عبيدة: إنها جميع ألوان التمر سوى العجوة والبرني وقال جعفر بن محمد: إنها العجوة خاصة، وقيل: هي ضرب من النخل يقال لثمره: اللون، تمره أجود التمر، وقال الأصمعي: هي الدقل وأصل اللينة لونه فقلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها، وجمع اللينة لين، وقيل: ليان، وقرأ ابن مسعود: ولا تركتم قوماً على أصولها، أي قائمة على سوقها، وقرىء على أصلها، وقائماً على أصوله، وفي البخاري ومسلم وغيرهما:
" عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، حرق نخل بني النضير، وقطع وهي البويرة "، ولها يقول حسان رضي الله تعالى عنه:
وهان على سراة بني لؤي ... حريق بالبويرة مستطير
فأنزل الله ما قطعتم الآية، وأخرج الترمذي وحسنه والنسائي وابن أبي حاتم وابن مردويه:
" عن ابن عباس في الآية قال: اللينة النخلة، قال: استنزلوهم من حصونهم، وأمروا بقطع النخل فحك في صدورهم، فقال المسلمون: قد قطعنا بعضاً وتركنا بعضاً، فلنسألن رسول الله صلى الله عليه وسلم، هل لنا فيما قطعنا من أجر؟ وهل علينا فيما تركنا من وزر؟ فأنزل الله (ما قطعتم من لينة) الآية "، وفي الباب أحاديث، والكلام في صلح بني النضير مبسوط في كتب السير.
(وليخزي الفاسقين) أي ليذل الخارجين عن الطاعة، وهم اليهود، ويغيظهم، في قطعها وتركها لأنهم إذا رأوا المؤمنين يتحكمون في أموالهم كيف شاؤوا، من القطع والترك ازدادوا غيظاً، قال الزجاج: وليخزي الفاسقين بأن يريهم أموالهم يتحكم فيها المؤمنون كيف أحبوا من قطع وترك، والتقدير وليخزي الفاسقين، أذن في ذلك، يدل على المحذوف قوله: (فبإذن الله)، وقد استدل بهذه الآية على أن حصون الكفار وديارهم لا بأس أن تهدم وتحرق وترمى بالمجانيق، وكذلك قطع أشجارهم ونحوها، وعلى(14/43)
جواز الاجتهاد، وعلى تصويب المجتهدين، والبحث مستوفى في كتب الأصول.(14/44)
وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6)
(وما أفاء الله على رسوله منهم) أي ما رده عليه من أموال الكفار، يقال: فاء يفيء إذا رجع، والضمير في منهم راجع إلى بني النضير (فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب) يقال: وجف الفرس والبعير يجف وجفاً وهو سرعة السير، وأوجفه صاحبه إذا حمله على السير السريع، و (ما) في (ما أوجفتم) نافية، والفاء جواب الشرط إن كانت (ما) في (ما أفاء الله) شرطية، وإن كانت موصولة فالفاء زائدة و (من) في (من خيل) زائدة للتأكيد، والركاب ما يركب من الإبل خاصة، قال الرازي: العرب لا يطلقون لفظ الراكب إلا على راكب البعير، ويسمون راكب الفرس فارساً، والمعنى أن ما رد الله على رسوله من أموال بني النضير لم تركبوا لتحصيله خيلاً ولا إبلاً، ولم تقطعوا إليها مسافة، ولا تجشمتم لها شقة، ولا لقيتم بها حرباً ولا مشقة، وإنما كانت من المدينة على ميلين، قاله الفراء، فجعل الله سبحانه أموال بني النضير لرسوله صلى الله عليه وسلم، خاصة لهذا السبب فإنه افتتحها صلحاً، وأخذ أموالها، وقد كان يسأله المسلمون أن يقسم لهم فنزلت الآية.
أخرج البخاري ومسلم وغيرهما:
" عن عمر بن الخطاب قال: كانت أموال بني النضير مما أفاء الله على رسوله صلى الله عليه وسلم، ومما لم يوجف عليه المسلمون بخيل ولا ركاب، وكانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم، خاصة، فكان ينفق على أهله منها نفقة سنة، ثم يجعل ما بقي في السلاح والكراع عدة في سبيل الله ".
ْ " وعن ابن عباس قال: جعل ما أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، يحكم فيه ما أراد ولم يكن يومئذ خيل ولا ركاب يوجف بها، قال: والإِيجاف أن يوضعوا السير وهي لرسول الله فكان من ذلك خيبر وفدك، وقرى عرينة، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعمد لينبع فأتاها(14/44)
رسول الله صلى الله عليه وسلم فاحتواها كلها، فقال ناس: هلا قسمها الله؟ فأنزل الله عذره، فقال: (ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى) الآية " وفي الكرخي: وهذا وإن كان كالغنيمة لأنهم خرجوا أياماً وقاتلوا وصالحوا، لكن لقلة تعبهم أجراه الله تعالى مجرى الفىء.
(ولكن الله يسلط رسله على من يشاء) أي سنته تعالى جارية على أن يسلطهم على من يشاء من أعدائه تسلطاً غير معتاد، من غير أن يقتحموا مضايق الخطوب، ويقاسوا شدائد الحروب، وفي هذا بيان أن تلك الأموال كانت خاصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم دون أصحابه، لكونهم لم يوجفوا عليها بخيل ولا ركاب، بل مشوا إليها مشياً (والله على كل شيء قدير) يسلط من يشاء على من أراد. ويعطي من يشاء ويمنع من يشاء، (لا يسأل عما يفعل وهم يسألون)، فلا حق لكم فيه ويختص به النبي صلى الله عليه وسلم، ومن ذكر معه في الآية الثانية من الأصناف الأربعة على ما كان يقسمه.(14/45)
مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (7)
(ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى) هذا بيان لمصارف الفيء بعد بيان أنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، خاصة، والتكرير لقصد التقرير والتأكيد، ووضع أهل القرى موضع منهم أي من بني النضير للإشعار بأن هذا الحكم لا يختص ببني النضير وحدهم بل هو حكم على كل قرية يفتحها رسول الله صلى الله عليه وسلم، صلحاً ولم يوجف عليها المسلمون بخيل ولا ركاب قيل: والمراد بالقرى بنو النضير وقريظة وهما بالمدينة وفدك وهي على ثلاثة أميال من المدينة وخيبر وقرى عرينة وينبع وقد تكلم أهل العلم في هذه الآية والتي قبلها هل معناهما متفق أو مختلف؟ فقيل: متفق، كما ذكرنا وقيل: مختلف، وفي ذلك كلام طويل لأهل العلم.
قال ابن العربي: لا إشكال أنها ثلاثة معان في ثلاث آيات، أما الآية الأولى وهي قوله: (وما أفاء الله على رسوله منهم) فهي خاصة برسول الله صلى الله عليه وسلم، خالصة له وهي أموال بني النضير، وما كان مثلها وأما(14/45)
الآية الثانية وهي (ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى) فهذا كلام مبتدأ غير الأول لمستحق غير الأول وإن اشتركت هي والأولى في أن كل واحدة منهما تضمنت شيئاًً أفاءه الله على رسوله واقتضت الآية الأولى أنه حاصل بغير قتال، واقتضت آية الأنفال وهي الآية الثالثة أنه حاصل بقتال، وعريت الآية الثانية وهي ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى عن ذكر حصوله بقتال أو بغير قتال، فنشأ الخلاف من ههنا، فطائفة قالت: هي ملحقة بالأولى وهي مال الصلح، وطائفة قالت: هي ملحقة بالثالثة وهي آية الأنفال، والذين قالوا إنها ملحقة بآية الأنفال اختلفوا هل هي منسوخة أو محكمة؟ هذا حاصل كلامه.
وقال مالك: إن الآية الأولى من هذه السورة خاصة برسول الله صلى الله عليه وسلم، والآية الثانية هي في بني قريظة، ويعني أن معناها يعود إلى آية الأنفال، ومذهب الشافعي أن سبيل خمس الفيء سبيل خمس الغنيمة، وأن أربعة أخماسه كانت للنبي صلى الله عليه وسلم، وهي بعده لمصالح المسلمين.
(فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) المراد بقوله: (لله) أنه يحكم فيه بما يشاء للرسول يكون ملكاً له، (ولذي القربى) وهم بنو هاشم وبنو المطلب، لأنهم قد منعوا من الصدقة، فجعل لهم حقاً في الفيء قيل: تكون القسمة في هذا المال على أن تكون أربعة أخماسه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وخمسه يقسم أخماساً للرسول خمس، ولكل صنف من الأصناف الأربعة المذكورة خمس، وقيل: يقسم أسداساً، السادس سهم الله سبحانه، ويصرف إلى وجه القرب، كعمارة المساجد ونحو ذلك.
وعن ابن عباس قال: كان ما أفاء الله على رسوله من خيبر نصف لله ورسوله، والنصف الآخر للمسلمين فكان الذي لله ورسوله من ذلك الكثبة والوطيح والسلالم ووحدوه وكان الذي للمسلمين الشق، والشق ثلاثة عشر سهماً، ونطاة خمسة أسهم، ولم يقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، من خيبر لأحد من المسلمين إلا لمن شهد الحديبية ولم يأذن رسول الله صلى الله(14/46)
عليه وسلم لأحد من المسلمين تخلف عنه عند مخرجه الحديبية أن يشهد معه خيبر إلا جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام الأنصاري.
وأخرج أبو داود عن عمر بن الخطاب قال: كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم، صفايا في النضير وخيبر وفدك، فأما بنو النضير فكانت حبساً لنوائبه، وأما فدك فكان لابن السبيل. وأما خيبر فجزأها ثلاثة أجزاء، قسم منها جزءين بين المسلمين، وحبس جزءاً لنفسه ولنفقة أهله، فما فضل عن نفقة أهله رده على فقراء المهاجرين "، قال البقاعي: ومن زعم أن شيئاًً مما في هذه السورة نسخ بشيء مما في سورة الأنفال فقد أخطأ، لأن الأنفال نزلت في بدر، وهي قبل هذه بمدة.
(كيلا يكون) الفيء (دولة بين الأغنياء منكم) دون الفقراء، والدولة اسم لشيء يتداوله القوم بينهم، يكون لهذا مرة، ولهذا مرة، قال مقاتل: المعنى أنه يغلب الأغنياء الفقراء فيقسمونه بينهم، قرأ الجمهور يكون بالتحتية، ودولة بالنصب، وقرىء بالفوقية ودولة بالرفع، أي كيلا تقع أو توجد دولة، وكان تامة، وقرأ الجمهور دولة بضم الدال، وقرىء بفتحها، قال عيسى بن عمر، ويونس، والأصمعي: هما لغتان بمعنى واحد، وقال أبو عمرو بن العلاء: الدولة بالفتح الذي يتداول من الأموال، وبالضم الفعل وكذا قال أبو عبيدة وجمع المفتوح دول مثل قطعة وقصع، وجمع المضموم دول مثل غرفة وغرف، وقيل: بالضم في المال، وبالفتح في الحرب، ودالت الأيام تدول مثل دارت الأيام تدور وزناً ومعنى، وقيل: بالفتح من الملك بضم الميم، وبالضم من الملك بكسر الميم، قال عمر بن الخطاب ما على وجه الأرض مسلم إلا وله حق في هذا الفيء، إلا ما ملكت أيمانكم.
ثم لما بين سبحانه مصارف هذا المال أمرهم بالاقتداء برسوله صلى الله عليه وسلم فقال:
(وما آتاكم الرسول) أي ما أعطاكم من مال الغنيمة والفيء (فخذوه وما نهاكم عنه) أي عن أخذه (فانتهوا) عنه ولا تأخذوه، قال الحسن والسدي: ما أعطاكم من مال الفيء فاقبلوه، وما منعكم منه فلا تطلبوه، وقال(14/47)
ابن جريج: ما أعطاكم من طاعتي فافعلوه، وما نهاكم من معصيتي فاجتنبوه والحق أن هذه الآية عامة في كل شيء يأتي به رسول الله صلى الله عليه وسلم، من أمر أو نهي، أو قول أو فعل، وإن كان السبب خاصاً فالاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وكل شيء أتانا به من الشرع فقد أعطانا إياه وأوصله إلينا، وما أنفع هذه الآية وأكثر فائدتها، قال الماوردي: إنه محمول على العموم في جميع أوامره ونواهيه، لا يأمر إلا بإصلاح، ولا ينهي إلا عن فساد قال المهدوي: هذا يوجب أن كل ما أمر به النبيّ صلى الله عليه وسلم أمر من الله تعالى، وإن كانت الآية خاصة بالغنائم: فجميع أوامره ونواهيه داخلة فيها، ذكره القرطبي.
أخرج البخاري ومسلم وغيرهما.
عن " ابن مسعود قال: لعن الله الواشمات والمستوشمات والمتنمصات والمتفلجات للحسن المغيرات لخلق الله، فبلغ ذلك امرأة من بني أسد يقال لها أم يعقوب فجاءت إليه فقالت: بلغني أنك لعنت كيت وكيت، قال: وما لي لا ألعن من لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو في كتاب الله قالت: لقد قرأت ما بين الدفتين فما وجدت فيه شيئاًً من هذا، قال: لئن كنت قرأته لقد وجدته، أما قرأت (ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا)؟ قالت: بلى، قال: فإنه قد نهى عنه ". ثم لما أمرهم بأخذ ما أمرهم بأخذه الرسول، وترك ما نهاهم عنه، أمرهم بتقواه، وخوفهم شدة عقوبته، فقال:
(واتقوا الله إن الله شديد العقاب) فهو معاقب من لم يأخذ ما أتاه الراسول، ولم يترك ما نهاه عنه.
" عن أبي رافع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا ألقين أحدكم متكئاً على أريكته يأتيه أمر مما أمرت به، أو نهيت عنه فيقول: لا أدري، ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه "، أخرجه أبو داود والترمذي وقال: هذا حديث حسن، والأريكة كل ما اتكىء عليه من سرير أو فراش أو منصة أو نحو ذلك، وفي الباب أحاديث، ثم بين من له الحق في الفيء فقال:(14/48)
لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8) وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9) وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (10)(14/49)
لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8)
(لِلْفُقَرَاءِ) قيل: بدل من لذي القربى وما عطف عليه، قاله أبو البقاء، ومقتضاه اشتراط الفقر فيه، وهو مذهب الإمام أبي حنيفة، ومن ثم جعله الزمخشري كذلك، وأطال الكلام فيه ولا يصح أن يكون بدلاً من الرسول وما بعده، لئلا يستلزم وصف الرسول صلى الله عليه وسلم بالفقر، وقيل: التقدير لكيلا يكون دولة، ولكن يكون للفقراء وقيل: التقدير اعجبوا للفقراء، وبه فسر المحلي، وهو موافق لمذهب إمامه الشافعي وأصحابه من الاستحقاق بالقرابة، ولم يشترط الحاجة، فاشتراطها وعدم اعتبار القرابة يضاده ويخالفه، ولأن الآية نص في ثبوت الاستحقاق تشريفاً لهم، فمن علله بالحاجة فوت هذا المعنى والذي يؤيد تقدير فعل التعجب كما ذكره أبو البقاء وتبعه الكواشي مجيء قوله: (ألم تر إلى الذين نافقوا يقولون) الآيات مصدراً بألم تر، وهي كلمة تعجب، لكون ذكرهم جاء مقابلاً لذكر أضدادهم، وقيل: التقدير: والله شديد العقاب للفقراء، أي للكفار بسبب الفقراء، وقيل: هو عطف ما مضى بتقدير الواو كما تقول: المال لزيد لعمرو لبكر.(14/49)
(المهاجرين) أي الذين هاجروا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رغبة في الدين ونصرة له، قال قتادة: هؤلاء المهاجرون هم الذين تركوا الديار والأموال والأهلين كما قال تعالى: (الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم) أي حيث أخرجهم كفار مكة منها، واضطروهم إلى الخروج وكانوا مائة رجل، قال النسفي: وفيه دليل على أن الكفار يملكون بالاستيلاء أموال المسلمين، لأن الله سمى المهاجرين فقراء مع أنه كانت لهم ديار وأموال.
(يبتغون فضلاً من الله ورضواناً) أي حال كونهم يطلبون منه أن يتفضل عليهم بالرزق في الدنيا وبالرضوان في الآخرة (وينصرون الله ورسوله) بالجهاد للكفار بأنفسهم وأموالهم، والمراد نصر دينه وإعلاء كلمته، وهذا حال مقدرة أي ناوين نصرتهما إذ وقت خروجهم لم تكن نصرة بالفعل.
(أولئك) المتصفون بتلك الصفات (هم الصادقون) أي الكاملون في الصدق، الراسخون فيه، قال قتادة: هم المهاجرون الذين تركوا الديار والأموال والعشائر، وخرجوا حباً لله ولرسوله، واختاروا الإسلام على ما كانوا فيه من شدة، حتى ذكر لنا أن الرجل كان يعصب الحجر على بطنه ليقيم به صلبه من الجوع، وكان الرجل يتخذ الحفيرة في الشتاء ما له دثار غيرها " وعن سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أبشروا صعاليك المهاجرين بالنور التام يوم القيامة، يدخلون الجنة قبل أغنياء الناس بنصف يوم، وذلك خمسمائة سنة أخرجه أبو داود ثم لما فرغ من مدحهم مدح الأنصار بخصال حميدة فقال:(14/50)
وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9)
(وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ) وهو كلام مستأنف، والمراد بالدار المدينة، وهي دار الهجرة ومعنى تبوّئهم أنهم اتخذوهما مباءة أي تمكنوا منهما تمكناً شديداً والتبوؤ في الأصل إنما يكون للمكان، ولكنه جعل الإيمان مثله(14/50)
لتمكنهم فيه تنزيلاً للحال منزلة المحل، وقيل: التقدير واعتقدوا الإيمان أو أخلصوا الإيمان كذا قال أبو علي الفارسي أو تبوأوا الدار وموضع الإيمان، ويجوز أن يكون تبوّأوا مضمناً معنى لزموا، أي لزموا الدار والإيمان ومعنى (من قبلهم) أسلموا في ديارهم، وآثروا الإيمان وابتنوا المساجد قبل هجرة المهاجرين، وقبل قدوم النبي صلى الله عليه وسلم بسنتين، فلا بد من تقدير مضاف، لأن الأنصار إنما آمنوا بعد إيمان المهاجرين، وقيل: من قبل المهاجرين لأنهم سبقوهم في تبوّىء الدار.
وقد أخرج البخاري.
" عن عمر بن الخطاب أنه قال: أوصي الخليفة بعدي بالمهاجرين الأولين أن يعرف لهم حقهم، ويحفظ لهم حرمتهم، وأوصيه بالأنصار الذين تبوأوا الدار والإيمان من قبلهم، أن يقبل من محسنهم، ويتجاوز عن مسيئهم " (1).
(يحبون من هاجر إليهم) وذلك أنهم أحسنوا إلى المهاجرين، وأشركوهم في أموالهم ومساكنهم (ولا يجدون) أي لا يجد الأنصار (في صدورهم حاجة) أي حسداً وغيظاً وحزازة فالمراد بالحاجة هذه المعاني، وإطلاق لفظ الحاجة عليها من إطلاق الملزوم على اللازم على سبيل الكناية، لأن هذه المعاني لا تنفك عن الحاجة غالباً، وفي الكلام مضاف محذوف، أي لا يجدون في صدورهم من حاجة أو أثر حاجة، وكل ما يجده الإنسان في صدره مما يحتاج إليه فهو حاجة.
(مما أوتوا) أي مما أوتي المهاجرون دونهم من الفيء بل طابت أنفسهم
_________
(1) رواه البخاري(14/51)
بذلك، وكان المهاجرون في دور الأنصار، فلما غنم النبي صلى الله عليه وسلم بني النضير دعا الأنصار وشكرهم فيما صنعوا مع المهاجرين، من إنزالهم إياهم في منازلهم، وإشراكهم في أموالهم، ثم قال: إن أحببتم قسمت ما أفاء الله عليّ من بني النضير بينكم وبين المهاجرين، وكان المهاجرون على ما هم عليه من السكنى في مساكنكم، والمشاركة لكم في أموالكم، وإن أحببتهم أعطيتهم ذلك، وخرجوا من دياركم، فرضوا بقسمة ذلك في المهاجرين، وطابت أنفسهم.
(ويؤثرون على أنفسهم) أي في كل شيء من أسباب المعاش، والإيثار تقديم الغير على النفس في حظوظ الدنيا، رغبة في حظوظ الآخرة، وذلك ينشأ عن قوة اليقين، ووكيد المحبة، والصبر على المشقة، يقال: آثرته بكذا أي خصصته به وفضلته، والمعنى ويقدمون المهاجرين على أنفسهم في حظوظ الدنيا (ولو كان بهم خصاصة) أي حاجة وفقر، والخصاصة مأخوذة من خصاص البيت وهي الفروج التي تكون فيه وقيل: مأخوذة من الاختصاص وهو الإنفراد بالأمر، فالخصاصة الإنفراد بالحاجة.
أخرج البخاري ومسلم وغيرهما:
" عن أبي هريرة قال: أتى رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أصابني الجهد، فأرسل إلى نسائه فلم يجد عندهن شيئاًً فقال: ألا رجل يضيف هذا الليلة رحمه الله؟ فقال رجل من الأنصار، وفي رواية: فقال أبو طلحة الأنصاري: أنا يا رسول الله، فذهب به إلى أهله فقال لامرأته أكرمي ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تدخريه شيئاًً، قالت: والله ما عندي إلا قوت الصبية، قال: فإذا أراد الصبية العشاء فنوميهم، وتعالي فأطفئي السراج ونطوي بطوننا الليل لضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم ففعلت، ثم غدا الضيف على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: لقد عجب الله من فلان وفلانة وأنزل الله فيها " هذه الآية " (1).
_________
(1) رواه البخاري.(14/52)
وأخرج الحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الشعب:
عن " ابن عمر قال أهدي إلى رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رأس شاة فقال: إن أخي فلاناً وعياله أحوج إلى هذا، فبعث به إليه، فلم يزل يبعث به واحد إلى آخر حتى تداولها أهل سبعة أبيات حتى رجعت إلى الأول فنزلت فيهم هذه الآية.
(ومن يوق شح نفسه) قرأ الجمهور يوق بسكون الواو وتخفيف القاف من الوقاية، وقرىء بفتح الواو وتشديد القاف، وقرأوا شح بضم الشين، وقرىء بكسرها، وهذا كلام عام، (ومن) شرطية، ويوق فعل الشرط، والشح البخل مع الحرص كذا في الصحاح، وقيل: الشح أشد من البخل، قال مقاتل: شح نفسه حرص نفسه. قال سعيد بن جبير: شح النفس هو أخذ الحرام ومنع الزكاة، قال ابن زيد: من لم يأخذ شيئاً نهاه الله عنه ولم يمنع شيئاًً أمره الله بأدائه فقد وقى شح نفسه، قال طاوس: البخل أن يبخل الإنسان بما في يده والشح أن يشح بما في أيدي الناس يُحبُّ أن يكون له ما في أيديهم بالحلال والحرام؛ لا يقنع. وقال ابن عيينة: الشح الظلم وقال الليث: ترك الفرائض وانتهاك المحارم.
(فأولئك هم المفلحون) جزاء الشرط المتقدم، وفيه رعاية معنى من بعد رعاية لفظها، والفلاح الفوز والظفر بكل مطلوب، أي الفائزون بما أرادوا والظاهر من الآية أن الفلاح مترتب على عدم شح النفس بشيء من الأشياء التي يقبح الشح بها شرعاً، من زكاة أو صدقة أو صلة رحم أو نحو ذلك، كما تفيده إضافة الشح إلى النفس، عن ابن مسعود أن رجلاً قال: إني أخاف أن أكون قد هلكت، قال: وما ذاك؟ قال: إني سمعت الله يقول (ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون)، وأنا رجل شحيح لا يكاد يخرج مني شيء، فقال له ابن مسعود: ليس ذلك بالشح، ولكنه البخل،(14/53)
ولا خير في البخل، وإن الشح الذي ذكره الله في القرآن أن تأكل مال أخيك ظلماً.
وعن ابن عمر في الآية قال: ليس الشح أن يمنع الرجل ماله، ولكنه البخل وإنه لشر، إنما الشح أن تطمح عين الرجل إلى ما ليس له، وعن علي ابن أبي طالب قال: من أدى زكاة ماله فقد وقي شح نفسه.
" وعن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما محق الإسلام محق الشح شيء قط " أخرجه أبو يعلى وابن مردويه، وأخرج أحمد والبخاري في الأدب ومسلم والبيهقي:
" عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دماءهم، واستحلوا محارمهم " (1).
" وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يجتمع الشح والإيمان في قلب عبد أبداً ". رواه النسائي، وفي الجامع الصغير:
" الشحيح لا يدخل الجنة " رواه الخطيب في كتاب البخلاء عن ابن عمر، وقد وردت أحاديث في ذم الشح كثيرة.
ثم لما فرغ سبحانه من الثناء على المهاجرين والأنصار، ذكر ما ينبغي أن يقوله من جاء بعدهم فقال:
_________
(1) مسلم.(14/54)
وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (10)
(والذين جاؤوا من بعدهم) وهم التابعون بإحسان إلى يوم القيامة، وقيل: هم الذين هاجروا بعد ما قوي الإسلام والظاهر شمول الآية لمن جاء بعد السابقين من الصحابة، المتأخر إسلامهم في عصر النبوة، ومن تبعهم من المسلمين بعد عصر النبوة إلى يوم القيامة، لأنه يصدق على الكل أنهم جاؤوا(14/54)
بعد المهاجرين الأولين والأنصار، عن سعد بن أبي وقاص قال: الناس على ثلاث منازل، قد مضت منزلتان وبقيت منزلة، فأحسن ما أنتم كائنون عليه أن تكونوا بهذه المنزلة التي بقيت، ثم قرأ: (والذين جاؤوا من بعدهم) الآية.
(يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ) المراد بالأُخوّة هنا أخوة الدين، أمرهم الله أن يستغفروا لأنفسهم، ولمن تقدمهم من المهاجرين والأنصار، قال في المصباح: الأخ لامه محذوفة، وهي واو، وترد في التثنية على الأشهر، فيقال: أخوان، وفي لغة يستعمل منقوصاً فيقال: أخان وجمعه إخوة وإخوان بكسر الهمزة فيهما، وضمها لغة، وقيل: جمعه بالواو والنون، وعلى آخاء وزن آباء أقل: والأنثى أخت، وجمعها أخوات، وهو جمع مؤنث سالم.
(وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا) أي غشاً وحقداً وبغضاً وحسداً (لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) أي كثير الرأفة والرحمة، بليغهما لمن يستحق ذلك من عبادك، أمر الله سبحانه بعد الاستغفار للمهاجرين والأنصار أن يطلبوا من الله سبحانه أن ينزع من قلوبهم الغل للذين آمنوا على الإطلاق، فيدخل في ذلك الصحابة دخولاً أولياً، لكونهم أشرف المؤمنين، ولكون السياق فيهم، فمن لم يستغفر للصحابة على العموم ويطلب رضوان الله لهم فقد خالف ما أمره الله به في هذه الآية، فإن وجد في قلبه غلاً لهم فقد أصابه نزغ الشيطان، وحل به نصيب وافر من عصيان الله بعداوة أوليائه، وخير أمة نبيه صلى الله عليه وسلم، وانفتح له باب من الخذلان يفد به على نار جهنم، إن لم يتدارك نفسه بالالتجاء أو باللجإِ (1) إلى الله سبحانه، والاستغاثة به بأن ينزع عن قلبه ما طوّقه من الغل لخير القرون، وأشرف هذه الأمة، فإن جاوز
_________
(1) لجأ من باب منع وفرح؟.(14/55)
ما يجده من الغل إلى شتم أحد منهم فقد انقاد للشيطان بزمام، ووقع في غضب الله وسخطه.
وهذا الداء العضال إنما يصاب به من ابتلى بمعلم من الرافضة، أو صاحب من أعداء خير الأمة، الذين تلاعب بهم الشيطان، وزين لهم الأكاذيب المختلفة، والأقاصيص المفتراة، والخرافات الموضوعة، وصرفهم عن كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وعن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم المنقولة إلينا بروايات الأئمة الأكابر في كل عصر من العصور، فاشتروا الضلالة بالهدى، واستبدلوا الخسران العظيم، بالربح الوافر، وما زال الشيطان الرجيم ينقلهم من منزلة إلى منزلة، ومن رتبة إلى رتبة، حتى صاروا أعداء كتاب الله وسنة رسوله، وخير أمته وصالحي عباده، وسائر المؤمنين، وأهملوا فرائض الله، وهجروا شعائر الدين، وسعوا في كيد الإِسلام وأهله كل السعي، ورموا الدين وأهله بكل حجر ومدر، والله من ورائهم محيط.
قالت عائشة رضي الله تعالى عنها في الآية: أمروا أن يستغفروا لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فسبوهم، ثم قرأت هذه الآية، وقيل لسعيد بن المسيب: ما تقول في عثمان وطلحة والزبير؟ قال: أقول ما قولنيه الله، وتلا هذه الآية، وأخرج ابن مردويه:
" عن ابن عمر أنه سمع رجلاً وهو يتناول بعض المهاجرين فقرأ عليه: (للفقراء والمهاجرين)، ثم قال: هؤلاء المهاجرون أفمنهم أنت؟ قال: لا ثم قرأ عليه (والذين تبوأوا الدار والإيمان من قبلهم) الآية ثم قال: هؤلاء الأنصار أفأنت منهم؟ قال: لا. ثم قرأ عليه: (والذين جاؤوا من بعدهم) الآية، ثم قال: أفمن هؤلاء أنت؟ قال: أرجو، قال: ليس من هؤلاء من سبب هؤلاء.
ولما فرغ سبحانه من ذكر الطبقات الثلاث من المؤمنين ذكر ما جرى بين المنافقين واليهود من المقاولة لتعجيب المؤمنين من حالهم فقال:(14/56)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (11) لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (12) لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (13) لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (14) كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيبًا ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (15)(14/57)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (11)
(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا)؟ هم عبد الله بن أبيّ وأصحابه وقال ابن عباس: ورفاعة بن تابوت وعبد الله بن نبتل وأوس بن قيظي وإخوانهم بنو النضير، والخطاب لرسول الله صلى عليه وسلم أو لكل من يصلح له (يقولون لإخوانهم) اللام لام التبليغ (الذين كفروا من أهل الكتاب) مستأنفة لبيان المتعجب منه، والتعبير بالمضارع لاستحضار الصورة، أو للدلالة على الاستمرار، وجعلهم إخواناً لهم لكون الكفر قد جمعهم، وإن اختلف نوع كفرهم فهم إخوان في الكفر، وقيل: هو من قول بني النضير لبني قريظة، والأول أولى لأن بني النضير وبني قريظة هم يهود، والمنافقون غيرهم.
(لئن أخرجتم) اللام هي الموطئة للقسم، وتسمى المؤذنة أيضاًً، أي والله لئن أخرجتم من دياركم (لنخرجن معكم) من ديارنا في صحبتكم وهذا جواب القسم (ولا نطيع فيكم) أي في شأنكم ومن أجلكم (أحداً) ممن يريد أن يمنعنا من الخروج معكم وإن طال الزمان، وهو معنى قوله: (أبداً) وهو ظرف للنفي لا للمنفي، ثم لما وعدوهم بالخروج معهم(14/57)
وعدوهم بالنصرة لهم، فقالوا: (وإن قوتلتم) حذف منه اللام الموطئة، وهو قليل في كلام العرب، والكثير إثباتها (لننصرنكم) على عدوكم ثم كذبهم الله سبحانه فقال:
(والله يشهد إنهم لكاذبون) فيما وعدهم به من الخروج معهم، والنصر لهم، وفيه دليل على صحة النبوة، ولأنه إخبار بالغيب، ووقع كما أخبر وهذا مبني على تقدم نزول الآية على الواقعة، وعليه يدل النظم، فإن كلمة إن للاستقبال وإعجاز القرآن من حيث الإخبار عن الغيب، عن ابن عباس قال: إن رهطاً من بني عوف بن الحرث منهم عبد الله بن أبي ابن سلول، ووديعة بن مالك، وسويد، وداعس، بعثوا إلى بني النضير أن أثبتوا وتمنعوا فإننا لا نسلمكم، وإن قوتلتم قاتلنا معكم، وإن أخرجتم خرجنا معكم، فتربصوا ذلك من نصرهم فلم يفعلوا، وقذف الله في قلوبهم الرعب، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجليهم ويكف عن دمائهم على أن لهم ما حملت الإبل إلى الحلقة ففعل فكان الرجل منهم يهدم بيته فيضعه على ظهر بعيره فينطلق به فخرجوا إلى خيبر، ومنهم من سار إلى الشام.
ثم لما أجمل سبحانه كذبهم فيما وعدوا به، فصل ما كذبوا فيه فقال:(14/58)
لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (12)
(لئن أخرجوا لا يخرجون معهم) هذا تكذيب للمقالة الأولى وقوله: (ولئن قوتلوا لا ينصرونهم) تكذيب للمقالة الثالثة، وأما الثانية فلم يذكر لها تكذيب في التفصيل، وقد كان الأمر كذلك، فإن المنافقين لم يخرجوا مع من أخرج من اليهود، وهم بنو النضير، ومن معهم، ولم ينصروا من قوتل من اليهود وهم بنو قريظة وأهل خيبر (ولئن نصروهم) أي جاؤوا لنصرهم قاله المحلي أو لو قدر وجود نصرهم إياهم، لأن ما نفاه الله لا يجوز وجوده، قال الزجاج: معناه لو قصدوا نصر اليهود وهذا من تمام تكذيبهم في المقالة الثالثة (ليولن الأدبار) منهزمين.
(ثم لا ينصرون) يعني اليهود، ولا يصيرون منصورين إذا انهزم(14/58)
ناصرهم وهم المنافقون، وقيل: يعني لا يصير المنافقون منصورين بعد ذلك، بل يذلهم الله ولا ينفعهم نفاقهم، وقيل: معنى الآية لا ينصرونهم طائعين، ولئن نصروهم مكرهين ليولن الأدبار، وقيل: معنى لا ينصرونهم لا يدومون على نصرهم، والأولى أولى، ويكون من باب قوله: (ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه).(14/59)
لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (13)
(لأنتم أشد رهبة في صدورهم) أي لأنتم يا معاشر المسلمين أشد خوفاً وخشية في صدور المنافقين أو صدور اليهود، أو صدور الجميع (من الله) أي من رهبة الله، والرهبة هنا بمعنى المرهوبية، لأنها مصدر من المبني للمفعول وفيه دلالة على نفاقهم، يعني أنهم يظهرون لكم في العلانية خوف الله، وأنتم أهيب في صدورهم منه (ذلك بأنهم قوم لا يفقهون) أي ما ذكر من الرهبة الموصوفة بسبب عدم فقههم بشيء من الأشياء، ولو كان لهم فقه لعلموا أن الله سبحانه هو الذي سلطكم عليهم، فهو أحق بالرهبة منه دونكم، ثم أخبر سبحانه بمزيد فشلهم وضعف نكايتهم فقال:(14/59)
لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (14)
(لا يقاتلونكم جميعاً) يعني لا يبرز اليهود والمنافقون مجتمعين لقتالكم، ولا يقدرون على ذلك (إلا في قرى محصنة) بالدروب والدور والخنادق (أو من وراء جدر) أي من خلف الحيطان التي يستترون بها لجبنهم ورهبتهم قرأ الجمهور جدر بالجمع، وقرىء جدار بالإفراد، واختار الأولى أبو عبيد وأبو حاتم، لأنها موافقة لقوله: (قرى محصنة)، وهما سبعيتان وقرىء جدر بفتح الجيم وإسكان الدال، وهي لغة في الجدار.
(بأسهم بينهم شديد) أي بعضهم فظ غليظ على بعض، وقلوبهم مختلفة، ونياتهم متباينة، قال السدي: المراد اختلاف قلوبهم حتى لا يتفقوا على أمر واحد، وقال مجاهد: (بأسهم بينهم شديد) بالكلام والوعيد، لنفعلن كذا، والمعنى أنهم إذا انفردوا نسبوا أنفسهم إلى الشدة والبأس، وإذا لاقوا عدواً ذلوا وخضعوا وانهزموا، وقيل: المعنى أن بأسهم بالنسبة إلى أقرانهم شديد، وإنما ضعفهم بالنسبة إليكم لما قذف الله في قلوبهم من(14/59)
الرعب، والأول أولى لقوله: (تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى) فإنه يدل على أن اجتماعهم إنما هو في الظاهر مع تخالف قلوبهم في الباطن، وهذا التخالف هو البأس الذي بينهم، الموصوف بالشدة، والجملة حالية أو مستأنفة للإخبار بذلك.
والعامة على أن شتى بلا تنوين لأنها ألف تأنيث، ومعنى شتى متفرقة، قال مجاهد: يعني اليهود والمنافقين، تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى، أي لافتراق عقائدهم، واختلاف مقاصدهم، وروي عنه أيضاًً أنه قال: المراد المنافقون، وقال الثوري: هم المشركون وأهل الكتاب، قال قتادة: (تحسبهم جميعاً) أي مجتمعين على أمر، ورأي، وقلوبهم متفرقة، فأهل الباطل مختلفة آراؤهم، مختلفة شهادتهم، مختلفة أهواؤهم، وهم يجتمعون في عداوة أهل الحق، وقرأ ابن مسعود وقلوبهم أشت أي: أشد اختلافاً، قال ابن عباس في الآية: هم المشركون، وهذا تجسير للمؤمنين، وتشجيع لقلوبهم على قتالهم.
(ذلك بأنهم) أي ذلك الاختلاف والتشتت بسب أنهم (قوم لا يعقلون) شيئاًً مما فيه صلاحهم، فإن تشتيت القلوب يوهن قواهم، ولو عقلوا لعرفوا الحق واتبعوه(14/60)
كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيبًا ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (15)
(كمثل) أي أن مثل المنافقين واليهود أي بني النضير كمثل (الذين من قبلهم) من كفار المشركين وأهل مكة (قريباً) يعني في زمان قريب وقيل: يشبهونهم في زمن قريب، وقيل العامل فيه: (ذاقوا) أي ذاقوا في زمن قريب، أي بين وقعة بدر ووقعة بني النضير نحو سنة ونصف، لأنها كانت في ربيع الأول من الرابعة، وبدر كانت في رمضان من الثانية.
(وبال أمرهم) أي سوء عاقبة كفرهم في الدنيا، بقتلهم يوم بدر. وكان ذلك قبل غزوة بني النضير بستة أشهر، قاله مجاهد وغيره، وقيل: المراد بنو النضير حيث أمكن الله منهم، قاله قتادة: وقيل: قتل بني قريظة، قاله الضحاك، وقيل: هو عام في كل من انتقم الله منه بسبب كفره، والأول أولى (ولهم) مع ذلك (عذاب أليم) في الآخرة، ثم ضرب لليهود والمنافقين مثلاً آخر فقال:(14/60)
كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (16) فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (17) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (19) لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ (20)(14/61)
كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (16)
(كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ) وقيل: المثل الأول خاص باليهود، والثاني بالمنافقين أي مثل المنافقين في إغراء اليهود على القتال، أو تخاذلهم وعدم تناصرهم، كمثل الشيطان، والمراد به حقيقته لا شيطان الإنس، وقيل: الثاني بيان للأول، ثم بين سبحانه وجه الشبه فقال: (إذ قال للإنسان اكفر) أي أغراه بالكفر: وزينه له وحمله عليه، والمراد بالإنسان هنا جنس من أطاع الشيطان من نوع الإنسان، كما قال مجاهد: المراد بالإنسان هنا جميع الناس في غرور الشيطان إياهم، وقيل: هو أبو جهل، وقيل: هو عابد كان في بني إسرائيل حمله الشيطان على الكفر فأطاعه وهو برصيصاً والأول أولى.
" عن علي بن أبي طالب أن رجلاً كان يتعبد في صومعة، وأن امرأة كان لها إخوة فعرض لها شيء فأتوه بها، فزينت له نفسه فوقع عليها، فحملت، فجاءه الشيطان فقال: اقتلها فإنهم إن ظهروا عليك افتضحت، فقتلها ودفنها، فجاؤوه فأخذوه فذهبوا به، فبينما هم يمشون إذ جاءه الشيطان فقال: إني أنا الذي زينت لك فاسجد لي سجدة أنجيك فسجد له، فذلك قوله: (كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر) الآية أخرجه أحمد في الزهد، والبخاري في تاريخه، والحاكم وصححه، والبيهقي وغيرهم، قلت: وهذا لا يدل على أن هذا الإنسان هو المقصود بالآية، بل يدل على أنه من جملة من(14/61)
تصدق عليه، وقد أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس بأطول من هذا، وليس فيه ما يدل على أنه المقصود بالآية، وأخرجه بنحوه ابن جرير عن ابن مسعود، وعنه قال: ضرب الله مثل الكفار والمنافقين الذين كانوا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم (كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر).
(فلما كفر) أي الإنسان مطاوعة للشيطان وقبولاً لتزيينه (قال) الشيطان (إني بريء منك) إن أريد بالإنسان الجنس فهذا التبرؤ من الشيطان يكون يوم القيامة، يتبرأ منه مخافة أن يشاركه في العذاب كما ينبىء عنه قوله: (إني أخاف الله رب العالمين) وإن أريد به أبو جهل فقوله: اكفر عبارة عن قول إبليس يوم بدر: (لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم) وتبرؤه قوله: يومئذ (إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ) الآية وهذا تعليل لبراءته من الإنسان بعد كفره، قيل: وليس قول الشيطان: إني أخاف الله على حقيقته، إنما هو على وجه التبرؤ من الإنسان كذباً ورياءً، وإلا فهو لا يخاف الله، فهو تأكيد لقوله: (إني بريء منك) قرىء إني بإسكان الياء وبفتحها.(14/62)
فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (17)
(فكان عاقبتهما أنهما في النار) أي فكان عاقبة الشيطان وذلك الإنسان الذي كفر أنهما صائران إلى النار (خالدين فيها) وقرىء خالدان على أنه خبر أن (وذلك) أي الخلود في النار (جزاء الظالمين) ويدخل هؤلاء فيهم دخولاً أولياً، ثم رجع سبحانه إلى خطاب المؤمنين بالموعظة الحسنة لأن الموعظة بعد المصيبة أوقع في النفس، لرقة القلوب والحذر مما يوجب العقاب، فقال:(14/62)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18)
(يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله) أي اتقوا عقابه بفعل ما أمركم به، وترك ما نهاكم عنه (ولتنظر نفس ما قدمت لغد) أي لتنظر أي شيء قدمت من الأعمال ليوم القيامة، والعرب تكني عن الزمان المستقبل بالغد، وهو في الأصل عبارة عن يوم بينك وبينه ليلة، وإنما أطلق اسم الغد على يوم القيامة تقريباً له، كقوله تعالى: (وما أمر الساعة إلا كلمح البصر) فكأنه لقربه(14/62)
شبه بما ليس بينك وبينه إلا ليلة واحدة، أو لأن الدنيا أي زمانها كيوم والآخرة كغده، لاختصاص كل منهما بأحكام وأحوال متشابهة، وتعقيب الثاني للأول، فلفظ الغد حينئذ استعارة، وفائدة تنكير النفس بيان، إن الأنفس الناظرة في معادها قليلة جداً، كأنه قيل: ولتنظر نفس واحدة في ذلك، وأين تلك النفس؟ وفائدة تنكير الغد تعظيمه، وإبهام أمره، كأنه قيل: لغد لا تعرف النفس كنه عظمته، وهو له. فالتنكير فيه للتعظيم، وفي النفس للتقليل أو للتعريض بغفلة كلهم عن هذا النظر الواجب أفاده الكرخي.
(واتقوا الله) كرر الأمر بالتقوى للتأكيد أو الأول في أداء الواجبات لأنه مقرون بالعمل، فإن ما قدمت لغد عبارة عن أعمال الخير، والثاني في ترك المحارم، لاقترانه بقوله: (إن الله خبير بما تعملون) ورجح هذا الوجه بفضل التأسيس على التأكيد، وأنت خبير بأن التقوى تشمل كليهما فإنها على ما مر في أول البقرة هي التجنب عن كل ما يؤثم من فعل أو ترك، ولا وجه للتوزيع، بل المقام مقام الاهتمام بأمر التقوى، فالتأكيد أولى وأقوى، ذكره الكرخي، والمعنى لا تخفى عليه من ذلك خافية، فهو مجازيكم بأعمالكم إن خيراً فخير وإن شراً فشر.(14/63)
وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (19)
(ولا تكونوا كالذين نسوا الله) أي تركوا أمره وطاعته، أو ما قدروه حق قدره أو لم يخافوه أو جميع ذلك (فأنساهم أنفسهم) أي جعلهم ناسين لها بسبب نسيانهم له، فلم يشتغلوا بالأعمال التي تنجيهم من عذاب الله ولم يكفوا عن المعاصي التي توقعهم فيه، ففي الكلام مضاف محذوف، أي أنساهم حظوظ أنفسهم أو تقديم خير لأنفسهم قال سفيان: نسوا حق الله فأنساهم حق أنفسهم وقيل: نسوا الله في الرخاء فأنساهم في الشدائد وقيل نسوا الله بترك شكره وتعظيمه فأنساهم أنفسهم أن يذكر بعضهم بعضاً حكاه ابن عيسى وقال سهل ابن عبد الله: نسوا الله عند الذنوب فأنساهم أنفسهم(14/63)
عند التوبة ونسب الله تعالى الفعل إلى نفسه في أنساهم إيذاناً بأن ذلك بسبب أمره ونهيه كقوله: أحمدت الرجل إذا وجدته محموداً وأصل نسوا نسيوا يقال نسي ينسى كرضي يرضى (أولئك هم الفاسقون) أي الكاملون في الخروج عن طاعة الله.(14/64)
لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ (20)
(لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة) في الفضل والرتبة والمراد الفريقان على العموم فيدخل في فريق أهل النار من نسي الله منهم دخولاً أولياً ويدخل في فريق أهل الجنة الذين اتقوا دخولاً أولياً لأن السياق فيهم، وقد تقدم الكلام في معنى مثل هذه الآية في سورة المائدة وفي سورة السجدة وفي سورة ص وفيه مزيد الترغيب فيما يزلفهم إلى الله ويدخلهم دار كرامته ويجعلهم من أصحابها ومن ثم دق ولطف استدلال الشافعية بهذه الآية على أن المسلم لا يقتل بالكافر، وأن الكافر لا يملك مال المسلم بالاستيلاء، وحسن كلام القاضي حيث قال: لا يستوي الذين استكملوا نفوسهم فاستأهلوا الجنة، والذين استمهنوا نفوسهم أي استعملوها في المهنة والشهوات، فاستحقوا النار، قاله الكرخي.
ثم أخبر سبحانه وتعالى عن أصحاب الجنة، بعد نفي التساوي بينهم وبين أهل النار، فقال:
(أصحاب الجنة هم الفائزون) أي الظافرون بكل مطلوب، الناجون من كل مكروه، وفي الآية تنبيه للناس وإيذان بأنهم لفرط غفلتهم، وقلة فكرهم في العاقبة، وتهالكهم على إيثار العاجلة، واتباع الشهوات، كأنهم لا يعرفون الفرق بين الجنة والنار والبون العظيم بين أصحابهما، وأن الفوز العظيم مع أصحاب الجنة، والعذاب الأليم مع أصحاب النار فمن حقهم أن يعلموا ذلك وينبهوا عليه، ولما فرغ سبحانه من ذكر أهل الجنة وأهل النار، وبين عدم التساوي بينهم في شيء من الأشياء، ذكر تعظيم كتابه الكريم وأخبر عن جلالته، وأنه حقيق بأن تخشع له القلوب، وترق له الأفئدة فقال:(14/64)
لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (21) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (22) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23) هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (24)(14/65)
لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (21)
(لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ) أي من شأنه وعظمته، وجودة ألفاظه، وقوة مبانيه وبلاغته، واشتماله على المواعظ التي تلين لها القلوب، أنه لو أنزل على جبل من الجبال الكائنة في الأرض، وجعل فيه تمييز كالإنسان على قساوته، ثم أنزلنا عليه القرآن (لرأيته) مع كونه في غاية القسوة وشدة الصلابة، وضخامة الجرم (خاشعاً متصدعاً) أي متشققاً.
(من خشية الله) سبحانه حذراً من عقابه، وخوفاً من أن يؤدي ما يجب عليه من تعظيم كلام الله، وهذا تمثيل وتخييل، يقتضي علو شأن القرآن، وقوة تأثيره في القلوب، قال ابن عباس في الآية: يقول: لو أني أنزلت هذا القرآن على جبل وحملته إياه لتصدع وخشع من ثقله، ومن خشية الله، فأمر الناس إذا نزل عليهم القرآن أن يأخذوه بالخشية الشديد، والتخشع والخاشع الذليل المتواضع.
" وعن علي وابن مسعود مرفوعاً في الآية قال: هي رقية الصداع " ورواه الديلمي بإسنادين لا ندري كيف رجالهما، وأخرج الخطيب في تاريخه بإسناده إلى إدريس بن عبد الكريم الحداد مسلسلاً إلى ابن مسعود مرفوعاً، قاله الذهبي: هو باطل، قيل: الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم أي لو أنزلنا هذا القرآن يا محمد على جبل لما ثبت، ولتصدع من نزوله عليه وقد(14/65)
أنزلناه عليك وثبتناك له وقويناك عليه، فيكون على هذا من باب الامتنان على النبي صلى الله عليه وسلم، لأن الله سبحانه ثبته لما لا تثبت له الجبال الرواسي، وقيل الخطاب للأمة.
(وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون) فيما يجب عليهم التفكر فيه ليتعظوا بالمواعظ، وينزجروا بالزواجر، وفيه توبيخ وتقريع للكفار حيث لم يخشعوا للقرآن، ولا اتعظوا بمواعظه، ولا انزجروا بزواجره، ثم أخبر سبحانه بربوبيته وعظمته فقال:(14/66)
هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (22)
(هو) أي الذي وجوده من ذاته فلا عدم له بوجه من الوجوه، فلا شيء يستحق الوصف بِهُوَ غيره، لأنه الموجود دائماً أزلاً وأبداً، فهو حاضر في كل ضمير، غائب بعظمته عن كل حس، فلذلك تصدع الجبل من خشيته، ولما عبر عنه بأخص أسمائه أخبر عنه لطفاً بنا، وتنزيلاً لنا بأشهرها الذي هو مسمي الأسماء كلها بقوله: (الله) أي المعبود الذي لا تنبغي العبادة والألوهية إلا له (الذي لا إله إلا هو) فإنه لا مجانس له ولا يليق ولا يصح ولا يتصور أن يكافئه أو يدانيه شيء.
(عالم الغيب والشهادة) أي عالم ما غاب عن الإحساس وما حضر، وقيل: عالم السر والعلانية وقيل: ما كان وما يكون، وقيل: الآخرة والدنيا، وقيل: المعدوم والموجود، وقدم الغيب على الشهادة لكونه متقدماً وجوداً (هو الرحمن الرحيم) قد تقدم تفسير هذين الاسمين.(14/66)
هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23)
(هو الله الذي لا إله إلا هو) كرره للتأكيد والتقرير لكون التوحيد حقيقاً بذلك (الملك) الذي لا يزول ملكه المتصرف بالأمر والنهي في جميع خلقه، المالك لهم فهم تحت ملكه وقهره وإرادته (القدوس) أي الطاهر من كل عيب المنزه عن كل نقص، وقيل: هو الذي كثرت بركته، والقدس بالتحريك في لغة أهل الحجاز السطل لأنه يتطهر به، ومنه القادوس لواحد الأواني التي يستخرج بها الماء، قرأ الجمهور القدوس بضم القاف، وقرىء(14/66)
بفتحها، وكان سيبويه يقول: سبوح قدوس بفتح أولهما، وحكى أبو حاتم عن يعقوب أنه سمع عند الكسائي أعرابياً فصيحاً يقرأ القدوس بفتح القاف قال ثعلب: كل اسم على فعول فهو مفتوح الأول إلا السبوح والقدوس، فإن الضم فيهما أكثر وقد يفتحان.
(السلام) قال ابن العربي: اتفق العلماء على أن معنى قولنا في الله السلام النسبة، تقديره: ذو السلامة، ثم اختلفوا في ترجمة النسبة على ثلاثة أقوال:
الأول: معناه الذي سلم من كل عيب وبرىء من كل نقص.
الثاني: معناه ذو السلام أي المسلم على عباده في الجنة، كما قال: (سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ).
الثالث: أن معناه الذي سلم الخلق من ظلمه، وهذا قول الخطابي، وبه قال الأكثر وعليه والذي قبله يكون صفة فعل وعلى أنه البريء من العيوب والنقائص يكون صفة ذات وقيل: السلام معناه السلم لعباده وهو مصدر وصف به للمبالغة.
(المؤمن) أي الذي وهب لعباده الأمن من عذابه وقيل: المصدق لرسوله بإظهار المعجزات وقيل: المصدق للمؤمنين بما وعدهم به من الثواب والمصدق للكافرين بما أوعدهم به من العذاب وقيل: المؤمن الذي يأمن أولياؤه من عذابه ويأمن عباده من ظلمه يقال آمنه من الأمان الذي هو ضد الخوف كما قال تعالى: (وآمنهم من خوف) فهو مؤمن وقال مجاهد: المؤمن الذي وجد نفسه بقوله: (شهد الله أنه لا إله إلا هو) قرأ الجمهور المؤمن بكسر الميم اسم فاعل من آمن بمعنى أمن، وقرىء بفتحها بمعنى المؤمن به على الحذف كقوله: (واختار موسى قومه)، وقال أبو حاتم: لا تجوز هذه القراءة لأن معناه أنه كان خائفاً فأمنه غيره.
(المهيمن) من هيمن يهيمن إذا كان رقيباً على الشيء، أي الشهيد(14/67)
على عباده بأعمالهم الرقيب عليهم، كذا قال مجاهد وقتادة ومقاتل، قال الواحدي: وذهب كثير من المفسرين إلى أن أصله مؤيمن من آمن يؤمن فيكون بمعنى المؤمن، والأول أولى، وقيل: القائم على خلقه برزقه، وقيل: هو الرقيب الحافظ، وقيل: هو المصدق، وقيل: هو القاضي، وقيل: هو الأمين والمؤيمن، وقيل: هو العلي، وقيل: اسم من أسماء الله وهو أعلم بتأويله، وقد قدمنا الكلام على المهيمن في سورة المائدة.
(العزيز) الذي لا يوجد له نظير، وقيل: القاهر. وقيل: الغالب غير الغلوب، وقيل: القوي.
(الجبار) جبروت الله عظمته، فعلى هذا هو صفة ذات، والعرب تسمي الملك الجبار، ويجوز أن يكون من جبر إذا أغنى الفقير، وأصلح الكسير، وعلى هذا هو صفة فعل أو من جبره على كذا إذا أكرهه على ما أراد، فهو الذي جبر خلقه على ما أراد منهم، وبه قال السدي ومقاتل واختاره الزجاج والفراء قال: هو من أجبره على الأمر أي قهره، قال: ولم أسمع فعالاً من أفعل إلا في جبار من أجبر، ودراك من أدرك، قلت: وإنه يستعمل ثلاثياً أيضاًً، وقيل: الجبار الذي لا تطاق سطوته، وقيل: هو القهار الذي إذا أراد أمراً فعله لا يحجزه عنه حاجز، وقيل: الجبار هو الذي لا ينال ولا يدانى، والجبر في صفة الله مدح، وفي صفة الناس ذم.
(المتكبر) أي الذي تكبر عن كل نقص، وتعظم عما لا يليق به وأصل التكبر الامتناع وعدم الانقياد والكبر في صفات الله مدح لأن له جميع صفات العلو والعظمة والعز والكبرياء فإن أظهر ذلك كان ذلك ضم كمال إلى كمال وفي صفات العلو والعظمة والعز والكبرياء فإن أظهر ذلك كان ذلك ضم كمال إلى كمال وصفات المخلوقين ذم لأن المتكبر هو الذي يظهر من نفسه الكبر وذلك نقص في حقه لأنه ليس له كبر ولا علو بل له الحقارة والذلة فإذا أظهر الكذب كان كاذباً في فعله فكان مذموماً في حق الناس قال قتادة: هو الذي تكبر عن كل سوء قال ابن الأنباري: المتكبر ذو الكبرياء وهو الملك.(14/68)
وقيل: هو الذي تكبر بربوبيته فلا شيء مثله وقيل هو المتعظم عما لا يليق بجلاله وجماله وقيل: هو المتكبر عن ظلم عباده.
ثم نزه سبحانه نفسه الكريمة عن شرك المشركين فقال (سبحانه الله عما يشركون) أي عما يشركونه أو عن إشراكهم به.(14/69)
هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (24)
(هو الله الخالق) أصل الخلق التقدير يقال: خلقت الأديم للسقاء إذا قدرته له أي المقدر للأشياء ولما يوجده على مقتضى إرادته ومشيئته وهذا يرجع إلى صفة الإرادة وتعلقها التنجيزي القديم (الْبَارِئُ) أي المنشيء المبدع المخترع للأشياء والأعيان الموجد لها والمبرز من العدم إلى الوجود فيرجع لتأثير القدرة الحادث لكن في خصوص الأعيان، وقيل: المميز لبعضها من بعض.
(المصور) أي الموجد للصور المركب لها على هيئات مختلفة فالتصوير آخراً والتقدير والبرء بينهما أو تابع لهما ومعنى التصوير التخطيط والتشكيل وقرأ حاطب بن أبي بلتعة الصحابي (المصور) بفتح الواو ونصب الراء على أنه مفعول به للبارىء، أي الذي برأ المصور أي ميزه (له الأسماء الحسنى) قد تقدم بيانها والكلام فيها عند تفسير قوله ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها والحسنى مؤنث الأحسن الذي هو أفعل تفضيل لا مؤنث أحسن المقابل لامرأة حسناء ففي القاموس ولا تقل رجل أحسن في مقابلة امرأة حسناء وعكسه غلام أمرد ولا يقال جارية مرداء وإنما يقال هو الأحسن على إرادة أفعل التفضيل وجمعه أحاسن والحسنى بالضم ضد السوأى.
قال الزمخشري: ولله الأسماء الحسنى التي هي أحسن الأسماء لأنها تدل على معان حسنة من تحميد وتقديس وغير ذلك ووصف الجمع الذي لا يعقل بما توصف به الواحدة كقوله: (ولي فيها مآرب أخرى) وهو فصيح ولو جاء على المطابقة للجميع لكان التركيب الحسن على وزن الآخر كقوله: (فعدة من أيام أخر) لأن جمع ما لا يعقل يخبر عنه ويوصف بجمع المؤنثات وإن كان المفرد مذكراً.(14/69)
(يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) أي ينطق بتنزيهه بلسان الحال أو المقال كل ما فيهما (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) أي الغالب لغيره، الذي لا يغالبه مغالب الحكيم في كل الأمور التي يقضي بها.
" عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر رجلاً إذا أوى إلى فراشه أن يقرأ آخر سورة الحشر، وقال: إن مت مت شهيداً " أخرجه ابن السني في عمل اليوم والليلة، وابن مردويه (1).
" وعن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من تعوذ بالله من الشيطان ثلاث مرات ثم قرأ آخر سورة الحشر بعث الله سبعين ملكاً يطردون عنه شياطين الإنس والجن إن كان ليلاً حتى يصبح، وإن كان نهاراً حتى يمسي "، أخرجه ابن مردويه.
" وعن معقل بن يسار عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من قال حين يصبح ثلاث مرات أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، ثم قرأ الثلاث آيات من آخر سورة الحشر، وكل الله به سبعين ألف ملك يصلون عليه حتى يمسي، وإن مات ذلك اليوم مات شهيداً، ومن قالها حين يمسي كان بتلك المنزلة " أخرجه البيهقي والدارمي وأحمد والطبراني وابن الضريس والترمذي وقال: غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه.
" وعن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من قرأ خواتيم الحشر في ليل أو نهار فمات من يومه أو ليلته أوجب الله له الجنة " أخرجه البيهقي في الشعب وابن عدي وابن مردويه والخطيب.
_________
(1) رواه أحمد.(14/70)
سورة الممتحنة
(هي ثلاث عشرة آية وهي مدنية)
قال القرطبي: في قول الجميع، قال ابن عباس: نزلت بالمدينة، وعن ابن الزبير مثله، والممتحنة بكسر الحاء اسم فاعل أي المختبرة أضيف الفعل إليها مجازاً كما سميت سورة براءة المبعثرة والفاضحة، لكشفها عن عيوب المنافقين وعلى هذا فالإضافة بيانية أي السورة الممتحنة، وقيل: بفتح الحاء اسم مفعول إضافة إلى المرأة التي فيها، وهي أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط، لقوله سبحانه: (فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ)، وهي امرأة عبد الرحمن بن عوف والدة إبراهيم بن عبد الرحمن، وعلى هذا فليست الإضافة بيانية، والمعنى سورة المرأة المهاجرة التي نزلت فيها آية الامتحان.(14/71)
بسم الله الرحمن الرحيم
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (1) إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (2) لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (3)(14/73)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (1)
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ) قال المفسرون: نزلت في حاطب بن أبي بلتعة حين كتب إلى مشركي قريش يخبرهم بمسير النبي (صلى الله عليه وسلم) إليهم، وسيأتي ذكر القصة، وأضاف سبحانه العدو إلى نفسه تعظيماً لجرمهم وتغليظاً فيه، والعدو وصف يطلق على الواحد والاثنين والجماعة والآية تدل على النهي عن موالاة الكفار بوجه من الوجوه، وفيه دليل على أن الكبيرة لا تسلب اسم الإيمان.
(تلقون إليهم بالمودة) أي توصلون إليهم المودة على أن الباء زائدة أو هي سببية، والمعنى تلقون إليهم أخبار النبي (صلى الله عليه وسلم) بسبب المودة التي بينكم وبينهم، وقال الزجاج: تلقون إليهم أخبار النبي (صلى الله عليه وسلم) وسره بالمودة التي بينكم وبينهم، والجملة في محل نصب على الحال من ضمير تتخذوا، ويجوز أن تكون مستأنفة لقصد الإخبار بما تضمنته، أو لتفسير موالاتهم إياهم، أو في محل نصب صفة لأولياء وجملة: (وقد كفروا بما جاءكم من الحق) في محل نصب على الحال من فاعل تلقون، أو من فاعل لا تتخذوا، ويجوز أن تكون مستأنفة لبيان حال الكفار.(14/73)
قرأ الجمهور بما جاءكم بالموحدة، وقرىء لما جاءكم باللام أي لأجل ما جاءكم من الحق على حذف المكفور به، أي كفروا بالله والرسول لأجل ما جاءكم من الحق، أي دين الإسلام، والقرآن، أو على جعل ما هو سبب للإيمان سبباً للكفر توبيخاً لهم (يخرجون الرسول وإياكم) مستأنفة لبيان كفرهم أو حالية وقدم الرسول عليهم تشريفاً له، وقد استدل به من يجوز انفصال الضمير مع القدرة على اتصاله، إذ كان يجوز أن يقال: يخرجونكم والرسول.
(أن تؤمنوا بالله ربكم) تعليل للإخراج، أي يخرجونكم لأجل إيمانكم أو كراهة أن تؤمنوا (إن كنتم خرجتم) من مكة (جهاداً في سبيلي وابتغاء مرضاتي) جواب الشرط محذوف، أي إن كنتم كذلك فلا تلقوا إليهم بالمودة، فلا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء، وانتصاب جهاداً وابتغاء على العلة أي إن كنتم خرجتم للجهاد في سبيلي، ولأجل ابتغاء مرضاتي، أو حال كونكم مجاهدين ومبتغين.
(تسرون إليهم بالمودة) مستأنفة للتقريع والتوبيخ، أي تسرون إليهم الأخبار بسبب المودة، وقيل: هي بدل من قوله: (تلقون)، ثم أخبر سبحانه بأنه لا يخفى عليه من أحوالهم شيء فقال: (وأنا أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم) أي بما أضمرتم في صدوركم، وما أظهرتم وأعلنتم بألسنتكم، والجملة في محل نصب على الحال؛ والباء في بما زائدة يقال: علمت كذا وعلمت بكذا هذا على أن أعلم مضارع، وقيل: هو أفعل تفضيل، أي أعلم من كل واحد بما تخفون وما تعلنون.
(ومن يفعله منكم فقد ضل سواء السبيل) أي من يفعل ذلك الاتخاذ لعدوي وعدوكم أولياء، ويلقي إليهم بالمودة فقد أخطأ طريق الحق والصواب وضل عن قصد السبيل.(14/74)
إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (2)
(إن يثقفوكم يكونوا لكم أعداء) أي إن يلقوكم ويصادفوكم يظهروا لكم ما في قلوبهم من العداوة، ومنه المثاقفة وهي طلب مصادفة العزة في المسابقة، يقال: ثقفت الشيء ثقفاً من باب تعب أخذته، وثقفت الرجل في الحرب أدركته، وثقفته ظفرت به، وثقفت الحديث فهمته بسرعة، والفاعل ثقيف، وقيل: المعنى إن يظفروا بكم ويتمكنوا منكم، والمعنيان متقاربان (ويبسطوا إليكم أيديهم) بالضوب ونحوه (وألسنتهم بالسوء) أي بالسب والشتم (وودوا لو تكفرون) معطوف على جواب الشرط، أو على جملة الشرط والجزاء، ورجحه أبو حيان على غيره من الاحتمالات، والمعنى أنهم تمنوا ارتدادكم وودوا رجوعكم إلى الكفر.(14/75)
لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (3)
(لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم) أي لا ينفعكم القرابات على عمومها ولا الأولاد، وخصهم بالذكر مع دخولهم في الأرحام لمزيد المحبة لهم والحنو عليهم، والمعنى أن هؤلاء لا ينفعونكم شيئاًً يوم القيامة حتى توالوا الكفار لأجلهم كما وقع في قصة حاطب بن أبي بلتعة، بل الذي ينفعكم ما أمركم الله به من معاداة الكفار، وترك موالاتهم، وجملة: (يوم القيامة يفصل بينكم) مستأنفة لبيان عدم نفع الأرحام والأولاد في ذلك اليوم، والمعنى يفرق بينكم فيدخل أهل طاعته الجنة وأهل معصيته النار، وقيل: المراد بالفصل بينهم أنه يفر كل واحد منهم من الآخر من شدة الهول كما في قوله: (يوم يفر المرء من أخيه) الآية.
ويجوز أن يتعلق يوم القيامة، أي لن ينفعكم أرحامكم ولا أولادكم يوم القيامة، ويبتدأ بقوله: يفصل بينكم، والأولى أن يتعلق يوم القيامة بما بعده، كما ذكرنا قرأ الجمهور يفصل بالتخفيف وبضم الياء وفتح الصاد مبنياً للمفعول واختار هذه القراءة أبو عبيد، وقرىء بفتح الياء وكسر الصاد مبنياً للفاعل. وقرىء بضم الياء وفتح الفاء وكسر الصاد مشددة من التفصيل، وقرىء بضم الياء وكسر الصاد مخففة، وقرىء بالنون وكلها سبعية.(14/75)
(والله بما تعلمون بصير) لا يخفى عليه شيء من أقوالكم وأفعالكم، فهو مجازيكم على ذلك، وقد أخرج البخاري ومسلم وغيرهما.
" عن علي بن أبي طالب قال: بعثني رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أنا والزبير والمقداد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ فإن بها ظعينة معها كتاب فخذوه منها فأتوني به، فخرجنا حتى أتينا الروضة فإذا نحن بالظعينة، قلنا: أخرجي الكتاب، قالت: ما معي من كتاب، فقلنا، لتخرجن الكتاب أو لتلقين الثياب فأخرجته من عقاصها، فأتينا النبي صلى الله عليه وسلم فإذا فيه: من حاطب بن أبي بلتعة إلى أناس من المشركين بمكة، يخبرهم ببعض أمر النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما هذا يا حاطب؟ قال لا تعجل عليّ يا رسول الله إني كنت امرأً ملصقاً في قريش، ولم أكن من أنفسها، وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات يحمون بها أهليهم وأموالهم بمكة، فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب فيهم، أن أصطنع إليهم يداً يحمون بها قرابتي، وما فعلت ذلك كفراً ولا ارتداداً عن ديني، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: صدق، فقال عمر: دعني أضرب عنقه، فقال: إنه شهد بدراً وما يدريك؟ لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم "، ونزلت هذه الآية (1).
وفي الباب أحاديث مسندة ومرسلة، متضمنة لبيان هذه القصة، وأن هذه الآيات إلى قوله، (قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم)، نازلة في ذلك ولما فرغ سبحانه من النهي عن موالاة المشركين، والذم لمن وقع منه ذلك ضرب لهم إبراهيم مثلاً حين تبرأ من قومه فقال:
_________
(1) رواه مسلم.(14/76)
قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (4) رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (5) لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (6) عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (7)(14/77)
قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (4)
(قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) أي خصلة حميدة تقتدون بها، يقال: لي به أسوة في هذا الأمر. أي اقتداء، فأرشدهم سبحانه إلى الاقتداء بإبراهيم في ذلك إلا في استغفاره لأبيه، قرأ الجمهور أسوة بكسر الهمزة، وقرأ بضمها وهما لغتان، وقراءاتان سبعيتان، وأصل الأسوة بالضم والكسر القدوة، ويقال: هو أسوتك أي مثلك وأنت مثله (في إبراهيم) أي في أفعاله وأقواله، وفي متعلقة بأسوة، ومنعه أبو البقاء، أو بحسنة أو نعت ثان لأسوة أو حال من الضمير المستتر في حسنة أو خبر لكان، ولكم تبيين (والذين معه) هم أصحابه المؤمنون، وقال ابن زيد: هم الأنبياء قال الفراء: يقول: أفلا تأسيت يا حاطب بإبراهيم؟ فتتبرأ من أهلك كما تبرأ إبراهيم من أبيه وقومه؟
(إذا قالوا لقومهم) خبر كان أو متعلق بخبرها قالهما أبو البقاء، ومن جوز في كان أن تعمل في الظرف علقه بها، هذا ما في السمين، وقال الحفناوي: الظرف بدل اشتمال من إبراهيم والذين معه وهذا أحسن الأعاريب المذكورة هنا، والمعنى وقت قولهم لقومهم الكفار وقد كانوا أكثر من عدوكم وأقوى ولهم فيهم أرحام وقرابات، ومع ذلك لم يبالوا بهم، بل قالوا:(14/77)
(إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ) أي من دينكم جمع بريء مثل شركاء جمع شريك، وظرفاء جمع ظريف، قرأ الجمهور بضم الباء وفتح الراء وألف بين همزتين ككرماء في كريم وقرىء بكسر الباء وفتح الراء ككرام في كريم وبضم الباء وهمزة بعد ألف.
