وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15)
(وذكر اسم ربه فصلى) قيل المعنى ذكر اسم ربه بالخوف فعبده وصلى له، وقيل ذكر اسم ربه بلسانه وكبر للافتتاح فصلى أي فأقام الصلوات الخمس، وبه يحتج على وجوب تكبيرة الافتتاح وعلى أنها ليست من الصلاة لأن الصلاة عطفت عليها وهو يقتضي المغايرة، على أن الافتتاح جائز بكل اسم من أسمائه عز وجل، قاله النسفي وفيه نظر، وقيل ذكر موقفه ومعاده فعبده وهو كالقول الأول.
وقيل ذكر اسم ربه بالتكبير في أول الصلاة لأنها لا تنعقد إلا بذكره وهو قوله الله أكبر، وقيل ذكر اسم ربه في طريق المصلى فصلى، وقيل هو أن يتطوع بصلاة بعد زكاة، وقيل المراد بالصلاة هنا صلاة العيد كما أن المراد بالتزكي في الآية الأولى زكاة الفطر، ولا يخفى بعد هذا القول لأن السورة مكية ولم تفرض زكاة الفطر وصلاة العيد إلا بالمدينة.
عن جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قوله (قد أفلح من تزكى) قال " من شهد أن لا إله إلا الله وقطع الأنداد وشهد أني(15/193)
رسول الله (وذكر اسم ربه فصلى) قال هي الصلوات الخمس والمحافظة عليها والاهتمام بمواقيتها " أخرجه ابن مردويه، وقال البزار لا يروى عن جابر إلا من هذا الوجه وعن ابن عباس قال من تزكى من الشرك (وذكر اسم ربه) قال وحد الله فصلى قال الصلوات الخمس.(15/194)
بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16)
(بل تؤثرون الحياة الدنيا) هذا إضراب عن كلام مقدر يدل عليه السياق وينساق إليه الكلام أي أنتم لا تفعلون ذلك بل تؤثرون اللذات الفانية العاجلة الكائنة في الدنيا على الدار الآخرة الآجلة الباقية فلا تفعلون ما به تفلحون.
قرأ الجمهور بالفوقية على الخطاب للكفار فقط أو لمطلق الناس، ويؤيدها قراءة أبيّ بل أنتم تؤثرون وقرىء بالتحتية على الغيبة وعلى هذا يكون الضمير راجعاً للأشقى، قيل والمراد بالآية الكفرة والمراد بالإيثار للحياة الدنيا هو الرضا بها والاطمئنان إليها والإعراض عن الآخرة بالكلية.
وقيل المراد بها جميع الناس من مؤمن وكافر، والمراد بإيثارها هو أعم من ذلك مما لا يخلو عنه غالب الناس من إيثار جانب الدنيا على الآخرة، والتوجه إلى تحصيل منافعها والاهتمام بها اهتماماً زائداً على اهتمامه بالطاعات.
وعن عرفجة الثقفي قال استقرأت ابن مسعود (سبح اسم ربك الأعلى) فلما بلغ (بل تؤثرون الحياة الدنيا) ترك القراءة وأقبل على أصحابه فقال آثرنا الدنيا على الآخرة فسكت القوم فقال آثرنا الدنيا لأن رأينا زينتها ونساءها وطعامها وشرابها، وزويت عنا الآخرة، فاخترنا هذا العاجل وتركنا الآجل، وقال (بل يؤثرون الحياة الدنيا) بالياء.
قال عرفجة عند ابن مسعود فقرأ هذه الآية فقال لنا أتدرون لم آثرنا الحياة الدنيا على الآخرة قلنا لا، قال لأن الدنيا أحضرت وعجل لنا طعامها وشرابها ونساءها ولذاتها وبهجتها، وأن الآخرة تغيبت وزويت عنا فأصبنا العاجل وتركنا الآجل.(15/194)
وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (17)
(والآخرة خير وأبقى) أي والحال أن الدار الآخرة التي هي الجنة أفضل وأدوم من الدنيا، لأنها تشتمل على السعادة الجسمانية والروحانية، والدنيا ليست كذلك، ولأن الدنيا لذاتها مخلوقة بالآلام، والآخرة ليست كذلك، ولأن الدنيا فانية والآخرة باقية، والباقي خير من الفاني.
قال مالك بن دينار لو كانت الدنيا من ذهب يفنى، والآخرة من خزف يبقى لكان الواجب أن يؤثر خزف يبقى على ذهب يفنى، فكيف والآخرة من ذهب يبقى، والدنيا من خزف يفنى.(15/195)
إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى (18)
(إن هذا) أي ما تقدم من فلاح من تزكى وما بعده، وقيل إنه إشارة إلى جميع السورة (لفي الصحف الأولى) أي ثابت فيها قال النسفي وهو دليل على جواز قراءة القرآن بالفارسية في الصلاة، لأنه جعله مذكوراً في تلك الصحف مع أنه لم يكن فيها بهذا النظم وبهذه اللغة انتهى.
قال الخطيب: لم يُرد تعالى أن هذه الألفاظ بعينها في تلك الصحف بل معناه أن معنى هذا الكلام في تلك الصحف وفيه بعد لأن أبا حنيفة قد رجع عنه وعليه الاعتماد عند الحنفية وعليه الفتوى منهم وقد وصف الله سبحانه القرآن بكونه عربياً فلا يتم هذا الاستدلال.(15/195)
صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى (19)
(صحف إبراهيم وموسى) بدل من الصحف الأولى قال قتادة وابن زيد يريد بقوله (إِنَّ هَذَا): (وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى) وقالا تتابعت كتب الله عز وجل أن الآخرة خير وأبقى من الدنيا وقال الحسن تتابعت كتب الله عز وجل إن هذا لفي الصحف الأولى، وهو قوله (قد أفلح) إلى آخر السورة.
قرأ الجمهور صحف بضم الحاء في الموضعين، وقرىء بسكونها فيهما، وقرأ الجمهور " إبراهيم " بالألف بعد الراء وبالياء بعد الهاء، وقرىء بحذفهما وفتح الهاء، وقرأ أبو موسى وابن الزبير إبراهام بألفين.
وعن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " هي كلها في صحف إبراهيم وموسى " أخرجه البزار وابن المنذر والحاكم وصححه وابن(15/195)
مردويه، وعنه في الآية قال " نسخت هذه السورة من صحف إبراهيم وموسى " وفي لفظ " هذه السورة في صحف إبراهيم وموسى ".
وعن أبي ذر قال: قلت " يا رسول الله كم أنزل الله من كتاب؟ قال مائة كتاب وأربعة كتب " الحديث وأخرجه عبد بن حميد وابن مردويه وابن عساكر.(15/196)
سورة الغاشية
هي ست وعشرون آية وهي مكيّة بلا خلاف، وعن ابن عباس قال نزلت بمكة وعن ابن الزبير مثله، وقد تقدم حديث النعمان بن بشير أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) والغاشية في صلاة العيد ويوم الجمعة.(15/197)
بسم الله الرحمن الرحيم
هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ (1) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ (2) عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ (3) تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً (4) تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (5) لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ (6)(15/199)
هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ (1)
(هل أتاك حديث الغاشية) قال جماعة من المفسرين هل هنا بمعنى قد، وبه قال قطرب أي قد جاءك يا محمد، حديث الغاشية وهي القيامة لأنها تغشى الخلائق بأهوالها، وقيل أن بقاء (هل) على معناها الاستفهامي المتضمن للتعجب مما في حيزه والتشويق إلى استماعه أولى.
وقد ذهب إلى أن المراد بالغاشية هنا القيامة أكثر المفسرين، وقال سعيد بن جبير ومحمد بن كعب الغاشية النار تغشى وجوه الكفار كما في قوله (وتغشى وجوههم النار) وقيل الغاشية أهل النار لأنهم يغشونها ويقتحمونها، والأول أولى.
قال الكلبي المعنى إن لم يكن أتاك حديث الغاشية فقد أتاك قال ابن عباس: الغاشية من أسماء القيامة وعنه قال الغاشية الساعة، وفي المصباح الغشاء الغطاء ويقال أن الغشى يعطل القوى المحركة والأوردة الحساسة لضعف القلب بسبب وجع شديد أو برد أو جوع مفرط، وقيل الغشي هو الإغماء وقيل الإغماد امتلاء بطون الدماغ من بلغم بارد غليظ وقيل الإغماء سهو يلحق الإنسان مع فتور الأعضاء لعلة، وغشيته أغشاه من باب تعب أتيته، والاسم الغشيان بالكسر.(15/199)
وجملة(15/200)
وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ (2)
(وجوه يومئذ خاشعة) مستأنفة جواب سؤال مقدر كأنه قيل ما هو أو مستأنفة استئنافاً نحوياً لبيان ما تضمنته من كون ثم وجوه في ذلك اليوم متصفة بهذه الصفات المذكورة، ووجوه مرتفع على الابتداء وإن كان نكرة لوقوعه في مقام التفصيل، وقد تقدم مثل هذا في سورة القيامة وفي سورة النازعات.
والتنوين في يومئذ عوض عن المضاف إليه أي يوم غشيان الغاشية، والخاشعة الذليلة الخاضعة وكل متضائل ساكن يقال له خاشع، يقال خشع الصوت إذا خفي، وخشع في صلاته إذا تذلل ونكس رأسه، والمراد بالوجوه هنا أصحابها قال المحلي عبر بها عن الذوات في الموضعين أي بالجزء عن الكل، وخص الوجه لأنه أشرف أعضاء الإنسان ولأن الذل يظهر عليه أولاً دون غيره، قال مقاتل يعني الكفار لأنهم تكبروا عن عبادة الله، قال قتادة وابن زيد خاشعة في النار.
وقيل أراد وجوه اليهود والنصارى على الخصوص، والأول أولى، وفي البحر: الآية نزلت في القسيسين وعباد الأوثان، وفي كل مجتهد في كفر.(15/200)
عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ (3)
(عاملة) أي أنها تعمل عملاً شاقاً، قال أهل اللغة يقال للرجل إذا دأب في سيره عمل يعمل عملاً، ويقال للسحاب إذا دام برقه قد عمل يعمل عملاً، قيل وهذا العمل هو جر السلاسل والأغلال والخوض في النار والصعود والهبوط في تلالها ووهادها.
(ناصبة) أي تعبة يقال نصب بالكسر ينصب نصباً إذا تعب، والمعنى أنها في الآخرة تعبة لما تلاقيه من عذاب الله، وقيل أن قوله (عاملة) في الدنيا إذ لا عمل في الآخرة أي تعمل في الدنيا بالكفر والمعاصي، وتنصب في ذلك، وقيل إنها (عاملة) في الدنيا (ناصبة) في الآخرة، والأول أولى.
قال قتادة عاملة ناصبة تكبرت في الدنيا عن طاعة الله فأعملها الله(15/200)
وأنصبها في النار بجر السلاسل الثقال، وحمل الأغلال، والوقوف حفاة عراة في العرصات (في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة).
قال الحسن وسعيد بن جبير: لم تعمل لله في الدنيا ولم تنصب فاعملها وانصبها في جهنم، قال الكلبي: يجرون على وجوههم في جهنم، وقال أيضاًً يكلفون ارتقاء جبل من حديد في جهنم فينصبون فيها أشد ما يكون من النصب بمعالجة السلاسل والأغلال والخوض في النار كما تخوض الإبل في الوحل.
قال ابن عباس: (عاملة ناصبة) تعمل وتنصب، وعنه قال يعني اليهود والنصارى تخشع ولا ينفعها عملها، قرأ الجمهور (عاملة ناصبة) بالرفع فيهما على أنهما خبران آخران للمبتدأ أو على تقدير مبتدأ وهما خبران له، وقرىء بنصبهما على الحال أو على الذم.
وقوله(15/201)
تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً (4)
(تصلى ناراً حامية) خبر آخر للمبتدأ أي تدخل ناراً متناهية في الحر، يقال حمى النار وحمى التنور أي اشتد حرهما، قال الكسائي يقال اشتد حمى النهار وحموه بمعنى، والمعنى قد أحميت وأوقد عليها مدة طويلة، وفي الحديث " أحمى عليها ألف سنة حتى احمرت ثم أوقد عليها ألف سنة حتى أبيضت، ثم أوقد عليها ألف سنة حتى اسودت، فهي سوداء مظلمة ".
قرأ الجمهور تصلى بفتح التاء مبنياً للفاعل وقرىء بضمها مبنياً للمفعول وبضم التاء وفتح الصاد وتشديد اللام، والضمير راجع إلى الوجوه على جميع هذه القراآت السبعية، والمراد أصحابها كما تقدم.
وهكذا الضمير في(15/201)
تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (5)
(تسقى من عين آنية) أي متناهية في الحر، والآني الذي قد انتهى حره من الإيناء بمعنى التأخر، يقال آناه يؤنيه إيناء أي أخره وحبسه، كما في قوله (يطوفون بينها وبين حميم آن) قال الواحدي(15/201)
قال المفسرون لو وقعت منها قطرة على جبال الدنيا لذابت، قال ابن عباس هي التي قد طال أينها وقال أيضاً قد أنى غليانها، وعنه قال انتهى حرها.
ولما ذكر سبحانه شرابهم عقبه بذكر طعامهم فقال:(15/202)
لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ (6)
(ليس لهم طعام إلا من ضريع) هو نوع من الشوك لا ترعاه دابة لخبثه يقال له الشبرق في لسان قريش إذا كان رطباً فإذا يبس فهو الضريع، كذا قال مجاهد، وقتادة وغيرهما من المفسرين، قيل وهو سم قاتل، وإذا يبس لا تقربه دابة ولا ترعاه، وقيل هو شيء يرمى به البحر يسمى الضريع من أقوات الأنعام لا من أقوات الناس، فإذا رعت منه الإبل لا تشبع وتهلك هزالاً. قال الخليل الضريع نبات أخضر منتن الريح يرمى به البحر، وجمهور أهل اللغة والتفسير قالوا بالأول.
وقال سعيد بن جبير: الضريع الحجارة وقيل هو شجرة في نار جهنم، وقال الحسن: هو بعض ما أخفاه الله من العذاب. وقال ابن كيسان: هو طعام يضرعون عنده ويذلون ويتضرعون إلى الله بالخلاص منه، فسمي بذلك لأن آكله يتضرع إلى الله في أن يعفى عنه لكراهته وخشونته، قال النحاس: قد يكون مشتقاً من الضارع وهو الذليل أي من شربه تلحقه ضراعة وذلة، وقال الحسن أيضاًً هو الزقوم وقيل هو واد في جهنم.
وقد تقدم في سورة الحاقة (فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ (35) وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ) والغسلين غير الضريع كما تقدم، وجمع بين الآيتين بأن النار دركات، والعذاب ألوان والمعذبون طبقات، فمنهم من طعامه الضريع، ومنهم من طعامه الغسلين، ومنهم من طعامه الزقوم، فلا تناقض بين هذه الآيات.
قال ابن عباس الضريع الشبرق، وقال أيضاًً شجر من نار، وعنه قال الشبرق اليابس.(15/202)
لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (7) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ (8) لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ (9) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (10) لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً (11) فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ (12) فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (13) وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ (14) وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ (15)
ثم وصف سبحانه الضريع فقال:(15/203)
لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (7)
(لا يسمن ولا يغني من جوع) أي لا يسمن الضريع آكله ولا يدفع عنه ما به من الجوع يعني هما منفعتا الغذاء وكلاهما منتفيان عنه.
قال المفسرون: لما نزلت ليس لهم طعام الخ قال المشركون إن إبلنا تسمن من الضريع فنزلت (لا يسمن ولا يغني من جوع) وكذبوا في قولهم هذا فإن الإبل لا تأكل الضريع ولا تقربه، وقيل اشتبه عليهم أمره فظنوه كغيره من النبات النافع.
قال أبو السعود وتحقيق ذلك أن جوعهم وعطشهم ليسا من قبيل ما هو المعهود منهما في هذه النشأة من حالة عارضة للإِنسان عند استدعاء الطبيعة إلى المطعوم والمشروب بحيث يلتذ بهما عند الأكل والشرب، ويستغنى بهما عن غيرهما عند استقرارهما في المعدة ويستفيد منهما قوة وسمناً عند انهضامهما، بل جوعهم عبارة عن اضطرارهم عند إضرام النار في أحشائهم إلى إدخال شيء كثيف يملؤها ويخرج ما فيها من اللهب، وأما أن يكون لهم شوق إلى مطعوم ما أو التذاذ به عند الأكل واستغناء به عن الغير أو استفادة قوة فهيهات.
وكذا عطشهم عبارة عن اضطرارهم عند أكل الضريع والتهابه في بطونهم إلى شيء مائع بارد يطفئه من غير أن يكون لهم التذاذ بشربه أو استفادة قوة في الجملة، وهو المعنى بما روي أنه تعالى يسلط عليهم الجوع بحيث يضطرهم(15/203)
إلى أكل الضريع. فإذا أكلوه يسلط عليهم العطش فيضطرهم إلى شرب الحميم فيشوي وجوههم ويقطع أمعاءهم.
وتنكير الجوع للتحقير أي لا يغني من جوع ما.
ثم شرع سبحانه في بيان حال أهل الجنة بعد الفراغ من بيان حال أهل النار فقال(15/204)
وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ (8)
(وجوه يومئذ ناعمة) أي ذات نعمة وبهجة في لين العيش، وهي وجوه المؤمنين صارت ناعمة لما شاهدوا من عاقبة أمرهم وما أعده الله لهم من الخير الذي يفوق الوصف، ومثله قوله (تعرف في وجوههم نضرة النعيم) والمراد بالوجوه هنا أصحابها كما تقدم.
ثم قال(15/204)
لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ (9)
(لسعيها راضية) أي لعملها الذي عملته في الدنيا راضية لأنها قد أعطيت من الأجر ما أرضاها وقرت به عيونها.(15/204)
فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (10)
(في جنة عالية) أي عالية المكان مرتفعة على غيرها من الأمكنة أو عالية القدر لأن فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين.(15/204)
لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً (11)
(لا تسمع فيها لاغية) قرأ الجمهور بفتح الفوقية ونصب لاغية أي لا تسمع أنت أيها المخاطب أو لا تسمع تلك الوجوه وقرىء بضم التحتية مبنياً للمفعول ورفع لاغية، وقرىء بالفوقية مضمومة ورفع لاغية وقرىء بفتح التحتية مبنياً للفاعل ونصب لاغية. واللغو الكلام الساقط.
قال الفراء والأخفش: أي لا تسمع فيها كلمة لغو قيل المراد بذلك الكذب والبهتان والكفر، قاله قتادة وقال مجاهد أي الشتم، وقال الفراء لا تسمع فيها حالفاً يحلف بكذب، قال الكلبي لا تسمع في الجنة حالفاً بيمين برة ولا فاجرة، وقال الفراء أيضاً لا تسمع في كلام أهل الجنة كلمة تلغى لأنهم لا يتكلمون إلا بالحكمة وحمد الله تعالى على ما رزقهم من النعيم الدائم، وهذا أرجح الأقوال لأن النكرة في سياق النفي من صيغ العموم ولا وجه لتخصيص هذا بنوع من اللغو خاص إلا بمخصص يصلح للتخصيص.
ولاغية إما صفة موصوف محذوف أي كلمة لاغية أو جماعة لاغية أو(15/204)
نفس لاغية أو مصدر أي لا تسمع فيها لغواً قال ابن عباس لا تسمع أذى ولا باطلاً.(15/205)
فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ (12)
(فيها عين جارية) قد تقدم في سورة الإنسان أن فيها عيوناً، والعين هنا بمعنى العيون كما في قوله (علمت نفس) ومعنى جري العين أنها تجري مياهها على وجه الأرض في غير أخدود تتدفق بأنواع الأشربة المستلذة لا ينقطع جريها أبداً، قال الكلبي لا أدري بماء أو بغيره.(15/205)
فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (13)
(فيها سرر مرفوعة) أي عالية مرتفعة السمك أو عالية القدر أو شريفة الذات قال ابن عباس بعضها فوق بعض.(15/205)
وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ (14)
(وأكواب موضوعة) قد تقدم أن الأكواب جمع كوب وأنه القدح الذي لا عروة له ولا خرطوم أي أنها موضوعة بين أيديهم يشربون منها أو معدة لأهلها أو موضوعة على حافات العين الجارية أو موضوعة عن حد الكبر أي هي أوساط بين الكبر والصغر كقوله (قدروها تقديراً).(15/205)
وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ (15)
(ونمارق مصفوفة) هي الوسائد قال الواحدي في قول الجميع واحدتها نمرقة بضم النون وزاد الفراء سماعاً عن العرب نمرقة بكسرها وهما لغتان أشهرهما الأولى، قال الكلبي وسائد مصفوفة بعضها إلى بعض، ومنه قول الشاعر:
كهول وشبان حسان وجوههم ... على سرر مصفوفة ونمارق
قال في الصحاح: النمرق والنمرقة وسادة صغيرة وكذلك النمرقة بالكسر لغة حكاها يعقوب وقال ابن عباس: نمارق مجالس، وعنه قال: مرافق، وقيل مساند ومطارح أينما أراد أن يجلس جلس على موسدة واستند إلى الأخرى، قال الواحدي مصفوفة أي فوق الطنافس.(15/205)
وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (16) أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20) فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22) إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (23) فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ (24) إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ (26)(15/206)
وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (16)
(وزرابي مبثوثة) يعني البسط العراض الفاخرة واحدها زربى وزربية قال أبو عبيدة والفراء الزرابي الطنافس التي لها خمل رقيق واحدها زربية، وفي القاموس الزرابي النمارق والبسط أو كل ما يبسط ويتكأ عليها: الواحد زربى بالكسر ويضم والمبثوثة المبسوطة قاله قتادة وقال عكرمة بعضها فوق بعض.
قال الواحدي ويجوز أن يكون المعنى أنها متفرقة في المجالس، وبه قال القتيبي، وقال الفراء مبثوثة كثيرة، والظاهر أن معنى البث التفريق مع كثره ومنه (وبث فيها من كل دابة) قال القرطبي وغيره هذا أصح.(15/206)
أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17)
(أفلا ينظرون إلى الإِبل كيف خلقت) الاستفهام للتقريع والتوبيخ والفاء للعطف على مقدر كما في نظائره مما مر غير مرة، والجملة مستأنفة مسوقة لتقرير أمر البعث والاستدلال عليه، وكذا ما بعدها، وقيل الجملة في محل جر على أنها بدل اشتمال من الإِبل.
والمعنى ينكرون أمر البعث ويستبعدون وقوعه أفلا ينظرون إلى الإِبل التي هي غالب مواشيهم وأكثر ما يشاهدونه من المخلوقات كيف خلقت معدولاً عن سنن خلق سائر أنواع الحيوانات على ما هي عليه من الخلق البديع من عظم جثتها ومزيد قوتها وبديع أوصافها.
قال أبو عمرو بن العلاء إنما خص الإِبل لأنها من ذوات الأربع تبرك(15/206)
فتحمل عليها الحمولة، وغيرها من ذوات الأربع لا يحمل عليه إلا وهو قائم.
قال الزجاج نبههم على عظيم من خلقه قد ذلله للصغير يقوده وينيخه، وينهضه ويحمل عليه الثقيل من الحمل وهو بارك فينهض بثقل حمله، وليس ذلك في شيء من الحوامل غيره فأراهم عظيماً من خلقه ليدل بذلك على توحيده.
وسئل الحسن عن هذه الآية وقيل له الفيل أعظم في الأعجوبة فقال أما الفيل فالعرب بعيدة العهد به، ثم هو خنزير لا يركب ظهره ولا يؤكل لحمه ولا يحلب دره، والإبل من أعز مال العرب وأنفسه يأكل النوى والقت ويخرج اللبن ويأخذ الصبي بزمامها فيذهب بها حيث شاء مع عظمها في نفسها.
وقال المبرد: الإبل هنا هي القطع العظيمة من السحاب، وهو خلاف ما ذكره أهل التفسير واللغة.
وروي عن الأصمعي أنه قال: من قرأ خلقت بالتخفيف عنى به البعير، ومن قرأ بالتشديد عنى به السحاب.
قال أبو السعود: بدأ بالإبل لكثرة منافعها كأكل لحمها وشرب لبنها والحمل عليها والتنقل عليها إلى البلاد البعيدة، وعيشها بأي نبات أكلته كالشجر والشوك وصبرها على العطش عشرة أيام فأكثر، وطواعيتها لكل من قادها ولو صبياً صغيراً ونهوضها وهي باركة بالأحمال الثقيلة وتأثرها بالصوت الحسن مع غلظ أكبادها ولا شيء من الحيوان جمع هذه الأشياء غيرها ولكونها أفضل ما عند العرب جعلوها دية القتل.
والإبل اسم جمع لا واحد له من لفظه وإنما واحده بعير وناقة وجمل.(15/207)
وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18)
(وإلى السماء كيف رفعت) فوق الأرض بلا عمد على وجه لا يناله الفهم ولا يدركه العقل وقيل رفعت فلا ينالها شيء.(15/207)
وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19)
(وإلى الجبال كيف نصبت) على وجه الأرض مرساة راسخة لا تميد(15/207)
ولا تميل ولا تزول(15/208)
وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20)
(وإلى الأرض كيف سطحت) أي بسطت، والسطح بسط الشيء يقال لظهر البيت إذا كان مستويا سطح، قرأ الجمهور مبنياً للمفعول مخففاً، وقرأ الحسن: مشدداً، وقرأ علي بن أبي طالب وغيره خلقت ورفعت ونصبت وسطحت على البناء للفاعل وضم التاء فيها كلها.
قال المحلي قوله سطحت ظاهر في أن الأرض سطح، وعليه علماء الشرع لا كرة كما قاله أهل الهيئة وإن لم ينقض ركناً من أركان الشرع.
قال الكرخي هي كرة بطبعها وحقيقتها لكن الله أخرجها عن طبعها بفضله وكرمه بتسطيح بعضها لإقامة الحيوانات عليها فأخرجها عما يقتضيه طبعها انتهى.
وفي التكميل للشيخ رفيع الدين ابن ولي الله الدهلوي رحمه الله: أهل الشرائع يفهمون من مثل قوله تعالى (الْأَرْضَ فِرَاشًا)، و (دَحَاهَا)، و (سُطِحَتْ) أنها سطح مستو، والحكماء يثبتون كرويتها بالأدلة الصحيحة فيتوهم الخلاف، ويدفع بأن القدر المحسوس منها في كل بقعة سطح مستو، فإن الدائرة كلما عظمت قل انجذاب أجزائها فاستواؤها باعتبار محسوسية، أجزائها، وكرويتها باعتبار معقولية جملتها انتهى.
ثم لما ذكر تعالى دليل توحيده ولم يعتبروا ولم يتفكروا فيها خاطب نبيه وأمره بأن يذكرهم فقال(15/208)
فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21)
(فذكر) الفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها أي فعظهم يا محمد وخوفهم، ثم علل الأمر بالتذكير فقال (إنما أنت مذكر) أي ليس عليك إلا ذلك و(15/208)
لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22)
(لست عليهم بمصيطر) حتى تكرههم على الإيمان، ومصيطر بالصاد والسين المسلط على الشيء ليشرف عليه ويتعهد أحواله، كذا في الصحاح قال ابن عباس أي بجبار، وعنه قال ثم نسخ ذلك فقال (اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم).(15/208)
إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (23)
(إلا من تولى وكفر) استثناء منقطع من الهاء في عليهم أي لكن من تولى عن الوعظ والتذكير(15/208)
فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ (24)
(فيعذبه الله العذاب الأكبر) وهو عذاب جهنم(15/208)
الدائم، وقيل هو استثناء متصل من قوله (فذكر) أي فذكر كل أحد إلا من انقطع طمعك عن إيمانه وتولى فاستحق العذاب الأكبر، والأول أولى، وإنما قال الأكبر لأنهم قد عذبوا في الدنيا بالجوع والقحط والقتل والأسر.
وقرأ ابن مسعود (فإنه يعذبه الله) وقرأ ابن عباس وقتادة (ألا من تولى) على أنها ألا التي للتنبيه والاستفتاح.(15/209)
إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25)
(إن إلينا إيابهم) أي رجوعهم بعد الموت بالبعث لا إلى أحد سوانا لا استقلالاً ولا اشتراكاً وفائدة تقديم الظرف التشديد في الوعيد وأن إيابهم ليس إلا إلى الجبار المقتدر على الانتقام، وقال ابن عباس أي مرجعهم يقال آب يؤوب إذا رجع، قرأ الجمهور إيابهم بالتخفيف وقرىء بالتشديد، قال أبو حاتم لا يجوز التشديد ولو جاز لجاز مثله في الصيام والقيام، وقيل هما لغتان بمعنى، قال الواحدي وأما إيابهم بتشديد الياء فإنه شاذ لم يجزه أحد غير الزجاج.(15/209)
ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ (26)
(ثم إن علينا حسابهم) يعني جزاءهم بعد رجوعهم إلينا بالبعث في المحشر لا على غيرنا وثم للتراخي في الرتبة لا في الزمان لبعد منزلة الحساب في الشدة عن منزلة الإِياب، وعلى لتأكيد الوعيد لا للوجوب إذ لا يجب على الله شيء، وجمع الضمير في إيابهم وحسابهم باعتبار معنى من كما أن أفراده في يعذبه باعتبار لفظها، وفي تصدير الجملتين بإن وتقديم خبرها وعطف الثانية على الأولى بكلمة ثم المفيدة لبعد منزلة الحساب في الشدة من الإنباء عن غاية السخط الموجب لتشديد العذاب ما لا يخفى.(15/209)
سورة الفجر
هي ثلاثون آية وقيل تسع وعشرون وهي مكيّة بلا خلاف في قول الجمهور قال ابن عباس نزلت بمكة وعن ابن الزبير وعائشة مثله، ومدنية في قول علي بن أبي طلحة.
أخرج النسائي عن جابر قال صلى معاذ صلاة فجاء رجل فصلى معه فطول، فصلى في ناحية المسجد ثم انصرف، فبلغ ذلك معاذاً فقال منافق، فذكر ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، فقال يا رسول الله جئت أصلي معه فطول عليّ فانصرف فصليت في ناحية المسجد، فعلفت ناضحي، فقال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: " أفتان أنت يا معاذ، أين أنت من سبح اسم ربك الأعلى والشمس وضحاها والفجر والليل إذا يغشى ".(15/211)
بسم الله الرحمن الرحيم
وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ (4)(15/213)
وَالْفَجْرِ (1)
(والفجر) أقسم سبحانه بهذه الأشياء كما أقسم بغيرها من مخلوقاته، واختلف في الفجر الذي أقسم الله به هنا فقيل هو الوقت المعروف، وسمي فجراً لأنه وقت انفجار الظلمة عن النهار من كل يوم، قاله علي وابن الزبير، وقال قتادة إنه فجر أول يوم من شهر محرم، لأن منه تنفجر السنة، وقال مجاهد يريد يوم النحر.
وقال الضحاك فجر ذي الحجة لأن الله قرن الأيام به فقال(15/213)
وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2)
(وليال عشر) أي ليالي عشر من ذي الحجة، وبه قال السدي والكلبي، وقيل المعنى وصلاة الفجر أو ورب الفجر، والأول أولى، وقال ابن عباس فجر النهار، وعنه قال يعني صلاة الفجر، وعنه قال هو المحرم فجر السنة.
وقد ورد في فضل صوم شهر محرم أحاديث صحيحة، ولكنها لا تدل على أنه المراد بالآية لا مطابقة ولا تضمناً ولا التزاماً، وجواب هذا القسم وما بعده هو قوله (إن ربك لبالمرصاد). قاله ابن الأنباري، وقيل محذوف لدلالة السياق عليه أي ليجازين كل أحد بما عمل أو ليعذبن، وقدره أبو حيان بما دلت عليه خاتمة السورة التي قبله أي والفجر الخ لإِيابهم إلينا وحسابهم علينا، وهذا ضعيف جداً، وأضعف منه قول من قال أن الجواب قوله (هل في ذلك قسم لذي حجر) وأن هل بمعنى قد، لأن هذا لا يصح أن يكون مقسماً عليه أبداً.(15/213)
وليال عشر هي عشر ذي الحجة في قول جمهور المفسرين، وإنما نكرت ولم تعرف لفضيلتها على غيرها لأنها أفضل ليالي السنة، ولو عرفت لم تستقل بمعنى الفضيلة الذي في التنكير، فنكرت من بين ما أقسم به للفضيلة التي ليست لغيرها، وقال الضحاك أنها العشر الأواخر من رمضان، وقيل العشر الأول من المحرم إلى عاشرها يوم عاشوراء.
قرأ الجمهور ليال بالتنوين وعشر صفة لها، وقرأ ابن عباس بالإضافة قيل والمراد ليالي أيام عشر، وكان حقه على هذا أن يقال عشرة لأن المعدود مذكر، وأجيب عنه بأنه إذا حذف المعدود جاز الوجهان.
وعن جابر مرفوعاً " هي ليالي العشر من ذي الحجة " (1)، أخرجه أحمد والنسائي والحاكم وصححه والبيهقي وغيرهم، وعن طلحة بن عبد الله أنه دخل على ابن عمر هو وأبو سلمة بن عبد الرحمن فدعاهم ابن عمر إلى الغداء يوم عرفة فقال أبو سلمة أليس هذه الليالي العشر التي ذكرها الله تعالى في القرآن؟ فقال ابن عمر وما يدريك قال ما أشك، قال بلى فاشكك.
وقد ورد في فضل هذه العشر أحاديث، وليس فيها ما يدل على أنها المرادة بما في القرآن هنا بوجه من الوجوه، قال ابن عباس هي العشر الأواخر من رمضان.
_________
(1) المراد بها عشر ذي الحجة، كما قاله ابن عباس، وابن الزبير، ومجاهد وغير واحد من السلف والخلف، قال: وقد ثبت في " صحيح البخاري " عن ابن عباس مرفوعاً: " ما من أيام العمل الصالح أحب إلى الله فيهن من هذه الأيام " يعني عشر ذي الحجة، قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: " ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجلاً خرج بنفسه وماله ثم لم يرجع من ذلك بشيء ".(15/214)
وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3)
(والشفع والوتر) هما يعمان الأشياء كلها شفعها ووترها، كالكفر والإيمان، والهدى والضلال، والسعادة والشقاوة، والليل والنهار، والسماء والأرض، والبر والبحر، والشمس والقمر، والجن والإنس، وقيل شفع الليالي ووترها، وقال قتادة الشفع والوتر شفع الصلاة ووترها منها شفع ومنها(15/214)
وتر، وقيل الشفع يوم عرفة ويوم النحر، والوتر ليلة يوم النحر، وقال مجاهد وعطية العوفي الشفع الخلق والوتر الله الواحد الصمد وبه قال محمد بن سيرين ومسروق وأبو صالح وقتادة، وقال الربيع بن أنس وأبو العالية هي صلاة المغرب فيها ركعتان الموتر الركعة.
وقال الضحاك الشفع عشر ذي الحجة والوتر أيام منى الثلاثة، وبه قال عطاء وقيل هما آدم وحواء لأن آدم كان وتراً فشفع بحواء، وقيل الشفع درجات الجنة وهي ثمان والوتر دركات النار وهي سبع وبه قال الحسين بن الفضل وقيل الشفع الصفا والمروة والوتر الكعبة، وقال مقاتل الشفع الأيام والليالي والوتر اليوم الذي لا ليلة بعده وهو يوم القيامة.
وقال سفيان بن عيينة الوتر هو الله سبحانه، وهو الشفع أيضاً لقوله (ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم) الآية وقال الحسن المراد بالشفع والوتر العدد كله لأن العدد لا يخلو عنهما، وقيل الشفع مسجد مكة والمدينة، والوتر مسجد بيت المقدس، وقيل الشفع حج القِران والوتر الإفراد، وقيل الشفع الحيوان لأنه ذكر وأنثى والوتر الجماد، وقيل الشفع ما سمي، والوتر ما لم يسم.
ولا يخفاك ما في غالب هذه الأقوال من السقوط البين، والضعف الظاهر، والاتكال في التعيين على مجرد الرأي الزائف والخاطر الخاطيء، والذي ينبغي التعويل عليه ويتعين المصير إليه ما يدل عليه معنى الشفع والوتر في كلام العرب وهما معروفان واضحان، فالشفع عند العرب الزوج، والوتر الفرد.
فالمراد بالآية إما نفسى العدد أو ما يصدق عليه من المعدودات بأنه شفع أو وتر، وإذا قام دليل على تعيين شيء من المعدودات في تفسير هذه الآية فإن كان الدليل يدل على أنه المراد نفسه دون غيره فذاك، وإن كان الدليل يدل على أنه مما تناولته هذه الآية لم يكن ذلك مانعاً من تناولها لغيره.(15/215)
عن عمران بن حصين أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الشفع والوتر، فقال: " هو الصلاة بعضها شفع وبعضها وتر " أخرجه أحمد والترمذي وغيرهما وفي إسناده رجل مجهول وهو الراوي له عن عمران (1).
وقد روي عن عمران بن عصام عن عمران بن حصين بإسقاطه الرجل المجهول، وقال الترمذي في الرواية الأولى غريب لا نعرفه إلا من حديث قتادة.
قال ابن كثير وعندي أن وقفه على عمران أشبه والله تعالى أعلم، قال ولم يجزم ابن جرير بشيء من هذه الأقوال في الشفع والوتر.
وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير هذا الحديث موقوفاً على عمران، فهذا يقوي ما قاله ابن كثير.
وعن جابر مرفوعاً " أن العشر عشر الأضحى، والوتر يوم عرفة والشفع يوم النحر " أخرجه أحمد والنسائي والبزار والحاكم وصححه وغيرهم.
وعن ابن عباس قال كل شيء شفع فهو اثنان، والوتر واحد. وعن أبي أيوب عن النبي صلى الله عليه وسلم " أنه سئل عن الشفع والوتر فقال يومان وليلة يوم عرفة ويوم النحر، والوتر ليلة النحر ليلة جمع " أخرجه الطبراني وابن مردويه، قال السيوطي بسند ضعيف.
وعن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: " الشفع
_________
(1) رواه أحمد في " المسند " 4/ 442 من حديث همام عن قتادة عن عمران بن عصام الضبعي أبو عمارة البصري، عن شيخ أهل البصرة، عن عمران بن حصين رضي الله عنه. ورواه أيضاًً الترمذي 2/ 170 من حديث همام عن قتادة به، وقال: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث قتادة، وقد رواه خالد بن قيس أيضاًً عن قتادة، ورواه ابن جرير الطبري 30/ 172 عن خالد بن قيس عن قتادة به، والحاكم في " المستدرك " 2/ 522 من حديث همام عن قتادة به، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، وفيه نظر، لأن الراوي عن عمران بن حصين مجهول، ولم يوثقه إلا ابن حبان. وأورده السيوطي في " الدر " 6/ 346 وزاد نسبته لعبد بن حميد، وابن أبي حاتم، وابن مردويه عن عمران بن حصين رضي الله عنه.(15/216)
اليومان والوتر اليوم الثالث " أخرجه ابن جرير، وعن ابن الزبير قال الشفع قول الله (فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه) والوتر اليوم الثالث وفي لفظ الوتر أوسط أيام التشريق.
وعن ابن عباس قال الشفع يوم النحر والوتر يوم عرفة.
قرأ الجمهور الوتر بفتح الواو، وقرأ حمزة والكسائي وخلف بكسرها وهي قراءة ابن مسعود وأصحابه، وهما لغتان، والفتح لغة قريش وأهل الحجاز، والكسر لغة تميم. قال الأصمعي كل فرد وتر، وأهل الحجاز يفتحون فيقولون وتر في الفرد، وحكى يونس عن ابن كثير أنه قرأ بفتح الواو وكسر التاء فيحتمل أن يكون لغة ثالثة. ويحتمل أنه نقل كسرة الراء إلى التاء إجراء للوصل مجرى الوقف.(15/217)
وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ (4)
(والليل إذا يسر) قرأ الجمهور يسر بحذف الياء وصلاً ووقفاً اتباعاً لرسم المصحف، وقرأ نافع وأبو عمرو بحذفها في الوقف وإثباتها في الوصل، وقرأ ابن كثير وابن محيصن ويعقوب بإثباتها فيهما، قال الخليل تسقط الياء منها موافقة لرؤوس الآي، قال الزجاج والحذف أحب إليّ لأنها فاصلة والفواصل تحذف منها الياآت، قال الفراء قد تحذف العرب الياء وتكتفي بكسر ما قبلها.
قال المؤرج سألت الأخفش عن العلة في إسقاط الياء من (يسري) فقال لا أجيبك حتى تبيت على باب داري سنة فبت على باب داره سنة فقال الليل لا يسري وإنما يسرى فيه فهو مصروف عن جهته وكل ما صرفته عن جهته بخسته من إعرابه، ألا ترى إلى قوله (وما كانت أمك بغياً) ولم يقل بغية لأنه صرفها عن باغية.
وفي كلام الأخفش هذا نظر فإن صرف الشيء عن معناه بسبب من الأسباب لا يستلزم صرف لفظه عن بعض ما يستحقه، ولو صح ذلك للزم في كل المجازات العقلية واللفظية، واللازم باطل فالملزوم مثله، والأصل هنا(15/217)
إثبات الياء لأنها لام الفعل المضارع المرفوع ولم تحذف لعلة من العلل إلا لاتباع رسم المصحف وموافقة رؤوس الآي إجراء للفواصل مجرى القوافي.
ومعنى (والليل إذا يسر) إذا يمضي كقوله (والليل إذ أدبر)، (والليل إذا عسعس) وقيل معنى يسر يسار فيه كما يقال ليل نائم ونهار صائم وبهذا قال الأخفش والقتيبي وغيرهما من أهل المعاني، وعلى هذا نسبة السري إلى الليل مجاز والمراد يسرى فيه فهو مجاز في الإسناد بإسناد ما للشيء للزمان كما يسند للمكان، والظاهر أنه مجاز مرسل أو استعارة، وبالأول قال جمهور المفسرين.
وقال قتادة وأبو العالية (والليل إذا يسر) أي جاء وأقبل، وقال النخعي أي استوى، قال عكرمة وقتادة والكلبي ومحمد بن كعب هي ليلة المزدلفة خاصة لاختصاصها باجتماع الناس فيها لطاعة الله سبحانه، وقيل ليلة القدر لسراية الرحمة فيها واختصاصها بزيادة الثواب، والراجح عدم تخصيص ليلة من الليالي دون أخرى.
قال ابن عباس (إذا يسر) إذا ذهب، ويسر مأخوذ من السري وهو خاص بسير الليل، يقال سريت الليل وسريت به، وقد استعملت العرب سرى في المعاني تشبيهاً لها بالأجسام مجازاً، واتساعاً نحو طاف الخيال وذهب الهم وأخذه الكسل والنشاط.
وقول الفقهاء سرى الجرح إلى النفس معناه دام ألمه حتى حدث منه الموت، وقطع كفه فسرى إلى ساعده أي تعدى أثر الجرح، وسرى التحريم وسرى العتق بمعنى التعدية. وهذه الألفاظ جارية على ألسنة الفقهاء، وليس لها ذكر في الكتب المشهورة لكنها موافقة لما تقدم.
قال الفارابي سرى فيه السم والخمر ونحوهما، وقال السرقسطي سرى عرق السوء من الإنسان، وقال ابن القطاع سرى عليه الهم أتاه ليلاً، وسرى همه ذهب.(15/218)
هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (5) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ (8) وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ (9) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ (10)(15/219)
هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (5)
(هل في ذلك قسم) هذا الاستفهام لتقرير تعظيم ما أقسم الله سبحانه به وتفخيمه من هذه الأمور المذكورة، والإشارة بقوله (ذلك) إلى تلك الأمور. والتذكير بتأويل المذكور، أي هل في ذلك المذكور من الأمور التي أقسمنا بها قسم أي مقنع ومكتفى في القسم أو مقسم به حقيق بأن يؤكد به الأخبار، وأيا ما كان فما فيه من معنى البعد للإيذان بعلو رتبة المشار إليه وبعد منزلته في الفضل والشرف.
(لذي حجر) أي عقل ولب، فمن كان ذا عقل ولب علم أن ما أقسم الله به من هذه الأشياء حقيق بأن يقسم به، ومثل هذا قوله (وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ) قال الحسن: لذي حجر أي لذي حلم، وقال أبو مالك: لذي ستر من الناس، وقال الجمهور: الحجر العقل قال الفراء: الكل يرجع إلى معنى واحد لذي عقل ولذي حلم ولذي ستر، الكل بمعنى العقل.
وأصل الحجر المنع يقال لمن ملك نفسه ومنعها أنه لذو حجر، ومنه سمي الحجر لامتناعه بصلابته ومنه حجر الحاكم على فلان أي منعه، قال والعرب تقول إنه لذو حجر إذا كان قاهراً لنفسه ضابطاً لها، قال ابن عباس لذي حجر لذي حجى وعقل ونهي.
ثم ذكر سبحانه على طريق الاستشهاد ما وقع من عذابه على بعض طوائف الكفار بسبب كفرهم وعنادهم وتكذيبهم للرسل تحذيراً للكفار في عصر نبينا صلى الله عليه وسلم، وتخويفاً لهم أن يصيبهم ما أصابهم فقال:(15/219)
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6)
(ألم تر كيف فعل ربك بعاد) أي ألم تعلم يا محمد علماً يوازي العيان في الإيقان وهو استفهام تقرير، قرأ الجمهور بتنوين عاد على أن يكون قوله(15/220)
إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7)
(إرم ذات العماد) عطف بيان لعاد، والمراد بعاد اسم أبيهم وإرم إسم القبيلة أو بدلاً منه، وامتناع صرف إرم للتعريف والتأنيث، وقيل المراد بعاد أولاد عاد وهم عاد الأولى، ويقال لمن بعدهم عاد الأخرى فيكون ذكر إرم على طريقة عطف البيان أو البدل للدلالة على أنهم عاد الأولى لا عاد الأخرى.
ولا بد من تقدير مضاف على كلا القولين أي أهل إرم أو سبط إرم فإن إرم هو جد عاد، لأنه عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح، وقرأ الحسن وأبو العالية بإضافة عاد إلى إرم، وقرأ الجمهور إرم بكسر الهمزة وفتح الراء والميم، وقرىء بفتح الهمزة والراء وقرأ معاذ بسكون الراء تخفيفاً وقرىء بإضافة إرم إلى ذات العماد.
وقال مجاهد: من قرأ بفتح الهمزة شبههم بالإِرم التي هي الأعلام واحدها أرم. وفي الكلام تقديم وتأخير أي والفجر وكذا وكذا إن ربك لبالمرصاد ألم تر أي ألم ينته علمك إلى ما فعل ربك بعاد، وهذه الرؤية رؤية القلب، والخطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، أو لكل من يصلح له.
وقد كان أمر عاد وثمود مشهوراً عند العرب، لأن ديارهم متصلة بديار العرب، وكانوا يسمعون من أهل الكتاب أمر فرعون.
وقال مجاهد أيضاً إرم أمة من الأمم، وقال قتادة هي قبيلة من عاد، وقيل هما عادان فالأولى هي إرم، قال معمر إرم إليه مجتمع عاد وثمود وكان يقال عاد إرم وعاد ثمود وكانت القبيلتان تنسب إلى إرم، قال أبو عبيدة هما عادان فالأولى إرم.
ومعنى ذات العماد ذات القوة والشدة مأخوذ من قوة الأعمدة، كذا قال الضحاك وقال قتادة ومجاهد أنهم كانوا أهل عمد سيارة في الربيع، فإذا هاج النبت رجعوا إلى منازلهم، وقال مقاتل ذات العماد يعني طولهم، وكان طول(15/220)
الرجل منهم إثني عشر ذراعاً، يقال رجل طويل العماد أي القامة.
قال أبو عبيدة ذات العماد ذات الطول، يقال رجل معمد إذا كان طويلاً، وقال مجاهد وقتادة أيضاًً كان عماداً لقومهم يقال فلان عميد القوم وعمودهم أي سيدهم، وقال ابن زيد ذات العماد يعني إحكام البنيان بالعمد.
قال في الصحاح: والعماد الأبنية الرفيعة تذكر وتؤنث، وقال عكرمة وسعيد المقبري: هي دمشق، وعن مالك مثله، وقال محمد بن كعب: هي الاسكندرية، قال ابن عباس يعني بالإرم الهالك، ألا ترى أنك تقول إرم بنو فلان، وذات العماد يعني طولهم مثل العماد.
وعن المقدام بن معد يكرب عن النبي صلى الله عليه وسلم: " أنه ذكر إرم ذات العماد فقال كان الرجل منهم يأتي إلى الصخرة فيحملها على كاهله فيلقيها على أي حي أراد فيهلكهم " أخرجه ابن أبي حاتم وابن مردويه وفي إسناده رجل مجهول لأن معاوية بن صالح رواه عمن حدثه عن المقدام.(15/221)
الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ (8)
(التي لم يخلق مثلها في البلاد) هذه صفة لعاد أي لم يخلق مثل تلك القبيلة في الطول والشدة والقوة وهم الذين قالوا (من أشد منا قوة) أو صفة للقرية على قول من قال أن إرم اسم لقريتهم أو للأرض التي كانوا فيها، والأول أولى ويدل عليه قراءة أبيّ بن كعب (التي لم يخلق مثلهم في البلاد) وقيل الإِرم الهلاك قال الضحاك إرم ذات العماد أي أهلكهم فجعلهم رميماً، وبه قال شهر بن حوشب.
وقد ذكر جماعة من المفسرين أن إرم ذات العماد اسم مدينة مبنية بالذهب والفضة قصورها ودورها وبساتينها وأن حصباءها جواهر، وترابها مسك، وليس بها أنيس ولا فيها ساكن من بني آدم وأنها لا تزال تنتقل من موضع إلى موضع تارة تكون باليمن وتارة تكون بالشام وتارة تكون بالعراق وتارة تكون بسائر البلاد. وهذا كذب بحت لا ينفق (1) على من له أدنى تمييز.
_________
(1) لا يروج.(15/221)
وزاد الثعلبي في تفسيره فقال أن عبد الله بن قلابة في زمان معاوية دخل هذه المدينة، وهذا كذب على كذب، وافتراء على افتراء.
وقد أصيب الإسلام وأهله بداهية دهياء وفاقرة عظمى. ورزية كبرى من أمثال هؤلاء الكذابين الدجالين الذين يجترئون على الكذب تارة على بني إسرائيل وتارة على الأنبياء وتارة على الصالحين، وتارة على رب العالمين، وتضاعف هذا الشر وزاد كثرة بتصدر جماعة من الذين لا علم لهم بصحيح الرواية من ضعيفها بل موضوعها للتصنيف والتفسير للكتاب العزيز فأدخلوا هذه الخرافات المختلفة، والأقاصيص المنحولة والأساطير المفتعلة في تفسير كتاب الله سبحانه، فحرفوا وغيروا وبدلوا، ومن أراد أن يقف على بعض ما ذكرنا فلينظر في كتاب الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة للشوكاني.
قال الحافظ ابن كثير لا تغتر بما ذكر جماعة من المفسرين من ذكر مدينة يقال لها إرم ذات العماد فإن ذلك كله من خرافات الإسرائيليين من وضع الزنادقة منهم ليختبروا بذلك عقول الجهلة من الناس، فهذا وأمثاله مختلق لا حقيقة له.
وأما قوله تعالى فالمراد من الآية إنما هو الإخبار عن هلاك القبيلة المسماة بعاد الذين أرسل الله فيهم هوداً فكذبوه فأهلكهم الله، وإرم عطف بيان لعاد أو بدل منه للإعلام بأنهم عاد الأولى فسموا باسم جدهم إرم كما يقال لبني هاشم " هاشم " لأن عاد هو ابن عوض بن إرم سام بن نوح، وقيل إرم اسم بلدتهم وأرضهم بالتقدير بعاد أهل إرم كقوله تعالى (واسأل القرية) أي أهلها وذات العماد إن كان صفة للقبيلة فمعناها أنهم أصحاب خيام لها أعمدة يظعنون بها، أو هو كناية عن طول أجسامهم وتشبيهها بالأعمدة، وإن كان صفة للبلدة فمعناه أنها ذات عمد من الحجارة.
وتعقب هذا القول بأنه لو كان ذلك مراداً لقال التي لم يعمل مثلها في البلاد وإنما قال (لم يخلق) فالقول الأول هو الصواب انتهى، وبه قال شيخ(15/222)
الإسلام نجم الدين محمد الغيظي رحمه الله تعالى.
قال عبد الرحمن بن خلدون في كتاب العبر بعد ذكر أغلاط المؤرخين:
وأبعد من ذلك وأغرق في الوهم ما يتناقله المفسرون في تفسير سورة والفجر في قوله تعالى (إرم ذات العماد) فيجعلون لفظة إرم إسماً لمدينة وصفت بأنها ذات عماد أي أساطين وهي كذا وكذا ذكر ذلك الطبري والثعالبي والزمخشري وغيرهم من المفسرين، وينقلون عن عبد الله ابن قلابة من الصحابة أنه خرج في طلب إبل له فوقع عليها الخ وهذه المدينة لم يسمع لها خبر من يومئذ في شيء من بقاع الأرض، وصحارى عدن التي زعموا أنها بنيت فيها هي في وسط اليمن وما زال عمرانه متعاقباً والأدلاء تقص طرقه ولم ينقل عن هذه المدينة خبر. ولا ذكرها أحد من الإخباريين، ولا من الأمم، ولو قالوا أنها درست فيما درس من الآثار لكان أشبه إلا أن ظاهر كلامهم أنها موجودة، وبعضهم يقول أنها دمشق بناء على أن قوم عاد ملكوها، وقد ينتهي الهذيان ببعضهم إلى أنها غائبة، وإنما يعثر عليها أهل الرياضة والسحر، مزاعم كلها أشبه بالخرافات.
والذي حمل المفسرين على ذلك ما اقتضته صناعة الأعراب في لفظة ذات العماد أنها صفة إرم وحملوا العماد على الأساطين فتعين أن يكون بناء، ورشح لهم ذلك قراءة ابن الزبير عاد إرم على الإضافة من غير تنوين ثم وقفوا على تلك الحكايات التي هي أشبه بالأقاصيص الموضوعة التي هي أقرب إلى الكذب المنقولة في عداد المضحكات، وإلا فالعماد هي عماد الأخبية بل الخيام وإن أريد بها الأساطين فلا بدع وصفهم بأنه أهل بناء وأساطين على العموم بما اشتهر من قوتهم لا إنه بناء خاص في مدينة معينة كما تقول قريش كنانة والياس مضر، وربيعة نزار، وأي ضرورة إلى هذا المحمل البعيد الذي تمحل لتوجيهه لأمثال هذه الحكايات الواهية التي ينزه كتاب الله تعالى عن مثلها لبعدها عن الصحة انتهى كلامه.(15/223)
ثم عطف سبحانه. القبيلة الآخرة وهي ثمود على قبيلة عاد فقال(15/224)
وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ (9)
(وثمود) هم قوم صالح سموا باسم جدهم ثمود بن عابر بن إرم بن سام بن نوح. قرأ الجمهور ثمود بمنع الصرف على أنه إسم للقبيلة ففيه التأنيث والتعريف، وقرأ يحيى بن وثاب بالصرف على أنه اسم لأبيهم.
(الذين جابوا الصخر) أي قطعوه وقال ابن عباس: خرقوه والجوب القطع ومنه جاب البلاد إذا قطعها، ومنه سمي جيب القميص لأنه جيب أي قطع، قال المفسرون أول من نحت الجبال والصخور ثمود فبنوا من المدائن ألفاً وسبعمائة مدينة كلها من الحجارة، ومنه قوله سبحانه (وتنحتون من الجبال بيوتاً آمنين) وكانوا ينحتون الجبال وينقبونها ويجعلون تلك الأنقاب بيوتاً يسكنون فيها.
وقوله (بالواد) متعلق بجابوا أو بمحذوف على أنه حال من الصخر وهو وادي القرى، وهو موضع بقرب المدينة من جهة الشام، وقيل الوادي بين جبال، وكانوا ينقبون في تلك الجبال بيوتاً ودوراً وأحواضاً وكل منفرج بين جبال أو تلال يكون مسلكاً للسيل ومنفذاً فهو واد، وقرأ الجمهور بالواد بحذف الياء وصلاً ووقفاً إتباعاً لرسم المصحف، وقرأ ابن كثير بإثباتها فيهما وقرىء بإثباتها في الوصل دون الوقف.(15/224)
وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ (10)
(وفرعون ذي الأوتاد) أي ذي الجنود الذين لهم خيام كثيرة يشدونها بالأوتاد أو جعل الجنود والجيوش والجموع أنفسهم أوتاداً لأنهم يشدون الملك كما تشد الأوتاد الخيام، وقيل كان له أوتاد يعذب الناس بها ويشدهم إليها، والوتد بكسر التاء في لغة الحجاز وهي الفصحى وجمعه أوتاد، وفتح التاء لغة، وأهل نجد يسكنون التاء قال ابن عباس الأوتاد الجنود الذين يشدون له أمره.
