظهر وجه التجوّز فيه بالتأمّل، والتحلية الأولى بالحاء المهملة بمعنى التزين من الحلي، والثانية بخاء معجمة من الخلوّ والتفريغ هذا هو الصحيح رواية ودراية، لأنّ ما أريد تزييته، بنقش ونحوه ينظف ويفرغ، ثم يزين وما في بعض الحواشي من أنّ هذه تجلية بالجيم، وأنّ التجلية بالجيم داخلة في التخلية بالمعجمة، لأنه تنظيف الصدإ وما ضاهاه وفسرها بتصفية الباطن عن الكدورات ورذائل الأخلاق، والتوجه إليه تعالى فمن صقل باطنه تحلى بالصور الحقة الفائضة من المبدأ الفياض، وهو بالخاء المعجمة المرتبة الأولى، وهي تهذيب الظاهر عما لا ينبغي، والتصوير والتصقيل إشارة إلى مرتبة التجلية بالجيم، فتجتمع المراتب الثلاث اهـ تعسف نشأ من لفظ التصقيل لاتحاد الصفاء، والجلاء وإنما أراد المصنف تالتخلية ترك ما لا ينبغي، وبالتحلية فعل ما ينبغي، وهو معنى قول الإماء كمال السعادة لا يحصك إلا لترك ما لا ينبغي، وفعل ما ينبغي، فالترك هو التقوى، والفعل إمّا فعل القلب، وهو الإيمان أو فعل الجوارح، وهو الصلاة والزكاة، وقدم التقوى لأنّ القلب كاللوح ألقابل لنقوش العقائد الحقة، والأخلاق الفاضلة، واللوح يجب تطهيره أوّلا عن النقوش الفاسدة نتمكن إثبات النقوش الفاضلة، فلهذا قدم ترك ما لا ينبغي على فعل ما ينبغي اهـ فالتصوير والتصقيل بيان للتحلية،
والتخلية إلا أنا لم نر التفعيل من الصقل في كتب اللغة، ولا في كلام من يوثق به، وقد يقال: إنه للازدواج والمشاكلة، وقيل نقل لباب التفعيل ليفيد المبالغة. قوله: (أو موضحة إلخ) يجوز فيه تخفيف الضاد وتشديدها على أنه من الأفعال أو التفعيل، وهو مرفوع معطوف على قوله مقيدة، والضمير المستتر ثمة في إن فسر للتقوى وذكره نظرا للفظ أو الاتقاء وهذا هو المرتبة الثانية من المراتب الشرعية وفي الكشاف يحتمل أن ترد على طريق البيان والكشف، وهو مراد المصنف أيضاً إذ الموضح يطلق على مقابلة المخصمى، ولا يلزم فيه المساواة وعلى الكاشف الذي هو كالتعريف ولا بدّ فيه من المساواة تصريحاً أو تلويحا، وهو المراد هنا، كما في شروح الكشاف، فمن قال لا حاجة في كونه موضحاً إلى جعل الإيمان والصلاة والصدقة مشتملة على جميع العبادات، لأنه يكون أعم، والوصف بالأعم كالوصف بالمساوي يفيد التوضيح كزيد التاجر فقد غفل عن الفرق بين الاصطلاح واللغة، وفي شرح المفتاح الشريفي إن حمل المتقي على معناه الشرعي أعني الذي يفعل الواجبات بأسرها، وترك السيئات برمتها، فإن كان المخاطب جاهلاَ بذلك المعنى كان الوصف كاشفاً وان كان عالماً كان مادحاً وان حمل على ما يقرب من معناه اللغوي كان مخصصاً. قوله: (لاشتماله على ما هو أصل الأعمال) ضمير اشتماله للوصف، وهذا جواب عن سؤال تقديره أنّ الصفة الموضحة كالتعريف فينبغي أن تستوفي الطاعات والاجتنابات كلها وتقريره ظاهر، وهذا معنى ما في الكشاف من قوله لاشتمالها على ما أسست عليه حال المتقين من فعل الحسنات وترك السيئات أمّا الفعل فقد انطوى تحت ذكر الإيمان الذي هو أساس الحسنات ومنصبها، وذكر الصلاة والصدقة لأنّ هاتين أمّا العبادات البدنية والمالية، وهما العيار على غيرهما إلا أنه قيل إنّ في الكشاف لطيفة خلا عنها كلام المصنف رحمه الله، وهي أنه جعل الإيمان أصل العبادة، وأساسها لتوقف صحتها عليه مع عدم انفكاكه عنها وجعل الصلاة والصدقة أمي العبادات البدنية، والمالية لا أساسها، فإنهما وان كانا أصلين لها لا يتوقف صحتها على صحتهما لعدم توقف الولد على الأم بقاء بخلاف الأساس، وهذه النكتة صاحب الكشاف أبو عذرتها وتبعه من بعده كالشريف في شرح المفتاح وغيره، وقيل: إنّ الإيمان بيان لأساس الحسنات، والصلاة والصدقة بيان للأصل بمعنى الأمّ على اللف والنشر غير المرتب، فهو مشتمل على تلك النكتة ولا(1/206)
يخفى أنه خفيّ مشوّس، وعلى هذا فالأساس مغاير للاصل وعلى الأوّل هما بمعنى، ويؤيده قوله: فإنها أمّهات جمع أمّ، وهي يتجوّز بها عن المبدأ، والمتقدّم وعن المشتمل المحتوي لمشابهته لها في ذلك، وعن الأصل والمعزف لأنّ الشيء يعرف بأصله، ونسبه وعما يتوقف عليه الوجود، أو يضاهيه كالصحة، وهو المراد هنا وقال الطيبي رحمه الله: الأعمال إمّا قلبية: وأعظمها اعتقاد حقية التوحيد، والنبوّة والمعاد إذ لولاه كان كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء، أو بدنية:
وأصلها الصلاة لأنها الفارقة بين الكفر والإسلام، وهي عمود الدين والأمّ التي تتشعب منها سائر الخيرات، والمبرات أو مالية، وهي الإنفاق لوجه الله وهي التي إذا وجدت علم الثبات على الإيمان، والنفسانية نسبة للنفس على خلاف القياس كما يقال روحاني، وكثيراً ما يزاد في النسب ألف ونون للمبالغة أو الفرق، والأعمال جمع عمل، وهو الفعل الصادر بالقصد فلذا لا ينسب للجماد والغالب فيه استعماله في أفعال الجوارح الظاهرة وقد يطلق على غيرها كما هنا. قوله: (المستتبعة لسائر الطاعات) الاستتباع هنا بمعنى اللزوم العرفي المقتضي لوقوع غيره تبعا له كالفروع للأصول وهذا بيان لاشتماله على جميع العبادات قلبياً وقالبياً فعلاً وتركا حتى يتم كونه كاشفاً ومحددا لموصوفه، وقيل لأنه كناية عن فعل جميع الحسنات، وترك جميع السيئات كما قرّروه، وقيل: في ذكر هاتين العبادتين وجعلهما دليلاً فائدتان الاختصار والإفصاح عن فضلهما بانهما أصلان تبعهما ما سواهما، فلا حاجة إلى ذكره معهما فسائر العبادات مفهومة تبعا لا داخلة فيما استعمل فيه اللفظ، وكذا ترك السيئات ومنهم من زعم أنه كناية وحينئذ تكون الطاعات بأسرها مذكورة بلفظ بعضها، فلا ينحصر المذكور فيما هو عنوان لها، وهو مخالف لما يتبادر من عبارة الكشاف ولا حاجة إليه فإنّ المعاني التبعية لم تستعمل فيها الألفاظ، وليست أيضا أجزاء لما استعملت هي فيها وردّ بأنّ اعتبار الكناية غير مناف لما ذكره المصنف من أنّ المذكور في الآية، كالعنوان لسائر العبادات، فتجرّها وتستتبعها فإن ذلك بالنظر إلى أصل الوضع والمعنى المكنى عنه (لا يقال الا حاجة إلى اعتبار الكناية، فيكفي فهم سائر العبادات تبعاً بلا استعمال (لأنا نقول الا يخفى أنّ الكشف عن مفهوم المتقين يحصل بجميع الصفات بلا مزية لبعض على الباقي في ذلك الكشف، وان كان بعضها أكمل في نفسه من سائرها، وهذا البعض يستلزم الباقي في الوياقع، ولا يخفى إنّ المتبادر من الاستتباع اللزوم وليس بمجاز فيكون كناية، وكلامه لا ينافيه لأنه كالعنوان لا عنوان فلا حاجة لتأويله بما ذكره، وكلامه قدس سرّه مبني على دلالة الكلام بغير الطرق الثلاثة الحقيقة، والمجاز والكناية وسيأتي ما فيه ومن هنا علم حال ما قيل من أنّ ذكر الصلاة، والزكاة من باب إطلاق البعض على الكل وشرط مثله من المجاز إيراد أشرف ما في ذلك الشيء لأنّ معظم الشيء وجله ينزل منزلة كله لتضمن هذا المعنى أفضلية هاتين العبادتين، ولهذا قال مع ما في ذلك من الإفصاح عن فضل هاتين أي لزم من ذلك هذا على سبيل الادماج، وامنا على الثاني، فلم يذكر المذكورات لاستجلاب الغير بل هي المرادة أوّلاً وإنما ترجح ذكرها لفضلها على غيرها اهـ وعبر بالصدقة ليعمّ الزكاة وغيرها. وقوله: (غالباً) قيد للمستتبعة للأمرين، فإنّ استتباع الأصول للبواقي ليس أمراً كلياً تحقيقيا، كما لا يخفى. قوله: (ألا ترى إلى قوله تعالى إلخ) هو بيان لاستتباع التجنب وقدمه وان كان المبين به مؤخراً، لظهور دلالته على ما قصد، ولشرف الآية-- اد الحديث وفيه إيماء إلى ضعفه كما سيأتي وسيأتي معنى
الآية في محلها. وقوله: (الصلاة عماد الدين (1) إلخ) بيان لاستتباع سائر الطاعات، ففيه لف ونشر غير مرتب، وليس هذا حديثاً واحدا، وان أوهمه كلام المصنف لا بل حديثان، وقال الإمام النوويّ في شرح الوسيط: إنّ الأوّل حديث منكر باطل وقال ابن حجر ليس كذلك فقد أخرجه أبو نعيم عن بلال بن يحيى مرفوعاً، وهو مرسل وسنده رجال ثقات إلا أنّ لفظه " الصلاة عمود الدين) وأخرجه بلفظ " الصلاة عماد الدين " البيهقي في شعب الإيمان عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه مرفوعاً بسند فيه انقطاع، وقال الحافظ العراقي: أخرجه الديلمي أيضاً في الفردوس عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عته، وفي معناه حديث الترمذي عن معاذ بن جبل رضي الله عنه(1/207)
" رأس الأمر الإصلام وعموده الصلاة " (2) وأمّا حديث " الزكاة قنطرة الإسلام " (3 (فأخرجه الطبراني في الكبير والبيهقي في شعب الإيمان عن أبي الدرداء رضي الله عنه مرفوعاً بسند ضعيف، والعماد الدعامة من عمدت الحائط إذا دعمته والعمود معروف والقنطرة الجسر، وما ارتفع من الأرض وفي كتب الفقه أنّ الجسر ما يوضع ويرفع، والقنطرة ما يحكم كما في فتاوى قاضيخان، فكأنه معنى عرفيّ عندهم والدين الشريعة والإسلام، والإيمان متقاربان والكلام عليهما مفصل في الكتب الكلامية، وكون " الصلاة عماد الدين على التشبيه أو الاستعارة لأنها أشرف أعماله التي لا تسقط فرضيتها إلا نادراً) الزكاة قنطرة لأنّ مؤدّيها طهر ماله ونفسه وبين خلوصه، والقنطرة كالجسر يستعار للموصل كما قال أبو تمام:
لا يطمع المرء أن يجتاب لجته ~ بالقول ما لم يكن جسراً له العمل
فإن قلت: وقع في الحديث الصحيح المشهور " بني الإسلام على خمس " وعدّ منها الزكاة
فيه، فجعلت ثمة عمادا داخلة وهنا قنطرة خارجة عنه فما النكتة فيه قلت: هو تجوّز لا حجر فيه، فمن حيث أنها من شعائر الإسلام تعدّ ركنا منه ومن حيث أنّ المال بصرفه يجعل بازله داخلاً في الإسلام تعد قنطرة أو ذاك باعتبار من رسخ إصلامه وقدم، وهذا باعتبار من حدث إيمانه فتأمّل. قوله: (أو مسوقة للمدح بما تضمته) أي المتقون وفي نسخة أو مادحة بما تضمنه، والمعنى واحد وهو معطوف على مقيدة أو موضحة، وترك كونها مؤكدة كنفخة واحدة لأنّ التاسيس أولى لا سيما إذا اشمل على نكتة. وقوله: (وتخصيص الإيمان إلخ) إشارة إلى جواب سؤال تقديره لم اختص المدح بهذه دون غيرها مما تضمنه. وقوله: (إظهار) أقحم لفظ الإظهار الحماء إلى أنها في الواقع كذلك، وأنّ في الوجه الأوّل إشارة إليه أيضا، وإنما الفرق بينهما بالقصد وعدمه، فلا يقال إنه يجوز جعل وجه التخصيص ما مرّ من كونها أمهات وأصولاً، مع أنه مناسب للاستتباع دون المدح كما لا يخفى وقيل إنّ في قوله مسوقة إشارة إلى أنه أقل من أخوبه، ولذا أخر. لأنّ لفظ السوق يشعر بأنه لا يفيده بنفسه ولذا غير الأسلوب. وأعلم أنّ من الناس من قال: إنّ كون الذين يؤمنون مادحاً إنما يحسن إذا حمل المتقين
على حقيقته دون المشارفة إذ ليس الإيمان، وما بعده حاصلاَ للضالين الصائرين للتقوى فجعل الصفة كاشفة إذا أريد بالتقوى ما في المرتبة الثانية، وجعلها مخصصة على الأولى وإذا جعلت مادحة فالمراد ما هو في المرتبة الثالثة. وقيل: إن كان المخاطب جاهلاَ بالمعنى فالصفة موضحة والاً فهي مادحة، وفيه ما فيه كما سيأتي قريبا فتدبر. قوله: (أو على أنه ماخ منصوب إلخ) الجاز والمجرور معطوف على الجارّ والمجرور السابقين في قوله على أنه صفة مجرورة وجعل المصنف رحمه الله المنصوب والمرفوع موصولاً بما قبله كالمجروو، لأنهما تابعان له معنى وصفة له بحسب الأصل، وان خرجا صورة ولفظا، ولذأ سماه النحاة قطعا بخلاف المستأنف، ووجه دلالته على ما قصد به في الاتباع، والقطع من المدح ونحوه أنه صفة حميدة علم ثبوتها فيفهم عها ذلئا، وقيل: إنّ هذا علم من تغييو الإعراب لأنّ تغيير المألوف يدل على زيادة ترغيب في استماعه ومزيدى اهتمام لشأنه لا سيما مع التؤام حذف الغععل، أو إ أحبتدأ ولا يخفى أنّ دلالة الإعواب المقدّو على ذلك غير ظاهرة مع أنها مادحة على الاتباع أيضا كما صرحت به أيضاً متون العربية، وفي قوله هم الذين تسامع لأن المقدر هم فقط*قوله:) وإمّا مفصول إلخ) معطوف على قوله موصولى، وإنما انفصك لأنه قصد الإخبار عنه بما بعده لا إثباته
لما قبله وان فهم ذلك ضمنا فهو، وان لم يجر عليه كالجاري ويكفي هذا في ارتباط الكلام سواء كان الاستئناف نحوياً أو بيانياً، فيكون جواباً عن سؤال تقديره ما بال المتقين خصوا بذلك الهدى، فلا يتوهم ضعف هذا الوجه لعدم الارتباط فيه كما نقل عن أبي حيان، ولا إنّ الظاهر على هذا إنّ بينهما كمال الانفصال، وتقدير السؤال يقتضي الاتصال وكونه كالجاري عليه لا ينافي كون الوقف تاماً كما ستسمعه قريبا، وقال قدس سرّه: حاصل ما قرّره من الاحتمالات أنّ المتقي إن حمل على المعنى الشرعي، فإن كان خطاباً لمن عرف مفهومه مفصلاَ كانت الصفة مادحة، والاً كاشفة وأن حمل على مجتنب المعاصي كانت مخصصة، ولما كان الاستئناف أرجح لم يكن في الترجيح بين هذه الأقسام(1/208)
فائدة، ثم إنّ المتقين إن أريد بهم المشارفون لم يحسن أن يجعل الذين يؤمنون بالغيب صفة، ولا مخصوصاً بالمدح نصباً أو رفعاً ولا استئنافاً أيضا، لأن الضالين الصائرين إلى التقوى ليسوا متصفين بشيء مما ذكر، وحمل الكلام على الاستقبال والمشارفة يأبا. سياق الكلام عند من له ذوق سليم اهـ. وقيل: يمكن دفعه بأنّ في هذا النوع من المجاز زمانين زمان النسبة وزمان إئبات النسبة، واعتبار المشارفة بالنظر إلى زمان نسبة الهدى واعتبار حقيقة التقوى بالنظر إلى زمان إثبات الهدى فلا إشكال، ونظيره أن يقال قتلت قتيلاً كفن في ثوب كذا ودفن بموضع كذا، فإنّ اعتبار المشارفة بالنظر إلى زمان نسبة القتل واعتبار حقيقة القتل، والتكفين والدفن بالنظر إلى زمان إثبات نسبة القتل، وقيل: أيضاً يمكن أن يكون المتقين مجازاً بالمشارفة، والصفة ترشيحاً له بلا مشارفة، ولا تجوّز أصلأ كما هو المعهود في ترشيح المجاز والاستعارة.
(أقول الا يخفى ما في هذا أمّا الآوّل فلأنّ أهل الأصول اختلفوا في أنّ المعتبر زمان الحكم، أو زمان التكلم، ورجحوا الأوّل، وما ذكره هذا المجيب منتحت من القولين، فهو بناء على غير أساس، وسقوطه ظاهر بلا التباس. وأمّا الثاني فهو إن لم يبعد عن الصواب إلا أنه مسلم للإشكال وتوجه وروده وليس كذلك لأنا إن حملنا المتقين على حقيقته فظاهر وان حملناه على المشارفة فالمشارفة ثابتة في الحال والتقوى الحقيقية عقبه، كما هو شأن المشارفة فلتعقبها لها، كأنها واقعة فيمدح صاحبها بما يتصف به بعد ذلك في المستقبل من غير محذور، وإذا علم المخاطب ثبوت وصف حميد في المستقبل لموصوف، فما المانع من المدح به كما يقول المؤمن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم الشفيع في المحشر، فالإشكال ليس بوارد أصلاً. قوله: (فيكون الوقف إلخ) قال السخاوندي: الوقف إمّا لازم، وهو الذي إذا وصل غير المعنى المراد نحو وما هم بمؤمنين يخادعون الله لأنّ القصد نفي الإيمان ولو اتصل لم يفد.، ومطلق وهو ما يحسن الابتداء به وهو الذي عناه العلامة بقوله مقتطع، وجائز وهو ما استوى وصله وفصله وهو المراد بقوله حسن غير تامّ لأنّ اعتبار الوصفية يقتضي الوصل، واعتبار الفاصلة يقتضي الفصل، وفي الكشف اعتبار الفاصلة في الوقف لا يقول به السخاوندي والكواشي،
والظاهر أنّ مثله يجوز في الآيات إذا قصد البيان خاصة لما مرّ من أنّ التامّ عند القرّاء والزمخشريّ هو الوقف على جملة مستقلة لا ترتبط بما بعدها، وأمّا الحسن فقيل: هو الوقف على جملة لها ارتباطاً بما بعدها ارتباطاً لا يمنع الاستقلال، وقيل الوقف على كلام مستقل بعده ما لا يستقل كالحمد لله وفي تسميته حسناً نظر، وعلى القطع هو في المعنى وصف، فلذا كان الوقف غير تامّ واعترض بأنه على تقدير كونه مبتدأ خبر. أولئك ينبغي أن يكون الوقف غير تامّ أيضاً لأنه استئناف على تقدير سؤال نشأ عما قبله فهو كالجاري عليه معنى، فلا فرق بينه وبين النعت المقطوع وأجيب بأنه لم يتغير في المقطوع ما قصد من إجرائه عليه في المعنى بخلاف الاسنئناف، فإنّ المقصود فيه الاخبار عنه بما بعده وان فهم وصفه به ضمنا فليس جاريا عليه معنى ورذ بأنّ ما فهم عن الزمخشريّ في تعريف التامّ، ونقل عن القرّاء كما مرّ غير صادق على المستأنف فإنه مرتبط بالمستأنف عنه معنى كما صرّح به المجيب، ولا يخفى أنّ الارتباط من الثاني لا الأوّل، والمعتبر في التامّ عكسه فتأمل. قوله: (والإيمان في اللغة التصديق) وفي نسخة عبارة عن التصديق، فالإيمان أفعال من الأمن، وقد كان متعدياً فتعدى بالهمزة لاثنين كامنته غيري أي جعلت غيري آمناً منه، وقيل إنّ همزته تحتمل أن تكون للصيرورة كاغد البعير إذا صار ذا غدة وقول المصنف رحمه الله كأنّ المصدق إلخ يشير إلى الأوّل، وقوله بعده صار ذا أمن يشير إلى الثاني، واستعماله متعدياً لاثنين يأباه، وما توهمه وهم فإنه معنى آخر، وهمزة التعدية فيها معنى الصيرورة بمعنى الجعل كما لا يخفى، واستعماله في التصديق إمّا مجاز لغوي لاستلزامه إيا. لأنّ من صدقك أمنك تكذيبه كما يشعر به كلام الكشاف أو حقيقة لغوية، كما في الأساس ووفق بينهما بأنّ كلامه في المعنى الحقيقيّ الذي وضع له اللفظ أوّلاً في اللغة، ثم وضع فيها لمعنى آخر يناسبه، وهو دأبه في تحقيق الأوضاع الأصلية وبيان مناسبات المعاني اللغوية بعضها لبعض مع كون اللفظ حقيقة لغوية في كل منهما(1/209)
فلا خلاف بين كلاميه وهو الحق ولذا قال المحقق في شرح المختصر: إنه في اللغة التصديق بالإجماع، وقال الراغب: الإيمان التصديق الذي معه أمن، وإذا كان مجازا فالمناسبة بينه وبين المعنى الأصليّ مراعاة وكذا إذا كان منقولاً، ولذا قال المصنف رحمه الله مأخوذ من الأمن. قوله: (كأنّ المصدّق) بكسر الدال أمن المصدق بفتحها، وأتى بكأنّ إشارة إلى أنه قطع فيه النظر عن معناه الأصليّ فلا يخطر ببال من يستعمله إلا نادرا، وهذا دأبهم فيما لا يظهر فيه مراعاة المعنى الأصلي، ولخفائه هنا أنكره بعضهم ولا وجه له وبهذا التقرير سقط ما قيل: هنا من أنه إن أريد به الأمن من تكذيب المصدّق فهو محقق فلا وجه لقوله: كأنّ وان أريد الأمن من تكذيب غيره فهو غير صحيح، وقد يقال ة الأمن في الحال لا يستلزم الأمن في الاستقبال، فيجوز أن يكون ذكر كأنّ باعتباره أو إشارة إلى أنّ الظن في مثله كاف. وقوله:) وقد يجيء بمعنى الوثوق) وفي نسخة " وقد يطلق) وهما بمعنى وهذا أيضاً مأخوذ من المعنى الأوّل. وقوله بمعنى الباء صلة أو
بمعنى في وقيل إنّ الجار والمجرور حال لأنّ الإطلاق لا يتعدى بالباء، وهذا المعنى محتمل لأن يكون مجازاً أو حقيقة، وقد ذهب إلى كل منهما بعض الشراح والظاهر الثاني وقوله ما أمنث أن أجد صحابة حكاه أبو زيد عن العرب، وأنه يقوله ناوي السفر إذأ عوّقه عنه عدئم الرفيق أي ما وثقت أن أظفر بمن أرافقه فأمنت فيه بالمدّ لازم أو متعدّ لواحد، وأن أجد منصوب محلاً والظاهر أنه على نزع الخافض أي بأن أجد، فإنّ حذفه فيه مطرد وهذا هو الصحيح وصحابة بفتح الصاد ويجوز كسرها في الأصل مصدر يقال صحبه صحابة وصحبة ثم جعل جمع صاحب، أو اسم جمع له على الأصح وهو المراد هنا. قوله: (من التكذيب والمخالفة) تبع فيه الزمخشريّ وقال السكوتي في كتاب التمييز الذي بين فيه ما في الكشاف من الدسائس الاعتزالية إنّ قوله المخالفة المراد به مخالفة الشرع بالكفر، وارتكاب الكبائر فإنّ مرتكبها عندهم غير مؤمن مخلد في النار وان لم يطلقوا عليه أنه كافر، ولك أن تقول إنه عطف تفسيري والمراد به مخالفة خاصة بالكفر، فلا يرد عليه ما ذكر، ولو تركه كان أولى. قوله: (وتعديته بالباء إلخ الما ذكر أنه بمعنى التصديق، وهو متعدّ بنفسه وجه تعديته بالباء بما ذكر، وتضمنه يكون بمعنى يدل عليه ضمنا وبمعنى التضمين المصطلح عليه، وكلامه محتمل لهما إلا أنهم اقتصروا على الثاني هنا لتبادره، والتضمين المصطلح كما قال السيد السند أن يقصد بلفظ فعل معناه الحقيقيّ، ويلاحظ معه معنى فعل آخريناسبه ويدل عليه بذكر صلته كأحمد إليك فلاناً أي أنهى حمده إليك، وفائدة التضمين إعطاء مجموع المعنيين فالفعلان مقصودان معاً قصداً وتبعاً قال المصنف رحمه الله: من شأنهم أن يضمنوا الفعل معنى فعل آخر فيجرونه مجراه فيقولون هيجني شوقا معدّى إلى مفعولين، وان كان معدى بإلى لتضمنه معنى ذكر المشدّد واختلفوا فيه فذهب بعضهم إلى أنّ المضمن مراد بلفظ محذوف يدل عليه ذكر متعلقه، فتارة يجعل المذكور أصلاً في الكلام، والمحذوف قيدا فيه على أنه حال كقوله: {وَلِتُكَبِّرُواْ اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} [البقرة: 185] أي حامدين وتارة يعكس فيجعل المحذوف أصلاً، والمذكور مفعولاً كما مرّ في أنهي حمده، أو حالاً كما في {يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} أي يعترفون مؤمنين به، ولما كانت مناسبته للمذكور بمعونة ذكر صلته قرينة على اعتباره جعل كأنه في ضمنه، ومن ثمة كان جعله حالاً وتبعا للمذكور أولى من عكسه، وما توهم من أنّ ذكر صلة المتروك يدل على أنه المقصود أصالة مدفوع بأنّ ذكرها إنما يدل على كونه مرادا في الجملة إذ لولاه لم يكن مراداً أصلاً، وذهب آخرون إلى أنّ كلا المعنيين مراد بلفظ واحد على طريق الكناية إذ يراد بها معناها الأصلي ليتوسل بفهمه إلى ما هو المقصود الحقيقيّ، فلا حاجة للتقدير إلا لتصوير المعنى، وفيه أنّ المعنى المكنى به قد لا يقصد ثبوته وفي التضمين يجب القصد إليهما والأظهر أنّ اللفظ مستعمل في معناه الأصلي قصداً وأصالة لكن قصد بتبعيته معنى آخر يناسبه من غير أن يستعمل فيه اللفظ، أو يقدر له لفظ آخر فلا يكون إضمارا ولا كناية بل
حقيقة قصد بمعناها الحقيقيّ معنى آخر يناسبه، ويتبعه في الإرادة وحينئذ يكون معنى التضمين واضحاً بلا تكلف إلى هنا ما أفاده قدس سرّه.
(وفيه بحث حا وجوه) :
(الأؤل)(1/210)
أنّ اعتراضه بقوله إنّ المعنى المكنى إلخ لا اتجاه له إذ لا يبعد أن يلتزم في بعض الكنايات شيء، ولذا سمي باسم خاص ومنه علم أصاً أنه لا يرد على الوجه الأوّل إنه من قبيل الحذف لقرينة، فلا معنى لتسميته تضميناً.
(الثاني) أنّ ما استظهر. بعيد لجعل المتعلق معمولاً من غير تقدير عامل لمجرّد فهم معناه
لا سيما نصب المفعول، واعمال المذكور فيه من غير استعماله في معناه، ألا ترى أنه لا ينصب بحرف التنبيه فهذا أولى.
(الثالث) أنه يرد على الوجه الأوّل في صورة جعله مفعولاً أنّ فيه جعل الجملة مفعولاً ومعمولاً لما لا يعمل في الجمل، وتاويله بالمصدر من غير سابك مخالف لأحكام العربية، ثم كون المقدّر تابعا للمذكور أولى عنده وقد عكسه المدقق في الكشف وناهيك به، وقد تبعه هو في شرح المفتاح في أوّل القانون الأوّل، وتخصيص التضمين بالفعل في عبارته لا ينبغي فكأنه الأصل الغالب وهكذا الناس مع الغالب، وأيضا هو لا ينحصر في الطرق المذكورة ألا ترى إلى تقديرهم التضمين في قوله: {الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ} [البقرة: 187] بالرفث، والإفضاء بالعطف وهو لم يذكر في طرقه، ومن تتبع موارد الاستعمال وجد له طرقا كثيرة، وقد ذكرنا طرفا منها في كتابنا طراز المجالى، وما قيل: من أنّ الأحسن أن يقال ويدل على الثاني إئا بذكر شيء من متعلقاته كما مرّ، أو حذف شيء من متعلقات الأوّل كما في قوله: هيجني شوقاً بحذف إلى ليس بشيء لأنّ المفعول الصريح معمول المحذوف، ومعمول المذكور لم يتعرّض له وليس من مهمات التضمين.
(الرابع) أنّ ما ارتضاه مبنيّ على أنّ اللفظ قد يدل على معنى دلالة صحيحة بغير الطرق الثلاثة الحقيقة والمجاز والكناية، وفيه ما لا يخفى من أنّ مستتبعات التراكيب لا يمكن إنكارها، فإنها الشمس في وسط النهار إنما النظر في كونها مقصودة منه بدون الطرق الثلاث، وكونها عاملة في المتعلقات مما لا يعهد مثله في بليغ الكلام، فإن قلت كيف يكون مضمنا معنى الاعتراف، وقلما يوجد في الكلام آمنت الله بل لم يسمع أصلاً للزوم الباء فيه، وقد قال نجم الأئمة الرضى أنه إذا كان الغالب في فعل التعدية بحرف فهو لازم متعد بالحرف وأيضاً اعتبار الاعتراف يشعر بلزوم الإقرار باللسان في الإيمان شرعا على ما سيأتي بيانه فيه قلت: هذا ما أورد. بعض الفضلاء، ولم يجب عنه ولا يخفى اندفاعه فإنه مجاز وقد أجازوا فيه أن يلتؤم، وتهجر الحقيقة فأيّ مانع هنا مما ذكر خصوصاً واللزوم إنما نشأ من نقله شرعا إلى هذا المعنى
مع أنه غير مسلم، ولزوم الإقرار فيه مما ذهبوا إليه في بعض المذاهب فتأمّل. قوله: (وكلا الوجهين حسن في يؤمنون بالغيب (أي يعترفون به أو يثقون بأنه حق، فالوثوق بمعنى اعتقاد حقيته وهذا بالنظر إلى المعنى اللغوي، وأمّا بالنظر إلى المعنى الشرعي، فالحمل على التصديق ظاهر الجرحان للإجماع على أنّ الإيمان المعتبر نفس التصديق، أو هو داخل فيه كما في الكشف. قوله: (وأمّ في الشرع إلخ) لما كان المعنى الشرقي منقولاً من اللغوي قدمه، وبين أنّ حقيقته الأصلية جعله آمنا وقد يكون بمعنى الوثوق حقيقة، ثم إنه صار في عرف اللغة حقيقة في التصديق، وضمن معنى الاعتراف، وأمّا الشرقي فاختلف فيه أهل القبلة على عشرة أقوال أصحابها فرق أربع على ما فصله الإمام، فهو منقول من مطلق التصديق إلى التصديق بأمور مخصوصة، كما عرف في مثله من الحقائق الشرعية، والتصديق هو الإذعان والتسليم والرضا به من غير تردد وشك فيه لا مجرّد العلم والمعرفة، إذ من الكفار من يعرف الحق ولا يقرّ به عناداً، والضرورة ما لا يحتاج إلى نظر واستدلال بحيث تعلمه العامّة، وهو العلم الضرورفي المراد هنا فكونه من الدين ضروريّ، وأن كان في نفسه يتوقف على النظر والاستدلال، ويكفي الإجمال فيما يلاحظ إجمالاً ولا يشترط التفصيل إلا فيما يلاحظ تفصيلاً حتى لو لم يصدق بوجوب الصلاة عند السؤال عنه، ومجرمة الخمر إذا سئل عنها كان كماقراً، وقيل: هو التصديق بالقلب واللسان، وهو منقول عن أبي حنيفة، ومشهور عن أصحابه ومحققي الأشاعرة فهما ركنان له إلا عند العجز قال ابن الهمان: والاحتياط واقع عليه، وذهبت الكرّامية إلى أنه الإقرار باللسان فقط، فإن طابق القلب فهو ناج والأ فهو مخلد في النار، فإن قلت ما المراد من التصديق بما اشتهر كونه من الدين بحيث تعلمه العاثة من غير نظر واستدلال، فإن أريد(1/211)
التصديق بجميع ذلك لزم أنّ من صدق بالله وملائكته وكتبه ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره، ولم يصدّق بغير ذلك لأنه لم يبلغه لأنه في دار الكفر أو لقوب عهده بالإسلام لا يكون مؤمناً، وهو مؤمن بالإجماع، وإنما الخلاف في الإيمان المجمل، وهو أن يقول آمنت بالله كما هو بأسمائه وصفاته وقبلت جميع أحكامه، وان أريد التصديق في الجملة، ولو ببعضه كالتوحيد فهو غير كاف بالإجماع قلت قد أورد هذا بعض الفضلاء، وأجاب عنه بأنّ المراد التصديق بجميع ذلك بشرط بلوغ الخير إليه وعلمه بكونه من ضروريات الدين، وفيه بحث فتدبر. قوله: (ومجموع ثلانة أمور إلخ) هو مرفوع معطوف على التصديق في قوله فالتصديق إلخ وأن المراد بالحق هنا هو الله بل خلاف الباطل وتعريفه للعهد لأنّ المراد به ما مز، وهو المعلوم من الدين بالضرورة، وقيل: هو الحكم الثابت بالشرع علميا كان او عمليا، ولا يخفى أنه لا يصح على إطلاقه، فلا بد مما قلناه والاعتقاد افتعال من العقد، وهو عقد القلب أي الجزم به، وهو
مجاز صار حقيقة عرفية وفي بعض النسخ ومجموعة ثلاثة أمور بالإضافة إلى الضمير الراجع للإيمان وليست سهواً كما توهم. نعم الأولى أولى رواية ودراية، والمراد بالإقرار ما يعتبر شرعاً وهو كلمة الشهادة والعمل فيما إذا كان عملياً ولم يقيد به لظهوره، فإن قلت إن أراد أن أصل الإيمان ما ذكر فمذمب السلف من المحدثين ليس كذلك لعدم تكفيرهم لمن أخل ببعضها، ولا واسطة والاً كان عين المذهبين الآخرين وان أراد أنه الكامل منه لم يتفرع عليه ما ذكر، ولذا قيل الظاهر أن يأتي المصنف بالواو مكان الفاء قلت قال: بعض المدققين أنّ من جعل الأعمال جزءاً من الإيمان منهم من جعلها داخلة في حقيقته حتى يلزم من عدمها عدمه وهم المعتزلة، ومنهم من جعلها أجزاء عرفية لا يلزم من عدمها عدمه كما يعد في العرف الشعر والظفر واليد والرجل أجزاء لزيد مثلاً، ومع ذلك لا يعدم بعدمها، وهو مذهب السلف كما في الحديث " الإيمان بضع وستون شعبة " إلخ فلفظ الإيمان عندهم موضوع للقدر المشترك بين التصديق والأعمال، فإطلاقه على التصديق فقط، وعلى مجموع التصديق والأعمال حقيقي كما أنّ المعتبر في الشجرة بحسب العرف القدر المشترك بين ساقها فقط، ومجموع الساق مع الأوراق والشعب ولا يتطرّق إليها الانعدام ما بقي الساق، وكذا حال زبد فالتصديق بمنزلة أصل الشجرة، والأعمال بمنزلة عروقها وأغصانها، فما دام الأصل باقيا يكون الإيمان باقيا وان انعدصت الشعب، ومن قال: إنها خارجة عنه لا يمنع من إطلاق الإيمان عليها كما في الحديث مجازاً، فلا مخالفة بينهم إلا في أنّ الإطلاق حقيقي أو مجازي، وهو بحث لفظي، ومن هنا علم لطف إطلاق الشعب في الحديث لما فيه من الإيماء إلى ما ذكر، وفي شرح المقاصد أنّ الإيمان يطلق على ما هو الأصل والأساس في دخول الجنة، وهو التصديق وحده أو مع الإقرار وعلى ما هو الكامل المنجي بلا خلاف، وهو التصديق مع الإقرار والعمل على ما أشير إليه بقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} [الأنفال: 2] إلى قوله: " {أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} [الأنفال، الآبة: 74] وموضع الخلاف أنّ مطلق الاسم للأوّل أو للثاني وهذا لا ينافي كونه لفظياً لأنه يرجع بالآخرة إليه وما قيل من أنّ المراد اتفاق هذه الفرق في هذه العبارة يعني مجموع الثلاثة لا يسمن ولا يغني من جوع. قوله: (فمن أخل بالاعتقاد إلخ) يقال أخل إذا افتقر لأنه صار ذا خلة أي فقر، وأخل بالشيء إذا تركه، أو قصر فيه وهو المراد هنا وعبر به لإخراح العجز في أخويه لأنه لا يضرّ واشارة الأخرس المفهمة في حكم الإقرار فتدخل فيه، وقيل عليه: إنّ من أخل بالاعتقاد والعمل أيضا منافق، فينبغي ترك قوله وحده كما في بعض النسخ، ولذا قال في الكشاف: فمن أخل بالاعتقاد، بأنّ شهد وعمل، فهو منافق ولم يقيد الإقراو والعمل به لأنّ المخل بالإقرار كافر مطلقاً والمخل بالعمل فاسق مطلقا، ولشى بوارد لأنّ المخل بالاعتقاد والعمل ليس بمنافق وفاقا لأنه كافر عند الخوارج، وخارج من الإيمان عند المعتزلة والمنافق من يظهر الإيمان ويبطن الكفر، فإذا جعل
قوله وفاقا قيد الجميع ما قبله اندفع ما ذكر بلا مرية، وقد قيل: إذا ظهر المراد، فلا إيراد وعدل عما في الكشاف تنبيها على ما قصده لا لغفلة منه كما توهم، وقد يقال: إنّ من ينافق قد يتركهما خفية(1/212)
وهذا لا يخرجه عن النفاق كما قال تعالى: {وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكْمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُونَ وإذا ختوا إلى شياطينهم قالوا إتا معكم إنما نحن مستهزؤن} [البقرة: 14] وهو لا يرد هنا. قوله: (ومن أخل بالإقرار إلخ) أي من أخل بالإقرار عامداً معانداً متمكنا منه، وقد تقدم أنّ إشارة الأخرس المفهمة إقرار والمراد بقوله كافر أنه كافر مجاهر بكفره بخلاف المنافق لإخفائه للكفر، وما قيل: من أنّ في هذا نظر لما قاله الإمام من أنّ من عرف الله بالدليل ولم يجد من الوقت ما يتلفظ فيه بكلمة الشهادة هل يحكم بإيمانه وكذا لو وجد من الوقت ما أمكنه التلفظ به فيه، فعن الغزالي فيهما: أنه مؤمن والامتناع من النطق يجري مجرى المعاصي التي مع الإيمان والأحاديث الصحيحة شاهدة له كحديث " يدخل الجنة من في قلبه خردلة من للمان " والذي يعتذر له أنّ المراد بالإخلال هو أن يقصد به الجحود والعناد مدفوع بأنه الراجح عند الأشاعرة، فإنّ الراجح عندهم إنّ الإيمان مجرّد التصديق، والقول الآخر أنه التصديق مع الإقرار، وهو الراجح عندنا معاشر الحنفية الماتريدية إلا أنّ الشفي رحمه الله قال في العمدة على ما نقله ابن الهمام في المسايرة إنّ الإيمان هو التصديق، فمن صدق الرسول صلى الله عليه وسلّم فيما جاء به فهو مؤمن بينه وبين الله تعالى والإقرار شرط الأحكام وهو بعينه القول المختار عند الأشاعرة، والمراد بالأحكام أحكام الدنيا من الصلاة عليه ودفنه في مقابر المسلمين ونحو ذلك قال ابن الهمام رحمه الله: واتفق القائلون بعدم اعتبار الإقرار على أنه يلزم أن يعتقد أنه متى طلب منه أتى به فإن طولب فلم يقرّ فهو كفر عناد اهـ فاعتراضه بما ذكر على الزمخشريّ وهو من الحنفية أو المعتزلة لا وجه له، وأمّا من أورده على المصنف فله ذلك فتأمل. قوله: (ومن أخل بالعمل ففاسق إلخ) أي أنه مؤمن فاسق، وعند بعضهم كافر فاسق لأنّ الفسق يطلب على الكفر أيضا. قال تعالى: {وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 55] لأنه من فسق الرطب إذا خرج عن قشره وهو أعمّ من الكفر وأكثر ما يقال الفاسق لمن التزم حكم الشرع، وأخل ببعض أحكامه والفرق بين مذهب الخوارج والمعتزلة أنه لا واسطة بين الكفر والإيمان عند الخوارج، وبينهما واسطة عند المعتزلة إذ شرط الإيمان، أو شطره ترك الكبائر أو الذنوب مطلقاً عندهم، وما قيل: من أنه يفهم من كلام المصنف أنّ المخل بالعمل وحده مؤمن فاسق وليس بكافر عند جمهور المحدّثين أيضاً فينا في ما قالوه من أنه مجموع الثلاثة ساقط لما مرّ. قوله: (والذي يدلّ على أنه التصديق إلخ) أي مما يدل على
أنه وضع في الشرع لتصديق القلب دون عمل اللسان والجوارح، والإضافة في اصصلاج النحاة مشهورة، وكذا في اصطلاح غيرهم والمراد بها هنا معناها اللغوي، وهو في الأصل الإمالة وتطلق على تعلق خاص، وهو كونه صفة له وملابأ ملابسة تامّة، فإنه جعل في هذه الآيات مظروفا تارة، وأسند إليه أخرى فيكون من أحواله لا من أحوال الجوأرج، وهو لا يضاف إليها إلا بتأويل، وعطف العمل عليه يدل على التغاير، وكونه من قبيل حافظوأ على الضلوات والصلاة إنوسطى خلاف الظاص يائماه كثرته، وكذا تخصيصه بالنوأفل بناء على خروجي، وقرنه بالمعاصي وأس دن على الطاعة لم يقرن بضدها وهذا وإن دلّ على خروج ألأعمال دون الإقرار كاف في ردّ القول؟ نه مجموع الثلاثة وفيه تظر، واسنشهاده بآية {لَمْ يَلْبِسُواْ} إلخ لأن اللبس لا يقتضي وفعه بك مخالطته وهو مبني على ما يقتضيه ظاهرها من أنه مطلق القلم الشامل لجميع المعاصي حتى الشرك فإن خصص بالشرك كما سيأتي في تفسيرها، فإن صت أشرك عنادا سمي تصديقه إيماناً، وان لم يعتبر شرعا لعدم شرطه، فلا يرد على المصنف وحمه الله أنه لا يصح إيراد هذه الآية هنا لأنّ الظلم فيها بمعنى الشرك ثم إنه أورد على المصنف أنه تبع فيما ذكر الإمام، وهو مخالف لمذهبه فإنه صح عن الشافعي رضي الله عنه أنه قال الإيمان قول وعمل يزيد وينقص وقد تقدم ما يدفعه، والمراد بالكتابة في الآية إثباته، والإقرار والعمل غير مثبت فيها وقد قيل: إنّ كؤ واحمي من هذه الأدلة، وان كان محلاً للمناقشة، لكن بالمجموع تحصل الطمأنينة والاستدلال بآية، وان طائفتان لأنه سماهم مؤمنين مع عصب ن أحد الفريقين. قوله: (فع ما فيه من قلّة التغيير إلخ (هذا ما وقع في بعض النسخ، ومعناه أنه في اللغة مطلق التصديق، وعلى هذا هو تصديق خاص(1/213)
والإطلاق والتقييد تفاوت ما بينهما قليل، وهو المعروف في المنقولات بخلاف قولهم إذ فيه مع التغيير زيادة الإقرار والعمل، وليس معنى هذه العبارة ما قيل: من أنّ المراد بالتصديق الاعتقاد الجازم المطابق للواقع، وهو قلما يقبل التغيير بتشكيك مشكك يخلاف القول والعمل لأنه متغير، وغير دائم فإنه تكلف وعدول عن جادّة الطريق. وقوله: (وإنه إلخ) المراد بالأصل المعنى اللغوي المنقول عنه وفي بعض النسخ فإنه بالفاء على أنه تعليل لما قبله، قيل سر هذا الاختلاف، وترجيح ما ذكر راجع إلى أن المكلف الروج فقط والبدن آلة لها ومركب أو البدن أو مجموعهما، فإن قلنا بالأوّل وهو الأظهر فهو التصديق وان قلنا بغيره يعتبر عمل اللسان والجوارج. قوله:) وهو متعين الإرادة إلخ) الظاهر أن هذه جملة حالية والواو واو الحال لا عاطفة على ما قبله، كما قيل لما فيه من التعسف وكذا
قوله مع ما فيه أيضاً أي يدلّ على مجرّد التصديق ت ذكر مقرونا بما فيه إلخ والوفاق المذكور بيننا وبين المعتزلة، والقصر إضافي ناظر لإرادة المجموع لا حقيقيّ والتعين بالنسبة إلى ألمعنى الشرفي، فلا يرد عليه ما مرّ من قوله وكلا الوجهين حسن في يؤمنون بالغيب لتعدي وثق بالباء أيضاً، وقد قيل إنه إنما يتم لو تعين أنّ الباء للتعدية وسيجيء أنّ فيها احتمالات أخر مع أنه على التضمين يتعدى بالباء لتقديره بمعترفين بالغيب كما مرّ، وأيضا ظاهر عبارته أنه يراد التصديق على أنه معنى شرقي كما بينا لك، وليس كذلك لقول الإمام أجمعنا على أنّ الإيمان المعدى بالباء يجري على طريقة أصل اللغة أمّا إذا ذكر مطلقا غير معدّي، فقد اتفقوا على أنه منقول عن المسمى اللغوي، وهو التصديق إلى معنى آخر والجواب أنّ التعدية هي الأصل المتبادر، ولذا قدمها المصنف فيما سيأتي فلا يلتفت لما يخالفها، وما ذكر الإمام مخالف للجمهور وليس مما يعوّل عليه فعليك بالتتبع والنظر السديد إن أردت أن تميط لثام الشبه، ومن الناس من قال: إنّ الضمير في قول المصنف، وهو متعين رأحر إلى الأصل فهو عين كلام الإمام وبنى على ما فهمه ما تركه خير من ذكره. قوله: (ثم اختلف في أنّ مجرد التصديق إلخ) هذا مترتب على أنه التصديق وحده الدال عليه قوله والذي يدلّ إلخ أي اختلف القائلون بأن حقيقته التصديق لا غير هل يكفي ذلك التصديق وحده في كونه مؤمنا، فإنه حقيقته الموضوع لها لفظه أو يثترط له شرط خارج عن مسماه، وهو الإقرار بالنطق بكلمة الشهادة للتمكن منها كما مرّ تحقيقه، وان المعتبر منه حقيقة ذلك أو ما هو في حكمه كإشارة الأخرس وليس الخلاف في الحكم بإيمانه ظاهرا، واجراء أحكام الإسلام بل في كونه كذلك في الآخرة ناجيا من العذاب المخلد كما أنّ المصز على عدم الإقرار مع طلبه بلا مانع منه كافر اتفاقاً كما مرّ، ولم يجزم المصنف رحمه الله باشتراطه إذ قال ولعل إلخ لتعارض الأدلة كما مرّ، وبما ذكر من كون الاختلاف في الشرط الخارج عن ماهيته علم أنه مذهب آخر فلا يصح تفريعه على ما قبله. وقوله: (لا بذ من انضمام الإقرار) ينافي قوله وحده، والتمكن القدرة يقال مكنته وأمكنته من الأمر، فتمكن واستمكن إذا قدر، والمعاند هو الذي عرفه وصذق به وامتني من الإقرار به، والتشنيع عليه وقع في آيات كثيرة كقوله تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ} [النمل: 14] والجاهل هو الذي لا يعرف ذلك لقصور. وتقصيره في النظر الصحيح. وقوله: (للإنكار) أي لكون سكوته عن الإقرار مع تمكنه ومطالبته به دليل الإنكار القلبيّ وعدم التصديق به، فيؤل لما ذكر فتدبر. قوله: (والغيب مصدر وصف به إلخ) أي أقيم مقام الوصف، وهو غائب للمبالغة بجعله كأنه هو وقيل إنه بمعنى المغيب، فأطلق المصدر وأريد به
المفعول نحو خلق الله ودرهم ضرب الأمير، وردّه أبو حيان في البحر بأنّ الغيب مصدر غاب، وهو لازم فلا يبني منه اسم مفعول وكونه تفسيراً بالمعنى لأنّ الغائب يغيب بنفسه تكلف من غير داع، والشهادة ما يقابل الغيب لأنها ما يحس ويشاهد فهي مثله في المصدرية والوصفية. قوله: (والعرب تسمي المطمئن إلخ) روي بكسر الهمزة وفتحها فبالكسر اسم فاعل، وبالفتح اسم مكان وهو الوهدة المنخفضة في الأرض، والخمصة بفتح الخاء وسكون الميم وفتح الصاد المهملة وهاء تأنيث تليها النقرة والحفرة، وما يشبهها في ظاهر الجسد(1/214)
أو باطنه، ويقال للجوع أيضاً لانخفاض البطن به كما في قولهم ليس للبطنة خير من خمصة تتبعها، والبطنة هي الامتلاء من الطعام والكلية بالضم ويقال كلي بطنه عند الخاصرة، وقيل تسمية الأرنها مطمئنة مجاز وتذكير اسم الفاعل باعتبار المكان كأنه قيل المكان المطمئن من الأرض والأظهر جعله صفة لبعض كما يشعر به من التبعيضية، وشهادة تسمية الأرض ليست بينة لاحتمال أن يكون فيه فيعلاَ وليس بشيء لأنّ من بيانية وان جاز فيها أن تكون تبعيضية أيضاً، وليس مراده الاستشهاد بل الاستئناس، والإشارة إلى أنه استعمل اسماً جابدا بمعنى قريب مما نحن فيه. قوله: (أو فيعل خفف إلخ) القيل بفتح القاف وسكون الياء المخففة واحد أقيال وأقوال وهو ملك حمير، ويقال يقول لأنه يقول ما شاء، فينفذ قوله أو هو من دون الملك، وأصله قيل مثدّداً قال أبو حيان: لا ينبغي أن يدعى في قيل وأمثاله ذلك حتى يسمع من العرب مثقلاَ كنظائره من نحو ميت وهين فإنها سمعت مخففة ومثقلة، ويبعد أن يقال التزم تخفيف هذا خاصة مع أنه غير مقيس عند بعض النحاة مطلقاً أو في الثاني وحده، ولا يخفى أنّ قيلاً وان لم يسمع مشذداً إلا أنّ أئمة اللغة صرحوا بأنه أصله كما قاله بعضهم في سيف، وريحان لكن بينهما فرق فإنه واوي فلولا ادّجماء ما ذكر لم يكن لقلب الواو ياء وجه فتأمّل. قوله: (والمراد به إلخ) بديهة العقل والرأي ما لا تحتاج إلى فكر ونظر من بده بدها، وبداهة إذا بغت وفاجأ، وفي الكشاف المراد به الخفي الذي لا ينفذ فيه ابتداء إلا علم اللطيف الخبير، وإنما نعلم نحن منه ما أعلمناه أو نصب لنا دليلاً عليه، ولهذا لا يجوز أن يطلق، فيقال: فلإن يعلم الغيب اهـ وهذا بعينه ما ذكره المصنف، ومن الناس من توهم أنه غيره لأنه بظاهره يدل على أنه مطلقاً لا يتعلق به علم أحد سوى الله، وهو افتراء عليه لما سمعته، وهو بعينه مأخوذ من الراغب قال في مفرداته: الغيب ما لا يقع تحت الحواس، ولا تقتضيه بداهة العقول وإنما يعلم بخبر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام اهـ. والمراد إدخال البديهي الغير المحسوس فيما ليس بغيب في الظهور، فلا يرد عليه ما قيل من أنه لا تقابل بين الحس، وبديهة العقل إلا أن يراد به البديهي الأولي للعقلى فيبقى كثير من الضروريات داخلة في الغيب اهـ. لأن ما يدركه العقل من غير نظر وفكر، ولا يدركه الحس مقابل لما يدركه الحس تقابل الشيء لما هو أخص من نقيضه، كما إذا أريد البديهي
الأوّلي للعقل وإدخال الضروريات التي لا يدركها الحس، وفيها خفاء في الغيب لا محذور فيه بل هو أمر مستحسن. قوله: (وهو المعني بقوله تعالى إلخ) قيل: إنه جعل كون مفاتح الغيب عنده كناية عن اختصاص غيب لا دليل عليه به تعالى، وهو مبني على أن المفاتح جمع مفتح بالكسر بمعنى مفتاح أمّا إذا كان جمع مفتح بالفتح، وفسرت بالمخازن، فلا حاجة لادّعاء الكناية لأن قوله لا يعلمها إلا هو صريح في ذلك الاختصاص، وسيأتي بيانه في تفسير هذه الآية، والمراد بهذا كل ما استأثر الله بعلمه. قوله: (وقسم نصب إلخ) نصب الدليل واقامته عبارة عن بيانه على الوجه المعروف، وهو مجاز في الأصل صار حقيقة اصطلاحية فيه. وقوله: (كالصانع) أي كإثبات وجود الصانع وهو الله عر وجل، واطلاقه على الله تعالى ورد في حديث مسند وهو " إن الله صانع كل صانع وصنعته " (1) فلا حاجة لقول السبكي جواز إطلاقه لوروده في قوله تعالى: {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} [النمل: 88] فإنه إنما يتمشى على رأي من يكتفي بورود المادّة ولا حاجة إليه وما ورد إطلاقه على الله وثبت بإخبار الآحاد يجوز تسميته به على خلاؤ، فيه في شروح الصحيحين وقوله وهو المراد إلخ فالغيب الذي آمنوا به الله وصفاته وما يجب اعتقاده، فإن قلت على هذا يشمل الغيب الله، ويطلق عليه ضمنا والغيب والغائب ما يجوز عليه الحضور والغيبة واطلاق المتكلمين في قولهم قياس الغائب على الشاهد لا يصح سنداً له.