(ومما تعبدون من دون الله) وهي الأصنام (كفرنا بكم) أي بما آمنتم به من الأوثان أو بدينكم أو بأفعالكم أي لا نعتد بشأنكم ولا بشأن آلهتكم (وبدا بيننا وبينكم العداوة) بالأفعال (والبغضاء) بالقلوب (أبداً) أي هذا دأبنا معكم ما دمتم على كفركم (حتى تؤمنوا بالله وحده) وتتركوا ما أنتم عليه من الشرك، فإذا فعلتم ذلك صارت تلك العداوة موالاة والبغضاء محبة (إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك) هو الاستثناء متصل من قوله في إبراهيم بتقدير مضاف محذوف ليصح الاستثناء أي قد كانت لكم أسوة حسنة في مقالات إبراهيم كلها، إلا قوله لأبيه إلخ أو من أسوة حسنة، وصح ذلك لأن القول من جملة الأسوة، كأنه قيل: قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم في جميع أقواله وأفعاله، إلا قوله لأبيه، وهذا عندي واضح غير محوج إلى تقدير مضاف، وغير مخرج للاستثناء من الاتصال الذي هو أصله، إلى الانقطاع، ولذلك لم يذكر الزمخشري غيره، أو من التبري والقطيعة التي ذكرت أي لم يواصله إلا قوله، ذكر هذا ابن عطية أو هو منقطع أي لكن قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن فلا تتأسوا به فتستغفرون للمشركين فإنه كان عن موعدة وعدها إياه أو أن ذلك إنما وقع منه لأنه ظن أنه قد أسلم، فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه، وقد تقدم تحقيق هذا في سورة براءة. قال ابن عباس في الآية: نهوا أن يتأسوا باستغفار إبراهيم لأبيه وهو مشرك.
(وما أملك لك من الله من شيء) هذا من تمام القول المستثنى يعني ما أغني عنك وما أدفع عنك من عذاب الله وثوابه شيئاًً والجملة في محل نصب على الحال من فاعل لأستغفرن، فالاستثناء متوجه إلى الاستغفار لا إلى هذا(14/78)
القيد، فإنه إظهار للعجز، وتفويض للأمر إلى الله، وذلك من خصال الخير (ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير) هذا من دعاء إبراهيم وأصحابه، ومما فيه أسوة حسنة يقتدي به فيها، وقيل: هو تعليم للمؤمنين أن يقولوا هذا القول والتوكل هو تفويض الأمور إلى الله والإنابة الرجوع، والمصير المرجع. وتقديم الجار والمجرور لقصر التوكل والإنابة والمصير على الله.(14/79)
رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (5)
(ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا) الظاهر أنه دعاء متعدد لا ارتباط لِكُلٍّ بسابقة كالجمل المعدودة، وليس هو وما بعده بدلاً مما قبله كما قيل، لعدم اتحاد المعنيين لا كُلاًّ ولا جزءاً، ولا ملابسة بينهما سوى الدعاء قال الزجاج: لا تظهرهم علينا فيظنوا أنهم على حق فيفتنوا بذلك، وقال مجاهد: لا تعذبنا بأيديهم ولا بعذاب من عندك فيقولوا: لو كان هؤلاء على حق ما أصابهم ذلك، وبه قال ابن عباس: وقال أيضاًً: لا تسلطهم علينا فيفتنونا (واغفر لنا ربنا إنك أنت العزيز) أي الغالب الذي لا يغالب (الحكيم) ذو الحكمة البالغة في ملكه وصنعه.(14/79)
لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (6)
(لقد كان لكم فيهم) أي في إبراهيم والذين معه في التبري من الكفار (أسوة) أي قدوة (حسنة) كرر هذا للمبالغة في التحريض على الحكم والتأكيد على الائتساء بإبراهيم وقومه، ولهذا جاء به مصدّراً بالقسم لأنه الغاية في التأكيد. وقيل: إن هذا نزل بعد الأولى بمدة، قال ابن عباس: أي في صنيع إبراهيم كله إلا في الاستغفار لأبيه وهو مشرك.
(لمن كان يرجو الله واليوم الآخر) أي إن هذه الأسوة إنما تكون لمن يخاف الله ويخاف عقاب الآخرة، أو يطمع في الخير من الله في الدنيا والآخرة بدل اشتمال من كم بإعادة الجار، قال المحلي: تبعاً للكواشي وقال أبو حيان وغيره: بدل بعض من كل (ومن يتول) أي يعرض عن التأسي بإبراهيم(14/79)
وأمته (فإن الله هو الغني) عن خلقه (الحميد) إلى أوليائه لم يترك نوعاً من التأكيد إلا جاء به ولما نزلت هذه الآية وتشدد المؤمنون في عداوة آبائهم وأبنائهم وجميع أقربائهم من المشركين أطمعهم في تحول الحال إلى خلافة فقال:(14/80)
عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (7)
(عسى الله) وعسى وعد من الله على عادات الملوك، حيث يقولون في بعض الحوائج: عسى أو لعل، فلا تبقى شبهة المحتاج في تمام ذلك أو أريد به إطماع المؤمنين (أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة) وذلك بأن يسلموا فيصيروا من أهل دينكم، وقد أسلم قوم منهم بعد فتح مكة وحسن إسلامهم، ووقعت بينهم وبين من تقدمهم في الإسلام مودة، وجاهدوا وفعلوا الأفعال المقربة إلى الله، وقيل: المراد بالمودة هنا تزويج النبي صلى الله عليه وسلم بأم حبيبة بنت أبي سفيان، فصار معاوية خال المؤمنين، قاله ابن عباس، ولا وجه لهذا التخصيص، وإن كان من جملة ما صار سبباً إلى المودة فإن أبا سفيان بعد ذلك ترك ما كان عليه من العداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكنها لم تحصل المودة إلا بإسلامه يوم الفتح وما بعده.
وعن أبي هريرة قال: أول من قاتل أهل الردة على إقامة دين الله أبو سفيان ابن حرب، وفيه نزلت هذه الآية، وعن الزهري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمل أبا سفيان بن حرب على بعض اليمن، فلما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم أقبل فلقي ذا الخمار مرتداً فكان أول من قاتل في الردة وجاهد عن الدين، قال: وهو فيمن قال الله فيه (عسى الله أن يجعل) الآية.
وفي صحيح مسلم.
" عن ابن عباس أن أبا سفيان قال: يا رسول الله ثلاث أعطنيهن(14/80)
قال: نعم قال: تؤَمِّرُني حتى أقاتل الكفار كما كنت أقاتل المسلمين قال: نعم، قال: ومعاوية تجعله كاتباً بين يديك قال نعم، قال: وعندي أحسن العرب وأجمله أم حبيبة بنت أبي سفيان أزوجكها " الحديث (1) قال محمد بن إبراهيم الوزير في التنقيح ما لفظه: قال ابن حزم هذا موضوع لا شك في وضعه، والآفة فيه عن عكرمة بن عمار، قلت: قد رد الحفاظ على ابن حزم ما ذكره وجمع ابن كثير الحافظ جزءاً مفرداً في بيان ضعف كلامه، وفي الحديث غلط ووهم في اسم المخطوب لها النبي صلى الله عليه وسلم: وهي عزة أخت أم حبيبة خطب أبو سفيان رسول الله صلى الله عليه وسلم وخطبته لها أختها أم حبيبة كما ثبت في الصحيحين فأخبرهما النبي صلى الله عليه وسلم بتحريم الجمع بين الأختين، وقد ذكر له تأويلات كثيرة هذا أقربها والموجب للتأويل ما علم من تزويج النبي صلى الله عليه وسلم لأم حبيبة قبل إسلام أبي سفيان.
(والله قدير) أي بليغ القدرة كثيرها على تقليب القلوب، وتحويل الأحوال وتسهيل أسباب المودة (والله غفور رحيم) أي بليغهما كثيرهما لمن أسلم من المشركين، ثم لما ذكر سبحانه ما ينبغي للمؤمنين من معاداة الكافرين وترك موادتهم فصل القول فيمن يجوز بره منهم، ومن لا يجوز فقال:
_________
(1) رواه مسلم.(14/81)
لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (9) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (10)(14/82)
لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8)
(لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ) أي لا ينهاكم عن هؤلاء (أَنْ تَبَرُّوهُمْ) وتكرموهم وتحسنوا إليهم قولاً وفعلاً، وهذا بدل من الموصول بدل اشتمال.
" عن عبد الله بن الزبير قال: قدمت قتيلة بنت عبد العزى على ابنتها أسماء بنت أبي بكر بهدايا ضباب وأقط وسمن وهي مشركة، فأبت أسماء أن تقبل هديتها أو تدخلها بيتها، حتى أرسلت إلى عائشة أن سلي عن هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألته، فأنزل الله هذه الآية فأمرها أن تقبل هديتها وتدخلها بيتها "، أخرجه (1) أحمد والبزار وأبو يعلى وغيرهم وزاد ابن أبي حاتم في المدة التي كانت بين قريش ورسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفي البخاري ومسلم وغيرهما.
" عن أسماء بنت أبي بكر قالت: أتتني أمي راغبة وهي مشركة في عهد قريش إذ عاهدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألت النبي صلى الله عليه
_________
(1) رواه أحمد.(14/82)
وسلم أأصلها؟ فأنزل الله: (لا ينهاكم) الآية فقال: نعم صلي أمك ".
(وتقسطوا إليهم) أي تفضوا إليهم بالقسط وتعدلوا فيهم بالإحسان إليهم، والبر. يقال: أقسطت إلى الرجل إذا عاملته بالعدل، قال الزجاج: المعنى وتعدلوا فيما بينكم وبينهم من الوفاء بالعهد ولا تظلموهم، وإذا نهى من الظلم في حق المشرك فكيف في حق المسلم؟
(إن الله يحب المقسطين) أي العادلين، ومعنى الآية أن الله سبحانه لا ينهى عن بر أهل العهد من الكفار الذين عاهدوا المؤمنين على ترك القتال وعلى أن لا يظاهروا الكفار عليهم، ولا ينهى عن معاملتهم بالعدل، قال ابن زيد كان هذا في أول الإسلام عند الموادعة وترك الأمر بالقتال، ثم نسخ، قال قتادة: نسخ بقوله: (فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم)، وقيل: هذا الحكم كان ثابتاً في الصلح بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين قريش، فلما زال الصلح بفتح مكة نسخ الحكم، وقيل: هي خاصة في حلفاء النبي صلى الله عليه وسلم؛ من بينه وبينه عهد، قاله الحسن وقال الكلبي: هم خزاعة وبنو الحارث بن عبد مناف، وقال مجاهد: هي خاصة في الذين آمنوا ولم يهاجروا، وقيل: هي خاصة بالنساء والصبيان، وحكى القرطبي عن أكثر أهل التأويل أنها محكمة، وهو الأولى لحديث أسماء المتقدم المتفق عليه.
ثم بيّن سبحانه من لا يحل بره ولا العدل في معاملته، فقال:(14/83)
إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (9)
(إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ) وهم صناديد الكفار من قريش وعتاة أهل مكة (وظاهروا على إخراجكم) أي عاونوا الذين قاتلوكم وأخرجوكم على ذلك، وهم سائر أهل مكة ومن دخل معهم في عهدهم (أنْ تولوهم) بدل اشتمال من الموصول كما سلف.
(ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون) أي الكاملون في الظلم، لأنهم تولوا من يستحق العداوة لكونه عدواً لله ولرسوله ولكتابه، وجعلوهم أولياء لهم، وفيه مراعاة معنى من بعد مراعاة لفظها، ولما ذكر سبحانه حكم فريقي(14/83)
الكافرين في جواز البر والإقساط للفريق الأول دون الثاني، ذكر حكم من يظهر الإيمان فقال:(14/84)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (10)
(يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات) سماهن مؤمنات لنطقهن بكلمة الشهادة أو لأنهن مشارفات لثبات إيمانهن بالامتحان (مهاجرات) من بين الكفار، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما صالح قريشاً يوم الحديبية على أن يرد عليهم من جاءهم من المسلمين، فلما هاجر إليه النساء أبى الله أن يرددن إلى المشركين، وأمر بامتحانهن فقال: (فامتحنوهن) أي فاختبروهن بالحلف أي هل هن مسلمات حقيقة أو لا.
وقد أخرج البخاري.
عن " المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما عاهد كفار قريش يوم الحديبية جاءه نساء مسلمات فأنزل الله: (يا أيها الذين آمنوا) حتى بلغ (ولا تمسكوا بعصم الكوافر) فطلق عُمَر يومئذ امرأتين كانتا له في الشرك " وأخرجه أيضاًً من حديثهما بأطول من هذا وعنه: وكانت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط ممن خرج إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي عاتق فجاء أهلها يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجعها إليهم حتى أنزل بالله في المؤمنات ما أنزل وقد اختلف فيما كان يمتحنهن به فقيل: كان يستحلفن بالله ما خرجن من بغض زوج ولا رغبة من أرض إلى أرض ولا لالتماس دنيا بل حباً لله ولرسوله ورغبة في دينه فإذا حلفت كذلك أعطى النبي صلى الله عليه وسلم زوجها مهرها وما أنفق عليها ولم يردها إليه.
" قال ابن عباس: كان إذا جاءت المرأة النبي صلى الله عليه وسلم حلفها عمر بن الخطاب بالله ما خرجت رغبة بأرض عن أرض، وبالله ما خرجت من بغض زوج، وبالله ما خرجت لالتماس دنيا، وبالله ما خرجت إلا حباً لله ورسوله " أخرجه الطبراني وغيره بسند حسن، وقيل: الامتحان هو(14/84)
أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فإذا علموا أن ذلك حق منهن لم يرجعن إلى الكفار، وأعطى بعلها في الكفار الذين عند لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم صداقها الذي أصدقها وأحلهن للمؤمنين إذا آتوهن أجورهن، قاله ابن عباس، وقيل: ما كان الامتحان إلا بأن يتلو عليهن رسول الله صلى الله عليه وسلم الآية، وهي: (يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات) إلى آخرها.
واختلف أهل العلم هل دخل النساء في عهد الهدنة أم لا على قولين، فعلى القول بالدخول تكون هذه الآية مخصصة لذلك العهد، وبه قال الأكثر، وعلى القول بعدمه لا نسخ ولا تخصيص.
(الله أعلم بإيمانهن) معترضة لبيان أن حقيقة حالهن لا يعلمها إلا الله سبحانه، ولم يتعبدكم بذلك، وإنما تعبدكم بامتحانهن، حتى يظهر لكم ما يدل على صدق دعوتهن في الرغب في الإسلام (فإن علمتموهن مؤمنات) أي علمتم ذلك بحسب الظاهر بعد الامتحان الذي أمرتم به، وهو الظن الغالب بظهور الأمارات، وتسمية الظن علماً يؤذن بأن الظن الغالب، وما يفضي إليه القياس، جار مجرى العلم، وصاحبه غير داخل في قوله: (لا تقف ما ليس لك به علم)، وقال الكرخي: المراد بالعلم الظن، وسمي علماً إيذاناً بأنه كالعلم في وجوب العمل به، ففي الكلام استعارة تبعية.
(فلا ترجعوهن إلى الكفار) أي إلى أزواجهن الكافرين هذا ناسخ لشرط الرد بالنسبة للنساء، على مذهب من يرى نسخ السنة بالقرآن، وقال بعضهم: ليس من قبيل النسخ، وإنما هو من قبيل التخصيص، أو تقييد المطلق، لأن العقد أطلق في رد من أسلم فكان ظاهراً في عموم الرجال مع النساء، فبين الله خروجهن عن عمومه، ويفرق بين الرجال والنساء بأن الرجل لا يخشى عليه من الفتنة في الرد ما يخشى على المرأة من إصابة المشرك إياها، وأنه لا يؤمن عليها الردة إذا خوفت وأكرهت لضعف قلبها، وقلة(14/85)
هدايتها إلى الخروج منه بإظهار كلمة الكفر، مع التورية، وإضمار كلمة الإيمان طمأنينة القلب عليه، ولا يخشى ذلك على الرجل لقوته وهدايته، كذا في الخطيب.
(لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن) تعليل للنهي عن إرجاعهن، والتكرير لتأكيد الحرمة، والجملة الأولى لنفي الحل حالاً، والثانية لنفيه فيما يستقبل من الزمان، وفيه دليل على أن المؤمنة لا تحل لكافر، وأن إسلام المرأة يوجب فرقتها من زوجها لا مجرد هجرتها (وآتوهم) خطاب لولاة الأمور، والأمر للوجوب، فيكون منسوخاً، أو للندب كما هو مذهب الشافعي فليس منسوخاً، أي وأعطوا أزواج هؤلاء اللاتي هاجرن وأسلمن:
(ما أنفقوا) أي مثل ما أنفقوا عليهن من المهور، قال الشافعي: وإذا طلبها غير الزوج من قراباتها منع بلا عوض، عن ابن عباس قال: نزلت سورة الممتحنة بعد ذلك الصلح، فكان من أسلم من نسائهم تسأل: ما أخرجك؟ فإن كانت خرجت فراراً من زوجها، ورغبة عنه، ردت وإن كانت خرجت رغبة في الإسلام أمسكت، ورد على زوجها مثل ما أنفق، ووجوب الإيتاء أو ندبه إنما هو في نساء أهل الذمة، كما هو مورد الآية، فإنها وردت في شأن أهل مكة الذين هادنهم صلى الله عليه وسلم، وأما نساء الحربيين الذين لم يعقد لهم عهد فلا يجب ولا يسن رد مهورهن اتفاقاً، وبه قال قتادة، والأمر كما قال، ثم نفى عنهم الجناح في تزوج هؤلاء المهاجرات فقال:
(ولا جناح عليكم أن تنكحوهن) بشرطه، وهو انقضاء العدة فيما إذا كانت المسلمة مدخولاً بها، والولي والشاهدان وبقية شروط الصحة في المدخول بها وغيرها، لأنهن قد صرن من أهل دينكم، وإن كان أزواجهن الكفار لم يطلقوهن لانفساخ العقد بالإسلام (إذا آتيتموهن أجورهن) أي(14/86)
مهورهن، لأن المهر أجر البضع، وذلك بعد انقضاء عدتهن كما تدل عليه أدلة وجوب العدة، وقال أبو حنيفة رحمه الله: لا عدة على المهاجرة، واستدل بهذه الآية، والأول أولى، وبه قال الأوزاعي والليث والشافعي وأحمد، والآية رد لما يتوهم من أن رد المهر إلى أزواجهن الكفار مغن عن تجديد مهر لهن إذا تزوجهن المسلمون، فالمهر المدفوع للكفار لا يقوم مقام المهر الذي يجب على المسلم إذا تزوجهن، والمراد بإيتاء المهر التزامه، وإن لم يدفع بالفعل.
(ولا تمسكوا بعصم الكوافر) قرأ الجمهور بالتخفيف من الإمساك، واختارها أبو عبيد لقوله: (فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) وقرىء بالتشديد من التمسك وهما سبعيتان، والعصم جمع عصمة وهي ما يعتصم به من عقد وسبب، والمراد هنا عصمة عقد النكاح، والكوافر جمع كافرة وهي التي بقيت في دار الحرب، أو لحقت بدار الحرب مرتدة، أي لا يكن بينكم وبينهن عصمة ولا علقة زوجية، والمعنى أن من كانت له امرأة كافرة فليست له بامرأة لانقطاع عصمتها باختلاف الدين، قال النخعي: هي المسلمة تلحق بدار الحرب فتكفر، وكان الكفار يزوجون المسلمات، والمسلمون يزوجون المشركات، ثم نسخ ذلك بهذه الآية، وهذه خاصة بالكوافر المشركات دون الكوافر من أهل الكتاب، وقيل: عامة في جميع الكوافر مخصصة بإخراج الكتابيات منها.
وقد ذهب جمهور أهل العلم إلى أنه إذا أسلم وثني أو كتابي لا يفرق بينهما إلا بعد انقضاء العدّة، وقال بعض أهل العلم: يفرق بينهما بمجرد إسلام الزوج، وهذا إنما هو إذا كانت المرأة مدخولاً بها، وأما إذا كانت غير مدخول بها فلا خلاف بين أهل العلم في انقطاع العصمة بينهما بالإسلام، إذ لا عدة عليها، عن ابن عباس قال: أسلم عمر بن الخطاب وتأخرت امرأته في المشركين، فأنزل الله: ولا تمسكوا بعصم الكوافر.(14/87)
(واسألوا ما أنفقتم) أي اطلبوا مهور نسائكم اللاحقات بالكفار ممن تزوجها وليسألوا (ما أنفقوا) من مهور نسائهم المهاجرات ممن تزوجها منا، قال المفسرون: كان من ذهب من المسلمات مرتدة إلى الكفار من أهل العهد، يقال للكفار: هاتوا مهرها، ويقال للمسلمين: إذا جاءت امرأة من الكفار إلى المسلمين وأسلمت: ردوا مهرها على زوجها الكافر، قال الخطيب: وكان ذلك نصفاً وعدلاً بين الحالين وأطال سلمان الجمل في بيان ذلك.
(ذلكم) المذكور من إرجاع المهور من الجهتين (حكم الله) وقوله: (يحكم بينكم) مستأنفة أو حالية (والله عليم حكيم) أي بليغ العلم، لا تخفى عليه خافية، بليغ الحكمة في أقواله وأفعاله، قال القرطبي: وكان هذا مخصوصاً بذلك الزمان في تلك النازلة خاصة بإجماع المسلمين، ولما نزلت الآية المتقدمة قال المسلمون: رضينا بحكم الله، وكتبوا إلى المشركين فامتنعوا فنزل قوله(14/88)
وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (11)
(وإن فاتكم شيء من أزواجكم إلى الكفار) مما دفعتم إليهم من مهور النساء المسلمات، وقيل: المعنى وإن انفلت منكم أحد من نسائكم إلى الكفار، فارتدت المسلمة، وإليه نحا الزمخشري.
(فعاقبتم) أي فأصبتموهم في القتال بعقوبة قال الواحدي: قال المفسرون أي فغنمتم قال الزجاج: تأويله: وكانت العقبى لكم أي كانت الغنيمة لكم حتى غنمتم، وقيل: معناه ظهرتم، وكانت العاقبة لكم (فآتوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا) من مهر المهاجرة التي تزوجتموها، ولا تؤتوه زوجها الكافر سواء كانت الردة قبل الدخول أو بعده، فكان الحكم أنه يجب للزوج من الغنمية جميع المهر، قال قتادة ومجاهد: إنما أمروا أن يعطوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا من الفيء والغنيمة، وهذه الآية منسوخة قد انقطع حكمها، وارتفع بعد الفتح بشقيه، فلا يجب دفع مهر من جاءت مسلمة للكفار، ولا مهر من ارتدت لزوجها، وبه قال عطاء ومجاهد وقتادة.(14/88)
وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (11) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ (13)
وقال قوم: الآية غير منسوخة، ويرد عليهم ما أنفقوا، وحاصل معناها أن من أزواجكم يجوز أن يتعلق بـ (فاتكم) أي من جهة أزواجكم، ويراد بالشيء المهر الذي غرمه الزوج لأن التفسير ورد أن الرجل المسلم إذا فرت زوجته إلى الكفار، أمر الله المؤمنين أن يعطوا ما غرمه، وفعله النبي صلى الله عليه وسلم مع جمع من الصحابة المذكورين في التفاسير، ويجوز أن يتعلق بمحذوف على أنه صفة لشيء، ثم يجوز في شيء أن يراد به المهر، ولكن لا بد على هذا من مضاف محذوف، أي من مهر أزواجكم ليتطابق الموصوف وصفته، ويجوز أن يراد بشيء النساء أي نوع وصنف منهن، وهو ظاهر قوله: (من أزواجكم)، وقوله: (فآتوا الذين ذهبت أزواجهم)، والمعنى أنهم يعطون من ذهبت زوجته إلى المشركين فكفرت، ولم يرد عليه المشركون مهرها، كما حكم الله مثل ذلك المهر الذي أنفقه عليها من الغنيمة.
(واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون) أي احذروا أن تتعرضوا لشيء مما يوجب العقوبة عليكم فإن الإيمان الذي أنتم متصفون به، يوجب على صاحبه ذلك.(14/89)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12)
(يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك) أي قاصدات لمبايعتك على(14/89)
الإسلام، أخرج البخاري والترمذي وغيرهما.
" عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمتحن من هاجر إليه من المؤمنات بهذه الآية إلى قوله: (غفور رحيم)، فمن أقر بهذا الشرط من المؤمنات، قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد بايعتك -كلاماً- والله ما مست يده يد امرأة قط من المبايعات، ما بايعهن إلا بقوله قد بايعتك على ذلك "، وظاهر هذا التركيب أن النساء طلبن المبايعة مع أن المقرر في السير أنه صلى الله عليه وسلم ابتدأهن بالمبايعة شارطاً عليهن الشروط الآتية، وبعد أن بايعهن التزمنها، ويمكن على بعد أن يقال: التقدير في الآية: إذا جاءك المؤمنات يبايعنك فبايعهن.
(على أن لا يشركن بالله شيئاً) من الأشياء كائناً ما كان، وهذا كان يوم فتح مكة، فإن نساء أهل مكة أتين رسول الله صلى الله عليه وسلم يبايعنه فأمره الله تعالى أن يأخذ عليهن أن لا يشركن به (ولا يسرقن ولا يزنين ولا يقتلن أولادهن) هو ما كانت تفعله الجاهلية من وأد البنات أي دفنهن أحياء لخوف العار والفقر.
(ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن) أي لا يلحقن بأزواجهن ولداً ليس منهم، قال الفراء كانت المرأة تلتقط المولود فتقول لزوجها. هذا ولدي منك، فذلك البهتان المفتري بين أيديهن وأرجلهن، وذلك أن الولد إذا وضعته الأم سقط بين يديها ورجليها، وليس المراد هنا أنها تنسب ولدها من الزنا إلى زوجها، لأن ذلك قد دخل تحت النهي عن الزنا، قال ابن عباس: كانت الحرة تولد لها الجارية فتجعل مكانها غلاماً وعنه قال في الآية لا يلحقن بأزواجهن غير أولادهم.
ْ (ولا يعصينك في معروف) أي في كل أمر هو طاعة لله، وإحسان إلى الناس، وكل ما أمر به الشرع ونهى عنه، والمعروف ما عرف حسنه من قبل الشرع، قال عطاء: في كل بر وتقوى، قال ابن عباس: إنما هو شرط(14/90)
شرطه الله النساء، وقال المقاتلان: عنى بالمعروف النهي على النوح، وتمزيق الثياب، وجز الشعر، وشق الجيوب، وخمش الوجوه، والدعاء بالويل، وكذا قال قتادة وسعيد بن المسيب ومحمد بن السائب وزيد بن أسلم، ومعنى القرآن أوسع مما قالوه مع دخول النوح فيه، قيل: ووجه التقييد بالمعروف مع كونه صلى الله عليه وسلم لا يأمر إلا به التنبيه على أنه لا يجوز طاعة مخلوق في معصية الخالق.
أخرج أحمد والترمذي وصححه والنسائي وابن ماجة.
" عن أميمة بنت رقيقة قالت: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم في نساء لنبايعه، فأخذ علينا ما في القرآن أن لا نشرك بالله شيئاًً، حتى بلغ (ولا يعصينك في معروف)، فقال فيما استطعتن وأطقتن، فقلنا: الله ورسوله أرحم بنا من أنفسنا يا رسول الله، ألا تصافحنا؟ قال: إني لا أصافح النساء إنما قولي لمائة امرأة كقولي لامرأة واحدة "، وفي الباب أحاديث، وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما:
" عن عبادة بن الصامت قال: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: بايعوني على ألا تشركوا بالله شيئاًً ولا تسرقوا ولا تزنوا وقرأ آية النساء، فمن وفى منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئاًً فعوقب في الدنيا فهو كفارة له، ومن أصاب من ذلك شيئاًً فستره الله فهو إلى الله إن شاء عذبه وإن شاء غفر له ".
وأخرج أحمد والترمذي وحسنه وابن ماجة وغيرهم:
" عن أم سلمة الأنصارية قالت: قالت امرأة من النسوة: ما هذا المعروف الذي لا ينبغي لنا أن نعصيك فيه؟ قال: لا تنحن، قلت: يا رسول الله إن بني فلان أسعدوني على عمي لا بد لي من قضائهن، فأبى عليّ، فعاودته مراراً فأذن لي بقضائهن، فلم أنح بعد، ولم يبق من النسوة امرأة إلا وقد ناحت غيري ".(14/91)
وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما:
" عن أم عطية قالت: بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ علينا أن لا نشرك بالله شيئاًً ونهانا عن النياحة، فقبضت امرأة منا يدها فقالت: يا رسول الله إن فلانة أسعدتني وأنا أريد أن أجزيها، فلم يقل لها شيئاًً. فذهبت ثم رجعت، فقالت: ما وفت منا امرأة إلا أم سليم وأم العلاء وبنت أبي سبرة امرأة معاذ أو بنت أبي سبرة وامرأة معاذ "، وقد وردت أحاديث كثيرة في النهي عن النوح.
(فبايعهن) هذا جواب إذا، والمعنى إذا بايعنك على هذه الأمور فبايعهن أي التزم لهن ما وعدناهن على ذلك من إعطاء الثواب في مقابلة ما ألزمن أنفسهن به من الطاعات، فهو بيع لغوي، والبيع في اللغة مقابلة شيء بشيء على وجه العوضية، وسميت المعاهدة مبايعة تشبيهاً لها بها، كأن كل واحد منهم باع ما عنده بما عند الآخر، ذكر الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم في صفة البيعة خصالاً ستاً صرح فيهن بأركان النهي في الدين، ولم يذكر في بيعتهن أركان الأمر وهي ستة أيضاًً: الشهادتان والصلاة، والزكاة، والصيام: والحج، والاغتسال من الجنابة لوضوح كون هذه الأمور ونحوها من أركان الدين وشعائر الإسلام ولأن النهي دائم في كل الأزمان وكل الأحوال، فكان الاشتراط للتنبيه على الدائم آكد.
وقيل: إنما خص الأمور المذكورة لكثرة وقوعها من النساء، ولا يحجزهن عنها شرف النسب، قال ابن الجوزي: وجملة من أحصى من المبايعات إذ ذاك أربعمائة وسبعة وخمسون امرأة، ولم يصافح في البيعة امرأة وإنما بايعهن بالكلام بهذه الآية انتهى.
" وعن أسماء بنت يزيد بن السكن أنها قالت: كنت في النسوة المبايعات فقلت: يا رسول الله أبسط يدك نبايعك، فقال: إني لا أصافح النساء،(14/92)
ولكن آخذ عليهن ما أخذ الله عليهن "، رواه البخاري وقيل: صافحهن بحائل أي ثوب.
وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا بايع النساء دعا بقدح من ماء، ثم غمس يده فيه فغمسن أيديهن فيه، والأول أولى وأصح، وهذا هو البيعة الثانية بالسنة في دين الإسلام، والتي أحللها الصوفية والمشايخ وجهلة المتصوفة، فلا تثبت بدليل شرعي، ولا اعتداد بها، بل هي مصادمة لما ثبت بالكتاب والسنة كما ترى.
(واستغفر لهن الله) أي اطلب من الله المغفرة لهن بعد هذه المبايعة لهن منك مما سلف، ومما يقع منهن (إن الله غفور رحيم) أي بليغ المغفرة بتمحيق ما سلف، وكثير الرحمة لعباده بتوفيق ما ائتنف.(14/93)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ (13)
(يا أيها الذين آمنوا) لما افتتح السورة بالنهي عن اتخاذ الكفار أولياء، ختمها بمثل ذلك تأكيداً لعدم موالاتهم، وتنفيراً للمسلمين عنها، قاله أبو حيان وهذا على منوال رد العجز على الصدر من حيث المعنى (لا تتولوا قوماً غضب الله عليهم) هم جميع طوائف الكفر، وقيل: اليهود خاصة وقيل: المنافقون خاصة، وقال الحسن: اليهود والنصارى، والأول أولى، لأن جميع طوائف الكفر تتصف بأن الله سبحانه غضب عليها، قال ابن عباس في الآية: كان عبد الله بن عمر وزيد بن الحرث يوادان رجلاً من اليهود فأنزل الله هذه الآية.
(قد يئسوا من الآخرة) يرد على هذا أنهم طامعون في ثواب الآخرة، لأنهم يعتقدون أنهم على حق وأن تمسكهم بشريعة موسى ينفعهم فلا يكونوا آيسين، ويمكن أن يقال: المراد باليأس الحرمان أي قد حرموا من ثواب الآخرة و (من) لابتداء الغاية أي أنهم لا يوقنون بالآخرة البتة بسبب كفرهم، قال ابن مسعود: أي لا يؤمنون بها ولا يرجونها (كما يئس الكفار من أصحاب القبور) أي كيأسهم من بعث موتاهم، لاعتقادهم عدم البعث.(14/93)
وقيل: كما يئس الكفار الذين قد ماتوا منهم من خير الآخرة لأنهم قد وقفوا على الحقيقة، وعلموا أنه لا نصيب لهم في الآخرة، فيكون (من) على الوجه الأول ابتدائية، وعلى الثاني بيانية، والأول أولى، وقيل: تبعيضية أي حال كونهم بعض أصحاب القبور، إذ المقبورون فيهم المؤمن والكافر، قال ابن مسعود: كما يئس الكافر إذا مات وعاين ثوابه، واطلع عليه، وقال ابن عباس: هم الكفار أصحاب القبور الذين يئسوا من الآخرة، وعنه قال: من مات من الذين كفروا فقد يئس الأحياء من الذين كفروا أن يرجعوا إليهم أو يبعثهم الله تعالى.(14/94)
سورة الصف
(هي أربع عشرة آية وهي مدنية)
وهو المختار، ونسب إلى الجمهور، قال ابن عباس: نزلت بالمدينة، وعن ابن الزبير مثله، وعن ابن عباس أيضاً نزلت بمكة، ولعل هذا لا يصح عنه، وبه قال عكرمة والحسن وقتادة، وجزم به الزمخشري ويؤيد كونها مدنية ما أخرجه أحمد.
" عن عبد الله بن سلام قال: تذاكرنا أيكم يأتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيسأله: أي الأعمال أحب إلى الله؟ فلم يقم أحد منا فأرسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلينا رجلاً، فجمعنا وقرأ علينا هذه السورة يعني سورة الصف كلها " وأخرجه (1) ابن أبي حاتم، وقال في آخره فنزلت فيهم هذه السورة، وأخرجه أيضاً الترمذي وابن حبان والحاكم وقال: صحيح على شرط الشيخين، والبيهقي في الشعب والسنن.
_________
(1) رواه الحاكم.(14/95)
بسم الله الرحمن الرحيم
سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3) إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ (4) وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (5) وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (6)(14/97)
سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1)
(سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ) قد تقدم الكلام على هذا، ووجه التعبير في بعض السور بلفظ الماضي كهذه السورة، وفي بعضها بالمضارع، وفي بعضها بلفظ الأمر، الإرشاد إلى مشروعية التسبيح في كل الأوقات ماضيها ومستقبلها وحالها، وقد قدمنا نحو هذا في أول سورة الحديد، وأعاد الموصول هنا وفي الحشر والجمعة والتغابن جرياً على الأصل، وأسقطه في الحديد موافقة لقوله فيها: له ملك السموات والأرض.
وقوله: هو الذي خلق السموات والأرض، ولم يقل: سبح لله السموات والأرض وما فيهما، فيكون أكثر مبالغة لأن المراد بالسماء جهة العلو فيشمل السماء وما فيها، وبالأرض جهة السفل فيشمل الأرض وما فيها (وهو العزيز) أي الغالب الذي لا يغالب (الحكيم) في أفعاله وأقواله.(14/97)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2)
(يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون)؟ هذا الاستفهام للتقريع والتوبيخ على جهة الإنكار، أي لم تقولون من الخير ما لا تفعلونه؟ ولم مركبة من اللام الجارة وما الاستفهامية. وحذفت ألفها تخفيفاً لكثرة استعمالها، كما(14/97)
في نظائرها قال النسفي: وهي لام الإضافة داخلة على ما الاستفهامية، كما دخل عليها غيرها من حروف الجر في قولك فيم وفيم ومم وعم وإلام وعلام، وإنما حذفت الألف لأن ما وحرف الجر كشيء واحد، ووقع استعمالهما كثيراً في كلام المستفهم محذوفة الألف، وقد جاء استعمال الأصل قليلاً كقول الشاعر:
على ما قام يشتمني جرير
عن ابن عباس قال: كان ناس من المؤمنين قبل أن يفرض الجهاد يقولون وددنا لو أن الله أخبرنا بأحب الأعمال فنعمل به فأخبر الله نبيه صلى الله عليه وسلم، بأن أحب الأعمال إيمان بالله لا شك فيه، وجهاد أهل معصية الذين خالفوا الإيمان. ولم يقروا به، فلما نزل الجهاد كره ذلك أناس من المؤمنين، وشق عليهم أمره، فقال الله (لم تقولون ما لا تفعلون)؟ قال النخعي: ثلاث آيات في كتاب الله منعتني أن أقضي على الناس، (أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم) (وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه)، وهذه الآية، ثم ذمهم سبحانه على ذلك فقال:(14/98)
كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3)
(كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون) أي عظم ذلك في المقت، وهو أشد البغض، والمقت، والمقاية مصدران يقال: مقيت ومقوت إذا لم يحبه الناس، قال الكسائي: أن تقولوا في موضع رفع لأن كبر فعل بمعنى بئس، ومقتاً منتصب على التمييز، وعلى هذا فيكون في كبر ضمير مبهم مفسر بالنكرة. وأن تقولوا هو المخصوص بالذم، وقيل: إنه قصد بقوله كبر التعجب، وقد عده ابن عصفور من أفعال التعجب المبوب لها في النحو وإليه نحا الزمخشري. وقال: هذا من أفصح الكلام وأبلغه، ومعنى التعجب تعظيم الأمر في قلوب السامعين، لأن التعجب لا يكون إلا من شيء خارج عن نظائره وأشكاله، قال السمين: وهذه قاعدة مطردة، وهي أن كل فعل يجوز التعجب منه، يجوز أن يبنى على فعل بضم العين ويجري مجرى نعم وبئس في جميع الأحكام. وقيل: إنه ليس من أفعال الذم ولا من أفعال(14/98)
التعجب، بل هو مسند إلى (أن تقولوا)، ومقتاً تمييز محول عن الفاعل.
قال ابن عباس: هذه الآية في القتال وحده، وهم قوم كانوا يأتون النبي صلى الله عليه وسلم، فيقول الرجل: قاتلت وضربت بسيفي ولم يفعل فنزلت:(14/99)
إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ (4)
(إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً) قال المفسرون: إن المؤمنين قالوا: وددنا أن الله يخبرنا بأحب الأعمال إليه، حتى نعمله، ولو ذهبت فيه أموالنا وأنفسنا، فأنزل الله هذه الآية، وانتصاب صفاً على المصدرية والمفعول محذوف أي يصفون أنفسهم صفاً، وقيل: هو مصدر في موضع الحال أي صافين أو مصفوفين قرأ الجمهور يقاتلون على البناء للفاعل، وقرأ زيد بن علي على البناء للمفعول، وقرىء يقتلون بالتشديد.
وجملة: (كأنهم بنيان مرصوص) في محل نصب على الحال من فاعل يقاتلون أو من الضمير في صفاً على تقدير أنه مؤول بصافين أو مصفوفين، ومعنى مرصوص ملتزق بعضه ببعض، يقال: رصصت البناء أرصه رصاً إذا ضممت بعضه إلى بعض، وقال الفراء: مرصوص بالرصاص، قال المبرد: هو مأخوذ من رصصت البناء إذا لا يمت بينه، وقاربت حتى يصير كقطعة واحدة، وقيل: هو من الرصيص وهو ضم الأشياء بعضها إلى بعض، والتراص التلاصق، وقيل: المتلائم الأجزاء المستويها، وقال ابن عباس في الآية: مثبث لا يزول، ملصق بعضه على بعض، وقيل: أريد استواء نياتهم في حرب عدوهم، حتى يكونوا في اجتماع الكلمة كالبنيان الذي رص بعضه إلى بعض، والأول أولى.
ولما ذكر تعالى الجهاد المشتمل على المشاق وأنه يحب المقاتلين في سبيله، ذكر قصتي موسى وعيسى تسلية لنبيه صلى الله عليه وسلم، ليصبر على أذى قومه، وبين أنهما أمرا بالتوحيد، وجاهدا في سبيل الله، وجعل العقاب لمن خالفهما مبتدئاً بقصة موسى لتقدمه في الزمان فقال:(14/99)
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (5)
(وإذ قال موسى لقومه) أي أذكر يا محمد لهؤلاء المعرضين وقت قول موسى، ويجوز أن يكون وجه ذكر قصة موسى وعيسى بعد محبة المجاهدين في سبيل الله التحذير لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، أن يفعلوا مع نبيهم ما فعله قوم موسى وعيسى معهما (يا قوم لم تؤذونني) هذا مقول القول، أي لم تؤذونني بمخالفة ما آمركم به من الشرائع التي افترضها الله عليكم، أو بالشتم والانتقاص ومن ذلك رميه بالأدرة، وقد تقدم بيان هذا في سورة الأحزاب.
وجملة: (وقد تعلمون أني رسول الله إليكم) في محل نصب على الحال، وقد لتحقق العلم أو لتأكيده لا للتقريب ولا للتقليل، وصيغة المضارع للدلالة على الاستمرار، والمعنى كيف تؤذونني مع علمكم بذلك؟ والرسول يحترم ويعظم، ولم يبق معكم شك في الرسالة لما قد شاهدتم من المعجزات التي توجب عليكم الاعتراف برسالتي، وتفيدكم العلم بها علماً يقينياً.
(فلما زاغوا) عن الإيمان وأصروا على الزيغ واستمروا عليه (أزاغ الله قلوبهم) عن الهدى وصرفها عن قبول الحق، وقيل: صرفها عن الثواب قال مقاتل: لما عدلوا عن الحق أي بإيذاء نبيهم أمال الله قلوبهم عنه، جزاء بما ارتكبوا، أو المعنى لما تركوا أوامره نزع نور الإيمان من قلوبهم، أو فلما اختاروا الزيغ أزاغ الله قلوبهم، أي خذلهم وحرمهم توفيق اتباع الحق.
(والله لا يهدي القوم الفاسقين) هذه الجملة مقررة لمضمون ما قبلها، قال الزجاج: لا يهدي من سبق في علمه أنه فاسق، والمعنى أنه لا يهدي كل متصف بالفسق وهؤلاء من جملتهم وإن من أسلم منهم لم يكن كافراً في علمه، أي محتوماً عليه بالكفر بحيث يموت عليه.(14/100)
وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (6)
(وإذ قال عيسى بن مريم) معطوف على وإذ قال موسى، معمول لعامله، أو معمول لعامل مقدر معطوف على عامل الظرف الأول (يا بني إسرائيل) ولم يقل: يا قوم كما قال موسى لأنه لا نسب ولا أب له فيهم(14/100)
فيكونوا قومه، وأمه مريم من أشرفهم نسباً (إني رسول الله إليكم) أي أرسلت إليكم بالوصف الذي وصفت به التوراة حال كوني (مصدقاً لما بين يدي من التوراة) لأني لم آتكم بشيء يخالف التوراة، بل هي مشتملة على التبشير بي فكيف تنفرون عني وتخالفونني؟ وذكر أشهر الكتب الذي حكم به النبيون، وأشهر الرسل الذي هو خاتم المرسلين.
(ومبشراً برسول يأتي من بعدي) وإذا كنت كذلك في التصديق والتبشير فلا مقتضى لتكذيبي، وقرىء بعدي بفتح الياء وبإسكانها (اسمه أحمد) هو نبينا صلى الله عليه وسلم، وهو علم منقول من الصفة وهي تحتمل أن تكون مبالغة من الفاعل، فيكون معناها أنه أكثر حمد من غيره، أو من المفعول، فيكون معناها أنه يحمد بما فيه من خصال الخير أكثر مما يحمد غيره وبالاعتبار الأول قدم عيسى هذا الاسم على محمد، لأن كونه حامداً لله سابق على حمد الخلق له لأنهم لم يحمدوه إلا بعد وجوده في الخارج، وحمده لربه كان قبل حمد الناس له وقال الكرخي: إنه إنما خصه بالذكر لأنه في الإنجيل مسمى بهذا الاسم ولأنه في السماء أحمد فذكر باسمه السماوي لأنه أحمد الناس لربه، لأن حمده لربه بما يفتحه الله عليه يوم القيامة من المحامد قبل شفاعته لأمته سابق على حمدهم له تعالى.
أخرج البخاري ومسلم وغيرهما:
" عن جبير بن مطعم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن لي أسماء أنا محمد وأنا أحمد وأنا الحاشر الذي يحشر الله الناس على قدمي، وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر، وأنا العاقب والعاقب الذي ليس بعده نبي "، وفي بعض حواشي البيضاوي أن له أربعة آلاف اسم، وأن نحو سبعين منها من أسمائه تعالى انتهى، والحق أن أسماء الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، توقيفية لا يزاد عليها، ولا يدعى ولا يسمى بغيرها، وفي الخازن تحت هذه الآية:(14/101)
" عن أبي موسى قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، أصحابه أن يأتوا النجاشي، وذكر الحديث، وفيه قال: سمعت النجاشي يقول: أشهد أن محمداً رسول الله، وأنه الذي بشر به عيسى، ولولا ما أنا فيه من الملك وما تحملت من أمر الناس، لأتيته حتى أحمل نعليه "، أخرجه أبو داود.
" وعن عبد الله بن سلام رضي الله عنه قال: مكتوب في التوراة صفة محمد وعيسى ابن مريم يدفن معه، قاك أبو داود المدني: قد بقي في البيت موضع قبر " أخرجه الترمذي، وعن كعب الأحبار أن الحواريين قالوا لعيسى: يا رسول الله هل بعدنا من أمة؟ قال: نعم يأتي بعدكم أمة حكماء علماء أبرار أتقياء، كأنهم في الفقه أنبياء، يرضون من الله باليسير من الرزق، ويرضى الله منهم باليسير من العمل انتهى. ومثله في الخطيب، وقال مكان قوله: يأتي بعدكم أمة لفظ: أمة أحمد.
وقال: " روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: اسمي في التوراة أحيد لأني أحيد أمتي عن النار، واسمي في الزبور الماحي محا الله بي عبدة الأوثان، واسمي في الإنجيل أحمد، وفي القرآن محمد، لأني محمود في أهل السماء والأرض " انتهى، ولينظر في سند هذا الحديث، قال القرطبي: واسم محمد مطابق لمعناه، والله سبحانه وتعالى سماه قبل أن يسمي به نفسه، فهذا علم من أعلام نبوته انتهى، وذكره عيسى عليه السلام وقال: اسمه أحمد وذكره موسى عليه السلام حين قال له ربه تلك أمة أحمد فقال: اللهم اجعلني من أمة محمد فبأحمد ذكره قبل أن يذكره بمحمد، لأن حمده لربه كان قبل حمد الناس له، فلما وجد وبعث كان محمداً بالفعل انتهى من الخطيب.
(تنبيه) قد راجعنا من التفاسير الموجودة عندنا الآن جلها كتفسير أبي السعود والمدارك للنسفي والبيضاوي وحاشيته من الخفاجي والجلالين وحاشية(14/102)
سليمان الجمل عليه والخطيب والخازن وأمثال ذلك في هذا المقام تحت هذه الآية فلم نجد أحداً من هؤلاء الأعلام ذكر هذه البشارة نقلاً عن الإنجيل، ولعل السبب في ذلك عدم رجوعهم إلى الكتب العتيقة والجديدة وتراجمها بالألسنة المختلفة، أو عدم وجودها في تلك الأزمنة أو لعدم الاعتماد عليها لما تطرق من التحريف إليها، ولكنا أحببنا أن نذكر في هذا المقام من النصوص الإنجيلية وغيرها بعضاً من الأدلة الدالة على بشارة عيسى عليه السلام بإتيان رسول من بعده اسمه أحمد، فإن من منن الله سبحانه على عباده المؤمنين ومن تمام حجته على أهل الكتاب أن الإخبارات والأمثلة والبشارات الواردة في حق نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، الناصة على ثبوت نبوته العامة، ورسالته الشاملة للخليقة، كلها توجد كثيراً في تلك الكتب إلى هذا الآن، مع ما وقع فيها من التحريفات اللفظية والمعنوية، كما نطق به الأحاديث والقرآن.
ومن عرف طريق إخبار النبي المتقدم عن النبي المتأخر، ونظر بعين الإنصاف إلى هذه البشارات، وقابلها بالإخبارات التي نقلتها النصارى في عيسى ابن مريم عليهما السلام، جزم بأن هذه الإخبارات عن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، في غاية من القوة، ونهاية من الصحة والشهرة والقبول، وهذه جملة صالحة منها تذكر هنا ونتكلم عليها بما يكشف عن حالها، والدلالة منها على هذا المقصود فأقول وبالله أجول وأصول: فمن تلك البشارات ما في الباب السابع عشر من سفر التكوين:
وعلى إسماعيل أستجيب لك هو ذا أباركه وأكبره، وأكثره جداً، فسيلد اثني عشر رئيساً، وأجعله لشعب كبير انتهى، فقوله: أجعله لشعب كبير مشير إلى محمد صلى الله عليه وسلم، لأنه لم يكن في ولد إسماعيل من كان لشعب كبير غيره وقد قال تعالى ناقلاً دعاء إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام في كلامه المجيد: (رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).(14/103)
قال الرازي: وفي الإصحاح الرابع عشر من إنجيل يوحنا هكذا: وأنا أطلب لكم إلى أبي حتى يمنحكم ويعطيكم الفارقليط حتى يكون معكم إلى الأبد والفارقليط هو روح الحق اليقين: هذا لفظ الإنجيل المنقول إلى العربي.
وذكر في الإصحاح الخامس عشر هذا اللفظ: وأما الفارقليط روح القدس يرسله أبي باسمي ويعلمكم ويمنحكم جميع الأشياء، وهو يذكركم ما قلت لكم، ثم ذكر بعد ذلك بقليل، وإني قد أخبرتكم بهذا قبل أن يكون حتى إذا كان ذلك تؤمنون، وذكر في الإصحاح السادس عشر هكذا، ولكن أقول لكم الآن حقاً يقيناً انطلاقي عنكم خير لكم، فإن لم أنطلق عنكم إلى أبي لم يأتكم الفارقليط وإن انطلقت أرسلته إليكم، فإذا جاء هو يفيد أهل العالم، ويدنيهم ويمنحهم، ويوقفهم على الخطبة والبر والدين، وذكر بعد ذلك بقليل هكذا فإن لي كلاما كثيراً أريد أن أقوله لكم ولكن لا تقدرون على قبوله والاحتفاظ له، ولكن إذا جاء روح الحق إليكم يلهمكم ويؤيدكم بجميع الحق، لأنه ليس يتكلم بدعة من تلقاء نفسه، هذا ما في الإِنجيل انتهى كلام الرازي.
وفي الزبور المائة والتاسع والأربعين: سبحوا الرب تسبيحاً جديداً سبحوه في مجمع الأبرار، فليفرح إسرائيل بخالقه، وبنو صهيون يبتهجون بملكهم، فليسبحوا اسمه بالمصياف بالطبل والمزمار، يرتلوا له لأن الرب يسر بشعبه ويشرف المتواضعين، بالخلاص تفتخر الأبرار بالمجد، ويبتهجون على مضاجعهم ترفيع الله في حلوقهم، وسيوف ذات فمين في أياديهم، ليضعوا انتقاماً في الأمم وتوبيخات في الشعوب، ليقيدوا ملوكهم بالقيود وأشرافهم بالأغلال من حديد، ليضعوا بهم حكماً مكتوباً، هذا المجد يكون لجميع الأبرار اهـ.
وهذا الزبور عبر عن المبشر به بالملك، وعن مطيعيه بالأبرار، وصدق(14/104)
جميع هذه الصفات على محمد صلى الله عليه وسلم، وأصحابه رضي الله عنهم، ولا ينكر ذلك إلا من عمى الله عين بصيرته: وخذله عن سبيل هدايته، ومنها ما في إنجيل يوحنا وترجمته بالعربية: إن كنتم تحبوني فحافظوا على كلامي وأنا ألتمس الآب فيرسل إليكم فارقليطاء آخر ليمكث معكم إلى أبد الآبدين انتهى، وهذا من أعظم الدلائل الدالة على نبوته صلى الله عليه وسلم، وقد أعرض عنه النصارى إعراضاً كلياً.
والفارقليطاء، عجمية يونانية معناه الشافع والواسطة والمسلي والممجد وهذه المعاني تدل على الممدوح، بعضها بالمطابقة وبعضها بالتضمن وبعضها بالالتزام فإن التمجيد مرادف للحمد، والثلاثة الأخر مما توجب الحمد. فهذا هو معنى قوله سبحانه (وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ)، والدليل على ذلك وصفه بالمكث إلى الأبد والدوام، فإنه لم يأت بعد عيسى عليه السلام أحد يتصف بهذه الصفة غيره، وفي التنكير دلالة على أن هذا الفارقليطاء، الذي هو الآن معكم أي المسيح زمني ولا يبقى إلى الأبد والذي يأتي بعده أبدي.
وإن فسره النصارى بالروح القدس فهذا خطأ لأن الروح القدس لم يبق معهم بعد يوم الدار ولا يوجد معهم في زماننا هذا غير روح إبليس شيء فيكون عدولهم عن اتباع أمره هو محافظتهم عليه، وإلا فإن كان الفارقليطاء عبارة عن الروح القدس الذي نزل على الحواريين يوم الدار لاستطاع أساقفة النصارى وقسوسهم أن يفعلوا الخوارق التي فعل المسيح، لكنهم لا يستطيعون على شيء من ذلك، فالفارقليطاء ليس بعبارة عن الروح القدس الذي نزل عليهم يوم الدار، أما المقدم فلأن الحواريين كانوا يعملون الخوارق التي كان يفعلها المسيح، وأما التالي فلأنه لم ينقل عنهم لا في الغابر ولا في الحال.
وأما قولنا: إن محمداً صلى الله عليه وسلم، هو المتصف بالمكث إلى(14/105)
الأبد فلأنه لم يأت بعد محمد صلى الله عليه وسلم، من يدعي النبوة، ويظهر المعجزة، فانحصرت فيه حتى يأتي غيره، ومعنى الدوام هو بقاء ملته على دعائهما الأصلية، وعدم تحريف كتابه العزيز، بل وسنته المطهرة، وعدم اختلال شريعته الحقة الصادقة، ولا ينقض ذلك باختلاف المذاهب، لأن هذا الاختلاف مما يتعلق بالفروع، وفي رومية وأشعياء: ها أنا واضع في صهيون حجرة عثرة، وصخرة شك، وكل من يؤمن بها لا يخجل انتهى. وتقييد عدم الخجالة بالإِيمان بها فيه دلالة على صحة نبوته صلى الله عليه وسلم، وأخذه النصارى وأولوه على عادتهم، واستدلوا به على ربوبية المسيح، وليس بشيء وصهيون جبل في أورشليم، وقيل: بل عقب: أسست عليها أورشليم، والحجرة والصخرة والعثرة والشك من المترادفات.
وسياق الكلام في رومية أن بولوس كان يعظ بعيسى، ويوبخ اليهود على عدم إيمانهم به وهو كلام طويل آخره قوله: وأما إسرائيل فإنه قد طلب شريعة العدل، ولم يظفر بها، ولم لم يظفر بها؟ لأنهم لم يطلبوها بالإِيمان، بل بأعمال الشريعة، وذلك لأنهم عثروا بحجرة كما حررها آنذا واضع حجرة تمعثر، وصخرة شك، وكل من يؤمن بها لا يخجل. يريد بذلك أن بني إسرائيل كانوا يطلبون الهدى فلم يصيبوه، لأنهم كانوا يطلبونه بمحض الأعمال لا بالإِيمان، وهذا يدل على أن غاية شريعة عيسى لم تكن إلا بالقوة النظرية، وسبب عدم صلبهم إياه بالإِيمان لأنهم عثروا بعيسى لأنهم لم يعرفوه، واستدل على عدم إيمانهم به بقول أشعياء، وهذا لا يدل على ربوبيته، بل ولا على نبوته.
وسياقه في أشعياء هو قوله: ألا لا تتكلموا على من تتكلم عليه هذه الأمة، ولا تخشوا ما يخشونه، ولا تخافوا، وقدسّوا رب الجنود وحده، واخشوه وخافوا منه، لأنه هو المقدس، وهو حجرة العثرة، وصخرة الشك، وهو لأهل بيت إسرائيل فخ، ولكنه أورشليم مصيدة، وسيعثرون ويسقطون وينكسرون ويقيدون ويؤسرون، فاطووا الشهادة واختموا الصحف التي عند(14/106)
تلاميذي، وأنا سأنتظر الرب الذي يغطي وجهه عن أهل بيت إسرائيل وأترقبه، وها أنا والأولاد الذين وهب لي ربي علامة عجيبة في إسرائيل لرب الجنود الذي يسكن في صهيون انتهى.
وهذا لا دلالة فيه على عيسى عليه السلام، لأن أول صفاته رب الجنود ولم يكن المسيح كذلك، والصفة الثانية كونه حجرة عثرة ولا تقل إنهم قد عثروا بالمسيح أي شكوا فيه لأن مطلق الشك لا يكفي في صدقه عليه لقوله: يعثرون ويسقطون الخ والصفة الثالثة كونه يغطي وجهه عن إسرائيل وابن مريم كان مختصاً بدعوتهم، كما صرح به في متى، فلا يصدق عليه، والصفة الرابعة كونه ناسخاً لما قبله من الشرائع كلها لقوله: اطووا الشهادة واختموا الصحف وعيسى بن مريم يقول كما في متّى: وهؤلاء الاثنا عشر أرسلهم عيسى وأمرهم وهو يقول: لا تنطلقوا إلى طريق العوام ولا تدخلوا في أحد أمصار السامريين بل اذهبوا إلى غنم بيت إسرائيل الضالة، ويقول كما في متى أيضاًً، لكنك إن أردت أن تلج الحياة فحافظ على الأحكام الخ، وهذه كلها صريحة في خصوصية نبوته، وعدم نسخ ناموس موسى، فلا يصدق عليه، فلا دلالة له عليه.
وإذا فهمت هذا فقد علمت أن غاية هذا الفصل التبشير ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم، وتقدير كلام أشعياء لا تكلموا علي، أي تسبوا وترفضوا من تتكلم عليه، أي من تسبه وترفضه هذه الأمة أي اليهود، ولا تخشوا من يخشوه، أي لا تتولوا من يتولوه ولا تعادوا من يعادوه، بل قدسوا استثناء منقطع من لا تتكلموا واخشوا رب الجنود وحده، واخشوه وخافوا منه، أي لا تحذروا سلاطين اليونانيين والفلسطينيين والرومانيين والمدينيين ولا تقدسوهم، بل اجعلوا جميع اتكالكم على رب الجنود، أي الملك العادل، والنبي الأمي الكامل لأنه أي رب الجنود، والرب بمعنى المربي والمولى، يقال: هو رب النعمة أي مفيضها، ورب البيت أي مولاه، وإذا أضيف إلى الضمير المتصل لا يكون إلا بمعنى المعبود على الأصح هو المقدس فقط لا غيره، لأن تعريف(14/107)
الخير يفيد الحصر. وهو حجرة العثرة، عطف على هو المقدس وخبر لأن وصخرة الشك خبر ثالث لأن أي رب الجنود هذا هو المنحصرة فيه هذه الصفات ولجميع الناس.
أما التقديس فلأنه لم يرتكب قبل نبوته ما يوجب الثلب، وأما العثرة والشك فلأنه من أولاد هاجر، ولم يبعث منهم قبله نبي، وأما أيوب فمن أعراب مدين وأما خالد بن سنان عند من يقول بنبوته فمن أعراب سامرة، وهو لأهل بيت إسرائيل فخ هذه صفة أخرى له صلى الله عليه وسلم، وهي أنه فخ يصيدهم ويأسرهم، فكما فعل بهم الفلسطينيون هكذا يفعل بهم هو أيضاًً، ولسكنة أورشليم مصيدة المصيدة هي الشبكة التي تصيد كل ما يوكر عليها مرة واحدة بخلاف الفخ فإنه لا يصيد مما يوكر عليه إلا ما ينقر العتلة ولا يكون إلا واحداً فكان مراد أشعياء عليه السلام أنه يتسلط على اليهود ويقهرهم واحداً بعد واحد، لأنهم مشتتون.
وأما البلد فإنه يتسلط عليها مرة واحدة، وسيعثرون أي يشكون فيه ويسقطون إذا شكوا وينكسرون إذا سقطوا، ويقيدون إذا انكسروا إلا أنهم لا يستطيعون الفرار ويؤسرون إذا قيدوا فاطووا الشهادة التي عندكم أيها الأنبياء، واختموا الصحف أي أسفار التوراة، ونبوات الأنبياء التي عند تلاميذي أي بني إسرائيل لأنها ستنسخ وتترك إذا ظهر رب الجنود صلى الله عليه وسلم، ولا يحتاج إليها بعد، وأنا سأنتظر الرب الذي يغطي وجهه عن إسرائيل، وأترقبه، يعني به محمداً صلى الله عليه وسلم، يقول: إني لا أنتظر من يأتي قبله يعني عيسى الذي أشار إليه في غير هذا المكان لأنه نبي لبني إسرائيل، لكني أنتظر الذي يغطي وجهه عنهم وهو محمد صلى الله عليه وسلم، ولا يقال: إن نبوته صلى الله عليه وسلم، عامة، والعامة تلزم منها دعوة الكل، فكيف يغطي وجهه عنهم؟
لأن المراد بتغطية الوجه عدم ظهوره منهم واستقامته في ملكهم، ثم(14/108)
قال: وها أنا والأولاد يعني الأتقياء من بني إسرائيل، وإضافة الرب إلى الضمير المتصل إشارة إلى المعبود جل اسمه الذين وهبهم لي ربي، أي أعطاني إياهم ووفقهم لاتباع دعوتي علامة عجيبة في إسرائيل، أي نكون نحن علامة لهم حتى يعرفوا ما ضلوا عنه، ويندموا على ما فعلوه، ولرب الجنود الذي يسكن في صهيون إشارة إلى المهدي لأنه وصف محمداً صلى الله عليه وسلم، برب الجنود الذي يغطي وجهه عن إسرائيل فإذا كان كذلك لا يمكن أن يسكن في صهيون، وإلى هذا ذهب أكثر العلماء وصرحوا بأن المهدي يستقر في أورشليم ويعمرها بأموال الهند وفي هذا البرهان إقناع كامل لليهود والنصارى والمسلمين جميعاً.
أو المراد بالسكون في صهيون سكون دينه واستقرار أهل ملته فيه، وهذا أوضح مما قبله، وفي سفر التكوين: وأما أنت يا يهوذا فإنك أنت الذي تمدحه إخوته وستكون يدك في عنق أعدائك وستجثو لك أولاد أبيك ألا فإن القضيب لن ينصرف عن يهوذا، ولا واضعي الناموس من تحت قدميه حتى يأتي شيلو، وتصير إليه عوام الناس، وأبطأ إلى الجفن جحشه، وإلى منتخب الكروم أتانه غاسلاً بالخمر قميصه، وبدم الكرم لباسه، وسوف تكون عيناه أحمر من الخمر وأسنانه أبيض من اللبن. اهـ.
وهذا نص على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وأوله النصارى وقالوا: إن شيلو هو المسيح ابن مريم، وقال اليهود: بل هو في شأن المسيح المزمع بالإِتيان، وسياق دعوى النصارى هو أن هذا الفصل في سفر التكوين يتضمن دعاء يعقوب لبنيه، وأنه تنبأ لكل واحد منهم بما يناسب شأنه، وتنبأ ليهوذا بأن السلطنة ستستقر في أولاده حتى يخرج شيلو، ووصفه بهذه الصفات التي أشار إليها في غير هذا المكان، والحق أنه يجيز صحة النهوض، وليس فيه ريبة إلا أن غايته ظهور محمد صلى الله عليه وسلم، لأنه قيد زوال الملك والنبوة من بني إسرائيل بظهور عيسى، ومن بعد ظهوره إلى هذا الآن لم(14/109)
يستقل منهم ملك، ولم يظهر فيهم نبي، وانتقلت السلطنة والنبوة إلى إسماعيل.
وقال اليهود: إن شيلو الذي هو عبارة عن المسيح المزمع بالإِتيان، وأنه لم يأت بعد لعدم وقوع الشرط لأن شرط ظهوره زوال السلطنة والنبوة منهم وقد زالت النبوة، لكن السلطنة لم تزل لأن بعض الممالك البعيدة عنا يوجد فيها منهم ملوك لم تبلغ إلينا أخبارهم، وأجيب بأن الواو في قوله: لا تزول السلطنة ولا واضعي الناموس للجمعية، فلا يمكن زوال أحدهما وبقاء الثاني وأن الأرض كلها محددة من مجاري 65 درجة من الجنوب إلى جزيرة مندوسة ومن 81 درجة من الشمال من جزيرة سلامة إلى آخر ممالك الفرنج، وليس فيها بقعة مجهولة، وكذا الجزائر فالاعتراف بأن فيها مملكة تكون فيها ملوك وأمم مجهولة محمولة على الجهالة وهو ممنوع.
فمن أين حصل لكم العلم بهذا المجهول؟ فينتقض اعتراضهم، وإذا تحقق لك ذلك، اعلم أنه عليه السلام قيد زوال السلطنة والنبوة لظهور شيلو وصيرورة عوام الناس إليه وقوله حتى يأتي شيلو يدل على أنه لا بد للملك والنبوة بعد ظهوره أن تزولا من اليهود وتنتقلا إلى غيرهم وهم العرب، وقال اليهود: إن كان صحة ظهور شيلو التجاء عوام الناس إليه فلا يمكن أن يظهر شيلو، ولا تلجىء عوام الناس إليه، لكن عيسى ابن مريم قد خرج ولم تلتجىء عوام الناس إليه، فعيسى ابن مريم ليس بشيلو.
وأجيب عن ذلك بمنع الصغرى، لأن قوله: وتصير عوام الناس إليه أي إلى أمره وكلامه، وقد اتبع عوام الناس أمره في تبشيره بمحمد صلى الله عليه وسلم، وفيه إشارة إلى أن الذين ينقادون إلى شريعته صلى الله عليه وسلم، هم عوام الناس، أي ليسوا بيهود كالعرب والفرس والروم والهنود والسنود وحبشة وبعض أهل الصين، وأما اليهود فمنهم من يؤمن به، ويصير إلى كلامه، ويتبع محمداً صلى الله عليه وسلم، ومنهم من يمكث راكساً في(14/110)
بحيرة جهله وهواه، لأن إثبات الشيء لا ينفي ما عداه، فخلاصة هذا أن موسى عليه السلام قد نقل عن يعقوب أنه قال: لا تزول السلطنة والنبوة عن أولاد يهودا حتى يخرج شيلو ويبشر بمحمد صلى الله عليه وسلم، ويؤمن به عوام الناس، ويستعبروا كلامه، وبعد ذلك تستقر المملكة والنبوة المتباينتان في قبيلة أخرى، وهي العرب، لما مر في هذا البرهان، وفي اجتماع كلتا الصفتين في ذاته صلى الله عليه وسلم إشارة إلى تبجيله.
وفي نشيد الإنشاد: هذا صوت محبوبي فإنه أتى يقفز على الجبال ويظفر على الأتلال، إن محبوبي كالغزال، أو كخشف الأوعال، هذا هو واقف خلف جدارنا يطل من الكوة، ويظهر نفسه من الشباك، فكلمتني محبوبتي وقالت لي: قم يا محبوبي وجميلي، وتعال، فإن الشتاء قد مضى، والمطر قد انقضى، وظهر الزهر على الأرض، وقرب زمان الترنم، وقد سمع صوت اليمامة في أرضنا، وأبدت الظمخة تبنها، والكرمة عنبها الغض، فقم يا محبوبي وجميلي وتعال. انتهى.
وهذا من عمدة الأمثال التي تخص محمداً صلى الله عليه وسلم، وتبشر به، وقد غفل عنه اليهود والنصارى ولم يتوجهوا له ولا لما قبله وبعده من هذا السفر، والحق أحق أن يعترف به، فإن جميع آياته تتعلق بمحمد صلى الله عليه وسلم، ولكني اكتفيت منه بهذا المثال ونقلت لفظة محبوبي من الأصل الانكتاري على ما كانت عليه، وهو لفظ لو بفتح اللام وسكون الواو الانكتارية الساكنة وهي تارة تطلق على العشق وتارة على المعشوق، وكان الكاتودكيون قد ترجموها بابن أخي وأجمعوا على ذلك امتثالاً لأمر البابا سركيس، وهي في الأصل العبراني دوو كفلس بإمالة الواو، ومعناها العم أخو الأب كما ورد في أشمويل، وبنو العم كما ورد في الخروج، وابن العم، كما ورد في أرميا، ولم يفسرها أحد من اليهود بابن الأخ فعلى ترجمة الانكتاريين يكون محبوب سليمان عليه السلام محمداً صلى الله عليه وسلم، لأنه تنبىء عليه ولأنه خاتم الرسل، وعلى ترجمة الباب سركيس يكون ابن أخيه لأن محمداً صلى الله(14/111)
عليه وسلم من أولاد إسماعيل، وسليمان من أولاد إسحاق وهما ابنا إبراهيم عليهم السلام، فيكون كل واحد من محمد وسليمان عليهما السلام ابن أخ لصاحبه، وعلى لغة اليهود فعلى الأول فيكون سليمان قد عبر بنفسه عن بني إسرائيل وعن محمد صلى الله عليه وسلم بنفس إسماعيل فيكون عمه، وعلى الثاني يكون قد عبر عن نفسه ببني إسرائيل وعن محمد صلى الله عليه وسلم ببني إسماعيل فيكون قد عبر عنه بأولاد عمه، وعلى الثالث يكون قد عبر عن نفسه ببني إسرائيل، وعن محمد صلى الله عليه وسلم بابن إسماعيل فيكون ابن عمه، وتأنيث الضمير لأنه عبر عن نفسه بالقبيلة.
والمعنى أن هذا صوت محبوبي يسمع فاسمعوه، فإنه أتى يقفز على الجبال لأنه تولد في الحجاز، وهي أرض وعرة كثيرة الجبال، ويظفر على الأتلال لأنه ربي في البر مع بني تميم، إن محبوبي كالغزال، جملة استئنافية تتضمن بعض صفاته صلى الله عليه وسلم، وذلك إشارة إلى أنه كان طويل العنق أسمر العينين، أو كخشف الأوعال عطف على كالغزال وتأكيد لها، هذا هو واقف خلف جدارنا، هذا للتحضيض في الاصطفاء لكلامه، وخلف جدارنا إشارة إلى قرب زمانه أو إلى ضرورة إتيانه، يطل من الكوة ويظهر نفسه من الشباك، إشارة إلى علو مكانه وسمو مقامه، وإلى أنه يأتي إلى بلدهم لكن لا يتوقف فيها، بل يكون فيها كالذي ينظر من الشباك، وفيه إشارة إلى المعراج الجسماني لأن قوله: يطل وينظر فيهما إشارة إلى غاية انتهاء النظر، وهو يدل على التحدُّد الجسماني وعلى ارتفاع مكان الناظر، وفيه رد على من ينكر معراجه بالجسم.
فتكلمت محبوبتي وقالت، اطراد من المتكلم إلى المخاطب، والتأنيث باعتبار القبيلة أو البلد، قم يا محبوبي وجميلي وتعال، إظهار للرغبة في ظهوره صلى الله عليه وسلم، فإن الشتاء قد مضى، يريد بالشتاء مدة ما بينهما من الزمان، أو زمان الفترة بينه وبين عيسى عليه السلام، والمطر قد انقضى،(14/112)
يريد به الحاجب عن الظهور إما ما هو من جهة غلبة الجهل والفساد، أو ما هو من جهة تغير أحوال الخلق وانتقالهم من العيافة إلى السذاجة، وذلك لأن المطر يمنع الرجل من الخروج من كنه، وظهر الزهر على الربى، ترغيب له في الإتيان، وبيان نهي القوم لقبول دعوته، وقرب زمان الترنم، تأكيد لقوله: ظهر الزهر إلخ، وفيه إشارة إلى بيان رغبة الناس في تلاوة المصحف، وذلك مما لم يتفق لأحد من الأنبياء، فإني لم أر أمة من الأمم يتعاطون حفظ ناموسهم على الخاطر كما يفعل المسلمون من حفظ القرآن، وقد سمع صوت اليمامة في أرضنا الخ، هذا كله ماض بمعنى المستقبل الضروري الوقوع، فقم يا محبوبي وجميلي وتعال.