وقال ابن مسعود: وتد فرعون لامرأته أربعة أوتاداً ثم جعل على ظهرها رحى عظيمة حتى ماتت.(15/224)
الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ (12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ (13) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (14) فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16) كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (18) وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا (19) وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا (20) كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21)(15/225)
الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ (11)
(الذين طغوا في البلاد) الموصول صفة لعاد وثمود وفرعون أي طغت كل طائفة منهم في بلادهم وتمردت وعتت، والطغيان مجاوزة الحد، ويجوز أن يكون الموصول في محل رفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هم الذين طغوا أو في محل نصب على الذم.(15/225)
فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ (12)
(فأكثروا فيها الفساد) بالكفر ومعاصي الله والجور على عباده(15/225)
فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ (13)
(فصب) أي أفرغ (عليهم ربك) وألقى على تلك الطوائف (سوط عذاب) وهو ما عذبهم به قال الزجاج جعل سوطه الذي ضربهم به العذاب، يقال صب على فلان خلعة أي ألقاها عليه، ومعنى سوط عذاب نصيب عذاب أو نوع من العذاب. فأهلكت عاد بالريح وثمود بالصيحة وفرعون بالغرق (فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ).
وذكر السوط إشارة إلى أن ما أحله بهم في الدنيا من العذاب العظيم هو بالنسبة إلى ما أعده لهم في الآخرة كالسوط إذا قيس إلى سائر ما يعذب به، وقيل ذكر السوط للدلالة على شدة ما نزل بهم وكان السوط عندهم هو نهاية ما يعذب به.
وقال الفراء هي كلمة تقولها العرب لكل نوع من أنواع العذاب. وأصل ذلك أن السوط هو عذابهم الذي يعذبون به فجرى لكل عذاب إذ كان فيه عندهم غاية العذاب، وقيل معناه عذاب يخالط اللحم والدم من قولهم ساطه(15/225)
يسوطه سوطاً أي خلطه فالسوط خلط الشيء بعضه ببعض، والأولى أنه مجاز واستعارة عن إيقاع العذاب بهم على أبلغ الوجوه وأكملها إذ الصب يشعر بالدوام والسوط بزيادة الإيلام أي عذبوا عذاباً مؤلماً دائماً.
وقوله:(15/226)
إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (14)
(إن ربك لبالمرصاد) تعليل لما قبله إيذاناً بأن كفار قومه عليه السلام سيصيبهم مثل ما أصاب المذكورين من العذاب كما ينبىء عنه التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره عليه السلام.
وقد قدمنا قول من قال أن هذا جواب القسم، وبه قال ابن مسعود، والأولى أن الجواب محذوف والمعنى أنه يرصد عمل كل إنسان حتى يجازيه عليه بالخير خيراً وبالشر شراً ففيه استعارة تمثيلية قال الحسن وعكرمة أي عليه طريق العباد لا يفوته أحد، والرصد والمرصاد الطريق.
وقد تقدم بيانه في سورة براءة، وقد تقدم أيضاًً عند قوله: (إن جهنم كانت مرصاداً) وقال ابن عباس: بالمرصاد أي يسمع ويرى، وقال ابن مسعود في الآية من وراء الصراط جسور جسر عليه الأمانة وجسر عليه الرحم وجسر عليه الرب عز وجل.
ولما ذكر سبحانه أنه ذكر ما يدل على اختلاف أحوال عباده عند إصابة الخير وعند إصابة الشر، وإن مطمح أنظارهم ومعظم مقاصدهم هو الدنيا فقال:(15/226)
فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15)
(فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه) أي اختبره وامتحنه بالنعم (فأكرمه ونعمه) أي أكرمه بالمال ووسع عليه رزقه (فيقول ربي أكرمن) فرحاً بما نال وسروراً بما أعطي، غير شاكر لله على ذلك ولا خاطر بباله أن ذلك امتحان له من ربه واختبار لحاله، وكشف ما يشتمل عليه من الصبر والجزع والشكر للنعمة وكفرانها، وأما هنا لمجرد التأكيد لا لتفصيل المجمل مع التأكيد، وما في (إذا ما) زائدة، وقوله فأكرمه ونعمه تفسير للإبتلاء.(15/226)
ومعنى أكرمن أي فضلني بما أعطاني من المال وأسبغه عليَّ من النعم لمزيد استحقاقي لذلك وكوني موضعاً له، ودخلت الفاء فيه لتضمن " أما " معنى الشرط أي فأما الإنسان فيقول ربي أكرمن وقت ابتلائه بالإنعام، قال الكلبي الإنسان هنا هو الكافر، أبيّ بن خلف، وقال مقاتل نزلت في أمية بن خلف وقيل نزلت في عتبة ابن ربيعة وأبي حذيفة بن المغيرة.(15/227)
وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16)
(وأما إذا ما ابتلاه) أي اختبره وعامله معاملة من يختبره (فقدر عليه رزقه) أي ضيقه ولم يوسعه له ولا بسط له فيه (فيقول ربي أهانن) أي أولاني هواناً، وهذه صفة الكافر الذي لا يؤمن بالبعث لأنه لا كرامة عنده إلا الدنيا والتوسع في متاعها، ولا إهانة عنده إلا فوتها وعدم وصوله إلى ما يريد من زينتها، فأما المؤمن فالكرامة عنده أن يكرمه الله بطاعته ويوفقه لعمل الآخرة.
ويحتمل أن يراد الإنسان على العموم لعدم تيقظه أن ما صار إليه من الخير وما أصيب به من الشر في الدنيا ليس إلا للاختبار والإمتحان، وأن الدنيا بأسرها لا تعدل عند الله جناح بعوضة ولو كانت تعدل جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء.
قرىء بإثبات الياء في أكرمن وأهانن وصلاً، وحذفها وقفاً، وقرىء بإثباتها فيهما، وقرىء بحذفها في الوصل والوقف اتباعاً لرسم المصحف وموافقة لرؤوس الآي، والأصل إثباتها لأنها اسم، وقرأ الجمهور (فقدر) بالتخفيف وقرىء بالتشديد وهما لغتان، وقرىء ربي بفتح الياء في الموضعين وبسكونها فيهما.
وقوله:(15/227)
كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17)
(كلا) ردع للإنسان القائل في الحالتين ما قال وزجر له، فإن الله سبحانه قد يوسع الرزق ويبسط النعم للإنسان لا لكرامته، ويضيقه عليه لا لإهانته بل للإختبار والإمتحان كما تقدم ونحوه قوله تعالى: (ونبلوكم بالشر والخير فتنة) قال الفراء " كلا " في هذا الموضع بمعنى أنه لم يكن ينبغي للعبد أن يكون هكذا ولكن يحمد الله على الغنى والفقر.(15/227)
ثم انتقل سبحانه من بيان سوء أقوال الإنسان إلى بيان سوء أفعاله فقال:
(بل لا تكرمون اليتيم) والالتفات إلى الخطاب لقصد التوبيخ والتقريع على قراءة الجمهور بالفوقية، وقرىء بالتحتية على الخبر، وهكذا اختلفوا فيما بعد هذا من الأفعال، فقرأ الجمهور تحضون وتأكلون وتحبون بالفوقية على الخطاب فيها، وقرىء بالتحتية فيها والجمع في هذه الأفعال باعتبار معنى الإنسان لأن المراد به الجنس أي بل لكم أفعال هي أقبح مما ذكر، وهي أنكم تتركون إكرام اليتيم فتأكلون ماله وتمنعونه من فضل أموالكم، قال مقاتل نزلت في قدامة بن مظعون وكان يتيماً في حجر أميَّة ابن خلف.(15/228)
وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (18)
(ولا تحاضون على طعام المسكين) قرأ الجمهور تحضون من حضه على كذا أي أغراه به ومفعوله محذوف أي لا تحضون أنفسكم أو لا يحض بعضكم بعضاً على ذلك ولا يأمر به ولا يرشد إليه، وقرىء تحاضون وأصله تتحاضون أي لا يحض بعضكم بعضاً وقرىء تحاضون بضم التاء من الحض وهو الحث، والطعام إما اسم مصدر أي على إطعام المسكين أو اسم للمطعوم على حذف مضاف أي على بذل أو على إعطاء طعام المسكين.(15/228)
وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا (19)
(وتأكلون التراث) أصله الوراث فأبدلت التاء من الواو المضمومة كما في تجاه ووجاه، والمراد به أموال اليتامى الذين يرثونه من قراباتهم، وكذلك أموال النساء وذلك أنهم كانوا لا يورثون النساء والصبيان ويأكلون أموالهم (أكلاً لماً) أي أكلاً شديداً، وقيل معنى " لماً " جمعاً من قولهم لممت الطعام إذا أكلته جميعاً، قال الحسن: يأكل نصيبه ونصيب اليتيم، وكذا قال أبو عبيدة.
وأصل اللّم في كلام العرب الجمع يقال لممت الشيء ألمّه لمّاً جمعته، ومنه قولهم لَمَّ الله شعثه أي جمع ما تفرق من أموره، قال الليث: اللّم الجمع(15/228)
الشديد، ومنه حجر ملموم وكتيبة ملمومة، والآكل يلم الثريد فيجمعه ثم يأكله وقال مجاهد: يسفه سفاً وقال ابن زيد: هو إذا أكل ماله ألم بمال غيره فأكله ولا يفكر فيما أكل من خبيث وطيب قال ابن عباس: " لماً " سفاً وعنه قال شديداً.
وكان حكم الإرث عندهم من بقايا شريعة إسماعيل أو مما هو معلوم لهم وثابت عندهم بطريق عادتهم، فلا يقال السورة مكية وآية المواريث مدنية ولا يعلم الحل والحرمة إلا من الشرع.(15/229)
وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا (20)
(وتحبون المال حباً جماً) أي حباً كثيراً، والجم الكثير، يقال جم الماء في الحوض إذا كثر واجتمع، والجمة المكان الذي يجتمع فيه الماء، وقال ابن عباس جماً شديداً.
ثم كرر سبحانه الردع لهم والزجر فقال(15/229)
كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21)
(كلا) أي ما هكذا ينبغي أن يكون عملكم ثم استأنف سبحانه فقال: (إذا دكت الأرض دكاً دكاً) وفيه وعيد لهم بعد الردع والزجر، والدك الكسر والدق والمعنى هنا أنها زلزلت وحركت تحريكاً بعد تحريك، قال ابن قتيبة: دكت جبالها حتى استوت، قال الزجاج: أي تزلزلت فدك بعضها بعضاً قال المبرد أي بسطت وذهب ارتفاعها قال والدك حط المرتفع بالبسط.
وقد تقدم الكلام على الدك في سورة الأعراف وفي سورة الحاقة، والمعنى أنها دكت مرة بعد أخرى، ونصب دكاً الأول على أنه مصدر مؤكد للفعل، ودكاً الثاني تأكيد للأول، وكذا قال ابن عصفور.
ويجوز أن يكون النصب على الحال، والمعنى حال كونها مدكوكة مرة بعد مرة، كما يقال: علمته الحساب باباً باباً، وعلمته الخط حرفاً حرفاً، والمعنى أنه كرر الدك عليها حتى صارت (هباء منبثاً) قال ابن عباس يعني تحريكها.(15/229)
وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى (23) يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي (24) فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ (25) وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ (26) يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30)(15/230)
وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22)
(وجاء ربك) أي جاء أمره وقضاؤه وظهرت آياته وقيل المعنى أنها زالت الشبه في ذلك اليوم وظهرت المعارف وصارت ضرورية كما يزول الشك عند برء الشيء الذي كان يشك فيه، وقيل جاء قهر ربك وسلطانه وانفراده بالأمر والتدبير من دون أن يجعل إلى أحد من عباده شيئاًً من ذلك، وقيل تمثيل لظهور آيات اقتداره وتبين آثار قهره وسلطانه، وقيل جاء أمر ربك بالمحاسبة والجزاء وقيل غير ذلك.
والحق أن هذه الآية من آيات الصفات التي سكت عنها وعن مثلها عامة سلف الأمة وأئمتها وبعض الخلف فلم يتكلموا فيها، بل أجروها كما جاءت من غير تكييف ولا تشبيه ولا تأويل ولا تحريف ولا تعطيل، وقالوا يلزمنا الإيمان بها وإجراؤها على ظاهرها، والتأويل ديدن المتكلمين ودين المتأخرين، وهو خلاف ما عليه جمهور السلف الصالحين.
وقوله (والملك صفاً صفاً) منتصب على الحال أي مصطفين أو ذوي الصفوف، قال عطاء يريد صفوف الملائكة وأهل كل سماء صف على حدة قال الضحاك أهل كل سماء إذا نزلوا يوم القيامة كانوا صفاً محيطين بالأرض ومن فيها فيكونون سبعة صفوف.(15/230)
وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى (23)
(وجيء يومئذ) منصوب بجيء والقائم مقام الفاعل قوله: (بجهنم) وجوز مكي أن يكون يومئذ هو القائم مقام الفاعل وليس بذاك، قال الواحدي قال جماعة المفسرين جيء بها يوم القيامة مزمومة بسبعين ألف(15/230)
زمام مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها حتى تنصب عن يسار العرش، فلا يبقى ملك مقرب ولا نبي مرسل إلا جثا لركبتيه يقول: يا رب نفسي نفسي.
وهذا الذي نقله عن جماعة المفسرين قد أتى مرفوعاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد أخرج مسلم والترمذي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يؤتى بجهنم يومئذ لها سبعون ألف زمام مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها " (1) وعلى هذا فالآية مجراة على ظاهرها وقيل المعنى أنها برزت لأهلها كقوله: (وبرزت الجحيم للغاوين) والأول أولى.
(يومئذ) بدل من يومئذ الذي قبله أي يوم جيء بجهنم (يتذكر الإنسان) أي يتعظ ويذكر ما فرط منه ويندم على ما قدمه في الدنيا من الكفر والمعاصي، وقيل إن قوله: (يومئذ) الثاني بدل من قوله (إذا دكت) والعامل فيهما هو قوله: يتذكر الإنسان (وأنى له الذكرى) أي ومن أين له التذكرة والاتعاظ. وقيل هو على حذف مضاف أي ومن أين له منفعة الذكرى، قال الزجاج: يظهر التوبة ومن أين له التوبة.
_________
(1) صحيح مسلم 4/ 2184.(15/231)
يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي (24)
(يقول يا ليتني قدمت لحياتي) بدل اشتمال من يتذكر أو مستأنفة جواب سؤال مقدر كأنه قيل ماذا يقول الإنسان فقيل يقول الخ والمعنى أنه يتمنى أنه قدم الخير والعمل الصالح لأجل حياته. والمراد حياة الآخرة فإنها الحياة بالحقيقة، لأنها دائمة غير منقطعة، وقيل أن اللام بمعنى في، والمراد حياة الدنيا أي يا ليتني قدمت الأعمال الصالحة في وقت حياتي في الدنيا أنتفع بها يوم القيامة، والأول أولى، قال الحسن علم والله أنه صادف حياة طويلة لا موت فيها.(15/231)
فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ (25)
(فيومئذ) أي يوم يكون زمان ما ذكر من الأحوال (لا يعذب عذابه(15/231)
أحد(15/232)
وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ (26)
ولا يوثق وثاقه أحد) أي لا يعذب كعذاب الله أحد، ولا يوثق كوثاقه ولا يتولى عذاب الله ووثاقه أحد سواه إذ الأمر كله له، والضميران في عذابه ووثاقه لله عز وجل، وهذا على قراءة الجمهور يعذب ويوثق مبنيين للفاعل، وقرىء على البناء للمفعول فيهما فيكون الضميران راجعين إلى الإنسان أي لا يعذب كعذاب ذلك الإنسان أحد ولا يوثق كوثاقه أحد، والمراد بالإنسان الكافر أي لا يعذب من ليس بكافر كعذاب الكافر، وقيل إبليس وقيل المراد به أبيّ بن خلف.
قال الفراء المعنى أنه لا يعذب كعذاب هذا الكافر المعين أحد ولا يوثق بالسلاسل والأغلال كوثاقه أحد، لتناهيه في الكفر والعناد، وقيل المعنى إنه لا يعذب مكانه أحد ولا يوثق مكانه أحد فلا تؤخذ منه فدية وهو كقوله؛ (ولا تزر وازرة وزر أخرى) والعذاب بمعنى التعذيب والوثاق بمعنى التوثيق.
واختار أبو عبيد وأبو حاتم قراءة المبني للمفعول وقالا تكون الهاء في الموضعين ضميراً لكافر لأنه معروف أنه لا يعذب كعذاب الله أحد، وقال أبو علي الفارسي يجوز أن يكون الضمير للكافر على قراءة الجماعة أي لا يعذب أحد أحداً مثل تعذيب هذا الكافر.
ولما فرغ سبحانه من حكاية أحوال الأشقياء ذكر بعض أحوال السعداء فقال:(15/232)
يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27)
(يا أيتها النفس المطمئنة) والقائل هو الله سبحانه إكراماً للمؤمن كما كلم موسى، أو الملك، وإنما يقال لها ذلك عند الموت أو البعث أو عند دخول الجنة، والنفس المطمئنة هي الساكنة الموقنة بالإيمان وتوحيد الله الواصلة إلى ثلج اليقين بحيث لا يخالطها شك ولا يعتريها ريب.
قال الحسن هي المؤمنة الموقنة، وقال مجاهد الراضية بقضاء الله التي علمت أن ما أخطأها لم يكن لصيبها وأن ما أصابها لم يكن ليخطئها، وقال مقاتل هي الآمنة المطمئنة. وقال ابن كيسان المطمئنة بذكر الله تعالى وقيل المخلصة، قال ابن زيد المطمئنة لأنها بشرت بالجنة عند الموت وعند البعث،(15/232)
وقال ابن عباس المطمئنة المؤمنة.(15/233)
ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28)
(إرجعي إلى ربك راضية) بالثواب الذي أعطاك (مرضية) عنده.
والمعنى ارجعي إلى الله وقيل إلى موعده وقيل إلى أمره، وقال عكرمة وعطاء إلى جسدك الذي كنت فيه، واختاره ابن جرير، ويدل على هذا قراءة ابن عباس(15/233)
فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29)
(فادخلي في عبدي) بالإفراد والأول أولى.
قال القفال: هذا وإن كان أمراً في الظاهر فهو خبر في المعنى، والتقدير أن النفس إذا كانت مطمئنة رجعت في القيامة إلى الله بسبب هذا الأمر. قال ابن عباس: " نزلت هذه الآية وأبو بكر جالس، فقال: يا رسول الله ما أحسن هذا فقال أما أنه سيقال لك هذا " أخرجه ابن أبي حاتم وابن مردويه والضياء في المختارة، وعن سعيد بن جبير نحوه مرسلاً، وعن أبي بكر الصديق نحوه.
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس في قوله: (يا أيتها النفس المطمئنة) قال هو النبي صلى الله عليه وسلم، وعنه قال: المطمئنة المصدقة، وعنه قال ترد الأرواح يوم القيامة في الأجساد، وعنه قال: راضية بما أعطيت من الثواب، مرضية عنها بعملها.
(فادخلي في عبادي) المؤمنين أي في زمرة عبادي الصالحين وكوني من جملتهم، وانتظمي في سلكهم: وهذا يشعر بأن النفس بمعنى الذات، ويجوز أن تكون بمعنى الروح كما أشار له البيضاوي(15/233)
وَادْخُلِي جَنَّتِي (30)
(وادخلي جنتي) معهم قيل أنه يقال لها ارجعي إلى ربك عند خروجها من الدنيا ويقال لها ادخلي في عبادي وادخلي جنتي يوم القيامة.
وأتى بالفاء فيما لم يتراخ عن الموت وبالواو فيما يتراخى عنه.
والمراد بالآية كل نفس مطمئنة على العموم لأن السورة مكية ولا ينافي ذلك نزولها في نفس معينة فالاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.(15/233)
عن سعيد بن جبير قال: " مات ابن عباس في الطائف فجاء طير لم ير على خلقته فدخل نعشه ثم لم ير خارجاً منه، فلما دفن تليت هذه الآية على شفير القبر لا ندري من تلاها (يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً). الآية أخرجه ابن أبي حاتم والطبراني، وعن عكرمة مثله، أخرجه أبو نعيم في الدلائل.(15/234)
سورة البلد
ويقال سورة لا أقسم وهي عشرون آية وهي مكية بلا خلاف، عن ابن عباس قال نزلت بمكة وعن ابن الزبير مثله.(15/235)
بسم الله الرحمن الرحيم
لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ (1) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ (2) وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ (4) أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (5) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا (6) أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (7) أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ (9)(15/237)
لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ (1)
(لا أقسم بهذا البلد) قد تقدم الكلام على هذا في تفسير (لا أقسم بيوم القيامة) ولا زائدة ومن زيادة لا في الكلام في غير القسم قول الشاعر:
تذكرت ليلى فاعترتني صبابة ... وكاد صميم القلب لا يتصدع
أي يتصدع، ومن ذلك قوله تعالى: (ما منعك أن لا تسجد) أي أن تسجد، قال الواحدي: أجمع المفسرون على أن هذا قسم بالبلد الحرام وهو مكة، وبه قال ابن عباس: قرأ الجمهور لا أقسم وقرىء لأقسم من غير ألف، وقيل هو نفي للقسم.
والمعنى لا أقسم بهذا البلد إذا لم تكن فيه بعد خروجك منه، وقال مجاهد إن " لا " رد على من أنكر البعث ثم ابتدأ فقال: " أقسم " والمعنى ليس الأمر كما تحسبون والأول أولى.
والمعنى أقسم بالبلد الحرام وقال الواسطي: أن المراد بالبلد المدينة وهو مع كونه خلاف إجماع المفسرين هو أيضاًً مدفوع بكون السورة مكية لا مدنية، ومكة جعلها الله تعالى: (حراماً آمناً) (ومثابة للناس) وجعل مسجدها قبلة لأهل المشرق والمغرب، وشرفه بمقام إبراهيم وحرم فيه الصيد، وجعل البيت المعمور بإزائه، ودحيت الأرض من تحته فهذه الفضائل وغيرها لما اجتمعت في مكة دون غيرها أقسم بها.(15/237)
وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ (2)
(وأنت حل بهذا البلد) البلد يذكر ويؤنث والجمع بلدان، والبلدة البلد وجمعها بلاد مثل كلبة وكلاب، وقال الواحدي الحل والحلال والمحل(15/237)
واحد، وهو ضد الحرام، أحل الله لنبيه صلى الله عليه وسلم مكة يوم الفتح حتى قاتل وقد قال صلى الله عليه وسلم: " لم تحل لأحد قبلي ولا تحل لأحد بعدي ولم تحل لي إلا ساعة من نهار ".
قال والمعنى أن الله تعالى لما ذكر القسم بمكة دل ذلك على عظيم قدرها مع كونها حراماً فوعد نبيه صلى الله عليه وآله وسلم أن يحلها له حتى يقاتل فيها ويفتحها على يده فهذا وعد من الله تعالى بأن يحلها له حتى يكون بها حلاً انتهى.
فالمعنى وأنت حل بهذا البلد في المستقبل كما في قوله: (إنك ميت وإنهم ميتون) قال النسفي رحمه الله وكفاك دليلاً قاطعاً على أنه للإستقبال وإن تفسيره بالحال محال أن السورة مكية بالإتفاق، وأين الهجرة من وقت نزولها، فما بال الفتح انتهى.
قال مجاهد المعنى ما صنعت فيه من شيء فأنت حل، قال قتادة أنت حل به لست بآثم يعني أنك غير مرتكب في هذا البلد ما يحرم عليك ارتكابه لا كالمشركين الذين يرتكبون فيه الكفر والمعاصي.
وقيل المعنى لا أقسم بهذا البلد وأنت حال به ومقيم فيه وهو محلك، فعلى القول بأن لا نافية غير زائدة يكون المعنى لا أقسم به وأنت حال به فأنت أحق بالإقسام بك، وعلى القول بأنها زائدة يكون المعنى أقسم بهذا البلد الذي أنت مقيم به تشريفاً لك وتعظيماً لقدرك لأنه قد صار بإقامتك فيه عظيماً شريفاً، وزاد على ما كان عليه من الشرف والعظم.
ولكن هذا إذا تقرر في لغة الغرب أن لفظ حل يجيء بمعنى حال، وكما يجوز أن تكون الجملة معترضة يجوز أن تكون في محل نصب على الحال.
قال ابن عباس في الآية يعني بذلك النبي صلى الله عليه وآله وسلم أحل الله له يوم دخل مكة أن يقتل من شاء ويستحيي من شاء فقتل يومئذ ابن خطل صبراً وهو آخذ بأستار الكعبة فلم يحل لأحد بعد النبي صلى الله(15/238)
عليه وآله وسلم أن يفعل فيها حراماً حرمه الله فأحل الله ما صنع بأهل مكة، وعنه فيها قال أنت يا محمد يحل لك أن تقاتل فيه وأما غيرك فلا.
وعن أبي برزة الأسلمي قال: " نزلت هذه الآية فيَّ خرجت فوجدت عبد الله ابن خطل وهو متعلق بأستار الكعبة فضربت عنقه بين الركن والمقام " أخرجه ابن مردويه.
وقوله:(15/239)
وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ (3)
(ووالد وما ولد) عطف على البلد قال قتادة ومجاهد والضحاك والحسن وأبو صالح: ووالد أي آدم وما ولد أي وما تناسل من ولده، ومثله عن ابن عباس.
وأقسم بهم لأنهم أعجب ما خلق الله على وجه الأرض لما فيهم من البيان والعقل والتدبير، واستخراج العلوم، وفيهم الأنبياء والأولياء والصالحون والدعاة إلى الله والانتصار لدينه، وكل ما في الأرض من مخلوق لأجلهم، وأمر الملائكة بالسجود لآدم وعلمه الأسماء كلها، فيكون قد أقسم بجميع الآدميين صالحهم وطالحهم.
وقيل هو قسم بآدم والصالحين من ذريته، وأما الطالحون فكأنهم ليسوا من أولاده وكأنهم بهائم، وفائدة التنكير في (والد) التعجب والمدح، قاله الرازي.
وقال أبو عمران الجوني (الوالد) إبراهيم عليه السلام (وما ولد) ذريته، قال الفراء إن (ما) عبارة عن الناس كقوله: (ما طاب لكم) وقيل الوالد إبراهيم والولد إسماعيل ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم، وقال عكرمة وسعيد بن جبير (ووالد) يعني الذي يولد له (وما ولد) يعني العاقر الذي لا يولد له وكأنهما جعلا (ما) نافية هو بعيد ولا يصح ذلك إلا بإضمار الموصول أي ووالد والذي ما ولد ولا يجوز إضمار الموصول عند البصريين، وقال عطية العوفي هو عام في كل والد ومولود من جميع الحيوانات واختار هذا ابن جرير.(15/239)
وعن ابن عباس (الوالد) الذي يلد (وما ولد) العاقر لا يلد من الرجال والنساء، وقد استدل بعض الجهال بهذه الآية على جواز الاحتفال لمولده صلى الله عليه وسلم، وهذا تحريف لمعاني كتاب الله لم يذهب إليه أحد من المفسرين بل هو خلاف إجماع المسلمين.(15/240)
لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ (4)
(لقد خلقنا الإنسان في كبد) هذا جواب القسم، والإنسان هو هذا النوع الإنساني والكبد الشدة والمشقة، يقال كابدت الأمر قاسيت شدته، والإنسان لا يزال في مكابدة الدنيا ومقاساة شدائدها حتى يموت.
قال ذو النون لم يزل مربوطاً بحبل القضاء، مدعواً إلى الائتمار والانتهاء، وأصل الكبد الشدة ومنه تكبد اللبن إذا اشتد وغلظ، ويقال كبد الرجل إذا وجعت كبده ثم استعمل في كل مشقة وشدة، قال الحسن يكابد مصائب الدنيا وشدائد الآخرة وقال أيضاًً يكابد الشكر على السراء ويكابد الصبر على الضراء لا يخلو عن أحدهما.
قال الكلبي: نزلت هذه الآية في رجل من بني جمح يقال له أبو الأشدين وكان يأخذ الأديم العكاظي ويجعله تحت رجليه ويقول من أزالني عنه فله كذا فيجذبه عشرة حتى يتمزق ولا تزول قدماه، وكان من أعداء النبي صلى الله عليه وسلم وفيه نزل:(15/240)
أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (5)
(أيحسب أن لن يقدر عليه أحد) يعني لقوته ويكون معنى في كبد على هذا في شدة خلق، وقيل معنى في كبد أنه جريء القلب غليظ الكبد، وقال ابن عباس في كبد في اعتدال وانتصاب، وعنه قال في نصب، وعنه قال في شدة، وقال أيضاًً في شدة خلق ولادته ونبت أسنانه ومعيشته وختانه.
وقال أيضاًً: خلق الله كل شيء يمشي على أربعة إلا الإنسان فإنه خلق منتصباً، وقال أيضاًً منتصباً في بطن أمه أنه قد وكل به ملك إذا نامت الأم أو اضطجعت رفع رأسه، لولا ذلك لغرق في الدم، والكبد الاستواء والاستقامة فهذا امتنان عليه في الخلقة ولم يخلق الله جل جلاله دابة في بطن أمها إلا منكبة(15/240)
على وجهها إلا ابن آدم فإنه منتصب انتصاباً.
قال اليماني: لم يخلق الله خلقاً يكابد ما يكابد ابن آدم وهو مع ذلك أضعف الخلق.
قال العلماء: أول ما يكابد قطع سرته، ثم إذا قمط قماطاً وشدد عليه يكابد الضيق والتعب، ثم يكابد الارتضاع ولو فاته لضاع، ثم يكابد نبت أسنانه وتحريك لسانه ثم يكابد الفطام الذي هو أشد من اللطام ثم يكابد الختان والأوجاع والأحزان ثم يكابد المعلم وصولته والمؤدب وسياسته، والأستاذ وهيبته، ثم يكابد شغل التزويج والتعجيل فيه والترويج ثم يكابد شغل الأولاد والخدم والأجناد ثم يكابد شغل الدور وبناء القصور ثم الكبر والهرم وضعف الركبة والقدم، في مصائب يكثر تعدادها ونوائب يطول إيرادها من صداع الرأس ووجع الأضراس، ورمد العين وغم الدين ووجع السن، وألم الأذن ويكابد محناً من المال والنفس مثل الضرب والحبس ولا يمضي عليه يوم إلا يقاسي فيه شدة ويكابد مشقة ثم الموت بعد ذلك كله ثم سؤال الملك وضغطة القبر وظلمته ثم البعث والعرض على الله تعالى إلى أن يستقر به القرار إما في جنة وإما في نار.
فلو كان الأمر إليه لما اختار هذه الشدائد ودل على أن له خالقاً دبره وقضى عليه بهذه الأحوال فليمتثل أمره، ذكره القرطبي.
(أيحسب) الإنسان (أن لن يقدر عليه أحد) أي أيظن ابن آدم أن لن يقدر عليه ولا ينتقم منه أحد أو يظن أبو الأشدين أن لن يقدر عليه أحد، وأن هي المخففة من الثقيلة واسمها ضمير شأن مقدر.
ثم أخبر سبحانه عن مقال هذا الإنسان فقال:(15/241)
يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا (6)
(يقول) مفتخراً (أهلكت مالاً لبداً) أي كثيراً مجتمعاً بعضه على بعض، قال الليث مال لبد لا يخاف فناؤه من كثرته، قال الكلبي ومقاتل: يقول أهلكت في عداوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم مالاً كثيراً، وفي أبي السعود يريد كثرة ما أنفقه فيما(15/241)
كان أهل الجاهلية يسمونه مكارم ويدعونه معالي ومفاخر.
وقال مقاتل نزلت في الحرث بن عامر بن نوفل أذنب فاستفتى النبي صلى الله عليه وسلم فأمره أن يكفر فقال لقد ذهب مالي في الكفارات والنفقات منذ دخلت في دين محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
قرأ الجمهور (لبداً) بضم اللام وفتح الباء مخففاً وقرىء بضمها بالتخفيف وقرىء بضم اللام وفتح الباء مشدداً قال أبو عبيدة لبد فعل من التلبيد وهو المال الكثير بعضه على بعض، قال الزجاج: فعل للكثرة يقال رجل حطم إذا كان كثير الحطم، قال الفراء واحدته لبدة والجمع لبد، وقد تقدم بيان هذا في سورة الجن.(15/242)
أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (7)
(أيحسب أن لم يره أحد) استفهام على سبيل الإنكار أي أيظن أنه لم يعاينه أحد، قال قتادة أيظن أن الله سبحانه لم يره ولا يسأله عن ماله من أين كسبه وأين أنفقه، وقال الكلبي كان كاذباً لم ينفق ما قال، فقال الله أيظن أن الله لم ير ذلك منه فعل أو لم يفعل، أنفق أو لم ينفق.
ثم ذكر سبحانه ما أنعم عليه ليعتبر فقال:(15/242)
أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8)
(ألم نجعل له عينين) يبصر بهما المرئيات شققناهما وهو في الرحم في ظلمات ثلاث على مقدار مناسب. لا تزيد إحداهما على الأخرى شيئاًً وقدرنا البياض والسواد والسمرة والزرقة وغير ذلك على ما ترون، وأودعناهما البصر على كيفية يعجز الخلق عن إدراكها.(15/242)
وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ (9)
(ولساناً) ينطق به ويعبر عما في ضميره (وشفتين) يستر بهما ثغره وفاه ويستعين بهما على النطق والأكل والشرب والنفخ وغير ذلك، قال الزجاج: المعنى ألم نفعل به ما يدله على أن الله قادر على أن يبعثه، والشفة محذوفة اللام وأصلها شفهة بدليل تصغيرها على شفيهة وجمعها على شفاه نظير سنة في إحدى اللغتين وشافهته أي كلمته من غير واسطة، ولا تجمع بالألف والتاء استغناء بتكسيرها عن تصحيحها.(15/242)
وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (10) فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ (16) ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (17) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (18) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (19) عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ (20)(15/243)
وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (10)
(وهديناه النجدين) النجد الطريق في ارتفاع، قال المفسرون: بيّنا له طريق الخير وطريق الشر، قال الزجاج المعنى ألم نعرفه طريق الخير وطريق الشر مبينتين كتبيين الطريقين العاليتين.
وقال ابن عباس وعكرمة وسعيد بن المسيب والضحاك: النجدان الثديان لأنهما كالطريقين لحياة الولد ورزقه، والأول أولى.
وأصل النجد المكان المرتفع وجمعه نجود، ومنه سميت نجد لارتفاعها عن انخفاض تهامة فالنجدان الطريقان العاليان.
قال ابن مسعود في الآية: سبيل الخير والشر، وقال ابن عباس: الهدى والضلالة، وعنه نحو قول ابن مسعود، وعن أنس قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: " هما نجدان فما جعل نجد الشر أحب إليكم من نجد الخير " أخرجه ابن أبي حاتم تفرد به سنان بن سعد، ويقال سعد بن سنان وقد وثقه يحيى بن معين، وقال الإمام أحمد والنسائي والجوزجاني منكر الحديث، وقال أحمد تركت حديثه لاضطرابه قد روى خمسة عشر حديثاً منكرة كلها ما أعرف منها حديثاً واحداً، يشبه حديثه حديث البصري لا يشبه حديث أنس.
وروي نحوه عن الحسن وقتادة مرسلاً، ويشهد له ما أخرجه الطبراني عن أبي أمامة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " يا أيها الناس أنهما نجدان نجد خير ونجد شر، فما جعل نجد الشر أحب إليكم من نجد الخير ".(15/243)
ويشهد له أيضاًً ما أخرجه ابن مردويه عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إنما هما نجد الخير ونجد الشر، فلا يكن نجد الشر أحب إليكم من نجد الخير ".
قال الشهاب لا يخفى أنه ذكره في سياق الامتنان والمراد الامتنان عليه بأن هداه وبين له الطريق فسلكها تارة وعدل عنها أخرى، فلا امتنان عليه بالشر ولذا جعله الإمام بمعنى قوله تعالى: (إنا هديناه السبيل إما شاكراً وإما كفوراً) ووصف مكان الخير بالرفعة والنجدية ظاهر بخلاف الشر فإنه هبوط من ذروة الفطرة إلى حضيض الشقوة فهو على سبيل التغليب أو على توهم المخيلة أن فيه صعوداً فتدبر انتهى.
قلت الامتنان بالهداية إلى سبيل الشر يصح بمعنى أن الله عرف الإنسان طريق الشر ليجتنبه وطريق الخير ليسلكه، ولو لم يعرفه سبيل الشر لما اجتنبه، والأشياء تعرف بأضدادها، فالامتنان بهدايته إليه ثابت عقلاً. والمعنى بينا ووضحنا له أن سلوك الأول ينجي وأن سلوك الثاني يردي. وأن سلوك الأول ممدوح وأن سلوك الثاني مذموم، فالذي ذكره الشهاب تدفعه الأحاديث المرفوعة المتقدم ذكرها.(15/244)
فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11)
(فلا اقتحم العقبة) الاقتحام الرمي بالنفس في شيء من غير روية، يقال منه قحم في الأمر قحوماً أي رمى بنفسه في الأمر من غير روية وتقحيم النفس في الشيء إدخالها فيه عن غير روية، والقحمة بالضم المهلكة، والعقبة في الأصل الطريق الصعب التي في الجبل سميت بذلك لصعوبة سلوكها.
وهو مثل ضربه الله سبحانه لمجاهدة النفس والهوى والشيطان في أعمال البر فجعله كالذي يتكلف صعود العقبة.
قال الفراء والزجاج: ذكر سبحانه هنا (لا) مرة واحدة والعرب لا تكاد تفرد (لا) مع الفعل الماضي في مثل هذا الموضع حتى يعيدوها في كلام(15/244)
آخر كقوله: (فلا صدق ولا صلى) وإنما أفرد ههنا لدلالة آخر الكلام على معناه فيجوز أن يكون قوله: (ثم كان من الذين آمنوا) قائماً مقام التكرير، كأنه قال فلا اقتحم العقبة ولا آمن.
قال المبرد وأبو علي الفارسي: أن " لا " هنا بمعنى لم أي فلم يقتحم، وروي نحو ذلك عن مجاهد، فلهذا لم يحتج إلى التكرير، وقيل هو جار مجرى الدعاء كقوله لا نجا.
قال ابن زيد وجماعة من المفسرين: معنى الكلام هنا الاستفهام الذي بمعنى الإنكار تقديره أفلا اقتحم العقبة أو هلا اقتحم العقبة، قال ابن عمر في العقبة جبل زلال في جهنم، وقال ابن عباس العقبة النار، وعنه قال عقبة بين الجنة والنار، وقال قتادة وكعب: هي نار دون الجسر فاقتحموها بطاعة الله، وقال الحسن: هي والله عقبة شديدة مجاهدة نفسه وهواه وعداوة الشيطان. وقيل العقبة خلاصه من هول العرض، وقال مجاهد والضحاك والكلبي هي الصراط الذي يضرب على جهنم كحد السيف.
وعن عائشة قالت لما نزل (فلا اقتحم العقبة) قيل يا رسول الله ما عند أحدنا ما يعتق إلا أن عند أحدنا الجارية السوداء تخدمه فلو أمرناهن بالزنا فجئن بالأولاد فأعتقناهم فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " لأن أمتع بسوط في سبيل الله أحب إلي من أن آمر بالزنا ثم أعتق الولد " أخرجه الحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي وأخرجه ابن جرير عنها بلفظ " لعلاقة سوط في سبيل الله أعظم أجراً من هذا ".
ثم بين سبحانه العقبة فقال:(15/245)
وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12)
(وما أدراك ما العقبة) أي أيُّ شيء أعلمك ما اقتحامها والمعرف باللام إذا أعيد كان الثاني عين الأول فتكون الجملة معترضة مقحمة لبيان العقبة مقررة لمعنى الإبهام والتفسير، فإن (فلا اقتحم العقبة) مفسرة بقوله:(15/245)
فَكُّ رَقَبَةٍ (13)
(فك رقبة) والمفسر منفي والمفسر كذلك لاتحادهما في الاعتبار كأنه قيل فلا فك رقبة ولا أطعم مسكيناً.(15/245)
قال محيي السنة ذكر العقبة ههنا مثل ضربه الله لمجاهدة النفس والهوى والشيطان في أعمال البر فجعله كالذي يتكلف صعود العقبة.
قال صاحب الفرائد هذا تنبيه على أن النفس لا توافق صاحبها في الإنفاق لوجه الله البتة فلا بد من التكليف وتحمل المشقة، والذي توافقه النفس هو الافتخار والمراآت فكأنه تعالى ذكر هذا المثل بإزاء ما قال: (أهلكت مالاً لبداً) والمراد الإنفاق المفيد، وأن ذلك الإنفاق لمضر انتهى.
وفي التمثيل بالعقبة بعد ذكر النجدين ترشيح ثم التقريع عليه بالاقتحام قرينة لتلك المبالغة ذكره الكرخي، ومعنى (فك رقبة) إعتاق رقبة وتخليصها من إسار الرق وكل شيء أطلقته فقد فككته، ومنه فك الرهن وفك الكتاب، فقد بين سبحانه أن العقبة هي هذه القرب المذكورة التي تكون بها النجاة من النار، قرىء فك رقبة على أنه فعل ماض وهكذا أطعم، وقرىء فك وإطعام على أنهما مصدران، وعلى الأولى المعنى فلا أفك ولا أطعم، والفك في الأصل حل القيد سمي العتق فكاً لأن الرق كالقيد، وسمي المرقوق رقبة لأنه بالرق كالأسير المربوط في رقبته.
وقد ثبت الترغيب في عتق الرقاب بأحاديث كثيرة منها ما في الصحيحين وغيرهما عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " من أعتق رقبة مؤمنة أعتق الله بكل عضو منها عضواً من النار حتى الفرج بالفرج ".(15/246)
أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14)
(أو إطعام في يوم ذي مسغبة) أي مجاعة. والسغب الجوع، والساغب الجائع، قال الراغب يقال منه سغب الرجل سغباً وسغوباً فهو ساغب وسغبان والمسغبة مفعلة منه، قال النخعي في يوم ذي مسغبة أي عزيز فيه الطعام.
قال ابن عباس مسغبة مجاعة، وعنه جوع، وقيد الإطعام في هذا اليوم لأن إخراج المال في ذلك الوقت أثقل على النفس وأوجب للأجر، قرأ الجمهور(15/246)
بالجر على أنه وصفة ليوم، ويتيماً هو مفعول إطعام، وقرأ الحسن بالنصب على أنه مفعول إطعام أي يطعمون ذا مسغبة ويتيماً بدلاً منه.(15/247)
يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (15)
(يتيماً ذا مقربة) أي قرابة قاله ابن عباس. يقال فلان ذو قرابتي وذو مقربتي، واليتيم في الأصل الضعيف يقال يتم الرجل إذا ضعف، واليتيم عند أهل اللغة من لا أب له، وقيل هو من لا أب له ولا أم، ومنه قول قيس بن الملوح.
إلى الله أشكو فقد ليلى كما شكا ... إلى الله فقد الوالدين يتيم(15/247)
أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ (16)
(أو مسكيناً ذا متربة) أي لا شيء له كأنه لصق بالتراب لفقره، وليس له مأوى إلا التراب، يقال ترب الرجل يترب ترباً ومتربة إذا افتقر حتى لصق بالتراب ضراً، قال مجاهد هو الذي لا يقيه من التراب لباس ولا غيره، وقال قتادة هو ذو العيال وقال عكرمة هو المديون، وقال أبو سنان هو ذو الزمانة وقال ابن جبير هو الذي ليس له أحد، وقال عكرمة أيضاًً هو البعيد التربة الغريب عن وطنه وبه قال ابن عباس، والأول أولى ومنه قول الهذلي.
وكنا إذا ما الضيف حل بأرضنا ... سفكنا دماء البدن في تربة الحال
وعن ابن عباس أيضاًً قال هو المطروح الذي ليس له بيت، وفي لفظ هو الذي لا يقيه من التراب شيء، وفي لفظ هو اللازق بالتراب من شدة الفقر، وعن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الآية قال: " هو الذي مأواه المزابل " أخرجه ابن مردويه والمتربة والمقربة والمسغبة أي كل واحد منها مصدر ميمي على وزن مفعلة.(15/247)
ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (17)
(ثم كان من الذين آمنوا) عطف على المنفي بلا، وجاء بثم للدلالة على تراخي رتبة الإيمان ورفعة محله وفيه دليل على أن هذه القرب إنما تنفع مع الإيمان وقيل التراخي في الذكر، وقيل المعنى ثم كان من الذين آمنوا بأن هذا نافع لهم وقيل المعنى أنه أتى بهذه القرب لوجه الله.(15/247)
(وتواصوا بالصبر) معطوف على آمنوا أي أوصى بعضهم بعضاً بالصبر على طاعة الله وعن معاصيه وعلى ما أصابهم من البلايا والمصائب والمحن والشدائد (وتواصوا بالمرحمة) أي بالرحمة على عباد الله فإنهم إذا فعلوا ذلك رحموا اليتيم والمسكين، واستكثروا من فعل الخير بالصدقة ونحوها قال ابن عباس: يعني بذلك رحمه الناس.(15/248)
أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (18)
(أولئك) الموصوفون بتلك الصفات هم (أصحاب الميمنة) أي أصحاب جهة اليمين أو أصحاب اليمين أو الذين يعطون كتبهم بأيمانهم وقيل غير ذلك مما قدمنا ذكره في سورة الواقعة.(15/248)
وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (19)
(والذين كفروا بآياتنا) أي بالقرآن أو بما هو أعم منه فتدخل الآيات التنزيلية والآيات التكوينية التي تدل على الصانع سبحانه (هم أصحاب المشأمة) أي أصحاب الشمال أو أصحاب الشؤم أو الذين يعطون كتبهم في شمائلهم أو غير ذلك مما تقدم.(15/248)
عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ (20)
(عليهم نار مؤصدة) أي مطبقة مغلقة يقال أصدت الباب وأوصدته إذا أغلقته وأطبقته. قرأ الجمهور موصدة بالواو، وقرىء بالهمزة وهما لغتان والمعنى واحد قال ابن عباس مغلقة الأبواب، وقال أبو هريرة مطبقة.(15/248)
سورة الشمس
هي خمس عشرة آية وهي مكية بلا خلاف قال ابن عباس نزلت بمكة، وعن ابن الزبير مثله، وعن بريده " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ في صلاة العشاء (وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا) وأشباهها من السور " أخرجه أحمد والترمذي وحسنه والنسائي، وقد تقدم حديث جابر في الصحيح أن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - قال لمعاذ " هلا صليت بسبح اسم ربك الأعلى والشمس وضحاها والليل إذا يغشى ".
وعن ابن عباس " أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أمره أن يقرأ في صلاة الصبح بالليل إذا يغشى والشمس وضحاها " أخرجه الطبراني، وعن عقبة بن عامر قال: " أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - أن نصلي ركعتي الضحى بسورتيهما بالشمس وضحاها والضحى " أخرجه البيهقي في الشعب.(15/249)
بسم الله الرحمن الرحيم
وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (1) وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا (2) وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا (4) وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا (5) وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا (6) وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8)(15/251)
وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (1)
(والشمس وضحاها) أقسم سبحانه بهذه الأمور، وله أن يقسم بما شاء من مخلوقاته وقال قوم إن القسم بهذه الأمور ونحوها مما تقدم ومما سيأتي هو على حذف مضاف أي ورب الشمس، وهكذا سائرها، ولا ملجىء إلى هذا ولا موجب له، وقوله: (وضحاها) هو قسم ثان، وقال الرازي المقصود من هذه السورة الترغيب في الطاعات والتحذير من المعاصي.
وقد أقسم تعالى بأنواع مخلوقاته المشتملة على المنافع العظيمة ليتأمل المكلف فيها ويشكر عليها لأن ما أقسم الله تعالى به يحصل منه وقع في القلب، وأقسم الله في هذه السورة بسبعة أشياء إلى قوله: (قد أفلح من زكاها) فأقسم بالشمس وضحاها فإن أهل العالم كانوا كالأموات في الليل، فلما ظهر أثر الصبح صارت الأموات أحياء، وتكاملت الحياة وقت الضحوة، وهذه الحالة تشبه أحوال القيامة، ووقت الضحى يشبه استقرار أهل الجنة فيها انتهى.
قال مجاهد أي ضوؤها وإشراقها، وأضاف الضحى إلى الشمس لأنه إنما يكون عند ارتفاعها، وكذا قال الكلبي، وقال قتادة: ضحاها نهارها كله، قال الفراء: الضحى هو النهار، وقال المبرد: أصل الضحى الصبح، وهو نور الشمس، وقيل الضحوة ارتفاع النهار، والضحى فوق ذلك.
قال القرطبي: الضحى مؤنثة يقال ارتفعت الضحى فوق الضحو، وقد تذكر، فمن أنث ذهب إلى أنها جمع ضحوة ومن ذكّر ذهب إلى أنها اسم فعل(15/251)
نحو صرد ونغر، قال أبو الهيثم: الضحى نقيض الظل: وهو نور الشمس على وجه الأرض، وأصله الضحى فاستثقلوا الياء فقلبوها ألفاً قيل والمعروف عند العرب أن الضحى إذا طلعت الشمس وبعد ذلك قليلاً، فإذا زاد فهو الضحاء بالمد.
قال المبرد: الضحى والضحوة مشتقان من الضح وهو النور فأبدلت الألف والواو من الحاء.
واختلف في جواب القسم ماذا هو، فقيل هو قوله: (قد أفلح من زكاها) قاله الزجاج وغيره وحذفت اللام لأن الكلام قد طال فصار طوله عوضاً منها، وقيل محذوف أي لتبعثن وقيل تقديره ليدمدمن الله على أهل مكة لتكذيبهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما دمدم على ثمود لأنهم كذبوا صالحاً، وأما قوله: (قد أفلح من زكاها) فكلام تابع لقوله: (فألهمها فجورها وتقواها) على سبيل الاستطراد، وليس من جواب القسم في شيء، وقيل هو على التقديم والتأخير بغير حذف، والمعنى (قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها) (والشمس وضحاها) والأول أولى.(15/252)
وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا (2)
(والقمر إذا تلاها) أي تبعها وذلك بأن طلع بعد غروبها، يقال تلا يتلو تلواً إذا تبع، قال المفسرون وذلك إنما يكون في النصف الأول من الشهر إذا غربت الشمس تلاها القمر في الإضاءة وخلفها في النور، وقال الزجاج تلاها حين استدار فكان يتلو الشمس في الضياء والنور، يعني إذا كمل ضوؤه فصار تابعاً للشمس في الإنارة يعني كان مثلها في الإضاءة وذلك في الليالي البيض.
وقيل إذا تلا طلوعه طلوعها، قال قتادة إن ذلك ليلة الهلال إذا سقطت رؤى الهلال، قال ابن زيد إذا غربت الشمس في النصف الأول من الشهر تلاها القمر بالطلوع، وفي آخر الشهر يتلوها بالغروب، وقال الفراء تلاها أخذ منها يعني أن القمر يأخذ من ضوء الشمس، قال ابن عباس تلاها تبعها.(15/252)
والأولى أن يفسر تلوه لها بكون ضوئه يخلفها ويجيء بعد مغيبها سواء كان ذلك من غير تراخ وهو في النصف الأول من الشهر، أو بعد مدة وذلك في النصف الثاني من الشهر فإن القمر إذا طلع في نصف الليل يقال أنه تلاها في ظهور الضوء أي خلفها فيه ولو بعد تخلل مدة ظلمة فليتأمل.(15/253)
وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا (3)
(والنهار إذا جلاها) أي أضاءها، قاله ابن عباس، وذلك أن الشمس عند انبساط النهار تنجلي تمام الإنجلاء فكأنه جلاها مع أنها التي تبسطه وقيل الضمير عائد إلى الظلمة أي جلى الظلمة وإن لم يجر للظلمة ذكر لأن المعنى معروف، قال الفراء تقول أصبحت باردة أي أصبحت غداتنا باردة، والأول أولى، ومنه قول قيس ابن الخطيم:
تجلت لنا كالشمس تحت غمامة ... بدا حاجب منها وضنت بحاجب
وقيل المعنى جلى ما في الأرض من الحيوانات وغيرها بعد أن كانت مستترة في الليل، وقيل جلى الدنيا وقيل جلى الأرض.(15/253)
وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا (4)
(والليل إذا يغشاها) أي يغشى الشمس فيذهب بضوئها فتغيب وتظلم الآفاق وقيل يغشى الآفاق وقيل الأرض، وإن لم يجر لهما ذكر لأن ذلك معروف، والأول أولى.
قال الخطيب: وجيء به مضارعاً دون ما قبله وما بعده مراعاة للفواصل إذ لو أتى به ماضياً لكان التركيب: إذا غشيها فتفوت المناسبة اللفظية بين الفواصل والمقاطع انتهى.
والمعنى يغطيها بظلمته أي فيزيل ضوؤها فالنهار يجليها ويظهرها والليل يغطيها ويزيل ضوؤها فالضمير في الفواصل من أول السورة إلى هنا للشمس.
وهذه الأقسام الأربعة ليست إلا للشمس في الحقيقة لكن بحسب أربعة أوصاف أولها الضوء الحاصل منها عند ارتفاع النهار، وذلك هو الوقت الذي يكمل فيه انتشار(15/253)
الحيوان وتحرك الإنسان للمعاش، ومنها تلو القمر للشمس بأخذه الضوء عنها، ومنها تكامل طلوعها وبروزها بمجيء النهار، ومنها وجود خلاف ذلك بمجيء الليل، ومن تأمل قليلاً في عظمة الشمس انتقل منها إلى عظمة خالقها فسبحانه ما أعظم شأنه.(15/254)
وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا (5)
(والسماء وما بناها) يجوز أن تكون ما مصدرية أي والسماء وبنيانها، ويجوز أن تكون موصولة وبه قال أبو البقاء أي والذي بناها، وإيثار (ما) على (من) لإرادة الوصفية لقصد التفخيم كأنه قال والقادر العظيم الشأن الذي بناها ورجح الأول الفراء والزجاج ولا وجه لقول من قال أن جعلها مصدرية مخل بالنظم ورجح الثاني ابن جرير قال ابن عباس الله بنى السماء.(15/254)
وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا (6)
(والأرض وما طحاها) الكلام في (ما) هذه كالكلام في التي قبلها ومعنى طحاها بسطها على الماء كذا قال عامة المفسرين كما في قوله: (دحاها) قالوا طحاها ودحاها واحد أي بسطها من كل جانب، والطحو البسط، وقيل معنى طحاها قسمها وقيل خلقها والأول أولى، والطحو أيضاًً الذهاب، قال أبو عمرو بن العلاء طحا الرجل إذا ذهب في الأرض، يقال ما أدري أين طحا، ويقال طحا به قلبه إذا ذهب به.(15/254)
وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7)
(ونفس وما سواها) الكلام في (ما) هذه كما تقدم، ومعنى سواها خلقها وأنشأها وسوى أعضائها وعدلها على هذا القانون الأحكم في أعضائها وما فيها من الجواهر والأعراض والمعاني وغير ذلك. قال عطاء يريد جميع ما خلق من الإنس والجن، التنكير للتفخيم أو للتكثير، وقيل المراد نفس آدم:(15/254)
فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8)
(فألهمها فجورها وتقواها) أي عرفها وأفهمها حالهما وما فيهما من الحسن والقبح، والإلهام إلقاء الشيء في القلب بطريق الفيض ينشرح له الصدر ويطمئن، فإطلاقه على الفجور تسامح، وقد دفع بحمل الإلهام على مطلق البيان.
قال مجاهد عرفها طريق الفجور والتقوى والطاعة والمعصية، قال الفراء(15/254)
فألهمها عرفها طريق الخير والشر كما قال: (وهديناه النجدين).
قال محمد بن كعب: إذا أراد الله بعبده خيراً ألهمه الخير فعمل به، وإذا أراد به الشر ألهمه الشر فعمل به، قال ابن زيد جعل فيها ذلك بتوفيقه إياها للتقوى وخذلانه إياها للفجور، واختار هذا الزجاج، وحمل الإلهام على التوفيق والخذلان.
قال الواحدي: وهذا هو الوجه لتفسير الإلهام فإن التبيين والتعليم والتعريف دون الإلهام، والإلهام أن يوقع في قلبه ويجعل فيه، وإذا أوقع الله في قلب عبد شيئاًً فقد ألزمه ذلك الشيء قال: وهذا صريح في أن الله خلق في المؤمن تقواه، وفي الكافر فجوره، قال ابن عباس: في الآية علمها الطاعة والمعصية، وعنه قال ألهمها من الخير والشر وعنه قال: ألزمها فجورها وتقواها.
وأخرج أحمد وعبد بن حميد ومسلم وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه عن عمران بن حصين أن رجلاً قال: " يا رسول الله أرأيت ما يعمل الناس اليوم ويكدحون فيه شيء قد قضي عليهم ومضى في قدر قد سبق أو فيما يستقبلون مما أتاهم به نبيهم واتخذت عليهم به الحجة قال بل شيء قد قضي عليهم، قال فلم يعملون إذن؟ قال من كان الله خلقه لواحدة من المنزلتين يهيئه لعملها، وتصديق ذلك في كتاب الله (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا) وسيأتي في السورة التي بعد هذه نحو هذا الحديث.
وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد والنسائي عن زيد بن أرقم قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " اللهم آت نفسي تقواها، " وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها " وأخرجه ابن المنذر والطبراني وابن مردويه من حديث ابن عباس، وزاد كان إذا تلا هذه الآية (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا) قال فذكره وزاد أيضاًً وهو في الصلاة، وأخرج حديث زيد بن أرقم مسلم أيضاًً وأخرج نحوه أحمد من حديث عائشة.(15/255)
قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10) كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا (11) إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا (12) فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا (13) فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا (14) وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا (15)(15/256)
قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9)
(قد أفلح من زكاها) أي قد فاز من زكى نفسه وأنماها وأعلاها بالتقوى بكل مطلوب وظفر بكل محبوب، وقد قدمنا أن هذا جواب القسم على الراجح، قال الزجاج: صار طول الكلام عوضاً عن اللام، أي والأصل فيه (لقد) وتبعه القاضي قال الشهاب وعند النحاة أن الماضي المثبت المتصرف الذي لم يتقدم معموله إذا وقع جواباً للقسم تلزمه اللام وقد، ولا يجوز الاقتصار على إحداهما إلا عند طول الكلام أو في ضرورة، وأصل الزكاة النمو والزيادة ومنه زكا الزرع إذا كثر، قال ابن عباس يقول قد أفلح من زكى الله نفسه أي بالطاعة.(15/256)
وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10)
(وقد خاب من دساها) أي خسر من أضلها وأغواها بالمعصية قال أهل اللغة دساها أصله دسسها من التدسيس وهو إخفاء الشيء في الشيء، فمعنى دساها في الآية أخفاها وأخملها ولم يشهرها بالطاعة والعمل الصالح.
وكانت أجواد العرب تنزل الأمكنة المرتفعة ليشتهر مكانها فتقصدها الضيوف، وكانت لئام العرب تنزل الهضاب والأمكنة المنخفضة ليخفى مكانها عن الوافدين.
وقال ابن الأعرابي المعنى دس نفسه في جملة الصالحين وليس منهم قال ابن عباس قد خاب من دس الله نفسه فأضله، وعنه قال دساها يعني مكر بها، وعنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول في الآية " أفلحت نفس زكاها الله وخابت نفس خيبها الله من كل خير " أخرجه أبو حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه والديلمي من طريق جويبر عن الضحاك،(15/256)
وجويبر ضعيف، وتكرير (قد) فيه لإبراز الاعتناء بتحقيق مضمونها والإيذان بتعلق القسم به أيضاًً اصالة.(15/257)
كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا (11)
(كذبت ثمود) رسولها صالحاً (بطغواها) أنث الفعل لضعف أثر تكذيبهم لأن كل سامع له يعرف ظلمهم فيه لوضوح آيتهم، والطغوى اسم من الطغيان كالدعوى.
قال الواحدي قال المفسرون: معناه الطغيان حملهم على التكذيب، والطغيان مجاوزة الحد في المعاصي والباء للسببية كما قاله مجاهد وقتادة وغيرهما، وقيل بطغواها أي بعذابها الذي وعدت به وسمي العذاب طغوى لأنه طغى عليهم فتكون الباء على هذا للتعدية، وبدأ في الكشاف بأنها للاستعانة مجازاً يعني فعلت التكذيب بطغيانها كما تقول ظلمني بجرأته على الله، وقال محمد بن كعب بطغواها أي بأجمعها.
قرأ الجمهور بفتح الطاء وهو مصدر بمعنى الطغيان، وإنما قلبت الياء واواً للفرق بين الاسم والصفة لأنهم يقلبون الياء في الأسماء كثيراً نحو تقوى وسروى، وقرىء بضم الطاء وهو مصدر أيضاًً كالرجعى والحسنى ونحوهما، وقيل هما لغتان، واختير التعبير بالطغوى لأنه أشبه برؤوس الآيات قال ابن عباس اسم العذاب الذي جاءها الطغوى فقال كذبت ثمود بعذابها.(15/257)
إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا (12)
(إذ انبعث أشقاها) العامل في الظرف كذبت أو بطغواها أي حين قام أشقى ثمود، وهو قدار بن سالف فعقر الناقة، ومعنى انبعث انتدب لذلك وقام به يقال بعثته على الأمر فانبعث به، ويضرب بقدار المثل فيقال أشأم من قدار، وهو أشقى الأولين وكان رجلاً أشقر أزرق قصيراً، ومعنى قدار في الأصل الجزار، وقد تقدم بيان هذا في الأعراف.(15/257)
فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا (13)
(فقال لهم رسول الله) يعني صالحاً بسبب الانبعاث أو التكذيب الذي دل على قصدهم لها بالأذى (ناقة الله) قال الزجاح أي ذروا ناقة الله، وقال الفراء حذرهم إياها وكل تحذير فهو نصب أي ذروا عقرها،(15/257)
والإضافة للتشريف كبيت الله (و) احذروا (سقياها) وهو شربها من الماء وكان لها يوم ولهم يوم، قال الكلبي ومقاتل قال لهم صالح ذروا ناقة الله فلا تعقروها وذروا سقياها وهو شربها من النهر فلا تعرضوا لها يوم شربها.(15/258)
فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا (14)
(فكذبوه) بتحذيره إياهم واستمروا على تكذيبه (فعقروها) أي عقرها الأشقى وإنما أسند العقر إلى الجميع لأنهم رضوا بما فعله، قال قتادة إنه لم يعقرها حتى تابعه صغيرهم وكبيرهم وذكرهم وأنثاهم، قال الفراء عقرها اثنان، والعرب تقول هذان أفضل الناس، وهذان خير الناس، فلهذا لم يقل أشقياها.
أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن عبد الله بن زمعة قال: " خطب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فذكر الناقة وذكر الذي عقرها فقال: (إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا) قال انبعث لها رجل عارم عزيز منيع في رهطه مثل أبي زمعة " (1).
وعن عمار بن ياسر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي " ألا أحدثك بأشقى الناس قال بلى قال رجلان أحيمر ثمود الذي عقر الناقة والذي يضربك على هذا يعني قرنه - حتى تبتل منه هذه، يعني لحيته " أخرجه أحمد وابن أبي حاتم والبغوي والطبراني وابن مردويه والحاكم وأبو نعيم في الدلائل.
(فدمدم عليهم ربهم) أي أهلكهم وأطبق عليهم العذاب (بذنبهم) الذي هو الكفر والتكذيب والعقر، وحقيقة الدمدمة تضعيف العذاب وترديده يقال دمدمت على الشيء أي أطبقت عليه ودمدم عليه القبر
_________
(1) وهو قدار بن سالف. روى البخاري في " صحيحه " 8/ 542 عن عبد الله بن زمعة أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب وذكر الناقة، والذي عقر، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إذ انبعث أشقاها) انبعث لها رجل عزيز عارم منيع في رهطه مثل أبي زمعة " ورواه أحمد ومسلم والترمذي والنسائي وابن جرير وابن أبي حاتم.(15/258)
أي أطبقه، وناقة مدمومة إذا لبسها الشحم والدمدمة إهلاك باستئصال، كذا قال المؤرج.
قال في الصحاح دمدمت الشيء إذا ألزقته بالأرض وطحطحته، ودمدم الله عليهم أهلكهم ودمدمت على الميت التراب أي سويته عليه.
قال ابن الأنباري دمدم أي غضب، والدمدمة الكلام الذي يزعج الرجل، وقال ابن الأعرابي دمدم إذا عذب عذاباً تاماً.
والضمير في (فسواها) يعود إلى الدمدمة أي فسوى الدمدمة عليهم وعمهم بها فاستوت في صغيرهم وكبيرهم، وقيل: يعود إلى الأرض أي فسوى الأرض عليهم فجعلهم تحت التراب، وقيل يعود إلى الأمة أي ثمود، قال الفراء: سوى الأمة أنزل العذاب بصغيرها وكبيرها بمعنى سوى بينهم فلم يفلت منهم أحداً إلا من آمن مع صالح وكانوا أربعة آلاف.
قرأ الجمهور فدمدم بميم بين الدالين وقرأ ابن الزبير فدهدم بهاء بينهما: قال القرطبي وهما لغتان كما يقال امتقع لونه واهتقع لونه، وفي القاموس دمم الأرض سواها كدهدم ودمدم عليهم، فتلخص أن دمدم بدال واحدة ودمدم بدالين معناهما واحد.(15/259)
وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا (15)
(ولا يخاف عقباها) أي فعل الله بهم ذلك غير خائف من عاقبة ولا تبعة، والضمير في عقباها يرجع إلى الفعلة، أو إلى الدمدمة المدلول عليها بدمدم.
قال السدي والضحاك والكلبي إن الكلام يرجع إلى العاقر لا إلى الله سبحانه أي لم يخف الذي عقرها عقبى ما صنع، وقيل لا يخاف رسول الله عليه الصلاة والسلام عاقبة إهلاك قومه ولا يخشى ضرراً يعود عليه من عذابهم، لأنه قد أنذرهم، والأول أولى.
قرأ الجمهور ولا يخاف بالواو، وقرىء بالفاء وهما قراءتان سبعيتان، أما(15/259)
الواو فيجوز أن تكون للحال أو لاستئناف الأخبار، والفاء للتعقيب، وهو ظاهر، والمعنى لا يخاف عاقبتها كما تخاف الملوك عاقبة ما تفعله، فهو استعارة تمثيلية لإهانتهم، وأنهم أذلاء عند الله.
وفي القاموس أعقبه الله بطاعته جازاه، والعقبى جزاء الأمر.(15/260)
سورة والليل
هي إحدى وعشرون آية وهي مكية عند الجمهو، وقيل مدنية قال ابن عباس نزل بمكة وعن ابن الزبير مثله، عن جابر بن سمرة قال: " كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في الظهر والعصر (وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى) ونحوها، أخرجه البيهقي في سننه.
وعن أنس: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى بهم الهاجرة فرفع صوته فقرأ والشمس وضحاها، والليل إذا يغشى، فقال له أبيّ بن كعب يا رسول الله أمرت في هذه الصلاة بشيء قال " لا ولكن أردت أن أوقت لكم " أخرجه الطبراني في الأوسط وقد تقدم حديث " فهلا صليت بسبح اسم ربك الأعلى والشمس وضحاها والليل إذا يغشى ".
وعن ابن عباس إني لأقول أن هذه السورة نزلت في السماحة والبخل، قال الرازي نزلت في أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - وإنفاقه على المسلمين، وفي أمية بن خلف وبخله وكفره بالله، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.(15/261)
بسم الله الرحمن الرحيم
وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (1) وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى (2) وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (3) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (4) فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (10) وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى (11)(15/263)
وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (1)
(والليل إذا يغشى) أي يغطي بظلمته ما كان مضيئاً، قال الزجاج يغشى الليل الأفق وجميع ما بين السماء والأرض، فيذهب ضوء النهار وقيل يغشى النهار وقيل يغشى الأرض، والأول أولى، قال ابن عباس إذا يغشى إذا أظلم.
وعن ابن مسعود قال " إن أبا بكر الصديق اشترى بلالاً من أميَّة بن خلف ببردة وعشر أواق فأعتقه لله فأنزل الله (والليل إذا يغشى) إلى قوله، (إن سعيكم لشتى) سعى أبي بكر وأمية وأبيّ إلى قوله (وكذب بالحسنى) قال لا إله إلا الله إلى قوله (فسنيسره للعسرى) قال النار " أخرجه ابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن عساكر.
أقسم سبحانه بالليل الذي يأوي فيه كل حيوان إلى مأواه وتسكن الخلق فيه عن التحرك ويغشاهم النوم الذي جعله الله راحة لأبدانهم، وغذاء لأرواحهم، ثم أقسم بالنهار فقال(15/263)
وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى (2)
(والنهار إذا تجلى) أي ظهر وانكشف ووضح لزوال الظلمة التي كانت في الليل بطلوع الشمس لأن النهار إذا جاء انكشف بضوئه ما كان في الدنيا من الظلمة، وجاء الوقت الذي يتحرك فيه الناس لمعايشهم وتتحرك الطير من أوكارها والهوام من مكانها، فلو كان الدهر كله ليلاً لتعذر المعاش، ولو كان كله نهاراً لبطلت الراحة فكانت المصلحة في تعاقبهما.(15/263)
وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (3)
(وما خلق الذكر والأنثى) (ما) هنا الموصولة أي والذي خلقهما وعبر عن من بما للدلالة على الوصفية ولقصد التفخيم أي والقادر العظيم الذي خلق صنفي الذكر والأنثى، قال الحسن والكلبي معناه الذي خلق الذكر والأنثى، فيكون قد أقسم بنفسه الكريمة، قال أبو عبيدة وما خلق أي ومن خلق.
وقال مقاتل يعني وخلق الذكر والأنثى فتكون (ما) على هذا مصدرية قال الكلبي ومقاتل يعني آدم وحواء والظاهر العموم.
قرأ الجمهور (وما خلق الذكر والأنثى) وقرأ ابن مسعود (والذكر والأنثى) بدون ما خلق، قال المحلي والخنثى المشكل عندنا ذكر أو أنثى عند الله تعالى فيحنث بتكليمه من حلف لا يكلم ذكراً ولا أنثى انتهى، وعبارة الخطيب الخنثى وإن أشكل أمره عندنا فهو عند الله غير مشكل معلوم بالمذكورة أو الأنوثة انتهت، وقال الكرخي يحنث بتكليمه لأن الله تعالى لم يخلق من ذوي الأرواح من ليس ذكراً ولا أنثى، والخنثى إنما هو مشكل بالنسبة إلينا، خلافاً لأبي الفضل الهمداني فيما حكاه وجهاً أنه نوع ثالث، ويدفعه قوله (يهب لمن يشاء إناثاً ويهب لمن يشاء الذكور) ونحو ذلك قاله الأسنوي.(15/264)
إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (4)
(إن سعيكم لشتى) هذا جواب القسم أي أن عملكم مختلف فمنه عمل للجنة ومنه عمل للنار أو منكم مؤمن وكافر أو منكم مثاب بالجنة ومعاقب بالنار، أو منكم راحم وقاس وحليم وطائش وجواد وبخيل (1).
قال جمهور المفسرين السعي العمل، فساع في فكاك نفسه وساع في عطبها، وشتى جمع شتيت كمرضى جمع مريض، وقيل للمختلف شتى لتباعد
_________
(1) روى مسلم في " صحيحه " 1/ 203 عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " كل الناس يغدوُ، فبائع نفسه فمعتقها، أو موبقها " أي: كل إنسان يسعى بنفسه، فمنهم من يبيعها لله بطاعته فيعتقها من العذاب، ومنهم من يبيعها للشيطان والهوى باتباعها فيوبقها، أي: يهلكها.(15/264)
ما بين بعضه وبعض، والشتات هو الافتراق، وسعيكم مصدر مضاف فيفيد العموم فهو جمع معنى وإن كان مفرداً في اللفظ ولذا أخبر عنه بالجمع وهو شتى فهو بمعنى مساعيكم.(15/265)
فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5)
(فأما من أعطى) أي بذل ماله في وجوه الخير (واتقى) محارم الله التي نهى عنها(15/265)
وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6)
(وصدق بالحسنى) أي أيقن بالخلف الذي من الله، قال المفسرون فأما من أعطى المعسرين، وقال قتادة أعطى حق الله الذي عليه، وقال الحسن أعطى الصدق من قلبه وصدق بالحسنى أي بـ (لا إله إلا الله) وبه قال الضحاك والسلمي وابن عباس. وقال مجاهد بالحسنى بالجنة، وقال زيد ابن أسلم بالصلاة والزكاة والصوم، والأول أولى، قال قتادة بالحسنى أي بموعود الله الذي وعده أن يثيبه، قال الحسن بالخلف من عطائه، واختار هذا ابن جرير، وقال ابن عباس أعطى من الفضل واتقى ربه وصدق بالخلف من الله.(15/265)
فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7)
(فسنيسره لليسرى) أي فسنهيئه للخصلة التي هي حسنى وهي عمل الخير حتى يسهل عليه فعله، والمعنى فسنيسر له الإنفاق في سبيل الخير والعمل بالطاعة لله، والسين في الموضوعين للتسويف وهو من الله محقق، وذكر القسطلاني أن هذه السين للتلطيف.
قال الشريف الصفوي مرادهم به ترقيق الكلام بمعنى أن لا يكون نصاً في المقصود بل يكون محتملاً لغير المقصود فهو كالشيء الرقيق الذي يمكن تغييره ويسهل ويقابله الكثيف بمعنى أن يكون نصاً في القصود لأنه لا يمكن تغييره، وتبديله فهو كالشيء الكثيف الذي لا يمكن فيه ذلك.
فالمقصود ههنا أن التيسير حاصل في الحال لكن أتى بالسين الدالة على الاستقبال والتأخير لتلطيف الكلام وترقيقه باحتمال أن لا يكون التيسير حاصلاً في الحال لنكات تقتضي ذلك والله أعلم.
قال الواحدي قال المفسرون: نزلت هذه الآيات في أبي بكر الصديق(15/265)
اشترى ستة نفر من المؤمنين كانوا في أيدي أهل مكة يعذبوهم في الله، قال ابن عباس لليسرى للخير من الله، وقال زيد بن أسلم للجنة.
وعن عامر بن عبد الله بن الزبير قال " كان أبو بكر الصديق يعتق على الإسلام بمكة وكان يعتق عجائز ونساء إذا أسلمن فقال له أبوه أي بني أراك تعتق ناساً ضعفاء فلو أنك تعتق رجالاً جلداً يقومون معك ويمنعونك ويدفعون عنك قال أي أبت إنما أريد ما عند الله، قال فحدثني بعض أهل بيتي أن هذه الآية نزلت فيه (1) ".
_________
(1) رواه الواحدي في أسباب النزول 335.(15/266)
وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8)
(وأما من بخل) بماله فلم يبذله في سبل الخير (واستغنى) أي زهد في الأجر والثواب أو استغنى بشهوات الدنيا عن نعيم الآخرة، قال ابن عباس بخل بماله واستغنى عن ربه، وعنه قال يقول من أغناه الله فبخل بالزكاة، وعنه هو أبو سفيان بن حرب(15/266)
وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9)
(وكذب بالحسنى) أي بالخلف من الله عز وجل، وقال مجاهد بالجنة، وعنه قال بلا إله إلا الله.(15/266)
فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (10)
(فسنيسره للعسرى) أي فسنهيئه للخصلة العسرى ونسهلها له حتى يتعسر عليه أسباب الخير والصلاح ويضعف عن فعلها فيؤديه ذلك إلى النار، قال مقاتل يعسر عليه أن يعطي خيراً، قيل العسرى الشر، وذلك أن الشر يؤدي إلى العذاب، والعسرة في العذاب والمعنى سنهيئه للشر بأن نجريه على يديه، قال الفراء سنيسره سنهيئه، والعرب تقول قد يسرت الغنم إذا ولدت أو تهيأت للولادة، قال ابن عباس للعسرى للشر من الله وقيل للنار.
وأخرج البخاري ومسلم وأهل السنن وغيرهم عن علي بن أبي طالب قال " كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في جنازة فقال ما منكم من أحد إلا وقد كتب مقعده من الجنة ومقعده من النار فقالوا يا رسول الله أفلا نتكل؟ فقال اعملوا فكل ميسر لما خلق له، أما من كان من أهل السعادة فييسر(15/266)
لعمل أهل السعادة، وأما من كان من أهل الشقاء فييسر لعمل أهل الشقاء ثم قرأ فأما من أعطى، إلى قوله، للعسرى ".
وأخرج أحمد ومسلم وغيرهما عن جابر بن عبد الله أن سراقة بن مالك قال " يا رسول الله في أي شيء يعمل، أفي شيء ثبتت فيه المقادير وجرت به الأقلام أم في شيء يستقبل فيه العمل، قال بل في شيء ثبتت فيه المقادير، وجرت فيه الأقلام، قال سراقة: ففيم العمل إذن يا رسول الله؟ قال اعملوا فكل ميسر لما خلق له، وقرأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هذه الآية فأما من أعطى، إلى آخرها ".
وقد تقدم حديث عمران بن حصين في السورة التي قبل هذه، وفي الباب أحاديث من طريق جماعة من الصحابة قال الفراء: لقائل أن يقول كيف قال ذلك وهل في العسرى تيسير؟ انتهى.
وإيضاح الجواب عن هذا ما ورد في الحديث " اعملوا فكل ميسر لما خلق له " أي عليكم بشأن العبودية وما خلقتم لأجله وأمرتم به، وكلوا أمور الربوبية الغيبية إلى صاحبها فلا عليكم بشأنها، ونظيره الرزق المقسوم مع الأمر بالكسب، والأجل المضروب في العمر مع المعالجة بالطب، فإنك تجد المغيب فيهما علة موجبة، والظاهر البادي سبباً مخيلاً وقد اصطلح الناس خاصتهم وعامتهم أن الظاهر فيهما لا يترك بسبب الباطن، قاله الكرخي.(15/267)
وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى (11)
(وما) أي لا (يغني عنه) شيئاًً (ماله) الذي بخل به وتركه لوارثه ولم يصحبه منه إلى آخرته التي هي موضع فقره وحاجته شيء أو أي شيء يغني عنه (إذا تردى) أي هلك، يقال ردي الرجل يردى ردى وتردى يتردى إذا هلك، وقال قتادة وأبو صالح وزيد بن أسلم إذا تردى إذا سقط في جهنم، يقال ردى في البئر وتردى إذا سقط فيها، ويقال ما أدري أين ردي أي أين ذهب.(15/267)
إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى (12) وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَى (13) فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى (14) لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى (15) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (16) وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى (18) وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى (19) إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى (20) وَلَسَوْفَ يَرْضَى (21)(15/268)
إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى (12)
(إن علينا للهدى) مستأنفة مقررة لما قبلها أي علينا البيان بموجب قضائنا المبني على الحكم البالغة حيث خلقنا الخلق للعبادة، قال الزجاج: علينا أن نبين طريق الهدى من طريق الضلال أي وقد فعلنا ذلك بما لا مزيد عليه حيث بينا حل من سلك كلا الطريقين ترغيباً وترهيباً.
قال قتادة على الله البيان، بيان حرامه وطاعته ومعصيته، قال الفراء من سلك الهدى فعلى الله سبيله لقوله (وعلى الله قصد السبيل) يقول من أراد الله فهو على السبيل القاصد، قال الفراء أيضاًً المعنى إن علينا للهدى والإضلال فحذف الإضلال كقوله (سرابيل تقيكم الحر) أي والبرد، وقيل المعنى أن علينا ثواب هداه الذي هديناه، والأول أولى.(15/268)
وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَى (13)
(وإن لنا للآخرة والأولى) أي لنا كل ما في الآخرة وكل ما في الدنيا نتصرف به كيف نشاء، فمن أرادهما أو أخذهما ذلك منا، وقيل المعنى أن لنا ثواب الآخرة وثواب الدنيا فمن طلبها من غيرنا فقد أخطأ الطريق.(15/268)
فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى (14)
(فأنذرتكم ناراً تلظى) أي حذرتكم وخوفتكم ناراً تتوقد وتتوهج، وأصله تتلظى فحذفت إحدى التاءين تخفيفاً، وقرىء على الأصل(15/268)
لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى (15)
(لا يصلاها) صلياً لازماً على جهة الخلود (إلا الأشقى) وهو الكافر وإن صليها غيره من العصاة فليس صليه كصليه والمعنى يدخلها أو يجد صليها وهو حرها.
ثم وصف الأشقى فقال(15/268)
الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (16)
(الذي كذب وتولى) أي كذب بالحق الذي جاءت به الرسل وأعرض عن الطاعة والإيمان، قال الفراء إلا الأشقى إلا من(15/268)
كان شقياً في علم الله جل ثناؤه، وقال أيضاًً لم يكن كذب برد ظاهر، ولكنه قصر عما أمر به من الطاعة فجعل تكذيباً كما تقول لقي فلان العدو فكذب، إذا نكل ورجع عن إتباعه.
قال الزجاج: هذه الآية هي التي من أجلها قال أهل الإرجاء بالإرجاء فزعموا أنه لا يدخل النار إلا كافر.
ولأهل النار منازل فمنها أن المنافقين في الدرك الأسفل من النار، والله سبحانه كلما وعد عليه بجنس من العذاب فجدير أن يعذب به، وقد قال الله (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) فلو كان من لم يشرك لم يعذب لم يكن في قوله (ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) فائدة.
وقال في الكشاف الآية واردة في الموازنة بين حالتي عظيم من المشركين وعظيم من المؤمنين فأريد أن يبالغ في صفتهما المتناقضتين فقيل الأشقى وجعل مختصاً بالصلي كأن النار لم تخلق إلا له، وقيل الأتقى وجعل مختصاً بالنجاة كأن الجنة لم تخلق إلا له.
وقيل المراد بالأشقى أبو جهل أو أمية بن خلف، وبالأتقى أبو بكر الصديق.
قال المحلي وهذا الحصر مؤول لقوله تعالى (ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) فيكون المراد الصلي المؤبد انتهى أي مصروف عن ظاهره فلا يرد الفاسق لأنه إما أن لا يدخلها إن عفي عنه أو يدخلها ويخلص منها، فالمعنى لا يدخلها دخولاً مؤبداً إلا الكافر الذي هو شقي لأنه كذب النبي.
والأولى أن يقال مؤول بحمل الصلي على التأبيد والخلود.
وعن أبي هريرة قال " لتدخلن الجنة إلا من يأبى قالوا ومن يأبى أن يدخل الجنة فقرأ (الذي كذب وتولى) " أخرجه ابن جرير.
وعن أبي أمامة " لا يبقى أحد من هذه الأمة إلا أدخله الجنة إلا من(15/269)
شرد على الله كما يشرد البعير السوء على أهله فمن لم يصدقني فإن الله يقول (لا يصلاها إلا الأشقى الذي كذب وتولى) كذب بما جاء به محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتولى عنه ". أخرجه سعيد بن منصور وغيره.
وعنه أنه سئل عن ألين كلمة سمعها من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " ألا كلكم يدخل الله الجنة إلا من شرد على الله شراد البعير على أهله " أخرجه أحمد والحاكم والضياء.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا يدخل النار إلا الأشقى، قيل ومن الشقي قال: الذي لا يعمل لله بطاعة ولا يترك لله معصية " أخرجه أحمد وابن ماجه وابن مردويه.
وعنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " كل أمتي يدخل الجنة يوم القيامة إلا من أبى قالوا ومن يأبى يا رسول الله قال: من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى " أخرجه أحمد والبخاري.(15/270)
وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17)
(وسيجنبها الأتقى) أي سيباعد عنها التقي للكفر اتقاء بالغاً، قال الواحدي الأتقى أبو بكر الصديق في قول جميع المفسرين اهـ، والأولى حمل الأشقى والأتقى على كل متصف بالصفتين المذكورتين، ويكون المعنى أنه لا يصلاها صلياً تاماً لازماً إلا الكامل في الشقاء وهو الكافر، ولا يجنبها ويبعد عنها تبعيداً كاملاً بحيث لا يحوم حولها فضلاً عن أن يدخلها إلا الكامل في التقوى، فلا ينافي هذا دخول بعض العصاة من المسلمين النار دخولاً غير لازم، ولا تبعيد بعض من لم يكن كامل التقوى عن النار تبعيداً غير بالغ تبعيد الكامل في التقوى عنها.
والحاصل أن من تمسك من المرجئة بقوله (لا يصلاها إلا الأشقى) زاعما أن الأشقى الكافر لأنه الذي كذب وتولى، ولم يقع التكذيب من عصاة المسلمين.
فيقال له فماذا تقول في قوله (وسيجنبها الأتقى) فإنه يدل على أنه(15/270)
لا يجنب النار إلا الكامل في التقوى، فمن لم يكن كاملاً فيها كعصاة المسلمين لم يكن ممن يجنب النار، فإن أولت الأتقى بوجه من وجوه التأويل لزمك مثله في الأشقى. فخذ إليك هذه مع تلك وكن كما قال الشاعر:
على أنني راض بأن أحمل الهوى ... وأخرج منه لا علي ولا ليا
وقيل أراد بالأشقى والأتقى الشقي والتقي كما قال طرفة بن العبد:
تمنى رجال أن أموت وإن أمت ... فتلك سبيل لست فيها بأوحد
أي بواحد، ولا يخفاك أنه ينافي هذا وصف الأشقى بالتكذيب، فإن ذلك لا يكون إلا من الكافر فلا يتم ما أراده قائل هذا القول من شمول الوصفين لعصاة المسلمين.
عن عروة " أن أبا بكر الصديق أعتق سبعة كلهم يعذب في الله: بلال وعامر بن فهيرة والنهدية وابنتها وزنيرة وأم عيسى وأمة بني المؤمل، وفيه نزلت (وسيجنبها الأتقى) إلى آخر السورة " أخرجه ابن أبي حاتم، وفي الباب روايات.
ثم ذكر سبحانه صفة الأتقى فقال(15/271)
الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى (18)
(الذي يؤتي ماله) أي يعطيه ويصرفه في وجوه الخير، وقوله (يتزكى) في محل يصب على الحال من فاعل يؤتي أي حال كونه يطلب أن يكون عند الله زكياً لا يطلب رياء ولا سمعة، ويجوز أن يكون بدلاً من يؤتي داخلاً معه في حكم الصلة، قرأ الجمهور يتزكى مضارع تزكى، قرأ علي بن الحسين رضي الله عنهما بإدغام التاء في الزاي.(15/271)
وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى (19)
(وما لأحد عنده من نعمة تجزى) قال أبو السعود أي من شأنها أن تجازى وتكافأ، والجملة مستأنفة لتقرير ما قبلها من كون التزكي على جهة الخلوص غير مشوب بشائبة تنافي الخلوص، أي ليس ممن يتصدق بماله ليجازي بصدقته نعمة لأحد من الناس عنده ويكافئه عليها، وإنما يبتغي بصدقته وجه الله تعالى.(15/271)
ومعنى الآية أنه ليس لأحد من الناس عنده نعمة من شأنها أن يجازى عليها حتى يقصد بإيتاء ما يؤتي من ماله مجازاتها، وإنما قال نجزي مضارعاً مبنياً للمفعول لأجل الفواصل، والأصل يجزيها إياه أو يجزيه إياها.(15/272)
إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى (20)
(إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى) قرأ الجمهور بالنصب على الإستثناء المنقطع لعدم اندراجه تحت جنس النعمة أي لكن ابتغاء وجه ربه، ويجوز أن يكون منصوباً على أنه مفعول له على المعنى أي لا يؤتي إلا لابتغاء وجه ربه لا لمكافأة نعمة، قال الفراء هو منصوب على التأويل أي ما أعطيتك ابتغاء جزائك بل ابتغاء وجه الله، وقرىء بالرفع على البدل من محل نعمة لأن محلها الرفع إما على الفاعلية وإما على الابتداء أو (من) مزيدة والرفع لغة تميم لأنهم يجوزون البدل في المنقطع في غير الإيجاب ويجرونه مجرى المتصل.
قال مكي وأجاز الفراء في ابتغاء على البدل من موضع نعمة وهو بعيد.
قلت كأنه لم يطلع عليها قراءة، واستبعاده هو البعيد فإنها لغة فاشية، وقرأ الجمهور أيضاًً ابتغاء بالمد، وقرىء بالقصر. والأعلى نعت للرب.(15/272)
وَلَسَوْفَ يَرْضَى (21)
(ولسوف يرضى) اللام هن الموطئة للقسم أي وتالله لسوف يرضى بما نعطيه من الكرامة والجزاء العظيم، وهو وعد من الكريم تعالى لأبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه بنيل جميع ما يبتغيه على أكمل الوجوه وأجلها إذ به يتحقق الرضا، قاله أبو السعود، وقرأ الجمهور يرضى مبنياً للفاعل وقرىء مبنياً للمفعول من أرضاه الله وهو قريب من قوله تعالى في آخر طه (لعلك ترضى) وترضى.(15/272)
سورة الضحى
هي إحدى عشرة آية وهي مكية بلا خلاف قال ابن عباس نزلت بمكة، وأخرج الحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الشعب من طريق أبي الحسن المقري قال: " سمعت عكرمة ابن سليمان يقول قرأت على إسماعيل بن قسطنطين، فلما بلغت (والضحى) قال كبر حتى تختم، وأخبره عبد الله بن كثير أنه قرأ على مجاهد فأمره بذلك، وأخبره مجاهد أن ابن عباس أمره بذلك وأخبره ابن عباس أن أبيّ بن كعب أخبره بذلك، وأخبره أبيّ أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أمره بذلك " وأبو الحسن المقري المذكور هو أحمد بن محمد بن عبد الله بن أبي بزة المقري.
قال ابن كثير فهذه سنة تفرد بها أبو الحسن المقري وكان إماماً في القراءات، وأما في الحديث فقد ضعفه أبو حاتم الرازي وقال لا أحدث عنه، وكذلك أبو جعفر العقليلي قال هو منكر الحديث.
قال ابن كثير ثم اختلف القراء في موضع هذا التكبير وكيفيته فقال بعضهم يكبر من آخر الليل إذا يغشى، وقال آخرون من آخر الضحى، وكيفية التكبير عند بعضهم أن يقول الله أكبر ويقتصر، ومنهم من يقول الله أكبر لا إله إلا الله، الله أكبر.(15/273)
وذكروا في مناسبة التكبير من أول الضحى أنه لما تأخر الوحي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفتر تلك المدة ثم جاء الملك فأوحى إليه (والضحى) كبر فرحاً وسروراً، ولم يرووا ذلك بإسناد يحكم عليه بصحة ولا ضعف.
وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن جندب البجلي قال: " اشتكى النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم يقم ليلتين أو ثلاثة فأتته امرأة فقالت يا محمد ما أرى شيطانك إلا قد تركك فلم يقربك ليلتين أو ثلاثة فأنزل الله والضحى ". (1)
وعن جندب قال: " أبطأ جبريل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال المشركون قد ودع محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - فنزلت (ما ودعك) وعنه قال: " احتبس جبريل عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - فقالت بعض بنات عمه ما أرى صاحبك إلا قد قلاك، فنزلت (والضحى) " (2) وقيل في سبب نزولها غير ذلك وما ذكرنا هو الأولى.
_________
(1) رواه البخاري في " صحيحه " 8/ 545 ومسلم 3/ 1423 وأحمد في " المسند " 4/ 312 وابن جرير الطبري 30/ 231 والواحدي في " أسباب النزول " وأورده السيوطي في " الدر " 6/ 360 وزاد نسبته للترمذي، والنسائي، والبيهقي وأبي نعيم معاً في " الدلائل " عن جندب بن عبد الله بن شفيان البجلي - رضي الله عنه -.
(2) قال الحافظ ابن حجر في " الفتح " 8/ 545: وجدت في الطبري بإسناد فيه من لا يعرف أن سبب نزولها وجود جرو كلب تحت سريره - صلى الله عليه وسلم - لم يشعر به، فأبطأ عن جبريل لذلك، وقصة إبطاء جبريل بسبب كون الكلب تحت سريره مشهورة، لكن كونها سبب نزول هذه الآية غريب، بل شاذ مردود بما في الصحيح والله أعلم. وورد لذلك سبب ثالث، وهو ما أخرجه الطبري من طريق العوفي عن ابن عباس قال: لما نزل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - القرآن أبطأ عنه جبريل أياماً، فتغير بذلك، قالوا: ودعه ربه وقلاه، فأنزل الله تعالى: (مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى) .. ومن طريق إسماعيل مولى آل الزبير قال: فتر الوحي حتى شق ذلك على النبي - صلى الله عليه وسلم - وأحزنه، فقال: لقد خشيت أن ...(15/274)
بسم الله الرحمن الرحيم
وَالضُّحَى (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (2) مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى (3) وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى (4) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى (5)(15/275)
وَالضُّحَى (1)
(والضحى) المراد بالضحى هنا النهار كله لقوله(15/275)
وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (2)
(والليل إذا سجى) فلما قابل الضحى بالليل دل على أن المراد به النهار كله لا بعضه، وهو في الأصل إسم لوقت ارتفاع الشمس كما تقدم في قوله (والشمس وضحاها) وعلى هذا يكون في الكلام مجاز من إطلاق إسم الجزء وإرادة الكل، والظاهر أن المراد به الضحى من غير تعيين، وقال قتادة ومقاتل وجعفر الصادق أن المراد به الضحى الذي كلم الله فيه موسى والمراد بقوله الآتي (والليل إذا سجى) ليلة المعراج.
وقيل المراد بالضحى هو الساعة التي خر فيها السحرة سجداً كما في قوله (وأن يحشر الناس ضحى) وقيل المقسم به مضاف مقدر كما تقدم في نظائره أي ورب الضحى وقيل تقديره وضحاوة الضحى، ولا وجه لهذا فلله سبحانه أن يقسم بما شاء من خلقه. وقيل الضحى نور الجنة والليل ظلمة النار، وقيل الضحى نور قلوب العارفين، والليل سواد قلوب الكافرين، والأولى أولى.
وقدم هنا الضحى، على الليل. وفي السورة قبلها قدم الليل لأن لكل منهما أثراً في صلاح العالم ولليل فضيلة السبق، وللنهار فضيلة النور، فقدم هذا تارة وهذا أخرى، أو أنه قدم الليل في سورة أبي بكر لأن أبا بكر سبق له كفر، وقدم الضحى في سورة محمد لأنه نور محض ولم يتقدمه ذنب، ولم يفصل بين السورتين إشارة إلى أنه لا واسطة بين النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر.(15/275)
قلت هذه الأقوال من قبيل لطائف النكات وليس من تفسير كتاب الله في شيء.
(والليل إذا سجى) أي سكن كذا قال قتادة ومجاهد وابن زيد وعكرمة وغيرهم، يقال ليلة ساجية أي ساكنة، ويقال للعين إذا سكن طرفها ساجية، يقال سجى الشيء يسجو سجواً إذا سكن، قال عطاء إذا سجا إذا غطى بالظلمة. وروى ثعلب عن ابن الأعرابي سجا امتد ظلامه، وقال الأصمعي سجو الليل تغطيته النهار مثل ما يسجى الرجل بالثوب، وقال الحسن غشى بظلامه كل شيء، وقال سعيد بن جبير أقبل، وقال مجاهد أيضاًً استوى والأول أولى وعليه جمهور المفسرين وأهل اللغة، ومعنى سكونه استقرار ظلامه واستواؤه فلا يزاد بعد ذلك، وقال ابن عباس إذا أقبل وعنه قال إذا ذهب.(15/276)
مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى (3)
(ما ودعك ربك) أي ما تركك، قاله ابن عباس وهذا جواب القسم أي ما قطعك قطع المودع، قرأ الجمهور بتشديد الدال من التوديع وهو توديع المفارق، وقرىء بتخفيفها من قولهم ودعه أي تركه والتوديع أبلغ من الودع لأن من ودعك مفارقاً فقد بالغ في ترك.
قال المبرد لا يكادون يقولون ودع ولا وزر لضعف الواو إذا قدمت واستغنوا عنها بترك، قال أبو عبيدة ودعك من التوديع كما يودع المفارق، وقال الزجاج لم يقطع الوحي، والتوديع مستعار استعارة تبعية للترك فإن الوداع إنما يكون بين الأحباب ومن تعز مفارقته، وهذه الحقيقة لا تتصور هنا.
(وما قلى) أي ما أبغضك، قاله ابن عباس: القلاء البغض، يقال قلاه يقليه قلأ وقال ما قلى، ولم يقل وما قلاك لموافقة رؤوس الآي.(15/276)
وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى (4)
(وللآخرة خير لك من الأولى) اللام جواب قسم محذوف أي الجنة خير لك من الدنيا مع أنه صلى الله عليه وآله وسلم قد أوتي في الدنيا من شرف النبوة ما يصغر عنده كل شرف، وتتضاءل بالنسبة إليه كل مكرمة في(15/276)
الدنيا، ولكنها لما كانت الدنيا بأسرها مشوبة بالأكدار منغصة بالعوارض البشرية، وكانت الحياة فيها كأحلام نائم أو كظل زائل، لم تكن بالنسبة إلى الآخرة شيئاًً، ولما كانت طريقاً إلى الآخرة وسبباً لنيل ما أعده الله لعباده الصالحين من الخير العظيم بما يفعلونه فيها من الأعمال الموجبة للفوز بالجنة كان فيها خير في الجملة من هذه الحيثية.
وإنما قيد بقوله " لك " لأنها ليست خيراً لكل أحد.
قال البقاعي إن الناس على أربعة أقسام منهم من له الخير في الدارين وهم أهل الطاعة الأغنياء، ومنهم من له الشر فيهما وهم الكفرة الفقراء ومنهم من له صورة خير في الدنيا وشر في الآخرة وهم الكفرة الأغنياء، ومنهم من له صورة شر في الدنيا وخير في الآخرة وهم الفقراء المؤمنون، ذكره الخطيب.
وعن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " عرض عليَّ ما هو مفتوح لأمتي بعدي فأنزل الله " (وللآخرة خير لك من الأولى) أخرجه (1) الطبراني في الأوسط والبيهقي في الدلائل، وعنه قال " عرض على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما هو مفتوح على أمته من بعده فسر بذلك فأنزل الله ".
_________
(1) رواه ابن جرير الطبري 30/ 232 من رواية الإمام الأوزاعي عن إسماعيل بن عبيد الله ابن أبي المهاجر المخزومي عن علي بن عبد الله بن عباس عن أبيه عبد الله بن عباس، ورواه ابن أبي حاتم من طريقه به. قال ابن كثير: وهذا إسناد صحيح إلى ابن عباس، ومثل هذا ما يقال عن توقيف. ورواه الواحدي في " أسباب النزول " 338 والحاكم 2/ 526 ورواه الطبراني في " الكبير ". قال الحافظ الهيثمي في " مجمع الزوائد " 7/ 139: وإسناد الطبراني في " الكبير " حسن. وأورده السيوطي في " الدر " 6/ 361 وزاد نسبته لعبد بن حميد، والبيهقي وأبي نعيم كلاهما في " الدلائل " وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله عنهما.(15/277)
وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى (5)
(ولسوف يعطيك ربك فترضى) قيل هي لام الابتداء دخلت على الخبر لتأكيد مضمون الجملة والمبتدأ محذوف تقديره ولأنت سوف يعطيك، وليست للقسم لأنها لا تدخل على المضارع إلا مع النون المؤكدة، وقيل هي(15/277)
للقسم، قال أبو علي الفارسي ليست هذه اللام هي التي في قولك إن زيداً لقائم بل هي التي في قولك لأقومن، ونابت سوف عن إحدى نوني التأكيد فكأنه قال ولنعطيك أي أن العطاء كائن لا محالة وإن تأخر لما في التأخير من المصلحة.
قيل والمعنى ولسوف يعطيك ربك الفتح في الدنيا والثواب في الآخرة فترضى، وقال البيضاوي هذا وعد شامل لما أعطاه له من كمال النفس وظهور الأمر وإعلاء الدين، ولما ادخر له مما لا يعرف كنهه سواه، وقيل الحوض والشفاعة في الأمة، وقيل ألف قصر من لؤلؤ أبيض ترابه المسك، وبه قال ابن عباس وزاد في كل قصر ما ينبغي له من الأزواج والخدم وعنه قال رضاه أن يدخل أمته كلهم الجنة.
وأخرج ابن جرير عنه قال من رضا محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن لا يدخل أحد من أهل بيته النار.
وأخرج الخطيب في التلخيص من وجه آخر عنه قال لا يرضى محمد صلى الله عليه وآله وسلم وواحد من أمته في النار (1).
ويدل على هذا ما أخرجه مسلم عن ابن عمرو " أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم تلا قول الله في إبراهيم (فمن تبعني فإنه مني) وقول عيسى (إن تعذبهم فإنهم عبادك) الآية فرفع يديه وقال اللهم أمتي أمتي وبكى، فقال الله يا جبريل إذهب إلى محمد صلى الله عليه وآله وسلم فقل له إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوءك ".
وأخرج ابن المنذر وابن مردويه وأبو نعيم في الحلية من طريق حرب بن شريح قال قلت لأبي جعفر محمد بن علي بن الحسين " أرأيت هذه الشفاعة التي يتحدث بها أهل العراق أحق هي؟ قال أي والله حدثني محمد بن الحنفية
_________
(1) أي من أمته الذين ساروا على نهجه عقيدة وعبادة لا أولئك الذين اكتفوا من الدين بالأسماء.(15/278)
عن علي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أشفع لأمتي حتى يناديني ربي أرضيت يا محمد فأقول نعم يا رب رضيت " ثم أقبل علي فقال إنكم تقولون يا معشر أهل العراق إن أرجى آية في كتاب الله (يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا) قلت إنا لنقول ذلك، قال فكنا أهل البيت نقول إن أرجى آية في كتاب الله (ولسوف يعطيك ربك فترضى) وهي الشفاعة ".
وعن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " إنَّا أهل البيت اختارَ الله لنا الآخرةَ على الدنيا ولسوف يعطيك ربك فترضى " أخرجه ابن أبي شيبة.
وعن جابر بن عبد الله قال " دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على فاطمة وهي تطحن بالرحى وعليها كساء من جلد الإبل، فلما نظر إليها قال يا فاطمة تعجلي مرارة الدنيا بنعيم الآخرة فأنزل الله (ولسوف يعطيك ربك فترضى) أخرجه العسكري في المواعظ وابن مردويه وابن النجار.
قيل في الآية غير ذلك، والظاهر أنه سبحانه يعطيه ما يرضى به من خيري الدنيا والآخرة، ومن أهم ذلك عنده وأقدمه قبول شفاعته لأمته.(15/279)
أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى (6) وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (7) وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى (8) فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ (10) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11)(15/280)
أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى (6)
(ألم يجدك يتيماً) هذا شروع في تعداد ما أفاضه الله سبحانه عليه من النعم الثلاث والقصد من تعداد هذه النعم تقوية قلبه صلى الله عليه وآله وسلم بخلاف قوله تعالى (أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا) لأنه في معرض الذم.
ثم أمره بعد ذلك أن يذكر نعم ربه كأنه قال له فالطريق في حقك أن تفعل مع عبيدي مثل ما فعلت في حقك، والهمزة لإنكار النفي وتقرير المنفى على أبلغ وجه فكأنه قال قد وجدك يتيماً والوجود بمعنى العلم، وقيل بمعنى المصادفة، والمعنى وجدك يتيماً لا أب لك قبل ولادتك أي بعد حمله بشهرين وهو الأرجح، وقيل غير ذلك، والتفصيل في المواهب وشرحه.
وكانت وفاة أبيه بالمدينة، ودفن في دار التابعة وقيل بالأبواء من أعمال الفرع، وتوفيت أمه وهو ابن أربع أو خمس أو ست أو سبع أو ثمان أو تسع أو اثنتي عشرة سنة وشهر وعشر أيام، وكانت وفاتها بالأبواء، وقيل بالحجون، ومات جده وهو صلى الله عليه وآله وسلم ابن ثمان.
(فآوى) أي جعل لك مأوى تأوي إليه، قرأ الجمهور فآوى بالألف بعد الهمزة رباعياً من آواه يؤويه، وقرىء ثلاثياً وهو إما بمعنى الرباعي أو هو من أوى له إذا رحمه، وعن مجاهد قال معنى الآية ألم يجدك واحداً في شرفك لا نظير لك فأواك الله بأصحاب يحفظونك ويحوطونك، فجعل يتيماً من قولهم درة يتيمة، وهو بعيد جداً.(15/280)
وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (7)
(ووجدك ضالاً فهدى) معطوف على المضارع المنفي وقيل على ما يقتضيه الكلام الذي قبله كما ذكرنا أي قد وجدك يتيماً الخ والضلال هنا بمعنى الغفلة كما في قوله (لا يضل ربي ولا ينسى) وكما في قوله (وإن كنت من(15/280)
قبله لمن الغافلين) والمعنى أنه وجدك غافلاً عما يراد بك من أمر النبوة، واختار هذا الزجاج وقيل معنى ضالاً لم تكن تدري القرآن ولا الشرائع فهداك لذلك، يعنى ليس المراد به الإنحراف عن الحق، فهذا كقوله تعالى (ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان) تأمل.
وقال الكلبي والسدي والفراء وجدك في قوم ضلال فهداهم الله بك، أو فهداك إلى إرشادهم أو ضالاً عما أنت عليه الآن من الشريعة فهداك الله تعالى إليها، وقيل وجدك ضالاً عن الهجرة فهداك إليها، وقيل ناسياً شأن الاستثناء حين سئلت عن أصحاب الكهف وذي القرنين والروح فذكرك كقوله تعالى (أن تضل إحداهما) وقيل وجدك طالباً للقبلة فهداك إليها كما في قوله (قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها) ويكون الضلال بمعنى الطلب لأن الضال طالب.
وقيل وجدك ضائعاً في قومك فهداك إليهم ويكون الضلال بمعنى الضياع، وقيل وجدك محباً للهداية فهداك إليها، ويكون الضلال بمعنى المحبة، كقوله تعالى (إنك لفي ضلالك القديم) وقيل وجدك ضالاً في شعاب مكة فهداك أي ردك إلى جدك عبد المطلب.
وعن ابن عباس قال وجدك بين الضالين فاستنقذك من ضلالتهم، وقيل ضل في طريق الشام حين خرج به أبو طالب فرده إلى القافلة.
ولا يجوز أن يفهم به عدول عن حق ووقوع في باطل، فقد كان صلى الله عليه وآله وسلم من أول حاله إلى نزول الوحي عليه معصوماً من عبادة الأوثان، وقاذورات أهل الفسق والعصيان.
وقيل ضالاً نفسك لا تدري من أنت فعرفك نفسك وحالك، وقيل ضالاً ليلة المعراج حين انصرف عنك جبريل وأنت لا تعرف الطريق فهداك إلى ساق العرش، وقيل معناه لا أحد على دينك بل أنت وحيد ليس معك أحد فهديت بك الخلق، وقيل الخطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم والمراد غيره(15/281)
وفيه بعد، وأيضاًً يأباه النظم الكريم.
وعندي أن الضلال والهدى عامان في هذ الآية فيشملان كل نوع من أنواع الضلالة والهداية بيد الكفر والشرك لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.(15/282)
وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى (8)
(ووجدك عائلاً فأغنى) أي وجدك فقيراً لا مال لك فأغناك، يقال عال الرجل يعيل عيلة إذا افتقر، قال الكلبي فأغنى أي رضاك بما أعطاك من الرزق واختار هذا الفراء قال: لأنه لم يكن غنياً من كثرة، ولكن الله سبحانه رضاه بما آتاه وذلك حقيقة الغنى، وقيل بإعانة الأنصار حين الهجرة وقيل فأغنى بما فتح لك من الفتوح والغنائم، وفيه نظر، لأن السورة مكية وقيل بمال خديجة بنت خويلد وتربية أبي طالب أولاً وبمال أبي بكر ثانياً، وقيل وجدك فقيراً من الحجج والبراهين فأغناك بها وفيه بعد.
قرأ الجمهور عائلاً وقرىء عيلاً بزنة سيد، عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال " سألت ربي مسألة وددت أني لم أكن سألته قلت قد كانت قبلي أنبياء منهم من سخرت له الريح ومنهم من كان يحيي الموتى فقال تعالى يا محمد ألم أجدك يتيماً فآويتك ألم أجدك ضالاً فهديتك ألم أجدك عائلاً فأغنيتك ألم أشرح لك صدرك ألم أضع عنك وزرك ألم أرفع لك ذكرك قلت بلى يا رب " أخرجه ابن أبي حاتم والطبراني والحاكم وصححه وابن مردويه البيهقي وأبو نعيم وابن عساكر.
وأخرج ابن مردويه عنه قال " لما نزلت والضحى على رسول صلى الله عليه وآله وسلم قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يمن عليّ ربي وأهل أن يمن ربي ".
ثم أوصاه سبحانه باليتامى والفقراء فقال(15/282)
فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ (9)
(فأما اليتيم فلا تقهر) أي لا تقهره بوجه من وجوه القهر كائناً ما كان قال مجاهد لا تحتقر اليتيم فقد كنت يتيماً قال الأخفش لا تسلط عليه بالظلم ادفع إليه حقه واذكر يتمك، قال(15/282)
الفراء والزجاج لا تقهره على ماله فتذهب بحقه لضعفه وكذا كانت العرب تفعل في حق اليتامى تأخذ أموالهم وتظلمهم حقوقهم، فكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يحسن إلى اليتيم ويبره ويوصي باليتامى.
قرأ الجمهور فلا تقهر بالقاف وقرىء بالكاف، والعرب تعاقب بين القاف والكاف، قال النحاس إنما يقال كهره إذا اشتد عليه وغلظ، وقيل القهر الغلبة والكهر الزجر، قال أبو حيان هي لغة يعني قراءة الكاف مثل قراءة الجمهور.
عن سهل بن سعد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا وأشار بالسبابة وفرج بينهما " أخرجه البخاري وفي الباب أحاديث (1).
واليتيم منصوب بتقهر، وبه استدل ابن مالك على أنه لا يلزم من تقديم المعمول تقديم العامل ألا ترى أن اليتيم منصوب بالمجزوم، وقد تقدم على الجازم، ولو قدمت تقهر على " لا " امتنع لأن المجزوم لا يتقدم على جازمه كالمجرور لا يتقدم على جاره قاله السمين.
_________
(1) صحيح البخاري.(15/283)
وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ (10)
(وأما السائل فلا تنهر) يقال نهره وانتهره إذا استقبله بكلام يزجره فهو نهى عن زجر السائل والإغلاظ له، ولكن يبذل اليسير القليل، أو يرده بالجميل.
قال الواحدي قال المفسرون يريد السائل على الباب، يقول لا تنهره إذا سألك فقد كنت فقيراً، فإما أن تطعمه وإما أن ترده رداً لينا قال قتادة معناه رد السائل برحمة ولين.
وقيل المراد بالسائل طالب العلم والذي يسأل عن الدين فلا تنهره بالغلظة والجفوة وأجبه برفق ولين، كذا قال سفيان، والسائل منصوب بتنهره(15/283)
والتقدير مهما يكن من شيء فلا تقهر اليتيم ولا تنهر السائل، وهذه النواهي لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هي نواه له ولأمته صلى الله عليه وآله وسلم لأنهم أسوته، فكل فرد من أفراد هذه الأمة منهى بكل فرد من أفراد هذه النواهي.(15/284)
وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11)
(وأما بنعمة ربك فحدث) أمره سبحانه بالتحدث بنعم الله عليه وإظهارها للناس وإشهارها بينهم، والظاهر النعمة على العموم من غير تخصيص بفرد من أفرادها أو نوع من أنواعها، وقال مجاهد والكلبي المراد بالنعمة هنا القرآن، قال الكلبي وكان القرآن أعظم ما أنعم الله به عليه فأمره أن يقرأه، قال الفراء وكان يقرأه ويحدث به، وقال مجاهد أيضاًً المراد بالنعمة النبوة التي أعطاه الله، واختار هذا الزجاج فقال أي بلغ ما أرسلت به وحدث بالنبوة التي أعطاك الله وهي أجل النعم، وقال مقاتل يعني أشكر ما ذكر من النعمة عليك في هذه السورة من الهدى بعد الضلالة وجبر اليتيم والإغناء بعد العيلة، فاشكر هذه النعم، والتحدث بنعمة الله شكر.
وهذا الأمر له صلى الله عليه وآله وسلم هو أمر له ولأمته لأنهم اسوته في كل ما يأتي ويذر، قال الحسن بن علي في الآية ما عملت من الخير وعنه قال إذا أصبت خيراً فحدث إخوانك، وعن النعمان بن بشير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر " من لم يشكر القليل لم يشكر الكثير، ومن لم يشكر الناس لم يشكر الله، والتحدث بنعمة الله شكر، وتركه كفر، والجماعة رحمة " أخرجه عبد الله بن أحمد في زوائد المسند والبيهقي في الشعب والخطيب في المتفق، قال السيوطي بسند ضعيف.
وعن جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " من أبلى بلاء فذكره فقد شكره وإن كتمه فقد كفره " أخرجه أبو داود والترمذي وحسنه وأبو يعلى وابن حبان والبيهقي والضياء.
وأخرج البخاري في الأدب وأبو داود والضياء عنه قال: قال رسول الله(15/284)
صلى الله عليه وآله وسلم " من أعطى عطاء فوجد فليجز به فإن لم يجد فليثن به، فمن أثنى به فقد شكره ومن كتمه فقد كفره، ومن تحلى بما لم يعط فإنه كلابس ثوبي زور ".
وعن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من أوليَ معروفاً فليكافىء به فإن لم يستطع فليذكره فإن من ذكره فقد شكره " أخرجه أحمد والطبراني في الأوسط والبيهقي.
قال الكرخي والجار والمجرور متعلق بحدث والفاء غير مانعة من ذلك لأنها كالزائدة والتحدث بها نشرها بالشكر والثناء عليه تعالى.
وقوله تعالى (فأما اليتيم فلا تقهر) مقابل لقوله (ألم يجدك يتيماً فآوى) وقوله (وأما السائل) الخ مقابل لقوله (ووجدك عائلاً فأغنى) وأما قوله (وأما بنعمة ربك) الخ فجيء به على العموم.
وفي حكمة تأخير حق الله تعالى عن حق اليتيم والسائل وجوه.
أحدهما أن الله غني وهما محتاجان، وتقديم المحتاج أولى.
وثانيها أنه وضع في حظهما الفعل ورضى لنفسه بالقول.