قلت: السلف مطبقون على تفسيرها بما ذكر، وليس فيها إطلاقه عليه بخصوصه فليس
هذا من تبيل التسمية، وفي بعض الحواشي فرق بعض أهل العلم بين الغيب والغائب فيقولون الله غيب وليس بغائب ويعنون بالغائب ما لا يراك ولا تراه، وبالغيب ما لا تراه أنت فتدبره. قوله: (هذا إذا جعلته إلخ) الصلة في اصطلاح النحاة صلة الموصول والمفعول به بواسطة الحرف، وتطلق على الزائد كما مرّ(1/215)
فقوله وأوقعته إلخ تفسير له بالثاني لأنه المقصود، وهذا إشارة إلى المراد أي كون المراد بالغيب القسم الثاني من الخفيّ المذكور على هذا التقدير لا إلى كونه بمعنى الغائب، أو الخفيّ على التقديرين كما قيل، لأنّ القسم الأوّل ليس مما يلزم الإيمان به إلا إجمالاً بأن يعتقد غيباً لا يعلمه إلاً الله فتأمّل. قوله: (وإن جعلته حالأ إلخ) فالإيمان على الأوّل مضمن معنى الإقرار والاعتراف أو مجاز عن الوثوق، ومعنى الغيبة صفة للمؤمن به أي يؤمنون بما هو غائب عنهم، وعلى هذا هو بمعنى التصديق بلا تضمين ولا تجوّز والغيبة صفة للمؤمنين والمؤمن به محذوف للتعميم والمبالغة أي يؤمنون بجميع ما يؤمن به في
حال غيبتهم كما يؤمنون حال حضورهم لا كالمنافقين، وهذا الوجه يختص بغير الصحابة رضي الله عنهم لمشاهدتهم للنبيّ صلى الله عليه وسلّم ومعجزاته، وهو مما يجب الإيمان به، فليس إيمانهم كله بالغيب، وكذا في الوجه الأوّل ويجوز أن لا يخصص أمّا على أنه من إسناد ما للبعض إلى الكل مجازاً كبنو فلان قتلوا قتيلاً، وهو المناسب لظاهر الحصر في أولئك هم المفلحون لئلا ينتفي الفلاح عنهم، أو التخصيص بالغيب نظرا كثر. كالله وصفاته وأحوال الآخرة من الحشر وتحوه، ولفضل الإيمان بالغيب أو خروج الرسول، ونعته عنه لا ضير فيه لأنه معلوم بدلالة النص والطريق الأولى، أو المراد أنهم يؤمنون بالغيب كما يؤمنون بالشهادة، فهو للدلالة على قوّة إيمانهم، وأنهم استوى عندهم المشاهد وغيره. قوله: (أو عن المؤمن به) المؤمن بفتح الميم الثانية اسم مفعول وهذا معطوف على قوله: عنكم والمؤمن به النبيّ عليه الصلاة والسلام كما في كلام ابن مسعود رضي الله عنه، وهذا هو الظاهر أو الأعئم الشامل. وقوله: (لما روي أنّ ابن مسعود إلخ) هو عبد الفه بن مسعود الصحابي المشهور رضي الله عنه، وهذا أثر صحيح عنه مخرج في السنن موقوفاً عليه وقد قال له الحارث بن قيس: عند الله نحتسب ما سبقتمونا به من رؤية رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقال ابن مسعود: عند الله نحتسب إيمانكم بمحمد صلى الله عليه وسلّم، ولم تروه إنّ أمر محمد صلى الله عليه وسلّم كان بينا لمن رآه، والذي لا إله إلا هو ما آمن أحد أفضل من إيمان بغيب ثم قرأ {ألم ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} إلى قوله: {الْمُفْلِحُونَ} كذا أخرجه الدارمي في سننه وصححه الحاكم، وقراءته للآية مستشهدا بها على ما ذكره تدلّ على أنها محمولة عنده على هذا المعنى وبمعناه ما روي مرفوعاً في السنن أيضا أنّ أبا عبيدة بن الجزاح قال: يا رسول الله أحد خير منا أسلمنا وجاهدنا معك قال: " نعم قوم يكونون بعدكم يؤمنون بي ولم يروني ") 1 (وما قيل: من أنه يفضي إلى أن الصحابة أجمعين غير داخلين في الآية، وأنها مخصوصة بغيرهم ومعنى كونهم أفضل إنهم أعجب حالاً ليس بشيء لأنهم خارجون على تفسير ابن مسعود ولا
محذور فيه وليس معنى الخيرية ما ذكر لأنها تختلف بحسب الإضافات، والاعتبارات فالصحابة خير الناس لنيلهم شرف القرب من الرسول صلى الله عليه وسلّم واشراق باطنهم وظاهرهم بنور النبوّة ولزوم سيرة العدل والصدق والتنز. عن دنس المعاصي، وهو المراد بحديث " خير القرون قرتي) (1) إلخ وخيرية غيرهم بإيمانه بالغيب، ورغبته ومحبته لله ورسوله مع انقضاء مشاهدة الوحي وآثار. وفساد الزمان كما قال القائل لله درّه:
رأيت عبيد الذ أكرم من مشى وأكرم من فضل بن يحيى بن خالد
أولئك جادوا والزمان مساعد وقد جاد ذا والدهر غير مساعد
وكذا ما قيل: من أنّ في عبارة المصنف رحمه الله إيجازا مخل لجواز أن يراد به الغيب
عن المؤمنين، فكأنه اعتمد على ما في الكشاف من أنّ أصحاب عبد الفه ذكروا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وايمانهم فقال ابن مسعود رضي الله عنه: إنّ أمر محمد صلّى الله عليه وسلّم كان بينا إلخ. قوله: (وقيل المراد بالغيب القلب إلخ) فالغيب القلب لأنه غائب مخفيّ قيل: ويعضده التعبير بالمضارع، لأنّ إيمان القلب مستمرّ. وقوله: (والمعنى يؤمنون بقلوبهم) في بعض النسخ بدله والمؤمنون بقلوبهم. قوله: (قالباء على الآوّل إلخ) قيل يراد بها تصيير الفعل اللازم متعدياً أي مساويا له معنى، فمعنى ذهب بزيد أذهبه، وقد يراد بها ما هو لازم لكل حرف جر، وهو إفضاء معنى متعلقها إلى مدخولها، وهو متعين للإرادة هنا، وحينئذ لا تحس(1/216)
ن مقابلة الآلة لها إذ التعدية بالمعنى الثاني موجودة فيها، إلا أن يقال المراد إفضاء معناها بحيث يصير مفعولاً به وفي الآلة ليس كذلك، وهو كلام مشوّس لأنّ ما بعد إلا هو عين ما ادّعى تعين خلافه، فالحق أنّ التعدية هنا بالمعنى الأوّل لأنّ معنى قوله يؤمنون بالغيب على الأوّل يصدّقونه، ويتيقنونه فهو مفعول به. قوله: (وعلى الثاني للمصاحبة) قيل إذا جعلت الباء للمصاحبة لا يلزم أن يكون المتعلق محذوفاً حتى يكون حالاً لأنك إذا قلت: دخلت عليه بثياب السفر ليس معناه دخلت مصحوباً بثياب السفر لتعلق الباء بالدخول بل معنى الصحبة يدل عليه الباء، فالوجه تعلق الباء بالإيمان، وما مرّ من تقدير الحال معنى انسحابي لا من حاق اللفظ.
(قلت) قالط نجم الأئمة الرض تكون الباء بمعنى مع، وهي التي يقال لها باء المصاحبة
نحو، وقد دخلوا بالكفر وهم قد خرجوا به، واشترى النار بآلاتها قيل ولا تكون بمعنى مع إلا مستقراً، والظاهر أنه لا مانع من كونها لغواً اهـ. وما ذكره هو الذي ارتضاه النحاة، وما استظهر. بطريق البحث هو مختاره، وعليه شارح اللباب أيضاً فالحالية في كلام المصنف محمولة على ظاهره، وما ظنه تحقيقا حاله في الضعف ظاهر. قوله: (أي يعدّلون أركانها إلخ) فسرت الإقامة بأربعة أوجه، وهي كما في شروح الكشاف على الأوّلين استعارة تبعية، وعلى الأخيرين مجاز مرسل، وقيل: هي في بعض الوجوه كناية وستسمع ذلك وما له وعليه وأركان جمع ركن كقفل وأقفال وركن الشيء جانبه ولذا اصطلحوا على عد أجزاء الماهية أركانا بخلاف ما توقف الصحة عليه ولم يكن داخلا فيها والتعديل التسوبة، وتعديل الأركان إيقاعها مستجمعة للفرائض والواجبات، أولها مع الآداب والسنن، والأوّل أوسع دائرة للمهتدين بهداية الكتاب والثاني 31 فائدة وأنسب بشأن الصلاح والمدح والزيغ الميل عن الاستقامة. وقوله: (من أقام العود إلخ) إشارة إلى أنه استعارة تبعية شبه تعديل أركان الصلاة وحفظها بتقويم العود وتسويته بازالة اعوجاجه فهو قويم تشبيها له بالقائم، ثم استعير من تسوية الأجسام لتسوية المعاني كتعديل الأركان، وأخذ منه الثاني لزيادة المناسبة بين المعاني وقيل حقيقته جعلها قائمة أو قويمة، واسنعمال أقام العود بمعنى سوّاه أكثر من أقام زيداً إذا جعله منتصباً وان رجع القويم لمعنى المنتصب والحق أنه حقيقة فيما مرّ لأنّ التقويم يقع على الأجسام والمعاني على السواء بل وصف نحو الدين والرأي بالتقويم أكثر، فلا حاجة إلى الاستعارة، فكأنهم جعلوا النقل من المحسوس، وهو الانتصاب إلى المحسوس، وهو تسوية العود ونحو. ثم منه إلى المعقول وهذا ما آثره الزمخشريّ، ولا يخفى ما فيه فإنّ مجازيته في المعاني لا شبهة فيها رواية ودراية، وما ذكره لا يثبت إلا كثرة استعمالها فيها، فهو مجاز مشهور أو حقيقة عرفية وقيل إن ما استند إليه من أنّ التقويم عامّ للقبيلين من الأعيان، والمعاني وحقيقة فيهما لا يستلزم كون الإقامة كذلك إذ معناها جعل غير المستقيم مستقيما بإزالة اعوجاجه ولا شك أنّ التسوية المتعلقة بالمعاني معناها الإتيان بالمعنى على ما ينبغي لا جعلها مستقيمة بعد أن لم تكن، وقد قيل على هذا الوجه إنه غير متجه ولا يفهم من إقامة الصلاة إلا أداؤها، وايقاعها من غير نظر للتقويم المذكور، وهذا مع أنّ مآله ترجيح الوجه الأخير قد رذ بأنه لو أريد ذلك قيل يصلون والعدول عن الأخصر الأظهر بلا فائدة لا يتجه في كلام بليغ فضلاً عن أبلغ الكلام ومن هنا علمت وجه تأخير الأخير فتأمّل. قوله: (أو يواظبون عليها إلخ) وظب على الأمر وظبا ووظوباً وواظب عليه لازمه وداومه وفيه على هذا استعارة تبعية أيضا كما يدلّ عليه تصريحهم بالتشبيه وهذا معنى قول الزمخشريّ أو الدوام عليها والمحافظة عليها كما قال عز وعلا: {الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ} [المعارج: 23] ، {الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} [المؤمنون: 9] من قامت السوق إذا نفقت إلخ ونفاق السوق رواح ما فيها من الأمتعة، وكثرة الطلاب فيها يقال نفقت السلعة والمرأة نفاقا بالفتح كثر طلابها وخطابها كما بين في كتب اللغة، وهذا المعنى كما في بعض الحواشي يحتمل أن يكون معنى أصلياً في اللغة، وأن يكون من قام العود تشبيهاً للنفاق بالانتصاب في حسن الحال والظهور، وقال الطيبي: إنها في هذأ الوجه كناية تلويحية عبر عن الدوام بالإقامة، فإن إقامة الصلاة بمعنى تعديل أركانها وحفظها من الزيغ مشعر بكونها(1/217)
مرغوبا فيها، وإضاعتها في تعطيلها تدلّ على ابتذالها كالسوق إذا شوهدت قائمة دلت على نفاق سلعتها ونفاقها يدلّ على توجه الرغبات إليها، وتوجه الرغبات يستدعي الاستدامة بخلافها إذا لم تكن قائمة، فالمراد بقوله من قامت السوق أنه من بابه فهو مثله لا منقول منه، وردّ بأنه مخالف لصريح لفظه ولا يبقى حينئذ للاستشهاد بالبيت معنى، لأنّ إقامة الصلاة بمعنى التعديل إذا صارت شائعة جاز أن تجعل كناية كيف والكلام فيه، وقال قدّس سرّه: نفاق السوق كانتصاب الشخص في حسن الحال، والظهور التام فاستعمل القيام فيه والإقامة في إنفاقها أي جعلها نافقة، ثم استعيرت منه للمداومة على الشيء، فإنّ كلاً من الإنفاق والمداومة يجعل متعلقه مرغوبا متنافسا فيه متوجها إليه، وقد أورد عليه أنّ هذه المشابهة خفية جداً، وأيضا الأصل أعني أقام السوق مجاز فالتجوّز منه ضعيف، ودفع الأوّل بالحمل على المجاز المرسل بعلاقة اللزوم فإنّ الإنفاق يستلزم المداومة عادة، وأنت تعلم أنّ هذا الحمل على تقدير صحته خلاف ما في الكتاب والثاني بأنه صار بمنزلة الحقيقة اهـ وقيل في دفع الأوّل أيضاً: بأنّ في ذلك الخفاء دقة لا تفضي إلى التعقيد المعنويّ بل تجعله غير عامي مبتذل للطفه حتى لا يقف عليه إلاً الخواص، وهذا موجب للمدح لا مقتض للقدح، فإن قلت: إذا كان بمعنى المداومة والمحافظة والمواظبة ينبغي أن يتعدى بعلى لأنها تتعدّى بها، كما قال تعالى: {الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ} [المعارج: 23] قلت إذا تجوّز بلفظ عن بمعنى آخر، وكان عملهما في الحرف الذي تعدّيا به مختلفاً يجوز فيه إعماله عمل لفظ الحقيقة، وعمل لفظ المجاز ويكون ذلك كالتجريد والترشيح ألا ترى أن نطقت الحال بكذا بمعنى دلت وتعديه بعلى، وسيأتي تفصيله إن شاء الله تعالى. قوله: (أقامت غزالة إلخ) غزالة علم امرأة شبيب الخارجي الذي قتله الحجاج، وهي من شجعان النساء لما قتل زوجها خرجت بعسكر على الحجاح تطلب دمه، وحاربته سنة كاملة وهجمت عليه، فهرب فصلت في جامعه صلاة الصبح بسورة البقرة إظهاراً لامتهانه، وقصتها مشهورة كما في كامل المبرد واليها يشير القائل يهجو الحجاج: أسدعليّ وفي الحروب نعامة فتخاءتنفرمن صفيرالصافر
هلا برزت إلى غزالة في الوغى إذ كان قلبك في جناحي طائر
وهذا البيت من قصيدة طويلة من بحر المتقارب، لأيمن بن خريم الأنصاري أوّلها:
أبى الجبناء من أهل العراق على الله والناس إلا سقوطا
أيهزمهم مائتا فارس من السافكين الحرام العبيطا
وخمسون من مارقات النسا يجرّون للمندبات المروطا
وهم مائتا ألف ذي قونس) 1 (يئط العراقان منه أطيطا
رأيت غزالة إذ طرّحت بمكة هودجهاوالغبيطا
سمت للعراقين من سومها فلاقى العراقان منها البطيطا (2 (
ألا يتقي الله أهل العراق إذا قلدوا الغانيات السموطا
وخيل غزالة تغتالهم فيقتل كهل الوفاءالوسيطا
وخيل غزالة تحوي النهاب وتسبي السبايا وتجبي النبيطا
أقامت غزالة سوق الضراب أهل العراقين حولاً قميطا
وسوق الضراب استعارة مكنية وتخييلية أو تمثيلية أو تصريحية في السوق، وفي الأساس
رأيته يكر في سوق الحرب في حومة القتال ووسطه، والعراقان البصرة والكوفة، وقميط بالطاء المهملة بمعنى تامّ وقيل إنه كناية عن التمام كأنه شدّ في قماط أي حبل، وترك في جانب والضراب كالقتال لفظاً، ومعنى والحول والعام والسنة بمعنى. قوله: (فإنه إذا حوفظ إلخ) إشارة إلى وجه الشبه فيهما وهو الرغبة كما مرّ بيانه. قوله: (أو يتشمرون إلخ) قال في المصباح: التشمر في الأمر السرعة فيه والخفة، ومنه قيل شمر في العبادة(1/218)
إذا اجتهد وبالغ وشمر ثوبه رفعه، وشمرت السهم أرسلته مصوباً على الصيد والأداء في اللغة حقيقته دفع ما يحق دفعه، وتوفيته كأداء الدين والأمانة قال تعالى: {فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} [البقرة: 283] ، وأصله على ما قاله الراغب من الأداة وهي ما يتوصل بها إلى الشيء كالحبل للاستقا من البئر، وهو في الاصطلاح أخص منه لأنه فعل الشيء الذي عين له الشارع وقتا معيناً فيئ وقته أوّلاً، ويقابله القضاء والإعادة على ما تقرّر في الأصول لأنّ ما عين له وقت كالصلوات الخمس إن وقع في وقته المعين ولم يسبق بأداء غير مختل فأداء والاً فإعادة، فإن وقع بعده ووجد فيه سببه فقضاء، والأداء هنا بمعناه اللغوي أو الشرعي ولا محذور فيه، والتجلد المبالغة في إظهار الجلد والقوّة لا تكلفه كما في قوله:
وتجلدي للشامتين أريهم
وفي الكشاف او التجلد والتشمر لأدائها وأن لا يكون في مؤدّيها، فتور عنها ولا توان من قولهم قام بالأمر وقامت الحرب على ساقها، وفي ضدّه قعد عن الأمر وتقاعد عنه إذا تقاعس
وتثبط اهـ (والكلام هنا في أمرين الأوّل) أنّ ما ذكره المصنف رحمه الله هل هو بعينه ما في الكشاف أم بينهما فرق (الثاني) أنّ الباء في قام بالأمر هل هي للتعدية ليلزم الجدّ لأن جعل الأمر قائما لا يتأتى بدون جد، أو للملابسة فإنه لا يقال عرفا قام بالأمر إلا إذا تلبس به على وجه الاهتمام قال قدس سزه: حقيقته قام متلبساً بالأمر والقيام له يدل على الاعتناء بشأنه ويلزمه التجلد والتشمر، وأطلقوا القيام على لازمه فهو مجاز مرسل كما مرّ، ومنه قاصت الحرب على ساقها إذا اشتدت كأنها تشمرت لسلب الأرواح وتخريب الأبدان، واعترض عليه بأنّ الإقامة إذا كانت مأخوذة مما ذكر كان معناها على قياس التعدية جعل الصلاة متجلدة متشمرة لا كون المصلي متشمرا في أدائها بلا فتور كما ذكر، ووصف الصلاة بالتجلد إنما يصح بوصفها بما لفاعليها كجد جدّه، ولا يخفى بعده وليس لك أدن تقول باء قام بالأمر للتعدية، فالمستعمل بمعنى التجلد والاجتهاد هو الإقامة في الحقيقة لأنّ قولهم في ضده قعد وتقاعد عن الأمر يبطله، وأيضا القيام يناسب التشمر لا الإقامة كما أنّ القعود يلائم الكسل لا الإقعاد اهـ. ومنه يعلم أنّ ما أورد على الكشاف من أنّ كلامه لا يشعر بوجه التجوّز والعلاقة، ودفعه بأنه ليس بلازم ساقط من درجة الاعتبار، وقيل: إنّ المصنف عدل عما في الكشاف، وضمّ إليه إقامة إشارة إلى أن قام بالأمر وأقامه بمعنى جد فيه، فأقامه من باب الحذف، والإيصال والقيام بالشيء يدلّ على التشمر له فكذا الإقامة، وزعم هذا القائل أنه جواب عما أورد على المصنف من أنّ كلامه يدلّ على أنّ معنى قام بالأمر وأقامه واحد، وليس كذلك لأنّ الباء في قام به ليست للتعدية، فلا يكون بمعنى أقامه، واقامة الأمر ليست بمعنى التجلد أيضاً ولو كان أقام من القيام بمعنى الجد لكانت الصلاة مجدة، ولا يخفى فساده لأن أقام متعد، وعلى الحذف والإيصال إمّا أن يكون لازما أو مفعوله مقدر، وكلاهما غنيّ عن الردّ، وقيل: إنه أشار بضمّ الإقامة إلى أنّ الباء للتعدية، وبقوله إذا جد فيه وتجلد إنى أنّ الجد والتجلد على تقدير كون الباء للتعدية أيضاً صفة المصلي دون الصلاة بطريق اللزوم فإن معناه نصبه بعد انخفاضه أو سوّاه بعد اعوجاجه، فيكون مسببا عق الجد والتجلد، ويؤيده قول عين المعاني والكواشي قام بالأكحر إذا قوّمه وأتمه هذا زبدة القال والقيل.
(وأنا أقول) معتمدا على من بيده الهداية إلى سواء السبيل.
اعلم أنّ قول المصنفين من قولهم كذا أو من كذا قد يريدون به بيان حقيقة المجاز أو أصله، ومأخذه المنقول عنه، فتكون من ابتدائية وقد يريدون أنه من قبيله، وأمثاله فتكون من بيانية وما نحن فيه من الثاني لا من الأوّل على ما سيأتي، وقام بالأمر معناه جد فيه، وخرج عن عهدته بلا تأخير ولا تقصير، فكأنه قام بنفسه لذلك الأمر، وأقامه أو رفعه على كاهله بجملته كما قال:
شديدا بأعباء الخلافة كاهله
فقد قام وأقام وحينثذ يصح فيه أن يكون استعارة تمثيلية أو مكنية أو تصريحية، وحقيقته
ما ذكرناه، ويجوز أن يكون مجازا مرسلاً لأنّ من قام لأمر على أقدام الاقدام، ورفعه على كاهل الجدّ فقد بذل جهد.، وتمثيله بقامت الحرب على ساقها إلى الأوّل أميل إلا أنّ كلام الشريف رحمه الله لا يخلو من الإشكال لأنّ قوله ملتبساً لا يفيد ما ذكرناه على أنه لو كان معناه قام له كان الأنسب جعل الباء سببية، فكلامه بفحواه(1/219)
شاهد على خلاف مدّعاه. وقوله: (كأنها تشمرت إلخ) يناسب الاستعارة لا المجاز المرسل الذي أطبقوا عليه، وكان هذا هو الباعث للمصنف رحمه الله على إهمال ذلك المثال وما ذكره من الاعتراض غير وارد لما عرفت من أنّ معنى فام به أقامه، والتشمير والجد لازمه أو حاو معناه وهو المعنيّ بقوله، وليس لك أن تقول إلخ وهو معناه بعد التعدي بالباء أو الهمزة، وما اعتمد عليه من أنه لا يتأتى في ضدّه لتعيينه لأنه معنى الثلاثيّ بدون تعدية مدفوع لأنه توهم أنّ عن ليست للتعدية، فكذا الباء وهو تخيل فارغ فإنها تأتي للتعدية كما في رضي الله عنه وأرضاه، فأيّ مانع من جعل قعد عته بمعنى أقعده أي تركه وأهمله، أو جعل ضد القيام المتعدّي القعود اللازم على أنا نبهناك قبل عن أنّ اللفظ المتجوّز فيه يعمل بكلا العملين عمل المعنى الحقيقي والمعنى المجازيّ، وأمّا حديث التجوّز في الإسناد، فنحن في غنية عنه.
واذا تامّلت ما قصصناه عليك عرفت أنّ منهم من لم يفصح عن المراد، ومنهم من لم
يحم حول موارد السداد، وقد أوردناه بعرضه وطوله، لتفرق بين فضله وفضوله. قوله: (وضذّه إلخ) أي ضد قام بالأمر وأقامه إذا جد فيه وتجلد والضدية باعتبار أصل المعنى، وهو القيام والقعود ولازمه وهو الاجتهاد والتكاسل، وقيل إنما هي باعتبار المعنى اللازم لهما، فاذا كان ذلك في الأوّل الجذ، والتجلد يكون في الثاني التكاسل، والتهاون بالضرورة والمصنف لم يذكر الثأني اكتفاء بالأوّل وصاحب الكشاف عكس ذلك. قوله: (أو يؤذونها إلخ) يعني أنّ الإقامة هنا عبارة عن مجرّد الأداء أي فعل الصلاة وايقاعها، كما عبر عنها بالقنوت في قوله وكانت من القانتين أي المصلين إذ القنوت يطلق على القيام في الصلاة، ويسمى السكوت فيها قنوتاً أيضاً كما في قوله: {وَقُومُواْ لِلّهِ قَانِتِينَ} [مورة البقرة: 238] والركوع معروف، ويطلق على الصلاة كما في قوله: {وَارْكَعُواْ مَعَ الرَّاكِعِينَ} [البقرة: 43] أي صلوا معهم، والسجود كذلك كما في قوله {وَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ} [الحجر: 98] وكذا التسبيح كقوله {فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُسَبِّحِينَ} [الصافات: 143] واطلاق هذا يدل على إطلاق غيره بالطريق الأولى كما سيجيء وقد مرّ أنّ المحقق السعد قال إنه لا يفهم من إقامة الصلاة إلا أداؤها وايقاعها دون غيره من المعاني السابقة ويؤيده عندي تعينه في كثير من الأحاديث الصحيحة كحديث البخاري " أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله الأ الله وأنّ
محمدا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم الأ بحق الإسلام " ولا يخفى على ذي لب تعينه فيه.
وفي الكشاف عبر عن الأداء بالإقامة لأنّ القيام بعض أركانها كما عبر عنه بالقنوت إلخ
قال قدّس سرّه تبعاً للشراح إن أراد أنّ القيام يطلق على الصلاة لكونه بعض أركانها ثم يؤخذ منه الإقامة ورد عليه أنّ الهمزة إن جعلت للتعدية، كان معنى إقامة الصلاة جعل الصلاة مصلية، وان جعلت للصيرورة كان معنى أقام صار ذا صلاة، فلا يصح ذكر الصلاة معه إلا أن يجعلها مفعولاً مطلقاً والكل مما لا يرتضيه طبع سليم، وان أراد أنّ القيام لما كان ركناً منها كان فعله، وايجاده أعني الإقامة ركنا لها أيضا توجه عليه أنّ ركنها فعل القيام بمعنى تحصيل هيئة القيام في المصلي حال الصلاة لا بمعنى تحصيلها في الصلاة وجعلها قائمة، فإن قيل لعله أراد أنّ القيام جزء منها فيكون إيجاده أي الإقامة جزءا من إيجاد جميع أجزائها الذي هو أداؤها فعبر عن أدائها بجزئه، قلنا فمعنى يقيمون حينئذ يؤدّون الصلاة (فيحتاج في ذكر الصلاة معه إلى ارتكاب كونها مفعولأ مطلقا، ولا إشكال في استعمال قنت ونحوه بمعنى صلى إذ لا يذكر معه الصلاة، وفي قوله لوجود التسبيح فيها إشارة إلى أنه ليس ركنا منها فإذا جاز أن يعبر به عن الصلاة، فالتعبير عنها باركانها أولى، وذكر بعضهم أنّ الإقامة تستعمل بمعنى جعل الشيء قائماً في الخارج أي حاصلاً فيه، فإنّ القيام بمعنى الحصول في الخارح شائع الاستعمال، ومنه القيوم وهو الحاصل بنفسه المحصل لغيره، فأقيموا الصلاة من الإقامة بهذا المعنى أي حصلوها وأتوا بها على الوجه المجزيء شرعاً وهو معنى الأداء اهـ. وهذا على أنه مجاز مرسل من إطلاق الجزء على الكل.
(وقد أمعنت النظر) ، فرأيت ما ذكروه لا يخلو من الكدر بل فيه عبرة لمن اعتبر، فإنه كله ناشىء من عدم تدبر كلام الشيخين، وتنويره أنهما جعلا الإقامة مجازا، وعبارة عن الأداء، ومعنى يقيم يؤذي لا يصلي حتى يلزم ما لزم، وبينهما(1/220)
بعد المشرقين، وقد بينا لك أنّ معنى الأداء لغة واصطلاحا الفعل، فيؤدّي الصلاة بمعنى يفعلها مطلقا، أو في وقتها المعين فلا إشكال في كون الصلاة مفعولاً به بل لا بد منه ووجه التجوّز حينئذ أنّ الأداء المراد به فعل الصلاة والقيد خارج خروج البصر عن العمى عبر عنه بالإقامة بعلاقة اللزوم إذ يلزم من تأدية الصلاة، وايجادها كلها فعل القيام، وهو الإقامة لأنّ فعل الشيء فعل لأجزائه، أو العلاقة الجزئية لأنّ الإقامة جزء أو جزئي لمطلق الفعل، ويجوز أن يكون استعارة لمشابهة الأداء للإقامة في أنّ. ور منهما فعل متعلق بالصلاة، فإن قلت إذا كان التجوّز في التعبير عن الأداء
بالإقامة فلم قال الزمخشريّ: لأنّ القيام بعض أركانها، وهل ترك المصنف رحمه الله له، وتعبيره بالاشتمال لمخالفته له، أو هو مجرّد تفنن في الطريق قلت: لما كان فعل الأداء الصلاة الإقامة فعل القيام بين أنه من أركانها ليكون فعله لازماً لفعلها كما بينا. وعدول المصنف ليشمل التسبيح من أوّل الأمر إن حمل على ظاهره لأنه ليس ركناً، ولذا عطفه الزمخشريّ عليه وقال: وقالوا إلخ كما سيجيء، وهذا مما يرجح كون العلاقة اللزوم لأنه يكفي فيه اللزوم العرفي، فلا يرد عليه ما قيل من أن هذا الكل لا يستلزم الجزء هنا، وأجيب بأنّ المراد القيام في الصلاة، وهو يستلزمه قطعاً ولما ذهبوا بأسرهم إلى علاقة الجزئية، وأنّ معنى يقيمون يصلون لزمهم ما لزم فتفرّقوا أيدي سبأ، فمن قائل لما كان القيام جزءاً من الصلاة كانت الإقامة التي هي إيجاد القيام جزءا من إيجاد الصلاة الذي هو أداؤها فعبر عن الأداء بالإقامة وعلق بالصلاة لتعيين المؤدى، وتلك العلاقة لا يلزم إطرادها إلى آخر ما تكلفه مما لا يجدي، ومن قائل معنى إقامتها جعلها قائمة أي ذات قيام كعيشة راضية، ثم جعل ذات قيام كناية عن أدائها، وعبر بالقيام لأنه ركن يشتمل على أشرف الأركان، وهو قراءة القرآن، وقيل الإقامة كناية عن الأداء، ومنهم من رأى أنّ ما حاولوه لا يتم بحال ولا يخلص من الإشكال، فاختار شقاً آخر وزعم أنه أحسن مما ذهبوا إليه فقال: إنه استعارة، وأنه شبه الصلاة المركبة من القيام الذي هو صفة المصلي بشخص قائم لاشتراكهما في القيام؟ فتولد منه تشبيه من يوقع الصلاة بمن يجعل الشخص قائما، وأطال من غير طائل. قوله: (والتسبيح) قال الراغب: التسبيح تنزيه الله تعالى، وأصله المرّ السريع في عبادة الله تعالى، وجعل ذلك في فعل الخير كما فعل في الإبعاد للنشر فقيل أبعده الله، وجعل التسبيح عاما في العبادات قولآ كان أو فعلاً أو نية وقوله، فلولا أنه كان من المسبحين قيل من المصلين والأولى أن يحمل على نيتها اهـ وقد قدمنا ما قاله الشريف، وفي التجوّز به كلام سيأتي في محله. قوله: (والأوّل أظهر) أي حمل النظم الكريم على تعديلهاوحفظها عن العدول عن اللائق بها أظهر من بقية الوجوه، لأنه المروقي عن سيد مفسري السلف، وهو ابن عباس رضي الله عنهما كما أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم من طرق عنه.
قال قدس سرّه: لما كان يقيمون الصلاة في معرض المدح بلا دلالة على إيجاب، كان حمله على تعديل الأركان كما قرّره أوّلاً أولى، فإنه المناسب لترتيب الهدي الكامل والفلاح التام الشامل، وهذا معنى قول الإمام الأولى حمل الكلام على ما يحصل معه الثناء العظيم، وذلك لا يحصل إلا إذا حملنا الإقامة على إدامة فعلها من غير خلل في أركانها وشرائطها، فإنّ عدم ذلك الخلل هو عين التعديل المذكور، وأمّا إدامة فعلها فهو من صيغة المضارع والاستمرار التجددي فيه، أو من لازمه لأنّ من لم يخل بركن منها كيف يحل بجملتها بتركها أحياناً فليس هذا هو المعنى الثاني، كما توهمه الطيبي فقال: هذا أولى من قول القاضي لما مز في تقرير
الكناية فإنها جامعة جميع المعاني المطلوبة فيها، ومن هنا علم وجه آخر لترجيحه على الثاني لأنه متضمن له، فهو أفيد منه مع ما ذكره وهو معنى كلام الراغب لا ما فهمه بعضهم عنه من أنه الوجه، وإنما غرّهم لفظة الإدامة، وقد عرفت المراد منها. وقوله: (أشهر) إشارة إلى اشتهار هذا التفسير بين السلف كما مرّ، والى شهرة الإقامة بهذا المعنى في لسان الشارع والقرآن قال الراغب في مفرداته: إقامة الشيء توفية حقه قال تعالى: {لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّىَ تُقِيمُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ} [المائدة: 68] أي توفوا حقهما بالعلم والعمل ولم يأمر تعالى بالصلاة حيثما أمر، ولا مدح بها حيثما مدح إلا بلفظ الإقامة تنبيها على أنّ المقصود منها(1/221)
توفية شروطها لا الإتيان بهيئاتها وقوله: {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاَةِ} [إبراهيم: 40] أي وفقني لتوفية شرائطها اهـ وقول المحقق في شرحه هنا أنت خبير بأنّ المفهوم من إطلاق إقامة الصلاة ليس إلا أداؤها، وايقاعها في الخارج من غر إشعار بما اعتبره من التقوّم على الوجه المذكور إلخ لا وجه له لما عرفت من أنّ المفهوم من النظم الكريم خلافه، كما بينه الراغب مع أنّ حقيقة الإقامة المتقدمة جعل الشيء قائما وارادة ما ذكر منها والعدول عن يصلون الأخصر الأظهر لا بد له من وجه، ومثله لا يسلم بسلامة الأمير، ولذا لم يعرج السيد عليه. قوله: (وإلى الحقيقة أقرب) لأنّ حقيقته إقامة العوج وتسويته في الأجسام كما في قوله تعالى فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض فأقامه، وتعديل المعاني والأركان أقرب شيء لهذا لظهور اشتراكهما في وجه الشبه، وقد مرّ قول المدقق في الكشف إن أقام العود بمعنى سوّاه أكثر استعمالاً من إقامه إذا جعله منتصباً، وقوله: إنّ استعماله في تعديل الأجسام، والمعاني على السواء بل التقويم في نحو الدين والرأي أكثر، وفي كلام المصنف رحمه الله إشارة إليه إذ جعل مأخذ الأوّل أقام العود ولا مرية في أنه أقرب إلى الحقيقة من قامت السوق الذي هو مأخذ الثاني، ومن قام بالأمر الذي هو مأخذ الثالث إذ لا قيام فيه على الحقيقة بل هو مأخوذ منه، واعتبار قيام الصلاة نفسها فيه ما مرّ. قوله: (وأفيد) أفيد بالياء وأفود بالواو أفعل تفضيل من الفائدة لأنه واويّ ويائيّ، كما في القاموس وغيره والأوّل أشهر، ولذا اقتصر عليه بعض أهل اللغة وقال: يقال هما يتفايدان ولا يقال يتفاودان، والفائدة ما استفدت من علم أو مال، وتخص في العرف العام بالربح. وقوله: (لتضمنه إلخ) أي لتضمن قوله (يقيمون) على هذا التفسير التنبيه على ما سيمدحون به من قوله أولئك إلخ فهو توطئة، وبها يأخذ بعض الكلام بحجز بعض، ويحتمل أن يريد كما قيل إنّ هذه الجملة تفيد المدح فإذا حمل على ما ذكر كانت منبهة على وجه استحقاق المدح فيرجح بهذا كونها صفة مادحة، وحدودها بمعنى أوصافها وأحكامها المختصة بها شبهت بالحد الذي لا يجوز تجاوزه. قوله: (ولذلك ذكر في
سياق المدح إلخ) أي لما مرّ من كونه أشهر وأقرب وأفيد، أو للتنبيه المذكور لأنّ من راعى حدودها لا يتركها فهو داخل فيه أو مفهوم بالطريق الأولى فلا يرد عليه أنه لا يدل على مدعاه من أن الأوّل أولى إذ يمكن أن تكون الإقامة بمعنى المواظبة والمداومة، والساهون عن الصلاة كما نقل عن ابن عباس رضي الله عنهما المنافقون الذين يتركونها إذا غابوا عن الناس، ويؤدّونها إذا حضروا والمصنف رحمه الله بنى تفسيره على الحقيقة الظاهرة، والمعرض ضبطه في شرح الشافية بفتح الميم وكسر الراء وهو موضع العرض أو العروض، والمشهور كسر الميم وفتح الراء وهو الذي صرح به أئمة اللغة كما في شرح الفصيح للمرزوقي ومعناه اللباس الذي تتزين به الجارية إذا عرضت للبيع، فاستعير للسياق أو للعبارة الواقعة فيه. قوله: (والصلاة فعلة من صلى) فعلة بفتح العين على الظاهر المشهور وجوّز بعضهم سكونها فتكون حركة العين منقولة من اللام وشبهها بالزكاة المأخوذة من التزكية وهي التنمية أو التطهير لمشابهتها لها لفظا ومأخذاً ورسماً. وقوله: (من صلى إذا دعا) أي مأخوذة ودائرة الأخذ أوسع من دائرة الاشتقاق أو هو بناء على أنّ أصل الاشتقاق الفعل لا المصدر على المذهبين المشهورين في التصريف، فالصلاة لغة الدعاء، ونقلت في الشرع إلى العبادة المخصوصة والدعاء يكون بمعنى النداء والتسمية والسؤال مطلقاً أو من الأدنى للأعلى وهذا هو المراد، فإن قلت: سيذكر المصنف رحمه الله في تفسير قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} [الأحزاب: 56] صلى الله عليه وسلم أنّ الصلاة مشتركة بين الرحمة والاستغفار والدعاء، وهو المشهور في أصول الفقه قلت: قال في المصباح المنير: إنه قول لبعض أهل اللغة فمشى المصنف رحمه الله على قول هنا، وعلى قول ثمة وسيأتي تحقيقه في محله. قوله: (كتبتا بالواو إلخ) التفخيم له ثلاث معان ترك الإمالة، واخراح اللام مغلظة من أسفل اللسان كلام الله إذا لم تل كسرة، والإمالة إلى الواو.، وهذا هو المراد هنا كما ذكره شراح الكشاف لا أن تمال فتحة اللام نحو الضمة لمناسبة الواو الأصلية كما توهم، لأنه لا وجه شخصيصه باللام، كما هو أحد الوجوه المروية عن ورش لأنّ ذكر زكى يأباه، وكون التفخيم علة لذلك(1/222)
ليس بمرضيّ عند المحققين من القراء قال الإمام الجعبري في شرح الرائية: اتفقت المصاحف على رسم الواو مكان الألف في مشكاة ونحاة ومناة وصلاة وزكاة وحياة، حيث كن موحدات مفردات محلاة باللام، وعلى رسم المضاف منها كصلاتي بالألف وحذفت من بعض المصاحف العراقية، واتفقوا على رسم المجموع منها بالواو على اللفظ ووبمظ كتابة الواو الدلالة على أنّ أصلها المنقلبة عنه واو وهو اتباع للتفخيم، وهذا معنى قول ابن قتيبة بعض العرب يميل لفظ الألف إلى الواو، ولم اختر التعليل به لعدم وقوعه في القرآن العظيم وكلام الفصحاء اهـ ولفظ المفخم ضبطه أرباب الحواشي هنا تبعاً لشراح الكشاف بكسر الخاء المعجمة المشددة على زنة اسم الفاعل، ولا
مانع من الفتح على زنة اسم المفعول على أنه من إضافة الموصوف للصفة، فإنه كعكسه وارد في كلام العرب، وان كان لا ينقاس. وقوله: (لاشتماله على الدعاء) فهو من إطلاق الحال على المحل، وهو الظاهر لا من إطلاق الجزء على الكل، وان جاز إن لم نقل بأنه مثروط بأن يكون مما يزول الكل بزواله كالرأس والرقبة على ما سيأتي. قوله: (وقيل أصل صلى إلخ) تمريض لقوله في الكشاف وحقيقة صلى حرّك الصلوين لأنّ المصلي يفعل ذلك في ركوعه وسجوده، ونظيره كفر اليهوديّ إذا طاطأ رأسه وانحنى عند تعظيم صاحبه لاً نه ينثني على الكاذتين وهما الكافرتان، وقيل للدّاعي مصل تشبيهاً له في تخشعه بالراكع والساجد اهـ.
وقال الفاضلان في شرحه إنه يريد أنّ صلى ماخوذ من الصلا بمعنى حرك الصلوين وهما العظمان الناتئان في أعالي الفخذين يقال: ضرب الفرس صلويه بذنبه أي ما عن يمينه وشماله ثم استعمل صلى بمعنى فعل الهيئات المخصوصة مجازا لغوياً لأنّ المصلي يحرّك صلويه في ركوعه وسجود.، ولما اشتهر في هذا المعنى استعير منه لمعنى دعا تشبيهاً للداعي بالمصلي في خضوعه وتخشعه وفيه ضعف من وجهين. الأوّل إنّ الاشتقاق مما ليس بحدث قليل الثاني أنّ الصلاة بمعنى الدعاء شائعة في أشعار الجاهلية، ولم يرد عنهم إطلاقها على ذات الأركان بل ما كانوا يعرفونها، فأنى يتصوّر لهم التجوّز عنها فالصواب ما ذهب إليه الجمهور من أنّ لفظ الصلاة حقيقة في الدعاء مجاز لغويّ في الهيئات المخصوصة المشتملة عليها كما حقق في أصول الفقه، فإن قيل إذا ثبت صلى بمعنى حرّك الصلوين كان الأنسب أن يؤخذ منه لفظ الصلاة بمعنى الهيئة المخصوصة، ثم يشتق منه صلى بمعنى أحدثها، فلماذا عكس المصنف رحمه الله قلنا: لأنّ المناسبة بين تحريك العضو وإحداث الهيئة أقوى منها بين تحريكه ونفس الهيئة، ولذلك أيضاً جعل الزكاة من زكى الشرعي المأخوذ من زكى اللغوي على أنّ قوله الصلاة من صلى قد يراد به أنها من جنسه أي يتلاقيان في الاشتقاق بلا تعيين للمشتق منه فجاز أن يحمل على اشتقاق صلى من الصلاة، وكذا الحال في الزكاة، وأورد عليه في الكشف أيضاً أنه مخالف لمذهب المعتزلة فإنها عندهم حقائق مخترعة شرعية وليست منقولة من معان لغوية، والقائلون بالنقل، وهم الجمهور قالوا: إنها منقولة من الدعاء، وفي الروض الأنف: الصلاة أصلها انحناء وانعطاف من الصلوين وهما عرقان في الظهر إلى الفخذين، ثم قالوا: صلى عليه أي انحنى عليه رحمة وسمواً الرحمة حنوّا وصلاة وعطفاً وأصله في المحسوسات فجعل في المعاني مبالغة وتأكيدا، ولذلك لا تكون الصلاة بمعنى الدعاء على الإطلاق، فلا تقول صليت على العدوّ أي دعوت عليه إنما يقال صليت عليه في الرحمة والتعطف لأنها في الأصل الإنعطاف، ولذا عديت بعلى، ولا تقول في الدعاء إلا دعوت له باللام فهذا فرق مّا بين الصلاة والدعاء، وأهل اللغة لم يفرقوا بينهما.
(أقول) ما تقدّم هو الشائع أمّا ما اختاره العلامة فهو ما ذهب إليه المحققون من أهل اللغة
والعربية فقال أبو عليّ الفارسيّ الصلاة من الصلوين لأنّ أول ما يشاهد من أحوال الصلاة تحريك الصلوين للرّكوع، فأفا القيام فلا يختص بها قال ابن جني وهو قول حسن وكذا رجحه السهيليّ في الروض كما سمعته، وما قاله شراح الكشاف مردود على ما فيه من المؤاخذات، وما ذكر. من معنى الصلويق أحد الأقوال فيه فقيل: عظمان ناتئان في جانبي الذنب. وقيل: أعلى الفخذين. وقيل: عرقان في الظهو. وقيل: في الفخذين. وقوله: (ولما اشتهر إلخ) توجيه لنقلى المجاز عن المجاز، لأنّ شرطه شهرة الأوّل حتى ينزل منزلة الحقيقة، وقوله إنّ(1/223)
الاشتقاق مما ليس بحدث قليل مردود لأنه وان إشتهر، ومثلوا له باستنوق الجمل وأبك إذا أحسن رعي الإبل وسبقه إليه غيره إلا أنه غير تام لأنهم إن أرادوا به ملاحظة معنى اسم الجنس في الفعل ومتصرّفاته مطلقا، فهو أكثر من أن يحصى ويحصر كطين الحائط إذا طلاه بالطين، وأترب الكتاب إذا وضع عليه التراب وزفت الإناء وقيره واثبات القلة النسبية موقوف على الاستقراء التام وهو متعذر وان أرادوا أنّ اسم الجنس وضعه الواضع أوّلاً، ثم أخذ منه الفعل ومتصرفاته كاستنوق والناقة فهو وان كان الوقوف عليه لغير الواضع عسيراً إلا أنه يستدذ عليه بشهرة الجامد دون ما أخذ كالإبل وابل، وهذا ليس كذلك لشهرة صلى والمصلي دون الصلا والصلوين وفيه نظر. وقوله إنّ الصلاة بمعنى الدعاء شائعة مسلم، وعدم ورود إطلاق الصلاة على ذات الأركان من العرب باطل، وان تبع غيره هنا وهو ظاهر كلام السيوطي في المزهر في الفصل الذي عقده للألفاظ الإسلامية لأنهم إن أرادوا أنّ الصلاة بمعنى العبادة المخصوصة ولم يكن قبل شرعنا مسمى، واسم فليس كذلك لورود ما يخالفه في آيات كثيرة كقوله تعائى حكاية عن إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاَةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي} [إبراهيم: 40] والاستدلال عليه بظاهر قوله {وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [البقرة: 125] أي المصلين من ضيق العطق، والمخصوص خصوص هذه الأقوال والأفعال وان أرادوا أنها لم تسم صخلاة قبل شرعنا وأنه لم ينقل عن العرب قبل الإسلام، فليس كذلك لنقل أئمة اللغة كالجوهرفي ما يخالفه، وان اختلف في أنه حقيقة لغوية أم لا، ولا خلاف في أنه حقيقة شرعية وتحقيقه ما قاله ابن فارس في كتابه فقه اللغة، وعبارته كانت العوب في جاهليتها على إرث من إرث آبائهم في لغاتهم، فلما جاء الله تعالى بالإسلام حالت أحوال، ونقلت ألفاظ مبن مواضع إلى مواضع أخر بزيادات، ومما جاء في الشرع الصلاغ، وأصله في لغتهم الدعاء، وقد كانوا عرفوا الركوع والسجود، وإن لم يكن على هذه الهيثة فقالوا:
أو درّة صدفية غواصها ~ بهج متى يرها يهلى ويسجد
(وقال الأعشى:
يراوح من صلوات الملي ~ ك طوراً سجوداً وطوواً جؤارا
وهذا وان كان كذا، فإن العرب لم تعرفه بمثل ما أتت به الشريعة من الإعداد،
والمواقيت والتحريم للصلاة والتحليل منها وكذلك الصيام والحج والزكاة اهـ. فقد عرفت أنّ العرب سمتها بذلك قديما وأنّ قوله لم يرد عنهم إطلاقها على ذات الأركان وأنهم ما كانوا يعرفونها لا أصل له، وما ذكره من السؤال والجواب قد قيل في توجيهه أيضاً: إنه إنما جعل الصلاة من صلى لعدم استعمال التصلية بمعنى الدعاء، وفي القاموس يقال: صلى صلاة ولا يقال تصلية اهـ وما في القاموس تبع فيه الجوهريّ وبعض أهل اللغة، وليس بصحيح وان اشتهر قال الإمام الزوزني في أفعاله: التصلية غازكرون، وفي أمالي ثعلب إمام أهل اللغة أنشد لبعض العرب:
تركت القيان وعزف القيان وأدمنت تصلية وابتهالا
وقال في تفسيره يقال صليت صلاة وتصلية ههـ وكذا في العقد لابن عبد ربه، وإنما تركه
أهل اللغة لأنه من المصادر القياسية، وعادتهم تركها وأخذ الصلاة من الصلوين، واطلاق المصلي على ثاني خيل الحلبة مما لا يثك فيه أحد من أهل اللغة وقول المصنف رحمه الله حرّك الصلوين وقع في بعض النسخ الصلا مفردا بدله، وما أورده صاحب الكشف عليه من أنه مخالف لمذهب المعتزلة وأهل السنة إشارة إلى ما تقرّر في أصول الفقه من أنّ الألفاظ المستفادة من الشرع هل لها حقيقة شرعية أم لا فقال القاضحي أبو بكر رحمه الله: إنّ الشرع لم يستعملها إلا في الحقائق اللغوية، فالمراد بالصلاة المأمور بها الدعاء إلا أنّ الشرع أقام أدلة على أنّ الدعاء لا يقبل إلا بشرائط مضمومة إليها، وأثبتها المعتزلة وقالوا نقل الشارع هذه الألفاظ عن مسمياتها اللغوية، وابتدأ وضعها لهذه لا لمناسبة، فليست حقائق لغوية، ولا مجازات عنها، والحق أنها مجازات اشتهرت، فصارت حقيقة شرعية والزمخشريّ ليس بمقلد للمعتزلة(1/224)
في كل ما يقولونه خصوصا فيما يتعلق بالعربية والكلام على هذه المسئلة مع أدلته مفصل في الأصول. قوله: (واشتهار هذا اللفظ إلخ) هو رذ لما في التفسير الكبير من أنّ ما اختاره الزمخشريّ من الاشتقاق يفضي إلى الطعن في كون القرآن حجة، لأنّ الصلاة من أشهر الألفاظ، واشتقاقه من تحريك الصلوين من أبعد الأشياء معرفة فلو جوّزنا ذلك وقلنا: إنه خفي واندرس بحيث لا تعرفه إلاً الآحاد لجاز مثله في سائر الألفاظ ولو جاز ما قطعنا بأنّ مراد الله من هذه الألفاظ ما يتبادر إلى أفهامنا لاحتمال إرادة تلك المعاني المندرسة ولما كان مبناه على أنّ ما اشتهر لا ينقل من الخفيّ أجاب عنه بما ذكر مع أنه غير مسلّم مطلقا أيضاً لأنه إن أراد بهذا اللفظ لفظ الصلاة، فهو كذلك وان أرأد لفظ صلى أو مادّته فغير مسقم ديمانّ المصلي بمعنى السابق، وثاني خيل الحلبة مشهور مستفيض بل قد يقال إنه قبل الشرع أشهر منه، والمراد بالمعنى الثاني العبادة ذات الأركان المعلومة الدال عليها قوله لأن المصلي يفعله، وقيل إنه أراد بالثاني المنقول إليه المتنوّع إلى نوعين الدعاء والفعل المخصوص، وردّ بأنّ قوله وإنما سمى إلخ مرتبط بقوله لأنّ المصلي يفعله إلخ وحينئذ يكون هذا فصلاَ بين العصا ولحائها، والظاهر
أنه تكلف مستغن عن الردّ وأنه كله مقول القول فإنه بعينه كلام الكشاف. وقوله: (لا يقاخ) أي لا يضرّه، وهو مجاز من قولهم قدح في عرضه ونسبه إذا عابه هذا هو المراد بنوع تسمح، والقدح بمعنى العيب كما في الأساس من قدح الدود في العود إذا وقع فيه، والقدح في عرف الأطباء إدخال الميل في العين إذا انصب فيها مادّة تمنع النظر ومنه قال بعض المتأخرين من الشعراء:
إذا انصبّ ماء اليأس في مقلة الرجا فليس لها عند اللبيب سوى القدح
قوله: (وإنما سمي الداص إلخ) قد علمت أنه من مقول قوله قيل: فإنه برمته كلام الكشاف، وهو بيان لما في الواقع عنده من أنها في الدعاء استعاوة من الصلاة المشهورة لا أصل لها واطلاقها عليها مجاز من إطلاق الحال على المحل أو الجزء على الكل، وقد أورد عليهم أنهم اشترطوا فيه أن يعدم الكل بعدمه وأن يكون الجزء مقصودا من الكل، وأنه لا يصح حينئذ إطلاقه على صلاة الأخرس، وهو كله مخالف للواقع وقيل إنه معنى متعلق بالأخير وهو كون الصلاة من تحريك الصلوين، فكأنه جواب عن سؤال تقديره ما وجه استعمالها على هذا في الدعاء إلى آخر ما فصله مما لا حاجة إليه. قوله: (الرزق في اللغة الحفظ إلخ) هذه الجملة معطوفة على الصلة وما موصولة أو موصوفة أو مصدرية وقوله في اللغة الحظ وقيل: العطاء. وقيل: الملك تبع فيه، وفي استشهاده بهذه الآية الراغب كما هو دأبه وقال في تفسيرها: تجعلون نصيبكم من النعم تحرّي الكذب اهـ.
وقيل الرزق في لغة أزد يكون بصعنى الشكر وهو المراد في هذه الآية وقيل شكر فيها
مقدّر له هو مع أنه خلاف الظاهر محتاج إلى التأويل والتجوّز إذ لا يكون التكذيب شكرا إلا على التنزيل منزلته والتهكم، فلا يرد على المصنف رحمه الله ما قيل: من أنه لا استشهاد في الآية وقيل: الظاهر من الحظ الاسم بمعنى الجدّ والنصيب لا المصدر من حظظ الشيء بالكسر بمعنى بهر منه شدّة، وإن جاء في اللغة لكليهما، ويؤيده استدلاله بالآي، ولا يخفى أنّ المناسب أن يفسر الرزق بالمعنى المصدري لأنّ المذكور فيها أن والفعل. قوله: (والعرف خصصه بتخصيص الشيء إلخ) هذا يناسب المعني المصدري إلا أن يقال المراد بالشيء المخصض إلخ لأنّ تخصيص الشيء إنما يكون ببعض أفراده والتض عيص ليس من أفراد الحظ، والرزق بالفتح لغة الإعطاء لما ينتفع الحيوان به، وقيل إنه يعمّ غيره كالنبات، والرزق بالكسر اسم منه ومصدر أيضاً بمعناه، لكن المفهوم من كلامهم أنه ليس بمصدر، ثم إنّ المعنى اللغوي وهو النصيب شامل للغذاء ولغيره وللأمور الحسية والمعنوية وللحلال والحرام، ولذا قال:
والعرف خصصه والتخصيص جعله خاصاً به لا يتعذاه، وتمكينه من الانتفاع به بحيث لا يمنعه مانع منه يقال مكنته من الشيء أي جعلت له عليه قدوة فتمكن منه، واستمكن وكذا أمكنته، ويقال أمكنه الأمر إذا سهل وتيسر، والانتفاع به بأكله وشربه ولبسه ونحوه والمراد بالعرف عرف اللغة، أو الشرع وشتعمل الرزق بمعنى المرزوق المنتفع به، وهو النصيب المعطى لأنه يتعدّى لمفعولين، فيصح تسمية كل منهما مفعولاً(1/225)
إلا أنّ المتبادر منه الثاني إذا أطلق لأنّ الأوّل آخذ فهو فاعل معنى كما صرّح به النحاة، فمن قال الظاهر أنّ المرزوق الشخمى الذي وصل إليه الرزق لا نفس الحظ فقد خلط وخبط، وتمكن الانتفاع صحته منه، وإن لم يكن بالفعل فهو بمعنى ما قيل من أنه سوق الله إلى الحيوان ما ينتفع به كما هو عند الجميع، والفرق ما سيأتي من فسره بما ساقه إلى العبد ليأكله فهو باعتبار الأغلب أو التغليب، وما أعطاه الناس لغيرهم داخل فيه لتمكنهم منه أو هو رزق نظراً للغير الواصل إليه كما قال:
لم لا أحبّ الضيف أو أرتاح من طرب إليه
والضيف يثل رزقه عندي ويشكرني عليه-
وقيل هو ما به قيام الحيوان وبقاؤه. قوله: (والمعتزلة لما استحالوا إلخ) ردّ على الزمخشريّ، وقد اختلفوا في أنّ الحرام رزق أم لا وليس الخلاف في معناه اللغوي، فإنه ما ينتفع به مطلقاً كما صرّحوا به وليس هو مما ينبغي ذكره في علم الكلام وليس أيضاً نزاعا لفظياً راجعا لتفسيره بل النزاع في معناه شرعا بعد الاتفاق على أنّ الإضافة إلى الله الرازق معتبرة في مفهومه، ولذا فسر تارة بما أعطاه الله عبده ومكنه من التصرّف فيه بحيث لا يكون لغيره المنع منه، فلا يكون الحرام رزقاً وتارة بما أعطاه الله لقوامه وبقائه خاصة فقالت المعتزلة: لما كانت الإضافة إليه تعالى معتبرة فيه لزم أن لا يصدق على الحرام بناء على أصلهم الفاسد في عدم إسناد القبائح إليه تعالى وأهل السنة قالوا كل من عند الله، والإضافة لا تمنع كون الحرام رزقا وفي الكشف الاتفاق على أنه من فضل الله عليهم كما تفضل بالى ئجاد وسائر أسباب التمكين، فليس عدم الاستناد لكونه ليس من فعله تعالى، كما توهم بعضهم بل لأنهم يقولون لا يحسن أن يسند إليه تعظيماً له ولأنّ فيه شوباً من فعل العباد، لأنهم أكسبوه وصف الحرمة فنقول التعظيم في إسناده إلى الله تعالى لئلا يوهم إيجاد العبد ما لا يستقل به اتفاقا، وأمّا وصف الحرمة، فلو سلم أنه ليس بإيجاده لم يفد كيف، وقد ثبت بالقاطح العقل والنقل أنّ الكل منه وبه واليه، نعم لا يوصف الفعل بالصفات الخمس إلا من حيث قيامه بالى مملف لا من حيث صدوره عنه تعالى، وهذا أصل نافع وقد ذهب إلى مذهب المعتزلة بعض أهل السنة بناء على أنه لا يملكه لخبثه كما قال النسفي، وفي أحكام القرآن للجصاص: إطلاق اسم الرزق إنما يتناول المباح دون المحظور، وما اغتصب وأخذ بالظلم لم يجعله الله رزقا له لأنه لو كان رزقاً جاز إنفاقه، والتصدّق والتقرّب به إليه تعالى، ولا خلاف بين المسلمين في أنّ الغاصب محظور
عليه الصدقة بما اغتصبه وفي الحديث: " لا يقبل الله صدقة من غلول " اهـ.