هذا كله ظاهر الدلالة على الطلب، فإن قلت: يمكن أن لا يكون مطلب سليمان من هذا التنبيء محمداً صلى الله عليه وسلم، قلت: فحينئذ إما أن يكون كلامه يخص نبياً آخر أو معشوقاً مجازياً أو يكون مهملاً، ولا سبيل إلى كل واحد منها أما إلى الشق الأخير فلأنه كلام الله أو كلام النبي، والإهمال ممتنع عليهما أما على الأول فظاهر، وأما على الثاني فلأن النبي رجل يختصه الله بتبليغ كلامه من بين أهل عصره، فيجب أن يكون عاقلاً، والعاقل لا يتكلم بالمهمل، وإلا فإذا حصل الشك في صحة بعض أنبائه يفسد اليقين بها في الكل، ولأن أكثر القوم ذهبوا إلى عصمة الأنبياء مما هو يخل بالعصمة، وأما أنه لا سبيل إلى كونه معشوقاً مجازياً، فلأنه لا يجوز للنبي أن يدخل سائر كلامه في الوحي، وإن فعله فقد عصى، ولأنه إما أن يكون ذكراً أو أنثى وعلى كلا الوجهين يلزم منه تفسيق النبي وهو باطل.
وأما أنه لا سبيل إلى كونه نبياً آخر فلوجوه:
الأول أن النصوص المشتبهة قد أخذها القوم من اليهود والنصارى، ولم يبق إلا ما شبهة فيه.
والثاني أنه لم يتنبأ إلا على اثنين فقط، وهما يحيى بن زكريا وعيسى ابن(14/113)
مريم، والمثال لا يصدق على كل واحد منهما، لأن صفاته لا توجد فيهما، فلا يكون إلا محمداً صلى الله عليه وسلم، جعلني الله وإياك ممن يقتص آثاره، ويتمسك بأخباره.
وفي سفر الرؤيا ما ترجمته: من كانت له أذن سامعة فليستمع ما تقول الروح للكنائس، إني سأطعم المظفر من شجرة الحياة التي هي في جنة الله، وفيه: من كانت له أذن سامعة فليستمع ما تقول الروح للكنائس، فإن المظفر لا تظهره الموتة الثانية. اهـ.
وفيه أيضاًً: من كانت له أذن سامعة فليستمع ما تقول الروح للكنائس إني سأطعم المظفر من المن المكنون، وأعطيه حجرة بيضاء مكتوباً عليها اسم مرتجل لا يفهمه إلا من يناله، وفيه أيضاًً: وسأعطي المظفر الذي يحفظ جميع أفعالي سلطاناً على الأمم فيرعاهم بقضيب من حديد، ويسحقهم كآنية الفخار كما أخذت أنا من أبي وأعطيه أيضاًً نجمة الصبح، فمن كانت له أذن سامعة فليستمع ما تقول الروح للكنائس. وفيه: المظفر يلبس ثياباً بيضاء، ولا أمحو اسمه من سفر الحياة، وأعترف باسمه أمام أبي وأمام ملائكته، فمن كانت له أذن سامعة فليستمع ما تقول الروح للكنائس. وفيه: المظفر أجعله عموداً في هيكل الإلهي، ولا يخرج خارجاً، وأكتب عليه اسم إلهي واسم مدينة إلهي أورشليم الجديدة التي نزلت من السماء من عند إلهي، وأكتب عليه اسمي الجديد فمن كانت له أذن سامعة فليستمع ما تقول الروح للكنائس. وفيه: المظفر أهب له الجلوس معي على كرسي كما ظفرت أنا أيضاًً، وجلست مع أبي على كرسيه، فمن كانت له أذن سامعة فليستمع ما تقول الروح للكنائس. أهـ.
وهذه سبعة بشارات متواترة مترادفة في الإصحاح الأولى والثانية من رؤيا يوحنا بن زبدي تدل دلالة صريحة على بعثة محمد صلى الله عليه وسلم وعلى(14/114)
نبوته العامة وقبلته الجديدة وعلو درجته، تغافل النصارى عنها وأولوها تأويلات سخيفة، وتسويلات واهية، لا تستقيم على شيء منها حجة ولا يثبت برهان، وكان الأحرى بها أن يكتب كل واحد منها على حدة. لكني أعرضت عن ذلك وكتبتها في موضع واحد، روماً للاختصار، وأحلت تفصيلها على الكتب الكبار.
وقوله: فمن كانت له أذن سامعة الخ مثل قوله سبحانه وتعالى في سورة المرسلات: (ويل يومئذ للمكذبين) حيث تكررت مرات، وكان يوحنا في جزيرة أطموس في يوم الأحد فأتاه الوحي وحل عليه روح القدس، وسمع صوتاً عظيماً يقول له: إني أنا الألف والياء الأول والآخر، فاكتب ما تراه وأرسله إلى الكنائس السبع المشهورة. أعني كنيسة أفسيس وكنيسة سيمرنا وبيرغاموس وشاتيرا وسارديس دفيلا ولفية ولاذقية، وفي آخر كل كتاب كتب إلى الكنائس السبع قوله: فمن كانت له أذن سامعة الخ، وهذا ملخص الفصول المشتملة على الحجج، وإن أردت الاطلاع على العبارة جميعها فارجع إلى سفر الرؤيا وهذه الرؤيا هي ما يعتقده النصارى رؤيا رآها يوحنا تشتمل على الأخبار التي حدثت في العالم من ارتفاع المسيح إلى بعثة محمد صلى الله عليه وسلم، بل من وفاته إلى ظهور المهدي، ومن وفاة المهدي إلى قيام الساعة، ولا شك أنها تدل على ذلك وأنها كلام الله لكني لست بمطمئن من تحريفها، ومع ذلك لا شك أن أماكن الاستدلال فيها قائمة على دعائمها الأصلية.
فمن جملة ذلك هذه الآيات الشريفة ولفظ المظفر في الأصل اليوناني يدل على الغالب والغازي والقاهر في الحرب، والموتة الثانية عبارة عند النصارى عن موت الإنسان في الذنب، أي انهماكه فيه لا غير، وأما البعث فإنهم يعترفون بقيام جميع الناس عند ظهور المسيح، وبخلود أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار، ولم يتعرضوا للبحث في هذا المقام، وعند اليهود(14/115)
عبارة عن الموتة التي لا تكون بعدها موتة، وأورشليم الجديدة عبارة عن مكة المعظمة على بادىء الرأي، لقوله: النازلة من السماء لأن أهل الإسلام قد ذهبوا إلى أن قوله أم القرى ومن حولها يفيد العموم، وقالوا: إن الحجر الأسود كان قد نزل من السماء أشد بياضاً من اللبن فسودته خطايا بني آدم، وقد رواه الترمذي وصححه، فيكون قوله: أورشليم الجديدة النازلة من السماء كناية عن مكة، وهذا من قبيل إقامة الظرف مقام المظروف، وهي في جزيرة العرب قريبة من ساحل البحر الأحمر في مجاري طول 40 درجة من الطول الجديد وعرض 20 درجة من الشمال.
وفي سفر الرؤيا: ورأيت سماء جديدة وأرضاً جديدة لأن السماء الأولى والأرض الأولى قد جازتا، والبحر لن يوجد بعد، وأنا يوحنا رأيت المدينة المقدسة أورشليم الجديدة، نازلة من السماء، مهيأة كعروس مزينة لزوجها انتهى.
وهذا من أجل البشارات الدالة على نبوته صلى الله عليه وسلم، لأن جدة الأرض والسماء تدل على تحول الأحوال، وتبدل الأمثال، وإلا فلا معنى لزوالهما قبل يوم القيامة، ولا معنى لوجود غيرهما وأما البحر فإنه قد كنى به عن الضلال الذي كان يعرض في ذلك الزمان من بعض كهنة اليهود، فإنهم لم يزالوا يدعون النبوة بالكذب وهم أول من خاض في ذلك البحر. وقوله: كالعروس الخ بيان لحسن انتظام مكة شرفها الله وزوجها هو رب الجنود صلى الله عليه وسلم.
وفي أشعيا: وستخرج من قنس الأسى عصى، وينبت من عروقه غصن وستستقر عليه روح الرب أعني روح الحكمة والمعرفة والروح الشورى والعدل وروح العلم وخشية الله وتجعله ذا فكرة وقادة مستقيماً في خشية الرب فلا يقضي بمحاباة الوجوه ولا يدين بمجرد السمع. انتهى. وهذه صفات رب(14/116)
الجنود صلى الله عليه وسلم، بأبي هو وأمي.
وفي سفر الرؤيا: فأخذتني الروح إلى جبل عظيم شامخ وأرتني المدينة العظيمة أورشليم المقدسة نازلة من السماء من عند الله وفيها مجد الله وضوؤها كالحجر الكريم كحجر اليشم والبلور وكان لها سور عظيم عال واثنا عشر باباً وعلى الأبواب اثنا عشر ملكاً وكان قد كتب عليها أسماء أسباط إسرائيل الاثني عشر انتهى.
ولا تأويل لهذا النص بحيث أن يدل على غير مكة شرفها الله تعالى، والمراد بمجد الله بعثة محمد صلى الله عليه وسلم، وفيه أيضاًً: ولسور المدينة اثنا عشر أساساً وعليها أسماء رسل الحمل الاثني عشر انتهى. وهذا تأكيد صريح لما قبله والاثنا عشر الأساس لعلهم الخلفاء الاثنا عشر من قريش، وفيه إشارة إلى انقياد جميع المذاهب العيسوية لشريعة خير البرية صلى الله عليهم وسلم، ولو بعد حين، وبعد ظهور المهدي، ونزول عيسى عليه السلام، وهذه الرؤية طويلة جداً وفيها دلائل على صحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وأحوال أمته المرحومة، ولكل جملة منها تأويل حسن، ومحمل صريح، ومعنى صحيح، بحيث لا تدل إلا على هذه الأمة ونبيها صلى الله عليه وسلم.
وقد أنزل بعضهم هذه الرؤيا على ما يوافق مذاهب الإمامية ولا عبرة به، لأن التبشير إنما وقع في الكتب القديمة ببعثة محمد النذير البشير صلى الله عليه وسلم، لا بغيره من عترته صلى الله عليه وسلم الكائنة إلى يوم القيامة إلا ما ورد في القرآن الكريم من كون مثل أصحابه عموماً في التوراة والإنجيل، لا على الخصوص، فلا دلالة لها على شيء من ذلك في تلك النصوص، وقد بلغ بعض الناس هذه البشارات إلى ثلاث وعشرين بشارة، وفي بعضها نظر واضح، وبعضهم إلى ثمان عشرة بشارة منها ما تقدم في هذا المقام، وفي(14/117)
غيره من هذا التفسير، وجلها صحيحة، ويظهر من الرجوع إلى أصول الكتب نقادة ألفاظ تراجمها نقادة عظيمة لا ينبغي مثلها في الكتب الإلهية المقدسة، ولذلك لا ترى نسخة من نسخ التوراة والإنجيل المطبوعة. لهذا العهد أو لما قبله من الزمان الكثير إلا وهي مختلفة العبارة عربية كانت أو افرنجية أو فارسية أو هندية أو تركية وهذا التفاوت والاختلاف يقضي بالتحريف والتصحيف، ويقضي منه العجب، ولا عجب على الحقيقة فإن الله سبحانه، وتعالى قد أخبرنا بذلك من قبل أن نقف عليه وننظر فيه بعين الإمعان.
وقد مَنَّ الله سبحانه وتعالى في هذا الزمان على عباده المؤمنين حيث انتهض عصابة منهم للرد على النصارى باللسان والبيان، والعمل بالأركان، وأفحموهم إفحاماً يبقى عاراً عليهم إلى آخر الدهر إن شاء الله تعالى، وفن البشارات أيضاًً ما في ترجمة القرآن المجيد للقسيس سيل نقله من إنجيل برنابا ولفظه: اعلم يا برنابا أن الذنب وإن كان صغيراً يجزي الله عليه، لأن الله غير راض عن الذنب، ولما حبتني أمي وتلاميذي لأجل الدنيا أسخط الله لأجل هذا الأمر، وأراد باقتضاء عدله أن يجزيهم في هذا العالم على هذه العنيدة غير اللائقة، ليحصل لهم النجاة من عذاب جهنم، ولا يكون لهم أذية هناك. وإني وإن كنت بريئاً لكن بعض الناس لما قالوا في حقي: إنه الله وابن الله هذا القول، واقتضت مشيئته بأن لا تضحك الشياطين يوم القيامة علي، ولا يستهزئون بي، فاستحسن بمقتضى لطفه ورحمته أن يكون الضحك والاستهزاء في الدنيا بسبب موت يهوذا، ويظن كل شخص أني صلبت لكن هذه الإهانة والاستهزاء تبقيان إلى أن يجيء محمد رسول الله، فإذا جاء في الدنيا ينبه كل مؤمن على هذا الغلط، وترتفع هذه الشبهة من قلوب الناس انتهى.
وهذه بشارة صريحة عظيمة، وإن قال النصارى: إن هذا الإنجيل رده مجالس علمائنا المتقدمين، وفي ترجمة كتاب أشعياء باللسان الأرمني:(14/118)
سبحوا الله تسبيحاً جديداً وأثر سلطنته على ظهره واسمه أحمد، وفي سفر الاستثناء قال: جاء الرب من سيناء، وأشرق لنا من ساعير، واستعلن من جبل فاران ومعه ألوف الأطهار في يمينه سنة من نار اهـ.
وفاران جبل بمكة وبحيئُه من سيناء إعطاؤه التوراة لموسى، وإشراقه من ساعير إعطاؤه الإنجيل لعيسى، واستعلانه من جبل فاران إنزاله القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم، ويؤيده ما في سفر التكوين في حال إسماعيل عليه السلام: وسكن برية فاران وأخذت له أمه امرأة من أرض مصر انتهى.
ولا شك أن إسماعيل كان ساكناً بمكة المكرمة، زاد الله شرفها، إلى غير ذلك من الأدلة الصريحة التي ينكرها النصارى، ويؤولونها على غير محاملها، وكل من أسلم من علماء أهل الكتاب اليهود والنصارى في القرون الأولى، بل إلى الآن شهد بوجود البشارات المحمدية على صاحبها أفضل الصلاة والتحية في كتب العهدين العتيق والجديد.
وهكذا اعترف بصحة نبوته صلى الله عليه وسلم وعموم رسالته من حمله الشقاء على عدم الإسلام، وقبول الإيمان، كهرقل عظيم الروم، ومقوقس صاحب مصر، وابن صوريا، وحُيَيُّ بن أخطب، وأبو ياسر بن أخطب، وأضرابهم، والله سبحانه وتعالى يتم نوره ولو كره الكافرون وفي هذا المقدار كفاية لمن له هداية.
(فلما جاءهم) عيسى (بالبينات) أي بالمعجزات والآيات (قالوا هذا) الذي جاءنا به (سحر مبين) أي واضح ظاهر، وقيل: المراد محمد صلى الله عليه وسلم لما جاءهم بذلك، قالوا هذه المقالة والأولى أولى، بل هو المتبادر من السياق، وهما قولان حكاهما المفسرون قرأ الجمهور: سحر، وقرىء ساحر، وهما سبعيتان.(14/119)
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (7) يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (8) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (9) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (13)(14/120)
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (7)
(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ) أي لا أحد أكثر ظلماً منه حيث يفتري على الله الكذب بنسبة الشريك والولد إليه ووصف آياته بالسحر (وهو يدعى إلى الإسلام) أي والحال أنه يدعى أي يدعوه ربه على لسان نبيه إلى دين الإسلام الذي هو خير الأديان وأشرفها، وفيه سعادة الدارين، لأن من كان كذلك فحقه أن لا يفتري على غيره الكذب، فكيف يفتريه على ربه؟ قرأ الجمهور يدعى من الدعاء مبنياً للمفعول، وقرىء يدعى من الادعاء مبنياً للفاعل، وإنما عدي بإلى لأنه ضمن معنى الانتماء والإنتساب (والله لا يهدي القوم الظالمين) جملة مقررة لمضمون ما قبلها، والمعنى لا يهدي من اتصف بالظلم، والمذكورون من جملتهم.(14/120)
يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (8)
(يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ) الإطفاء الإخماد، وأصله في النار. واستعير لا يجري مجراها من الظهور، والمراد بالنور القرآن أي يريدون إبطاله وتكذيبه بالقول، قاله ابن زيد، أو المراد الإسلام قاله السدي أو محمد صلى الله عليه وسلم، يريدون هلاكه بالأراجيف قاله الضحاك، أو الحجج والدلائل قاله ابن بحر، فنور الله استعارة تصريحية والإطفاء ترشيح،(14/120)
وقوله: (بأفواههم) فيه تورية وكذا قوله: (نوره)، ولكن قوله: (متم) تجريد لا ترشيح، أو المراد بالنور جميع ما ذكره، ومعنى بأفواههم بأقوالهم الخارجة من أفواههم التي لا منشأ لها غير الأفواه، دون الاعتقاد في القلوب، المتضمنة للطعن، مثلت حالهم بحال من ينفخ في نور الشمس بفيه ليطفئه، تهكماً بهم وسخرية.
قال ابن عطية: اللام في (ليطفئوا) لام مؤكدة مزيدة دخلت على المفعول، لأن التقدير يريدون أن يطفئوا، وأكثر ما تلزم هذه اللام المفعول إذا تقدم كقولك: لزيد ضربت ولرؤيتك قصدت، وقيل: هي لام العلة، والمفعول محذوف، أي يريدون إبطال القرآن، أو دفع الإسلام، أو هلاك الرسول ليطفئوا، وقيل إنها بمعنى أن الناصبة، وأنها ناصبة بنفسها، قال الفراء: العرب تجعل لام كي في موضع أن في أراد وأمر، وإليه ذهب الكسائي، ومثل هذا قوله: يريد الله ليبين لكم.
(والله متم نوره) بإظهاره في الآفاق وسائر في البلاد من المشارق إلى المغارب، وإعلائه على غيره، ومتم الحق، ومبلغه غايته، قرىء متم نوره بالإضافة سبعية وبتنوين (ولو كره الكافرون) ذلك فإنه كائن لا محالة.(14/121)
هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (9)
(هو الذي أرسل رسوله بالهدى) أي البيان الشافي بالقرآن أو المعجزات (ودين الحق) أي الملة الحقة، وهي ملة الإسلام (ليظهره على الدين كله) أي ليجعله ظاهراً على جميع الأديان المخالفة لها، عالياً عليها، غالباً لها، قال الخطيب: فإن قيل: قال أولاً: (ولو كره الكافرون)، وقال ثانيا: (ولو كره المشركون)، فما الحكمة في ذلك؟ أيقول بأنه تعالى أرسل رسوله، وهو من نعم الله تعالى، والكافرون كلهم في كفران النعم سواء، فلهذا قال: (ولو كره الكافرون)، لأن لفظ الكافر أعم من لفظ المشرك، فالمراد من الكافرين هنا اليهود والنصارى والمشركون، فلفظ الكافر(14/121)
أليق به، وأما قوله (ولو كره المشركون)، فذلك عند إنكارهم التوحيد، وإصرارهم عليه، لأنه صلى الله عليه وسلم في ابتداء الدعوة أمر بالتوحيد بلا إله إلا الله فلم يقولوا فلهذا قال:
(ولو كره المشركون) ذلك فإنه كائن لا محالة، ولعمري لقد فعل فما بقي دين من الأديان إلا وهو مغلوب مقهور بدين الإسلام، وقال مجاهد: ذلك إذا نزل عيسى، لم يكن في الأرض دين إلا دين الإسلام، والدين مصدر يعبر به عن الأديان المتعددة، وجواب لو في الموضعين محذوف، أي أتمه وأظهره، والجملة مستأنفة مقررة لما قبلها.(14/122)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10)
(يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم)؟ الاستفهام إيجاب وإخبار في المعنى وذكر بلفظه تشريفاً لكونه أوقع في النفس، وقيل: المعنى سأدلكم، وهذا خطاب لجميع المؤمنين، وقيل لأهل الكتاب (على تجارة تنجيكم من عذاب أليم) جعل العمل المذكور بمنزلة التجارة لأنهم يربحون فيه كما يربحون فيها، وذلك بدخولهم الجنة ونجاتهم من النار، قرأ الجمهور تنجيكم من الإنجاء، وقرىء من التنجية، وهما سبعيتان.
" عن أبي هريرة قال: قالوا لو كنا نعلم أي الأعمال أحب إلى الله؟ فنزلت هذه الآية فكرهوا فنزلت: (لم تقولون ما لا تفعلون) إلى قوله (بنيان مرصوص) أخرجه ابن مردويه، قال مقاتل: نزلت في عثمان بن مظعون قال: وددت يا نبي الله أعلم أي التجارات أحب إلى الله فأتجر فيها؟ ثم بين سبحانه هذه التجارة التي دل عليها فقال:(14/122)
تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11)
(تؤمنون بالله ورسوله) أي تدومون على الإيمان لأن الخطاب مع المؤمنين، وتؤمنون خبر بمعنى الأمر للإيذان بوجوب الامتثال، فكأنه قد وقع، فأخبر بوقوعه، وقرأ ابن مسعود آمنوا وجاهدوا على الأمر، وقرىء تؤمنوا وتجاهدوا على إضمار لام الأمر، قال الأخفش تؤمنون عطف بيان لتجارة، والأولى أن تكون الجملة مستأنفة مبينة لما قبلها.(14/122)
(وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم) قدم ذكر الأموال على الأنفس لأنها هي التي يبدأ بها في الإنفاق والتجهز إلى الجهاد، أو لعزتها في ذلك الوقت، أو لأنها قوام النفس، وهذا بمنزلة الثمن الذي يدفعه المشتري (ذلكم) أي ما ذكر من الإيمان والجهاد (خير لكم) أي هذا الفعل خير لكم من أموالكم وأنفسكم، أو من كل شيء (إن كنتم تعلمون) أي إن كنتم ممن يعلم، فإنكم تعلمون أنه خير لكم إلا إذا كنتم من أهل الجهل فإنكم لا تعلمون ذلك.(14/123)
يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12)
(يغفر لكم ذنوبكم) هذا بمنزلة المبيع الذي يأخذه المشتري من البائع في مقابلة الثمن المدفوع له، وهذا جواب الأمر المدلول بلفظ الخبر، ولهذا جزم. وقال الزجاج والمبرد: (تؤمنون) في معنى آمنوا، ولذلك جاء (يغفر لكم) مجزوماً، وقال الفراء؛ هذا جواب الاستفهام فجعله مجزوماً لكونه جوابه، وقد غلطه بعض أهل العلم، قال الزجاج: ليسوا إذا دلهم على ما ينفعهم يغفر لهم، إنما يغفر لهم، إذا آمنوا وجاهدوا، وقال الرازي في توجيه قول الفراء: إن (هل أدلكم) في معنى الأمر عنده، يقال: هل أنت ساكت؟ أي: أسكت؟ وبيانه أن هل بمعنى الاستفهام، ثم يتدرج إلى أن يصير عرضاً وحثاً، والحث كالإغراء، والإغراء أمر، وقيل: (يغفر لكم) مجزوم بشرط مقدر أي إن تؤمنوا يغفر لكم، وقرىء بالإدغام في يغفر لكم، والأولى تركه لأن الراء حرف متكرر فلا يحسن إدغامه في اللام.
(ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار) قد تقدم بيان كيفية جري الأنهار من تحت الجنات مراراً، والمعنى:
من تحت أشجارها وغرفها (ومساكن طيبة) أي قصوراً من لؤلؤة في ذلك القصر سبعون داراً من ياقوته حمراء، في كل دار سبعون بيتاً من زبرجدة خضراء، في كل بيت سبعون سريراً في كل سرير سبعون فراشاً، من(14/123)
كل لون، على كل فراش سبعون امرأة من الحور العين، في كل بيت سبعون مائدة، على كل مائدة سبعون لوناً من الطعام، في كل بيت سبعون وصيفاً أو وصيفة، فيعطي الله المؤمن من القوة في غداة واحدة يأتي على ذلك كله " رواه الحسن عن عمران بن حصين وأبي هريرة مرفوعاً ذكره الخطيب ولينظر في سنده وصحته.
(في جنات عدن) أي في جنات إقامة وخلود (ذلك) المذكور من المغفرة وإدخال الجنات الموصوفة بما ذكر هو (الفوز العظيم) الذي لا فوز بعده والظفر الذي لا ظفر يماثله.(14/124)
وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (13)
(و) يؤتكم نعمة (أخرى تحبونها) وقال الأخفش والفراء: معطوفة على تجارة فهي في محل خفض، أي وهل أدلكم على خصلة أخرى تحبونها في العاجل مع ثواب الآخرة؟ وقيل: هي في محل رفع أي ولكم خصلة أخرى وقيل: في محل نصب أي ويعطيكم خصلة أخرى وفي (تحبونها) شيء من التعريض بأنهم يؤثرون العاجل على الآجل، ففيه شيء من التوبيخ على محبة العاجل، ثم بين سبحانه هذه الأخرى فقال:(14/124)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ (14)
(نصر) أي هي نصر (من الله) لكم (وفتح قريب) يفتحه عليكم وقيل: نصر بدل من أخرى، على تقدير كونها في محل رفع، وقيل: التقدير ولكم نصر وفتح قريب، قال الكلبي: يعني النصر على قريش وفتح مكة، وقال عطاء: يريد فتح فارس والروم (وبشر المؤمنين) معطوف على محذوف، أي قل يا أيها الذين آمنوا وبشر، أو على تؤمنون لأنه في معنى الأمر، والمعنى آمنوا وجاهدوا أيها المؤمنون، وبشرهم يا محمد بالنصر والفتح وهذا ما جرى عليه في الكشاف، أو وبشرهم بالنصر في الدنيا والفتح وبالجنة في الآخرة، أو وبشرهم بالجنة في الآخرة، ووضع الإظهار موضع الإضمار للإشعار بأن صفة الإيمان هي التي تقتضي هذه البشارة، ثم حض سبحانه المؤمنين على نصرة دينه فقال:(14/124)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ (14)
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ) أي دوموا على ما أنتم عليه من نصرة الدين، قرىء أنصاراً لله بالتنوين، وبالإضافة، والرسم يحتمل القراءتين معاً، واختار أبو عبيدة الإضافة لقوله: (نحن أنصار الله) بالإضافة وهي سبعية، واللام يحتمل أن تكون مزيد في المفعول لزيادة التقوية، أو غير مزيدة والأول أظهر قال قتادة قد كان ذلك بحمد الله جاءه سبعون رجلاً فبايعوه عند العقبة وآووه ونصروه حتى أظهر الله دينه.
(كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ)؟ أي انصروا دين الله مثل نصرة الحواريين، لما قال لهم عيسى: من أنصاري إلى الله؟ فقالوا نحن أنصار الله والكاف في كما نعمت مصدر محذوف، أي كونوا كوناً كما قال، قاله مكي، وفيه نظر، إذ لا يؤمرون بأن يكونوا كوناً، وقيل: الكاف في محل نصب على إضمار القول أي قلنا لهم ذلك كما قال عيسى، وقيل: هو كلام محمول على معناه دون لفظة وإليه نحا الزمخشري والمعنى كونوا أنصار الله كما كان الحواريون أنصار عيسى حين قال لهم من أنصاري إلى الله وإلى بمعنى مع أي مع الله وقيل: التقدير من أنصاري فيما يقرب إلى الله؟ قيل التقدير من أنصاري متوجهاً إلى نصرة الله وقد تقدم الكلام على هذا في سورة آل عمران.
(قال الحواريون) هم أنصار المسيح وخلص أصحابه وأول من آمن به وكانوا اثني عشر رجلاً، وحواري الرجل صفيه وخالصه من الحور وهو البياض الخالص وقيل: كانوا قصارين يحورون الثياب أي يبيضونها وفي المختار التحوير تبييض الثياب.(14/125)
(نحن أنصار الله) من إِضافة الوصف إلى مفعوله أي نحن الذين ننصر الله أي ننصر دينه.
" عن عبد الله بن أبي بكر بن عمرو بن حزم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للنفر الذين لقوه بالعقبة: أخرجوا إليّ اثني عشر منكم يكونون كفلاء على قومهم كما كفلت الحواريون بعيسى بن مريم " أخرجه ابن سعد وابن إسحاق و " عن محمود بن لبيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للنقباء: إنكم كفلاء على قومكم ككفالة الحواريين لعيسى ابن مريم وأنا كفيل قومي قالوا: نعم " أخرجه ابن سعد.
(فآمنت طائفة من بني إسرائيل) بعيسى عليه السلام (وكفرت طائفة) به وذلك لأنهم لما أختلفوا بعد رفعه تفرقوا وتقاتلوا فرقة قالت: كان الله فارتفع وفرقة قالت: كان ابن الله فرفعه إليه وفرقة قالت: كان عبد الله ورسوله فرفعه إليه وهم المؤمنون واتبع كل فرقة طائفة من الناس فاقتتلوا، وظهرت الفرقتان الكافرتان حتى بعث الله محمّداً صلى الله عليه وسلم فظهرت الفرقة المؤمنة على الكافرة فذلك قوله تعالى: (فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم) أي قوينا المحقين منهم على المبطلين وقال ابن عباس: أي أيدنا الذين آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم وأمته على عدوهم وقيل: المعنى فأيدنا الآن المسلمين على الفرقتين جميعاً.
(فأصبحوا ظاهرين) أي صاروا بعد ما كانوا فيه من الذل غالبين قاهرين في أقوالهم وأفعالهم لا يخافون أحداً ولا يستخفون منه.(14/126)
سورة الجمعة
(إحدى عشرة آية بلا خلاف، وهي مدنية)
قال القرطبي: في قول الجميع، قال ابن عباس: نزلت بالمدينة، وعن ابن الزبير مثله، وأخرج مسلم وأهل السنن.
عن أبي هريرة: " سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في الجمعة سورة الجمعة، و (إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ) "، وأخرجوا عن ابن عباس نحوه، وأخرج ابن حبان والبيهقي في سننه.
عن جابر بن سمرة قال: " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في صلاة المغرب ليلة الجمعة: (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ)، (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ)، وكان يقرأ في صلاة العشاء الآخرة ليلة الجمعة سورة الجمعة والمنافقون ".(14/127)
بسم الله الرحمن الرحيم
يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (2) وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (4) مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (5)(14/129)
يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1)
(يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ) أي ينزهه فاللام زائدة، وفي ذكر (مَا) تغليب للأكثر وهو ما لا يعقل، وقال النسفي رحمه الله: التسبيح إما أن يكون تسبيح خلقه، يعني إذا نظرت إلى كل شيء دلتك خلقته على وحدانية الله وتنزيهه عن الأشياء، أو تسبيح معرفة بأن يجعل الله بلطفه في كل شيء ما يعرف به الله تعالى وينزهه، ألا ترى إلى قوله تعالى: (وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم)؟ أو تسبيح ضرورة بأن يجري الله التسبيح على كل جوهر من غير معرفة له بذلك.
(الملك القدوس العزيز الحكيم) قرأ الجمهور بالجر في هذه الصفات الأربع على أنها نعت لله، وقيل: على البدل، والأول أولى، وقرىء بالرفع على إضمار مبتدأ، وقرأوا القدوس بضم القاف وقرىء بفتحها، وقد تقدم تفسيره عن ميسرة أن هذه الآية يعني أول سورة الجمعة مكتوبة في التوراة بسبعمائة آية.(14/129)
هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (2)
(هو الذي بعث) أرسل (في الأميين) أي إليهم والمراد بهم العرب من كان يحسن الكتابة منهم، ومن لا يحسنها لأنهم لم يكونوا أهل كتاب، والأمي في الأصل الذي لا يكتب ولا يقرأ المكتوب، وكان غالب العرب(14/129)
كذلك، وقال النسفي: الأمي منسوب إلى أمة العرب لأنهم كانوا لا يكتبون ولا يقرأون من بين الأمم، وقيل: بدأت الكتابة بالطائف وهم أخذوها من أهل الحيرة، وأهل الحيرة من أهل الأنبار انتهى.
و" عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب " أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما.
(رسولاً منهم) أي من أنفسهم ومن جنسهم ومن جملتهم، كما قوله: (لقد جاءكم رسول من أنفسكم) وما كان حي من أحياء العرب إلا ولرسول الله صلى الله عليه وسلم، فيهم قرابة، وقد والوه، ووجه الامتنان بكونه منهم أن ذلك أقرب إلى الموافقة لأن الجنس أميل إلى جنسه وأقرب إليه، وقيل: أمياً مثلهم وإنما كان أمياً لأن نعته في كتب الأنبياء النبي الأمي وكونه بهذه الصفة أبعد من توهم الاستعانة بالكتابة على ما أتى به من الوحي، والحكمة، ولكون حاله مشاكلة لحال أمته الذين بعث فيهم، وذلك أقرب إلى صدقه، والاقتصار هنا في المبعوث إليهم على الأميين لا ينافي أنه مرسل إلى غيرهم لأن ذلك مستفاد من دليل آخر كقوله: (وما أرسلناك إلا كافة للناس).
(يتلو عليهم آياته) يعني القرآن مع كونه أمياً لا يقرأ ولا يكتب. ولا تعلم ذلك من أحد والجملة حال أو نعت لـ (رسولاً) وكذا قوله: (ويزكيهم) أي يطهرهم من دنس الكفر والذنوب قاله ابن جريج ومقاتل، وقيل: من الشرك وخبائث الجاهلية، وقال السدي: يأخذ زكاة أموالهم، وقيل: يجعلهم أزكياء القلوب بالإيمان، وقال الكرخي: يحملهم على ما يصيرون به أزكياء من حيث العقائد.
(ويعلمهم الكتاب والحكمة) الجملة صفة ثالثة لـ (رسولاً)، والمراد(14/130)
بالكتاب القرآن وبالحكمة السنة كذا قال الحسن وقيل: الكتاب الخط بالقلم والحكمة الفقه في الدين، كذا قال مالك بن أنس، وقيل: المراد بالكتاب الفرائض (وإن كانوا من قبل) أي من قبل بعثته فيهم، ومجيئه إليهم (لفي ضلال مبين) أي في شرك وذهاب عن الحق وكفر وجهالة، وإن مخففة من الثقيلة واللام دليل عليها أي كانوا في ضلال واضح لا ترى ضلالاً أعظم منه.(14/131)
وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3)
(وآخرين منهم) مجرور عطفاً على الأميين، أي بعثه في الأميين الذين على عهده، وبعثه في آخرين منهم، أو منصوب عطفاً على الضمير المنصوب في يعلمهم، أي ويعلم آخرين، وكل من يعلم شريعة محمد صلى الله عليه وسلم إلى آخر الزمان، فرسول الله صلى الله عليه وسلم معلمه بالقوة لأنه أصل ذلك الخير العظيم، والفضل الجسيم، أو عطفاً على مفعول يزكيهم أي يزكيهم ويزكي آخرين والمراد بالآخرين من جاء بعد الصحابة إلى يوم القيامة، وقيل: المراد بهم من أسلم من غير العرب، وقال عكرمة: هم التابعون، وقال مجاهد: الناس كلهم وكذا قال ابن زيد والسدي.
(لما يلحقوا بهم) ذلك الوقت وسيلحقون بهم من بعد، وقيل: في السبق إلى الإسلام والشرف والدرجة وهذا النفي مستمر دائماً لأن الصحابة لا يلحقهم ولا يساويهم في شأنهم أحد من التابعين، ولا ممن بعدهم، فالمنفي هنا غير متوقع الحصول، ولذلك لما ورد عليه أن لما تنفي ما هو متوقع الحصول، والمنفي هنا ليس كذلك، فسرها المحلي بلم التي منفيها أعم من أن يكون متوقع الحصول أولاً فـ (لما) هنا ليست على بابها، والضمير في بهم ومنهم راجع إلى الأميين، وهذا يؤيد أن المراد بالآخرين هم من يأتي بعد الصحابة من العرب خاصة إلى يوم القيامة، وهو صلى الله عليه وسلم وإن كان مرسلاً إلى جميع الثقلين فتخصيص العرب هنا لقصد الامتنان عليهم، وذلك لا ينافي عموم الرسالة ويجوز أن يراد بالآخرين العجم لأنهم(14/131)
وإن لم يكونوا من العرب فقد صاروا بالإسلام مثلهم، والمسلمون كلهم أمة واحدة، وإن اختلفت أجناسهم.
و" عن أبي هريرة قال كنا جلوساً عند النبي صلى الله عليه وسلم حين نزلت سورة الجمعة فتلاها، فلما بلغ (وآخرين منهم لما يلحقوا بهم) قال له رجل: يا رسول الله من هؤلاء الذين لم يلحقوا بنا؟ فوضع يده على سلمان الفارسي وقال: والذي نفسي بيده لو كان الإيمان بالثريا لناله رجال من هؤلاء " أخرجه البخاري وغيره، وأخرجه أيضاًً مسلم من حديثه مرفوعاً بلفظ: لو كان الإيمان عند الثريا لذهب به رجال من فارس أو قال من أبناء فارس.
وعن قيس بن سعد بن عبادة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لو كان الإيمان بالثريا لناله ناس من أهل فارس "، أخرجه سعيد بن منصور وابن مردويه.
و" عن سهل بن سعد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن في أصلاب أصلاب رجال من أصحابي رجالاً ونساء من أمتي يدخلون الجنة بغير حساب، ثم قرأ (وآخرين منهم لما يلحقوا بهم) ".
(وهو العزيز الحكيم) أي بليغ العزة والحكمة، في تمكينه رجلاً أمياً من ذلك الأمر العظيم، وتأييده عليه، واختياره إياه من بين كافة البشر.(14/132)
ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (4)
(ذلك) أي ما تقدم ذكره أو الإسلام قاله الكلبي أو الوحي والنبوة قاله قتادة أو إلحاق العجم بالعرب أو الدين قاله ابن عباس، والفضل الذي أعطاه محمداً صلى الله عليه وسلم وهو أن يكون نبي أبناء عصره، ونبي أبناء العصور الغوابر قاله النسفي (فضل الله يؤتيه) أي يعطيه (من يشاء) إعطاءه، وتقتضيه حكمته (والله ذو الفضل العظيم) الذي لا يساويه فضل ولا يدانيه، ولما ترك اليهود العمل بالتوراة، ولم يؤمنوا بمحمد في صلى الله عليه وسلم، ضرب الله لهم مثلاً فقال:(14/132)
مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (5)
(مثل الذين حملوا التوراة) أي كلفوا القيام بها والعمل بما فيها، وقال الجرجاني: حملوا من الحملة بمعنى الكفالة، لا من الحمل على الظهر، والحميل هو الكفيل أي ضمنوا أحكام التوراة (ثم لم يحملوها) أي لم يعملوا بموجبها، ولا أطاعوا ما أمروا به فيها، ولم يؤدوا حقها (كمثل الحمار) الذي هو أبلد الحيوان فخص بالذكر، لأنه في غاية الغباوة.
(يحمل أسفاراً) حال أو صفة للحمار، إذ ليس المراد به حماراً معيناً، فهو حكم النكرة، إذ المراد به الجنس، وقرأ المأمون بن هرون الرشيد يحمل مشدداً مبنياً للمفعول، والأسفار جمع سفر، وهو الكتاب الكبير، لأنه يسفر عن المعنى إذا قرىء قال ابن عباس: أسفاراً كتباً أي كباراً من كتب العلم، قال ميمون بن مهران: الحمار لا يدري أسفر على ظهره أم زبل، فهكذا اليهود، وكل من علم ولم يعمل بعلمه فهذا مثله، وهذا المثل يلحق من لم يفهم معاني القرآن ولم يعمل بما فيه وأعرض عنه إعراض من لا يحتاج إليه، ولهذا قال ميمون بن مهران: يا أهل القرون اتبعوا القرآن قبل أن يتبعكم، ثم تلا هذه الآية ثم ذم هذا المثل، والمراد منه ذمهم فقال:
(بئس) مثلاً (مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله) على أن التمييز محذوف والفاعل المفسر به مضمر، ومثل القوم هو المخصوص بالذم، أو مثل القوم فاعل بئس، والمخصوص بالذم الموصول بعده على حذف المضاف، أي مثل الذين كذبوا ويجوز أن يكون الموصول صفة للقوم، فيكون في محل جر، والمخصوص بالذم محذوف، والتقدير بئس مثل القوم المكذبين، مثل هؤلاء والمراد بالآيات محمد صلى الله عليه وسلم، وما أتى به من آيات القرآن وقيل: المراد آيات التوراة لأنهم كذبوا بها حين تركوا الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم (والله لا يهدي القوم الظالمين) يعني الكافرين على العموم، فيدخل فيهم اليهود دخولاً أولياً والمراد بهم الذين سبق في علمه أنهم لا يؤمنون، وإلا فقد هدى كثيراً من الكفار.(14/133)
قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (6) وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (7) قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (9) فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10) وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (11)(14/134)
قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (6)
(قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا) المراد بهم الذين تهودوا وتدينوا باليهودية، وهي ملة موسى عليه السلام، وذلك أن اليهود ادعوا الفضيلة على الناس، وقالوا: إنهم أولياء الله من دونهم، كما في قولهم: (نحن أبناء الله وأحباؤه) وقولهم: (لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً)، فأمر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم لما ادعوا هذه الدعوى الباطلة؛ (إن زعمتم أنكم أولياء لله من دون الناس) والولي يؤثر الآخرة ومبدأها وطريقها الموت.
(فتمنوا الموت) لتصيروا إلى ما تصيرون إليه من الكرامة في زعمكم، قرأ الجمهور بضم الواو وقرىء بفتحها تخفيفاً، وحكى الكسائي: إبدال الواو همزة (إن كنتم صادقين) في هذا الزعم فإن من علم أنه من أهل الجنة أحب الخلوص من هذه الدار ثم أخبر سبحانه بما سيكون منهم في المستقبل من أنهم لا يفعلون ذلك أبداً بسبب ذنوبهم، فقال:(14/134)
وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (7)
(ولا يتمنونه أبداً بما قدمت أيديهم) أي بسبب ما عملوا من الكفر(14/134)
والمعاصي، الموجبة لدخول النار والتحريف والتبديل، قال الزمخشري: ولا فرق بين لا ولن في أن كل واحدة منهما نفي للمستقبل، إلا أن في لن تأكيداً وتشديداً ليس في لا فأتى مرة بلفظ التأكيد في (ولن يتمنوه)، ومرة بغير لفظه في (ولا يتمنونه) قال أبو حيان: وهذا رجوع منه عن مذهبه وهو أن لن تقتضي النفي على التأبيد إلى مذهب الجماعة، وهو أنها لا تقتضيه، قلت: ليس فيه رجوع، غاية ما فيه أنه سكت عنه، وتشريكه بين لا ولن في نفي المستقبل لا ينفي اختصاص لن بمعنى آخر.
(والله عليم بالظالمين) يعني على العموم، وهؤلاء اليهود داخلون فيهم دخولا أولياً، ثم أمر الله سبحانه رسوله أن يقول لهم: إن الفرار من الموت لا ينجيهم، وأنه نازل بهم فقال:(14/135)
قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8)
(قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم) لا محالة، ونازل بكم بلا شك، والفاء في فإنه داخلة لتضمن الاسم معنى الشرط، قال الزجاج: لا يقال إن زيداً فمنطلق، وههنا قال: فإنه ملاقيكم لما في معنى الذي من الشرط والجزاء، أي إن فررتم منه فإنه ملاقيكم، ويكون مبالغة في الدلالة على أنه لا ينفع الفرار منه، وقيل: إنها مزيدة محضة لا للتضمن المذكور، وقيل: إن الكلام قد تم عند قوله: (تفرون منه) ثم ابتدأ فقال: (فإنه ملاقيكم)، ولما كان المقام في البرزخ أمراً مهولاً لا بد منه نبه عليه وعلى طوله، بأداة التراخي فقال:
(ثم تردون إلى عالم الغيب) السر (والشهادة) العلانية وذلك يوم القيامة (فينبئكم بما كنتم تعملون) من الأعمال القبيحة ويجازيكم عليها، وفيه وعيد وتهديد.(14/135)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (9)
(يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة) أي وقع النداء لها، والمراد به الأذان إذا جلس الخطيب على المنبر يوم الجمعة، لأنه لم يكن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم نداء سواه، ثم كان أبو بكر وعمر وعلي بالكوفة على(14/135)
ذلك حتى كان عثمان وكثر الناس وتباعدت المنازل زاد أذاناً آخر، فأمر بالتأذين أولاً على داره التي تسمى الزوراء، فإذا سمعوا أقبلوا حتى إذا جلس على المنبر أذن المؤذن ثانياً، ولم يخالفه أحد في ذلك الوقت.
" لقوله صلى الله عليه وسلم: عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي ".
(من يوم الجمعة) بيان لإذا وتفسير لها قاله الزمخشري، وقال أبو البقاء إن من بمعنى في كما في قوله: (أروني ماذا خلقوا من الأرض) أي في الأرض وجمع الكواشي بينهما، وقرأ الجمهور الجمعة بضم الميم وقرىء بإسكانها تخفيفاً، وهما لغتان، وجمعها جمع وجمعات قال الفراء: يقال الجمعة بسكون الميم وبفتحها وبضمها، وهي صفة لليوم، أي يوم يجمع الناس وقال الفراء أيضاًً وأبو عبيدة: التخفيف أخف وأقيس، نحو غرفة وغرف؛ وطرفة وطرف، وحجرة وحجر وفتح الميم لغة عقيل، وقيل: إنما سميت جمعة لأن الله سبحانه جمع فيها خلق آدم، وقيل: لأن الله تعالى فرغ فيها من خلق كل شيء، فاجتمعت فيها جميع المخلوقات وقيل: لاجتماع الناس فيها للصلاة.
" وعن أبي هريرة قال: قلت: يا رسول الله لأي شيء سمي يوم الجمعة؟ قال لأن فيه جمعت طينة أبيكم آدم، وفيه الصعقة والبعثة، وفي آخره ثلاث ساعات منها ساعة من دعا الله فيها بدعوة استجاب له "، أخرجه سعيد بن منصور، وابن مردويه.
و" عن سلمان قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتدري ما يوم الجمعة؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قالها ثلاث مرات، ثم قال في الثالثة: هو اليوم الذي جمع الله فيه أباكم آدم، أفلا أحدثكم عن يوم الجمعة "؟ الحديث رواه أحمد والنسائي وسعيد بن منصور وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه.
و" عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: خير يوم(14/136)
طلعت فيه الشمس يوم الجمعة فيه خلق آدم، وفيه أدخل الجنة، وفيه أخرج منها، ولا تقوم الساعة إلا في يوم الجمعة " أخرجه أحمد ومسلم والترمذي وابن مردويه وفي الباب أحاديث مصرحة بأنه خلق فيه آدم، وورد في فضل يوم الجمعة أحاديث كثيرة، وكذلك في فضل صلاة الجمعة وعظيم أجرها، وفي الساعة التي فيها وأنه يستجاب الدعاء فيها.
وقد أوضح شيخنا الشوكاني في شرحه المنتقى بما لا يحتاج الناظر فيه إلى غيره.
وأول جمعة جمعها رسول الله صلى الله عليه وسلم في دار لبني سالم بن عوف وذلك أنه لما قدم المدينة نزل بقباء، وأقام بها إلى الجمعة، ثم دخل المدينة وصلى الجمعة في تلك الدار، والجمعة فريضة من فرائض الله بهذا النص من كتاب الله، وبما صح في السنة المطهرة، وهي الكثير الطيب، وقد واظب عليها النبي صلى الله عليه وسلم من الوقت الذي شرعه الله تعالى فيه إلى أن قبضه، وحكى ابن المنذر الإجماع على أنها فرض عين، وزاد ابن العربي: ومن نازع في فرضية الجمعة فقد أخطأ ولم يصب، وهي كسائر الصلوات لا يخالفها إلا في مشروعية الخطبتين قبلها، ومن تأمل فيما وقع في هذه العبادة الفاضلة من الأقوال الساقطة، والمذاهب الزائغة، والاجتهادات الداحضة، قضى من ذلك العجب.
ولا يوجد في كتاب الله ولا في سنة رسوله حرف واحد يدل على ما ادعوه من كون تلك الأمور كالمصر الجامع، والعدد المخصوص، والإمام الأعظم، والحمام ونحوها، شروطاً لصحة الجمعة أو فرضاً من فرائضها، أو ركناً من أركانها فيالله العجب ما يفعل الرأي بأهله، ومن يخرج من رؤوسهم هذه الخزعبيلات الشبيهة بالقصص، والأحاديث الملفقة، وهي عن الشريعة المطهرة بمعزل، وكل من ثبت قدمه ولم يتزلزل عن طريق الحق بالقيل والقال يعرف هذا أحسن المعرفة، ومن جاء بالغلط فغلطه رد عليه، مضروب به في(14/137)
وجهه، وتفصيل ذلك في النيل والسيل للشوكاني.
هذا وقد قال الشيخ الرحماني في حاشيته على التحرير: إن أفضل الليالي ليلة المولد، ثم ليلة القدر ثم ليلة الإسراء فعرفة، فالجمعة، فنصف شعبان، فالعيد، وأفضل الأيام يوم عرفة، ثم يوم نصف شعبان، ثم يوم الجمعة، والليل أفضل من النهار.
(فاسعوا إلى ذكر الله) قال عطاء: يعني الذهاب والمشي إلى الصلاة، وقال الفراء: المضي والسعي والذهاب في معنى واحد، ويدل على ذلك قراءة عمر بن الخطاب وابن مسعود رضي الله عنهما: فامضوا إلى ذكر الله، كما سيجيء وقيل: المراد القصد، قال الحسن: والله ما هو سعي على الأقدام، ولكنه قصد بالقلوب والنيات. وقيل: المراد به السعي على الأقدام، وذلك فضيلة وليس بشرط، والأول أولى، وقيل: هو العمل قال ابن عباس: يعني ليس المراد به السرعة في المشي، كقوله: (من أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن) وقوله: (إن سعيكم لشتى) وقوله: (وأن ليس للإنسان إلا ما سعى)، وقول الداعي: وإليك نسعى ونحفد.
قال القرطبي: وهذا قول الجمهور، أي فاعملوا على المضي إلى ذكر الله واشتغلوا بأسبابه من الغسل والوضوء والتوجه إليه، وعن خرشة بن الحر قال رأى معي عمر بن الخطاب لوحاً مكتوباً فيه: (فامضوا إلى ذكر الله) فقال: من أملى عليك هذا؟ قلت: أبيّ بن كعب قال: إن أبياً أقرأنا المنسوخ أقرأها فامضوا إلى ذكر الله؟ رواه ابن المنذر وابن الأنباري وابن أبي شيبة وأبو عبيدة في فضائله وسعيد بن منصور.
وروى هؤلاء غير أبي عبيد.
" عن ابن عمر قال: لقد توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وما نقرأ هذه الآية التي هي في سورة الجمعة إلا: فامضوا إلى ذكر الله "، وأخرجه عنه أيضاًً الشافعي في الأم، وعبد الرزاق والفريابي وابن جرير وابن أبي حاتم،(14/138)
وأخرجوا كلهم أيضاًً عن ابن مسعود أنه كان يقرأ: فامضوا إلى ذكر الله. قال: ولو كان فاسعوا لسعيت حتى يسقط ردائي، وعن أبيّ أنه قرأ كذلك، والمراد من ذكر الله هنا صلاة الجمعة، وقيل: موعظة الإمام، والأول أولى، وقال الجمهور: الخطبة. وبه استدل أبو حنيفة على أن الخطيب إذا اقتصر على الحمد لله جاز.
" وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا سمعتم الإقامة فامشوا إلى الصلاة، وعليكم السكينة والوقار، ولا تسرعوا، فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا " أخرجه البخاري ومسلم، وهذا الحديث يعم كل صلاة ويدخل فيه صلاة الجمعة، فهو كالتفسير للآية.
(وذروا البيع) أي اتركوا المعاملة به ويلحق به سائر المعاملات أو اتركوا عنده بتمامه، فالخطاب لكل من البائع والمشتري، قال الحسن: إذا أذن المؤذن يوم الجمعة لم يحل الشراء والبيع.
" عن محمد بن كعب أن رجلين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانا يختلفان في تجارتهما إلى الشام، فربما قدما يوم الجمعة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب، فيدعونه ويقومون، فنزلت الآية: (وذروا البيع) فحرم عليهم ما كان قبل ذلك "، أخرجه عبد بن حميد، والمراد بالآية ترك ما يذهل عن ذكر الله من شواغل الدنيا وإنما خص البيع من بينها لأن يوم الجمعة يتكاثر فيه البيع والشراء عند الزوال فقيل لهم: بادروا تجارة الآخرة واتركوا تجارة الدنيا واسعوا إلى ذكر الله الذي لا شيء أنفع منه وأربح وذروا البيع الذي نفعه يسير.
(ذلكم) أي السعي إلى ذكر الله وترك البيع (خير لكم) من البيع والتكسب في ذلك الوقت لما في الامتثال من الأجر والجزاء وفي عدمه من عدم ذلك إذا لم يكن موجباً للعقوبة وتمسك بهذا الشافعية في أن البيع وقت أذان الخطبة إلى انقضاء الصلاة صحيح مع الحرمة، قال في الكشاف: عامة العلماء(14/139)
على أن ذلك لا يوجب الفساد، لأن البيع لم يحرم لعينه بل لما فيه من التشاغل عن الصلاة، فهو كالصلاة في الأرض المغصوبة، وقال مالك: ما وقع في الوقت المذكور يفسخ، وكذا سائر العقود (إن كنتم تعلمون) أي إن كنتم من أهل العلم، فإنه لا يخفى عليكم أن ذلكم خير لكم من مصالح أنفسكم.(14/140)
فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10)
(فإذا قضيت الصلاة) أي إذا فعلتم الصلاة وأديتموها، وفرغتم منها (فانتشروا في الأرض) للتجارة فيما تحتاجون إليه من أمر معاشكم، والأمر للإباحة (وابتغوا) أي أطلبوا (من فضل الله) أن من رزقه الذي يتفضل به على عباده، بما يحصل لهم من الأرباح في المعاملات والمكاسب وقيل: المراد به ابتغاء ما عند الله من الأجر، بعمل الطاعات، واجتناب ما لا يحل، وقيل: هو طلب العلم.
" عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الآية ليس بطلب دنيا، ولكن عيادة مريض، وحضور جنازة، وزيارة أخ في الله أخرجه ابن جرير.
وعن ابن عباس قال: لم يؤمروا بشيء من طلب الدنيا، إنما هو عيادة مريض، وحضور جنازة وزيارة أخ في الله، وعن عراك بن مالك: أنه كان إذا صلى الجمعة انصرف، فوقف على باب المسجد وقال: اللهم أجبت دعوتك، وصليت فريضتك، وانتشرت كما أمرتني، فارزقني من فضلك، وأنت خير الرازقين.
(واذكروا الله) ذكراً (كثيراً) بالشكر له على ما هداكم إليه من الخير الأخروي والدنيوي، وكذا اذكروه بما يقربكم إليه من الأذكار، كالحمد والتسبيح والتكبير والاستغفار ونحو ذلك، ولا تقصروا ذكره على حالة الصلاة (لعلكم تفلحون) أي لكي تفوزوا بخيري الدارين وتظفروا بهما.(14/140)
وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (11)
(وإذا رأوا تجارة أو لهواً انفضوا إليها) سبب نزول هذه الآية أنه كان(14/140)
بأهل المدينة فاقة وحاجة، فأقبلت عير الشام، وضرب لقدومها الطبل، والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة، فانفتل الناس إليها حتى لم يبق إلا اثنا عشر رجلاً في المسجد كما سيجيء، قال قتادة: بلغنا أنهم فعلوا ذلك ثلاث مرات، كل مرة تقدم العير من الشام، ويوافق قدومها يوم الجمعة وقت الخطبة، وقيل ضربه أهل المدينة على العادة في أنهم كانوا يستقبلونها بالطبل والتصفيق، أو ضربه أهل القادم بها أقوال ثلاثة حكاها الخطيب.
ومعنى انفضوا تفرقوا خارجين إليها، وقال المبرد: مالوا إليها والضمير للتجارة وخصت بإرجاع الضمير إليها دون اللهو، لأنها كانت أهم عندهم، وقيل: التقدير وإذا رأوا تجارة انفضوا إليها أو لهواً انفضوا إليه، فحذف الثاني لدلالة الأول عليه، وقيل: إنه اقتصر على ضمير التجارة لأن الانفضاض إليها إذا كان مذموماً مع الحاجة إليها فكيف بالانفضاض إلى اللهو؟ وقيل غير ذلك.
(وتركوك) في الخطبة (قائماً) على المنبر، أخرج البخاري ومسلم وغيرهما.
" عن جابر بن عبد الله قال: بينما النبي صلى الله عليه وسلم، يخطب يوم الجمعة قائماً إذ قدمت عير المدينة فابتدرها أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، حتى لم يبق منهم إلا اثنا عشر رجلاً أنا فيهم وأبو بكر وعمر، فأنزل الله: (وإذا رأوا تجارة) إلى آخر السورة "، " وعن ابن عباس في الآية قال جاءت عير عبد الرحمن بن عوف تحمل الطعام فخرجوا من الجمعة بعضهم يريد أن يشتري، وبعضهم يريد أن ينظر إلى دحية بن خليفة الكلبي، وتركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائماً على المنبر، وبقي في المسجد اثنا عشر رجلاً، وسبع نسوة، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لو خرج كلهم لاضطرم عليهم المسجد ناراً " أخرجه عبد بن حميد.
وفي الباب روايات متضمنة لهذا المعنى، عن جماعة من الصحابة وغيرهم، والذي سوغ لهم الخروج وترك رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب أنهم ظنوا أن الخروج بعد تمام الصلاة جائز لانقضاء المقصود وهو(14/141)
الصلاة، لأنه كان صلى الله عليه وسلم أول الإسلام يصلي الجمعة قبل الخطبة كالعيدين، فلما وقعت هذه الوقعة، ونزلت الآية قدم الخطبة وأخر الصلاة.
" وعن ابن عمر قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب خطبتين يقعد بينهما " أخرجه الشيخان، وفيه دليل على أن الخطيب ينبغي أن يخطب قائماً، واتفقوا على أن هذا القيام كان في الخطبة للجمعة.
ثم أمره الله سبحانه أن يخبرهم بأن العمل للآخرة خير من العمل للدنيا، فقال: قل لهم تأديباً وزجراً لهم عن العود لمثل هذا الفعل:
(ما عند الله) من الجزاء العظيم على الثبات مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الجنة (خير من اللهو ومن التجارة) اللذين ذهبتم إليهما، وتركتم البقاء في المسجد، وسماع خطبة النبي صلى الله عليه وسلم لأجلها، وإنما كان خيراً لأنه محقق مخلد، بخلاف ما يتوهمونه من نفع التجارة واللهو، إذ نفع اللهو ليس بمحقق ونفع التجارة ليس بمخلد، ومنه يعلم وجه تقديم اللهو، فإن الأعدام تقدم على الملكات.
(والله خير الرازقين) فمنه اطلبوا الرزق، وإليه توسلوا بعمل الطاعة فإن ذلك من أسباب تحصيل الرزق، وأعظم ما يجلبه. وتعددهم إنما هو على سبيل المجاز، من حيث إنه يقال: كل إنسان يرزق عائلته، أي من رزق الله تعالى، وإلا فالرازق بالحقيقة هو الله وحده.(14/142)
سورة المنافقون
(هي إحدى عشرة آية بلا خلاف، وهي مدنية)
قال القرطبي: في قول الجميع، قال ابن عباس: نزلت بالمدينة، وعن ابن الزبير مثله.
وعن أبي هريرة قال: " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في صلاة الجمعة بسورة الجمعة، فيحرض بها المؤمنين، وفي الثانية بسورة المنافقين فيقرع بها المنافقين "، أخرجه سعيد بن منصور والطبراني في الأوسط قال السيوطي: بسند حسن، وأخرج البزار والطبراني عن أبي عتبة الخولاني مرفوعاً نحوه.(14/143)
بسم الله الرحمن الرحيم
إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (1) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (2) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (3) وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (4) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (5) سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (6)(14/145)
إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (1)
(إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ) أي إذا وصلوا إليك وحضروا مجلسك، قال ابن عباس: إنما سماهم الله منافقين لأنهم كتموا الشرك، وأظهروا الإيمان، والمراد بهم عبد الله بن أبيّ وأصحابه (قالوا) هذا جواب الشرط، وقيل محذوف، وقالوا: حال أي جاؤوك قائلين كيت وكيت، فلا تقبل منهم وقيل: الجواب اتخذوا أيمانهم جنة، وهو بعيد جداً كما لا يخفى (نشهد إنك لرسول الله) أكدوا شهادتهم بإن واللام للإشعار لأنها صادرة من صميم قلوبهم، مع خلوص اعتقادهم، ومعنى نشهد نحلف، فهو يجري مجرى القسم، ولذلك يتلقى بما يتلقى به القسم، وإنما عبر عن الحلف بالشهادة لأن كل واحد من الحلف والشهادة إثبات لأمر معين ويحتمل أن يكون ذلك محمولاً على ظاهره نفياً للنفاق عن أنفسهم، وهو الأشبه، ومثل نشهد نعلم فإنه أيضاًً يجري مجرى القسم، كما في قول الشاعر:
ولقد علمت لتأتين منيتي ... إن المنايا لا تطيش سهامها
(والله يعلم إنك لرسوله) جملة معترضة مقررة لمضمون ما قبلها، وهو ما أظهروه من الشهادة، وإن كانت بواطنهم على خلاف ذلك (والله يشهد(14/145)
إن المنافقين لكاذبون) أي في شهادتهم التي زعموا أنها من صميم القلب، وخلوص الاعتقاد، لا في منطوق كلامهم، وهو الشهادة بالرسالة، فإنه حق يعني أنهم لكاذبون فيما تضمنه كلامهم، من التأكيد الدال على أن شهادتهم بذلك صادرة عن خلوص اعتقاد، وطمأنينة قلب، وموافقة باطن لظاهر، أو إنهم كاذبون عند أنفسهم، لأنهم كانوا يعتقدون أن قولهم: إنك لرسول الله كذب، وخبر على خلاف ما عليه حال المخبر عنه.(14/146)
اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (2)
(اتخذوا أيمانهم جنة) أي جعلوا حلفهم الذي حلفوا لكم به إنهم لمنكم، وإن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقاية تقيهم منكم، وسترة يستترون بها من القتل والأسر، قال النسفي: وفيه دليل على أن أشهد يمين، قال ابن عباس: اجتنبوا بأيمانهم من القتل والحرب، والجملة مستأنفة لبيان كذبهم وحلفهم عليه، قرأ الجمهور أيمانهم بفتح الهمزة وقرىء بكسرها، وقد تقدم تفسير هذا في سورة المجادلة، والجنة الترس ونحوه، وكل ما يقيك سوءاً ومن كلام الفصحاء جبة البرد جنة البرد.
(فصدوا عن سبيل الله) أي منعوا الناس عن الإيمان والجهاد وأعمال الطاعة، بسبب ما يصدر منهم من التشكيك، والقدح في النبوة، وهذا معنى الصد الذي بمعنى الصرف، ويجوز أن يكون بمعنى الصدود، أي أعرضوا عن الدخول في سبيل الله وإقامة أحكامه (إنهم ساء ما كانوا يعملون) من النفاق والصد، و (ساء) هذه هي الجارية مجرى بئس، في إفادة الذم، ومع ذلك ففيها معنى التعجيب، وتعظيم أمرهم عند السامعين.(14/146)
ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (3)
(ذلك) أي ما تقدم ذكره من الكذب والصد وقبح الأعمال (بأنهم) أي بسبب أنهم (آمنوا) باللسان في الظاهر نفاقاً (ثم كفروا) بالقلب في الباطن، فثم للترتيب الإخباري لا الإيجادي، أو أظهروا الإيمان للمؤمنين وأظهروا الكفر للكافرين، وهذا صريح في كفر المنافقين، وقيل: نزلت الآية في قوم آمنوا ثم ارتدوا، والأول أولى كما يفيده السياق.
(فطبع على قلوبهم) أي ختم عليها بسبب كفرهم، قرأ الجمهور طبع مبنياً للمفعول، وقرىء مبنياً للفاعل، والفاعل ضمير يعود إلى الله سبحانه،(14/146)
ويدل عليه قراءة الأعمش فطبع الله على قلوبهم (فهم لا يفقهون) ما فيه صلاحهم ورشادهم، وهو حقيقة الإيمان، ولا يعرفون صحته.(14/147)
وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (4)
(وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم) أي هيئاتهم ومناظرهم، يعني أن لهم أجساماً يعجب من يراها لما فيها من النضارة والرونق، قال ابن عباس: كان ابن أبيّ جسيماً صحيحاً فصيحاً ذلق اللسان، وكان قوم من المنافقين مثله وهم رؤساء المدينة، وكانوا يحضرون مجلس النبي صلى الله عليه وسلم، ويستندون فيه إلى الجدر وكان النبي صلى الله عليه وسلم ومن حضر يعجبون بهياكلهم.
(وإن يقولوا) أي يتكلموا في مجلسك (تسمع لقولهم) أي تستمع وتصغي وتميل، فلذلك عُدي باللام، والمعنى لتحسب أن قولهم حق وصدق لفصاحتهم وذلاقة ألسنتهم، قال الكلبي: المراد عبد الله بن أبيّ وجد بن قيس ومعتب بن قشير، كانت لهم أجسام ومنظر وفصاحة، والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، وقيل: لكل من يصلح له، ويدل عليه قراءة يسمع على البناء للمفعول.
وجملة (كأنهم خشب مسندة) خبر مبتدأ مضمر، أي هم كأنهم، أو مستأنفة لتقرير ما تقدم من أن أجسامهم تعجب الرائي وتروق الناظر، قالها الزمخشري أو في محل نصب على الحال، وصاحب الحال الضمير في قولهم، قاله أبو البقاء شبهوا في جلوسهم في مجالس النبي صلى الله عليه وسلم مستندين بها بالخشب المنصوبة المسندة إلى الحائط، التي لا تفهم ولا تعلم، وهم كذلك لخلوهم عن الفهم النافع، والعلم الذي ينتفع به صاحبه، قال الزجاج: وصفهم بتمام الصور، ثم أعلم أنهم في ترك الفهم والاستبصار، وعظم الأجسام، بمنزلة الخشب قرأ الجمهور خشب بضمتين، وقرىء بإسكان الشين لأن واحدتها خشبة كبدنة وبدن، وهما سبعيتان، وقرىء بفتحتين.
ومعنى مسندة أنها أسندت إلى غيرها، من قولهم: أسندت كذا إلى كذا والتشديد للتكثير، قال ابن عباس في الآية: كأنهم نخل قيام، وقيل: إنهم أشباح بلا أرواح وأجسام بلا أحلام وقد أخرج البخاري ومسلم وغيرهما " عن زيد بن أرقم قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر(14/147)
فأصاب الناس شدة، فقال عبد الله بن أبيّ لأصحابه: لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا من حوله، وقال: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته بذلك، فأرسل إلى عبد الله بن أبيّ فسأله فاجتهد يمينه ما فعل فقالوا: كذب زيد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوقع في نفسي مما قالوا شدة، حتى أنزل الله تصديقي في: إذا جاءك المنافقون، فدعاهم النبي صلى الله عليه وسلم ليستغفر لهم، فلووا رؤوسهم، وهو قوله: (كأنهم خشب مسندة) قال: كانوا رجالاً أجمل شيء " (1).
وأخرجه عنه بأطول من هذا ابن سعد، وعبد بن حميد، والترمذي وصححه، وابن المنذر والطبراني والحاكم وصححه، وابن مردويه والبيهقي، ثم عابهم الله سبحانه بالجبن فقال:
(يحسبون كل صيحة) يسمعونها واقعة (عليهم) نازلة بهم لفرط جبنهم ورعب قلوبهم، وفي المفعول الثاني للحسبان وجهان:
أولهما أنه عليهم، ويكون جملة: (هم العدو) مستأنفة لبيان أنهم الكاملون في العداوة لكونهم يظهرون غير ما يبطنون.
والوجه الثاني أن المفعول الثاني للحسبان هو قوله: (هم العدو)، ويكون قوله: (عليهم) متعلقاً بصيحة وإنما جاء بضمير الجماعة باعتبار الخبر، وكان حقه أن يقال: هو العدو، والوجه الأول أولى قال مقاتل والسدي: أي نادى مناد في العسكر، أو انفلتت دابة، أو أنشدت ضالة، ظنوا أنهم المرادون لما في قلوبهم من الرعب، وقيل: كان المنافقون على وجل من أن ينزل فيهم ما يهتك أستارهم، ويبيح دماءهم وأموالهم.
ثم أمر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يأخذ حذره منهم فقال: (فاحذرهم) أن يتمكنوا من فرصة منك، أو يطلعوا على شيء من أسرارك، لأنهم عيون لأعدائك من الكفار، قال أبو السعود: الفاء لترتيب الأمر بالحذر على كونهم أعدى الأعداء، وعلى هذا جعل قوله: (هم العدو) مفعولاً ثانياً مما لا يساعده النظم الكريم أصلاً، ثم دعا عليهم بقوله:
_________
(1) رواه البخاري.(14/148)
(قاتلهم الله) أي لعنهم الله، وقد تقول العرب هذه الكلمة على طريق التعجب، كقولهم: قاتله الله من شاعر، أو ما أشعره، وليس بمراد هنا، بل المراد ذمهم وتوبيخهم، وهو طلب من الله سبحانه طلبه من ذاته عز وجل أن يلعنهم ويخزيهم، أو هو تعليم للمؤمنين أن يقولوا ذلك، وقيل: معناه أهلكهم وهذا ما جرى عليه أبو عيسى ومعنى (أنىَّ يؤفكون)؟ كيف يصرفون عن الحق؟ ويميلون عنه إلى الكفر بعد قيام البرهان على حقية الإيمان؟ قال قتادة: يعدلون عن الحق، وقال الحسن: معناه يصرفون عن الرشد.(14/149)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (5)
(وإذا قيل لهم تعالوا) أي إذا قال لهم القائل من المؤمنين: قد نزل فيكم ما نزل من القرآن فتوبوا إلى الله ورسوله وتعالوا (يستغفر لكم رسول الله لووا رؤوسهم) أي حركوها استهزاء بذلك، قال مقاتل: عطفوا رؤوسهم رغبة عن الاستغفار، وقيل: إعراضاً عنه واستكباراً، قرأ الجمهور: لووا بالتشديد وقرىء بالتخفيف، واختار الأولى أبو عبيد وهما سبعيتان.