وثالثها أن المقصود من جميع الطاعات استغراق القلب في ذكر الله فختمت به، وأوثر فحدث على فخبر ليكون عنده حديثاً لا ينساه.(15/285)
سورة ألم نشرح
هي ثمان آيات وهي مكية بلا خلاف، عن عائشة قالت نزلت سورة ألم نشرح بمكة ومثله عن ابن عباس وزاد بعد الضحى.(15/287)
بسم الله الرحمن الرحيم
أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ (2) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (3) وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ (4) فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (6) فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ (8)(15/289)
أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1)
(ألم نشرح لك صدرك) معنى شرح الصدر فتحه بإذهاب ما يصدر عن الإدراك، والإستفهام التقريري إذا دخل على النفي قرره فصار المعنى قد شرحنا لك صدرك حتى وسع مناجاة الحق، ودعوة الخلق، فكان غائباً عنهم بروحه، وحاضراً معهم بجسده الشريف.
والمعنى ألم نفسحه بما أودعنا فيه من الحكم وأزلنا عنه ضيق الجهل، أو بما يسرنا لك من تلقي الوحي بعد ما كان يشق عليك.
قال الراغب أصل الشرح بسط اللحم ونحوه يقال شرحت اللحم وشرحته، ومنه شرح الصدر وهو بسطه بنور إلهي وسكينته من جهة الله وروح منه وإنما خص الصدر لأنه محل أحوال النفس من العلوم والإدراكات، وقيل لأن الصدر محل الوسوسة كما قال تعالى (يوسوس في صدور الناس) فإزالة تلك الوسوسة وإبدالها بدواعي الخير هي الشرح.
والقلب محل العقل والمعرفة وهو الذي يقصده الشيطان فيجىء أولاً إلى الصدر الذي هو حصن القلب فإذا وجد مسلكاً نزل فيه هو وجنده وبث فيه الغموم والهموم والحرص، فيضيق القلب حينئذ ولا يجد للطاعة لذة ولا للإسلام حلاوة، وإذا لم يجد له مسلكاً وطرد حصل الأمن وانشرح الصدر، وتيسر القيام بأداء العبودية.(15/289)
ولم يقل نشرح صدرك تنبيهاً على أن منافع الرسالة عائدة عليه صلى الله عليه وآله وسلم كأنه يقول إنما شرحنا صدرك لأجلك لا لأجلي، والمراد بالامتنان عليه صلى الله عليه وآله وسلم بفتح صدره وتوسيعه حتى قام بما قام به من الدعوة وقدر على ما قدر عليه من حمل أعباء وحفظ الوحي. وقد مضى القول في هذا عند تفسير قوله (أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه) قال ابن عباس في الآية شرح الله صدره للإسلام.
قرأ الجمهور نشرح بسكون الحاء بالجزم، وبفتحها قرأ أبو جعفر المنصور العباسي قال الزمخشري قالوا: لعله بين الحاء وأشبعها في مخرجها فظن السامع أنه فتحها.
وقال ابن عطية أن الأصل ألم نشرحن بالنون الخفيفة ثم إبدالها ألفاً ثم حذفها تخفيفاً، وهذا مبني على جواز توكيد المجزوم بلم وهو قليل جداً، وخرجها بعضهم على لغة بعض العرب الذين ينصبون بلم ويجزمون بلن، وهذه ما أظنها تصح. وإن صحت فليست من اللغات المعتبرة فإنها جاءت بعكس ما عليه لغة العرب بأسرها.
وعلى كل حال فقراءة هذ الرجل مع شدة جوره ومزيد ظلمه وكثرة جبروته وقلة علمه ليست بحقيقة بالاشتغال بها.(15/290)
وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ (2)
(ووضعنا عنك وزرك) معطوف على معنى ما تقدم لا على لفظه أي قد شرحنا لك صدرك ووضعنا الخ والوزر الذنب أي وضعنا عنك ما كنت فيه من أمر الجاهلية، قال الحسن وقتادة والضحاك ومقاتل المعنى حططنا عنك الذي سلف منك في الجاهلية، وهذا كقوله (ليغفر الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر) وعنك متعلق بوضعنا وتقديمه على المفعول الصريح مع أن حقه التأخر عنه لتعجيل المسرة والتشويق إلى المؤخر.
ولما أن في وصفه نوع طول فتأخير الجار والمجرور عنه مخل بتجاوب أطراف النظم الكريم.(15/290)
ثم وصف هذا الوزر فقال(15/291)
الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (3)
(الذي أنقض ظهرك) قال المفسرون: أي ثقل ظهرك، قال الزجاج: أثقله حتى سمع له نقيض أي صوت. وهذا مثل معناه أنه لو كان حملاً يحمل لسمع نقيض ظهره، وأهل اللغة يقولون، أنقض الحمل ظهر الناقة إذا سمع له صرير من شدة الحمل، قال قتادة: كان للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ذنوب قد أثقلته فغفرها الله له.
وقوم يذهبون إلى أن هذا تخفيف أعباء النبوة التي تثقل الظهر من القيام بأمرها سهل الله ذلك عليه حتى تيسرت له، وكذا قال أبو عبيدة وغيره، وقرأ ابن مسعود (وحللنا عنك وقرك) وقيل معناه عصمناك من الوزر الذي ينقض ظهرك ولو كان ذلك الوزر حاصلاً، قاله الرازي وفيه استعارة تمثيلية حيث سمى العصمة وضعاً مجازاً.
ثم ذكر سبحانه منته وكرامته عليه فقال(15/291)
وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ (4)
(ورفعنا لك ذكرك) وزيادة لك في الموضعين وعنك في موضع تفيد إبهام المشروح والموضوع والمرفوع ثم توضيحه. والإيضاح بعد الإبهام أوقع في الذهن، قال الحسن وذلك أن الله لا يذكر في موضع إلا ذكر صلى الله عليه وسلم معه.
قال قتادة: رفع الله ذكره في الدنيا والآخرة فليس خطيب ولا متشهد؛ ولا صاحب صلاة إلا ينادي فيقول أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن محمداً رسول الله، قال مجاهد يعني بالتأذين، وعبارة الخطيب تذكر معي في الأذان والإقامة والتشهد ويوم الجمعة على المنابر ويوم الفطر، ويوم الأضحى، ويوم عرفة وأيام التشريق وعند الجمار وعلى الصفا والمروة، وفي خطبة النكاح ومشارق الأرض ومغاربها، ولو أن رجلاً عبد الله وصدق بالجنة والنار وكل شيء ولم يشهد أن محمداً رسول الله لم ينتفع بشيء وكان كافراً انتهى.
وقيل المعنى ذكرناك في الكتب المنزلة على الأنبياء قبلك وأمرناهم بالبشارة بك، ولا دين إلا ودينك يظهر عليه، وقيل رفعنا ذكرك عند الملائكة في السماء وعند المؤمنين في الأرض، ونرفع ذكرك في الآخرة بما نعطيك من المقام(15/291)
المحمود وكرائم الدرجات وجلائل المراتب، قال الضحاك لا تقبل صلاة إلا به ولا تجوز خطبة إلا به.
وقيل رفع ذكره بأخذ ميثاقه على النبيين وإلزامهم الإيمان به والإقرار بفضله.
والظاهر أن هذا الرفع لذكره الذي امتن الله به عليه يتناول جميع هذه الأمور، فكل واحد منها من أسباب رفع الذكر، وكذلك أمره بالصلاة والسلام عليه وإخباره صلى الله عليه وآله وسلم عن الله عز وجل أن من صلى عليه واحدة صلى الله عليه بها عشراً.
وكم من موضع في القرآن يذكر فيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع الله سبحانه من ذلك قوله تعالى (والله ورسوله أحق أن يرضوه) وأمر الله بطاعته صلى الله عليه وآله وسلم كقوله (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول) وقوله (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا عنه) وقوله: (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله) وغير ذلك.
وبالجملة فقد ملأ ذكره الجميل السموات والأرضين، وجعل الله له من لسان الصدق والذكر الحسن والثناء الصالح ما لم يجعله لأحد من عباده، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله عدد ما صلى عليه المصلون بكل لسان في كل زمان.
وما أحسن قول حسان رضي الله تعالى عنه:
أغر عليه للنبوة خاتم ... من الله مشهور يلوح ويشهد
وضم الإله اسم النبي مع اسمه ... إذا قال في الخمس المؤذن أشهد
وشق له من اسمه ليجله ... فذو العرش محمود وهذا محمد
عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال " أتاني جبريل فقال إن ربك يقول تدري كيف رفعت ذكرك. قلت الله ورسوله(15/292)
أعلم، قال إذا ذكرت ذكرت معي " (1) أخرجه أبو يعلى وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن حبان وابن مردويه وأبو نعيم في الدلائل وقد روي بطرق.
وقال ابن عباس في الآية لا يذكر الله إلا ذكر معه فهو الذي يطوى به الذكر الجميل ويبدأ.
_________
(1) سقطت هذه الكلمة من الأصل، واستدركناها من الطبري وغيره.(15/293)
فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5)
(فإن مع العسر يسراً) أي أن مع الضيقة سعة، ومع الشدة رخاء ومع الكرب فرجاً، وفي هذا وعد منه سبحانه بأن كل عسير يتيسر، وكل شديد يهون، وكل صعب يلين، ومع بمعنى (بعد)، وفي التعبير بها إشعار بغاية سرعة مجيء اليسر كأنه مقارن.
عن أنس قال كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم جالساً وحياله جحر فقال: " لو دخل العسر هذا الجحر لجاء اليسر حتى يدخل عليه فيخرجه فأنزل الله(15/293)
إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (6)
(إن مع العسر يسراً) الخ ولفظ الطبراني: وتلا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا) " وأخرج الطبراني وابن مردويه عنه مرفوعاً نحوه. قال السيوطي وسنده ضعيف.
وعن ابن مسعود مرفوعاً " لو كان العسر في جحر لتبعه اليسر حتى يدخل فيه فيخرجه ولن يغلب عسر يسرين إن الله يقول إن مع العسر يسراً " (1) الخ أخرجه عبد الرزاق وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن أبي الدنيا في الصبر، وابن المنذر والبيهقي في الشعب، قال البزار لا نعلم رواه عن أنس
_________
(1) رواه ابن جرير الطبري 30/ 235 من رواية يونس عن ابن وهب عن عمرو بن الحارث عن دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري، ودراج، وإن كان صدوقاً في حديثه فإنه في روايته عن أبي الهيثم ضعيف، كما قال الحافظ ابن حجر في " التقريب " ومع ذلك فقد صححه ابن حبان. وقال ابن كثير: وكذا روى الحديث ابن أبي حاتم عن يونس عن عبد الأعلى به، ورواه أبو يعلى من طريق ابن لهيعة عن دراج. وأورده السيوطي في " الدر " 6/ 364 وزاد نسبته لابن المنذر، وابن مردويه، وأبي نعيم في " الدلائل " عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.(15/293)
إلا عائذ بن شريح قال فيه أبو حاتم الرازي في حديثه ضعف، ولكن رواه شعبة عن معاوية بن قرة عن رجل عن ابن مسعود.
ثم زاد سبحانه هذا الوعد تقريراً وتوكيداً فقال مكرراً له بلفظ (إن مع العسر يسراً) أي أن مع ذلك العسر المذكور سابقاً يسراً آخر لما تقرر من أنه إذا أعيد المعرف يكون الثاني عين الأول سواء كان المراد به الجنس أو العهد بخلاف المنكر إذا أعيد فإنه يراد بالثاني فرد مغاير لما أريد بالفرد الأول في الغالب، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في معنى هذه الآية أنه لن يغلب عسر يسرين.
قال الواحدي: وهذا قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم والصحابة والمفسرين على أن العسر واحد واليسر إثنان قال الزجاج ذكر العسر مع الألف واللام، ثم ثنى ذكره فصار المعنى أن مع العسر يسرين، قيل والتنكير في اليسر للتفخيم والتعظيم وهو في مصحف ابن مسعود غير مكرر.
قرأ الجمهور بسكون السين في العسر واليسر في الموضعين، وقرىء بضمها في الجميع وفيه خلاف هل هو أصل أو مثقل من المسكن.
وعن الحسن قال: " خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً فرحاً مسروراً وهو يضحك ويقول لن يغلب عسر يسرين إن مع العسر يسراً إن مع العسر يسراً " أخرجه عبد الرزاق وابن جرير والحاكم والبيهقي، وهذا مرسل وروي نحوه مرفوعاً مرسلاً عن قتادة.
ولما عدد سبحانه عليه - صلى الله عليه وسلم - نعمه السالفة ووعده بالنعم الآتية بعثه على الشكر والاجتهاد في العبادة فقال(15/294)
فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7)
(فإذا فرغت فانصب) أي إذا فرغت من صلاتك أو من التبليغ أو من الغزو فاجتهد في الدعاء واطلب من الله حاجتك، أو فانصب في العبادة أو اتعب في الدعاء قبل السلام وبعده، والنصب التعب يقال نصب ينصب نصباً أي تعب.
قال قتادة والضحاك ومقاتل والكلبي: إذا فرغت من الصلاة المكتوبة(15/294)
فانصب إلى ربك في الدعاء وارغب إليه في المسألة يعطك، وكذا قال مجاهد.
قال الشعبي إذا فرغت من التشهد فادع لدنياك وآخرتك، وكذا قال الزهري وقال الكلبي أيضاًً إذا فرغت من تبليغ الرسالة فانصب أي (استغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات).
وقال الحسن وقتادة وزيد بن أسلم: إذا فرغت من جهاد عدوك فانصب لعبادة ربك، وفيه نظر، لأن السورة مكية والأمر بالجهاد إنما كان بعد الهجرة فلعله تفسير الذاهب إلى أن السورة مدنية، قال مجاهد أيضاًً: إذا فرغت من دنياك فانصب في صلاتك.
وقال ابن عباس: إذا فرغت من الصلاة فانصب في الدعاء واسأل الله وارغب إليه، وعنه قال: قال الله لرسوله صلى الله عليه وآله وسلم إذا فرغت من الصلاة وتشهدت فانصب إلى ربك واسأله حاجتك.
وعن ابن مسعود قال: فانصب إلى الدعاء وإلى ربك فارغب في المسألة، وعنه قال إذا فرغت من الفرائض فانصب في قيام الليل، قال عمر ابن الخطاب: إني أكره أن أرى أحدكم فارغاً لا في عمل الدنيا ولا في عمل الآخرة.(15/295)
وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ (8)
(وإلى ربك) المحسن إليك بفضائل النعم خصوصاً بما ذكر في هاتين السورتين (فارغب) أي اجعل رغبتك إليه خصوصاً ولا تسأل إلا فضله متوكلاً عليه، وقيل تضرع إليه، قال الزجاج أي اجعل رغبتك إلى الله وحده وقال عطاء يريد أنه يضرع إليه راهباً من النار، راغباً في الجنة.
والمعنى أنه يرغب إليه سبحانه لا إلى غيره كائناً من كان فلا يطلب حاجاته إلا منه، ولا يعول في جميع أموره إلا عليه، قرأ الجمهور فارغب وقرأ زيد بن علي وابن أبي عبلة فرغب بتشديد الغين أي فرغب الناس إلى الله وشوقهم إلى ما عنده من الخير.(15/295)
سورة التين
هي ثمان آيات وهي مكية في قول الجمهور وروى القرطبي عن ابن عباس أنها مدنية ويخالف هذه الرواية ما أخرجه ابن الضريس والنحاس وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس قال أنزلت سورة التين بمكة، وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير مثله.
وأخرج البخاري ومسلم وأهل السنن وغيرهم عن البراء بن عازب قال " كان النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في سفر فصلى العشاء فقرأ في إحدى الركعتين بالتين والزيتون فما سمعت أحداً أحسن صوتاً ولا قراءة منه ".
وعنه قال: " صليت مع رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - المغرب فقرأ بالتين " أخرجه الخطيب وعن عبد الله بن يزيد نحوه عند الطبراني وابن شيبة.
وعن زرعة بن خليفة قال: " أتيت النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - من اليمامة فعرض علينا الإسلام فأسلمنا فلما صلينا الغداة قرأ بالتين والزيتون وإنا أنزلناه في ليلة القدر " وأخرجه ابن قانع وابن الساكن والشيرازي في الألقاب.(15/297)
بسم الله الرحمن الرحيم
وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1) وَطُورِ سِينِينَ (2) وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (5) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (6) فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (7) أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ (8)(15/299)
وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1)
(والتين) قال أكثر المفسرين هو التين الذي يأكله الناس، وإنما أقسم بالتين لأنه فاكهة مخلصة من شوائب التنغيص، وفيها أعظم عبرة لدلالتها على من هيأها لذلك وجعلها على مقدار اللقمة.
قال كثير من أهل الطب: إن التين أنفع الفواكه للبدن وأكثرها غذاء، وذكروا له فوائد كما في كتب المفردات والمركبات وهو غذاء ودواء.
أما كونه غذاء فالأطباء زعموا أنه طعام لطيف سريع الهضم لا يمكث في المعدة يلين الطبع ويخرج بطريق الرشح، ويقلل البلغم ويطهر الكليتين ويزيل ما في المثانة من الرمل، ويسمن البدن، ويفتح مسام الكبد وسدده والطحال ويقطع البواسير، ويزيل نكهة الفم، ويطول الشعر، وهو أمان من الفالج.
وأما كونه دواء فلأنه سبب في إخراج فضلات البدن وهو مأكول الظاهر والباطن دون غيره كالجوز والتمر.
والتين في النوم رجل غير جبار، ومن نالها في المنام نال مالاً ومن أكلها مناماً رزقه الله أولاداً، وتستر آدم بورق التين حين فارق الجنة، ويشبه فواكه الجنة لأنه بلا عجم وفاكهة طيبة لا فضل له ينفع من النقرس.
وقال الضحاك: التين المسجد الحرام، وقيل: مسجد أصحاب الكهف، وقال ابن زيد: مسجد دمشق، وقال قتادة التين الجبل الذي عليه(15/299)
دمشق، وقال عكرمة وكعب الأحبار: التين دمشق، وعن ابن عباس: قال التين بلاد الشام، وفي سنده مجهول وعنه قال مسجد نوح الذي بني على الجودي، وعنه قال الفاكهة التي يأكلها الناس.
(والزيتون) وهو الذي يعصرون منه الزيت الذي هو إدام غالب البلدان ودهنهم ويدخل في كثير من الأدوية، وقال الضحاك المسجد الأقصى، وقال ابن زيد مسجد بيت المقدس، وقال قتادة الجبل الذي عليه بيت المقدس، وقال عكرمة وكعب الأحبار بيت المقدس، وعن ابن عباس قال بلاد فلسطين وفي سنده مجهول، وقال أيضاًً بيت المقدس.
وليت شعري ما الحامل لهؤلاء الأئمة على العدول عن المعنى الحقيقي في اللغة العربية والعدول إلى هذه التفسيرات البعيدة عن المعنى، المبنية على خيالات لا ترجع إلى عقل ونقل، وأعجب من هذا اختيار ابن جرير للآخر منها مع طول باعه في علم الرواية والدراية، قال الفراء؛ سمعت رجلاً يقول التين جبال حلوان إلى همدان، والزيتون جبال الشام.
قلت هب إنك سمعت هذا الرجل فكان ماذا، فليس بمثل هذا تثبت اللغة، ولا هو نقل عن الشارع، وقال محمد بن كعب الزيتون مسجد إيليا، وقيل إنه على حذف مضاف أي ومنابت التين والزيتون، قال النحاس لا دليل على هذا من ظاهر التنزيل ولا من قول من لا يجوز خلافه.
قال الرازي أما الزيتون فهو فاكهة من وجه ودواء من وجه، ويستصبح به، ومن رأى ورق الزيتون في المنام استمسك بالعروة الوثقى.(15/300)
وَطُورِ سِينِينَ (2)
(وطور سينين) وهو الجبل الذي كلم الله عليه موسى عليه السلام اسمه الطور، ومعنى سينين المبارك الحسن بلغة الحبشة قاله قتادة، وقال مجاهد هو المبارك بالسريانية وقال مجاهد والكلبي سينين كل جبل فيه شجر مثمر فهو سينين وسينا بلغة النبط، قال الأخفش طور جبل وسينين شجر، واحدته سينة.(15/300)
قال أبو علي الفارسي سينين فعليل فكررت اللام التي هي نون فيه ولم ينصرف سينين كما لم ينصرف سينا لأنه جعل اسماً للبقعة.
وإنما أقسم بهذا الجبل لأنه بالشام وهي الأرض المقدسة كما في قوله (إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله) وأعظم بركة حلت به ووقعت عليه تكليم الله لموسى عليه السلام، قرأ الجمهور سينين بكسر السين وقرىء بفتحها وهي لغة بكر وتميم، وقرىء سيناء بالكسر والمد، وهذه لغات اختلفت في هذا الإسم السرياني على عادة العرب في تلاعبها بالأسماء العجمية.(15/301)
وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (3)
(وهذا البلد الأمين) يعني مكة سماه أميناً لأنه آمن كما قال الله تعالى (إنا جعلنا حرماً آمناً) يقال أمن الرجل أمانة فهو أمين، قال الفراء وغيره الأمين بمعنى الآمن أو فعيل بمعنى مفعول من أمنه لأنه مأمون الغوائل، قال ابن عباس أي مكة يعنى لأمن الناس فيها جاهلية وإسلاماً (1).
_________
(1) قال ابن كثير: وقال بعض الأئمة: هذه محال ثلاثة، بعث الله في كل واحد منها نبيا مرسلاً من أولي العزم أصحاب الشرائع الكبار، فالأول محلة التين والزيتون، وهي بيت الممَدس التي بعث الله فيها عيسى بن مريم عليه السلام، والثاني: طور سينين، وهو طور سيناء الذي كلم الله عليه موسى بن عمران، والثالث: مكة، وهو البلد الأمين الذي من دخله كان آمناً، وهو الذي أرسل فيه محمداً - صلى الله عليه وسلم -، قالوا: وفي آخر التوراة ذكر هذه الأماكن الثلاثة: جاء الله في طور سيناء -يعني الذي كلم الله عليه موسى بن عمران- وأشرق من ساعير -يعني جبل بيت المقدس الذي بعث الله منه عيسى،- واستعلن من جبال فاران -يعني جبال مكة التي أرسل الله منها محمداً - صلى الله عليه وسلم -، فذكرهم مخبراً عنهم على الترتيب الوجودي بحسب ترتيبهم في الزمان، ولهذا أقسم بالأشرف، ثم الأشرف منه، ثم الأشرف منهما.(15/301)
لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4)
(لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم) هذا جواب القسم أي خلقنا جنس الإنسان كائناً في أحسن تقويم وتعديل لصورته، وقال ابن عباس في أحسن خلق.
قال الواحدي قال المفسرون: إن الله خلق كل ذي روح مكباً على وجهه إلا الإنسان خلقه مديد القامة يتناول مأكوله بيده، مزيناً بالعلم والفهم(15/301)
والنطق والعقل، والتمييز والأدب، فهو أحسن الخلق بحسب الظاهر والباطن، ومعنى التقويم التعديل يقال قومته فاستقام والمراد القوام لأن التقويم فعل الباري تعالى.
قال القرطبي هو اعتداله واستواء شأنه، كذا قال عامة المفسرين، قال ابن العربي: ليس لله تعالى خلق أحسن من الإنسان فإن الله خلقه حياً عالماً قادراً مريداً متكلماً سميعاً بصيراً مدبراً حكيماً، وهذه صفات الرب سبحانه وعليها حمل بعض العلماء قوله صلى الله عليه وآله وسلم " إن الله خلق آدم على صورته " يعني على صفاته التي تقدم ذكرها.
قلت وينبغي أن يضم إلى كلامه هذا قوله سبحانه (ليس كمثله شيء) وقوله (ولا يحيطون به علماً).
ومن أراد أن يقف على حقيقة ما اشتمل عليه الإنسان من بديع الخلق وعجيب الصنع فلينظر في كتاب العبر والإعتبار للجاحظ، وفي الكتاب الذي عنده النيسابوري على قوله (وفي أنفسكم أفلا تبصرون) وهو في مجلدين ضخمين.
روي أن رجلاً قال لامرأته إن لم تكوني أحسن من القمر فأنت طالق فأفتى بعض أهل العلم بأنها صارت مطلقة، وقال الشافعي لم تطلق لأنها من جنس الإنسان، والله تعالى يقول (لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم) فلو كان القمر أحسن صورة من الإنسان لم يصفه الله سبحانه بأحسن تقويم، ولنعم ما قيل:
ما أنت مادحها يا من يشبهها ... بالشمس والبدر لا بل أنت هاجيها (1)
من أين للشمس خال فوق وجنتها ... ومضحك من نظام الدر في فيها
من أين للبدر أجفان مكحلة ... بالسحر والغنج تجري في حواشيها
_________
(1) البيت من شواهد الفراء (371)، وهو في الطبري 30/ 241، والقرطبي 20/ 113.(15/302)
ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (5)
(ثم رددناه أسفل سافلين) أي رددناه إلى أرذل العمر، قاله ابن عباس وهو الهرم والضعف بعد الشباب والقوة حتى يصير كالصبي فيخرف وينقص عقله، كذا قال جماعة من المفسرين، قال الواحدي: والسافلون هم الضعفاء والزمناء والأطفال، والشيخ الكبير أسفل هؤلاء جميعاً لأنه لا يستطيع حيلة ولا يهتدي سبيلاً لضعف بدنه وسمعه وبصره وعقله، قاله الخازن.
وقال مجاهد وأبو العالية والحسن: المعنى ثم رددنا الكافر إلى النار، وذلك أن النار درجات بعضها أسفل من بعض فالكافر يرد إلى أسفل الدرجات السافلة، ولا ينافي هذا قوله تعالى (إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار) فلا مانع من كون الكفار والمنافقين مجتمعين في ذلك الدرك الأسفل.
وقوله أسفل سافلين إما حال من المفعول أي رددناه حال كونه أسفل سافلين أو صفة لمقدر محذوف أي مكاناً أسفل سافلين.(15/303)
إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (6)
(إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات) هذا الاستثناء منقطع على القول الأول أي لكن الذين آمنوا الخ ووجهه أن الهرم والرد إلى أرذل العمر يصاب به المؤمن كما يصاب به الكافر فلا يكون لاستثناء المؤمنين على وجه الإتصال معنى، وعلى القول الثاني متصل من ضمير رددناه فإنه في معنى الجمع أي رددنا الإنسان أسفل سافلين من النار إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات.
وقال الشهاب الإستثناء منقطع لأنه لم يقصد إخراجهم من الحكم وهو مدار الاتصال والانقطاع كما صرح به في الأصول لا الخروج والدخول كما توهم، فلا يرد عليه أنه كيف يكون منقطعاً مع أنهم مردودون أيضاًً فهو للإستدراك لدفع ما يتوهم من أن التساوي في أرذل العمر يقتضي التساوي في غيره، ويكون (الذين) حينئذ مبتدأ والفاء داخلة في خبره لا للتفريع كما في الإتصال، وقيل المعنى رددناه إلى الضلال كما قال (إن الإنسان لفي خسر إلا(15/303)
الذين آمنوا وعملوا الصالحات) أي إلا هؤلاء فلا يردون إلى ذلك.
(فلهم أجر غير ممنون) أي غير مقطوع فلهم ثواب دائم غير منقطع على طاعاتهم. فهذه الجملة على القول الأول مبينة لكيفية حال المؤمنين، وعلى الثاني مقررة لا يفيده الإستثناء من خروج المؤمنين عن حكم الرد.
قال ابن عباس في الآية أجر غير منقوص، يقول فإذا بلغ المؤمن أرذل العمر وكان يعمل في شبابه عملاً صالحاً كتب له من الأجر مثل ما كان يعمل في صحته وشبابه ولم يضره ما عمل في كبره، ولم تكتب عليه الخطايا التي يعمل بعد ما يبلغ أرذل العمر، وعنه قال من قرأ القرآن لم يرد إلى أرذل العمر. وذلك قوله (ثم رددناه -إلى قوله- الصالحات) قال لا يكون حتى لا يعلم من بعد علم شيئاًً، وعنه قال يقول إلى الكبر وضعفه فإذا كبر وضعف عن العمل كتب له مثل أجر ما كان يعمل في شبيبته. وأخرج أحمد والبخاري وغيرهما عن أبي موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا مرض العبد أو سافر كتب الله له من الأجر مثل ما كان يعمل صحيحاً مقيماً ".(15/304)
فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (7)
(فما يكذبك بعد بالدين) الخطاب للإنسان الكافر والإستفهام للتقريع والتوبيخ ولإلزام الحجة أي إذا عرفت أيها الإنسان أن الله خلقك في أحسن تقويم وأنه يردك أسفل سافلين، فما يحملك على أن تكذب بالبعث والجزاء، وعليه ينبغي أن يذهب إلى الإلتفات من الغيبة إلى الخطاب لما جرى من قوله (ولقد خلقنا الإنسان) وعليه جرى في الكشاف.
وقيل الخطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم أي أي شيء يكذبك يا محمد بعد ظهور هذه الدلائل الناطقة فاستيقن مع ما جاءك من الله أنه أحكم الحاكمين، وإلى هذا ذهب القاضى وقدمه على القول الأول.
قال الفراء المعنى فمن يكذبك أيها الرسول بعد هذا البيان بالدين كأنه قال من يقدر على ذلك أي على تكذيبك بالثواب والعقاب بعد ما ظهر من(15/304)
قدرتنا على خلق الإنسان ما ظهر، واختار هذا ابن جرير، والدين الجزاء.(15/305)
أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ (8)
(أليس الله) أي أليس الذي فعل ما فعل مما ذكرنا (بأحكم الحاكمين) صنعاً وتدبيراً، وأقضى القاضين وأصحهم وأنقذهم حكماً وقضاء حتى تتوهم عدم الإعادة والجزاء، وفيه وعيد شديد للكفار، والمعنى اتقن الحاكمين في كل ما يخلق، وقيل أحكم الحاكمين قضاء وعدلاً، والاستفهام إذا دخل على النفي صار الكلام إيجاباً وتقريراً كما تقدم في (ألم نشرح).
وعن أبي هريرة مرفوعاً " من قرأ والتين والزيتون فقرأ أليس الله بأحكم الحاكمين فليقل: بلى وأنا على ذلك من الشاهدين " أخرجه الترمذي وابن مردويه.
وعن جابر مرفوعاً " إذا قرأت التين فقرأت أليس الله الخ فقل بلى " أخرجه ابن مردويه وعن ابن عباس " أنه كان إذا قرأ الآية قال: سبحانك اللهم فبلى " أخرجه ابن جرير وابن المنذر.(15/305)
سورة اقرأ
ويقال لها سورة العلق وسورة القلم، وهي تسع عشرة آية وقيل عشرون آية، وهي مكية بلا خلاف وهي أول ما نزل من القرآن، قاله ابن عباس وعن أبي موسى الأشعري قال هي أول سورة أنزلت على محمد - صلى الله عليه وسلم - وعن عائشة - رضي الله تعالى عنها - نحوه.
ويدل على هذا الحديث الطويل الثابت في البخاري ومسلم وغيرهما من حديثها وفيه: فجاءه الحق وهو في غار حراء فقال له الملك اقرأ. الحديث، وفي الباب أحاديث وآثار عن جماعة من الصحابة، وقد ذهب الجمهور إلى أن هذه السورة أول ما نزل من القرآن ثم بعده نون والقلم ثم المزمل ثم المدثر إلى آخر ما ذكره الخازن في أول تفسيره، فإنه استوفى الكلام على ترتيب السورة من جهة النزول بمكة ثم بالمدينة.
قال القاضي أبو بكر بن الطيب ترتيب السور على ما هي عليه اليوم في المصحف كان على وجه الاجتهاد من الصحابة، وذكر(15/307)
ذلك مكي في تفسير براءة، وذكر أن ترتيب الآيات ووضع البسملة في الأوائل هو من النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولما لم يؤمر بذلك في أول سورة براءة تركت بلا بسملة وهذا أصح ما قيل في ذلك.
وقال قوم أن ترتيب السورة عن توقيف من أصحاب النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وأما ما روي من اختلاف مصحف أبيّ وعلي وعبد الله فإنما كان قبل عرض القرآن على جبريل في المرة الأخيرة وأن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - رتب لهم تأليف السور بعد أن لم يكن فعل ذلك.
روى يونس عن ابن وهب قال سمعت مالكاً يقول إنما ألف القرآن على ما كانوا يسمعونه من رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وذكر أبو بكر ابن الأنباري في كتاب الرد أن الله أنزل القرآن جملة إلى سماء الدنيا ثم فرقه على النبي - صلى الله عليه وسلم - في عشرين سنة، فكانت السورة تنزل في أمر يحدث، والآية تنزل جواباً لمستخبر يسأل ويوقف جبريل النبي - صلى الله عليه وسلم - على موضع السورة والآية، فانتظام السور كانتظام الآيات والحروف فكله عن رسول الله خاتم النبيين عليه الصلاة والسلام عن رب العالمين، فمن أخر سورة مقدمة أو قدم أخرى مؤخرة كمن أفسد نظم الآيات، وغير الحروف والكلمات، ولا حجة على أهل الحق في تقديم البقرة على الأنعام، والأنعام نزلت قبل البقرة لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخذ عنه هذا الترتيب وهو كان يقول " ضعوا هذه السورة موضع كذا وكذا من القرآن " وكان جبريل -عليه السلام- يوقفه على مكان الآيات، انتهى.(15/308)
بسم الله الرحمن الرحيم
اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5) كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى (7) إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى (8) أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (9) عَبْدًا إِذَا صَلَّى (10)(15/309)
اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1)
(اقرأ) قرأ الجمهور بسكون الهمزة أمراً من القراءة وقرىء بفتح الراء وكأنه قلب الهمزة ألفاً ثم حذفها للأمر، والأمر بالقراءة يقتضي مقروءاً فالتقدير اقرأ ما يوحى إليك أو ما نزل عليك أو ما أمرت بقراءته.
وقوله (باسم ربك) متعلق بمحذوف هو حال أي اقرأ متلبساً باسم ربك أو مبتدأ به أو مفتتحاً أو الباء زائدة أي اقرأ اسم ربك قاله أبو عبيدة، وقال أيضاًً والاسم صلة أي اذكر ربك، وقيل الباء بمعنى على أي اقرأ على اسم ربك، يقال افعل كذا باسم الله وعلى اسم الله قاله الأخفش، وقيل الباء للاستعانة أي مستعيناً به، وبسم الله تكتب من غير ألف استغناء عنها بباء الإلصاق في اللفظ والخط لكثرة الاستعمال بخلاف قوله تعالى (اقرأ باسم ربك) فإنها لم تحذف فيه لقلة الاستعمال.
عن عبد الله بن شداد قال " أتى جبريل محمداً صلى الله عليه وسلم فقال يا محمد اقرأ فقال وما اقرأ فضمه ثم قال يا محمد اقرأ قال وما اقرأ قال اقرأ باسم ربك -حتى بلغ- ما لم يعلم " أخرجه ابن أبي شيبة وابن جرير وأبو نعيم في الدلائل.
وفي الصحيحين وغيرهما من حديث عائشة فجاءه الملك فقال اقرأ فقال قلت ما أنا بقارىء قال فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال(15/309)
اقرأ فقلت ما أنا بقارىء فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال اقرأ فقلت ما أنا بقارىء فأخذني فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد فقال اقرأ باسم ربك الخ ".
ثم الظاهر أن هذه الجملة ليست من القرآن لأن الأمر بتحصيل الشيء غير ذلك الشيء، ولكن قام الإجماع على أنها من جملة القرآن خصوصاً مع إثباتها في المصاحف بخطها سلفاً وخلفاً من غير نكير، فعلم منه أنها من جملة القرآن، تأمل.
قال السيوطي في إتقانه إن أول سورة اقرأ مشتمل على نظير ما اشتملت عليه الفاتحة من براعة الاستهلال لكونها أول ما نزل من القرآن فإن فيها الأمر بالقراءة وفيها البداءة باسم الله وفيها الإشارة إلى علم الأحكام، وفيها ما يتعلق بتوحيد الرب وإثبات ذاته وصفاته من صفة ذات وصفة فعل، وفي هذا الإشارة إلى أصول الدين وفيها ما يتعلق بالإخبار من قوله (علم الإنسان ما لم يعلم) ولهذا قيل إنها جديرة أن تسمى عنوان القرآن لأن عنوان الكتاب يجمع مقاصده بعبارة وجيزة في أوله انتهى ذكره ابن لقيمة في حاشية البيضاوي، والتعرض لعنوان الربوبية المنبئة عن التربية والتبليغ إلى الكمال اللائق شيئاًً فشيئاًً مع الإضافة إلى ضميره صلى الله عليه وآله وسلم للإشعار بتبليغه صلى الله عليه وآله وسلم إلى الغاية القاصية من الكمالات، البشرية، قاله أبو السعود.
ثم وصف الرب بقوله (الذي خلق) لتذكير أول النعم الفائضة عليه منه تعالى، لأن الخلق هو أعظم النعم وعليه يترتب سائر النعم، قال الكلبي يعني الخلائق وفيه تنبيه على أن من قدر على خلق الإنسان على ما هو عليه من الحياة وما يتبعها من الكمالات قادر على تعليم القراءة.(15/310)
خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2)
(خلق الإنسان من علق) يعني بني آدم، والعلقة الدم الجامد، وإذا جرى فهو المسفوح، وقال من علق يجمع علقة لأن المراد بالإنسان الجنس،(15/310)
والمعنى خلق جنس الإنسان من جنس العلق، وإذا كان المراد بقوله (الذي خلق) كل المخلوقات فيكون تخصيص الإنسان بالذكر تشريفاً له لما فيه من بديع الخلق وعجيب الصنع، وإذا كان المراد بالذي خلق، الذي خلق الإنسان فيكون الثاني تفسيراً للأول، والنكتة ما في الإبهام ثم التفسير من التفات الذهن وتطلعه إلى معرفة ما أبهم أولاً ثم فسر ثانياً، وقال من علق ولم يقل من نطفة مراعاة للفواصل.
ثم كرر الأمر بالقراءة للتأكيد والتقرير فقال(15/311)
اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3)
(اقرأ) أي افعل ما أمرت به من القراءة وجملة (وربك الأكرم) مستأنفة لإزاحة ما اعتذر به صلى الله عليه وسلم من قوله " ما أنا بقارىء " يريد أن القراءة شأن من يكتب ويقرأ، وهو أمي فقيل له اقرأ وربك الذي أمرك بالقراءة هو الأكرم، قال الكلبي يعني الحليم عن جهل العباد فلم يعجل بعقوبتهم.
وقيل إنه أمره بالقراءة أولاً لنفسه ثم أمره بالقراءة ثانياً للتبليغ، فلا يكون من باب التأكيد والأول أولى، والأكرم صفة تدل على المبالغة في الكرم إذ كرمه يزيد على كل كرم، لأنه ينعم بالنعم التي لا تحصى.
قال في البحر: ومن غريب ما رأينا تسمية النصارى بهذه الصفة التي هي صفة الله تعالى يسمون الأكرم والرشيد وفخر السعداء وسعيد السعداء في ديار مصر ويدعوهم بها المسلون ويزيدون عليها على سبيل التعظيم: الشيخ الأكرم، والشيخ الأسعد والشيخ الرشيد، فيالها من خزي يوم عرض الأقوال والأفعال على الله تعالى.(15/311)
الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4)
(الذي علم بالقلم) أي علم الإنسان الخط بالقلم فكان بواسطة ذلك يقدر على أن يعلم كل مكتوب، قال الزجاج علم الإنسان الكتابة بالقلم قال قتادة: بالقلم نعمة من الله عز وجل عظيمة لولا ذلك لم يقم دين ولم يصلح عيش، فدل على كمال كرمه بأنه علم عباده ما لم يعلموا ونقلهم من ظلمة الجهل إلى نور العلم، ونبه على فضل علم الكتابة لما فيه من المنافع العظيمة(15/311)
التي لا يحيط بها إلا هو، وما دونت العلوم ولا قيدت الحكم ولا ضبطت أخبار الأولين ومقالاتهم، ولا كتب الله المنزلة إلا بالكتابة، ولولا هي ما استقامت أمور الدين ولا أمور الدنيا، ولو لم يكن على دقيق حكمة الله ولطيف تدبيره دليل إلا القلم والخط لكفى به، وسمي قلماً لأنه يقلم أي يقطع وأول من خط به إدريس، وقيل آدم وقد حققنا أحوال القلم وما يتعلق به في كتابنا الأكبر في أصول التفسير فإن شئت فارجع إليه.
وجملة(15/312)
عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)
(علم الإنسان ما لم يعلم) بدل اشتمال من التي قبلها أي علمه بالقلم من الأمور الكلية والجزئية ما لم يعلم به منها قيل المراد بالإنسان هنا آدم كما في قوله (وعلم آدم الأسماء كلها) وقيل الإنسان هنا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، والأولى حمل الإنسان على العموم، والمعنى أن من علمه الله سبحانه من هذا الجنس بواسطة القلم فقد علمه ما لم يعلم.(15/312)
كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6)
(كلا) ردع وزجر لمن كفر نعم الله عليه بسبب طغيانه وإن لم يتقدم له ذكر، وقيل معناه حقاً، وهو مذهب الكسائي ومن تبعه لأنه ليس قبله ولا بعده شيء يكون (كلا) رداً له كما قالوا في كلا والقمر، ومذهب أبي حيان أنها بمعنى ألا الاستفتاحية وصوبه ابن هشام لكسر همزة إن بعدها أي لكونه مظنة جملة كما بعد حرف التنبيه نحو (ألا إنهم هم المفسدون) ولو كانت بمعنى حقاً لما كسرت إن بعدها لكونها مظنة مفرد، وفي الكواشي يجوز في (كلا) أن تكون تنبيهاً فيقف على ما قبلها، وردعاً فيقف عليها.
ومعنى (إن الإنسان ليطغى) أنه يجاوز الحد ويستكبر على ربه، قيل المراد بالإنسان هنا أبو جهل وهو المراد بهذا وما بعده إلى آخر السورة، وأنه تأخر نزول هذا وما بعده عن الخمس الآيات المذكورة في أول هذه السورة.
وقوله(15/312)
أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى (7)
(أن رآه استغنى) علة ليطغى أي ليطغى أن رأى نفسه مستغنياً، والرؤية هنا بمعنى العلم ولو كانت بصرية لامتنع الجمع بين الضميرين في فعلها لشيء واحد، لأن ذلك من خواص باب علم ونحوه، قال الفراء: لم يقل رأى نفسه كما قيل قتل نفسه لأن رأى من الأفعال التي ترد(15/312)
اسماً وخبراً نحو الظن والحسبان فلا يقتصر فيه على مفعول واحد، والعرب تطرح النفس من هذا الجنس تقول رأيتني وحسبتني ومتى نراك خارجاً ومتى نظنك خارجاً.
قيل والمراد هنا أنه استغنى بالعشيرة والأنصار والأموال، قرأ الجمهور أن رآه بمد الهمزة وقرىء بقصرها، قال مقاتل كان أبو جهل إذا أصاب مالاً زاد في ثيابه ومركبه وطعامه وشرابه فذلك طغيانه وكذا قال الكلبي.
قال الرازي أول السورة يدل على مدح العلم، وآخرها يدل على ذم المال وكفى بذلك مرغباً في الدين والعلم، ومنفراً عن الدنيا والمال.
ثم هدد سبحانه وخوف فقال(15/313)
إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى (8)
(إن إلى ربك الرجعى) أي المرجع، والرجعى والمرجع والرجوع مصادر، يقال رجع إليه مرجعاً ورجوعاً ورجعى، وتقدم الجار والمجرور للقصر أي الرجعى إليه سبحانه لا إلى غيره، وفيه التفات من الغيبة إلى الخطاب تهديداً له وتحذيراً من عاقبة الطغيان، فإن الله يرده ويرجعه إلى النقصان والفقر والموت كما رده من النقصان إلى الكمال حيث نقله من الجمادية إلى الحيوانية، ومن الفقر إلى الغنى، ومن الذل إلى العز، فما هذا التعزز والقوة، قاله الرازي.(15/313)
أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (9) عَبْدًا إِذَا صَلَّى (10)
(أرأيت الذي ينهى عبداً إذا صلى) قال المفسرون الذي ينهى أبو جهل، والمراد بالعبد محمد صلى الله عليه وآله وسلم، قال ابن عباس هو أبو جهل بن هشام حين رمى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالسلى (1) على ظهره وهو ساجد لله عز وجل، وفيه تقبيح لصنعه وتشنيع لفعله، حتى كأنه بحيث يراه كل من تتأتى منه الرؤية.
وعن ابن عباس قال: قال أبو جهل: لئن رأيت محمداً يصلي عند الكعبة لأطأن عنقه فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فقال لو فعل لأخذته الملائكة عياناً.
_________
(1) كرش الجزور بما فيه من القاذورات.(15/313)
أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى (11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى (12) أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (13) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى (14) كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ (15) نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ (16) فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ (17) سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ (18) كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (19)(15/314)
أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى (11)
(أرأيت إن كان على الهدى) يعني العبد المنهي إذا صلى، وهو محمد صلى الله عليه وآله وسلم(15/314)
أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى (12)
(أو أمر بالتقوى) أي بالإخلاص والتوحيد والعمل الصالح الذي تتقي به النار.(15/314)
أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (13)
(أرأيت إن كذب وتولى) يعني أبا جهل كذب بما جاء به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتولى عن الإيمان، وقوله (أرأيت) في الثلاثة المواضع بمعنى أخبرني، لأن الرؤية لما كانت سبباً للأخبار عن المرئي أجرى الاستفهام عنها مجرى الاستفهام عن متعلقها، والخطاب لكل من يصلح له.
وقد ذكر هنا أرأيت ثلاث مرات، وصرح بعد الثالثة منها بجملة استفهامية فيكون في موضع المفعول الثاني لها، ومفعولها الأول محذوف وهو ضمير يعود على الذي ينهى الواقع مفعولاً أول لأرأيت الأولى، ومفعول أرأيت الأولى الثاني محذوف وهو جملة استفهامية كالجملة الواقعة بعد أرأيت الثانية، وأما أرأيت الثانية فلم يذكر لها مفعول لا أول ولا ثان، حذف الأول لدلالة مفعول أرأيت الثالثة عليه، فقد حذف الثاني من الأولى، والأول من الثالثة، والاثنان من الثانية، وليس طلب كل من رأيت للجملة الاستفهامية على سبيل التنازع، لأنه يستدعي إضماراً، والجمل لا تضمر إنما تضمر المفردات، وإنما ذلك من باب الحذف للدلالة.
وأما جواب الشرط المذكور مع أرأيت في الموضعين الأخيرين فهو محذوف تقديره إن كان على الهدى أو أمر بالتقوى.(15/314)
أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى (14)
(ألم يعلم بأن الله يرى) وإنما حذف لدلالة ذكره في جواب الشرط(15/314)
الثاني، ومعنى ألم يعلم الخ أي ألم يطلع على أحواله فيجازيه بها فكيف اجترأ على ما اجترأ عليه، والاستفهام للتقريع والتوبيخ، وقيل أرأيت الأولى مفعولها الأول الموصول ومفعولها الثاني الشرطية الأولى بجوابها المحذوف المدلول عليه بالمذكور، وأرأيت في الموضعين تكرير للتأكيد، وقيل كل واحد من أرأيت بدل من الأولى، وألم يعلم بأن الله يرى: الخبر.(15/315)
كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ (15)
(كلا) ردع للناهي ومنع له عن نهيه، واللام في (لئن لم ينته) هي الموطئة للقسم أي والله لئن لم ينته عما هو عليه ولم ينزجر (لنسفعاً بالناصية) السفع الجذب الشديد، ويقال سفعت الشيء إذا قبضته وجذبته، ويقاك سفع بناصية فرسه.
قال الراغب: السفع الأخذ بسفعة الفرس أي بسواد ناصيته، وباعتبار السواد قيل به سفعة غضب، اعتباراً بما يعلو من اللون الدخاني من اشتد به الغضب، وقيل للصقر أسفع لما فيه من لمع السواد، أو امرأة سفعاء اللون. انتهى.
وقيل مأخوذ من سفعته النار والشمس إذا غيرت وجهه إلى سواد، والمعنى لنأخذن بناصيته ولنجرنه إلى النار، وهذا كقوله (فيؤخذ بالنواصي والأقدام) وقيل في الدنيا يوم بدر فقد جره المسلمون إلى القتل فقتله ابن مسعود وهو طريح بين الجرحى وبه رمق وهو يخور، وعبر بالناصية عن جميع الشخص، واكتفى بتعريف العهد عن الإضافة لأنه علم أنها ناصية الناهي.(15/315)
نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ (16)
(ناصية) وهي شعر مقدم الرأس، وإنما أبدل النكرة من المعرفة لوصفها بقوله (كاذبة) أي في قولها (خاطئة) في فعلها، وهذا على مذهب الكوفيين، فإنهم لا يجيزون إبدال النكرة من المعرفة إلا بشرط وصفها، وأما على مذهب البصريين فيجوز بلا شرط.
قرأ الجمهور بالجر وقرىء بالرفع على إضمار مبتدأ أي هي ناصية، وقرىء بالنصب على الذم، قال مقاتل أخبر عنه بأنه فاجر خاطىء فقال ناصية(15/315)
كاذبة خاطئة، تأويلها صاحبها كاذب خاطىء، وفي هذا الإسناد المجازي من الحسن والجزالة ما ليس في قولك ناصية كاذب خاطىء.(15/316)
فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ (17)
(فليدع ناديه) أي أهل ناديه لأن النادي هو المجلس الذي يجلس وينتدي فيه القوم ويجتمعون فيه من الأهل والعشيرة، ولا يسمى المكان نادياً حتى يكون فيه أهله، والمعنى ليدع عشيرته وأهله ليعينوه وينصروه، قيل إن أبا جهل قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم أتهددني وأنا أكثر أهل الوادي نادياً فنزلت (فليدع ناديه) قال ابن عباس أي ناصره.(15/316)
سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ (18)
(سندع الزبانية) (1) أي الملائكة الغلاظ الشداد وهم خزنة جهنم كذا قال الزجاج، وقال الكسائي والأخفش وعيسى بن عمر: واحدهم زابن، وقال أبو عبيدة زبنية (2) وقيل زباني بتشديد الياء، وقيل هو اسم للجمع لا واحد له من لفظه كعباديد وأبأبيل، وقال قتادة هم الشرط (3) في كلام العرب، وأصل الزبن الدفع، والعرب تطلق هذا الإسم على من اشتد بطشه.
قرأ الجمهور سندع بالنون، ولم يرسم الواو كما في قوله (يوم يدع الداع) وقرىء سيدعى على البناء للمفعول، ورفع الزبانية على النيابة، والسين في (سندع) ليست للشك فإنه من الله واجب لأنه ينتقم لرسوله من عدوه.
وعن ابن عباس قال " كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي، فجاء أبو جهل فقال ألم أنهك عن هذا إنك لتعلم أن ما بها رجل أكثر نادياً مني، فأنزل الله هذه الآية فجاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم يصلي فقيل ما يمنعك فقال
_________
(1) راجع تعليق هام على هذه الآية في آخر سورة المدثر.
(2) بكسر أوله وسكون ثانيه وكسر ثالثه وتخفيف الياء من الزبن وهو الدفع أو واحدها زبني على النسب وأصله زباني بتشديد الياء فالتاء عوض عن الياء قاله البيضاوي وفي المختار واحد الزبانية زبان أو زابان أهـ.
(3) وهم الشرطة (البوليس) في لغة العصر.(15/316)
قد اسود ما بيني وبينه، قال ابن عباس والله لو تحرك لأخذته الملائكة والناس ينظرون إليه " أخرجه أحمد والترمذي وصححه وابن جرير وابن المنذر والطبراني وغيرهم (1).
وأخرج أحمد ومسلم والنسائي والبيهقي وغيرهم عن أبي هريرة قال: قال أبو جهل هل يعفر محمد وجهه بين أظهركم، قالوا نعم قال واللات والعزى لئن رأيته يصلي كذلك لأطأن على رقبته ولأعفرن وجهه في التراب، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي ليطأن على رقبته، قال فما فجئهم منه إلا وهو ينكص على عقبيه ويتقي بيده، فقيل له مالك فقال إن بيني وبينه خندقاً من نار وهولاً وأجنحة فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضواً عضواً قال وأنزل الله (كلا إن الإنسان ليطغى) إلى آخر السورة يعني أبا جهل (فليدع ناديه) يعني قومه (سندع الزبانية) يعني الملائكة (2).
ثم كرر سبحانه الردع والزجر فقال
_________
(1) مسلم/2154.
(2) البخاري 8/ 557.(15/317)
كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (19)
(كلا لا تطعه) فيما دعاك إليه من ترك الصلاة (واسجد) أي صل لله غير مكترث به ولا مبال بنهيه (واقترب) أي تقرب إليه سبحانه بالطاعة والعبادة، وقيل المعنى إذا سجدت فاقترب من الله بالدعاء، وقال زيد ابن أسلم واسجد أنت يا محمد واقترب أنت يا أبا جهل من النار، والأول أولى.
والسجود هذا الظاهر أن المراد به الصلاة وعبر عنها بالسجود لأنه أفضل أركانها بعد القيام، وقيل سجود التلاوة، ويدل على هذا ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم من السجود عند تلاوة هذه الآية، وقد قدمنا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسجد في (إذا السماء انشقت) وفي (اقرأ باسم ربك الذي(15/317)
خلق) وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد فأكثروا من الدعاء " أخرجه مسلم (1).
_________
(1) مسلم حديث رقم (482).(15/318)
سورة القدر
وهي خمس آيات، قال المحلي أو ست آيات قال سليمان الجمل ولم يذكر غيره هذا القول من المفسرين فيما رأينا بل اقتصروا على كونها خمساً، ولعل قائل هذا القول يعد (تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ) آية مستقلة، ثم رأيت في السمين ما يشير إليه انتهى، وهي مكيّة عند أكثر المفسرين، كذا قال الماوردي، وقال الثعلبي هي مدنية في قول أكثر المفسرين وهو الأصح، وذكر الواقدي أنها أول سورة نزلت بالمدينة وعن ابن عباس وابن الزبير وعائشة أنها نزلت بمكة.(15/319)
بسم الله الرحمن الرحيم
إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5)(15/321)
إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1)
(إنا أنزلناه) الضمير للقرآن وإن لم يتقدم له ذكر، عظمه حيث أسند إنزاله إليه دون غيره وجاء بضميره دون اسمه الظاهر للاستغناء عن التنبيه عليه، ورفع مقدار الوقت الذي أنزله فيه، والنون في إنا للتعظيم، روي أنه أنزل جملة واحدة (في ليلة القدر) إلى السماء الدنيا من اللوح المحفوظ، ثم كان ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم، نجوماً على حسب الحاجة وكان بين نزول أوله وآخره على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثلاث وعشرون سنة.
وفي آية أخرى (إنا أنزلناه في ليلة مباركة) وهي ليلة القدر، وفي آية أخرى (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس) وليلة القدر في شهر رمضان، قال مجاهد في ليلة القدر، ليلة الحكم.
وقد آخرج ابن الضريس وابن جرير وابن المنذر والبيهقي في الدلائل وغيرهم عن ابن عباس " أنزل القرآن في ليلة القدر حتى وضع في بيت العزة في السماء الدنيا ثم جعل جبريل ينزل على محمد صلى الله عليه وآله وسلم، بجواب كلام العباد وأعمالهم ".
ومعلوم أن الإِنزال مستعار للمعاني من الأجرام، شبه نقل القرآن من اللوح إلى السماء وثبوته فيها بنزول جسم من علو إلى سفل، فعلى هذا هو مجاز مستعار قيل: سميت ليلة القدر لأن الله سبحانه يقدر فيها ما شاء من أمره(15/321)
إلى السنة القابلة من أمر الموت والأجل والرزق وغير ذلك.
وقيل إنها سميت بذلك لعظم قدرها وشرفها، من قولهم لفلان قدر، أي شرف ومنزلة كذا قال الزهري: وقيل سميت بذلك لأن للطاعات فيها قدراً عظيماً وثواباً جزيلاً وقال الخليل: سميت ليلة القدر لأن الأرض تضيق فيها بالملائكة كقوله (ومن قدر عليه رزقه) أي ضيق.
والأحاديث في فضل ليلة القدر كثيرة وكذا في تعيينها وليس هذا موضع بسطها وقد اختلف في تعيين ليلة القدر على أكثر من أربعين قولاً قد ذكرناها بأدلتها وبيّنا الراجح منها في شرحنا لبلوغ المرام المسمى بمسك الختام، وذكرها الشوكاني في شرحه لمنتقى الأخبار المسمى بنيل الأوطار.(15/322)
وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2)
(وما أدراك ما ليلة القدر) في هذا الاستفهام تفخيم لشأنها حتى كأنها خارجة عن دراية الخلق لا يدريها إلا الله سبحانه، والمعنى ما غاية فضلها ومنتهى علو قدرها. قال سفيان: كل ما في القرآن من قوله وما أدراك فقد أدراه، وكل ما فيه من قوله (وما يدريك) فلم يدره، وكذا قال الفراء.
والمعنى أي شيء يجعلك دارياً بها.