(أقول) ما ذكره من عدم الخلاف لا يخفى ما فيه قال ابن القيم في كتابه بدائع الفوائد لو
عمل الخير بمال مغصوب اختلف فيه فقال ابن عقيل رحمه الله: لا ثواب للغاصب لأنه آثم مستحق للعقوبة ولا لرب المال لأنه لا نية له ولا ثواب بدون فصد ونية، وإنما يأخذ من حسنات الغاصب بقدر ماله، وقيل إنه نفع حصل بماله وتولد منه، ومثله يثاب عليه كمن له ولد برّ يؤجر به وان لم يقصده والمصائب إذا ولدت خيرا الظاهر أنه يؤجر عليها وعلى ما تولد منها، وكذا الغاصب فإنه وأن تعدّى واقتص من حسناته فما كان يعمله يؤجر عليه لأنه لو فسق به عوقب مرّتين على الغصب والفسق، فإذا عمل به خيراً ينبغي أن يثاب عليه فمن يعمل مثقال ذرّة خيراً يره، ومعنى استحالوا عدّوه محالاً لأنّ الإقدار على القبيح قبيح كخلقه عندهم، واعترض على المصنف رحمه الله بأنّ وصف التمكين ليس معتبرا عند أهل الستة وبأنّ التمكين لا ينافي المنع والزجر كما في سائر المعاصي، ألا ترى أنهم قالوا بإرجاع المحامد إليه تعالى دون القبائح باعتبار أنّ الأقدار على الحسن حسن والتمكين من القبيح ليس بقبيح، وقد اشتهر أنه تعالى خالق القوى والقدر وأجيب بأنّ الأقدار والتصكين على وجهين: الأؤل إعطاء القدرة الصالحة لصرفها إلى الخير والشرّ، وذلك غير قبيح وحاصل منه تعالى على زعمهم. والثاني جعل الشيء خاصاً بأحدهما داخلاً تحت تصرّفه قريبا من الانتفاع بالفعل، وذلك غير واقع في زعمهم فلا إشكال. قوله: (ألا ترى إلخ) في الكشاف وأسناد الرزق إلى نفسه للإعلام بأنهم ينفقون الحلال الطلق الذي يستاهل أن يضاف إلى(1/226)
الله تعالى ويسمى رزقاً منه وقال قدس سرّه: تمسك بالإسناد فقط نظرا إلى أنّ الرزق لغة يتناول الحرام أيضا وتخصيصه بما عداه عرف شرعي كما ينبىء عنه قوله رزقا منه، وقد يقال بنى كلامه على التقدير أي إن قدر أنّ الحرام يسمى وزقا شرعا أو لغة فالإسناد إلى نفسه يخرجه قطعا، وهو إشارة إلى ما قيل من أنه إذا أسند 10 لى الله تعالى فالمراد به الحلأل بالإتفاق فلا يكون هذا مؤيدا لمذهبه، ولم يرتض الجواب بأنّ المؤيد له قوله ويسمى رزقا، لأنّ الظاهر من قوله منه أنه للتقييد، فلا يصلح أيضا له وحمله على أنه تجريد بناء على أنّ الإضافة إليه معتبرة في مفهومه خلاف الظاهر والطلق بكسر الطاء وسكون اللام وقاف الحلال كما في النهاية يقال أعطيته من طلق مالي أي من صفوته وطيبه فالوصف للمبالغة، والأولى تفسيره بالخالص وفي المصباح وشيء طلق وزان
حمل أي حلال، وافعل هذا طلقاً لك هـ أي حلالاً ويقال الطلق المطلق الذي يتمكن صاحبه فيه من جميع التصرّفات فيكون فعل بمعنى مفعول مثل الذبح بمعنى المذبوح اهـ. قوله: (فإنّ انفاق الحرام إلخ) بيان وتعليل للإيذان، ولا يرد عليه قول الفقهاء إذا اجتمع عند أحد مال لا يعرف صاحبه ينبغي له أن يتصدّق به، فإذا وجد صاحبه دفع قيمته أو مثله إليه، فهذا الإنفاق مما يثاب عليه لأنه لما فعله بإذن الشارع اسنحق المدح لأنه لما لم يعرف صاحبه كان في يده وله التصرّف فيه، وانتقل بالضمان إلى ملكه وتبدلت الحرمة إلى ثمنه فتامل. قوله: (وذمّ المشركين إلخ) عطف على قوله وأسند إلخ وهذا دليل ثان لهم بأنهم ذموا على جعل بعض الحرام رزقا فيقتضي أنه ليس كذلك، ولا يخفى ضعفه فإنهم إنما ذموا على جرأتهم على التحريم والتحليل وهو لا يليق بغير الشارع وسيأتي ما فيه. قوله: (وأصحابنا إلخ) حاصله منع كون الإسناد للإيذان المذكور بل لأمر آخر، وهو تعظيم الرزق لأنه جل وعلا إنما يضاف إليه، وينسب ما عظم كبيت الله، وقال تعالى حكاية {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء: 80] فإنه إنما يضاف إليه الأفضل فالأفضل وتعظيم الرزق يتضمن معرفة قدر النعمة وهو أوّل مراتب الشكر وأمّا التحريض وهو الحث على الإنفاق فلأنّ الرزق إذا كان منه وله لا ينبغي الإمساك، وقد قيل الجود بالموجود ثقة بالمعبود، ومن أيقن بالخلف جاد بالعطية، ومن تحقق أنّ معطيه ذو الجلال والإكرام كيف يضن بما لديه من الحطام ولذا قال عليه الصلاة والسلام: " أنفق بلالاً ولا تخش من ذي العرش إقلالاً " (1) . وقيل إنه لتعظيم حق الإنفاق بأن يعرف أنه معط من مال الله لعبيده فلا يضيفه لنفسه لأنه أمين يصرف ماله لمستحقه، وهذا مع ظهوره خفي على من قال إنّ التحريض غير ظاهر، وهو إنما يفهم من المدح، وقد يوجه بأنّ الرزق والإنفاق يشتركان في أنهما صرف الشيء إلى الغير، فإذا كان الرزق صفة كمال لنسبتة إلى الله تعالى كان الإنفاق كذلك وهذا مما يقضي منه العجب. قوله: (والذم لتحريم ما لم يحرّم) مبني للفاعل ##########(1/227)
#######كونه أهمّ كأنه قال: ويخصمون بعض المال الحلال بالتصدّق به، وقال قدّس سرّه: الجارّ والمجرور مفعول للفعل على الإطلاق تنبيهاً على أنه بحسب المعنى مفعول به أي بعض ما رزقناهم، وان كان بحسب اللفظ صفة مفعول مقدّر أي شيئاً مما رزقناهم وأمّا كونه أهمّ فلقصد الاختصاص مع رعاية الفاصلة لا يقال إدخال من التبعيضية يغني عن التقديم للتخصيص، فإنّ إنفاق البعض يتبادر منه عدم الشمول ومن ثمة كان فيه صيانة وكف لأنا نقول يجوز مع إنفاق البعض الشمول بأن يكون الباقي مسكوتا عنه، وان كان احتمالاً مرجوحاً، فإذا قدم زال ذلك الاحتمال بالكلية لظهور الفرق بين بعض مالي أنفقت وأنفقت بعض مالي، فإن قلت: تخصيص الإنفاق بالزكاة إذا فسرت به نفي لما يقابلها من التطوّع، والمقام يأباه قلت: لما عبر عنها ببعض ما رزقناهم كانت بهذا الاعتبار مقابلة لجميع المال، فالنفي. توجه نحوه، وقد عرفت غير مرّة وجه صلوح المطلق لتناول. الكل، ومن البين أنّ مقام المدح يناسب العموم (أقول) المذكور في كلام القوم أنّ تقديم المعمول يفيد الحصر فيما يدل عليه صريحا وأنه المقصور عليه فإذا قلت من التمر أكلت كان المعنى ماكولي التمر دون الزبيب لا بعض التمر دون كله فادّعاء الحصر فيما يفيده المفهوم وجعله(1/228)
قيدا يتوجه إليه النفي الذي هو فبه بالقوّة لأنه بمعنى ما، وإلا على تقدير صحته لا يخفى بده وتكلفه وكأنّ الداعي له إلى ارتكابه أنه إنما يناسب مذهب أهل السنة فإنه إذا عمّ الرزق الحلال والحرام كان الإنفاق الممدوح به بعضه، وهو الحلال دون البعض الآخر، فيتأتى الحصر بلا تكلف أمّا على مذهبه، فلا ينبغي تفسير الاهتمام بالحصر، ولذا قيل إنه لشرف المكتسب بإسناده إليه تعالى، وقيل تقديمه لأنّ المكتسب مقدّم على الإنفاق في الخارج. قوله: (والمحافظة على رؤوس الآي) بالمد جمع آية وهي في الأصل العلامة والمراء بها بعض مخصوص من القرآن، وهذا بناء على أنّ في القرآن سجعا، وقال البقاعي في كتاب فصاعد النظر: اختلف فيه السلف فقال أبو بكر الباقلاني في كتاب الإعجاز: ذهب أصحابنا الأشاعرة كلهم إلى نفي السجع عن القرآن كما ذكره أبو الحسن الأشعريّ في غير موضع من كتبه، وذهب كثير ممن خالفهم إلى إثباته اهـ. والقول الثاني فاسد لما في القرآن من اختلاف أكثر فواصله في الوزن والرويّ، ولا ينبغي الاغترار بما ذكره بعض الأماثل كالبيضاوي والتفتازاني من إثبات الفواصل والسجع فيه، وأنّ مخالفة النظم في مثل هارون وموسى بحسبه، ونقل أبو حيان في قوله تعالى: {وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ} [فاطر: 21] في فاطر أنه لا يقال في القرآن قدم كذا أو أخر كذا للسجع لأنّ الإعجاز ليس في مجرّد اللفظ بل فيه، وفي المعنى ومتى حوّل اللفظ لأجل السجع عما كان لا يتمّ به المعنى بدون سجع نقض المعنى، وقيل عليه إنه نسي ما قاله في الصافات من أنّ التعبير بما رد ومريد للفاصلة، ثم أنه قال لو كان في القرآن سجع لم يخرج عن أساليب كلأمهم ولم يقع به إعجاز ولو جاز أن يقال سجع معجز
جاز أن يقال شعر معجز، والسجع مما تألفه الكهان، وقد أنكر النبيّ صئى الله عليه وسلّم على من سجع عند 5 (1) على ما عرف في كتب الحديث، ولو كان سجعا كان قبيحا لتقارب أوزانه واختلاف طرقه فيخرح عن نهجه المعروف، ويكون كشعر غير موزون وما احتجوا به من التقديم والتأخير ليس ببئميء فإنه لذكر القصة بطرق مختلفة (أقول) أطال بلا طائل لتوهمه أنّ السجع كالشعر لالتزام تقفيتة ينافي جزالة المعنى.
وبلاغتة لاستتباعه للحشو المخل وأنّ الإعحاز بمخالفته لأساليب الكلام فثغ على هؤلاء الاعلا 3، وليس بشيء، والعجب منه أنه ذكر كلام الباقلاني مع التصريح فيه بأنّ من السلف من ذهب إليه، والحق أنه في القرآن من غير التزام له في الأكثر وكأنّ من نفاه نفى التزامه أو أكثريته، ومن أثبته أراد وروده فيه في الجملة، فاحفظه ولا تلتفت لما سواه، وهذا مما ينفعك فيما سيأتي ولت افصلناه هنا لتكون على ثبت منه، والذي عليه العلماء أنه تطلق الفواصمل عليه دونل السجع. قوله: (وإدخال من إلخ) قد مرّ أنّ الجارّ والمجرور في محل نصب لأنه صفة مفعول 1 مقدر قد قام مقامه لا مفعول حقيقة ميلاً مع المعنى لأنه اسم تأويلاَ كما سياتي في قوله (ومن الناس) وقد قيل: إنّ هذه النكتة مبنية على أنّ المراد بالإنفاق مطلقه 1 الأعئم إذ الزكاة لا تكون بجميع المال، واً نه مخصوص بمن لم يصبر على الفاقة ويتجرّع مرارة الإضا- قه، وقد تصدّق بعضهم بجميع ماله، ولم ينيهره- عليه النبيّ صلّى الله عليه وسلم، وما في بعض الحواشي من أنّ المصئف تبع في هذا الزمخشريّ، وهو نزغة اعتزالية وهم فاسد. قوله: (ويحتمهل إلخ) المعاون بوزن المساجد جمع معونة، وهي ما يستعان به وينعكع من العون، وهو المساعدة والمظاهرة ويقال: استعانه واستعان به، والاسم منه المعونة والمعانة بالفتح، ووزن المعونة مفعلة بضم العين، وبعضهم يجعل الميم. أصلية، فوزنها فعولة وجمعها على معاون قياس، فلا يقال إنه لم يوجد في كتب اللغة المشهورة، وأنه ركيك وهي عامّة لما ينتفع به في قوام البدن وبقاء الروح، فيشمل المال والعلوم والمعارف، والإنفاق حينئذ بمعنى الإيصال مطلقا بالبذل والتعليم وغير ذلك، فهو مجاز من استعمال المقيد في المطلق فليس فيه جمع بين الحقيقة والمجاز كما توهم، والرزق رزق الأبدان وهو معلوم، ورزق القلوب وهو المعارف، وأجلها معرفة الله تعالى، ومقام المدح يقتضي التعميم، لكنه خلاف الظاهر المعروف في استعمال الرزق والإنفاق، ولذا أخره والإنفاق من المعارف يزيدها ومن الأموال ينقصها وهذا من كلام الراغب. وعبارته: الإنفاق كما يكون من المال والنعم الظاهرة يكون من النعم الباطنة كالعلم والقوّة والجاه، والجود التامّ بذل العلم ومتاع(1/229)
الدنيا عرض زائل، وقال بعض المحققين
في الآية: ومما خصصناهم به من أنوار المعرفة يفيضون قيل في بعض النسخ معادن بالدال بدل الواو جمع معدن، وهو موضع العدن بمعنى الإقامة، ومعدن كل شيء مركزه، وهو تحريف من جهلة النساخ نشأ من لفظ الكنز، فلا ينبغي ذكره. قوله: (ويؤيده قوله عليه الصلاة والسلام إنّ علماً لا يقال به (1) إلخ) هذا هو الصحيح الموافق للحديث كما سيأتي وفي نسخة يقاد وفي نسخة يقال فيه وهذا حديث أخرجه ابن عساكر في تاريخه عن ابن عمر مرفوعاً وأخرج الطبراني في الأوسط " مثل العلم الذي يتعلم به، ثم لا يحدث به كمثل الكنز الذي لا ينفق منه)) 2 (وأخرح ابن أبي شيبة عن سلمان علم لا يقال به كنز لا ينفق منه، ومعنى يقال به يحدث ولذا عداه بالباء كما يقال: قال بيده إذا أهوى بها، وقال برأسه إذا أشار بها. وقوله: (وإليه ذهب إلخ) ففسره هذا القائل بإفاضة أنوار المعرفة، وخصها لشرفها أو لأنها غير متبادرة فلا يرد عليه أنه غير مطابق لما قبله لأنه خص الرزق بالمعرفة ولم يعمم، وأنوار المعرفة كلجين الماء لأنّ النور ظاهر بنفسه مظهر لغيره، فأطلق على كل مظهر، ولذا سمي العلم والكتب الإلهية والرسل نورا وافاضة الأنوار انتشار أشعتها مستعارة من إفاضة الماء، وما في مما رزقناهم تحتمل المصدرية والموصوفة والموصولة، وأقربها الأخير، وعليه فالعائد محذوف تقديره على ما قاله أبو البقاء رزقناهموه أو رزقناهم إياه وأورد عليه في الدرّ المصون أنه على الأوّل يلزم اتصال ضميرين متحدي الرتبة والانفصال في مثله واجب، وعلى الثاني يمتنع حذفه، لأنّ العائد متى كان منفصلاً لزم ذكره كما نصوا عليه وعللوه بأنه لم ينفصل إلاً لغرض، وإذا حذف فاتت الدلالة عليه، وأجاب عن الأوّل بأنه لما اختلف الضميران جمعاً وافراداً جاز اتصالهما، وإن اتحدا رتبة كقوله:
وقدجعلت نفسي تطيب لضغمة لضغمهماهايقرع العظم نابها
وردضاً فإنه لا يلزم من منع ذلك ملفوظاً به منعه مقدّر الزوال القبح اللفظي، وعن الثاني
بأنه إنما يمنع لأجل الليس ولا لبس هنا اهـ.
(وأنا أقول) هذا غير مسقم لأنّ الذي يمنع حذفه ما كان انفحماله لغرض معنويّ كالحصر
لا مطلقا، كما قاله ابن هشام في الجامع الصغير، وقال الرضيّ: شرط حذفه أن لا يكون منفصلاً بعد إلاً نحو ما جاءني الذي ما ضربت إلا إياه، وأما في غيره فلا منع نحو ضيع
الزيدان الذي أعطيتما أي إياه واعترض عليه الأستاذ الخال رحمه الله بأنه كان ينبغي له أن يقول إلاً لغرض معنويّ، ولا يقيده بإلاً فتأمّل. قوله: (ومما خصصناهم به من أنوار المعرفة يفيضون) قد مرّ بيانه، وقد أورد عليه أنه تفسير للقرآن بخلاف ظاهر اللفظ من غير ضرورة ومثله لا يجوز نعم يجوز أن يقال: إنّ مثله يستفاد بطريق الإشارة، وأصل الفيض ما فاض من الماء لامتلاء الإناء ونحوه، ثم استعير لغيره كالحديث فيقال: حديث مستفيض أي شائع وهو المراد لما في التعليم من الإشاعة. قوله: (هم مؤمنو أهل الكتاب إلخ) قدّم هذا الوجه لرجحانه رواية ودراية لأنه مأثور عن الصحابة، كابن عباس وابن مسعود رضي الله عنهم، ولأنّ التغاير هو الأصل في العطف، والحاصل أنّ المعطوف إمّا أن يكون مقابلاً للمعطوف عليه ومباينا له أو لا وعلى الأوّل المعطوف عليه الذين يؤمنون بالغيب أو المتقين وعلى الثاني، إمّا أن يكون المعطوف متحدا بالمعطوف عليه بالذات أو طائفة منه، فالوجوه فيه أربعة وسيأتي بيانها، وعبد الله بن سلام بتخفيف اللام، وهي مثددة في غيره من الأعلام صحابيّ أنصاريّ بطريق الحلف وهو من اليهود وبني إسرائيل من بني قينقاع من ولد يوسف النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وكان اسمه الحصين فسماه النبيّ صلّى الله عليه وسلّم عبد الذ وكان صلّى الله عليه وسلم كثيرا ما يغير الأسماء، وقد جمع السيوطيّ رحمه الله من غير النيّ عليه الصلاة والسلام اسمه في جزء له، وقد شهد له النبيّ صقى الله عليه وسلّم بالجتة، ونزلت فيه آيات كقوله تعالى: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ} [الأحقاف: 10] وقوله: {وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ} [الرعد: 43] واختلف في زمان إسلامه دون وفاته فإنه توفي بالمدينة سنة ثلاث وأربعين من الهجرة النبوية وله قصة مع اليهود مذكورة في كتب الحديث والأضراب جمع ضرب بفتح الضاد وكسرها ورجح الزمخشريّ الثاني، وقيل جمع ضريب كشريف وأشراف، وقال النوويّ أضرأب أشباه جمع ضرب وبمعناه ضريب، وجمعه ضرباء ككريم وكرماء وانكار القاضي عياض له وهم(1/230)
وأصله كما في الفائق من يضرب قداح الميسر، ثم تجوّز به عن كل نظير وشاع فيه، وفي الأساس ضرب القدح، وهو ضريبي لمن يضربها معك وهم ضربائي، ومنه ضرب وضريب وقوله قدّس سرّه: أضرابه أمثاله والجمهور على أنه جمع ضرب بالفتح وعند المصنف رحمه الله بكسرها فعل بمعنى مفعول كالطحن وهو الذي يضرب به المثل، ولا بد أن يكون مماثلاَ للمضروب فيه، ويعضده مثل وشبه، وهو مخالف لما حقق في اللغة كما سمعته، وفي بعض النسخ أصحابه أي الذين صاحبوه في الإيمان من أهل الكتاب. قوله: (معطوفون على الذين إلخ) أي سواء كان منقطعا عن المتقين أو موصولاً به، وهذا بخلاف عطف، والذين يؤمنون على المتقين كما في الوجه الآني، فإنما يصح على تقدير الوصل دون
الانقطاع كما صرّح به الفاضل المحقق، وذلك لما- فيه من الفصل بين المعطوفين بأجنبيّ كما سيأتي ومعطوفون خبر ثان للفظ هم وكذا داخلون، ودخول أخصين بالنصب على أنه مفعول مطلق، وأخصين يجوز فيه كسر، الصاد وفتحها على أنه جمع مذكر سالم لا خمى باعتبار المعنى أو مثنى باعتبار أنهم فريقان، وأعتم بالإفراد المراد به المتقون وأفرده لوقوعه في مقابلة الجمع أو المثنى. وقوله: (إذ المراد إلخ) تعليل لما يدل عليه المقام من تغاير المتعاطفين بالذات، وأولئك إشارة إلى الذين يؤمنون بالغيب المعطوف عليه، والذين. آمنوا خبر لقوله: المراد وآمنوا بمد ألف بعد الهمزة، وعن الشرك والإنكار وقع في نسخة عن شرك وإنكار منكرين أي آمنوا إيماناً منتقلاَ أو متباعداً عن ذلك، وهم من لم يكن من أهل الكتاب ويجوز قصرها، وليس هذا الوجه مقطوعا به حتى يرد عليه ما قيل: لأنه لا ينبغي والظاهر أن يبدل ما ذكر بقوله على أنّ المراد إلخ لأنّ ذكر ما يقابله يأباه قطعاً، وأما القول بأنّ التغاير بالصفات لا بالذات أرجح لاشتراك الفريقين في الإيمان بالمنزلين، فقد دفع بأنّ المتبادر من العطف أنّ الإيمان بكل منهما على طريق الاستقلال، وهو مختص بأهل الكتاب لأنّ إيمان غيرهم بما. أنزل من قبل إنما هو على طريق الإجمال والتبع للإيمان بالقراًن لا سيما في مقام المدح كما هنا، وقد قال تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ} [الأنعام: 20] إلى قوله: {يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ} [القصص: 54] كما ورد في الصحيح أنّ لأهل الكتاب أجرين بواسطة ذلك إلاً أنه قيل عليه أنّ قوله تعالى: {قُولُواْ آمَنَّا بِاللهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ} [البقرة: 136] الآية بالعطف مع عمومها لسائر المسلمين يمنع التبادر لخفاء التغاير الذاتي بينهما، وقيل: التغاير باعتبار آخر وهو أنّ الإيمان الأوّل بالعقل، وهذا بالنقل، وأمن الفريق الأوّل عن الشرك أنّ شأنهم ذلك، وجلهم كذلك وان كان فيهم من لم يشرك أصلاَ كعليّ رضي الله عنه، فلا يرد ما قيل إنه يخرج عن الطائفتين من نشأ على الإسلام، ولم يتدنس بشرك إلاً أن يقال الإيمان المتضمن للاعراض عن الشكر لا يوجب سبقه، ثم قال: الأوجه أنّ المراد بالذين يؤمنون بالغيب من عدا أهل الكتاب لأنّ إيمانهم بما عرفوه كما يعرفون أبناءهم، وإنّ أولئك على هدى إشارة إلى الطائفة الأولى لأنّ إيمانهم بمحض الهداية الربانية، {وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} إشارة إلى الثانية لفوزهم بما كانوا ينتظرونه، وهم يقاتلونهم. لأنهم لم يشركوا ولم ينكروا، والمراد لجالفريقإ الأوّل مجموعهم لا جمصهم إذ هم ليسوا كذلك، فلا يرد النقض بمن مرّ مع أنه مغمور بينهم، فيدخل على حد بنو فلان قتلوا قتيلاً، وتقديم الإيمان بالغيب لسبقه ذاتا وزمانا وعدم شرك أهل الكتاب ظاهر، وأمّا ما ذكره المصئف رحمه الله تعالى في تفسير قوله تعالى ما كان إبراهيم يهودياً فستراه وما فيه. قوله: (وهو قول ابن عباس رضي الله عنهما إلخ) أخرجه ابن جرير مسنداً، فلا وجه للتردّد فيه، والقول بأنه إن صح عنه فهو تفسير للموصول الثاني
بالسمع، ويؤيده أنّ صدور الإيمان عنهم مرّتين سابقاً قبل ظهور الإسلام، ولاحقاً بعده أدخل في المدح والعطف لا يقتضي المباينة الكلية لجواز أن يراد بالموصول الأوّل ما يعم الثاني، وعطف الأخص على الأعمّ لمزيد الاهتمام شائع وفيه ما فيه. قوله: (أو على المتقين) هذا هو الوجه الثاني وهو مشارك للأوّل في أنه أريد فيهما بالذين يؤمنون بما أنزل إليك مؤمنو أهل الكتاب ولذا قدمه على ما بعده. وقوله: (وكأنه قال هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ عن الشرك إلخ) إشارة إلى وجه التغاير بيم، المتعاطفين، نإنّ المراد بالمعطوف عليه من آمن من العرب الذين ليسوا بأهل كتاب وبالمعطوف من آمن بالنبيّ صلى الله عليه وسلم من أهل الكتاب، وإنما بينا هذا مع ظهوره، لأنه قيل: إنه(1/231)
لتخصيص الذين يؤمنون بمن آمن عن الثرك، لتكون الصفة مقيدة للمتقين، وهو تكلف لا حاجة إليه وبهذا علم أنه لا وجه لما قيل هنا من أنه لا معنى لإخراجهم من المتقين مع اتصافهم بالتقوى إلاً أن يحمل على المشارفين، فيتعين العطف عليه لتعذر الحمل على المشارقة في المعطوف، وكذا ما قيل إنه كان على المصنف رحمه الله أن يؤخر هذا عن الاحتمال الذي بعده لئلا يفصل بين الوجهين المتناسبين بأجنبي، فإنّ الاحتمال من عطف الذين على الذين بتوسيط العطف على المتقين بينهما لا ينبغي، وقد مرّ ما قاله الفاضل المحقق من أنّ العطف على المتقين إنما يصح على تقدير الوصل دون الانقطاع لما يلزمه من الفصل بالأجنبي بين المبتدأ، وهو الذين يؤمنون بالغيب وخبره أعني أولئك أو بين المعطوف والمعطوف عليه بأجنبيّ، وهو الذين يؤمنون بالغيب أيضا، وقد قيل إنّ هذا ليس بممتنع لأنّ المستأنف مرتبط بالمستأنف عنه، فليس بأجنبي من كل الوجوه وفيه نظر. قوله: (ويحتمل أن يراد إلخ) أشاروا بالتعبير بيحتمل هنا إلى أنّ هذا التفسير غير مأثور وأنه من بنات الأفكار، وأورد عليه قدس سرّه أنّ الإيمان بالكتب المنزلة مندرح في الإيمان بالغيب، وأجاب بأنه للاعتناء بشأنه كأنه العمدة، وأورده هنا بعض أرباب الحواشي، وهو غير ملاق لكلام المصنف رحمه الله لأنه بين عقبه أنّ المراد عنده بالإيمان بالغيب الإيمان بما يدرك بالعقل، كالإيمان بالله وصفات جلاله واليوم الآخر وأحواله، والإيمان بما أنزل إليه وأنزل من قبله الإيمان بما يدرك بالسمع كالكتب، وبما تضمنته فبينهما تغاير باعتبار المفهوم والصفات، لا أنه من قبيل عطف ملائكته وجبريل، وهذا إن لم يرد على الشريف لعدم تصريح الزمخشريّ بما ذكوه يرد على من أورده هنا من أرباب الحواشي والأعيان جمع عين بمعنى الذات أي ما صدقت عليه الأسماء الموصولة في النظم متحد بحسب الذات متغاير بحسب المفهوم والصفات كما سيأتي. قوله: (ووصط العاطف إفي) جواب عن سؤال مقدّر، وهو أنّ العطف يقتضي المغايرة واتحاد الأعيان ينافيه، وعدد الشواهد إشارة إلى أنه يجري في الأسماء والصفات باعتبار تغاير المفهومات ويكون بالواو والفاء، وثم باعتبار تعاقب الانتقال في الأحوال. وقوله:
(إلى الملك إلخ) بيت من قصيدة من المتقارب، والقرم بفتح فسكون أصله الفحل، ثم قيل للسيد والهمام العظيم، وإنما تصف العرب به الملوك لعظم هممهم أو لأنهم يفعلون ما يهمون به لما عرف من عزائمهم، والكتيبة بالتاء المثناة الفوقية الجيش، والمزدحم موضع الازدحام وهو التدافع لضيق المجلس بكثرة من فيه، ومنه استعير ازدحام الغرماء على المال والمراد به هنا المعركة. قوله: (يا لهف إلخ) هو من شعر لابن زيابة التيمي أجاب به عن شعر قاله الحارث بن همام بن مرّة بن ذهل بن شيبان وهو:
أيا ابن زيابة إن تلقني لاتلقني في النعم العازب
وتلقني يشتد بي أجرد مستقدم البركة كالراكب
(فاجابه بقوله) :
يا لهف زيابة للحارث الصابح فالغانم فالآيب
والله لولا لاقيته خالياً لآب سيفانا مع الغالب
أنا ابن زيابة إن تدعني آتك واللعن على الكاذب
والعازب البعيد في المرعى، والنعم الإبل أي تلقني حاضرا، وهذا تعريض له بأنه راعي
الإبل لا سيد في قومه والأجرد الفرس القصير الشعر، وهو ممدوح في الخيل والبركة، بكسر الموحدة وسكون الراء المهملة بمعنى الصدر هنا، وزيابة اسم أبي الشاعر وقيل اسم أمّه كما في شروح إلحماسة، وما قيل من أنّ قول الطيبي أنه اسم أبي الشاعر وهم هو الوهم أي يا حسرة أبي أو أمي من أجل ذلك الرجل، والصابح بالباء الموحدة المغير صباحاً ويكون بمعنى الآتي صباحاً كالمصبح يتأسف على أنه فعل ذلك وهو غائب، فيقول: ليتني أدركته أو أنه قدّر ذلك في نفسه، ويجوز أن يكون تهكما، وسيفاناً تثنية سيف مضافا للمتكلم مع الغير، وقوله مع الغالب التفات أي معي، أو هو من الكلام الصصمى بالأسلوب النصف أي يقتل أحدنا صاحبه، فيرجع(1/232)
كذلك كما قاله التبريزيّ، ولما كانت الغنيمة تعقب الغارة والإياب يعقبها عطف بالفاء، وإن كان موصوفها واحداً. قوله: (على معنى إلخ) متعلق بقوله وسط وعداه بعلى إلى ما وقع التوسط عليه من الوجه المخصوص به، كما يقال بنيت الدار على طبقتين، فيعدّى بعلى لأسلوبه الخاص كما حققه الفاضل الدواني في حواشي الشمسية في تعدّي الترتيب بعلى، وهو بيان لأنّ التغاير بحسب المفهوم والصفات، وأنّ الجمع المستفاد من العاطف واقع بين معاني الصفات المفهومة من المتعاطفين، وهي في المعطوف عليه التصديق بالغيب مع الإتيان
باماراته، وفي المعطوف التصديق بما أنزل إليه وإلى من قبله. وقوله: (جملة) أي مجملاً، وهو منصوب بنزع الخافض أو على الحالية، وخصه بهذا لأنه كما مرّ الإيمان بالله وصفاته والآخرة وأحوالها، وذلك لا يمكن الوقوف على كنهه وتفصيله. وقوله: (والإتيان إلخ) مجرور معطوف على الإيمان والضمير في يصدّقه راجع إليه، فأثبت التغاير بينهما بعد تغاير مفهوميهما بوجهين.
الأوّل: أنّ الإيمان بالأوّل إجمالي وبالثاني تفصيلي.
والثاني: أنّ الأوّل عقل والثاني نقل والمصدّق العبادات البدنية والمالية المفهومة من قوله: {يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ} إلخ فإن قلت: الإتيان بهذا المصدق فرع الإتيان بما لا طريق إليه غير السمع، لأنه يعلم بالوحي والكتب المنزلة، فعلى هذا ينبغي أن يقدّم الإيمان المنزلين على الإتيان بالصلاة والزكاة، قلت الإيمان بالغيب أهم وأعظم، ولخفائه احتياجه للمصدّق أقوى، ولذا جعله بعضهم داخلاً في الإيمان، وينبغي اتصاله به. وقوله: (غير السمع) قيل: إنه أتى فيه بالحصر، ولم يأت به فيما قبله لأنّ ما قبله يجوز أن يدرك بالسمع أيضاً بخلاف هذا، فإته لا يدرك ابتداء بغير السمع، وفيه أنه قد يدرك بالعقل فيعرف أنه كلام الله بالإعجاز المدرك بالعقل والذوق فتأمّل. قوله: (وكرّر الموصول إلخ) جوأب عما يقال كان يكفي فيما ذكر عطف الصلات بعضها على بعض وهو ظاهر، وأمّ إعادة الموصل فيما أنزل فغير محتاح للتوجيه، لما فيه من التغاير الحقيقيّ، فلا يرد عليه أنه يحتاج أيضاً إلى نكتة كما قيل: والمراد بالقبيلين قسما الإيمان المذكوران في النظم والسبيلين طريقا الإدراك من العقل والنقل، ووجه دلالة إعادة الموصول على ذلك ما فيه من الإشارة إلى استقلال كل من الوصفين وتنزيل تغاير الوصفين منزلة تغاير الذاتين، وفائدة العطف ما مرّ من معنى الجمع، وقال قدس سرّه: رجح هذا الاحتمال على الأوّل بأنّ الإيمان بالمنزلين مثترك بين المؤمنين قاطبة، فلا وجه لتخصيصه بمؤمني أهل الكتاب، ولا دلالة للأفراد بالذكر في الآية على أنّ الإيمان بكل منهما بطريق الاستقلال ألا ترى إلى قوله تعالى {قُولُواْ آمَنَّا بِاللهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ} [البقرة: 136] صلى الله عليه وسلم فقد أفرد فيه الكتب المنزلة من قبل، ولم يقتض الإيمان بها على الانفراد وبأنّ ما ذكر في تقديم بالآخرة، وبناء يوقنون على هم إنما يقع موقعه إذا عمّ المؤمنين، وإلاً أوهم نفيه عن الطائفة الأولى، فإنّ أهل الكتاب لم يكونوا مؤمنين بجميع ما أنزل من قبل، فإنّ اليهود لم يؤمنوا بالإنجيل، وما يقال: من أنّ اشتمال إيمانهم على كل وحي إنما هو بالنظر إلى جميعهم، فاليهود اشتمل إيمانهم على القرآن والتوراة والنصارى اشتمل إيمانهم على القرآن والإنجيل مردود بأنّ المفهوم المتبادر من استعمال ما نحن فيه ثبوت الحكم لكل واحد، وبأنّ الصفات السابقة ثابتة لمن آمن من أهل الكتاب، فتخصيصها بمن عداهم تحكم وجعل الكلام من قبيل عطف الخاص على العامّ لا يلائم المقام، وقد يرجح الاحتمال
الأوّل بأنّ الأصل في العطف التغاير بالذات، ويجاب بأنّ هناك تفصيلاً هو أنّ أداة العطف إن توسطت بين الذوات اقتضت تغايرها بالذات، وان توسطت بين الصفات اقتضت تغايرها بحسب المفهومات وكذا الحكم في التأكيد والبدل ونحوهما، وان وقعت فيما يحتملهما على سواء كان الحمل على التغاير بالذات أولى، فلا يحكم في مثل زيد عالم وعاقل فأن الحمل على تغاير الذات أظهر، وقد رجح في الآية الكريمة الحمل على عطف الصفة بأن وضع الذين على أن يكون صفة، فالظاهر عطفه على الموصول الأوّل على أنه صفة أخرى للمتقين بلا تقسيم مع أنّ ما تقدم من وجوه الترجيح شاهد له (أقول) المتبادر من السياق استقلال كل منهما لا سيما في مقام المدح، لأنهم يؤتون أجرهم مرتين كما مرّ(1/233)
من الإشارة إلى التصريح في الآيات والأحاديث وأمّا قوله تعالى {قُولُواْ آمَنَّا بِاللهِ} [البقرة: 136] الآية ففيها صارف عما ذكر معنى ولفظا.
أمّا الأوّل فلأنّ الخطاب للمسلمين فلا يقتضي الإيمان بكل منها على الانفراد. وقوله:
(قولوا) دالّ عليه، فإنه تكليف بقوله دفعة واحدة.
وأمّا الثاني فلأنه لم يعد فيه الإيمان، والمؤمن بل جعل ذلك إيمانا واحداً لعدم الاستقلال، فلا يرد نقضا كما لا يخفى، والإيهام المتوهم من قوله {وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} مدفوع بأنّ مدح الفريق الأوّل بالإيمان الكامل، ودخول الآخرة في الإيمان بالغيب دخولاً أوّليا صارف عنه بغير شبهة، وإنما هو تعريض بأهل الكتاب، وما كانوا مليه قبل الإيمان بما أنزل إلينا، فإذا كمل إيمانهم بهذا علم كمال إيمان غيرهم بالطريق الأولى، وأمّا أنّ اليهود لم يؤمنوا بالإنجيل، وكون دينهم منسوخاً حتى قيل: المراد باهل الكتاب هنا أهل الإنجيل فقط، فقد أجيب عنه فأن الإنجيل ليس بناسخ للتوراة بل مبين لها كما في الملل والنحل وغيره وسيأتي بيانه، أو الكلام على التوزيع، وليس خلاف المتبادر كما لا يخفى، وأمّا كون إقامة الصلاة، وما معه. مشتركا بين القبيلين، فمسلم لكنه لا يضرنا لأنه مذكور في الأوّل صريحا وفي الثاني التزاماً لاستلزام الإيمان بما أنزل له وأمّا جعل الصفة الثانية داخلة تحت الأولى صريحاً وفي الثاني التزاماً لاستلزام الإيمان بما أنزل له وأمّا جعل الصفة الثانية داخلة تحت الأولى ومنفردة بالذكر، فغير ظاهر إلاً أن يقال الإيمان بالله وان كان أصلاً لكن طريق سعادة الدارين مستفاد من الكتب، وجعل الإيمان بالآخرة مقصوداً أصلياً من ملة الإسلام ظاهر، فإن قلت كيف يكون تعويضاً بأهل الكتاب والمفهوم منه إنّ الإيقان بالآخرة حقيقة مختص بأهل القرآن دون أهل الكتب السماوية السالفة، فالمستفاد منها خلاف حقية الآخرة، وهو غير صحيح فانّ أهل الحق من أهل الإسلام، وأهل الكتاب يعتقدون حقيتها، وأهل الباطل منهم جميعاً، كالملاحدة والمحرّفين ليسوا كذلك، فلت قد أجاب عن هذا بعض المدققين بأنّ الكتب السالفة لم تتعرّض لتفصيل أحوال الآخرة، فلذا ظن أهلها ظنونا فارغة بخلاف القرآن الناطق بتفصيلها وبيانها،
أو
وفي شرح الطوالع: أنّ موسى عليه الصلاة والسلام لم يذكر المعاد الجسماني، ولم يذكر في التوراة، وإنما ذكر في كتب حزقيل وشعيا والمذكور في الإنجيل إنما هو المعاد الروحاني فتدبر. قوله: (أو طائفة منهم الخ) معطوف على قوله الأوّلون وضمير منهم لهم، والمراد بالطائفة مؤمنو أهل الكتاب والأوّل عامّ عطف عليه بعضه، وأفرد بالذكر لنكتة أشار إليها بقوله تعظيما لشأنهم إلخ وفي نسخة بدله إشادة بذكرهم، وهو بالدال المهملة معناه رفع الصوت بالنداء تجوّز به عن التعظيم ورفع القدر، والترغيب فيه ظاهر قيل وكونه كذكر جبريل وميكائيل عليهما السلام بعد الملائكة في مجرّد ذكر الخاص بعد العامّ لنكتة، وهي ترغيب أهل الكتاب في الدخول في الإسلام وفيه نظر، إذ الظاهر اشتراكهما في التعظيم والأفضلية باعتباو أنهم يعطون أجرهم مرّتين، وقد يكون في المفضول ما ليس في الفاضل، كما قيل في أفرضكم زيد فلا يرد عليه أنه لا تتمّ فيه النكتة المذكورة فيما استشهد به من التنبيه على أنهم لشرفهم كأنهم لم يدخلوا في العامّ لئلا يلزم تفضيلهم على الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم، والتشبيه في مجرّد التخصيص، ولذا مرّض هذا الوجه وأخر، وقال قدس سرّه: إنه غير مناسب للمقام إذ ليس في السياق ما يقتضي التخصيص، وفيه نظر يعلم مما مرّ، وقيل في قول المصنف ذكرهم إلخ ما يدفعه وفيه نظر. قوله: (والإنزال إلخ) كون هذا حقيقة النزول وأصل معناه مما لا شبهة فيه وليس هو في الإقامة أصلاً أيضاً كما توهم إلا أنه شاع فيه حتى صار حقيقة فيه في عرف اللغة، فإن كان هذا مراده لم يرد عليه شيء، وكونه صفة للذات بالذات، ولغيرها بالعرض مما لا غبار عليه أيضا فاستعماله فيما هنا ونحوه مجاز حكمي لجعل ما للمحل للحال أو لغويّ على أنه استعارة، أو جعل بمعنى أوصلها وأظهرها. قوله: (ولعل نزول الكتب إلخ الما ذكر أنّ نزول القرآن عبارة عن نزول الملك المبلغ له، كما يقال نزل أمر الأمير من القصر إذا نزل به بعض خدامه، وهذا ملخص من قول الإمام حيث قال: المراد من إنزال القرآن أنّ جبريل عليه السلام في السماء سمع كلام الله، فنزل به على الرسول صقى الله عليه وسلّم، كما يقال نزلت رسالة الأمير من القصر، والرسالة لا تنزل، ولكن كان المستمع في علو، فنزل وأدى في سفل، وقول(1/234)
الأمير لا يفارق ذاته، فإن قيل كيف يستمع جبريل عليه السلام كلام الله عر وجل، وكلامه ليس من الحروف والأصوات، قلنا يحتمل أن الله تعالى يخلق له سماعا لكلامه يقدره على عبارة يعبر بها عن ذلك الكلام القديم فيسمع له كلام بلا صوت، كما يرى بلا كم وكيف عند الأشعريّ رحمه الله، ويجوز أن يكون الله عز وجل خلق في اللوح المحفوظ كتابه بهذا النظم المخصوص، فقرأه جبريل عاجه السلام، فحفظه ويجوز أن يخلق أصواتا مقطعة بهذا
النظم المخصوص في جسم مخصوص، فيتلقفه جبريل عليه السلام ويخلق له علماً ضرورياً بأنه هو العبارة المؤدّية لذلك المعنى القديم اهـ. وإنما عبر عنه بقوله ولعل وعادة المصنفين أن يعبروا به فيما اخترعوه للإشارة إلى أنه ليس بمأثور، فلا ينبغي الجزم بأنه مراد الله تأدّباً منه، وهذا دأبه فاحفظه ولذا ذهب بعض السلف إلى أنه من المتشابه أي يجزم بالنزول من غير معرفة بكيفيتة، وهو الحق إذ مثل هدّا من التدقيقات الفلسفية لا ينبغي ذكره في التفسير، كقول بعض الحكماء: إنّ نفوس الأنبياء عليهم الصلاة والسلام زكية نقية فتقوى على الاتصال بالملأ الأعلى، فينتقش فيها من الصور ما ينتقل إلى القوّة المتخيلة، والحسن المشترك فيرى كالمشاهد وهو الوحي، وربما يعلو فيسمع كلاماً منظوما، ويشبه أنّ نزول الكتب من هذا والتلقف بالقاف والفاء الأخذ بسرعة ويلقنه من التلقين، وهو معروف وفي نسخة فيلقيه بالتحتيتين والروحاني بضم الراء، وقد تفتح منسوب إلى الروح على خلاف القياس والمراد بكونه روحانياً أنه يلقى في قلبه من غير صوت، وأوود عليه أنه غير صادق على ما نزل صحفاً وألواحاً ولا ضير فيه كما لا يخفى. قوله: (والمراد بما أنزل إلخ) معنى بأسره بجملته، والأسر ما يشدّ به الأسير وإذا أعطي الأسير بقيده فقط أعطي بكليته ثم أريد به ذلك مطلقاً. وقوله: (عن آخرها) بمعنى إلى آخرها وقد مرّ تحقيقه، والمراد بجملتة ما نزل، وما سينزل سواء كان وحياً متلوّاً أو لا لأنه المطابق لمقتضى الحال، فإنه يلزم المؤمن أن يؤمن بما نزل، وبأنّ كل ما سينزل حق وان لم يجب تفصيله وتعيينه، وهذا هو المناسب للهدى والفلاح فلا يقال إنه يصح حمله على ما أنزل قبل وقت الخلاب بلا تأويل لأنّ من آمن ببعضه مؤمن بكله لعدم القائل بالفارق، وما قيل: من أنّ الإيمان بما سينزل ليس بواجب إلاً أنّ حمله على الجميع أكمل، فلذا اقتصر عليه لا وجه له، وأمّا كون الوحي ما هو خفيّ، فالتغليب لازم على كل حال إلاً أن يلتزم أنه بواسطة ملك أيضاً، فبمعزل عما نحن فيه. قوله: (وإنما عبر عنه بلفظ المضئ إلخ الما تعين أنّ المنزل عليه المراد به جميعه لاقتضاء السياق، والسياق له من ترتيب الهدى والفلاح الكاملين عليه، ولوقوعه في مقابلة ما أنزل قبل ولدلالة يؤمنون على الاستمرار المقتضي له، وكان جميعه لم ينزل وقت نزول هذه الآية وجهوه بوجهين الأوّل أنه تغليب لما وجد نزوله على ما لم يوجد، وتحقيقه أنّ إنزال جميع القرآن معنى واحد يشتمل على ما حقه صيغة الماضي، وما حقه الاستقبال فعبر عنهما معاً بالماضي، ولم يعكس تغليبا للموجود على ما لم يوجد فهو من قبيل إطلاق اسم الجزء على الكل، والثاني تشبيه جميع المنزل بشيء نزل في تحقق النزول لأنّ بعضه نزل، وبعضه منتظر سينزل قطعاً، فيصير إنزال مجموعه مشبهاً بإنزال ذلك الشيء الذي نزل، فتستعار صيغة الماضي من إنزاله لإنزال المجموع، فاضمحل بهذا ما توهم من لزوم الجمع بين الحقيقة والمجاز في كل واحد من الوجهين، ولا يشتبه عليك أنّ المجاز المرسل،
والاستعارة المذكورين يتعلقان بصيغة أنزل وحدها بلا اعتبار لمادّته، هذا ما حققه قدّس سرّه وقد تبع في هذا الشارح المحقق حيث قال: يرد على كلا الوجهين.
أوّلا أنه جمع بين الحقيقة والمجاز، ولا يتصوّر معنى مجازي يعمهما ليكون من عموم المجاز، وأجاب بأنّ الجمع هو أن يراد باللفظ معناه الحقيقي والمجازي على أنّ كلا منهما مراد باللفظ، وهنا أريد المعنى الذي بعض أجزائه من إفراد الحقيقة دون البعض.
وثانياً إنّ وجوب اشتمال الإيمان على السالف والمترقب لا ينافي الإخبار عنهم في ذلك الوقت بأنهم(1/235)
يؤمنون بالفعل بالسالف إذ الإيمان بالمترقب إنما يكون عند تحققه، وإن أريد الإيمان بأنّ كل ما نزل، فهو حق فهذا حاصل الآن من غير حاجة إلى اعتبار تحقق نزوله، وأجاب بأنه لما وجب ذلك وجب في مقام الإخبار عنهم بأنهم يؤمنون بكل ما يجب الإيمان به أن يتعرّض لذلك سيما، ولفظ يؤمنون المضارع منبىء عن الاستمرار بلا اقتصار على المضيّ وهذا ظاهر إن أريد بالذين يؤمنون مطلق المؤمنين، فإن أريد مؤمنو أهل الكتاب فلا يخلو عن تكلف، وكأنّ وجه التكلف أنّ من آمن منهم الآن لا يعرف ما نزل، حتى يتحقق عنده ويجب عليه الإيمان به تعيينا، وقد خفي وجهه على الناظرين فوجهوه بما هو أشد تكلفاً منه، وكانوا فيه كمن فرّ من السحاب، فوقف تحت الميزان ققيل إنّ وجهه أنّ إيمان أهل الكتاب بالسالف قد تحقق من قبل، فلا يظهر فيه الاستمرار وعدم المضيّ وقيل وجهه أنّ بعض المؤمنين من أهل الكتاب لم يدرك جميع القرآن بل بعضه فلا يحسن أن يحكم بانهم مؤمنون على الاستمرار التجددي بحسب تجدّد المنزل عليه، وفيه أنّ مطلقهم يدركه كمطلق المؤمنين على الإطلاق، وإن اعتبر الاستغراق لم يصح ذلك في الفريقين وقيل: إنه لا تتمشى حينئذ المقدمة الخطابية، لأن تمدحهم بجمعهم بين الكتابين في الإيمان بكل واحد على الخصوص بخلاف سائر المؤمنين، فلا تروج هذه المقدّمة، ولا يخفى ضعفه لمن له أدنى تأمّل، وفي الكشف فإن قلت: فهلا قيل ينزل ليطابق يؤمنون. قلت: لمطابقة ما أنزل من قبلك وللتنبيه على أنّ المترقب كائن لا محالة ولأنّ إيمانهم يتعلق بشيء قد أنزل بعضه، وسينزل باقيه فلو قيل بما ينزل لم يشمل الماضي، وفسد المعنى، ولو ذكر الم يطابق البلاغة القرآنية واختصاراتها.
(أقول) هذا زبدة ما ذكره القوم، وفيه أنّ التغليب باب واحد وما دفع به الشبهة لا يتأتى
في مثل قولهم حكم العمران وضي الله عنهما بكذا، فإنّ المقصود الإسناد إلى كل منهما استقلالاً لا إلى المجموع من حيث هو حتى يكون كل منهما جزءا ملحوظا على وجه الإجمال، وأمّا الجواب عنه بأنّ التجوّز في مثله في الفرد وليس في إطلاقه استقلال، وإنما الاستقلال والتفصيل مستفاد من التثنية فلا يصح فإنه لو كان التجوّز في عمر فإن قيل إنه تجوز به عن الشيخين فلا يخفى بعده، وإن قيل تجوز به عن أبي بكر يكون كتثنية العينين للباصرة
والذهبية، ومثله ليس من باب التغليب وادّعاء أنه بمعنى صدر الخلفاء من غير اعتبار تفصيل فيه مع ركاكته أقرب من هذا على أنهم كما في التلويح وغيره، اشترطوا في إطلاق اسم الجزء على الكل أن يكون التركيب حقيقياً له اسم على حدة وأن يكون الكل يعدم بعدم ذلك الجزء حقيقة، أو ادعاء كالرأس للإنسان والعين للربيئة، وهذا ليس كذلك مع أنه لم يعهد تشبيه الجزء بالكل، لما يلزمه من تشبيه الشيء بنفسه وهو كما قيل:
وشاعر أوقد الطبع الذكي له ~ وشبه الماء بعد الجهد بالماء
واستعارة الهيئة دون المادّة الذي أشار إليه بقوله بلا اعتبار لمادّته في الاستعارة التبعية فيه
كلام في حواشي المطوّل، وفي كلام الكشف إشارة إلى أنه يجوز أن يجعل من المشاكلة لوقوع غير المتحقق في صحبة المتحقق وان ذكره بعضهم على أنه من بنات أفكاره إلاً أنه لا يصفو من الكدر، ولو قيل: إنّ المراد به الماضي حقيقة، ويدل على الإيمان بالمستقبل بدلالة النص كان أحسن من هذا كله. قوله: (ونظيره قوله إلخ) عدل عن قوله في الكشاف، ويدل عليه قوله {إِنَّا سَمِعْنَا} إلخ فجعله دليلاَ لما ذكر من وجهي التعبير بصيغة المضيّ، لأن إرادة مجموع الكتاب متبادرة عند الإطلاق خصوصا، وقد قيد بكونه منزلاً من بعد موسى صلى الله عليه وسلم لا بعضه، ولا القدر المشترك بينه وبين كله، وهو عبر عن إنزاله بلفظ المضيّ مع أنّ بعضه كان حينئذ مترقباً فوجب تأويله بأحد هذين التأويلين، وأما سمعنا ففيه تغليب للمسموع على غيره مما لم يسمع قي إيقاع السماع على أنّ الكتاب المراد به الكل مع أنه لم يسمع إلاً بعضه، وإنما عدل المصنف رحمه الله عما في الكشاف من جعل هذه الآية دليلاً إلى جعلها نظيراً لأنه لا فرق بينهما في احتياج كل منهما إلى التأويل بل هذه أحوج له، ولذا قال الفاضل في شرحه في قوله تعالى {إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزِلَ} [الأحقاف: 30] الآية إشكال قويّ، فإنّ السماع لم يتعلق إلاً بما تحقق إنزاله بالحقيقة، فكيف يكون سبيله سبيل ما ذكر في جعله غير المتحقق بمنزلة المتحقق غاية الأمر أنّ الكتاب اسم للمجموع فيجب أن يراد به البعض، أو يحمل على المفهوم الكلي الصادق على الكل والبعض، فوجب التأويل في هذه الآية أيضا، ولم يمثل للتغليب بأنا، وأنت فعلنا لما(1/236)
فيه من الإشكال أيضاً وسيأتي تفسير هذه الآية في محلها وبيان قوله {مِن بَعْدِ مُوسَى} مع أنه من بعد عيسى أيضاً صلى الله عليهما وسلم. قوله: (وبما أنزل من قبلك إلخ) معطوف على قوله {بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ} في قوله والمراد {بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ} إلخ ولم يذكر الشريعة هنا اكتفاء بما في ضمن الكتب، وللإشارة إلى أنها منسوخة. وقوله بهما بضمير التثنية، والمراد ما أنزل إليه وما أنزل من قبله، وجملة بمعنى إجمالاً وكونه فرض عين أي فرض على كل أحد بعينه ظاهر، والمراد بالأوّل ما أنزل إليك والعلم به تفصيلاً فرض كفاية
أي فرض على بعض غير معين، فإذا قام به سقط عن الباقي لأنه لوكان فرض عين شغلهم عن معاشهم مع ما فيه من الحرج والمشقة وعدم تيسره لكل أحد، وقال جلال الملة والدين في شرح العقائد العضدية: يجب على الكفاية تفصيل الدلائل الأصولية بحيث يتمكن معه من إزالة الشبه والزام المعاندين، وإرشاد المسترشدين وقد ذكر الفقهاء أنه لا بد أن يكون في كل حدّ من مسافة القصر شخص متصف بهذه الصفة، ويسمى المنصوب للذب، ويحرم على الإمام إخلاء مسافة القصر عن مثل هذا الشخمى كما يحرم إخلاء مسافة العدو عن العالم بظواهر الشريعة والأحكام التي يحتاج إليها العامّة، وإلى الله المشتكى من زمان انطمس فيه معالم العلم والفضل، وعمر فيه مرابط الجهل وتصدّى لرياسة أهل العلم والتمييز. بينهم من عرّي عن العلم والتمييز متوسلاً في ذلك بالحوم حول الظلمة سعياً لتحصيل مرامهم خذلهم الله ودمّرهم تدميرا وأوصلهم قريباً إلى جهنم وساءت مصيرا:
إلى الله أشكو أنّ في الصدر حاجة ~ تمرّ بها الأيام وهي كما هيا
وقيل: إنه لا بدّ من شخص كذلك في كل إقليم، وقيل يكفي وجوده في جميع البلاد المعمورة الإسلامية والمعاس بفتح الميم تكسب الناس الذي يعيشون به أي يبقون لأنه من العيش وهو الحياة وهو في الأصل مصدر ميمي كالمعيشة، وقد يكون اسم زمان ومكان. وقوله: (متعبدون) بفتح الباء وكسرها أي مكلفوق. قوله: (أي يوقنون لمقاناً إلخ) هذا بناء على ما رجحه من لحفسير الموصول الثاني بمؤمني أهل الكتاب خاصة، وما ذكره يفهم من قصر الإيمان بالآخرة عليهم مع أنّ جميع أهل الكتاب يؤمنون بالآخرة، فلو لم يخص بما ذكر بطل الحصر، ووصف الإيقان بقوله زال معه اإلمخ إشارة إلى ما سيأتي في معنى اليقين، واختلافهم بالرفع عطف على ما كانوا أو بالجرّ على أنّ الجنة، ومن قاًل بأنه ليس من جنس هذا ااضعيم منهم من قال: إنهم لا يتناكحون ولا ياكلون ولا يشربون، وإنما يتلذذون بالروائح الطيبة والأصوات الحسنة والسرور، فإن غيره لأجل النماء والبقاء، وهي في غنية عنه فألحصر على أنّ المراد به إيقاد خاص لا يوجد في سائرهم. قوله: (وفي تقديم الصلة إلخ) هذا معنى ما في الكشاف وهو قوله وفي تقديم الآخرة وبناء يوقنون على هم تعريض بأهل الكتاب وبما كانوا عليه من إثبات أمر الآخرة على خلاف حقيقته، وأنّ قولهم ليس بصادر عن إيقان وأنّ اليقين ما عليه من آمن بما أنزل إليك، وما أنزل من قبلك، فهنا تقديمان:
تقديم الصلة وهي الجارّ والمجرور، وهو يفيد تخصيص إيقانهم بالآخرة، فإن قلت: هذا التقديم يفيد أنهم يؤمنون بالآخرة لا بغيرها وهو غير صحيح هنا ولا يفيد التعريض المراد. قلت: المراد بغير الآخرة المتقيّ عنهم إيمانهم بالآخرة التي يزعمها أهل الكتاب، فالمعنى أنّ إيقانهم مقصور على حقيقة الآخرة لا يتعداها إلى ما هو خلاف حقيقتها ففيه تعريض بأنّ ما عليه مقابلوهم ليس من حقيقة الآخرة في شيء كأنه قيل يوقنون بالآخرة لا بخلافها كبقية أهل الكتاب.