(ورأيتهم يصدون) أي يعرضون عن قول من قال لهم تعالوا إلخ، أو يعرضون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وجملة: (وهم مستكبرون) في محل نصب على الحال من فاعل الحال الأولى، وهي يصدون لأن الرؤية بصرية، فيصدون في محل نصب على الحال، والمعنى رأيتهم صادين مستكبرين عن الاعتذار والإستغفار، ولما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب صلاحهم، وأن يستغفر لهم، وربما ندبه إلى ذلك بعض أقاربهم، قال تعالى منبهاً له على أنهم ليسوا بأهل للاستغفار لأنهم لا يؤمنون:(14/149)
سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (6)
(سواء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم) أي الاستغفار وعدمه سواء لا ينفعهم ذلك لإصرارهم على النفاق، واستمرارهم على الكفر، وهذا تيؤس له من إيمانهم.
(ولن يغفر الله لهم) أي ما داموا على النفاق (إن الله لا يهدي القوم الفاسقين) أي الكاملين في الخروج عن الطاعة، والانهماك في معاصي الله.
ويدخل فيهم المنافقون دخولاً أولياً ثم ذكر سبحانه بعض قبائحهم فقال:(14/149)
هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ (7) يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ (8) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (9) وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (10) وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (11)(14/150)
هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ (7)
(هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ) استئناف جار مجرى التعليل لفسقهم أو لعدم هداية الله لهم والمعنى يقولون لأصحابهم من الأنصار المخلصين في الإيمان وصحبتهم للمنافقين بحسب ظاهر الحال.
(لا تنفقوا على من عند رسول الله) الظاهر أنه حكاية ما قالوه بعينه، لأنهم منافقون مقرون برسالته ظاهراً؛ ولا حاجة إلى أنهم قالوه تهكماً أو لغلبته عليه حتى صار كالعلم كما قيل، ويحتمل أنهم عبروا بغير هذه العبارة فغيرها الله إجلالاً لنبيه صلى الله عليه وسلم.
(حتى ينفضوا) أي لأجل أن يتفرقوا عنه بأن يذهب كل واحد منهم إلى أهله وشغله الذي كان له قبل ذلك، يعنون بذلك فقراء المهاجرين، قرأ الجمهور ينفضوا من الانفضاض وهو التفرق، وقرىء ينفضوا من انفض القوم إذا فنيت أزوادهم، يقال: نفض الرجل وعاءه من الزاد فانفض، قال ابن عباس: نزلت هذه الآية في عسيف لعمر بن الخطاب، وقرأ زيد بن أرقم(14/150)
وابن مسعود: حتى ينفضوا من حوله، ثم أخبر سبحانه بسعة ملكه فقال:
(ولله خزائن السموات والأرض) أي أنه هو الرزاق لهؤلاء المهاجرين وغيرهم، لأن خزائن الرزق له، فيعطي من شاء ما شاء، ويمنع من شاء ما شاء، لا بأيديهم، وهذا رد وإبطال لما زعموا من أن عدم إنقاقهم يؤدي إلى انفضاض الفقراء من حوله، والجملة حالية، أي قالوا ما ذكر، والحال أن الرزق بيده تعالى، لا يقدر أحد على منع شيء من ذلك، لا مما في يده، ولا مما في يد غيره (ولكن المنافقين لا يفقهون) ذلك، ولا يعلمون أن خزائن الأرزاق بيد الله عز وجل، وأنه الباسط القابض، المعطي المانع.
ثم ذكر سبحانه مقالة شنعاء قالوها فقال:(14/151)
يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ (8)
(يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل) القائل لهذه المقالة هو عبد الله بن أبيّ رأس المنافقين، وعنى بالأعز نفسه ومن معه، وبالأذل رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه، والمراد بالرجوع رجوعهم من تلك الغزوة، وإنما أسند القول إلى المنافقين مع كون القائل فرداً من أفرادهم وهو ابن أبيّ لكونه رئيسهم، وصاحب أمرهم، وهم راضون بما يقوله السامعون له مطيعون.
أخرج البخاري ومسلم وغيرهما.
" عن جابر بن عبد الله قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزاة، قال سفيان: يرون أنها غزوة بني المصطلق فكسع رجل من المهاجرين رجلاً من الأنصار، فقال المهاجري: يا للمهاجرين، وقال الأنصاري: يا للأنصار، فسمع ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما بال دعوة الجاهلية؟ قالوا: رجل من المهاجرين كسع رجلاً من الأنصار، فقال النبي(14/151)
صلى الله عليه وسلم: دعوها فإنها منتنة، فسمع ذلك عبد الله بن أبيّ فقال: أوقد فعلوها؟ والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فقام عمر فقال: يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق، فقال النبي صلى الله عليه وسلم دعه لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه، زاد الترمذي فقال له ابنه عبد الله بن عبد الله: والله لا تنقلب حتى تقرَّ أنك الذليل ورسول الله العزيز ففعل " (1) وكانت تلك الغزوة في السنة الرابعة، وقيل في السادسة، ثم رد الله سبحانه على قائل تلك المقالة فقال:
(ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين) الجملة حالية أي قالوا ما ذكر، والحال أن كل من له نوع بصيرة يعلم أن القوة والغلبة لله وحده، ولمن أفاضها عليه من رسله، وصالحي عباده، وعزة الله قهره وغلبته لأعدائه، وعزة رسوله إظهار دينه على الأديان كلها، وعزة المؤمنين نصر الله إياهم على أعدائهم، عن بعض الصالحات وكانت في هيئة رثة ألست على الإسلام وهو العز الذي لا ذل معه، والغنى الذي لا فقر معه؟ وعن الحسن بن علي أن رجلاً قال له: إن الناس يزعمون أن فيك تيهاً، قال: ليس بتيه ولكنه عزة، وتلا هذه الآية اللهم كما جعلت العزة للمؤمنين على المنافقين، فاجعل العزة للعادلين من عبادك، وأنزل الذلة على الجائرين الظالمين.
(ولكن المنافقين لا يعلمون) بما فيه النفع فيفعلونه، وبما فيه الضر فيجتنبونه، بل هم كالأنعام لفرط جهلهم، ومزيد حيرتهم، والطبع على قلوبهم، ختم هذه الآية بلا يعلمون، وما قبلها بلا يفقهون. لأن الأول متصل بقوله: (ولله خزائن السموات والأرض)، وفي معرفتها غموض يحتاج إلى فطنة وفقه، فناسب نفي الفقه عنهم، والثاني متصل بقوله: (ولله العزة) الخ وفي معرفتها غموض زائد يحتاج إلى علم فناسب نفي العلم عنهم، فالمعنى لا يعلمون أن الله معز أولياءه ومذل أعداءه، قال الكرخي: والحاصل أنه لما أثبت المنافقون لفريقهم إخراج المؤمنين من المدينة أثبت الله
_________
(1) رواه البخاري ومسلم.(14/152)
تعالى في الرد عليهم صفة العزة لغير فريقهم، وهو الله ورسوله والمؤمنون.
وفي شرح جمع الجوامع: ومن قوادح العلة القول بالموجب بفتح الجيم، وهو تسليم الدليل مع بقاء النزاع بأن يظهر المعترض عدم استلزام الدليل لمحل النزاع، وشاهده: (ولله العزة ولرسوله) في جواب (ليخرجن الأعز منها الأذل) ولما ذكر سبحانه قبائح المنافقين، رجع إلى خطاب المؤمنين مرغباً لهم في ذكره فقال:(14/153)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (9)
(يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم) أي لا تشغلكم (أموالكم) بالتصرف فيها، والسعي في تدبير أمرها بالنماء، وطلب النتاج، والاهتمام بها (ولا أولادكم) وسروركم بهم وشفقتكم عليهم، والقيام بمؤنتهم، حذرهم عن التشبه بالمنافقين في الاغترار عن أخلاق الذين ألهتهم أموالهم وأولادهم (عن ذكر الله) والمراد بالذكر فرائض الإسلام قاله الحسن، وقال الضحاك: الصلوات الخمس، وقيل: قراءة القرآن، وقيل: الحج والزكاة، وقيل: إدامة الذكر، وقيل: هو خطاب للمنافقين ووصفهم بالإيمان لكونهم آمنوا ظاهراً، والأول أولى.
" وعن ابن عباس عن النبي صلى الله عمية وسلم في الآية قال: هم عباد من أمتي الصالحون منهم، لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله، وعن الصلوات الخمس المفروضة " أخرجه ابن مردويه.
(ومن يفعل ذلك) أي يَلْتَهِ بالدنيا عن الدين، ويشتغل بها عما ذكر (فأولئك هم الخاسرون) أي الكاملو الخسران في تجارتهم، حيث باعوا العظيم الباقي بالحقير الفاني.
" وهو عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الدنيا ملعونة: وملعون ما فيها، إلا ذكر الله وما والاه، وعالم ومتعلم "، أخرجه الترمذي.(14/153)
وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (10)
(وأنفقوا مما رزقناكم) الظاهر أن المراد الإنفاق في الخير على عمومه، وقيل: المراد الزكاة المفروضة، ومن للتبعيض أي أنفقوا بعض ما رزقناكم في سبيل الخير، وفي التبعيض بإسناد الرزق منه تعالى إلى نفسه زيادة ترغيب في الامتثال، حيث كان الرزق له تعالى بالحقيقة، ومع ذلك اكتفى منهم ببعضه.
(من قبل أن يأتي أحدكم الموت) بأن تنزل عليه مقدماته وأسبابه وأماراته، ويشاهد حضور علاماته ودلائله، ويتعذر عليه الإنفاق، وقدم المفعول على الفاعل للإهتمام (فيقول رب لولا أخرتني) أي يقول عند نزول ما نزل به منادياً لربه: هلا أمهلتني وأخرت موتي، فلولا بمعنى هلا التي معناها التحضيض وتختص بما لفظه ماض، وهو في تأويل المضارع كما هنا، إذ لا معنى لطلب التأخير في الزمن الماضي، أو لا زائدة، ولولا للتمني، وقضية كلام الكشاف أن لولا بمعنى هل الاستفهامية والأولى أولى.
(إلى أجل) أي زمن واحد (قريب) قصير قليل بقدر ما أستدرك فيه ما فاتني (فأصدق) أي فأتصدق بمالي، أو بالزكاة، قرأ الجمهور بإدغام التاء في الصاد، وانتصابه على أنه جواب التمني، وقيل: إن لا في لولا زائدة، والأصل لو أخرتني، وقرىء فأتصدق بدون إدغام على الأصل (وأكن) قرأ الجمهور بالجزم على محل فأصدق، كأنه قيل: إن أخرتني أصدق وأكن، قال الزجاج: معناه هلا أخرتني؟ وجزم أكن على موضع فأصدق، لأنه على معنى إن أخرتني أصدق وأكن، وكذا قال أبو علي الفارسي وابن عطية وغيرهم، وقال سيبويه حاكياً عن الخليل: إنه جزم على توهم الشرط الذي يدل عليه التمني، وجعل سيبويه هذا نظير قول زهير:
بدا لي أني لست مدرك ما مضى ... ولا سابق شيئاًً إذا كان جائياً
فخفض ولا (سابق) عطفاً على (مدرك) هو خبر ليس على توهم زيادة الباء فيه، وقرىء وأكون بالنصب عطفاً على فأصدق، ووجهها واضح، ولكن(14/154)
قال أبو عبيدة: رأيت في مصحف عثمان وأكن بغير واو، وقرىء بالرفع على الاستئناف أي وأنا أكون.
(من الصالحين) أي من المؤمنين، قال ابن عباس: أحج، وقال الضحاك: لا ينزل الموت بأحد لم يحج ولم يؤد زكاة إلا سأل الرجعة، وقرأ هذه الآية.
" وقال ابن عباس: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من كان له مال يبلغه حج بيت الله، أو تجب عليه فيه الزكاة، فلم يفعل سأل الرجعة عند الموت فقال له رجل: يا ابن عباس اتق الله فإنما يسأل الكافر فقال: سأتلو عليكم بذلك قرآناً: يا أيها الذين آمنوا إلى آخر السورة " أخرجه الترمذي وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه والحسن ابن أبي الحسن في كتاب منهاج الدين إلى قوله الموت مرفوعاً ثم أجاب الله عن هذا المتمني فقال:(14/155)
وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (11)
(ولن يؤخر الله نفساً) أية نفس كانت عن الموت (إذا جاء أجلها) أي آخر عمرها الكتوب في اللوح المحفوظ ومن جملة النفوس التي شملها النفي نفس هذا القائل فلا يؤخر أيضاًً (والله خبير بما تعملون) قرىء بالتاء والياء ولكل وجه يعني أنه لو رد إلى الدنيا وأجيب إلى ما يسأل ما حج، وما زكّى وقيل: هو خطاب شائع لكل عامل عملاً من خير أو شر، وهو الأولى.
واعلم أنه قد وقع الخلاف بين أهل العلم وطالت ذيوله وتشعبت أبحاثه في التعارض بين ما ورد من أن القضاء الأزلي من الله عز وجل لا يتغير ولا يتبدل، وهو المعبر عنه بأم الكتاب، وبقوله: تعالى: (لا معقب لحكمه) وقوله: (ما يبدل القول لدي) وبين ما ورد من الإرشاد إلى الأدعية وطلب الخير من الله عز وجل وسؤاله أن يدفع الضر ويرفع الضر، وسائر المطالب التي يطلبها العباد من ربهم سبحانه.
" كقوله صلى الله عليه وسلم: لا يرد القضاء إلا الدعاء، ولا يزيد في(14/155)
العمر إلا البر " أخرجه الترمذي من حديث سلمان وحسنه، وأبو حيان وصححه، والحاكم وصححه، والطبراني في الكبير، والضياء في المختارة.
ومثله حديث ثوبان مرفوعاً بلفظ: لا يرد القدر إلا الدعاء، ولا يزيد في العمر إلا البر، وإن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه.
" وكقوله صلى الله عليه وسلم لا يغني حذر من قدر، والدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل وإن البلاء لينزل فيلقاه الدعاء فيعتلجان إلى يوم القيامة " أخرجه الحاكم في المستدرك والبزار والطبراني في الأوسط والخطيب قال الحاكم: صحيح الإِسناد من حديث عائشة مرفوعاً وقال في مجمع الزوائد: رواه أحمد وأبو يعلى بنحوه والبزار والطبراني في الأوسط ورجال أحمد وأبي يعلى وأحد إسنادي البزار رجاله رجال الصحيح غير علي بن علي الرفاعي وهو ثقة وقد ضعف هذا الحديث بزكريا بن منصور كما ذكره الشوكاني في شرحه للعدة.
ومن ذلك ما أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجة وابن حبان وصححه " عن سلمان الفارسي رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن ربكم حي كريم يستحي من عبده إذا رفع يديه أن يردهما صفراً " وأخرجه أيضاًً الحاكم وقال: حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه وله شاهد صحيح ثم رواه من " حديث أنس مرفوعاً: إن ربكم رحيم حي كريم يستحي من عبده أن يرفع إليه يديه ثم لا يضع فيهما خيراً " وأخرجه الطبراني وأبو يعلى ومن ذلك:
" قوله صلى الله عليه وسلم: لا تعجزوا في الدعاء فإنه لن يهلك مع الدعاء أحد " أخرجه ابن حبان من حديث أنس والحاكم في المستدرك وقال: صحيح الإسناد والضياء في المختارة وقد رد الشوكاني في شرحه للعمدة على من ضعفه.
ومن ذلك ما أخرجه الترمذي من حديث أبي هريرة والحاكم في المستدرك(14/156)
وقال صحيح الإسناد وأقره الذهبي وأخرجه أيضاًً من حديث سلمان وقال: صحيح الإسناد ومن ذلك ما أخرجه الحاكم في المستدرك.
" من حديث أبي هريرة وقال صحيح الإسناد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الدعاء سلاح المؤمن وعماد الدين ونور السموات والأرض " (1) وأخرجه أبو يعلى.
" من حديث علي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا أدلكم على ما ينجيكم من عدوكم ويدر لكم أرزاقكم؟ تدعون الله في ليلكم ونهاركم فإن الدعاء سلاح المؤمن " (2).
وأخرج أحمد في المسند من " حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما من مسلم ينصب وجهه لله في مسألة إلا أعطاه إياها إما أن يعجلها له وإما أن يدخرها له " (3) قال المنذري في الترغيب والترهيب: لا بأس بإسناده وأخرجه البخاري في الأدب المفرد والحاكم وشهد لمعناه ما أخرجه أحمد والبزار وأبو يعلى قال المنذري: بأسانيد جيدة.
" من حديث أبي سعيد الخدري أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: ما من مسلم يدعو بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث إما أن يعجل له دعوته وإما أن يدخرها له في الآخرة وإما أن يصرف عنه من السوء مثلها " (4).
وأخرج ابن أبي شيبة في مصنفه وأبو داود والترمذي والنسائي وابن حبان " قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) الدعاء هو العبادة ثم تلا: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي) " الآية وصححه الترمذي وابن حبان والحاكم في المستدرك.
_________
(1) رواه الحاكم.
(2) رواه مسلم.
(3) رواه أحمد.
(4) رواه أحمد.(14/157)
" من حديث أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الدعاء مخ العبادة " (1) وأخرج الترمذي والحاكم في المستدرك:
" من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من لم يسأل الله يغضب عليه " (2) وفي لفظ: من لم يدع الله يغضب عليه أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف والحاكم في المستدرك وصححه. ومن ذلك.
" استعاذته صلى الله عليه وسلم من سوء القضاء " كما في صحيح مسلم وغيره.
" ومن ذلك ما ثبت في قنوت الوتر عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال فيه: وقني شر ما قضيت "، وهو حديث صحيح، وإن لم يخرجه الشيخان، وفيهما الاستعاذة من القضاء المشتمل على الشر والسوء ومن ذلك الأحاديث الواردة في صلة الرحم وأنها تزيد في العمر وهي أحاديث صحيحة ومن ذلك الأحاديث الواردة في إجابة دعاء المظلوم على ظالمه والأحاديث الواردة في دعاء الوالدين لولدهما والأحاديث الواردة في دعوة الإمام العادل والأحاديث الواردة في إجابة دعوة من دعا ربه باسمه الأعظم وغير ذلك كثير.
وجميع ذلك على اختلاف دلالته متواتر فليت شعري كيف ذهب جماعة من أهل العلم إلى مخالفة ذلك كله، وقالوا: إن أحكام الله وقضاءه في سابق علمه لا تغير أصلاً فإن استدلوا بمثل قوله تعالى: (مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ)، وما ورد في اللوح المحفوظ، وما كتب فيه، وأنه قد جف القضاء، ونحو ذلك، فأي فائدة في مثل قوله عز وجل: (أدعوني أستجب لكم)؟ فإن هذا أمر منه عز وجل لعباده بدعائه، وأي فائدة في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يخبر عباده أنه قريب مجيب يجيب دعوة الداعي إذا دعاه؟ وأي فائدة في قوله عز وجل، مخبراً لعباده (يمحو ما يشاء ويثبت وعنده أم
_________
(1) رواه الحاكم.
(2) رواه الحاكم.(14/158)
الكتاب) وعلمنا سبحانه كيف ندعو في نحو قوله: (ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا) إلى آخر الآية.
" وحكى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم كما ثبت في الصحيح أن الله عز وجل قال عند هذه الدعوات: قد فعلت "، وكذلك سائر ما قصه الله علينا في كتابه من إجابته لدعوة أنبيائه كما في قوله: (حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا)، وفي مثل: (إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم) وما شابه ذلك من الآيات، وما شوهد من نبينا صلى الله عليه وسلم من إجابة دعواته في مواطن يتعسر إحصاؤها، وما شوهد من صالحي هذه الأمة في كل قرن من القرون من إجابة دعواتهم في الحال.
ومن جهل هذا أو بعضه نظر في مثل حلية الأولياء، ومثل رسالة القشيري، ومثل صفوة الصفوة لابن الجوزي، وغير ذلك مما يكثر تعداده، بل ينظر في الدعوات المجابة من الصحابة رضي الله عنهم، وكما وقع من جماعة كثيرة من السلف رحمهم الله تعالى أنهم كانوا يقولون في أدعيتهم: اللهم إن كنت قد كتبتني في ديوان الأشقياء فانقلني إلى ديوان السعداء بعبارات مختلفة هذه إحداها، وبالجملة فالكتاب العزيز والسنة المتواترة ترد عليهم رداً أوضح من شمس النهار.
وطائفة قالت: إن الأقضية نوعان مطلقة ومقيدة، فالمطلقة ما لم تكن مشروطة بشروط واقعة، وإلا فلا، وهذا القول وإن كان مردوداً مثل الأول إلا أنه أقل مفسدة منه، وإن كان رأياً بحتاً ليس عليه دليل، وبالجملة فالبحث يطول فلنقتصر على هذا المقدار، والحمد لله أولاً وآخراً، واستنبط بعضهم من هذه الآية عمر النبي صلى الله عليه وسلم، لأن السورة رأس ثلاث وستين سورة، وعقبت بالتغابن إشارة لظهور التغابن بوفاته صلى الله عليه وسلم، ذكره الكرخي، وليس هذا من تفسير الكتاب في شيء، بل من لطائف الكلام وتفنن المرام.(14/159)
سورة التغابن
(هي ثماني عشرة آية بالاتفاق، وهي مدنية في قول الأكثر)
وقال الضحاك، هي مكية، وقال الكلبي: هي مدنية ومكيّة، وقال ابن عباس: نزلت بالمدينة، وعن ابن الزبير مثله، وعن ابن عباس أيضاً قال: نزلت بمكة إلا آيات من آخرها نزلن بالمدينة في عوف بن مالك الأشجعي شكا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جفاء أهله وولده، فأنزل الله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ) إلى آخر السورة، وعن عطاء ابن يسار نحوه.
أخرج البخاري في تاريخه.
عن عبد الله بن عمرو قال: " ما من مولود يولد إلا مكتوب في تشبيك رأسه خمس آيات من أول سورة التغابن "، وأخرجه ابن حبان في الضعفاء والطبراني وابن مردويه وابن عساكر مرفوعاً عنه، قال ابن كثير: وهو غريب جداً بل منكر.(14/161)
بسم الله الرحمن الرحيم
يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (2) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (4) أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (5) ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (6) زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (7)(14/163)
يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1)
(يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ) أي ينزهه سبحانه جميع مخلوقاته التي في سمواته وأرضه، عن كل نقص وعيب، وكررت (ما) هنا، وفي قوله: (وما تعلنون) تأكيداً وتعميماً، وللاختلاف لأن تسبيح ما في السموات مخالف لتسبيح ما في الأرض كثرة وقلة، وأسرارنا مخالفة لعلانيتنا، ولم تكرر في قوله: (يعلم ما في السموات والأرض) لعدم اختلاف علمه تعالى، إذ علمه بما تحت الأرض كعلمه بما فوقها وعلمه بما كان كعلمه بما يكون.
(له الملك وله الحمد) أي يختصان به ليس لغيره منهما شيء، وما كان لعباده منهما فهو من فيضه، وراجع إليه وتقديم الظرف يفيد الاختصاص به تعالى من حيث الحقيقة لأنه مبدىء كل شيء ومبدعه فكان الملك له حقيقة دون غيره، ولأن أصول النعم وفروعها منه تعالى، فالحمد له بالحقيقة، وحمد غيره إنما يقع من حيث ظاهر الحال، وجريان النعم على يديه، والملك هو الاستيلاء، والتمكن من التصرف في كل شيء على حسب ما أراد في الأزل، قال الرازي. الملك تمام القدرة واستحكامها، يقال: ملك بين الملك(14/163)
بالضم ومالك بين الملك بالكسر (وهو على كل شيء قدير) لا يعجزه شيء.(14/164)
هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (2)
(هو الذي خلقكم) أي قدر خلقكم في الأزل، وكذا قوله: (فمنكم كافر ومنكم مؤمن) أي مقضي بكفره وإيمانه أزلاً، وقيل: إنه خلق الخلق، ثم كفروا وآمنوا، والتقدير هو الذي خلقكم ثم وصفكم فقال: (فمنكم كافر ومنكم مؤمن) كقوله: (وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ) الآية، قالوا: فإنه خلقهم والمشي فعلهم وهذا اختيار الحسين بن الفضيل قال: لو خلقهم مؤمنين وكافرين لما وصفهم بفعلهم في قوله (فمنكم كافر) إلخ واحتجوا:
" بقوله صلى الله عليه وسلم: كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه "، ذكره الخطيب، قال الضحاك: فمنكم كافر في السر مؤمن في العلانية كالمنافق، ومنكم مؤمن في السر وكافر في العلانية، كعمار ابن ياسر ونحوه مما أكره على الكفر.
وقال عطاء: فمنكم كافر بالله مؤمن بالكواكب ومنكم مؤمن بالله، كافر بالكواكب. قال الزجاج: إن الله خلق الكافر، وكفره فعل له وكسب، مع أن الله خالق الكفر، وخلق المؤمن، وإيمانه فعل له وكسب، مع أن الله خالق الإيمان، والكافر يكفر ويختار الكفر بعد خلق الله إياه، لأن الله تعالى قدر ذلك عليه وعلمه منه، لأن وجود خلاف المقدر عجز، ووجود خلاف المعلوم جهل، هذا طريق أهل السنة، فمن سلك هذا أصاب الحق وسلم من مذهب الجبرية والقدرية، قال القرطبي: وهذا أحسن الأقوال، وهو الذي عليه جمهور الأمة وقدم الكافر على المؤمن لأنه الأغلب عند نزول القرآن، وفيه رد لقول من يقول بالمنزلة بين المنزلتين.
(والله بما تعملون بصير) لا تخفى عليه من ذلك خافية، فهو مجازيكم بأعمالكم.(14/164)
" عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: العبد يولد مؤمناً، ويعيش مؤمناً، ويموت مؤمناً، والعبد يولد كافراً، ويعيش كافراً، ويموت كافراً، وإن العبد يعمل برهة من دهره بالسعادة، ثم يدركه ما كتب له، فيموت شقياً وإن العبد يعمل برهة من دهره بالشقاء، ثم يدركه ما كتب له فيموت سعيداً "، أخرجه ابن مردويه، ثم لما ذكر سبحانه خلق العالم الصغير اتبعه بخلق العالم الكبير فقال:(14/165)
خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3)
(خلق السموات والأرض) خلقاً متلبساً (بالحق) أي بالحكمة البالغة، وقيل: خلق ذلك خلقاً يقينياً لاريب فيه، وقيل: الباء بمعنى اللام، أي خلق ذلك لإظهار الحق، وهو أن يجزي المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته، ثم رجع سبحانه إلى خلق العالم الصغير كذا قال مقاتل، وقيل: المراد جميع الخلائق وهو الظاهر، أي أنه سبحانه خلقهم في أكمل صورة وأحسن تقويم، وأجمل شكل وأبهاه، لا يتمنى الإنسان أن تكون صورته على خلاف ما يرى من سائر الصور قال بعض الحكماء شيئان لا غاية لهما، الجمال والبيان، والتصوير والتخطيط والتشكيل.
قرأ الجمهور صوركم بضم الصاد وقرىء بكسرها.
(وإليه المصير) في الدار الآخرة لا إلى غيره.
" وعن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا مكث المني في الرحم أربعين ليلة أتاه ملك النفوس، فعرج به إلى الرب فيقول: يا رب أذكر أم أنثى؟ فيقضي الله ما هو قاض، فيقول: أشقي أم سعيد؟ فيكتب ما هو لاق، وقرأ أبو ذر من فاتحه التغابن خمس آيات إلى قوله: (وإليه المصير) " أخرجه عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه.(14/165)
يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (4)
(يعلم ما في السموات والأرض) لا تخفى عليه من ذلك خافية (ويعلم ما تسرون وما تعلنون) أي ما تخفونه وما تظهرونه، والتصريح به مع اندراجه فيما قبله لمزيد التأكيد في الوعد والوعيد (والله عليم بذات الصدور) جملة مقررة لما قبلها من شمول علمه لكل معلوم، وهي تذييلية، وقال الخطيب: كل واحدة من هذه الثلاث أخص مما قبلها وجمع بينها إشارة إلى أن علمه تعالى محيط بالجزئيات والكليات لا يعزب عنه شيء من الأشياء.(14/166)
أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (5)
(ألم يأتكم)؟ استفهام توبيخ أو تقرير (نبأ الذين كفروا من قبل) أي من قبلكم، وهم كفار الأمم الماضية، كقوم نوح وعاد وثمود والخطاب لكفار العرب، وقوله: (فذاقوا وبال أمرهم) معطوف عليه كفروا، عطف المسبب على السبب، وعبر عن العقوبة بالوبال إشارة إلى أنها كالشيء الثقيل المحسوس، وذلك لأن الوبال في الأصل الثقل والشدة، ومنه الوبيل للطعام الذي يثقل على المعدة، والوابل المطر الثقيل القطر، والمراد بأمرهم هنا ما وقع منهم من الكفر والمعاصي، والوبال ما أصيبوا به من عذاب الدنيا (ولهم عذاب أليم) في الآخرة وهو عذاب النار.(14/166)
ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (6)
(ذلك) أي ما ذكر من العذاب في الدارين وهو مبتدأ وخبره (بأنه) أي بسبب أنها (كانت تأتيهم رسلهم) أي الرسل المرسلة إليهم (بالبينات) أي بالحجج الباهرة والمعجزات الظاهرة (فقالوا أبشر يهدوننا) أي قال قوم منهم لرسولهم هذا القول، منكرين أن يكون الرسول من جنس البشر، متعجبين من ذلك، كما قالت ثمود: (أبشراً منا واحداً نتبعه)، ومن غباوتهم أنهم أنكروا أن يكون الرسول بشراً وسلموا واعتقدوا أن الإله يكون حجراً، وأراد بالبشر الجنس ولهذا قال: يهدوننا وقد أجمل في الحكاية فأسند القول إلى جميع الأقوام كما أجمل الخطاب والأمر في قوله: (يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحاً).
(فكفروا) بالرسل وبما جاؤوا به وقيل: كفروا بسبب هذا القول الذي(14/166)
قالوه للرسل، فالفاء للسببية لا للتعقيب (وتولوا) أي اعرضوا عنهم، ولم يتدبروا فيما جاؤوا به (واستغنى الله) أي أظهر غناه عن إيمانهم وعبادتهم حيث لم يلجئهم ولم يضطرهم إليه مع قدرته على ذلك، وقال مقاتل: استغنى الله بما أظهره لهم من البرهان، وأوضحه من المعجزات، وقيل: استغنى بسلطانه عن طاعة عباده، وقال الزمخشري: أي ظهر غناه فالسين ليست للطلب (والله غني حميد) أي غير محتاج إلى العالم ولا إلى عبادتهم له، محمود من كل مخلوقاته بلسان المقال والحال.(14/167)
زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (7)
(زعم الذين كفروا) الزعم هو القول بالظن، وادعاء العلم، ويطلق على الكذب، قال شريح: لكل شيء كنية وكنية الكذب زعموا، وهو يتعدى إلى مفعولين، وقوله: (أن لن يبعثوا) ساد مسدهما والمعنى زعم كفار العرب وهم أهل مكة كما قاله أبو حيان: أن الشأن لن يبعثوا أبداً.
" عن ابن مسعود أنه قيل له: ما سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول في (زعموا)؟ قال: سمعته يقول: بئس مطية الرجل "، أخرجه أحمد والبيهقي وغيرهما، وعنه أنه كره زعموا، ثم أمر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يرد عليهم، ويبطل زعمهم فقال:
(قل بلى) هي لإيجاب النفي، فالمعنى بلى تبعثون، ثم أقسم على ذلك بقوله (وربي) وجواب القسم (لتبعثن) أي لتخرجن من قبوركم، أكد الإخبار باليمين، فإن قلت: ما معنى اليمين على شيء أنكروه، قلت: هو جائز لأن التهدد به أعظم موقعاً في القلب، فكأنه قيل لهم: ما تنكرونه كائن لا محالة (ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ) أي لتخبرن بذلك إقامة للحجة عليكم، ثم تجزون به (وَذَلِكَ) البعث والجزاء (عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) إذ الإعادة أيسر من الابتداء.(14/167)
فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (8) يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (10) مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (11) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (12) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (13)(14/168)
فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (8)
(فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ) الفاء هي الفصيحة الدالة على شرط مقدر، أي إذا كان الأمر هكذا فصدقوا يا كفار مكة بالله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم، ولم يقل باليوم الآخر على ما هو المناسب لقوله: (زعم الذين كفروا) اكتفاء بقوله: (والنور الذي أنزلنا) فإنه مشتمل على البعث والحساب، وهو القرآن، لأنه نور يهتدى به من ظلمة الضلال (والله بما تعملون خبير) لا يخفى عليه شيء من أقوالكم وأفعالكم، فهو مجازيكم على ذلك:(14/168)
يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9)
(يوم يجمعكم) العامل في الظرف لتنبؤن قاله النحاس، وقال غيره: هو خبير، وقيل: محذوف هو أذكر، وقال أبو البقاء: هو ما دل عليه الكلام أي تتفاوتون يوم يجمعكم، قرأ الجمهور بفتح الياء وضم العين وروي إسكانها ولا وجه لذلك إلا التخفيف وإن لم يكن هذا موضعاً له كما قرىء في (وما يشعركم) بسكون الراء، وقرىء نجمعكم بالنون ومعنى (ليوم الجمع) ليوم القيامة، فإنه يجمع فيه أهل المحشر للجزاء، ويجمع فيه بين كل عامل وعمله، وبين كل نبي وأمته، وبين كل ظالم ومظلومه، وبين الأولين(14/168)
والآخرين من الإنس والجن وجميع أهل السماء، وأهل الأرض.
(ذلك) يعني أن يوم القيامة هو (يوم التغابن) وذلك أنه يغبن فيه بعض أهل المحشر بعضاً فيغبن فيه أهل الحق أهل الباطل، ويغبن فيه أهل الإيمان أهل الكفر، وأهل الطاعة أهل المعصية، ولا غبن أعظم من غبن أهل الجنة أهل النار عند دخول هؤلاء الجنة وهؤلاء النار، فتركوا منازلهم التي كانوا يستنزلونها، لو لم يفعلوا ما يوجب النار، فكأن أهل النار استبدلوا الخير بالشر، والجيد بالرديء، والنعيم بالعذاب، وأهل الجنة على العكس من ذلك يقال: غبنت فلاناً إذا بايعته أو شاركته، فكان النقص عليه، والغلبة والغبن فوت الحظ، كذا قال المفسرون، فالمغبون من غبن أهله ومنازله في الجنة، فإطلاق التغابن على ما يكون فيها إنما هو بطريق الاستعارة، وإن التفاعل ليس من اثنين، وكذا المغابنة على سبيل التجريد، قال ابن عباس يوم التغابن من أسماء يوم القيامة، وعنه قال: غبن أهل الجنة أهل النار.
(ومن يؤمن بالله ويعمل صالحاً يكفر عنه سيئاته) أي من وقع منه التصديق مع العمل الصالح استحق تكفير سيئاته (ويدخله جنات تجري من تحتها الأنهار) قرأ الجمهور يكفر ويدخله بالتحتية وقرىء بالنون وفيه التفات من الغيبة إلى التكلم (خالدين فيها أبداً) حال مقدرة فيه مراعاة معنى من (ذلك) أي ما ذكر من التكفير والإدخال (الفوز العظيم) أي الظفر الذي لا يساويه ظفر، والعظيم أعلى حالاً من الكبير الذي ذكر في سورة البروج، لأن ما فيها قد رتب على إدخال الجنات فقط، وما هنا قد رتب على الأمرين المذكورين، فهو جامع للمصالح من دفع المضار وجلب المنافع.(14/169)
وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (10)
(وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) المراد بالآيات إما التنزيلية أو ما هو أعم منها، ذكر سبحانه حال السعداء وحال الأشقياء هنا لبيان ما تقدم من التغابن، وأنه يكون سبب التكفير وإدخال الجنة للطائفة الأولى، وسبب إدخال الطائفة الثانية النار وخلودهم فيها.(14/169)
مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (11)
(ما أصاب) كل أحد (من مصيبة) من المصائب (إلا بإذن الله) أي بقضائه وقدره قال الفراء: أي بأمر الله وقيل: بعلم الله وقيل وسبب نزولها أن الكفار قالوا: لو كان ما عليه المسلمون حقاً لصانهم الله عن المصائب في الدنيا، قال ابن مسعود في الآية: هي المصيبات تصيب الرجل فيعلم أنها من عند الله فيسلم لها ويرضى (ومن يؤمن بالله) أي من يصدق ويعلم أنه لا يصيبه إلا ما قدره الله عليه (يهد قلبه) للصبر والرضاء بالقضاء، قال مقاتل بن حيان: يهد قلبه عند المصيبة فيعلم أنها من الله فيسلم لقضائه، ويسترجع عند حلوله.
وقال سعيد بن جبير: يهد قلبه عند المصيبة فيقول: إنا لله وإنا إليه راجعون وقال الكلبي: هو إذا ابتلى صبر، وإذا أنعم عليه شكر، وإذا ظلم غفر. وقال ابن عباس في الآية: يعني يهد قلبه لليقين، فيعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه. قرأ الجمهور يهد بفتح الياء وكسر الدال أي يهده الله وقرىء بضم الياء وفتح الدال على البناء للفعول ونهد بالنون ويهدأ بهمزة ساكنة ورفع قلبه أي يطمئن ويسكن (والله بكل شيء عليم) أي بليغ العلم لا تخفى عليه من ذلك خافية.(14/170)
وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (12)
(وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول) أي هونوا على أنفسكم المصائب واشتغلوا بطاعة الله وطاعة رسوله في جميع الأوقات، والعمل بكتابه العزيز وسنة رسوله المطهرة (فإن توليتم) أي أعرضتم عن الطاعة (فإنما على رسولنا البلاغ المبين) وليس عليه غير ذلك، وقد فعل، وجواب الشرط محذوف، والتقدير فلا بأس أو فلا ضرر على الرسول، وهذه الجملة تعليل للجواب المحذوف، ثم أرشد إلى التوحيد والتوكل فقال:(14/170)
اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (13)
(الله لا إله إلا هو) أي هو المستحق للعبودية دون غيره فوحدوه ولا تشركوا به (وعلى الله فليتوكل المؤمنون) أي فليفوضوا أموركم إليه ويعتمدوا عليه لا على غيره، حث للرسول على التوكل على الله، والتقوى به حتى ينصره على من كذبه، وتولى عنه.(14/170)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (15) فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (16) إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (17) عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)(14/171)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14)
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ) يدخل فيها الذكر والأنثى (وأولادكم عدواً لكم) يعني أنهم يعادونكم ويشغلونكم عن الخير وعن طاعة الله، أو يخاصمونكم في أمر الدين والدنيا، ويدخل في ذلك سبب النزول دخولاً أولياً (فاحذروهم) أن تطيعوهم في التخلف عن الخير كالجهاد والهجرة، فإن سبب نزول الآية الإطاعة في ذلك، والضمير يعود إلى العدو، وإنما جاز جمع الضمير لأن العدو يطلق على الواحد والاثنين والجماعة، أو إلى الأزواج والأولاد، ولكن لا على العموم، بل إلى المتصفين بالعداوة منهم، قال مجاهد: والله ما عادوهم في الدنيا ولكن حملتهم مودتهم على أن اتخذوا لهم الحرام فأعطوهم إياه، ثم أرشدهم إلى التجاوز فقال:
(وإن تعفوا) عن ذنوبهم التي ارتكبوها بترك المعاقبة (وتصفحوا) بالإعراض وترك التثريب عليها (وتغفروا) بإخفائها وتمهيد معذرتهم فيها وتستروها (فإن الله غفور رحيم) بالغ المغفرة والرحمة لكم ولهم يعاملكم بمثل ما عملتم ويتفضل عليكم.
" عن ابن عباس قال: هؤلاء رجال أسلموا من هل مكة وأرادوا أن يأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فأبى أزواجهم وأولادهم أن يدعوهم إلى أن(14/171)
يأتوا النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم رأوا الناس قد فقهوا في الدين، فهموا أن يعاقبوهم، فأنزل الله تعالى (يا أيها الذين آمنوا) الآية أخرجه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح، ثم أخبر سبحانه بأن الأموال والأولاد فتنة فقال:(14/172)
إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (15)
(إنما أموالكم وأولادكم فتنة) أي بلاء واختبار وشغل عن الآخرة ومحنة، يحملونكم على كسب الحرام وتناوله، ومنع حق الله، والوقوع في العظائم، وغصب مال الغير، وأكل الباطل ونحو ذلك، فلا تطيعوهم في معصية الله، ولم يذكر من هنا كما ذكر في: إن مِنْ أزواجكم، لأنهما لا يخلوان من الفتنة واشتغال القلب بهما، وقدم الأموال على الأولاد لأن فتنة المال أكثر، وترك ذكر الأزواج في الفتنة قال البقاعي: لأن منهن من تكون صلاحاً وعوناً على الآخرة.
" وعن أبي بريدة قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب فأقبل الحسن والحسين عليهما قميصان أحمران يمشيان ويعثران فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم من المنبر فحملهما واحداً من ذا الشق وواحداً من ذا الشق، ثم صعد المنبر فقال صدق الله: إنما أموالكم وأولادكم فتنة، إني لما نظرت إلى هذين الغلامين يمشيان ويعثران لم أصبر أن قطعت كلامي ونزلت إليهما " (1) أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة والحاكم وصححه وابن مردويه وابن أبي شيبة.
(والله عنده أجر عظيم) أي الجنة، وهي لمن آثر طاعة الله وترك معصيته في محبة ماله وولده، ثم أمرهم سبحانه بالتقوى والطاعة فقال:(14/172)
فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (16)
(فاتقوا الله ما استطعتم) أي ما أطقتم وبلغ إليه جهدكم وقد ذهب جماعة من أهل العلم منهم قتادة والربيع بن أنس والسدي وابن زيد إلى أن(14/172)
هذه الآية ناسخة لقوله سبحانه: (اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ)، لأن معناه أن يطاع فلا يعصى، وأن يذكر فلا ينسى، وأن يشكر فلا يكفر، فخفف الله عنهم وأنزل هذه الآية، وقال ابن عباس: هي محكمة ولا نسخ فيها، ولكن حق تقاته أن يجاهدوا فيه حق جهاده، ولا تأخذهم في الله لومة لائم، ويقوموا لله بالقسط ولو على أنفسهم وآبائهم وأبنائهم، وقد أوضحنا الكلام على هذا في قوله: (اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ).
(واسمعوا) ما تؤمرون به سماع قبول لأنه لا فائدة في مجرد السماع (وأطيعوا) الأوامر قال مقاتل: اسمعوا أي اصغوا إلى ما ينزل عليكم وأطيعوا الرسول فيما يأمركم وينهاكم (وأنفقوا) من أموالكم التي رزقكم الله إياها في وجوه الخير والطاعة ولا تبخلوا بها. وقوله: (خيراً لأنفسكم) منتصب بفعل مضمر دل عليه اتقوا، كأنه قال: ائتوا في الإنفاق خيراً لأنفسكم، أو قدموا خيراً لها، كذا قال سيبويه وقال الكسائي والفراء؛ هو نعت لمصدر محذوف، أي إنفاقاً خيراً وقال أبو عبيدة: هو خبر لكان المقدرة أي يكن الإنفاق خيراً لكم، وقال أهل الكوفة: نصبه على الحال، وقيل: هو مفعول به لأنفقوا أي فأنفقوا مالاً خيراً، والظاهر في الآية الإنفاق مطلقاً من غير تقييد بالزكاة الواجبة، وقيل: المراد زكاة الفريضة، وقيل: النافلة وقيل النفقة في الجهاد.
(ومن يوق شح نفسه) فيفعل في ماله جميع ما أمر به من الإنفاق موقناً به مطمئناً إليه، ولم يمنعه ذلك منه (فأولئك هم المفلحون) أي الظافرون بكل خير، الفائزون بكل مطلوب، وقد تقدم تفسير هذه الآية مراراً.(14/173)
إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (17)
(إن تقرضوا الله قرضاً حسناً) فتصرفون أموالكم في وجوه الخير بإخلاص نية، وطيب نفس وسماه قرضاً من حيث التزام الله المجازاة عليه، وفي ذكر القرض أيضاًً تلطف في الاستدعاء، وترغيب في الصدقة حيث جعلها(14/173)
قرضاً لله، مع أن العبد إنما يقرض نفسه، لأن النفع عائد عليه قال القشيري: ويتوجه الخطاب بهذا إلى الأغنياء في بذل أموالهم، وإلى الفقراء في عدم إخلاء أوقاتهم عن مراد الحق ومراقبته على مراد أنفسهم، فالغني يقال له: آثر حكمي على مرادك في مالك وغيره، والفقير يقال له: آثر حكمي في نفسك وقلبك ووقتك، ذكره الخطيب.
(يضاعفه لكم) فيجعل الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، وقد تقدم تفسير هذه الآية في البقرة والحديد.
" عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يقول الله استقرضت عبدي فأبى أن يقرضني، ويشتمني عبدي وهو لا يدري، يقول: وادهراه، وادهراه، وأنا الدهر، ثم تلا أبو هريرة هذه الآية " أخرجه ابن جرير والحاكم وصححه (ويغفر لكم) أي يضم إلى تلك المضاعفة غفران ذنوبكم (والله شكور حليم) يثيب من أطاعه بأضعاف مضاعفة، ولا يعاجل من عصاه بالعقوبة.(14/174)
عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)
(عالم الغيب والشهادة) أي ما غاب وما حضر لا تخفى عليه منه خافية وقيل ما استتر من سرائر القلوب وما انتشر من ظواهر الخطوب (العزيز الحكيم) أي الغالب القاهر بإظهار السيوب (1) ذو الحكمة الباهرة في الإخبار عن الغيوب، وفي صنعه، وقال ابن الأنباري: الحكيم هو المحكم لخلق الأشياء.
_________
(1) السيوب: الركاز.(14/174)
سورة الطلاق
(إحدى أو اثنتا أو ثلاث عشرة آية)
وهي مدنية. قال القرطبي: في قول الجميع. وعن ابن عباس قال: نزلت بالمدينة.(14/175)
بسم الله الرحمن الرحيم
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا (1) فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا (3)(14/177)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا (1)
(يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ) خطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، بلفظ الجمع تعظيماً له، أو خطاب له ولأمته، والتقدير: يا أيها النبي وأمته، فحذف المعطوف لدلالة ما بعده عليه، أو خطاب لأمته فقط بعد ندائه عليه الصلاة والسلام، وهو من تلوين الخطاب خاطب به أمته بعد أن خاطبه، أو أنه على إضمار قول أي يا أيها النبي قل لأمتك، أو خص النبي صلى الله عليه وسلم بالنداء وعم بالخطاب، لأن النبي إمام أمته وقدوتهم، كما يقال لرئيس القوم وكبيرهم: يا فلان افعلوا كيت وكيت اعتباراً لتقدمه وإظهاراً لترؤسه بكلام حسن قاله الزمخشري، قال السمين: وهذا هو معنى القول الثالث الذي تقدم.
وقال المحلي: المراد أمته بقرينة ما بعده، قال الحفناوي: فكأنه قيل: يا أيها الأمة إذا طلقتم إلخ. وهذا الأسلوب سلكه الكازروني، وفي نسخة من تفسير المحلي المراد وأمته بزيادة الواو، يعني أن في الكلام اكتفاء على حد قوله تعالى: (سرابيل تقيكم الحر)، فعلى هذا لفظ النبي لا تجوز فيه، بل هو منادى مع أمته، وهذا الوجه قرره السمين كما تقدم، والمعنى إذا أردتم(14/177)
تطليقهن وعزمتهم عليه على تنزيل المقبل على الأمر المشارف له منزلة الشارع فيه، وإنما احتيج لهذا التجوز ليصح قوله: (فطلقوهن لعدتهن) لأن الشيء لا يترتب على نفسه، ولا يؤمر أحد بتحصيل الحاصل، والمراد بالنساء، المدخول بهن ذوات الأقراء، أما غير المدخول بهن فلا عدة عليهن بالكلية، وأما ذوات الأشهر فسيأتين في قوله (واللائي يئسن) الخ.
ومعنى لعدتهن مستقبلات لعدتهن، أو في قبل عدتهن، أو لقبل عدتهن، أو لزمان عدتهن، وهو الطهر. وقال الجرجاني: اللام بمعنى في أي في عدتهن، وقال أبو حيان: أي لاستقبال عدتهن على حذف مضاف، واللام للتوقيت نحو لقيته لليلة بقيت من شهر كذا، والمراد أن يطلقوهن في طهر لم يقع فيه جماع، ثم يتركن حتى تنقضي عدتهن، فإذا طلقتموهن هكذا فقد طلقتموهن لعدتهن، وسيأتي بيان هذا من السنة.
" عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ في قبل عدتهن " رواه عبد الرزاق في المصنف وابن المنذر والحاكم وابن مردويه، وقرأ ابن لقبل عدتهن، وعن مجاهد أنه قرأ كذلك وعن ابن عباس مثله، وقال في الآية: أي طاهراً من غير جماع، وعن ابن مسعود من أراد أن يطلق للسنة كما أمره الله فليطلقها طاهراً في غير جماع.
" وعن أنس قال: طلق رسول الله صلى الله عليه وسلم حفصة فأتت أهلها فأنزل الله هذه الآية فقيل له: راجعها فإنها صوامة قوامة، وهي من أزواجك في الجنة " أخرجه ابن أبي حاتم وأخرجه ابن جرير عن قتادة مرسلاً.
" وعن ابن عمر أنه طلق امرأته وهي حائض فذكر ذلك عمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم فتغيظ، ثم قال: ليراجعها ثم يمسكها حتى تطهر، ثم تحيض وتطهر، فإن بدا له أن يطلقها فليطلقها طاهراً قبل أن يمسها فتلك(14/178)
العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء وقرأ النبي صلى الله عليه وسلم (يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن) في قبل عدتهن أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما.
" وروي عن ابن عباس أنها نزلت في قصة طلاق عبد يزيد وقد أخرجها ابن أبي حاتم أثراً طويلاً قال الذهبي: إسناده واه والخبر خطأ فإن عبد يزيد لم يدرك الإسلام وفي الباب أحاديث.
(وأحصوا العدة) أي احفظوها واحفظوا الوقت الذي وقع فيه الطلاق، حتى تتم العدة، وهي ثلاثة قروء مستقبلات كوامل لا نقصان فيهن، والخطاب للأزواج لغفلة النساء، وقيل: للزوجات، وقيل: للمسلمين على العموم، والأول أولى لأن الضمائر كلها لهم، ولكن الزوجات داخلات في هذا الخطاب بالإلحاق بالأزواج، لأن الزوج يحصي ليراجع وينفق أو يقطع ويسكن أو يخرج ويلحق نسبه أو يقطع. وهذه كلها أمور مشتركة بينه وبين المرأة، وقيل: أمر بإحصاء العدة لتفريق الطلاق على الإقراء إذا أراد أن يطلق ثلاثاً. وقيل: للعلم ببقاء زمان الرجعة ومراعاة أمر النفقة والسكنى.
(واتقوا الله ربكم) في تطويل العدة عليهن والإضرار بهن وفي وصفه تعالى بربوبيته لهم تأكيد للأمر، ومبالغة في إيجاب الاتقاء (لا تخرجوهن من بيوتهن) أي التي كن فيها عند الطلاق ما دمن في العدة وأضاف البيوت إليهن وهي لأزواجهن لتأكيد النهي وبيان كمال استحقاقهن للسكنى في مدة العدة ومثله قوله: (واذكرن ما يتلى في بيوتكن) وقوله: (وقرن في بيوتكن) ثم لما نهى الأزواج عن إخراجهن من البيوت التي وقع الطلاق وهن فيها نهى الزوجات عن الخروج أيضاًً فقال:
(ولا يخرجن) من تلك البيوت ما دمن في العدة إلا لأمر ضروري كما(14/179)
سيأتي بيان ذلك، قال أبو السعود: ولو بإذن من الأزواج فإن الإذن بالخروج في حكم الإخراج، وقال الخطيب: لأن في العدة حقاً لله تعالى، فلا يسقط بتراضيهما، وقيل: المراد لا يخرجن من أنفسهن إلا إذا أذن لهن الأزواج فلا بأس، والأول أولى، وهذا كله عند عدم العذر، أما إذا كان لعذر كشراء من ليس لها على المفارق نفقة فيجوز لها الخروج نهاراً، قاله الخطيب، وإذا خرجت من غير عذر فإنها تعصي ولا تنتقض عدتها قاله القرطبي.
(إلا أن يأتين بفاحشة مبينة) بفتح الياء وكسرها سبعيتان، وهذا الاستنثاء هو من الجملة الأولى، قال الواحدي: أكثر المفسرين على أن المراد بالفاحشة هنا الزنا، وبه قال ابن عباس، وذلك أن تزني فتخرج لإقامة الحد عليها، ثم ترد إلى منزلها، وقال الشافعي وغيره: هي البذاء في اللسان والاستطالة بها على من هو ساكن معها في ذلك البيت، وعن ابن عباس: الفاحشة المبينة أن تبذو المرأة على أهل الرجل، فإذا بذت عليهم بلسانها فقد حل لهم إخراجها لسوء خلقها، ويؤيد هذا ما قال عكرمة: إن في مصحف أبيّ إلا أن يفحشن عليكم، وقيل: الاستثناء من الجملة الثانية للمبالغة في النهي عن الخروج ببيان أن خروجها فاحشة قال الشوكاني رحمه الله: هو بعهد، قال ابن عمر: خروجها قبل انقضاء العدة من بيتها هي الفاحشة المبينة، وقيل: الفاحشة النشوز.
(وتلك) أي ما ذكر من الأحكام وما في اسم الإشارة من معنى البعد مع قرب العهد المشار إليه للإيذان بعلو درجتها وبعد منزلتها (حدود الله) يعني أن هذه الأحكام التي بينها لعباده هي حدوده التي حدها لهم لا يحل لهم أن يتجاوزها إلى غيرها، (ومن يتعد حدود الله) أي يتجاوزها إلى غيرها أو يخل بشيء منها.
(فقد ظلم نفسه) بإيرادها موارد الهلاك وأوقعها في مواقع الضرر(14/180)
بعقوبة الله على مجاوزته لحدوده وتعديه لرسمه، وقال البيضاوي: أي بأن عرضها للعقاب، وقال أبو السعود: تفسير الظلم بتعريضها للعقاب يأباه قوله: (لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمراً) فإنه استئناف مسوق لتعليل مضمون الشرطية، وقد قالوا: إن الأمر الذي يحدثه الله تعالى أن يقلب قلبه عما فعله بالتعدي إلى خلافه، فلا بد أن يكون الظلم عبارة عن ضرر دنيوي يلحقه بسبب تعديه، ولا يمكن تداركه، أو عن مطلق الضرر الشامل للدنيوي والأخروي، ويخص التعليل بالدنيوي لكون احتراز الناس منه أشد، واهتمامهم بدفعه أقوى والخطاب للمتعدي بطريق الالتفات لمزيد الاهتمام بالزجر عن التعدي لا للنبي عليه الصلاة والسلام كما توهم، فالمعنى ومن يتعد حدود الله فقد أضر نفسه، فإنك لا تدري أيها المتعدي عاقبة الأمر لعل الله يحدث في قلبك بعد ذلك الذي فعلت من التعدي أمراً يقتضي خلاف ما فعلته، فيبدل ببغضها محبة وبالإعراض عنها إقبالاً إليها ويتسنى تلافيه رجعة واستئناف نكاح.
قال القرطبي: قال جميع المفسرين: أراد بالأمر هنا الرغبة في الرجعة، والمعنى التحريض على طلاق الواحدة أو الاثنتين، والنهي عن الثلاث، فإنه إذا طلق ثلاثاً أضر بنفسه عند الندم على الفراق، والرغبة في الارتجاع. فلا يجد إلى المراجعة سبيلاً، وقال مقاتل: بعد ذلك أي بعد طلقة أو طلقتين أمراً بالمراجعة، قال الواحدي: الأمر الذي يحدث أن يوقع في قلب الرجل المحبة لرجعتها بعد الطلقة والطلقتين. قال الزجاج: إذا طلقها ثلاثاً في وقت واحد فلا معنى لقوله: (لعل الله يحدث بعد ذلك أمراً) قالت فاطمة بنت قيس في الآية هي الرجعة.
" عن محارب بن دثار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ما أحل الله شيئاًً أبغض إليه من الطلاق " أخرجه أبو داود مرسلاً.(14/181)
" وروى الثعلبي من حديث ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن من أبغض الحلال إلى الله الطلاق ".
" وعن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: تزوجوا ولا تطلقوا فإن الطلاق يهتز منه العرش ".
" وعن أبي موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تطلقوا النساء إلا من ريبة فإن الله عز وجل لا يحب الذواقين ولا الذواقات ".
" عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما حلف بالطلاق ولا استحلف به إلا منافق " أهـ.
أقول أما حديث ابن عمر فقد رواه أبو داود وابن ماجة عن عبد الله بن عمر بن الخطاب موصولاً وصححه الحاكم وغيره، ورواه أبو داود أيضاًً والبيهقي مرسلاً عن محارب بن دثار وليس فيه ابن عمر، ورجح أبو حاتم والدارقطني والبيهقي إرساله. وقال الخطابي: إنه المشهور، ورواه الدارقطني عن معاذ بلفظ: ما خلق الله شيئاًً أبغض إليه من الطلاق، قال الحافظ ابن حجر: وإسناده ضعيف ومنقطع أهـ، وأما حديث علي فرواه ابن عدي في كتابه الكامل في معرفة الضعفاء عنه رضي الله عنه بإسناده ضعيف. بل قيل: موضوع ورواه الخطيب عن علي أيضاًً مرفوعاً، وفي إسناده عمر بن جميع يروي الموضوعات عن الأثبات.
وأما حديث أبي موسى فقد رواه الطبراني عنه رضي الله عنه مرفوعاً، وكذا الدارقطني في الأفراد، ورواه الطبراني في الكبير أيضاًً عن عبادة بلفظ إن الله لا يحب الذواقين ولا الذواقات، وفي سنده راو لم يسم، وبقية رجال إسناده ثبات، وأما حديث أنس فرواه ابن عساكر في تاريخه عن أنس رضي الله عنه وسنده ضعيف جداً.
" وعن ثوبان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أيما امرأة سألت(14/182)
زوجها الطلاق من غير بأس به حرام عليها رائحة الجنة " أخرجه أبو داود والترمذي.(14/183)
فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2)
(فإذا بلغن أجلهن) أي قاربن انقضاء أجل العدة وشارفن آخرها (فأمسكوهن بمعروف) أي راجعوهن بحسن معاشرة، وإنفاق مناسب، ورغبة فيهن من غير قصد إلى مضارة لهن بطلاق آخر، لأجل إيجاب عدة أخرى، وغير ذلك (أو فارقوهن بمعروف) أي اتركوهن حتى تنقضي عدتهن، فيملكن نفوسهن مع إيفائهن بما هو لهن عليكم من الحقوق، وترك المضارة لهن بالفعل والقول، فقد ضمنت الآية بإفصاحها الحث على فعل الخيرات وبإفهامها اجتناب المنكرات.
(وأشهدوا ذويْ عدل منكم) أي صاحبي عدالة، فإن العدل ضد الجور وهو يرجع إلى معنى العدالة، وهذه شهادة على الرجعة، وقيل: على الطلاق، وقيل: عليهما قطعاً للتنازع وحسماً لمادة الخصومة، والأمر للندب لئلا يقع بينهما التجاحد، كما في قوله: (وأشهدوا إذا تبايعتم) وقيل: إنه للوجوب وإليه ذهب الشافعي، قال: الإشهاد واجب في الرجعة مندوب إليه في الفرقة، وإليه ذهب أحمد بن حنبل، وفي قول الشافعي: إن الرجعة لا تفتقر إلى الإشهاد كسائر الحقوق، وروي نحو هذا عن أبي حنيفة وأحمد، وعن ابن سيرين أن رجلاً سأل عمران بن حصين عن رجل طلق ولم يشهد، قال: بئسما صنع طلق في بدعة وارتجع في غير سنة، فيشهد على طلاقه وعلى مراجعته ويستغفر الله.
(وأقيموا الشهادة لله) هذا أمر للشهود بأن يأتوا بما شهدوا به تقرباً إلى الله. وإنما حث على أداء الشهادة لما فيه من العسر على الشهود، لأنه ربما يؤدي إلى أن يترك الشاهد مهماته ولما فيه من عسر لقاء الحاكم الذي يؤدي عنده، وربما بعد مكانه، وكان للشاهد عوائق، وقيل: الأمر للأزواج بأن يقيموا الشهادة أي الشهود عند الرجعة فيكون قوله: (وأشهدوا ذوي عدل(14/183)
منكم) أمراً بنفس الإشهاد، (وأقيموا الشهادة) أمر بأن تكون خالصة لله لا لمشهود عليه، أوْ لَهُ، ولا لغرض من الأغراض سوى إقامة الحق ودفع الضرر.
(ذلكم) أي ما تقدم من الأمر بالإشهاد وإقامة الشهادة لله، أو ما ذكر من أول السورة إلى هنا (يوعظ به) أي يلين ويرقق به (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر) خص المؤمن لأنه المنتفع بذلك دون غيره.
(ومن يتق الله يجعل له مخرجاً) مما وقع فيه من الشدائد والمحن، والجملة اعتراضية مؤكدة لما سبق من إجراء أمر الطلاق على السنة، والمعنى ومن يتق الله فطلق للسنة ولم يضار المعتدة، ولم يخرجها من مسكنها، واحتاط فأشهد، يجعل الله له مخرجاً مما في شأن الأزواج من الغموم والوقوع في المضايق، ويفرج عنه ويعطيه الخلاص. قال ابن مسعود: مخرجه أن يعلم أنه من قبل الله، وأن الله هو الذي يعطيه، وهو يمنعه، وهو يبتليه، وهو يعافيه، وهو يدفع عنه.
وقال ابن عباس ينجيه من كل كرب في الدنيا والآخرة.
" وعن جابر قال: نزلت هذه الآية في رجل من أشجع كان فقيراً خفيف ذات اليد كثير العيال، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله فقال: اتق الله واصبر، فلم يلبث إلا يسيراً حتى جاء ابن له بغنم كان العدو أصابوه فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله عنها وأخبره خبرها فقال: كلها فنزلت: (ومن يتق الله الآية) " أخرجه (1) الحاكم وصححه وضعفه الذهبي.
" وعن ابن عباس قال: جاء عوف بن مالك الأشجعي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن ابني أسره العدو، وجزعت أمه
_________
(1) رواه الحاكم.(14/184)
فما تأمرني؟ قال: آمرك وإياها أن تستكثرا من قول: لا حول ولا قوة إلا بالله، فقالت المرأة: نعم ما أمرك، فجعلا يكثران منها فتغفل عنه العدو فاستاق غنمهم، فجاء بها إلى أبيه فنزلت هذه الآية " أخرجه (1) ابن مردويه من طريق الكلبي عن أبي صالح عنه، وفي الباب روايات تشهد لهذا، وعن عائشة في الآية قالت: يكفيه هم الدنيا وغمها.
" وعن أبي ذر قال: جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يتلو هذه الآية فجعل يرددها حتى نعست، ثم قال: يا أبا ذر لو أن الناس كلهم أخذوا بها لكفتهم "، وفي الباب أحاديث، وقال الكلبي: ومن يتق الله بالصبر عند المصيبة يجعل له مخرجاً من النار إلى الجنة، وقال الحسن. مخرجاً مما نهى الله عنه، قال أبو العالية مخرجاً من كل شيء ضيق على الناس، قال الشعبي والضحاك: هذا في الطلاق خاصة أي من طلق كما أمره الله يكن له مخرجاً في الرجعة في العدة، وأنه يكون كأحد الخطاب بعد العدة.
_________
(1) رواه مسلم.(14/185)
وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا (3)
(ويرزقه) فرجاً وخلفاً (من حيث لا يحتسب) قال ابن مسعود: أي من حيث لا يدري، يعني من وجه لا يخطر بباله، ولا يكون في حسابه وقال الحسين بن الفضل: ومن يَتّق الله في أداء الفرائض يجعل له مخرجاً من العقوبة، ويرزقه الثواب من حيث لا يحتسب، أي يبارك له فيما آتاه وقال سهل بن عبد الله: ومن يتق الله في اتباع السنة يجعل له مخرجاً من عقوبة أهل البدع، ويرزقه الجنة من حيث لا يحتسب، وقيل غير ذلك، وظاهر الآية العموم، ولا وجه للتخصيص بنوع خاص. ويدخل في ذلك، ما فيه السياق دخولاً أولياً، فإن قيل: نرى كثيراً من الأتقياء مضيقاً عليه في الرزق، أجيب بأنه لا يخلو عن رزق، والآية لم تدل على أن المتقي يوسع له في الرزق، بل دلت على أنه يرزق من حيث لا يحتسب، وهذا أمر مطرد في الأتقياء أفاده الكرخي.(14/185)
(ومن يتوكل على الله فهو حسبه) أي ومن وثق بالله فيما نابه كفاه ما أهمه، قال ابن مسعود في الآية: ليس المتوكل الذي يقول تقضي حاجتي، وليس كل من يتوكل على الله كفاه ما أهمه، ودفع عنه ما يكره، وقضى حاجته، ولكن الله جعل فضل من توكل على من لم يتوكل أن يكفر عنه سيئاته ويعظم له أجراً.
(إن الله بالغ أمره) فلا بد من كونه ينفذه، سواء حصل توكل أو لا قال ابن مسعود، قاضٍ أمره على من توكل وعلى من لم يتوكل، ولكن المتوكل يكفر عن سيئاته ويعظم له أجراً قرأ الجمهور بتنوين بالغ ونصب أمره وقرىء بالإضافة وهي سبعية، وقرىء بتنوين بالغ ورفع أمره، لأنه فاعل بالغ، أو على أن أمره مبتدأ مؤخر وبالغ خبر مقدم، قال الفراء في توجيه هذه القراءة: أي أمره بالغ، وقرىء بالغاً بالنصب على الحال، ويكون خبر إن قوله: (قد جعل الله لكل) الخ، والمعنى على الأولى والثانية أن الله سبحانه بالغ ما يريده من الأمر لا يفوته شيء ولا يعجزه مطلوب، وعلى الثالثة أن الله نافذ أمره لا يرده شيء.
(قد جعل الله لكل شيء قدراً) أي تقديراً وتوقيتاً أو مقداراً لا يتعداه وإن اجتهد جميع الخلائق في أن يتعداه فقد سجل سبحانه للشدة أجلاً تنتهي إليه، وللرخاء أجلاً ينتهي إليه، وهذا بيان لوجوب التوكل على الله وتفويض الأمر إليه: لأنه إذا علم أن كل شيء من الرزق ونحوه لا يكون إلا بتقديره وتوقيته لم يبق إلا التسليم للقدر والتوكل، قال السدي: هو قدر الحيض والعدة، وقال ابن مسعود: يعني أجلاً ومنتهى ينتهي إليه.
" وعن عمر بن الخطاب قال: قال صلى الله عليه وسلم: لو أنكم توكلتم على الله حق توكله لرزقتم كما ترزق الطير تغدو خماصاً وتروح بطاناً " أخرجه أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجة والحاكم وصححه وغيرهم.(14/186)
وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا (4) ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا (5) أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى (6) لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا (7)(14/187)
وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا (4)
(وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ) وهن الكبار اللاتي قد انقطع حيضهن وأيسن منه عن أبيّ بن كعب أن ناساً من أهل المدينة لما نزلت هذه الآية في البقرة في عدة النساء قالوا: لقد بقي من عدة النساء عدد لم يذكر في القرآن الصغار والكبار اللاتي قد انقطع حيضهن، وذوات الحمل، فأنزل الله هذه الآية.
(إن ارتبتم) أي شككتم وجهلتم كيف عدتهن وما قدرها، وقيل معناه إن تيقنتم، ورجح ابن جرير أنه بمعنى الشك وهو الظاهر، قال الكرخي صفة كاشفة لأن عدتهن ذلك، سواء وجد شك أم لا، قال الزجاج: إن ارتبتم في حيضها وقد انقطع عنها الحيض وكانت ممن تحيض مثلها، وقال مجاهد: إن ارتبتم يعني لم تعلموا عدة الآيسة والتي لم تحض.
(فعدتهن ثلاثة أشهر) وقيل: المعنى إن ارتبتم في الدم الذي يظهر منها هل هو حيض أم لا؟ بل استحاضة؟ فالعدة هذه، وقيل: إن ارتبتم في دم البالغات مبلغ اليأس، وقد قدروه بستين سنة أو بخمس وخمسين، فعدتهن هذه، وهذا قول عثمان وعلي وزيد بن ثابت وعبد الله بن مسعود وبه(14/187)
قال عطاء وإليه ذهب الشافعي وأصحاب الرأي، وقال عمر: إنها تتربص تسعة أشهر، وقال الحسن سنة فإن لم تحض فتعتد بثلاثة أشهر فإذا كانت هذه عدة المرتاب بها فغير المرتاب بها أولى بذلك.
(واللائي لم يحضن) لصغرهن وعدم بلوغهن سن المحيض، أو لأنهن لا حيض لهن أصلاً وإن كن بالغات، قاله الخطيب. أي فعدتهن ثلاثة أشهر أيضاًً، وحذف هذا لدلالة ما قبله عليه، والأولى أن يقدر مفرداً أي فكذلك أو مثلهن، ولو قيل: إنه معطوف على اللائي يئسن عطف المفردات وأخبر عن الجميع بقوله: فعدتهن لكان وجهاً حسناً وأكثر ما فيه توسط الخبر بين المبتدأ وما عطف عليه، وهذا ظاهر قول الشيخ أبي حيان.
(وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن) أي انتهاء عدتهن وضع الحمل وظاهر الآية أن عدة الحوامل بالوضع سواء كن مطلقات أو متوفي عنهن أزواجهن، وعمومها باق فهي مخصصة لآية يتربصن بأنفسهن، أي ما لم يكن حوامل، وإنما لم يعكس لأن المحافظة على عموم هذه الآية أولى من المحافظة على عموم تلك، لأن أزواجاً في آية البقرة عمومه بدلي، لا يصلح لجميع الأفراد في حال واحد، لأنه جمع منكر في سياق الإثبات، وأما أولات الأحمال فعمومه شمولي، لأن الموصول من صيغ العموم، وأيضاًً الحكم هنا معلل بوصف الحملية بخلاف ما هناك، وأيضاًً هذه الآية متأخرة في النزول عن آية البقرة فتقديمها على تلك تخصيص، وتقديم تلك فيما لو عمل بعمومها رفع لما في الخاص من الحكم، فهو نسخ، والتخصيص أولى منه، وقد تقدم الكلام على هذا في سورة البقرة مستوفى، وحققنا البحث في هذه الآية وفي الآية الأخرى: (والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشراً).
" عن أبيّ بن كعب في الآية قال: قلت للنبي صلى الله عليه وسلم: أهي المطلقة ثلاثاً؟ أو المتوفى عنها؟ قال هي المطلقة ثلاثاً والمتوفى عنها ".(14/188)
أخرجه عبد الله بن أحمد في زوائد المسند، وأبو يعلى وغيرهما.
" وروي بوجه آخر مرفوعاً عنه، وعن ابن مسعود أنه بلغه أن علياً قال: تعتد آخر الأجلين فقال: من شاء لاعنته إن الآية التي في سورة النساء القصري نزلت بعد سورة البقرة (وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن) بكذا وكذا شهراً وكل مطلقة أو متوفى عنها زوجها فأجلها أن تضع حملها "، وروي منه نحو هذا من طرق، وبعضها في صحيح البخاري، وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما.