ثم بين فضلها من ثلاثة أوجه أولها قوله(15/322)
لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3)
(ليلة القدر خير من ألف شهر) وهي ثلاث وثمانون سنة وأربعة أشهر، قال كثير من المفسرين: أي العمل فيها خير من العمل في ألف شهر ليس فيها ليلة القدر، واختار هذا الفراء والزجاج، وذلك أتى الأوقات إنما يفضل بعضها على بعض بما يكون فيها من الخير والنفع، فلما جعل الله الخير الكثير في ليلة كانت خيراً من ألف شهر لا يكون فيها من الخير والبركة ما في هذه الليلة.
وقيل أراد بقوله ألف شهر جميع الدهر لأن العرب تذكر الألف في كثير من الأشياء على طريق المبالغة، وقيل وجه ذكر ألف شهر أن العابد كان فيما مضى لا يسمى عابداً حتى يعبد الله ألف شهر، فجعل الله لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، عبادة ليلة خيراً من عبادة ألف شهر كانوا يعبدونها.(15/322)
وقيل أن النبي صلى الله عليه وسلم، رأى أعمار أمته قصيرة فخاف أن لا يبلغوا من العمل مثل ما بلغ غيرهم في طول العمر، فأعطاه الله ليلة القدر وجعلها خيراً من ألف شهر لسائر الأمم، وقيل غير ذلك مما لا طائل تحته.
عن أنس في الآية قال العمل في ليلة القدر والصدقة والصلاة والزكاة أفضل من ألف شهر، وعن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أرى بني أمية على منبره فساءه ذلك فنزلت إنا أعطيناك الكوثر يا محمد يعني نهر في الجنة ونزلت (إنا أنزلناه في ليلة القدر) إلى قوله (ألف شهر) يملكها بعدك بنو أمية، قال القاسم فعددنا فإذا هي ألف شهر لا تزيد يوماً ولا تنقص يوماً " والمراد بالقاسم هو القاسم بن الفضل المذكور في إسناده أخرجه الترمذي وضعفه وابن جرير والطبراني والحاكم وابن مردويه والبيهقي.
قال الترمذي أن يوسف هذا مجهول يعني يوسف بن سعد الذي رواه عن الحسن بن علي، قال ابن كثير فيه نظر فإنه قد روى عنه جماعة منهم حماد بن سلمة وخالد الحذاء ويونس بن عبيد، وقال فيه يحيى بن معين هو مشهور وفي رواية عنه هو ثقة، ورواه ابن جرير من طريق القاسم ابن الفضل عن عيسى بن مازن.
قال ابن كثير ثم هذا الحديث على كل تقدير منكر جداً، قال المزني هو حديث منكر.
وقول القاسم بن الفضل أنه حسب مدة بني أمية فوجدها ألف شهر الخ ليس بصحيح فإن جملة مدتهم من عند أن استقل بالملك معاوية وهي سنة أربعين إلى أن سلبهم الملك بنو العباس، وهي سنة اثنتين وثلاثين ومائة مجموعها اثنتان وتسعون سنة، وعن ابن عباس نحو ما روي عن الحسن بن علي، وعن سعيد بن المسيب مرفوعاً مرسلاً نحوه.(15/323)
تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4)
(تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم) هي مستأنفة مبينة لوجه(15/323)
فضلها موضحة للعلة التي صارت بها خيراً من ألف شهر، وهذا هو الوجه الثاني، والمعنى متلبسين بإذن ربهم والإذن الأمر، ومعنى تنزل تهبط من السموات إلى الأرض، والروح هو جبريل عند جمهور المفسرين أي ومعهم جبريل، ووجه ذكره بعد دخوله في الملائكة التعظيم له والتشريف لشأنه، وقيل الروح صنف من الملائكة هم أشرافهم، وقيل هم جند من جنود الله من غير الملائكة وقيل الروح الرحمة.
وقد تقدم الخلاف في الروح عند قوله (يوم يقوم الروح والملائكة صفاً) قرأ الجمهور تنزل بفتح التاء وقرىء بضمها على البناء للمفعول.
(من) أجل (كل أمر) من الأمور التي قضى الله بها في تلك السنة، وقيل أن من بمعنى اللام أي لكل أمر، وقيل هي بمعنى الباء أي بكل أمر، فهي للتعدية، قاله أبو حاتم، قرأ الجمهور " أمر " وهو واحد الأمور، وقرىء امرىء مذكر امرأة أي من أجل كل إنسان، وتأولها الكلبي على أن جبريل ينزل مع الملائكة فيسلمون على كل إنسان، فـ (من) على هذا بمعنى على، والأول أولى.
وقد تم الكلام عند قوله (من كل أمر) ثم ابتدأ بفضلها الثالث فقال(15/324)
سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5)
(سلام هي) أي ما هي إلا سلامة وخير كلها لا شر فيها، وقيل هي ذات سلامة من أن يؤثر فيها شيطان في مؤمن أو مؤمنة، قال مجاهد هي ليلة سالمة لا يستطيع الشيطان أن يعمل فيها سوءاً ولا أذى.
وقال الشعبي هو تسليم الملائكة على أهل المساجد من حين تغيب الشمس إلى أن يطلع الفجر، يمرون على كل مؤمن ويقولون السلام عليك أيها المؤمن، وقيل يعني سلام الملائكة بعضهم على بعض، وقال عطاء يريد سلام على أولياء الله وأهل طاعته.
وعن ابن عباس في الآية قال في تلك الليلة تصفد مردة الشياطين وتغل عفاريت الجن وتفتح فيها أبواب السماء كلها ويقبل الله فيها التوبة لكل تائب،(15/324)
فلذا قال سلام هي (حتى مطلع الفجر) قال وذلك من غروب الشمس إلى أن يطلع الفجر أي حتى وقت طلوعه.
قرأ الجمهور مطلع بفتح اللام، وقرىء بكسرها فقيل هما لغتان في المصدر، والفتح أكثر نحو المخرج والمقتل، وقيل بالفتح اسم مكان وبالكسر المصدر، وقيل العكس و " حتى " متعلقة بتنزل على أنها غاية لحكم التنزل أي لمكثهم في محل تنزلهم بأن لا ينقطع تنزلهم فوجاً بعد فوج إلى طلوع الفجر وقيل متعلقة بسلام بناءً على أن الفصل بين المصدر ومعموله بالمبتدأ مغتفر.(15/325)
سورة لم يكن
تسمى سورة البينة، وسورة المنفكين، وسورة القيامة، وسورة البرية، هي ثمان آيات أو تسع آيات وهي مدنية في قول الجمهور، وقيل مكيّة، أخرج ابن مردويه عن ابن عباس نزلت بالمدينة، وأخرج ابن مردويه عن عائشة قالت: نزلت سورة لم يكن بمكة.
وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أنس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - أن يقرأ عليه.
وعن أبي حية البدري قال: " لما نزلت (لم يكن) إلى آخرها قال جبريل يا رسول الله إن الله يأمرك أن تقرئها أبياً فقال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لأبيّ " إن جبريل أمرني أن أقرئك هذه السورة " فقال أبيّ وقد ذُكرت ثَمّ يا رسول الله قال " نعم " فبكى " (1) أخرجه أحمد وابن قانع في معجم الصحابة والطبراني وابن مردويه.
_________
(1) ثَمَّ بفتح الثاء أي هناك وتأمل تجد أنه بكى خشية لله ولم يغتر.(15/327)
قيل إن أبياً كان أسرع أخذاً لألفاظ رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، فأراد بقراءته - صلى الله عليه وآله وسلم -، عليه أن يأخذ ألفاظه ويقرأ كما سمع رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، يقرأ ويعلم غيره.
وعن إسماعيل بن أبي حكيم المزني أحد بني فضل سمعت رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، يقول: " إن الله يستمع قراءة (لم يكن الذين كفروا) فيقول أبشر عبدي وعزتي وجلالي لأمكنن لك في الجنة حتى ترضى " (1) أخرجه أبو نعيم في المعرفة، قال ابن كثير حديث غريب جداً، وأخرجه أبو موسى المديني عن مطر المزني أو المدني بنحوه.
_________
(1) مسلم 4/ 1915.(15/328)
بسم الله الرحمن الرحيم
لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1) رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً (2) فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (3) وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (4)(15/329)
لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1)
(لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ) المراد بهم اليهود والنصارى، ومن للبيان (والمشركين) المراد بهم مشركو العرب، وهم عبدة الأوثان، وقرأ ابن مسعود (لم يكن المشركون وأهل الكتاب) قال ابن العربي وهي قراءة في معرض البيان لا في معرض التلاوة.
وقرأ أبيّ: فما كان الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركون، وقرأ الأعمش والنخعي والمشركون بالرفع عطفاً على الموصول.
وسمي أهل الكتاب كفاراً مع إيمانهم بكتابهم ونبيهم لأنهم عدلوا عن الطريق المستقيم في التوحيد فكفروا بذلك، فإنه قيل إن اليهود مجسمة وكذلك النصارى لقولهم بالتثليث، وهذا يقتضي كفر جميع أهل الكتاب قبل النبي صلى الله عليه وآله وسلم، والظاهر خلافه، ولذا قال الماتريدي أن (من) تبعيضية لأن منهم من آمن.
(منفكين) يقال فككت الشيء فانفك أي انفصل، والمعنى أنهم لم يكونوا مفارقين لكفرهم ولا منتهين عما هم عليه
(حتى تأتيهم) أي أتتهم (البينة) أي الحجة الواضحة وقيل الانفكاك بمعنى الانتهاء وبلوغ الغاية التي لم يكونوا يبلغون نهاية أعمارهم فيموتوا حتى تأتيهم البينة.
وقيل منفكين زائلين أي لم تكن مدتهم لتزول حتى تأتيهم البينة، يقال(15/329)
ما انفك فلان قائماً أي ما زال فلان قائماً، وأصل الفك الفتح ومنه فك الخلخال وقال الأزهري: ليس هو من باب ما انفك وما برح، وإنما هو من باب انفكاك الشيء عن الشيء وهو انفصاله عنه.
وقيل منفكين بارحين أي لم يكونوا ليبرحوا ويفارقوا الدنيا حتى تأتيهم البينة، وقال ابن كيسان المعنى لم يكن أهل الكتاب تاركين صفة محمد صلى الله عليه وسلم، حتى بعث، فلما بعث حسدوه وجحدوه وهو كقوله: (فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به) وعلى هذا فيكون معنى قوله (والمشركين) إنهم ما كانوا يسيئون القول في رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، حتى بعث فإنهم كانوا يسمون الأمين، فلما بعث عادوه وأساؤوا القول فيه.
وقيل منفكين هالكين، من قولهم انفك صلبه أي انفصل فلم يلتئم فيهلك، والمعنى لم يكونوا معذبين ولا هالكين إلا بعد قيام الحجة عليهم، وقيل إن المشركين هم أهل الكتاب فيكون وصفاً لهم لأنهم قالوا المسيح ابن الله وعزير ابن الله.
قال أبو السعود منفكين عما كانوا عليه من الوعد باتباع الحق والإيمان بالرسول المبعوث في آخر الزمان، والعزم على إنجازه، وهذا الوعد من أهل الكتاب مما لا ريب فيه، وأما من المشركين فلعله قد وقع من متأخريهم بعد ما شاع ذلك من أهل الكتاب واعتقدوا صحته بما شاهدوا من نصرتهم على أسلافهم.
وانفكاك الشيء عن الشيء أن يزيله بعد التحامه كالعظم إذا انفك من مفصله، وفيه إشارة إلى كمال وكادة وعدهم، انتهى ملخصاً.
قال الواحدي: ومعنى الآية إخبار الله تعالى عن الكفار أنهم لم ينتهوا عن كفرهم وشركهم بالله حتى أتاهم محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالقرآن، فبين لهم ضلالتهم وجهالتهم ودعاهم إلى الإِيمان، وهذا بيان عن النعمة والإنقاذ به من الجهل والضلالة، والآية فيمن آمن من الفريقين.(15/330)
قال: وهذه الآية من أصعب ما في القرآن نظماً وتفسيراً، وقد تخبط فيها الكبار من العلماء وسلكوا في تفسيرها طرقاً لا تفضي بهم إلى الصواب، والوجه ما أخبرتك فأحمد الله إذ أتاك بيانها من غير لبس ولا إشكال.
قال ويدل على كون البينة محمداً رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، إنه فسرها وأبدل بقوله الآتي(15/331)
رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً (2)
(رسول من الله يتلو صحفاً مطهرة) يعني ما تتضمنه الصحف من المكتوب فيها وهو القرآن، ويدل على ذلك أنه كان يتلو عن ظهر قلبه لا عن كتاب، انتهى كلامه.
وقيل إن الآية حكاية لما كان يقوله أهل الكتاب والمشركون إنهم لا يفارقون دينهم حتى يبعث النبي الموعود به، فلما بعث تفرقوا كما حكاه الله عنهم في هذه السورة، والمراد بالبينة على ما قاله الجمهور هو محمد صلى الله عليه وآله وسلم، لأنه في نفسه بينة وحجة، ولذلك سماه (سراجاً منيراً).
وقد فسر الله سبحانه هذه البينة المجملة بقوله (رسول من الله) فاتضح الأمر وتبين أنه المراد بالبينة، وقال قتادة وابن زيد البينة هي القرآن كقوله (أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى) وقال أبو مسلم المراد بها مطلق الرسل والمعنى حتى تأتيهم رسل من الله وهم الملائكة، والأول أولى.
قرأ الجمهور برفع رسول على أنه بدل كل من كل على سبيل المبالغة أو بدل اشتمال، قال الزجاج: رسول رفع على البدل من البينة، وقال الفراء: رفع على أنه خبر مبتدأ مضمر أي هي رسول أو هو رسول، وقرأ ابن مسعود وأبيّ رسولاً بالنصب على القطع، وقوله (من الله) متعلق بمحذوف هو صفة لرسول أي كائن من الله ويجوز تعلقه بنفس رسول.
(يتلو صحفاً مطهرة) صفة أخرى لرسول أو حال، وقال أبو البقاء: التقدير يتلو صحفاً مطهرة منزلة من الله، ومعنى يتلو يقرأ يقال تلا يتلو تلاوة، والصحف جمع صحيفة وهي ظرف المكتوب، ومعنى مطهرة أنها منزهة من(15/331)
الزور والضلال، قال قتادة: مطهرة من الباطل.
قال الشهاب: تطهير الصحف كناية عن كونها ليس فيها باطل على الاستعارة المصرحة أو المكنية وقيل مطهرة من الكذب والشبهات والكفر، والمعنى واحد، وقيل معظمة وقيل لا ينبغي أن يمسها إلا المطهرون، والأول أولى.
والمعنى أنه يقرأ ما تتضمنه الصحف والقراطيس من المكتوب فيها فالكتب بمعنى المكتوبات في القراطيس، فالقرآن يجمع ثمرة كتب الله المتقدمة عليه، والرسول وإن كان أمياً لكنه لما تلا ما في الصحف كان كالتالي لها فصح نسبة تلاوة الصحف إليه وهو أمي لا يكتب ولا يقرأ من كتاب وإنما يقرأ بالوحي عن ظهر قلب.(15/332)
فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (3)
(فيها كتب) صفة لصحف من كتاب أو حال من ضميرها والمراد الآيات والأحكام المكتوبة فيها التي هي مدلول القرآن المكتوب لفظه ونقشه (قيمة) أي مستقيمة مستوية محكمة، من قول العرب قام الشيء إذا استوى وصح، قال صاحب النظم: الكتب بمعنى الحكم كقوله (كتب الله لأغلبن أنا ورسلي) أي حكم، وقوله صلى الله عليه وسلم، في قصة العسيف لأقضين بينكما بكتاب الله، ثم قضى بالرجم وليس الرجم في كتاب الله فالمراد لأقضين بينكما بحكم الله، وبهذا يندفع ما قيل أن الصحف هي الكتب، فكيف قال (صحفاً مطهرة فيها كتب قيمة) وقال الحسن يعني بالصحف التي في السماء يعني في اللوح المحفوظ كما في قوله تعالى: (بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ).(15/332)
وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (4)
(وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة) مستأنفة لتوبيخ أهل الكتاب وتقريعهم وبيان أن ما نسب إليهم من عدم الانفكاك لم يكن لاشتباه الأمر بل كان بعد وضوح الحق وظهور الصواب، وأيضاًً تصريح بما أفادته الغاية قبله، وإفراد أهل الكتاب بالذكر بعد الجمع بينهم وبين(15/332)
المشركين للدلالة على شناعة حالهم وإنهم لما تفرقوا مع علمهم كان غيرهم بذلك أولى، فاقتصر عليهم لأنهم أشد جرماً، أو أنه يعلم حال غيرهم بالطريق الأولى فهو من باب الاكتفاء.
فالمعنى وما تفرق الذين أوتوا الكتاب ولا المشركون إلا من بعد الخ قال المفسرون لم يزل أهل الكتاب مجتمعين حتى بعث الله سبحانه محمداً صلى الله عليه وآله وسلم، فلما بعث تفرقوا في أمره واختلفوا فآمن به بعضهم وكفر آخرون.
والاستثناء مفرغ من أعم الأوقات أي وما تفرقوا في وقت من الأوقات إلا من بعد ما جاءتهم الحجة الواضحة، وهي بعثة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، بالشريعة الغراء والمحجمة البيضاء أو هو صلى الله عليه وسلم، وقيل البينة القرآن وقيل البينة هو البيان الواضح الذي في كتبهم أنه نبي مرسل كقوله (وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم).
قال القرطبي قال العلماء: من أول السورة إلى قوله (كتب قيمة) حكمها فيمن آمن من أهل الكتاب والمشركين، وقوله (وما تفرق الذين) الخ فيمن لم يؤمن من أهل الكتاب والمشركين بعد قيام الحجج.(15/333)
وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (6) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7) جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (8)
وجملة(15/334)
وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5)
(وما أمروا إلا ليعبدوا الله) حالية مقيدة لغاية قبح ما فعلوا وتقريعهم وتوبيخهم بما فعلوا من التفرق بعد مجيء البينة أي والحال أنهم ما أمروا في كتبهم إلا لأجل أن يعبدوا الله ويوحدوه، وقيل إن اللام في ليعبدوا بمعنى أن أي ما أمروا إلا بأن يعبدوا كقوله (يريد الله ليبين لكم) أي أن يبين، وقوله (يريدون ليطفئوا نور الله) أي أن يطفئوا، والعبادة هي التذلل، ومن زعم أنها الطاعة فقد أخطأ لأن جماعة عبدوا المسيح والملائكة والأصنام وما أطاعوهم، ولكنها في الشرع صارت إسما لكل طاعة أديت له على وجه التذلل والنهاية في التعظيم.
(مخلصين له الدين) أي حال كونهم جاعلين دينهم خالصاً له سبحانه أو جاعلين أنفسهم خالصة له في الدين، قرأ الجمهور مخلصين بكسر اللام، وقرأ الحسن بفتحها.
وهذه الآية من الأدلة الدالة على وجوب النية في العبادات لأن الإِخلاص في العمل من عمل القلب، قال الكرخي: الإخلاص أن لا يطلع على عملك إلا الله سبحانه ولا تطلب منه ثواباً، وقال الشهاب الإخلاص عدم الشرك وأنه ليس بمعنى الإِخلاص المتعارف.
وانتصاب (حنفاء) على الحال من ضمير مخلصين فيكون من باب(15/334)
التداخل، ويجوز أن يكون من فاعل يعبدوا، والمعنى مائلين عن الأديان كلها إلى دين الإسلام وقيل متبعين ملة إبراهيم، وقيل حجاجاً، وقيل مختونين محرمين لنكاح المحارم، وقيل الحنيف الذي آمن بجميع الأنبياء والرسل، ولا يفرق بين أحد منهم، والأول أولى.
وأصل الحنف في اللغة الميل وخصه العرف بالميل إلى الخير، وسموا الميل إلى الشر إلحاداً.
والحنيف المطلق هو الذي يكون متبرئاً عن أصول الملل الخمسة اليهود والنصارى والصابئين والمجوس والمشركين، وعن فروعها من جميع النحل إلى الاعتقادات، وعن توابعها من الخطأ والنسيان إلى العمل الصالح، وهو مقام التقى، وعن المكروهات إلى المستحبات، وهو المقام الأول من الورع، وعن الفضول شفقة على خلق الله وهو ما لا يعني إلى ما يعني وهو المقام الثاني من الورع، وعما يجر إلى الفضول وهو مقام الزهد فالآية جامعة لمقامي الإخلاص الناظر أحدهما إلى الحق، والثاني إلى الخلق.
(ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة) أي يفعلوا الصلوات في أوقاتها ويعطوا الزكاة عند محلها، وخص الصلاة والزكاة لأنهما من أعظم أركان الدين، قيل إن أريد بالصلاة والزكاة ما في شريعة أهل الكتاب من الصلاة والزكاة فالأمر ظاهر، وإن أريد ما في شريعتنا فمعنى أمرهم بهما في الكتابين أمرهم باتباع شريعتنا وهما من جملة ما وقع الأمر به فيها.
(وذلك) المذكور من عبادة الله وإخلاصها وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة (دين القيمة) أي دين الملة المستقيمة والشريعة المتبوعة، قاله الزجاج، فالقيمة صفة لموصوف محذوف، قال الخليل القيمة جمع القيم، والقيم القائم.
قال الفراء أضاف الدين إلى القيمة وهو نعته لاختلاف اللفظين، وأنث القيمة رداً إلى الملة، وقال الفراء أيضاًً هو من إضافة الشيء إلى نفسه،(15/335)
ودخلت الهاء للمدح والمبالغة، وما في الإشارة من معنى البعد للإشعار بعلو رتبته وبعد منزلته وسمو مكانته.
ثم بينّ سبحانه حال الفريقين في الآخرة بعد بيان حالهم في الدنيا فقال(15/336)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (6)
(إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين) عطف على الموصول أو المجرور، وخبر إن (في نار جهنم) أي أنهم يصيرون إليها يوم القيامة. وبدأ بأهل الكتاب لأنهم كانوا يطعنون في نبوته فجنايتهم أعظم لأنهم أنكروه مع العلم به.
(خالدين فيها) حال من المستكن في الخبر، ولم يقل خالدين فيها أبداً كما قال بعد في صفة أهل الثواب لأن رحمته أزيد من غضبه، فلم يتفق الخلودان في الأبدية (أولئك) المذكورون من أهل الكتاب والمشركين المتصفين بالكون في نار جهنم والخلود فيها (هم شر البرية) يقال برأ أي خلق والبارىء الخالق، والبرية الخليقة.
قرأ الجمهور البرية في الموضعين بغير همز وقرىء بالهمز فيهما قال الفراء إن أخذت البرية من البراء وهو التراب لم تدخل الملائكة تحت هذا اللفظ، وإن أخذتها من بريت القلم أي قدرته دخلت، وقيل أن الهمز هو الأصل لأنه يقال برأ الله الخلق بالهمز أي ابتدعه واخترعه، ومنه قوله (من قبل أن نبرأها) ولكنها خففت الهمزة والتزم تخفيفها عند عامة العرب، وظاهر الآية العموم، وقيل شر البرية الذين عاصروا الرسول إذ لا يبعد أن يكون في كفار الأمم من هو شر من هؤلاء كفرعون وعاقر ناقة صالح (عليه السلام).
وشر البرية أفعل تفضيل أي لأنهم يخفون من كتاب الله صفة محمد وأشر من قطاع الطريق لأنهم قطعوا طريق دين الحق على الخلق، وأشر من الجهال لأن الكفر مع العلم يكون عناداً، وهذا فيه تنبيه على أن وعيد علماء السوء أعظم من وعيد كل أحد.
ثم بيّن سبحانه حال الفريق الآخر فقال:(15/336)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7)
(إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات) أي جمعوا بين الإيمان والعمل الصالح (أولئك) المنعوتون(15/336)
بهذا (هم خير البرية) أي في عصره صلى الله عليه وسلم، ولا يبعد أن يكون في مؤمني الأمم السالفة من هو خير منهم.
وعن أبي هريرة قال أتعجبون من منزلة الملائكة من الله، والذي نفسي بيده لمنزلة العبد المؤمن عند الله يوم القيامة أعظم من منزلة ملك. واقرأوا إن شئتم (إن الذين آمنوا) الآية.
وعن عائشة قالت: قلت يا رسول الله من أكرم الخلق على الله قال: يا عائشة أما تقرأين (إن الذين آمنوا) الآية: أخرجه ابن مردويه:
وعن جابر بن عبد الله قال: " كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم، فأقبل علي فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: والذي نفسي بيده إن هذا وشيعته لهم الفائزون يوم القيامة ونزلت (إن الذين آمنوا) الآية فكان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، إذا أقبل قالوا قد جاء خير البرية " أخرجه ابن عساكر.
وعن ابن عباس قال: " لما نزلت هذه الآية قال رسول الله لعلي هو أنت وشيعتك يوم القيامة راضين مرضيين " أخرجه ابن مردويه، وأخرج الضياء عن علي مرفوعاً نحوه.
وأخرج ابن عدي وابن عساكر عن أبي سعيد مرفوعاً " عليّ خير البرية " وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " ألا أخبركم بخير البرية قالوا بلى يا رسول الله قال رجل أخذ بعنان فرسه في سبيل الله، كلما كانت هيعة استوى عليه. ألا أخبركم بشر البرية قالوا بلى قال الذي يسأل بالله ولا يعطي به " أخرجه أحمد.(15/337)
جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (8)
(جزاؤهم عند ربهم) أي ثوابهم عند خالقهم بمقابلة ما وقع منهم من الإيمان والعمل الصالح (جنات عدن) هذا من مقابلة الجمع بالجمع وهو يقتضي انقسام الآحاد على الآحاد فيكون لكل واحد جنة، وقيل الجمع باق على حقيقته وأن لكل واحد جنات كما يدل عليه قوله (ولمن خاف مقام ربه(15/337)
جنتان) (ومن دونهما جنتان) فذكر للواحد أربع جنات وأدنى تلك الجنات مثل الدنيا بما فيها عشر مرات.
والمراد بجنات عدن هي أوسط الجنات وأفضلها يقال عدن بالمكان يعدن عدناً أي أقام ومعدن الشيء مركزه ومستقره (تجري من تحتها الأنهار) الأربعة وهي الخمر والماء والعسل واللبن، وقد قدمنا في غير موضع أنه إن أريد بالجنات الأشجار الملتفة فجريان الأنهار من تحتها ظاهر، وإن أريد مجموع قرار الأرض والشجر فجري الأنهار من تحتها باعتبار جزئها الظاهر وهو الشجر.
(خالدين فيها أبداً) لا يخرجون منها ولا يظعنون عنها بل هم دائمون في نعيمها مستمرون في لذاتها.
وجملة (رضي الله عنهم ورضوا عنه) مستأنفة لبيان ما تفضل الله به عليهم من الزيادة على مجرد الجزاء وهو رضوانه عنهم حيث أطاعوا أمره، وقبلوا شرائعه، ورضاهم عنه حيث بلغوا من المطالب " ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر " ويجوز أن تكون الجملة خبراً ثانياً وأن تكون في محل نصب على الحال بإضمار قد.
(ذلك لمن خشي ربه) أي ذلك الجزاء والرضوان لمن وقعت منه الخشية لله سبحانه في الدنيا وانتهى عن معاصيه بسبب تلك الخشية التي وقعت له لا مجرد الخشية مع الانهماك في معاصي الله سبحانه فإنها ليست بخشية على الحقيقة.(15/338)
سورة الزلزلة
هي ثمان أو تسع آيات، وهي مدنية في قول ابن عباس وقتادة، ومكية في قول ابن مسعود وعطاء وجابر.
عن عبد الله بن عمرو قال أتى رجل رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فقال: أقرئني يا رسول الله قال: " اقرأ ثلاثاً من ذوات الر فقال الرجل كبر سني واشتد قلبي وغلظ لساني، قال " اقرأ ثلاثاً من ذوات حم " فقال مثل مقالته الأولى، فقال " اقرأ ثلاثاً من المسبحات " فقال مثل مقالته الأولى وقال ولكن أقرئني يا رسول الله سورة جامعة فأقرأه إذا زلزلت الأرض حتى فرع منها قال الرجل والذي بعثك بالحق لا أزيد عليها فقال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - " أفلح الرويجل، أفلح الرويجل " أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي ومحمد بن نصر والحاكم وصححه والطبراني وابن مردويه والبيهقي في الشعب.
وعن أنس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " من قرأ إذا زلزلت الأرض عدلت له بنصف القرآن، ومن قرأ قل هو الله أحد عدلت له بثلث القرآن، ومن قرأ قل يا أيها الكافرون عدلت له بربع القرآن " أخرجه الترمذي وابن مردويه والبيهقي.(15/339)
وعن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - " إذا زلزلت الأرض تعدل نصف القرآن، وقل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن، وقل يا أيها الكافرون تعدل ربع القرآن " أخرجه الترمذي وابن الضريس ومحمد بن نصر والحاكم وصححه والبيهقي، قال الترمذي غريب لا نعرفه إلا من حديث يمان بن المغيرة.
وأخرج الترمذي عن أنس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لرجل من أصحابه " هل تزوجت يا فلان " قال: لا والله يا رسول الله ولا عندي ما أتزوج به، قال: " أليس معك قل هو الله أحد " قال: بلى، قال: " ثلث القرآن " قال: " أليس معك قل يا أيها الكافرون " قال: بلى، قال: " ربع القرآن " قال " أليس معك إذا زلزت الأرض "؟ قال: بلى، قال: " ربع القرآن "، " تزوج " قال الترمذي هذا حديث حسن.
وعن أبي هريرة قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " من قرأ في ليلة إذا زلزلت كان له عدل نصف القرآن " أخرجه ابن مردويه.(15/340)
بسم الله الرحمن الرحيم
إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا (1) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا (2) وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا (3) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا (4) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا (5) يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ (6) فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)(15/341)
إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا (1)
(إذا زلزلت الأرض زلزالها) أي إذا حركت حركة شديدة وجواب الشرط " تحدث " والمراد تحركها عند قيام الساعة فإنها تضطرب من شدة صوت إسرافيل حتى ينكسر كل شيء عليها، قال مجاهد وهي النفخة الأولى لقوله تعالى (يوم ترجف الراجفة تتبعها الرادفة).
وفي الخازن في وقت هذه الزلزلة قولان:
(أحدهما) وهو قول الأكثرين أنها في الدنيا وهي من أشراط الساعة.
(والثاني) أنها زلزلة يوم القيامة انتهى.
ويؤيد القول الثاني قوله تعالى(15/341)
وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا (2)
(وأخرجت الأرض أثقالها) فإن الإخراج إنما هو في النفخة الثانية، وكذا شهادتها بما وقع عليها إنما هو بعد النفخة الثانية، وكذلك انصراف الناس من الموقف إنما يكون بعد الثانية تأمل.
وذكر المصدر للتأكيد ثم أضافه إلى الأرض فهو مصدر مضاف إلى فاعله والمعنى زلزالها المخصوص الذي يستحقه ويقتضيه جرمها وعظمها، قرأ الجمهور زلزالها بكسر الزاي، وقرىء بفتحها وهما مصدران بمعنى. وقيل الكسور مصدر. والمفتوح إسم قال القرطبي: والزلزال بالفتح مصدر كالوسواس والقلقال، قال ابن عباس في الآية أي تحركت من أسفلها.(15/341)
" (وأخرجت الأرض أثقالها) " أي ما في جوفها من الأموات والدفائن، والأثقال جمع ثقل. قال أبو عبيدة والأخفش إذا كان الميت في بطن الأرض فهو ثقل لها، وإذا كان فوقها فهو ثقل عليها، قال مجاهد أثقالها موتاها تخرجهم في النفخة الثانية، وقد قيل للجن والإنس الثقلان، وإظهار الأرض في موضع الإضمار لزيادة التقرير قال ابن عباس: أثقالها الموتى والكنوز. وأخرج مسلم والترمذي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " تقيء الأرض أفلاذ كبدها أمثال الأسطوان من الذهب والفضة فيجيء القاتل فيقول في هذا قتلت ويجيء القاطع فيقول في هذا قطعت رحمي. ويجيء السارق فيقول في هذا قطعت يدي. ثم يدعونه فلا يأخذون منه شيئاًً ".(15/342)
وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا (3)
(وقال الإنسان ما لها) أي قال كل فرد من أفراد الإنسان ما لها زلزلت، لما يدهمه من أمرها ويبهره من خطبها، وقيل المراد بالإنسان الكافر، وقوله ما لها مبتدأ وخبر، وفيه معنى التعجب أي أيّ شيء لها أو لأي شيء زلزلت وأخرجت أثقالها. قال ابن عباس الكافر يقول ما لها.
وقوله(15/342)
يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا (4)
(يومئذ) بدل من إذا والعامل فيهما قوله (تحدث أخبارها) ويجوز أن يكون العامل في إذا محذوفاً والعامل في يومئذ تحدث، والمعنى يوم إذا زلزلت وأخرجت تخبر بأخبارها وتحللهم بما عمل عليها من خير وشر، وذلك إما بلسان الحال حيث يدل على ذلك دلالة ظاهرة أو بلسان المقال بأن ينطقها الله سبحانه، وقيل هذا متصل بقوله (وقال الإنسان ما لها) أي قال ما لها تحدث أخبارها متعجباً من ذلك.
وقال يحيى بن سلام تحدث أخبارها بما أخرجت من أثقالها، وقيل تحدث بقيام الساعة وأنها قد أتت، وأن الدنيا قد انقضت، قال ابن جرير تبين أخبارها بالرجفة والزلزلة وإخراج الموتى، ومفعول تحدث الأول محذوف، والثاني هو أخبارها أي تحدث الخلق أخبارها.(15/342)
عن أبي هريرة قال قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم (يومئذ تحدث أخبارها) قال " أتدرون ما أخبارها، قالوا الله ورسوله أعلم، قال فإن أخبارها أن تشهد على كل عبد وأمة بما عمل على ظهرها، تقول عمل كذا وكذا فهذا أخبارها ". أخرجه أحمد والترمذي وصححه والنسائي وغيرهم (1).
وعن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال " إن الأرض لتجيء يوم القيامة بكل عمل عُمِلَ على ظهرها. وقرأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (إذا زلزلت الأرض زلزالها) حتى بلغ (يومئذ تحدث أخبارها) أخرجه ابن مردويه والبيهقي.
وعن ربيعة الجرشي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال " تحفظوا من الأرض فإنها أمكم وأنه ليس من أحد عامل عليها خيراً أو شراً إلا وهي مخبرة " أخرجه الطبراني.
_________
(1) الترمذي 2/ 171.(15/343)
بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا (5)
(بأن ربك أوحى لها) متعلق بتحدث أو بنفس أخبارها والباء زائدة، وقيل سببية أي بسبب إيحاء الله إليها، قال الفراء تحدث أخبارها بوحي الله وإذنه لها، واللاء في لها بمعنى (إلى) وإنما أوثرت على (إلى) لموافقة الفواصل، والعرب تضع لام الصفة موضع إلى، كذا قال أبو عبيدة.
وقيل إن أوحى يتعدى باللام تارة وبإلى أخرى، وقيل إن اللام على بابها من كونها العلة والموحى إليه محذوف وهو الملائكة، والتقدير أوحى إلى الملائكة لأجل الأرض أي لأجل ما يفعلون فيها، والأول أولى.
وقوله(15/343)
يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ (6)
(يومئذ) إما بدل من يومئذ الذي قبله، وإما منصوب بمقدر هو أذكر، وإما منصوب بما بعده والمعنى يوم إذ يقع ما ذكر (يصدر الناس) من قبورهم إلى موقف الحساب (أشتاتاً) أي متفرقين، والصدر الرجوع، وهو ضد الورود، وقيل يصدرون من موضع الحساب إلى الجنة أو النار،(15/343)
وانتصاب أشتاتاً على الحال والمعنى أن بعضهم آمن وبعضهم خائف، وبعضهم بلون أهل الجنة وهو البياض، وبعضهم بلون أهل النار وهو السواد، وبعضهم ينصرف إلى جهة اليمين وبعضهم إلى جهة الشمال مع تفرقهم في الأديان وإختلافهم في الأعمال.
(ليروا أعمالهم) متعلق بيصدر وقيل فيه تقديم وتأخير أي تحدث أخبارها بأن ربك أوحى لها ليروا أعمالهم يومئذ يصدر الناس أشتاتاً. قرأ الجمهور ليروا مبنياً للمفعول وهو من رؤية البصر أي ليريهم الله أعمالهم، وقرىء مبنياً للفاعل والمعنى ليروا جزاء أعمالهم.(15/344)
فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)
(فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) أي وزن نملة وهي أصغر ما يكون من النمل. قرأ الجمهور يره في الموضعين بضم الهاء وصلاً وسكونها وقفاً وقرأ هشام بسكونها وصلاً ووقفاً.
وقرأ الجمهور أيضاًً مبنياً للفاعل في الموضعين، وقرىء على البناء للمفعول فيهما أي يريه الله إياه، وقرىء يراه على توهم أن من موصولة أو على تقدير الجزم بحذف الحركة المقدرة في الفعل.
قال مقاتل: فمن يعمل في الدنيا مثقال ذرة خيراً يره يوم القيامة في كتابه فيفرح به، وكذلك من يعمل مثقال ذرة في الدنيا شراً يره يوم القيامة فيسؤه، ومثل هذه الآية قوله (إن الله لا يظلم مثقال ذرة).
وقال بعض أهل اللغة أن الذرة هو أن يضرب الرجل بيده على الأرض فما علق من التراب فهو ذرة، وقيل الذر ما يرى في شعاع الشمس من الهباء، والأول أولى.
و" من " الأولى عبارة عن السعداء، ومن الثانية عبارة عن الأشقياء، وقال محمد بن كعب فمن يعمل مثقال ذرة من خير من كافر فيرى ثوابه في الدنيا في نفسه وماله وأهله وولده حتى يخرج من الدنيا وليس له عند الله خير، ومن يعمل مثقال ذرة من شر من مؤمن يرى عقوبته في الدنيا في نفسه وماله(15/344)
وأهله وولده حتى يخرج من الدنيا وليس له عند الله شر، والأول أولى.
قال مقاتل نزلت في رجلين كان أحدهما يأتيه السائل فيستقل أن يعطيه التمرة والكسرة والجوزة، وكان الآخر يتهاون بالذنب اليسير كالكذبة والغيبة والنظرة ويقول إنما أوعد الله النار على الكفارين.
قال ابن مسعود: هذه الآية أحكم آية في القرآن وأصدق، وقد اتفق العلماء على عموم هذه الآية.
قال كعب الأحبار لقد أنزل على محمد صلى الله عليه وآله وسلم آيتان أحصتا ما في التوراة والإنجيل والزبور والصحف (فمن يعمل) إلخ.
وروى محيي السنة: عن ابن عباس ليس من مؤمن ولا كافر عمل خيراً كان أو شراً إلا أراه الله تعالى: فأما المؤمن فيغفر له سيئاته ويثيبه بحسناته، وأما الكافر فترد حسناته تحسراً ويعذب بسيئاته، وهذا الإحتمال يساعده النظم والمعنى.
عن أنس قال بينما أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه يأكل مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذ نزلت عليه (فمن يعمل) إلخ فرفع أبو بكر يده وقال يا رسول الله " إني لراء ما عملت من مثقال ذرة من شر، فقال يا أبا بكر أرأيت ما ترى في الدنيا مما تكره فبمثاقيل ذر الشر، ويدخر لك ذر الخير حتى توفاه يوم القيامة " أخرجه ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني في الأوسط والحاكم في تاريخه وابن مردويه والبيهقي في الشعب.
عن أبي أسماء قال بينما أبو بكر يتغدى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ نزلت هذه الآية فأمسك أبو بكر وقال يا رسول الله ما عملنا من شر رأيناه فقال ما ترون مما تكرهون فذاك مما تجزون، ويؤخر الخير لأهله في الآخرة. أخرجه إسحق بن راهويه وعبد بن حميد والحاكم وابن مردويه.
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص قال أنزلت إذا زلزلت وأبو بكر الصديق قاعد فبكى فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما يبكيك يا(15/345)
أبا بكر قال تبكيني هذه السورة فقال " لولا أنكم تخطئون وتذنبون فيغفر لكم لخلق الله قوماً يخطئون ويذنبون فيغفر لهم ". أخرجه ابن أبي الدنيا وابن جرير والطبراني وابن مردويه والبيهقي في الشعب.
وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: " الخيل لثلاثة لرجل أجر ولرجل ستر وعلى رجل وزر، الحديث قال.
وسئل عن الحمر (2) فقال ما أنزل عليّ إلا هذه الآية الجامعة الفاذة، (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ). أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما.(15/346)
سورة العاديات
في إحدى عشرة آية وهي مكية في قول ابن مسعود وجابر والحسن وعكرمة وعطاء، ومدنية في قول ابن عباس وأنس بن مالك وقتادة.
وعن الحسن قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: " إذا زلزلت تعدل نصف القرآن والعاديات تعدل نصف القرآن " وهو مرسل. أخرجه أبو عبيدة في فضائله، وعن ابن عباس مرفوعاً مثله، أخرجه محمد بن نصر من طريق عطاء بن أبي رباح وزاد " وقل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن، وقل يا أيها الكافرون تعدل ربع القرآن ".(15/347)
بسم الله الرحمن الرحيم
وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا (1) فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا (2) فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا (3) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا (4) فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا (5) إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6) وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ (7) وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8) أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ (9) وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ (10) إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ (11)(15/349)
وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا (1)
(والعاديات) جمع عادية وهي الجارية بسرعة من العدو، وهو المشي بسرعة فقلبت الواو ياء لكسرة ما قبلها كالغازيات من الغزو، والمراد بها الخيل العادية في الغزو نحو العدو، و (ضبحاً) مصدر مؤكد لإسم الفاعل فإن الضبح نوع من السير ونوع من العدو، ويقل ضبح الفرس إذا عدا بشدة مأخوذ من الضبع وهو الدفع، وكأن الحاء بدل من العين، قال أبو عبيدة والمبرد الضبح من إضباعها في السير.
ويجوز أن يكون مصدراً في موضع الحال أي ضابحات أو ذوات ضبح، ويجوز أن يكون مصدراً لفعل محذوف أن يضبح ضبحاً. وقيل الضبح صوت حوافرها إذا عدت. وقال الفراء الضبح صوت أنفاس الخيل إذا عدت قيل كانت تكمم لئلا تصهل فيعلم العدو، فكانت تتنفس في هذه الحالة بقوة.
وقيل الضبح صوت يسمع من صدور الخيل عند العدو وليس بصهيل.
وقد ذهب الجمهور إلى ما ذكرنا من أن العاديات ضبحاً هي الخيل، وقال عبيد ابن عمير ومحمد بن كعب والسدي هي الإبل، ونقل أهل اللغة إن أصل الضبح للثعلب فاستعير للخيل.
قال ابن عباس بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خيلاً فاستمرت شهراً لا يأتيه منها خبر، فنزلت (والعاديات ضبحاً) ضبحت بأرجلها وفي(15/349)
لفظ ضبحت بمناخرها وعنه قال بعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سرية إلى العدو فأبطأ خبرها فشق ذلك عليه فأخبره الله خبرهم وما كان من أمرهم فقال (والعاديات ضبحاً) قال هي الخيل والضبح نخير الخيل حين تنخر.
وعنه قال هي الخيل في القتال وضبحها حين ترخي مشافرها إذا عدت، وعن ابن مسعود قال هي الإبل، قال إبراهيم النخعي قال علي هي الإبل، وقال ابن عباس هي الخيل، فبلغ علياً قول ابن عباس فقال ما كانت لنا خيل يوم بدر، قال ابن عباس إنما كانت تلك في سرية بعثت.
وعن عامر الشعبي قال تمارى في وابن عباس في العاديات ضبحاً فقال ابن عباس هي الخيل (1) وقال علي كذبت يا ابن فلانة والله ما كان معنا يوم بدر فارس إلا المقداد كان على فرس أبلق، قال وكان يقول هي الإبل فقال ابن عباس ألا ترى أنها تثير نقعاً فما شيء يثير إلا بحوافرها، وعن ابن عباس قال هي الخيل في القتال وعن ابن مسعود قال في الحج، وعن ابن عباس ليس شيء من الدواب يضبح إلا الكلب أو الفرس، وقد روي عنه بطرق أنه الخيل، وعنه قال الخيل ضبحها زخيرها ألم تر أن الفرس إذا عدا قال اح اح
_________
(1) أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن الأنباري في كتاب الأضداد والحاكم وصححه وابن مردويه عن ابن عباس قال بينما أنا في الحجر جالس إذ أتاني رجل يسأل عن العاديات ضبحاً فقلت الخيل حين تغير في سبيل الله ثم تأوي إلى الليل فيصنعون طعامهم ويورون نارهم فانفتل عني فذهب إلى علي بن أبي طالب وهو جالس تحت سقاية زمزم فسأله عن العاديات ضبحاً فقال سألت عنها أحداً قبلي؟ قال: نعم سألت عنها ابن عباس فقال هي الخيل حين تغير في سبيل الله فقال اذهب فادعه لي، فلما وقفت على رأسه قال تفتي الناس بما لا علم لك، والله إن كانت لأول غزوة في الإسلام بدر وما كان معنا إلا فرسان فرس للزبير، وفرس المقداد بن الأسود، فكيف يكون العاديات ضبحاً إنما العاديات ضبحاً من عرفة إلى المزدلفة فإذا أووا إلى المزدلفة أوقدوا النيران، والمغيرات صبحاً من المزدلفة إلى منى فذلك جمع، وأما قوله فأثرن به نقعاً فهي نقع الأرض حتى تطؤه بأخفافها وحوافرها قال ابن عباس فنزعت من قولي ورجعت إلى الذي قال علي رضي الله عنه، ذكره الشوكاني رحمه الله في فتح القدير انتهى سيد ذو الفقار أحمد.(15/350)
فذلك ضبحها، وعن علي قال الضبح من الخيل الحمحمة ومن الإبل النفس.(15/351)
فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا (2)
(فالموريات قدحاً) هي الخيل حين توري النار بسنابكها، والإيراء إخراج النار، والقدح الصك، فجعل ضرب الخيل بحوافرها كالقدح بالزناد.
قال الزجاج: إذا عدت الخيل بالليل وأصاب حوافرها الحجارة انقدح منها النيران والكلام في انتصاب قدحاً كالكلام في انتصاب ضبحاً والخلاف في كونها الخيل أو الإبل كالخلاف الذي تقدم في العاديات، والراجح أنها الخيل كما ذهب إليه الجمهور، وكما هو الظاهر من هذه الأوصاف المذكورة في هذه السورة ما تقدم منها وما سيأتي فإنها في الخيل أوضح منها في الإبل، وتقدم ما في ذلك من الخلاف بين الصحابة.
قال ابن عباس في الآية قدحت بحوافرها الحجارة، وعنه قال حين تجري الخيل توري ناراً أصابت سنابكها الحجارة، وعنه قال الرجل إذا أورى زنده، وعنه قال هو مكر الرجل قدح فأورى، وقال ابن مسعود إذا سفت الحصى بمناسمها فضرب الحصى بعضه بعضاً فتخرج منه النار.(15/351)
فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا (3)
(فالمغيرات صبحاً) أي التي تغير على العدو وقت الصباح، يقال أغار يغير إغارة إذا باغت عدوه لقتل أو أسر أو نهب، وأسند الإغارة إليها وهي لأهلها للإشعار بأنها عمدتهم في إغارتهم، وصبحاً منصوب على الظرفية قال ابن عباس صبحت القوم بغارة.
وعنه قال هي الخيل أغارت فصبحت العدو، وعنه قال إذا أصبحت العدو، وعنه قال الخيل تصبح العدو، وقال أيضاًً غارت الخيل صبحاً، وقال ابن مسعود حين يفيضون من جمع، وإنما أقسم الله عز وجل بخيل الغزاة تنبيهاً على فضلها وفضل رباطها في سبيل الله، ولما فيها من المنافع الدينية والدنيوية والأجر والغنيمة.(15/351)
فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا (4)
(فأثرن به نقعاً) معطوف على الفعل الذي دل عليه اسم الفاعل إذ المعنى واللاتي غدرن فأثرن أو على إسم الفاعل نفسه لكونه في تأويل الفعل لوقوعه صلة للموصول فإن الألف واللام في الصفات أسماء موصولة، فالكلام في قوة واللاتي غدرن فأورين فأغرن فأثرن، والنقع الغبار الذي أثارته في وجه العدو عند الغزو.
وتخصيص إثارته بالصبح لأنه وقت الإغارة ولكونه لا يظهر أثر النقع في الليل الذي اتصل به الصبح. وقيل المعنى فأثرن بمكان عدوهن نقعاً يقال ثار النقع وأثرته أي هاج وهيجته.
قرأ الجمهور فأثرن بتخفيف الثاء وقريء بتشديدها أي فأظهرن غباراً، وقال أبو عبيدة النقع رفع الصوت، وعلى هذا رأيت قول أكثر أهل العلم، انتهى.
والمعروف عند جمهور أهل اللغة والمفسرين أن النقع الغبار، وهذا هو المناسب لمعنى الآية وليس لتفسير النقع بالصوت فيها كثير معنى، فإن قولك أغارت الخيل على بني فلان صبحاً فأثرن به صوتاً قليل الجدوى مغسول المعنى، بعيد من بلاغة القرآن المعجزة.
وقيل النقع شق الجيوب، وقال محمد بن كعب النقع ما بين مزدلفة إلى منى، وقيل أنه طريق الوادي، قال في الصحاح النقع الغبار والجمع انقاع والنقع محبس الماء وكذلك ما اجتمع في البئر منه. والنقع الأرض الحرة الطين يستنقع فيها الماء.
قال ابن عباس في الآية أثارت بحوافرها التراب وقال أيضاًً هي الخيل أثرن بحوافرها يقول بعدو الخيل والنقع الغبار. وعنه قال التراب وقال أيضاًً نقعاً غباراً وقال ابن مسعود إذا سرن يثرن التراب.(15/352)
فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا (5)
(فوسطن به جمعاً) أي توسطن بذلك الوقت أو توسطن متلبسات بالنقع جمعاً من جموع الأعداء أو صرن بعدوهن وسط جمع الأعداء، والباء إما(15/352)
للتعدية أو للحالية أو زائدة يقال وسطت القوم والمكان أسط وسطاً من باب وعد إذا توسطت بين ذلك. والفاعل واسط وبه سمي البلد الشهور بالعراق لأنه توسط الإقليم. تقول جلست وسط القوم بالتسكين لأنه ظرف وجلست وسط الدار بالتحريك لأنه اسم لا يكتنفه غيره من جهاته.
وكل موضع صلح فيه بين فهو وسط بالسكون وإن لم يصلح فيه بين فهو وسط بالتحريك، وربما سكن وليس بالوجه، و (جمعاً) مفعول به، والفاآت في المواضع الأربعة للدلالة على ترتب ما بعد كل واحدة منها على ما قبلها.
قرأ الجمهور فوسطن بتخفيف السين وقرىء بالتشديد قال ابن عباس في الآية صبحت القوم جميعاً وفي لفظ الجمع العدو وفي لفظ إذا توسطت العدو، وفي لفظ جمع العدو.(15/353)
إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6)
(إن الإنسان لربه لكنود) هذا جواب القسم والمراد بالإنسان بعض أفراده وهو الكافر والكنود الكفور للنعمة، وقوله لربه متعلق بكنود قدم لرعاية الفواصل وقيل هو الجاحد للحق، وقيل الكنود مأخوذ من الكند وهو القطع كأنه قطع ما ينبغي أن يواصله من الشكر، يقال كند الحبل إذا قطعه، وقيل الكنود البخيل بلغة بني مالك وقيل الحسود وقيل الجهول لقدره، وقيل العاصي بلغة كند.
وتفسير الكنود بالكفور للنعمة أولى بالمقام والجاحد للنعمة كافر لها، ولا يناسب المقام سائر ما قيل: وعن ابن عباس قال الكنود بلساننا أهل البلد الكفور. وعن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: " الكنود الكفور " أخرجه ابن عساكر وعنه قال: " الكنود الذي يمنع رفده وينزل وحده ويضرب عبده " (1)، وروي نحوه مرفوعاً عنه وسنده ضعيف. والوقوف أصح.
_________
(1) الطبري 30/ 278.(15/353)
وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ (7)
(وإنه على ذلك) أي وأن الإنسان على كنوده (لشهيد) يشهد على نفسه به لظهور أثره عليه، وقيل المعنى وإن الله جل ثناؤه على ذلك من ابن آدم لشهيد؛ وبه قال الجمهور؛ وقال بالأول الحسن وقتادة ومحمد بن كعب؛ وهو أرجح من قول الجمهور لقوله(15/354)
وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8)
(وإنه لحب الخير لشديد) فإن الضمير راجع إلى الإنسان والمعنى أنه لحب المال قوي مجد في طلبه وتحصيله متهالك عليه.
يقال هو شديد لهذا الأمر وقوي له. إذا كان مطيقاً له. ومنه قوله تعالى (إن ترك خيراً) وقيل المعنى وإن الإنسان من أجل حب المال لبخيل والأول أولى، واللام في (لحب) متعلقة بشديد، قال ابن زيد سمى الله المال خيراً وعسى أن يكون شراً ولكن الناس يجدونه خيراً فسماه خيراً.
قال الفراء أصل نظم الآية أن يقال وإنه لشديد الحب للخير، فلما قدم الحب قال لشديد وحذف من آخره ذكر الحب لأنه قد جرى ذكره ولرؤوس الآي كقوله (في يوم عاصف) والعصوف للريح لا لليوم كأنه قال في يوم عاصف الريح، قال ابن عباس الخير المال.(15/354)
أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ (9)
(أفلا يعلم إذا بعثر ما في القبور) الإستفهام للإنكار، والفاء للعطف على مقدر يقتضيه المقام أي أيفعل ما يفعل من القبائح فلا يعلم، وهذا تهديد ووعيد، وبعثر معناه نثر وبحث أي نثر ما في القبور من الموتى وبحث عنهم وأخرجوا قال أبو عبيدة: بعثرت المتاع جعلت أسفله أعلاه، وقال الفراء سمعت بعض العرب من بني أسد يقول بحثر بالحاء مكان العين، وقد تقدم الكلام على هذا في قوله (وإذا القبور بعثرت).(15/354)
وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ (10)
(وحصل ما في الصدور) أي ميز وبين ما فيها من الخير والشر، والتحصيل التمييز، كذا قال المفسرون، وقيل حصل أبرز، قرأ الجمهور حصل بضم الحاء وتشديد الصاد مكسوراً مبنياً للمفعول، وقريء حصل بفتح(15/354)
الحاء وتخفيف الصاد مبنياً للفاعل أي ظهر، قال ابن عباس: بعثر بحث، وحصل أبرز.
والمعنى أخرج وجمع بغاية السهولة ما في الصدور من خير وشر مما يظن مضمره إنه لا يعلمه أحد أصلاً وظهر مكتوباً في صحائف الأعمال، وهذا يدل على أن الإنسان يحاسب بها كما يحاسب على ما يظهر من آثارها وخص أعمال القلوب بالذكر، وترك ذكر أعمال الجوارح لأنها تابعة لأعمال القلوب، فإنه لولا تحقق البواعث والإرادات في القلوب لما حصلت أفعال الجوارح.(15/355)
إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ (11)
(إن ربهم) أي إن رب المبعوثين (بهم يومئذ لخبير) لا تخفى عليه خافية فيجازيهم بالخير خيراً وبالشر شراً، قال الزجاج الله خبير بهم في ذلك اليوم وفي غيره ولكن المعنى أن الله يجازيهم على كفرهم في ذلك اليوم، ومثله قوله تعالى (أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ) معناه أولئك الذين لا يترك الله مجازاتهم.
قال الإمام دلت الآية على أنه تعالى عالم بالجزئيات الزمانيات وغيرها لأنه تعالى نص على كونه عالماً بكيفية أحوالهم في ذلك اليوم، فكيف لا يكون منكره كافراً ذكره الكرخي.
قرأ الجمهور بكسر إن وباللام في الخبير، وقرأ أبو السماك بفتح الهمزة وإسقاط اللام.(15/355)
سورة القارعة
وهي ثمان آيات وقيل إحدى عشرة آية وقيل عشر آيات، وهي مكية بلا خلاف قال ابن عباس نزلت بمكة.(15/357)
بسم الله الرحمن الرحيم
الْقَارِعَةُ (1) مَا الْقَارِعَةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ (3) يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ (4) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (5) فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ (6) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (7) وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ (9) وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ (10) نَارٌ حَامِيَةٌ (11)(15/359)
الْقَارِعَةُ (1)
(القارعة) هي من أسماء القيامة، قاله ابن عباس لأنها تقرع القلوب بالفزع، وتقرع أعداء الله بالعذاب. والعرب تقول قرعتهم القارعة إذا وقع بهم أمر فظيع. وقيل أصل القرع الصوت الشديد، ومنه قوارع الدهر، وسميت قارعة بصوت إسرافيل لأنه إذا نفخ في الصور مات جميع الخلائق من شدة صوت نفخته وهي مبتدأ وخبره(15/359)
مَا الْقَارِعَةُ (2)
(ما القارعة).
قرأ الجمهور بالرفع وقريء بنصبها على تقدير احذروا القارعة، والإستفهام للتفخيم والتعظيم لشأنها كما تقدم بيانه في قوله (الحاقة ما الحاقة) وقيل معنى الكلام على التحذير.