الثاني تقديم المسند إليه الذي أخبر عنه بجملة يوقنون، وهو يفيد التخصيص، وأنّ الإيقان بالآخرة منحصر فيهم لا يتجاوزهم إلى أهل الكتاب وفيه تعريض بأنّ اعتقادهم في الآخرة جهل محض وتخيل فارغ، فإنّ الضمير المقدّم أو المزيد المنفيّ يأتي لإفادة الحصر وقد يأتي للتقوّي أيضاً كما حقق في المعاني ففي النظم قصران، وتعريضان لا قصر واحد كما قيل، وتفصيل ردّه في شروح الكشاف والمراد بالبناء جعله خبرا لا خبرا مؤخراً، كما قيل إلاً أن يراد بيان الواقع هنا، فإنّ البناء كما مرّ يكون مقابل الإعراب وصوغ الكلمة والبنية والاخبار، لأنّ المحمول كأئه مبنيّ على الموضوع، كما يشعر به(1/237)
تعبير المحمول والموضوع أيضا وما نقل هنا من أنه قال بناء يوقنون دون تقديم هم لأنّ التقديم يكون عن تاخير واعتباره ليس بلازم هنا نقض للبناء لأنه لو لم يقدر ذلك لم يفد الحصر المدّعي. وقوله: (بمن عداهم إلخ) توطئة لما عطف عليه، وهو المقصود على نهج أعجبني زيد وكرمه وفيه لف ونشر مرتب لأنّ قوله غير مطابق ناظر إلى تقديم الصلة وقوله ولا صادر ناظر إلى بناء يوقنون وجوّز بعضهم فيه أن يكون نشرا على خلاف الترتيب. قوله: (واليقين إتقان العلم إلخ) قيل عليه: إنّ المذكور في كتب الأصولط، والكلام أنّ اليقين متناول للضروري فإنهم عرّفوا اليقين بالاعتقاد الجازم الثابت بحيث لا يزول بتشكيك مشكك المطابق للواقع وهو يشمله، ويكفي في الإتقان عدم تطرق الشك والشبهة، ولذا لم يعتبر صاحب الكشاف غيره إلا أنّ المف مرين اختلفوا فيه فذهب الإمام الرازي والواحدي وجماعة وتبعهم المصنف رحمه الله إلى أنه ما يكون عن نظر واستدلال فلا يوصف به الضروري ولا علم الله تعالى، وذهب الإمام النسفي وبعض الأئمة إلى خلافه وقالوا: هو العلم الذي لا يحتمل النقيض مطلقاً.
وقال الإمام القشيري في كتاب مقامات الصوفية: اليقين علم لا يتداخل صاحبه ريب على
مطلق العرف، ولا يطلق في وصف الحق سبحانه وتعالى لعدم التوقيف اهـ.
(أقول) إذا كان فيه طريقان ومذهبان، فكيف يعترض على إحدى الطريقتين بالأخرى وعدم إطلاقه على الله على الأوّل ظاهر، وعلى الثاني لعدم التوقيف كما سمعته، وأمّا
الضروري فقد قال الإمام: لا يقال بيقين إنّ الكل أعظم من الجزء وذكره قدّس سرّه من غير نكر، والمراد بالضروري البديهي الأوّلي فإنه قد يفسر به كما في شرح المطالع وإن كان الضروري يعمّ جميع اليقينيات وهي الحدسيات والمتواترات والمحسوسات الظاهرية والباطنية، كالتجربيات والأوّليات، وهي قضايا مجرّد تصوّر طرفيها كاف في الجزم بنسبتها، والمراد بنفي الشك والشبهة بالاستدلال أن يكون قابلاً لذلك في حال من الأحوال، ولا يلزم كون ذلك بالفعل، أو دائما فيدخل بعض المشاهدات إذ قد يرد عليها الشك، فعين اليقين عين ما كان متيقنا فسقط ما مرّ من أنهم فسروا اليقين بالاعتقاد الجازم إلخ مما يشمل الضروري والمصنف رحمه الله غيم عبارة الكشاف، فوقع فيما وقع إلاً أن يقال له معنيان وقد أيد هذا بأنه صرّح به في الإحياء حيث قال: اليقين مشترك بين معنيين.
الأول عدم الشك، فيطلق على كل ما لا شك فيه سواء حصل بنظر أو حس أو غريزة
عقل أو بتواتر كوجود مكة أو دليل، وهذا لا يتفاوت قوّة وضعفاً.
الثاني وهو ما صرّح به الفقهاء والصوفية وكثير من العلماء، وهو ما لا ينظر فيه إلى التجويز والشك بل إلى غلبته على القلب حتى يقال فلان ضعيف اليقين بالموت، وقويّ اليقين بإثبات الرزق، فكل ما غلب على القلب، واستولى عليه فهو يقين وتفاوت هذا قوّة وضعفا ظاهر، ومما قيل عليه أيضاً إنه مناف لما ذكره في تفسير قوله تعالى {لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ} [التكاثر: 7] أي الرؤية التي هي نفس اليقين، فإنّ علم المشاهدة أعلى مراتب اليقين فجعل المشاهد المحسوس يقينا وهو من الضروريّ، فناقض نفسه وليس بوارد أما على القول الآخر فظاهر، وأما على ما اختاره هنا فيدفع أيضاً بأنّ الشيء قبل رؤيته يكون يقينا، فإذا شوهد وصاو ضرورياً انتقل إلى مرتبة من العلم أعلى من الأولى والمعلوم شيء واحد أحواله متعدّدة، كأحوال الآخرة في الدنيا والآخرة غايته أنّ في قوله أعلى مراتب اليقين تسمحاً على أنه بمعنى أعلى من جميع مراتب اليقين، كيوسف أحسن اخوته وظق الفرق بين اليقين والإيقان وهم.
قال الجوهريّ رحمه الله: اليقين والعلم وزوال الشك يقال منه يقنت الأمر بالكسر يقنا وأيقنت واستيقنت وتيقنت كلها بمعنى، وما ذكوه المصنف رحمه الله مطابق له ولما في الكشاف فتدبر. قوله: (والآخرة تأنيث الآخر) أي الآخرة تأنيث آخر اسم فاعل من أخر الثلاثي بمعنى تأخر وإن لم يستعمل ويسمع من العرب كما أنّ الآخر بفتح الخاء اسم تفضيل منه، والآخرة صفة في الأصل كالدنيا، فإنها فعلى صفة أيضاً من الدنوّ وهو القرب فغلبت على ما يقابل الآخرة قال الزمخشريّ: الغلبة تكون في الأسماء كالبيت على الكعبة والكتاب وفي الصفات كالرحمن، وفي المعاني كالخوض بمعنى مطلق الشروع غلب على الشروع في الباطل
خاصة، وقد قرق بين ما غلب من الصفات على موصوف معين(1/238)
لكثرة جريه عليه وبذلك خرح عن الوصفية في الجملة كأسماء المكان والزمان لأنّ أصل الصفة أدط توضع لمعنى قام بذات غير معينة وبين ما جرى مجرى الأسماء، كالأجرع والأبطح بحذف الموصوف وعدم جريه عليه حتى يتيادر منه الذات، فضاهى الأسماء الجامدة، ومنها ما اشتدت غلبته حتى الحق بالأعلام، وما لم يصر علماً قد يلمح أصله، فيوصف به وقد يترك كما يقال: الدار الآخرة والحياة الدنيا، إلاً أنه قليل كذا قرّره قدّس سره تيعاً لغيره فيه، وقال الرضى: الغلبة تخصيص اللفظ ببعض ما وضح له فلا يخرح بها عن مطلق الوصف بل عن الوصف العامّ، فلا يطلق على كل ما وضع له، ولا يتبع الموصوف، فلا يقال فيد أدهم وفي حواشيه للشريف السرّ فيه أنّ خصوصية الموصوف صارت بالغلبة داخلة في مفهوم الوصف مع ملاحظة اتصافه بمفهوم المشتق منه، فلا يصح إجراؤه على غيره ولا على عيته أيضاً إذ- يصير معنى أدهم قيد فيه دهمة، وهذا منه يقمفمي امتناع إجرائمه على الموصوف، وما مرّ عنه يقتضي جوازه فبين كلامية تعارض ولذا اعترض به عليه، وأجيب بأن ما هنا هو الواقع في نفس الأمر وأما ثمة فلعدم الاعتداد بالناثر وتنزيله منزلة العدم فلا تعارض، وهو تلفيق بارد والحق أنه لا تعارض رأساً فإنّ المذكور هنا غلبة الوصفية وثمة غلبة الاسمية والفرق بينهما ظاهر، والأدهم من القبيل الثاني لأنه يسيحمله من لا يخطر بباله معنى الدهمة أصلاً فلا يجري إلاً على خلاف الأصل بضرب من التأويل كرجل أسد. قوله: (فغلبت كالدنيا) غلبت بفتح اللام وتخفيفها، والدنيا حقيقتها ما على الأرض من الهواء والجوّ، وقيل كل المخلوقات من الجواهر والأعراض مما قبل قيام الساعة، وهو الراجح وتطلق على أجزائها مجازا، وهي صفة من الدنوّ أي القرب لسبقها الأخرى أو لقربها من الزوال " وكونها صفة للدار ليس بلازم فقد وصف بها النشأة أيضا كقوله تعالى {يُنشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ} [العنكبوت: 20] وقد تضاف الدار لها، كقوله تعالى {وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ} [يوسف: 109] أي دار الحياة الآخرة، وقد تقابل الآخرة بالأولى كقوله {لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ} [القصص: 70] . قوله: (وعن نافع إلخ) التخفيف هنا نقل حركة الهمزة إلى الساكن قبلها، واسقاطها وهو نوع من أنواع تضيفد الفمزة المفردة، وهو لغة لبعض العرب اختص بروايته ورش بشروطه كما في كتب القراءات، ونقله السفاقسي هنا، فنقل المصنف له عن نافع فيه مخالفة، إلاً أن يقال أنه ظفر بروايته عنه، ثم أنّ الواو إذا ضمت ضمة غير عارضة، كما فصل في العربية يجوز باطراد إبدالها همزة كما قيل في وجوه جمع أجوه وأما إبدال الواو هنا همزة فلمجاورتها للمضموم أعطيت حكمه وهو من أحكام الجوار كما قيل:
قد يؤخذ الجار بظلم الجار
على ما فصله ابن جني في كتاب الخصائص، واستشهد له بما ذكر من البيت، ومحل الشاهد فيه المؤقدان ومؤسسي، فإنهما رويا بالهمزة كما صرّح به ابن جني، والبيت من قصيدة طويلة من الوافر لجرير مدح بها هشام بن عبد الملك أوّلها:
عفا النسران بعدك فالوحيد ~ ولا يبقى لجدّته جديد
(ومنها) :
نظرنا نار جعدة هل نراها ~ علاها بعد ضوء أم همود
لحمب المؤقدان إليّ مؤسى ~ وجعدة إذا أضاءهما الوقود
(ومنها) :
تعرّضت الهموم لنا فقالت ~ جعادة أيّ مرتحل تريد
فقلت لها الخليفة غير شك هو المهديّ والحكم الرشيد
(ومنها) :
هشام الملك والحكم المصفى ~ يطيب إذا نزلت به الصعيد
يعم على البرية منك فضل ~ وتطرف من مخافتك الأسود
وإن أهل الضلالة خالفوكم ~ أصابهم كما لقيت ثمود
وأمّا من أطاعكم فيرضى ~ وذو الأضغان يخضع مستفيد
والقول بأنّ الشعر لأبي. حية النميري غلط نشأ من إنّ هذه القراءة معزوّة له، وموسى وجعدة ابناه، والشاهد فيه في موضعين كما مرّ واللام في قوله لدبئ لام القسم وحب فعل ماض أصله حبب بزنة كرم فادغم، ويجوز فيه نقل ضمة العين إلى الفاء، فتكون الحاء مضمومة، ويجوز إبقاؤها على الأصل من الفتح، وقد روي(1/239)
بالوجهين هذا البيت وغيره كما في كتب العربية، وهو من أفعال المدح بمعنى ما أحبه وهو جامد في حكم نعم، ولذا لم يؤت بقد بعد لام القسم والنار نار القري أو السفر قيل: والأولى أولى لأنها التي يمدح بها وكنى بإضاءة الوقود عن الاشتهار والوقود بضم الواو مصدر وبالفتح ما يوقد، وقد رويا هنا، ومؤسي وجعدة عطفا بيان، أو، بدل من المؤدين المثنى الواقع فاعلاَ لحب كذا قالوا، والظاهر أن مؤسي هنا هو المخصوص بالمدح وإعرابه معروف، وإذ أضاءهما بدل من مؤسي وجعدة أيضا كقوله تعالى {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ} [مريم: 16] . قوله: (الجملة في محل الرفع إلخ) أولئك مبتدأ خبره الجار والمجرور، وهذه الجملة إمّا مستأنفة وإمّا خبر عن الذين الأوّل أو الثاني، وجؤز أن يكون أولئك وحده خبرا وعلى هدى حال وأن يكون أولئك بدلاً من الذين والظرف خبر وأولئك اسم إشارة يمدّ ويقصر، ويزاد في رسمه الواو وللفرق بينه وبين إليك الجار والمجرور، وكلام المصنف رحمه الله ظاهر غنيّ عن الشرح، وقيده بالفصل لأنه
على الوصل ليس بمبتدأ كما مرّ. وفوله: (خبر له) خبر بعد خبر عن لفظ الجملة، وعدل عن قول الزمخشريّ {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} إلخ إلى قوله أحد الموصولين إشارة إلى منا فيه من الإهمال، وإن اعتذر له بأنه اقتصر على الأقوى، وأشار إلى الوجه الآخر فيما بعده لأنه أخصر وأفيد، ولا وجه لما قيل من أنّ قول المصئف وكأنه إلخ إنما ينتظم على غير مسلكه كما لا يخفى وهذا أيضاً وإن كان علم بما مرّ الآ أنه ذكر توطئة لما بعده من تحقيق الاستئناف وأحد الموصولين وإن شمل الأوّل بدون الثاني كعكسه، لكنه لما كان فصل الأوّل يستلزم فصل الثاني بحسب الظاهر، إذ لا يقطع المعطوف عليه دون المعطوف تركه لظهوره لأنّ القرينة العقلية قائمة على المراد مع ما فيه من الإشارة إلى أنّ الفصل أولاً، وبالذات إنما يعلق بأحد الموصولين، والثاني منفصل بتبعيته وفي التعبير بالموصول لطف كما مرّ. قوله: (وكأنه لما قيل) عبر بكأنّ إشارة إلى أنه أمر فرض غير محقق أي لما خصهم بالهدى فقط، أو بالهدى والإيمان بالغيب، كما تدلّ عليه اللام الجارة نشأ منه سؤال هو ما بالهم إلخ. فأجيب بقوله الذين إلخ أي جيء بما له استحقوا أن يلطف بهم ويخصوا بالتكريم العاجل والآجل لأنهم استحقوا ذلك لعقائدهم وأعمالهم، فالسبب تلك الأوصاف، ولا يخفى عليك أنّ قول المصنف خصوا بذلك مبهم، فالمراد به هداية أهل التقوى أو هداية المتقين المؤمنين بالغيب، وكذا قوله {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ} إلخ محتمل للموصولين، وللثاني فقط لعدم ذكره لصلة يؤمنون، فأجمله ليشمل ما أشار إليه من الوجهين، وإن اقتصر على الموصوف في قوله كأنه لما قيل هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ لأنه العمدة في منشأ السؤال خصوصاً إذا كان الوصف مؤكدا، فلا يرد عليه ما توهم أنّ مدعاه شامل لوجهين وما ذكره قاصر على جعل الذين يؤمنون بالغيب فقط مبتدأ فيحتاج إلى أن يعتذر له بما قيل من أنّ في جعل الذين الثاني مبتدأ تكلفاً لا يرتضيه المحققون، ولذلك أخره الزمخشبريّ وأشار في تقريره إلى أنه مجرّد احتمال والمصنف أدخله في صدر كلامه للإيجاز إشارة إلى جوازه، وتركه في التفصيل والبيان إيماء إلى أنه غير مقبول عنده لأنّ الموصول الثاني إن اتحد بالأوّل حينثذ بحسب الذات فحقه أن يجري على ما جرى عليه الأوّل، فإن قطع وجعل مبتدأ، فإن لم يجعل الاختصاص الحاصل من تعلق الحكم بالوصف الذي يتضمنه المبتدأ تعريضاً بما ذكره، فقد قطع عن حقه وضيعت فائدة الاسنئناف أيضاً بلا داع مع تكراره، وإن جعل تعريضاً به كان فائدة مطلوبة يرتكب لها خلاف الظاهر، والوجه فيه أنه لما عبر عن المؤمنين بأنهم جامعون في الإيمان بين المنزلتين قابلهم بهذا الاعتبار من انفرد بأحدهما، وهم كفار أهل الكتاب، فعرّض بأنّ ظنهم أنهم على الهدى ظن كاذب، وطمعهم في نيل الفلاح تخيل فارغ، ومعنى الكلام إنّ الكتاب هدى للذين آمنوا به، والذين لم يؤمنوا به ليسوا على هدى وإن ظنوه ولا فلاح وإن طمعوا فيه، فالجملنان بحسب المعنى، وإن تقابلنا في إثبات الإيمان وسلبه وتوافقتا في الظرف ليسا على حذ يحسن العطف بينهما، فإنّ الأولى في وصف
الكتاب بكمال الهداية للمؤمنين، والثانية لسلب الاهتداء عن طائفة أخرى لم يؤمنوا به، وقيل المعنى على التعريض أنّ الكتاب(1/240)
هدى للمتقين وليس هدى لمن عداهم، فالجملتان متناسبتان غاية التناسب، وفيه أنّ سلب كونه ليس هدى لغيرهم ليس صفة كمال له، فلا يناسب ما مرّ من أوصافه الفاضلة التي يشدّ بعضها بعضاً بخلاف سلب الاهتداء عمن لم يؤمن به لما فيه من الإشارة إلى كماله، وإن اختلف الموصولان بالذات كان الأولى بالثاني أن يعطف على الأوّل تقسيماً للمتقين، فإن جعل مبتدأ بلا تعريض فقد ترك الأولى بلا سبب، وفات أيضاً نكتة السؤال المقدّر وكان التخصيص المستفاد من المعطوف منافياً في الظاهر لما استفيد من المعطوف عليه، وإن قصد التعريض كان أظهر، ولم يكن التخصيص قي المعطوف مقصودا بل وسيلة إلى التعريض، ويتعين أن يكون بالقياس إلى المعرّض بهم والحال في العطف، كما سلف وجعل الواو اعتراضية خلاف الظاهر، وهذا زبدة ما حققه شراح الكشاف وارتضوه.
(وفيه بحث الما سيأتي مما يأباه ولأنه إذا عطف على أوّل الكلام من قوله ألم إلخ على
أنه من الأوّل إلى هنا في وصف الكتاب، وكماله والمعطوف عليه في صفة من آمن به، وبما فيه من حيازة خير الدارين كما إذا قلت هذا كتاب السلطان والذي يمتثل في الخير والأمان، فإنّ المناسبة بين الرسالة والمرسل إليه إن لم تكن تامّة، فليست بخفية وإنما جاء هذا من جعله معطوفاً على صفات الكتاب وما بعده بأن يعطف على جملة {هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} كما صرّحوا به، وأمّ قول العلامة في هذا الوجه: إنه يجعل اختصاصهم بالهدى والفلاح تعريضا باهل الكتاب الذين لم يؤمنوا بنبوّته عليه الصلاة والسلام، وهم ظانون أنهم على الهدى طامعون في نيل الفلاح فقد يقال إنه لدفع التكرار بين هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ وعلى هدى لا تأويل له بجعله من صفات الكتاب، ولو سلم فليس ما-له أنه ليس هاديا لهم حتى يلزم أنها ليست بصفة كمال بل إنّ معناه لا ينالون هدى وفلاحاً بدونه وإن قرءوا الكتب السالفة، ومحصله أنه لا نافع سواه، وكونها صفة كمال أظهر من أن يخفى وأمّا جعله من عطف القصة من غير ملاحظة خصوصية، فيأباه أنّ الأنسب حينئذ عطف إنّ الذين كفروا عليه كما في {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} [ألانفطار: 13-14] كما في الكشف. قوله: (ما بالهاً خصوا بذلك إلخ) البال يكون بمعنى القلب والخاطر والشأن والحال، والمراد الأخير وما استفهامية خبر أو مبتدأ، وبالهم خبر أو مبتدأ أي ما الحال والثأن الذي خصصهم فجملة خصوا مفسرة أو عطف بيالط، أو بدل من البال أو حال وذكر الفاضل في سورة آل عمران أنها حال لا غير وأنها لا يجوز اقترانها بالواو لأنه لم يسمع كما في قوله:
ما بال عينك منها الكحل ينسكب
واعترض على الزمخشريّ في قوله ما باله وهو امن، ويرده قول جرير:
ما بال جهلك بعد الحلم والدين ~ وقد علاك مشيب حين لاحين
وسيأتي منا تحقيقه إن شاء الله إذا اقتضاه الحال، وخصوا مبني للمجهول وأبهم قوله
بذلك لما مرّ.
وقال قدس سرّه أي ما بالهم مختصين بذلك، وهل هم أحقاء به فمآل السؤال إلى أنهم
هل يستحقون ما أثبت لهم من الاختصاص، والجواب مشتمل على هذا الحكم المطلوب مع تلخيص موجبه، وقد ضمّ فبه إلى الهدى نتيجته تقوية للمحبالغة التي تضمنها تنكيره كأنه قيل: هم مستحقون للاختصاص والسبب فيه تلك الأوصاف التي رتب عليها الحكم، فاستغنى عن تأكيد النسبة ببيان علتها، وقد يقال المقصود من السؤال هو السبب فقط أي ما سبب اختصاصهم، واستحقاقهم إلاً أنه بين في الجواب مرتباً عليه مسببه، فإنّ ذلك أوصل إلى معرفة السبب، فلا حاجة أصلاً إلى تأكيد الجملة، وربما قيل قصد به مجموع الأمرين أي هل هم أحقاء بذلك وما السبب فيه حتى يكونوا كذلك، وقال في شرح المفتاح: فإن قلت إذا قدر السؤال هكذا ما للمتقين اختصوا أو ما بالهم اختصوا كان معناه أيّ أسباب تأخذت في شأنهم حتى استحقوا تلك الهداية، واختصوا بها فكان سؤالاً عن السبب، فلا يطابقه الجواب إذ لا دلالة له على السبب قلت: الكلام السابق مشتمل على تفصيل السبب إلا أنّ السامع لم يتنبه له، فنبه عليه إجمالاً باسم الإشارة الدالة على ذوات المتقين باعتبار تميزهم بتلك الصفات حتى صاروا كالمحسوس، واليه أشار بقوله وأجيب إلخ وأورد عليه أنّ بين كلاميه تعارضاً، فإنه جعل هذه العبارة في شرح المفتاح سؤالاً عن(1/241)
سبب الاستحقاق، وهنا جعلها سؤالاً عن وجود الاستحقاق وجعل الجواب لاشتماله على علة الاستحقاق مستغنياً عن التأكيد وهو، وإن كان معقول المعنى غير معروف بين أهل المعاني أنّ الجواب جملة اسمية، وهي من جملة المؤكدات عندهم.
(أقول) ما في شرح المفتاح هو الحق الحقيق بالقبول لأنّ منطوق السؤال الذي قدّروه صريح فيه بل لا يحتمل غيره بوجه من الوجوه، وقد يقال: إنه ذكر الوجوه المحتملة التي تضمنها كلامهم واقتصر في شرح المفتاح على ما هو الحق عنده فتدبر. قوله: (فأجيب إلخ (أورد عليه أنه إذا فصل الموصول الثاني تكون الجملة معطوفة على ما سبق لا جواباً لسؤال والاً يجب الفصل، وردّ بأنه لا يرد عليه لأنّ قوله أجيب إلخ ينادي بأنّ مراده بيان حاصل المعنى على تقدير مفصولية الموصول الأوّل وحاصل الجواب لأنّ تمكنهم من الهدى، واستقرارهم عليه بتوفيق من ربهم متميزين عما سواهم خصهم بهداية الكتاب على الوجه الأتم وقد عرفت أنّ عبارته شاملة للوجهين إلاً أنّ ما ذكره بناء على ما وقع في نسخته كما حكاه، وهو وأجيب بقوله {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} والذي عندنا الذين يؤمنون فقط بدون ذكر بالغيب فالإيراد
باق مجاله، وإن كانت الواو غون استئنافا، فيصدر بها الكلام المستأنف، كما ذكره في المغني ومثل له بقوله تعالى {لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاء} [الحج: 5] ونحو لا تكل السمك وتشرب اللبن فيمن رفع إلاً أنّ المراد به الاستئناف النحوي لا البياني كما لا يخفى، ومن هنا ظهر حسن صنيع الزمخشريّ إذ ضعف هذا الوجه وأخره، والمصنف رحمه الله لما خلطه وقع فيما وقع فيه. قوله: (وإلا فاستئناف الخ) أي إن لم يجعل أحد الموصولين مفصولاً فوصلا بما قبلهما فالجملة حينئذ مستأنفة إمّا استئنافاً نحويا لا يقدّر فيه سؤال أصلاً أو بيانياً وفيه نظر، ولما كان ما قبله مستلزما له فهو مستفاد مته، وفي ضمنه حتى كأنّ نتيجة له كان بينهما كمال الاتصال المقتضي لترك العطف، والمراد بالأحكايم ما وصف به الكتاب وبالصفات صفات المؤمنين الدال عليها بالموصولين، فلا يرد عليه إن كونه نتيجة ليس من جهات الفصل بل هي مقتضية للرّبط بالفاء، وهذا غفلة عن قوله كانه بالتذكير أي الكلام، وفي نسخة كأنها أي الجملة. قوله: (أو جواب سائل قال إلخ) هو معطوفءلمى قوله نتيجة أي ما سبب اختصاص الموصوفين بهذه الصفات بهدى الكتاب الكامل، فاجيب بأنه تمام روخهم على كمال الهدى منه تعالى والهدى منه توفيق وإعانة بلا مرية والظاهر أن يقال في تقريره: إنّ سبب اختصاصهم بالانتفاع بهداية الكتاب أنه تعالى قدّر في الأزل سعادتهم وهدايتهم، فجبلتهم مطبوعة على الهداية، والسعيد سعيد في بطن أمّه لا سيما إذا انضم إليه الفلاح الأخروي الذي هو أعظم المطالب فيندفع س قيل عليه في شرح الكشاف من أنّ هذا مجرّد احتمال لظهور أن ليس لهذا السؤال أعني ما للمستقلين بهذه الصفات قد اختصوا بالهدى زيادة توجه، ولا للجواب بأنّ اختصاصهم بالفوز بالهدى غير مستبعد كبير فائدة وزيادة بيان، بل هو إعادة للدّعوى بعينها، وكذا ما قيل من أنه لا وجه للسؤال لأنّ الأوصاف التي أجريت عليهم مقتضية، لذلك الاختصاص اقتضاء ظاهرا لكن السائل كأنه قد غفل عن اقتضائها فسال، فلذا أجيب بإعادة المدعى بعيته تنبيها على أنّ التامّل فيه يرفع مؤنة السؤال إلاً أنه غير وجه النسبة بين الهدى والمتقين، وزيد التصريح بالنتيجة دفعاً لبشاعة التكرار وهذا زبدة ما قاله الفضلاء تبعاً للمدقق في الكشف، وعلى ما ذكوناه لا يرد ما قالوه نعم هو لخفائه لا ينافي مرجوحيته وسياتيك عن قريب إن شاء الله تعالى ما يثلج صدوك ويقرّ عينك، وقيل أيضاً إنّ المعنى الشرعي للتقوى مشتمل على الجواب ومغن عن السؤال فتدبر. قوله: (ونظيره أحسنت إلى زيد الخ) هذا خلاصة ما في الكشاف حيث قال: واعلم أنّ هذا النوع من الاستئناف يجيء تارة بإعادة اسم من استؤنف عنه الحديث كقولك: قد أحسنت إلى زيد زيد حقيق بالإحسان، وتارة بإعادة صفته كقولك أحسنت إلى زيد صديقك القديم أهل لذلك منك، فيكون الاستئناف بإعادة الصفة أحسن وأبلغ لانطوائها على بيان الموجب وتلخيصه، وتبعه السكاكي وغيره من أهل
المعاني قال المحقق: يعني النوع المشتمل على إعادة ما عنه الحديث جواباً عن سؤال سبب
الحكم، بخلاف النوع الذي لا يكون كذلك(1/242)
كقوله:
قال لي كيف أنت قلت عليل سهر دائم وحزن طويل
فإن قلت: الإعادة باسم الإشارة من أيّ قبيل أمن هذا النوع قلت: الظاهر إنه من قبيل
الإعادة بالصفة لأنه إشارة إلى الموصوف بالصفات لا إلى نفس الذات، فالاستئناف ههنا سواء وقع على الذين أو على أولئك وارد على الوجه الأحسن، لكن الثاني لا يزيد على إعادة الدعوى، وودّه المدقق وقال: أراد أنه جواب عن سؤال اسنحقاقه لما نسب إليه، فإذا قيل أحسنت إلى زيد اتجه أن يقال: هل هو حقيق بذلك فإن أجيب بذكر اسمه فقد ترك تأكيد الجملة على خلاف مقتض الظاهر، وإن أجيب بذكر صفته أفاد الحكم المطلوب مع بيان سببه القائم مقام تكيده، وليس ما مرّ بشيء لأنه إذا فيل ما سبب الإحسان إليه، واستحقافه إياه كان ذلك طلباً لتصوير سبب مخصوص بعد العلم بأن هناك سبباً في الجملة، فلا يصح في جوابه زيد حقيق بالإحسان إذ لا يفهم منه سبب مخصوص أصلاً، وقد يتوهم أنه على الثاني من إعادة الاسم ولذلك كان مرجوحاً ويدفعه قوله فأجيب إلخ، وقوله وفي اسم الإشارة إلخ، وقال في حواشي المطوّل: إنه كلام مختل فإن الحكما المثبت لزيد في المثال المذكور هو إحسان المخاطب إليه، وليس يقدّر هنا سؤال من المخاطب عن سبب إحسانه كيف وهو أعلم من غيره
باسباب أفعاله الاختيارية نعم يتصوّر ذلك إذا نسي، أو أراد أن يمتحن غيره هل يعرف ذلك، لكنه عما نحن فيه بمراحل، فالصواب تقدير هل هو حقيق بالإحسان.
(أقول) هذا تتحير فيه البصيرة التقادة، فإنّ ما ذكره قدس سرّه من الإيراد وارد عليه بعينه،
لأنّ ما ارتضى تقديره إن كان من المخاطب بأحسنت أعني المحسن ورد عليه ما أورده وردّت
بضاعته إليه، فيحتاج إلى ادّعاء النسيان أو قصد الامتحان، وإن كان من سامع غيرهما صح
أيضأ قصذه فيما ذكره الفاضل، وهو لماذا أحسن إليه على أن يكون أحسن ماضياً مجهولاً لا
مضارعا معلوماً، وقد جوّز. هو فيه فادّعاء أنه غير صحيح غير صحيح كما لا يخفى، وقول
بعض الفضلاء ربما يتكفف في دفع ما أورده الشريف، ويقال يجوز أن يكون السائل هو السامع
لا المخاطب، فيكون الاستئناف جوابا لسؤاله حينئذ لا وجه له، وأمّ اذعاء أنه تكلف فكأنه نشأ
من الخطاب في قوله صديقك إذ هذا يقتضي ترك الخطاب، وأن يقال صديقه ونحوه، ويوجه
بأنّ السؤال لعدم التصريح به لم ينظر إليه وطبق آخر. على أوّله، وقد أورد مثله بعض
المتأخرين على الالتفات في سورة الفاتحة ومرّ ما فيه، ثم إنّ ما أورده قدّس سرّه هنا مندفع
أيضماً بأنّ السؤال عن سبب الإحسان لا الاستحقاق والإحسان، فلا شك في أنّ كونه حقيقاً به
سبب معين من أسبابه غاية الأمر أنّ هذا السبب له سبب، ولا ضرر فيه على أنّ لك أن تقول إنّ
قوله أحسنت إلى زيد لم يقصد به فائدة الخبر لأنه من لغو القول بل لازمها وهو علمه بذلك،
فالسؤال المقدّر من المخاطب سؤال عن علمه، ومعرفتة أيضاً من غير نسيان ولا امتحان كما لا يخفى على الفطرة السليمة، أو يقال إنّ هذا السؤال يلوح به عرض الكلام من غير نظر لسائل معين، والنظر لمثله تكلف يجرّ تكلفات أخرى ألا ترى أنّ ما في هذه الآية الكريمة لا يصح أن يقدّر السؤال فيها من رب الكلام، وهو الله مسبب الأسباب العالم بسائر الخفيات ولا من الملقى إ ايه الكلام أوّلاً، وهو النيّ عليه الصلاة والسلام، والمؤمنون لعلمهم بأنه لا يسأل عما يفعله مع ظهور ذلك عندهم، ومن عداهم لا يسلم الهداية من أصلها فلا يسئل عن سببها، ولذا لم يعرج عليه المفسرون فتدبر ترشد. قوله: (فإنّ اسم الإشارة ههنا الخ) في الكشاف وفي اسم الإشارة الذي هو أولئك إيذان بأن ما يرد عقيبه فالمذكورون قبله أهل لاكتسابه من أجل الخصال التي عدّدت لها كما قال حاتم:
ولله صعلوك مناه وهمه
ثم عدد له خصالاً فاضلة، ثم عقب تعديدها بقوله:
فذلك إن يهلك فحسنى ثناؤه وإن عامى لم يقعد ضعيفاً مذمماً
قال قدّس سرّه تبعاً للشارح المحقق: قد توهم أنّ الإيذان المذكور مختص بما إذا وقع الاستئناف على أولئك، والصواب أنه جار على الأوجه الثلاثة، وذلك أنّ أسماء الإشارة حقها أن يشار يها إلى محسوس مشاهد، أو إلى ما ينزل منزلته في تميزه وظهوره، ولما كانت الصفات المجراة على المتقين مميزة لهم جاعلة إياهم(1/243)
كانهم حاضرون مشاهدون وضع أولئك موضمع الضمير إشارة إليهم من حيث أنهم موصوفون بها، كأنه قيل: أولئك المتميزون بتلك الصفات، فيكون الكلام من ترتب الحكم على الأوصاف المنامبة، ومفيدا للعلية بخلاف الضمير، فإنه راجع إلى الذات وليس فيه ملاحظة أوصافها، فإن قلت قد تقدّم منك في قوله ليكون الخطاب أدل على أنّ العبادة له لذلك التميز ما يدل على أن في الضمير إيذاناً في الجملة، وسياق الكلام هنا ينافيه قلت: إذا حمل التنوين في إيذاناً على التعظيم زالت المنافاة اهـ. وفي شرحه للمفتاح أنّ من اللطائف الداعية لأن يورد اسم الإشارة التنبيه على أنّ المشار إليه إنما استحق ما ذكر بعده لأجل الصفات السابقة إلاً أنه من إخراج الكلام لا على مقتضى الظاهر، وقد قيل عليه أنه من لطائف كون المسند إليه اسم الإشارة لا من اللطائف الداعية إليه لأنّ الإيذان المذكور يحصل بالموصول أيضاً، ولذا لم يعدّه السكاكي من الدواعي وذكر في المثال المذكور داعياً آخر يعني كمال العناية بتمييزه وتعيينه لما اف ف به من المحامد هذا زبدة ما ذكروه.
وفيه بحث كا وجوه
(الأول) إنّ ما ادّعوه من أنه جار على الأوجه الثلانة، وتخصيصه توهم غير ظاهر، لأنه
على وجهي الابتداء بالموصول الذي هو معنى الوصف المفيد للعلية، كما صرّحوا به لا وجه حينئذ للعدول إلى اسم الإشارة لأجل ذلك لسبق ما يفيده ولا يقتضي التأكيد فيتعين أنه لكمال العناية به كما في المفتاح، فما عدّوه توهماً هو النظر السديد.
(الثاني) أنّ سؤاله قدّس سرّه وجوابه ليس بقويّ لأنّ ما مرّ في الفاتحة من العدول إلى الخطاب لا إلى الضمير مطلقا وفي أولئك خطاب أيضاً فتأمّل.
(الثالث) أن ما أورد عليه مدفوع بما ذكر في حالة الإضافة من أنّ الداعي إليها أن لا يكون إلى إحضاره طريق سواها أصلاً أو طرق سواها أخصر، واسم الإشارة أخصر من الموصول فترجيحه ظاهر على أنّ ما ذكر ليس بوارد رأساً فتدبر. قوله. (كإعادة الموصوف بصفاته إلخ) الجار والمجرور أعني ض له بصفاته متعلق بإعادة لا بالموصوف أي إعادة المستأنف عنه المذكور أولاً بواسطة صفاته الدالة عليه ضمناً، وهذه العبارة أخصر وأحسن من قوله في الكشاف بإعادة اسم من استؤنف عنه الحديث، أو إعادة صفته لما يرد عليه من أنّ الصفة لم تذكر أوّلاً حتى تعاد وإن اعتذر له بأنه أراد به إعادة ذكر من استؤنف عنه الحديث باسمه أو بصفته إذ هو مشاكلة، ومن لم يتنبه لهذا قال بعدما ذكر قسمي الاستئناف، ومثل لما يجيء بإعادته بصفته بأحسنت إلى زيد الكريم الفاضل ذلك الموصوف بتلك الصفات حقيق بالإحسان معترضاً على المصئف إنّ مثاله لا يناسب الممثل له، فالمناسب له أن يمثل بما؟ كر. قوله: (لما فيه) أي لما في الاستئناف بإعادة الصفة الدال عليها اسم الإشارة من البيان لمقتضى الحكبم، وهو الوصف المناسب المشعر بالعلية لترتب الحكم عليه. وقوله: (وتلخيصه) بالجرّ معطوف على بيان، والتلخيص هما بمعنى الاختصار لأنّ اسم الإشارة أخصر من تلك الصفات لو أعيدت. وقوله: (الموجب له) أي المقتضي لاستحقاقه تفضلاَ منه، كما قال تعالى {أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه: 50] وهذا لا كلام فيه إنما الكلام في الإيجاب عليه تعالى بمعنى لحوق الذمّ الذي ذهب إليه المعتزلة، وليس بمراد. قوله: (ومعنى الاستعلاء إلخ) الاستعارة فى الحرف بتبعية متعلقة وهو المعنى الكلي الشامل له كما حققوه، فلذا قال: معنى الاستعلاء دون معنى على والتمثيل ضرب المثل والإتيان بمثال، ومطلق التشبيه والمركب منه، وهذا ظاهر لا نزاع فيه وإنما النزاع في الاستعارة التبعية هل تكون تمثيلية أم لا، فذهب الفاضل المحقق إلى جوازه متمسكاً بما صرح به العلامة في مواضع من كشافه كما صرّح به هنا، وقد سبقه إليه الطيبي وقال: إنه مسلك الشيخين الزمخشريّ والسكاكي، ولم يرتضه المدقق في الكشف، وأوّل ما في عباراتهم، وتبعه فيه السيد وشنع على الفاضل حتى كأنه أبو عذرته وهي
المعركة العظمى التي عقدت لها المجالس وصنفت الرسائل مما هو أشهر من قفا نبك.
قال قدس سرّه بعدما ذكر قول الزمخشريّ: ومعنى الاستعلاء في قوله على هدى مثل لتمكنهم من الهدى، واستقرارهم عليه وتمسكهم به شبهت حالهم بحال من اعتلى الشيء وركبه إلخ يريد أنه استعارة تبعية شبه فيها تمسك المتقين بالهدى باستعلاء الراكب على مركوبه في التمكن والاستقرار، فاستعير له الحرف الموضوع(1/244)
للاستعلاء، وقوله مثل أي تصوير فإن المقصود من الاستعارة تصوير المشبه بصورة المشبه به إبرازا لوجه الشبه بصورته في المشبه به، ثم إنه قدم تصوير وجه الشبه أعني التمكن والاستقرار على تصوير المشبه الذي هو التمسك، لأنه المقصود الأصلي بالقياس إليه، ومن الناس من زعم أنّ الاستعارة في على تبعية تمثيلية، وانّ كونها تبعية لجريانها في متعلق معنى الحرف، وكونها تمثيلية لكون كل من طرفي التشبيه حالة منتزعة من عدة أمور، فورد عليه إنّ انتزاع كل من طرفيه من عدة أمور يستلزم تركيبه من معان متعددة، ومن البين أنّ متعلق كلمة على، وهو الاستعلاء معنى مفرد كالضرب، فلا يكون مشبها له في تشبيه تركب طرفاه، وإن ضم إليه معنى آخر وجعل المجموع مشبها له لم يكن معنى الاستعلاء مشبهاً به في هذا التشبيه، فكيف يسري التشبيه والاستعارة إلى معنى الحرف، والحاصل إن استعارة على استعارة تبعية تستلزم كون الاستعلاء مشبها به، وتركب الطرفين يستلزم أن لا يكون مشبهاً به، فلا يجتمعان وقد أجيب لأنّ انتزاع كل من طرفيه من عدة أمور لا يوجب تركبه بل يقتضي تعددا في مأخذه وردّ بأنّ المشبه مثلا إذا كان منتزعا من أشياء متعددة، فلا يخلو من أن ينتزع بتمامه من كل واحد منها وهو باطل، فإنه إذا أخذ كذلك من واحد منها كان أخذه مرّة ثانية من آخر لغوا وتحصيلاً للحاصل، أو ينتزع من كل واحد منها بعض منه فيكون ضرورة مركبا أو لا يكون لا هذا ولا ذاك، وهو أيضا باطل إذ لا معنى حينئذ لانتزاعه من تلك الأمور المتعددة على أنه صرح بخلافه في قوله تعالى {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً} [البقرة: 17] وهو لا يشتبه على ذي مسكة.
(واعلم) أنّ على هدى محتمل لثلاثة وجوه:
(الأوّل) لثيه تمسكهم بالهدى باعتلاء الراكب.
(الثاني) تشبيه هيئة منتزعة من المتقى والهدى وتمسكه به بهيئة منتزعة من الراكب والمركوب، واعتلائه عليه فتكون تمثيلية تركب كل من طرفيها لكن لم يصرح من الألفاظ التي
بإزاء المشبه به إلا بكلمة على فإنّ مدلولها هو العمدة في تلك الهيئة، وما عداه تابع له ملاحظ في ضمن ألفاظ منوية، وأن لم يقدر في نظم الكلام وبينهما فرق، فليس في على استعارة أصلاً بل هي على حالها لو صرّح بتلك الألفاظ.
(الثالث) أن يشبه الهدى بالمركوب فعلى قرينة التخييلية هذا زبدة ما ارتضاه، ومن
الفضلاء من ردّه وانتصر للسعد سعد جدّه فقال: هو ممنوع أمّا المقدمة الثانية، فإنّ الاستعلاء المطلق متعلق لمعنى مطلق كلمة على لكن خصوصياتها متعلقات خاصة مثلاً هنا استعلاء الراكب على المركوب استعلاء ملتبس بوجه التمكن والاستقرار، وذلك لأنّ متعلق معنى الحرف ما يرجع إليه بنوع استلزام، وقد يعبر عن ذلك المعنى في العرف به وهذا الاستعلاء الخاص لازم لمعنى على هنا لزوم العامّ للخاص ويجوز تفسيره بذلك عرفاً، ولا شك أنّ المشبه به هنا ليس مطلق الاستعلاء بل الاستعلاء الخاص، فإن قيل إنه مقيد لا مركب قيل نعم لكن في حواشي المطوّل له ردّ كون الترشيح خارجا عن الاستعارة بواسطة كون المستعار مقيدا به بدون تركيب، لأنه إذا كان المشبه به هو المقيد من حيث هو مقيد، فلا بدّ أن يستعار منه ما يدلّ عليه من حيث هو كذلك فلا تتض تلك الاستعارة بدون ذلك القيد، فلا يكون متعلق معنى الحرف مدلولاً بلفظ مفرد وكذا معنى الحرف نفسه لا يدلّ عليه بلفظ مفرد وإن كان معنى واحدا مقيدا بقيود غاية الأمر أن يكون الموضوع بإزائه لفظا مفردا، والحاصل أنّ معنى الحرف في أدائه يحتاج إلى ألفاظ متعددة كالمعنى المركب إلا أنّ المقصود الأصلي فيه تشبيه المقيد دون القيد وفي المركب المجموع، وأمّا المقدّمة الأولى، فهو أنّ مبنى التمثيل هنا على تشبيه الحالة المنتزعة من أمور متعددة بمثلها، ومعنى انتزاعها حصولها منها عند وجودها على وجه اللزوم وقيامها بها، ولا يخفى أنه يجوز أن يكون شيء بتمامه منتزعا من مجموع قائماً به بدون التركيب والتكرار وبلا قيام بكل جزء كالنقطة في الخط، والإضافة في محلها عند القائل بوجودهما، وكذا جميع الأعراض التي لا تسري في محالها: كما حقق فالكلام، فعلى هذا يجوز أن تسري الاستعارة التمثيلية في معنى الحرف المفرد بهذا الوجه وينتزع منه الأمور المتعدّدة كما مرّ، فإنّ معنى على هنا نسبة بين الراكب والمركوب على وجه الاستقرار قائمة بينهما مسببة عنهما(1/245)
ولا يضره أنه لم يلاحظ الأمور المتعددة قصداً بألفاظ كثيرة، أو التفصيل والتركيب في المأخذ لا في نفسه وما ذكروه من أنّ الوجه مركب في التمثيل، فباعتبار المأخذ، وعلى هذا يحمل ما قيل إنه لا معنى للتشبيه المركب إلاً أن ينتزع كيفية من أمور متعدّدة، فتشبه بكيفية أخرى مثلها نعم لا تجري الاستعارة التمثيلية بالمعنى المشهور في الحرف، فإنها في مجموع الكلام المركب من ألفاظ متعددة مفصلة بلا تصرّف في الأجزاء كما في أراك تقدم رجلاَ، وتؤخر أخرى إذ يراد بمجموعه أراك متردّدا في أمر كذا، وقد اعترف بذلك جدي والحاصل أنه يجري في الحرف التمثيل بمعنى انتزاع الحالة من الأمور المتعددة ولا يجري فيه معنى التشبيه في المفصل المركب قصدا على أنه ينبغي أن يعلم أنّ معنى الاستعارة التمثيلية بالمعنى المشهور في الآية بعيد غير ظاهر، فإنه لا يقصد بها تشبيه حال المجموع بل تشبيه التمسك بالهدى بتلبس الراكب بالمركوب في استقراره عليه، وأيضاً لا وجه لاعتبار ألفاظ المشبه به في هذا التركيب بعد دخول على على الهدى وجعله خبراً عن أولئك المشار به
للمتقين مع أنّ الهدى، وأولئك من أجزاء المشبه، فإن قلت: قد يطوى ذكر المشبه في التشبيه، كما يطوى في الاستعارة بحيث لا يكون في حكم المذكور، ولا يحتاج إلى تقديره في النظم إلاً أنه يكون منسياً في الاستعارة منويا في التشبيه كما في قوله تعالى {وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ} [فاطر: 2 ا] الآية فإنّ البحرين مستعملان في معناهما الحقيقيّ، وقد أريد تشبيه الإسلام والكفر بهما، ولا يقدر اللفظ إلاً في مجرّد الإرادة فكذا بالنسبة إلى المشبه به في الاستعارة، قلت الفرق ظاهر فإنّ التشبيه قد يكون ضمنياً مكنياً كما في قوله:
فإن تفق الأنام وأنت منهم
إلخ إذ مجموعه مفيد لتشبيه المخاطب إ، لمسك في الانفراد عن بني جنسه فقوله {وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ} إلخ أيضا مفيد للتشبيه غاية الأمر أنّ اعتبار لفظ المشبه فيهما يغير نظم الكلام بخلاف قوله {أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى} فإنّ المجموع ليس كناية عن الاستعارة، ووجود أجزاء المشبه فيه ينافي اعتبار ألفاظ الاستعارة، فإنّ التشبيه ينسى فيها أصلا، وبالجملة لا وجه لدخول على على الهدى وأيضاً الاستعارة مجاز أي كلمة مستعملة في غير معناها لعلاقة التشبيه، وإذا لم تذكر ألفاظها ولم تقدّر يبعد اعتبار التجوّز (بقي هنا إشكال) على اعتبار الاستعارة التمثيلية في المركب مطلقاً، فإنّ المقصود فيه التشبيه بين الحالتين المنتزعتين من الأمور المتعدّدة الواقعة في الطرفين ولم يظهر وضع أمر بإزاء حالة، حتى يصرف عنها إلى أخرى بعلاقة التشبيه، وبالجملة لا يظهر في تلك إلاستعارة ما يتصرف فيه بالتجوّز وأمّا الهيئة التركيبية فموضوعة بإزاء الإثبات أو النفي، وظاهر أنه لم يقصد التشبيه فيها، فلا تجوز فيه إذا عرفت ما تلونا. عليك، وهو زبدة ما في هذا المقام فالذي يخطر بالبال بعد طيّ شقة القيل والقال، إنّ الخلاف بينهم في حرف واحد إذ لا خلاف في أنّ التمثيل التفصيليّ المعروف يستدعي تركب الطرفين حقيقة وإنّ التمثيل الآخر الذي هو محل النزاع هل يشترط فيه التركيب بعد الاتفاق على أنه لا يلزم التصريح بأجزائه لفظاً ولا تقديرا، فذهب الشريف إلى أنه يشترط فيه أن تكون أجزاؤه مرادة منوية، فلا يكون ما اقتصر عليه من الحرف، ونحوه مما هو عمدة المعنى المجازي مستعملا في معنى مجازي بل حقيقة والأكان مجازا مفردا لا تمثيلاً. أو لا يشترط فيه ذلك بل يكفي تركب المأخذ المنتزع منه ذلك، ويكون الحرف المذكور مع ما يدلّ عليه بالالتزام من طرفي التشبيه، وما يتممها متجوّزا فيه، وإلا لم يصح دخول على على الهدى كما مشى عليه السعد ومن مشى على جادّته، فالنزاع كاللفظيّ وأمّا الإشكال الذي أورده ولم يجب بم ضه فقد استصعبه بعض المتأخرين، فيدفعه أنّ اللفظ المركب له هيئة ومادّة دالة على معنى مجموع مركب موجود في الخارج ومجموع المادّة والهيئة موضوع له بالوضعالنوعي أو بأوضاع مفرداته على الخلاف المعروف فيه، وهو المتصرف فيه لا الهيئة فقط، ولا المفردات وسنحققه في محله إن شاء الله نعم يرد على ما مرّ من أنّ الاستعلاء الخاص المقيد تمثيل أنه لو اقتضى ذلك لم يكن لنا
استعارة تبعية أصلاَ لاستلزامها لهذا التركيب، والمراد بالاستعلاء العلو لا طلبه، وهي قد اشتهرت بهذا المعنى وتمكنهم بمعنى ثباتهم ودوامهم، فعطف الاستقرار عليه لتفسيره وتوضيحه. قوله ة (بحال من اعتلى(1/246)
الشيء إلخ) فيه تسمح والأصل تمثيل حالهم في تمكنهم، واستقرارهم بحال من اعتلى إلخ إن قلنا: إنّ التمثيل بمعناه المشهور أو تمثيل تمكنهم بالاعتلاء على المركوب إن كان التمثيل بمعنى مطلق التشبيه، فالاستعارة تبعية على ما أسلفناه، ووجه الشبه إيصاله إلى المقصد الاً عظم في الدارين. قوله: (وقد صرحوا به إلخ) أي صرّحوا بالتمثيل، فإنه استعارة لم يصرح فيها به وان كانت مبنية عليه، أو المراد صرّح فيه بالمركوب المرموز إليه في التبعية لأنّ معنى امتطى ركب كما سيأتي، وقال قذس سرّه: إنه لما ذكر استعارة على للتمسك بالهدى رام منه تشبيه الهدى ونظائره بالمركوب، وقد يتبادر إلى الوهم أنه استعارة، فأزاله بأنّ هذا التشبيه فيما ذكرناه ضمني غير مقصود من الكلام، وقد صرّحوا به وجعلوه مقصوداً في مواضع أخرى وعدل عن قوله في الكشف، وفيه إشارة إلى أنّ التشبيه هنالك ضمني لأنّ الاستعلاء لازم الحرف لا نفس معناه لما فيه من الخفاء كما لا يخفى. قوله: (امتطى الجهل وغوى) هذا هو الصحيح وغوى فيه فعل ماض كنوى بمعنى ضل وفي بعض النسخ، والغوى معرفا بالألف واللام، وكأنها تحريف لأق الغوي كالهوى فساد الجوف فجعله بمعنى الغواية وان كان له وجه تكلف، والجهل هنا بمعنى البغي والتجاوز، وهو أصله الشائع في كلام الفصحاء قال:
ألالايجهلن أحدعلينا فنجهل فوق جهل الجاهلينا
وورد أيضا فيما يقابل العلم كما هو المستعمل، والتصريح بما ذكر إتا في صورة التشبيه كقولهم: جعل الغواية مركبا، فإنه في قوّة قولك الغواية مركب، أي كالمركب وإمّا في صورة الاستعارة كقولهم اقتعد غارب الهوى إذ شبه فيه الهوى بالمطية على طريقة الاستعارة المكنية، وخيل بإثبات الغارب ورشح بذكر الاقتعاد، فإنه من اقتعد بمعنى ركب، وهو في الأصل افتعال من القعود، والغارب له كما في كتب اللغة معان ما بين السنام، والعنق ومنه استعير حبلك على غاربك ومقدم السنام، وما يعلوه راكب البعير من مطلق الظهر، وهو المراد المناسب هنا فمن فسره بما قبله وقال: إنّ فيه إشارة إلى إشراف مرتكب الهوى على السقوط لم يصب، وأنا قولهم امتطى الجهل، فإن جعل بمنزلة قولك ركب مطا الجهل كان استعارة بالكناية، وان جعل في قوّة قولك اتخذ الجهل مطية كان تشبيها، وأياً ما كان فثبيه الجهل بالمطية مقصود منه كما في قوله:
إنّ الشباب مطية الجهل
وذلك إنما يحصل باسنفراغ الفكر، وادامة النظر فيما نصب من الحجج؟ والمواظبة
على محاسبة النفس في العمل، ونكر هدى للتعظيم، فكأت أريد به خير لا يبلغ كنهه، ولا
في رواية وهو المراد بكونه مصرحا به، وقيل: امتطى استعارة تبعية شبه اتصافه بالجهل، واستقراره عليه بامتطاء المطية، واستعير لفظ المشبه به للمشبه، فسرت الاستعارة إلى الفعل وذكر المفعول قرينة لها- وفيه بحث إذ لا فرق حينئذ بينه وبين قوله {عَلَى هُدًى} في أن تشبيه الهدى والجهل ليس مقصوداً فيهما، فكيف يجعل مصرّحا به ة ب أحدهما دون الآخر، ولا يخفى أنّ دلالة الفعل على الحدث، وهو الركوب والإمتطاء ليست كالحرف فتدبر، وفي الكشف عدّ امتطىء الجهل تشبيهاً خطأ بين سواء كان معناه ركب مطاه فيكون كغارب الهوى، وقد سلم فيه الاستعارة، أو اتخذه مطية فيكون نظير قوله:
قتل البخل وأحيا السماحا
نعم لو ذكر ترجمته كان تشبيها ومنه أتى على من أتى وقد نوّر هذا بأنّ معنى امتطى الجهل اتخذه مطية على سبيل الحقيقة دون التشبيه، فلا بد من الاستعارة إذ لا يمكن تقدير الأد اة.