" من حديث أم سلمة أن سبيعة الأسلمية توفي عنها زوجها وهي حبلى فوضعت بعد موته بأربعين ليلة، فخطبت فأنكحها صلى الله عليه وسلم " وفي الباب أحاديث.
(ومن يتق الله يجعل له من أمره يسراً) أي من يتقه في امتثال أوامره واجتناب نواهيه، يسهل عليه أمره في الدنيا والآخرة، وقال الضحاك: من يتق الله في اجتناب معاصيه يجعل له من أمره يسراً في توفيقه للطاعة(14/189)
ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا (5)
(ذلك) أي ما ذكر من الأحكام وتفاضيل العدة (أمر الله) أي حكمه الذي حكم به بين عباده وشرعه الذي شرعه لهم ومعنى: (أنزله إليكم) أنزله في كتابه على رسوله، وبينه لكم، وفصل أحكامه وأوضح حلاله وحرامه.
(ومن يتق الله) بترك ما لا يرضاه (يكفر عنه سيئاته) التي اقترفها لأن التقوى من أسباب المغفرة للذنوب (ويعظم له أجراً) أي يعطيه من الأجر في الآخر أجراً عظيماً وهو الجنة(14/189)
أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى (6)
(اسكنوهن من حيث سكنتم) هذا كلام مبتدأ يتضمن بيان ما يجب للنساء المطلقات وغيرهن من المفارقات من السكنى، ومن للتبغيض أي بعض مكان سكناكم قاله الزمخشري، وقال الكسائي والرازي: من زائدة، وقال الحوفي وأبو البقاء: إنها لابتداء الغاية.(14/189)
(من وجدكم) أي من سعتكم وطاقتكم، وقال ابن عباس: من سعيكم والوجد بالحركات الثلاث، والمشهور باتفاق القراء بالضم بمعنى المقدرة، قال الفراء: يقول: على من يجد فإن كان موسعاً وسع عليها في المسكن والنفقة، وإن كان فقيراً فعلى قدر ذلك، قال قتادة: إن لم تجد إلا ناحية بيتك فأسكنها فيه وقد اختلف أهل العلم في المطلقة ثلاثاً هل لها سكنى ونفقة أم لا؟ فذهب مالك والشافعي إلى أن لها سكنى ولا نفقة لها، وذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى أن لها النفقة والسكنى، وذهب أحمد وإسحق وأبو ثور إلى أنه لا نفقة لها ولا سكنى، وهذا هو الحق وقد قرره الشوكاني في شرحه للمنتقي بما لا يحتاج الناظر فيها إلى غيره، وأوضحناه في الروضة الندية شرح الدرر البهية.
(ولا تضاروهن لتضيقوا عليهن) نهى سبحانه عن مضارتهن بالتضييق عليهن في المسكن والنفقة، وقال مجاهد: في المسكن، وبه قال ابن عباس، وقال مقاتل: في النفقة، وقال أبو الضحى: هو أن يطلقها فإذا بقى يومان من عدتها راجعها ثم طلقها (وإن كن)؟ أي المطلقات الرجعيات أو البائنات دون الحوامل المتوفى عنهن.
(أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن) أي إلى غاية هي وضعهن للحمل ولا خلاف بين العلماء في وجوب النفقة والسكنى للحامل المطلقة، فأما الحامل المتوفى عنها زوجها فقال علي وابن عمر وابن مسعود وشريح والنخعي والشعبي وحماد وابن أبي ليلى وسفيان وأصحابه: ينفق عليها من جميع المال حتى تضع، وقال ابن عباس وابن الزبير وجابر بن عبد الله ومالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابه: لا ينفق عليها إلا من نصيبها، وهذا هو الحق للأدلة الواردة في ذلك من السنة المطهرة، قال ابن عباس في الآية: فهذه في المرأة يطلقها زوجها وهي حامل فأمره الله أن يسكنها وينفق عليها حتى تضع، وإن أرضعت حتى تفطم فإن أبان طلاقها وليس لها حمل فلها السكنى(14/190)
حتى تنقضي عدتها ولا نفقة لها.
(فإن أرضعن لكم) أولادكم بعد ذلك (فآتوهن أجورهن) أي أجور إرضاعهن، والمعنى أن المطلقات إذا أرضعن أولاد الأزواج المطلقين لهن منهن، فلهن أجورهن على ذلك.
(وائتمروا بينكم بمعروف) هو خطاب للأزواج والزوجات، يعني تشاوروا بينكم بما هو معروف غير منكر، وليقبل بعضكم من بعض من المعروف والجميل، قال الكسائي: ائتمروا تشاوروا، وتلا قوله تعالى: (إن الملأ يأتمرون بك) وأصل معناه ليأمر بعضكم بعضاً بما هو متعارف بين الناس غير منكر عندهم، قال مقاتل: المعنى ليتراض الأب والأم على أجر مسمى، قيل: والمعروف الجميل من الزوج أن يوفر لها الأجر، والمعروف الجميل منها أن لا تطلب ما يتعاسره الزوج من الأجر.
(وإن تعاسرتم) في حق الولد وأجر الرضاع فأبى الزوج أن يعطي الأم الأجر وأبت الأم أن ترضعه إلا بما تريد من الأجر (فسترضع له أخرى) أي يستأجر مرضعة أخرى ترضع ولده، ولا يجب عليه أن يسلم ما تطلبه الزوجة، ولا يجوز له أن يكرهها على الإرضاع بما يريد من الأجر، وقال الضحاك: إن أبت الأم أن ترضع استأجر لولده أخرى، فإن لم تقبل أجبرت أمه على الرضاع بالأجر، وهو خبر بمعنى الأمر، والظاهر أنه على بابه، وفيه معاتبة للأم على المعاسرة، لأن المبذول من جهتها اللبن، وهو غير متمول، ولا يضن به لا سيما على الولد بخلاف ما يبذل من الأب فإنه مال يضن به عادة.(14/191)
لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا (7)
(لينفق ذو سعة من سعته) فيه الأمر لأهل السعة بأن يوسعوا على المرضعات من نسائهم على قدر سعتهم (ومن قدر عليه رزقه) أي كان رزقه بمقدار القوت أو مضيق ليس بموسع (فلينفق مما آتاه الله) أي مما أعطاه من الرزق ليس عليه غير ذلك، وفي الخطيب يقدر القاضي النفقة بحسب حال(14/191)
المنفق والحاجة من المنفق عليه بالإجتهاد على مجرى العادة، قال تعالى: (وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف)، ولكن نفقة الزوجة مقدرة عند الشافعي محدودة، فلا اجتهاد للحاكم ولا للمفتي فيها، وتقديرها هو بحسب حال الزوج وحده من عسره ويسره، ولا اعتبار بحالها، فيجب لابنة الخليفة ما يجب لابنة الحارث، فيلزم الزوج الموسر مدان والمتوسط مد ونصف، والمعسر مد لظاهر قوله تعالى: (لينفق ذو سعة من سعته) فجعل الاعتبار بالزوج في العسر واليسر، ولأن الاعتبار بحالها يؤدي إلى الخصومة لأن الزوج يدعي أنها تطلب فوق كفايتها، وهي تزعم أنها تطلب قدر كفايتها فقدرت قطعاً للخصومة انتهى.
والتقدير المذكور مسلم في نفقة الزوجة ونفقة المطلقة، إذا كانت رجعية مطلقاً أو بائناً حاملاً، بخلاف المرضعة، قاله سليمان الجمل. عن أبي سنان قال: سأل عمر بن الخطاب عن أبي عبيدة فقيل: إنه يلبس الغليظ من الثياب، ويأكل أخشن الطعام، فبعث إليه بألف دينار وقال للرسول: انظر ماذا يصنع بها إذا أخذها، فما لبث أن لبس ألين الثياب وأكل أطيب الطعام، فجاء الرسول فأخبره فقال: رحمه الله تأول هذا الآية (لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله).
(لا يكلف الله نفساً إلا ما آتاها) أي ما أعطاها من الرزق، فلا يكلف الفقير بأن ينفق ما ليس في وسعه، بل عليه ما يقدر عليه، وتبلغ إليه طاقته مما أعطاه الله من الرزق (سيجعل الله بعد عسر يسراً) أي بعد ضيق وشدة سعة وغنى، وهذا وعد لذي العسر باليسر، وقد صدق الله وعده فيمن كانوا موجودين عند نزول الآية، ففتح عليهم جزيرة العرب، ثم فارس والروم، حتى صاروا أغنى الناس، وصدق الآية دائم غير أنه في الصحابة أتم لأن إيمانهم أقوى من غيرهم ولما ذكر سبحانه ما تقدم من الأحكام حذر من مخالفتها وذكر عتو قوم خالفوا أوامره فحل بهم عذابه فقال:(14/192)
وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا (8) فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا (9) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا (10) رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا (11) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (12)(14/193)
وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا (8)
(وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ) يعني وكم من أهل قرية عصوا أمر الله ورسله وأعرضوا عن أمرهما على تضمين عتت معنى أعرضت أو خرجت، وقد قدمنا الكلام في كأين في آل عمران وغيرهما (فحاسبناها حساباً شديداً) أي شددنا على أهلها في الحساب بما عملوا بالمناقشة والاستقصاء، قال مقاتل: حاسبها الله بعملها في الدنيا فجازاها بالعذاب، وهو معنى قوله: (وعذبناها عذاباً نكراً) أي عذبنا أهلها عذاباً عظيماً منكراً في الآخرة، وقيل: في الكلام تقديم وتأخير أي عذبنا أهلها عذاباً نكراً في الدنيا بالجوع والقحط والسيف والخسف والمسخ، وحاسبناهم في الآخرة حساباً شديداً. قال ابن عباس: يقول لم ترحم، والنكر المنكر قرىء نكراً بسكون الكاف وضمها وهما سبعيتان.(14/193)
فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا (9)
(فذاقت وبال أمرها) أي عاقبة كفرها (وكان عاقبة أمرها خسراً) أي هلاكاً في الدنيا وعذاباً في الآخرة، وجيء به على لفظ الماضي، لأن المنتظر من وعد الله ووعيده ملقى في الحقيقة وما هو كائن فكأن قد كان(14/193)
أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا (10)
(أعد الله لهم عذاباً شديداً) في الآخرة وهو عذاب النار والتكرير للتأكيد.
(فاتقوا الله يا أولي الألباب) أي يا أصحاب العقول الراجحة وقوله:(14/193)
(الذين آمنوا) في محل نصب بتقدير أعني، بياناً للمنادى، أو عطف بيان له، أو نعت (قد أنزل الله إليكم ذكراً رسولاً) فيه أوجه.
أحدها: وإليه ذهب الزجاج والفارسي أنه منصوب بالمصدر المنون قبله، لأنه ينحل بحرف مصدري وفعل، كأنه قيل: إن ذكر رسولاً.
الثاني: أنه جعل نفس الذكر مبالغة فأبدل منه.
الثالث: أنه بدل منه على حذف مضاف من الأول تقديره أنزل ذا ذكر رسولاً.
الرابع: كذلك إلا أن رسولاً نعت لذلك المحذوف.
الخامس: أنه بدل منه على حذف مضاف من الثاني، أي ذكراً ذا رسول.
السادس: أن يكون رسولاً نعتاً لذكراً على حذف مضاف، أي ذكراً للرسول، فذا رسول نعت لذكراً.
السابع: أن يكون رسولاً بمعنى رسالة، فيكون رسولاً بدلاً صريحاً من غير تأويل، أو بياناً عند من يرى جريانه في النكرات كالفارسي، إلا أن هذا يبعده قوله الآتي: (يتلو عليكم) لأن الرسالة لا تتلو إلا بمجاز.
الثامن: أن يكون رسولاً منصوباً بفعل مقدر أي أرسل رسولاً.
قال الزجاج: إنزال الذكر دليل على إضمار أرسل.
التاسع: أن يكون منصوباً على الإغراء أي اتبعوا والزموا رسولاً، ذكره السمين. وقيل إن الذكر ههنا بمعنى الشرف كقوله: (لقد أنزلنا إليكم كتاباً فيه ذكركم)، وقوله: (وإنه لذكر لك ولقومك)، ثم بين هذا الشرف فقال:(14/194)
رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا (11)
(رسولاً)، واختلف الناس في رسولاً، هل هو النبي صلى الله عليه وسلم؟ أو القرآن نفسه؟ أو جبريل؟ فقد ذهب الأكثر ومنهم ابن عباس " إلى(14/194)
أن المراد بالرسول هنا محمد صلى الله عليه وسلم، وقال الكلبي: هو جبريل، وبه قال الزمخشري، والمراد بالذكر القرآن، ويختلف المعنى باختلاف وجوه الإعراب السابقة كما لا يخفى، ثم نعت سبحانه الرسول المذكور بقوله:
(يتلو عليكم آيات الله مبينات) أي حال كونها واضحات ظاهرات قرأ الجمهور على صيغة اسم المفعول أي بينها الله وأوضحها، وقرىء على صيغة اسم الفاعل، أي الآيات تبين للناس ما يحتاجون إليه من الأحكام، ورجح الأول أبو حاتم وأبو عبيدة، لقوله: (قد بينا لكم الآيات) (ليخرج الذين آمنوا وعملوا الصالحات) بعد مجيء الذكر والرسول (من الظلمات إلى النور) اللام متعلقة بيتلو أي ليخرج الرسول الذي يتلو الآيات إياهم من ظلمات الضلالة إلى نور الهداية، أو من الجهل إلى العلم، أو من الكفر إلى الإيمان، أو متعلقة بأنزل فيكون المخرج هو الله سبحانه.
(ومن يؤمن بالله ويعمل صالحاً) أي يجمع بين التصديق والعمل بما فرضه الله عليه مع اجتناب ما نهاه عنه (يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار) قرأ الجمهور يدخله بالتحتية وقرىء بالنون وهي سبعية وعليها ففي الكلام التفات من الغيبة إلى التكلم وجمع الضمير في قوله: (خالدين فيها أبداً) باعتبار معنى (من) ووحدة في (ندخله) باعتبار لفظها (قد أحسن الله له رزقاً) أي وسع له رزقه في الجنة التي لا ينقطع نعيمها، وقيل: يرزقون طاعة في الدنيا وثواباً في الآخرة، وقال القشيري: الحسن ما كان على حد الكفاية لا نقصان فيه يتعطل عن أموره بسببه، ولا زيادة تشغله عن الاستمتاع بما رزق لحرصه، كذلك أرزاق القلوب أحسنها أن يكون له من الأحوال ما يستقل بها من غير نقصان، ولا زيادة لا يقدر على الاستمرار عليها، ذكره الخطيب.(14/195)
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (12)
(الله الذي خلق) أي أوجد وحده من العدم بقدرته على وفق ما دبر بعلمه، على هذا المنوال الغريب البديع (سبع سموات) يعني بعضها فوق(14/195)
بعض، قال النسفي: أجمع المفسرون على أن السموات سبع، وقال الخطيب: لا خلاف فيه لحديث الإسراء وغيره (ومن الأرض مثلهن) في العدد يعني سبعاً، قرأ الجمهور مثلهن بالنصب على أنه عطف على سبع سموات، قاله الزمخشري، أو على تقدير فعل أي وخلق من الأرض مثلهن، وقرىء بالرفع على الابتداء، والجار والمجرور قبله خبره، قيل: ما في القرآن آية تدل على أن الأرضين سبع إلا هذه الآية، واختلف الناس في المثلية وكيفية طبقات الأرض على قولين.
أحدهما: وهو قول الجمهور: إنها سبع أرضين طباقاً بعضها فوق بعض، بين كل أرض وأرض مسافة كما بين السماء والأرض، وفي كل أرض سكان من خلق الله، وقال الضحاك: إنها مطبقة بعضها على بعض من غير فتوق، بخلاف السموات، قال القرطبي: والأول أصح لأن الأخبار دالة عليه في البخاري والترمذي وغيرهما.
وفي صحيح مسلم:
" عن سعيد بن زيد قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: من أخذ شبراً من الأرض ظلماً فإنه يطوقه يوم القيامة من سبع أرضين إلى آخر كلامه (1) ".
" وفي الحديث لم ير قرية يريد دخولها إلا قال حين يراها: اللهم رب السموات السبع وما أظللن، ورب الأرضين السبع، وما أقللن الحديث "، وقد مضى في سورة البقرة قول الماوردي وعلى أنها سبع أرضين تختص دعوة الإسلام بأهل الأرض العليا، ولا نلزم في غيرها من الأرضين، وإن كان فيها من يعقل من خلق مميز وفي مشاهدتهم السماء واستمدادهم الضوء منها قولان أحدهما أنهم يشاهدون السماء من كل جانب من أرضهم، ويستمدون الضياء منها، قال ابن عادل: وهذا قول من جعل الأرض مبسوطة، والثاني أنهم لا
_________
(1) رواه مسلم.(14/196)
يشاهدون السماء وأن الله خلق لهم ضياء يشاهدونه، قال ابن عادل: وهذا قول من جعل الأرض كرويّة.
وعن ابن عباس أنها سبع أرضين منبسطة ليس بعضها فوق بعض تفرق بينها البحار، وتظل جميعها السماء حكاه الكلبي عن أبي صالح عنه، فعلى هذا إن كان لقوم منهم وصول إلى أرض أخرى احتمل أن تلزمهم دعوة الإسلام لإمكان الوصول إليهم، واحتمل أن لا تلزمهم لأنها لو لزمتهم لكان النص بها وارداً، ولكان النبي صلى الله عليه وسلم بها مأموراً ذكره الخطيب في تفسيره، وقال بعض العلماء: السماء في اللغة عبارة عما علاك فالأولى بالنسبة إلى السماء الثانية أرض وكذلك السماء الثانية بالنسبة إلى السماء الثالثة أرض، وكذا البقية بالنسبة إلى ما تحته سماء، وبالنسبة إلى ما فوقه أرض، فعلى هذا تكون السموات السبع وهذه الأرض الواحدة سبع سموات وسبع أرضين انتهى.
" وعن ابن عباس أنه قال له رجل: (الله الذي خلق سبع سموات ومن الأرض مثلهن) إلى آخر السورة، فقال ابن عباس: ما يؤمنك أن أخبرك بها فتكفر؟ " أخرجه عبد بن حميد وابن المنذر من طريق سعيد بن جبير.
" وعنه في قوله: ومن الأرض مثلهن قال: سبع أرضين في كل أرض نبي كنبيكم وآدم كآدم ونوح كنوح وإبراهيم كإبراهيم وعيسى كعيسى " أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم وصححه والبيهقي في الشعب من طريق أبي الضحى، قال البيهقي: هذا إسناد صحيح، وهو شاذ بمرة لا أعلم لأبي الضحى عليه متابعاً.
" وعنه قال: في كل أرض مثل إبراهيم ونحو ما على الأرض من الخلق " أخرجه ابن جرير الطبري من طريق شعبة عن عمرو بن مرة عن أبي الضحى قال الحافظ في الفتح: هكذا أخرجه مختصراً وإسناده صحيح.(14/197)
وقال ابن كثير: هذا وأمثاله إذا لم يصح سنده إلى معصوم فهو مردود على قائله انتهى، وتصحيح الحاكم له ليس بذاك قال السيوطي: ولم أزل أتعجب من تصحيح الحاكم له حتى رأيت البيهقي قال: إسناده صحيح، لكن شاذ بمرة انتهى، ولا يلزم من صحة الإسناد صحة المتن فقد يصح الإسناد ويكون في المتن علة وشذوذ تقدح في صحته، قاله القسطلاني، وقال في البداية؛ هذا محمول إن صح نقله على أن ابن عباس أخذه من الإسرائيليات ونحوه، قال السخاوي في المقاصد الحسنة: ومثله في تفسير روح البيان وزاد نقلاً عن السيوطي أنه قال: يمكن أن يؤول على أن المراد بهم الذين كانوا يبلغون الجن عن أنبياء البشر، ولا يبعد أن يسمى كل منهم باسم النبي الذي يبلغ عنه انتهى ونحوه في إرشاد الساري والحاصل أن الأثر المذكور وإن صح فهو موقوف شاذ، والشاذ لا يحتج به كما قال الطيبي في الخلاصة وغيره في غيرها ولفظها، والموقوف هو مطلق ما روي عن الصحابي من قول أو فعل متصلاً كان أو منقطعاً، وهو ليس بحجة على الصحيح، وقال النووي في شرح مسلم: الموقوف ليس بحجة على المختار عند الغزالي وهو الصحيح انتهى.
قال الخفاجي: الذي نعتقد أن الأرض سبع ولها سكان من خلقه يعلمهم الله تعالى انتهى، وهذا أعدل الأقوال وأحوطها، وقال النيسابوري: ذكر الثعالبي في تفسيره فصلاً في خلق السموات والأرض وأشكالهم وأسمائهم أضربا عن إيرادها لعدم الوثوق بمثل تلك الروايات انتهى، وما جاء عن كعب ووهب وأمثالهما في هذا الباب فكلها لا يعتد به لأنهم أخذوه من الإسرائيليات.
" وعن جابر بن عبد الله في حديث طويل يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم: ثم قال: يا محمد ما تحت هذه؟ يعني الأرض قال: خلق، قال: فما تحت الأرض؟ قال: الماء قال: فما تحت الماء؟ قال: ظلمة قال: فما تحت الظلمة؟ قال: الهواء، فقال: فما تحت الهواء؟ ففاضت عينا رسول الله(14/198)
صلى الله عليه وسلم وقال: انقطع علم الخلائق أيها السائل، فقال: صدقت أشهد أنك رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتدرون من هذا؟ قالوا: الله ورسوله أعلم قال: هذا جبريل " الحديث مختصراً أخرجه الحافظ ابن كثير بسنده، وأخرجه ابن مردويه أيضاًً عنه بطوله، وهذا الحديث يرد ما قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنه إن كان قد صح قوله.
وبسط الكلام على هذا لا يأتي بفائدة يعتد بها، ويكفي الإعتقاد بكون السموات سبعاً والأرضين سبعاً كما ورد به الكتاب العزيز والسنة المطهرة، ولا ينبغي الخوض في خلقهما وما فيهما فإنها شيء استأثر الله سبحانه وتعالى بعلمه.
لا يحيط به أحد سواه ولم يكلفنا الله تعالى بالخوض في أمثال هذه المسائل والتفكير فيها والكلام عليها وبالله التوفيق.
" وأخرج ابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن ابن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الأرضين بين كل أرض والتي تليها مسيرة خمسائة عام، والعليا منها على ظهر حوت قد التقى طرفاه في السماء، والحوت على صخرة، والصخرة بيد ملك، والثانية تسجل الريح، والثالثة فيها حجارة جهنم، والرابعة فيها كبريت جهنم الحديث بطوله " وتفصيله قال الذهبي: متعقباً للحاكم: هو حديث منكر، قال بعض أهل العلم: لا ينبغي لأحد لأن يغتر بتصيحح الحاكم للأحاديث حتى ينظر في تعقبات الذهبي له، أو كما قال، وعن ابن عباس قال: سيد السموات السماء التي فيها العرش وسيد الأرضين الأرض التي نحن فيها.
(يتنزل الأمر بينهن) مستأنفة أو صفة لما قبلها، قرأ الجمهور يتنزل من التنزل، ورفع الأمر على الفاعلية، وقرىء ينزل من الإنزال ونصب الأمر على المفعولية والفاعل الله سبحانه، والأمر الوحي، وقيل: القضاء والقدر، والضمير عائد على السموات والأرضين عند الجمهور، أو على السموات والأرض عند من يقول إنها أرض واحدة قاله السمين، قال المحلي في(14/199)
تفسيره: ينزل به جبريل من السماء السابعة إلى الأرض السابعة انتهى، قال علي القاري: لم نجد هذا القول لغيره من المفسرين إذ غاية من فسر الأمر بالوحي قال في تفسير قوله: (بينهن) أي بين هذه الأرض العليا التي هي أولاها، وبين السماء السابعة التي هي أعلاها انتهى، قال سليمان الجمل: وهذا التوقف من القاري مبني على أن المراد بالوحي وحي التكليف بالأحكام، وليس بلازم لإمكان حمله على وحي التصرف في الكائنات، وعبارة الخطيب والأكثرون على أن الأمر هو القضاء والقدر فعلى هذا يكون المراد بقوله: (بينهن) إشارة إلى ما بين الأرض السفلى التي هي أقصاها وبين السماء السابعة التي هي أعلاها، فيجري أمر الله وقضاؤه بينهن، وينفذ حكمه فيهن انتهى.
وعن ابن عباس أن نافع بن الأزرق سأله هل تحت الأرضين خلق؟ قال: نعم قال: فما الخلق؟ قال: إما ملائكة أو جن قال مجاهد: يتنزل الأمر من السموات السبع إلى الأرضين السبع، وقال الحسن: بين كل سماءين أرض، وأمر، وقال قتادة: في كل أرض من أرضه وسماء من سمائه خلق من خلقه، وأمر من أمره، وقضاء من قضائه. وقيل: يتنزل الأمر بينهن بحياة بعض وموت بعض، وغنى قوم وفقر قوم، وقيل هو ما يدبر فيهن من عجيب تدبيره فينزل المطر ويخرج النبات ويأتي بالليل والنهار، والصيف والشتاء، ويخلق الحيوانات على اختلاف أنواعها وهيأتها فينقلهم من حال إلى حال، قال ابن كيسان: وهذا على مجال اللغة واتساعها كما يقول للموت: أمر الله، وللريح والسحاب ونحوهما.
(لتعلموا) اللام متعلقة بخلق أو بيتنزل أو بمقدر أي فعل ذلك لتعلموا (أن الله على كل شيء قدير) من غير هذا العالم يمكن أن يدخل تحت المشيئة (قدير) أي بالغ القدرة فيأتي بعالم آخر مثل هذا العالم وأبدع منه وأبدع من ذلك إلى ما لا نهاية له، بالاستدلال بهذا العالم، فإن من قدر(14/200)
على إيجاد ذرة من العدم قدر على إيجاد ما هو دونها ومثلها وفوقها إلى ما لا نهاية له، لأنه لا فرق في ذلك بين قليل وكثير، وجليل وحقير، ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت قاله الخطيب.
وفي حاشية سليمان الجمل هذا كله بالنظر للإمكان العقلي وهذا لا يخالف ما نقل عن الغزالي من قوله: ليس في الإمكان أبدع مما كان، لأن معناه أنه قد تعلق علم الله في الأزل بأنه لا يخلق عالماً غير هذا العالم، وإن كان خلقه جائزاً ممكناً، فمن حيث تعلق العلم بعدمه صار غير ممكن لأنه لو وقع لخالف مقتضى العلم الأزلي، فيلزم انقلاب العلم جهلاً فصار إيجاد عالم آخر محالاً عرضياً، وإن كان ممكناً ذاتياً فهذا معنى قول الشيخ: ليس في الإمكان أبدع مما كان، أي لا يمكن أن يخلق الله عالماً غير هذا العالم، ونفي الإمكان هو الإستحالة فكأنه قال هو محال أن يخلق عالماً غير هذا العالم، وقد عرفت أن هذه الاستحالة عرضية لا ذاتية، وبهذا نعرف سقوط ما نقل عن البقاعي هنا تأمل انتهى.
أقول: وهذا كله ليس بالنظر للإمكان العقلي فقط كما قال سليمان الجمل، بل الكتاب العزيز والسنة المطهرة يدلان على عموم قدرته وكمال قوته على إيجاد كل شيء فيدخل فيه إيجاد مثل هذا العالم دخولاً أولياً، وإن لم يوجد على مقتضى العلم الأزلي، وقول الغزالي عبارة ساقطة ونفس فلسفية لا يليق التفوه بمثلها، وإن كان معناه صحيحاً بالتأويل البعيد الفاسد، والتوجيه البارد الكاسد، ونظم الكتاب العزيز العالي يغني عن مثل عبارة كلام الغزالي.
(وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا) فلا يخرج عن علمه شيء منها كائناً ما كان وانتصاب علماً على المصدرية لأن أحاط بمعنى علم أو هو صفة لمصدر محذوف أي أحاط إحاطة علماً، ويجوز أن يكون تمييزاً محولاً عن الفاعل من غير لفظ الأول.(14/201)
سورة التحريم
(وقال القرطبي: وتسمى سورة النبي صلى الله عليه وسلم، اثنتا عشرة آية)
وهي مدنية قال القرطبي في قول الجميع قال ابن عباس: نزلت بالمدينة وعن ابن الزبير نحوه.(14/203)
بسم الله الرحمن الرحيم
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1) قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (2) وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (3) إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ (4)(14/205)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1)
(يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ) المراد بالتحريم هنا الامتناع من الاستمتاع لا اعتقاد كونه حراماً بعد ما أحله الله له، فإن هذا الاعتقاد لا يصدر منه صلى الله عليه وسلم، لأنه كفر قاله الخطيب (تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ) استئناف أو تفسير لقوله: تحرم أو حال، والمرضاة اسم مصدر وهو الرضا، وأصله مرضوة، وهو مضاف إلى المفعول أي أن ترضي أزواجك أو إلى الفاعل، أي أن يرضين هن، والمعنى لا ينبغي منك أن تشتغل بما يرضي الخلق بل اللائق أن أزواجك وسائر الخلق تسعى في رضاك، وتتفرغ أنت لما يوحى إليك من ربك، قال الخطيب: وفيه تنبيه على أن ما صدر منه لم يكن على ما ينبغي، وقيل: كان ذلك ذنباً من الصغائر، فلذا عاتبه الله عليه، وقيل: إنها معاتبة على ترك الأولى، وقال النسفي: كان هذا زلة منه.
(والله غفور رحيم) أي بليغ المغفرة، والرحمة لما فرط منك من تحريم ما أحل الله لك، واختلف في سبب نزول هذه الآية على أقوال، الأول قول أكثر المفسرين: قال الواحدي: قال المفسرون: كان النبي صلى الله عليه وسلم في بيت حفصة فزارت أباها، فلما رجعت أبصرت مارية القبطية في بيتها(14/205)
مع النبي صلى الله عليه وسلم، فلم تدخل حتى خرجت مارية، ثم دخلت فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم في وجه حفصة الغيرة والكآبة، قال لها: لا تخبري عائشة، ولك علي أن لا أقربها أبداً، فأخبرت حفصة عائشة، وكانتا متصافيتين فغضبت عائشة، ولم تزل بالنبي صلى الله عليه وسلم حتى حلف أن لا يقرب مارية فأنزل الله هذه السورة (1)، وبه قال المحلي، وقال القرطبي: أكثر المفسرين على أن الآية نزلت في حفصة، وذكر القصة وقال أبو السعود والنسفي روي أن النبي صلى الله عليه وسلم، خلا بمارية في يوم عائشة، وعلمت بذلك حفصة. فقال لها اكتمي علي فقد حرمت مارية على نفسي، وأبشرك أن أبا بكر وعمر يملكان بعدي أمر أمتي، فأخبرت به عائشة وكانتا متصافيتين انتهى.
" عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت له أمة يطؤها فلم تزل عائشة وحفصة حتى جعلها على نفسه حراماً، فأنزل الله هذه الآية " أخرجه النسائي والحاكم وصححه وابن مردويه.
" وعن ابن عباس قال: قلت لعمر بن الخطاب. من المرأتان اللتان تظاهرتا؟ قال: عائشة وحفصة، وكان بدء الحديث في شأن مارية القبطية أم إبراهيم، أصابها النبي صلى الله عليه في بيت حفصة في يومها فوجدت حفصة فقالت: يا رسول الله لقد جئت إلي بشيء ما جئته إلى أحد من أزواجك في يومي، وفي دوري على فراشي، قال: ألا ترضين أن أحرمها فلا أقربها ابداً؟ قالت: بلى، فحرمها وقال: لا تذكري ذلك لأحد فذكرته لعائشة فأظهره الله عليه فأنزل الله (يا أيها النبي لم تحرم) الآيات كلها فبلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كفَّر عن يمينه وأصاب مارية " أخرجه البزار والطبراني قال السيوطي بسند صحيح.
وأخرجه ابن سعد وابن مردويه عنه بأطول من هذا وأخرجه ابن مردويه من وجه آخر عنه بأخصر منه، وأخرجه ابن المنذر والطبراني وابن مردويه عنه
_________
(1) ضعيف الجامع - 1704.(14/206)
مختصراً بلفظ: قال حرم سريته، وجعل ذلك سبب النزول في جميع ما روي من هذه الطرق.
" وعن ابن عمر قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم لحفصة لا تحدثي أحداً، وإن أم إبراهيم عليّ حرام، قالت: أتحرم ما أحل الله لك؟ قال: فوالله لا أقربها فلم يقربها حتى أخبرت عائشة، فأنزل الله(14/207)
قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (2)
(قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم) "، أخرجه الهيثم بن كليب في مسنده والضياء المقدسي في المختارة من طريق نافع.
" وعن أبي هريرة أن سبب النزول تحريم مارية كما سلف "، أخرجه الطبراني في الأوسط وابن مردويه وسنده ضعيف.
الثاني قيل: السبب أنه كان صلى الله عليه وسلم يشرب عسلاً، وهو الذي رواه الشيخان، والتي شرب عندها هي زينب بنت جحش فتواطأت عائشة وحفصة أن يقولا له إذا دخل عليهما: إنا نجد منك ريح مغافير فحرم العسل فنزلت هذه الآية، أخرج البخاري وغيره:
" عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمكث عند زينب بنت جحش ويشرب عندها لبناً أو عسلاً فتواصيت أنا وحفصة أن أيتنا دخل عليها النبي صلى الله عليه وسلم فلتقل: إني أجد منك ريح مغافير فدخل على إحداهما فقالت ذلك له، فقال: لا بل شربت عسلاً عند زينب بنت جحش، ولن أعود، فنزلت (يا أيها النبي) إلى قوله (إن تتوبا إلى الله) لعائشة وحفصة، (وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثاً) لقوله: بل شربت عسلاً ".
وقيل: هي سودة كما روي:
" عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم شرب من شراب عند سودة من العسل، فدخل على عائشة فقالت: إني أجد منك ريحاً فدخل على حفصة فقالت: إني أجد منك ريحاً، فقال: أراه من شراب(14/207)
شربته عند سودة، والله لا أشربه أبداً فأنزل الله هذه الآية " أخرجه ابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه، قال السيوطي: بسند صحيح، وقيل: هي أم سلمة كما روي:
" عن عبد الله بن رافع قال: سألت أم سلمة عن هذه الآية يا أيها النبي لم تحرم؟ قالت كانت عندي عكة من عسل أبيض فكان النبي صلى الله عليه وسلم يلعق منها، وكان يحبه فقالت له عائشة نحلها تجرس عرفطاً فنزلت هذه الآية " أخرجه ابن سعد وذكره الخطيب والخازن، وقيل: هي حفصة فواطأت عائشة وسودة وصفية فقلن له إنا نشم منك ريح المغافير، فحرم العسل فنزلت الآية، قاله البيضاوي.
الثالث قيل: السبب المرأة التي وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم فالأولان سببان صحيحان لنزول الآية والجمع ممكن بوقوع القصتين، قصة مارية وقصة العسل، وأن القرآن نزل فيهما جميعاً، وفي كل واحد منهما أنه أسر الحديث إلى بعض أزواجه، وأما الثالث فقال شيخنا الشوكاني: أنه ليس في ذلك إلا ما روى ابن أبي حاتم وابن مردويه.
" عن ابن عباس قال: نزلت هذه الآية للمرأة التي وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم "، قال السيوطي: وسنده ضعيف، ويرد هذا أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقبل تلك الواهبة نفسها، فكيف يصح أن يقال: إنه نزل في شأنها؟ فإن من رد ما وهب له لم يصح أن يقال: أنه حرم على نفسه، وأيضاًً لا ينطبق على هذا السبب قوله: وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثاً إلى آخر ما حكاه الله.
وأما ما ثبت في الصحيحين وغيرهما أن ابن عباس سأل عمر بن الخطاب عن المرأتين اللتين تظاهرتا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره أنهما عائشة وحفصة ثم ذكر قصة الإيلاء كما في الحديث الطويل، فليس في هذا نفي كون السبب هو ما قدمنا من قصة العسل والسرية، لأنه إنما أخبره(14/208)
بالمتظاهرتين، وذكر فيه أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يراجعنه وتهجره إحداهن من اليوم إلى الليل، وأن ذلك سبب الاعتزال، لا سبب نزول: يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك؟ ويؤيد هذا ما قدمنا عن ابن عباس أنه قال لعمر بن الخطاب: من المرأتان اللتان تظاهرتا فأخبره بأنهما حفصة وعائشة وبينّ له أن السبب قصة مارية، هذا ما تيسر من تلخيص سبب نزول الآية، ودفع الاختلاف في شأنه، فاشدد عليه يديك لتنجو به من الخبط والخلط الذي وقع للمفسرين.
(قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم) أي شرع لكم تحليل أيمانكم، وبينّ لكم الخروج والخلاص منها بالكفارة، وقول النسفي: أو شرع لكم الاستثناء في أيمانكم من قولك حلل فلان في يمينه إذا استثنى فيها، وذلك أن يقول: إن شاء الله عقيبها حتى لا يحنث، وتحريم الحلال يمين عندنا انتهى، وتحلة أصلها تحللة فأدغمت وهي من مصادر التفعيل كالتوصية والتسمية، فكأن اليمين عند والكفارة حل لأنها تحل للحالف ما حرمه على نفسه، قال مقاتل: المعنى قد بينّ الله كفارة أيمانكم في سورة المائدة، أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يكفر يمينه، ويراجع وليدته، فأعتق رقبة.
وعن الحسن أنه لم يكفر لأنه صلى الله عليه وسلم مغفور له ذكره المحلي والنسفي، قال الزجاج: وليس لأحد أن يحرم ما أحل الله وهذا هو الحق، إن تحريم ما أحل الله لا ينعقد ولا يلزم صاحبه، فالتحليل والتحريم هو إلى الله سبحانه لا إلى غيره، ومعاتبته لنبيه صلى الله عليه وسلم في هذه السورة أبلغ دليل على ذلك، والبحث طويل، والمذاهب فيه كثيرة، والمقالات فيه طويلة وقد حققه الشوكاني في مؤلفاته بما يشفي، وذكر رضي الله عنه في شرحه للمنتقي خمسة عشر قولاً، واختلف العلماء هل مجرد التحريم يمين توجب الكفارة أم لا؟ وفي ذلك خلاف، وليس في الآية ما يدل على أنه يمين، لأن الله سبحانه عاتبه على تحريم ما أحله له، ثم قال: قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم، وقد ورد في القصة التي ذهب أكثر المفسرين إلى أنها هي(14/209)
سبب نزول الآية حرم أولاً ثم حلف ثانياً، كما قدمنا.
عن ابن عباس قال: في الحرام يكفر، وقال: (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة)، وعنه أنه جاءه رجل فقال: إني جعلت امرأتي عليّ حراماً فقال كذبت ليست عليك بحرام، ثم تلا (لم تحرم ما أحل الله لك)؟ قال: عليك أغلظ الكفارات عتق رقبة.
" وعن عائشة قالت لما حلف أبو بكر أن لا ينفق على مسطح فأنزل الله (قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم) فأحل يمينه، وأنفق عليه " أخرجه الحرث ابن أسامة.
(والله مولاكم) أي وليكم وناصركم، والمتولي لأموركم، وقيل: مولاكم أولى بكم من أنفسكم، فكانت نصيحته أنفع لكم من نصائحكم أنفسكم ذكره النسفي (وهو العليم) بما فيه صلاحكم وفلاحكم (الحكيم) في أقواله وأفعاله.
(وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثاً) قال أكثر المفسرين ومنهم النسفي والمحلي والخازن: هي حفصة كما سبق، والحديث هو تحريم مارية أو العسل أو تحريم التي وهبت نفسها له، والعامل في الظرف فعل مقدر، أي واذكر إذ أسر، وقال الكلبي: أسر إليها أن أباك وأبا عائشة يكونان خليفتي على أمتي من بعدي.
وأخرج ابن عدي وابن عساكر.
" عن عائشة في الآية قالت: أسر إليها أن أبا بكر خليفتي من بعدي ". وأخرج ابن عدي وأبو نعيم في الصحابة والعشاري في فضائل الصديق وابن مردويه وابن عساكر من طرق:(14/210)
" عن علي وابن عباس قالا: والله إن إمارة أبي بكر وعمر لفي الكتاب.(14/211)
وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (3)
(وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثاً)، قال لحفصة أبوك وأبو عائشة واليا الناس بعدي، فإياك أن تخبري أحداً بهذا "، قال الشوكاني رحمه الله: وهذا ليس فيه أنه سبب نزول قوله: يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك، بل فيه أن الحديث الذي أسره النبي هو هذا فعلى فرض أن له إسناداً يصلح للاعتبار هو معارض بما سبق من تلك الروايات الصحيحة، وهي مقدمة عليه ومرجحة بالنسبة إليه.
(فلما نبأت به) أخبرت به غيرها ظناً منها أن لا حرج في ذلك فهو باجتهاد منها، وهي مأجورة فيه، وذلك لأن الاجتهاد جائز في عصره صلى الله عليه وسلم على الصحيح، كما في جمع الجوامع وأصل نبأ وأنبأ وخبر وأخبر وحدث أن تتعدى لاثنين إلى الأول بنفسها، وإلى الثاني بحرف الجر، وقد يحذف الجار تخفيفاً، وقد يحذف الأول للدلالة عليه، وقد جاءت الاستعمالات الثلاث في هذه الآية، فقوله: (فلما نبأت به) تعدى لاثنين حذف أولهما، والثاني مجرور بالباء، وقوله: (فلما نبأها به) ذكرهما، وقوله: (من أنبأك هذا)؟ ذكرهما وحذف الجار.
(وأظهره الله عليه) أي أطلع الله نبيه على ذلك الواقع منها من الإخبار لغيرها على لسان جبريل (عرف بعضه) أي بعض ما أخبرت به وهو تحريم مارية أو العسل قرأ الجمهور: عرف مشدداً من التعريف، ومعناه عرف حفصة بعض الحديث، وأخبرها ببعض ما كان منها، وقرىء بالتخفيف أي عرف بعض الذي فعلته حفصة واختار أبو عبيد وأبو حاتم الأولى لقوله: (وأعرض عن بعض) ولو كان مخففاً لقال في ضده: وأنكر بعضاً، والمعنى لم يعرفها إيّاه ولم يخبرها به تكرماً منه وحياء وحسن عشرة.
قال الحسن: ما استقصى كريم قط، وقال سفيان: ما زال التغافل من(14/211)
فعل الكرام، وقيل: أعرض عن تعريف بعض ذلك كرامة أن ينتشر في الناس وقيل: الذي أعرض عنه هو حديث مارية، وقيل: هو أن أباها وأبا بكر يكونان خليفتين بعده وللمفسرين ههنا خلط وخبط وكل جماعة منهم ذهبوا إلى تفسير التعريف والإعراض بما يطابق بعض ما ورد في سبب النزول، وقد أوضحنا ذلك من قبل.
(فلما نبأها به) أي أخبرها بما أفشت من الحديث (قالت من أنبأك هذا)؟ أي من أخبرك به (قال نبأني العليم الخبير) أي أخبرني الذي لا تخفى عليه خافية(14/212)
إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ (4)
(إن تتوبا) الخطاب لعائشة وحفصة على طريقة الالتفات ليكون أبلغ في معاتبتهما، وجواب الشرط محذوف أي أن تتوبا (إلى الله) فهو الواجب ودل على المحذوف قوله: (فقد صغت قلوبكما) أي زاغت وأثمت ومالت عن الواجب في مخالصة رسول الله صلى الله عليه وسلم من حب ما يحبه، وكراهة ما يكرهه، ووجد منكما ما يوجب التوبة، وهو أنهما أحبتا ما كره رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو إفشاء الحديث، وقيل: المعنى فقد مالت قلوبكما إلى التوبة، وقال: (قلوبكما) ولم يقل قلباكما لأن العرب تستكره الجمع بين تثنيتين في لفظ واحد، ومجموع المضاف والمضاف إليه كالشيء الواحد من تمام العلقة والنسبة بينهما.
(وإن تظاهرا عليه) قرأ الجمهور بحذف إحدى التاءين، وقرىء على الأصل، وقرىء تظهر بتشديد الظاء والهاء بدون ألف، وهي سبعية والمراد بالتظاهر التعاضد والتعاون، والمعنى وإن تعاضدا وتعاونا بما يسوءه من الإفراط في الغيرة وإفشاء سره وقيل: كان التظاهر بين عائشة وحفصة في التحكم على النبي صلى الله عليه وسلم في النفقة.
(فإن الله هو) ضمير متصل ضمير منفصل (مولاه) تعليل لجواب(14/212)
الشرط المحذوف تقديره فلا يعدم ناصراً ولا معيناً، فإن الله يتولى نصره بذاته (و) كذلك (جبريل) أيضاً وليه (وصالح المؤمنين) أي من صلح من عباده المؤمنين وقيل: من بريء من النفاق، وقيل: الصحابة، وقيل: واحد أريد به الجمع وقيل: أصله صالحو المؤمنين فحذفت الواو من الخط موافقة للفظ قال بريدة: أبو بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما وعن ابن مسعود مثله.
" وعن أبي أمامة مرفوعاً مثله " أخرجه الحاكم.
" وعن علي بسند ضعيف قال: هو علي بن أبي طالب كرم الله وجهه ".
" وعن أسماء بنت عميس قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: وصالح المؤمنين علي بن أبي طالب " أخرجه ابن مردويه.
(والملائكة) على تكاثر عددهم (بعد ذلك) أي بعد نصر الله والمذكورين (ظهير) أي أعوان يظاهرونه، قال أبو علي الفارسي: قد جاء فعيل للكثرة كقوله: (ولا يسأل حميم حميماً)، قال الواحدي: وهذا من الواحد الذي يؤدي عن معنى الجمع كقوله: (وحسن أولئك رفيقاً) وقد تقرر في علم النحو أن مثل جريح وصبور وظهير يوصف به الواحد والمثنى والجمع، وإنما عدل عن عطف المفرد إلى عطف الجملة ليؤذن بالفرق فإن نصرة الله هي النصرة في الحقيقة، وأنه تعالى إنما ضم إليها المظاهرة بجبريل وبصالح المؤمنين وبالملائكة للتتميم، تطبيباً لقلوب المؤمنين، وتوقيراً للنبي الرسول وإظهاراً للآيات البينات، كما في يوم بدر وحنين. قال تعالى: (وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ).(14/213)
عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا (5) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (6) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (7) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (8) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (9)(14/214)
عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا (5)
(عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ) بالتخفيف والتشديد سبعيتان، أي يعطيه بدلكن (أزواجاً خيراً) أي أفضل (منكن) وقد علم الله سبحانه أنه لا يطلقهن، ولكن أخبر عن قدرته على أنه إن وقع منه الطلاق أبدله خيراً منهن تخويفاً لهن، وهو كقوله: (وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم) فإنه إخبار عن القدرة، وتخويف لهم، والممتنع بمقتضى الآية إنما هو تطليق الكل، فلا ينافي أنه طلق واحدة، وأنها لم تبدل، لأن التبديل إنما هو للكل، وإنما هو مرتب على تطليق الكل، وفي الخطيب قيل: كل (عسى) في القرآن واجب الوقوع إلا هذه الآية، وقيل: هي من الواجب أيضاًً، ولكن الله علمه بشرط وهو التطليق للكل، ولم يطلقهن وفي الكرخي، قال ابن عرفة: عسى هنا للتخويف لا للوجوب.
ثم نعت سبحانه الأزواج بقوله: (مسلمات) أي قائمات بفرائض الإسلام إما نعت أو حال أو منصوب على الاختصاص وقال سعيد بن جبير(14/214)
مسلمات أي مخلصات مقرات، وقيل: معناه مسلمات لأمر الله ورسوله (مؤمنات) أي مصدقات بالله وملائكته وكتبه ورسله، والقدر خيره وشره (قانتات) مطيعات لله، والقنوت الطاعة، وقيل: مصليات بالليل، وقيل: داعيات، وقيل: طائعات.
(تائبات) يعني كثيرات التوبة من الذنوب، تاركات لها، راجعات إلى الله وإلى أمر رسوله صلى الله عليه وسلم عن الهفوات والزلات (عابدات) لله متذللات له قال الحسن وسعيد بن جبير: كثيرات العبادة (سائحات) أي صائمات قاله ابن عباس، وقال زيد بن أسلم والحسن: مهاجرات، وليس في أمة محمد صلى الله عليه وسلم سياحة إلا الهجرة، قال ابن قتيبة والفراء وغيرهما: وسمي الصيام سياحة لأن السائح لا زاد معه، وقيل: المعنى ذاهبات في طاعة الله من ساح الماء إذا ذهب، وأصل السياحة الجولان في الأرض، وقيل: يسحن معه حيث ساح وقد مضى الكلام على السياحة في سورة براءة.
(ثيبات وأبكاراً) أي بعضهن كذا وبعضهن كذا ووسط بينهما العاطف لتنافيهما دون سائر الصفات. والثيبات جمع ثيب لا ينقاس، لأنه اسم جنس مؤنث ووزنها فيعل من ثاب يثوب أي رجع، وهي المرأة التي قد تزوجت ثم ثابت عن زوجها فعادت كما كانت غير ذات زوج، وقيل: لأنها ثابت إلى بيت أبويها وهذا صح: لأنه ليس كل ثيب تعود إلى زوجها، والأبكار جمع بكر وهي العذراء سميت بذلك لأنها على أول حالها التي خلقت عليها، عن بريدة في الآية قال: وعد الله نبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الآية أن يزوجه بالثيب آسية امرأة فرعون وبالبكر مريم بنت عمران. ولا يقال: أي مدح في كونهن ثيبات لأن الثيب قد تمدح من جهة أنها أكثر تجربة وعقلاً، وأسرع حبلاً غالباً، والبكر تمدح من جهة أنها أطهر وأطيب وأكثر مداعبة وملاعبة غالباً،(14/215)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (6)
(يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم) بفعل ما أمركم به، وترك ما نهاكم عنه أي اجعلوا لها وقاية بالتأسي به صلى الله عليه وسلم في ترك المعاصي،(14/215)
وفعل الطاعات (وأهليكم) من النساء والولدان، وكل من يدخل في هذا الاسم بأمرهم بطاعة الله، ونهيهم عن معاصيه، وبأن تأخذوهم بما تأخذون به أنفسكم نصحاً وتأديباً.
(ناراً وقودها الناس والحجارة) أي ناراً عظيمة، تتوقد بالناس الكفار والحجارة، كالأصنام منها، كما يتوقد قد غيرها بالحطب، وقيل: الكبريت لأنه أشد الأشياء حراً وأسرع إيقاداً، وقد تقدم بيان هذا في سورة البقرة، قال مقاتل بن سليمان: قوا أنفسكم وأهليكم بالأدب الصالح النار في الآخرة وقال قتادة ومجاهد. قوا أنفسكم بأفعالكم، وقوا أهليكم بوصيتكم، قال ابن جرير: فعلينا أن نعلم أولادنا الدين والخير، وما لا يستغنى عنه من الأدب، ومن هذا قوله: (وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها)، وقوله: (وأنذر عشيرتك الأقربين)، وعن علي بن أبي طالب في الآية قال: علموا أنفسكم وأهليكم الخير وأدبوهم، وعن ابن عباس قال: اعملوا بطاعة الله واتقوا معاصي الله وأمروا أهليكم بالذكر ينجيكم الله من النار، وعنه قال: أدبوا أهليكم.
(عليها ملائكة) أي على النار خزنة من الملائكة يولون أمرها وتعذيب أهلها، وهم الزبانية (غلاظ) على أهل النار (شداد) عليهم لا يرحمونهم إذا استرحموهم، لأن الله سبحانه وتعالى خلقهم من غضبه، وحبب إليهم تعذيب خلقه، وقيل: غلاظ الأقوال شداد الأفعال، وقيل: الغلاظ ضخام الأجسام والشداد الأقوياء، وقيل: المراد غلاظ القلوب شداد الأبدان، من غلظ القلب أي قسوته، لا من غلظ الجسم ولا من غلظ القول.
" عن أبي عمران الجوني قال: بلغنا أن خزنة النار تسعة عشر ما بين منكب أحدهم مسيرة مائة خريف، ليس في قلوبهم رحمة إنما خلقوا للعذاب يضرب الملك منهم الرجل من أهل النار الضربة فيتركه طحناً من لدن قرنه إلى قدمه " أخرجه عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد.(14/216)
(لا يعصون الله ما أمرهم) أي لا يخالفونه في أمره وما موصولة، والعائد محذوف، أي لا يعصون الله الذي أمرهم به، أو مصدرية أي لا يعصون الله أمره على أن يكون ما أمرهم بدل اشتمال من الاسم الشريف، أو على تقدير نزع الخافض، أي لا يعصون الله في أمره (ويفعلون ما يؤمرون) به أي يؤدونه في وقته من غير تراخ، لا يؤخرونه عنه ولا يقدمونه، وليست الجملتان في معنى واحد إذ معنى الأولى أنهم يتقبلون أوامره ويلتزمونها، ومعنى الثانية أنهم يؤدون ما يؤمرون به ولا يتثاقلون عنه ولا يتوانون فيه، وقيل: الثانية تأكيد للأولى، وبه قال المحلي لأن مفادها هو مفادها، وقيل: الأولى فيما مضى، والثانية فيما يستقبل، وصرح بهذا البيضاوي، والآية تخويف للمؤمنين عن الارتداد، وللمنافقين المؤمنين بألسنتهم دون قلوبهم.(14/217)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (7)
(يا أيها الذين كفروا لا تعتذروا اليوم) يقال لهم هذا القول عند إدخالهم النار تأييساً لهم وقطعاً لأطماعهم، لأنه يوم الجزاء، وقد فات زمان الاعتذار، وصار الأمر إلى ما صار (إنما تجزون ما كنتم تعملون) من الأعمال في الدنيا، ومثل هذا قوله: (فَيَوْمَئِذٍ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ)(14/217)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (8)
(يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحاً) قرأ الجمهور بفتح النون على الوصف للتوبة أي توبة بالغة في النصح، وقرىء بضمها أي توبة نصح لأنفسكم، ويجوز أن يكون جمع ناصح
وأن يكون مصدراً، تنصح صاحبها بترك العود إلى ما ناب عنه، وصفت بذلك على الإسناد المجازي، وهو في الأصل وصف للتائبين أن ينصحوا بالتوبة أنفسهم بالعزم على الترك للذنب، وترك المعاودة له.
قال قتادة: التوبة النَّصوح الصادقة، وقيل: الخالصة، وقال الحسن: التوبة النصوح أن يبغض الذنب الذي أحبه ويستغفر منه إذا ذكره، وقال الكلبي: التوبة النصوح الندم بالقلب والاستغفار باللسان والإقلاع بالبدن، والاطمئنان على أن لا يعود وقال سعيد بن جبير: هي التوبة المقبولة، وعن(14/217)
النعمان بن بشير أن عمر بن الخطاب سئل عن التوبة النصوح قال: أن يتوب الرجل من العمل السيء، ثم لا يعود إليه أبداً، وروي عن معاذ مرفوعاً هي أن لا يحتاج بعدها إلى توبة أخرى.
" وعن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: التوبة من الذنب أن يتوب منه ثم لا يعود إليه أبداً (1) أخرجه أحمد وابن مردويه والبيهقي، وفي إسناده إبراهيم بن مسلم الهجري وهو ضعيف، والصحيح الموقوف كما أخرجه موقوفاً عليه ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير والبيهقي وابن المنذر.
" وعن ابن مسعود قال: التوبة النصوح تكفر كل سيئة، وهو في القرآن، ثم قرأ هذه الآية " (2) أخرجه الحاكم وصححه.
وقد تظاهرت دلائل الكتاب والسنة وإجماع الأمة على وجوب التوبة، وهي فرض على الأعيان في كل الأحوال، وفي كل الأزمان، واختلف في معناها، وذكروا في تفسيرها ثلاثة وعشرين قولاً متقاربة المعنى لا يسعها هذا الموضع، وملاك الأمر فيها أن يتوب ثم لا يعود إلى الذنب، كما لا يعود اللبن إلى الضرع، ولو حز بالسيف وأحرق بالنار، وهي واجبة من كل معصية كبيرة أو صغيرة على الفور، ولا يجوز تأخيرها، وتجب من جميع الذنوب، وإن تاب، من بعضها صحت توبته عما تاب منه، وبقي الذي لم يتب منه هذا مذهب أهل السنة والجماعة.
وقد أخرج مسلم:
_________
(1) رواه أحمد.
(2) رواه الحاكم.(14/218)
" عن الأغر بن يسار المزني قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أيها الناس توبوا إلى الله فإني أتوب في اليوم مائة مرة (1).
" وعن أبي هريرة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة " (2) أخرجه البخاري، وأخرجا:
" عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لله أفرح بتوبة عبده المؤمن من أحدكم سقط على بعيره، وقد أضله في أرض الفلاة "، الحديث.
" وعن أبي موسى الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار، ليتوب مسيء الليل، حتى تطلع الشمس من مغربها " رواه مسلم.
" وعن ابن عمر عن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر " أخرجه الترمذي وحسنه.
(عسى ربكم أن يكفر عنكم سيئاتكم ويدخلكم) بسبب تلك التوبة (جنات تجري من تحتها الأنهار) معطوف على يكفر منصوب بناصبه، وبالنصب قرأ الجمهور، وقرىء بالجزم عطفاً على محل عيسى، كأنه قال توبوا يوجب تكفير سيئاتكم، ويدخلكم، وعسى وإن كان أصلها للإطماع فهي من الله واجبة تفضلاً وتكرماً لأن التائب من الذنب كمن لا ذنب له، وليس واجباً
_________
(1) رواه مسلم.
(2) رواه البخاري.(14/219)
عقلياً (يوم) أي يدخلكم يوم (لا يخزي الله النبي) أو منصوب باذكر (والذين آمنوا معه) أي صاحبوه في وصف الإيمان معطوف على النبي، وقيل: الموصول مبتدأ وخبره قوله: (نورهم يسعى بين أيديهم) يسعى (بأيمانهم) والأول أولى، وفيه تعريض بمن أخزاهم الله من أهل الكفر والجملة حالية أو مستأنفة لبيان حالهم.
وقد تقدم في سورة الحديد أن النور يكون معهم حال مشيهم على الصراط والمراد بأيمانهم جهاتهم كلها والتقييد بالأمام والإيمان لا ينفي أن لهم نوراً على شمائلهم، بل لهم نور لكن لا يلتفتون إليه، لأنهم إما من السابقين فيمشون فيما هو أمامهم، وإما من أهل اليمين فيمشون فيما هو عن أيمانهم، عن ابن عباس في الآية قال: ليس أحد من الموحدين لا يعطي نوراً يوم القيامة، فأما المنافق فيطفىء نوره، وما من مشفق مما رأى من إطفاء نور المنافق، قال ابن مسعود: يمرون على صراط على قدر أعمالهم، يمرون على الصراط منهم من نوره مثل الجبل، ومنهم من نوره مثل النخلة، وأدناهم نوراً من نوره في إبهامه ذكره السيوطي في البدور السافرة.
(يقولون) خبر ثان أو حال: (ربنا أتمم لنا نورنا واغفر لنا إنك على كل شيء قدير) هذا دعاء المؤمنين حين إطفاء الله نور المنافقين كما تقدم بيانه وتفصيله.(14/220)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (9)
(يا أيها النبي جاهد الكفار) بالسيف والرمح (والمنافقين) بالحجة والوعظ البليغ، وقد تقدم الكلام على هذه الآية في سورة براءة (واغلظ عليهم) بالانتهار والزجر، والمقت والبغض، أي شدد عليهم في الدعوة والخطاب والقتال والمحاجة باللسان، واستعمل الخشونة في أمرهم بالشرائع، ولا تعاملهم باللين، وقال الحسن: أي جاهدهم بإقامة الحدود عليهم، فإنهم كانوا يرتكبون موجبات الحدود (ومأواهم جهنم) أي مصير الكفار والمنافقين إليها (وبئس الصير) أي المرجع الذي يرجعون إليه.(14/220)
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (10) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (11) وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ (12)(14/221)
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (10)
(ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا) قد تقدم غير مرة أن المثل قد يراد به إيراد حالة غريبة تعرف بها حالة أخرى مماثلة لها في الغرابة، أي جعل الله مثلاً لحال هؤلاء الكفار في أنهم يعاقبون لكفرهم، وأنه لا يغني أحد عن أحد (امرأة نوح) واسمها واهلة، وقيل: والهة (وامرأة لوط) واسمها واعلة، وقيل: والعة، وهذا هو المفعول الأول، (ومثلاً) المفعول الثاني حسبما قدمنا تحقيقه، وإنما أخر ليتصل به ما هو تفسير له وإيضاح لمعناه، وترسم (امرأت) في هذه المواضع الثلاثة (وابنت) بالتاء المجرورة، ويوقف عليهم بالهاء والتاء.
(كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين) وهما نوح ولوط عليهما السلام، أي كانتا في عصمة نكاحهما، وهذه جملة مستأنفة كأنها مفسرة لضرب المثل، ولم يؤت بضميرهما فيقال: تحتهما لما قصد من تشريفهما بهذه الإضافة الشريفة وفي ذلك مبالغة في المعنى المقصود وهو أن الإنسان لا ينفعه عادة إلا صلاح نفسه لا صلاح غيره، وإن كان ذلك الغير في أعلى مراتب الصلاح والقرب من الله تعالى (فَخَانَتَاهُمَا) أي فوقعت منهما الخيانة لهما.
" قال ابن عباس: ما بغت امرأة نبي قط "، ورواه ابن عساكر مرفوعاً.(14/221)
" عنه قال: مازنتا، أما خيانة امرأة نوح فكانت تقول للناس: إنه مجنون، وأما خيانة امرأة لوط، فكانت تدل على الضيف فتلك خيانتهما ".
وقال عكرمة والضحاك: بالكفر، وقد وقعت الأدلة الإجماعية على أنها ما زنت امرأة نبي قط، وقيل: كانت خيانتهما النفاق وقيل: خانتاهما بالنميمة.
(فلم يغنيا عنهما من الله شيئاًً) أي فلم ينفعهما نوح ولوط بسبب كونهما زوجتين لهما شيئاًً من النفع، ولا دفعا عنهما من عذاب الله مع كرامتهما على الله، ونبوتهما شيئاًً من الدفع، وفيه تنبيه على أن العذاب يدفع بالطاعة لا بالوسيلة (وقيل) أي ويقال لهما في الآخرة أو عند موتهما:
(ادخلا النار مع الداخلين) لها من أهل الكفر والمعاصي، وقال يحيى ابن سلام: ضرب الله مثلاً للذين كفروا يحذر به عائشة، وحفصة من المخالفة لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين تظاهرتا عليه، وما أحسن ما قال، فإن ذكر امرأتي النبيين بعد ذكر قصتهما ومظاهرتهما على رسول الله صلى الله عليه وسلم يرشد أتم إرشاد ويلوح أبلغ تلويح إلى أن المراد تخويفهما مع سائر أمهات المؤمنين، وبيان أنهما وإن كانتا تحت عصمة خير خلق الله وخاتم رسله، فإن ذلك لا يغني عنهما من الله شيئاًً، وقد عصمهما الله سبحانه عن ذنب تلك المظاهرة بما وقع منهما من التوبة الصحيحة الخالصة.(14/222)
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (11)
(وضرب الله مثلاً للذين آمنوا امرأة فرعون) هي آسية بنت مزاحم قيل: إنها إسرائيلية وإنها عمة موسى، وقيل: إنها ابنة عم فرعون، وإنها من العمالقة، وكانت ذات فراسة صادقة آمنت بموسى عليه السلام فعذّبها فرعون بالأوتاد الأربعة، والكلام في هذا كالكلام في المثل الذي قبله، أي جعل الله حال امرأة فرعون مثلاً لحال المؤمنين ترغيباً لهم في الثبات على الطاعة، والتمسك بالدين، والصبر في الشدة، وأن وصلة الكفر لا تضرهم، كما لم(14/222)
تضر امرأة فرعون، وقد كانت تحت أكفر الكافرين، وصارت بإيمانها بالله في جنات النعيم، وفيه دليل على أن وصلة الكفرة لا تضر مع الإيمان.
(إذ) ظرف لمثلاً أو لضرب (قالت رب ابن لي عندك) حال من ضمير المتكلم أو من (بيتاً) لتقدمه عليه وقوله: (في الجنة) بدل أو عطف بيان لقوله: عندك، أو متعلق بقوله: ابن، وقدم عندك هنا للإشارة إلى قولهم: الجار قبل الدار، ومعناه بيتاً قريباً من رحمتك أو في أعلى درجات المقربين منك، أو في مكان لا يتصرف فيه إلا بإذنك وهو الجنة.
(ونجني من فرعون وعمله) أي من ذاته الخبيثة وشركه، وما يصدر عنه من أعمال الشر، وقال ابن عباس: عمله يعني جماعة، وعن سلمان قال: كانت امرأة فرعون تعذب بالشمس، فإذا انصرفوا عنها أظلتها الملائكة بأجنحتها، وكانت ترى بيتها في الجنة، وعن أبي هريرة أن فرعون وتد لامرأته أربعة اوتاد، وأضجعها، وجعل على صدرها رحى، واستقبل بها عين الشمس، فرفعت رأسها إلى السماء فقال: رب ابن لي عندك بيتاً في الجنة إلى قوله: (ونجني من القوم الظالمين) ففرج الله لها عن بيتها في الجنة فرأته، وقبض الله روحها، قال الكلبي هم أهل مصر، وقال مقاتل: هم القبط، قال الحسن وابن كيسان: نجاها الله أكرم نجاة، ورفعها إلى الجنة، فهي تأكل وتشرب، وفيه دليل على أن الإستعاذة بالله والإلتجاء إليه ومسألة الخلاص منه عند المحن والنوازل من سير الصالحين، وديدن المؤمنين بيوم الدين.(14/223)
وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ (12)
(و) ضرب الله مثلاً للذين آمنوا (مريم ابن عمران) أي حالها وصفتها فمثل حال المؤمنين بامرأتين، كما مثل حال الكفار بامرأتين، وقيل: التقدير اذكر مريم والمقصود من ذكرها أن الله سبحانه جمع لها بين كرامتي الدنيا والآخرة، واصطفاها على نساء العالمين مع كونها بين قوم كافرين (التي أحصنت) حفظت (فرجها) عن الفواحش وعن الرجال فلم يصل إليها رجل لا بنكاح ولا بزنا، والمحصنة العفيفة، وقد تقدم تفسير هذا في سورة(14/223)
النساء، قال المفسرون: المراد بالفرج هنا الجيب لقوله: (فنفخنا فيه من روحنا) المخلوقة لنا، وذلك أن جبريل نفخ في جيب درعها أي طوق قميصها، فحملت بعيسى عقب النفخ، فالنفخ والحمل والوضع في ساعة واحدة، والإسناد في نفخنا مجازي، أي فأسند إلى الله من حيث أنه الخالق والموجد، وقيل المراد بالروح روح عيسى التي صار بها حياً فوصلت إلى فرجها بواسطة نفخ جبريل، وإضافة الروح إلى الله إضافة مخلوق لخالقه للتشريف.
(وصدقت بكلمات ربها) يعني بشرائعه التي شرعها الله لعباده، وقيل: المراد بالكلمات عيسى وقيل صحفه التي أنزلها على إدريس وغيره، قرأ الجمهور صدقت بالتشديد، وقرىء بالجمع والمراد على الأول الجنس، فيكون في معنى الجمع وهي الكتب المنزلة على الأنبياء كإبراهيم وموسى وابنها عيسى.
(وكانت من القانتين) قال قتادة من القوم المطيعين لربهم، وقال عطاء: من المصلين كانت تصلي بين المغرب والعشاء، ويجوز أن يراد بالقانتين رهطها وعشيرتها الذين كانت منهم، وكانوا مطيعين أهل بيت صلاح وطاعة، ولا كان القنوت صفة تشمل من قنت من القبيلين غلب ذكوره على إناثه، وفيه إشعار بأن طاعتها لم تقصر عن طاعة الرجال الكاملين حتى عدت من جملتهم، ومن للتبعيض، ويجوز أن تكون لابتداء الغاية على أنها ولدت من القانتين، لأنها من أعقاب هارون أخي موسى عليهما السلام.
" عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل نساء أهل الجنة خديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد ومريم بنت عمران وآسيا بنت مزاحم امرأة فرعون، ما قص الله علينا من خبرها في القرآن قالت رب ابن لي عندك الآية (1) أخرجه أحمد والطبراني والحاكم، وفي الصحيحين وغيرهما:
_________
(1) رواه أحمد.(14/224)
" من حديث أبي موسى الأشعري أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا آسية امرأة فرعون ومريم بنت عمران، وخديجة بنت خويلد، وإن فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام " (1).
_________
(1) رواه مسلم.(14/225)
سورة الملك
وتسمى سورة تبارك والواقية والمنجية، وتدعى في التوراة (1)، المانعة، وهي ثلاثون آية، وهي مكية قال القرطبي: في قول الجميع، وعن ابن عباس قال: نزلت بمكة.
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إن سورة من كتاب الله ما هي إلا ثلاثون آية شفعت لرجل حتى غفر له تبارك الذي بيده الملك " (2)، أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجة وابن الضريس والحاكم وصححه، وابن مردويه والبيهقي في الشعب والترمذي وقال: هذا حديث حسن.
وعن أنس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " سورة في القرآن خاصمت عن صحابها حتى أدخلته الجنة: تبارك " الآية أخرجه الطبراني في الأوسط وابن مردويه والضياء في المختارة.
وعن ابن عباس قال: ضرب بعض أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -
_________
(1) كيف ورد ذكرها في التوراة لا ندري؟؟ سامح الله المؤلف.
(2) رواه أحمد؛ المسند وأصحاب السنن الأربعة بسند حسن.(14/227)
خباءه على قبر وهو لا يحسب أنه قبر، فإذا قبر إنسان يقرأ سورة الملك حتى ختمها فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبره فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " هي المانعة هي المنجية من عذاب القبر " أخرجه الحاكم وابن مردويه وابن نصر والبيهقي في الدلائل والترمذي وقال هذا حديث غريب من هذا الوجه.
وعن ابن مسعود قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " تبارك هي المانعة من عذاب القبر " (1) أخرجه ابن مردويه والنسائي وصححه الحاكم.
وعن رافع بن خديج وأبي هريرة أنهما سمعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: أنزلت عليّ سورة تبارك وهي ثلاثون آية جملة واحدة وهي المانعة في القبور " أخرجه ابن مردويه.
وعن ابن عباس أنه قال لرجل ألا أتحفك بحديث تفرح به، قال بلى قال اقرأ تبارك الذي بيده الملك وعلمها أهلك وجميع ولدك وصبيان بيك وجيرانك فإنها المنجية والمجادلة تجادل يوم القيامة عند ربها لقارئها وتطلب له أن ينجيه الله من عذاب النار وينجو بها صاحبها من عذاب القبر، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " لوددت أنها في قلب كل إنسان من أمتي " أخرجه عبد بن حميد في مسنده والطبراني والحاكم وابن مردويه.
_________
(1) ذكره السيوطي في الدر 6/ 246 من رواية ابن مردويه عن ابن مسعود موقوفاً عليه وهو ضعيف.(14/228)
بسم الله الرحمن الرحيم
تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2) الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ (3) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ (4) وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ (5)(14/229)
تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1)
(تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ) تبارك تفاعل من البركة، والبركة النماء والزيادة وقيل: تعالى وتعاظم عن صفات المخلوقين، وقيل: دام فهو الدائم الذي لا أول لوجوده ولا آخر لدوامه، وقال الحسن: تبارك تقدس، وصيغة تفاعل للمبالغة، " واليد مجاز عن القدرة والاستيلاء عند المتكلمة، وصفة من صفاته عند المحدثين وهو الأولى " (1).