قال الزجاج والعرب تحذر وتغري بالرفع كالنصب، والحمل على معنى التفخيم والتعظيم أولى ويؤيده وضع الظاهر موضع المضمر، فإنه أدل على هذا المعنى ويؤيده أيضاًً قوله:(15/359)
وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ (3)
(وما أدراك ما القارعة) فإنه تأكيد لشدة هولها ومزيد فظاعتها حتى كأنها خارجة عن دائرة علوم الخلق بحيث لا تنالها دراية أحد منهم، وما الإستفهامية مبتدأ وإدراك خبرها، وما القارعة مبتدأ وخبر، والجملة في محل نصب على أنها المفعول الثاني، والمعنى وأي شيء أعلمك ما شأن القارعة.(15/359)
ثم بين سبحانه متى تكون القارعة فقال(15/360)
يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ (4)
(يوم يكون الناس كالفراش المبثوث) إنتصاب الظرف بفعل محذوف تدل عليه القارعة أي تقرعهم يوم يكون إلخ، ويجوز أن يكون منصوباً بتقدير أذكر.
وقال ابن عطية ومكي وأبو البقاء هو منصوب بنفس القارعة وقيل هو خبر مبتدأ محذوف وإنما نصب لإضافته إلى الفعل، فالفتحة فتحة بناء لا فتحة إعراب أي هي يوم يكون إلخ وقيل التقدير ستأتيكم القارعة يوم يكون إلخ.
وقرأ زيد بن على برفع يوم على الخبرية للمبتدأ المقدر. والفراش الطير الذي تراه يتساقط في النار والسراج، الواحدة فراشة كذا قال أبو عبيدة وغيره.
قال الفراء الفراش هو الطائر من بعوض وغيره ومنه الجراد قال وبه يضرب المثل في الطيش والهوج، يقال أطيش من فراشة.
والمراد بالمبثوث المتفرق المنتشر يقال بثه إذا فرقه. ومثل هذا قوله سبحانه في آية أخرى (كأنهم جراد منتشر).
وقال المبثوث ولم يقل مبثوثة لأن الكل جائز كما في قوله (أعجاز نخل منقعر) (أعجاز نخل خاوية) وقد تقدم بيان وجه ذلك.
وفي تشبيه الناس بالفراش مبالغات شتى منها الطيش الذي يلحقهم وإنتشارهم في الأرض وركوب بعضهم بعضاً. والكثرة والضعف والتذلل إجابة الداعي من كل جهة والتطاير إلى النار.(15/360)
وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (5)
(وتكون الجبال) بعد أن تتفتت كالرمل السائل (كالعهن المنفوش) كالصوف الملون بالألوان المختلفة الذي نفش بالندف. والعهن عند أهل اللغة الصوف المصبوغ بالألوان المختلفة، وقد تقدم بيان هذا في سورة (سأل سائل) وقد ورد في الكتاب العزيز أوصاف للجبال يوم القيامة، وقد قدمنا بيان الجمع بينها.(15/360)
ثم ذكر سبحانه أحوال الناس وتفرقهم فريقين على جهة الإجمال فقال: "(15/361)
فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ (6)
(فأما من ثقلت موازينه) " بإتباعه الحق، وقد تقدم القول في الميزان في سورة الأعراف وسورة الكهف وسورة الأنبياء، وقد اختلف فيها هنا فقيل هي جمع موزون وهو العمل الذي له وزن وخطر عند الله، وبه قال الفراء وغيره وقيل هي جمع ميزان وهو الآلة التي توضع فيها صحائف الأعمال، وعبر عنه بلفظ الجمع كما يقال لكل حادثة ميزان. وقيل المراد بالموازين الحجج والدلائل.
"(15/361)
فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (7)
(فهو في عيشة) " حياة " (راضية) " طيبة أو مرضية " فهو إسناد مجازي أو استعارة مكنية وتخييلية أو هي بمعنى المفعول على التجوز في الكلمة نفسها، قال الزجاج: أي ذات رضا يرضاها صاحبها يعني أنها للنسب.
وقيل المعنى فاعلة للرضاء وهو اللين والإنقياد لأهلها، والعيشة كلمة تجمع النعم التي في الجنة.
"(15/361)
وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ (8)
(وأما من خفت موازينه) " أي رجحت سيئاته على حسناته أو لم تكن له حسنات يعتد بها "(15/361)
فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ (9)
(فأمه هاوية) " أي فمسكنه جهنم وسماها أمه لأنه يأوي إليها كما يأوي إلى أمه، والهاوية من أسماء جهنم، وهي آخر الطبقات السبع وسميت هاوية لأنه يهوي فيها مع بعد قعرها، والمهوى والمهواة ما بين الجبلين، وتهاوى القوم في المهواة إذا سقط بعضهم في إثر بعض.
قال قتادة يعني فمصيره إلى النار، قال عكرمة لأنه يهوي فيها على أم رأسه، قال الأخفش أمه مستقرة، قال ابن عباس هاوية كقوله هوت أمه، وعن عكرمة قال أم رأسه هاوية في جهنم.
قال الخطيب أي نار نازلة سافلة جداً فهو بحيث لا يزال يهوي فيها نازلاً فهو في عيشة ساخطة فالآية من الإحتباك: ذكر العيشة أولاً دليلاً على حذفها ثانياً وذكر الأم ثانياً دليلاً على حذفها أولاً.
وأخرج ابن مردويه عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:(15/361)
(إذا مات المؤمن تلقته أرواح المؤمنين يسألونه ما فعل فلان، ما فعلت فلانة فإذا كان مات ولم يأتهم قالوا خولف به إلى أمه الهاوية فبئست الأم وبئست المربية) وأخرج ابن مردويه من حديث أبي أيوب الأنصاري نحوه، وأخرج ابن المبارك من حديثه نحوه أيضاًً.
وبقي قسم ثالث غير مذكور في الآية وهو من استوت حسناته وسيئاته، قال المناوي من رجحت حسناته بسبب زيادتها على السيئات فهو في الجنة بغير حساب، ومن استوت حسناته وسيئاته فيحاسب حساباً يسيراً، ومن رجحت سيئاته على حسناته أي بسبب زيادتها فيشفع فيه أو يعذب.(15/362)
وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ (10)
(وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ) هذا الإستفهام للتهويل والتفظيع ببيان أنها خارجة عن العهود بحيث لا تحيط بها علوم البشر، ولا تدري كنهها، والضمير يعود إلى الهاوية والهاء للسكت.
ثم بينها سبحانه بقوله(15/362)
نَارٌ حَامِيَةٌ (11)
(نار حامية) أي قد انتهى حرها وبلغ في الشدة إلى الغاية، وارتفاع نار على أنها خبر مبتدأ محذوف أي هي نار حامية، نعوذ بالله منها.(15/362)
سورة التكاثر
هي ثمان آيات وهي مكية عند الجميع وروى البخاري أنها مدنية: قال ابن عباس نزلت بمكة.
عن ابن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - " ألا يستطيع أحدكم أن يقرأ ألف آية في كل يوم "، قالوا ومن يستطيع أن يقرأ ألف آية في كل يوم، قال " أما يستطيع أحدكم أن يقرأ (أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ) " أخرجه الحاكم والبيهقي في الشعب، قال المنذري رجال إسناده ثقات إلاّ أن عقبة لا أعرفه.
وعن عمر بن الخطاب قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - " من قرأ في ليلة ألف آية لقي الله وهو ضاحك في وجهه قيل يا رسول الله ومن يقوى على ألف آية فقرأ " بسم الله الرحمن الرحيم (أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ) إلى آخرها ثم قال والذي نفسي بيده إنها لتعدل ألف آية " أخرجه الخطيب في المتفق والمفترق والديلمي.
وأخرج مسلم والترمذي والنسائي وغيرهم عن عبد الله بن الشخير قال: " انتهيت إلى رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وهو يقرأ(15/363)
(أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ)، وفي لفظ وقد أنزلت عليه (أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ) وهو يقول: " يقول ابن آدم مالي مالي وهل لك من مال إلا ما أكلت فأفنيت " وأخرجه مسلم وغيره من حديث أبي هريرة ولم يذكر فيه قراءة هذه السورة ولا نزولها بلفظ " يقول العبد مالي مالي وإنما له من ماله ثلاثة ما أكل فأفنى وما لبس فأبلي وما تصدق فأبقى، وما سوى ذلك فهو ذاهب وتاركه للناس ".
وعن جرير بن عبد الله قال: قال لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إني قارئ عليكم سورة (أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ) فمن بكى فله الجنة " فقرأها فمنا من بكى، ومنا من لم يبك فقال الذين لم يبكوا قد جهدنا يا رسول الله أن نبكي فلم نقدر عليه، فقال " إني قارئها عليكم الثانية فمن بكى فله الجنة، ومن لم يقدر أن يبكي فليتباك " أخرجه البيهقي في الشعب وضعفه، والحكيم الترمذي في نوادر الأصول.(15/364)
بسم الله الرحمن الرحيم
أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ (2) كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4) كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6)(15/365)
أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ (2)
(أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ)، أي شغلكم التباري في التكاثر بالأموال والأولاد، والتباهي والتفاخر بكثرتها عن طاعة الله تعالى والتغالب فيها، يقال ألهاه عن كذا وأقهاه إذا شغله، وقال الحسن معناه أنساكم حتى أدرككم الموت وأنتم على تلك الحال، وقال قتادة إن التكاثر التفاخر بالقبائل والعشائر، وقال الضحاك ألهاكم التشاغل بالمعاش وقيل المعنى متم ودفنتم في المقابر والمقابر جمع مقبرة وقال مقاتل وقتادة أيضاًً وغيرهما نزلت في اليهود حين قالوا نحن أكثر من بني فلان، وبنو فلان أكثر من بني فلان، ألهاهم ذلك حتى ماتوا.
وقال الكلبي نزلت في حيين من قريش بني عبد مناف وبني سهم وتعادوا أو تكاثروا بالسيادة والإشراف في الإسلام، فقال كل حي منهم نحن أكثر سيداً وأعز عزيزاً وأعظم نفراً وأكثر قائداً فكثر بنو عبد مناف بني سهم، ثم تكاثروا بالأموات فكثرتهم بهم، فنزلت ألهاكم التكاثر فلم ترضوا حتى زرتم المقابر مفتخرين بالأموات.
وعن أبي بردة في الآية قال: " نزلت في قبيلتين من قبائل الأنصار في بني حارثة وبني الحرث تفاخروا وتكاثروا فقالت إحداهما فيكم مثل فلان وفلان، وقال الآخرون مثل ذلك تفاخروا بالأحياء ثم قالوا انطلقوا بنا إلى القبور، فجعلت إحدى الطائفتين تقول فيكم مثل فلان يشيرون إلى القبر، ومثل فلان وفعل الآخرون مثل ذلك فأنزل الله هذه الآية " أي لقد كان لكم فيما زرتم(15/365)
عبرة وشغل، أخرجه ابن أبي حاتم (1).
وفي الآية دليل على أن الإشتغال بالدنيا والمكاثرة بها والمفاخرة فيها من الخصال المذمومة، والشرع دل على أن التكاثر والتفاخر في السعادات الحقيقية غير مذموم، فيجوز للإنسان أن يفتخر بطاعاته وحسن أخلاقه إذا كان يظن أن غيره يقتدي به.
وقال سبحانه ألهاكم التكاثر ولم يقل عن كذا بل أطلقه لأن الإطلاق أبلغ في الذم لأنه يذهب فيه الوهم كل مذهب، فيدخل فيه جميع ما يحتمله المقام، لأن حذف المتعلق مشعر بالتعميم كما تقرر في علم البيان.
والمعنى أنه شغلكم التكاثر عن علم كل شيء يجب عليكم الإشتغال به من طاعة الله.
والعمل للآخرة، وعبر عن موتهم بزيارة المقابر لأن الميت قد صار إلى قبره كما يصير الزائر إلى الموضع الذي يزوره، هذا على قول من قال إن معنى زرتم المقابر متم، وأما على قول من قال إن معنى زرتم المقابر، ذكرتم الموتى وعددتموهم للمفاخرة والمكاثرة فيكون ذلك على طريق التهكم بهم وقيل إنهم كانوا يزورون المقابر فيقولون هذا قبر فلان وهذا قبر فلان يفتخرون بذلك.
_________
(1) روى مسلم في " صحيحه " رقم (2958) عن مطرف عن أبيه قال: أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يقرأ (ألهاكم التكاثر)، قال: " يقول ابن آدم: مالي، مالي (قال) وهل لك يا ابن آدم من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت ". وروى مسلم أيضاًً رقم (2959) عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال " يقول العبد: مالي، مالي، إنما له من ماله ثلاث: ما أكل فأفنى، أو لبس فأبلى، أو أعطى فاقتنى (ادخره لآخرته) وما سوى ذلك فهو ذاهب وتاركه للناس ". وروى البخاري ومسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " يتبع الميت ثلاثة، فيرجع اثنان ويبقى واحد، يتبعه أهله وماله وعمله، فيرجع أهله وماله، ويبقى عمله ".(15/366)
كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3)
(كلا سوف تعلمون) ردع وزجر لهم عن التكاثر وتنبيه على أنهم سيعلمون عاقبة ذلك يوم القيامة، وفيه وعيد شديد، قال الفراء أي ليس(15/366)
الأمر على ما أنتم عليه من التكاثر والتفاخر.
ثم كرر الردع والزجر والوعيد فقال(15/367)
ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4)
(ثم كلا سوف تعلمون) ثم للدلالة على، أن الثاني أبلغ من الأول، وقيل الأول عند الموت أو في القبر، والثاني يوم القيامة قال الفراء: هذا التكرار على وجه التغليظ والتأكيد، قال مجاهد: هو وعيد بعد وعيد، وكذا قال الحسن ومقاتل.
وجعله الشيخ جمال الدين بن مالك من التوكيد اللفظي مع توسط حرف العطف، وقال الزمخشري والتكرير تأكيد للردع والرد عليهم، ونقل عن علي (كلا سوف تعلمون) في الدنيا (ثم كلا سوف تعلمون) في الآخرة، فعلى هذا يكون غير مكرر لحصول التغاير بينهما لأجل تغاير المتعلقين، وثم على بابها من المهلة وحذف متعلق العلم في الأفعال الثلاثة لأن الغرض هو الفعل لا متعلقه، والعلم بمعنى المعرفة فيتعدى لمفعول واحد قاله السمين.(15/367)
كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5)
(كلا لو تعلمون علم اليقين) أي لو تعلمون الأمر الذي أنتم صائرون إليه علماً يقينياً كعلمكم ما هو متيقن عندكم في الدنيا، وجواب لو محذوف أي لشغلكم ذلك عن التكاثر والتفاخر أو لفعلتم ما ينفعكم من الخير، وتركتم ما لا ينفعكم مما أنتم فيه.
وقال الأخفش: التقدير لو تعلمون علم اليقين ما ألهاكم، و (كلا) في هذا الموضع الثالث للردع والزجر كالموضعين الأولين، وقال الفراء: هي بمعنى حقاً، وقيل هي في المواضع الثلاثة بمعنى ألا، قاله ابن أبي حاتم، قال قتادة اليقين هنا الموت، وعنه قال هو البعث، وعنه كنا نحدث أن علم اليقين أن يعلم أن الله باعثه بعد الموت.
وإضافة العلم إلى اليقين من إضافة الموصوف إلى صفته، وفي السمين وعلم اليقين مصدر قيل وأصله العلم اليقين، وقيل لا حاجة إلى ذلك لأن العلم يكون يقيناً وغير يقين فأضيف إليه إضافة العلم للخاص، وهذا يدل على أن اليقين أخص.(15/367)
ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ (7) ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8)
وقوله(15/368)
لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6)
(لترون الجحيم) جواب قسم محذوف، وفيه زيادة وعيد وتهديد أي والله لترون الجحيم في الآخرة، قال الرازي وليس هذا جواب لو لان جواب لو يكون منفياً وهذا مثبت، ولأنه عطف عليه (ثم لتسئلن) وهو مستقبل لا بد من وقوعه، قال وحذف جواب (لو) كثير، والخطاب لكفار، وقيل عام كقوله (وإن منكم إلا واردها).
قرأ الجمهور لترون بفتح التاء مبنياً للفاعل وقرىء بضمها مبنياً للمفعول، والرؤية هنا بصرية فلذلك تعدت إلى مفعول واحد.
ثم كرر الوعيد والتهديد للتأكيد فقال(15/368)
ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ (7)
(ثم لترونها عين اليقين) أي ثم لترون الجحيم الرؤية التي هي نفس اليقين، وهي المشاهدة والمعاينة، وقيل المعنى لترون الجحيم بأبصاركم على البعد منكم ثم لترونها مشاهدة على القرب، وقيل المراد بالأول رؤيتها قبل دخولها، وبالثاني رؤيتها حال دخولها، وقيل هو إخبار عن دوام بقائهم في النار أي هي رؤية دائمة متصلة، وقيل المعنى لو تعلمون اليوم علم اليقين وأنتم في الدنيا لترون الجحيم بعيون قلوبكم، وهو أن تتصوروا أمر القيامة وأهوالها.(15/368)
ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8)
(ثم لتسئلن يومئذ عن النعيم) أي عن نعيم الدنيا الذي ألهاكم عن العمل للآخرة، وثم للترتيب الإخباري لا المعنوي، لأن السؤال قبل رؤية الجحيم.
قال قتادة: يعني كفار مكة كانوا في الدنيا في الخير والنعمة فيسألون يوم القيامة عن شكر ما كانوا فيه، ولم يشكروا رب النعم حيث عبدوا غيره وأشركوا به، قال الحسن: لا يسأل عن النعم إلا أهل النار.
وقال قتادة: إن الله سبحانه سائل كل ذي نعمة عما أنعم عليه وهذا هو الظاهر ولا وجه لتخصيص النعيم بفرد من الأفراد، أو نوع من الأنواع، لأن(15/368)
تعريفه للجنس أو للاستغراق.
ومجرد السؤال لا يستلزم تعذيب المسؤول على النعمة التي سئل عنها فقد يسأل الله المؤمن عن النعم التي أنعم بها عليه فيم صرفها وبم عمل فيها ليعرف تقصيره وعدم قيامه بما يجب عليه من الشكر.
قيل السؤال عن الأمن والصحة، وقيل عن الصحة والفراغ، وقيل عن الإدراك بالحواس، وقيل عن ملاذ المؤكول والمشروب، وقيل عن الغداء والعشاء، وقيل عن بارد الشراب وظلال المساكن، وقيل عن اعتدال الخلق، وقيل عن لذة النوم، وقيل غير ذلك والأولى العموم كما ذكرنا.
وعن ابن عباس في الآية قال صحة الأبدان والأسماع والأبصار، وهو أعلم بذلك منهم، وهو قوله (إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولاً).
وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن زيد بن أسلم عن أبيه قال: " قرأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (ألهاكم التكاثر) يعني عن الطاعة (حتى زرتم المقابر) يقول حتى يأتيكم الموت " (كلا سوف تعلمون) يعني لو قد دخلتم قبوركم (ثم كلا سوف تعلمون) يقول لو قد خرجتم من قبوركم إلى محشركم (كلا لو تعلمون علم اليقين) قال لو قد وقفتم على أعمالكم بين يدي ربكم (لترون الجحيم) وذلك أن الصراط يوضع وسط جهنم فناج مسلم ومخدوش مسلم ومكدوش في نار جهنم (ثم لتسئلن يومئذ عن النعيم) يعني شبع البطون وبارد الشراب وظلال المساكن واعتدال الخلق ولذة النوم.
وأخرج ابن مردويه عن عياض بن غنم مرفوعاً نحوه، وعن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الآية قال: " الأمن والصحة " رواه عبد الله بن أحمد في زائد الزهد وابن أبي حاتم وغيرهما.
وعن علي قال النعيم العافية، وعنه قال من أكل خبز البر وشرب ماء(15/369)
الفرات مبرداً وكان له منزل يسكنه فذلك من النعيم الذي يسأل عنه.
عن أبي الدرداء قال: قال رسول صلى الله عليه وآله وسلم في الآية: " أكل خبز البر والنوم في الظل وشرب ماء الفرات مبرداً " أخرجه ابن مردويه، ولعل رفع هذا لا يصح فربما كان من قول أبي الدرداء.
وعن أبي قلابة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الآية قال: " ناس من أمتي يعقدون السمن والعسل بالنقى فيأكلونه " أخرجه أحمد في الزهد وابن مردويه وهذا مرسل.
وعن عكرمة قال لما نزلت هذه الآية قال الصحابة يا رسول الله أي نعيم نحن فيه، وإنما نأكل في إنصاف بطوننا خبز الشعير، فأوحى الله إلى نبيه صلى الله عليه وسلم أن قل لهم " أليس تحتذون النعال وتشربون الماء البارد، فهذا من النعيم " أخرجه عبد بن حميد وابن أبي حاتم.
وعن محمود بن لبيد قال لما نزلت (ألهاكم التكاثر) فقرأ حتى بلغ النعيم، قالوا يا رسول الله أي نعيم نسأل عنه، وإنما هما الأسودان الماء والتمر وسيوفنا على رقابنا والعدو حاضر، فعن أي نعيم نسأل؟ قال " أما إن ذلك سيكون " أخرجه ابن أبي شيبة وهناد وأحمد وابن جرير وابن مردويه والبيهقي في الشعب.
وأخرجه الترمذي وغيره من حديث أبي هريرة.
وأخرجه أحمد والترمذي وحسنه وغيرهما من حديث الزبير بن العوام.
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " أن أول ما يسأل العبد عنه يوم القيامة من النعيم أن يقال له ألم نصح لك جسدك ونرويك من الماء البارد " (1) أخرجه أحمد والترمذي وابن حبان والحاكم والبيهقي
_________
(1) روى البخاري في " صحيحه " 11/ 196 عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ ". قال الحافظ ابن حجر في " الفتح "
[ص:371]
11/ 197: وقوله في الحديث: " مغبون فيهما كثير من الناس " كقوله تعالى: (وقليل من عبادي الشكور) فالكثير في الحديث في مقابلة القليل في الآية، ونقل عن ابن بطال أن معنى الحديث: أن المرء لا يكون فارغاً حتى يكون مكفياً صحيح البدن، فمن حصل له ذلك، فليحرص على أن لا يغبن بأن يترك شكر الله على ما أنعم به عليه، ومن شكره امتثال أوامره واجتناب نواهيه، فمن فرط في ذلك فهو المغبون. قال ابن حجر: وأشار بقوله: " كثير من الناس " إلى أن الذي يوفق لذلك قليل. ونقل عن ابن الجوزي قوله: قد يكون الإنسان صحيحاً ولا يكون متفرغاً لشغله بالمعاش، وقد يكون مستغنياً ولا يكون صحيحاً، فإذا اجتمعا فغلب عليه الكسل عن الطاعة فهو المغبون، وتمام ذلك أن الدنيا مزرعة الآخرة، وفيها التجارة التي يظهر ربحها في الآخرة، فمن استعمل فراغه وصحته في طاعة الله فهو المغبوط، ومن استعملها في معصية الله فهو المغبون، لأن الفراغ يعقبه الشغل، والصحة يعقبها السقم.(15/370)
وغيرهم.
وعن جابر بن عبد الله قال: جاءنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر فأطعمناهم رطباً وسقيناهم ماء فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " هذا من النعيم الذي تسألون عنه " أخرجه أحمد والنسائي وابن جرير وابن المنذر وعبد بن حميد وغيرهم.
وأخرج مسلم وأهل السنن وغيرهم عن أبي هريرة قال: " خرج النبي صلى الله عليه وسلم فإذا هو بأبي بكر وعمر فقال ما أخرجكما من بيوتكما الساعة؟ قالا: الجوع يا رسول الله، قال والذي نفسي بيده لأخرجني الذي أخرجكما فقوما فقاما معه فأتى رجلاً من الأنصار فإذا هو ليس في بيته فلما رأته المرأة قالت مرحباً فقال النبي صلى الله عليه وسلم أين فلان؟ فقالت انطلق يستعذب لنا الماء إذ جاء الأنصاري، فنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبيه فقال الحمد لله ما أحد اليوم أكرم أضيافاً مني، فانطلق فجاء بعذق فيه بسر وتمر فقال كلوا من هذا، وأخذ المدية فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم إياك والحلوب، فذبح لهم فأكلوا من الشاة ومن ذلك العذق وشربوا فلما شبعوا ورووا قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأبي بكر وعمر " والذي نفسي بيده لتسألن عن هذا النعيم يوم القيامة " وفي الباب أحاديث.(15/371)
سورة العصر
هي ثلاث آيات وهي مكية عند الجمهور، وقال قتادة: هي مدنية قال ابن عباس نزلت بمكة: عن أبي مزينة الدارمي وكانت له صحبة قال " كان الرجلان من أصحاب النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - إذا التقيا لم يتفرقا حتى يقرأ أحدهما على الآخر سورة العصر، ثم يسلم أحدهما على الآخر " أخرجه الطبراني في الأوسط والبيهقي في الشعب.(15/373)
بسم الله الرحمن الرحيم
وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)(15/375)
وَالْعَصْرِ (1)
(والعصر) أقسم سبحانه بالعصر وهو الدهر لما فيه من العبر من جهة مرور الليل والنهار على تقدير الأدوار وتعاقب الظلام والضياء، فإن في ذلك دلالة بينة على الصانع عز وجل وعلى توحيده، ويقال لليل عصر، وللنهار عصر، ويقال للغداة والعشي عصران.
قال الرازي أقسم تعالى بالدهر لما فيه من الأعاجيب لأنه يحصل فيه السراء والضراء والصحة والسقم والغنى والفقر، ولأن بقية عمر المرء لا قيمة له، فلو ضيعت ألف سنة فيما لا يعني ثم ثبتت السعادة في اللمحة الأخيرة من العصر بقيت في الجنة أبد الآباد، فعلمت أن أشرف الأشياء حياتك في تلك اللمحة، فكان الدهر والزمان من جملة أصول النعم، ولأن الزمان أشرف من المكان، فأقسم به لكونه نعمة خالصة لا غيب فيه.
وقال قتادة والحسن: المراد به في الآية العشي وهو ما بين زوال الشمس وغروبها. وعن قتادة أيضاًً أنه آخر ساعة من ساعات النهار، وقال مقاتل: إن المراد به صلاة العصر، وهي الصلاة الوسطى التي أمر الله سبحانه وتعالى بالمحافظة عليها، وأخرجه أحمد والترمذي وحسنه وغيرهما من حديث الزبير بن العوام.
وقيل هو قسم (1) بعصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
_________
(1) قال الرازي أقسم سبحانه بمكانه صلى الله عليه وسلم في قوله: (لا أقسم بهذا البلد) وأقسم بعمره
[ص:376]
في قوله: (لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون) وبعصره هنا فكأنه قال وعصرك وبلدك وعمرك فأقسم بهذه الظروف الثلاثة فإذا وجب تعظيم الظرف فحال المظروف من باب أولى انتهى.(15/375)
قال الزجاج: قال بعضهم معناه ورب العصر والأول أولى وبه قال ابن عباس، وعنه هو ساعة من ساعات النهار، وقال أيضاًً هو ما قبل مغيب الشمس من العشي.
وأخرج الفريابي وأبو عبيد في فضائله وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن الأنباري في المصاحف عن علي بن أبي طالب " أنه كان يقرأ والعصر ونوائب الدهر إن الإنسان لفي خسر وإنه فيه إلى آخر الدهر " وعن ابن مسعود أيضاً أنه كان يقرأ " إن الإنسان لفي خسر وإنه لفيه إلى آخر الدهر "، أخرجه عبد بن حميد.(15/376)
إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2)
(إن الإنسان لفي خسر) هذا جواب القسم، والخسر والخسران النقصان وذهاب رأس المال، والمعنى أن كل إنسان في المتاجر والمساعي وصرف الأعمار في أعمال الدنيا لفي نقص وضلال عن الحق حتى يموت، وقيل المراد بالإنسان الكافر، وقيل جماعة من الكفار وهم الوليد بن المغيرة والعاص ابن وائل والأسود بن عبد المطلب بن أسد، والأول أولى لما في لفظ الإنسان من العموم، ولدلالة الاستثناء عليه.
قال الأخفش: في خسر في هلكة، وقال الفراء: في عقوبة، وقال ابن زيد: لفي شر، وقيل لفي نقص، والمعاني متقاربة، قرأ الجمهور (والعصر) بسكون الصاد وقرىء بكسر الصاد وقرأ الجمهور أيضاًً (خسر) بضم الخاء وسكون السين وقرىء بضمهما.
والتنكير في خسر يفيد التعظيم أي في خسر عظيم لا يعلم كنهه إلا الله، فقد جعل الإنسان معموراً في الخسر للمبالغة وأنه أحاط به من كل جانب لأن كل ساعة تمر بالإنسان فإن كانت مصروفة إلى المعصية فلا شك في الخسر، وإن كانت مشغولة بالمباحثات فالخسران أيضاًً حاصل، وإن كانت(15/376)
مشغولة بالطاعات فهي غير متناهية، وترك الأعلى والاقتصار على الأدنى نوع خسران، ولا ينافيه قوله: (لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم) لأن الكلام ثَمّ في (1) أحوال البدن وهنا في أحوال النفس.
_________
(1) ثم بفتح الثاء أي هناك.(15/377)
إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)
(إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات) أي جمعوا بين الإيمان بالله والعمل الصالح فإنهم في ربح لا في خسر، لأنهم عملوا للآخرة ولم تشغلهم أعمال الدنيا عنها، والاستثناء متصل، ومن قال أن المراد بالإنسان الكافر فقط فيكون منقطعاً، ويدخل تحت هذا الاستثناء كل مؤمن ومؤمنة، ولا وجه لما قيل أن المراد الصحابة أو بعضهم فإن اللفظ عام لا يخرج عنه أحد ممن يتصف بالإيمان والعمل الصالح.
(وتواصوا) أي أوصى (1) بعضهم بعضاً (بالحق) الذي يحق القيام به وهو الإيمان بالله والتوحيد والقيام بما شرعه الله، واجتناب ما نهى عنه، قال قتادة بالحق أي بالقرآن وقيل بالتوحيد والحمل على العموم أولى.
(وتواصوا بالصبر) عن معاصي الله سبحانه وعلى فرائضه وعلى البلايا، وفي جعل التواصي بالصبر قريناً للتواصي بالحق دليل على عظيم قدره وفخامة شرفه ومزيد ثواب الصابرين على ما يحق الصبر عليه أن الله مع الصابرين.
وأيضاًً التواصي بالصبر مما يندرج تحت التواصي بالحق فإفراده بالذكر وتخصيصه بالنص عليه من أعظم الأدلة الدالة على إنافته على خصال الحق ومزيد شرفه عليها، وارتفاع طبقته عنها، وكرر الفعل لاختلاف المفعولين.
_________
(1) أشار به إلى أن تواصوا فعل ماض لا أمر، ويؤخذ منه أن الوصية هي التقديم إلى الغير بما يعمل به مقروناً بوعظ ونصيحة من قولهم أرض واصية أي متصلة النبات، يقال قدمت إليه بكذا إذا أمرته قبل وقت الحاجة إلى الفعل (سيد ذو الفقار أحمد).(15/377)
سورة الهمزة
هي تسع آيات وهي مكية بلا خلاف قال ابن عباس نزلت بمكة وقال المحلي أو مدنية والأولى أولى.(15/379)
بسم الله الرحمن الرحيم
وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1) الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ (2) يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ (3) كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (4) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ (5) نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (6) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (7) إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (8) فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ (9)(15/381)
وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1)
(ويل) هو مرتفع على الإبتداء، وسوغ الابتداء به مع كونه نكرة كونه دعاء عليهم، وخبره (لكل همزة لمزة) والمعنى خزي أو عذاب أو هلكة أو واد في جهنم لكل همزة لمزة، والتاء فيهما للمبالغة في الوصف، وقد أطرد أن بناء فعلة لمبالغة الفاعل أي المكثر لمأخذ الاشتقاق، وإذا سكنت العين يكون لمبالغة المفعول، يقال رجل لعنة بفتح العين لمن كان يكثر لعن غيره، ولعنة بسكون العين إذا كان ملعوناً للناس يكثرون لعنه:
قال أبو عبيدة والزجاج الهمزة اللمزة الذي يغتاب الناس، وعلى هذا هما بمعنى، وقال أبو العالية والحسن ومجاهد وعطاء بن أبي رباح (الهمزة) الذي يغتاب الرجل في وجهه (واللمزة) الذي يغتابه من خلفه، وقال قتادة عكس هذا، وروي عن قتادة ومجاهد أيضاًً أن الهمزة الذي يغتاب الناس في أنسابهم وعن مجاهد أيضاًً أن الهمزة الذي يهمز الناس بيده، واللمزة الذي يلمزهم بلسانه.
وقال سفيان الثوري يهمزهم بلسانه ويلمزهم بعينه، وقال ابن كيسان الهمزة الذي يؤذي جلساءه بسوء اللفظ واللمزة الذي يكسر عينه على جليسه ويشير بيده وبرأسه وبحاجبه، وقيل هم المشاؤون بالنميمة المفرقون بين الأحبة الباغون العيب للبريء.
وحاصل هذه الأقاويل يرجع إلى أصل واحد وهو الطعن وإظهار العيب،(15/381)
ويدخل في ذلك من يحاكي الناس في أقوالهم وأفعالهم وأصواتهم ليضحكوا منه. والأول أولى.
وأصل الهمزة الكسر يقال همز رأسه كسره، وقيل أصل الهمز واللمز الضرب والدفع، يقال همزه يهمزه همزاً ولمزه يلمزه لمزاً إذا دفعه وضربه.
قرأ الجمهور يقال همزة لمزة بضم أولهما وفتح الميم فيهما، وقرىء بسكون الميم فيهما وقرأ أبو وائل والنخعي والأعمش (ويل للهمزة اللمزة) والآية تعم كل من كان متصفاً بذلك ولا ينافيه نزولها على سبب خاص، فإن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
وعن ابن عباس أنه سئل عن همزة لمزة قال: هو المشاء بالنميمة المفرق بين الجمع المغري بين الأخوان، وعنه قال همزة طعان ولمزة مغتاب.
وقوله(15/382)
الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ (2)
(الذي جمع مالاً وعدده) يدل من كل، أو في محل نصب على الذم، وهذا أرجح لأن البدل يستلزم أن يكون المبدل منه في حكم الطرح أو تعليل لما قبله، وإنما وصفه سبحانه بهذا الوصف لأنه يجري مجرى السبب والعلة في الهمز واللمز وهو إعجابه بما جمع من المال، وظنه أنه الفضل فلأجل ذلك يتنقص غيره.
قرأ الجمهور جمع مخففاً وقرىء مثقلاً. قال الرازي الفرق أن التشديد يفيد أنه جمعه من ههنا ومن ههنا ولم يجمعه في يوم واحد، ولا في يومين، ولا في شهر ولا في شهرين، وأن التخفيف لا يفيد ذلك، ونكر (مالاً) للتعظيم أي مالاً بلغ في الخبث والفساد أقصى النهايات فكيف يليق بالعاقل أن يفتخر به.
وقرأ الجمهور (وعدده) مشدداً وقرىء بالتخفيف والتشديد في الكلمتين يدل على التكثير، وهو جمع الشيء بعد الشيء وتعديده مرة بعد أخرى، قال الفراء معنى عدده أحصاه فهو مأخوذ من العد، وقال الزجاج(15/382)
وعدده لنوائب الدهور يقال أعددت الشيء وعددته إذا أمسكته، قال السدي أحصى عدده، وقال الضحاك أعد ماله لمن يرثه، وقيل المعنى فاخر بكثرته وعدده.
والمقصود ذمه على جمع المال وإمساكه وعدم إنفاقه في سبل الخير، وقيل المعنى على قراءة التخفيف في عدده أنه جمع عشيرته وأقاربه، قال المهدوي من خفف وعدده فهو معطوف على المال أي وجمع عدده.
وجملة(15/383)
يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ (3)
(يحسب أن ماله أخلده) مستأنفة لتقرير ما قبلها، ويجوز أن تكون في محل نصب على الحال من فاعل جمع أي يعمل عمل من يظن أن ماله يتركه حياً مخلداً لا يموت، وأخلده ماض معناه المضارع أي يخلده، وقال عكرمة يحسب أن ماله يزيد في عمره.
والإظهار في موضع الإضمار للتقريع والتوبيخ، وقيل هو تعريض بالعمل الصالح وأنه الذي يخلد صاحبه في الحياة الأبدية لا المال، والخلد بالضم البقاء والدوام وبابه دخل، وأخلده الله وخلد تخليداً.(15/383)
كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (4)
(كلا) ردع له عن ذلك الحسبان أي ليس الأمر كما يحسبه هذا الذي جمع المال وعدده أو معناه حقاً (لينبذن في الحطمة) اللام جواب قسم محذوف أي ليطرحن في النار وليلقين فيها. قرأ الجمهور لينبذن وقرىء لينبذان بالتثنية أي لينبذ هو وماله في النار، وقرىء لينبذن أي لينبذن ماله في النار.
والمعنى تحطم وتكسر كل ما ألقي فيها ففي الحطمة مماثلة لعمله لفظاً ومعنى لأنها على وزن همزة لمزة وفيهما كسر كما فيها، وحطمة من باب ضرب، والتحطيم التكسير والحطمة من أسماء النار لأنها تحطم ما تلتقم.(15/383)
وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ (5)
(وما أدراك ما الحطمة) هذا الاستفهام للتهويل والتفظيع حتى كأنها ليست مما تدركه العقول، وتبلغه الأفهام، قيل هي الطبقة السادسة من طبقات جهنم وقيل الطبقة الثانية منها، وقيل الطبقة الرابعة.(15/383)
ثم بيّنها سبحانه فقال(15/384)
نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (6)
(نار الله الموقدة) بأمر الله سبحانه التي لا تخمد أبداً ووجب وتحتم إيقادها، وفي إضافتها إلى الاسم الشريف تعظيم لها وتفخيم، وكذلك في وصفها بالإيقاد.(15/384)
الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (7)
(التي تطلع على الأفئدة) أي يخلص حرها إلى القلوب فيعلوها ويغشاها، وخص الأفئدة بالذكر مع كونها تغشى جميع أبدانهم لأنها محل العقائد الزائغة والنيات الخبيثة ومنشأ الأعمال السيئة، أو لكون الألم إذا وصل إليها مات صاحبها لأن الفؤاد ألطف ما في الجسد وأشد تألماً بأدنى أذى يمسه أي أنهم في حال من يموت وهم لا يموتون كما قال تعالى (لا يموت فيها ولا يحيى) وقيل المعنى أنها تعلم بمقدار ما يستحقه كل واحد من العذاب وذلك بأمارات عرفها الله بها.(15/384)
إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (8)
(إنها عليهم مؤصدة) أي مطبقة مغلقة كما تقدم بيانه في سورة البلد، يقال أصدت الباب إذا أغلقته، وقال ابن عباس مطبقة، وجمع الضمير في عليهم رعاية لمعنى كل.(15/384)
فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ (9)
(في عمد ممددة) في محل نصب على الحال من الضمير في عليهم أي كائنين في عمد ممددة موثقين فيها أو في محل رفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هم في عمد أو صفة لمؤصدة أي مؤصدة بعمد ممددة.
قال مقاتل أطبقت الأبواب عليهم ثم شدت بأوتاد من حديد فلا يفتح عليهم باب ولا يدخل عليهم روح.
ومعنى كون العمدة ممددة أنها مطولة وهي أرسخ من القصيرة، وقيل العمد أغلال في جهنم، وقيل القيود، وقال قتادة المعنى هم في عمد يعذبون بها، واختار هذا ابن جرير.
قرأ الجمهور عمد بفتح العين والميم، وقيل هو اسم جمع لعمود، وقيل جمع له، قال الفراء هي جمع لعمود كأديم وأدم، وقال أبو عبيدة هي جمع عماد.(15/384)
وقرىء بضم العين والميم جمع عمود، قال الفراء هما جمعان صحيحان لعمود، واختار أبو عبيد وأبو حاتم قراءة الجمهور.
قال الجوهري: العمود عمود البيت وجمع القلة أعمدة وجمع الكثرة عمد وعمد، وقرىء بهما وهما سبعيتان.
قال أبو عبيدة: العمود كل مستطيل من خشب أو حديد، قال ابن عباس عمد من نار، وقال ابن مسعود هي الأدهم، وعن ابن عباس أيضاًً الأبواب هي الممددة، وعنه قال أدخلهم في عمد فمدت عليهم في أعناقهم فسدت بها الأبواب.
قال ابن جزي: المعنى أن أبواب جهنم أغلقت عليهم بعمد ممدودة على أبوابها تشديداً في الإغلاق، وقيل معناه في دهر ممدود أي لا انقطاع له، قال القشيري أن العمد أوتاد الأطباق التي تطبق على أهل النار تشد تلك الأطباق حتى يرجع عليهم غمها وحرها فلا يدخل عليهم روح.(15/385)
سورة الفيل
هي خمس آيات وهي مكية بلا خلاف، قال ابن عباس نزلت بمكة.(15/387)
بسم الله الرحمن الرحيم
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ (1) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ (3) تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (4) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (5)(15/389)
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ (1)
(ألم تر كيف فعل ربك) الاستفهام بتقرير رؤيته صلى الله عليه وسلم بإنكار عدمها، والمراد بالرؤية هنا رؤية القلب، وهي العلم عبر عنه بالرؤية لكونه علماً ضرورياً مساوياً في القوة والجلاء للمشاهدة والعيان، وحذفت الألف من (تر) للجازم، قال الفراء المعنى ألم تخبر، وقال الزجاج ألم تعلم.
وهو تعجيب له صلى الله عليه وآله وسلم بما فعله الله (بأصحاب الفيل) الذين قصدوا تخريب الكعبة من الحبشة، وكيف منصوب على المصدرية أو الحالية واختار الأول ابن هشام في المغني، والمعنى أي فعل فعل.
وأما نصبه على الحالية من الفاعل فممتنع لأن فيه وصفه تعالى بالكيفية وهو غير جائز، والجملة سدت مسد مفعولي ترى، والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ويجوز أن يكون لكل من يصلح له.
والمعنى قد علمت يا محمد أو علم الناس الموجودون في عصرك ومن بعدهم بما بلغكم من الأخبار المتواترة من قصة أصحاب الفيل، وما فعل الله بهم، فما لكم لا تؤمنون، وصاحب الأفيال أبرهة ملك اليمن واسمه الأشرم سمي بذلك لأن أباه ضربه بحربة فشرم أنفه وجبينه، قال القرطبي، وأبرهة لقب لكل من فيه بياض وكان نصرانياً.
والفيل هو الحيوان المعروف وجمعه فيول وأفيال وفيلة. وقال ابن(15/389)
السكيت ولا تقول أفيلة وصاحبه فيال وكانت الفيلة ثلاثة عشر، وإنما وحده لأنه نسبهم إلى الفيل الأعظم الذي كان يقال له محمود وهو الذي برك وضرب في رأسه، وقيل إنما وحده موافقة لرؤوس الآي.
وعن ابن عباس قال: " جاء أصحاب الفيل حتى نزلوا الصفاح فأتاهم عبد المطلب فقال إن هذا بيت الله لم يسلط عليه أحد قالوا لا نرجع حتى نهدمه، وكانوا لا يقدمون فيلهم إلا تأخر فدعا الله الطير الأبابيل فأعطاها حجارة سوداء عليها الطين فلما حاذتهم رمتهم فما بقي منهم أحد إلا أخذته الحكة وكان لا يحك الإنسان منهم جلده إلا تساقط لحمه " (1) أخرجه ابن المنذر وعبد بن حميد وأبو نعيم والبيهقي.
_________
(1) زاد السير 232.(15/390)
أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2)
(ألم يجعل كيدهم) أي مكرهم وسعيهم في تخريب الكعبة وهدمها واستباحة أهلها (في تضليل) أي في خسارة وهلاك عما قصدوا إليه حتى لم يصلوا إلى البيت ولا إلى ما أرادوا بكيدهم، والهمزة للتقرير، كأنه قيل قد جعل كيدهم في تضليل.
والكيد هو إرادة المضرة بالغير، لأنهم أرادوا أن يكيدوا قريشاً بالقتل والسبي. ويكيدوا البيت الحرام بالتخريب والهدم.
قال ابن عباس " أقبل أصحاب الفيل حتى إذا دنوا من مكة استقبلهم عبد المطلب فقال لملكهم ما جاء بك إلينا ألا بعثت فنأتيك بكل شيء فقال أخبرت بهذا البيت الذي لا يدخله أحد إلا أمن فجئت أخيف أهله، فقال إنا نأتيك بكل شيء تريد. فارجع فأبى إلا أن يدخله، وانطلق يسير نحوه وتخلف عبد المطلب، فقام على جبل فقال لا أشهد مهلك هذا البيت وأهله، فأقبلت مثل السحابة من نحو البحر حتى أظلتهم طير أبابيل التي قال الله (ترميهم بحجارة من سجيل) فجعل الفيل يعج عجاً (فجعلهم كعصف(15/390)
مأكول) (1) أخرجه البيهقي وابن المنذر والحاكم وغيرهم، وقصة أصحاب الفيل مبسوطة في كتب التفسير والتاريخ والسير فلا نطول بذكرها.
_________
(1) ذكر أهل التفسير أن أبرهة لما سار بجنوده إلى الكعبة ليهدمها خرج معه بالفيل، فلما دنا من مكة أمر أصحابه بالغارة على نعم الناس، فأصابوا إبلاً لعبد المطلب، وبعث بعض جنوده، فقال: شب عن شريف مكة، وأخبره أني لم آتِ لقتال، وإنما جئت لأهدم هذا البيت، فانطلق حتى دخل مكة، فلقي عبد المطلب بن هاشم، فقال: إن الملك أرسلني إليك لأخبرك أنه لم يأتِ لقتال إلا أن تقاتلوه، إنما جاء لهدم هذا البيت، ثم ينصرف عنكم، فقال عبد المطلب: ما له عندنا قتال، وما لنا به يد، إنا سنخلي بينه وبين ما جاء له، فإن هذا بيت الله الحرام، وبيت خليله إبراهيم عليه السلام، فإن يمنعه، فهو بيته وحرمه، وإن يخل بينه وبين ذلك، فوالله ما لنا به قوة. قال: فانطلق معي إلى الملك، فلما دخل عبد المطلب على أبرهة أعظمه، وكرمه، ثم قال لترجمانه: قل له: ما حاجتك إلى الملك؟ فقال له الترجمان، فقال: حاجتى أن يرد علي بعير أصابها. فقال أبرهة لترجمانه: ....(15/391)
وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ (3)
(وأرسل عليهم) عطف على (ألم يجعل) لأن الاستفهام فيه للتقرير فكان المعنى قد جعل ذلك وأرسل (طيراً) هو اسم جنس يذكر ويؤنث (أبابيل) نعت لطير لأنه اسم جمع أي أقاطيع يتبع بعضها بعضاً كالإبل المؤبلة، فرجعوا هاربين يتساقطون بكل طريق. وكان هلاكهم قرب عرفة قبل دخول الحرم على الأصح.
وقال جماعة: بوادي محسر بين مزدلفة ومنى، قاله ابن حجر، قال أبو عبيدة: أبابيل جماعات في تفرقة يقال جاءت الخيل أبابيل أي جماعات من ههنا وههنا، قال النحاس: وحقيقته أنها جماعات عظام، يقال فلان يؤبل على فلان أي يعظم عليه ويكبره، وهو مشتق من الإِبل، وهو من الجمع الذي لا واحد له، وقال بعضهم واحده إبول بكسر الهمزة مثل عجول، وقال بعضهم إبيل كسكين.
قال الواحدي: ولم نر أحداً يجعل لها واحداً، قال الفراء: لا واحد له من لفظه، وزعم الرؤاسي وكان ثقة أنه سمع في واحدها إبالة مشدداً، وحكى الفراء: أيضاًً إبالة بالتخفيف.(15/391)
قال سعيد بن جبير كانت طيراً من السماء لم ير قبلها ولا بعدها قال قتادة هي طير سود جاءت من قبل البحر فوجاً فوجاً مع كل طائر ثلاثة أحجار حجران في رجليه وحجر في منقاره لا يصب شيئاًً إلا هشمه، وقيل كانت طيراً خضراً خرجت من البحر لها رؤوس كرؤوس السباع.
وقيل كان لها خراطيم كخراطيم الطير. وأكف كأكف الكلاب، وقيل أنها العنقاء المغرب التي تضرب بها الأمثال، وقيل في صفتها غير ذلك، والعرب تستعمل الأبابيل في الطير وفي غير الطير.
ولما تم هلاكهم رجعت الطير من حيث جاءت.(15/392)
تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (4)
(ترميهم بحجارة من سجيل) قرأ الجمهور بالفوقية، وقرأ أبو حنيفة وأبو معمر وعيسى وطلحة بالتحتية واسم الجمع يذكر ويؤنث. وقيل الضمير في القراءة الثانية لله عز وجل والجملة في محل نصب صفة أخرى لطير.
قال الزجاج (من سجيل) أي مما كتب عليهم العذاب به مشتقاً من السجل.
قال في الصحاح قالوا هي حجارة من طين طبخت بنار جهنم مكتوب فيها أسماء القوم وأصله سنك وكل، وقيل السجيل الشديد، وقال عبد الرحمن بن أبزي من سجيل من السماء وهي الحجارة التي نزلت على قوم لوط وقيل من الجحيم التي هي سجين، ثم أبدلت النون لاماً، قال عكرمة كانت ترميهم بحجارة معها فإذا أصاب أحدهم حجر منها خرج به الجدري. وكان الحجر كالحمصة وفوق العدسة، وقد قدمنا الكلام في سجيل في سورة هود.
وعن ابن عباس قال حجارة كالبندق وبها نضح حمرة مختمة مع كل طائر ثلاثة أحجار حجران في رجليه وحجر في منقاره حلقت عليهم من السماء ثم أرسلت عليهم تلك الحجارة فلم تعد عسكرهم، وعنه أن أبرهة الأشرم قدم من اليمن يريد هدم الكعبة فأرسل الله عليهم طيراً أبابيل يريد مجتمعة لها(15/392)
خراطيم تحمل حصاتين في رجليها وحصاة في منقارها ترسل واحدة على رأس الرجل فيسيل لحمه ودمه، ويبقى عظاماً خاوية لا لحم عليها ولا جلد ولا دم(15/393)
فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (5)
(فجعلهم كعصف مأكول) أي جعل الله أصحاب الفيل كورق الزرع إذا أكلته الدواب فرمت به من أسفل، شبه لقطع أوصالهم بتفرق أجزائه، وقيل المعنى أنهم صاروا كورق زرع قد أكلت منه الدواب وبقي منه بقايا أو أكلت حبه فبقي بدون حبه والعصف جمع عصفه وعصافة وعصيفة وقد قدمنا الكلام في العصف في سورة الرحمن فارجع إليه.
قال ابن عباس يقول كالتبن، وعن عائشة قالت لقد رأيت قائد الفيل وسائسه بمكة أعميين مقعدين يستطعمان ونحوه عن أسماء بنت أبي بكر.
وعن ابن عباس قال ولد النبي صلى الله عليه وآله وسلم عام الفيل، قال القرطبي أي قبل مولده لخمسين يوماً، قال الخازن وهذا هو القول الأصح فإنهم يقولون ولد عام الفيل، ويجعلونه تاريخاً لمولده صلى الله عليه وآله وسلم.
وعن قيس بن محرم قال ولدت أنا ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عام الفيل، وقيل كان عام الفيل قبل ولادته صلى الله عليه وآله وسلم بأربعين سنة، وقيل بثلاث وعشرين سنة، وقيل غير ذلك.(15/393)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
سورة قريش
ويقال سورة لإيلاف هي أربع آيات وهي مكية عند الجمهور، وقال الضحاك والكلبي هي مدنية والأول أصح، قال ابن عباس نزلت بمكة، وعن أم هانئ بنت أبي طالب أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " فضل الله قريشاً بسبع خصال لم يعطها أحداً قبلهم ولا يعطيها أحداً بعدهم أني فيهم، وفي لفظ النبوة فيهم والخلافة فيهم والججابة فيهم، والسقاية فيهم، ونصروا على الفيل وعبدوا الله سبع سنين، وفي لفظ عشر سنين لم يعبده أحد غيرهم، ونزلت فيهم سورة من القرآن لم يذكر فيها أحد غيرهم لإيلاف قريش " أخرجه البخاري في تاريخه والطبراني والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي.
قال ابن كثير هو حديث غريب ويشهد له ما أخرجه الطبراني في الأوسط وابن مردويه وابن عساكر عن الزبير بن العوام قال: قال رسول(15/395)
الله - صلى الله عليه وسلم - " فضل الله قريشاً بسبع خصال: فضلهم بأنهم عبدوا الله عشر سنين لا يعبده إلا قريش وفضلهم بأنه نصرهم يوم الفيل وهم مشركون، وفضلهم بأنها نزلت فيهم سورة من القرآن لم يدخل فيها أحد من العالمين غيرهم وهي لإيلاف قريش، وفضلهم بأن فيهم النبوة والخلافة والسقاية ".
وأخرج الخطيب في تاريخه عن سعيد بن المسيب مرفوعاً نحوه وهو مرسل.(15/396)
بسم الله الرحمن الرحيم
لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ (2) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4)(15/397)
لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (1)
(لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ) اللام قيل متعلقة بآخر السورة التي قبلها كأنه قال سبحانه أهلكت أصحاب الفيل لأجل تألف قريش، قال الفراء هذه السورة متصلة بالسورة الأولى لأنه ذكر سبحانه أهل مكة بعظيم نعمته عليهم فيما فعل بالحبشة، ثم قال لإيلاف قريش، أي فعلنا ذلك بأصحاب الفيل نعمة منا على قريش، وذلك أن قريشاً كانت تخرج في تجارتها فلا يغار عليها في الجاهلية، يقولون هم أهل بيت الله عز وجل حتى جاء صاحب الفيل ليهدم الكعبة ويأخذ حجارتها فيبني بها بيتاً في اليمن يحج الناس إليه فأهلكهم الله عز وجل، فذكرهم نعمته؛ أي فعل ذلك لإيلاف قريش أي ليألفوا الخروج ولا يجترىء عليهم؛ وذكر هذا ابن قتيبة.
قال الزجاج: والمعنى فجعلهم كعصف مأكول لإيلاف قريش، أي أهلك الله أصحاب الفيل لتبقى قريش وما قد ألفوا من رحلة الشتاء والصيف ولهذا جعل أبيّ بن كعب هذه السورة وسورة الفيل واحدة ولم يفصل بينهما في مصحفه بالبسملة.
والذي عليه الجمهور من الصحابة وغيرهم وهو المستفيض المشهور أن هذه السورة منفصلة عن سورة الفيل وأنه لا تعلق بينهما.
وقال في الكشاف أن اللام متعلقة بقوله (فليعبدوا) أمرهم أن يعبدوه لأجل إيلاف الرحلتين، ودخلت الفاء لما في الكلام من معنى الشرط لأن المعنى إما لا فليعبدوه.(15/397)
وقد تقدم صاحب الكشاف إلى هذا القول الخليل بن أحمد؛ والمعنى إن لم يعبدوه لسائر نعمه فليعبدوه لهذه النعمة الجليلة، وقال الكسائي والأخفش: اللام لام العجب أي إعجبوا لإيلاف قريش وقيل هي بمعنى إلى وقرىء لإلف وقرىء ليألف بفتح اللام على أنها لام الأمر، وكذلك هو في مصحف ابن مسعود وفتح لام الأمر لغة معروفة.
قال سليمان الجمل قرأ ابن عامر لإلاف قريش دون ياء قبل اللام الثانية والباقون لإيلاف بياء قبلها، وأجمع الكل على إثبات الياء في الثاني وهو إيلافهم.
ومن غريب ما اتفق في هذين الحرفين أن القراء اختلفوا في سقوط الياء وثبوتها في الأول مع اتفاق المصاحف على إثباتها خطاً واتفقوا على إثبات الياء في الثاني مع اتفاق المصاحف على سقوطها منه خطاً فهو أدل دليل على أن القراء متبعون الأثر والرواية لا مجرد الخط انتهى.
وقريش هم بنو النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر، فكل من كان من ولد النضر فهو قرشي ومن لم يلد النضر فليس بقرشي، وقريش يأتي منصرفاً إن أريد به الحي، وغير منصرف إن أريد به القبيلة، وقيل إن قريشاً بنو فهر بن مالك بن النضر والأول أصح.
وقوله(15/398)
إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ (2)
(إيلافهم) تأكيد لفظي ولذلك اتصل بضمير ما أضيف إليه الأول وقيل هو بدل لأنه أطلق المبدل منه وقيد البدل بالمفعول وهو قوله (رحلة الشتاء والصيف) لما فيه من الإبهام في المبدل منه ثم التبيين في البدل، وإنما أفرد الرحلة ولم يقل رحلتي الشتاء لأمن الإلباس، وقيل إن رحلة منصوبة بمصدر مقدر أي ارتحالهم رحلة الشتاء وقيل منصوبة على الظرفية والرحلة الارتحال وكانت إحدى الرحلتين إلى اليمن في الشتاء لأنها بلاد حارة، والرحلة الأخرى إلى الشام في الصيف لأنها بلاد باردة، وروي أنهم كانوا يشتون بمكة ويصيفون في الطائف والأول أولى فإن ارتحال قريش للتجارة(15/398)
معلوم معروف في الجاهلية والإسلام.