نعم إذا ذكرت الترجمة يمكن جعله تشبيهاً والتصريح بحسب الأصل لا يقتضي القصد بل مجرّد الظهور دون استبعاد ولا شك في أنّ تشبيهه الجهل بالمركب في هذا المثال أظهر من تشبيه الهدى به بحيث لا يخفى على أحد سواء اعتبر فيه الاستعارة بالكناية أو التبعية أو التشبيه بل نقول اسم الإشارة في قوله: صرّحوا بذلك إشارة إلى تشبيه حال المهتدي بحال الراكب، فإنّ ذلك خفيّ يحتاج إلى النظر والتوضيح:
وقدبقيت يا صاح في النفس حاجة لعل بفضل الله يوما أقضيها
قوله (وذلك إنما يحصل إلخ) إشارة إلى التمكن والاستقرار المار أي لا يحصل إلا بتكميل القوّتين النظرية والعلمية، فاستفراغ الفكر، وادإمة النظر إشارة إلى الأولى ومحاسبة النفس إلخ إشارة إلى الثانية، وفي قوله استفراغ إيماء إلى تشبيه الذهن بقليب يستقى منه، وتشبيه ما يفيده بماء عذب ومحاسبة(1/247)
النفس بجعلها كعامل أو وكيل واعمالها بمنزلة أموال عندها والعقل حاكم عليها يحاسبها، وفيه لطف لا يخفى. قوله: (ونكر هدى إلخ) إنما أفاد التنكير التعظيم لما فيه من الإبهام الذي يفيده نحو الحاقة ما الحاقة لأنه في معنى هدى أيّ هدى أي هدى عظيم لعظمته لا تعرف حقيقته ومقداره، واليه أشار المصنف بقوله خير وفي نسخة ضرب أي نوع منه وهو الصحيح الموافق لما في الكشاف. وقوله: (لا يبلغ) ببناء المجهول أي لا يدرك، والكنه الحقيقة والنهاية كما في كتب اللغة أي لا يصل أحد إلى حقيقته أو نهايته، ويقادر بضم الياء وفتح الدال المهملة مجهول من قادره بالقاف كضاربه، وقدره بسكون الدال ويجوز فتحها أي لا يعرف مقداره، وفي الأساس قدرت الشيء قدره وهذا شيء لا يقادر قدره، وهو
من قولهم تقادر الرجلان إذا طلب كل منهما مساواة الآخر في المقدار قيل: ويحتمل أن يكون التنكجر للإفراد أي على هدى واحد ألا لا هدى إلاً هدى ما أنزل إليك لنسخه ما قبله.
وفي الكشاف تفسير من ربهم بقوله أي منحوه من عنده وأوتوه من قبله وغيره المصنف
لما فيه من الركاكة بزيادة أي التفسيرية بين المبتدأ والخبر وتقدير ما لم يدل عليه دليل والقصد أن من ابتدائية {وَمِّن رَّبِّهِمْ} صفة وتفسيره الهدى باللطف والتوفيق، لأنه مذهب المعتزلة، وعندنا هو خلق الاهتداء وقا. قدم ما يغني عنه وسيأتي تتمته. قوله: (ونظيره إلخ) في نسخة ومثله قول الهذلي: وفي نواهد الأبكار أنه في الديوان المجموع لشعر هذيل قطعة لا قصيدة، وهي ثلاثة أبيات لا رابع لها وقد روي لها رابع وهي بجملتها على ما صححه الرواة وارتضاه الفاضل في شرحه:
لعمرأبي الطيوالمربة غدوة على خالدلقد وقعت على لحم
فلاوأبي لاتأكل الطيرمثله عشية أمسى لايبين من السلم
وانك لو أبصرت مصرع خالد بجنب الثنار بين أبرق فالحزم
لأيقنت أن البكرغيررذية ولا الناب لا ضمت يداك على غنم
والشعر لأبي خراس وهو خويلد بن مرّة الهذلي يرثي به خالد بن زهير الهذلي، وقد قتل
في وقعة مشهورة مذكورة في شرح أشعار هذيل وأبو خراس كان من فرسان العرب وفصحاء شعرائها، وكان يعدو على قدميه فيسبق الخيل، ثم أسلم وحسن إسلامه ومات في زمن عمر رضي الله عنه من نهش حية وخالد المرثي كان رفيع الشأن في هذيل، والمربة بضم الميم وكسر إلراء المهملة، وتشديد الباء الموحدة والهاء بمعنى الملازمة من أرث وألب باللام أقام بالمكان، وقد نقل أنّ الزمخشريّ كان يقول ما أفصحك من بيت إذا أنشده فإنه استعظم لحمه ولذا نكره وسبب استعظامه له أنه استعظم الطير الواقعة عليه حيث أقسم بأبيها، أو بها إن قلنا إنّ لفظ الأب مقحم كما ذهب إليه بعضهم، والطير مجرورة بإضافة الأب إليه، فإن قيل إنه مضاف لياء المتكلم فهو مرفوع على أنه ناعل فعل مقدر مفسر بما بعده وعلى الأوّل التكنية والقسم لتعظيمه ولا ردّ لما يتوهم من تحقيره بأكل الطير له أو زائدة وجواب القسم لقد إلخ. وقوله: (وقعت) بكسر التاء المثناة خطاب للطير على أنه التفات على هذه الرواية، وقد روي وقعن، وعلقن أيضاً فلا التفات فيه، والإقسام بها لوقوعها على اللحم العظيم فيه تعظيم للمقسم عليه نفسه كما في قول الطاني:
وثناياك إنها اغريض
وقوله تعالى {حم وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} [الزخرف: 2] وقيل
أبو الطير خالد نفسه لوفوعها عليه كما يقال أبو تراب وأبو الزند لصاحب الملازمة له ولا حاجة
إلى جعل أبي جمعاً وأصله أبين، فسقطت نونه للإضافة كما قيل: وإنشاد المصنف له، فلا
وأبي الطير المربة بالضحى إلخ تبع فيه الزمخشريّ وقال السعد هو في ديوان الهذليين هكذا:
لعمرأبي الطيرالمربة غدوة على خالدلقدعلقن على لحم
إلخ وفي حواشي الكشاف لابن الصائغ، ومن خطه نقلت نقلاً عن الرضى الشاطبي أنه
هو الصواب، وهو كما قال وإنما استدل به لأنه لو لم يقصد التعظيم كان لغواً من القول فتأمل.
قوله: (وكد تعظيمه إلخ) قيل: إنه لما توهم أنّ الهدى لا يكون إلا من الله، فما فائدة قوله من
ربهم بين أنه تأكيد لتعظيمه بإسناده إليه تعالى كما يستفاد من فحو بيت الله، والتوفيق هو اللطف
الداعي إلى أعمال الخير كما أنّ العصمة هي اللطف المانع(1/248)
عن أعمال الشر، وقيل: معنى
كونهم على هدى من ربهم خلق الهدى فيهم وإعطاؤه لهم لا اللطف والتوفيق كما هو رأي
المعتزلة، وهذا من ضيق العطن، فإنه لم يفسر الهدى به كما فعله الزمخشريّ على أنه لو قاله
لم يكن به بأس فتدبر. قوله: (وقد أدغمت إلخ) الغنة صوت يخرج من الخيشوم والنون أشدّ
الحروف غنة والأغن الذي يتكلم من قبل خياشيمه، وقد قال القراء: إنه يجب إدغام النون
الساكنة والتنوين في اللام والراء بلا غنة عند الجمهور، وعليه العمل كما في الشاطبية
وشروحها، وذهب كثير من أهل الأداء إلى الإدغام مع بقاء الغنة ورووه عن نافع وابن كثير وأبي
عمرو وابن عامر وأبي جعفر ويعقوب.
وقال الإمام ابن الجزري رحمه الله: وردت الغنة وصحت من طرق كتابنا عن أهل
الحجاز والشام، وأطال في تقريره في النشر وقد أظهر النون والتنوين عند الراء واللام ابن عون
عن قالون وأبو حاتم عن يعقوب، وأوجب غيرهم الإدغام كما قاله الجعبريّ ففيها عند أهل
الأداء ثلاثة وجوه، ووجه الإدغام تلاصق المخرح أو تجاوره، ووجه وجوبه عند الجمهور كثرة
الدور ووجه حذف الغنة المبالغة في التخفيف واتباع الصفة الموصوف، أو تنزيلهما لشدّة
لمناسبة منزلة المثلين النائب أحدهما مناب الآخر ووجه بقاء الغنة أنّ الأصح بقاء الصوت
المدغم، كما في شرح الطيبة ومنه علم أنه لا غبار على ما قاله الشيخان، وإنّ ما في شرح
الفاضل المحقق من أنه بحسب العربية وأمّا بحسب الرواية عن القراء فاكثر أنه لا غنة مع الراء
واللام لا وجه له وإن اقتفوا أثره فيه. قوله: (كرر فيه اسم الإشارة إلخ) هذا بعينه ما في
الكشاف من قوله وفي تكرير أولئك تنبيه على أنهم كما ثبتت لهم الأ. لرة بالهدى فهي ثابتة لهم
بالفلاح إلخ. والأثرة بفتح الهمزة وفتح الثاء المثلثة وراء مهملة، وهاء لغة بمعنى الاستئثار
والاستبداد وقيل هي التقدم والاختصاص من الإيثار ويجوز فيه ضم الهمزة وسكون المثلثة
وفسرها بعفنهم بالمكرمة المتوارثة وقال: إنها إشارة إلى أنه تعالى أكرم بها آدم عليه الصلاة والسلام وخواص بنيه، فكأنها انتقلت لهم إرثا وهو تكلف، والمراد بالأثرتين تمكنهحم من الهدى في الدنيا وفوزهم بالفلاح في العقبى مما دل عليه محمول القضيتين في النظم. يعني أنّ هؤلاء الموصوفين بتلك الصفات يستحقون بذلك الاستقلال بالتمكن في الهدى والاستبداد بالفلاح. والاختصاص بكل منهما، ولو لم يعد أولئك لربما توهم أنّ الاستقلال بالمجموع لا بكل واحد منهما، وإنما أفاد ذلك الاختصاص لدلالته على الصفات، وأنه في المشتق كما مرّ فيفيد العلية لثبوتهما لهم والعلة لا تخلف عن المعلول فيقتضي الاختصاص بهما والتميز.
وفي الإشارة ما يغني عن الكلم.
ومن غفل عن هذا قال: إنّ هذا الوجه إنما يستقيم إذا أفاد مجرّد تعريف المسند إليه التخصيص ليحصل في الجملة الأولى أيضا وهو مختلف فيه، فكأنه تبع صاحب الكشاف في القول بالحصر في نحو {اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاء} [الرعد: 26] وقد تجعل أولئك الثانية إشارة إلى المتقين الموصوفين بكونهم على هدى من ربهم وبجعل الفلاح مترتبا على كونهم على تلك الهداية الواصلة إليهم من ربهم المترتبة على الأوصاف السابقة، فلا تكرأر حينئذ إلا بحسب الظاهر، وقد أشار قدس سرّه إلى أنّ كلام الكشاف محتمل له فإنه قال: وفي تكرير أولئك تنبيه على أنهم كما ثبتت لهم الأثرة بالهدى فهي ثابتة لهم بالفلاح، فإنّ الفاء في قوله: فهي تحتملى الزيادة، والدلالة على أنّ الأثرة بالهدى سبب الأثرة الأخرى، والمصنف عدل عنه. وقوله: (وأنّ إلخ) كالعطف التفسيري، وما ذكر هنا قريب من الإيماء إلى وجه بناء الخبر المذكور في المعاني في تعريف المسند إليه بالموصولية فتدبر. قوله: (ووسط العاطف إلخ) هذا جواب سؤال مقدّر يلوح به ما قبله من التكرير في المبتدأ أو كفاية كل من الأثرتين، فإنه يوهم أنّ المقام يقتضي عدم العطف كما في الآية الأخرى يعني أنّ على هدى والمفلحون مع تناسبهما معنى مختلفان مفهوماً ووجودا فإنّ الهدى في الدنيا والفلاح في العقبى، واثبات كل منهما على حدة أمر مقصود في نفسه، فالجملتان المشتملتان عليهما المتحدتان في المخبر عنه بين كمال الاتصال والانفصال فلذا عطفت إحداهما على الأخرى، وأمّا كالأنعام والغافلون، وان اختلفا مفهوما فقد اتحدا مقصودا إذ المراد بالتشبيه بالانعام المبالغة في الغفلة فالجملة(1/249)
الثانية مع مشاركتها للأولى في المحكوم عليه مؤكدة لها فلا مجال للعطف.
(فإن قلت) إن أريد الاختلاف والاتحاد بحسب أصل المعنى وباعتبار اللوازم فلا فرق
(قلت) نعم يجوز إجراء كل منهما فيهما إلا أنّ الأوّل أظهر في الأوّل والثاني أظهر في
الثاني كما لا يضنى، وقيل الفصل في الثانية لأنها كالمتصلة بالأولى لأنها جواب سؤال نئأ من
قوله بل هم أضل كأنه قيل لم كانوا أضل، فاجيب بأنهم غافلون عن رعي مهمات مصالحهم،
فالأنعام لا تفوتهم رعايتها، وهذا أنسب وأظهر وفيه نظر، والتسجيل أصله كتابة- السجل
والصك ويتجوّز به عن إثبات الحكم القطعي والتشهير، وهذا هو المراد وقيل معنا. رميهم
بالغفله وفي القاموس سجل به رمى به من فوق على أنه مأخوذ من التسجيل بمعنى الحجارة
والأوّل أنسب وأقرب. قوله: (وهم فصل إلخ) ضمير الفصل، ويسمى عماداً له فوائد فصل
الخبر، وتميزه عن النعت فلذا سمي فصلاً، وهو أغلبيّ لأنه قد يتوسط بين غيرهما كما ذكر
النحاة ويؤكد ألنسبة والحكم الخبري، وقيل إنه لتأكيد المحكوم عليه لمطابقتة له، وضعف بأنه
لو كان كذلك لم يفد التخصيص كما لا يفيده زيد نفسه أكرم الناس، وادخال اللام عليه في
نحو إن زيدا لهو الظريف ربما دل كلى أنه من تتمة المحكوم به، ويفيد اختصاص المسند
بالمسند إليه لا عكسه كما ذهب إليه بعض شراح المفتاح، وهذا مما أطلقوه وأثبتوه بقوله تعالى
{كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ} [المائدة: 17 ا] وهو إنما يتم إذا ثبت القصر في مثل
كان زيد هو أفضل من عمرو مما الخبر فيه نكرة، والاً فتعريف الخبر بلام الجنس يفيد قصره
على المبتدأ، وان لم يكن فصل كزيد الأمير، وتعريف المبتدأ بلام الجنس يفيد قصره على
الخبر وان كان مع ضمير الفصل نحو الكرم هو التقوى أي لا كرم إلا التقوى، وفي الفائق ما
يشعر بأنّ مثله يفيد قصر المبتدأ كلى الخبر سواء عرف المبتدأ والخبر أو لا لأنه صرح بأنّ
معنى، فإنّ الدهر هو الله أن جالب الحوادث هو الله لا غيره، وفي المفتاح ما يخالفه، وقال
الفاضل المحقق: التحقيق أنّ الفصل قد يكون للتخصيص بقصر المسند على المسند إليه نحو
زيد هو أفضل من عمرو وزيد هو يقاوم الأسد وفي الكشاف في قوله تعالى {أَنَّ اللهَ هُوَ يَقْبَلُ} [التوبة: 104] هو للتخصيص والتوكيد، وقد يكون لمجرّد التأكيد إذا كان
التخصيص حاصلاً بدونه بأن يكون في الكلام ما يفيد قصر المسند على المسند إليه نحو أنّ الله
هو الرزاق أي لا رزاق إلاً هو أو قصر المسند إليه على المسند نحو الكرم هو التقوى،
والحسب هو المال أي لا كرم إلا التقوى إلخ ولذا قيل إنّ كلامه محتمل لأمرين أن يكون إشارة
إلى المدعى، وهو الحق والا يتعارض كلاماه وأن يكون إشارة إلى الدليل وهو فاسد وفيه نظر.
قوله: (أومبتد " جعله قسيماً للفصل بناء على ما اشتهر من أنّ ضمير الفصل لا محل له من
الإعراب وذهب بعضهم إلى أنه رابطة، وحرف فلا يرد عليه أنّ فيه جعل الشيء قسيما لنفسه
لأنّ من النحاة من ذهب إلى أنّ ضمير الفصل في محل رفع على الابتداء. قوله: (والمفلحون
خبره) قال الطيبي: فعلى هذا تكون الحملة من باب تقوّي الحكم أو من باب التخصيص على
نحو هو عارف قلت: المراد الأخير لتطابق الوجوه في إفادة الحصر، ولا حاجة لما ذكره لما تقدّم من أنّ أولئك في معنى الصفة المشتقة، ومثله يفيد علية مبدأ الاشتقاق ويفيد الحصر. قوله: (والمفلح بالحاء والجيم إلخ) هذا بناء على ما عليه قدماء أهل اللغة من أنّ المشاركة في أكثر الحروف اشتقاق يدور عليه معنى المادّة، فيتحد أصل معناها ويتغاير من بعض الوجوه كما يعرفه من طالع التهذيب والعين ونحوهما من كتب اللغة القديمة، ولذا اعتبروا ني الترتيب الأوّل، وما يليه ولم ينظروا إلى الأخير كما فعله الجوهريّ، والمراد بقوله بالحاء والجيم تفسير اللفظ من حيت اللغة وإلا فالقراءة بالحاء المهملة لا غير ولم يقرأ بالجيم في شيء من الشواذ والفلح بالحاء بمعنى الشق والفتح، وكذا الفلج بالجيم أيضاً كما في كتب اللغة، والظاهر أنهما معنيان فإنّ الشق قد يقع من غير فرجة والفتح قد يكون بغير شق كفتح الباب والكتاب، فبينهما عموم وخصوص وجهي وقوله الفائز بالمطلوب هذا هو المعنى العرفي المعروف في الاستعمال والشق والفتح معناه الحقيقي الأصلي. وقوله: (كأنه إلخ) بيان للملابسة والمناسبة بينهما واكتفى بذكر الفتح فيه لاشتماله على الشق في الغالب فلا يقال المناسب لما بعده أن يذكره، لكنه لو صرّح به كان أحسن والوجوه جمع وجه، ومعناه النوع أو الطريق(1/250)
فقوله وجوه الظفر كما في بعض النسخ أنواعها أو طرقها، وفي نسخة وجوه اللطف وهو بضم فسكون معروف، وهو الرفق والتوفيق وبفتح اللام والطاء ويقال بالهاء لطفة أيضا، وهو اسم بمعنى البرّ ولم يشتهر في الهداية قال الزمخشريّ في شرح مقاماته الألطاف بمعنى الهدايا واحدها لطف قال:
كمن له عندنا التكريم واللطف
وغبارة المصئف رحمه الله تحتملهما والظاهر الأوّل وأفلح بمعنى فاز ببغيته دنيوية وأخروية وهي سعادة الدإرين، وما قيل من أنّ قوله انفتحت يدل على أنّ همزة أفلح للصيرورة فيه نظر ظاهر. قوله: (وهذا التركيب) أي تركيب فلح، وهو ظاهر وفلق بمعنى شق وفلذ بالذال المعجمة بمعنى قطع، وفلى بالفاء من فليت الشعر إذا فتحته لتنظر ما تحته من الهوام، أو من فلوته بالسيف إذا ضربته، وفي الضرب معنى الشق هنا أو من فلوته عن أمّه إذا فطمته. قوله: (وتعريف المفلحين إلخ) هذا زبدة قوله في الكشاف، ومعنى التعريف في المفلحون الدلالة على أنّ المتقين هم الناس الذين عنهم بلغك أنهم مفلحون في الآخرة، كما إذا بلغك أنّ إنسانا قد تاب من أهل بلدك، فاستخبرت من هو فقيل زيد التائب أي هو الذي أخبرت بتوبته، فاللام حينئذ لتعريف العهد الخارجي، ولا حاجة إلى اعتبار قصر كما إذا قلت الزيدون هم المنطلقون إشارة إلى معهودين بالانطلاق ولك أن تعتبر كلمة هم فصلاً، وتقصد قصر المسند
على المسند إليه افرادا نفياً لما عسى يتوهم من أنّ المعهودين بالفلاح يندرج فيهم غير المتقين أيضاً. وقوله: (كما إذا يلنك إلخ) تركه المصئف رحمه الله اختصاراً لا لما قيل: من أنه لأجل أنه اعترض عليه بأنّ المطابق للسؤال أن يقال: التائب زيد حتى لو اقتصر على زيد كان خبر المبتدأ محذوف، ورد فأن الضمير في من هو راجع إلى التائب أي من التائب، فمن مبتدأ والتاثب خبره، كما هو مذهب سيبويه والمعنى أزيد التائب أم عمرو فالمطلوب بالسؤال أن يحكم بالتائب على شيء من تلك الخصوصيات، فالصواب ما في الكتاب ليكون الجواب مطابقا للسؤال، والمثال موافقا للتنزيل في تعريف الخبر العهدي فإن جعل من خبراً مقدما، فالحق ما ذكره المعترض فتفوت موافقة المثال، وهذا مع ظهوره خفي على جماعة حتى زعم من لم يتنبه له أنّ دعوى رعاية المطابقة منقوضة بأنّ من قام جملة اسمية، ويجاب بفعلية، ولم يدر أنّ السائل بمن قام لطلب الحكم بالقيام على زيد أو عمرو، فإذا أجيب بقام زيد طابق سؤاله في المعنى، وان خالفه لفظا بفعلية لسرّ ستراه بخلاف ما نحن فيه، فإنّ التقديم فيه يوجب اختلاف المحكوم عليه فتفوت المطابقة المعنوية التي تجب رعايتها في نحو زبد أخوك وأخوك زيد. هذا ملخص ما ارتضاه قدّس سرّه مخالفاً فيه للفاضل المحقق وتبجح به في غير موضوع وسلمه له عامة الفضلاء إلاً من رمى ربقة التقليد من جيد فكره كما قال بعض الفضلاء: إنه مردود لمخالفته لكلام القوم، فإنهم صرّحوا بأنّ من لطلب التصوّر لا لضلب الحكم والتصديق، فتأويله لا يجدي في مقابلة خرق إجماعهم ولذا قيل إنّ من يسأل بها عن تشخيص ذي العلم وتعيينه، فالمقصود بمن قام تعيين الفاعل مع تقرير الفعل بحيث لا يشك فيه، وليس لطلب مطلق الحكم بالقيام، فالمطابق في الجواب أن يقال: زيد قام إذ المقصود الفاعل وتقرير الفعل أمر ذكره مجرّد اعتبار نحوي، ولذا قالوا إنّ قوله تعالى {أَأَنتَ فَعَلْتَ هَذَا} [الأنبياء: 62] لو كان لتقرير الفعل كان الجواب فعلت أو لم أفعل، والحاصل أنّ في قام زيد إبهاما لتردّد السائل في الفعل، وتقرير المجيب إياه، وقد قال محققو أهل المعاني: إنّ الهمزة يليها المسؤول عنه ذاتا أو غيرها فيقال أضربت زيدا إذا كان الشك في نفس الفعل، وأأنت ضربت إذا كان في الفاعل مع تقرير الفعل، ولا شك في أن خلق السموات والأرض مقرّر لا مرية فيه، والتردّد إنما هو في تعيين الفال فلا يكون من خلق السموات والأرض جملة فعلية معنى بل اسمية لفظا ومعنى، ولا ينبغي أن يكون من قام في معنى أقام زيد أم عمرو بل في معنى أزيد أم عمرو قام لما عرفته، والنكتة في ذكر الجملة الفعلية في جواب من خلق أنه على خلإف مقتضى الظاهر للتعريض بغباوة المخاطبين، وأنهم لا ينبغي لهم التردّد في الفاعل أصلاً، كما وقع فلو كان هنا تردّد كان في أصل الفعل وقيل الضابط هنا أنّ الشيء إذا كان له صفتان تعرّفانه، وقد عرف السامع اتصمافه بإحداهما دون الأخرى(1/251)
فأيهما عرف اتصاف الذات بها، وهو طالب لأن يحكم عليه بالأخرى يجب تقديم الدال عليه وجعله
مبتدأ وتأخير غيره فإذا عرف مثلاً زيدا بعيته واسمه دون اتصافه بالأخوّة وطلب أن تعرّفه ذلك قلت: زيد أخوك وإذا عرف أخا لم يعينه بذاته قلت أخوك زيد، ولا يصح. غيزه وهذا موافق لقوله في الدلائل(1/252)
إنك في قولك زيد منطلق وزيد المنطلق تثبيت فعل الانطلاق لزيد لكته في الأوّل لم يسمع السامع أنه كان وفي الثاني سسه، ولكنه لم يعلمه لزيد فإذا بلغك أنه كان من إنسان انطلاق مخصوص وجوّزت أن يكون من زيد ثم قيل زيد المنطلق انقلب الجواز وجوبا بحصوله منه، فإذا قصد تاكيده قيل زيد هو النطلق وإذا قيل المنطلق زيد، فالمعنى أنك رأيت منطلقاً لم تعلم أزيد هو أم عمرو فيقال لك المنطلق زيد أي ما تراه من بعيد هو زيد وهكذا ما نحن فيه، فإنك عرفت المتقين وبلغك أنّ قوما مفلحون في الآخرة وجوّزت كونهم المتقين فطلبت الحكم عليه بالفلاح، وهذا مراد الزمخشريّ بعبارته السالمه نجأفى يبهون معنى من هو أزيد هو وافراده بالذكر لما يقتضي الاهتصام به، ولما كان ظاهره أنّ معناه أزيد التائب أم عمرو إلخ ورد عليه الاعتراض فأن المناسب التائب زيد لأنك عرفت أنّ إنساناً قد تاب، وطلبت الحكم عليه بأنه زيد أو غيره، فمقتضى تلك الضابطة أنك إذا عرفت التائب، وقلت من هو كان معناه أزيد التائب أم عمرو إلخ، فالترديد إنما هو في الخصوصيات والمطلوب الحكم حمبى التائب بواحدة منها، كما ذكره الثخ في المنطلق زيد فلا يصح حينئذ زيد التائب بل التائب زيد فظهر فساد الجواب بأنّ الضمير للتائب كما مرّ، فإنه لا يدفع الاعتراض لعدم مطابقته للضابطة المقرّرة قيل: وبهذا ظهر ما في كلام الشارحين من الاختلال وتبين التوفيق بين كلامي الشيخ فإنّ كل مقام ر " مقال (أقول) هذا جملة ما يعتد به مما وقع هنا من القيل والقال (وها أنا بأذل) لك جهد المقول مما بقي فيه فأقول راجيا من الله القبول المطابقة المتفق عليها هي جعل مطلوب المخاطب محكوما به ومحط الفائدة، وهي كما قاله الشيخ والسكاكي إنما تخفى إذا تعرّف إلطرفان والجملة اسمية لأنه إدّا نكر أحدهما يكون هو الخبر إذ هو من شأنه أن يكون غير معلوم، فإذا تعرّفا كان معلوما بطريق من طرق التعريف ليصح التعريف والاً عرف حينئذ محكوم عليه والمعروف من وجه المجهول من وجه محكوم به لأنه لو عرف من كل و. جه لم يطلب، فإذا بلغك أنّ قوما معينين من أهل بلدة أو محلة انطلؤ / منهم واحد وأنت تعلمهم بمشخصاتهم، وتعلم السنطلق بوجه مّا وتجهله من غير ذلك الوجه تعين في جواب من المنطلق زيد المنطلق ولا يصح عكسه، ولو شاهدت من بعيد شخصاً منطلقاً، ولمم تعرفه بذاته ومشخصاته وقلت من المنطلق كنت عارفا بالمنطلق. بمشاهدته، والمجهول لك ما يشخصه، فتعين حينئذ المنطلق زيد وهذا مرادهم كما ستسمعه في الدلائل فقوله في الكشاف: إذا بلغك أنّ شخصا قد تاب إلخ إشارة إلى ما يصحح تعريفه وهو كونه معلوما بوجه لا من كل الوجوه حتى يتعين أنه مبتدأ كما توهموه، فإنه فرية بلا مرية ومن هنا نثا الاعتراض، وليس هذا مبنيا على إعراب من مبتدأ أو خبراً لأنّ من شاهد المنطلق إذا قال: من المنطلق، فمطلوبه ما
يشخصه، فحق المنطلق أن يكون مبتدأ ومن خبره، وأنما عكسه سيبوبه لأنه يراه ملتزم التقديم، والمسؤول عنه أهم بالذكر وادّعاء التقديم عن تأخير خلاف الظاهر مع أنه فكرة، والكلام ليس فيه وجملته إنشائية لا خبرية حتى يلاحظ فيه الملقى إليه الخبر، فليس مما نحن فيه، وليس الاختلاف فيه مبنيا على هذا قطعاً، فلا حاجة إلى تكلف ادّعاء أنه مبتدا لأنه معرفة تأويلاَ لأنه في معنى أزيد أم عمرو إلخ مع أنه لا يتم لأنّ التأويل المذكور لا يتأتى في أفعل التفضيل، وكم في نحوكم مالك لأنها في معنى أمائة أم ألف أم أكثر، فقول السعد هنا إنّ المناسب حينثذ التائب زيد إلخ مردود بما مرّ من أنّ قوله بلغك إلخ مصحح لتعريف التائب، وجعله معهودا كما أشار إليه بقوله الذي أخبرت بتوبته، ولا يقتضي أن لا يكون مجهولاً ومطلوبا من وجه، فما ذكر ليس بشيء، وقوله قدس سرّه: حتى زعم إلخ ردّ له كما فصله وهو وارد عليه كما يعلم مما قدمناه، وقول الشارح الفاضل: أورد الشيخ عبد القاهر في دلائل الإعجاز كلاما يؤيد أوّله كلام المصنف، وآخره كلام المعترض ليس بشيء، فإنهما متفقان وهو غفلة عما حققوه، وعبارة الدلائل إنك في قولك زبد منطلق وزيد المنطلق تثبت فعل الانطلاق لزيد لكنك تثبت في الأوّل فعلاً لم يسمع السامع من أصله أنه كان وفي الثاني فعلاً قد علم السامع أنه كان، ولكن لم يعلمه لزيد فإذا بلغك أنه كان من إنسان انطلاق مخصوص وجوّزت أن يكون ذلك من زيد، ثم فيل لك زيد المنطلق انقلب ذلك الجواز وجوابا وزال الشك، وحصل القطع بأنه كان من زيد اهـ. يعني أنّ المخاطب لما علم زيداً بمشخصاته وبلغه أنّ إنسانا انطلق كان المنطلق حاضرا في ذهنه فيصح أن يعرف بالتعريف العهدي، ولكنه لما لم يتعين كان مطلوبا لتردده فيه فتعين جعله خبراً، لكونه هو المجهول عنده من وجه بخلاف الصورة الآتية، وهذا بعينه ما في الكشاف، إلا أنّ المعتر ضومن سلم اعتراضه لم يهتد لتطبيقه، ثم قال الشيخ: وإذا قيل: المنطلق زيد فالمعنى على أنك رأيت إنسانا منطلقا بالبعد منك، فلم يثبت ولم تعلم أزيد هو أم عمرو فقال: لك صاحبك المنطلق زيد أي هذا الشخصى الذي تراه من بعد هو زيد، وقد تشاهد لابس ديباج وقد كنت تعرفه فنسيته، فيقال لك اللابس الديباج صاحبك الذي كان معك في وقت كذا، فيكون الغرض إثبات أنه ذلك الشخص المعهود لا إثبات لبس الديباج لأنه شاهده يعني أنك لما شاهدت انطلاقه ولبسه الديباج كان اللابس والمنطلق محسوسا عندك لا تردّد فيه، ولا تطلبه وإنما تطلب تشخيصه، وتعيينه فتعين جعله مبتدأ وزيدا خبراً بخلاف ما مرّ من عكسه لأنّ زيدا محسور أو بمنزلته، والمنطلق لم تعرفه إلا بأنّ ثمة شخصاً صدر منه انطلاق، فأنت لم تشاهده ولم يعينه المخبر عندك، فلذا جعل خبرا فقد وافق أوّل كلامه آخره من غير شبهة، وهو بعينه ما في الكشاف فقد انكشف لك المراد بما لا مزيد عليه، وتبين أنّ ما ارتضاه الشريف المرتضى، وادّعى أنه لا يتزلزل فيه من له رسوخ قدم في علم المعاني غنيّ عن البيان الهادم لما أسسه من البنيان لما عرفت من أنّ المراد أنك شاهدت شخصا منطلقا، ولم
تعرفه بعيته وقلت من هذا المنطلق تعين أن يقال لك المنطلق زيد سواء كان من مبتدأ أو خبراً، فإنك إذا لم تشاهده نأخبرت بأنّ شخصاً من قوم معلومين لك بأعيانهم انطلق فقلت من المنطلق يقال: زيد المنطلق على القولين في باب من لأنّ مبنى الخلاف أمر آخر غير ما توهمو.، وسيأتي إن شاء الله تعالى تحقيق هذه المطابقة في محله، فإنه هنا جملة معترضة لا محل لها لم يتعرّض لها شراح الكشاف، وهذا من الحور المقصورات في الخيام التي من بها الملك العلام. قوله: (أو الإشارة إلى ما يعرفه كل أحد إلخ) في الكشاف أو على أنهم الذين إن حصلت صفة المتقين وتحققوا ما هم، وتصوّروا بصورتهم الحقيقية فهم هم لا يعدون تلك الحقيقة، كما تقول لصاحبك هل عرفت الأسد وما جبل عليه من فرط الإقدام إنّ زيدا هو هو اهـ. وهذا بعينه ما ذكره الشيخ في دلائل الإعجاز فقال اعلم أن للخبر المعرّف بالألف واللام معنى غير ما ذكرت لك وله مسلك دقيق، ولمحة كالسحر يكون التأمّل عندها، كما يقال تعرف دينك وذلك قولك هو البطل الحامي، وهو المتقى المرتجى وأنت لا تقصد شيثا مما تقدّم، فلست تشير إلى معنى قد علم المخاطب أنه كان ولم يعلم ممن كان كما مض في قولك زيد هو المنطلق، ولا تريد أن تقصر معنى عليه على معنى أنه لم يحصل لغيره على الكمال، كما كان في قولك هو الشجاع ولا تقول ظاهر أنه بهذه الصفة كما كان في قوله، ووالدك العبد ولكنك تريد أن تقول لصاحبك هل سمعت بالبطل الحامي، وهل حصل معنى هذه الصفة، وكيف ينبغي أن يكون الرجل حتى يستحق أن يقال ذلك له وفيه، فإن كنت قلته علما وتصوّرته حق تصوّره فعليك صاحبك، واشدد به يدك فهو ضالتك وعنده بغيتك، وطريقه طريق قولك هل سمعت بالأسد وهل تعرف ما هو، فإن كنت تعرفه فزيد هو هو بعينه اهـ المقصود منه، وهذه قصة في شرحها طول، وقد وقع النزاع في مراد الشيخ بين الفاضلين فقال المحقق: السعده نجوّر الله مرقده أطلق الناظرون في الكشاف على أنه يريد بذلك تعريف الجنس، وتعيين الحقيقة المسه ى بالعهد الذهني، ثم منهم من زعم أنه لقصر المبتدأ على الخبر نظرا إلى قوله لا يعدون تلك الحقيقة على عكس ما تحقق، وتقرّر في مثل زيد الأمير وعمرو الشجاع، ومنهم من ذهب إلى أنه لقصر المسند إليه قصر قلب وعلى تقدير العهد قصر إفراد وينبغي أن تعلم أنه إشارة إلى معنى آخر لتعريف الجنس، وقال قدس سرّه:(1/253)
يرد عليه في ادّعائه أنّ مراد الثيخ معنى غير تعريف الجنس أز، اللام حينئذ لتعريف الجنس المسمى بتعيين الحقيقة، والمعرّف بلام الجنس قد يقصد به تارة حصره في المبتدأ إمّا حقيقة أو ادّعاء نحو زيد الأمير إذا انحصرت الإمارة فيه أو كان كاملاً فيها كأنه قيل زيد كل الأمير، وقد يقصد به أخرى أنّ المبتدأ هو عين ذاث الجنس ومتحد به، فكأنه تجسم منه لا أنّ ذلك الجنس مفهوم مغاير للمبتدأ منحصر فيه على أحد الوجهين، فهذا معنى آخر للخبر المعرّف بلام الجنس غير الحصر وهو مراد الشيخ بالعبارة المذكورة، وقد وضحه وكثر أمثلته، وقال: هذا كله على معنى الوهم والتقدير وأن
يتصوّر في خاطره شيئاً لم يره، ولم يعلمه ثم يجريه مجرى ما علمه، وإنما قال ذلك لأنّ دعوى كون زيد عين حقيقة الأسدية مثلاً إنما تتأتى إذا صوّرت تلك الحقيقة في الوهم بصورة تناسب تلك الدعوى، فإنها لو تركت على حالها لم يكن ادّعاء كون زيد متحدا بها مستحسناً فتبين أنّ تعريف الخبر بهذا المعنى تعريف جنسي اعتبر معه تصوّر الحقيقة بصورة وهمية توصلاَ إلى دعوى الاقحاد فهو من فروع الجنس كما يحمل على الكمال كيف لا، وتعريف اللام منحصر في العهد والجنس.
(فإن قلت) ظهور الاتصاف بمض صمون الخبر ليس شيثا منهما.
(قك) هو راجع إلى الجنس أيضا كأنه بعدما جعل خبرا عرّفه باللام إشارة إلى حضور الجنس في الذهن من حيث أنه صفة للمخبر عته، وهذا معنى ظهور اتصافه به واختار المصئف رحمه الله في المفلحين دعوى الاتحاد على حصر الجنس لأنه ألطف وأبلغ. وقوله: (لا يعدون إلخ) تأكيد للاتحاد لا بيان لحصر المبتدأ في الخبر، كما توهم فإنه مخالف للقاعدة المقرّرة من أنّ تعريف الخبر الجنسي يفيد قصره على المبتدأ لا عكسه، وان أشعر به كلام الفائق في تفسير، فإنّ الله هو الدهر بأنّ الله هو الجالب للحوادث لا غيره الجالب (فإن قيل) إن ادّعى أنّ المتقين عين حقيقة المفلحين لم يتصوّر هناك حصر أصلاً، فكيف يستعمل فيه الفصل (قلنا) يجرّد حينئذ لتمييز الخبر عن النعت وتأكيد الحكم معاً أو لأحدهما، وكذا الكرم هو التقوى أي لا كرم إلا التقوى.
(أقول) هذا المقام قد انسحبت فيه أذيال الكلام، ونم يكشف عن وجوه مخدراته اللثام،
فإنّ السعد لما خالف الشراح وادعى أنه نوع آخر من التعريف لم يعينه، ولم يبين أنه أيّ معنى هو من معاني أل المحصورة في العربية، والشريف لما قال إنه لتعريف الجنس إلاً أنه حصر فيه لم يعرج على مراد الشيخ، فإنه بالغ في وصفه بالدقة وقال: إنه سن عجيب الشأن له مكان من الفخامة والنبل، وهو من سحر البيان الذي تقصر العبارة عن تأدية حقه ومجرّد تعريف الجنس معنى مكشوف ينادي عليه في الطرق ادخل السوق واشتر اللحم، وهو أوّل ما يشترى وأيضا تمثيلهم بهل عرفت الأسد خفاؤه أشد وأشدّ، وهذا مما لم يظهر لي حاله، ولم يتضح مع إمعان النظر إشكاله.
(فاعلم) أنّ الثيخ نوّر الله مرقده ذكر قبيله أنّ الخبر المعرّف بلام الجنس فيه ثلاثة وجوه.
(الأؤل) أن يقصر الجنس على المخبر عنه لقصد المبالغة نحو زيد هو الجواد أي الكامل
في الجود إلاً أنك تخرجه في صورة توهم أنه لا يوجد إلاً فيه لعدم الاعتداد بغيره.
(الثاني) أن يقصر جنس المعنى الذي تفيده بالخبر على المخبر عنه، لا على عدم الاعتداد بغيره بل على دعوى أنه لا يوجد إلاً منه ولا يكون إلاً إذا قيد بشيء يخصصه، ويجعله
في حكم نوع برأسه نحو هو الوفيّ حين لا تظن نفس بنفس خيرا.
(الثالث) أن يقصد قصره في جنسه لا على ما ذكر بل على وجه آخر جاء في قول الخنساء:
إذا قبح البكاء على قتيل ~ فإنّ بركاءك الحس الجميل
أرادت أنه قد قرّ في جنس ما حسته الحس الظاهر الذي لا ينكر ولا يشك فيه شاك، ثم
لما فصل هذه الأقسام قال: للخبر المعرّف باللام معنى آخر غير ما ذكرت لك، وله مسلك دقيق إلخ وقد مرّ بعضه فوص فه بالحسن والدقة الزائدة وصرّح بأنه غير الوجوه الثلاثة السابقة، والمغايرة لها يحتملى أنها في النوع فلا يكون من تعريف الجنس، وهو ما ذهب إليه الفاضل التفتازاني، وهو السابق إلى الفهم، ويحتمل المغايرة في المفاد والوصف أعني الحصر، لأن الأقسام الثلاثة منها ما يفيده عنده، وهذا يغايرها بعدم إفادته وهذا ما ارتضاه الشريف المرتضى وفي كلامه ما يؤيده بحسب الظاهر، كقوله: ولا تريد أن تقصر معنى عليه(1/254)
ونحوه مما يظهر لمن أحاط به خبراً وهذا منشأ الخلاف فيه، فأمّا تصفيته من غش الخفاء وكدر الشقاق فالحق أن يقال إنّ الشيخ أراد بالتعريف هنا الحقيقة والماهية، وإذا جعل فرد من أفرادها عينها كان ذلك ادّعاء وتقديراً، ولما كان هذا أظهر في زيد هو الأسد أتى به تنويرا له لأنّ اتحاد المباين إذا صح وأفاد المبالغة، فهذا أظهر وجعل الفرد عين ماهية وصفه يقتضي تحقق اتصافه به، وأنه جدير به ومستحق له وو-4 الدقة المحتاجة إلى زيادة التأمّل إنّ أهل المعقول، وان ذهب كثير منهم إلى وجود الماهية في ضمن أفرادها إلاً أن جعلها عين فرد فيه من المبالغة ما لا يخفى لجعلها محسوسة ث اهدة، ولهذا صار ضربا من السحر ولام الطبيعة والحقيقة من أقسام الجنس لافحصارها عند الجمهور في العهد والجنس، كما أشار إليه قدس سرّه إلا أنه بقي ههنا أمران: الأوّل إنّ الثارح الفاضل لم يصرّح فر، كتبه بأنها على هذا ليست من الجنس، رأسا عند الشيخ بل قال: إنه تعريف آخر للجنس عنده، فلك أن تقول مراده بقوله آخر أنه مغاير لأفراد التعريف الجنسي الذي قدّمه، وهو الأقسام الثلاثة التي قرّرناها فمآله إلى ما ذكره الشريف فلا وجه لتشنيعه عليه فهوكما قيل:
ولم تزل قلة الإنصاف قاطعة ~ بين الرجال ولوكانوا ذوي رحم
الثاني أنّ في كلام الشيخ نظراً ظاهراً، فإنّ تشبيهه بالموصول يقتضي أنّ ما نحن فيه تعريف عهديّ، وقد أشار في حواشي المطوّل إلى دفعه، ومن ذهب إلى القصر تمسك بما يقتضيه من قوله لا حقيقة لهم وراء ذلك وقوله (لا يعدون) تلك الحقيقة، وقد اعترف الشريف في حواشي المطوّل بأنها موهمة لذلك، وعبارة الدلائل لما فيها من التصريح بعدم القصر فيه تدفع ما ذكر وأمّ كلام الكشاف فليس فيها ما يمنعه، ولذا قيل لا وجه لتخطئة من ذهب إليه من
شراح الكشاف، وقد قيل إنه لما شبه معنى التعريف بقولك هل سمعت بالأسد وهل تعرف حقيقته فزيد هو هو بعينه وهذا لم يقصد فيه الحصر أصلاً علم إن ما توهمه عبارته ليس بمراد أيضاً وبما قرّرناه لك علم سقوط ما قيل إنّ قول الشيخ لا حقيقة له وراء ذلك لا يوهم القصر وإنما معناه اتحاد الحقيقة معه بخلاف قول الزمخشريّ: لا يعدون تلك الحقيقة إذ معناه أنهم غير متجاوزين لها وهو معنى القصرة وقد بقي هنا أمور مفصلة في حواشي كتب المعاني من أرادها فليرجع إليها. قوله:) من حقيقة المفلحين) إشارة إلى أنها على هذا لام الطبيعة والحقيقة، كما قرّرناه آنفا. وقوله: (وخصوصياثهم) عطفه على الحقيقة عطف تفسير إشارة إلى أنّ المراد بالحقيقة المفهوم المختصى بهؤلاء لا ما علمه أهل المعقول وخصوصيات جمع خصوصية من خصه بكذا إذا أفرده به فاختص أي انفرد.
قال الجوهرفي خضه بالشيء خصوصاً وخصوصية بالضم والفتح والفتح أفصح.
واعلم أنّ في الخصوصية وأمثالها طريقين إحداهما أنها مصدر وضع هكذا كالطفولية والرجولية وهو كثير فيئ المصادر المأخوذة من أسماء الأجناس فياؤه كياء كرسيّ كما في التسهيل والارتثاف الثانية أن الفعولة بالضم كثرت في المصادر المأخوذة من الجوامد كالأبوّة والبنوّة والفعولة بالفتح نادرة فيها، فلما ضعفت في باب المصدرية ألحق بها ياء المصدرية تأكيدا وايذانا بأنها جارية مجرى أسماء الأجناس في قلة تصرفها وبناء الأفعال منها كما قاله المرزوقي في شرح الفصيح وعليهما فالتاء للتأنيث اللفظي كتاء أبوّة ولا بد منها على الطريقة الثانية لأنها تلزم المصدر الذي بواسطة الياء فيقال عالمية لا عالمي كما نص عليه الرضي في بحث الحروف المشبهة بالفعل والمرأوقي في شرحه للفصيح أو هي تاء النقل إلى المصدرية، فلا وجه لما قيل من أنها للمبالغة، فإن قلت الضم هو اكثر فيه لشيوعه في نحو رجولية وطفولية وعبودية وغيرها، فكيف يكون الفتح أفصح.
قلت: قال المرزوقي في شرح الفصيح الضم في هذه أكثر وحكى الفتح في النصوصية والخصرصية والحرورية بمعنى الحرية لكن الفتح هو المستفصح في هذه الأحرف الثلاثة: ولا يمتنع أن يكون الأقيس أقل استعمالاً فلا يستفصح اهـ فقد علمت أنّ فتح خصوصية أفصح سماعا، ومن ردّ على الجوهريّ فقد وهم، ثم إنّ ما ذكره المصنف رحمه الله تلخيص لما في الكشاف من غير مخالفة، ومن الناس من ظن أنه مخالف، وأنه إشارة إلى أنها لتعريف الجنس(1/255)
الشامل للإفراد وأنه مفيد للقصر عنده، وقيل إنه يحتمله ويحتمل ما ذهب إليه العلامة وقيل إنه أراد أنها للاستغراق والذي غرّة لفظ الخصوصيات، وقد مرّ بيانها حتى قيل إنها هنا ليس لها وجه ظاهر (واعلم) أنهم أطبقوا على أنّ الألف واللام حرف تعريف هنا مع أن الداخلة على اسم الفاعل موصولة عند الجمهور، وهذا إذا لم تكن للعهد، أمّا إذا كانت له كما في قولك جاءني ضارب، فأكرمت الضارب فلا كلام في حرفيتها، ولا خلاف فيه كما في أكثر نسخ
الرضي، ولا يسمع إنكاره كما في بعض شروح المغني فكأنه لأنّ المراد الثبات على الفلاح، فهو حينثذ مما غلب عليه الاسمية أو ألحق بالصفة المشبهة، وتخريجه على مذهب المازتي بعيد، وما ذكر صرح به المبرد في الكامل كما بيناه في نكت المغني. قوله: (تنبيه تأمّل إلخ) التنبيه مصدر نبهه من نومه إذا أيقظه، وهو في اصطلاح المصنفين ترجمة كالمسئلة لما يعلم مما قبله لا بطريق التصريح أو لما يدرك بأدنى إشارة والتفات إليه حتى كأنه مما غفل عنه، وهو إمّا معرب خبر مبتدأ مقدّر ونحوه أو ساكن موقوف غير معرب كالأسماء المعدودة لأنه لم يقصد تركيبه، وتاقل أمر من التأمّل يقال تأمّلت الشيء إذا تدبرته، وهو إعادتك النظر فيه مرّة بعد أخرى حتى تعرفه وقوله كيف نبه كيف في الأصل للاستفهام عن الأحوال، فيقال: كيف زيد أي على أيّ حال، وقال الأستاذ ابن كمال قد تكون كيف أسما للحال من غير معنى السؤال فتجرّد لجزء معناها وهو المراد هنا، ومنه ما حكاه قطرب عن بعض العرب انظر إلى كيف تصنع أي إلى حال صنعك اهـ. ويتجوّز بها أيضاً عن التعجب كقوله {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ} [البقرة: 28] وقد يقال إنه المراد هنا أي ما أحسن ما نبه فتكون معمولة لنبه مقدّمة عليه باقية على صدارتها، وقد جوّز بعض النحاة في أمثاله خروجه عن الصدارة، فهو حينئذ معمول لتأمّل ولذا قيل معناه تأمّل كيفية تنبيه الله تعالى، فانسلخ عنها معنى الاستفهام للظرفية، أو هي مفعول به كما وقعت مضافا إليها في قول البخاري رحمه الله باب كيف كان بدء الوحي، وعبارة الكشاف، فانظر كيف فقال قدس سرّه: لما كان النظر وسيلة إلى العلم كان متضمنا لمعناه فجاز إيقاعه على الإستفهام، وكذا التأمّل هنا أنه معلق هنا كما يعلق العلم إلا أنه تسمح في العبارة، وقوله بنيل متعلق باختصاص، من وجوه متعلق بنيل، وشتى بمعنى متفرّقة مفرد أو جمع شتيت والوجوه أربعة: الأول منها متعلق بالجملتين والباقي مختص بالجملة الثانية، وقيل كلها متعلقة بالجملة الثانية، ويصح في قوله بناء الجرّ والرفع والنصب، وافادة اسم الإشارة للتعليل بدخول الصفات فيه كما مرّ وبناء الخبر على الصفة ونحوها قد يشعر بالعلية، والإيجاز بدلالتها على ما فصل قبلها ويفيد أيضاً الاختصاص وقوله وتكريره معطوف على بناء، ويجوز في هذا أن يكون مشتركا أيضاً لأنّ التكرير يكون بمعنى مجموع الذكرين أيضاً كما يكون للثاني والأوّل وقد سبق تفصيله، وتعريف الخبر الدال على الحصر أو المبالغة بجعلهم عين الحقيقة، وتوسيط الفصل الدال على الحصر أو التأكيد. قوله: (لإظهار قدرهم) تعليل للتعريف والتوسيط، وقدر بسكون الدال وهو اكثر وتفتح، وهو الموازن لأثرهم الواقع في أكثر النسخ وفي بعضها آثارهم بالجمع والمراد بالقدر شرفهم وأصله مقدار الشيء ومبلغه قال في المصباح: قدر الشيء ساكن الدال والفتح لغة سبلغه يقا اط: هذا قدر هذا وقدره أي مماثله ويقال ما له عندي قدر، ولا قدر أي حرمة ووقار اهـ والاقتفاء الإتباع والاقتداء. وقوله: (في اقتفاء) متعلق
بالترغيب، أو بقوله نبه وما قبل هذا بالنسبة إليهم أنفسهم وهذا بالنسبة إلى غيرهم، وبقي هنا أمور أخر تعلم مما مرّ كالتمكن واضافة التشريف والترغيب بذكر ما يرغب فيه من الهدى والظفر. قوله: (وقد تشبث به الوعيدية إلخ) أي تمسكوا واستدلوا بما في هذه الآية كما سيأتي بيانه إلاً أنه تمسك ضعيف جدا، ولذا عبر بالتشبث بالمثناة والشين المعجمة والموحدة والثاء المثلثة وحقيقه التعلق مع ضعف، ولذا قيل للعنكبوت شبث فهو استعارة يشير إلى أنه أوهن من بيت العنكبوت، وضمير به لما ذكر من الآيات أو لقوله {أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} وقيل للاختصاص، وفيل للإخباو بنيل ما ذكر، والوعيدية نسبة إلى الوعيد لتمسكهم بظاهر آيات الوعيد، والأحاديث الواردة فيه على خلود الفساق في النار، وهذه العبارة في غاية الإيجاز لدلالتها على سبب التسمية، وشمولها للمعتزلة والخوارج(1/256)
ومن قصرها على الأوّل فقد قصر، وتقريره كما في التفسير الكبير أنّ المفلح من اتصف بهذه الصفات فغير. ليس بمفلح فيخلد في النار أو يحرم النعيم، وترتب الحكم على الوصف، وما في معناه يشعر بعليته للحكم فعلة الفلاح الإيمان وفعل الصلاة والزكاة فمن أخل بشيء منها لم يفلح، والقبلة بالكسر في الأصل اسم للحالة التي عليها المقابل كالجلسة والقعدة، وفي التعارف صار اسماً للمكان المقابل المتوجه إليه للصلاة وإذا أطلق يراد به الكعبة كقوله تعالى {فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا} [البقرة: 144] وأهل القبلة كناية عن المسلمين، وهو المراد. قوله: (وردّ بأنّ المراد إلخ) الرادّ هو الإمام في تفسيره يعني أنّ المراد بالمفلحين هنا الكاملون في الفلاح والنجاة، فمن عداهم ليس بكاملا لا غير مفلح، وكذا ما ذكر من العلية علة لكماله لا لأصله، فلا يرد عليه شيء وقيل نفي السبب الواحد لا يقتضي نفي المسبب لجواز أن يكون له سبب آخر كعفو الله هنا، وما قيل من أنّ الأحسن في الجواب أنّ المراد بالمتقين المجتنبون للشرك ليدخل العاصي فيهم، فإن قلت كيف جاز أن يسمى العاصي مفلحاً قلت: كما جاز أن يكون مصطفى في قوله تعالى
{ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا} [فاطر: 32] إ أخ اهـ فلا يخفى ما فيه، فإنه ليس إشارة إلى المتقين فقط، ولذا تركه الشريف وغيره، وكون الصفة مادحة لا يجدي ولذا قيل إنه جواب جدليّ، وفي الكشف لا استدلال للمعتزلة فيه على خلود الفساق، كما عرّض به المصنف لأنّ الفلاح عدم الدخول، أو لأنّ انتفاء كمال الفلاح لا يقتضي انتفاءه مطلقاً على الوجهين في اللام اهـ. قوله: (لا عدم الفلاح لهم رأساً) أي أصلاً لاستلزام الرأس لوجود الحيوان فإذا أنتفت انتفى وهو منصوب بنزع الخافض، وأصله لا عدمه برأسه أي بجملته. قوله: (خاصة عباده وخالصة أوليائه إلخ) الخاصة خلاف العامة والتاء للتأكيد، وعن الكسائيّ الخاص والخاصة واحد كذا في المصباح فخاصة العباد أكرمهم عند الله والخالص في الأصل كالصافي.