والملك هو ملك السموات والأرض في الدنيا والآخرة فهو يعز من يشاء ويذل من يشاء ويرفع من يشاء ويضع من يشاء، وقيل: المراد بالملك ملك النبوة، وقيل: الملك الأمر والنهي والسلطان أي التمكن من سائر الموجودات يتصرف فيها كيفما أراد، قال الرازي: الملك تمام القدرة واستحكامها، والأول أولى لأن الحمل على العموم أكثر مدحاً، وأبلغ ثناء ولا وجه للتخصيص.
(وهو على كل شيء قدير) أي بليغ القدرة لا يعجزه شيء من الأشياء يتصرف في ملكه كيف يريد من إنعام وانتقام ورفع ووضع وإعطاء ومنع، قال أبو السعود: الجملة معطوفة على الصلة مقررة لمضونها مفيدة لجريان أحكام ملكه تعالى في جلائل الأمور ودقائقها، وفي الكرخي لما اقترن الشيء بقوله
__________
(1) كلام ممتاز جداً جزاه الله خيراً.(14/229)
قدير علم أن المراد من المعدوم الذي يدخل تحت القدرة دون غيره.(14/230)
الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2)
(الذي خلق الموت والحياة) الموت انقطاع تعلق الروح بالبدن ومفارقته له، والحياة تعلق الروح بالبدن واتصاله به، وقيل: ما يوجب كون الشيء حياً، وقيل: الموت صفة وجودية مضادة للحياة، وقيل: المراد الموت في الدنيا والحياة في الآخرة وفيه بعد، وقدم الموت على الحياة لأن أصل الأشياء عدم الحياة والحياة عارضة لها، وقيل: لأن الموت أقرب إلى القهر، وقال مقاتل: خلق الموت يعني النطفة والمضغة والعلقة، والحياة يعني خلقه إنساناً وخلق فيه الروح، وقيل: خلق الموت على صورة كبش لا يمر على شيء إلا مات، وخلق الحياة على صورة فرس لا يمر بشيء إلا حيى قاله مقاتل والكلبي وقد ورد في التنزيل (قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم) وقوله (إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة) وقوله (توفته رسلنا) وقوله (الله يتوفى الأنفس حين موتها) وغير ذلك من الآيات.
وقال النسفي: الحياة ما يصح بوجوده الإحساس، والموت ضده، ومعنى خلقهما إيجاد ذلك المصحح وإعدامه أي خلق موتكم وحياتكم أيها المكلفون.
(ليبلوكم) أي ليعاملكم معاملة من يختبركم وإلا فعلمه محيط بكل شيء، قال الشهاب: الاختبار يقتضي عدم علم المختبر بالكسر بحال المختبر بالفتح فلهذا جعلوه استعارة تمثيلية أو تبعية على تشبيه حالهم في تكليفه تعالى لهم بتكاليفه، وخلق الموت والحياة لهم وإثابته لهم وعقوبته بحال المختبر مع من اختبره وجربه لينظر طاعته وعصيانه فيكرمه أو يهينه.
(أيكم أحسن عملاً) فيجازيكم على ذلك، وقيل: المعنى ليبلوكم ربكم أيكم أكثر ذكراً للموت وأحسن استعداداً وأشد منه خوفاً، وقيل: أيكم أحسن عقلاً وأسرع إلى طاعة الله وأورع عن محارم الله؛ وقيل: أخلص عملاً وأصوبه والخالص إذا كان لله والصواب إذا كان على السنة، وقيل: أزهد في(14/230)
الدنيا وأترك لها؛ والعموم أولى.
قال الزجاج: اللام متعلقة بخلق الحياة لا بخلق الموت وقال الفراء: إن قوله (ليبلوكم) لم يقع على أي لأن فيما بين البلوى وأي إضمار فعل كما تقول بلوتكم لأنظر أيكم أطوع ومثله وقوله (سلهم أيهم بذلك زعيم) أي سلهم ثم أنظر أيهم؛ فأيكم في الآية مبتدأ وخبره أحسن، لأن الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله وإيراد صيغة التفضيل مع أن الإبتلاء شامل لجميع أعمالهم المنقسمة إلى الحسن والقبيح لا إلى الحسن والأحسن فقط للإيذان بأن المراد بالذات والمقصد الأصلي من الإبتلاء هو ظهور كمال إحسان المحسنين.
(وهو العزيز) أي الغالب الذي لا يغالب ولا يعجزه من أساء العمل (الغفور) لمن تاب وأناب، والستور الذي لا ييأس منه أهل الإساءة والزلل.(14/231)
الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ (3)
(الذي) نعت لما قبله أو بيان له أو بدل منه أو خبر مبتدأ محذوف، أو نصب على المدح (خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ) قيل: الأولى من كذا والثانية من كذا إلى السابعة ولم أقف على دليله من الكتاب العزيز والسنة المطهرة.
(طباقاً) أي مطبقاً بعضها فوق بعض كل سماء مقببة على الأخرى وسماء الدنيا كالقبة على الأرض وهو جمع طبق نحو جبل وجبال، أو جمع طبقة نحو رحبة ورحاب أو مصدر طابق يقال طابق مطابقة وطباقاً، وعلى هذا الوصف بالمصدر للمبالغة أو على حذف مضاف أي ذات طباق أو طوبقت طباقاً، قال البقاعي: طباق بحيث يكون كل جزء منها مطابقا للجزء من الأخرى ولا يكون جزء منها خارجاً عن ذلك.
(ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت) صفة ثانية لسبع سموات أو مستأنفة لتقرير ما قبلها، والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم أو لكل من يصلح له و " من " مزيدة لتأكيد النفي وإضافة خلق الرحمن من إضافة المصدر إلى فاعله والمفعول محذوف تقديره لهن أو لغيرهن.(14/231)
قرأ الجمهور من تفاوت وقرىء تفوت مشدداً بدون ألف، وهما لغتان كالتعاهد والتعهد والتحامل والتحمل، والمعنى من تناقض ولا تباين ولا اعوجاج ولا تخالف، بل هي مستقيمة دالة على خالقها وإن اختلفت صورها وصفاتها فقد اتفقت من هذه الحيثية، وقال ابن عباس: من تشقق وقيل من اضطراب وقيل من عيب، وحقيقة التفاوت عدم التناسب كأن بعض الشيء يفوت بعضاً.
(فارجع البصر) أي اردد طرفك حتى يتضح لك ذلك بالمعاينة، أخبر أولاً بأنه لا تفاوت في خلقه ثم أمر ثانياً بترديد البصر في ذلك لزيادة التأكيد وحصول الطمأنينة.
(هل ترى من فطور) قال مجاهد: والضحاك الفطور الصدوع والشقوق، جمع فطر وهو الشق، وقال قتادة: هل ترى من خلل، وقال السدي: من خروق، وأصله من التفطر والانفطار هو التشقق والانشقاق، وعن ابن عباس قال: الفطور الوهي، وعنه قال: من تشقق وخلل.(14/232)
ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ (4)
(ثم ارجع البصر كرتين) أي رجعتين مرة بعد مرة وانتصابه على المصدر والمراد بالتثنية التكثير كما في لبيك وسعديك وحنانيك وهذاذيك لا يريدون بهذه التثنية شفع الواحد إنما يريدون التكثير أي رجعة بعد رجعة وإن كثرت، وإجابة لك بعد أخرى، وإلا تناقض الغرض، ووجه الأمر بتكرير النظر على هذه أنه قد لا يرى ما يظنه من العيب في النظرة الأولى ولا في الثانية ولهذا قال أولاً (ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت) ثم قال ثانياً (ثم ارجع البصر كرتين) فيكون ذلك أبلغ في إقامة الحجة وأقطع للمعذرة، وقيل: الأولى ليرى حسنها واستواءها والثانية ليبصر كواكبها في سيرها وانتهائها.
(ينقلب إليك البصر خاسئاً) أي يرجع إليك البصر خاشعاً متباعداً عن أن يرى شيئاًً من ذلك، وقيل: معنى خاسئاً مبعداً مطروداً عن أن يبصر(14/232)
ما التمسه من العيب، يقال: خسأت الكلب أي أبعدته وطردته، وقال ابن عباس: خاسئاً صاغراً ذليلاً، قرأ الجمهور ينقلب بالجزم جواباً للأمر، وقرىء بالرفع على الاستئناف.
(وهو حسير) أي كليل لا يرى شيئاًً قاله ابن عباس: أي منقطع وعنه قال عيي مرتجع، قال الزجاج: أي وقد أعيا من قبل أن يرى في السماء خللاً، وهو فعيل بمعنى فاعل من الحسور وهو الإعياء، يقال: حسر بصره يحسر حسوراً أي كل وانقطع (1) وبلغ الغاية في الإعياء.
ولما فرغ سبحانه من تفاصيل بعض أحكام الملك وآثار القدرة وبيان ابتنائها على قوانين الحكم والمصالح، شرع في ذكر دلائل أخرى على تمام قدرته بعد تلك الدلائل فقال
_________
(1) ومنه قول الشاعر:
نظرت إليها بالمحصب من منى ... فعاد إليّ الطرف وهو حسير(14/233)
وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ (5)
(ولقد زينا السماء الدنيا) (1) أي القربى إلى الأرض من بقية السموات وهي التي يراها الناس.
(بمصابيح) أي بنجوم فصارت بهذه الزينة في أحسن خلق، وأكمل صورة وأبهج شكل، والمجيء بالقسم لإبراز كمال العناية، والمصابيح جمع مصباح وسميت الكواكب مصابيح لأنها تضيء كإضاءة السراج، ففي الكلام استعارة تصريحية لأن حقيقة المصباح كما في المختار السراج، وبعض الكواكب
_________
(1) قال المقيلي في حاشية الكشاف إن قوله (ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح) يكذب المنجمين والزاعمين علم الفلك في قولهم إن بعض النجوم في السموات كقولهم أن زحل في السابعة والمشتري في السادسة والمريخ في الخامسة والشمس في الرابعة والزهرة في الثالثة والعطارد في الثانية والقمر في الدنيا وهذا من واضحات علمهم بزعمهم فغيره أكذب منه وكان البيضاوي يتعاطى هذه الحرفة البائرة لأنه قال هنا لا ينافي ذلك كون بعض النجوم مركوزاً في سموات فوق هذه وتقدم له في البقرة أنه إذا ضم العرش إلى السبع السموات وافق كلام الأوائل أن الأفلاك ثمانية وتمام البحث حققناه في هداية السائل إلى أدلة المسائل أهـ منه.(14/233)
وإن كان في غير سماء الدنيا من السموات التي فوقها تتراءى كأنها كلها في السماء الدنيا لأن أجرام السموات لا تمنع من رؤية ما فوقها مما له إضاءة لكونها أجراماً صقيلة شفافة.
(وجعلناها رجوماً للشياطين) هذه فائدة أخرى غير الفائدة الأولى وهي كونها زينة للسماء الدنيا. والمعنى أنها ترجم الشياطين الذين يسترقون السمع، والرجوم جمع رجم بالفتح وهو في الأصل مصدر أطلق على المرجوم به كما في قولهم الدرهم ضرب الأمير أي مضرابه والمعنى ذات رجم وجمع المصدر باعتبار أنواعه وقيل إن الضمير في جعلناها إلى المصابيح على حذف مضاف أي جعلنا شهبها وهي نارها المقتبسة منها لا هي نفسها لقوله:
(إلا من خطف الخطفة فأتبعه شهاب ثاقب) ووجه هذا أن المصابيح التي زين الله بها السماء الدنيا لا تزول عن مكانها ولا يرجم بها بل ينفصل شهاب عن الكوكب فيقتل الجني أو يخبله. كذا قال أبو علي الفارسي: جواباً لمن سأله كيف تكون المصابيح زينة وهي رجوم، قال القشيري: وأمثل من قوله هذا أن نقول هي زينة قبل أن ترجم بها الشياطين.
قال قتادة: خلق الله النجوم لثلاث زينة للسماء ورجوماً للشياطين وعلامات يهتدى بها في البر والبحر، فمن تكلم فيها بغير ذلك فقد تكلم فيما لا يعلم وتعدى وظلم، وقيل: معنى الآية وجعلناها ظنوناً ورجوماً بالغيب لشياطين الإنس وهم المنجمون قال أبو السعود: ولا يساعده المقام.
(وأعتدنا لهم) أي للشياطين في الآخرة بعد الإحراق في الدنيا بالشهب (عذاب السعير) هو النار الموقدة وأشد الحريق، يقال: سعرت النار فهي مسعورة.(14/234)
وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (6) إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ (7) تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ (9) وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10)(14/235)
وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (6)
(وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ) من كفار أو بني آدم من الفريقين (عذاب جهنم وبئس المصير) أي ما يصيرون إليه وهو جهنم(14/235)
إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ (7)
(إذا ألقوا) أي طرحوا (فيها) كما يطرح الحطب في النار.
(سمعوا لها شهيقاً) أي صوتاً منكراً كصوت الحمير عند أول نهيقها وهو أقبح الأصوات، وتشهق إليهم شهقة البغل للشعير، ثم تزفر زفرة لا يبقى أحد إلا خاف وقوله (لها) في محل نصب على الحال أي كائناً لها لأنه في الأصل صفة فلما قدمت صارت حالاً وقال عطاء الشهيق هو من الكفار عند إلقائهم في النار. (وهي تفور) أي والحال أنها تغلي بهم غليان المرجل بما فيه.(14/235)
تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8)
(تكاد تميز) أي تتميز يعني تتقطع (من الغيظ) على الكفار فجعلت كالمغتاظة استعارة لشدة غليانهم بهم، قال ابن قتيبة: تكاد تنشق غيظاً على الكفار، وقال ابن عباس: تميز أي تتفرق ويفارق بعضها بعضاً، قرأ الجمهور تميز بتاء واحدة مخففة وقرىء بتاءين على الأصل وبتشديدها بإدغام إحداهما في الأخرى، وقرىء تمايز والأصل تتمايز وتميز من ماز يميز.
(كلما ألقي فيها فوج) مستأنفة لبيان حال أهلها، والفوج الجماعة من الناس أي كلما ألقي في جهنم جماعة من الكفار (سألهم) أي الفوج والجمع باعتبار معناه (خزنتها) من الملائكة سؤال توبيخ وتقريع (ألم يأتكم) في الدنيا (نذير) ينذركم هذا اليوم ويحذركم منه.(14/235)
قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ (9)
(قالوا بلى) مستأنفة جواب سؤال مقدر كأنه قيل فماذا قالوا بعد هذا السؤال فقال: قالوا بلى (قد جاءنا) أي جاء كلاً منا (نذير) فأنذرنا وخوفنا وأخبرنا بهذا اليوم، أو هذا من كلام الفوج وكل فوج له نذير، فلا يحتاج إلى التأويل، وهذا اعتراف منهم بعدل الله، وإقرار بأنه تعالى أزاح عللهم ببعث الرسل وإنذارهم ما وقعوا فيه، وجمعوا بين حرف الجواب ونفس الجملة المفادة به تأكيداً إذ لو اقتصروا على " بلى " لفهم المعنى ولكنهم صرحوا بالمفاد ببلى تحسراً وزيادة ندم في تفريطهم وليعطفوا عليه قولهم.
(فكذبنا) ذلك النذير في كونه نذيراً من جهته تعالى (وقلنا) في حق ما تلاه علينا من الآيات إفراطاً في التكذيب (ما نزل الله) على أحد (مِنْ شَيْءٍ) من الأشياء فضلاً عن تنزيل الآيات على ألسنتكم من الوعد والوعيد وغيرهما.
(إن أنتم إلا في ضلال كبير) أي في ذهاب عن الحق وبعد عن الصواب، وخطأ عظيم لا يقادر قدره. وهذا يحتمل أن يكون من كلام الكفار للنذر، وأن يكون من كلام الخزنة للكفار على إرادة القول، ومرادهم بالضلال الهلاك أو سموا جزاء الضلال باسمه كما يسمى جزاء السيئة والاعتداء سيئة، وهذا يسمى المشاكلة في علم البيان، وأن يكون من كلام الرسل للكفرة وقد حكوه للخزنة، والاحتمال الأول هو الذي استظهره جمهور المفسرين.
ثم حكى الله عنهم مقالة أخرى قالوها بعد تلك المقالة فقال(14/236)
وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10)
(وقالوا لو كنا نسمع) ما خاطبنا به الرسل (أو نعقل) شيئاًً من ذلك (ما كنا في أصحاب السعير) أي في عداد أهل النار، ومن جملة من يعذب بالسعير وهم الشياطين كما سلف، قال الزجاج: لو كنا نسمع سماع من يعي، أو نعقل عقل من يميز وينظر ما كنا من أهل النار، وفيه دليل على أن مدار التكليف على أدلة السمع والعقل وأنهما حجتان ملتزمتان.(14/236)
فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ (11) إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (12) وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (13) أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15)
فلما اعترفوا هذا الاعتراف قال الله سبحانه(14/237)
فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ (11)
(فاعترفوا بذنبهم) الذي استحقوا به عذاب النار وهو الكفر وتكذيب الأنبياء (فسحقاً لأصحاب السعير) أي فبعداً لهم من الله ورحمته، قال ابن عباس: سحقاً بعداً وقال سعيد بن جبير وأبو صالح: هو واد في جهنم يقال له السحق، قرأ الجمهور سحقاً بإسكان الحاء وقرىء بضمها وهما لغتان مثل السحت والرعب، وسحقاً منصوب على المفعول به أي ألزمهم الله سحقاً، وقال الزجاج وأبو علي الفارسي: منصوب على المصدر أن أسحقهم الله سحقاً، وقال أبو علي الفارسي: كان القياس إسحاقاً فجاء المصدر على الحذف، واللام في (لأصحاب) السعير للبيان كما في (هيت لك).
ولما فرغ سبحانه من ذكر أحوال أهل النار شرع في ذكر أحوال أهل الجنة فقال(14/237)
إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (12)
(إن الذين يخشون ربهم بالغيب) حال من الفاعل أو من المفعول أي غائبين عنه أو غائباً عنهم والمعنى أنهم يخشون عذابه ولم يروه فيؤمنون به خوفاً من عذابه، ويجوز أن يكون المعنى يخشون ربهم حال كونهم غائبين عن أعين الناس، وذلك في خلواتهم فيطيعونه سراً فيكون علانية أولى، أو المراد بالغيب كون العذاب غائباً عنهم لأنهم في الدنيا وهو إنما يكون يوم القيامة، والباء على هذا سببية.
قال ابن عباس في الآية: هم أبو بكر وعمر وعلي وأبو عبيدة بن الجراح، أخرجه ابن مردويه (لهم مغفرة) عظيمة يغفر الله بها ذنوبهم (وأجر كبير) لا يقادر قدره وهو الجنة، ومثل هذه الآية قوله (من خشى(14/237)
الرحمن بالغيب) وظاهر الآية العموم.
ثم عاد سبحانه إلى خطاب الكفار فقال:(14/238)
وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (13)
(وأسروا قولكم أو اجهروا به) مستأنفة مسوقة لبيان تساوي الأسرار والجهر بالنسبة إلى علم الله سبحانه. والمعنى إن أخفيتم كلامكم أو جهرتم به في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فكل ذلك يعلمه الله لا تخفى عليه منه خافية، وتقديم السر على الجهر للإيذان بافتضاحهم ووقوع ما يحذرونه من أول الأمر، والمبالغة في بيان شمول علمه المحيط بجميع المعلومات كان علمه تعالى بما يسرونه أقدم منه بما يجهرون به مع كونها في الحقيقة على السوية.
فإن علمه تعالى بمعلومات ليس بطريق حصول صورها بل وجود كل شيء في نفسه علم بالنسبة إليه تعالى، أو لأن مرتبة السر متقدمة على مرتبة الجهر إذ ما من شيء يجهر به إلا وهو أو مباديه مضمر في القلب يتعلق به الإسرار غالباً فتعلق علمه تعالى بحالته الأولى متقدم على تعلقه بحالته الثانية.
وقوله (إنه عليم بذات الصدور) تعليل للاستواء المذكور وتقرير له، وفي صيغة الفعيل وتحلية الصدور بلام الاستغراق ووصف الضمائر بصاحبيتها من الجزالة ما لا غاية وراءه، كأنه قيل: إنه مبالغ في الإحاطة بمضمرات جميع الناس وأسرارهم الخفية المستكمنة في صدورهم بحث لا تكاد تفارقها أصلاً، فكيف يخفى عليه ما تسرونه وتجهرون به، ويجوز أن يراد بذات الصدور القلوب التي في الصدور، والمعنى إنه عليم بالقلوب وأحوالها فلا يخفى عليه سر من أسرارها.(14/238)
أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14)
(ألا يعلم) الاستفهام للإنكار والمقصود نفي عدم إحاطة علمه تعالى بالمضمر والمظهر والمعنى ألا يعلم السر ومضمرات القلوب (من خلق) ذلك وأوجده، فالموصول عبارة عن الخالق، ويجوز أن يكون عبارة عن المخلوق، وفي (يعلم) ضمير يعود إلى الله المخلوق الذي هو من جملة خلقه فإن الأسرار والجهر ومضمرات القلوب من جملة خلقه وفيه إثبات خلق الأقوال فيكون دليلاً على خلق أفعال العباد، وقال أبو بكر بن الأصم وجعفر بن(14/238)
حرب: " من " مفعول والفاعل مضمر وهو الله تعالى، فاحتالا بهذا لنفي خلق الأفعال (وهو اللطيف الخبير) أي الذي لطف علمه بما في القلوب الخبير بما تسره وتضمره من الأمور لا تخفى عليه من ذلك خافية.
ثم امتن سبحانه على عباده فقال(14/239)
هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15)
(هو الذي جعل لكم الأرض ذلولاً) أي سهلة لينة مذللة تستقرون عليها منقادة لما تريدون منها من مشي عليها، وزرع وحبوب وغرس وغير ذلك، ولم يجعلها خشنة بحيث يمتنع عليكم السكون والمشي عليها، والذلول في الأصل هو المنقاد الذي يذل لك ولا يستصعب عليك، والمصدر الذل، وتقديم " لكم " على مفعولي الجعل مع أن حقه التأخر عنهما للإهتمام بما قدم والتشويق إلى ما أخر، فإن ما حقه التقديم إذا أخر لا سيما عند كون المقدم مما يدل على كون المؤخر من منافع المخاطبين تبقى النفس مترقبة لوروده فيتمكن لديها عند ذكره فضل تمكن.
(فامشوا في مناكبها) استدلالاً واسترزاقاً، والفاء لترتيب الأمر بالمشي على الجعل المذكور والأمر للإباحة قال مجاهد والكلبي ومقاتل مناكبها طرقها وأطرافها ونواحيها وجوانبها، وقال قتادة وشهر بن حوشب: مناكبها جبالها وقيل: فجاجها وبه قال ابن عباس، وقال أيضاًً: أطرافها، وأصل المنكب الجانب ومنه منكب الرجل ومنه الريح النكباء لأنها تأتي من جانب دون جانب.
(وكلوا من رزقه) أي مما رزقكم وخلقه لكم والتمسوا من نعم الله تعالى.
" عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله يحب العبد المؤمن المحترف " (1) أخرجه الطبراني وابن عدي والبيهقي في الشعب والحكيم الترمذي (وإليه) لا إلى غيره (النشور) من قبوركم للجزاء فيسألكم عن شكر ما أنعم عليكم، فبالغوا في شكر نعمه وآلائه، وفي هذا وعيد شديد.
_________
(1) حديث ضعيف انظر ضعيف الجامع - 1704.(14/239)
أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (16) أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (17) وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (18) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ (19) أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ (20) أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ (21)
ثم خوف سبحانه الكفار فقال:(14/240)
أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (16)
(أأمنتم من في السماء) قال الواحدي قال المفسرون: يعني عقوبة من في السماء، وقيل: من في السماء عرشه وقدرته وسلطانه أي محل سلطانه ومحل قدرته، وهو العالم العلوي، وخص بالذكر وإن كان كل موجود محلاً للتصرف فيه ومقدوراً له تعالى لأن العالم العلوي أعجب وأغرب، فالتخويف به أشد من التخويف بغيره.
وقيل: الملائكة وقيل: المراد جبريل وقيل: هو الله سبحانه وهو الحق، لأن ظاهر النظم القرآني يقتضي أن الباري تعالى فوق السماء " وفي " بمعنى على والمعنى من ثبت واستقر في السماء أي على العالي وهو العرش، قرأ الجمهور أأمنتم بهمزتين وقرىء بالتخفيف وبقلب الأولى واواً.
وقوله (أن يخسف بكم الأرض) بدل اشتمال من الموصول أي أأمنتم خسفة أو على حذف (من) أي من أن يخسف، والمعنى يقلبها متلبسة بكم كما فعل بقارون بعد ما جعلها لكم ذلولاً تمشون في مناكبها.
(فإذا هي تمور) أي تضطرب وتتحرك بكم على خلاف ما كانت عليه من السكون والاطمئنان، وقيل: تهوي بهم، وقيل: تجيء وتذهب، والأول أولى، قال الرازي: إن الله يحرك الأرض عند الخسف بهم حتى تتحرك فتعلو عليهم وهم يخسفون فيها فتنقلب فوقهم وتخسفهم إلى أسفل سافلين.(14/240)
ثم كرر سبحانه التهديد لهم بوجه آخر فقال(14/241)
أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (17)
(أم أمنتم) إضراب عن التهديد بما ذكر، وانتقال إلى التهديد بوجه آخر أي بل أأمنتم (من في السماء) وهو الله سبحانه وتعالى وفيه دليل على علوه ومباينته عن خلقه باستوائه على عرشه.
(أن يرسل عليكم حاصباً) أي حجارة من السماء كما أرسلها على قرية قوم لوط وأصحاب الفيل، وقيل: سحاب فيها حجارة وقيل: ريح فيها حجارة وحصباء كأنها تقلع الحصباء لشدتها وقوتها، والكلام فيه كالكلام في أن يخسف بكم الأرض فهو إما بدل اشتمال أو بتقدير من.
(فستعلمون) عند معاينة العذاب (1) (كيف نذير) أي إنذاري بالعذاب أي أنه حق، قاله المحلي، وقيل: النذير هنا محمد صلى الله عليه وسلم قاله عطاء والضحاك والمعنى: ستعلمون رسولي وصدقه، والأول أولى.
_________
(1) قال الحفناوي ظاهر السياق أن المراد العذاب الموعود به وهو خسف الأرض وكذا في قوله الآتي (فكيف كان نكير) فيقتضي أن كفار مكة قد خسف بهم ورموا بالأحجار مع أنهم لم يقع لهم ذلك، فإن قيل: المراد بقوله فستعلمون الخ التخويف بعذاب الآخرة قلنا يصير في الكلام نوع تفكيك خصوصاً وقد قال أبو السعود أي بإنذاري عند مشاهدتكم للمنذر به ولكن لا ينفعكم العلم حينئذ انتهى وهذا يقتضي أن الكلام في العذاب المخوف به وقد علمت ما فيه ولم نر من الشراح من نبه على هذا والله أعلم بمراده وأسرار كتابه.(14/241)
وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (18)
(ولقد كذب الذين من قبلهم) أي من قبل كفار مكة من كفار الأمم الماضية كقوم نوح وعاد وثمود وقوم ولوط وأصحاب الأيكة وأصحاب الرس وقوم فرعون والالتفات إلى الغيبة لإبراز الإعراض عنهم.
(فكيف كان نكير) أي إنكاري عليهم بما أصبتهم به من العذاب الفظيع، وهذا هو مورد التأكيد القسمي لا تكذيبهم فقط، وفيه من المبالغة في تسلية رسول الله عليه وسلم وتشديد التهديد لقومه ما لا يخفى.(14/241)
أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ (19)
(أو لم يروا) الهمزة للاستفهام والواو للعطف على مقدّر أي أغفلوا ولم ينظروا ولم يروا وأجمع القراء على قراءته بياء الغيبة لأن السياق للرد على المكذبين بخلاف ما في النحل ففيه الغيبة والخطاب (إلى الطير) جمع طائر ويقع على الواحد والجمع، وقال ابن الأنباري: الطير جماعة وتأنيثها أكثر من تذكيرها ولا يقال للواحد طير بل طائر، وقلما يقال للأنثى طائرة (فوقهم) في الهواء (صافات) حال أي صافة لأجنحتها في الهواء والجو وتبسطها عند طيرانها.
(ويقبضن) أي يضممن أجنحتهن إلى جنوبهن إذا ضربنها بها حيناً فحيناً للاستظهار والاستعانة على التحرك والطيران قال النحاس: يقال للطائر إذا بسط جناحه صاف، وإذا ضمها قابض، كأنه يقبضها وهذا معنى الطيران وهو بسط الجناح وقبضه بعد البسط، وإنما قال ويقبضن ولم يقل قابضات كما قال صافات لأن القبض يتجدد تارة فتارة وأما البسط فهو الأصل كذا قيل، وقيل: المعنى قبضهن لأجنحتهن عند الوقوف من الطيران لا قبضها في حال الطيران.
(ما يمسكهن إلا الرحمن) حالية أو مستأنفة لبيان كمال قدرة الله سبحانه، والثاني أظهر، والمعنى أنه ما يمسكهن في الهواء عن الوقوع عند الطيران إلا الرحمن القادر على كل شيء وإلا فالثقيل يتسفل طبعاً ولا يعلو وكذا لو أمسك حفظه وتدبيره عن العالم لتهافتت الأفلاك (إنه بكل شيء بصير) لا يخفى عليه شيء كائناً ما كان، يعلم كيف يخلق الغرائب وكيف يدبر العجائب، فبصير بمعنى العالم بالأشياء الدقيقة الغريبة.(14/242)
أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ (20)
(أمن هذا الذي هو جند لكم ينصركم من دون الرحمن) الاستفهام للتقريع والتوبيخ والالتفات عن الغيبة إلى الخطاب للتشديد في ذلك التبكيت، والمعنى أنه لا جند لكم يمنعكم من عذاب الله، والجند الحزب والمنعة، قرأ الجمهور " أمن " بتشديد الميم على إدغام ميم أم في ميم من، وأم بمعنى بل(14/242)
ولا سبيل إلى تقدير الهمزة بعدها كما هو الغالب في تقدير أم المنقطعة ببل والهمزة لأن ما بعدها ههنا من الاستفهامية فأغنت عن ذلك التقدير، ومن الاستفهامية مبتدأ واسم الإشارة خبره، والموصول مع صلته صفة اسم الإشارة وينصركم صفة لجند ومن دون الرحمن في محل نصب على الحال من فاعل ينصركم، والمعنى بل من هذا الحقير الذي هو في زعمكم جند لكم متجاوزاً نصر الرحمن.
(إن الكافرون إلا في غرور) معترضة مقررة لما قبلها ناعية عليهم ما هم فيه من غاية الضلال، والالتفات عن الخطاب إلى الغيبة للإيذان باقتضاء حالهم الإعراض عنهم، والإظهار في موضع الإضمار لذمهم بالكفر وتعليل غرورهم به، والمعنى ما الكافرون إلا في غرور عظيم من جهة الشيطان يغرهم به.(14/243)
أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ (21)
(أمن) تكتب أم موصولة في " من " وكذا يقال فيما تقدم (هذا الذي يرزقكم) الكلام في هذا كالكلام في الذي قبله أي من الذي يدر عليكم الرزق من المطر وغيره (إن أمسك رزقه) أي أسباب رزقه التي ينشأ عنها كالمطر، بل لو كان الرزق موجوداً كثيراً سهل التناول فوضع الآكل لقمة في فيه فأمسك الله تعالى عنه قوة الإزدراد لعجز أهل السموات والأرض عن أن يسوغوا تلك اللقمة. وجواب الشرط محذوف لدلالة ما قبله عليه أي إن أمسك رزقه فمن يرزقكم غيره.
وقوله (بل لجوا في عتو ونفور) ينبىء عن مقدر يستدعيه المقام كأنه قيل: أثر تمام التبكيت والتعجيز لم يتأثروا لذلك ولم يذعنوا للحق، بل تمادوا في عناد واستكبار عن الحق ونفور عنه ولم يعتبروا ولا تفكروا، قال الرازي: واللجاج تقحم الأمر مع كثرة الصوارف عنه، والعتو العناد والطغيان، والنفور الشرود وقال ابن عباس: في عتو ونفور أي في ضلال.(14/243)
أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (22) قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (23) قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (25) قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (26)(14/244)
أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (22)
(أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى) مثل ضرب للمشرك والموحد توضيحاً لحالهما وتحقيقاً لشأن مذهبهما، والفاء لترتيب ذلك على ما ظهر من سوء حالهم وخرورهم في مهاوي الغرور، وركوبهم متن عشواء العتو والنفور، وعدم اهتدائهم في مسلك المحاجة إلى جهة يتوهم فيها رشد في الجملة، فإن تقدم الهمزة عليها صورة إنما هو لاقتضائها الصدارة، وأما بحسب المعنى فالأمر بالعكس كما هو المشهور حتى لو كان مكان الهمزة هل لقيل: فهل من يمشي مكباً الخ.
والمكب والمنكب الساقط على وجهه يقال: كببته فأكب وانكب وقيل هو الذي يكب رأسه فلا ينظر يميناً ولا شمالاً ولا أماماً فهو لا يأمن العثور والانكباب على وجهه، وقيل: أراد به الأعمى الذي لا يهتدي إلى الطريق، فلا يزال مشيه ينكسه على وجهه، والمكب اسم فاعل من أكب اللازم المطاوع لكبه، يقال: كبه الله على وجهه في النار فأكب أي سقط.
وهذا على خلاف القاعدة من أن الهمزة إذا دخلت على اللازم تصيره متعدياً، وهنا قد دخلت على للتعدي فصيرته لازماً. قال قتادة: هو الكافر يكب على معاصي الله سبحانه في الدنيا فيحشره الله يوم القيامة على وجهه، والهمزة للاستفهام الإنكاري، والمعنى هل هذا الذي يمشي على وجهه أهدى إلى المقصد الذي يريده.
(أمَّن يمشي سوياً) قائماً معتدلاً ناظراً إلى ما بين يديه سالماً من الخبط والعثار (على صراط مستقيم) أي على طريق مستوٍ، لا اعوجاج به ولا(14/244)
انحراف فيه، قال ابن عباس: مكباً في الضلالة وسوياً مهتدياً قيل يعني بالمكب أبا جهل وبالسوي النبي صلى الله عليه وسلم، وقيل: أراد بمن يمشي مكباً من يحشر على وجهه إلى النار. ومن يمشي سوياً من يحشر على قدميه إلى الجنة، وهو كقول قتادة الذي ذكرناه ومثله قوله:
(ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم) وخبر " من " محذوف لدلالة خبر " من " الأولى وهو أهدى عليه، وقيل: لا حاجة إلى ذلك لأن " من " الثانية معطوف على " من " الأولى عطف المفرد على المفرد كقولك: أزيد قائم أم عمرو، ووحد الخبر لأن أم لأحد الشيئين.(14/245)
قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (23)
(قل) لهم يا أشرف الخلق مذكراً لهم بما دفع عنه المولى من المفاسد. وجمع لهم من المصالح ليرجعوا إليه ولا يعولوا في حال من الأحوال إلا عليه (هو الذي أنشأكم) إنشاء بديعاً (وجعل لكم السمع) لتسمعوا به آيات الله وتتمسكوا بما فيها من الأوامر والنواهي وتتعظوا بموعظها.
(والأبصار) لتبصروا بها الآيات التكوينية الشاهدة بشؤون الله عز وجل، ووجه إفراد السمع مع جمع الأبصار أنه مصدر يطلق على الكثير والقليل، وقد قدمنا بيان هذا في مواضع مع زيادة البيان.
(والأفئدة) لتفكروا بها في مخلوقات الله وآياته التنزيلية والتكوينية وترتقوا في معارج الإيمان والطاعة، وخصها بالذكر لأنها آلات العلم، وذكر الله سبحانه ههنا أنه قد جعل لهم ما يدركون به المسموعات والمبصرات والمعقولات إيضاحاً للحجة وقطعاً للمعذرة وذماً لهم على عدم شكر نعم الله ولهذا قال:
(قليلاً ما تشكرون) أي باستعمال هذه الحواس فيما خلقت لأجله من الأمور المذكورة وقليلاً نعت لمحذوف " وما " مزيدة لتأكيد التقليل أي شكراً قليلاً أو زماناً قليلاً فالقلة على ظاهرها وقيل أراد بقلة الشكر عدم وجوده منهم إن كان الخطاب للكفرة، قال مقاتل: يعني أنكم لا تشكرون رب هذه النعم فتوحدونه.(14/245)
" عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من اشتكى ضرسه فليضع إصبعه عليه وليقرأ هذه الآية (هو الذي أنشأكم -إلى قوله- تشكرون) " أخرجه الخطيب في تاريخه وابن النجار.
و" عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من اشتكى ضرسه فليضع أصبعه عليه ويقرأ هاتين الآيتين سبع مرات (وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة فمستقر ومستودع) إلى قوله (يفقهون) و (هو الذي أنشأكم) إلى (تشكرون) فإنه يبرأ باذن الله " أخرجه (1) الدارقطني في الإفراد.
_________
(1) هذا الحديث والذي قبله لا يطمئن إليهما القلب. ولم أجدهما في كتب الحديث عندي.(14/246)
قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24)
(قل هو الذي ذرأكم في الأرض وإليه تحشرون) أمر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يخبرهم أن الله هو الذي خلقهم في الأرض ونشرهم فيها وفرقهم على ظهرها وبثهم وأنشأهم بعد ما كانوا كالذر، وأن حشرهم إليه للجزاء لا إلى غيره اشتراكاً أو استقلالاً فليبنوا أمورهم على ذلك.
ثم ذكر سبحانه أنهم يستعجلون العذاب فقال:(14/246)
وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (25)
(ويقولون) من فرط عتوهم استهزاء وسخرية وتكذيباً (متى هذا الوعد) الذي تذكرون من الحشر والقيامة والنار والعذاب (إن كنتم صادقين) في ذلك والخطاب منهم للنبي صلى الله عليه وسلم ولمن معه من المؤمنين لانهم كانوا مشاركين له في الوعد وتلاوة الآيات المتضمنة له، وجواب الشرط محذوف والتقدير إن كنتم صادقين فأخبرونا به أو فبينوا وقته لنا.
ثم لما قالوا هذا القول أمر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم أن يجيب عليهم فقال(14/246)
قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (26)
(قل إنما العلم) أي أن وقت قيام الساعة علمه (عند الله لا يعلمه غيره ومثله قوله (إنما علمها عند ربي) ثم أخبرهم أنه مبعوث للإنذار لا للإخبار بالغيب فقال:
(وإنما أنا نذير مبين) أي أنذركم عاقبة كفركم وأبين لكم ما أمرني الله ببيانه بإقامة الأدلة حتى يصير ذلك كأنه مشاهد، والإنذار يكفي له العلم بل الظن بوقوع المحذر منه.(14/246)
فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ (27) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (28) قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (29) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ (30)
ثم ذكر سبحانه حالهم عند معاينة العذاب فقال(14/247)
فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ (27)
(فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً) الفاء فصيحة معربة عن تقدير جملتين وترتيب الشرطية عليهما كأنه قيل وقد أتاهم الموعود به فرأوه فلما رأوه الخ، وزلفة مصدر بمعنى الفاعل أي مزدلفاً أو حال من المفعول أو ذا زلفة وقرب، أو رأوه في مكان ذا زلفة قال مجاهد: أي قريباً وقال الحسن: عياناً. وأكثر المفسرين على أن المراد عذاب الآخرة يوم القيامة، وقال مجاهد: المراد عذاب بدر وقيل رأوا ما وعدوا به من الحشر قريباً منهم كما يدل عليه قوله (وإليه تحشرون) وقيل لما رأوا عملهم السيء قريباً.
(سيئت وجوه الذين كفروا) أي اسودت وعلتها الكآبة والقترة وغشيتها الذلة والسواد يقال ساء الشيء يسوء فهي سيء إذا قبح، والأصل ساء وجوههم العذاب ورؤيته أي حزنها، وساءت هنا ليست هي المرادفة لبئس. والمقام للضمير وأتى بالمظهر توصلاً لذمهم بالكفر وتعليل المساءة به، قال الزجاج المعنى تبين فيها السوء أي ساءهم ذلك العذاب فظهر عليه بسببه في وجوههم ما يدل على كفرهم كقوله (يوم تبيض وجوه وتسود وجوه) قرأ الجمهور سيئت بكسر السين بدون إشمام وقرىء بالإشمام.
(وقيل) لهم توبيخاً وتقريعاً (هذا) المشاهد الحاضر من العذاب هو العذاب (الذي كنتم به تدعون) في الدنيا أي تطلبونه وتستعجلون به استهزاء، على أن معنى تدعون الدعاء قال الفراء: تدعون تفتعلون من(14/247)
الدعاء أي تتمنون وتسألون، وبهذا قال الأكثر من المفسرين، وقال الزجاج: تدعون الأباطيل والأحاديث. وقيل معنى تدعون تكذبون، هذا على قراءة الجمهور تدعون بالتشديد فهو إما من الدعاء كما قال الأكثر أو من الدعوى كما قال الزجاج ومن وافقه.
والمعنى أنهم كانوا يدعون أنه لا بعث ولا حشر ولا جنة ولا نار، وقرىء تدعون مخففاً ومعناها ظاهر وهي مؤيدة للقول بأنها من الدعاء، قال قتادة: هو قولهم (رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا) وقال الضحاك: هو قولهم (اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء) الآية، قال النحاس تدَّعون وتدعون بمعنى واحد كما تقول قدر واقتدر، وغدى واغتدى، إلا أن افتعل معناه مضى شيئاًً بعد شيء وفعل يقع على القليل والكثير.(14/248)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (28)
(قل أرأيتم إن أهلكني الله) بموت أو قتل كقوله وإن أمرؤ هلك أو بالعذاب (ومن معي) من المؤمنين (أو رحمنا) بتأخير ذلك إلى أجل أو لم يعذبنا (فمن يجير الكافرين من عذاب أليم) أي فمن يمنعهم ويؤمنهم من العذاب. والمعنى أنه لا ينجيهم من ذلك أحد سواء أهلك الله رسوله والمؤمنين معه كما كان الكفار يتمنونه أو أمهلهم.
وقيل المعنى إنا مع إيماننا بين الخوف والرجاء. فمن يجيركم مع كفركم من العذاب، ووضع الظاهر موضع المضمر للتسجيل عليهم بالكفر وبيان أنه السبب في عدم نجاتهم. وتعليل نفي الإجارة به؛ وأرأيتم بمعنى أخبروني كما ذكره بعض المفسرين وأنها إذا كانت كذلك تنصب مفعولين الأول مفرد والثاني جملة استفهامية ولا شيء منهما هنا؛ فكأن الجملة الشرطية سدت مسد الفعولين.
وقوله (فمن يجير) الخ جواب الشرط وفي تسببه على الشرط بعد، وممكن أن يقال الجواب محذوف تقديره، فلا فائدة لكم في ذلك ولا نفع يعود عليكم لأنكم لا مجير لكم من عذاب الله.(14/248)
قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (29)
(قل هو الرحمن) أي الذي أدعوكم إلى عبادته مولى النعم كلها (آمنا به) وحده لا نشرك به شيئاًً لما علمنا أن كل ما سواه إما نعمة أو منعم عليه (وعليه) لا على غيره (توكلنا) أي فوضنا الأمور إليه عز وجل لعلمنا بأن ما عداه كائناً ما كان بمعزل من النفع والضر.
(فستعلمون) إذا نزل بكم العذاب (من هو في ضلال مبين) منا ومنكم، وفي هذا تهديد شديد مع إخراج الكلام مخرج الإنصاف. قرأ الجمهور فستعلمون بالفوقية على الخطاب وقرىء بالتحتية على الخبر.
ثم احتج سبحانه عليهم ببعض نعمه وخوّفهم سلب تلك النعمة عنهم فقال(14/249)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ (30)
(قل أرأيتم) أي أخبروني (إن أصبح ماؤكم) الذي تعدونه في أيديكم كما نبهت عليه الإضافة (غوراً) أي غائراً في الأرض بحيث لا يبقى له وجود فيها أو صار ذاهباً في الأرض إلى مكان بعيد بحيث لا تناله الدلاء، يقال غار الماء غوراً أي نضب والغور الغائر وصف بالمصدر للمبالغة، كما يقال رجل عدل، وقد تقدم مثل هذا في سورة الكهف، وكان ماؤهم من بئر زمزم وبئر ميمون؛ قال ابن عباس غوراً داخلاً في الأرض وعنه يرجع في الأرض.
(فمن يأتيكم بماء معين) أي ظاهر تراه العيون وتناله الدلاء، وقيل هو من معن الماء إذا كثر، وقال قتادة والضحاك أي جار وقد تقدم معنى المعين في سورة المؤمنون، وقرأ ابن عباس بماء عذب. وعنه قال بماء معين أي الجاري، وعنه قال معين ظاهر وعنه قال عذب.
والمقصود من الآية أن يجعلهم مقرين ببعض نعمه عليهم ويريهم قبح ما هم عليه من الكفر والعناد والكبر، قال المحلي ويستحب أن يقول القارىء عقب معين: " الله رب العالمين " كما ورد في الحديث، وتليت هذه الآية عند بعض المتجبرين فقال تأتي به الفؤوس والمعاول، فذهب ماء عينه وعمي، نعوذ بالله من الجرأة على الله وعلى آياته.(14/249)
سورة نون
وتسمى سورة القلم اثنتان وخمسون آية، وهي مكية في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر، وعن ابن عباس وقتادة أن من أولها إلى قوله: (أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) مدني، ومن بعد ذلك إلى قوله: (فَهُمْ يَكْتُبُونَ) مكي وممن بعد ذلك إلى قوله: (فَهُمْ يَكْتُبُونَ) مكي، كذا قال الماوردي، وعن ابن عباس قال كانت إذا نزلت فاتحة سورة بمكة كتبت بمكة ثم يزيد الله فيها ما شاء، وكان أول ما نزل من القرآن اقرأ باسم ربك ثم نون ثم المزمل ثم المدثر، وعنه نزلت نون بمكة وعن عائشة مثله.(14/251)
بسم الله الرحمن الرحيم
ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (1) مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ (3) وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4) فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (5) بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (6)(14/253)
ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (1)
(ن) قرىء بإدغام النون الثانية من هجائها في الواو وقرىء بالإظهار وبالفتح على إضمار فعل وبكسرها على إضمار القسم، أو لأجل التقاء الساكنين، وبضمها على البناء؛ عن ابن عباس أنه قال نون: الدواة، أخرجه ابن المنذر وعبد بن حميد، وأخرج ابن مردويه عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " النون السمكة (1) التي عليها قرار الأرضين "، وقال مجاهد والسدي ومقاتل: هو الحوت الذي يحمل الأرض، وبه قال مرة الهمداني، وعطاء الخراساني والكلبي.
وقيل إن نون آخر حرف من حروف الرحمن؛ وقال ابن زيد: هو قسم أقسم الله به؛ وقال ابن كيسان: هو فاتحة السورة وقال عطاء وأبو العالية: هي النون من نصر وناصر؛ وقال محمد بن كعب: أقسم الله بنصره المؤمنين، وقيل اسم للسورة وقيل اسم للقرآن وقيل هو حرف من حروف الهجاء كالفواتح الواقعة في أوائل السور المفتتحة بذلك، وقد اختاره المحلي حيث قال أحد حروف الهجاء؛ وأراد بذلك الرد على من قال أنه مقتطع من اسمه تعالى الرحمن أو النصير أو الناصر أو النور.
وقال النسفي: الظاهر أن المراد به هذا الحرف من حروف المعجم؛ وأما قول الحسن أنه الدواة وقول ابن عباس أنه الحوت الذي عليه الأرض
_________
(1) هذا من المروي بغير تحقيق. رواه الطبري 29/ 14 وأبو ظبيان قابوس وفيه لين كما قال ابن حجر في التقريب.(14/253)
واسمه بهموت فمشكل سواء كان جنس أو إسم علم، فالسكون دليل على أنه من حروف المعجم انتهى وقد عرفناك ما هو الحق في مثل هذه الفواتح في أول سورة البقرة.
(والقلم) الواو واو القسم أقسم الله بالقلم لما فيه من البيان وهو واقع على كل قلم يكتب به في الأرض والسماء، وقال جماعة من المفسرين ومنهم المحلي المراد به القلم الذي كتب به الكائنات في اللوح المحفوظ، أقسم الله به تعظيماً له، قال قتادة القلم من نعمة الله على عباده وعن عبادة بن الصامت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إن أول ما خلق الله القلم فقال له اكتب، فجرى بما هو كائن إلى الأبد " (1) أخرجه الترمذي وصححه وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن مردويه.
وأخرج ابن جرير من حديث معاوية بن قرة عن أبيه مرفوعاً نحوه، وعن ابن عباس قال: " إن الله خلق النون وهي الدواة وخلق القلم فقال: اكتب، قال: وما أكتب؟ قال: اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة " أخرجه ابن جرير وابن المنذر، وأخرج الحكيم الترمذي عن أبي هريرة مرفوعاً نحوه (2).
وعن ابن عباس أن أول شيء خلقه الله القلم فقال الله له اكتب فقال: يا رب ما أكتب؟ فقال: اكتب القدر، فجرى من ذلك اليوم بما هو كائن إلى أن تقوم الساعة ثم طوى الكتاب ورفع القلم وكان عرشه على الماء فارتفع بخار
_________
(1) زاد المسير، 8/ 327.
(2) رواه ابن عساكر 17/ 247/1 عن الحسن بن يحيي الخشني عن أبي عبد الله مولى بني أمية عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه بأطول منه، وتمامه: " ثم قال له: أكتب، قال: وما أكتب؟ قال: أكتب ما يكون - أو ما هو كائن من عمل أو رزق أو أجل، فكتب ذلك إلى يوم القيامة، فذلك قوله: (ن والقلم وما يسطرون) ثم ختم على القلم فلم يتكلم إلى يوم القيامة، ثم خلق العقل وقال: وعزتي لأكملنك فيمن أحببت، ولأنقصتك ممن أبغضت ". والحسن بن يحيي صدوق كثير الغلط كما قال الحافظ في " التقريب "، والحديث رواه أحمد في " المسند " 5/ 317 من طرق عن الوليد بن عبادة عن أبيه عبادة بن الصامت رضي الله عنه، وليس فيه ذكر النون في أوله ولا ذكر العقل في آخره، ورواه الترمذي 2/ 162 بنحو رواية أحمد وقال: حديث حسن صحيح غريب، ورواه أيضاًً أبو داود في " سننه " رقم (4700) والطبري 29/ 17 وهو حديث صحيح بهذا القدر.(14/254)
الماء ففتقت منه السموات ثم خلق النون فبسطت الأرض عليه والأرض على ظهر النون فاضطرب النون فمادت الأرض فأثبتت الجبال، فإن الجبال لتفخر على الأرض إلى يوم القيامة ثم قرأ (ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ) أخرجه الحاكم وصححه والبيهقي في الأسماء والصفات وأبو الشيخ وغيرهم.
(وما يسطرون) ما موصولة والضمير عائد إلى أصحاب القلم المدلول عليهم بذكره لأن ذكر آلة الكتابة تدل على الكاتب، والمعنى والذي يكتبون كل ما يكتب أو الحفظة الكاتبون على بني آدم قال ابن عباس يسطرون يكتبون، ويجوز أن تكون ما مصدرية أي وسطرهم، وقيل الضمير راجع إلى القلم خاصة من باب إِسناد الفعل إلى الآلة وإجرائها مجرى العقلاء، وعن ابن عباس أيضاًً قال: (وما يسطرون) ما يعلمون.(14/255)
مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2)
(ما أنت بنعمة ربك بمجنون) جواب القسم وما نافية أي انتفى عنك الجنون بنعمة ربك كما يقال أنت بحمد الله عاقل، قيل الباء متعلقة بمضمر هو حال كأنه قيل أنت بريء من الجنون متلبساً بنعمة الله التي هي النبوة والرسالة العامة، وقيل الباء للقسم أي ما أنت ونعمة ربك بمجنون، وقيل النعمة هنا الرحمة، والآية رد على الكفار حيث قالوا (يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون).(14/255)
وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ (3)
(وإن لك لأجراً) أي ثواباً على ما تحملت من أثقال النبوة وقاسيت من أنواع الشدائد (غير ممنون) أي غير مقطوع، يقال مننت الحبل إذا قطعته وقال مجاهد غير محسوب، وقال الحسن غير مكدر بالمن، وقال الضحاك أجراً بغير عمل وقيل غير مقدر، وقيل غير ممنون به عليك من جهة الناس، وقيل غير منقوص.(14/255)
وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)
(وإنك لعلى خلق عظيم) قيل هو الإسلام والدين، حكاه الواحدي عن الأكثرين، قال الحفناوي أقسم أولاً بالقلم ثم بسطر الملائكة أو بمسطورهم، فالمقسم به شيئان على ثلاثة أشياء نفي الجنون عنه وثبوت الأجر(14/255)
له وكونه على دين الإسلام، وقيل هو القرآن، روي هذا عن الحسن والعوفي، وقال قتادة: هو ما كان يأتمر به من أمر الله وينتهي عنه من نهي الله، قال الزجاج المعنى أنك على الخلق الذي أمرك الله به في القرآن، وقيل هو لرفقه بأمته وإكرامه إياهم، وقيل المعنى إنك على طبع كريم، قال الماوردي وهذا هو الظاهر وحقيقة الخلق في اللغة ما يأخذ الإنسان نفسه به من الأدب.
عن سعد بن هشام قال: أتيت عائشة فقلت: يا أم المؤمنين " أخبريني بخلق رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: كان خلقه القرآن " (1) أما تقرأ القرآن (إنك لعلى خلق عظيم)، أخرجه مسلم وابن المنذر والحاكم وغيرهم، وعنها قالت: " ما كان أحد أحسن خلقاً من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما دعاه أحد من أصحابه ولا من أهل بيته إلا قال لبيك، فلذلك أنزل الله (وإنك لعلى خلق عظيم) " أخرجه ابن مردويه وابن نعيم في الدلائل والواحدي.
وعن أبي الدرداء قال: " سئلت عائشة عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: كان خلقه القرآن يرضى لرضاه ويسخط لسخطه " أخرجه البيهقي في الدلائل وابن مردويه وابن المنذر.
وعن أبي عبد الله الحدلي قال: " قلت لعائشة: كيف خلق رسول الله صلى
_________
(1) هو قطعة من حديث طويل رواه الإمام أحمد في " مسنده " 6/ 51، 52، ورواه مسلم 1/ 512 بنحو حديث أحمد. ورواه الحاكم في " المستدرك " 2/ 499 مختصراً، وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، وأورده السيوطي في " الدر " 6/ 250 مختصراً، وزاد نسبته لابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن مردويه عن عائشة رضي الله عنها. قال ابن كثير: ومعنى هذا أنه عليه الصلاة والسلام صار امتثال القرآن أمراً ونهياً سجية له وخُلُقاً تطبعه وترك طبعه الجبلي، فمهما أمره القرآن فعله، ومهما نهاه عنه تركه، هذا مع ما جبله الله عليه من الخلق العظيم، من الحياء، والكرم، والشجاعة، والصفح، والحلم، وكل خلق جميل.(14/256)
الله عليه وسلم قالت: لم يكن فاحشاً ولا متفاحشاً ولا صخاباً في الأسواق ولا يجزي بالسيئة السيئة. ولكن يعفو ويصفح ". أخرجه ابن أبي شيبة والترمذي وصححه وابن مردويه. وقيل غير ذلك مما يطول ذكره وهو في كتب الشمائل والسير مستوفى.(14/257)
فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (5)
(فستبصر ويبصرون) أي ستبصر يا محمد ويبصر الكفار إذا تبين الحق وانكشف الغطاء، وذلك يوم القيامة، قال ابن عباس: أي ستعلم ويعلمون يوم القيامة حين يتميز الحق من الباطل، وقيل في الدنيا بظهور عاقبة أمرك بغلبة الإسلام واستيلائك عليهم بالقتل والنهب، وهذا وعد له ووعيد لهم.(14/257)
بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (6)
(بأيكم المفتون) قال الخطيب: ترسم بأيكم ههنا بيائين انتهى، والباء زائدة للتأكيد أي أيكم المفتون بالجنون كذا قال الأخفش وأبو عبيدة وغيرهما إلا أنه ضعيف من حيث أن الباء لا تزاد في المبتدأ إلا في بحسبك فقط، وقيل ليست الباء زائدة، والمفتون مصدر جاء على مفعول كالمعقول والميسور، والتقدير بأيكم الفتون أو الفتنة، وقال الفراء ومجاهد: إن الباء بمعنى في فهي ظرفية أي في أيكم الفتون في الفريق الذي أنت فيه أم في الفريق الآخر، ويؤيد هذا قراءة ابن أبي عبلة بفي.
وقيل في الكلام حذف مضاف أي بأيكم فتن المفتون فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه، روي هذا عن الأخفش أيضاًً تكون الباء سببية وقيل المفتون المعذب. من قول العرب فتنت الذهب بالنار إذا أحميته ومنه قوله تعالى: (يوم هم على النار يفتنون) وقيل المفتون هو الشيطان، لأنه مفتون في دينه والمعنى بأيكم الشيطان، قال ابن عباس: كانوا يقولون إنه شيطان وإنه مجنون، وعنه قال: المفتون المجنون، وقال قتادة ومقاتل: هذا وعيد لهم بعذاب يوم بدر، والمعنى سترى ويرى أهل مكة إذا نزل بهم العذاب ببدر بأيكم المفتون.(14/257)
إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (7) فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (8) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9) وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ (13) أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ (14)(14/258)
إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (7)
(إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ) تعليل للجملة التي قبلها فإنها تتضمن الحكم عليهم بالجنون لمخالفتهم لما فيه نفعهم في العاجل والآجل، واختيارهم ما فيه ضرهم فيهما، وتأكيد لما فيه من الوعد والوعيد، والمعنى هو أعلم بمن ضل عن سبيله الموصل إلى سعادة الدارين (وهو أعلم بالمهتدين) إلى سبيله الموصل إلى تلك السعادة الآجلة والعاجلة فهو مجاز كل عامل بعمله إن خيراً فخير وإن شراً فشر.(14/258)
فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (8)
(فلا تطع المكذبين) الفاء لترتيب النهي على ما ينبىء عنه ما قبله من اهتدائه صلى الله عليه وآله وسلم وضلالهم، أو على جميع ما فصل من أول السورة، وهذا تهييج للتصميم على مباينتهم، نهاه سبحانه عن ممايلة المشركين وهم رؤساء كفار مكة لأنهم كانوا يدعونه إلى دين آبائه فنهاه الله عن طاعتهم، أو هو تعريض لغيره عن أن يطيع الكفار أو المراد بالطاعة مجرد المداراة بإظهار خلاف ما في الضمير فنهاه الله عن ذلك كما يدل عليه قوله:(14/258)
وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9)
(ودّوا لو تدهن فيدهنون) فإن الإدهان هو الملاينة والمسامحة والمداراة، قال الفراء المعنى لو تلين فيلينوا لك، وكذا قال الكلبي وقال الضحاك والسدي ودوا لو تكفر فيتمادوا على الكفر، وقال الربيع بن أنس ودوا لو تكذب فيكذبون، وقال قتادة لو تذهب عن هذا الأمر فيذهبون معك، وقال الحسن لو تصانعهم عن دينك فيصانعونك وقال مجاهد لو تركن إليهم وتترك ما أنت عليه من الحق فيمايلونك، قال ابن قتيبة كانوا أرادوه على أن يعبد آلهتهم مدة ويعبدوا الله مدة، وقال ابن عباس لو ترخص لهم فيرخصون.(14/258)
وقوله فيدهنون عطف على تدهن داخل في حيز لو أو هو خبر مبتدأ محذوف أي فهم يدهنون، قال سيبويه وزعم قالون أنها في بعض المصاحف ودوا لو تدهن فيدهنوا بغير نون والنصب على جواب التمني المفهوم من " ودوا " والظاهر من اللغة في معنى الإدهان هو ما ذكرناه أولاً (1).
_________
(1) قال ابن جرير الطبري: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: معنى ذلك: ودَّ هؤلاء المشركون يا محمد لو تلين لهم في دينك بإجابتك إياهم إلى الركون إلى آلهتهم فيلينون لك في عبادتك إلهك، كما قال جل ثناؤه: (وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا (74) إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ) قال: وإنما هو مأخوذ من الدُّهن، شبه التليين في القول بتليين الدُّهن.(14/259)
وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ (10)
(ولا تطع كل حلاف) أي كثير الحلف بالباطل وكفى به مزجرة لمن اعتاد الحلف (مهين) فعيل من المهانة وهي القلة في الرأي والتمييز، وقال مجاهد: هو الكذاب، وقال قتادة: المكثار في الشر، وكذا قال الحسن: وقيل هو الفاجر العاجز وقيل هو الحقير عند الله، وقيل هو الذليل، وقيل هو الوضيع.
وأخرج ابن مردويه عن أبي عثمان النهدي قال: قال مروان لما بايع الناس ليزيد: سنة أبي بكر وعمر، فقال: عبد الرحمن بن أبي بكر إنها ليست بسنة أبي بكر وعمر لكنها سنة هرقل، فقال مروان: هذا الذي أنزل فيه (والذي قال لوالديه أف لكما) الآية. قال فسمعت ذلك عائشة فقالت: إنها لم تنزل في عبد الرحمن. ولكن نزل في أبيك (ولا تطع كل حلاف مهين) (1).
_________
(1) راجع دفاع عائشة هذا بالتفصيل في كتاب (الإجابة لإيراد ما استدركته عائشة على الصحابة) مطبعة الإمام، وهو من النوادر وقد تم طباعة الكتاب في بيروت.(14/259)
هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11)
(هماز) هو المغتاب للناس، قال زيد هو الذي يهمز بأخيه، وقيل الهماز العياب، وقيل الهماز الذي يذكر الناس في وجوههم، واللماز الذي(14/259)
يذكرهم في مغيبهم، كذا قال أبو العالية والحسن وعطاء بن أبي رباح، وقال مقاتل: عكس هذا، وقيل الهماز الذي يهمز الناس بيده ويضربهم، واللمز باللسان، وقيل الهمز كاللمز وزناً ومعنى وبابه ضرب، وهمزات الشيطان خطراته التي يخطرها بقلب الإنسان.
(مشّاء بنميم) هو الذي يمشي بالنميمة بين الناس ليفسد بينهم، يقال نم ينم إذا سعى بالفساد بين الناس، وقيل النميم جمع نميمة أي نقال للحديث من قوم إلى قوم على وجه السعاية والإفساد بينهم (1).
_________
(1) وقد ثبت في " الصحيحين " من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: مرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بقبرين، فقال: " إنهما ليعذبان، وما يعذبان في كبير، أما أحدهما فكان لا يستتر من البول، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة ". وفي " الصحيحين " أيضاًً من حديث حذيفة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " لا يدخل الجنة قتان " أي: نمام، كما في رواية أخرى لمسلم.(14/260)
مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12)
(مناع للخير) أي بخيل بالمال لا ينفقه في وجهه، وقيل هو الذي يمنع أهله وعشيرته عن الإسلام، قال الحسن: يقول لهم من دخل منكم في دين محمد صلى الله عليه وآله وسلم لا أنفعه بشيء أبداً (معتد) أي متجاوز الحد في الظلم (1) (أثيم) كثير الآثام.
_________
(1) في " الصحيحين " عن حارثة بن وهب الخزاعي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ألا أنبئكم بأهل الجنة، كل ضعيف متضعّف لو أقسم على الله لأبرَّه، ألا أنبئكم بأهل النار كل عُتلّ جَوَّاظ مستكبر ". والجوَّاظ: الجموع المنوع.(14/260)
عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ (13)
(عتل) قال الواحدي: المفسرون يقولون هو الشديد الخلق الفاحش الخلق وقال الفراء: هو الشديد الخصومة في الباطل، وقال الزجاج: هو الغليظ الجافي في الطبع من عتله إذا قاده بعنف وغلظة، وقال الليث: هو الأكول المنوع، وقيل قاسي القلب وقيل الذي يعتل الناس أي يحملهم ويجرهم إلى ما يكرهون من حبس وضرب، ومنه (خذوه فاعتلوه) وقيل هو الفاحش اللئيم.(14/260)
(بعد ذلك زنيم) أي هو بعد ما عد من معايبه ومثالبه الثمانية دعيٌّ ملصق مستلحق بالقوم، وليس هو منهم، مأخوذ من الزنمة المتدلية في حلق الشاة أو الماعز، وقال سعيد بن جبير: الزنيم المعروف بالشر وقيل هو رجل من قريش كان له زنمة كزنمة الشاة. وقيل هو الظلوم، وقال ابن عباس: له زنمة كزنمة الشاة والعتل هو الدعي والزنيم هو المريب الذي يعرف بالشر وعنه قال: الزنيم الدعي وعنه الزنيم الذي يعرف بالشر كما تعرف الشاة بزنمتها وعنه قال هو الرجل يمر على القوم فيقولون رجل سوء، وقال: أيضاًً الزنيم الظلوم.
وهذه البعدية في الرتبة لا في الخارج، قال الشهاب فبعد هنا كثم للتراخي في الرتبة قال أبو السعود وفيه دلالة على أن دعوته أشد معايبه وأقبح قبائحه؛ وقد قيل أن هذه الآيات نزلت في الأخنس بن شريق لأنه حليف ملحق في بني زهرة؛ وقيل في الوليد بن المغيرة وبه قال الجمهور، وقيل في أبي جهل بن هشام، وقيل في الأسود ابن عَبْد يغوث، قاله ابن عباس.(14/261)
أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ (14)
(أن كان ذا مال وبنين) متعلق بقوله تعالى: (ولا تطع) أي لا تطع من هذه مثالبه لأن كان متمولاً مستظهراً بالبنين، قاله الفراء والزجاج، وقيل متعلق بما دل عليه جملة(14/261)
إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (15)
(إذا تتلى) من معنى الجحود والتكذيب لا يقال الذي هو جواب الشرط لأن ما بعد الشرط لا يعمل فيما قبله كأنه قيل لكونه مستظهراً بالمال والبنين كذب بآياتنا، وفيه أنه يدل على أن مدار تكذيبه كونه ذا مال وبنين من غير أن يكون لسائر قبائحه دخل في ذلك.
قرىء أن كان بهمزة واحدة على الخبر وقرىء بهمزة واحدة ممدودة على الاستفهام؛ والمراد به التوبيخ والتقريع حيث جعل مجازاة النعم التي خوَّله الله من المال والبنين أن كفر به وبرسوله، وقرىء بهمزتين مخففتين وقرأ نافع في رواية عنه بكسر الهمزة على الشرط وجوابه مقدر أي إن كان كذا يكفر وبحد دل عليه ما بعده.(14/261)
إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (15) سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (16) إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ (17) وَلَا يَسْتَثْنُونَ (18) فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ (19) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20) فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ (21) أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ (22)
(إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا) أي القرآن (قال) هي (أساطير) أي أكذوبة (الأولين) والجملة مستأنفة جارية مجرى التعليل للنهي.(14/262)
سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (16)
(سنسمه على الخرطوم) أي سنكويه بالكي على أنفه مهانة له وعلامة يعير بها ما عاش، قال أبو عبيدة وأبو زيد والمبرد: الخرطوم الأنف وتخصيص الأنف بالذكر لأن الوسم عليه أبشع؛ وفي التعبير عن الأنف بالخرطوم استهجان واستهزاء باللعين، لأن الخرطوم أنف السباع وغالب ما يستعمل في أنف الفيل والخنزير، وفي القاموس الخرطوم كزنبور الأنف أو مقدمه أو ما ضممت عليه الحنكين كالخرطم كقنفذ. وفي السمين هو هنا عبارة عن الوجه كله من التعبير عن الكل باسم الجزء لأنه أظهر ما فيه وأعلاه، والأول أولى، وقد جرح أنف هذا اللعين يوم بدر فبقى أثر الجرح في أنفه بقية عمره.
وقال مقاتل سنسمه بالسواد على الأنف وذلك أنه يسود وجهه قبل دخول النار وقال الزجاج: سنجعل له في الآخرة العلم الذي يعرف به أهل النار من اسوداد وجوههم، وقال قتادة: سنلحق به شيئاًً لا يفارقه. واختار هذا ابن قتيبة قال: والعرب تقول قد وسمه ميسم سوء يكون ألصق به عاراً لا يفارقه فالمعنى أن الله ألحق به عاراً لا يفارقه كالوسم على الخرطوم، وقيل معنى سنسمه سنحطمه بالسيف وقال النضر بن شميل: المعنى سنجده على شرب الخمر وقد يسمى الخمر بالخرطوم ومنه قول الشاعر:
تظل يومك في لهو وفي طرب ... وأنت بالليل شراب الخراطيم(14/262)
إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ (17)
(إنا بلوناهم) يعني كفار مكة فإن الله ابتلاهم بالجوع والقحط بدعوة(14/262)
رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أكلوا الجيف والرمم، والابتلاء الاختبار، والمعنى أعطيناهم الأموال ليشكروا لا ليبطروا فلما بطروا وعادوا محمداً صلى الله عليه وسلم ابتليناهم ابتلاء.
(كما بلونا أصحاب الجنة) المعروف خبرهم عندهم، وذلك أنها كانت بأرض اليمن على فرسخين من صنعاء لرجل يؤدي حق الله منها فمات وصارت إلى أولاده، فمنعوا الناس خيرها وبخلوا بحق الله فيها، قال الواحدي هم قوم من ثقيف كانوا باليمن مسلمين ورثوا من أبيهم ضيعة فيها جنات وزرع ونخيل، وكان أبوهم يجعل مما فيها من كل شيء حظاً للمساكين عند الحصاد والصرام، فقالت بنوه المال قليل والعيال كثير، ولا يسعنا أن نفعل كما كان يفعل أبونا وعزموا على حرمان المساكين فصارت عاقبتهم إلى ما قص الله في كتابه (1).
وقال الحسن: كانوا كفاراً قال النسفي: والجمهور على الأول، وقال الكلبي: كان بينهم وبين صنعاء فرسخان، ابتلاهم الله بأن حرق جنتهم وقيل هي جنة كانت بصروان وصروان بالصاد المهملة على فراسخ من صنعاء وكان أصحاب هذه الجنة بعد رفع عيسى بزمن يسير، قاله الزوقاني: في شرح المواهب، وذكره القرطبي أيضاًً ومثله في حواشي البيضاوي، وقال ابن عباس: هم ناس من أهل الحبشة كان لأبيهم جنة وكان يطعم منها المساكين فمات أبوهم فقال بنوه: إن كان أبونا لأحمق كان يطعم المساكين.