قال ابن قتيبة إنما كانت تعيش قريش بالتجارة، وكانت لهم رحلتان كل سنة رحلة في الشتاء إلى اليمن، ورحلة في الصيف إلى الشام، ولولا هاتان الرحلتان لم يمكن بها مقام، ولولا الأمن بجوار البيت لم يقدروا على التصرف.
قال ابن عباس في الآية نعمتي على قريش إيلافهم رحلة الشتاء والصيف، كانوا يشتون بمكة ويصيفون بالطائف، وعنه قال إيلافهم لزومهم، وقيل رحلة اسم جنس وكانت لهم أربع رحلات وجعله بعضهم غلطاً، وليس كذلك وأول من سن لهم الرحلة هاشم بن عبد مناف.(15/399)
فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3)
(فليعبدوا رب هذا البيت) أمرهم سبحانه بعبادته بعد أن ذكر لهم ما أنعم به عليهم أي إن لم يعبدوه لسائر نعمه فليعبدوه لهذه النعمة الخاصة المذكورة، والبيت الكعبة وعرفهم سبحانه بأنه رب هذا البيت لأنها كانت لهم أوثان يعبدونها، فميز نفسه عنها وقيل لأنهم شرفوا بالبيت على سائر العرب فذكر لهم ذلك تذكيراً لنعمته.(15/399)
الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4)
(الذي أطعمهم من جوع) أي أطعمهم بسبب تينك الرحلتين من جوع شديد كانوا فيه قبلهما، وقيل إن هذا الإطعام هو إنهم لما كذبوا النبي صلى الله عليه وسلم دعا عليهم فقال اللهم إجعلها عليهم سنين كسني يوسف، فاشتد القحط فقالوا يا محمد ادع الله لنا فإنا مؤمنون فدعا فأخصبوا وزال عنهم الجوع وارتفع القحط، قال ابن عباس يعني قريشاً أهل مكة بدعوة إبراهيم حيث قال (وارزق أهله من الثمرات).
(وآمنهم من خوف) أي من خوف شديد كانوا فيه، قال ابن زيد كانت العرب يغير بعضها على بعض ويسبي بعضها بعضاً فأمنت قريش من ذلك لمكان الحرم.
وقال الضحاك والربيع وشريك وسفيان آمنهم من خوف الحبشة مع(15/399)
الفيل، وقال ابن عباس من الجذام وعنه في الآية قال آمنهم من خوف حيث قال إبراهيم (رب اجعل هذا بلداً آمناً) قال ابن عباس نهاهم عن الرحلة وأمرهم أن يعبدوا رب هذا البيت، وكفاهم المؤنة وكانت رحلتهم في الشتاء والصيف ولم تكن لهم راحة في شتاء ولا صيف، فأطعمهم الله بعد ذلك من جوع وآمنهم من خوف، وكان ذلك من نعمة الله عليهم، وعنه قال أمروا أن يألفوا عبادة رب هذا البيت كإلفهم رحلة الشتاء والصيف.
وقد وردت أحاديث في فضل قريش وإن الناس تبع لهم في الخير والشر، وإن هذا الأمر يعني الخلافة لا يزال فيهم ما بقي منهم اثنان وهي في دواوين الإسلام.(15/400)
سورة أرأيت
ويقال لها سورة الدين وسورة الماعون وسورة اليتيم وهي ست أو سبع آيات وهي مكية في قول عطاء وجابر وأحد قولي ابن عباس، ومدنية في قول قتادة وآخرين، وعن ابن عباس نزلت بمكة وعن ابن الزبير مثله، وقيل نصفها الأول مكي ونصفها الثاني مدني، والأول في العاص بن وائل والثاني في عبد الله بن أبيّ بن سلول، وقال مقاتل والكلبي نزلت في العاص بن وائل السهمي، وقال السدي في الوليد بن المغيرة، وقال الضحاك في عمرو بن عائذ وقال ابن جريج في أبي سفيان، وقيل في رجل من المنافقين.(15/401)
بسم الله الرحمن الرحيم
أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (3) فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ (7)(15/403)
أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1)
(أرأيت) الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم أو لكل من يصلح له، والاستفهام لقصد التعجيب من حال (الذي يكذب بالدين) أي بالجزاء والحساب في الآخرة. وقال ابن عباس بحكم الله.
قرأ الجمهور أرأيت بإثبات الهمزة الثانية وقرىء بإسقاطها، قال الزجاج: لا يقال في رأيت ريت ولكن ألف الاستفهام سهلت الهمزة ألفاً، والرؤية بمعنى المعرفة وقيل هي البصرية فتتعدى إلى مفعول واحد، وهو الموصول أي أبصرت المكذب وقيل إنها بمعنى أخبرني فتتعدى إلى مفعولين الثاني محذوف أي من هو، والأول أولى، قيل وفي الكلام حذف والمعنى (أرأيت الذي يكذب بالدين) أمصيب هو أم مخطىء.(15/403)
فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2)
(فذلك الذي يدع اليتيم) الفاء جواب شرط مقدر أي إن تأملته أو طلبته فذلك الخ ويجوز أن تكون عاطفة على الذي يكذب إما عطف ذات على ذات أو صفة على صفة، فعلى الأول يكون اسم الإشارة مبتدأ وخبره الموصول أو خبر لمبتدأ محذوف أي فهو ذلك والموصول صفته، وعلى الثاني يكون في محل نصب لعطفه على الموصول الذي هو في محل نصب، ومعنى يدع يدفع دفعاً بعنف وجفوة أي يدفع اليتيم عن حقه دفعاً شديداً، ومنه قوله سبحانه (يوم يدعون إلى نار جهنم دعاً) وقد كانوا لا يورثون النساء والصبيان، قال ابن عباس يدفعه عن حقه.(15/403)
وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (3)
(ولا يحض على طعام المسكين) أي لا يحض نفسه ولا أهله ولا غيرهم على ذلك بخلاً بالمال أو تكذيباً للجزاء، وهو مثل قوله في سورة الحاقة (ولا يحض على طعام المسكين).(15/404)
فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4)
(فويل للمصلين) الفاء جواب لشرط محذوف كأنه قيل إذا كان ما ذكر من عدم المبالاة باليتيم والمسكين فويل لهم، ووضع المصلين موضع لهم للتوسل بذلك إلى بيان أن لهم قبائح أخر غير ما ذكر، والمعنى عذاب لهم أو هلاك أو واد في جهنم لهم كما سبق الخلاف في معنى الويل، ويجوز أن يكون الفاء لترتيب الدعاء عليهم بالويل على ما ذكر من قبائحهم.(15/404)
الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5)
(الذين هم عن صلاتهم ساهون) أي غافلون غير مبالين. وإنما عبر بعن دون في لأن صلاة المؤمن لا تخلو عن سهو بدليل وقوعه للأنبياء ولأن المراد السهو عن الصلاة بتأخيرها عن وقتها لا السهو فيها.
قال الواحدي نزلت في المنافقين الذين لا يرجون بصلاتهم ثواباً أن صلوا ولا يخافون عليها عقاباً أن تركوا فهم عنها غافلون حتى يذهب وقتها، وإذا كانوا مع المؤمنين صلوا رياء وإذا لم يكونوا معهم لم يصلوا.
قال النخعي الذي هم عن صلاتهم ساهون هو الذي إذا سجد قال برأسه هكذا وهكذا ملتفتاً. وقال قطرب هو الذي لا يقرأ ولا يذكر الله؛ وقرأ ابن مسعود لاهون مكان ساهون قال ابن عباس هم المنافقون يتركون الصلاة في السر ويصلون في العلانية.
عن مصعب بن سعد قال: قلت لأبيّ أرأيت قول الله (الذين هم عن صلاتهم ساهون) أينا لا يسهو أينا لا يحدث نفسه، قال إنه ليس كذلك إنه إضاعة الوقت.
وعن سعد بن أبي وقاص قال سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن الآية قال " هم الذين يؤخرون الصلاة عن وقتها " قال الحاكم والبيهقي الموقوف(15/404)
أصح إسناداً، قال ابن كثير: ضعف البيهقي رفعه وصحح وقفه وكذلك الحاكم.
وعن أبي برزة الأسلمي قال لما نزلت هذه الآية قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " الله أكبر هذه الآية خير لكم من أن يعطي كل رجل منكم جميع الدنيا هو الذي إن صلى لم يرج خير صلاته. وإن تركها لم يخف ربه " رآه ابن جرير وابن مردويه، قال السيوطي بسند ضعيف ففي إسناده جابر الجعفي وهو ضعيف، وشيخه مبهم لم يسم، وعن ابن عباس قال هم الذين يؤخرونها عن وقتها.(15/405)
الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ (6)
(الذين هم يراؤون) الناس بصلاتهم إن صلوا أو يراؤون الناس بكل ما عملوه من أعمال البر ليثنوا عليهم، قال ابن عباس هم المنافقون يراؤون الناس بصلاتهم إذا حضروا ويتركونها إذا غابوا، قال الخازن أما من يظهر النوافل ليقتدى به ويأمن على نفسه من الرياء فلا بأس بذلك وليس بمراء.(15/405)
وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ (7)
(ويمنعون) الناس أو الطالبين (الماعون) فاعول من المعن الشيء وهو القليل يقال مال معن أي قليل، قاله قطرب، أو اسم مفعول من عانه يعينه، والأصل معوون، وكان من حقه على هذا أن يقال معون، كمصون ومقول اسمي مفعول من صان وقال، ولكنه قلبت الكلمة بأن قدمت عيناً على فائها فصار موعون، ثم قلبت الواو الأولى ألفاً فوزنه الآن معقول.
قال أكثر المفسرين: الماعون اسم لما يتعاوره الناس بينهم من الدلو والفأس والقدر، وما لا يمنع كالماء والملح، وقيل هو الزكاة أي يمنعون زكاة أموالهم، قال الزجاج وأبو عبيد والمبرد الماعون في الجاهلية كل ما فيه منفعة حتى الفأس والدلو والقدر والقادحة، وكل ما فيه منفعة من قليل وكثير.
وقالوا أيضاًً الماعون في الإسلام الطاعة والزكاة، وقال الفراء سمعت بعض العرب يقول الماعون الماء، وقيل الماعون هو الحق على العبد على العموم، وقيل هو المستقل من منافع الأموال، مأخوذ من المعن وهو القليل.(15/405)
قال قطرب أصل الماعون من القلة والمعن الشيء القليل فسمى الله الصدقة والزكاة ونحو ذلك من المعروف ماعوناً لأنه قليل من كثير، وقيل هو ما يبخل به كالماء والملح والنار.
وعن ابن مسعود قال " كنا نعد الماعون على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عارية الدلو والقدر والفأس والميزان وما تتعاطون بينكم " وعنه قال " كان المسلمون يستعيرون من المنافقين القدر والفأس وشبهه فيمنعونهم فأنزل الله ويمنعون الماعون.
وعن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم في الآية قال " ما تعاور الناس بينهم الفأس والقدر والدلو وأشباهه " أخرجه أبو نعيم والديلمي وابن عساكر.
وعن قره بن دعموص النمري أنهم وفدوا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقالوا يا رسول الله ما تعهد إلينا قال " لا تمنعوا الماعون قالوا وما الماعون قال في الحجر والحديدة وفي الماء قالوا فأي الحديدة قال قدركم النحاس، وحديد الفأس الذي تمتهنون به، قالوا وما الحجر، قال قدوركم الحجارة " أخرجه ابن أبي حاتم وابن مردويه. قال ابن كثير غريب جداً ورفعه منكر، وفي إسناده من لا يعرف.
وعن سعيد بن عياض عن أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم الماعون الفأس والقدر والدلو وقال ابن عباس عارية متاع البيت، وعن علي ابن أبي طالب قال الماعون الزكاة الفروضة يراؤون بصلاتهم ويمنعون زكاتهم.(15/406)
سورة الكوثر
وتسمى سورة النحر هي ثلاث آيات وهي مكية في قول ابن عباس والكلبي ومقاتل ومدنية في قول الحسن وعكرمة ومجاهد وقتادة، وعن ابن عباس وابن الزبير وعائشة أنها نزلت سورة الكوثر بمكة.(15/407)
بسم الله الرحمن الرحيم
إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3)(15/409)
إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1)
(إنا أعطيناك الكوثر) قرأ الجمهور هكذا، وقرأ الحسن وابن محيصن وطلحة والزعفراني أنطيناك بالنون قيل هي لغة العرب العاربة أي قضينا لك وخصصناك به فهو لك ولأمتك من قبل وجودك وإن لم تستول عليه وتتصرف فيه إلا في القيامة، فالعطاء ناجز والتمكن والاستيلاء مستقبل، والكوثر فوعل من الكثرة وصف به للمبالغة في الكثرة مثل النوفل من النفل، والجوهر من الجهر، والعرب تسمي كل شيء كثير في العدد أو القدر أو الخطر كوثراً.
فالمعنى على هذا إنا أعطيناك يا محمد الخير الكثير البالغ في الكثرة إلى الغاية، وذهب أكثر المفسرين كما حكاه الواحدي إلى أن الكوثر نهر في الجنة، وقيل هو حوض النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الموقف، قاله عطاء وقال عكرمة الكوثر النبوة، وقال الحسن هو القرآن وقال الحسن بن الفضل هو تفسير القرآن وتخفيف الشرائع.
وقال أبو بكر بن عياش هو كثرة الأصحاب والأمة، وقال ابن كيسان هو الإيثار، وقيل هو الإسلام، وقيل رفعة الذكر، وقيل نور القلب، وقيل الشفاعة، وقيل المعجزات، وقيل إجابة الدعوة، وقيل لا إله إلا الله وقيل الفقه في الدين، وقيل الصلوات الخمس، وسيأتي بيان ما هو الحق.
وعن أنس قال أغفى رسول الله إغفاءة فرفع رأسه متبسماً فقال: " إنه أنزل عليّ آنفاً سورة فقرأ بسم الله الرحمن الرحيم إنا أعطيناك الكوثر، حتى ختمها قال هل تدرون ما الكوثر، قالوا الله ورسوله أعلم، قال هو نهر أعطانيه(15/409)
ربي في الجنة عليه خير كثير، ترد عليه أمتي يوم القيامة آنيته كعدد الكواكب يختلج العبد منهم فأقول يا رب إنه من أمتي فيقال إنك لا تدري ما أحدث بعدك " أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه والبيهقي في سننه، وأخرجه أيضاًً مسلم في صحيحه (1).
وعن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " دخلت الجنة فإذا أنا بنهر حافتاه خيام اللؤلؤ فضربت بيدي إلى ما يجري فيه الماء فإذا مسك أذفر، قلت ما هذا يا جبريل؟ " قال هذا الكوثر الذي أعطاكه الله " أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما (2).
وقد روي عن أنس من طرق كلها مصرحة بأن الكوثر هو النهر الذي في الجنة، وعن عائشة قالت هو نهر أعطيه نبيكم صلى الله عليه وآله وسلم في بطنان الجنة، وعن ابن عباس أنه نهر في الجنة وعن حذيفة قال " نهر في الجنة " وحسن السيوطي إسناده.
وعن أسامة بن زيد مرفوعاً أنه قيل لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " إنك أعطيت نهراً في الجنة يدعى الكوثر فقال أجل وأرضه ياقوت ومرجان وزبرجد ولؤلؤ، هو نهر من أنهار الجنة أعطانيه الله " أخرجه ابن مردويه.
وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رجلاً قال يا رسول الله ما الكوثر؟ قال " هو نهر من أنهار الجنة أعطانيه الله " أخرجه ابن مردويه.
_________
(1) رواه البخاري في " صحيحه " بهذا اللفظ في كتاب الرقاق، باب الحوض 11/ 412 وشك الراوي في آخره، وهو (هدبة بن خالد) في رواية، " فإذا طينه أو طيبه " قال الحافظ ابن حجر في " الفتح " 11/ 412: أراد بذلك أن أبا الوليد لم يشك في روايته، أنه بالنون، وهو المعتمد. قال: وتقدم في تفسير سورة الكوثر من طريق شيبان عن قتادة: فأهوى الملك بيده فاستخرج من طينه مسكاً أذفر. والأذفر: طيب الريح.
(2) أي ليلة الإسراء، كما في رواية البخاري في التفسير 8/ 562: عن أنس رضي الله عنه قال: لما عرج بالنبي - صلى الله عليه وسلم - إلى السماء قال: " أتيت على نهر حافتاه قباب اللؤلؤ مجوف، فقلت: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذا الكوثر ".(15/410)
فهذه الأحاديث تدل على أن الكوثر هو النهر الذي في الجنة فيتعين المصير إليها، وعدم التعويل على غيرها، وإن كان معنى الكوثر هو الخير الكثير في لغة العرب، فمن فسره بما هو أعم مما ثبت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فهو تفسير ناظر إلى المعنى اللغوي كما أخرج أحمد والترمذي وصححه وابن ماجة وغيرهم عن عطاء بن السائب قال: قال محارب بن دثار قال سعيد بن عبيد في الكوثر قلت حدثنا عن ابن عباس أنه قال هو الخير الكثير فقال صدق أنه للخير الكثير، ولكن حدثنا ابن عمر قال نزلت إنا أعطيناك الكوثر فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " الكوثر نهر في الجنة حافتاه من ذهب يجري على الدر والياقوت، تربته أطيب من المسك وماؤه أشد بياضاً من اللبن وأحلى من العسل ".
وأخرج البخاري وابن جرير والحاكم من طريق أبي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال في الكوثر هو الخير الذي أعطاه الله إياه، قال أبو بشر قلت لسعيد ابن جبير فإن ناساً يزعمون أنه نهر في الجنة قال النهر الذي في الجنة من الخير الذي أعطاه الله إياه.
وهذا التفسير من حبر الأمة ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ناظر إلى المعنى اللغوي كما عرفناك ولكن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد فسره فيما صح عنه أنه النهر الذي في الجنة، وإذا جاء نهر الله بطل نهر معقل.
قال القرطبي أصح هذه الأقوال أنه النهر أو الحوض لأنه ثابت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نصاً في الكوثر.
قال القاضي عياض: أحاديث الحوض صحيحة والإيمان به فرض والتصديق به من الإيمان وهو على ظاهره عند أهل السنة والجماعة لا يتأول ولا يختلف فيه، وحديثه متواتر النقل، رواه خلائق من الصحابة، وقد جمع ذلك كله البيهقي في كتابه البعث والنشور بأسانيده وطرقه المتكاثرة.
وذهب صاحب القوت وغيره إلى أن حوض النبي صلى الله عليه وآله(15/411)
وسلم إنما هو بعد الصراط، والصحيح أن له صلى الله عليه وآله وسلم حوضين وكلاهما يسمى كوثراً.
واختلف في الميزان والحوض أيهما قبل الآخر فقيل الميزان وقيل الحوض قال أبو الحسن الفاسي والصحيح أن الحوض قبل.
قلت والمعنى يقتضيه فإن الناس يخرجون من قبورهم عطاشاً فيقدم قبل الصراط والميزان والله أعلم.(15/412)
فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2)
(فصل لربك) وكان الظاهر أن يقول لنا فانتقل إلى الاسم المظهر على طريق الالتفات لأنه يوجب عظمة ومهابة، والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها، والمراد الأمر له صلى الله عليه وآله وسلم بالدوام على إقامة الصلوات المفروضة، قال ابن عباس الصلاة المكتوبة وقيل صلاة عيد النحر، وهذا يناسب كونها مدنية، والأول يناسب كونها مكية.
(وانحر) البدن التي هي خيار أموال العرب، قال محمد بن كعب: أن ناساً كانوا يصلون لغير الله وينحرون لغير الله فأمر الله نبيه صلى الله عليه وآله وسلم أن يكون صلاته ونحره له، وقال قتادة وعطاء وعكرمة المراد صلاة العيد ونحر الأضحية، وقال سعيد بن جبير: صل لربك صلاة الصبح المفروضة بجمع، وانحر البدن في منى.
وقيل النحر وضع اليمنى على اليسرى في الصلاة حذاء النحر، قاله محمد بن كعب، وقيل هو أن يرفع يديه في الصلاة عند التكبيرة إلى حذاء نحره، وقيل هو أن يستقبل القبلة بنحره، قاله الفراء والكلبي وأبو الأحوص، قال الفراء: سمعت بعض العرب يقول نتناحر أي نتقابل نحر هذا إلى نحر هذا أي قبالته.
وقال ابن الأعرابي هو انتصاب الرجل في الصلاة بإزاء المحراب، من قولهم: منازلهم تتناحر أي تتقابل، وروي عن عطاء أنه قال أمره أن يستوي بين السجدتين جالساً حتى يبدو نحره، وقال سليمان التيمي المعنى وارفع(15/412)
يديك بالدعاء إلى نحرك.
وظاهر الآية الأمر له صلى الله عليه وآله وسلم بمطلق الصلاة ومطلق النحر، وأن يجعلهما لله عز وجل لا لغيره، وما ورد في السنة من بيان هذا المطلق بنوع خاص فهو في حكم المقيد له.
عن علي بن أبي طالب قال لما نزلت هذه السورة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لجبريل " ما هذه النحيرة التي أمرني بها ربي، فقال إنها ليست بنحيرة ولكن يأمرك إذا تحرمت للصلاة أن ترفع يديك إذا كبرت وإذا ركعت وإذا رفعت رأسك من الركوع فإنها صلاتنا وصلاة الملائكة الذين هم في السموات السبع، وأن لكل شيء زينة، وزينة الصلاة رفع اليدين عند كل تكبيرة قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم رفع اليدين من الإستكانة التي قال الله (فما استكانوا لربهم وما يتضرعون) " أخرجه ابن أبي حاتم والحاكم وابن مردويه والبيهقي في سننه وهو من طريق مقاتل بن حيان عن الأصبغ بن نباتة عن علي.
وعن ابن عباس في الآية قال إن الله أوحى إلى رسوله صلى الله عليه وآله وسلم أن ارفع يديك حذاء نحرك إذا كبرت للصلاة، فذاك النحر، وعن علي في الآية قال: " وضع يده اليمنى على وسط ساعده اليسرى ثم وضعهما على صدره في الصلاة " وعن أنس " عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مثله " أخرجه أبو الشيخ والبيهقي في سننه.
وعن ابن عباس أيضاًً إذا صليت فرفعت رأسك من الركوع فاستو قائماً، وعنه قال هو الذبح يوم الأضحى يقول اذبح يوم النحر.(15/413)
إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3)
(إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ) أي مبغضك هو المنقطع عن الخير على العموم، فيعم خيري الدنيا والآخرة، أو الذي لا عقب له أو الذي لا يبقى ذكره بعد موته.
وطْاهر الآية العموم، وإن هذا شأن كل من يبغض النبي صلى الله عليه(15/413)
وسلم ولا ينافي ذلك كون سبب النزول هو العاص بن وائل كما سيأتي فالاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب كما مر غير مرة.
قيل كان أهل الجاهلية إذا مات المذكور من أولاد الرجل قالوا قد بتر فلان، فلما مات ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم إبراهيم خرج أبو جهل إلى أصحابه فقال بتر محمد، فنزلت الآية، وقيل القائل بذلك عقبة بن أبي معيط.
قال أهل اللغة الأبتر من الرجال الذي لا ولد له، ومن الدواب الذي لا ذنب له، وكل أمر انقطع من الخير أثره فهو أبتر، وأصل البتر القطع، يقال بترت الشيء بتراً قطعته، وفي المختار بتره قطعه قبل التمام، وبابه نصر، والانبتار الانقطاع، والأبتر المقطوع الذنب، وبابه طرب.
وعن ابن عباس قال: " قدم كعب بن الأشرف مكة فقالت له قريش أنت خير أهل المدينة وسيدهم، ألا ترى إلى هذا الصابيء المنبتر من قومه يزعم أنه خير منا ونحن أهل الحجيج وأهل السقاية وأهل السدانة، قال أنتم خير منه فنزلت (إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ)، ونزلت (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ -إلى قوله- فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا) " أخرجه البزار وابن أبي حاتم وابن مردويه، قال ابن كثير وإسناده صحيح.
وعن أبي أيوب قال: " لما مات إبراهيم ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم، مشى المشركون بعضهم إلى بعض فقالوا إن هذا الصابيء قد بتر الليلة، فأنزل الله (إنا أعطيناك الكوثر) إلى آخر السورة أخرجه الطبراني وابن مردويه.
وأخرج ابن سعد وابن عساكر من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال " كان أكبر ولد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، القاسم ثم زينب ثم عبد الله ثم أم كلثوم ثم فاطمة ثم رقية رضي الله تعالى عنهم، فمات القاسم وهو أول ميت من أهله وولده بمكة، ثم مات عبد الله فقال العاص بن(15/414)
وائل السهمي قد انقطع نسله فهو أبتر، فأنزل الله (إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ) " وفي إسناده الكلبي، وعنه قال هو أبو جهل وعنه قال يقول عدوك وقيل ولد القاسم ثم زينب ثم عبد الله قال الكلبي: ولدت زينب ثم القاسم ثم أم كلثوم ثم فاطمة ثم رقية ثم عبد الله، وكان يقال له الطيب والطاهر، قال وهذا هو الصحيح، وغيره تخليط.(15/415)
سورة الكافرون
هي ست آيات وهي مكية في قول ابن مسعود والحسن وعكرمة، ومدنية في أحد قولي ابن عباس وقتادة والضحاك، وعن ابن الزبير أنها نزلت بالمدينة.
وقد ثبت في صحيح مسلم من حديث جابر: " أن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - قرأ بهذه السورة وبقل هو الله في ركعتي الطواف ".
وفي مسلم أيضاً من حديث أبي هريرة " أن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - قرأ بهما في ركعتي الفجر "، وعن ابن عمر قال: " أن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - قرأ في الركعتين قبل الفجر والركعتين بعد المغرب بضعاً وعشرين مرة أو بضع عشرة مرة (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ) و (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) " أخرجه أحمد والترمذي وحسنه والنسائي وابن ماجة وابن حبان وابن مردويه.
وأخرج الحاكم وصححه عن أبيّ قال: " كان رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يوتر بـ (سبح) و (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ) و (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) ".(15/417)
وعن ابن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) تعدل ثلث القرآن و (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ) تعدل ربع القرآن، وكان يقرأ بهما في ركعتي الفجر " أخرجه محمد بن نصر والطبراني في الأوسط.
وعن نوفل بن معاوية الأشجعي أنه قال يا رسول الله علمني ما أقول إذا أويت إلى فراشي قال: " اقرأ (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ) ثم نم على خاتمتها فإنها براءة من الشرك "، أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم.
وعن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: " ألا أدلكم على كلمة تنجيكم من الإشراك بالله تقرآون (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ) عند منامنكم "، أخرجه أبو يعلى والطبراني.
وعن زيد بن أرقم قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " من لقي الله بسورتين فلا حساب عليه (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ) و (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) " أخرجه ابن مردويه.
وعن خباب أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: " إذا أخذت مضجعك فاقرأ (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ) " وأن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لم يأت فراشه قط إلا قرأ (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ) حتى ختمها " أخرجه البزار والطبراني وابن مردويه، وفي الباب أحاديث كثيرة.(15/418)
بسم الله الرحمن الرحيم
قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (4) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6)(15/419)
قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1)
(قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ) الألف واللام للجنس، ولكنها لما كانت الآية خطاباً لمن سبق في علم الله أنه يموت على كفره كان المراد بهذا العموم خصوص من كان كذلك لأن من الكفار عند نزول هذه الآية من أسلم وعبد الله سبحانه.
وسبب نزول هذه السورة إن الكفار سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن يعبد آلهتهم سنة ويعبدوا إلهه سنة فأمره الله سبحانه أن يقول لهم(15/419)
لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2)
(لا أعبد ما تعبدون) أي لا أفعل في الحال ما تطلبون مني من عبادة ما تعبدون من الأصنام. قيل والمراد فيما يستقبل من الزمان لأن لا النافية لا تدخل في الغالب إلا على المضارع الذي في معنى الاستقبال كما أن (ما) لا تدخل إلا على مضارع في معنى الحال.
وذكر الحافظ ابن القيم في بدائع الفوائد عشر مسائل تحت هذه الآية وقال وقع (ما) فيها بدلاً عن (من) ومعناه أنتم لا تعبدون معبودي فالمقصود المعبود لا العبادة، ولا يصح في النظم البديع والمعنى الرفيع إلا لفظ (ما) لإيهامها ومطابقتها الغرض الذي تضمنته الآية انتهى.
عن ابن عباس: " أن قريشاً دعت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن يعطوه مالاً فيكون أغنى رجل بمكة ويزوجوه ما أراد من النساء، فقالوا هذا لك يا محمد وكف عن شتم آلهتنا، ولا تذكرها بسوء فإن لم تفعل فإنا نعرض(15/419)
عليك خصلة واحدة ولك فيها صلاح، قال ما هي؟ قالوا تعبد آلهتنا سنة ونعبد إلهك سنة، قال حتى أنظر ما يأتيني من ربي فجاء الوحي من عند الله (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ) إلى آخر السورة وأنزل الله (قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ) إلى قوله (بل الله فاعبد وكن من الشاكرين) أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني.
وعن سعيد بن ميناء مولى أبي البختري قال: لقى الوليد بن المغيرة والعاص بن وائل والأسود بن عبد المطلب وأمية بن خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: " يا محمد هلم فلنعبد ما تعبد، وتعبد ما نعبد، ونشترك نحن وأنت في أمرنا كله، فإن كان الذي نحن عليه أصح من الذي أنت عليه كنت قد أخذت منه حظاً، وإن كان الذي أنت عليه أصح من الذي نحن عليه كنا قد أخذنا منه حظاً فأنزل الله هذه السورة " أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم وابن الأنباري.
وعن ابن عباس أن قريشاً قالت لو استلمت آلهتنا لعبدنا إلهك فأنزل الله هذه السورة كلها.(15/420)
وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3)
(ولا أنتم عابدون ما أعبد) أي ولا أنتم فاعلون في المستقبل ما أطلب منكم من عبادة إلهي.
قال الحافظ ابن القيم في البدائع: اشتمال هذه على النفي المحض خاصة هذه السورة العظيمة فإنها سورة براءة من الشرك كما جاء في وصفها فمقصودها الأعظم هو البراءة المطلقة بين الموحدين والمشركين، ولهذا أتى بالنفي في الجانبين تحقيقاً للبراءة المطلوبة، هذا مع أنها متضمنة للإثبات صريحاً.
فقوله (لا أعبد ما تعبدون) براءة محضة (ولا أنتم عابدون ما أعبد) إثبات أن له معبوداً يعبده وأنهم بريئون من عبادته، فتضمنت النفي والإثبات فطابقت قول إمام الحنفاء (إنني براء مما تعبدون إلا الذي فطرني) وطابقت(15/420)
قول الفئة الموحدين (وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله).
ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم، يقرأ بها وبقل هو الله أحد في سنة الفجر وسنة المغرب، فإن هاتين السورتين سورتا الإخلاص، وقد اشتملتا على نوعي التوحيد الذي لا نجاة للعبد ولا فلاح إلا بهما وهما توحيد العمل والاعتقاد المتضمن تنزيه الله عما لا يليق به من الشرك والكفر والولد والوالد وإنه إله واحد صمد لم يلد ولم يولد.
والثاني توحيد القصد والإرادة وهو أن لا يعبد إلا إياه فلا يشرك به في عبادته سواه بل يكون وحده المعبود، وهذه السورة مشتملة على هذا التوحيد انتهى.(15/421)
وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (4)
(ولا أنا عابد ما عبدتم) أي ولا أنا قط فيما سلف عابد ما عبدتم فيه، والمعنى أنه لم يعهد مني ذلك (ولا أنتم عابدون ما أعبد) أي وما عبدتم في وقت من الأوقات ما أنا على عبادته، كذا قيل، وهذا على قول من قال أنه لا تكرار في هذه الآيات لأن الجملة الأولى لنفي العبادة في المستقبل لما قدمنا من أن (لا) لا تدخل إلا على مضارع في معنى الاستقبال.
والدليل على ذلك أن لن تأكيد لما ينفيه (لا) قال الخليل في لن أن أصله (لا) فالمعنى لا أعبد ما تعبدون في المستقبل ولا أنتم عابدون في المستقبل ما أطلبه من عبادة إلهي.
ثم قال: ولا أنا عابد ما عبدتم أي ولست في الحال بعابد معبودكم ولا أنتم في الحال بعابدين معبودي وقيل بعكس هذا، وهو أن الجملتين الأوليتين للحال، والجملتين الآخرتين للاستقبال بدليل قوله (ولا أنا عابد ما عبدتم) كما لو قال القائل أنا ضارب زيداً وأنا قاتل عمراً، فإنه لا يفهم منه إلا الإستقبال.
قال الأخفش والفراء: المعنى لا أعبد الساعة ما تعبدون ولا أنتم عابدون الساعة ما أعبد ولا أنا عابد في المستقبل ما عبدتم ولا أنتم عابدون في(15/421)
المستقبل ما أعبد.
قال الزجاج: نفى رسول الله صلى الله عليه وسلم، بهذه السورة عبادة آلهتهم عن نفسه في الحال وفي المستقبل، ونفى عنهم عبادة الله في الحال، وفيما يستقبل، وقيل أن كل واحد منهما يصلح للحال والاستقبال ولكنا نخص أحدهما بالحال والثاني بالاستقبال رفعاً للتكرار.
وكل هذا فيه من التكلف والتعسف ما لا يخفى على منصف، فإن جعل قوله لا أعبد ما تعبدون للإستقبال وإن كان صحيحاً على مقتضى اللغة العربية ولكنه لا يتم جعل قوله(15/422)
وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5)
(ولا أنتم عابدون ما أعبد) للاستقبال لأن الجملة الاسمية تفيد الدوام والثبات في كل الأوقات فدخول النفي عليها يرفع ما دلت عليه من الدوام والثبات في كل الأوقات، ولو كان حملها على الاستقبال صحيحاً للزم مثله في قوله: (ولا أنا عابد ما عبدتم) وفي قوله (ولا أنتم عابدون ما أعبد) فلا يتم ما قيل من حمل الجملتين الآخرتين على الحال.
وكما يندفع هذا يندفع ما قيل من العكس لأن الجملة الثانية والثالثة والرابعة كلها جمل اسمية مصدرة بالضمائر التي هي المبتدأ في كل واحد منها مخبر عنها باسم الفاعل العامل فيها بعده منفية كلها بحرف واحد وهو لفظ لا في كل واحد منها فكيف يصح القول مع هذا الاتحاد بأن معانيها في الحال والاستقبال مختلفة.
وأما قول من قال أن كل واحد منها يصلح للحال والإستقبال فهو إقرار منه بالتكرار، لأن حمل هذا على معنى، وحمل هذا على معنى، مع الاتحاد يكون من باب التحكم الذي لا يدل عليه دليل.
وإذا تقرر لك هذا فاعلم أن القرآن نزل بلسان العرب، ومن مذاهبهم التي لا تجحد، واستعمالاتهم التي لا تنكر، أنهم إذا أرادوا التأكيد كرروا كما أن من مذاهبهم أنهم إذا أرادوا الاختصار أوجزوا، هذا معلوم لكل من له علم بلغة العرب، وهذا مما لا يحتاج إلى إقامة البرهان عليه، لأنه إنما(15/422)
يستدل على ما فيه خفاء، ويبرهن على ما هو متنازع فيه.
وأما ما كان من الوضوح والظهور والجلاء بحيث لا يشك فيه شاك ولا يرتاب فيه مرتاب، فهو مستغن عن التطويل، غير محتاج إلى تكثير القال والقيل.
وقد وقع في القرآن الكريم من هذا ما يعلمه كل من يتلو القرآن، وربما يكثر في بعض السور كما في سورة الرحمن وسورة المرسلات، وفي أشعار العرب من هذا ما لا يأتي عليه الحصر.
وقد ثبت عن الصادق المصدوق صلى الله عليه وآله وسلم، وهو أفصح من نطق بلغة العرب أنه كان إذا تكلم بالكلمة أعادها ثلاث مرات.
وإذا عرفت هذا ففائدة ما وقع في السورة من التأكيد هو قطع أطماع الكفار عن أن يجيبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلى ما سألوه من عبادته آلهتهم، وإنما عبر سبحانه بما التي لغير العقلاء في المواضع الأربعة لأنه يجوز ذلك كما في قوله سبحان ما سخركن لنا ونحوه.
والنكتة في ذلك أن يجري الكلام على نمط واحد، ولا يختلف، وقيل أنه أراد الصفة كأنه قال لا أعبد الباطل ولا تعبدون الحق، وقيل أن (ما) في المواضع الأربعة هي المصدرية لا الموصولة أي لا أعبد عبادتكم ولا أنتم عابدون عبادتي الخ.
وجملة(15/423)
لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6)
(لكم دينكم) مستأنفة لتقرير قوله لا أعبد ما تعبدون وقوله ولا أنا عابد ما عبدتم كما أن قوله (ولي دين) تقرير لقوله (ولا أنتم عابدون ما أعبد) في الموضعين أي إن رضيتم بدينكم وشرككم فقد رضيت بديني وتوحيدي كما في قوله (لنا أعمالنا ولكم أعمالكم) والمعنى أن دينكم الذي هو الإشراك مقصور على الحصول لكم لا يتجاوزه إلى الحصول لي كما تطمعون، وديني الذي هو التوحيد مقصور على الحصول لي لا يتجاوزه إلى الحصول لكم.(15/423)
وقيل المعنى لكم جزاؤكم ولي جزائي، لأن الدين الجزاء.
قيل وهذه الآية منسوخة بآية السيف، وقيل ليست بمنسوخة لأنها إخبار، والإخبار لا يدخلها النسخ، وقيل السورة كلها منسوخة.
وقال القاضي: (ولي ديني) الذي أنا عليه لا أرفضه، فليس فيه إذن في الكفر، ولا منع عن الجهاد فلا يكون منسوخاً بآية القتال، وقد فسر الدين بالحساب والجزاء والعبادة.
وقال الحافظ بن القيم في البدائع: وقد غلط في السورة خلائق وظنوا أنها منسوخة بآية السيف لاعتقادهم أن هذه الآية اقتضت التقرير لهم على دينهم، وظن آخرون أنها خصوصة بمن يقرون على دينهم وهم أهل الكتاب، وكلا القولين غلط محض فلا نسخ في السورة ولا تخصيص، بل هي محكمة عمومها نص محفوظ، وهي من السور التي يستحيل دخول النسخ فيها.
وهذه السورة أخلصت للتوحيد، ولهذا تسمى سورة الإخلاص، والآية اقتضت البراءة المحضة وإن ما أنتم عليه من الدين لا أوافقكم عليه فإنه دين باطل، فهو مختص بكم لا نشرككم فيه، ولا تشركوننا في ديننا الحق، فهذا غاية البراءة والتنصل من موافقتهم في دينهم، فأين الإقرار حتى يدعى النسخ والتخصيص؟ أفترى إذا جوهدوا بالسيف كما جوهدوا بالحجة لا يصح أن يقال لهم لكم دينكم ولي دين.
بل هذه الآية قائمة محكمة ثابتة بين المؤمنين والكافرين إلى أن يطهر الله منهم بلاده وعباده وكذلك حكم هذه البراءة بين أتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم، أهل سنته وبين أهل البدع المخالفين لما جاء به الداعين إلى غير سنته إذ قال لهم خلفاء الرسول وذريته لكم دينكم ولنا ديننا هذا فلا يقتضي إقرارهم على بدعهم بل يقولون لهم هذا براءة منها وهم مع ذلك منتصبون للرد عليهم ولجهادهم بحسب الإمكان انتهى حاصله.(15/424)
وقرأ الجمهور (ولي) بإسكان الياء وحذف الياء من (ديني) وصلاً ووقفاً، وقرىء بفتح الياء من قوله لي وإثباتها من ديني وصلاً ووقفاً وقالوا لأنها إسم فلا تحذف، ويجاب بأن حذفها لرعاية الفواصل سائغ وإن كانت اسماً، ويجاب أيضاًً بأنها من ياءات الزوائد فيراعى فيه اتباع رسم المصحف، وهي غير ثابتة فيه اكتفاء بالكسرة.(15/425)
سورة النصر
وتسمى سورة التوديع، وهي ثلاث آيات وهي مدنية بالإجماع بلا خلاف قال ابن عباس أنزل بالمدينة إذا جاء نصر الله والفتح وعن ابن عمر قال هذه السورة " نزلت على رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - أوسط أيام التشريق بمنى وهو في حجة الوداع (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ) حتى ختمها فعرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنها الوداع " أخرجه البزار وأبو يعلى والبيهقي (1).
وعن ابن عباس قال: لما نزلت (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ) قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " نعيت إليّ نفسي " أخرجه أحمد وغيره، وزاد ابن مردويه في لفظ: وقرب إليّ أجلي، وفي لفظ لما نزلت نعيت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - نفسه حين أنزلت فأخذ في أشد ما كان قط اجتهاداً في أمر الآخرة.
وعن أم حبيبة قالت: لما أنزل (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ) قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - " إن الله لم يبعث نبياً إلا عمر من أمته شطر ما عمر النبي الماضي قبله، فإن عيسى بن مريم كان أربعين سنة في بني إسرائيل وهذه لي عشرون سنة وأنا ميت في هذه السنة فبكيت فاطمة - رضي الله تعالى عنها - فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - أنت أول أهلي بي لحوقاً فتبسمت " أخرجه ابن أبي حاتم وابن مردويه.
_________
(1) روى البخاري في " صحيحه " 8/ 565: عن ابن عباس - رضي الله عنهما -، قال: كان عمر يدخلني مع أشياخ بدر، فكأنَّ بعضهم وجد في نفسه، فقال: لم تدخل هذا معنا ولنا أبناء مثله؟! فقال عمر: إنه من حيث علمتم، فدعاه ذات يوم فأدخله معهم، فما رأيت أنه دعاني يومئذ إلا ليريهم، قال: ما تقولون في قول الله تعالى: (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ)؟ فقال بعضهم: أمرنا أن نحمد الله ونستغفره إذا نصرنا وفتح علينا، وسكت بعضهم فلم يقل شيئاً، فقال لي: أكذاك تقول يا ابن عباس؟ فقلت: لا، قال: فما تقول؟ قلت: هو أجل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعلمه له، قال: (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ) وذلك علامة أجلك (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا) فقال عمر: ما أعلم منها إلا ما تقول.
قال الحافظ ابن حجر في " الفتح ": وفي الحديث فضيلة ظاهرة لابن عباس، وتأثير لإجابة دعوة النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يعلمه الله التأويل ويفقهه في الدين، وفيه جواز تحديث المرء عن نفسه بمثل هذا، لإظهار نعمة الله عليه، وإعلام من لا يعرف قدره لينزله منزلته، وغير ذلك من المقاصد الصالحة، لا للمفاخرة والمباهاة، وفي جواز تأويل القرآن بما يفهم من الإشارات، وإنما يتمكن من ذلك من رسخت قدمه في العلم، ولهذا قال علي - رضي الله عنه -: أو فهماً يؤتيه الله رجلاً في القرآن.(15/427)
وعن ابن عباس قال لما نزلت (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ) دعا رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فاطمة وقال: " إنه قد نعيت إليّ نفسي فبكت ثم ضحكت، وقالت أخبرني أنه نعيت إليه نفسي فبكيت، فقال اصبري فإنك أول أهلي لحاقاً بي فضحكت " أخرجه البيهقي " (1).
ولقد تقدم في سورة الزلزلة أن هذه السورة تعدل ربع القرآن وهي آخر سورة نزلت جميعاً.
_________
(1) روى مسلم في " صحيحه " رقم (3024) عن عبيد الله بن عتبة، قال: قال لي ابن عباس: تعلم (وقال هارون: تدري) آخر سورة نزلت في القرآن، نزلت جميعاً؟
قلت: نعم (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ) قال: صدقت، قال مسلم: وفي رواية ابن أبي شيبة (أحد الرواة): تعلم أي سورة، ولم يقل: آخر. قال الحافظ في " الفتح " 8/ 564: وأخرج النسائي من حديث ابن عباس أنها آخر سورة نزلت في القرآن، قال: وقد تقدم في تفسير (براءة) أنها آخر سورة نزلت، قال: والجمع بينهما أن آخرية سورة النصر، نزولها كاملة، بخلاف (براءة)، فالمراد نزول بعضها أو معظمها، وإلا ففيها آيات كثيرة نزلت قبل سنة الوفاة النبوية، وأوضح في ذلك أن أول (براءة) نزل عقب فتح مكة في سنة تسع عام حج أبي بكر، وقد نزل (اليوم أكملت لكم دينكم) وهي في (المائدة) في حجة الوداع سنة عشر، فالظاهر أن المراد معظمها، ولا شك أن غالبها نزل في غزوة تبوك، وهي آخر غزوات النبي - صلى الله عليه وسلم -.
[ص:429]
هذا بالنسبة للسورة، وأما بالنسبة لآخر آية نزلت، فقد روى البخاري عن ابن عباس: آخر آية نزلت على النبي - صلى الله عليه وسلم - آية الربا وفي " الفتح ": وجاء عن ابن عباس أيضاًً من وجه آخر: " آخر آية نزلت على النبي - صلى الله عليه وسلم -: (واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله) أخرجه الطبري من طرق. قال الحافظ: وطريق الجمع بين هذين القولين أن هذه الآية ختام الآيات المنزلة في الربا، وهي معطوفة عليهن، ثم قال: وأما ما سيأتي في آخر سورة (النساء) من حديث البراء: آخر آية نزلت (يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة) فيجمع بينه وبين قول ابن عباس، بأن الآيتين نزلتا جميعاً، فيصدق أن ...(15/428)
بسم الله الرحمن الرحيم
إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا (3)(15/429)
إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1)
(إذا جاء نصر الله) النصر العون مأخوذ من قولهم قد نصر الغيث الأرض إذا أعان على نباتها ومنع من قحطها، يقال نصره على عدوه ينصره نصراً إذا أعانه، والإسم النصرة واستنصره على عدوه إذا سأله أن ينصره عليه.
قال الواحدي قال المفسرون إذا جاءك يا محمد نصر الله على من عاداك وهم قريش، وقيل المراد نصره صلى الله عليه وآله وسلم على قريش من غير تعيين، وقيل نصره على من قاتله من الكفار، وقيل " إذا " بمعنى قد وقيل بمعنى إذ، ومعنى جاء حصل.
وإنما عبر عن الحصول بالمجيء تجوزاً للإشعار بأن المقدرات متوجهة من الأزل إلى أوقاتها المعينة فتقرب منها شيئاًً فشيئاًً، وقد قرب النصر من وقته فكن مترقباً لوروده مستعداً لشكره، قاله القاضي وهو استعارة تبعية لكن قول الراغب المجيء الحصول ويكون في المعاني والأعيان يقتضي خلافه.
وفي الخطيب (جاء) بمعنى استقر وثبت في المستقبل بمجيء وقته(15/429)
المضروب له في الأزل، وإذا منصوبة بسبح الذي هو جوابها ونصر الله مصدر مضاف لفاعله ومفعوله محذوف أي نصره إياك والمؤمنين.
(والفتح) أي فتح مكة وقيل هو فتح سائر البلاد، وقيل هو ما فتح الله عليه من العلوم والأول أظهر والثاني أنسب والثالث أبعد.
عن ابن عباس أن عمر سألهم عن قول الله (إذا جاء نصر الله والفتح) فقالوا فتح المدائن والقصور، قال فأنت يا ابن عباس ما تقول، قال قلت مثل ضرب لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم نعيت له نفسه.
وأخرج البخاري غيره عن ابن عباس قال " كان عمر يدخلني مع أشياخ بدر، وكان بعضهم وجد في نفسه فقال لم تدخل هذا معنا ولنا أبناء مثله فقال عمر أنه من قد علمتم، فدعاهم ذات يوم فأدخله معهم، فما رأيت أنه دعاني فيهم يومئذ إلا ليريهم، فقال ما تقولون في قول الله عز وجل (إذا جاء نصر الله والفتح) فقال بعضهم أمرنا أن نحمد الله ونستغفره إذا نصرنا وفتح علينا، وسكت بعضهم فلم يقل شيئاًً فقال لي أكذاك تقول يا ابن عباس؟ فقلت لا فقال ما تقول، فقلت هو أجل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أعلمه الله له قال (إذا جاء نصر الله والفتح) فذلك علامة أجلك (فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان تواباً) فقال عمر لا أعلم منها إلا ما تقول.
قال الرازي الفرق بين النصر والفتح أن الفتح هو تحصيل المطلوب الذي كان منغلقاً، والنصر كالسبب للفتح، فلهذا بدأ بذكر النصر، وعطف عليه الفتح، أو يقال النصر كمال الدين، والفتح إقبال الدنيا الذي هو تمام النعمة، أو يقال النصر الظفر، والفتح الجنة هذا معنى كلامه، ويقال الأمر أوضح من هذا وأظهر فإن النصر هو التأييد الذي يكون به قهر الأعداء وغلبهم والإستعلاء عليهم، والفتح هو فتح مساكن الأعداء ودخول منازلهم.(15/430)
وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2)
(ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجاً) أي أبصرت الناس من العرب وغيرهم يدخلون في دين الله الذي بعثك به وهو الإسلام جماعات فوجاً(15/430)
بعد فوج.
قال الحسن لما فتح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مكة قال العرب أما إذا ظفر محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأهل الحرم وقد أجارهم الله من أصحاب الفيل فليس لكم به يدان فكانوا يدخلون في دين- الله أفواجاً أي جماعات كثيرة بعد أن كانوا يدخلون واحداً واحداً، واثنين اثنين فصارت القبيلة تدخل بأسرها في الإسلام.
قال عكرمة ومقاتل: أراد بالناس أهل اليمن، وذلك أنه ورد من اليمن سبعمائة إنسان مؤمنين.
وانتصاب أفواجاً على الحال من فاعل يدخلون ومحل يدخلون النصب على الحال إن كان الرؤية بصرية، وإن كانت بمعنى العلم فهو في محل نصب على أنه المفعول الثاني.
وعن أبي هريرة قال لما نزلت (إذا جاء نصر الله والفتح) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " جاء أهل اليمن وهم أرق قلوباً، الإيمان يمان والفقه يمان والحكمة يمانية " أخرجه ابن مردويه.
وعن ابن عباس قال بينما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في المدينة إذ قال " الله أكبر قد جاء نصر الله والفتح وجاء أهل اليمن قوم رقيقة قلوبهم، لينة طباعهم، الإيمان يمان، والفقه يمان، والحكمة يمانية " أخرجه الطبراني وابن مردويه.
وعن جابر بن عبد الله قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول " إن الناس دخلوا في دين الله أفواجاً وسيخرجون منه أفواجاً " أخرجه ابن مردويه.
وعن أبي هريرة قال: " تلا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجاً قال ليخرجن منه أفواجاً، كما دخلوا فيه أفواجاً " أخرجه الحاكم وصححه.(15/431)
فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا (3)
(فسبح بحمد ربك) هذا جواب انشرط وهو العامل فيه، والتقدير فسبح بحمد ربك إذا جاء نصر الله كما مر، وقال مكي العامل في (إذا) هو جاء، ورجحه أبو حيان وضعف الأول بأن ما جاء بعد فاء الجواب لا يعمل فيما قبلها.
وقوله (بحمد ربك) في محل نصب على الحال أي فقل سبحان الله متلبساً بحمده أو حامداً له، وفيه الجمع بين تسبيح الله المؤذن بالتعجب مما يسره الله له مما لم يكن يخطر بباله ولا بال أحد من الناس، وبين الحمد له على جميل صنعه له وعظيم منته عليه بهذه النعمة التي هي النصر والفتح لأم القرى التي كان أهلها قد بلغوا في عداوته إلى أعلى المبالغ حتى أخرجوه منها بعد أن افتروا عليه من الأقوال الباطلة، والأكاذيب المختلقة ما هو معروف من قولهم هو مجنون هو ساحر هو شاعر هو كاهن ونحو ذلك.
ثم ضم سبحانه إلى ذلك أمره نبيه صلى الله عليه وآله وسلم بالاستغفار فقال (واستغفره) أي اطلب منه المغفرة لذنبك، وسله الغفران هضماً لنفسك واستقصاراً لعملك، واستدراكاً لما فرط منك من ترك ما هو الأولى.
وقد كان صلى الله عليه وآله وسلم يرى قصوره عن القيام بحق الله ويكثر من الاستغفار والتضرع وإن كان قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وقيل أن الاستغفار منه صلى الله عليه وآله وسلم ومن سائر الأنبياء هو تعبد تعبدهم الله به لا لطلب المغفرة لذنب كائن منهم، وقيل إنما أمره الله سبحانه بالاستغفار تنبيها لأمته وتعريضاً بهم، فكأنهم هم المأمورون بالاستغفار.
وقيل إن الله سبحانه أمره بالاستغفار لأمته لا لذنبه وقيل المراد بالتسبيح هنا الصلاة، والأولى حمله على معنى التنزيه مع ما أشرنا إليه من كون فيه معنى التعجب سروراً بالنعمة، وفرحاً بما حباه الله من نصر الدين وكبت أعدائه ونزول الذلة بهم، وحصول القهر لهم.(15/432)
قال الحسن: أعلم الله رسوله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قد اقترب أجله فأمره بالتسبيح والتوبة ليختم له في آخر عمره بالزيادة في العمل الصالح، فكان يكثر أن يقول " سبحانك اللهم وبحمدك اغفر لي إنك أنت التواب ".
قال قتادة ومقاتل: وعاش صلى الله عليه وسلم بعد نزول هذه السورة سنتين.
وعن عائشة قالت " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر من قول " سبحان الله وبحمده وأستغفره وأتوب إليه " فقلت يا رسول الله أراك تكثر من قول سبحان الله وبحمده واستغفر الله وأتوب إليه، فقال أخبرني ربي أني سأرى علامة من أمتي فإذا رأيتها أكثرت من قول سبحان الله وبحمده وأستغفر الله وأتوب إليه، فقد رأيتها (إذا جاء نصر الله والفتح) فتح مكة ورأيت الناس يدخلون الخ " أخرجه ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه.
وأخرج البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه وغيرهم عن عائشة قالت " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده " سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي، بتأويل القرآن تعني (إذا جاء نصر الله والفتح) وفي الباب أحاديث.
وقوله (إنه كان تواباً) تعليل لأمره سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم بالاستغفار أي من شأنه التوبة على المستغفرين له، يتوب عليه ويرحمهم بقبول توبتهم، وتواب من صيغ المبالغة، ففيه دلالة على أنه سبحانه مبالغ في قبول توبة التائبين.
وقد حكى الرازي في تفسير اتفاق الصحابة رضي الله عنهم على أن هذه السورة دلت على نعي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وعن ابن عمر نزلت هذه السورة بمنى في حجة الوداع ثم نزل (اليوم(15/433)
أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي) فعاش النبي صلى الله عليه وسلم بعدها ثمانين يوماً ثم نزلت آية الكلالة فعاش بعدها خمسين يوماً، ثم نزل (واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله) فعاش بعدها أحداً وعشرين يوماً، وقيل سبعة أيام، وقيل غير ذلك.
وكان فتح مكة في رمضان سنة ثمان، وتوفي صلى الله عليه وسلم في ربيع الأول على رأس العاشرة بالنظر لجعل التاريخ من الهجرة وإن كانت لشهرين وشيء مضت من الحادية عشرة إذا اعتبر التاريخ من أول السنة الشرعية وهو المحرم، فلما هاجر صلى الله عليه وسلم لاثني عشر من ربيع الأول حسبوا الباقي من هذه السنة سنة مع أنها ناقصة شهرين واثني عشر يوماً، فلما كانت وفاته لاثني عشر من ربيع الأول كان الماضي من هذه السنة وهو شهران واثنا عشر يوماً مكملاً ومتمماً لما نقصته السنة الأولى فصح قولهم أنه توفي في العاشرة أي على رأسها وحين كمالها بالنظر لجعل التاريخ من الهجرة، ويصح أن يقال توفي في الحادية عشرة بالنظر لجعل التاريخ من أول السنة الشرعية تأمل والله تعالى أعلم.(15/434)
سورة تبت
وتسمى سورة أبي لهب كما في البحر هي خمس آيات وهي مكية بلا خلاف وبه قال ابن عباس وابن الزبير وعائشة.(15/435)
بسم الله الرحمن الرحيم
تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ (2) سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ (3) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4) فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ (5)(15/437)
تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1)
(تبت يدا أبي لهب) قال مقاتل وابن عباس: خسرت، وقيل خابت، وقال عطاء: ضلت، وقيل صفرت من كل خير، ومنه قولهم شابت أم تابت أي هالكة من الهرم وقيل المعنى هلكت والأول أولى، وخص اليدين بالتباب لأن أكثر العمل يكون بهما، وقيل المراد باليدين نفسه وقد يعبر باليد عن النفس كما في قوله (بما قدمت يداك) أي نفسك، والعرب تعبر كثيراً ببعض الشيء عن كله كقولهم أصابته يد الدهر وأصابته يد المنايا.
قرأ العامة لهب بفتح الهاء وقرىء بسكونها فقيل لغتان بمعنى كالنهر والنهر، والشعر والشعر.
وقال الزمخشري هو من تغيير الأعلام، ولم يختلف القراء في قوله (ذات لهب) إنها بالفتح، والفرق أنها فاصلة فلو سكنت زال التشاكل.