وقال الراغب: الخالص في الأصل ما زال عنه شوبه بعد أن كان فيه، والصافي قد يقال
لما لا شوب فيه، ويقال: هذا خالص وخالصة نحو واهبة وواقية اهـ. فالتاء فيه للمبالغة، وخالصة أوليائه من اشتد إخلاصه لله من صالح عباده المتقين وفي نسخة خلاصة وهو قريب منه، والمراد بصفاتهم ما تضمنته الآية من قوله المتقين إلى قوله أولئك وأهله أي جعله أهلاَ أي مستحقاً من قولهم هو أهل لكذا أي خليق وجدير، والهدى في الدنيا والفلاح في العقبى لأنهم السعداء في الدارين، وهذا معنى قوله {أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى} إلخ. قوله: (عقبهم بأضدادهم إلخ) جواب لما يقال عقبه تعقيباً إذا جاء بعده من العقب وهو مؤخر القدم، والأضداد جمع ضد والضدان المتنافيان اللذان تحت جنس واحد كالبياض والسواد، فإن لم يندرجا تحت جنس كالحلاوة والحركة لم يكونا متضادّين قال الراغب: الضد أحد المتقابلين المختلفين اللذين كل واحد منهما قبالة الآخر ولا يجتمعان في شيء واحد في وقت واحد، وذلك أربعة أشياء الضدّان كالبياض والسواد والمتضايفان كالضعف والنصف، والوجود والعدم كالبصر والعمى، والإيجاب والسلب، وكثير من المتكلمين، وأهل اللغة يجعلونها كلها متضادّة إلى آخر ما فصله، والعتاة جمع عات من عتا إذا استكبر وجاوز الحد والمردة كفسقة جمع مارد، وقد فسروه بالعاتي والظاهر أن يفسر بما هو شديد العتوّ حتى يكون من الترقي. وقوله الذين لا ينفعهم إلخ بيان لما به التضاد لأنّ الأوّلين على هدى مؤمنين بالآيات، وهؤلاء بخلافه واجمال لحال هؤلاء توطئة لما بعده مع ما فيه من الإشارة إلى ارتباطه بم قبله حتى جاء على عقبه من غير فاصل فإنه لا بد منه، وان لم يكن مصححاً للعطف، والنذو بضمتين جمع نذير. قوله: (ولم يعطف قصتهم إلخ) في الكشاف ليس وزان ما هنا وزان نحو قوله {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} [الانفطار: 13] لأنّ الأولى فيما نحن فيه مسوقة لذكر الكتاب وأنه هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ، وسيقت الثانية لأنّ الكفار من صفتهم كيت وكيت فبين الجملتين تباين في الغرض والأسلوب، وهما على حد لا مجال فيه للعاطف فيه، وهذا إذا كان الذين يؤمنون جاريا على المتقين، وكذا إذا كان مبتدأ فالاستئناف مبنيّ على تقدير سؤال، فذلك إدراج له في حكم المتقين وجعله تابعا له في المعنى، وإن كان مبتدأ في اللفظ، فهو في الحقيقة كالجاري عليه، وذكر السكاكي(1/257)
في الفصل والوصل فيما ترك عطفه للانقطاع، وإن كان بينهما جامع غير ملتفت إليه لبعد المقام عنه فقال من هذا القبيل قطع إنّ الذين كفروا عما قبله، ليكون ما قبله حديثا عن القرآن، وأنّ من شأنه كيت وكيت وهذا حديث عن الكفار وتصميمهم في كفرهم، والفصل لازم للانقطاع فالعطف في مثله برز في معرض التوخي للجمع بين الضث والنون، وقال قدس سرّه: تباينهما في الفرض لأنّ المقصود من الجملة الأولى بيان اتصاف الكتاب بغاية الكمال في الهداية تقريرا لكونه يقيناً لا مجال للشك فيه، وتحقيقا لكماله في
جنس المتحدي لإعجازه، ومن الجملة الثانية بيان اتصاف الكفار بالإصرار على الكفر والضلال بحيث لا يجدي فيهم الإنذار، وفي الأسلوب وهو الفن والطريق لأنّ طريق الأداء في الأوّل الحكم على الكتاب مع حذفه لفظاً بما جعل المتقين قيدا له، وفي الثانية أن يحكم على الكفار، ضدا مع ذكرهم لفظاً لإصرار لا إقلاع معه أصلاَ مصدرا بأنّ المؤذنة بالانقطاع والشروع في نوع آخر من الكلام، لا يقال هما مسوقتان لبيان حال الكتاب وأنه هدى لطائفة، وليس هدى لضدهم فيحسن العطف لأنا نقول إنّ الثانية سيقت لبيان إصرار الكفار وأنّ وجود الإنذار وعدمه سواء عليهم، وأمّا كون الكتاب لا يفيدهم هدى فمفهوم تبعا، ولو كان مقصودا أيضا لم يحسن العطف لأنّ الانتفاع به صفة كمال له يؤيد ما سبق من تفخيم شأنه، واعلاء مكانه بخلاف عدم الانتفاع، وعلى الاستئناف وان انقطع عنه ظاهراً فهو مرتبط به ارتباطا معنوش صار به متصلاَ بما قبله اتصال التابع بمتبوعه لعدم استقلاله لأنه مبنيّ على سؤال مبنيّ على ما نثا منه، فهو من مستتبعاته، فإذا لم يصلح المنشأ وهو هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ، لأن يعطف عليه إنّ الذين كفروا لم يصلح لذلك ما هو من توابعه، وأمّا على الوجه الأخير، وهو جعل {والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ} مبتدأ خبره {أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى} فهو وان كان جملة مستقلة معطوفة على ما قبلها، فلا مانع من أن يعطف عليها جملة وصف الكفار كما في الآيات اللاحقة لكنه وجه مرجوح لم يلتفت إليه وبنى الكلام على ما ارتضاد، وربما يستدل بهذا على ضحفه، وأيضا قد عرفت أنّ هذه الجملة محمولة على التعريض، ومعناها يناسب وصف الكتاب بالكمال، ولذا جاز عطفها على سابقتها، ومن الظاهر أنّ جملة إنّ الذين كفروا لا مدخل لها في ذلك، ومنهم من زعم أنّ خلاصة جواب هذا الكتاب أن الذين يؤمنون بالغيب إلخ استئناف جواب سؤال وأنّ قوله {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} لا يصلح للجوابية، فلذا امتنع العطف، ورذ بأنه مغار لكلام المصئف وغير مستقيم فإنه إذا قيل ما بال المتقين مخصوصين بكون الكتاب هدى لهم حسن أن يقال إنّ الموصوفين بتلك الصفات أحقاء بذلك، والكفار المصرّون لا ينتفعون به بل يستوي عليهم وجوده وعدمه، فيكون هذا المعطوف مؤكدا لاختصاصه بالمتقين عن غيرهم وتوهم جماعة أنّ ترك العاطف في الآية لأنه استئناف آخر كأنه قيل ثانيا: ما بال غيرهم لم يهتدوا به فأجيب بأنهم لأعراضهم، وزوال استعدادهم لم ينجع فيهم دعوة الكتاب إلى الإيمان، وليس بشيء لأنه بعد ما تقرر أنّ تلك الأوصاف المختصة هي للمقتضية لم يبق لهذا السؤال وجه، وتخيل آخرون أنّ تركه لغاية الاتصال والاتحاد وهو فاسد جداً لأنّ شرح تمرّد الكفار لا يؤكد كون الكتاب كاملاً في الهداية هذا زبدة ما في الشروح وكتب المعاني.
(أقول) ما ذكره قدس سرّه: من أنه على الوجه الثالث يصح العطف لا وجه له، ولا
معنى للتردّد فيما نحن فيه من كمال الانقطاع، لأنه لا بد فيه من قصد التعريض كما مرّ وكفى به مانعا، فاستدلاله به على ضعفه صلح لم يرضه الخصمان على أنه لو لم يقصد التعريض لم يصح أيضا لأنّ قوله {هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} مبين لما اتصف به الكتاب، ومقرّر لعلوّ شأنه وهذه الجملة إمّ معطوفة عليها أو قيد لها وحال منها فكيف يعطف عليها ما يباينها أتم مباينة، وقد جزم به في شرحه للمفتاح فقال: فإن قلت كيف يصح هذا العطف مع أنّ الجملة الأولى بيان حال الكتاب والثانية ليست كذلك قلت: من حيث إنّ المراد بالثانية التعريض المذكور، فكأنه قيل: هو هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ، وليس هدى لليهود فالثانية في حكم صفة الكتاب وقيل: الواو للحال وليس بظاهر، وإذا جعلت هذه الجملة من مستتبعات وصف الكتاب امتنع عطف {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ} على ما قبله في هذا الوجه أيضا، كما في الوجهين السابقين لا يقال. إذا كان(1/258)
تعريضا بكفار أهل الكتاب يكون التشنيع على الكفار مناسبا لأنا نقول المقصود حينثذ التعريض بأنهم لما لم يؤمنوا بما أنزل عليه لم يصح إيمانهم، وهذا غير مناسب لما بعده، وأمّا قوله تعالى {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَارًا} [الإسراء: 82] فشيء آخر وهو تصريح لا تعريض فتدبر (ثم إنه بقي ههنا أمر لا بدّ من التعرّض له) وهو إنّ المباينة في أسلوب الأداء وطريق التعبير السابق تقريره جعلها الزمخشريّ مقتضية لترك العطف، ولم ينوّره أحد منهم ووجهه أنّ قوله {إن الذين كفروا} إلخ يتضمن عدم انتفاع هؤلاء الكفار بالآيات والنذر، وهو في قوّة أن يقال إنهم لم يهتدوا بهدى هذا الكتاب وهذه جهة جامعة لو لوحظت جاز العطف كما تقول إنّ المتقين اهتدوا بنور الكتاب وانّ الكافرين هاموا في مهامة العقاب إلاً أنه لم يلتفت لهذا، وأنما قفصد أن ينعي حالهم ويشنع عليهم، فنزه قدر التنزيل عن النظر إلى تعاميهم عنه، فإنه ذنب عقابه فيهم، وقد جعل العلامة مباينة الأسلوب كناية عن عدم الالتفات لهذه الجهة الجامعة واليه أشار السكاكيّ بقوله، وان كان بينهما جامع غير ملتفت إليه لبعد المقام عنه فلذ درّه ما أبعد مرماه وأحسن مغزاه، فمباينة الأسلوب متممة لمباينة الغرض، ولذا أدرجها المصنف فيها ولو صرّح بها كان أحسن، فما قيل من أنه لم يذكر التباين بي الأسلوب كما في الكشاف لأنّ التباين في الغرض هو الأصل في الفصل والتباين في الأسلوب من توابعه، ولوازمه كما لا يخفى على المتأمّل، ولهذا فرع صاحب الكشاف التباين في الغرض والأسلوب معاً على ما يوجب التباين في الغرض فقط، وهذا مما لم يتعرّضوا له مع لزومه ليس مما يشفي الغليل، وإنما سكت عن تغاير الأسلوب لظهوره، وقيل إنما لم يتعرّض له المصنف لأنه نظر إلى أنّ العمدة في وصل الجملتين بالواو، وهو وجود الجامع المعنوي بينهما وتناسب الجملتين في الغرض جامع معنويّ معتد به يحسن به عطف الثانية على الأولى بخلاف الأسلوب، فإنه أمر لفظيّ وكثيراً ما يغيرون أسلوب المعطوف عن سنن المعطوف عليه لنكتة داعية إليه، ولما كان التباين في الأسلوب غير ضارّ في العطف إذا كان بينهما جامع مصحح للعطف لم يجعل من أسلوب القطع وهذا كله غفلة عما حققنا، فاشدد يدك عليه ولا تنظر لما بين يديه. قوله: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} [الانفطار: 13] سيأتي تفسيرها واتحاد الأسلوب فيها ظاهر وأما الجامع، فلأنها سيقت فيها الجملة الأولى
لبيان ثواب الأخيار والثانية لذكر جزاء الأشرار مع ما فيها من الترصيع والتقابل، لتضادّ كل من طرفي الجملتين، وقد عد أهل المعاني التضادّ وشبهه جامعاً يقتضي العطف، لأنّ الوهم ينزل المتضادين منزلة المتضايفين، فيجتهد في الجمع بينهما في الذهن حتى قالوا: إنّ الضد أترب خطورا بالبال مع الضد من الأمثال. قوله: (وإنّ من الحروف التي إلخ) يعني أنها شابهت الفعل الذي هو أصل العوامل فعملت لشبهها له مادّة وهيئة ومدخولاً ومعنى وعمله هو الرفع والنصب، إلاً أنه قدم من معمولاته المرفوع لأنه عمدة وأخر المنصوب لأنه فضلة على مقتضى الأصل وعكس فيها تنبيها على فرعيتها وحطاً لرتبتها وعدد الحروف ثلاثة، وهي أقل ما ينبني عليه الفعل وبنى على الفتح آخرها، ولزمت الأسماء ولها معان مثله كالتأكيد والاستدراك، وهو ظاهر. وقوله: (والمتعذي) بالنصب معطوف على الفعل أي وشابهت الفعل المتعدي فيما ذكر، وما قبله في مشابهة الفعل مطلقا، والإيذان الإعلام، وضمير بأنه راجع إلى الحرف المعلوم مما قبله ودخيل فيه أي ليس بأصيل في العمل لأنه عمل لمشابهته للفعل يقال هو دخيل في بني فلان إذا انتسب إليهم ولم يكن منهم، وقال: حروف دون أحرف لأنه المشهور في جمع حرف بمعنى كلمة أو جزئها وأحرف مشهورة في الحرف بمعنى اللغة كما في الحديث " أنزل القرآن على سبعة أحرف ") 1) وهو وان كان جمع كثرة وهي ستة إلاً أنه بعد دخول الألف واللام بطلت جمعيته فجاز استعماله في القليل والكثير. قوله: (كان مرفوعاً بالخبرية إلخ) فيه تسمح لأنّ العامل فيه عند الكوفيين المبتدأ أو الابتداء والباء للسببية واعتمد على شهرته وظهور المراد منه، فاندفع ما قيل عليه من أنه لم يقل أحد إنّ العامل في الخبر الخبرية بل من نحاة الكوفة من قال: العامل في الخبر المبتدأ كما إنّ العامل في المبتدأ الخبر إذ المعنى المقتضي للرفع فيه(1/259)
الخبرية والعامل المبتدأ أو بقاء الخبرية باعتبار كون اسم إنّ كان مبتدأ، وهو الآن كذلك محلاً بناء على أنه لا يشترط فيه بقاء المحرز قال ابن يعيش في شرح المفصل: ذهب الكوفيون إلى أنّ هذه الحروف لم تعمل في الخبر الرفع، وإنما تعمل في الاسم النصب لا غير والخبر مرفوع على حاله كما كان مع المبتدأ، وهو فاسد لأنّ الابتداء قد زال وبه وبالمبتدأ كان يرتفع الخبر فلما زال العامل بطل أن يكون هذا معمولا فيه ومع ذلك فإنا وجدنا كل ما عمل في المبتدأ عمل في خبره نحو كان وأخواتها وظننت وأخواتها لما عملت في المبتدأ عملت في الخبر
وليس فيه تسوية بين الأصل والفرع، لأنه قد حصلت المخالفة بتقديم المنصوب على المرفوع اهـ. فقوله ة وهي أي الخبرية باقية على حالها قبلها، فيعمل ما كان عاملاَ فيها استصحابا له أي إبقاء له مصاحباً له كما كان، لأنّ أصل ما اتصف بشيء أن تبقى صفته، ويعمل بمقتضاها حتى يتحقق ضده، والاستصحاب من جملة الأدلة عند بعضهم كالشافعية ومنهم المصنف، وأدلة الأحكام الفقهية تجري في العربية حتى إنّ بعض المتأخرين دوّن للنحو أصولاً كأصول الفقه، وهذا تقرير لدليل الكوفيين. وقوله: (قضية) بالنصب مفعول له على أنه مصدر لقضى بمعنى حكم أي حكماً للاستصحاب، وابقاء الأثر أو مفعول مطلق أي مقتضية للرفع اقتضاء، ولام الاستصحاب لام التقوية. قوله: (فلا يرفعه الحرف) أي لا يرفع استصحاب ما كان من العمل الأوّل ويزيله لضعفه، فالرفع بمعنى الإزالة، أو لا يرفع الخبر فالرفع بالمعنى المصطلح. وقوله: (بأنّ اقتضاء الخبرية إلخ) جواب عما استدلّ به الكوفيون من أن إنّ ليست هي العاملة، كما مرّ وفي قوله الخبرية ما مرّ من التساهل وتخلفه في خبر كان لنصبه بها، فلو كان رفع الخبر بلا شرط شيء دام ما دامت الخبرية مطلقاً، فلما تخلف علم أنه مشروط بالتجرّد من العوامل اللفظية. وقوله: (وفائدتها إلخ الم يقل معناها لأنه ليس كغيره من المعاني الوضعية المعبر عنها، ولذا توهم بعضهم زيادتها في كلام(1/260)
العرب والتأكيد والتوكيد تقوية الشيء، فلذا عطف عليه قوله وتحقيقها عطفاً تفسيرياً لاً نه من حققت الأمر أحقه إذا تيقنته، أو جعلته ثابتا لازما وفي لغة بني تميم أحققته بالألف، وحققته بالتشديد مبالغة، وفيه إشارة إلى أنّ التوكيد هنا ليس بمعناه المصطلح، وجعلها مؤكدة للنسبة الحكمية دون أحد الطرفين لتأثيرها فيها، واستدلّ عليه بوقوعها في جواب القسم لأنّ القسم، كما قال النحاة جملة إنشائية يؤكد بها جملة أخرى، فئاذا كان الجواب جملة اسمية يصدّر في الإثبات إذا كان القسم غير طلبي بلام مفتوحة أو أن مثقلة أو مخففة، ولا يستغني عنها دون استطالة إلاً شذوذاً. وهذا مراد المصنف، ولا يرد عليه شيء لأنه لم يدع الكلية، وأمّا ذكرها في الجواب فلأنّ السائل متردد فيحسن تأكيد جوابه، كما تقرّر في علم المعاني، والأجوبة جمع جواب، وهو معروف إلا أن ابن الجوزي قال في كتاب غلط العوامّ: قال العسكري: العامّة تقول في جمع الجواب جوابات وأجوبة، وهو خطأ لأنّ الجواب مثل الذهاب لا يجمع، وقد قال سيبويه: الجواب لا يجمع وقولهم جوابات وأجوبة كتبي مولد اهـ 0 ولم أر من ذكره غير صاحب المصباح إلا أنه لم ينقله ومشبه للوثوق به لا يطالب بالنقل. قوله: (وتذكو في معرض الشك (أي تذكر أنّ لتأكيد ما فيه شك للمخاطب أو لغيره، ومعرض بفتح الميم وكسر الراء محل عروض الشك كذا في شرح الشافية، فهو كالمظنة والمئنة وضبطه شراح الفصيح بكسر الميم وفتح الراء كاسم الآلة وأصله
ثوب تلبسه الجارية المعروضة للبيع، فيكون من العرض والأوّل من العروض، وهو على هذا المعنى ما يظهر الشك ويبرزه لمن يريده، وفي لو المصباح يقال: عرفته في معرض كلامه قال بعض العلماء: هو استعارة من المعرض وهو الثوب الذي تجلى فيه الجواري، وكانه قيل في هيئته وزيه وقالبه، وهذا لا يطرد في جميع أساليب الكلام فإنه لا يحسن أن يقال ذلك في موضمع السبّ والشتم بل يقبح أن يستعار ثوب الزينة الذي هو أحسن هيثة للشتم الذي هو أقبح هيئة، فالوجه أنه مقصور من معرا ضواحد المعاريض وهو التورية وأصله الستر اهـ. وهو كلام واه وضثعفه ظاهر لمن له معرفة بالبغة، ولم يذكر الإنكار لأنه وان علم بالطريق الأولى، فشهرته تغني عن ذكره وسيأتي التصريح به في كلام المبرد جوإبا لأبي إسحاق المتفلسف الكندي لما قال له: إني أجد في كلام العرب كما فصله في المفتاح، وقد تذكر أنّ لمعان أخر كما في شرح المفتاح. وقوله: (ويسئلونك) إلخ مثال للأجوبة، ويجوز أن يكون للشك أيضا، ولم يذكر القسم لوضوحه. قوله: (وتعريف الموصول إلخ) كذا في الكشاف، وفي الحواشي الشريفية تعريف الذي وتصاريفه ص من بين الموصولات كتعريف ذي اللام في كونه للعهد تارة،
- وللجنس أخرى سواء جدلت من المعرّف باللام كما ذهبت إليه شرذمة أو لا كما عليه المحققون والوجه في العهد إنّ هؤلاء أعلام الكفر المشهورون به فهم لذلك كالحاضرين في الأذهان، ولا يخفى ما فيه، فإنّ تخصيص الذي وتصماريفه دون من، وما مما ليس فيه أل لا وجه له، وإنما دعاه له ظاهر قول الكشاف تعريف الذين، ولذا عدل عنه المصنف إلى قوله تعريف الموصول إشارة إلى أنّ الزمخشريّ إنما اقتصر عليها لأنها أمّ الباب، وهذا مما ينبغي التنبيه عليه، وهم مطبقون على أنّ تعريف الموصول بالعهد الذي في الصلة، والقول بأنه بأل واه لا يلتفت إليه سواء قلنا إنه موضوع للخصوصيات بوضع عام أو لأمر عام بشرط استعماله فيها، وستسمع تحقيقه عن قريب، وقدم التعريف العهدي لأنه الأصح رواية ودراية، وما قيل من أنّ الماثور ما رواه ابن جرير بسند متصل إلى ابن عباس رضي الله عنهما أنّ المراد به هنا كفار اليهود خاصة، وهو الظاهر لأن السورة مدنية، وما قبلها في أهل الكتاب فالمراد اليهود وقد ورد مثله في سورة يس في كفار قريش عجيب منه، فإنه ذكر عقبه إنّ أبا نعيم قال في دلائل النبوّة: إنها في كفار قريش، ورواه عن ابن عباس أيضاً، فإنّ الروايتين تؤيدان ما ذكره المصنف،؟ وإلا كان بينهما تناف فوجه العهد أنّ المراد بالموصول هنا من شافههم بالإنذار في عهده، وهو مصر على كفره وهذا أوجه مما مرّ. قوله: (أو للجنس متناولأ من صمم على الكفر وكيرهم) هذا بناء على ما
بينه شراح المفتاح من أنّ تعريف الموصول كتعريف الألف واللام، فيكون تارة للعهد وتارة للجنس والاستغراق، وقد صرّح به بعض النحاة أيضاً فقال ابن مالك في شرح التسهيل المشهور عند النحويين تقييد جملة الصلة بكونها معهودة، وذلك غير لازم، وذلك لأنّ الموصول قد يراد به معهود فتكون صلته معهودة، وقد يراد به الجنس فتوافقه صلته كقوله تعالى {كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ} [البقرة: 171] وكقول الشاعر:
وأسعى إذا يبني ليهدم صالحي ~ وليس الذي يبني كمن شأنه الهدم
وقد يقصد تعظيم الموصول فتبهم صلته كقوله:
فإن أستطع أغلب وإن يغلب الهوى ~ فمثل الذي لاقيت يغلب صاحبه
اهـ وهذا مخالف لما في الرسالة الوضعية مما اتفق عليه شراحها من أنّ الموصول موضوع بوضع عام لمعنى مشخص معين بنسبة جملة خبرية إليه، وأنه لا بد من كون انتسابها معهوداً بين المخاطب والمتكلم، فإن أريد به معنى كليّ، فإنما هو لتنزيله منزلته كما في اسم الإشارة، وعلى هذا فهذا معنى مجازي وهو ظاهر كلام أهل المعاني، وهو الموافق لما اشتهر عند النحاة، كما قاله ابن مالك وظاهر كلام ابن مالك والزمخشريّ أنه ليس بمجاز، فلا خلاف في استعماله، وإنما الخلاف في تعيين الحقيقة وهذا أمر سهل، وقد قيل إنه ليس المراد بالعهد في كلام النحاة معناه المشهور بل مطلق الحضور الذهني بايّ وجه كان وهو جار في جميع المعارف، ولذا حصر بعض الخاة معنى أل في العهد والجنس، وهو منشأ الخلاف بينهم وقول أهل الأصول الموصول من صيغ العموم مؤيد للثاني (وهذا مما من الله به) وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله فاحفظه، وصمم على الكفر بمعنى استمرّ عليه إلى موته، ونقله لسجن سجين وحقيقة صمم مضى في السير فتجوّز به عما ذكر للزومه له، وليس من الصميم بمعنى الخالص احترازا عن المنافقين كما توهم. قوله: (فخص منهم غير المصرّين بما أسند إليهم إلخ) ضمن خص معنى أخرح أو تجوّز به عته، وإلاً لقال خص المصرّون والأوّل أولى لتعديته بالباء في قوله بما أسند، وفي نسخة بدل منهم عنهم، وضمير غيرهم وما بعده لمن باعتبار معناه وكذا إليهم، وفي نسخة إليه باعتبار لفظه أو هو عائد إلى الموصول، وفي قوله خص تصريح بأنه عام مخصوص لا مطلق مقيد، وهو الموافق لمذهبه وفيه مخالفة للزمخشريّ في تعبيره حيث قال: وأن يكون(1/261)
للجنس متناولاً كل من صمم على كفره تصميما لا يرعوي بعده وغيرهم، ودل على تناوله للمصرّين الحديث عنهم باستواء الإنذار وتركه عليهم اهـ.
وقال قدس سرّه: إذا حمل على الجنس عمّ الكفار إلا أنّ الاخبار عنهم بما يدلّ على الإصرار دال على أن المراد هم المصرّون فقط، فيكون اللفظ عاماً مقصورا على بعض إفراده فإن قيل: كيف يجعله عاما مخصوصاً مع أنه لم يذهب إلى أنّ الجمع المحلى بلام الجنس
للاستغراق حيث قال في قوله تعالى {إِذَا طَلَّقْتُمُ النَّسَاء} [البقرة: 231] لا عموم ولا خصوص في النساء ولكنه اسم جنس للإناث من الإنس، وهذه الجنسية معنى قائم في كلهن وفي بعضهن، فجاز أن يراد بالنساء هذا وذاك فإذا قيل لعدتهن علم أنه أطلق على بعضهن وهن المدخول بهن من المعتدّات بالحيض، وقال في قوله تعالى {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ} [البقرة: 228] إنّ اللفظ مطلق في تناول الجنس صالح لكله، وبعضه فجاء في أحد ما يصلح له يعني في ذوات الأقراء كالاسم المشترك قلنا هو لا يمنع صلوحه للعموم بل ظهوره فيه كما ذهب إليه أصحاب الأصول فاختار ههنا أنّ هذا الصالح للعموم مستعمل ومقصور على البعض بواسطة القرينة، ويرد عليه أنه تطويل للمسافة بلا طائل، وزعم بعضهم أنّ المختار عنده هو أنّ مثل هذا الجمع للعموم، وأمّا كونه للإطلاق، فشيء ذكره في بعض مواضع هذا الكتاب، وفيه أنه مناف لما نقلناه من نصه على عدم العموم وأمّا تفسيره للجموع المعرّفة باللام للاستغراق فذلك لاستفادته منها بمعونة المقام، ولا معونة للمقام ههنا، فالصحيح أنه أراد كون الذين كفروا مطلقاً في تناول الجنس صالحا بحسب مفهومه، لأن يراد به كله وبعضه لكن الخبر دلّ على تقييده فقوله متنا ولا إلخ لم يرد به الشمول بل التناول بحسب الإطلاق نظرا إلى اللفظ وحده وإذا اعتبرت القرينة دلت، على تناوله بحسب الإرادة للمصرّين فقط اهـ.
(أقول) فيه خلل لا يخفى، وبيانه يتوقف على تقديم مقدمة في الفرق بين العموم والإطلاق والتخصيص، والتقييد) فالعامّ الفظ يستغرق الصالح له من غير حصر، ويشمل النادر وغير المقصود على الأصح وفخر الإسلام لم يشترط فيه الاستغراق فعرّفه بما ينتظم بعض المسميات (والمطلق) ما دل على فرد شائع وقيل ما دلّ على الماهية بلا قيد، وتوخم بعضهم أنه مرادف للنكرة، وهو خطأ أو تساهل للاعتماد على ظهور المراد (والتخصيض) قصر العامّ على بعض ما صدق عليه (والتقييد) يقرب منه وألفاظ العموم مفصلة في مبسوطات الأصول وفي بعضها اختلاف كالجمع المحلى بالألف واللام، ففي جمع اأجوامع أنّ الجمهور على أنه للعموم خلافا لأبي هاشم من المعتزلة، فإنه ذهب إلى نفي العموم عنه مطلقا، فيكو 1 غ مطلقا عنده ولإمام الحرمين وافادة العموم كما ذكره المصنف في منهاجه تكون بحسب الوضع اللغوي والعرفي والعرف ودلالة العقل والموصول مفردا وجمعا من ألفاظ العموم حتى قال القرافيّ رحمه الله: إنه بالإجماع وليس هو من قبيل الجمع المحلى باللام، فإنّ لامه كبعض حروف الكلمة، وتعريفه ليس بها على الصحيح إذا عرفت هذا فقياس ما هنا على ما ذكره في صريح الجموع في غير هذا المحل لا وجه به، وما صرّح به في كتابه على مذهبه من أنه من المطلق لا من العامّ وتاويله من فضول الفضلاء. وقوله: إنه لا يمنع صلوحه للعموم بل ظهوره فيه أيضاً لا وجه له فإنه لو صلح للعموم كان عاماً وهو مناف لما صرّح به. وقوله: تطويل للمسافة بلا طائل غير متوجه لأنه من ألفاظ العموم، وهو نص فيه فحمل عليه، ثم خص وهو طائل
وأيّ طائل، فإن قلت كيف يكون الخبر مخصصاً إذا سلم فيه العموم والخصوص والأصوليون حصروا المخصص الغير المستقل في الاستثناء والصفة والغاية والبدل والشرط، وقد أوردوا عليه أن تعين المخبر عنه بمفهوم الخبرينافي ما تقرّر من أنّ المخبر عنه لا بذ أن يكون متعينا عند المخاطب إذا حكم عليه ليقيد الكلام فإثبات مفهنوم الخبر له متوقف على تعين المخبر عته عند المخاطب قبل ورود الخبر، فلو توقف تعين المخبر عنده على الخبر لزم الدور حتى قيل إنه من إسناد ما للبعض إلى الكل على حد بنو فلان قتلوا فتيلاَ، والقاتل واحد منهم.
(قلت) أمّا أن يقال على هذا المخصص العقل والاخبار بما ذكر قرينة عليه أو المخصص
عود ضمير خاص عليه من الخبر لا الخبر نفسه، فإنّ أهل الأصول قالوا عود ضمير خاص على العامّ فيه أقواد ثلاثة: فقيل يخصصه وقيل(1/262)
لا يخصصه وقيل بالوقف ومثلوه بقوله تعالى {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ} [البقرة: 228] فإنّ الضمير في قوله {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ} [البقرة: 228] للرجعيات فقط وكذا قوله تعالى {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء} [الطلاق: ا] فإنّ قوله تعالى {لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} [الطلاق: ا] المراد به الرغبة في مراجعتهن، وهي لا تتأتى في البائن وما قيل من أنّ المصنف أحسن حيث أسقط لفظة كل التي في الكشاف في قوله كل من صمم إلخ إذ يفهم منه الاستغراق الذي اضطربوا في توجيهه غفلة عما قرّوناه، ومن الخلط والخبط ما قيل هنا أنه على الأول يكون الذين كفروا من قبيل إطلاق لفظ المطلق العامّ المستغرق وارادة الخاص، وعلى الثاني من قبيل إطلاق لفظ المطلق المتناول لكل بعض على سبيل البدل، وارادة المقيد بقيد الإصرار من حيث أن الخبر يدل على التقييد، وهو أظهر من الأوّل لأنه على الأوّل خاص، وعلى الثاني عامّ مخصوص. قوله: (والكفر لغة ستر النعمة إلخ؟ أي الكفر بالضم مقابل الإيمان، وأصله المأخوذ منه الكفر بالفتح مصدر بمعنى الستر يقال كفر يكفر من باب قتل وقول الجوهريّ تبعاً للفارابي من باب ضرب الظاهر أنه غلط ولم ينبه عليه في القاموس، ثم شاع في ستر النعمة خاصة وفي مقابل الإيمان لأنّ الكفر فيه ستر الحق وستر نعم فياض النعم ويقالط لليل: كافر لستر ظلامه لوجه الأرض وقد تلطف العارف بالله حيث قال:
يا ليل طل أو لا تطل إني على الحالين صابر
لي فيك أجر مجاهد إن صح أنّ الليل كافر
والكمام جمع كمّ بالكسر، وهو غطاء النور والثمر، والكافور أيضاً اسم طيب معروف إلاً
أنّ ما ذكره المصمنف هو المعروف في اللغة الفصيحة القديمة، ولذا اقتصر عليه وهو اسم جنس جامد ومن قال: إنه مبالغة الكافر فقد وهم. قوله: (وفي الشرع إنكار ما علم إلخ) هذا مذهب الشافعي، والمراد بالضروريّ ما اشتهر حتى عرفه الخواص والعوام. قال النووقي في الروضة: ليس يكفر جاحد المجمع عليه على إطلاقه بل من جحد مجمعاً عليه فيه نص، وهو من الأمور
الظاهرة التي يشترك في معرفتها الخواص والعوام، كالصلاة وتحريم الخمر ونحوهما فهو كافر، ومن جحد مجمعا عليه لا يعرفه إلاً الخواص كاستحقاق بنت الابن السدس مع بنت الصلب ونحوه فليس بكافر، ومن جحد مجمعاً عليه ظاهرا لا نص فيه ففي الحكم بتكفيره خلاف اهـ. وقال ابن الهمام في المسايرة: الحنفية لم يثترطوا في الإكفار سوى القطع بثبوت ذلك الأمر، الذي تعلق به الإنكار لا بلوغ العلم به حد الضرورة، ويجب حمله على ما إذا علم المنكر ثبوته قطعا لأن مناط التكفير التكذيب أو الاستخفاف إلخ وأورد على ما قالوه أنّ الخالي عن التصديق والتكذيب كافر، والشاك وكفره ليس بإنكار فيخرح عن التعريف، وأجاب عنه الإمام بأنّ من جملة ما جاء به النبيّ عليه الصلاة والسلام أنه يجب تصديقه في كل ما جاء به فمن لم يصدقه في ذلك فقد كذبه، وردّ بظهور منعه وانّ الصواب أن يقال الكفر عدم الإيمان عمن هوشأنه فيشمل التكذيب، وترك التصديق بعد وجوبه عليه، وقيل الأنكار ههنا الجهل من قولهم أنكرت الشيء إذا جهلته وليس بمعنى الجحود حتى يكون قولاً بالمنزلة بين المنزلتين لأنّ من تشكك، أو لم يخطر النبيّ عليه الصلاة والسلام بباله ليس بمقرّ مصدق ولا منكر جاجد، وهو باطل عند أهل السنة، ولا يخفي أنه يأباه ما بعد. من قوله يدلّ على التكذيب، فإنه صريح في أنّ الإنكار ههنا بمعنى الجحد والتكذيب، وفي المواقف الكفر عدم تصديق الرسول صلّى الله عليه وسغ في بعض ما علم مجيئه به بالضرورة وخرح بالضرورة ما علم بالاستدلال وخبر الآحاد، ولا يرد على الإنكار ما قاله الزنجاني من أنه يختص بالقول والكفر قد يحصل بالفعل لما ذكره المصنف بعده. قوله: (وإنما عذّ ليس الغيار) بكسر الغين المعجمة وفتح الياء المثناة التحتية تليها ألف وآخره راء مهملة.
قال في الحهذب أهل الذمّة يلزمهم الإمام الغيار والزنار، وفي شرحه الغيار أن يخيطوا
على ثيابهم الظاهرة ما يخالف لونه لونها وتكون الخياطة على خارج الكتف دون الذيل والأشبه أنه لا يختص حالكتف، والزنار كتفاح خيط غليظ يشد على أوساطهم خارج الثياب اهـ. وسمى غيار المغايرة لونه للون ما خيط عليه، أو لأنه يتغاير به أهل الذمّة، ومن قال:(1/263)
الغيار قلنسوة طويلة كانت تلبس قبل الإسلام، وهرت من شعار الكفرة لم يدر حقيقته وفي تعبيره باللبس والشد ما يشير إلى تغايرهما، والزنار كان حزإما مخصوصا بالنصارى والمجوس. قوله: (لأنها تدلّ على التكذيب إلخ) أي تكذيب الرسول صلّى الله عليه وسلم فيما جاء به، وهذا جواب سؤال مقدر تقديره أنّ أهل الشرع حكموا على بعض الأفعال والأقوال بأنها كفر وليست إنكاراً من فاعلها ظاهراً، فأجاب بأنها ليست كفراً، وإنما هي دالة عليه فأقيم الدال مقام مدلوله حماية لحريم الدين، وذبا عن حماه حتى لا يحوم حوله أحد ويجتريء عليه، وليس بعض المنهيات
التي تقتضيها الشهوة النفسانية كذلك، ولذا ورد في الحديث: " وإن زنى وإن سرق " (1) فلا يرد على ما ذكر الاعتراض فأن ارتكاب المنهيّ إذا دل على التكذيب بطل طرده بغير المكفر من الفسق حتى يحتاج إلى أن يقال يجوز جعل الشارع بعض المنهيات علامة للتكذيب فيحكم بكفر مرتكبه، وقال ابن الهمام: اعتبروا في الإيمان لوازم يترب على عدمها ضده كتعظيم الله سبحانه وتعالى وأنبيائه عليهم الصلاة والسلام وكتبه، ولاعتبار التعظيم المنافي للاستخفاف كفروا بألفاظ، وأفعال كثيرة وأمّا لبس شعار الكفر سخرية بهم، وهزلاً ففي بعض الحواشي أنه ليس بكفر وليس ببعيد إذا قامت القرينة ولا يلزم مما مرّ تكفير أهل الباع من الفرق الإسلامية كما توهم. قوله: (واحتجت المعتزلة إلخ) اتفق المليون على أنه تعالى متكلم، ثم اختلفوا في المراد بالكلام وقدمه وحدوثه، لما رأوا قياسين متعارضين انتاجا وهما كلام الله صفة له، وكل ما هو صفة له قديم فكلام الله قديم، وكلام الله أي القرآن مؤلف من حروف مترتبة متعاقبة وكل ما هو كذلك حادث ضرورة فكلامه حادث، فاضطرّوا إلى القدح في أحدهما لامتناع حقيقة النقيضين، فمنعت كل طائفة مقدّمة فالحنابلة ذهبوا إلى أنه حروف، وأصوأت تديمة فمنعوا اقتضاء التعاقب للحدوث حتى لزمهم قدم الورق والجلد بل الكاتب والمجلد ونحوه، مما هو بين البطلان فقيل مرادهم التأدّب للاحتراز عن سريانه للنفسي، كما صرّح بعض الأشاعرة بمنع أن يقال القرآن مخلوق، والمعتزلة ذهبوا لحدوثه لتركبه من الحروف والأصوات، فقالوا هو قائم بغيره ومعنى كونه متكلما أنه موجد للكلام في جسم كاللوح أو جبريل أو النبيّ عليه الصلاة والسلام أو غيره كشجرة موسى عليه السلام ومنعوا اتصاف الله به رأساً، والكرامية لما رأوا الجنابلة خالفوا الضرورة، وهو مكابرة والمعتزلة خالفوا العرف واللغة في جعل المتكلم موجد الكلام قالوا: هو حادث ويجوز قيامه بذاته، والأشاعرة قالوا كلامه قديم نفسيّ قائم بذاته لا بأصوات وحروف، ولا نزاع بينهم وبين المعتزلة في حدوث الكلام اللفظي إنما النزاع في إثبات النفسي، وذهب العضد تبعاً للشهرستاني إلى أنّ مذهب الشيخ أنه ألفاظ قديمة وأفرد لتحقيقه مقالة ذكر فيها أنّ المعنى يطلق تارة على مدلول اللفظ وعلى القائم بالغير، والشيخ لما قال الكلام هو المعنى النفسيب فهموا منه أنّ مراده مدلول اللفظ، وأنه القديم عنده والعبارات إنما تسمى كلاما مجازاً لدلالتها على الكلام الحقيقي حتى صرحوا بأنّ الاً لفاظ حادثة عنده، ولكنها ليست بكلام حقيقيّ، وقد قيل عليه أنّ له لوازم كثيرة الفساد كعدم تكفير من أنكر
كلامية ما بين الدفتين لله مع أنه معلوم من الدين بالضرورة، وكوقوع التحدّي بغير كلام الله تعالى حقيقة، وعدم كون المقروء المحفوظ كلام الله حقيقة وغير ذلك، فوجب حمل كلامه على إرادة المعنى الثاني فيكون الكلام النفسي عنده شاملاً للفظ، والمعنى معاً قائما بذاته تعالى والترتب والتعاقب إنما هو في اللفظ لعدم مساعدة الآلة ونظيره وقوع الحروف دفعة في الختم وأدلة الحدوث يجب حملها على الصفات المتعلقة بالكلام دونه جمعاً بين الأدلة. وقال الدواني: مبدأ الكلام النفسي فيناصفه نتمكن بها من نظم الحروف وترتيبها على ما ينطبق على المقصود، وهي صفة ضد الخرس مبدأ للكلام النفسي، وهي غير العلم إذ قد تتخلف عنه فإنّ في الناس من قد يعلم الكلام للغير ولا يقال إنه كلامه بل كلام من رتبه في نفسه، فكلامه تعالى الكلام المرتب في علمه الأزليّ الذي هو مبدأ للنظم وتاليفه، وهو صفة قديمة وكذا الكلمات بحسب وجودها العلمي، وليس كلاماً له إلاً ما أوجده مرتباً بغير واسطة، ولا تعاقب فيه قبل الوجود الخارجيّ، وهذا مما لا محذور فيه، ومن هنا علم أنّ المعتزلة أنكروا الكلام وقدم الألفاظ(1/264)
وقالوا: معنى تكلم الله خلقه الكلام، فالمراد بما ذكره المصنف أنّ ما عبر عنه بالماضي إمّا أن يحدث بعد مضيه أو لا، وعلى الثاني يلزم الكذب لأنه أخبر أزلاً عما لم يمض بأنه مضى، وهو محال فلزم حدوثه والحادث لا يقوم به، فالمراد بتكلمه خلقه له والمواد بالمخبر عنه النسبة التي يصدق بها لا المحكوم عليه، فأجيب عنه بأنّ المضيّ، ونحوه بالنسبة إلى بعض المتعلقات مع بعض آخر، ومعنى إنّ الذين كفروا مثلاَ بعد إرسالك من أصر على الكفر كذا، والمضيّ بالنسبة إلى الإرسال ونحوه ولا يلزم من حدوث التعفق حدوث المتعلق بالكسر كما أنّ حدوث المعلوم وتعلق العلم به لا يلزم منه حدوث نفس العلم، ومما يثير إليه قول الأصوليين المضيّ وغيره بالنسبة إلى زمان الحكم، لا إلى زمان التكلم كذا ينبغي أن يفهم كلام المصنف من غير نظر لبعض الأوهام كما قيل من أنه ذهب إلى قدم الألفاظ تبعاً للشهرستاني، وما قيل: من أنه إشارة إلى جواب الغزالي عن هذه الشبهة بأنّ نحو {إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا} [نوح: ا] قائم بذاته ومعناه قبل إرساله إنا نرسله وبعده إنا أرسلناه واختلاف اللفظ باختلاف الأحوال ولا محمل له غير هذا مع أن ما ذكره الغزاليّ لا يظهر له وجه مع أنهم قالوا: مدلول اللفظيّ بعينه هو النفسيّ فتأمّل، فإن قلت ليس هذا أوّل ماض وقع في التنزيل وقد سبق أنعمت ورزقنا فلم ذكره هنا 0
قلت: قد أشرنا إلى أنه بالنسبة إلى زمان الحكم لا التكلم وأنعمت ماض بالنسبة للهداية
وكذا رزقنا بالنسبة للإنفاق، وكذا أنزل بالنسبة إلى الإيمان فلا يتأتى الاحتجاج به بخلاف ما هنا فإنه كلام مبتدأ وزمان الحكم والتكلم فيه واحد، ولأرباب الحواشي هنا كلمات رأينا الضرب عنها صفحاً أنفع من ذكرها. قوله: (خبر إنّ إلخ) هو جار على الوجهين أمّا إذا كان مبتدأ وخبرا
فظاهر، وأمّا إذا كان ما بعده فاعله، فكذلك لكن أجرى الإعراب على جزئه الأوّل، كما في إنّ زيدا قائم أبوه لصلاحيته له بخلاف زيد يقوم وقام، فإنّ الخبر الجملة لا الفعل وحده. قوله: (اسم بمعنى الاستواء إلخ) أراد بالاسم اسم المصدر وهو المراد منه إذا قرن بالمصدر كما هنا، وفي غيره يراد به الجامد أو العلم واسم المصدر ما دل على معناه ولم يجر على وفق أبنية المصادر كالكلام، وللنحويين خلاف في أعماله عمل مصدره والأصح الجواز. وقوله: (نعت به كما نعت بالمصادر) أي المصادر القياسية، والاً فهو مصدر بحسب الأصل كما قاله الراغب، ونعت به بمعنى وصف به، والنعت والوصف بمعنى وقد فرق بينهما بعضهم فقال النعت لا يقال إلا في غير الله، كنعت الثوب والفرس، والرجلى ولا يقال نعوت الله بخلاف الوصف والصفة، وهما يكونان بمعنى التابم النحوي وبمعنى إثبات صفة لشيء مطلقاً سواء كان تابعاً أم لا، وهو المراد هنا لأنّ ما نحن فيه كذلك، فإنّ إرادة الأوّل لقوله يعده إلى كلمة سواء لأنه نعت نحوي، ويعلم حكم غيره بالقياس عليه تكلف من غير داع إليه، وأشار بقوله كما نعت بالمصادر إلى إفادته المبالغة، ولا ينافيه تفسيره بمستو لأنه بيان لحاصل المعنى المراد منه.
وفي الكشاف اسم بمعنى الاستواء وصف به كما يوصف بالمصادر إلخ فقال قدس سره:
أي كما تجري المصادر على ما اتصف بها كذلك تجري سواء على ما يتصف بالاستواء أي يجعل وصفاً له معنوياً إمّا نعتا / نحويا كما في كلمة سواء وأمّا غيره كما في هذه الآية فإن سواء هنا في موقع مستو إمّا حنبرا عما قبله ومسندا لما بعده كما يسند الفعل إلى فاعله فيجب حينئذ توحيده وامّا خبراً عما بعده فيكون ترك تثنيته لجهة المصدرية وكأنه نبه على ذلك حيث قال: أوّلاً مستو عليهم، وثانيا سواء عليهم، واختار بعضهم الوجه الثاني، لأنه اسم غير صفة فالأصل فيه أن لا يعمل، وأيضا المقصود من ايوصف بالمصادر المبالغة في شأن محالها كأنها صارت عين ما قام بها، فزيد عدل كأنه تجسم منه، فإذا أولت باسم الفاعل، أو بتقدير مضاف فات المقصود إهـ. وفيه بحث لأنّ ما نقله من الاختيار وأقرّه ليس بشيء لأنّ قوله إنّ الأصل فيه أن لا يعمل لا وجه له لأنه مصدر والأصل فيه العمل على القول الأصح، فكأنّ هذا القائل توهم أن معنى الاسم في كلامهم اسم الجنس الجامد، وقد علمت أنه غير مراد. وقوله: (المقصود من الوصف إلخ) هو هنا أيضاً كذلك كما ستسمعه عن ابن الحاجب، وصرّج به الطيبي رحمه الله، وقد مرّ توجيهه فلا حاجة إلى ما قيل من أنه إذا أسند إلى الفاعل لا يفيد المبالغة، وان كان له وجه، وكذا ما قيل من أنّ المبالغة تكون بحسب اللفظ وبحسب المعنى، وهو يفيد الأولى كحذف أداة(1/265)
التشبيه وإذا كان خبرا فقال في المفصل تقديمه على سبيل الوجوب، وفي إيضاح ابن الحاجب الظاهر أنه مما التزم فيه التقديم لأنه لم يسمع خلافه مع كثرته وسرّه ما فهم من المبالغة في معنى الاسنواء حتى فعلوا ما ذكرنا. من التعبير، فناسب تقديمه تنبيها على المبالغة، وقول أبي عليّ: سواء مبتدا لأنّ الجملة لا تكون مبتدأ مردود فأن
المعنى سواء عليهم الاستغفار وعدمه، وبأنه كان يلزم عود ضمير إليه ولا ضمير يعود في هذا الباب كله اهـ. وما قيل من أنه لا يحتاج إلى رابط لأنّ الجملة عين المبتدأ قيل إنه لا وجه له لأنه مخصوص بضمير الشأن كما في كتب العربية وليس كذلك، فإنهم صرّحوا بسماعه في غيره كقوله تعالى {وَآيَةٌ لَّهُمْ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ} [يس: 37] وسيأتي فيه كلام في سورة يس إن شاء الله تعالى. قوله: (رفع بأنه خبر إنّ إلخ) هذا أحد الوجوه في مثل هذا التركيب وتقديمه يوذن بترجيحه.
وقد اعترض عليه أبو حيان بأنّ فيه وقوع الجملة فاعلاً والجمهور على أنّ الفاعل لا يكون إلاً اسماً مفردا، وستسمع ما يدفعه عن قريب ومن الناس من لم يتنبه له فجزم بوروده. وقوله في هذا الوجه مستو وفي الثاني سيان إشارة إلى أنّ حقه في الأوّل الإفراد وأن يؤوّل بمشتق، وفي الثاني التثنية إلا أنها تركت لأنه في الأصل لا يثنى ولا يجمع، ولذا قالوا إنّ العرب لم تثنه اسنغناء بثنية سيان عنه إلاً شذوذاً، وفي قول المصنف سيان إيماء إليه وهمزة سواء مبدلة من ياء وأصله سواي. قوله: (والفعل إنما يمتنع إلخ) شروع في دفع ما أورد على ما ذكر وهو أمور.
الأوّل أنّ الفعل لا يكون مخبراً عنه.
الثاني أنه مبطل لصدارة الإستفهام.
الثالث أنّ الهمزة وأم موضوعان لأحد الأمرين، وسواء وكل ما يدل على الاستواء لا
يسند إلاً إلى متعدد، فلذا يقال استوى وجوده وعدمه ولا يصح أن يقال أو عدمه.
ولذا اختار الرضي وجها رابعاً وقال الذي يظهر لي أنّ سواء في مثله خبر مبتدأ محذوف تقديره الأمران سواء ثم بين الأمرين بقوله أقمت أم قعدت كما في قوله {فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاء عَلَيْكُمْ} [الطور: 6 ا] أي الأمران سواء عليكم، وسواء لا يثنى ولا يجمع وكأنه في الأصل مصدر اهـ. فقوله والفعل إلخ جواب عن الأوّل، ولو بدل الإخبار بالإسناد وقال: يمتنع الإسناد إليه كان أحسن ليدفع ما يرد على ما قبله أيضا لكنه خصه لأنّ الكلام فيه، وكون الفاعل مثله يعلم بالمقايسة أيضاً واليه يشير قوله بعد هذا والإسناد إليه وقيل عليه المخبر عنه الجملة لا الفعل وحده، واعتذر له بأن جعل الفعل مع فاعله المضمر فرلأتسمح شائع، ولا حاجة إليه لأنّ الاخباو في الحقيقة عن الفعل المقيد بالفاعل فهو قيد للمسند إليه لا جزء منه فإن قلت: على تقدير كون سواء خبراً كيف صح تقديمه مع التباسه بالفاعل قلت: قد صرّج النحاة بتخصيصه بالخبر الفعلي نحو زيد قام دون الصفة فإذا لم يمتنع في صريح الصفة فعدم امتناعه هنا أولى على كلام فيه سيأتي قي محله. وقوله: (تمام ما وضع له إلخ) تمام ما وضع له
هو الحدث والزمان، والنسبة إلى شيء مّا وهو الفاعل، وأمّا نفس الفاعل فلا يدلّ عليه وضعاً، فما قيل تمام ما وضع له مجموع ثلاثة أمور معنى المصدر وذات الفاعل وزمان مخصوص من الأزمنة الثلاثة غفلة عما حقق في الرسالة الوضعية وإطلاقه بمعنى استعماله وهو أعم من الوضع، والمراد بمطلق الحدث الحدث المجرّد عن الزمان لا الحدث الغير المنسوب إلى فاعل، فلا يرد عليه ما قيل من أنّ المراد في قوله تسمع بالمعيدي، وفي قوله يوم ينفع ليس مطلق السمع والنفع بل سماعك ونفع الصدق وهو وهم ظاهر، وإذا لم يرد تمام معناه فإمّا أن يراد جزؤه وهو مدلوله الضمني المشار إليه بقوله ضمناً أو معنى آخر لم يوضع له، وهو لفظه سواء جرد عن المعنى نحو زعموا مطية الكذب أو لا كما في {قُولُوا آمَنَّا} [البقرة: 136] فإنّ المراد هذا اللفظ المراد معناه، وكون اللفظ لم يوضعلنفسه كما هو ظاهر كلام المصنف أو وضع له بوضع غير قصدّي مشهور، وقد مرّ في آخر الفاتحة، والمراد من الوضع إذا أطلق القصديّ فلا يرد عليه شيء على هذا أيضاً، والاتساع كالتوسع المراد به التجوّز، وهو أعم منه لأنه ة د يتوسع في بعض الألفاظ بنحو تقديم وتأخير من غير تجوّز، وكون الفعل في الإضافة بمعنى المصدر صرّح به النحاة وهو مراد المصنف قال ابن السراج في كتاب الأصول: القياس أن لا يضاف اسم إلى فعل ولكن العرب اتسعت في بعض المواضمع، فخصت أسماء الزمان بالإضافة إلى الأفعال لأنّ الزمان مضارع للفعل، لأنّ الفعل(1/266)
بني له وصارت إضافة الزمان له كإضافته إلى مصدره، ومما يدل عليه ما قرّره ابن جني في قول طرفة:
من سديف يوم هاح الضبر
(أقول) عدل المصنف رحمه الله عما في الكشاف من تصحيح الإسناد إلى الفعل بقوله
هو من جنس الكلام المهجور فيه جانب اللفظ إلى جانب المعنى، وقد وجدنا العرب يميلون في مواضع من كلامهم مع المعاني ميلاَ بيناً من ذلك قولهم لا تثل السمك وتشرب اللبن معناه لا يكن منك كل السمك وشرب اللبن وإن كان ظاهر اللفظ على ما لا يصح من عطف الاسم على الفعل اهـ. وما في الكشاف هو المطابق للمنقول، والحق الحقيق بالقبول، وما ذكره المصئف لا وجه له لأنه أدّعى أنه استعمل فيه اللفظ في جزء معناه، وهو الحدث تجوّزا فلذا صح الاخبار عنه كما يجوز الإخبار عما يراد به مجرّد لفظه نحو ضرب ماض مفتوح الباء، وهو مما صرّحوا به لكن قوله إنّ نحو {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ} [البقرة: 13] منه يقتضي أنّ كل مقول للقوق مما قصد به مجرّد لفظه، ساعا، وليس بصحيح فإنه أريد به معناه الموضوع له ولفظه إنما يدلّ على إرادة القول لا نفسه كما في المثال السابق ألا ترى قوله تعالى {قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} [المنافقون: 1] فلو لم يرد معناه الخبري لم يكذبوا (وما قيل) أنّ فوله على الاتساع متعلق بإرادة مطلق الحدث، فإنها هي المبنية على التوسع والتجوّز لا إرادة اللفظ فإنها لا تجوّز فيها عند التفتازاني {لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِن جُوعٍ} [الغاشية: 7] لمن له أدنى تدبر وكذا قوله إنّ الفعل المضاف إليه في قوله {يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ} [المائدة: 119] جرد للحدث اتساعا، فإنّ ينفع أريد به نفع فيما يستقبل من يوم القيامة فكيف لا يدل على الزمان وادّعاء مثله مكابرة، ألا ترى قود {يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ} [مريم: 33] وقوله {وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ} [القارعة: 5] فإنها ناطقة بإرادة الزمان والذي ذكره القوم إنه نظر فيه إلى المصدر ولوحظ لا أنه خص به، وهو كالتغليب ولا يلزم من التأويل خروجه عن حقيقته كما سياتي، وهذا هو الميل مع المعنى ففي كلام المصنف خال ظاهر يصدق قولهم كم ترك الأول للآخر، والعجب أنه لم يتنبه له شراح هذأ الكتاب وقال قدّس سرّه: الفعل إذا نظر إلى لفظه واعتبر معناه على ما يقتضيه ظاهره امتنع الاخبار عنه لكن هجر ههنا مقتضى لفظه، وأول بمعنى مصدر مضاف إلى فاعله فصح الإخبار عنه، ولو أجرى لا تاكل السمك إلخ على ظاهره لزم عطف الاسم وهو تشرب المنصوب على الفعل بل المفرد على جملة لا محل لها، فهو من قبيل ما هجر فيه جانب لفظه إلى معناه من حيث أنه أوّل لا تأكل السمك بما فيه اسم يصلح أن يعطف عليه أن تشرب أي لا يكن منك أكل السماث وشرب اللبن لا من حيث أنه جعل في تأويل مصدر على حدّ قوله {؟ لأنذرتهم} إلخ فإنّ الفرق بين (فإن قيل) هذه الواو بمعنى مع إذ المنهيّ هو الجمع فلو جعل ما بعدها مفعولاً معه كما في ما صنعت، وأباك استغنى عن التأويل.
(قلنا) بل يحتاج إليه لأنّ ما بعد الواو لا يصلح لمصاحبة معمول لا تأكل بل لمصاحبة معمول فعل يمال إليه أي لا يكن منك أكل السمك مع شرب اللبن يعني أنه نظر إلى المصدر في الآية، وفي لا تأكل إلخ وإن كان بينهما بون، فإن ما نحن فيه تركت فيه الحقيقة من كل وجه وفي ذاك الجملة باقية على حالها مستعملة في معناها، لكن هجر الأصل نظرا إلى العطف لا إلى نفسها كما في الكشف، وهذا مما اتفق عليه الشرّاح وما ذكره من السؤال وجوابه مما سبقه إليه الفاضل المحقق وهو مخالف لما حققه الرضي في بحث الحروف حيث قال تبعا لما في ضوء المصباح: لما قصدوا معنى الجمعية فيما بعد واو الصرف نصبوا المضارع بعدها، ليكون الصرف عن سنن الكلام المتقدّم مرشدا من أوّل الأمر إلى أنها ليست للعطف، فهي إذن إما واو الحال وأكثر دخولها على الاسمية، فالمضارع بعدها في تقدير مبتدأ محذوف الخبر، وإمّا بمعنى مع، وهي لا تدخل إلا على الاسم فقصدوا ههنا مصاحبة الفعل للفعل فنصبوا ما بعدها ولو جعلنا الواو عاطفة للمصدر على ملكمدر متصيده من الفعل قبله كما قاله النحاة لم
يكن فيه نصوصية على معنى الجمع، وكون واو العطف للجمعية قليل نحو كل رجل وضيعته، والأولى في قصد النصوصية في شيء على معنى أن يجعل على وجه يكون ظاهراً فيما قصد النصوصية عليه اهـ والثقة بالفاضلين تأبى غفلتهما عما قاله نجم الأئمة نوّر الله مثواه، فكأنهما لم يرتضياه لأنّ ما قرّره النحاة(1/267)
في باب المفعول معه ينافيه بحسب الظاهر، وليس هذا محل تفصيله ثم إنّ ما ذكره المصنف أيضاً يرد عليه إنّ ما ذكره من التجوّز في الفعل بإرادة جزء معناه، وهو الحدث لا يتأتى فيما إذا كان المعاد لأن بعد همزة التسوية أو أحدهما جملة اسمية كما في قوله {سَوَاء عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنتُمْ صَامِتُونَ} [الأعراف: 193] لكته يدخل في الميل مع المعنى، وقد نقل ابن جني في إعراب الحماسة عن أبي علي رحمه الله أنه قال: الجملة المركبة من المبتدأ والخبر تقع موقع الفعل المنصوب بأن إذا انتصب وانصرف القول به، والرأي فيه إلى مذهب المصدر كقوله تعالى {هَل لَّكُم مِّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن شُرَكَاء فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنتُمْ فِيهِ سَوَاء} [الروم: 28] (ووجدت أن في التنزيل) موضعاً لم يذكره، وهو قوله تعالى {أَعِندَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى} [النجم 35] أي فيرى ألا ترى أنّ الفاء جواب الإستفهام وهي تصرف الفعل بعدها إلى الانتصاب بأن مضمرة، وأن والفعل المنه صوب مصدر لا محالة، حتى كأنه قال أعنده غلم الغيب فرؤيته كما أنّ قوله تعالى {فَأَنتُمْ فِيهِ سَوَاء} [الروم: 28] في معنى هل بينكم شركة فاستواء هذا وجه السماع اهـ وهذا من نفيس الفوائد وستأتي تتمته في محله إن شاء الله تعالى. قوله: (تسمع بالمعيدي خير من أن تراه) فتسمع فيه بمعنى السماع على ما مرّ، وهو مبتدأ وخير خبر وما قالوه هنا إنما يتاتى على رفع تسمع من غير تقدير أن المصدرية فيه وهو رواية، وفيه روايات أخر نصب تسمع بأن مقدرة فيه.