_________
(1) ذكر أهل التفسير أن رجلاً كان بناحية اليمن له بستان، وكان مؤمناً. وذلك بعد عيسى ابن مريم عليهما السلام، وكان يأخذ منه قدر قوته، وكان يتصدّق بالباقي. وقيل: كان يترك للمساكين ما تعدَّاه المنجل، وما يسقط من رؤوس النخل، وما ينتثر عند الدِّراس، فكان يجتمع من هذا شيء كثير، فمات الرجل عن ثلاث بنين، فقالوا: والله إن المال لقليل، وإن العيال لكثير، وإنما كان أبونا يفعل هذا إذْ كان المال كثيراً، والعيال قليلاً، وأما الآن فلا نستطيع أن نفعل هذا. فعزموا على حرمان المساكين، وتحالفوا بينهم ليغدُنَّ قبل خروج الناس، فليصرمُنَّ نخلهم، فذلك قوله تعالى: (إذا أقسموا) أي: حلفوا (ليصرمُنها) أي: ليقطعن نخلهم (مصبحين) أي: في أول الصباح. وقد بقيت من الليل ظُلمة لئلا يبقى للمساكين شيء.(14/263)
(إذ أقسموا) أي حلف معظمهم إلا الأوسط قال لهم لا تفعلوا واصنعوا من الإحسان ما كان يصنعه أبوكم، قال البقاعي وكأنه تعالى طواه لأنه مع الدلالة عليه بما يأتي لم يؤثر شيئاًً.
(ليصرمنها مصبحين) أي ليقطعنها داخلين في وقت الصباح قبل انتشار الفقراء، والصرام القطع للثمر والزرع، يقال صرم العذق عن النخلة وأصرم النخل أي حان وقت صرامه، والانصرام الانقطاع والتصارم التقاطع والتصرم التقطع، وإذ تعليلية أو ظرفية بنوع تسمح لأن الإقسام كان قبل ابتلائهم، وليصرمنها جواب القسم.(14/264)
وَلَا يَسْتَثْنُونَ (18)
(ولا يستثنون) يعني ولا يقولون إن شاء الله وسمي استثناء وهو الشرط لأن معنى لأخرجن إن شاء الله، ولا أخرج إلا أن يشاء الله واحد قاله الزمخشري، وهذه الجملة مستأنفة لبيان ما وقع منهم أو حال، وقيل المعنى ولا يستثنون للمساكين من جملة ذلك القدر الذي كان يدفعه أبوهم إليهم قاله عكرمة، وقيل المعنى لا يثنون عزمهم عن الحرمان.(14/264)
فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ (19)
(فطاف عليها طائف من ربك وهم نائمون) أي فنزل على تلك الجنة طائف من جهة الله سبحانه أي هلاك أو بلاء في حال نومهم، والطائف غلب في الشر، قال الفراء هو الأمر الذي يأتي ليلاً ورد عليه بقوله تعالى: (إذا مسهم طائف من الشيطان) وذلك لا يختص بليل ولا نهار، وقرىء طيف، والطائف قيل هو نار أحرقتها حتى صارت سوداء كذا قال مقاتل، وقيل الطائف جبريل اقتلعها، وقال ابن عباس طائف أي أمر من الله.
وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن مسعود قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إياكم والمعصية فإن العبد ليذنب الذنب الواحد فينسى به الباب من العلم، وإن العبد ليذنب الذنب فيحرم به قيام الليل وإن العبد ليذنب الذنب فيحرم به رزقاً قد كان هيىء له ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم فطاف عليها الآية قد حرموا خير جنتهم بذنبهم ".
وفي هذه الآية دليل على أن العزم مما يؤاخذ به الإنسان لأنهم عزموا على(14/264)
أن يفعلوا فعوقبوا قبل فعلهم، ونظيره قوله تعالى: (ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم).
وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: إذا التقى المسلمان بسيفهما فالقاتل والمقتول في النار قيل: يا رسول هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: إنه كان حريصاً على قتل صاحبه " (1) وهذا محمول على العزم المصمم. وأما ما يخطر بالبال من غير عزم فلا يؤاخذ به قاله القرطبي.
_________
(1) صحيح الجامع/380.(14/265)
فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20)
(فأصبحت كالصريم) فعيل بمعنى مفعول أي صارت كالشيء الذي صرمت ثماره أي قطعت. وقال الفراء: كالصريم كالليل المظلم، والمعنى أنها حرقت فصارت كالليل الأسود قال: والصريم الرماد الأسود بلغة خزيمة، وقال الأخفش أي كالصبح الصريم من الليل يعني أنها يبست وابيضت بلا شجر، وقال المبرد: الصريم الليل والصريم النهار أي ينصرم هذا عن هذا وذاك عن هذا، وقيل سمي الليل صريماً لأنه يقطع بظلمته عن التصرف، وقال المؤرج: الصريم الرملة لأنها لا ينبت عليها شيء ينتفع به، وقال الحسن: صرم منها الخير أي قطع.(14/265)
فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ (21)
(فتنادوا مصبحين) أي نادى بعضهم بعضاً داخلين في الصباح معطوف على أقسموا، وما بينهما اعتراض لبيان ما نزل بتلك الجنة، قال مقاتل لما أصبحوا قال بعضهم لبعض(14/265)
أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ (22)
(أن اغدوا) أن هي المفسرة لأن في التنادي معنى القول أو هي المصدرية أي بأن اغدوا والمراد أخرجوا غدوة.
(على حرثكم) وأقبلوا عليه باكرين، والغدو يتعدى بإلى وعلى فلا حاجة إلى تضمينه معنى الإقبال كما قيل، والمراد بالحرث الثمار والزرع والعنب (إن كنتم صارمين) أي قاصدين للصرم، وجواب الشرط محذوف أي إن كنتم مريدين صرامه فاغدوا، وقيل معنى صارمين ماضين في العزم من قولك سيف صارم.(14/265)
فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ (23) أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (24) وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ (25) فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (26) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (27) قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ (28) قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (29) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ (30) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ (31)(14/266)
فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ (23)
(فانطلقوا) أي ذهبوا إلى جنتهم (وهم يتخافتون) أي يسرون الكلام بينهم لئلا يعلم أحد بهم، يقال خفت يخفت إذا سكن ولم ينبس، قال ابن عباس الخفت الإسرار والكلام الخفي، وقيل المعنى يخفون أنفسهم من الناس حتى لا يروهم فيقصدوهم كما كانوا يقصدون أباهم وقت الحصاد، والأول أولى لقوله:(14/266)
أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (24)
(أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ) فإن " أن " هي المفسرة للتخافت المذكور لما فيه من معنى القول، والمعنى يسر بعضهم إلى بعض هذا القول وهو لا يدخل هذه الجنة اليوم عليكم مسكين فيطلب منكم أن تعطوه منها ما كان يعطيه أبوكم، وأوقع النهي على دخول المساكين لأنه أبلغ لأن دخولهم أعم من أن يكون بإدخالهم أو بدونه.(14/266)
وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ (25)
(وغدوا) أي ساروا إليها غدوة (على حرد) الحرد يكون بمعنى المنع والغضب والقصد، قال قتادة ومقاتل والكلبي والحسن ومجاهد: الحرد هنا بمعنى القصد لأن القاصد إلى الشيء حارد، يقال حرد يحرد إذا قصد تقول حردت حردك أي قصدت قصدك وبابه ضرب، وقال أبو نصر صاحب الأصمعي: هو مخفف فعلى هذا بابه فهم، وقال ابن السكيت: وقد يحرك فعلى هذا بابه طرب فهو حارد وحردان انتهى، وقال أبو عبيدة والمبرد(14/266)
والقتيبي: على حرد على منع من قولهم حردت الإبل حرداً إذا قلت ألبانها، والحرود من النوق هي القليلة اللبن، وقال السدي وسفيان والشعبي: على حرد على غضب، وعن قتادة ومجاهد أيضاًً: على حرد على حسد، وقال الحسن أيضاًً: على حاجة وفاقة، وقيل على حرد على انفراد يقال حرد يحرد حرداً وحروداً إذا تنحى عن قومه ونزل منفرداً عنهم ولم يخالطهم. وبه قال الأصمعي وغيره. وقد فسرت الآية الكريمة بجميع ما ذكرت، وقال الأزهري " حرد " اسم قريتهم، وقال السدي اسم جنتهم، قرأ الجمهور حرد بسكون الراء وقرىء بفتحها.
قال الفراء ومعنى (قادرين) قد قدروا أمرهم وبنوا عليه في ظنهم، وأما في الواقع فليس كذلك لهلاك الثمر عليهم وعلى الفقراء، ففي نفس الأمر لم يمنعوهم منه، وقال قتادة قادرين على جنتهم عند أنفسهم، وقال الشعبي يعني قادرين على المساكين. وقال ابن عباس ذوو قدرة أو من التقدير، وهو التضييق أي مضيقين على المساكين.(14/267)
فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (26)
(فلما رأوها) أي جنتهم وشاهدوا ما قد حل بها من الآفة التي أذهبت ما فيها (قالوا إنا لضالون) أي قال بعضهم لبعض بديهة وصولهم قبل التأمل قد ضللنا طريق جنتنا وليست هذه، قال ابن عباس: أي أضللنا مكان جنتنا وقيل معنى قولهم:
(إنا لضالون) أنهم ضلوا عن الصواب بما وقع منهم، ثم لما تأملوا وعلموا أنها جنتهم وأن الله سبحانه قد عاقبهم بإذهاب ما فيها من الثمر والزرع قالوا مضربين إضراباً إبطالياً لكونهم ضالين.(14/267)
بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (27)
(بل نحن محرومون) أي حرمنا جنتنا بسبب ما وقع منا من العزم على منع المساكين من خيرها، فأضربوا عن قولهم الأول إلى هذا القول، قيل إن الحق الذي منعه أصحاب الجنة والمساكين يحتمل أنه كان واجباً عليهم، ويحتمل أنه كان تطوعاً والأول أظهر، والله أعلم.(14/267)
قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ (28)
(قال أوسطهم) أي أمثلهم وأعقلهم وخيرهم رأياً وعقلاً ونفساً، وقال ابن عباس: أعدلهم وقيل أفضلهم فأنكر عليهم بقوله (ألم أقل لكم) إن ما فعلتموه لا ينبغي وإن الله لبالمرصاد لمن حاد وغير ما في نفسه.
(لولا تسبحون) أي هلا تستثنون، وسمى الاستثناء تسبيحاً لأنه تعظيم لله وإقرار به، وهذا يدل على أن أوسطهم كان أمرهم بالاستثناء فلم يطيعوه، وقال مجاهد وأبو صالح وغيرهما: كان استثناؤهم تسبيحاً، قال النحاس: أصل التسبيح التنزيه لله عز وجل فجعل التسبيح في موضع إن شاء الله لأنه ينزه عن أن يجري في ملكه ما لا يريده، وقيل المعنى هلا تستغفرون الله من فعلكم وتتوبون إليه من هذه النية التي عزمتم عليها، وكان أوسطهم قد قال لهم ذلك. وقيل المعنى هلا تتركون شيئاًً للمساكين من ثمر جنتكم والأول أولى.
فلما قال لهم ذلك بعد مشاهدتهم للجنة على تلك الحالة(14/268)
قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (29)
(قالوا سبحان ربنا) أي تنزيهاً له عن أن يكون ظالماً فيما صنع بجنتنا، ثم أكدوا قباحة فعلهم هضماً لأنفسهم وتحقيقاً لتوبتهم بقوله (إنا كنا ظالمين) أي إن ذلك بسبب ذنبنا الذي فعلناه، قيل معنى تسبيحهم الاستغفار أي نستغفر ربنا من ذنبنا إنا كنا ظالمين لأنفسنا في منعنا للمساكين.(14/268)
فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ (30)
(فأقبل بعضهم على بعض يتلاومون) أي يلوم بعضهم بعضاً في منعهم للمساكين وعزمهم على ذلك، يقول هذا لهذا أنت أشرت علينا بهذا الرأي، ويقول ذاك لهذا أنت خوفتنا الفقر، ويقول الثالث لغيره أنت رغبتني في جمع المال، ثم نادوا على أنفسهم بالويل حيث:(14/268)
قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ (31)
(قالوا يا ويلنا) هذا وقت حضورك إلينا ومنادمتك لنا فإنه لا نديم لنا الآن غيرك (إنا كنا طاغين) أي عاصين متجاوزين حدود الله بمنع الفقراء وترك الاستثناء، قال ابن كيسان أي طغينا نعم الله فلم نشكرها كما شكرها أبونا من قبل.(14/268)
عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ (32) كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (33) إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (34) أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36) أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (37)
ثم رجعوا إلى الله وسألوه أن يعوضهم بخير منها فقالوا(14/269)
عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ (32)
(عسى ربنا أن يبدلنا خيراً منها) قيل إنهم تعاقدوا فيما بينهم وقالوا إن أبدلنا الله خيراً منها لنصنعن كما صنع أبونا فدعوا الله وتضرعوا فأبدلهم من ليلتهم ما هو خير منها بأن أمر الله جبريل أن يقتلع تلك الجنة المحترقة فيجعلها بزغر من أرض الشام ويأخذ من الشام جنة فيجعلها بمكانها، قرأ الجمهور يبدلنا بالتخفيف وقرىء بالتشديد وهما لغتان وقراءتان سبعيتان، والتبديل تغيير ذات الشيء أو تغيير صفته، والإبدال رفع الشيء جملة ووضع آخر مكانه كما مضى في سورة سبأ.
(إنا إلى ربنا راغبون) أي طالبون منه الخير راجون لعفوه راجعون إليه وعدّى بإلى وهو إنما يتعدى بعن أو بفي لتضمينه معنى الرجوع.
عن ابن مسعود بلغني أنهم أخلصوا وعرف الله منهم الصدق فأبدلهم بها جنة تسمى الحيوان فيها عنب يحمل البغل منه عنقوداً واحداً، وقال اليماني أبو خالد: دخلت تلك الجنة فرأيت فيها كل عنقود منها كالرجل القائم الأسود، قال الحسن قول أهل الجنة:
(إنا إلى ربنا راغبون) لا أدري أكان إيماناً منهم أو على حد ما يكون من المشركين إذا أصابتهم الشدة، فتوقف في كونهم مؤمنين، وسئل قتادة عن أصحاب الجنة أهم من أهل الجنة أم من أهل النار قال لقد كلفتني تعباً، والمعظم يقولون إنهم تابوا وأخلصوا، حكاه القشيري.(14/269)
كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (33)
(كذلك العذاب) أي مثل ذلك العذاب الذي بلوناهم به وبلونا أهل مكة عذاب الدنيا لمن سلك سبيلهم (ولعذاب الآخرة أكبر) أي أشد(14/269)
وأعظم من عذاب الدنيا (لو كانوا) أي المشركون (يعلمون) أنه كذلك ولكنهم لا يعلمون.
ولما فرغ سبحانه من ذكر حال الكفار وتشبيه ابتلائهم بابتلاء أصحاب الجنة المذكورة ذكر حال المتقين وما أعده لهم من الخير فقال:(14/270)
إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (34)
(إن للمتقين) ما يوجب سخطه من الكفر والمعاصي (عند ربهم) عز وجل في الدار الآخرة (جنات النعيم) الخالص الذي لا يشوبه كدر ولا ينغصه خوف زوال كما يشوب جنات الدنيا.(14/270)
أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35)
(أفنجعل المسلمين كالمجرمين) الاستفهام للتقريع والتوبيخ للكفار على هذا القول الذي قالوه وقد وبخوا وقرعوا باستفهامات سبعة أولها هذا، والسابع (أم لهم شركاء) والفاء للعطف على مقدر يقتضيه المقام أي أنحيف في الحكم فنجعل المسلمين كالكافرين، وكأن العبارة مقلوبة والأصل أفنجعل المجرمين كالمسلمين لأنهم جعلوا أنفسهم كالمسلمين بل أفضل لأنه كان صناديد كفار قريش يرون وفور حظهم في الدنيا وقلة حظوظ المسلمين فيها فلما سمعوا بذكر الآخرة وما يعطي الله المسلمين فيها قالوا إن صح ما يزعمه محمد لم يكن حالنا وحالهم إلا مثل ما هي في الدنيا، فقال الله مكذباً لهم راداً عليهم (أفنجعل) الآية والمعنى أفنجعل المجرمين مساوين للمسلمين في العطاء، لا، كما ذكر في آية أخرى (لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة) قاله علي القاري، وبعد ذلك ليس في الآية إلا نفي المساواة، والكفار ادعوا الأفضلية أو المساواة إلا أن يقال إذا انتفت المساواة انتفت الأفضلية بالأولى.
ثم قال سبحانه على طريقة الالتفات(14/270)
مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36)
(ما لكم كيف تحكمون) هذا الحكم الأعوج كأن أمر الجزاء مفوض إليكم تحكمون فيه بما شئتم(14/270)
أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (37)
(أم لكم كتاب فيه تدرسون) أي تقرأون فيه فتجدون المطيع كالعاصي، ومثل هذا قوله تعالى: (أم لكم سلطان مبين فأتوا بكتابكم) ثم قال سبحانه (إن) قرأ الجمهور بالكسر على أنها معمولة لتدرسون أي تدرسون في الكتاب.(14/270)
إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ (38) أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ (39) سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ (40) أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (41) يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ (42)(14/271)
إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ (38)
(إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ) فلما دخلت اللام كسرت الهمزة أو على الحكاية للمدروس، وقيل قد تم الكلام عند قوله (تدرسون) ثم ابتدأ فقال إن لكم الخ أي ليس لكم ذلك، وقرىء بفتح أن على العامل فيه تدرسون مع زيادة لام التأكيد، ومعنى تخيرون تختارون وتشتهون.
ثم زاد سبحانه في التوبيخ فقال(14/271)
أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ (39)
(أم لكم أيمان علينا بالغة) أي عهود مؤكدة بالأيمان موثقة متناهية إذ العهد كلام مؤكد بالقسم فأطلق الجزء وأريد الكل والمعنى أم لكم أيمان على الله استوثقتم بها في أن يدخلكم الجنة ثابتة لكم (إلى يوم القيامة) لا يخرج عن عهدتها حتى يحكمكم يومئذ، قرأ الجمهور (بالغة) بالرفع على النعت لأيمان وقرىء بنصبها على الحال من أيمان لأنها قد تخصصت بالعمل أو بالوصف أو من الضمير في لكم أو في علينا، وجواب القسم قوله:
(إن لكم لما تحكمون) به لأنفسكم لأن معنى أم لكم أيمان أم أقسمنا لكم، وقيل قد تم الكلام عند قوله (إلى يوم القيامة) ثم ابتدأ فقال إن لكم الخ أي ليس الأمر كذلك.(14/271)
سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ (40)
(سلهم) موبخاً لهم ومقرعاً (أيهم بذلك) الحكم الخارج عن الصواب (زعيم) أي كفيل لهم بأن لهم في الآخرة ما للمسلمين فيها، وقال ابن كيسان الزعيم هنا القائم بالحجة والدعوى، وقال الحسن الزعيم الرسول.(14/271)
أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (41)
(أم لهم شركاء) غيرهم يشاركونهم في هذا القول ويوافقونهم فيه،(14/271)
ويذهبون مذهبهم فيه وقيل معناه شهداء يشهدون بصدق ما ادعوه، وقيل المراد بهم الأصنام والأول أولى وأظهر، وقيل المعنى أم لهم شركاء يجعلونهم مثل المسلمين في الآخرة.
(فليأتوا بشركائهم إن كانوا صادقين) فيما يقولون إذ لا أقل من التقليد وهو أمر تعجيز، وجواب الشرط محذوف، قال القاضي وقد نبه سبحانه في هذه الآيات على نفي جميع ما يمكن أن يتشبثوا به لدعواهم من عقل أو نقل أو وعد أو محض تقليد على الترتيب تنبيهاً على مراتب النظر وتزييفاً لما لا سند له.(14/272)
يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ (42)
(يوم) ظرف لقوله فليأتوا أي فليأتوا بها يوم (يكشف عن ساق) ويجوز أن يكون ظرفاً لفعل مقدر أي اذكر يوم يكشف، قال الواحدي: قال المفسرون: في قوله (عن ساق) عن شدة من الأمر وصعوبة الخطب، قال ابن قتيبة: أصل هذا إن الرجل إذا وقع في أمر عظيم يحتاج إلى الجد فيه شمر عن ساقه فيستعار الكشف عن الساق في موضع الشدة قال:
وتأويل الآية يوم يشتد الأمر كما يشتد ما يحتاج فيه إلى أن يكشف عن ساق، قال أبو عبيدة: إذا اشتد الحرب والأمر قيل كشف الأمر عن ساقه والأصل فيه من وقع في شيء يحتاج فيه إلى الجد شمر عن ساقه فاستعير الساق والكشف عن موضع الشدة وهكذا قال غيره من أهل اللغة، وقد استعملت ذلك العرب في أشعارها وكثر في كلامهم حتى صار كالمثل للأمر العظيم الشديد فهذا التركيب من قبيل الكناية أو الاستعارة التمثيلية.
قال الزمخشري الكشف عن الساق والإبداء عن الحزام مثل في شدة الأمر وصعوبة الخطب، وقيل ساق الشيء أصله وقوامه كساق الشجرة وساق الإنسان أي يوم يكشف عن ساق الأمر فتظهر حقائقه، وقيل يكشف عن ساق جهنم، وقيل عن ساق العرش، وقيل هو عبارة عن القرب، وقيل يكشف عن ساق الرب سبحانه عن نوره.(14/272)
وقال النسفي: لا كشف ثمة ولا ساق ولكن كني به عن الشدة لأنهم إذا ابتلوا بشدة كشفوا عن الساق، وأما من شبه فلضيق عطنه وقلة نظره في علم البيان ولو كان الأمر كما زعم المشبه لكان من حق الساق أن تعرف لأنها ساق معهودة عنده انتهى وسيأتي ما هو الحق، قرأ الجمهور يكشف بالتحتية مبنياً للمفعول، وقرأ ابن مسعود وابن عباس وغيرهما بالفوقية مبنياً للفاعل أي الشدة أو الساعة، وقرىء بالفوقية مبنياً للمفعول وقرىء بالنون وقرىء بالفوقية المضمومة وكسر الشين من أكشف الأمر أي دخل في الكشف.
عن أبي هريرة في الآية قال " يكشف الله عز وجل عن ساقه " (1)، وعن ابن مسعود قال " يكشف عن ساقه تبارك وتعالى "، وعن ابن عباس قال يكشف عن أمر عظيم، وقال: قال ابن مسعود يكشف عن ساقه فيسجد كل مؤمن ويقسو ظهر الكافر فيصير عظماً واحداً.
وعن ابن عباس أنه سئل عن قوله يوم يكشف عن ساق، قال إذا خفي عليكم شيء من القرآن فاتبعوه في الشعر فإنه ديوان العرب أما سمعتم قول الشاعر:
وقامت الحرب بنا على ساق
قال ابن عباس هذا يوم كرب شديد، وروي عنه نحو هذا من طرق أخرى وعنه هو أشد ساعة يوم القيامة وقد أغنانا الله سبحانه في تفسير هذه الآية بما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقد أخرج البخاري وغيره عن أبي سعيد قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " يكشف ربنا عن ساقه فيسجد له كل مؤمن ومؤمنة ويبقى من كان يسجد في الدنيا رياء وسمعة فيذهب ليسجد فيعود ظهره طبقاً
_________
(1) هو جزء من حديث طويل مشهور في البخاري 13/ 359 ومسلم 1/ 168 ورواه البخاري مختصر 8/ 508 ونصه: عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " يكشف ربنا عن ساقه، فيسجد له كل مؤمن ومؤمنة، ويبقى من كان يسجد في الدنيا رياءً وسمعة فيذهب ليسجد فيعود ظهره طبقاً واحداً ".(14/273)
واحداً " وهذا الحديث ثابت من طرق في الصحيحين وغيرهما وله ألفاظ في بعضها طول وهو حديث مشهور معروف.
وعن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم في الآية " قال عن نور عظيم فيخرون له سجداً " أخرجه أبو يعلى وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه والبيهقي في الأسماء والصفات وضعفه، وإذا جاء نهر الله بطل نهر معقل وذلك لا يستلزم تجسيماً ولا تشبيهاً فليس كمثله شيء.
دعوا كل قول عند قول محمد ... فما آمن في دينه كمخاطر
وهكذا تهيب القول فيه شيوخ الإسلام فأجروه على ظاهر لفظه، ولم يكشفوا عن باطن معناه، والتأويل هو مذهب المتكلمين ومنهم النسفي في المدارك والبيضاوى في أنوار التنزيل.
قال الشيخ أحمد ولي الله المحدث في كتابه حجة الله البالغة واستطال هؤلاء الخائضون على معشر أهل الحديث وسموهم مجسمة ومشبهة وقالوا هم المستترون بالبلكفة (1) وقد وضح عليّ وضوحاً بيناً أن استطالتهم هذه ليست بشيء وأنهم مخطئون في مقالتهم رواية ودراية وخاطئون في طعنهم أئمة الهدى.
(ويدعون إلى السجود) قال الواحدي قال المفسرون يسجد الخلق كلهم لله سجدة واحدة ويبقى الكفار والمنافقون يريدون أن يسجدوا (فلا يستطيعون) لأن أصلابهم تيبس فلا تلين للسجود، وقال الربيع ابن أنس: يكشف عن الغطاء فيقع من كان آمن بالله في الدنيا فيسجدون له، ويدعى الآخرون إلى السجود فلا يستطيعون لأنهم لم يكونوا آمنوا بالله في الدنيا، والدعاء إلى السجود يكون امتحاناً لإيمانهم لا تكليفاً بالسجود إذ تلك الدار ليسمت دار تكليف:
_________
(1) أي قولهم " بلا كيف ".(14/274)
خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ (43) فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (44) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (45) أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (46) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (47)(14/275)
خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ (43)
(خاشعة أبصارهم) حال من ضمير يدعون ونسبة الخشوع إلى الأبصار وهو الخضوع والذلة لظهور أثره فيها (ترهقهم) أي تغشاهم (ذلة) شديدة وحسرة وندامة وصغار (وقد كانوا) في الدنيا (يدعون إلى السجود) دعوة تكليف.
(وهم سالمون) أي معافون من العلل متمكنون من الفعل فلا يجيبون، قال إبراهيم التيمي يدعون بالأذان والإقامة فيأبون؛ وقال سعيد ابن جبير: يسمعون حي على الفلاح فلا يجيبون، قال كعب الأحبار: والله ما نزلت هذه الآية إلا في الذين يتخلفون عن الجماعات. وقال ابن عباس: هم الكفار يدعون في الدنيا وهم آمنون فاليوم يدعون وهم خائفون. وعنه قال: الرجل يسمع الأذان فلا يجيب الصلاة. أخرجه البيهقي في الشعب.(14/275)
فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (44)
(فذرني ومن يكذب بهذا الحديث) تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتهديد لهم. أي خل بيني وبينه وكل أمره إلي فأنا أكفيكه. قال الزجاج: معناه لا تشغل به قلبك بل كله إليّ فأنا أكفيك أمره. والفاء لترتيب ما بعدها من الأمر على ما قبلها من أحوالهم المحكية، والمراد بالحديث القرآن قاله السدي. وقيل يوم القيامة.
(سنستدرجهم) مستأنفة لبيان كيفية التعذيب لهم المستفاد من قوله فذرني الخ .. والضمير عائد إلى (من) باعتبار معناها والمعنى سنأخذهم بالعذاب على غفلة ونسوقهم إليه درجة فدرجة حتى نوقعهم فيه (من حيث لا يعلمون) أن ذلك استدراج لأنهم يظنونه إنعاماً ولا يفكرون في عاقبته وما سيلقون في نهايته.(14/275)
قال سفيان الثوري: نسبغ عليهم النعم وننسيهم الشكر، وقال الحسن: من مستدرج بالإحسان إليه، وكم من مفتون بالثناء عليه، وكم من مغرور بالستر عليه، والاستدراج ترك المعاجلة، وأصله النقل من حال إلى حال، ويقال استدرج فلان فلاناً أي استخرج ما عنده قليلاً قليلاً، ويقال درجه إلى كذا واستدرجه يعني أدناه إلى التدريج فتدرج هو، ومعنى الكيد والمكر والاستدراج هو الأخذ من جهة الأمن، ولا يجوز أن يسمى الله سبحانه كائداً وماكراً ومستدرجاً.
ثم ذكر سبحانه أنه يمهل الظالمين فقال:(14/276)
وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (45)
(وأملي لهم) أي أمهلهم ليزدادوا إثماً، وقد مضى تفسير هذا في سورة الأعراف والطور، وأصل الملاوة المدة من الدهر، يقال أملى الله له أي أطال له المدة والملا مقصوراً الأرض الواسعة سميت به لامتدادها (إن كيدي متين) أي قوي شديد فلا يفوتني شيء، وسمى سبحانه إحسانه كيداً كما سماه استدراجاً لكونه في صورة الكيد باعتبار عاقبته، ووصفه بالمتانة لقوة أثره في التسبب للهلاك.(14/276)
أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (46)
(أم تسألهم أجراً) أعاد سبحانه الكلام إلى ما تقدم من قوله أم لهم شركاء أي أم تلتمس منهم ثواباً على ما تدعوهم إليه من الإيمان بالله (فهم من مغرم) المغرم الغرامة أي فهم من غرامة ذلك الأجر (مثقلون) أي يثقل عليهم حمله لشحهم ببذل المال فأعرضوا عن إجابتك لهذا السبب، والاستفهام للتقريع والتوبيخ لهم، والمعنى أنك لم تسألهم ذلك ولم تطلبه منهم.(14/276)
أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (47)
(أم عندهم الغيب) أي اللوح المحفوظ عند الجمهور أو كل ما غاب عنهم (فهم) من ذلك الغيب (يكتبون) ما يريدون من الحجج التي يزعمون أنها تدل على قولهم ويخاصمونك بما يكتبونه من ذلك، ويحكمون لأنفسهم بما يريدون ويستغنون بذلك عن الإجابة لك والامتثال لما تقوله.(14/276)
فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ (48) لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (49) فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (50) وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (51) وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (52)(14/277)
فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ (48)
(فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ) أي لقضائه الذي قد قضاه في سابق علمه، وقيل الحكم هنا هو إمهالهم وتأخير نصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم. لأنهم إن أمهلوا لم يهملوا، وقيل هو ما حكم به عليه من تبليغ الرسالة قيل وهذا منسوخ بآية السيف.
(ولا تكن كصاحب الحوت) يعني يونس عليه السلام أي لا تكن مثله في الغضب والضجر والعجلة حتى لا تبتلي ببلائه (إذ نادى) أي لا يكن حالك كحاله أو قصتك كقصته في وقت ندائه، ويدل على المحذوف أن الذوات لا ينصب عليها النهي، وإنما ينصب على أحوالها وصفاتها (وهو مكظوم) مملوء غيظاً وكرباً، وقيل غماً، قال الماوردي والفرق بينهما أن الغم في القلب والكرب في الأنفاس.
قال قتادة: إن الله يعزي نبيه صلى الله عليه وسلم ويأمره بالصبر وأن لا يعجل كما عجل صاحب الحوت، وقد تقدم بيان قصته في سورة الأنبياء ويونس والصافات، وكان النداء منه بقوله: (لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين) وقيل إن المكظوم المأخوذ بكظمه وهو مجرى النفس، قاله المبرد، وقيل هو المحبوس، والكظم الحبس، ومنه قولهم فلان يكظم غيظه أي يحبس غضبه، قاله ابن بحر. والأول أولى، والجملة حال من ضمير نادى وعليها يدور النهي لا على النداء لأنه أمر مستحسن.(14/277)
لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (49)
(لولا أن تداركه) أي صاحب الحوت (نعمة من ربه) وهي توفيقه للتوبة فتاب الله عليه قال الضحاك: إن النعمة هنا النبوة، وقال سعيد بن(14/277)
جبير: عبادته التي سلفت، وقال ابن زيد: هي نداؤه بقوله لا إله إلا أنت، وقيل إخراجه من بطن الحوت، قاله ابن بحر. وقيل الرحمة.
قرأ الجمهور تداركه على صيغة الماضي، وقرىء بتشديد الدال وهو مضارع أدغمت التاء في الدالى، والأصل تتداركه بتاءين، وهذه على حكاية الحال الماضية، وقرىء تداركته بتاء التأنيث وهو خلاف المرسوم، وتداركه فعل ماضٍ مذكر حمل على معنى النعمة لأن تأنيث النعمة غير حقيقي، وتداركته على لفظها.
(لنبذ بالعراء) أي لألقي من بطن الحوت على وجه الأرض الخالية من النبات والأشجار والجبال (وهو مذموم) أي يذم ويلام بالذنب الذي أذنبه ويطرد من الرحمة، وقيل مذموم مبعد من كل خير، وقيل مذنب وقيل معاتب، قال الرازي: مذموم على كونه فاعلاً للذنب، قال: والجواب أن كلمة لولا دالة على أن هذه المذمومية لم تحصل أو المراد منه ترك الأفضل، فإن حسنات الأبرار سيئات المقربين، أو هذه الواقعة كانت قبل النبوة لقوله تعالى:(14/278)
فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (50)
(فاجتباه ربه) أي استخلصه واصطفاه لدعائه وعذره واختاره لنبوته، وهذا مبني على أنه وقت هذه الواقعة لم يكن نبياً، وإنما نبىء بعدها وهو أحد قولين للمفسرين، والثاني أنه كان نبياً ومعنى اجتباه أنه رد عليه الوحي بعد أن كان قد انقطع عنه (فجعله من الصالحين) أي من الكاملين في الصلاح وعصمه من الذنب، وقيل رد إليه النبوة وشفعه في نفسه وفي قومه وقبل توبته وأرسله إلى مائة ألف أو يزيدون بسبب صبره كما تقدم.(14/278)
وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (51)
(وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك) أي ينفذونك قاله ابن عباس، وإن هي المخففة من الثقيلة، قرأ الجمهور بضم الياء من أزلقه أي أزل رجله، يقال أزلقه عن موضعه إذا نحاه، وقرأ نافع وأهل المدينة بفتحها من زلق عن موضعه إذا تنحى وهما سبعيتان، قال الهروي أي يغتالونك بعيونهم فيزلقونك عن مكانك الذي أقامك الله فيه عداوة لك، وقرأ ابن عباس(14/278)
وابن مسعود وغيرهما ليرهقونك أي يهلكونك، وقال الكلبي: يزلقونك أي يصرفونك عما أنت عليه من تبليغ الرسالة وكذا قال السدي وسعيد بن جبير: وقال النضر بن شميل والأخفش: يفتنونك، وقال الحسن وابن كيسان: ليقتلونك.
(بأبصارهم) أي ينظرون إليك نظراً شديداً يكاد أن يصرعك ويسقطك عن مكانك والباء إما للتعدية كالداخلة على الآلة أي جعلوا أبصارهم كالآلة المزلقة لك كما تقول عملت بالقدوم، وإما للسببية أي بسبب عيونهم، قال الزجاج: في الآية مذهب أهل اللغة والتأويل أنهم من شدة إبغاضهم وعداوتهم يكادون بنظرهم نظر البغضاء أن يصرعوك. وهذا مستعمل في الكلام يقول القائل نظر إلي نظراً يكاد يصرعني ونظراً يكاد يأكلني، قال ابن قتيبة: ليس يريد الله أنهم يصيبونك بأعينهم كما يصيب العائن بعينه ما يعجبه. وإنما أراد أنهم ينظرون إليك إذا قرأت القرآن نظراً شديداً بالعداوة والبغضاء يكاد يسقطك كما قال الشاعر:
يتقارضون إذا التقوا في مجلس ... نظراً يزيل مواطىء الأقدام
وقيل: " أرادوا أن يصيبوه بالعين فنظر إليه قوم من قريش المجربة إصابتهم فعصمه الله وحماه من أعينهم فلم تؤثر فيه فنزلت هذه الآية "؛ وذكر الماوردي أن العين كانت في بني أسد من العرب؛ وفيه دليل على أن العين حق، وقد رواه أبو هريرة عنه صلى الله عليه وسلم بهذا اللفظ والحديث متفق عليه (1).
_________
(1) قال ابن كثير: وفي هذه الآية دليل على أن العين إصابتها وتأثيرها حق بأمر الله عز وجل، كما وردت بذلك الأحاديث المروية من طرق متعددة كثيرة. وقد روى مسلم في " صحيحه " 4/ 1719 عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " العين حق، ولو كان شيء سابق القدر سبقته العين، وإذا استغسلتم فاغسلوا ".
وروى البخاري وأصحاب " السنن " عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعوِّذ الحسن والحسين يقول: أعيذكما بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة ومن كل عين لامَّة ".(14/279)
وأخذ بظاهر الحديث جماهير العلماء وقالوا إنه حق وإنه ليدخل الرجل القبر والجمل القدر؛ وأنكره طوائف من المبتدعة ولا اعتداد بهم بعد ما ورد في كلام النبوة وصح. قال الحسن: رقية العين هذه الآية (1).
(لما سمعوا الذكر) أي وقت سماعهم القرآن لكراهتهم لذلك أشد كراهة، ولما ظرفية منصوبة بيزلقونك. وقيل هي حرف وجوابها محذوف لدلالة ما قبلها عليه أي لما سمعوا الذكر كادوا يزلقونك (ويقولون) حسداً وتنفيراً عنه (إنه لمجنون) أي ينسبونه إلى الجنون إذا سمعوه يقرأ القرآن. فرد الله عليهم بقوله:
_________
(1) زاد المسير 8/ 344.(14/280)
وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (52)
(وما هو إلا ذكر للعالمين) لا يدركه ولا يتعاطاه إلا من كان أكمل الناس عقلاً وأمتنهم رأياً، والجملة مستأنفة أو في محل نصب على الحال من فاعل يقولون أي والحال أنه تذكير وبيان لجميع ما يحتاجون إليه أو شرف لهم كما قال سبحانه (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ) وقيل الضمير لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه مذكر للعالمين أو شرف لهم.(14/280)
سورة الحاقة
(هي إحدى أو اثنتان وخمسون آية وهي مكية)
قال القرطبي في قول الجميع قال ابن عباس نزلت بمكة، وعن ابن الزبير مثله وعن أبي هريرة " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ في الفجر بالحاقة ونحوها " أخرجه الطبراني.(14/281)
بسم الله الرحمن الرحيم
الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ (3) كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ (4)(14/283)
الْحَاقَّةُ (1)
(الْحَاقَّةُ) هي القيامة لأن الأمر يحق فيها وهي تحق في نفسها من غير شك، قاله الطبري كأنه جعلها من باب ليله قائم ونهاره صائم فالإسناد مجازي، قال الأزهري يقال حاققته فحققته أحقه غالبته فغلبته أغلبه، فالقيامة حاقة لأنها تحاق كل محاق في دين الله بالباطل وتخصم كل مخاصم.
وقال في الصحاح: حاقه أي خاصمه في صغار الأشياء ويقال ما له فيها حق ولا حقاق ولا خصومة والتحاق التخاصم، والحاقة والحقة والحق ثلاث لغات بمعنى، قال الواحدي: هي القيامة في قول كل المفسرين، وسميت بذلك لأنها ذات الحواق من الأمور وهي الصادقة الواجبة الصدق، وجميع أحكام القيامة صادقة واجبة الوقوع والوجود.
قال الكسائي والمؤرج: الحاقة يوم الحق، وقيل سميت بذلك لأن كل إنسان فيها حقيق بأن يجزى بعمله، وقيل سميت بذلك لأنها أحقت لقوم النار، وأحقت لقوم الجنة، وقال ابن عباس: الحاقة من أسماء يوم القيامة وهي مبتدأ وخبرها قوله:(14/283)
مَا الْحَاقَّةُ (2)
(ما الحاقة) على أن ما الاستفهامية مبتدأ ثان وخبره الحاقة، والجملة خبر للمبتدأ الأول والمعنى أي شيء هي في حالها أو صفاتها لا تحيط بها العبارة " وما " يسأل بها عن الصفة والحال والمقام للضمير أي ما هي؟ فوضع الظاهر موضعه لتأكيد هولها وزيادة تفظيعه، وقيل هذه الجملة وإن كان لفظها لفظ الاستفهام فمعناها التعظيم والتفخيم لشأنها كما تقول زيد ما زيد، وقد قدمنا تحقيق هذا المعنى في سورة الواقعة.(14/283)
ثم زاد سبحانه في تفظيع شأنها وتفخيم أمرها وتهويل حالها فقال:(14/284)
وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ (3)
(وما أدراك ما الحاقة) أي أيّ شيء أعلمك ما هي؟ أي كأنك لست تعلمها إذ لم تعاينها وتشاهد ما فيها من الأهوال فكأنها خارجة عن دائرة علم المخلوقين، لا تبلغها دراية أحد منهم ولا وهمه.
والنبي صلى الله عليه وسلم كان عالماً بالقيامة ولكن لا علم له بكنهها وصفتها فقيل له ذلك كأنه ليس عالماً بها رأساً، قال يحيى بن سلام: بلغني أن كل شيء في القرآن (وما أدراك) فقد أدراه إياه وعلمه صلى الله عليه وسلم وكل شيء قال فيه (وما يدريك) فإنه ما أخبره به.
وقال سفيان بن عيينة: كل ما في القرآن قال فيه: (وما أدراك) فإنه صلى الله عليه وسلم أخبر به وكل شيء قال فيه (وما يدريك) فإنه لم يخبر به ذكره الخطيب، وما مبتدأ وخبره أدراك و (ما الحاقة) جملة من مبتدأ وخبر محلها النصب بإسقاط الخافض أدرى يتعدى إلى المفعول الثاني بالباء كما في قوله:
(ولا أدراكم به) فلما وقعت جملة الاستفهام معلقة له كانت في موضع المفعول الثاني وبدون الهمزة يتعدى إلى مفعول واحد بالباء نحو دريت بكذا وإن كان بمعنى العلم تعدى إلى مفعولين والجملة معطوفة على جملة ما الحاقة.(14/284)
كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ (4)
(كذبت ثمود وعاد بالقارعة) أي بالقيامة وسميت بذلك لأنها تقرع قلوب الناس بشدة أهوالها وتؤثر فيها خوفاً وفزعاً كتأثير القرع المحسوس، فإن القرع في اللغة نوع من الضرب وهو إمساس جسم لجسم بعنف، وفي المصباح وقرعت الباب من باب نفع طرقته ونقرت عليه وقال المبرد: عنى بالقارعة القرآن الذي نزل في الدنيا على أنبيائهم، وكانوا يخوفونهم بذلك فيكذبونهم، وقيل القارعة مأخوذة من القرعة لأنها ترفع أقواماً وتحط آخرين والأول أولى، ويكون وضع ضمير الحاقة للدلالة على عظيم هولها وفظاعة حالها، والجملة مستأنفة لبيان بعض أحوال الحاقة.(14/284)
فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (5) وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ (6) سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ (7) فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ (8) وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ (9)(14/285)
فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (5)
(فأما ثمود) هم قوم صالح وكانت منازلهم بالحجر، بين الشام والحجاز، وقال ابن إسحاق هو وادي القرى والمقصود من ذكر هذه القصص زجر هذه الأمة عن الاقتداء بهؤلاء الأمم في المعاصي لئلا يحل بها ما حل بهم.
(فأهلكوا بالطاغية) هي الصيحة التي تجاوزت الحد وهي صيحة جبريل، وقيل الرجفة أي الزلزلة، وقيل هي الفرقة التي عقرت الناقة فأهلك قوم ثمود بسببهم وقال ابن زيد: الطاغية عاقر الناقة أن أهلكوا بما أقدم عليه طاغيتهم من عقر الناقة وكان واحداً وإنما أهلكوا جميعاً لأنهم علموا بفعله ورضوا به، وقيل له طاغيه كما يقال فلان راوية الشعر، وداهية وعلامة ونسابة، وقيل الطاغية مصدر كالعافية أي بطغيانهم وكفرهم، ولكن هذا لا يطابق قوله:(14/285)
وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ (6)
(وأما عاد) هم قوم هود، وقد تقدم بيان هذا وذكر منازلهم وأين كانت في غير موضع وهي الأحقاف وهو رمل بين عمان وحضرموت باليمن، وقدم ذكر ثمود لأن بلادهم أقرب إلى قريش، وواعظ القريب أكبر، ولأن إهلاكهم بالصيحة وهي أشبه النفخ في الصور.
(فأهلكوا بريح) أي بالدبور (صرصر) هي الشديدة البرد مأخوذ من الصر وهو البرد، وقيل الشديدة الصوت وقال مجاهد الشديدة السموم (عاتية) عن الطاعة فكأنها عتت على خزانها فلم تطعهم ولم يقدروا على ردها لشدة هبوبها أو عتت على عاد فلم يقدروا على ردها بل أهلكتهم.
قال ابن عباس ما أرسل الله شيئاًً من ريح إلا بمكيال ولا قطرة من ماء(14/285)
إلا بمكيال إلا يوم عاد ويوم قوم نوح، فأما يوم نوح فإن الماء طغى على خزانه فلم يكن لهم عليه سبيل، ثم قرأ (إنا لما طغى الماء) وأما يوم عاد فإن الريح عتت على خزانها فلم يكن لهم عليها سبيل ثم قرأ (بريح صرصر عاتية) وعنه قال عاتية غالبة، وعن علي بن أبي طالب نحوه.
وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن عباس. عن النبي صلى الله عليه وسلم " قال نصرت بالصبا وأهلكت عاد الدبور "، وعن ابن عمر مرفوعاً " قال ما أمر الخزان على عاد إلا مثْل موضع الخاتم من الريح فعتت على الخزان فخرجت من نواحي الأبواب فذلك قوله (بريح صرصر عاتية) قال عتوها عتت على الخزان " أخرجه ابن أبي حاتم.(14/286)
سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ (7)
(سخرها عليهم سبع ليال) أي سلطها كذا قال مقاتل، وقيل أرسلها وقال الزجاج أقامها عليهم كما شاء، والتسخير استعمال الشيء بالاقتدار، وفيه رد على من قال إن سبب ذلك كان باتصال الكواكب، فنفى هذا المذهب بقوله (سخرها عليهم) وبين الله تعالى أن ذلك بقضائه وقدره وبمشيئته لا باتصال الكواكب، ذكره الخازن، والجملة مستأنفة لبيان كيفية إهلاكهم، ويجوز أن تكون صفة لريح أو تكون حالاً منها لتخصيصها بالصفة أو من الضمير في عاتية.
(وثمانية أيام حسوماً) معطوف على سبع ليال وانتصاب حسوماً على الحال أي ذات حسوم أو على المصدر لفعل مقدر أي تحسمهم حسوماً أو على أنه مفعول له أو على أنه نعت لسبع ليال إلخ ويتضح ذلك بقول الزمخشري الحسوم لا يخلو من أن يكون جمع حاسم كشاهد وشهود أو مصدراً كالشكور والكفور، فإن كان جمعاً فمعنى قوله حسوماً: نحسات حسمت كل خير، واستأصلت كل بركة أو متتابعة هبوب الريح ما خفت ساعة تمثيلاً لتتابعها بتتابع فعل الحاسم في إعادة الكي على الداء كرة بعد أخرى حتى ينحسم، وإن كان مصدراً فإما أن ينتصب بقول مضمر أي تحسمهم حسوماً أي(14/286)
تستأصلهم استئصالاً أو يكون مفعولاً له أي سخرها عليهم للاستئصال.
قال الشهاب: حسوماً أي متتابعات فهو مجاز مرسل من استعمال المقيد وهو الحسم الذي هو تتابع الكي المطلق التتابع، أو استعارة بتشبيه تتابع الريح المستأصلة بتتابع الكي القاطع للداء انتهى، والحسوم التتابع فإذا تتابع الشيء لم ينقطع أوله عن آخره قيل له الحسوم.
قال الزجاج: الذي توجبه اللغة في معنى قوله حسوماً أي تحسمهم حسوماً تفنيهم وتذهبهم، قال النضر بن شميل: حسمتهم قطعتهم وأهلكتهم، وقال الفراء: الحسوم الإتباع من حسم الداء وهو الكي لأن صاحبه يكوى بالمكواة ثم يتابع ذلك عليه.
وقال المبرد: هو من قولك حسمت الشيء إذا قطعته وفصلته عن غيره وبه قال عبد العزيز بن زرارة الكلابي وقيل الحسم الاستئصال ويقال للسيف حسام لأنه يحسم العدو عما يريده من بلوغ عداوته، وقال ابن زيد: حسمتهم فلم يبق منهم أحد، وروي عنه أنه قال حسمت الأيام والليالي.
حتى استوفتها لأنها بدأت بطلوع الشمس من أول يوم وانقطعت بغروب الشمس من آخر يوم، وقال الليث: الحسوم هي الشؤم أي تحسم الخير عن أهلها كقوله: (في أيام نحسات) وقال ابن مسعود: حسوماً متتابعات.
وقال ابن عباس تباعاً وفي لفظ متتابعات، واختلف في أولها فقيل غداة الأحد وقيل غداة الجمعة وقيل غداة الأربعاء قال وهب: وهذه الأيام هي التي تسميها العرب أيام العجوز كان فيها بردٌ شديد وريح شديدة، وكان أولها يوم الأربعاء وآخرها يوم الأربعاء وكان الشهر كاملاً فكان آخرها هو اليوم الأخير منه.
(فترى) الخطاب لكل من يصلح له أو لرسول الله صلى الله عليه وسلم فالكلام على سبيل الفرض والتقدير أي أنه لو كان حاضراً حينئذ لرأى (القوم) والضمير في (فيها) يعود إلى الليالي والأيام وقيل إلى مهاب الريح(14/287)
أو إلى البيوت والأول أولى وأظهر، (صرعى) جمع صريع يعني موتى وهو حال، وقوله:
(كأنهم أعجاز نخل خاوية) حال من القوم أو مستأنف أي أصول نخل بلا رؤوس ساقطة أو بالية وقيل خالية لا جوف فيها، وقال ابن عباس أعجاز نخل هي أصولها والنخل يذكر ويؤنث ومثله (كأنهم أعجاز نخل منقعر) وقد تقدم تفسيره وهو إخبار عن عظم أجسامهم، قال يحيى بن سلام إنما قال خاوية لأن أبدانهم خلت من أرواحهم مثل النخل الخاوية أو أن الريح كانت تدخل من أفواههم فتخرج ما في أجوافهم من الحشو من أدبارهم.(14/288)
فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ (8)
(فهل ترى لهم من باقية) أي من فرقة باقية أو نفس باقية أو من بقية على أن باقية مصدر كالعاقبة والعافية و " من " زائدة في المفعول، قال ابن جرير أقاموا سبع ليال وثمانية أيام أحياء في عذاب الريح فلما أمسوا في اليوم الثامن ماتوا فاحتملتهم الريح فألقتهم في البحر.(14/288)
وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ (9)
(وجاء فرعون ومن قبله) قرأ الجمهور بفتح القاف وسكون الباء أي ومن تقدمه من القرون الماضية والأمم الخالية، وقرىء بكسر القاف وفتح الباء أي ومن هو في جهته من أتباعه، واختار أبو حاتم وأبو عبيد الثانية لقراءة ابن مسعود وأبيّ ومن معه ولقراءة أبي موسى ومن تلقاه.
(والمؤتفكات) قرأ الجمهور بالجمع وقرىء بالأفراد، واللام للجنس فهي في معنى الجمع هي قرى قوم لوط وكانت خمساً صنعة وصعرة وعمرة ودوما وسروم، وهي القرية العظمى قاله القرطبي، وقيل يريد الأمم الذين ائتفكوا، والمعنى وجاءت المؤتفكات أي المنقلبات من ائتفك أي انقلب أي التي اقتلعها جبريل على جناحه ورفعها إلى أقرب السماء ثم قلبها أي أهلها.
(بالخاطئة) أي بالفعلة الخاطئة أو الخطأ على أنها مصدر أو ذات الخطأ والمراد أنها جاءت بالشرك والمعاصي، قال مجاهد بالخطايا وقال الجرجاني بالخطأ العظيم.(14/288)
فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً (10) إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ (11) لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ (12) فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ (13) وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً (14) فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (15) وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ (16)(14/289)
فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً (10)
(فعصوا رسول ربهم) أي فعصت كل أمة رسولها المرسل إليها، قال الكلبي هو موسى وقيل لوط لأنه أقرب قيل ورسول هنا بمعنى رسالة (فأخذهم) الله سبحانه (أخذة رابية) أي نامية زائدة على أخذات الأمم كما قاله الزجاج، وقال مجاهد: شديدة، والمعنى أنها بالغة في الشدة إلى الغاية يقال ربا الشيء يربو إذا زاد وتضاعف، ومنه الربا إذا أخذ وزاد في الذهب أو الفضة أكثر مما أعطى.(14/289)
إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ (11)
(إنا لما طغى الماء) أي تجاوز حده في الارتفاع والعلو وزاد على أعلى جبل في الدنيا خمسة عشر ذراعاً وذلك في زمن نوح لما أصر قومه على الكفر وكذبوه، وقيل طغى على خزانه من الملائكة غضباً لربه فلم يقدروا على حبسه، قاله علي، قال قتادة زاد على كل شيء خمسة عشر ذراعاً قال ابن عباس طغى على خزانه فنزل ولم ينزل من السماء ماء إلا بمكيال أو ميزان إلا زمن نوح فإنه طغى فنزل بغير كيل ولا وزن.
(حملناكم في الجارية) أي في أصلاب آبائكم أو حملناهم وحملناكم في أصلابهم تغليباً للمخاطبين على الغائبين، والجارية سفينة نوح وسميت جارية لأنها تجري في الماء وهو أول من صنع السفن وكان يعلمه جبريل صنعتها فاتخذها على هيئة صدر الطائر ليكون ما يجري في الماء مقارباً لما يجري في الهواء، ومحل في الجارية النصب على الحال أي رفعناكم فوق الماء حال كونكم في السفينة.
ولما كان المقصود من ذكر قصص هذه الأمم وذكر ما حل بهم من العذاب زجر هذه الأمة عن الاقتداء بهم في معصية الرسول قال(14/289)
لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ (12)
(لنجعلها)(14/289)
أي هذه الأمور المذكورة (لكم) يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم (تذكرة) أي عبرة وموعظة تستدلون بها على عظيم قدرة الله سبحانه وبديع صنعه أو لنجعل هذه الفعلة التي هي عبارة عن إنجاء المؤمنين وإغراق الكافرين لكم تذكرة أو هذه السفينة حتى أدركها أوائل هذه الأمة، قال ابن جريج كانت ألواحها على الجودي، والمعنى أبقيت لكم تلك الخشبات حتى تذكر.
(وتعيها أذن واعية) أي تحفظها بعد سماعها أذن حافظة لما سمعت، قال الزجاج يقال أوعيت كذا أي حفظته في نفسي أعيه وعياً ووعيت العلم ووعيت ما قلته كله بمعنى وأوعيت المتاع في الوعاء، ويقال لكل ما وعيته في غير نفسك أوعيته بالألف ولما حفظته في نفسك وعيته بغير ألف.
قال قتادة: في تفسير هذه الآية أذن سمعت وعقلت ما سمعت، قال الفراء: المعنى لتحفظها كل أذن عظة لمن يأتي بعد، وتعيها بكسر العين باتفاق القراء السبعة، وقريء بإسكانها تشبيهاً لهذه الكلمة برحم وشهد وإن لم تكن من ذلك وجعل الأذن حافظة ومستمعة ومتذكرة ومتفكرة وعاملة تجوز لأن الفاعل لذلك صاحبها ولا ينسب إليها غير السمع، وإنما أتى به مشاكلة لقوله واعية.
عن علي في الآية قال: " قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم سألت الله أن يجعلها أذنك يا علي فقال علي ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاًً فنسيته " أخرجه سعيد بن منصور وأبو نعيم وغيرهما. قال ابن كثير وهو حديث مرسل.
وعن بريدة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي " إن الله أمرني أن أدنيك ولا أقصيك وأن أعلمك وأن تعي، وحق لك أن تعي، فنزلت هذه الآية (وتعيها أذن واعية) فأتت أُذنٌ واعيةٌ لعلي " أخرجه ابن جرير وغيره، قال ابن كثير ولا يصح وعن ابن عمر قال أذن عقلت عن الله.
ولما ذكر الله سبحانه القيامة وهول أمرها بالتعبير بالحاقة وغيرها شرع في(14/290)
تفاصيل أحوالها وبدأ لذكر مقدماتها فقال(14/291)
فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ (13)
(فإذا نفخ في الصور نفخة واحدة) قال عطاء يريد النفخة الأولى وبه قال القاضي كالكشاف: أي التي عندها خراب العالم، وقال الكلبي ومقاتل: يريد النفخة الأخيرة ولم يؤنث الفعل وهو نفخ لأن التأنيث مجازي وحسنه الفضل، قرأ الجمهور بالرفع فيهما على أن نفخة مرتفعة على النيابة وواحدة تأكيد لها وقريء بنصبهما على أن النائب هو الجار والمجرور، وقال الزجاج: قوله في الصور يقوم مقام ما لم يسم فاعله.(14/291)
وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً (14)
(وحملت الأرض والجبال) أي رفعت من أماكنها وقلعت عن مقرها بمجرد القدرة الإلهية أو بتوسط الزلزلة أو الريح العاصفة أو الملائكة، وهذا الرفع بعد خروج الناس من قبورهم، قرأ الجمهور بالتخفيف وقريء بتشديد الميم للتكثير أو للتعدية.
(فدكتا دكة واحدة) أو فكسرتا كسرة واحدة لا زيادة عليها أو ضربتا ضربة واحدة بعضهما ببعض حتى صارتا (كثيباً مهيلاً) و (هباء منبثاً) فلم يتميز شيء من أجزائهما عن الآخر، وقيل بسطتا بسطة واحدة فصارتا (قاعاً صفصفاً لا ترى فيها عوجاً ولا أمتاً) من قولهم اندك سنام البعير إذ تفرش على ظهره، وبعير أدك وناقة دكاء ومنه الدكان وهذه الدكة كالزلزلة.
قال أبيّ بن كعب في الآية تصيران غبرة على وجوه الكفار لا على وجوه المؤمنين وذلك قوله (وجوه يومئذ عليها غبرة ترهقها قترة) قال الفراء ولم يقل فدككن لأنه جعل الجبال كلها كالجملة الواحدة ومثله قوله تعالى (إن السموات والأرض كانتا رتقاً ففتقناهما).(14/291)
فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (15)
(فيومئذ وقعت الواقعة) أي قامت القيامة(14/291)
وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ (16)
(وانشقت السماء فهي يومئذ واهية) أي انشقت جنبها وانصدعت وتفطرت بنزول ما فيها من الملائكة فهي في ذلك اليوم ضعيفة مسترخية ساقطة القوة من هول ذلك اليوم بعد ما كانت محكمة، قال الزجاج يقال لكل ما ضعف جداً قد وهى فهو واهٍ وقال الفراء وَهْيُها تَشَقُّقُها، وقال ابن عباس واهية متخرقة أي متساقطة خفيفة لا تتماسك كالعهن المنفوش.(14/291)
وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ (17) يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ (18) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ (20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (21)(14/292)
وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ (17)
(وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا) أي جنس الملك واقفون على أطرافها وجوانبها التي لم تسقط وهؤلاء من جملة المستثنى بقوله (إلا من شاء الله) وقال القاضي لعل هلاك الملائكة أثر ذلك وقيل يحيون بالنفخة الثانية ويقفون على أرجائها الباقية وهي جمع رجى مقصور وتثنيته رجوان مثل قفى وقفوان.
والمعنى أنها لما تشققت السماء وهي مساكنهم لجؤوا إلى أطرافها قال الضحاك إذا كان يوم القيامة أمر الله السماء الدنيا فتشققت وتكون الملائكة على حافاتها حتى يأمرهم الرب فينزلون إلى الأرض ويحيطون بها ومن عليها، وقال سعيد بن جبير: المعنى والملك على حافات الدنيا أي ينزلون إلى الأرض وقيل إذا صارت السماء قطعاً يقف الملائكة على تلك القطع التي ليست متشققة في أنفسها، وقال ابن عباس: على حافاتها على ما لم يهي منها.
(ويحمل عرش ربك فوقهم) أي فوق رؤوسهم(14/292)
يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ (18)
(يومئذ) أي يوم القيامة (ثمانية) أي ثمانية أملاك وقيل ثمانية صفوف من الملائكة لا يعلم عددهم إلا الله عز وجل، قاله ابن عباس، وقيل ثمانية أجزاء من تسعة أجزاء من الملائكة قاله الكلبي وغيره.
وقال ابن عباس: أيضاًً ثمانية أملاك صورة الأوعال رؤوسهم عند العرش في السماء السابعة وأقدامهم في الأرض السفلى ولهم قرون كقرون الوعلة ما بين أصل قرن أحدهم إلى منتهاه خمسمائة عام (1)، واليوم تحمله
_________
(1) زاد السير 8/ 350.(14/292)
أربعة.
وعن ابن مسعود قال ما بين السماء والأرض مسيرة خمسمائة عام وما بين كل سماء وأرض خمسمائة عام، وفضاء كل سماء وأرض خمسمائة عام، وما بين السماء السابعة والكرسي خمسمائة عام، وما بين الكرسي والماء خمسمائة عام، والعرش على الماء، والله على العرش لا يخفى عليه شيء من أعمالكم، أخرجه أبو سعيد الدارمي وابن خزيمة وغيرهما موقوفاً على ابن مسعود وفي الباب أحاديث كثيرة وصحيحة (1).
(يومئذ تعرضون) أي تعرض العباد على الله لحسابهم ومثله (وعرضوا على ربك صفاً) وليس ذلك العرض عليه سبحانه ليعلم به ما لم يكن عالماً به، وإنما هو عرض الاختبار والتوبيخ بالأعمال.
عن أبي موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " يعرض الناس يوم القيامة ثلاث عرضات، فأما عرضتان فجدال، معاذير، وأما الثالثة فعند ذلك تطاير الصحف في الأيدي فآخذ بيمينه وآخذ بشماله (2) " أخرجه أحمد والترمذي، وابن ماجة وغيرهم، وأخرج ابن جرير والبيهقي في البعث عن ابن مسعود نحوه (3).
وجملة (لا تخفى منكم خافية) في محل نصب على الحال من ضمير
_________
(1) رواه الطبري من رواية عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو خبر مقطوع. ورواه الطبري أيضاًً من طريق ابن إسحاق قال: بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " هم اليوم أربعة " يعني حملة العرش " فإذا كانوا يوم القيامة أمدَّهم الله بأربعة آخرين فكانوا ثمانية " وقد قال الله: (ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية) وهذا خبر مقطوع أيضاًً.
قال ابن كثير: وقوله تعالى: (ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية) أي: يوم القيامة يحمل العرش ثمانية من الملائكة، قال: ويحتمل أن يكون المراد بهذا العرش، العرش العظيم، أو العرش الذي يوضع في الأرض يوم القيامة لفصل القضاء، والله أعلم بالصواب أهـ.
(2) زاد المسير 8/ 351.
(3) زاد المسير 8/ 351.(14/293)
تعرضون أي تعرضون حال كونكم لا يخفى على الله سبحانه من ذواتكم أو أقوالكم وأفعالكم وسرائركم التي كنتم تخفونها في الدنيا خافية كائنة ما كانت، والتقدير أي نفس خافية أو فعلة خافية، قريء بالتاء والياء وهما سبعيتان (1).
ولما ذكر سبحانه العرض ذكر تفصيل ما يكون فيه فقال
_________
(1) رواه أبو داود في " سننه " رقم (4727) وسنده جيد، وذكره ابن كثير في " تفسيره " من رواية ابن أبي حاتم وقال: وهذا إسناد جيد رجاله كلهم ثقات.(14/294)
فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ (19)
(فأما من أوتي كتابه بيمينه) أي أعطي كتابه الذي كتبه الحفظة عليه من أعماله (فيقول) خطاباً لجماعته لما سر به أو لأهله وأقربائه.
(هاؤم اقرأوا كتابيه) قال ابن السكيت والكسائي: العرب تقول " ها " يا رجل، وللإِثنين هاؤما يا رجلان وللجمع هاؤم يا رجال، قيل والأصل هاكم فأبدلت الهمزة من الكاف، قال ابن زيد ومعنى هاؤم تعالوا وقال مقاتل هلم وقيل خذوا، والذي صرح به النحاة أنها بمعنى خذ تقول ها بمعنى خذ، هاؤما بمعنى خذا، وهاؤم بمعنى خذوا فهي اسم فعل، وقد يكون فعلاً صريحاً لاتصال الضمائر البارزة المرفوعة بها، وفيها ثلاث لغات كما هو معروف في علم الإعراب (1).
والهاء في كتابيه وسلطانيه وماليه، هي هاء السكت، وقرأ الجمهور في هذه بإثبات الهاء وقفاً ووصلاً مطابقة لرسم المصحف، ولولا ذلك لحذفت في
_________
(1) رواه أحمد في " المسند " وابن ماجة: 2/ 1430 من رواية وكيع عن علي بن رفاعة عن الحسن عن أبي موسى. قال البوصيري في " الزوائد ": رجال الإسناد ثقات. إلا أنه منقطع، والحسن لم يسمع من أبي موسى، قاله علي بن المديني، وأبو حاتم، وأبو زرعة، وقد رواه الترمذي عن الحسن عن أبي هريرة وقال: لا يصح هذا الحديث من قِبَل أن الحسن لم يسمع من أبي هريرة، ورواه الطبري 29/ 59 من رواية مجاهد بن موسى عن زيد، عن سليمان بن حامد عن مروان الأصغر عن أبي وائل عن عبد الله نحوه، وقال ابن كثير: ورواه سعيد بن أبي عَروبة عن قتادة مرسلاً مثله.(14/294)
الوصل كما هو شأن هاء السكت، واختار أبو عبيد أن يتعمد الوقف عليها ليوافق اللغة في الحاق الهاء في السكت، ويوافق الخط يعني خط المصحف، وقرأ جماعة بحذفها وصلاً، وإثباتها وقفاً في جميع هذه الألفاظ واختار أبو حاتم هذه إتباعاً للغة، وقريء بحذفها وصلاً ووقفاً، تنازع في كتابيه هاؤم واقرأوا فاعمل الأول عند الكوفيين والثاني عند البصريين، وأضمر في الآخر أي: هاؤموه قرأوا كتابيه أو هاؤم اقرأوه كتابيه.(14/295)
إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ (20)
(إني ظننت أني ملاق حسابيه) أي علمت وأيقنت في الدنيا أني أحاسب في الآخرة، وقيل المعنى إني ظننت أن يؤاخذني الله بسيئاتي فقد تفضل عليّ بعفوه ولم يؤاخذني، قال الضحاك كل ظن في القرآن من المؤمن فهو يقين ومن الكافر فهو شك، قال مجاهد ظن الآخرة يقين وظن الدنيا شك، قال الحسن في هذه الآية أن المؤمن أحسن الظن بربه فأحسن العمل للآخرة وأن الكافر أساء الظن بربه فأساء العمل.
قيل والتعبير بالظن للإشعار بأنه لا يقدح في الاعتقاد ما يهجس في النفس من الخطرات التي لا تنفك عنها العلوم النظرية غالباً، قال ابن عباس: ظننت أي أيقنت، قال النسفي: وإنما أجرى الظن مجرى العلم لأن الظن الغالب يقوم مقام العلم في العبادات والأحكام، ولأن ما يدرك بالاجتهاد قلما يخلو عن الوسواس والخواطر وهي تفضي إلى الظنون، فجاز إطلاق لفظ الظن عليها لما لا يخلو عنه.(14/295)
فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (21)
(فهو في عيشة راضية) أي مرضية لا مكروهة أو ذات رضا يرضى بها صاحبها لا يضجر منها ولا يملها ولا يسأمها قال أبو عبيدة والفراء: راضية أي مرضية كقوله (ماء دافق) أي مدفوق فقد أسند إلى العيشة ما هو لصاحبها فكان ذلك من المجاز في الإسناد، والعرب لا تعبر عن أكثر السعادات بأكثر من العيشة الراضية والمعتبر في كمال اللذة الرضا، وقيل المعنى أنه لو كان للمعيشة عقل لرضيت لنفسها بحالتها.(14/295)
فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (22) قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ (23) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ (24) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ (25) وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ (26) يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ (27) مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ (29) خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ (32) إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (34)(14/296)
فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (22)
(فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ) أي مرتفعة المكان لأنها في السماء السابعة أو مرتفعة المنازل والمباني أو عظيمة في النفوس، وهو خبر بعد خبر(14/296)
قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ (23)
(قطوفها دانية) القطوف جمع قطف بكسر القاف ما يقطف من الثمار بالفتح مصدر، والقطاف بالفتح والكسر وقت القطف، والمعنى أن ثمارها قريبة ممن يتناولها من قائم أو قاعد أو مضطجع أو متكىء، عن البراء بن عازب دانية قريبة يتناول الرجل من فواكهها وهو قائم.(14/296)
كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ (24)
(كلوا واشربوا) أي يقال لهم كلوا واشربوا في الجنة، وجمع الضمير مراعاة للمعنى وهذا أمر امتنان لا أمر تكليف (هنيئاً) أي أكلاً طيباً لذيذاً وشرباً هنيئاً شهياً مرياً لا تكدير فيه ولا تنغيص (بما أسلفتم في الأيام الخالية) أي بسبب ما قدمتم من الأعمال الصالحة في الدنيا، وقال مجاهد هي أيام الصيام.(14/296)
وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ (25)
(وأما من أوتي كتابه بشماله) قيل تكون يده اليسرى خلف ظهره ثم يعطى كتابه بها وقيل تنزع يده اليسرى من صدره إلى خلف ظهره (فيقول) حزناً كرباً لما رأى فيه من سيئاته وسوء عاقبته التي كشف له عنها الغطاء (يا ليتني لم أوت) أي لم أعط (كتابيه) لما يرى فيه من الفضائح(14/296)
وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ (26)
(ولم أدر ما حسابيه) أي لم أدر أي شيء حسابي لأن كله عليه، والاستفهام للتعظيم(14/296)
والتهويل، أي بل استمريت جاهلاً كذلك كما كنت في الدنيا.(14/297)
يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ (27)
(يا ليتها) أي ليت الموتة التي متها (كانت القاضية) ولم أحي بعدها، ومعنى القاضية القاطعة للحياة، والمعنى أنه تمنى دوام الموت وعدم البعث لما شاهد من سوء عمله، وما يصير إليه العذاب فالضمير في " ليتها " يعود إلى الموتة التي قد كان ماتها وإن لم تكن مذكورة لأنها لظهورها كانت كالمذكورة.
قال قتادة: تمنى الموت ولم يكن في الدنيا شيء عنده أكره من الموت، وشر من الموت ما يطلب منه الموت وقيل الضمير يعود إلى الحالة التي شاهدها عند مطالعة الكتاب، والمعنى يا ليت هذه الحالة كانت الموتة التي قضيت عليّ، لأنه رأى تلك الحالة أشنع وأمر مما ذاقه من مرارة الموت.(14/297)
مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ (28)
(ما أغنى عني ماليه) أي لم يدفع عني من عذاب الله شيئاًً، على أن " ما نافية " أو استفهامية والمعنى أي شيء أغنى عني مالي الذي منعت منه حق الفقراء وتعظمت به على عباد الله، وصيغ الخطاب يقتضي أن مالي كلمة واحدة بمعنى المال، وفي أبي السعود ما كان لي من اليسار.(14/297)
هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ (29)
(هلك عني سلطانيه) أي هلكت وضلت وغابت عني حجتي، كذا قال مجاهد وعكرمة والسدي والضحاك، وقال ابن زيد: يعني سلطاني الذي في الدنيا وهو الملك لم أجد له الآن نفعاً وبقيت حقيراً ذليلاً، وقيل تسلطي على جوارحي، قال مقاتل يعني حين شهدت عليه الجوارح بالشرك.