وأبو لهب اسمه عبد العزى بن عبد المطلب بن هاشم، وذكره سبحانه بكنيته لاشتهاره بها ولكن اسمه كما تقدم عبد العزى، والعزى اسم صنم، ولكون في هذه الكنية ما يدل على أنه ملابس للنار لأن اللهب هو لهب النار، وإن كان إطلاق ذلك عليه في الأصل لكونه كان جميلاً وإن وجهه يتلهب لمزيد حسنه كما تتلهب النار.
قال القرطبي أو لأن الله أراد أن يحقق نسبته بأن يدخله النار فيكون أبا لهب تحقيقاً للنسب وإمضاء للفأل والطيرة التي اختارها لنفسه، وقيل اسمه(15/437)
كنيته، وروى صاحب الكشاف أنه قرىء تبت يدا أبو لهب وذكر وجه ذلك.
(وتب) أي هلك، قال الفراء: الأول دعاء عليه، والثاني خبر كما تقول أهلكه الله وقد هلك، والمعنى أنه قد وقع ما دعى به عليه، وتدل عليه قراءة ابن مسعود (وقد تب) وقيل كلاهما إخبار أراد بالأول هلاك عمله وبالثاني هلاك نفسه، وقيل كلاهما دعاء عليه ويكون في هذا شبه من مجيء العام بعد الخاص، وإن كان حقيقة اليدين غير مرادة.
وقد أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن عباس قال: " لما نزلت (وأنذر عشيرتك الأقربين) خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم، حتى صعد الصفا فهتف يا صباحاه فاجتمعوا إليه فقال أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلاً تخرج بسفح هذا الجبل أكنتم مصدقي قالوا ما جربنا عليك كذباً قال فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد، فقال أبو لهب تباً لك إنما جمعتنا لهذا، ثم قام فنزلت هذه السورة (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ) (1).
_________
(1) رواه البخاري 8/ 567 ورواه مسلم 1/ 194 بمعناه. وقوله: يا صباحاه: كلمة يعتادونها عند وقوع أمر عظيم، فيقولونها ليجتمعوا ويتأهبوا له. ورواه ابن جرير الطبري 30/ 336 وأورده السيوطي في " الدر " 6/ 408 وزاد نسبته لسعيد بن منصور، وابن المنذر.(15/438)
مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ (2)
(مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ) أي ما دفع عنه ما حل به من التباب وما نزل به من عذاب الله ما جمع من المال ولا ما كسب من الأرباح والجاه، أو المراد بقوله (ماله) ما ورثه من أبيه (وما كسب) الذي كسبه بنفسه.
قال مجاهد: وما كسب من ولد وولد الرجل من كسبه، ويجوز أن تكون (ما) في قوله ما أغنى استفهامية أي أيّ شيء أغنى عنه وكذا في قوله (وما كسب) أي وأيّ شيء كسب أو مصدرية أي وكسبه.
والظاهر أن (ما) الأولى نافية والثانية موصولة.
عن عائشة " قالت إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه وإن ابنه من كسبه(15/438)
ثم قرأت (ما أغنى عنه ماله وما كسب) قالت وما كسب ولده " أخرجه ابن أبي حاتم، وعن ابن عباس قال كسبه ولده أي عتيبة بالتصغير وأما عتبة فقد أسلم، وفسر الكسب بالولد ليغاير ما قبله فيسلم من التكرار.
ومات أبو لهب بالعدسة بعد وقعة بدر لسبع ليال، قال الشهاب العدسة قرحة تعتري الإنسان كانت العرب تهرب منها لأنها بزعمهم تعدي أشد العدوى.
ثم أوعده الله سبحانه بالنار فقال(15/439)
سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ (3)
(سيصلى ناراً) قرأ الجمهور بفتح اللام وإسكان الصاد وتخفيف اللام أي سيصلى هو بنفسه النار ويحترق بها، وصلى من باب تعب، وقرىء بضم الياء وفتح الصاد وتشديد اللام والمعنى سيصليه الله.
ومعنى (ذات لهب) ذات اشتعال وتوقد وهي نار جهنم(15/439)
وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4)
(وامرأته حمالة الحطب) معطوف على الضمير في يصلى وجاز ذلك للفصل، أي وتصلى امرأته ناراً ذات لهب، وهي أم جميل بنت حرب أخت أبي سفيان، وكانت عوراء تحمل الغضى والشوك والسعدان فتطرحها بالليل على طريق النبي صلى الله عليه وسلم، كذا قال ابن زيد والضحاك والربيع بن أنس ومرة الهمداني.
وقال مجاهد وقتادة والسدي: أنها كانت تمشي بالنميمة بين الناس، والعرب تقول فلان يحطب على فلان إذا نم به، وقال سعيد بن جبير معنى حمالة الحطب أنها حمالة الخطايا والذنوب من قولهم فلان يحتطب على ظهره كما في قوله (وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم) وقيل المعنى حمالة الحطب في النار.
قرأ الجمهور حمالة بالرفع على الخبرية على أنها جملة مسوقة للإخبار بأن امرأة أبي لهب حمالة الحطب، وأما على ما قدمنا من عطف (وامرأته) على الضمير في (يصلى) فيكون رفع حمالة على النعت لامرأته والإضافة(15/439)
حقيقية لأنها بمعنى المضي أو على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هي حمالة.
وقرأ عاصم بالنصب على الذم أو على أنه حال من امرأته، وقرىء حاملة الحطب، وعن ابن عباس في الآية قال كانت تحمل الشوك فتطرحه على طريق النبي صلى الله عليه وآله وسلم، لتعقره وأصحابه، وقال حمالة الحطب: نقالة الحديث.(15/440)
فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ (5)
(في جيدها حبل من مسد) الجيد العنق والمسد الليف الذي تفتل منه الحبال، قال أبو عبيدة المسد هو الحبل من صوف، وقال الحسن هي حبال تكون من شجر ينبت باليمن يسمى بالمسد، وقد تكون الحبال من جلود الإبل أو من أوبارها والمسد أيضاًً ليف المقل أو مطلق الليف، والمقل شجر الدوم كما في المصباح والمختار.
وفي القاموس (المسد) بسكون السين مصدر بمعنى الفتل، وبفتحها المحور من الحديد أو حبل من ليف أو كل حبل محكم الفتل، والجمع مساد وأمساد.
قال الضحاك وغيره هذا في الدنيا كانت تعير النبي صلى الله عليه وآله وسلم، بالفقر وهي تحتطب في حبل تجعله في عنقها فخنقها الله به فأهلكها، وهو في الآخرة حبل من نار.
وقال مجاهد وعروة بن الزبير هو سلسلة من نار يدخل في فيها ويخرج من أسفلها، وقال قتادة هو قلادة من ودع كانت لها قال الحسن إنما كان خرزاً في عنقها، وقال سعيد بن المسيب كانت لها قلادة فاخرة من جوهر فقالت واللات والعزى لأنفقتها في عداوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم فيكون ذلك عذاباً في جسدها يوم القيامة.
والمسد الفتل يقال مسد حبله يمسده مسداً أجاد فتله، قال ابن عباس هي حبال تكون بمكة، ويقال المسد العصا التي تكون في البكرة.
وأخرج ابن أبي حاتم وأبو زرعة عن أسماء بنت أبي بكر قالت " لما نزلت(15/440)
(تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ) أقبلت العوراء أم جميل بنت حرب ولها ولولة وفي يدها فهر وهي تقول:
مذمماً أبينا .. ودينه قلينا .. وأمره عصينا
ورسول الله صلى الله عليه وآله جالس في المسجد ومعه أبو بكر، فلما رآها أبو بكر قال يا رسول الله قد أقبلت وأنا أخاف أن تراك، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إنها لن تراني ".
قال تعالى (وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا) فأقبلت حتى وقفت على أبي بكر ولم تر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقالت يا أبا بكر إني أخبرت أن صاحبك هجاني، قال لا ورب الكعبة ما هجاك فولت وهي تقول: قد علمت قريش أني ابنة سيدها وأخرجه البزار بمعناه وقال لا نعلمه يروى بأحسن من هذا الإسناد.(15/441)
سورة الإخلاص
ولها أسماء كثيرة ذكرها الخطيب، وزيادة أسماء تدل على شرف المسمى، وهذه السورة مصرحة بالتوحيد رادة على عباد الأصنام والأوثان والقائلين بالثنوية والتثليث، هي أربع أو خمس آيات وهي مكية في قول ابن مسعود والحسن وعطاء وعكرمة وجابر، ومدنية في أحد قولي ابن عباس وقتادة والضحاك والسدي.
عن أبيّ بن كعب " أن المشركين قالوا للنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - يا محمد انسب لنا ربك فأنزل الله (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) إلخ أليس شيء يولد إلا سيموت وليس شيء يموت إلا سيورث وإن الله لا يموت ولا يورث ولم يكن له شبيه ولا عدل وليس كمثله شيء " رواه أحمد والبخاري في تاريخه وابن خزيمة والحاكم وصححه وغيرهم، ورواه الترمذي من طريق أخرى عن أبي العالية مرسلاً ولم يذكر أبياً ثم قال وهذا أصح.
وعن جابر قال: جاء أعرابي إلى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - فقال انسب لنا ربك فأنزل الله (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) إلى آخر السورة أخرجه الطبراني والبيهقي وأبو نعيم وغيرهم وحسن السيوطي إسناده (1).
وعن ابن مسعود قال: قالت قريش لرسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - انسب لنا ربك فنزلت هذه السورة " أخرجه أبو الشيخ في العظمة والطبراني.
_________
(1) رواه أحمد في " المسند " 5/ 133، والترمذي 2/ 172، والطبري 30/ 342، والواحدي في " أسباب النزول " 346 من حديث أبي سعد الصغاني عن أبي جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية عن أبيّ بن كعب وفي سنده ضعف، ورواه الحاكم في " المستدرك " 3/ 540 أيضاً من حديث أبي سعد الصغاني به، وصححه، ووافقه الذهبي، وأورده السيوطي في " الدر " 6/ 409 وزاد نسبته للبخاري في " تاريخه "، وابن خزيمة، وابن أبي حاتم في " السنة " والبغوي في " معجمه "، وابن المنذر في " العظمة "، والبيهقي في " الأسماء والصفات " عن أبيّ بن كعب - رضي الله عنه -. ورواه الترمذي 2/ 172 عن عبد بن حميد عن عبيد الله بن موسى عن أبي جعفر عن الربيع عن أبي العالية فذكره مرسلاً، ولم يذكر فيه عن أبيّ بن كعب، وقال: وهذا أصح من حديث أبي سعد الصغاني.
ورواه الطبري عن محمد بن عوف عن شريح بن إسماعيل بن مجالد عن مجالد عن الشعبي عن جابر، وذكره ابن كثير من رواية أبي يعلى الموصلي من طريق مجالد بن سعيد عن الشعبي عن جابر، وأورده الحافظ الهيثمي في " مجمع الزوائد " 7/ 146 من رواية الطبراني في " الأوسط ".(15/443)
وعن ابن عباس " أن اليهود جاءت إلى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - منهم كعب بن الأشرف وحيي بن أخطب فقالوا يا محمد صف لنا ربك الذي بعثك فأنزل الله (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ) فيخرج من الولد (وَلَمْ يُولَدْ) فيخرج من شيء " رواه البيهقي وغيره.
وعن أبيّ بن كعب قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - " من قرأ (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) فكأنما قرأ ثلث القرآن " أخرجه أحمد والنسائي وغيرهما).(15/444)
وعن أنس قال " جاء رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال إني أحب هذه السورة (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " حبك إياها أدخلك الجنة " رواه أحمد والترمذي وابن الضريس والبيهقي في سننه.
وقد وردت أحاديث كثيرة في أن من قرأ هذه السورة كذا غفر له ذنوب كذا وكذا، وهي في السنن وغيرها ولكنها ضعيفة غريبة، وفيها من هو متهم بالوضع، وقد روي من غير وجه أنها تعدل ثلث القرآن (1) وفيها ما هو صحيح وفيها ما هو حسن.
فمن ذلك ما أخرجه أحمد والبخاري وغيرهما عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - " والذي نفسي بيده إنها لتعدل ثلث القرآن يعني (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) " (2)، قيل ولاشتمال هذه السورة مع قصرها على جميع المعارف الإلهية، والرد على من ألحد فيها جاء في الحديث أنها تعدل ثلث القرآن، فإن مقاصده محصورة في بيان العقائد والأحكام والقصص، وما في الكشاف من أنها تعدل القرآن كله قال الدواني لم أره في شيء من كتب التفسير والحديث انتهى.
ولو لم يرد في فضل هذه السورة إلا حديث عائشة عند البخاري ومسلم وغيرهما، أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بعث رجلاً في سرية فكان يقرأ لأصحابه في صلاتهم فيختم بقل هو الله أحد، فلما رجعوا ذكروا ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال " سلوه لأي شيء يصنع ذلك " فسألوه فقال لأنها صفة الرحمن وأنا أحب أن أقرأ بها فقال " أخبروه أن الله تعالى يحبه ".
هذا لفظ البخاري في كتاب التوحيد، وأخرج البخاري أيضاً في كتاب الصلاة من حديث أنس قال كان رجلاً من الأنصار في مسجد قباء فكان كلما افتتح سورة فقرأ بها لهم في الصلاة مما يقرأ به افتتح بقل هو الله أحد حتى يفرغ منها ثم يقرأ سورة أخرى معها وكان يصنع ذلك في كل ركعة، فكلمه أصحابه فقالوا إنك تفتتح بهذه السورة ثم لا ترى أنها تجزيك حتى تقرأ بالأخرى، فإما أن تقرأ بها وإما أن تدعها وتقرأ
_________
(1) رواه مسلم في " صحيحه " 1/ 557 ولفظه بتمامه: عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: احشدوا (اجتمعوا) فإني سأقرأ عليكم ثلث القرآن، فحشد من حشد، ثم خرج نبي الله - صلى الله عليه وسلم - فقرأ (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) ثم دخل، فقال بعضنا لبعض: إني أرى هذا خبرٌ جاء من السماء، فذاك الذي أدخله، ثم خرج نبي الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: " إني قلت لكم: سأقرأ عليكم ثلث القرآن، ألا إنها تعدل ثلث القرآن ".
(2) رواه البخاري في " صحيحه " 6/ 105 باب فضل (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) ولفظه بتمامه: عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أنه سمع رجلاً يقرأ (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) يردِّدها، فلما أصبح جاء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكر ذلك له، وكأن الرجل يتقالُها، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " والذي نفسي بيده، إنها لتعدل ثلث القرآن ".(15/445)
بأخرى قال ما أنا بتاركها إن أحببتم أن أؤمكم بذلك فعلت وإن كرهتم تركتكم، وكانوا يرون أنه من أفضلهم، فكرهوا أن يؤمهم غيره، فلما أتاهم النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أخبروه الخبر فقال " يا فلان ما يمنعك أن تفعل ما يأمرك به أصحابك وما حملك على لزوم هذه السورة في كل ركعة "، فقال إني أحبها قال " حبك إياها أدخلك الجنة " وقد روي بهذا اللفظ من غير وجه عند غير البخاري.
وهذه السورة قد تجردت للتوحيد والصفات، وفيه دليل على شرف علم التوحيد وكيف لا والعلم يشرف بشرف المعلوم، ويتضع بضعته، ومعلوم هذا العلم هو الله سبحانه وصفاته وما يجوز عليه وما لا يجوز عليه، فما ظنك بشرف منزلته وجلالة محله.
وفي التوحيد وصفاته سبحانه كتب ورسائل مستقلة مفرزة تصدّي لجمعها وتأليفها عصابة من أهل العلم بالكتاب العزيز والسنة المطهرة منهم شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية الحراني وتلميذه الحافظ محمد بن أبي بكر بن القيم وغيرهما من سلف الأئمة وخلفها كالمقريزي والشوكاني ومحمد بن إسماعيل الأمير اليماني ومحمد بن إسماعيل واحشرنا في زمرة العالمين بك العاملين لك، الراجين لثوابك الخائفين من عقابك المكرمين بلقائك، وتقبل منا إنك أنت السميع العليم.(15/446)
بسم الله الرحمن الرحيم
قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4)(15/447)
قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)
(قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) الضمير يجوز أن يكون عائداً إلى ما يفهم من السياق لما قدمنا من بيان سبب النزول وإن المشركين قالوا يا محمد انسب لنا ربك فيكون مبتدأ، والله مبتدأ ثان واحداً خبر المبتدأ الثاني، والجملة خبر المبتدأ الأول، ويجوز أن يكون الله بدلاً من هو والخبر أحد، ويجوز أن يكون الله خبراً أول وأحد خبراً ثانياً، ويجوز أن يكون أحد خبراً لمبتدأ محذوف أي هو أحد، ويجوز أن يكون هو ضمير شأن لأنه موضع تعظيم، والجملة بعده مفسرة له وخبر عنه والأول أولى.
قال الزجاج هو كناية عن ذكر الله والمعنى أن ما سألتم تبيين نسبته هو الله أحد، قيل وهمزة أحد بدل من الواو وأصله واحد، ومن جملة القائلين بالقلب الخليل، وقال أبو البقاء همزة أحد أصل بنفسها غير مقلوبة، وذكر أن أحد يفيد العموم دون واحد.
ومما يفيد الفرق بينهما ما قاله الأزهري أنه لا يوصف بالأحدية غير الله تعالى، لا يقال رجل أحد ولا درهم أحد كما يقال رجل واحد ودرهم واحد، قيل والواحد يدخل في الأحد والأحد لا يدخل فيه، فإذا قلت لا يقاومه واحد جاز أن يقال لكنه يقاومه إثنان بخلاف قولك لا يقاومه أحد.
وفرق ثعلب بين واحد وبين أحد بأن الواحد يدخل في العدد، وأحد لا يدخل فيه ورد عليه أبو حيان بأنه يقال أحد وعشرون ونحوه فقد دخله العدد، وهذا كما ترى انتهى.(15/447)
وذكر أحد في الإثبات مع أن المشهور أنه يستعمل بعد النفي كما أن الواحد لا يستعمل إلا بعد الإثبات يقال في الدار واحد وما في الدار أحد.
فالجواب عنه ما قال ابن عباس أنه لا فرق بينهما في المعنى، واختاره أبو عبيدة ويؤيده قوله تعالى (فابعثوا أحدكم بورقكم) وعليه فلا يختص أحدهما بمحل دون آخر، وإن اشتهر استعمال أحدهما في النفي والآخر في الإثبات.
ويجوز أن يكون العدول عن المشهور هنا رعاية الفاصلة بعد فدل بقوله (الله) على جميع صفات الكمال وهي الثبوتية كالعلم والقدرة والإرادة وبالأحد على صفات الجلال وهي الصفات السلبية كالقدم والبقاء كذا قال الكرخي.
قرأ الجمهور قل هو الله بإثبات قل، وقرأ ابن مسعود وأبيّ (الله أحد) بدون قل، وقرىء (قل هو الله الواحد) وقرأ الجمهور بتنوين أحد وهو الأصل وقرىء بحذفه للخفة، وقيل إن ترك التنوين لملاقاته لام التعريف فيكون الترك لأجل الفرار من التقاء الساكنين، ويجاب عنه بأن الفرار من التقاء الساكنين قد حصل مع التنوين بتحريك الأول منهما بالكسر.(15/448)
اللَّهُ الصَّمَدُ (2)
(الله الصمد) الإسم الشريف مبتدأ والصمد خبره، والصمد هو الذي يصمد إليه في الحاجات أي يقصد لكونه قادراً على قضائها فهو فعل بمعنى مفعول كالقبض بمعنى المقبوض، لأنه مصمود إليه أي مقصود إليه.
قال الزجاج: الصمد السيد الذي انتهى إليه السؤدد فلا سيد فوقه، وقيل معنى الصمد الدائم الباقي الذي لم يزل ولا يزول، وقيل معنى الصمد ما ذكر بعده من أنه الذي لم يلد ولم يولد، وقيل هو المستغني عن كل أحد، والمحتاج إليه كل أحد، وقيل هو المقصود في الرغائب والمستعان به في المصائب، وهذان القولان يرجعان إلى معنى القول الأول، وقيل هو الذي يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، وقيل هو الكامل الذي لا عيب فيه.
وقال الحسن وعكرمة والضحاك وسعيد بن جبير وسعيد بن المسيب(15/448)
ومجاهد وعبد الله بن بريدة وعطاء وعطية العوفي والسدي: (الصمد) هو المصمت الذي لا جوف له، وهذا لا ينافي القول الأول لجواز أن يكون هذا أصل معنى الصمد ثم استعمل في السيد المصمود إليه في الحوائج، ولهذا أطبق على القول الأول أهل اللغة وجمهور أهل التفسير.
وتكرير الإسم الجليل للإشعار بأن من لم يتصف بذلك فهو بمعزل عن استحقاق الألوهية، وحذف العاطف من هذه الجملة لأنها كالنتيجة للجملة الأولى.
وقيل أن الصمد صفة للإسم الشريف، والخبر هو ما بعده والأول أولى لأن السياق يقتضي استقلال كل جملة.
وعن بريد قال: (الصمد) الذي لا جوف له وروي عنه مرفوعاً ولا يصح رفعه وعن ابن مسعود مثله وفي لفظ ليس له أحشاء، وعن ابن عباس مثله، وعنه قال الصمد الذي لا يطعم وهو المصمت، وقد روي عنه أنه الذي يصمد إليه في الحوائج، وفي لفظ الصمد السيد الذي قد كمل في سؤدده الشريف الذي قد كمل في شرفه، والعظيم الذي قد كمل في عظمته، والحليم الذي قد كمل في حلمه، والغني الذي قد كمل في غناه، والجبار الذي قد كمل في جبروته، والعالم الذي قد كمل في علمه، والحكيم الذي قد كمل في حكمته، وهو الذي قد كمل في أنواع الشرف والسؤدد، وهو الله سبحانه، هذه صفة لا تنبغي إلا له، ليس له كفء وليس كمثله شيء.
وعن ابن مسعود قال الصمد وهو السيد الذي قد انتهى سؤدده فلا شيء أسود منه، وعن ابن عباس قال الصمد الذي تصمد إليه الأشياء إذا نزل بهم كربة أو بلاء.(15/449)
لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3)
(لم يلد ولم يولد) أي لم يصدر عنه ولد كما ولدت مريم. ولم يصدر هو عن شيء كما ولد عيسى وعزير لأنه لا يجانسه شيء، ولاستحالة نسبة العدم إليه سابقاً ولاحقاً وقد دل على هذا قوله تعالى (أنى يكون له ولد ولم(15/449)
تكن له صاحبة) قال قتادة إن مشركي العرب قالوا الملائكة بنات الله، وقالت اليهود عزير ابن الله، وقالت النصارى المسيح ابن الله، فأكذبهم الله فقال لم يلد ولم يولد.
قال الرازي قدم ذكر نفي الولد مع أن الوالد مقدم للإهتمام لأجل ما كان يقوله الكفار من المشركين الملائكة بنات الله واليهود عزير ابن الله والنصارى المسيح ابن الله، ولم يدع أحد أن له والداً فلهذا السبب بدأ بالأهم فقال لم يلد.
ثم أشار إلى الحجة فقال ولم يولد كأنه قيل الدليل على امتناع الولد اتفاقنا على أنه ما كان ولداً لغيره، وإنما عبر سبحانه بما يفيد انتفاء كونه لم يلد ولم يولد في الماضي ولم يذكر ما يفيد انتفاء كونه كذلك في المستقبل لأنه ورد جواباً عن قولهم (ولد الله) كما حكى الله عنهم بقوله ألا إنهم من إفكهم ليقولون ولد الله.
فلما كان المقصود من هذه الآية تكذيب قولهم وهم إنما قالوا ذلك بلفظ يفيد المنفي فيما مضى وردت الآية لدفع قولهم هذا.(15/450)
وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4)
(ولم يكن له كفواً أحد) هذه الجملة مقررة لمضمون ما قبلها لأنه سبحانه إذا كان متصفاً بالصفات المتقدمة كان متصفاً بكونه لم يكافئه أحد ولم يماثله ولا يشاركه في شيء، وآخر اسم كان لرعاية الفواصل.
وقوله (له) متعلق بقوله كفواً قدم عليه لرعاية الاهتمام لأن المقصود نفي المكافأة عن ذاته. وقيل أنه في محل نصب على الحال والأول أولى.
وقد رد المبرد على سيبويه بهذه الآية لأن سيبويه قال: إنه إذا تقدم الظرف كان هو الخبر وههنا لم يجعل خبراً مع تقدمه، وقد رد على المبرد بوجهين.
(أحدهما) أن سيبويه لم يجعل ذلك حتماً بل جوزه.(15/450)
(والثاني) أنا لا نسلم كون الظرف هنا ليس بخبر بل يجوز أن يكون خبراً ويكون كفواً منتصباً على الحال.
وحكي في الكشاف عن سيبويه أن الكلام العربي الفصيح أن يؤخر الظرف الذي هو لغو غير مستقر، واقتصر في هذه الحكاية على نقل أول كلام سيبويه ولم ينظر إلى آخره فإنه قال في آخر كلامه: والتقديم والتأخير والإلغاء والاستقرار عربي جيد كثير انتهى.
قال الشهاب ولعل الوصل بين هذه الجمل الثلاث وهي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد بالعاطف دون ما عداها من هذه السورة لأنها سيقت لمعنى وغرض واحد وهو نفي المماثلة والمناسبة عنه تعالى بوجه من الوجوه وهذه أقسامها لأن المماثل إما ولد أو والد أو نظير، فلتغاير الأقسام واجتماعها في المقسم لزم العطف فيها بالواو وكما هو مقتضى قواعد المعاني. وترك العطف في الله الصمد لأنه محقق ومقرر لما قبله. وكذا ترك العطف في لم يلد لأنه مؤكد للصمدية لأن الغني عن كل شيء المحتاج إليه كل ما سواه لا يكون والداً ولا مولوداً انتهى.
قرأ الجمهور كفواً بضم الكاف والفاء وتسهيل الهمزة، وقرأ الأعرج وسيبويه ونافع في رواية عنه بإسكان الفاء مع إبدال الهمزة واواً في الوقف وأبدلت الواو وصلاً ووقفاً أيضاً وقرىء كفاً بكسر الكاف وفتح الفاء من غير مد وكذلك مع المد، والكفء في لغة العرب النظير، تقول هذا كفؤك أي نظيرك والاسم الكفاءة بالفتح قال ابن عباس ليس له كفء ولا مثل، ومن زعم أن نفي الكفء وهو المثل في الماضي لا يدل على نفيه للحال والكفار يدعونه في الحال فقد تاه في غيه، لأنه إذا لم يكن فيما مضى لم يكن في الحال ضرورة إذ الحادث لا يكون كفاً للقديم، وحاصل كلام الكفرة يؤول إلى الإشراك والتشبيه والتعطيل والسورة الكريمة تدفع الكل.
أخرج البخاري عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال(15/451)
" كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك وشتمني ولم يكن له ذلك: فأما تكذيبه إياي فقوله لن يعيدني كما بدأني وليس أول الخلق بأهون عليّ من إعادته، وأما شتمه إياي فقوله اتخذ الله ولداً وأنا الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد ".(15/452)
سورة الفلق
هي خمس آيات وهي مكيّة في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر، ومدنية في أحد قول ابن عباس وقتادة قيل وهو الصحيح، وعن ابن مسعود أنه كان يحك المعوذتين من المصحف يقول لا تخلطوا القرآن بما ليس منه أنهما ليستا من كتاب الله إنما أمر النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أن يتعوذ بهما وكان ابن مسعود لا يقرأ بهما أخرجه أحمد والطبراني وابن مردويه من طرق قال السيوطي صحيحة، قال البزار لم يتابع ابن مسعود أحد من الصحابة، وقد صح عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أنه قرأ بهما في الصلاة وأثبتتا في المصحف.
وأخرج أحمد والبخاري والنسائي وغيرهم عن زر بن حبيش قال أتيت المدينة فلقيت أبيّ بن كعب فقلت له أبا المنذر، " إني رأيت ابن مسعود لا يكتب المعوذتين في مصحفه، فقال أما والذي بعث محمداً - صلى الله عليه وآله وسلم - بالحق لقد سألت رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - عنهما وما سألني عنهما أحد منذ سألته غيرك، قال قيل لي قل فقلت فقولوا فنحن نقول كما قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ".
قال القرطبي زعم ابن مسعود أن هاتين السورتين دعاء يتعوذ به وليستا من القرآن وقد خالف الإجماع من الصحابة وأهل البيت.(15/453)
وقال ابن قتيبة لم يكتب ابن مسعود المعوذتين في مصحفه لأنه كان يسمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعوذ الحسن والحسين بهما فقدر أنهما بمنزلة " أعيذكما بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة ومن كل عين لامة ".
قال أبو بكر بن الأنباري وهذا مردود على ابن قتيبة لأن المعوذتين من كلام رب العالمين المعجز لجميع المخلوقين، وأعيذكما الخ من كلام البشر، وكلام الخالق الذي هو آية لمحمد - صلى الله عليه وآله - وحجة له باقية على جماعة الكافرين لا يلتبس بكلام الآدميين فضلاً عن مثل عبد الله بن مسعود الفصيح اللسان العالم باللغة العارف بأجناس الكلام وأفانين القول.
وقال بعض الناس لم يكتب عبد الله المعوذتنين لأنه أمن عليهما من النسيان فأسقطهما وهو يحفظهما كما أسقط فاتحة الكتاب من مصحفه.
وأخرج مسلم والترمذي والنسائي وغيرهم عن عقبة بن عامر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " أنزلت عليّ الليلة آيات لم أر مثلهن قط، (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ) و (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ) ".
وأخرج الترمذي وحسنه وابن مردويه والبيهقي عن أبي سعيد الخدري قال: " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتعوذ من عين الجان ومن عين الإنس، فلما نزلت سورة المعوذتين أخذ بهما وترك ما سوى ذلك ".
وعن ابن مسعود " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يكره عشر خصال ومنها أنه كان يكره الرقي إلا بالمعوذتين " أخرجه أبو داود والنسائي والحاكم وصححه.
وعن أم سلمة قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " من أحب السور إلى الله (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ) و (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ) " أخرجه ابن مردويه.
وعن عائشة قالت " إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا اشتكى يقرأ على نفسه بالمعوذتين وينفث فلما اشتد وجعه كنت اقرأ(15/454)
عليه وأمسح بيده عليه رجاء بركتها " أخرجه مالك في الموطأ وهو في الصحيحين من طريق مالك.
وعن زيد بن أرقم قال: " سحر النبي - صلى الله عليه وسلم - رجل من اليهود فاشتكى فأتاه جبريل فنزل عليه بالمعوذتين وقال إن رجلاً من اليهود سحرك والسحر في بئر فلان، فأرسل علياً فجاء به فأمره أن يحل العقد ويقرأ بآية ويحل حتى قام النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - كأنما نشط من عقال " أخرجه عبد بن حميد في مسنده وأخرجه ابن مردويه من حديث عائشة مطولاً وكذلك من حديث ابن عباس.
قيل وكانت مدة سحره - صلى الله عليه وسلم - أربعين يوماً وقيل ستة أشهر وقيل عاماً قال الحافظ ابن حجر وهو المعتمد.
قال الراغب تأثير السحر في النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن من حيث أنه نبي، وإنما كان في بدنه حيث أنه إنسان أو بشر كما كان يأكل ويتغوط ويغضب ويشتهي ويمرض فتأثيره فيه من حيث هو بشر لا من حيث هو نبي.
وإنما يكون ذلك قادحاً في النبوة لو وجد للسحر تأثير في أمر يرجع للنبوة كما أن جرحه وكسر ثنيته يوم أحد لم يقدح فيما ضمن الله له من عصمته في قوله (والله يعصمك من الناس) وكما لا اعتداد بما يقع في الإسلام من غلبة بعض المشركين على بعض النواحي فيما ذكر من كمال الإسلام في قوله تعالى (اليوم أكملت لكم دينكم).
قال القاضي ولا يجب ذلك صدق الكفرة في أنه مسحور لأنهم أرادوا به أنه مجنون بواسطة السحراء.
ومذهب أهل السنة أن السحر حق وله حقيقة ويكون بالقول والفعل، ويؤلم ويمرض ويقتل ويفرق بين الزوجين، وتمام الكلام على هذا في حاشية سليمان الجمل فارجع إليه.
وقد ورد في فضل المعوذتين وفي قراءة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لهما في الصلاة وغيرها أحاديث، وفيما ذكرناه كفاية.(15/455)
بسم الله الرحمن الرحيم
قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ (2) وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ (3) وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ (4) وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ (5)(15/457)
قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1)
(قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ) الفلق الصبح يقال هو أبين من فلق الصبح، وسمي فلقاً لأنه يفلق عنه الليل وهو فعل بمعنى مفعول، قال الزجاج لأن الليل ينفلق عنه الصبح ويكون بمعنى مفعول وهذا قول جمهور المفسرين، وقيل هو سجن في جهنم، وقيل هو اسم من أسماء جهنم وقيل شجرة في النار، وقيل هو الجبال والصخور لأنها تفلق بالمياه أي تشقق، وقيل هو التفليق بين الجبال لأنها تنشق من خوف الله.
قال النحاس يقال لكل ما اطمأن من الأرض فلق، وقيل هو كل ما انفلق عن جميع ما خلق الله من الحيوان والصبح والحب والنوى وكل شيء من نبات وغيره، قاله الحسن والضحاك.
قال القرطبي: هذا القول يشهد له الإنشقاق فإن الفلق الشق يقال فلقت الشيء فلقاً شققته والتفليق مثله يقال فلقته فانفلق وتفلق فكل ما انفلق عن شيء من حيوان وصبح وحب ونوى وماء فهو فلق، قال الله سبحانه (فَالِقُ الْإِصْبَاحِ) وقال (فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى) انتهى.
والقول الأول أولى لأن المعنى وإن كان أعم منه وأوسع مما تضمنه لكنه المتبادر عند الإطلاق، وقد قيل في وجه تخصيص الفلق الإيماء إلى أن القادر على إزالة هذه الظلمات الشديدة عن كل هذا العالم يقدر أيضاًً أن يدفع عن العائذ كل ما يخافه ويخشاه وقيل طلوع الصبح كالمثال لمجيء الفرج فكما أن الإنسان في الليل يكون منتظراً لطلوع الصباح كذلك الخائف يكون مترقباً لطلوع صباح النجاح.(15/457)
وقيل غير هذا مما هو مجرد بيان مناسبة ليس فيها كثير فائدة تتعلق بالتفسير.
عن عمرو بن عبسة قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ (قل أعوذ برب الفلق) وقال يا ابن عبسة أتدري ما الفلق؟ قلت الله ورسوله أعلم قال بئر في جهنم " أخرجه ابن مردويه، وأخرجه ابن أبي حاتم موقوفاً عليه غير مرفوع.
وعن عقبة بن عامر قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " اقرأ (قل أعوذ برب الفلق) هل تدري ما الفلق، باب في النار إذا فتح سعرت جهنم " أخرجه ابن مردويه.
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: " سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قول الله عز وجل (قل أعوذ برب الفلق) فقال هو سجن في جهنم يحبس فيه الجبارون والمستكبرون وأن جهنم لتتعوذ بالله منه " أخرجه ابن مردويه والديلمي.
وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال " الفلق جب في جهنم " أخرجه ابن جرير.
وهذه الأحاديث لو كانت صحيحة ثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لكان المصير إليها واجباً، والقول بها متعيناً.
وعن ابن عباس قال الفلق سجن في جهنم، وعن جابر بن عبد الله قال الفلق الصبح، وعن ابن عباس أيضاًً الفلق الخلق.(15/458)
مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ (2)
(من شر ما خلق) متعلق بأعوذ أي أعوذ بالله من شر كل ما خلقه من جميع مخلوقاته فيعم جميع الشرور، فهذا عام وما بعده من الشرور الثلاثة خاص فهو من ذكر الخاص بعد العام، وقيل هو إبليس وذريته، وقيل جهنم، ولا وجه لهذا التخصيص كما أنه لا وجه لتخصيص من خصص هذا العموم بالمضار البدنية.(15/458)
وقد حرف بعض المتعصبين هذه الآية مدافعة عن مذهبه، وتقويماً لباطله، فقرأ بتنوين شر على أن ما نافية، والمعنى من شر لم يخلقه، ومنهم عمرو بن عبيد وعمرو بن فائد، وفي المدارك قرأ أبو حنيفة رحمه الله تعالى من شر بالتنوين (وما) على هذا مع الفعل بتأويل المصدر في موضع الجر بدل من شر أي شر خلقه أي من خلق شر أو ما زائدة انتهى وفيه أيضاًً بعد وضعف كما ترى.(15/459)
وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ (3)
(ومن شر غاسق إذا وقب) الغاسق الليل والغسق الظلمة، قال الفراء يقال غسق الليل وأغسق إذا أظلم، وقال الزجاج: قيل لليل غاسق لأنه أبرد من النهار والغاسق البارد، والغسق البرد، ولأن في الليل تخرج السباع من آجامها والهوام من أماكنها وينبعث أهل الشر على العبث والفساد كذا قال وهو قول بارد، فإن أهل اللغة على خلافه، وكذا جمهور المفسرين، ووقوبه دخول ظلامه يقال وقبت الشمس إذا غابت، وقيل الغاسق الثريا وذلك أنها إذا سقطت كثرت الأسقام والطواعين، وإذا طلعت إرتفع ذلك، وبه قال ابن زيد، وهذا محتاج إلى نقل عن العرب أنهم يصفون الثريا بالغسوق.
وقال الزهري: هو الشمس إذا غربت، وكأنه لاحظ معنى الوقوب ولم يلاحظ معنى الغسوق، وقيل هو القمر إذا خسف، وقيل إذا غاب، وبهذا قال قتادة وغيره.
واستدلوا بحديث أخرجه أحمد والترمذي والحاكم وصححه وغيرهم عن عائشة قالت " نظر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوماً إلى القمر لما طلع فقال يا عائشة استعيذي بالله من شر هذا فإن هذا هو الغاسق إذا وقب " قال الترمذي بعد إخراجه حسن صحيح.
وهذا لا ينافي قول الجمهور لأن القمر آية الليل ولا يوجد له سلطان إلا فيه، وهكذا يقال في جواب من قال أنه الثريا.(15/459)
قال ابن الأعرابي في تأويل هذا الحديث: وذلك أن أهل الريب يتحينون وجبة القمر، وقيل الغاسق الحية إذا لدغت وقيل الغاسق كل هاجم يضر كائناً ما كان من قولهم غسقت القرحة إذا جرى صديدها، وقيل الغاسق هو السائل.
وقد عرفناك أن الراجح في تفسير هذه الآية هو ما قاله أهل القول الأول ووجه تخصيصه أن الشر فيه أكثر والتحرز من الشرور فيه أصعب، ومنه قولهم الليل أخفى للويل.
وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال " النجم هو الغاسق وهو الثريا " أخرجه ابن جرير وأبو الشيخ وغيرهما، وروي من وجه آخر عنه غير مرفوع.
وقد قدمنا تأويل ما ورد أن الغاسق القمر.
وأخرج أبو الشيخ عنه أيضاًً قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " إذا ارتفعت النجوم رفعت كل عاهة عن كل بلد " وهذا لو صح لم يكن فيه دليل على أن الغاسق هو النجم أو النجوم " وعن ابن عباس في الآية قال: الليل إذا أقبل.(15/460)
وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ (4)
(ومن شر النفاثات في العقد) النفاثات هن السواحر أي وأعوذ برب الفلق من شر النفوس النفاثات أو النساء النفاثات والنفث النفخ كما يفعل ذلك من يرقي ويسحر، قيل مع ريق، وقيل بدون ريق، وهو دليل بطلان قول المعتزلة في إنكار تحقق السحر وظهور أثره.
والعقد جمع عقدة وذلك أنهن كن ينفثن في عقد الخيوط حين يسحرن بها. قال أبو عبيدة النفاثات هن بنات لبيد بن الأعصم اليهودي سحرن النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
قرأ الجمهور النفاثات جمع نفاثة على المبالغة، وقرىء النفاثات جمع نافثة والنفاثات بضم النون والنفثات بدون ألف. وقال ابن عباس الساحرات وعنه قال هو ما خالط السحر من الرقى.(15/460)
وأخرج النسائي وابن مردويه عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: " من عقد عقدة ثم نفث فيها فقد سحر، ومن سحر فقد أشرك ومن تعلق شيئاًً وكل إليه ".
وعنه قال جاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم يعوذني فقال: " ألا أرقيك برقية رقاني بها جبريل فقلت بلى بأبي أنت وأمي قال بسم الله أرقيك والله يشفيك من كل داء فيك (من شر النفاثات في العقد ومن شر حاسد إذا حسد)، فرقى بها ثلاث مرات " أخرجه ابن ماجه وابن سعد والحاكم وغيرهم.
واختلفوا في جواز النفخ في الرقي والتعاويذ الشرعية فجوزه الجمهور من الصحابة والتابعين ومن بعدهم يدل عليه حديث عائشة قالت: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مرض أحد من أهله نفث عليه بالمعوذات " الحديث.
وأنكر جماعة التفل والنفث في الرقى وأجازوا النفخ بلا ريق، قال عكرمة لا ينبغي للراقي أن ينفث ولا يمسح ولا يعقد.
قال النسفي جوز الاسترقاء بما كان من كتاب الله وكلام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا بما كان بالسريانية والعبرانية والهندية فإنه لا يحل اعتقاده ولا اعتماد عليه.(15/461)
وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ (5)
(ومن شر حاسد) الحسد تمني زوال النعمة التي أنعم الله بها على المحسود، ومعنى (إذا حسد) إذا أظهر ما في نفسه من الحسد وعمل بمقتضاه وحمله الحسد على إيقاع الشر بالمحسود، قال عمر بن عبد العزيز: لم أر ظالماً أشبه بالمظلوم من حاسد، وقد نظم الشاعر هذا المعنى فقال:
قل للحسود إذا تنفس طعنة ... يا ظالما وكأنه مظلوم
ذكر الله سبحانه في هذه السورة إرشاد رسوله صلى الله عليه وآله وسلم إلى الإستعاذة من شر كل مخلوقاته على العموم، ثم ذكر بعض الشرور على(15/461)
الخصوص مع اندارجه تحت العموم لزيادة شره ومزيد ضره وهو الغاسق والنفاثات والحاسد، فكان هؤلاء لما فيهم من مزيد الشر حقيقون بإفراد كل واحد منهم بالذكر، وختم بالحسد ليعلم أنه أشد وأشر، وهو أول ذنب عصى الله به في السماء من إبليس وفي الأرض من قابيل، وإنما عرف بعض المستعاذ منه ونكر بعضه لأن كل نفاثة شريرة فلذا عرفت النفاثات ونكر غاسق لأن كل غاسق لا يكون فيه الشر، إنما يكون في بعض دون بعض، وكذلك كل حاسد لا يضر، وربما حسد يكون محموداً كالحسد في الخيرات، ذكره النسفي في المدارك. وعن ابن عباس في قوله (ومن شر حاسد إذا حسد) قال نفس ابن آدم وعينه.(15/462)
سورة الناس
هي ست آيات والخلاف في كونها مكية أو مدنية كالخلاف الذي تقدم في سورة الفلق، قال ابن عباس أنزل بمكة (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ)، وعن بن الزبير قال أنزل بالمدينة.
وقد قدمنا في سورة الفلق ما ورد في سبب نزول هذه السورة وما ورد في فضلها فارجع إليه، وأتى الحافظ ابن القيم في البدائع بفوائد بديعة كثيرة تتعلق بالمعوذتين، وكتب عشرين ورقة في بيان ذلك لا يتسع هذا المقام لبسطها إن شئت فراجعه.(15/463)
بسم الله الرحمن الرحيم
قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلَهِ النَّاسِ (3) مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ (4) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (6)(15/465)
قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1)
(قُلْ أَعُوذُ) قرأ الجمهور بالهمزة وقرىء بحذفها ونقل حركتها إلى اللام (برب الناس) قرأ الجمهور بترك الإمالة في الناس وقرىء بالإمالة، والمعنى مالك أمرهم ومربيهم ومصلح أحوالهم وإنما قال رب الناس مع أنه رب جميع مخلوقاته للدلالة على شرفهم ولكون الاستعاذة وقعت من شر ما يوسوس في صدورهم.
وقوله(15/465)
مَلِكِ النَّاسِ (2)
(ملك الناس) عطف بيان جيء به لبيان أن رتبته سبحانه ليست كرتبة سائر الملاك لما تحت أيديهم من مماليكهم بل بطريق الملك الكامل والسلطان القاهر وقد أجمع جميع القراء في هذه السورة على إسقاط الألف بخلاف الفاتحة فاختلفوا فيها كما مضى.(15/465)
إِلَهِ النَّاسِ (3)
(إله الناس) هو أيضاًً عطف بيان لبيان أن ربوبيته وملكه قد انضم إليهما المعبودية المؤسسة على الألوهية المقتضية للقدرة التامة على التصرف الكلي بالإيجاد والإعدام.
وأيضاًً الرب قد يكون ملكاً وقد لا يكون ملكاً كما يقال رب الدار، ورب المتاع، ومنه قوله (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله) فبين أنه ملك الناس، ثم الملك قد يكون إلهاً وقد لا يكون فبين إنه إله لأن اسم الإله خاص به لا يشاركه فيه أحد.(15/465)
وأيضاًً بدأ باسم الرب وهو اسم لمن قام بتدبيره وإصلاحه من أوائل عمره إلى أن صار عاقلاً كاملاً، فحينئذ عرف بالدليل أنه عبد مملوك فذكر أنه ملك الناس.
ثم لما علم أن العبادة لازمة له واجبة عليه وأنه عبد مخلوق وإن خالقه إله معبود بين سبحانه أنه إله الناس، وكرر لفظ الناس في الثلاثة المواضع لأن عطف البيان يحتاج إلى مزية الإظهار والبيان، ولأن التكرير يقتضي مزيد شرف الناس، وقيل أراد بالأول الأطفال، ومعنى الربوبية يدل عليه، وبالثاني الشباب ولفظ الملك المنبيء عن السياسة يدل عليه، وبالثالث الشيوخ ولفظ الإله المنبيء عن العبادة يدل عليه، وبالرابع الصالحين إذ الشيطان مولع بإغوائهم، وبالخامس المفسدين لعطفه على المعوذ منه، ذكره النسفي، ولا وجه لهذا التخصيص وإنما هذا الكلام من لطائف البيان.(15/466)
مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ (4)
(من شر الوسواس) قال الفراء هو بفتح الواو بمعنى الاسم أي الموسوس وبكسرها المصدر أي الوسوسة كالزلزال بمعنى الزلزلة، وقيل هو بالفتح اسم لمعنى الوسوسة، والوسوسة هي حديث النفس يقال وسوست إليه نفسه وسوسة أي حدثته حديثاً، وأصلها الصوت الخفي، ومنه قيل لأصوات الحلى وسواس.
قال الزجاج الوسواس هو الشيطان أي ذي الوسواس ويقال إن الوسواس ابن لإبليس وسمى بالمصدر كأنه وسوسة في نفسه لأنها شغله الذي هو عاكف عليه، وقد سبق تحقيق معنى الوسوسة في تفسير قوله (فوسوس لهما الشيطان) ومعنى (الخناس) كثير الخنس وهو التأخر يقال خنس إذا تأخر، قال مجاهد إذا ذكر الله خنس وانقبض وإذا لم يذكر انبسط على القلب.
ووصف بالخناس لأنه كثير الإختفاء ومنه قوله تعالى (فلا أقسم بالخنس) يعني النجوم لاختفائها بعد ظهورها كما تقدم، وقيل الخناس اسم لابن إبليس كما تقدم في الوسواس.(15/466)
وعن ابن عباس في قوله الوسواس الخناس قال مثل الشيطان كمثل ابن عرس واضع فمه على فم القلب فيوسوس إليه، فإن ذكر الله خنس وإن سكت عاد إليه فهو الوسواس الخناس.
وعن أنس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال " إن الشيطان واضع خطمه على قلب ابن آدم فإن ذكر الله خنس وإن نسيه التقم قلبه فذلك الوسواس الخناس " أخرجه ابن أبي الدنيا في مكايد الشيطان وأبو يعلى وابن شاهين والبيهقي في الشعب.
وعن ابن عباس في الآية قال الشيطان جاث على قلب ابن آدم فإذا سها وغفل وسوس وإذا ذكر الله خنس وعنه قال ما من مولود يولد إلا على قلبه الوسواس فإذا ذكر الله خنس وإذا غفل وسوس، فذلك قوله الوسواس الخناس.
وقد ورد في معنى هذا غيره وظاهره أن مطلق ذكر الله يطرد الشيطان وإن لم يكن على طريق الإستعاذة، ولذكر الله سبحانه فوائد جليلة حاصلها الفوز بخيري الدنيا والآخرة.(15/467)
الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5)
(الذي يوسوس في صدور الناس) قال قتادة أن الشيطان له خرطوم كخرطوم الكلب في صدر الإنسان فإذا غفل ابن آدم عن ذكر الله وسوس له وإذا ذكر العبد ربه خنس.
قال مقاتل إن الشيطان في صورة خنزير يجري من ابن آدم مجرى الدم في عروقه سلطه الله على ذلك، ووسوسته هي الدعاء إلى طاعته بكلام خفي يصل إلى القلب من غير سماع صوت.
والجملة في محل الجر على الصفة أو الرفع على تقدير مبتدأ والنصب على الذم، وعلى هذين الوجهين يحسن الوقف على الخناس.
ثم بين سبحانه الذي يوسوس بأنه ضربان جني وإنسي فقال (من الجنة(15/467)
مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (6)
والناس) أما شيطان الجن فيوسوس في صدور الناس، وأما شيطان الإنس فوسوسته، في صدور الناس أنه يرى نفسه كالناصح المشفق فيوقع في الصدر من كلامه الذي أخرجه مخرج النصيحة ما يوقع الشيطان فيه بوسوسته كما قال سبحانه (شياطين الإنس والجن) ويجوز أن يكون متعلقاً بيوسوس أي يوسوس في صدورهم من جهة الجنة ومن جهة الناس ويجوز أن يكون بياناً للناس.
قال الرازي وقال قوم من الجنة والناس قسمان مندرجان تحت قوله (في صدور الناس) لأن القدر المشترك بين الجن والإنس سمي إنساناً، والإنسان أيضاًً سمى إنساناً فيكون لفظ الإنسان واقعاً على الجنس والنوع بالإشتراك.
والدليل على أن لفظ الإنسان يندرج فيه لفظ الإنس والجن ما روي أنه جاء نفر من الجن فقيل لهم من أنتم قالوا ناس من الجن وأيضاًً قد سماهم الله تعالى رجالاً في قوله (وإنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن) وقيل يجوز أن يكون المراد أعوذ برب الناس من الوسواس الخناس الذي يوسوس في صدور الناس من الجنة والناس، كأنه استعاذ ربه من ذلك الشيطان الواحد ثم استعاذ بربه من جميع الجنة والناس.
وقيل المراد بالناس " الناسي " وسقطت الياء كسقوطها في قوله يوم يدع الداع، ثم بين بالجنة والناس لأن كل فرد من أفراد الفريقين في الغالب مبتلى بالنسيان.
وأحسن من هذا أن يكون قوله (والناس) معطوفاً على الوسواس أي من شر الوسواس ومن شر الناس كأنه أمر أن يستعيذ من شر الجن والإنس، قال الحسن أما شيطان الجن فيوسوس في صدور الناس مباشرة أما شيطان الإنس فيأتي علانية.
وقال قتادة: إن من الجن شياطين وإن من الإنس شياطين فنعوذ بالله من شياطين الجن والإنس، وقيل إن إبليس يوسوس في صدور الإنس.(15/468)
وواحد الجنة جني كما أن واحد الإنس إنسي والقول الأول هو أرجح هذه الأقوال وإن كان وسوسة الإنس في صدور الناس لا تكون إلا بالمعنى الذي قدمنا ويكون هذا البيان تذكر الثقلين للإرشاد إلى أن من استعاذ بالله منهما ارتفعت عنه محن الدنيا والآخرة.
وعن ابن عباس قال: قيل يا رسول الله " أي الأعمال أحب إلى الله تعالى قال الحال المرتحل، قيل وما الحال المرتحل، قال الذي يضرب من أول القرآن إلى آخره كلما حل ارتحل "، أخرجه الترمذي.(15/469)
الخاتمة
يقول العبد الضعيف الخامل المتواري، مؤلف هذا التفسير صديق ابن حسن بن علي الحسيني القنوجي البخاري، ختم الله له بالحسنى، وأذاقه حلاوة رضوانه الأسنى.
وإلى هنا انتهى هذا التفسير الجامع بين فني الرواية والدراية، الرافع من ألوية التحقيق والتنقيح أعظم راية، وكان الفراغ منه في ضحوة يوم الجمعة لعله التاسع والعشرون من شهر ذي الحجة أحد شهور سنة تسع وثمانين بعد مائتين وألف من الهجرة النبوية، على صاحبها الصلاة والسلام والتحية، وقد تم بتمامه، وانتهى بانتهائه الأسبوع والشهر والسنة اللهم كما مننت علي بإكمال هذا التفسير وأعنتني على تحصيله وتفضلت عليّ بالفراغ منه على ما أردت فامنن علي بقبوله واجعله لي ذخيرة خير عندك وأجزل لي المثوبة بما صرفت الوقت في تحريره كما قلت في كتابك (أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ) وكما قلت في هذا الباب.
كل يجيء بكسبه وكتابه ... يوم القيامة آخر الأزمان
في حضرة الرحمن جل جلاله ... عم الورى بالعفو والغفران
ويجيء هذا العبد وهو مقصر ... بكتابه التفسير فتح بيان
ثم اللهم انفع به من أخلفه من بعدي من ولدي ومن شئت من عبادك المؤمنين ليدوم لي الانتفاع به بعد موتي، فإن هذا هو المقصد الجليل، والمطلب الجميل، من هذا الجمع والتأليف واجعله خالصاً لوجهك الكريم وتجاوز عني إذا خطر لي من خواطر السوء ما فيه شائبة تخالف الإخلاص والتوحيد، واغفر لي ما لا يطابق مرادك، فإني لم أقصد في جميع أبحاثي فيه إلا إصابة الحق وموافقة ما ترضاه، فإن أخطأت فأنت غافر الخطيآت ومسبل ذيل الستر على الهفوات، وإن أصبت فأنت قابل الطاعات، ومانح العطيات يا باريء(15/471)
الباريات، وقد جمعته في زمنٍ أَهْلهُ بغير الكتاب والسنة يفخرون، وصنعته كما صنع نوح عليه السلام الفلك ومنه يسخرون، ولله در من يقول:
إذا رضيت علي كرام عشيرتي ... فلا زال غضباناً عليّ لئامها
ثم اللهم أحمدك على ما أوليتني من نعمك الوافرة من الأموال والأولاد والعلم النافع من الكتاب العزيز والسنة المطهّرة لا أحصي حمداً لك، وأشكرك على ما رزقتني من خلوص النية في القول والعمل والاعتقاد، لا أحصي شكرك أنت كما أثنيت على نفسك، وقد رويت في صحيح مسلم بن الحجاج بسنده المتصل إلى أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله عليه وآله وسلم " إذ مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاث صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له " اللهم فهذا علم ينتفع به وقد علمت نيتي وعدم انتصاري في تفسير كتابك لمذهب ذاهب أو قول قائل ما عدا قولك وما صحّ عن رسولك (1) صلى الله عليه وآله وسلم فانفعني به في الحياة الدنيا وفي الآخرة، وأجزني بما أنت له أهل يا أهل التقوى وأهل المغفرة، وهذه أولادي فاجعلهم من عبادك الصالحين وممن يدعو لي بعد مماتي ووفقهم للعلم النافع والعمل الصالح، واحفظهم من بين أيديهم ومن خلفهم مما لا تحبه ولا ترضاه واجعل لي ولهم لسان صدق في الآخرين، رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحاً ترضاه وأصلح لي في ذريتي إني تبت إليك وإني من المسلمين، وقد طعنت في العشر الخامس من عمري و (وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا) فاعذرني فلم (أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا).
ولنختتم الكلام بالحمد لله رب العالمين كما بدأنا به أول مرة، وصلى الله تعالى وسلم وبارك على خير خلقه محمد وآله وصحبه كرة بعد كرة.
انتهى الكتاب بعون الله
_________
(1) قوله " وما صحّ عن رسولك " فيه نظر كما تقدم فهناك أحاديث ضعيفة وإسرائيليات.(15/472)
خاتمة الجزء الخامس عشر
تم بعونه تعالى الجزء الخامس عشر من كتاب فتح البيان في مقاصد القرآن وبذلك نكون قد أتممنا الكتاب بأجزائه الخمسة عشر.(15/473)
إن المؤلف رحمه الله وضع بعض الحواشي ثم وضع الأستاذ المطيعي عند طبعه الكتاب الطبعة الأولى في الهند بعض الحواشي ووضعنا قربها كلمة المطيعي.
أما معظم الحواشي وتخريج الآيات والأحاديث من كتب الحديث وبعض التعليقات المفيدة التي وضعت في الكتاب فهي من كتابة فضيلة الشيخ عبد الله بن إبراهيم الأنصاري وقد قام عدة علماء أجلاء بقراءتها والموافقة عليها.
الشيخ عبد الله بن إبراهيم الأنصاري.(15/474)