وفي شرح الفصيح روي لا أن تراه وكان الكساتي يقول أن تسمع ويدخل فيه أن والعامّة
لا تدجلها وقال أبو عبيد: حذف أن أشهر، ويقولون تسمع بالرفع والنصب.
وقال الأستاذ: ليس فيه إسناد إلى الفعل كما ظنه بعضهم مستدلاً به وبقوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ يريكم البرق} [الروم: 24] وقول الشاعر:
وحق لمثلي يا بثينة يجزع
جعله مسندا إليه مبتدأ ونائب فاعل وهو فاسد لأنّ الفعل وضع لأن يخبر به لا عنه وما ذكروه أن مقدرة فيه، فهو اسم وقال الفرّاء تسمع بالمعيدي لا أن تراه لغة بني أسد وهي العليا وقيس تقول لأن تسمع بالمعيدي إلخ والمعيدي قال الكسائي تصغير معدي منسوب إلى معد بالتشديد وكان يروى المعيديّ بالتشديد ولم يسمع من غيره وقال سيبويه: خفف لكثرة دوره ولو حقر معدفي في غير المثل شدد، والمثل يضرب لمن تراه حقيراً وقدره خطير وخبره أجل من مرآه وأوّل من قاله النعمان بن المنذر، وقيل المنذر بن ماء السماء والمعيدي رجل من بني
فهد، وقيل من بني كنانة واختلفط في اسمه فقيل صقعب بن عمرو، وقيل شقة بن ضمرة، وقيل ضمرة التميي، وكان صغير الجثة عظيم الهيئة، ولما قيل له ذلك قال أبيت اللعن إن الرجال ليسوا بجزر يراد بها الأجسام، وإنما المرء بأصغريه وقال الميداني: عدي تسمع بالباء لتضمته معنى تحدّث، وظاهر كلامهم أنه يعدّي بها حقيقة وقال قدس سرّه في بعض كتبه الفعل كضرب يشتمل على حدث، ونسبة مخصوصة بينه وبين فاعله، وتلك النسبة ملحوظة بينهما على أنها ا-لة لملاحظتهما على قياس معنى الحرف، فلا يصح أن يحكم عليه بشيء ولا أن يحكم به نعم جزؤه، وهو الحدث مأخوذ من مفهوم الفعل على أنه مسند إلى شيء آخر، فصار الفعل باعتبار جزئه محكوما به وأمّا باعتبار مجموع معناه فلا يكون محكوماً عليه ولا به أصلاَ اهـ.
وفيه بحث لا يخفى، وهو لا ينافي قول العلامة الفعل أبداً خبر فتدبر. قوله: (وإنما عدل
هنا إلخ) جواب عن سؤال تقديره إذا صح الإسناد إليه لتجرده لمعنى الحدث وكونه بمعنى المصدر قيل، فلم لم يؤت بالمصدر على الأصل والحقيقة، فقال عدل عنه لنكتة ومعنى وسبب العدول وجه واحد وهو إيهام التجدد أو وجهان معنويّ، وهو المذكور ولفظيّ وهو حسن دخول الهمزة وأم لأنّ الإستفهام بالفعل أولى وقد اختار الثاني كثير من أوباب الحواشي بناء على أنّ قول المصئف رحمه الله وحسن دخول الهمزة حسن فيه اسم مجرور لعطفه على مجرور من قبله، وهو إيهام التجدّد، وفيه احتمالان آخران كما سيأتي بناء على أنّ السبب واحد وهو المطابق لما قاله الإمام، فإنه الذي أبدى هذه النكتة فقال في جواب السؤال معناه سواء عليك إنذارك لهم وعدمه بعد ذلك لأنّ القوم كانوا بالغوا في الإصرار واللجاج والإعراض عن الآيات والدلائل إلى حالة ما بقي فيهم البتة رجاء القبول بوجه وقبل ذلك ما كانوا كذلك، ولو قال إنذارك وعدم إنذارك لما أفاد أنّ هذا المعنى إنما حصل في هذا الوقت دون ما قبله، ولما قال " نذرتهم إلخ أفاد أنّ هذه الحالة إنما حصلت في هذا الوقت فكان(1/268)
ذلك يفيد حصول اليأس وقطع الرجاء منهم والمقصود من هذه الآية ذلك اهـ. فإن قلت: التجدّد له معنيانا مطلق الحدوث، وهو الموجود في كل ماضمياً كان أو غير. لأنّ المفيد له مقارنة الزمان والحدوث في المستقبل مطلقاً، وهو الاستمرار التجذدي ويختص بالمضارع والأوّل محقق والثاني لا وجود له رأساً فما الذي أراده المصنف قلت: قيل أراد الأوّل والفعل إنما يدلّ عليه إذا بقي على أصل معناه أمّا إذا جرّد عن الزمان للحدث كما هو هنا، فلم يتحقق فيه ذلك وإنما يتوهم نظر الظاهر الصيغة، وقيل المراد الثاني لأنّ الماضي بمعنى المضارع بقرينة قوله لا يؤمنون لكنه نظر إلى ظاهر الصيغة، فذكر الإيهام والأوّل أوفق بالمقام وكلام المصئف، والثاني مناسب للاقتداء بالإمام إلاً أنه لا يحلو من شيء لأنّ القول بأنه بمعنى المضارع مع القول بتجرّده للحدث جمع بين الضب والنون، فإن قلت ما وجه إيهام التجدّد هنا، قلت الدلالة على أنه أحدث ذلك،
وأوجده فادّى الأمانة وبلغ الرسالة وإنما لم يؤمنوا لسبق الشضاء، ودرك القضاء لا لتقصيرء "، فهو وإن أفاد اليأس فيه تسلية للنبيّ عليه الصلاة والسلام أيضا فلا يخفى ما فيه من الفوائد السنية. قوله: (وحسن دخول الهمزة وأم إلخ) حسن بفتح الحاء وضم السين ماض أو بضم الحاء وسكون السين اسبم مجرور كما تقدم أو مرفوع بالابتداء والجار والمجرور خبره وعلى الأوّل هو متعلق بحسن أو بدخول وعلى الثاني بحسن أو بقوله لتقرير، وكلام الإمام الذي هو مأخذه يبعد الأوّل وخير الأمور أوسطها والتقرير التحقيق والتئبيت، وهو قريب من التوكيد فهو كالتفسير له، وإنما عدل المصنف رحمه الله عن تقرير الاستواء الأخصر الأظهر إلى قوله تقرير معنى الاستواء، لأنه أراد به مجرّد مفهومه بقطع النظر عن الذهن والخارج، لأنه المتبادر من المعنى لأنه مطلق المفهوم وهو المراد بقوله أوّلاً اسم بمعنى الاستواء، فأعاد المعرفة برمّتها ليدلّ على أنها عينها ولا يصح أن يريد به مدلول سواء هنا لأنهما متغايران ومقتض التغاير التأسيس فتأكيده لما في ضمنها من المطلق، وما قيل من أنّ إقحام معنى لأنّ أصل معنى الاستواء قد حصل في علم المستفهم الذي قدر منه أن يستفهم بقوله {؟ لانذرتهم أم لا} لا معنى له أصلاً وبتقرير التقرير سقط ما قيل إنه ظاهر على تقدير الفاعلية، وأمّ على الابتداء فالوجه أنه لما تاخر المبتدأ لفظاً فذكر ما تضمنه الخبر المتقدم مع المبتدأ المتأخر لا يجعل الخبر لغواً بل مقرّواً ومؤكدا، وظن بعضهم أنّ ما ذكره المصنف رحمه الله عين ما في شروح الكشاف، وليس كذلك لأنّ الاستواء المستفاد من أم والهمزة عندهم غير ما يستفاد من سواء، فلا تأكيد ولا تقرير على تقريرهم اهـ. قوله: (فإنهما جرّدتا عن معنى الإستفهام إلخ) كلام المصنف رحمه الله هنا منتخب مما نقله الزمخشريّ عن سيبويه رحمه الله، وما على الرسول إلاً البلاغ، وعبارة سيبويه في باب ترجمته باب ما جرى على حرف النداء وصفاً له، وليس بمنادى يعني الاختضاص قال: أجري هذا على حرف النداء كما أنّ التسوية أجرت ما ليس باستخبار ولا اسنفهام على حرف الإستفهام، لأنك تسوّي فيه كما تسوي في الإستفهام، وذلك قولك ما أدري أفعل أم لم يفعل فجرى هذا كقولك أزيد عندك أم عمرو إذا استفهمت لأنّ علمك قد استوى فيهما، كما استوى عليك الأمرإن في الأوّل فهذا نظير الذي جرى على حرف النداء اهـ. قال السيرافيّ: يعني بحرف النداء أيها لأنها لا تستعمل إلاً في النداء وليس هنا بمنادى ولا يجوز دخول حرف النداء عليه، ولكنه استعمل للتخصيص لأنك تخص المنادي من بين من يحضرك بامرك ونهيك وغير ذلك، فاستعير لفظ أحدهما للآخر حيث شاركه في الاختصاص كما جعل حرف الاسنفهام لما ليس باستفهام لما اشتركا في التسوية إلخ. وكذا قال أبو عليّ؟ كما رأيناه في تأليفه وزبدة س مخصة الإفهام أنّ أم المعادلة للهمزة حقيقتها هنا الاستفهام عن أحد أمرين، فمعنى أكان كذا أم كذا أيّ الأمرين كان، ولا يستفهم عنهما إلاً من تصوّرهما فقد استويا في علمه واستوت أقدامهما على سطح فهمه من غير تقديم رجل على أخرى، وهذا مما
يلزم الإستفهام لزوما بيناً فلما لم يرد بهمزة التسوية ومعادلها حقيقتهما من الإستفهام تجوّز بهما عن معنى الواو العاطفة الدالة على اجتماع متعاطفيها في نسبة مّا من غير دلالة على تقدّم أو تأخر، وهذا مراد سيبويه بالتساوي والمعادلة، كما أشار إليه السيرافي(1/269)
في شرحه ومثل هذا المعنى وان كان مرادا ولازما إلاً أنه لا يلاحظ في عنوان الموضوع بعد السبك كما لا يلاحظ معنى العاطف، فلا يقال في الترجمة هنا إلاً الإنذار وعدمه سواء من غير نظر إلى التساوي حتى يقال إنه إذا كان تقدير المبتدأ المتساويان يلغو حمل سواء عليه كما لغا سيد الجارية مالكها، فيدفع بأنّ التساوي فيه تساو في علم المستفهم وتساوي المحكوم به في عدم الفائدة في الخارج كما قالوا، ولو. كان ما ذكر لهذا لم يصح ذكره في نحو ما أدري وما أبالي أقمت أم قعدت ولا حمل فيه لسواء، وقد حام حول الحمى المولى الفناري فيما قاله من أنّ التجريد لمعنى الاستواء، لحديث اللغوية على ما يفهم من ظاهر قول المصنف أنه مقرّر، ومؤكد وفيه أنه لا يحصل المقصود بدون الحكم به فإنّ قوله {؟ لأنلرتهم أم لم تنذرهم} بدون سواء لا يفهم منه حقيقته، وما فهمه الشراح من الكشاف أنّ الاستواء الذي تضمنه الهمزة وأم استواء في علم المستفهم وما بعده في نفس الأمر، فالمعنى الإنذاو، وعدمه المستويان في علم المستفهم مستويان في نفس الأمر كما ذكره الرازي، وقال التفتازاني: معناه المستويان في علم المستفهم مستويان في عدم الفائدة، وقال الجمال الأقسراني: إنّ هذا كله تكلف لا يلائمه المقام إذ لا وجه للتعرّض لعلم المستفهم فضلاً عن التعرّض لاستواء الأمرين فيه وإنما الكلام في أنّ الهمزة وأم لما انسلخا عن معنى الإستفهام عن أحد الأمرين، وكانا مستويين في علم المستفهم جعلا مستويين في تعلق الحكم بكليهما، فانتقل قوله أأنذرتهم إلخ عن أن يكون المقصود أحدهما إلى أن يكون المراد كليهما، وهذا معنى الاستواء الموجود فيه فالحكم بالاسنواء في عدم النفع لم يحصل إلا من قوله {سَوَاء عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ} وظفرت بمثله عن أبي عليّ الفارسي اهـ.
وقال قدس سرّه: إن صاحب الكشاف أراد أنّ هذا معناهما في أصلهما ليظهر تضمنهما للاسنواء فيصح الحكم بتجريدهما لا أنّ الاستواء في علم المستفهم مقصود هنا كيف، وهما بعد التجريد لم يقعا في كلام مستفهم، وقيل أراد به أنّ الاستواء الذي جرّدتا له استواؤهما في علم المستفهم عند استعمالهما في الإستفهام وهنا قد ذهب، وبقي الاستواء في العلم وهذا أقرب إلى الحقيقة وأليق بقولهم جرّدتا لمعنى الاستواء منسلخاً عنهما الإستفهام لاقتضائه أنّ المراد بالاستواء هو الذي كان والاً لم يكن تجريداً، والمستفاد من سواء الاستواء فيما سيق الكلام له كأنه قيل المستوياظ في علمك مستويان في عدم الجدوى، وهذا معنى ما نقل عن المصنف ومحصوله من أنّ هنا سؤالاً مقدرا وقع هذا عقبه فلأشير إلى الاستواء في علم ذلك المستفهم كأنه سال ربه لأنذرتهم أم لا، وعن أبي عليّ رحمه الله أنّ الفعلين مع الحرفين في تأويل اسمين معطوفين بالواو وهما الواقعان موقع الفاعل أو المبتدأ، ثم اختار أنّ سواء خبر
مبتدأ محذوف أي الأمران سواء عليّ ثم بينهما بقوله أقمت أم قعدت، والفعلان في مة ضى الشرط والاسمية قبله دالة على جوابه أي إن قمت أو قعدت فالأمران سواء.
ولذا كان الماضي في معنى المستقبل لتضمن معنى الشرط، واستهجن الأخفش كما في الحجة أن يقع بعدهما جملة ابتدائية ولولا تقدم الفعلية في قوله تعالى {سَوَاء عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنتُمْ صَامِتُونَ} [الأعراف: 193] لم يجز واستقبح المضارع بعدهما أيضا ويؤيده أنه في التنزيل ماض، وإنما أفادت الهمزة الشرط لأن ان في المفروض! في الأغلب والإستفهام يستعمل فيما لم يتيقن فقامت مقامهما، ولذا جعلت أم بمعنى أو لأنها مثلها في إفادة أحد الشيئين ط ومما يرشد إلى أنّ سواء في مقام جواب ال! شرط لا خبر أنّ معنى سواء أقمت أم قعدت ولا أبالي معنى واحد وليس خبراً فيه ب! ، بمعنى إن قمت أو قعدت لا أبالي بهما وكذا قوله:
سيان عندي إن برّوا وإن فجروا ~ فليس يجري على أمثالهم قلم
وانما اختصت الهمزة وأم في التسوية بما بعد سواء وما أبالي وما يجري مجراهما، لأنّ المراد التسوية في الشرط بين أمرين، فاشترط فيما يقع خبرا أن يشتمل على معنى الاستواء قضاء لحق المناسبة ولذا وجب تكرير الشرط وعلى هذا الجملة الشرطية خبر إنّ اهـ.
(أقول) قد عرفت المراد بالتسوية هنا على وجه يزيل هذه التكلفات، وأنّ قولهم التجريد يوهم أنه مجاز مرسل استعمل فيه الكل في جزئه، وهو(1/270)
إمّا استعارة أو مستعمل في لازم معناه فرية بلا مرية، وما ذكر من السؤال لا وجه له خصوصا والسورة مدنية وهو صقى الله عليه وسلم قد أمر بالتبليغ قبل الهجرة فكيف يتأتى السؤال، وما نقل عن أبي عليّ صرّح في القصريات بخلافه وقال إنه لا يجوز العطف بأو بعدها حتى قال في المغني إنه من لحن الفقهاء وقال السيرافي في شرح الكتاب سواء إذا دخلت بعدها ألف الإستفهام لزمت أم كقولك سواء عليّ أقمت أم قعدث فإذا عطف بعدها أحد اسمين على آخر عطف بالواو لا غير نحو سواء عندي زيد وعمرو، فإذا كان بعدها فعلان بغير اسنفهام عطف أحدهما على الآخر بأو كقولك سواء عليّ قمت أو قعدت، فإن كان بعدها مصدران نحو سواء عليّ قيامك وقعودك فلك العطف بالواو وبأو وإنما دخلت في الفعلين بغير استفهام لما فيهما من معنى المجازاة فإذا قلت سواء عليّ قمت أو قعدت، ثتقديره إن قمت أو قعدت فهما عليّ سواء اهـ، وهذا مخالف لما نقل عن أبي عليّ رحمه الله، وقوله واستهجن الأخفش إلخ يعارضه قول السيرافي أيضاً البدء بالفعل ههنا أحسن وقد يعادل بالفعلى والفاعل المبتدأ والخبر لاستواء المعنى في ذلك كقوله تعالى {سَوَاء عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنتُمْ صَامِتُونَ} [الأعراف: 193] وان شئت قلت سواء عليكم أنتم داعون لهم أم أنتم صامتون عنهم وسواء عليكم أهم مدعوّون لكم أم هم
متروكون اهـ وما ذكر. من العطف بأو يأباه تصريحهم بخلافه، وأنّ معنى الشرط إنما يلاحظ إذا لم يكن استفهام وما ذكره من البيت لا حجة فيه، لأنه كما صرّح به في أواخر شرح الكافية لابن سينا وكلام مثله لا يستأنس به فضلاً عن أن يحتج به، وهو في الحقيقة له من قصيدة أوّلها:
يا ربع نكرك الأحداث والقدم ~ فصار عينك كالآثار تتهم
قوله (كما جرّدت حروف النداء عن الطلب إلخ) المراد بالطلب طلب إقبال المنادى، لأنّ
النداء إنشاء إذ ليس المراد إخبار المتكلم بأنه ينادي وأنث جرّدت لتأنيث الجمع، وهو حروف جمع حرف وفي نسخة حرف بالإفراد فيقرأ جرّدت بتاء الفاعل المخاطب، وهذه وان كانت أقل فهي أقعد، والمراد بحرف النداء أيها لأنها لا تستعمل إلاً في النداء فالحرف بيمعنى الكلمة، وآثر المصنف هذه العبارة تبرّكا لأنها عبارة سيبويه والمتقدمين، فجمعها باعتبار أفرادها، وأيتها بضم التاء مؤنث أيّ وهي يجوز تأنيثها إذا وصفت بمؤنث كقوله تعالى {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ} [الفجر: 27] وقد كان منادى مبنيا وها بعده حرف تنبيه ويلزم وصفه بمعرّف بأل أو بموصول أو اسم إشارة كما ذكر النحاة ويلزم رفع صفتها، كما في النداء لأن منقول منه إلى الاختصاص ومجموع أيتها العصابة في محل نصب لوقوعه موقع الحال أي مختصا من بين الرجال والطوائف ونحوه، مما يقتضيه لفظه والعصابة صفته ومعناه طائفة من الناس، وقيل هو من العشرة إلى الأربعين كالعصبة ويختص بالرجال، وجمعه عصب كغرفة وغرف والاختصاص والتخصيص لغة الانفراد والإفراد، وفي اصطلاج النحاة قصد المتكلم بعد ضمير ونحوه إلى ذكر اسم ليخصه بحكم ينسبه إليه فيأتي به على صورة المنادى مجرياً عليه أحكامه إلا ذكر حرفه لما بينهما من المناسبة إذ المنادى يختص بالخطاب من بين أمثاله، فنقل من الاختصاص بالخطاب إلى الاختصاص بالحكم كما نقلت الهمزة وأم من الإستفهام إلى التسوية كما مرّ والمراد بالتخصيص الاختصاص في الإثبات والذكر، وهو أعمّ من الحصر، فما قيل من أنّ استعمال النداء في الاختصاص محل خفاء بناء على أنه فهم منه الحصر ليس بشيء. (واعلم) أنّ على هنا باعتبار أصل معناه لأنه يتعذى بعلى فيقال استوى على الأرض قال تعالى {اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف: 45] وقيل: إنها بمعنى عند وفي المغني على تجيء للظرفية، ولذا فسره في اللباب: بمستو عندهم وقيل على هنا للمضرّة كدعا عليه، وليس بشيء لأنّ سواء استعمل مع على مطلقاً فتقول مودّني دائمة سواء عليّ أزرت أم لم تزر، وبما مرّ علم أنه ليس في قوله حرف النداء خلل كما قيل: إنه غير مطابق لنفس الأمر لأنّ باب الاختصاص لم تجرّد فيه حروف النداء بل لا وجود لحرف النداء فيه أصلاَ لا لفظا ولا تقديراً كما اتفق النحاة عليه، وعبارة الكشاف في غاية الحسن لسلامتها مما ذكر، وقد تؤوّل العبارة على أنه أراد بالحروف الكلمات الجارية في الاختصاص، وهي الأسماء التي على صورة
المنادى لا الحروف التي هي يا وأخواتها(1/271)
اهـ. قوله: (والإنذار التخويف الخ) كون معناه لغة التخويف قول هشهور، وقيل معناه فيها الإبلاغ قال في المصباح وأنذرت الرجل كذا إنذارا أبلغته يتعدّى إلى مفعولين، وكثر ما يستعمل في التخويف وأمّا استعماله في القرآن بمعنى التخويف من عذاب الله، فإمّا أن يجعل منقولاً من العذاب أو بطريق النقل والتخصيص في عرف الشرع أو لأنه في تأويل مصدر معرّف بتعريف عهديّ، وقيل إنه من استعمال المطلق في بعض أفراده مجازاً، وقال ابن عطية رحمه الله: لا يكاد يكون الآ في زمان يسع الاحتراز فإن لم يسعه فهو إشعار لا إنذار، والمفعول الثاني هنا محذوف تقديره " نذرتهم العذاب أم لم تنذرهم إياه والأحسن أن لا يقدر له مفعول ليعمّ كما في الدرّ المصون وغيره، فقوله من عذاب الله كما مرّ إشارة للمفعول أو التأويل والأوّل أقرب وأولى. وقوله: (اقتصر إلخ) قيل مراده محتمل لعدم ذكر البشارة بطريق الاقتصار عليها أو بالاشتراك بأن يذكرا معاً لأنها تفهم بطريق دلالة النص، لأنّ الإنذار أوقع وأولى كما أشار إليه المصنف فاندفع ما قيل من أنّ هذه النكتة لا تفيد ترك الجمع، فالوجه أن يقال الكافر ليسى أهلاً للبشارة فتأمّل. قوله: (وقرىء لأنذرتهم إلخ) قالوا تحقيق الهمزتين لغة تميم، فلا عبرة بمن أنكرها، وتخفيف الثانية بين بين لغة الحجاز وكذا إدخال الألف بين الهمزتين تحقيقاً وتسهيلاً كقوله:
فياظبية الوعساء بين حلاحل وبين النقاآ أنت أم أمّ سالم
وروي عن ورس إبدال الثانية ألفاً محضة فقال الزمخشريّ وتبعه المصنف: إنها لحن لأنّ الهمزة المتحرّكة لا تبدل ألفا ولأنه يؤذي إلى جمع الساكنين على غير حده، وهو خطا لثبوتها تواتراً في القراءات السبعة كما ذكرناه وما طعنوا به ليس بشيء لأنه وود عن فصحاء العرب إبدال الهمزة المتحرّكة وان كان أقل من إبدال الساكنة كما في قوله لا هناك المرتع وقوله: سألت هذيل رسول الله فاحشة
والتقاء الساكنين على حده في اصطلاج أهل العربية، والأداء أن يكون الأوّل حرف لين والثاني مدغماً نحو الضالين وخويصة ثم خصوا الوقف بجواز التقائهما مطلقا لكونه عارضا فتلخص من كلامهم أنه لا يجمع بين ساكنين وصلا في غير ما ذكر، وإنما اغتفر في الإدغام لعروضه ولأنّ المدغم والمدغم فيه كحرف واحد، فكأنه متحرّك وضمير على حدّة للجمع، والحد بمعنى حكمه الذي لا يتعداه ويجوزه جوازا، كما في قوله وأجدر {أَلاَّ يَعْلَمُواْ حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللهُ} [التوبة: 97] أي أحكامه اللائقة به.
وأجيب عن التقاء الساكنين بأنّ من قلبها ألفاً أشبع مد الألف بزيادة ألف أو ألفين ليكون
ذلك فاصلاً بين الساكنين، كما ذكروه في قراءة محياي بسكون الياء وصلا وهذا مما اتفق عليه القرّاء، وقالوا التخلمى من التقاء الساكنين إذا كان على غير حده بالتحريك أو الحذف أو زيادة ألف في المد، ولا يخلو من إشكال وان سلموه لهم هنا لأنّ الألف المزيدة ساكنة أيضاً، فكيف يتخلص بها من التقاء الساكنين وقد زيد ساكن ثالث.
وقال أبو حيان القراءة المتواترة لا تدفع ببعض المذاهب وكون حد التقاء الساكنين ما مرّ مذهب البصريين ولا يجب اتباعه مع أنه في المطرد المقيس، وكلام الله مما يقاس عليه لا مما يقاس على غيره، فإذا جاء نهر الله بطل نهر معقل على أنه عارض، والأصل أنه لا يعتدّ به، ثم إنّ هذه القراءة من قبيل الأداء ورواية البغداديين عن ورش التسهيل بين بين على القياس فليس الطعن فيها طعناً في القرآن المتواتر بل في كيفيته أو في روايته على أنه لا يبالي بذلك وما ذكره المصنف رحمه الله أحسن من قوله في الكشاف: وقرىء بتحقيق الهمزتين والتخفيف أعرب، وأكثر أي أدخل في العربية وأفصح والشرّاح على أنّ هذه جملة معترضة بين المتعاطفين قدمت اهتماما وأصلها التأخير قيل وهو مبنيّ على أنّ التخفيف بمعنى جعلها بين بين، وليس هذا مراده بل مراده التخفيف بإسقاط إحداهما، فمرتبته بعد التخفيف كما يشهد به الذوق، وليس بشيء لأنّ الحذف شأتي في عبارته أيضا والتأخير لا يدفع التكرير، ولو قيل التخفيف المراد به هنا أعمّ من الحذف والتسهيل بين بين على أنّ ما بعده تحقيق للتخفيف، وتفصيل له كان أحسن فتأمّل. قوله: (بين بين) ظرف مكان مبهم وهما اسمان ركبا وبنيا على الفتح كخمسة عشر وجعلا اسما واحداً بتقدير بين التخفيف والإبدال أو بين الهمزة والهاء. وقوله: (وبحذف(1/272)
الاستفهامية إلخ) في الكشاف وبحذف حرف الإستفهام وبحذفه، والقاء حركته على الساكن قبله كما قرىء {قَدْ أَفْلَحَ} اهـ 0 وتبعه المصنف رحمه الله، وقد أشكل على شرّاحه بأسرهم.
قال قدس سرّه هذه القراءة والتي بعدها من الشواذ والباقية متواترة، وأنما جعل المحذوف همزة الإستفهام، لكثرة حذفها كما في قوله:
بسبع رمين الجمر أم بثمان
دون حذف همزة الأفعال في الماضي والظاهر أنّ الضمير في قوله حركته راجع إلى حرف الإستفهام المحذوف، فالقراءة بفتح الميم والهمزة معاً، وهي مع كونها غير مروية عن أحد مخالفة للقياس موجبة للثقل، فلذا قيل الضمير راجع للحرف الذي بعد حرف الاستفهام، فالقراءة عليهم نذرتهم بلا همزة أصلاً وبشهد له قوله {قَدْ أَفْلَحَ} [المؤمنين: ا] اهـ. وقد اختلف الناس بعدهم إلى مسلم ومجيب كما قيل إنّ أبا شامة نقل عن ابن مهران أنّ للقرّاء في الهمزة بعد ميم الجمع ثلاثة مذاهب.
الأول نقل حركتها للميم مطلقا فتحة كانت أو ضمة أو كسرة.
والثاني ضمها مطلقا لأنه حركتها الأصلية.
والثالث نقل الضمة والكسرة دون الفتحة فقولهم غير مروية عن أحد مندفع. وفي شرح الشاطبية أنّ لحمزة في الهمزة بعد ميم الجمع وجوها منها النقل، وقد قرأ أأنذرتهم ونحوه بنقل الأولى وتسهيل الثانية فلك أن تحمل هذه العبارة على ظاهرها مرت غير ارتكاب تعسف أو شذوذ غايته أنهم تركوا التصريح بالتسهيل وهو سهل فتدبر. قوله: (جملة مفسرة إلخ) الجارّ والمجرور أعني لإجمال متعلق بقوله مفسرة وهو الظاهر وقيل إنه مستقرّ أي مسوقة لإجمال إلخ والإجمال لغة الإتيان بجملة الشيء من غير تفصيل، ويكون بمعيى فعل الجميل كما في قول المتنبي:
إنا لفي زمن ترك القبيح به من أكثر الناس إحسان واجمال
والمفسرة جملة مبينة لجملة سابقة أو لبعض مفرداتها ولا محل لها من الإعرإب على
القول المشهور بين النحاة قيل: هذا بالنظر إلى مفهوم اللفظ مع قطع النظر عن أنه إخبار عن الكفار المصرّين فإنه حينئذ لا يبقى إجمال والعجب من بعض شرّاج الكشاف إذ ذهب إلى أنّ لها محلاً من الإعراب، وليس بشيء لأنّ كفرهم وعدم نفع الإنذار في الماضي بحسب الظاهر مسكوت فيه عن الاستمرار والدوام وقوله {لَا يُؤْمِنُونَ} دال عليه ومبين له وأما كون الجملة المفسرة لها محل من الإعراب الذي عده من العجب فهو من العجب لأنه مذهب الشلويين كما في المغني لاً نها عنده عطف بيان، ولذا قال قدس سرّه: لها محل من الإعراب إذا جعلت بيانا للجملة وأجريت مجرى التوابع، ومعنى استواء الإنذار وعدمه في؟ عدم النفع أنهم لا يتصوّر منهم إيمان أبدا والمراد بالمحل أنه لو حل محلها اسم مفرد أعرب بذلك الإعراب. قوله: (أو حال موّكدة إلخ) الحال المؤكدة عندهم إذا أطلقت فالمراد بها نحو زيد أبوك عطوفا، وقد اشترط النحاة فيها الوقوع بعد جملة اسمية طرفاها معرفتان جامدان وعاملها محذوف أبدا، وقد يرإد بها ما يؤكد شيئا مّا قبله، وهو المراد ومن توهم أنّ المراد الأوّل فقد خبط خبط عشواء، وصاحب الحال الضمير في عليهم أو أنذرتهم والبدل إمّا بدل اشتمال لاشتمال عدم نفع ما مز على عدم الإيمان أو بدل كل من كل لأنه عيته بحسب المآل.
وقال أبو حيان: {لَا يُؤْمِنُونَ} له محل من الإعراب خبر بعد خبر أو خبر مبتدأ محذوف
أي هم لا يؤمنون، وقد جوّز فيه أن يكون حالاً وهو بعيد، ويحتمل أن لا يكون له محل على أنّ الجملة تفسيرية أو دعائية وهو بعيد، وما قيل من أنّ عبارة الكشاف إما أن يكون جملة مؤكدة للجملة قبلها أو خبر الآن ولم يذكر الحالية وكلام المصنف منسوح على منواله، فكأنّ
النساخ حرفوا الجملة بالحال تركه أولى من ذكره. قوله: (أو خبر إق والجملة إلخ) في الكشف كونه جملة مؤكدة أولى من المقابل سواء جعل لا يؤمنون تاكيداً كما ذكره أو بيانا لعدم الاجداء المقصود من الكلام، لأن جعل سواء الجملة اعتراضاً، وان حسن فيه أنّ من حق الاعتراض أن يساق مساق التأكيد لما عسى يختلج في وهم، وأن يتم المقصود دونه لفظاً ومعنى ولا كذلك ما نحن فيه لأنه أقوى في الإبانة عما سيق له الكلام من قوله {لَا يُؤْمِنُونَ} على ما لا يخفى وأمّا جعل لا يؤمنون خبرا بعد خبر أو حالاً مؤكدة، فلا يخفى ما فيه من فوت فخامة المعنى وتبعه قذس سرّه هنا وارتضى ما ارتضاه يعني أنّ جملة التسوية أدل على ما قصد من النظم في السباق بالموحدة، وهو أنّ المؤمنين(1/273)
بما جاء به، وبما أنزل إليه وأنزل من قبله هم المهديون الفائزون بخير الدارين، وحق هؤلاء أن يقابلوا بكفار مصرين إنذار الرسل والكتب، سواء لديهم والعدم وكذا سياق ما بعده من ختم المشاعر، وتغطية البصائر إنما يأخذ بحجزه عدم الانتفاع بالآيات والنذر على ما لا يخفى، وأمّا ما قيل عليه من أنه أراد بما سيق له الكلام وصف الكتاب بما هو شأنه فكما أنّ في الحكم بالاستواء إدماجا لوصف الكتاب بأنه لا يجدي، فكذا هو في قوله {لَا يُؤْمِنُونَ} فهما متساويان والثانية أبين دلالة على المراد فهو أظهر وأقوى، وجعله ركناً من الكلام أوجه وأولى، وان أراد به عدم نفع الدعوة كقوله تعالى {سَوَاء عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنتُمْ صَامِتُونَ} [الأعراف: 193] فنفي الإيمان أيضاً أدل عليه خصوصا وما قبله معلل ومؤكد له، فسواء والعدم على من دقق النظر وأحسن الورد والصدر، وقيل: الاعتراض أن يؤتى في أثناء كلام أو بين كلامين متصلين معنى بجملة لا محل لها من الإعراب لنكتة سوى دفع الإيهام، وجوز بعضهم كونه لدفع الإيهام وكونه في آخر الكلام وأمّا اشتراط كونه للتأكيد فمما لم نسمعه، وهذا إن كان ما قبله جملة فإن كان اسم فاعل وفاعلا تعين أن يكون {لَا يُؤْمِنُونَ} بيانا وتقريراً له لأنّ الاعتراض لا يكون إلاً جملة وهو يرد على عامّة الشراح، وقد اغترّ به المولى ابن كمال والحق معهم دراية ورواية أمّا الأوّل فلأنه لو لم يؤكد كان ترقيعاً للديباج بالخيش. وأمّا الثاني فلقوله في الكشاف في سورة الزمر حق الاعتراض أن يؤكد المعترض بينه وبيته، وقال ابن مالك في التسهيل: الجملة الاعتراضية هي الجملة المفيدة تقوية، وبعد هذا المقال ما بعد الحق إلاً الضلال، وقول المصنف رحمه الله بما هو علة الحكم فيه إشارة إليه ووجهه أنه يدل على قسوة قلوبهم وعدم تأثرهم بالإنذار وهو مقتض لعدم الإيمان، وما قيل من أنه ليس في الاخبار عن الذين كفروا بعدم الإيمان فائدة إلاً أن يقيد بقيد وهو خلاف الظاهر قد دفع بأنّ الموضوع دل على عدم إيمان في الماضي، والمحمول على استمراره في المستقبل وما أورد عليه من أنّ مراد المعترض أنه لا فائدة تناسب ما سيق له الكلام، لأنه إذا جعل بيانا أفاد أنّ عدم إيمانهم لقصور فيهم لا في كمال الكتاب الذي سيقت الآية لبيانه غير مسلّم، وما روي من الوقف على قوله {أَمْ لَمْ تُنذِرْ} والابتداء بقوله {هُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} على أنه مبتدأ وخبر مردود لا يلتفت إليه وإن نقله الهذلي رحمه الله في كتاب الوقف والابتداء كما في الدرّ المصون. قوله: (والآية مما احتج به إلخ) هذا مما زاده المصنف على ما في الكشاف، وهو من أمّهات المسائل الأصولية وله أدلة منها ما ذكر كما يثير إليه قوله مما، واطلاقه التكليف يتناول الوجوب وغيره وتقريرهم ظاهر في أنّ الخلاف في الوجوب، وفي الآيات البينات لا مانع من إ-هـ ائه في غير.، وفي تحرير ابن الهمام القدرة شرط التكليف بالعقل عند الحنفية والمعتزلة لقبح التكليف بما لا يطاق، واستحالة نسبة القبيح إليه تعالى، وبالشرع عند الأشاعرة في الممكن لذاته كحمل جبل، واختلف في المحال لذاته، فقيل عدم جوازه شرعي لأنه تعالى قال {لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة: 286](1/274)
فلو كلف الجمع بين النقيضين جاز عقلاً، وهدّا منسوب للأشعري، وقيل: عقليّ وتحرير محل النزاع أنّ مراتب ما لا يطاق ثلاث أدناها ما يمتنع لعلم الله بعدم وقوعه أو لإرادته ذلك، أو لإخباره به ولا نزاع في وقوع التكليف به فضلاً عن الجواز فإنّ من مات على كفره ممن أخبر الله تعالى بعدم إيمانه يعدّ عاصيا إجماعاً يعني بإجماع أهل الإسلام وفرقه فإنّ الآمديّ نقل عن بعض الثنوية أنه منع جوازه كما في شرح منهاج المصنف رحمه الله وأقصاها ما يمتنع لذاته كجمع الضدّين، وفي بخواز التكليف به تردّد بناء على أنه يستدعي تصوّر المكلف به واقعاً وتصوّر الممتنع واقعاً فيه تردّد ليس هذا محل تفصيمه والحق جوازه لا وقوعه وإن قيل به أيضاً، والمرتبة الوسملى ما أمكن في نفسه لكنه لم يتعلق بوقوعه قدرة العبد أصلاً كخلق الجسم أو عادة كصعود السماء، وهذا هو الوإقع فيه الخلاف على المشهور عند المحققين، والمراد بالتكليف هنا طلب تحقيق الفعل والإتيان به، واستحقاق العقاب على تركه لا مطلق الطلب، ولا الطلب قصداً للتعجيز واظيار عدم الاقتدار على الفعل كما في طلب معارضة القرآن للتحثي، ثم إنّ النزاع في هذا إنما هو في الجواز، وأمّا الوقوع فممتنع بحكم الاستقراء الشاهد عليه اننصوص كقوله تعالى {لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة: 286] الآية وبهذا ظهر أنّ كثيرا من تمسكات الفريقين لم يرد على المتنازع فيه هذا محصل ما في شرح المقاصد وكله مما طبق فيه المفصل إلا قوله أخيرا إنّ النزاع إنما هو في الجواز، فإنه صرّح في كثير من كتب الأصول بخلافه إلاً أن يقال إنه لم يعتد بالخلاف في الوقوع، ثم إنّ بعض أهل الأصول فرق بين التكليف بالمحال بالباء الموحدة وتكليف المحال بدونها، وقال: الكلإم هنا في الأوّل وفي الثاني أيضا خلاف الأشعريّ على ما في شرح منهاج المصئف. قوله: (فإنه سبحانه وتعالى أخبر عنهم بأنهم إلخ) بيان لوجه الاحتجاج ودفع لما يرد عليه من أنّ ما نحن فيه ليس محالاً لذاته ولا عادة بل عقلاً فقط، وهو واقع بالاتفاق كما مرّ فقرّره على وجه يبينه ويدفع ما يرد عليه، وإن جاز ووقع وهو مستلزم لاجتماع الضدّين لزم منه وقوع المحال لذاته وما يستلزم المحال لذاته محال لذاته فالمستحيل لذاته قد وقع لأنّ أبا لهب مثلاً قد أمر بالإيمان
بكل ما أنزله تعالى وبالتصديق به، ومنه أنه لا يؤمن فصاو مكلفاً بأنه يؤمن بأنه لا يؤمن، أو بأنه يؤمن وبأنه لا يؤمن، وهو جمع بين النقيضين، وحاصله أنّ التكليف بالشيء تكليف بلوازمه، وردّ بالمنع لا سيما اللوازم العدمية، وهذا يحتمل أن يكون دليلاً للقائلين بالوقوع، فيدل على الجواز الذي ذكره المصنف بالطريق الأولى، ويحتمل أن يكون نقضاً لاستدلالهم بالاستقراء المقرّر في كلام القوم. وقوله: (فلو آمنوا إلخ الما صوّره بالاخبار المناسب للمقام قرّره بانقلاب نجره كذباً ومن المتكلمين من قرّره بلزوم انقلاب علمه جهلاً وهو قريب منه، وفي شرح المقاصد لا يقال لا نسلم أنه لو آمن لزم انقلاب العلم جهلاً بل يلزم أن يكون العلم المتعلق به أزلاً أنه لا يموت مؤمنا، فإنّ العلم تابع للمعلوم فيكون هذا تقدير علم مكان علم لا تغيير علم إلى جهل كما إذا قدر من يأتي بالقبيح آتيا بالحسن، فإنه يكون من أوّل الاً مر مستحقا للمدح لا منقلباً من استحقاق الذم لاستحقاق المدح، لأنا نقول الكلام فيمن تحقق العلم بأنه يموت كانرا فعلى تقدير الإيمان يكون الانقلاب ضروريا، وكذا من أخبر تعالى بأنه لا يؤمن كأبي جهل، وقد عرف أنه ليس محل النزاع فليس الدليل في محله، وعلى تقرير أكثر المحققين هو يدل على وقويم التكليف بالمحال لذاته لجمع النقيضين وفي إرشاد إمام الحرمين رحمه الله، فإن قيل: ما جوّزتموه عقلاَ من تكليف المحال هل اتفق وقوعه شرعاً قلنا: قال شيخنا ذلك واقع شرعا فإنه تعالى أمر أبا لهب بأنّ يصدق ويؤمن بجميع ما أخبر عنه، ومنه أنه لا يؤمن فقد أمره أن يصدّقه بأن لا يصدقه وذلك جمع بين التقيضين، وكذا في المطالب العالية للرازي، وقال أيضاً إنّ الأمر بتحصيل الإيمان مع حصول العلم بعدمه أمر بجمع الوجود والعدم لأنّ وجود الإيمان مستحيل أن يحصل مع العلم بعدمه بمقتضى المطابقة، وهي بحصول عدم الإيمان، وقيل ما ذكر لا يدل على أنّ المكلف به هو الجمع بل تحصيل الإيمان، وهو ممكن في نفسه مقدور للعبد بحسب أصله وإن امتنع لسابق علم أو إخباو من الرسول صلّى الله عليه وسلم بأنه لا يؤمن فيكون مما هو جائز بل واقع، وفيه أنّ الكلام فيمن وصل إليه هذا الخبر وطلب بالتصديق به على التعيين، وقيل المطلوب من مثل أبي لهب التصديق بما عدا هذا ألاخبار وهو في غاية السقوط اهـ. وقال شيخنا رحمه الله في الآيات البينات أنّ الاستحالة باعتبار الانقلاب في العلم القديم وخبر الصادق عقليّ لا دخل للعادة فيه والجواز العاديّ باعتبار كون الشيء مما يقع نوعه متكررا كإيمان الكافر فلا مخالفة بين كونه ممكناً عقلاً ومحالاً عقلاً لذاته أو لغيره، فإنه بخصوصه بعد قيام الدليل ممتنع عقلاً وعادة، فإن نظر لكون الدليل غير لازم لزوما بينا فهو ممتنع لغيره وان قطع النظر عن الدليل كان ممكنا عقلاً وعادة نظرا لنوعه، وهو نظر دقيق إن ساعده التوفيق. قوله: (فيجتمع الضدّان) هذه عبارة الإمام في المحصول، ومن تبعه من أهل الأصول وعبر في الحاصل وفي شرح المقاصد وغيره بنقيضين بدل ضدين، وكذا عبر به المصنف في المنهاج ووجهه أنّ من نظر إلى الإيمان وعدمه جعلهما نقيضين، وهو
الظاهر فإن نظر إلى أنّ العدم غير مكلف به وأنه إنما يكلف بنفس الكف، وهو فعل وجودي فهما ضدان بهذا الاعتبار والحاصل أنّ تصديقه في أن لا يصدقه محال ممتنع لذاته لأنّ فرض وقوعه مستلزم لعدم وقوعه، وكل ما يلزم من فرض وقوعه لا وقوعه فهو ممتنع بالذات، فيكون ممتنعاً عادة بالطريق الأولى، وبهذا استدلّ(1/275)
بعضهم على أنّ التكليف بالممتنع لذاته واقع، فاذا كان التكليف بهذا التصديق واقعا كان التكليف بالمحال واقعا فتدبر. قوله: (والحق أنّ التكليف إلخ) هذا إشارة إلى أنّ القائل بعدم التكليف به من المعتزلة مأخذه أنه لا فائدة في طلب المحال، وفي شرح مختصر ابن الحاجب أنّ مأخذه أنّ الآمر يريد وقوع المأمور به والجمع بين علمه بعدم وقوعه وارادة وقوعه كالتناقض، وهذا بناء على أنّ الأمر عندهم هو الإرادة وأنّ أفعال الله تعالى معللة بالاغراض، والى هذا أشار المصنف رحمه الله بقوله لا تستدعي غرضاً أي لا تقتضيه يعني أنه إنما يستحيل الأمر بما لا يقدر عليه المكلف إذا كان غرض الآمر حصول المأمور به وحكم الله لا يكون لغرض، وان ترتب عليه فوائد ومصالح كلها نافعة لأنه الحكيم المتعالي وقال إمام الحرمين: الأمر بهذا ليس للطلب بل إن كان ممتنعاً لذاته فالأمر به للإعلام بأنه معاقب لا محالة لأنه تعالى له أن يعذب من يشاء، وان كان ممتنعا لغيره، فالأمر به لفائدة الأخذ في المقدمات كما قرروه في أصولهم وعليه أنه لا يتوجه على المعتزلة، لأنهم يمنعون هذه القاعد 6، وقد مرّ في شرح المقاصد أنّ الطلب التكليفي للإتيان بالفعل، واستحقاق تاركه العذاب واندفاعه ظاهر. قوله: (سيما الامتثال إلخ) الامتثال هو الإتيان بالمأمور به على الوجه المطلوب شرعا، كما في كتب الاً صول فالمراد أنّ الامتثال أحق شيء بعدم الاستدعاء لأن يكون غرضا للأمر، ولذا جاز النسخ قبل الفعل، ولو كان الامتثال مقصعا لم يجز والمذكور بعد سيما منبه على أولويته بالحكم لا مستثنى خلافا لبعض النحاة، ووجهه أنه كأنه أخرج عما قبله من حيث أولويته بالحكم قيل استعماله بدون لا كما في عبارة ثمصتف لحن غير جائز فما في عبارة المصنف كما في شرح المفصل، والمغني خطأ وهو غير وارد لأن الحذف لقرينة جائز والقرينة أنه شاع استعماله معها، وقد قال الرضي أنه يجوز تثقيل ياث وتخفيفها مع ذكر لا وحذفها، وهو ثقة فقول الدماميني أنه لم يقله غيره، وأنه لم يستعمله بدونها إلا العجم سوء ظن بالثقة وليس مثله من الحزم، ويجوز في الامتثال الرفع والنصب والجرّ كما قالوه في يوم في قوله:
ولا سيما يوم بدارة جلجل
وقوله للاستقراء هو ما ذكره القوم في أستدلالهم ولم يذكر النص وهو قوله {لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة: 286] الآية لأنه غير صريح فيه كما سيأتي بيانه
والاستقراء وهو السبر والتقسيم الاستدلال بثبوت الحكم في الجزئيات على ثبوته للكلي الشامل لها مأخوذ من قرأت بمعنى جمعت وسينه للطلب لأنّ المستقرىء طالب للافراد التي يجمعها لينظر اتفاقها يعني أنّ التكاليف تتبعت فلم يوجد فيها محال لذانه قد وقع. قوله: (والإخبار بوقوع الشيء إلخ) يعني أنّ الإخبار بوقوع شيء أو عدمه لا ينفي القدرة التي هي شرط التكليف وصحته ولا ينافي كون الإيمان وعدمه مقدورين في حد ذاتهما، وإن لزم امتناع الإيمان في بعض الأشخاص لمانع آخر لتخلف ما أخبر به الله أو وجود ما يخالف علمه أو اجتماع ضدّين إلى غير ذلك من الأمور الخارجة عنه فلا يقتضي الامتناع الذاتي فيه لأنّ علمه بعدم الشيء واخباره عنه لا يجعله ممتنعا كما أنّ علمه بوجوده واخباره به لا يجعله واجباً كما ستراه، وهذا جواب عما احتج به من خالف المذهب الحق، وقد مرّ في توجيه الاحتجاج بهذه الآية أمران الأوّل أنه تعالى أخبر بعدم إيمانهم وأمرهم بالإيمان، فلو آمنوا انقلب خبره كذبا والثاني لزوم اجتماع ضدّين لما مرّ أو لأنّ تصديقه للرسول صلّى أدلّه عليه وسلّم في أن لا يصدقه تصديق له في نحو قوله {سَوَاء عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ} الآية فلو صدر منه تصديقه للرسول صلى الله عليه وسلّم في هذا الخبر علم وقوع فرد من أفراد تصديقه للرسول صقى الله عليه وسلم، وهو خلاف مضمون الخبم الذي صدق الرسول صقى الله عليه وسلم فيه وهو أنه لا يصدقه في شيء أصلاً، والعلم بوقوع ما يناقض مضمون الخبر مستلزم لتكذيب المخبر فيه، فإنّ العلم بوقوع الخسوف في ساعة كذا من سنة كذا مستلزم عادة لتكذيب من قال لا خسوف في تلك السنة أصلاً فيكون تصديقه الرسول صلى الله عليه وسلم في أن لا يصدقه مستلزما، لتكذيب الرسول صلّى الله عليه وسلم في أن لا يصدّقه أصلاً، وتكذيبه فيه مستلزم لعدم تصديقه فيه لامتناع اجتماع التصديق والتكذيب في شيء واحد فيستلزم عين كل منهما نقيض الآخر، فتصديقه(1/276)
في أن لا يصدقه مستلزم لعدم تصديقه فيه كما قرّره بعض الفضلاء هذا، ثم إنه قيل إنّ هذا جواب عن الأمرين أمّا الأوّل فظاهر لأنّ الكذب إنما يلزم إذا وقع خلاف المخبر به، والتكليف بالشيء لا يقتضي إيقاعه بالفعل بل القدرة عليه والإخبار بطرفي الشيء لا ينفيها وأمّا الثاني فبأن يقال إنهم لم يكلفوا إلا بتصديقه، وهو ممكن في نفسه مقصود وقوعه إلاً أنه مما علم الله أنهم لا يصدقونه لعلمه بالعاصين وأخباره لرسوله صلّى الله عليه وسلم كإخباره لنوح عليه الصلاة والسلام بقوله {أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ} [هود: 36] الآية لا أنه أخبرهم بذلك ولا يخرج الممكن عن الإمكان بعلم، أو خبر، ولا ينفيان القدرة عليه إلخ كما أفاده المحقق عضد الملة والدين يعني لا يلزم التكليف بما يستلزم نقيضه لأنهم كلفوا بتصديق الرسول صلّى الله عليه وستم في جميع ما جاء د 4 إجمالاً، وفيما علموا مجيئه به تفصيلاَ وقوله سواء عليهم إلخ ليس مما علموا مجيئه به لأنه إخبار للرّسول صلّى الله عليه وسلّم بحالهم، وليس من الأحكام المتعلقة بأفعالهم حتى يجب تبليغه إليهم، فلا يكلفون بتصديقه والتصديق بغيره مما جاء به ممكن وقوعه منهم
عادة، فلا يكون التكليف به تكليفاً بالمحال وتعلق العلم أو الإخبار بعدم صدوره منهم لا يخرجه عن الإمكان لأنهما تابعان للوقوع لا سببان له على أنا لا نسلم أنهم أمروا به بعدما أنزل أنهم لا يؤمنون. قوله: (كإخباره إلخ) هذا تلخيص لما قاله الإمام من أنّ ما يدل على العلم بعدم الإيمان لا يمنع من وجود الإيمان لأنه لو كان كذلك وجب أن لا يكون الله قادراً على شيء لأنّ ما علم وقوعه يكون حينئذ واجباً فليس للقدرة فيه أثر وأمّا الممتنع فلا قدرة عليه، فلا يكون تعالى قادرا على شيء أصلاً، وهو كفر فثبت أنّ العلم بعدم الشيء لا يمنع من وجوده، والعلم متعلق بالمعلوم على ما هو عليه فإن كان ممكناً فعلمه به ممكن، وان كان واجباً كان واجباً ولا شك أنّ الإيمان والكفر في حد ذاته ممكن، فلو وجب بسبب العلم كان العلم مؤثراً في المعلوم، وقد ثبت أنه محال، وأيضا لو كان العلم والخبر مانعا لم يكن العبد قادرا على شيء أصلاَ كالجماد، وأفعاله كلها اضطرارية ونحن نعلم بالبديهة خلافه فدل على أنّ كلا منهما غير مانع من الفعل والترك، ولو مغ العلم بالعدم عن الوجود كان أمره تعالى الكافر بالإيمان أمراً بإعدام علمه، وهو غير معقول والإيمان في نفسه من الممكنات، فيجب أن يعلمه الله كذلك لئلا ينقلب علمه سبحانه جهلاً، أو يجتمع في شيء واحد كونه واجباً وممكناً وهو محال وقوله باختيار. قيد لفعل العبد إشارة لما تقرّر في الأصول من أنّ الإكرا. الملجىء يمنع التكليف، لزوال القدرة عليه بالاتفاق وأمّ غير الملجىء ففيه خلاف والأصح عند المصنف أنه لا يمنعه بهما ذكره في المنهاج. قوله: (وفائدة الإنذار إلخ) هذات مة لما قبله فإنّ المنكرين له كما في التفسير الكبير قالوا لا يجوز ورود الأمر بالمحال في الشرع لأنه كأمر الأعمى بنقط المصاحف والمقعد بالطيران، وهو كبعثة الرسل للجماد فأشار إلى جوابه بما ذكر، وينجع مضارع نجع بنون وجيم وعين مهملة بمعنى أفاد ونفع وأصله من نجع الدواء إذا نفع المريض ففيه تشبيه لإنذار الرسل بالدواء النافع ولطفه ظاهر كما قال تعالى وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة والزام الحجة أن لا يبقى لهم شبهة يجيبون بها، أو يقولون ما جاءنا من نذير، وحيازة الرسول صلّى الله عليه وسلّم أي تحصيله ووصوله لها من حازه إذا ضمه وجمعه كما في القاموس وغيره، وتفسيره بالإحاطة على أنه من الحيز وهو المكان تكلف، ولم يقل سواء عليك لأق الإنذار وعدمه ليس سواء لديه لفوات فضيلة الإنذار الواجب عليه على تركه وإذا أربد بالموصول ناس معينون على أنّ تعريفه عهديّ، كما هو الأصل فيه كان فيه معجزة لأخبار. بالغيب وهو موت هؤلاء على الكفر كما كانوا بخلاف ما لو كان للجنس لعدم التعيين وهو
ظاهر. قوله: (تعليل للحكم السابق إلخ) إشارة إلى أنه ترك عطفه، لأنه مستأنف في جواب سؤال عن مطلق سبب الاستواء، وإصرارهم على كفرهم كانه قيل ما بالهم إستوى لديهم الإنذار، وعدمه فاجيب بأنهم ختم الله إلخ وهذا لا ينافي كونه له سبب آخر كالانهماك الآتي، وإن علل هذا أيضاً بما دل عليه استواء الأمرين من التصميم على الكفر ولذا قيل إنّ هذا الاستئناف ورد لبيان علة تلك العلة، سواء أريد بالحكم ما تضمنه لا يؤمنون أو الاستوإء أو مجموع ما مرّ. وقوله: (وبيان إلخ) عطف تفسيري وكونه نتيجة لما قبله خلاف الظاهر(1/277)
مع أنّ النتيجة تستعمل بالفاء كما اعترف به هذا القائل وكون عطف ولهم عذاب عظيم عليه يعينه إذ لا يصلح للعطف سبأتي بيانه. قوله: (والختم الكتم إلخ) في الكشاف الختم والكتم أخوان أي بينهما مف سبة معنوية مع التوافق في العين واللام وكثر الحروف، وهو نوع من الاشتقاق عندهم يسمونه الاشتقاق الأكبر، وهو المراد بالأخوّة في مثله وهذا أحسن من تفسيره به كما فعله المصنف رحمه الله فإنّ حقيقة الختم الوسم بطابع ونحوه والأثر الحاصل من ذلك وحقيقة الكتم الستر والإخفاء، وهما متغايران فلا وجه لتفسيره به لكنه لما لزمه ذلك جعله كأنه عينه مبالغة وهو ظاهر فلا غبار عليه كما قيل، وسمي به بمعنى أطلق عليه واستعمل فيه والتسمية تكون بهذا المعنى وبمعنى وضع العلم والمراد الأوّل، والاستيثاق استفعال من الوثوق، ومعناه سد الأبواب والإقة، ل على ما وراءها لحفظه والمنع، ومن فعل ذلك صار ذا وثوق، فالاستفعال للصيرورة كاستحجر الطين وهو أحد معانيه المعروفة.
قال الراغب في مفرداته الختم رالطبع يقال على وجهين مصدر ختمت وطبعت وهو تأثر الشيء بنقش الخاتم والطابع، والثاني الأثر الحاصل عن الشيء، ويتجوّز بذلك تارة في الاستيثاق من الشيء والمنع منه اعتبارا بما يحصل من المنع بالختم على الكتب والأبواب نحو قوله تعالى {خَتَمَ اللهُ} إلخ وتارة في تحصيل أثر عن شيء اعتبارا بالنقش الحاصل وتارة يعتبر منه بلوغ الآخر، ومنه ختمت القرآن إذا انتهيت إلى آخره اهـ. وهذا تفصيل لما أجمله المصنف وغيره من معناه لغة فقوله والبلوغ بالرفع معطوف على الاستيثاق عطف قسيم على تسيم، وليس معطوفاً على الكتم فيكون من جملة تفسيره ومعناه الحقيقي كما توهم وهو مراد لما نقل إليه مطلقاً لا لما أريد به ههنا حتى يرد عليه أنّ ختم الكتاب متعد بنفسه، وما هنا متعدّ بعلى مع أنه لا أصل له فإنه يقال ختمت الكتاب وعلى الكتاب كما صرّحوا به. قوله: (بضرب الخاتم إلخ) الضرب إيقاع جسم على آخر وضرب الخاتم إيقاعه على ما يؤثر فيه من شمع ونحوه كما سيأتي. وقوله: (لأنه كتم له) أي لأنه يؤدّي إلى الإخفاء والستر، وهو الغرض منه فجعل عينه مبالغة كما مرّ، وهذا بيان للمناسبة بينهما وبلوغ الآخر الوصول إليه وآخره مفعوله من بلغت المنزل ونحوه لا منصوب بنزع الخافض على أنّ أصله إلى آخره. وقوله: (نظرا إلخ) تعليل
لإطلاق الختم على بلوغ الآخر والإحراز جعل الشيء في الحرز وهو ما يحفظه، ولذا سمت العامّة ما يكتب ويعلق عوذة حرزاً يعني أنّ من أتمّ شيئاً فقد حازه بما يحاز به مثله كحفظ القرآن إلى آخره، فكأنه استوثقه وني كلام المصنف رحمه الله نظر من وجهين، فإنه يقتضي أنّ إطلاق الختم على بلوغ الآخر معنى مجازي، وهو خلاف المعروف في الاستعمال، ولأنه يقتضي أيضاً أنه ماخوذ من الاستيثاق، وكلام الراغب الذي هو مأخذه صريح في أنه مجاز برأسه كما سمعته آنفاً.
وما في الكشاف سالم من هذه لأنه قال: الختم والكتم أخوان لأنّ في الاستيثاق من الشيء بضرب الخاتم عليه كتما له وتغطيه لئلا يتوصل إليه ولا يطلع عليه اهـ.
والجواب أمّا عن الأوّل، فإنّ اشتهاره حتى صار حقيقة في عرف اللغة لا ينافي كونه مجازاً بحسب أصل اللغة وقد عدّه من المجاز في الأساس.
وأمّا عن الثاني فالذي ذكره الراغب أنه مجاز عن مطلق المنع كالمشفر فلا ينافي كونه حقيقة في المنع بضرب الخاتم عليه ويؤخذ منه غيره فتدبر. قوله: (والغشاوة فعالة) نقل بعض الأفاضل عن جار الله أنّ فعالة هنا غير منصرفة وكذا هو في نسخ الكشاف، وقال إنّ الأصل في أمثاله أنّ ما كان موزونه غير منصرف فإنه يستعمل غير منصرف البتة، وما كان موزونه منصرفا ففيه وجهان الصرف، وتركه بشرط أن لا تدخل عليه رلت، وله تفصيل في الإيضاح والرضى وذهب بعض علماء اللغة إلى أنّ هيآت الكلم قد تدلّ على معاني مخصوصة، وان لم تكن مشتقة ومته ما هنا فإنّ فعال بكسر الفاء إن لم تلحقه هاء التأنيث فهو اسم لما يفعل به الشيء، كالآلة كإمام وركاب وحزام لمن يؤتم به ولما يركب به، ويحزم ويشد به كما مرّ في كتاب فإن لحقته الهاء فهو اسم لما يشتمل على الشيء ويحيط به كاللفافة والعمامة والقلادة، وهذا في غير المصادر " وأمّ فيها ففي الحجة لأبي عليّ في سورة الكهف فعالة بالكسر في المصادر يجيء لما كان صفة، ومعنى متقلداً كالكتابة والأمارة، والخلافة والولاية وما أشبه(1/278)
ذلك وبالفتح في غيره اهـ. وقول الزجاج كل ما اشتمل على شيء مبنيّ على فعالة نحو العمامة والقلادة، وكذا أسماء الصناعات، فانّ الصناعة مشتملة على ما فيها نحو الخياطة والقصارة، وكذلك ما استولى على شيء نحو الخلافة والأمارة يقتضي عدم الفرق بينهما، ونقل عن الراغب أنّ فعالة لما يفعل به ذلك الفعل كاللف في اللفافة، فإن استعملت في غيره فعلى التشبيه كالخلافة والأمارة، وهو يقتضي أنه كالمجرّد من الهاء وهو مخالف لهما والظاهر هو الأوّل.
والفضل للمتقدّم.
وسلمت واو الغشاوة لعدم تطرّفها ولو تطرّفت قلبت همزة كالغشاء وقال أبو عليّ رحمه
الله لم يسمع منها فعل إلاً يائي فالواو مبدلة من الياء وردّ بأنه لا مقتضى للقلب فلعل له مادّتين
وغشى كغطى لفظا ومعنى والعصابة ما يعصب على الرأس ويدار عليها قليلاً فإن زاد فعمامة وهي معروفة. قوله: (ولا ختم ولا تغشية إلخ) توطئة لبيان المراد واشارة إلى قرينة المجاز العقلية والى ضعف حمله على الحقيقة كما نقله الراغب عن الجبائي من أنه تعالى جعل ختماً على قلوب الكفار ليكون دليلاً للملائكة على كفرهم، فلا يدعون لهم وليس بشيء، لأن هذه الغشاوة إن كانت محسوسة، فمن حقها أن تدركها أصحاب التشريح وإلاً فهم باطلاعهم على اعتقادهم، وأحوالهم مستغنون عنها وسيأتي في كلام المصئف رحمه الله ما يشير إليه، وما قيل من أنه لم يحمل على الحقيقة تحاشياً عن نسبة الظلم والقبيح ليس بشيء لأنه ليس مذهب أهل السنة، وكذا ما قيل إنه لا يرتصوّر في شأنه وحمله على حقيقته غنيّ عن الردّ وما روي عن الحسن من أنّ الكافر إذا بلغ في الغواية غايتها رين في قلبه الكفر وعلم الله منه أنه لا يؤمن فذلك هو الختم دليل على المجاز لا الحقيقة كما توهم وأمّا إسناده بعد التجوّز فحقيقة عند أهل السنة مجاز عند المعتزلة لمنعهم من إسناد القبيح إلى الله تعالى كما نقل مفصلاً عن الكمال القاشاني. قوله: (وإنما المراد بهما أن يحدث في نفوسهم إلخ الما لم تصح الحقيقة علم امتناع الكناية أيضاً والكناية المتفرّع عليها المجاز مجاز بحسب نفس الأمر، فبقي أنه مجاز مرسل أو استعارة كما ستراه، والإحداث والإيجاد بمعنى والمراد بالنفوس الذوات المشتملة على الجوارح والمشاعر، والهيئة الصفة والحال التي هم عليها والتمرّن الاعتياد يقال: مرن على الشيء مرونا من باب قعد ومرانة بالفتح إذا اعتاده وداومه وأصله التليين وبسبب متعلق بيحدث، ويجوز تعلفه باستحباب واستقباح وتنازعهما فيه، والغيّ الضلال، والانهماك التوغل واللجاج، وتعاف بمعنى تكره وتنفر ويحدث بضم الياء التحتية وكسر الدال، فهيئة منصوب والمحث هو الله تعالى ويجرز قراءته بفتح التاء الفوقية وضم الدال ورفع هيئة على الفاعلية، وجملة تمرّنهم صفة لهيئة. وقوله: (فتجعل) بالمثناة الفوقية مرفوع معطوف على قوله تمرّنهم والضمير المستتر فيه للهيئة والإسناد مجازيّ أو بالتحتية، وهو منصوب معطوف على يحدث على الأوّل وفاعله المستتر لله والإسناد حقيقيّ وقوله فتصير ضميره للاسماع والقلوب. وقوله: (وأبصارهم) معطوف على أسماعهم أو قاوبهم وتجتلي بمعنى تنظر أو بمعنى تراها مجلوّة عليها كالعروس ففيه استعارة مكنية وتخييلية. وقوله:) كأنها) بدل من قوله لا تجتلي وفي نسخة فتصير كأنها وحيل مجهول بمعنى وقعت الحيلولة. وقوله: (كأنها مستوثق إلخ) بيان للمناسبة بين ما أريد به ومعناه الحقيقي كما مرّ، وليس هذا معنى مجازيا حتى يكون المراد مجازاً بمرتبتين محتاجا
للتوجيه المشهور، وقد مرّ أنه لا خلاف بين أهل السنة والمعتزلة في المجازية وإنما الخلاف في الإسناد بعد التجوّز.
وقال الإمام الراغب: أجرى الله العادة أنّ الإنسان إذا تناهى في اعتقاد باطل وارتكاب محظور فلا يكون منه تلفت بوجه إلى الحق يورثه ذلك هيئة تمرّنه على استحسان المعاصي، وكأنما يختم بذلك على قلبه وعلى ذلك قوله تعالى {أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} [النحل: 108] وعلى هذا النحو استعارة الإغفال في قوله {أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا} [الكهف: 28] واستعارة الكن في قوله {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً} [الأنعام: 25] واستعارة القساوة في قوله {وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً} [المائدة: 13] اهـ وهو كلام حسن ومنه أخذ المصنف رحمه الله، ثم اعلم أن البزار روى حديثا مرفوعا عن ابن عمر فيه أنّ الطابع معلق بقائمة العرس فإذا عمل العبد بالمعاصي، واجترأ على الله بعث الله الطابع فيطبع على قلبه، فلا يعقل بعد ذلك شيئاً فقيل: إنه روي مثله في كثير من الأحاديث فحملها(1/279)
من لم يتضلع من الحديث على المجاز، والأقوى كما في شرح السنة للبغوي إجراؤها على الحقيقة إذ لا مانع منها والتأويل خلاف الأصل ولا يخفى أنه مذهب الظاهرية والحس والعقل شاهدان للتأويل، فلا يغرّنك كثرة القال والقيل. قوله: (وسماه) بتذكير الضمير كما في أكثر النسخ، وهو راجع إلى الاحداث أو الحدوث وفي بعض النسخ سماها بتأنيثه والظاهر رجوعه للهيثة، وهي الكيفية والحالة محسوسة كانت أو لا فإمّا أن يكون بتقدير مضاف أي إحداثها أو لا يقدر لما سيأتي من أنّ الهيئة مستعار لها أيضاً في بعضى الوجوه. قوله: (على الاستعارة إلخ) الاستعارة تستعمل بمعنى المجاز مطلقاً، وبمعنى مجاز علاقته المشابهة مفرداً كان أو مركباً وقد تخص بالمفرد منه، وتقابل بالتمثيل كما في مواضع كثيرة من الكشاف والتمثيل وإن كان مطلق التشبيه غلب على الاستعارة المركبة ولا مشاحة في الاصطلاح، وحاصل ما قرّروه هنا أنّ الختم استعير نن ضرب الخاتم على الأواني ونحوها لأحداث هيئة في القلب والسمع تمنع من خلوص الحق إليهما كما يمنع الختم فهي استعارة محسوس لمعقول بجامع عقليّ هو الاشتمال على مغ القابل عما من حقه أن يقبله ثم اشتق منه الماضي ففيه استعارة تصريحية تبعية، ويلزم من التشبيه الذي تتضمنه هذه الاستعارة تشبيه القلوب والأسماع بالأواني كما في جوامع الكلم بل بالاقماع المقفلة إلاً أنه، ضا تابع لذلك التشبيه لم يقصد ابتداء، فبطل ما توهم من أنّ في القلوب والاسماع مكنية مخيلة بالختم إذ ردّ التبعية في مثله إلى المكنية غير مرضيّ، ومنه تعلم أنّ ما في العبارة من قوله بجعل قلوبهم وأسماعهم كأنها مستوثق منها بالختم لا يدل عليه كما تخيلوه وهو كقولهم في نطقت الحال أنها جعلت لكونها دالة كأنها ناطقة مع أنّ المراد تشبيه دلالتها بالنطق لا تشبيهها بالناطق فهو بيان لحاصل الكلام، ولذا قيل لفظة كأنّ كثيراً ما تستعمل عند عدم الجزم بالشيء من غير قصد إلى تشبيه نحو كأنّ زيداً أخوك، فكنى بها هنا عن عدم
القصد من الفحوى وهو كلام حسن، وكثيرا ما تراه في كلامهم ولفظ الغشاوة استعير من معناه الأصلي لحالة في أبصارهم مقتضية لعدم اجتلاء الآيات والدلائل، فهي استعاوة أصلية مصرّحة من محسوس لمعقول كما مرّ لا تبعية كما سيأني، ودعوى أنّ الأبصار مكنية لا يأباه الحكم بأنّ الختم والتغشية مجاز، وقد عرفت أنه غير مقبول، ويوضحه ما ذكره المدقق في الكشف من أنه إنما يكون إذا اتضح كون التخييل من روادف المسكوت عنه، وكان شائعاً لائحاً تشبيهه بالمستعار منه، كما في نحو {يَنقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ} [البقرة: 27] وعالم يغترف منه الناس إذ لا فرق بينهما سوى أنّ النقض تمهيد لكون المنقوض حبلاً والاغتراف منه لكونه بحرا، وأنّ لهما مزيد اختصاص بالحبل والبحر وتشبيه العهد والعالم بهما مستفيض لا كتشبيه القلوب بالاً واني، فإنه إنما يؤخذ من إيقاع الختم عليها والمشبه أحداث ذلك والمشبه به ضرب الخاتم وقيل شبه عدم نفوذ الحق في القلوب وتحقيق نبوّ الاسماع عن قبوله بكونها مختوماً عليها ومغطى عليها تثبثا بقوله كأنها مستوثق منها بالختم، واعترض عليه بأنه إذا كان المشبه به المختومية كان استعارة في المصدر المبنيّ للمفعول.
وأجيب فأن مصدر الفعل المتعدّي يشتمل على معنى المصدر المبنيّ للمفعول كما صرّح
به قدّس سرّه في بحث متعلقات الفعل من شرح المفتاح: والمقصود هنا استعارة المختومية لحالة القلوب والاسماع، واظهار المشابه بينهما ويلزم ذلك استعارة خاتميته تعالى بالتبعية فالمستعار لفظ المصدر المبنيّ للفاعل المتعدي، لكن المقصود نسبته إلى المفعول التي هي جزء منه والتشبيه به بل التشبيه يلازم هذا الجزء الذي هو الهيئة والحالة، لكن أداؤه بالفعل لا يمكن إلاً بإحدى النسبتين، فالظاهر حينئذ أن يجعل المشبه الهيئة التي يلزمها عدم نفوذ الحق لكن المقصود ما ذكرنا، وبهذا علم ما وعدته في تأنيث ضمير سماها. قوله: (وتغشية) قد قدمنا لك أنّ هذه الاستعارة أصلية تصريحية لا تبعية، وقد قيل إنه ظاهر تقرير المصنف والزمخشريّ حيث جعلا المشابهة بين عدم اجتلاء الأبصار والتغشية، وحيث قالا لا ختم ولا تغشية وإليه ذهب الرازي في شرح الكشاف وتابعه بعضهم فيه، وأيده بعض المدققين بأنهم جعلوا الاستعارة تبعية في أسماء الزمان والآلة، وسائر المشتقات(1/280)
لأنّ المقصود الأهم فيها هو المعنى القائم بالذات لا نفسر الذات، فينبغي أن يعتبر التشبيه فيما هو الأهم فتكون تبعية، فإن جعلنا الغشاوة اسم ا-لة كما ذكر في لفظ الإزار والإمام فيجب أن تكون تبعية، وإلا فلا يخلو عن خفاء اهـ. وقيل المفهوم من هذا أنّ في قوله تعالى {وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} استعارة تبعية كما في ختم، فكأنهم جعلوه بمعنى غشى الماضي، كما يدلّ عليه قوله ما معنى الختم على القلوب والأسماع، وتغشية الأبصار ويؤيده قراءة النصب على تقدير وجعل على أبصارهم غشاوة فيوافق ما في سورة الجاثية وهو قوله تعالى {وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً} [الجاثية: 23] أو على حذف الجارّ كما سيأتي وهو مخالف لما في شرح الكشاف من أنه استعارة
أصلية لا تبعية (والذي خطر بالخاطر الفاتر) أنّ الجملة باقية على اسميتها والنكتة في تغيير الأسلوب إفادة الدوام والثبات الذي يقتضيه المقام لما تقرّر في الأصول من أنّ سبب الإيمان حدوث العالم وتغيره المدرك بالبصر فكل عاقل شاهده بعين الاستبصار والاعتبار استدل به، وترك الأفكار، ومن لم يؤمن كأنه لم يبصره لغشاوة خلقية على بصره وهو معنى الثبات والدوام، وأمّا ما في سورة الجاثية، فالمقام مقتض لبيان عدم قبولهم النصح، ومبالاتهم بالمواعظ المتعاقبة عليهم حيناً بعد حين، فيناسبه الفعل الدال على التجدّد وهذا مما تفرّدت به، ثم قال: والحاصل أنّ استعارة الختم تبعية كما مرّ بيانه، وكذا ما في قوله وعلى أبصارهم غشاوة لكن بالتأويل الذي سمعته فظهر أنّ كلام شراح الكشاف بالنظر لظاهر الآية، وكلام المصئف ومن حذا حذوه بالنظر للتأويل.
(أقول) لو كان المقام مقتضيا للثبات والدوام لم يكن لتصدير. بالفعلية هنا وجه أصلاَ لأنّ الاستبصار والاعتبار بالقلب، فإذا تجدّد لزمه تجدد الختم أيضاً، وأمّا قراءة النصب على الوجهين، فالغشاوة فيها مصدر، فكيف تكون استعارة تبعية بمقتضى النظر السديد، ولو سلم أنّ المقام يقتضي الثبات في الجملة الثانية تكون قراءة النصب مخالفة لمقتض المقام، ومثله من وساوس الأوهام فالحق أنّ العدول إنما هو للإيجاز، واًنّ منشأ الخلاف إنما هو أنّ الاسم الجامد إذا أوّل بمشتق هل ينظر لأصله فتجعل استعارته أصلية أو لما قصد به لأنه بمعنى الشيء المغشي فتجعل تبعية، وأمّا كونه اسم آلة كالإزار فصلح من غير تراض للخصمين لأنّ الذي ادّعوه هنا أنه اسم لما يشتمل على الشيء كالعمامة، وان ذهب له الراغب كما مرّ، فالحمد دلّه الذي هدانا بفضله لتوفيقه. قوله: (أو مثل قلوبهم ومشاعرهم إلخ) مثل فعل ماض من التمثيل والظاهر أنه معطوف على سماه لقربه منه، وتناسب جملتيهما في الفعلية والمراد بالاستعارة المقابلة للتمثيل المجاز في المفرد كما مرّ، وفي الحواشي أنه معطوف على قوله المراد وهو بعيد لفظا ومعنى، وان قيل: إنه بنى معناه على التمثيل ولو بناه على الأوّل لم يتعرّض له وفيه نظر، وهو بيان لكونه استعارة تمثيلية بأن يشبه حالة قلوبهم وأسماعهم وأبصارهم مع الهيئة الحادثة فيها المانعة من الاستنفاع بها في الأغراض الدينية التي خلقت هذه الآلات لها بحال أشياء معدة للانتفاع بها في مصالح مهمة مع المنع من ذلك بالختم والتغشية، ثم يستعار للمشبه اللفظ الدال على المشبه به، فيكون كل واحد من طرفي التشبيه مركباً من عدّة أمور والجامع عدم الانتفاع بما أعدّ له بسبب عروض مانع يمكن فيه كالمانع الأصلي، وهو أمر عقليّ ينتزع من تلك العدّة فتكون الاستعارة حينئذ تمثيلية وليس للإسناد إلى الختم والتغشية في هاتين الفعليتين مدخل في هذا التمثيل كما لا مدخل له في قولك أراك تقدم رجلاَ وتؤخر أخرى، وهل هذا التمثيل تبعيّ في الفعل وحده أو في لفظ مركب ملحوظ بعضه ومنويّ في الإرادة ارتضى الشريف المرتضى الثاني وغيره الأوّل، وعليه إنما صرّح بالختم والتغشية لأنهما الأصل
والعمدة في تلك الحالة المركبة، فيلاحظ باقي الأجزاء بألفاظ متخيلة إذ لا بد في التركيب من ملاحظات قصدية متعلقة بتلك الأجزاء، ولا سبيل إلى ذلك إلاً بتخيل ألفاظ بإزائها، وقد قدمنا لك ما له وعليه في تحقيق الاستعارة في قوله تعالى {عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ} فليكن على ذكر منك، وقد يتوهم من ظاهر العبارة أنّ المشبه القلوب والأسماع، وأنّ الختم تخييل كما ذهب إليه بعضهم، ولله درّ القائل جزاه الله خيرا أنه إذا كان الغرض الأصليّ الواضح الجليّ تشبيه المصدر وذكر المتعلقات بالتبع، فالاستعارة تبعية كما في قوله:(1/281)
تقري الرياح رياض الحزن مزهرة ~ إذا جرى النوم في الأجفان إيقاظا
فإنّ حسن التشبيه بحسب الأصالة إنما هو فيمابن هبوب الرياح والقرى لا فيما بين الرياض والضيف أو الإيقاظ والطعام، وإذا كان في المتعلق وذكر الفعل تبعا كما في ينقضون عهد الله، فاستعارة بالكناية لشيوع طشبيه العهد بالحبل، وان كان الأمران على السواء كما في نطقت الحال، فمحتمل إذ كل من تشبيه الدلالة بالنطق والحال بالناطق حسن كما مرّ. قوله: (ومشاعرهم المؤفة إلخ) المشاعر الحواس، وقوله {وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ} معناه لا تدركون بالحواس وهو جمع مشعر بفتح الميم وكسرها لأنه محل الشعور أو آلته إلا أنه لا يعرف في الاستعمال كالجمع، والمؤفة بزنة معونة بفتح فتضم يليه واو ونون وهاء أي التي أصابها ما أفسدها وأبطل إحساسها، وهي اسم مفعول من الآفة بمعنى العاهة أعل إعلال مقولة إلا أنّ فعله لازم وهو آف الزرع إذا اً صابته آفة وقد سمع قعديه في قولهم ايف الزرع بزنة قيل فصيغة المفعول على هذا مقيسة، وعلى ما قبله على خلاف القياس ولذا أنكره بعض اللغويين.
وفي كتاب الأفعال للسرقسطي آف القوم أوفا إذا دخلت عليهم مشقة، ويقال في لغة ايفوا
وتال الكسائيّ: طعام مؤف إذا أصابته آفة، وأنكر أبو حاتم طعام مؤف اهـ وضمير بها للنفوس، وقد سقط من بعض النسخ والباء بمعنى في وعوده على الهيئة والباء للسببية جائز، وبأشياء متعلق بمثل والاستنفاع طلب النفع، وكأنه آثره على الانتفاع مع أنه المعروف في الاستعمال لأنه أبلغ فإنه إذا حيل بينه وبين طلب النفع فقد حيل بينه وبين الانتفاع بالطريق الأولى وختما وتغشيه منصوبان على التمييز، ومنه تعلم أنه يجوز أن يثون مجازا مرسلاَ باستعماله في لازم معناه وهو المنع والحيلولة ولم يتعرّضوا له لأنّ الاستعارة أكسب وأبلغ. قوله: (وقد عبر عن إحداث هذه الهيئة إلخ) هذا مأخوذ من كلام الراغب بعينه كما قدمناه يعني أنه كما عبر عن إحداث هذه الهيئة بالختم عبر عنه بما ذكر، فالطبع تصوير الشيء إصورة مّ كطبع السكة وطبع
الدراهم، فهو أعمّ من الختم وأخص من التقش، والطابع الخاتم، وقد يفسر الطبع بالختم والطبع أيضا الجبلة التي خلق عليها كالطبيعة يقال طبعت الكتاب، وعليه إذا ختمته، ويجري في الطبع ما مرّ بعينه، وأمّ الإغفال، فهو استعارة من إغفال الكتاب أي تركه غفلاَ بزنة قفل أي غير منقوط ومشكول، وهو ضدّ المعجم وقوله تعالى {وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا} [الكهف: 28] معناه تركناه غير مكتوب فيه الإيمان كما قاله الراغب رحمه الله، فلا إشكال في كلام المصنف رحمه الله، ومنهم من فسره بجعل الشخمى غافلاً فاعترض عليه بأنه غير إحداث الهيئة المذكورة وغير مستلزم لها فاعتذر عنه بعضهم وهو غفلة لا إغفال، وأمّا القسوة فهي من قولهم درهم قسيّ أي مغشوس، فهو استعارة أيضاً كما ذكره الراغب، وسيأتي تحقيقه في سورة المائدة والإقساء ذكر لحاصل معنى جعلها قاسية فلا يتوهم أنه ليس في النظم الأقساء بل القسوة إلاً أنها لغة غير فصيحة، ولذا عدل عنها في القرآن مع أنها أخصر. قوله: (وهي من حيث أنّ الممكنات إلخ) هذا ردّ على قوله في الكشاف القصد إلى صفة القلوب بأنها كالمختوم عليها، وأمّا إسناد الختم إلى الله عز وجل فلينبه على أنّ هذه الصفة في فرط تمكنها وثبات قدمها كالشيء الخلقي غير العرضيّ ثم قال وكيف يتخيل ما خيل إليك وقد وردت الآية ناعية على الكفار شناعة صفتهم وسماجة (1) حالهم ونيط بذلك الوعيد بعذاب عظيم فصرف الإسناد إلى الله تعالى عن ظاهره وجعله غير حقيقيّ بناء على مذهبه من أنّ أفعال العباد مخلوقة لهم، لئلا تسند المعاصي وا اغبائح إلى الله سبحانه وتعالى على ما تقرّر في الكلام وضمير هي راجع إلى الأمور المذكورة المعلومة من السياق من ختم القلوب والغشاوة وتابعهما ويجوز إرجاعه إلى الهيئة، وهو مبتدأ خبره جملة أسندت إليه أي إلى الله والرابط الضمير المستتر في أسندت، ومن حيث الأوّل متعلق بأسندت مقدم عليه للاهتمام أو للحصر بالنسبة إلى قبحها وحيث مضافة إلى الجملة المصدّرة بأنّ المكسورة والممكنات اسمها، ومستندة وواقعة خبر ان لها بغير عطف لما بينهما من شبه الاتحاد أو الثاني بدل أو عطف بيان، والواو الداخلة على من حيث الثانية عاطفة لجملة(1/282)
وردت على أسندت، ومن حيث متعلق به مقدّم لما مرّ، والرابط لهذه الجملة ضمير إنها وقيد الحيثية هنا للتعليل، وله معنيان آخران الإطلاق نحو الماء من حيث هو بارد بالطبع والتقييد نحو الإنسان من حيث أنه نشأ بدارنا لا يصح تملكه، وهذا مع أنه أمر مكشوف ذكرته لما قيل عليه من أنّ في تركيبه إشكالاً لأنّ الظاهر أنّ قوله، ومن حيث أنها معطوف على من حيث أنّ الممكنات، فيلزم أن يكون قوله وردت الآية إلخ خبر إلهي ولا مجال له لخلوّه عن الرابط، ويمكن أن يقال الواو داخلة في الحقيقة على وردت وهو مع ما تقدّمه من قوله من حيث إلخ معطوف على مجموع وهي من إلخ. وهو مما يقضى منه العجب،
وأعجب منه ما قيل في توجيهه من أنّ الآية منصوب على الظرفية، والتقدير من حيث أنها مسببة عما اقترفوه وردت في الآية ناعية عليهم فاستسمن ذا ورم، ونفخ في غير ضرم وحاصل ما ردّ به المصنف رحمه الله عليه أنّ الممكنات كلها واقعة بإيجاده وقدرته وان كانت معاصي قبيحة لأنه لا قبح في إيجادها بل في كسبها والاتصاف بها، كالمصوّر لصورة قبيحة إذا تمّ محاكاتها فإنه يدلّ على جودة تصوّره وتصويره والقبح إنما هو في ذي الصورة لا في التصوير. قوله:
(مسببة عما اقترفوه إلخ) اقترفوه بمعنى اكتسبو. من القبائح لأنه من القرف، وهو قشر اللحاء عن العود والجليدة عن الجرح، ثم استعير للاكتساب مطلقاً إلاً أنه متعارف في القبيح والإساءة كما قيل: الاعتراف يزيل الاقتراف، وهو المراد هنا وفيه إشارة إلى أنّ الباء في الآيتين سببية كما سيأتي في محله، وناعية بمعنى مظهرة ومنادية بتشهير قبائحهم وفيه إيماء إلى أنّ قبائحهم كأنها مهلكة، وقاتلة لهم كانهم قتلوا بها أنفسهم:
قتل المسيءبماجنته نفسه حقاوقاتل نفسه في النار
وفي الأساس عن الفراء النعي رفع الصوت بذكر الموت وكانت العرب إذا مات من له
قدر ركب راكب وساش في الأرض قائلاَ نعاء فلانا ثم قيل مجازا نعى عليه هفوته إذ أشهرها، والشناعة كالقباحة وزناً، ومعنى والوخامة بفتح الواو والخاء المعجمة كالوخام مصدر وخم البلد والمرعى بالضم إذا كان فيه وباء وفساد هواء يضرّ ساكنه، فاستعير هنا لكون العاقبة غير حميدة وهو إشارة لقوله ولهم عذاب عظيم كما أنّ ما قبله لما قبله، وهذا ردّ على ما ادّعاه من أنّ القباحة ونعيها يأبى إسناده إلى الله على الحقيقة، فإنّ الإسناد للاحداث والإيجاد والنعي لاتصافهم بما اقترفوه من الفساد ولا منافاة بينهما. قوله: (واضطربت المعتزلة إلخ) أي تخالفت أقوالهم فيما أسند إليه تعالى مما مرّ ونحوه لمخالفته لما ادّعوه مما نحن في غنية عن إعادته لشهرته في كتب الأصول، والاضطراب افتعال من الضرب يقال: اضطرب أمره وفي أمره إذا اختلف اختلافا يؤدّي إلى الاختلال. قوله: (الأوّل أنّ القوم لما أعرضوا إلخ) هذا ما ذكره الزمخشريّ بقوله القصد إلى صفة القلوب إلخ كما ذكرناه آنفا، وقد قال قدس سرّه: إنه يعني أنّ الإسناد إليه تعالى كناية عن فرط تمكن هذه الصفة التي هي- الهيثة الحادثة المانعة، وثبات رسوخها في قلوبهم وأسماعهم، فإن كونها كذلك يستلزم كونها مخلوقة لله صادرة عنه فذكر اللازم لينتقل منه إلى الملزوم المقصود فيصدق به ألا تراهم يقولون هو مجبول على كذا ولا يعنون خلقه عليه بل ثباته وتمكنه فيه ولما لم تمكن حقيقة الإسناد على مذهبه وجب عده مجازا متفرّعا على الكناية كما ذكره في قوله تعالى {وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ} [آل عمرأن: 77] وأنّ
أصله فيمن يجوز عليه النظر الكناية، ثم جرّد في غيره لمعنى الإحسان مجازاً عما وقع كناية عته فيمن يجوز عليه فظهر أنه إذا أمكن المعنى الأصلي كان كناية والاً فمجاز مبنيّ على الكناية فيجوز إطلاق الكناية عليه باعتبار أصله وان انقلب مجاز التغاير اعتباريّ، ولذا جعل بسط اليد وغلها في المائدة مجازاً وفي طه كناية كالاستواء على العرس، ولا منافاة بين قوليه ولا حاجة إلى الدفع بأنه قد يشترط في الكناية إمكان المعنى لأصليّ وقد لا يشترط، وقد سبق إلى بعض الأوهام من قوله كالمختوم عليها، ومستوثق منها بالختم أنّ المشبه به الختم المبنيّ للمفعول دون الفاعل، ولذا قيل إنّ المشبه عدم نفوذ الحق في القلوب والاسماع لا إحداث الهيئة المانعة فيها، وفساده ظاهر لأنه إذا استعير المصدر المبنيّ للمفعول اشتق منه فعل مبنيّ له كما يشتق(1/283)
من المبني للفاعل ما بنى له، فينبغي أن يقال: ختم على قلوبهم إلخ وأيضاً كون الشيء مختوماً عليه مستلزم لعدم النفوذ فيه استلزاما ظاهراً، فهو مجاز مرسل وجعله استعارة تعسف نعم قد يشبه كون القلب مثلأ قد أحدث فيه هيئة مانعة من أن ينفذ فيه الحق بكون الشيء مختوما عليه، وتنقيحه أنّ المشابهة التامّة إنما هي بين النقش الحاصل في الخاتم والهيئة المانعة الحادثة في القلوب، والأسماع لمنعهما من النفوذ فحينئذ جاز أن يشبه أحداث هذه الهيئة باحداث ذلك النقش، ويبنى منه الفعل للفاعل، وأن يشبه كون القلب محدثا فيه هذه الهيئة بكون الشيء محدثا فيه ذلك النقش، ويبنى منه الفعل للمفعول وعدم النفوذ من تتمة وجه الشبه لا مشبه ولا مشبه به، والمقصود بالصفة التي نبه بإسنادها إليه تعالى على ثبات قدمها، وتمكنها هو الهيئة الحادثة لا إحداثها فتبصر اهـ.
(أقول) اتفقت كلمة محققي الشراح هنا على أنّ مراده أنه كناية في الإثبات لا نعت لذاته
إلا أنه وقع النراع بينهم فيما ستراه عين اليقين (ويرد على ما قاله الشريف) مما حذا فيه حذوهم أمور.،
(منها) أنّ الزمخشريّ، لما لزمه بناء على مذهبه أن لا يسند الختم إلى الله حقيقة وقال:
بأنّ أفعال العباد مخلوقة لهم، وإنما خلق الله فيهم أجسامهم، وطبائعهم، وقواهم، ونحوها من الأجرام والأمور القارّة فأسند إليه أفعالهم للدّلالة على الرسوخ والثبات فيها، لجعلها بمنزلتها فهو إسناد مجازيّ أحد طرفيه مجاز كأحيا الربيع الأرض فأقي داع إلى اذعاء الكناية المؤدّي إلى التعب والنزاع والشغب، وليس في كلامه ما يقتضيه أصلاَ، وهو من الإسناد إلى المضاهى أو إلى السبب البعيد لأنها بإقداره وتمكينه، كما لا يخفى والتمثيل له بمجبول يؤيد ما قلناه، والداعي لارتكابه ما سيأتي من عذه الإسناد المجازقي وجهاً آخر وستعرفه إن شاء الله تعالى.
(ومنها (أنّ ما ذكره من المجاز المتفرّع على الكناية، وان تبع فيه غيره لا يخفى ما فيه من التكلف من غير داع، فإنّ الجمع بين المجاز والكناية في شيء واحد مما لم يعهد مثله، وما
ذكره الفاضل المحقق في التوفيق بين كلامي العلامة ليس بابعد مما ارتكبوه بل لو دقق النظر في أمثلة الكنابة شوهد فيها ما يؤيده والنظر السديد، لا يسجد للتقليد على أنه ذكره في الكناية التي وقع التلازم فيها في المعنى الوضمي كالنظر لا في النسبة والإثبات وبينهما بون بعيد فتدبر.
(ومنها) أنّ ما خطأ فيه الفاضل المحقق، وادّعى ظهور فساده في المصدر المبنيّ للمفعول
فهو وإن ترا أى في النظرة الأولى ورود. إذا أمعن فيه النظر علم أنه غير وارد إلاً أنه يستدعي تقديم مقدمة هي أنّ المصدر إمّا مصرّح به، أو في ضمن الفعل والأوّل قد ذكروا فيه أنه يكون مبنيا للفاعل وللمفعول ولقد ماء النحاة فيه اختلاف فذهب البصريون إلى أنه مشترك بينهما وقالوا إنه إذا أضيف لمفعوله يجوز أن يتبع بالجرّ والنصب والرفع على تقديره بأن والفعل المجهول كما في الحديث " أمر بقتل الأبتر وذو الطفيتين " (1) بالرفع أي بأن يقتل الأبتر وذو الطفيتين، فيجوز عندهم أن ينحل بحرف مصدريّ وفعل مجهول فيرفع به نائب الفاعل وهو ثمرة الخلاف فيه، وارتضاه ابن مالك كما في شرح التسهيل لأبي حيان وخالفهم فيه بقية النحاة، لأنه لم يسمع وإنما معناه الحدث بقطع النظر عن ذلك، وهو التأثير وقد يراد أثره تسمحاً فيظن مبنياً للمفعول، وعليه الشارح المحقق في شرحه، ولذا قال بعض المتأخرين أنّ صيغ المصادر حقيقة في أصل النسبة مجاز في الهيئة الحاصلة منها للمتعلق معنوية كانت أو حسية للفاعل في اللازم كالمتحركية وله، وللمفعول في المتعدي كالعالمية والمعلومية، وقولهم المصدر مبنيّ للفاعل أو للمفعول تسامح يعنون به الهيئتين اللتين هما معنيا الحاصل بالمصدر، وقد قال قدس سرّه: في حواشي الرضى أنّ النحاة جعلوا المفعول الحقيقي الذي هو الأثر عين الفعل الذي هو التأثير بناء على أنهم لا يميزون بينهما إلى آخره، ذكره بعض المتأخرين في تعليقة له في الفرق بين المصدر والحاصل بالمصدر، وهذا في صريح المصدر أمّا معناه الذي تضمنه الفعل فلا مانع من ملاحظة المعيين في كلا الصيغتين إذا كان الفعل متعديا كما هنا فدلالة ختم المبنيّ للفاعل على المصدر المبنيّ للمفعول جارية على السداد من غير فساد وقد حام حول الحمى من قال الفعل المتعدّي، كما يشتمل على نسبة مصدره إلى فاعل ما يشتمل على نسبته إلى مفعول مّا كما في شرح المفتاح، والمقصود هنا استعارة مختومية الأواني لحالة الكفار واظهار تشابههما ويلزمه(1/284)
استعارة خاتمية الله إياهما وابراز المناسبة بينهما على طريق القصد، فالمستعار لفظ المصدر المبنيّ للفاعل المتعدي لكن القصد الأصليّ التشبيه بجزء معناه أي النسبة المفعولية لا الفاعلية بل بلازم الجزء أي هيثة المختوم وحالته عند الختم، وأداء هذا المقصود في ضمن الفعل لا يمكن إلا باعتبار الاستعارة في إحدى النسبتين ولا يخفى أنه لا
يقصد أصالة عند أدائه إلى اعتبار الاستعارة ني النسبة الفاعلية بل يكفي في النسبة المفعولية ولا بحد في اعتبار الاستعارة نظراً إلى الجزء كما في استعارة الأفعال باعتبار الزمان أو الحدث دون النسبة فاندفع اعتراضه تدس سرّه.
وأمّا ما قيل في دفعه بأنه تحاصحى العلامة عن تشبيه فعل العبد بفعله تعالى صريحاً وأوجب أن يشبه عدم نفوذ الإيمان في قلوبهم بكون الشيء مجبولاً عليه، فلزم منه تشبيه إحداث العبد الهيئة في نفسه بختم الله فعمل بهذا اللازم، وقيل ختم ولم يعمل بمقتضى صريح التشبيه لأنه لو لم يذكر الفاعل لم يفهم جعل فعل العبد بمنزلة الأمر الخلقي، ولا يخفى اضطرابهم في هذا التوجيه فتعسف لا طائل تحته.
(ومنها) أنّ قوله: إنّ كون الشيء مختوما عليه مستلزم لعدم النفوذ فيه قيقتضي أن يكون مجازاً مرسلاً وجعله استعارة تعسف لا وجه له، لأنّ اللزوم لا بدّ منه في جميع المجازات ألا ترى أنّ استعارة الطيران لشدة العدو استعارة لا شبهة في حسنها، والجامع بينهما السرعة اللازمة للطيران لزوماً ظاهراً ولم يقل أحد أنه ينبغي أن يكون مجازاً مرسلاَ عن السرعة اللازمة له، وكما في النطق والدلالة على ما بين في المعاني. قوله: (شبه بالوصف الخلقي المجبول صليه الم يرد بالتشبيه التشبيه الذي يفاد بنحو الكاف بل الجهة التي راعاها المتكلم حين أعطى الوصف الذي أوجده العبد حكم الخلقي في إسناده إلى الخالق كما تال في دلائل الإعجاز أنّ لشبيه الربغ بالقادر في تعلق وجود الفعل به ليس هو التشبيه الذي يفاد بكأنّ والكاف ونحوهما هانما هو عبارة عن الجهة التي راعاها المتكلم وإذا جاز أن يشبه الفاعل من حيث هو فاعل بالفاعل استلزم أن يشبه فعله بفعله في أمرمّ، وقد ذكر في شرح التلخيص أنّ المجاز الإسنادي ليس بمقصور على ما ذكروه، فأيّ مانع من أن يقصد في الإسناد تشبيه الفعل بالفعل خصوصا إذا تضئن معنى بديعاً، فلو قلت في عدم تحرّك عطيم، وقيامه إلاً إذا غزا فيتحرّك بحركته ما سواه إنما تتحرّك الأرض إذا زلزلت شبهة حركته بحركتها وأسندت ما له إلى محله من غير نظر لتتشبيهه بالأرض، فهنا أيضاً شبه فعل العبد بفعل الله في الثبات والرسوخ، ولم ينظر إلى الفاعل تأدّبا عن تشبيه السيد بعبيده، وإن لزم كما قيل كل ما يصلح للمولى على العبد حرام فبطل ما قيل من أنّ المراد أنه استعارة تبعية شبه إعراضهم عن الحق المانع عن نفوذه بالوصف الخلقي للشيء المانع عما هو مطلوب منه في التمكن والاستقرار، ولم يصرّح بالمشبه بل كنى عنه بالختم المسند إلى الله، وهذا مقتضى عبارة الكتاب، وسقط ما قيل: من أنه مضطرب من وجوه.
أمّ أوّلاً فلأنّ المجاز في الإسناد إنما يكون بالإسناد إلى ملابس غير ملابس هوله بتنزيل الملابس منزلة ما هو له ولم يجىء الإسناد لتنزيل الفعل منزلة فعل غير الملابس الذي هو له،
على أن الزمخشريّ جعل هذا الوجه مقابلاَ للوجه الثالث الذي ذكره المصنف وصرّح فيه بأنه إسناد مجازيّ، فلو كان هذا من المب ز الإسنادي كان ذلك لتفصيل ما هنا لتقدّمه.
وأمّا ثانياً فلأنّ إسناد الختم إلبه تعالى إنما يفيد كون الإعراض عن الحق متمكناً في قلوبهم، لو كان كل ما يحدثه الله في العبد خلقياً لازماً له وليس كذلك.
وأمّا ثالثاً فلأنّ إسناد القبيح إليه تعالى، وإن كان مجازا مما لا يقدم عليه عاقل ومجبول بمعنى مطبوع مخلوق من الجبلة بكسرتين وتثقيل اللام وهي الطبيعة والخليقة والغريزة بمعنى، وجبلة الله على كذا فطره فهو مجبول. قوله: (الثاني أنّ المراد به تمثيل حال قلوبها إلخ) هذا ملخص قوله في الكشاف: ويجوز أن تضرب الجملة كما هي وهي ختم الله على قلوبهم مثلاً كقولهم سال به الوادي إذا هلك، وطارت به العنقاء إذا أطال الغيبة، وليس للوادي ولا للعتقاء عمل في هلاكه، ولا في طول غيبته وإنما هو تمثيل مثلت حاله في هلاكه بحال من سال به الوادي، وفي طول غيبته بحال من طارت به العنقاء، فكذلك مثلت حال قلوبهم فيما كانت عليه من التجافي عن الحق بحال قلوب ختم الله عليها نحو قلوب الاغتام التي هي في خلوها عن الفطن كقلوب البهائم، أو بحال قلوب البهائم أنفسها، أو بحال قلوب مقدر ختم الله عليها(1/285)
حتى لا تعي شيئاً ولا تفقه وليس له عز وجل فعل في تجافيها عن الحق ونبوّها عن قبوله، وهو متعال عن ذلك اهـ وفي قوله تضرب الجملة إشارة إلى الفرق بين هذا التهثيل والتمثيلى السابق، وهو أنّ العمدة ثمة والتصرّف في الختم وهنا في مجموع الجملة وتحقيقه أنه لما ذهب إلى أنّ القبائح الصادرة من العباد مخلوقة لهم، ولا يجوز صدورها عنه تعالى بناء على قاعدة الحسن والقبح، فلا يجوز حينئذ أن تنسب-قيقة إلى الله تعالى على زعمهم كما فصل قبولاً وردا في الأصلين وشهرته تغني عن ذكره توجه السؤال على إسناده في الآية، فأجاب أولاً بأنه إنما يمتنع حقيقة، وهو هنا إسناد مجازيّ للدلالة على تنزيله منزلة الجبليّ المطبوع عليه، وثانياً بأنه لو سلم إسناده إليه على الحقيقة فليس الختم فيه بالمعنى السابق حتى يلزم المحذوو على زعمهم إذ المراد به خلقهم على فطرة خالية عن الفطنة غير قابلة لانتقاش صور كثيرة من المدركات كالبله المجاذيب، أو البهائم الغلف ومثله مما ينسب إلى الله بالإتفاق لخلقه الذكيّ والأحمق، والمعتزلة يؤوّلون ما يدل على خلقه تعالى للأفعال بجعلها عبارة عن التوفيق، ومنح الألطاف في الحسن والخذلان ومنعها في ضده، ونحو ذلك من إفاضة الاستعداد وعدمها، ثم شبهت حال هؤلاء في الاعراض عن الحق، والإصرار على عدم النظر والإصغاء له بحال أغتام، أو أنعام ختم الله على مشاعرها بخلقها كذلك، فالختم بمعنى ذلك الختم مجاز لكنه مسند إلى الله حقيقة لصدور ذلك المعنى المجازي عنه ومجموع ختم الله مجاز مركب قد تجوّز في بعض مفرداته، ومثله مشهور لا تكلف فيه، أو شبهت حالهم بحال مخلوق لا نعرفه قد ختم الله على قلبه من غير واسطة بطابع حقيقيّ فالاستعارة تمثيلية لا تجوّز في شيء من مفرداتها إلاً أنّ
المشبه به أمر متخيل لا تحقق له في الخارج، وسيأتي في قوله تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الأحزاب: 72] ومنه ما يحكى عن ألسنة الجماد والحيوان والتمثيل يكون بالأمور المحققة نحو أراك ققدم رجلاً وتؤخر أخرى ويسمى تمثيلاً تحقيقيا وبالأمور المفروضة كما في الآية السابقة، ويسمى تمثيلاً تخييلياً كما فصله العلامة في سورة الزمر، وقال قدّس سرّه: إنّ هذا الجواب تغيير للمدّعي، وهو أق لا يحمل الختم على الاستعارة، ولا على التمثيل المذكور بل على تمثيل آخر يكون وجهاً ثالثاً وهو أن تشبه حال قلوبهم فيما كانت عليه من التجافي، والنبوّ عن الحق بحال قلوب محقق ختم الله عليها كقلوب الاغتام أو البهائم، أو بحال قلوب مقدر ختمه عليها، ثم تستعار الجملة أعني ختم الله على القلوب كما هي بتمام الجملة مع إسنادها من المشبه به للمشبه إمّا على سبيل التمثيل التحقيقي أو التخييلي، فيكون المسند إلى الله سبحانه إسناداً حقيقياً ختم تلك القلوب المحققة، أو المقدرة حتى لا تعي شيئاً ولا قبح فيه أصلاَ سواء كان ختما حقيقياً أو مجازيا، كما هو الظاهر لا ختم قلوب الكفار، لأنّ الإسناد إليه تعالى داخل في المشبه به فلا مدخل له تعالى في تجافي قلوبهم، ونبوّها كما لا مدخل للمتردّد في أراك تقدم رجلاَ، وتؤخر أخرى في تقديم الرجل وتأخيرها إذ كل منهما داخل في المشبه به، وان فرض أنه عبر عنهما أو عن أحدهما بلفظ مجازيّ كالختم إذا حمل على المجاز الذي هو المختار.
(أقول) ما حققه تبعا لما في الكشف تحقيق حقيق بالقبول إلاً أنّ ما ذكره من تغيير المدّعي أمر سهل، لأنه ليس على حقيقته، لأنه تمثيل، لران اختلف وجه التمثيل، والمعنى متقارب فيهما وإنما غيره ليثبت ما ادّعاه من أنّ الإسناد لا يجري على الحقيقة الظاهرة منه، وقد تحققت مما مرّ أن الختم في الأوّل مجاز، وفي الثاني حقيقة، فلا وجه للتردّد فيه تبعا للكشف، وقد انكشف لك أتم كشف وأمّا ما أورد عليه من أنه خلاف المتبادر من العبارة بل هو استعارة تمثيلية متفرّعة على الاستعارة الأولى فلا بعد فيه لأنه شاع مجاز ا " لمجاز كما عرف تفزع المجاز على الكناية في الوجه الأوّل وبيانه أنّ حقيقة الكلام ضرب الخاتم على الأواني بحيث يمنع الوصول إلى ما فيها، ثم استعير لأحداث الهيئة المعلومة في القلوب، ثم أريد حال قلوب الكفار فيما كانت عليه من النبوّ عن الحق، فالمقصود تشبيه تلك الحال بحال من تلبس بالأحداث المشبه بضرب الخاتم، لا حال من يتصف بضرب الخاتم حقيقة ففيه مبالغة كاملة اهـ. ولا يخفى أنّ ما ادّعى تبادره مع أنه أبعد مما ارتضاه الشريف المرتضى، لا يلاقي عبارة الكتاب ولا يجدي نفعاً فيما قصده من توجيه الإسناد إلى الله تعالى مع أنه لا يسند مثله إليه على زعمهم، لأنّ الأحداث المذكور من(1/286)
أفعال العباد القبيحة فلا يصح إسناده إلى الله تعالى وحال قلوب الكفار أيضا من هذا القبيل، فأيّ فائدة فيما ارتكبه بل هذا مما يكاد أن يكون غفلة عن مرمى أنظارهم، ومغزى أفكارهم. وقوله مقدر مجرور نعت سببيّ لقلوب، وختم الله
يصيغة المصدر نائب فاعله وجعل القلوب قلوب بهائم لا يجري عليها التكليف أسلم من المحذور الذي ادّعوه وإنما أخروه لأنّ إضافته إلى ضمير العقلاء يأباه إلا أن يدعي أنه من قبيل التجريد. قوله: (ونظيره سال به الوادي إلخ) قد سمعت آنفاً تفصيل الجواب الثاني وعرفت أنّ التمثيل على فسمين تحقيقيّ وتخييليّ وأنهما محتملان هنا في النظم فعلى تقدير القلوب قلوب الاغتام أو الأنعام يكون محققاً وسال به لوادي مثاله لأنّ السيل وإهلاكه للناس أمر محقق، وعلى تقديرها قلوباً مقدّرة مفروضة يكون تخييلياً، ونظيره طارت به العتقاء، ففي كلامه لف ونشر، وسال به الوادي مثل يضرب لمن هلك كما قاله الزمخشريّ وقال الميداني يقال لمن وقع في أمر شديد والظاهر الأوّل وكذا طارت به العنقاء أيضاً مثل لما هلك، أو لمن طالت غيبته، والعنقاء بألف لتأنيث الممدودة في آخره اسم طائر سمي به لأنه في عنقه بياض كالطوق، ويقال عنقاء مغرب كمبعد لفظاً، ومعنى بالإضافة والتوصيف فيل إنه كان بأرض الرس جبل مرتفع قدر ميل فيه طيور كثيرة منها، العنقاء، وكانت عظيمة لخلق جدّا ولها وجه كوجه الإنسان وأجنحة كثيرة، وفيها من كل حيوان شبه وكانت تأكل الطير ثم جاعت فاختطفت صبياً ثم جارية، فشكوها لنبيّ كان ثمة قيل اسمه حنظلة بن صفوان، وقيل: خالد بن سنان فدعا عليها فهلكت وقطع الله نسلها، وقيل غير ذلك، وقيل: إنها لا حقيقة لها، ولم توجد أصلاً كالغول ولذا قال الصفيّ الحلي:
لما رأيت بني الزمان وما بهم ~ خل وفيّ للشدائد أصطفى
أيقنت أنّ المستحيل ثلاثة ~ الغول والعنقاء والخل الوفي
وما قيل: من أنها اسم ملك فضعيف جدّا.
(تنبيه) أسقط المصنف رحمه الله قول الزمخشريّ نحو قلوب الأغتام إشارة إلى أنه مع ما
بعده وجه واحد لا وجه مستقل كما توهمه عبارته، ولأنّ الثاني أنسب بمدعاه كما بيناه لك، ولذا قيل القلوب المقدّر ختمها قلوب العقلاء، لأنه لا يجوز عند المعتزلة ختم الله عليها إلا يطريق الفرض بخلاف قلوب البهائم، والزمخشريّ جعل الأغتام ممن ختم على قلبه وهم الجهال أو من لا يفصح وهو خرم لمذهبه لأنه منع للطف عن العبد وهم لا يجوّزونه، وقد عرفت مما قرّرناه لك سقوطه، وإن كان إسقاطه أولى فعبارته أخصر وأظهر، وهذا مما ينبغي أن يتفطن له فإنّ المصنف قدّس سرّه لا يعدل عن شيء مما في الكشاف إلاً لنكتة، ونحن إن شاء الله لا نهمل شيئاً منها. قوله: (الثالث أنّ ذلك في الحقيقة فعل الشيطان إلخ) يعني أنه إسناد مجازيّ من إسناد الفعل إلى السبب، كبنى الأمير المدينة والمسند مجاز فيه نحو أحيا الأرض الربيع وفاعله حقيقة الشيطان أو الكافر، وأورد عليه أنه يلزمه إسناد أفعال الكفرة
والشياطين وقبائح الشرور كلها إليه تعالى، فإن. قيل قد أسندتموها أنتم إليه حقيقة، فلم تنكرون إسنادها مجازا قيل نحن نسند خلقها إليه لا نفسها، ولو سلم فلا قبح في إيجادها عندنا بل في الاتصاف بها، كما مرّ وأنتم تدّعون قبحها، ولك أن تقول هو غير وارد رأساً فإنهم لم يقولوا بجوازه دهانما قالوا ما ورد منه موهما للقبح تؤوّله، كما اتفقوا على تاويل اليد ونحوها مما يوهم التجسيم وان لم يجز إطلاقنا الجارحة عليه تعالى نعم الاقدار والتمكين من القبيح قالوا إنه قبيح أيضا كما منع الشرع من بيع آلات القتال من أهل الحرب فما كان جوابهم فهو جوابنا، فإن قلت على ما ارتضيناه من الوجه السابق فيه مجاز في الإسناد أيضاً كهذا، فهو تكرار محض وهو الداعي لشراح الكشاف بأسرهم على جعله كناية إيمائية في الإثبات كما مرّ، وان كان تكلفاً لكنه كما قيل:
تدعو الضرورات في الأمور إلى سلوك ما لا يليق بالأدب
قلت: التجوّز في الإسناد على وجهين لأنه يكون بجعل الفعل كالفعل في معنى كالثبات والرسوخ السابقين، أو الفاعل كالفاعل للملابسة بينهما، وكل منهما مجاز حكمي إلا أنّ الأوّل فيه حشمة وأدب عندهم، فلذا قدم لا يقال لم يجيء الإسناد لتنزيل الفعل منزلة الفعل، ولم يتعرّض له أحد من أهل المعاني، وإنما جاء لتنزيل(1/287)