وحينئذ يقول الله عز وجل(14/297)
خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30)
(خذوه فغلوه) أي اجمعوا يديه إلى عنقه بالأغلال والخطاب لخزنة جهنم أي زبانيتها، وسيأتي في سورة المدثر أن عدتهم تسعة عشر، قيل ملكاً وقيل صفاً وقيل صنفاً، حكى الثلاثة الرازي.(14/297)
ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31)
(ثم الجحيم صلوه) أي ادخلوه الجحيم والمعنى لا تصلوه: لا الجحيم وهي النار العظيمة، والترتيب بثم في الزمان فإن إدخاله النار بعد غله، وكذلك إدخاله في السلسلة كما يأتي بعد إدخاله النار، والتراخي المفاد بها(14/297)
للتفاوت في الرتب، فكل واحد من المعطوفين بها أشد من العذاب وأغلى مما قبله، وفي الخطيب صلوه أي بالغوا في تصليته إياها، وكرروها بغمسه في النار كالشاة المصلية مرة بعد مرة لأنه كان يتعاظم على الناس، فناسب أن يصلى أعظم النيران.(14/298)
ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ (32)
(ثم في سلسلة) عظيمة جداً، والسلسلة حلق منتظمة كل حلقة منها في حلقة (ذرعها) أي طولها (سبعون ذراعاً) قال الحسن الله أعلم بأي ذراع هو، وقيل بذراع الملك، قال نوف الشامي: كل ذراع سبعون باعاً كل باع أبعد ما بينك وبين مكة وكان نوف في رحبة الكوفة، قال مقاتل لو أن حلقة منها وضعت على ذروة جبل لذاب كما يذوب الرصاص، وقال ابن جريج لا يعرف قدرها إلا الله، وهذا العدد حقيقة أو مبالغة، ومعنى: (فاسلكوه) فاجعلوه فيها بحيث يكون كأنه السلك أي الحبل الذي يدخل في ثقب الخرزات بعسر لضيق ذلك الثقب إما بإحاطتها بعنقه أو بجميع بدنه بأن تلف عليه، يقال سلكته الطريق إذا أدخلته فيه، ولم تمنع الفاء من تعلق الفعل أي الداخلة عليه بالظرف المتقدم وهو في سلسلة، وتقديمها كتقديم الجحيم للدلالة على التخصيص والاهتمام بذكر أنواع ما يعذبون به؛ وثم لتفاوت ما بينها في الشدة لا للدلالة على تراخي المدة.
قال سفيان: بلغنا أنها تدخل في دبره حتى تخرج من فيه. قال الكلبي: تسلك سلك الخيط في اللؤلؤ وقال سويد بن أبي نجيح: بلغني أن جميع أهل النار في تلك السلسلة، قال ابن عباس: السلسة تدخل في استه ثم تخرج من فيه، ثم ينظمون فيها كما ينظم الجراد في العود ثم يشوى.
وجملة(14/298)
إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33)
(إنه كان لا يؤمن بالله العظيم) تعليل لما قبلها على طريق الاستئناف، وذكر العظيم للإشعار بأنه هو المستحق للعظمة، فمن لا يعظمه فقد استوجب ذلك.(14/298)
وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (34)
(ولا يحض على طعام المسكين) أي لا يحث ولا يحرض نفسه على إطعامه من ماله أو لا يحث الغير على إطعامه، ووضع الطعام موضع الإطعام كما يوضع العطاء موضع الإعطاء، والإضافة للمفعول، ويجوز أن يكون في الكلام حذف المضاف أي على بذل طعام المسكين والإضافة له لكونه مستحقة وآخذه فهي لأدنى ملابسة فالحض البعث والحث على الفعل والحرص على وقوعه، ومنه حروف التحضيض المبوب له في النحو لأنه يطلب به وقوع الفعل وإيجاده.
وفيه إشارة إلى أنه كان لا يؤمن بالبعث لأن الناس لا يطلبون على المساكين الجزاء فيما يطعمونهم، وإنما يطعمونهم لوجه الله ورجاء الثواب في الآخرة فإذا لم يؤمن بالبعث لم يكن له ما يحمله على إطعامهم.
وفي جعل هذا قريناً لترك الإيمان بالله من الترغيب في التصدق على المساكين وسد فاقتهم وحث النفس والناس على ذلك ما يدل أبلغ دلالة ويفيد أكمل فائدة على أن منعهم من أعظم الجرائم وأشد المآثم، وعن أبي الدرداء قال: " إن لله سلسلة لم تزل تغلي منها مراجل النار منذ خلق الله جهنم إلى يوم تلقى في أعناق الناس، وقد نجانا الله من نصفها بإيماننا بالله العظيم، فحضني على طعام المسكين يا أم الدرداء " أخرجه أبو عبيد وعبد بن حميد وابن المنذر.
وقال الحسن أدركت أقواماً يعزمون على أهليهم أن لا يردوا سائلاً وكان بعضهم يأمر أهله بتكثير المرقة لأجل المساكين ويقول خلعنا نصف السلسلة بالإيمان أفلا نخلع النصف الثاني بالإطعام، وقيل لعل وجه التخصيص لهذين الأمرين بالذكر أن أقبح العقائد الكفر بالله تعالى، وأشنع الرذائل البخل وقسوة القلب.(14/299)
فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ (35) وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ (36) لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ (37) فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (38) وَمَا لَا تُبْصِرُونَ (39) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ (41) وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (42) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (43) وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (47)(14/300)
فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ (35)
(فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا) أي يوم القيامة في الآخرة (حميم) أي قريب ينفعه أو يشفع له يحرق له قلبه لأنه يوم يفر فيه القريب من قريبه، ويهرب عنده الحبيب من حبيبه(14/300)
وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ (36)
(ولا طعام إلا من غسلين) أي وليس له طعام يأكله إلا من صديد أهل النار وما ينغسل من أبدانهم من القيح والصديد، وغسلين فعلين من الغسل أو الغسالة فنونه وياؤه زائدتان.
قال أهل اللغة هو ما يجري من الجراح إذا ما غسلت، وقال الضحاك والربيع بن أنس: هو شجر يأكله أهل النار، وقال قتادة: هو شر الطعام، وقال ابن زيد: لا يعلم ما هو ولا ما الزقوم إلا الله تعالى، وعن ابن عباس قال: الغسلين الدم والماء والصديد الذي يسيل من لحومهم.
وعن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لو أن دلواً من غسلين يهراق في الدنيا لانتن أهل الدنيا (1) أخرجه الحاكم وصححه، وعن ابن عباس أيضاًً قال الغسلين اسم طعام من أطعمة أهل النار، وقال سبحانه في موضع آخر.
(ليس لهم طعام إلا من ضريع) فيجوز أن يكون الضريع هو الغسلين، وقيل في الكلام تقديم وتأخير، والمعنى فليس له اليوم ههنا حميم
_________
(1) الحاكم 501/ 2.(14/300)
إلا من غسلين، على أن الحميم هو الماء الحار، ولا طعام أي ليس لهم طعام يأكلونه، قاله أبو البقاء، ولا ملجىء لهذا التقديم والتأخير.
والتوفيق بين ما هنا وبين قوله في محل آخر (إلا من ضريع) وفي موضع آخر (إن شجرة الزقوم طعام الأثيم) وفي موضع آخر (ما يأكلون في بطونهم إلا النار) أنه يجوز أن يكون طعامهم جميع ذلك وأن العذاب أنواع والمعذبين طبقات فمنهم أكلة الغسلين ومنهم أكلة الضريع ومنهم أكلة الزقوم ومنهم أكلة النار لكل باب منهم جزء مقسوم.(14/301)
لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ (37)
(لا يأكله إلا الخاطئون) المراد بهم أصحاب الخطايا وأرباب الذنوب، قال الكلبي: المراد أهل الشرك، قرأ الجمهور الخاطئون مهموزاً وهو اسم فاعل من خطىء يخطأ من باب علم إذا فعل غير الصواب متعمداً والمخطىء من يفعله غير متعمد، وقرىء الخاطيون بالياء المضمومة بدل الهمزة وقرىء بالطاء المضمومة بدون همزة.(14/301)
فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (38)
(فلا أقسم بما تبصرون) من المخلوقات(14/301)
وَمَا لَا تُبْصِرُونَ (39)
(وما لا تبصرون) منها قال قتادة أقسم بالأشياء كلها ما يبصر منها وما لا يبصر، فيدخل في هذا جميع المخلوقات، والإقسام بغير الله إنما نهى عنه في حقنا وأما هو تعالى فيقسم بما شاء على ما شاء، وهذا رد لكلام المشركين كأنه قال ليس الأمر كما تقولون، و (لا) زائدة والتقدير فأقسم بما تشاهدونه وما لا تشاهدونه.
وقيل إن (لا) ليست بزائدة بل هي أصلية لنفي القسم أي لا أحتاج إلى قسم لوضوح الحق في ذلك والأول أولى، وقال البيضاوي: فلا أقسم لظهور الأمر واستغنائه عن التحقيق بالقسم. أو فلا، رد لإنكارهم البعث و (أُقْسِمُ) مستأنف، قال الكرخي: وأما حمله على معنى نفي الإقسام لظهور الأمر فيرده تعيين المقسم به بقوله بما تبصرون الخ أهـ.(14/301)
إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40)
(إنه لقول رسول كريم) أي أن القرآن لتلاوة رسول كريم على الله فهو في غاية الكرم الذي هو البعد عن مساوىء الأخلاق، على أن المراد(14/301)
بالرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم، أو أنه لقول يبلغه رسول كريم، قال الحسن والكلبي ومقاتل يريد به جبريل، دليله قوله:
(إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ) وعلى كل حال فالقرآن ليس من قول محمد صلى الله عليه وسلم ولا من قول جبريل عليه السلام، بل هو من قول الله عز وجل، فلا بد من تقدير التلاوة أو التبليغ، وفي لفظ الرسول ما يدل على ذلك فاكتفى به عن أن يقول عن الله تعالى.(14/302)
وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ (41)
(وما هو بقول شاعر) كما تزعمون لأنه ليس من أصناف الشعر ولا مشابهاً لها والشاعر هو الذي يأتي بكلام مقفى موزون بقصد الوزن (قليلاً ما تؤمنون) أي إيماناً قليلاً تؤمنون وتصديقاً يسيراً تصدقون، وقال البغوي أراد بالقليل نفي إيمانهم وتذكرهم أصلاً كقولك لمن لا يزورك قلما تأتينا، وأنت تريد لا تأتينا أصلاً.(14/302)
وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (42)
(ولا بقول كاهن) كما تزعمون فإن الكهانة أمر آخر لا جامع بينها وبين هذا (قليلاً ما تذكرون) قرىء بالتاء وقرىء بالياء التفاتاً عن الخطاب إلى الغيبة أي تذكراً أو زماناً تتذكرون و (ما) زائدة في الموضعين.
وذكر الإيمان مع نفي الشعر، والتذكر مع نفي الكهانة لأن عدم مشابهة القرآن للشعر أمر بين لا ينكره إلا معاند كافر بخلاف مباينته للكهانة فإنها تتوقف على تذكر أحواله صلى الله عليه وآله وسلم وتذكر معاني القرآن المنافية لطريقة الكهانة ومعاني أقوالهم، قال أبو جهل إن محمداً صلى الله عليه وآله وسلم شاعر وقال الوليد بن المغيرة ساحر، وقال عقبة كاهن؛ فنزلت هذه الآية كذا قال مقاتل(14/302)
تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (43)
(تنزيل من رب العالمين) أي هو تنزيل منه على لسانه.(14/302)
وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44)
(ولو تقول علينا بعض الأقاويل) قرأ الجمهور مبنياً للفاعل وقرىء مبنياً للمفعول مع رفع بعض، وقرىء (ولو يقول) على صيغة المضارع،(14/302)
والتقول تكلف القول وسمي الافتراء تقولاً لأنه قول متكلف وكل كاذب يتكلف ما يكذبه؛ والأقاويل جمع أقوال وهي جمع قول فهو نظير أبابيت جمع أبيات جمع بيت، وسميت الأقوال المنقولة أقاويل تصغيراً لها وتحقيراً كقولك الأعاجيب والأضاحيك كأنها جمع أقوولة من القول، والمعنى ولو تقول ذلك الرسول وهو محمد صلى الله عليه وآله وسلم أو جبريل عليه السلام على ما تقدم وجاء به من جهة نفسه؛ وادعى علينا شيئاًً لم نقله.(14/303)
لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45)
(لأخذنا منه باليمين) أي بيده اليمين؛ قال ابن جرير: إن هذا الكلام خرج مخرج الإذلال على عادة الناس في الأخذ بيد من يعاقب؛ وقال الفراء والمبرد والزجاج وابن قتيبة: باليمين أي بالقوة والقدرة؛ وبه قال: ابن عباس؛ وقال ابن قتيبة: إنما أقام اليمين مقام القسوة لأن قوة كل شيء في ميامنه؛ وقيل المعنى لقتلناه صبراً كما يفعل الملوك بمن يتكذب عليهم معاجلة بالسخط والانتقام، وقيل المعنى لأذللناه وأهناه.(14/303)
ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46)
(ثم لقطعنا منه الوتين) هو عرق يجري في الظهر حتى يتصل بالقلب وهو مناطه إذا قطع مات صاحبه؛ قال الواحدي والمفسرون يقولون إنه نياط القلب؛ وقال ابن عباس عرق القلب وعنه قال نياط القلب وعن مجاهد هو حبل القلب الذي في الظهر وهو النخاع، وقال محمد بن كعب إنه القلب ومراقه وما يليه؛ وقال الكلبي إنه عرق بين العلباء والحلقوم. والعلباء عصب العنق وهما علباوان بينهما العرق: قال ابن قتينة لم يرد أنا نقطعه بعينه بل المراد منه أنه لو كذب علينا لأمتناه فكان كمن قطع وتينه.(14/303)
فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (47)
(فما منكم من أحد عنه حاجزين) أي ليس منكم أحد يحجزنا عنه ويدفعنا منه فكيف يتكلف الكذب على الله لأجلكم مع علمه أنه لو تكلف ذلك لعاقبناه ولا تقدرون على الدفع عنه، وإنما قال " حاجزين " بلفظ الجمع وهو وصف " أحد " رداً على معناه.(14/303)
وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (48) وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ (49) وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ (50) وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (51) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (52)(14/304)
وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (48)
(وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ) أي أن القرآن لتذكرة لأهل التقوى لأنهم المنتفعون به لإقبالهم عليه إقبال مستفيد، والظاهر أن هذا وما بعده معطوف على جواب القسم السابق فهو من جملة المقسم عليه. وما بينهما اعتراض.(14/304)
وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ (49)
(وإنا لنعلم أن منكم مكذبين) أي أن بعضكم يكذب بالقرآن فنحن نجازيهم على ذلك بما يليق به إظهاراً للعدل وفي هذا وعيد شديد(14/304)
وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ (50)
(وإنه) أي القرآن (لحسرة) وندامة (على الكافرين) يوم القيامة عند مشاهدتهم لثواب المؤمنين. وقيل: هي حسرتهم في الدنيا حين لم يقدروا على معارضته عند تحديهم بأن يأتوا بسورة من مثله.(14/304)
وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (51)
(وإنه) أي القرآن (لحق اليقين) أي عينه ومحضه لكونه من عند الله فلا يحول حوله ريب ولا يتطرّقُ إليه شك وهو من إضافة الصفة للموصوف، أي اليقين الحق، وحق اليقين فوق علم اليقين، وقيل هو كقولك عين اليقين ومحض اليقين(14/304)
فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (52)
(فسبح باسم ربك العظيم) أي نزهه عما لا يليق به وقيل فصل لربك والأول أولى، وقيل هو قوله سبحان الله.(14/304)
سورة سأل ويقال سورة المعارج
هي أربع وأربعون آية وهي مكية
قال القرطبي بالإتفاق عن ابن عباس قال نزلت بمكة وعن ابن الزبير مثله.(14/305)
بسم الله الرحمن الرحيم
سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ (1) لِلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ (2) مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ (3) تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4)(14/307)
سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ (1)
(سَأَلَ سَائِلٌ) قرأ الجمهور سأل بالهمزة من السؤال وهي اللغة الفاشية، وهو إما مضمن معنى الدعاء فلذلك عدي بالباء كما تقول دعوت بكذا والمعنى دعا داع على نفسه (بعذاب واقع) ويجوز أن يكون على أصله والباء بمعنى عن كقوله فاسأل به خبيراً، وقرىء بغير همزة وهو إما من باب التخفيف بقلب الهمزة ألفاً فيكون معناها معنى قراءة من همز أو يكون من السيلان والمعنى سأل واد في جهنم يقال له سائل كما قال زيد بن ثابت.
ويؤيده قراءة ابن عباس سال سيل أي اندفع واد بعذاب واقع وصيغة الماضي للدلالة على تحقق وقوعه، وقيل إن سال بمعنى التمس والمعنى التمس ملتمس عذاباً.
ْ(14/307)
لِلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ (2)
(للكافرين) فتكون الباء زائدة كقوله (تنبت بالدهن)، والوجه الأول هو الظاهر. قال الأخفش يقال خرجنا نسأل عن فلان وبفلان قال أبو علي الفارسي وإذا كان من السؤال فأصله أن يتعدى إلى مفعولين ويجوز الاقتصار على أحدهما ويتعدى إليه بحرف الجر فيكون التقدير سأل سائل الله أو النبي صلى الله عليه وسلم أو المسلمين بعذاب أو عن عذاب، وهذا السائل هو النضر بن الحرث حين قال: (اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) وهو ممن قتل يوم بدر صبراً، وعن ابن عباس مثله (1).
_________
(1) رواه الحاكم في " المستدرك " 2/ 502 عن سعيد بن جبير وقال: هذا حديت صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. وتعقبه الذهبي فقال: على شرط البخاري فقط، وأورد السيوطي في " الدر " 6/ 263 وزاد نسبته للفريابي، وعبد بن حميد، والنسائي، وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله عنهما.(14/307)
وقال الربيع هو أبو جهل. وقيل هو الحرث بن النعمان الفهري، وقيل إنها نزلت في جماعة من كفار قريش والأول أولى، وقرىء سال سال مثل مال مال على أن الأحل سائل فحذفت العين تخفيفاً كما قيل شاك في شائك السلاح.
وقيل السائل هو نوح عليه السلام سأل العذاب للكافرين وقيل هو رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا بالعقاب عليهم، والمراد بالعذاب الواقع إما في الدنيا كيوم بدر أو في الآخرة وهو عذاب النار.
وقوله (للكافرين) صفة أخرى لعذاب أي كائن لهم أو متعلق بواقع، واللام للعلة أو يسأل على تضمينه معنى دعا أو في محل رفع على تقدير هو للكافرين أو اللام بمعنى على، ويؤيده قراءة أبيّ على الكافرين، قال الفراء التقدير بعذاب للكافرين واقع بهم، فالواقع من نعت العذاب، وجملة (ليس له دافع) صفة أخرى لعذاب أو حال منه أو مستأنفة، والمعنى أنه لا يدفع ذلك العذاب الواقع به أحد.
وقوله:(14/308)
مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ (3)
(من الله) متعلق بواقع أي واقع من جهته سبحانه، ولم يمنع النفي من ذلك لأن " ليس " فعل لا حرف فصح أن يعمل ما قبلها فيما بعدها أو متعلق بدافع أي ليس له دافع من جهته تعالى إذا جاء وقته.
(ذي المعارج) أي ذي الدرجات التي تصعد فيها الملائكة، وقال ابن عباس ذي العلو والفواضل، وقال الكلبي هي السموات وسماها معارج لأن الملائكة تعرج فيها، وقيل المعارج مراتب نعم الله سبحانه على الخلق، وقيل المعارج العظمة. وقيل هي الغرف وقيل الأعمال الصالحة فإنها تتفاوت بحسب اجتماع الآداب والسنن وخلوص النية وحضور القلب.(14/308)
وقرأ ابن مسعود (ذي المعاريج) يقال معارج ومعاريج مثل مفاتح ومفاتيح جمع معريج بفتح الميم وهو موضع الصعود لا بكسرها لأنه آلة الصعود، وهو غير مناسب لهذا المقام.(14/309)
تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4)
(تعرج الملائكة والروح إليه) أي تصعد في تلك المعارج التي جعلها الله لهم، قرأ الجمهور تعرج بالفوقية، وقرىء بالتحتية، والروح جبريل أفرد بالذكر بعد الملائكة لشرفه، ويؤيد هذا قوله: (نزل به الروح الأمين) وقيل الروح هنا ملك آخر عظيم غير جبريل، وقال أبو صالح: إنه خلق من خلق الله سبحانه كهيئة الناس وليسوا من الناس، وقال قبيصة بن ذؤيب: إنه روح الميت حين يقبض والأول أولى، ومعنى " إليه " إلى المكان الذي ينتهون إليه وقيل إلى عرشه، وقيل إلى مهبط أمره من السماء، وقيل هو كقول إبراهيم: (إني ذاهب إلى ربي) أي إلى حيث أمرني ربي.
(في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة) قال ابن إسحق والكلبي ووهب بن منبه أي تعرج الملائكة إلى المكان الذي هو محلها في وقت كان مقداره على غيرهم لو صعد خمسين ألف سنة، وبه قال مجاهد وقال عكرمة: وروي عن مجاهد أن مدة عمر الدنيا هذا المقدار لا يدري أحدكم مضى ولا كم بقي ولا يعلم ذلك إلا الله.
والكلام على مدة عمر الدنيا ماضيها وباقيها مبسوط في كتابنا لقطة العجلان مما تمس إليه حاجة الإنسان، وقال قتادة والكلبي ومحمد بن كعب أن المراد يوم القيامة يعني أن مقدار الأمر فيه لو تولاه غيره سبحانه خمسون ألف سنة، وهو سبحانه يفرغ منه في ساعة، وقيل إن مدة موقف العباد للحساب هي هذا المقدار ثم يستقر بعد ذلك أهل الجنة في الجنة، وأهل النار في النار، وقيل أن مقدار يوم القيامة على الكافرين خمسون سنة وعلى المؤمنين مقدار ما بين الظهر والعصر.
وقيل ذكر هذا المقدار لمجرد التمثيل والتخييل لغاية ارتفاع تلك المعارج(14/309)
وبعد مداها أو لطول يوم القيامة باعتبار ما فيه من الشدائد والمكاره كما تصف العرب أيام الشدة بالطول، وأيام الفرح بالقصر. ويشبهون اليوم القصير بإبهام القطاة، والطويل بظل الرمح، وحينئذ لا تنافي بين هذه الآية وبين آية السجدة (في يوم كان مقداره ألف سنة) لأنه أيضاًً مسوق على سبيل التشديد على الكافرين.
وقيل في الكلام تقديم وتأخير أي ليس له دافع من الله ذي المعارج في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة تعرج الملائكة والروح إليه، وقال ابن عباس: في الآية منتهى أمره من أسفل الأرضين إلى منتهى أمره من فوق سبع سموات مقدار خمسين ألف سنة.
وقوله (في يوم كان مقداره ألف سنة) قال يعني ينزل الأمر من السماء إلى الأرض ومن الأرض إلى السماء في يوم واحد، فذلك مقداره ألف سنة لأن ما بين السماء والأرض مسيرة خمسمائة عام، وعنه قال غلظ كل أرض خمسمائة عام، وغلظ كل سماء خمسمائة عام وبين كل أرض إلى أرض خمسمائة عام، ومن السماء إلى السماء خمسمائة عام، فذلك أربعة عشر ألف عام، وبين السماء السابعة وبين العرش مسيرة ستة وثلاثين ألف عام فذلك قوله: (في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة).
وعنه في قوله: (في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون) قال هذا في الدنيا تعرج الملائكة في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون، وفي قوله: (مقداره خمسين ألف سنة) فهذا يوم القيامة جعله الله سبحانه على الكافرين خمسين ألف سنة، وعنه قال لو قدرتموه لكان خمسين ألف سنة من أيامكم يعني يوم القيامة.
وعن أبي سعيد الخدري قال: قيل يا رسول الله يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ما أطول هذا اليوم فقال: " والذي نفسي بيده إنه ليخفف عن(14/310)
المؤمن حتى يكون أهون عليه من صلاة مكتوبة يصليها في الدنيا " (1) أخرجه أحمد وأبو يعلى وابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي في البعث وفي إسناده دراج عن أبي الهيثم وهما ضعيفان.
وعن أبي هريرة مرفوعاً قال: " ما قدر طول يوم القيامة على المؤمنين إلا كقدر ما بين الظهر إلى العصر " أخرجه ابن أبي حاتم والحاكم والبيهقي في البعث.
ولو كان المراد حقيقة العدد لم يعقل أن الزمان الواحد يكون مقداره خمسين ألف سنة، ويكون مقداره ألف سنة، ويكون مقداره قدر صلاة ركعتين، وقيل العدد على حقيقته فإن يوم القيامة خمسون موطناً كل موطن ألف سنة والله أعلم بمراده بذلك.
وقد قيل في الجمع أن من أسفل العالم إلى العرش خمسين ألف سنة، ومن أعلى سماء الدنيا إلى الأرض ألف سنة لأن غلظ كل سماء خمسمائة عام. وما بين أسفل السماء إلى قرار الأرض خمسمائة عام كما تقدم، فالمعنى أن الملائكة إذا عرجت من أسفل العالم إلى العرش كان مسافة ذلك خمسين ألف سنة. وإن عرجوا من هذه الأرض التي نحن فيها إلى باطن هذه السماء التي هي سماء الدنيا كان مسافة ذلك ألف سنة. وقد تقدم ما يؤيد هذا عن ابن عباس. وقد قدمنا الجمع بين هذه الآية وآية السجدة في سورة السجدة فتذكر.
_________
(1) رواه الإمام أحمد عن الحسن بن موسى، عن ابن لهيعة، عن دراج، عن أبي الهيثم: عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، ولفظه: " والذي نفسي بيده إنه ليخفف على المؤمن حتى يكون أخف عليه من صلاة مكتوبة يصليها في الدنيا " ورواه ابن جرير الطبري عن يونس عن ابن وهب عن عمرو بن الحارث عن دراج به، ودراج وشيخه أبو الهيثم ضعيفان.(14/311)
فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا (5) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا (6) وَنَرَاهُ قَرِيبًا (7) يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ (8) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ (9) وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا (10)
ثم أمر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم بالصبر(14/312)
فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا (5)
(فاصبر) يا محمد على تكذيبهم لك وكفرهم بما جئت به (صبراً جميلاً) لا جزع فيه ولا شكوى إلى غير الله. وهذا معنى الصبر الجميل. وقيل هو أن يكون صاحب المصيبة في القوم لا يدري بأنه مصاب. قال ابن زيد وغيره: هي منسوخة بآية السيف. قال ابن عباس: في الآية لا تشكو إلى أحد غيري.(14/312)
إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا (6)
(إنهم يرونه) أي يرون العذاب الواقع بهم ويعتقدونه، أو يرون يوم القيامة أو يرون يوماً كان مقداره خمسين ألف سنة (بعيداً) أي غير كائن لأنهم لا يؤمنون به، فمعنى بعيداً أي مستبعداً محالاً، وليس المراد أنهم يرونه بعيداً غير قريب، قال الأعمش يرون البعث بعيداً لأنهم لا يؤمنون به، كأنهم يستبعدونه على جهة الاستحالة، كما تقول لمن تناظره: هذا بعيد أي لا يكون(14/312)
وَنَرَاهُ قَرِيبًا (7)
(ونراه قريباً) أي نعلمه كائناً قريباً لأن ما هو آت قريب، وقيل المعنى ونراه هيناً في قدرتنا غير متعسر ولا متعذر، والجملة تعليل للأمر بالصبر.
ثم أخبر سبحانه متى يقع بهم العذاب فقال:(14/312)
يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ (8)
(يوم تكون السماء كالمهل) أي يقع بهم العذاب يوم كذا والمهل ما أذيب من النحاس والرصاص والفضة، وقال مجاهد: هو القيح من الصديد والدم، وقال عكرمة وغيره: هو دردي الزيت، وبه قال ابن عباس: وقد تقدم تفسيره في سورة الكهف والدخان.(14/312)
وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ (9)
(وتكون الجبال كالعهن) أي كالصوف المصبوغ، ولا يقال للصوف عهن إلا إذا كان مصبوغاً، قال الحسن تكون الجبال كالصوف الأحمر، وهو أضعف الصوف، وقيل العهن الصوف ذو الألوان فشبه الجبال به في تكونها(14/312)
ألواناً كما في قوله: (جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ) فإذا بست وطيرت في الهواء أشبهت العهن المنفوش إذا طيرته الريح، وهذه الأقوال في معنى العهن في اللغة، وأول ما تتغير الجبال تصير رملاً مهيلاً ثم عهناً منفوشاً ثم هباء منثوراً.(14/313)
وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا (10)
(ولا يسأل حميم حميماً) أي لا يسأل قريب قريبه عن شأنه في ذلك اليوم لما نزل بهم من شدة الأهوال التي أذهلت القريب عن قريبه، والخليل عن خليله كما قال سبحانه: (لكل امرىء منهم يومئذ شأن يغنيه) وقيل المعنى لا يسأل حميم عن حميم لشغله عنه فحذف الحرف ووصل الفعل.
قرأ العامة يسأل مبنياً للفاعل والمفعول الثاني محذوف أي لا يسأله نصره ولا شفاعته لعلمه أن ذلك مفقود، وقيل لا يسأل شيئاًً من حمل أوزاره، وقرىء على البناء للمفعول والمعنى لا يسأل حميم إحضار حميمه، وقيل هذه القراءة على إسقاط حرف الجر، أي لا يسأل حميم عن حميم بل كل إنسان يسأل عن نفسه وعن عمله، وقيل لا يطالب به ولا يؤخذ بذنبه.
وجملة(14/313)
يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11)
(يبصرونهم) مستأنفة أو صفة لقوله حميماً أي يبصر كل حميم حميمه لا يخفى منهم أحد عن أحد، وليس في القيامة مخلوق إلا وهو نصب عين صاحبه ولا يتساءلون ولا يكلم بعضهم بعضاً لاشتغال كل أحد منهم بنفسه، وقال ابن زيد يبصر الله الكفار في النار الذين أضلوهم في الدنيا وهم الرؤساء المتبوعون، وقيل إن قوله:
(يبصرونهم) يرجع إلى الملائكة أي يعرفون أحوال الناس لا يخفون عليهم، وإنما جمع الضميرين في يبصرونهم وهما للحميمين حملاً على معنى العموم لأنهما نكرتان في سياق النفي، قاله السمين والزمخشري، قال الطيبي: وفيه دليل على أن الفاعل والمفعول الواقعين في سياق النفي يعمان كما التزم في قوله والله لا أشرب ماء من إداوة أنه يعم في المياه والأداوي، خلافاً لبعضهم في الأداوة.(14/313)
يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11) وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (12) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (13) وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ (14) كَلَّا إِنَّهَا لَظَى (15) نَزَّاعَةً لِلشَّوَى (16) تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (17) وَجَمَعَ فَأَوْعَى (18) إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21) إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ (23)
قال ابن عباس (يبصرونهم) يعرف بعضهم بعضاً ويتعارفون ثم يفر بعضهم من بعض، قرأ الجمهور يبصرونهم بالتشديد وقرىء بالتخفيف.
(يود المجرم) أي الكافر أو كل مذنب يذنب ذنباً يستحق به النار (لو) بمعنى أن (يفتدي من عذاب يومئذ) أي العذاب الذي ابتلوا به يومئذ، قرأ الجمهور بإضافة العذاب وكسر الميم من يومئذ وقرىء بالتنوين وقطع الإضافة وبفتح الميم.
(ببنيه(14/314)
وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (12)
وصاحبته) زوجته (وأخيه) فإن هؤلاء أعز الناس عليه وأكرمهم لديه، فلو قبل منه الفداء لفدى بهم نفسه، وخلص مما نزل به من العذاب، والجملة مستأنفة لبيان أن اشتغال كل مجرم بنفسه بلغ بحد يود الافتداء من العذاب بمن ذكر، وقيل حال من الضمير المرفوع أو المنصوب من يبصرون.(14/314)
وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (13)
(وفصيلته التي تؤويه) أي عشيرته الأقربين الذين يضمونه في النسب أو عند الشدائد ويأوي إليهم، قال أبو عبيدة الفصيلة دون القبيلة، وقال ثعلب هم آباؤهم الأدنون، قال المبرد الفصيلة القطيعة من أعضاء الجسد وسميت عشيرة الرجل فصيلة تشبيهاً لها بالبعض منه، وقال مالك إن الفصيلة هي التي تربيه.(14/314)
وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ (14)
(ومن) أي ويود المجرم لو افتدى بمن (في الأرض جميعاً) من(14/314)
الثقلين وغيرهما من الخلائق. وقوله (ثم ينجيه) معطوف على يفتدي أي يود لو يفتدي ثم ينجيه الافتداء، وكأن العطف بثم لدلالتها على استبعاد النجاة وقيل ثم ينجيه جواب يود، والأول أولى.(14/315)
كَلَّا إِنَّهَا لَظَى (15)
(كلا) ردع للمجرم عن تلك الودادة، وبيان امتناع ما وده من الافتداء، وكلا يأتي بمعنى حقاً وبمعنى لا النافية مع تضمنها لمعنى الزجر والردع، وهي هنا تحتمل الأمرين (إنها لظى) الضمير عائد إلى النار المدلول عليها بذكر العذاب أو هو ضمير مبهم يفسره ما بعده، ويترجم عنه الخبر، قاله الزمخشري، ولظى علم لجهنم واشتقاقها من التلظي في النار، وهو التلهب، ولذلك منع من الصرف للعلمية والتأنيث، وقيل أصله لظظ بمعنى دوام العذاب فقلبت إحدى الظائين ألفاً، وقيل لظى هي الدركة الثانية من طباق جهنم.(14/315)
نَزَّاعَةً لِلشَّوَى (16)
(نزاعة للشوى) قرأ الجمهور نزاعة بالرفع على أنه خبر ثان لأن، أو خبر مبتدأ محذوف أو تكون لظى بدلاً من الضمير المنصوب ونزاعة خبر " أن " أو على أن نزاعة صفة للظى على تقدير عدم كونها علماً أن يكون الضمير في (إنها) للقصة ويكون لظى مبتدأ ونزاعة خبره والجملة خبر " إن " وقرىء بالنصب على الحال وقال أبو علي الفارسي حمله على الحال بعيد لأنه ليس في الكلام ما يعمل في الحال، وقيل العامل فيها ما دل عليه الكلام من معنى التلظي أو النصب على الاختصاص والشوى الأطراف أو جمع شواة كنوى ونواة وهي جلدة الرأس.
وقال الحسن وثابت البناني: للشوى أي لمكارم الوجه وحسنه وكذا قال أبو العالية وقتادة، وقال قتادة: تبري اللحم والجلد عن العظم حتى لا تترك فيه شيئاً، وقال الكسائي: هي المفاصل وقال أبو صالح هي أطراف اليدين والرجلين، وقال ابن عباس: تنزع أم الرأس، وقيل الشوى الأعضاء التي ليست بمقتل، وقيل هو جلد الإنسان.(14/315)
تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (17)
(تدعو) لظى (من أدبر) عن الحق في الدنيا (وتولى) أي أعرض عنه قيل إنها تقول إلي يا مشرك إلي يا منافق ثم تلتقطهم التقاط الطير للحب، وقيل معنى تدعو تهلك تقول العرب دعاك الله أي أهلكك، وقيل ليس هو الدعاء باللسان، ولكن دعاؤها إياهم تمكنها من عذابهم، وقيل المراد إن خزنة جهنم تدعو الكافرين والمنافقين، فإسناد الدعاء إلى النار من باب إسناد ما هو للحال إلى المحل، وقيل هو تمثيل وتخييل ولا دعاء في الحقيقة.
والمعنى أن مصيرهم إليها والأول أولى لقوله (وتقول هل من مزيد) ولا موجب للصرف عن الظاهر، والله على كل شيء قدير.(14/316)
وَجَمَعَ فَأَوْعَى (18)
(وجمع فأوعى) أي جمع المال فجعله في وعاء ولم يؤد حق الله منه، وفي هذا ذم لمن جمع المال فأوعاه وكثره ولم ينفقه في سبيل الخير أو لم يؤد زكاته.(14/316)
إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21)
(إن الإنسان) أي الجنس عبر به لما له من الإنس لنفسه والرؤية لمحاسنها والنسيان لربه ولدينه (خلق هلوعاً) قال في الصحاح الهلع في اللغة أشد الحرص وأسوأ الجزع وأفحشه، يقال هلوع بالكسر فهو هلع وهلوع، وقال عكرمة: هو الضجور، وقال ابن عباس: هو الشره، وقال الواحدي: والمفسرون يقولون تفسير الهلع ما بعده يعني قوله:
(إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا) وبه قال ابن عباس أي إذا أصابه الفقر والحاجة أو المرض أو نحو ذلك فهو كثير الجزع، وإذا أصابه الخير من الغنى والخصب والسعة ونحو ذلك فهو كثير المنع والإمساك، وسأل محمد بن عبد الله بن طاهر ثعلباً عن الهلع فقال قد فسره الله، ولا يكون تفسير أبين من تفسيره وهو الذي إذا أصابه شر أظهر شدة الجزع وإذا مسه الخير بخل به ومنعه الناس.
والعرب تقول ناقة هلوع وهلواع إذا كانت سريعة السير خفيفته، وقال أبو عبيدة الهلوع هو الذي إذا مسه الخير لم يشكر، وإذا مسه الشر لم يصبر،(14/316)
وانتصاب هلوعاً وجزوعاً ومنوعاً على أنها أحوال مقدرة لأنه ليس متصفاً بالصفات المذكورة وقت خلقه ولا وقت ولادته، أو محققة لكونها طبائع جبل الإنسان عليها والظرفان معمولان لجزوعاً ومنوعاً.
وقوله:(14/317)
إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22)
(إلا المصلين) من قبيل استثناء الجمع من الواحد، لأن الإنسان واحد وفيه معنى الجمع أي المؤمنين المقيمين للصلاة لأن الصلاة الشرعية تستلزم الإيمان يعني أنهم ليسوا على تلك الصفات من الهلع والجزع والمنع، وإنهم على صفات محمودة وخلال مرضية لأن إيمانهم وما تمسكوا به من التوحيد ودين الحق يزجرهم عن الاتصاف بتلك الصفات، ويحملهم على الاتصاف بصفات الخير.
ثم بينهم سبحانه فقال:(14/317)
الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ (23)
(الذين هم على صلاتهم دائمون) أي مواظبون أي لا يشغلهم عنها شاغل ولا يصرفهم عنها صارف، ولا يتركونها أداء ولا قضاء أي يفعلونها ولو قضاء (1) وليس المراد بالدوام أنهم يصلون أبداً.
قال الزجاج: هم الذين لا يزيلون وجوههم عن سمت القبلة وقال الحسن وابن جريج: هو التطوع منها قال النخعي: المراد بالمصلين الذين يؤدون الصلاة المكتوبة. وقال ابن مسعود: الذين يصلونها لوقتها.
وعن عمران بن حصين: قال الذي لا يلتفت في صلاته، وعن عقبة بن عامر قال: هم الذين إذا صلوا لم يلتفتوا، والمراد بالآية جميع المؤمنين وقيل الصحابة خاصة، ولا وجه لهذا التخصيص لاتصاف كل مؤمن بأنه من المصلين.
_________
(1) قوله " أي يفعلونها ولو قضاء " له معنيان (أحدهما) قضاء النائم والناسي فيقضي ما فاته نسياناً أو نوماً عند قيامه من النوم أو عندما يتذكر، وهذه صلاة مقبولة كما جاء في الحديث " من نام عن صلاة أو نسيها " الخ.
والمعنى الثاني لقضاء الصلاة هو أن يترك الصلاة عامداً شين طويلة ثم يتوب فيصلي مع كل صلاة صلاة وهذا غير مقبول فمن تاب سقط عنه ما مضى.(14/317)
وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25) وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (26) وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (27) إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (28) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (29) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (30) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (31) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (32) وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ (33)(14/318)
وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24)
(وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ) قال قتادة ومحمد بن سيرين المراد الزكاة المفروضة، وقال مجاهد سوى الزكاة، وقيل صلة الرحم، وحمل الكل؛ والظاهر أنه الزكاة المفروضة لوصفه بكونه معلوماً ولجعله قريناً للصلاة.(14/318)
لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25)
(للسائل) أي الذي يسأل الناس (والمحروم) أي الذي يتعفف عن السؤال فيحسب غنياً فيحرم على حد (يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف) وقد تقدم تفسير السائل والمحروم في سورة الذاريات وفي سورة المؤمنين مستوفى.(14/318)
وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (26)
(والذين يصدقون بيوم الدين) أي بيوم الجزاء وهو يوم القيامة لا يشكون فيه ولا يجحدونه، وقيل يصدقونه بأعمالهم فيتعبون أنفسهم في الطاعات، لأن التصديق به يستلزم الاستعداد له بالأعمال الصالحة(14/318)
وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (27)
(والذين هم من عذاب ربهم مشفقون) أي خائفون وجلون مع ما لهم من أعمال الطاعة استحقاراً لأعمالهم واعترافاً بما يجب لله سبحانه عليهم.
وجملة(14/318)
إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (28)
(إن عذاب ربهم غير مأمون) مقررة لمضمون ما قبلها مبينة أن ذلك مما لا ينبغي أن يأمنه أحد لجواز أن يحل به وإن بلغ في الطاعة ما بلغ، وأن حق كل أحد أن يخافه، ويكون مترجماً بين الخوف والرجاء.(14/318)
وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (29) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (30)
(وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (29) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ) من الإماء، ولشبههن في جريان التصرف عليهن عبر عنهن " بما " التي لغير العاقل (فإنهم غير ملومين) على ترك الحفظ(14/319)
فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (31)
(فمن ابتغى) أي طلب منكحاً (وراء ذلك) أي غير الزوجات والمملوكات.
(فأولئك هم العادون) أي المتجاوزون عن الحلال إلى الحرام والمتعدون ما حد لهم، وهذه الآية تدل على حرمة المتعة ووطء الذكران والبهائم والزنا والاستمناء بالكف، وقد تقدم تفسيرها في سورة المؤمنين مستوفى.(14/319)
وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (32)
(والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون) أي لا يخلون بشيء من الأمانات التي يؤتمنون عليها، ولا ينقضون شيئاًً من العهود التي يعقدونها على أنفسهم، قرأ الجمهور لأماناتهم بالجمع وقرىء بالإفراد وهما سبعيتان، والمراد الجنس وهي تتناول أمانات الشرع، وأمانات العباد، ويدخل فيها عهود الخلق والنذور والأيمان، وقيل الأمانات ما تدل عليه العقول. والعهود ما أتى بها الرسول.(14/319)
وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ (33)
(والذين هم بشهاداتهم قائمون) أي يتحملونها ويؤدونها على غاية التمام وحسن الأداء، ويقيمونها عند الحكام على من كانت عليه من قريب أو بعيد، أو رفيع أو وضيع، بلا ترجيح للقوي على الضعيف، ولا يكتمونها ولا يغيرونها إظهاراً للصلابة في الدين، ورغبة في إحياء حقوق المسلمين.
وقد تقدم القول على الشهادة في سورة البقرة قرأ الجمهور بشهادتهم بالإفراد وقرىء بالجمع، قال الواحدي: والإفراد أولى لأنه مصدر، ومن جمع ذهب إلى اختلاف الشهادات، قال الفراء ويدل على قراءة التوحيد قوله تعالى: (وأقيموا الشهادة لله) وقيل أراد بالشهادة الشهادة بكلمة التوحيد، والأول أولى.(14/319)
وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (34) أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ (35) فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (36) عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ (37) أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (38) كَلَّا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ (39) فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ (40) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (41) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (42) يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (43) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (44)(14/320)
وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (34)
(وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ) أي على أذكارها وأركانها وشرائطها لا يخلون بشيء من ذلك قال قتادة: على وضوئها وركوعها وسجودها، قال ابن جريج: المراد التطوع، وكرر ذكر الصلاة للدلالة على فضلها وأنافتها على غيرها، ولاختلاف ما وصفهم به أولاً وما وصفهم به ثانياً فإن معنى الدوام هو أن لا يشتغل عنها بشيء من الشواغل كما سلف، ومعنى المحافظة أن يراعي الأمور التي لا تكون صلاة بدونها.
وقيل المراد يحافظون عليها بعد فعلها من أن يفعلوا ما يحبطها ويبطل ثوابها، وكرر الموصولات للدلالة على أن كل وصف من تلك الأوصاف لجلالته يستحق أن يستقل بموصوف منفرد، وقال الكرخي: وفي هذه الصلاة مبالغات لا تخفى وهي تقديم الضمير وبناء الجملة عليه وتقديم الجار والمجرور على الفعل، وجعل بعض الجمل اسميه مفيدة للدوام والثبات، وبعضها فعلية مفيدة للاستمرار التجددي.(14/320)
أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ (35)
(أولئك) الموصوفون بتلك الصفات مستقرون (في جنات مكرمون) بأنواع الكرامات وهما خبران.(14/320)
فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (36)
(فمال الذين كفروا قبلك مهطعين) أي أيّ شيء ثبت لهم فهم(14/320)
حواليك مسرعين، قال الأخفش مهطعين مسرعين، وقيل المعنى ما بالهم يسرعون إليك ويجلسون حواليك ولا يعملون بما تأمرهم، وقيل ما بالهم مسرعين إلى التكذيب، وقيل ما بال الذين كفروا يسرعون إلى السماع إليك فيكذبونك ويستهزئون بك، وقال الكلبي إن معنى مهطعين ناظرين إليك، وقال قتادة عامدين، وقيل مسرعين إليك مادي أعناقهم مديمي النظر إليك.(14/321)
عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ (37)
(عن اليمين وعن الشمال عزين) أي عن يمين النبي صلى الله عليه وسلم وعن شماله جماعات متفرقة وعزين جمع عزة وهي العصبة من الناس، وقيل أصلها عزوة من العزو، وكأن كل فرقة تعتزي إلى غير من تعتزي إليه الفرقة الأخرى وقال في الصحاح العزة الفرقة من الناس، والهاء عوض عن الياء والجمع عزى وعزون، قال ابن عباس عزين العصب من الناس معرضين يستهزئون به، وأخرج مسلم وغيره عن جابر قال دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد ونحن حلق متفرقون فقال ما لي أراكم عزين " (1).
_________
(1) روى مسلم في " صحيحه " 1/ 322 عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فرآنا حلقَاً، فقال: " ما لي أراكم عِزينَ؟ " أي جماعات في تفرقة، جمع عزة، وأصلها " عزوة " فحذفت الواو وجمعت جمع السلامة على غير قياس كثُبين جمع ثُبة. والحديث رواه أيضاً أحمد، وأبو داود، والنسائي، وابن جرير الطبري. وفي هذا الحديث دلالة على أن التفرقة في الأجسام تولد التفرقة في القلوب.(14/321)
أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (38)
(أيطمع كل امرىء منهم أن يدخل جنة نعيم) كالمؤمنين المسلمين قال المفسرون: كان المشركون يقولون لئن دخل هؤلاء الجنة لندخلن قبلهم، فنزلت الآية، قرأ الجمهور ويدخل مبنياً للمفعول، وقرىء مبنياً للفاعل.
ثم رد الله سبحانه عليهم فقال:(14/321)
كَلَّا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ (39)
(كلا إنا خلقناهم مما يعلمون) أي من القذر الذي يعلمون به يعني من النطفة المذرة، وأبهم إشعاراً بأنه منصب يستحي من ذكره فلا ينبغي فم هذا التكبر، وهذا استدلال بالنشأة الأولى على إمكان النشأة الثانية التي بنوا الطمع على فرضها فرضاً محالاً عندهم بعد ردعهم(14/321)
عنه، وقيل المعنى إنا خلقناهم من أجل ما يعلمون وهو امتثال الأمر والنهي وتكميل النفس بالعلم والعمل، وتعريضهم للثواب والعقاب كما في قوله: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ).
أخرج أحمد وابن ماجة وابن سعد وابن أبي عاصم والبارودي وابن قانع والحاكم والبيهقي في الشعب والضياء عن بشر بن جحاش قال: " قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم (فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا -إلى قوله- مِمَّا يَعْلَمُونَ) ثم بزق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على كفه ووضع عليها أصبعه وقال: " يقول الله ابن آدم أنىّ تعجزني وقد خلقتك من مثل هذه حتى إذا سويتك وعدلتك مشيت بين بردين وللأرض منك وئيد فجمعت ومنعمشا حتى إذا بلغت التراقي قلت أتى أوان الصدقة " (1).
قال ابن العربي في الفتوحات خلق الله تعالى الناس على أربعة أقسام قسم لا من ذكر ولا من أنثى وهو آدم عليه السلام وقسم من ذكر فقط وهو حواء وقسم من أنثى فقط وهو عيسى عليه السلام وقسم من ذكر وأنثى وهو بقية الناس.
_________
(1) رواه أحمد في " المسند " 4/ 210 من حديث حريز بن عثمان عن عبد الرحمن بن ميسرة عن جبير بن نفير عن بسر بن جحاش، وإسناده حسن، ورواه الحاكم في " المستدرك " 2/ 502 وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وتعقبه الذهبي فقال: صحيح ورواه ابن ماجة رقم (2707) وقال البوصيري في " الزوائد ": إسناده صحيح. وأورده السيوطي في " الدر " 6/ 167 من رواية البيهقي في " شعب الإيمان ".(14/322)
فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ (40)
(فلا أقسم) لا زائدة كما تقدم قريباً والمعنى فأقسم (برب المشارق والمغارب) قرأهما الجمهور بالجمع يعني مشرق كل يوم من أيام السنة ومغربه، وقال ابن عباس للشمس كل يوم مطلع تطلع فيه وكل يوم مغرب تغرب فيه غير مطلعها بالأمس. وغير مغربها بالأمس، وقيل مشرق كل نجم ومغربه وقرىء بالإفراد، وقوله:
(إنا لقادرون(14/322)
عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (41)
على أن نبدل خيراً منهم) جواب القسم، والمعنى إنا(14/322)
لقادرون على أن نخلق أمثل منهم وأطوع لله حين عصوه، ونهلك هؤلاء أو نبدلهم بتحويل الوصف فيكونوا أشد بطشاً في الدنيا وأكثر أموالاً وأولاداً، وأعلى قدراً، وأكثر حشماً وجاهاً وخدماً فيكونوا عندك على قلب واحد في سماع قولك وتوقيرك وتعظيمك، والسعي في كل ما يشرح صدرك بدل ما يعمل هؤلاء من الهزء والتصفيق والصفير، وكل ما يضيق به صدرك.
وقد فعل سبحانه ما ذكر من هذه الأوصاف بالمهاجرين والأنصار والتابعين لهم بالإحسان، مع السعة في الرزق بأخذ أموال الجبارين من كسرى وقيصر، والتمكن في الأرض حتى كانوا ملوك الدنيا مع العمل بما يوجب لهم ملك الآخرة، ففرجوا الكرب عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبذلوا في مرضاته الأنفس والأموال.
ومن جملة المقسم عليه قوله: (وما نحن بمسبوقين) أي بمغلوبين إن أردنا ذلك بل نفعل ما أردنا لا يفوتنا شيء ولا يعجزنا أمر، ولكن مشيئتنا وسابق علمنا اقتضيا تأخير عقوبة هؤلاء وعدم تبديلهم بخلق آخر(14/323)
فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (42)
(فذرهم) أي دعهم واتركهم (يخوضوا) في باطلهم (ويلعبوا) في دنياهم واشتغل بما أمرت به، ولا يعظمن عليك ما هم فيه فليس عليك إلا البلاغ، وهذا تهديد لهم وتسلية له صلى الله عليه وسلم.
(حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدون) هو يوم كشف الغطاء الذي أوله عند الغرغرة وتناهيه النفخة الثانية ودخول كل من الفريقين في داره ومحل استقراره، وقيل هو يوم القيامة، وهذه الآية منسوخة بآية السيف كما قال البقاعي وابن عادل، قرأ الجمهور يلاقوا وقرىء يلقوا، وفيه إشارة إلى أن التفاعل ليس على بابه.(14/323)
يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (43)
(يوم يخرجون من الأجداث سراعاً) " يوم " بدل من يومهم؛ بدل بعض من كل على ما يقتضيه تفسير يومهم بما ذكر؛ قرأ الجمهور يخرجون على البناء للفاعل وقرىء على البناء للمفعول؛ والأجداث جمع جدث وهو القبر؛(14/323)
والسراع جمع سريع وانتصابه على الحال من ضمير يخرجون.
(كأنهم إلى نصب يوفضون) قرأ الجمهور نصب بفتح النون وسكون الصاد وهو اسم مفرد بمعنى العلم المنصوب الذي يسرع الشخص نحوه، وقال أبو عمرو هو شبكة الصائد يسرع إليها عند وقوع الصيد فيها مخافة انفلاته. وقرىء بضمهما، وفيه ثلاثة أوجه أحدها أنه اسم مفرد بمعنى الصنم المنصوب للعبادة، وثانيها أنه جمع نصاب ككتب في كتاب، وثالثها أنه جمع نصب كرهن في رهن، وسقف في سقف، وجمع الجمع أنصاب، وقرىء بفتحتين ففعل بمعنى مفعول أي منصوب كالقبض، وقرىء بضم فسكون وهي تخفيف من الثانية.
وقال النحاس: نصب ونصب بمعنى واحد قيل معنى إلى نصب، إلى غاية وهي التي تنصب إليها بصرك، وقال الكلبي: إلى شيء منصوب كعلم أو راية أي كأنهم إلى علم يدعون إليه أو راية تنصب لهم يوفضون، قال الحسن: كانوا يبتدرون إذا طلعت الشمس إلى نصبهم التي كانوا يعبدونها من دون الله لا يلوي أولهم على آخرهم.
قيل معنى يوفضون يسرعون إسراع من ضل عن الطريق إلى أعلامها، والإيفاض الإسراع يقال أوفض إيفاضاً أي أسرع إسراعاً، وفي القاموس: وفض يفض وفضاً بالسكون وبالتحريك عدا وأسرع كأوفض واستوفض، والأوفاض الفرق من الناس والأخلاط والجماعة من قبائل شتى كأصحاب الصفة، قال ابن عباس في الآية إلى علم يستبقون، وقيل يسعون وقيل ينطلقون والمعاني متقاربة.
وانتصاب(14/324)
خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (44)
(خاشعة) على الحال من ضمير يرفضون وهو الأقرب أو من فاعل يخرجون وفيه بعد، والخشوع الذلة والخضوع و (أبصارهم) مرتفعة به والمعنى لا يرفعونها لما يتوقعونه من العذاب.
(ترهقهم ذلة) أي تغشاهم ذلة شديدة ضد ما كانوا عليه في الدنيا(14/324)
لأن من تعزز فيها عن الحق ذل في الآخرة ومن ذل للحق في الدنيا عز في الآخرة، قال قتادة هي سواد الوجوه ومنه غلام مراهق إذا غشيه الاحتلام، يقال رهقه بالكسر يرهقه رهقاً غشيه، ومثل هذا قوله (ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة) والجملة مستأنفة أو حال من قال يوفضون أو يخرجون.
(ذلك) الذي تقدم ذكره (اليوم الذي كانوا يوعدون) أي يوعدونه في الدنيا على ألسنة الرسل قد حاق وحضر ووقع بهم من عذابه ما وعدهم الله به وإن كان مستقبلاً فهو في حكم الذي قد وقع لتحقق وقوعه، قال الخطيب وهذا هو العذاب الذي سألوا عنه أول السورة فقد رجع آخرها على أولها.(14/325)
سورة نوح
(هي تسع أو ثمان وعشرون آية وهي مكية عن الزبير قال نزلت بمكة)(14/327)
بسم الله الرحمن الرحيم
إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (1) قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (2) أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (3) يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (4) قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا (5) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا (6)(14/329)
إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (1)
(إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ) وكانوا جميع أهل الأرض من الآدميين أهل عصره، ولذلك لما كفروا أغرق الله أهل الأرض جميعاً، وقد تقدم أن نوحاً أول رسول أرسله الله بالنهي عن عبادة غير الله، لأن عبادة غيره إنما حدثث في زمن نوح، وإلا فمن المعلوم إن قبله رسلاً آدم وشيث وإدريس.
وهو نوح بن لامك بن متوشلخ بن اخنوخ بن قينان بن شيث بن آدم، وكان أطول الأنبياء عمراً بل أطول الناس وهو أول من شرعت له الشرائع، وأول رسول أنذر من الشرك وقد تقدم مدة لبثة في قومه وبيان جميع عمره وبيان السن التي أرسل هو فيها في سورة العنكبوت، قيل النوح معناه بالسريانية الساكن.
(أن أنذر قومك) أي بأن أنذر على أنها مصدرية أو هي المفسرة لأن في الإرسال معنى القول، وقرأ ابن مسعود أنذر بدون أن أي فقلنا له أنذر (من قبل أن يأتيهم عذاب أليم) أي شديد الألم وهو عذاب النار على ما هم عليه من الأعمال الخبيثة، وقال الكلبي هو ما نزل بهم من الطوفان.(14/329)
قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (2)
(قال يا قوم) أضافهم إلى نفسه إظهاراً للشفقة، والجملة مستأنفة استئنافاً بيانياً على تقدير سؤال (إني لكم نذير) من عقاب الله ومخوف لكم(14/329)
(مبين) أي بين الإنذار، أو مبين لما فيه نجاتكم بلغة تعرفونها أو أمري بين في نفسه بحيث صار في شدة وضوحه كأنه مظهر لما يتضمنه مناد بذلك للقريب والبعيد والفطن والغبي.(14/330)
أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (3)
(أن اعبدوا الله واتقوه وأطيعون) " أن " هي التفسيرية لنذير أو هي المصدرية كأختها السابقة أي بأن اعبدوا الله ولا تشركوا به غيره، واجتنبوا ما يوقعكم في عذابه، وأطيعوني فيما آمركم به فإني رسول إليكم من عند الله، وإنما أضاف الإِطاعة إلى نفسه لأن الطاعة قد تكون لغير الله بخلاف العبادة.(14/330)
يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (4)
(يغفر لكم من ذنوبكم) هذا جواب الأوامر الثلاثة، " ومن " للتبعيض أي بعض ذنوبكم وهو ما سلف منها قبل طاعة الرسول وإجابة دعوته، وقيل المراد بالبعض ما لا يتعلق بحقوق العباد، فإنها لا تغفر بالإسلام، وهذا كلام ظاهري إذ الحق أنها تغفر من حيث المؤاخذة الأخروية بمعنى أنهم لا يعاقبون عليها في الآخرة، وإن كانت من حيث المؤاخذة عليها في الدنيا لا تغفر، فيطالب الكافر إذا أسلم بالحدود كحد القذف وبالمال الذي ظلم به في الكفر تأمل.
وقيل هي لبيان الجنس، وقيل زائدة قاله السدي فإن الإسلام يغفر ما قبله، وهذا على رأي الأخفش الذي لا يشترط في زيادتها تقدم نفي ولا تنكير المجرور بها، والأولى هو الوجه الأول وقيل يغفر لكم من ذنوبكم ما استغفرتموه منها.
(ويؤخركم إلى أجل مسمى) أي يؤخر موتكم إلى الأمد الأقصى المعلوم المعين الذي قدره الله لكم لا يزيد ولا ينقص بشرط الإيمان والطاعة فوق ما قدره لكم على تقدير بقائكم على الكفر والعصيان، وقيل التأخير بمعنى البركة في أعمارهم إن آمنوا، وعدم البركة فيها إن لم يؤمنوا، قال مقاتل: يؤخركم إلى منتهى آجالكم، وقال الزجاج: أي يؤخركم عن العذاب فتموتوا غير ميتة المستأصلين بالعذاب، فالمؤخر إنما هو العذاب فلا يخالف(14/330)
هذا قوله (إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر) لأن المنفي تأخيره فيه هو الأجل نفسه، فلا تخالف بين هذين المحلين، وقال الفراء: المعنى لا يميتكم غرقاً ولا حرقاً ولا قتلاً.
(إن أجل الله) أي ما قدره لكم على تقدير بقائكم على الكفر من العذاب (إذا جاء) وأنتم باقون على الكفر (لا يؤخر) بل يقع لا محالة فبادروا إلى الإيمان والطاعة، وقيل المعنى إن أجل الله وهو الموت إذا جاء لا يمكنكم الإيمان.
وقيل المعنى إذا جاء الموت لا يؤخر سواء كان بعذاب أو بغير عذاب، وإضافة الأجل إليه سبحانه لأنه هو الذي أثبته، وقد يضاف إلى القوم كقوله (إذا جاء أجلهم) لأنه مضروب لهم (لو كنتم تعلمون) شيئاًً من العلم لسارعتم إلى ما أمرتكم به ولعلمتم أن أجل الله إذا جاء لا يؤخر.
هذا: وقد سئل الشوكاني رحمه الله تعالى عما ورد في الآيات الكريمات الدالة على أن العمر لا يزيد ولا ينقص، والأحاديث الدالة على أن صلة الرحم تزيد في العمر، فأجاب بما لفظه:
قد طال الكلام في هذا البحث، وقد وقفت قبل الآن بنحو ثمان سنين على مؤلف بسيط لبعض الحنابلة في خصوص هذه المسألة، وقد غاب عني اسم الكتاب واسم صاحبه، والأحاديث القاضية بأن صلة الرحم تزيد في العمر أحاديث صحيحة كثيرة منها ما أخرجه البخاري والترمذي من حديث أبي هريرة مرفوعاً بلفظ " من سره أن يبسط له في رزقه وأن ينسأ له في أثره فليصل رحمه " (1).
وعند الترمذي " تعلموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم فإن صلة الرحم محبة في الأهل مثراة في المال منسأة في الأثر "، والأثر الأجل وإنساؤه تأخيره.
_________
(1) الحاكم/4/ 160.(14/331)
وأخرج أحمد في مسنده والبيهقي في شعب الإيمان ورمز السيوطي في الجامع لصحته من حديث عائشة مرفوعاً [صلة الرحم وحسن الخلق وحسن الجوار يعمرن الديار ويزدن في الأعمار] (1).
وأخرج القضاعي من حديث ابن مسعود مرفوعاً " صلة الرحم تزيد في العمر وصدقة السر تطفىء غضب الرب " (2).
وأخرج الطبراني في الأوسط من حديث عمرو بن سهيل مرفوعاً " صلة الرحم مثراة في المال محبة في الأهل منسأة في الأجل " (3).
إذا تقرر هذا فالعمر محدود ومعلوم لا يتقدم ولا يتأخر إلا إذا وصل الرجل رحمه مد الله في عمره وزاده، وهكذا حكم سائر الأمور التي وردت الأدلة بأنها تزيد في العمر أو تنقص منه لأنها خاصة، والخاص مقدم على العام، والمقام يحتمل البسط، وفي هذا كفاية والله أعلم.
_________
(1) صحيح الجامع/3661.
(2) صحيح الجامع/3660.
(3) صحيح الجامع/3662.(14/332)
قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا (5)
(قال رب) أي قال نوح مناجياً لربه وحاكياً له ما جرى بينه وبين قومه وهو أعلم به منه (إني دعوت قومي) إلى ما أمرتني بأن أدعوهم إليه من الإيمان (ليلاً ونهاراً) أي دعاء دائماً دائباً بلا فتور في الليل والنهار من غير تقصير.(14/332)
فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا (6)
(فلم يزدهم دعائي) شيئاًً من أحوالهم التي كانوا عليها (إلا فراراً) إعراضاً عما دعوتهم إليه، وبعداً عنه، قال مقاتل يعني تباعداً من الإيمان (كأنهم حمر مستنفرة) وإسناد الزيادة إلى الدعاء لكونه سببها كما في قوله (زادتهم إيماناً) قرأ الجمهور دعائي بفتح الياء، وقرىء بإسكانها والاستثناء مفرغ.(14/332)
وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا (7) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا (8) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا (9) فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا (12) مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا (13) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا (14)(14/333)
وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا (7)
(وإني كلما) دعوتهم إلى سبب المغفرة وهو الإيمان بك والطاعة لك (لتغفر لهم) أي لأجل مغفرتك لهم، أو اللام للتعدية ويكون قد عبر عن السبب بالمسبب، والأصل دعوتهم للتوبة التي هي سبب في الغفران، فأطلق الغفران وأريد به التوبة (جعلوا أصابعهم في آذانهم) لئلا يسمعوا صوتي، وقال ابن عباس لئلا يسمعوا ما يقول.
(واستغشوا ثيابهم) أي غطوا بها وجوههم لئلا يروني، وقيل جعلوا ثيابهم على رؤوسهم لئلا يسمعوا كلامي، فيكون استغشاء الثياب على هذا زيادة في سد الأذان، وقيل هو كناية عن العدواة، يقال لبس فلان ثياب العدواة، وقيل استغشوا ثيابهم لئلا يعرفهم فيدعوهم، وقال ابن عباس: ليتنكروا فلا يعرفهم، وعنه قال: غطوا وجوههم لئلا يروا نوحاً ولا يسمعوا كلامه، وقد أفادت هذه الآية بالتصريح أنهم عصوا نوحاً وخالفوه مخالفة لا أقبح منها ظاهراً بتعطيل الأسماع والأبصار، وباطناً بالإصرار والاستكبار كما قال تعالى (وأصروا) أي استمروا على الكفر ولم يقلعوا عنه ولا تابوا عنه (واستكبروا) عن قبول الحق وعن امتثال ما أمرهم به (استكباراً) شديداً وذكر المصدر دليل على فرط استكبارهم قال ابن عباس: تركوا التوبة.(14/333)
ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا (8)
(ثم إني دعوتهم جهاراً) أي مظهراً لهم الدعوة مجاهراً لهم بها، وانتصاب (جهاراً) على المصدرية لأن الدعاء يكون جهاراً ويكون غير جهار،(14/333)
فالجهار نوع من الدعاء كقولهم قعد القرفصاء، ويجوز أن يكون نعت مصدر محذوف أي دعاء جهاراً، وأن يكون مصدراً في موضع الحال أي مجاهراً أو ذا جهار، أو جعل نفس المصدر مبالغة، ومعنى " ثم " الدلالة على تباعد الأحوال لأن الجهار أغلظ من السر، والجمع بين الأمرين أغلظ من أحدهما، قرأ الجمهور (إني) بسكون الياء وقرىء بفتحها.(14/334)
ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا (9)
(ثم إني أعلنت لهم) أي دعوتهم معلناً لهم بالدعاء (وأسررت لهم) الدعوة (إسراراً) كثيراً قيل المعنى أنه يدعو الرجل بعد الرجل يكلمه سراً فيما بينه وبينه، والمقصود أنه دعاهم على وجوه متخالفة وأساليب متفاوتة، فلم ينجح ذلك فيهم، وهكذا يفعل الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر يبتدىء بالأهون ثم بالأشد فالأشد، قال مجاهد معنى أعلنت صحت، وقيل معنى أسررت أتيتهم في منازلهم فدعوتهم فيها.(14/334)
فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10)
(فقلت استغفروا ربكم)، أي سلوه المغفرة من ذنوبكم السالفة أعيانها وآثارها بإخلاص النية (إنه كان غفاراً) أي كثير المغفرة للمذنبين، وقيل لمعنى توبوا عن الكفر إنه كان غفاراً للتائبين.(14/334)
يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11)
(يرسل السماء عليكم مدراراً) أي يرسل ماء السماء عليكم، ففيه إضمار وقيل المراد بالسماء المطر، والمدرار الدرور، وهو التحلب بالمطر، وانتصابه إما على الحال من السماء ولم يؤنث لأن مفعالا لا يؤنث بل يستوي فيه المذكر والمؤنث، تقول امرأة مئناث ومذكار أو على أنه نعت لمصدر محذوف أي إرسالاً مدراراً، وقد تقدم الكلام عليه في سورة الأنعام، وجزم يرسل لكونه جواب الأمر، وفي هذه الآية دليل " على أن الاستغفار من أعظم أسباب المطر، وحصول أنواع الأرزاق ومن لازم الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً " (1).
_________
(1) قال ابن كثير: أي: إذا تبتم إلى الله واستغفرتموه وأطعتموه، كثر الرزق عليكم، وأسقاكم من بركات السماء، وأنبت لكم من بركات الأرض، وأنبت لكم الزرع، وأدرّ لكم الضرع، وأمدّكم
[ص:335]
بأموال وبنين، أي: أعطاكم الأموال والأولاد، وجعل لكم جنات فيها أنواع الثمار، وخلّلها بالأنهار الجارية بينها. ثم قال: هذا مقام الدعوة بالترغيب، ثم عدل بهم إلى دعوتهم بالترهيب فقال: (ما لكم لا ترجون لله وقاراً)؟.(14/334)
ولهذا قال:(14/335)
وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا (12)
(ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات) أي بساتين الدنيا ليكون مما وعدوا به عاجلاً (ويجعل لكم أنهاراً) جارية، قال عطاء المعنى يكثر أموالكم وأولادكم وكانوا يحبونهما فحركوا بهذا على الإيمان وأعلمهم نوح عليه السلام أن إيمانهم بالله يجمع لهم مع الحظ الوافر في الآخرة الخصب والغنى في الدنيا، وأعاد فعل الجعل ولم يقل وأنهاراً لتغايرهما فإن الأول مما لفعلهم فيه مدخل بخلاف الثاني.
وعن الحسن: أن رجلاً شكا إليه الجدب فقال استغفر الله وشكا إليه آخر الفقر وآخر قلة النسل وآخر قلة ريع أرضه، فأمرهم كلهم بالاستغفار، فقال له الربيع ابن صبيح: أتاك رجال يشكون أبواباً ويسألونك أنواعاً فأمرتهم كلهم بالاستغفار، فتلا هذه الآية ولله دره ما أفقهه، قال القشيري من وقعت له حاجة إلى الله لم يصل إلى مراده إلا بتقديم الاستغفار، وقال الشهاب وليس المراد بالاستغفار مجرد قول استغفر الله بل الرجوع عن الذنوب وتطهير الألسنة والقلوب.(14/335)
مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا (13)
(ما لكم لا ترجون لله وقاراً) أي أيّ عذر لكم في ترك الرجاء، والرجاء هنا الخوف أي ما لكم لا تخافون الله والوقار العظمة من التوقير، وهو التعظيم، والمعنى لا تخافون حق عظمته فتوحدونه وتطيعونه، وقيل المعنى ما لكم لا تؤملون من الله توقيراً لكم بأن تؤمنوا به فتصيروا موقرين عنده، وهذا المعنى هو ما سلكه البيضاوي أولاً، وقال أبو السعود: إنكار لأن يكون لهم سبب ما في عدم رجائهم لله تعالى وقاراً على أن الرجاء بمعنى الاعتقاد انتهى.
وهذا حث على رجاء الوقار لله، والمراد الحث على الإيمان والطاعة(14/335)
الموجبين لرجاء ثواب الله، فهو من الكناية التلويحية لأن من أراد رجاء تعظيم الله، وتوقيره إياه آمن به وعبده وعمل صالحاً ومن عمل الصالحات رجا ثواب الله وتعظيمه إياه في دار الثواب، فإن الحث على تحصيل الرجاء مسبوق بالحث على تحصيل الإيمان. فهو من باب مقدمة الواجب.
قال الكرخي: أي أنكم إذا وقرتم نوحاً وتركتم استخفافه كان ذلك لأجل الله، فما لكم لا ترجون لله وقاراً، وقال سعيد بن جبير وأبو العالية وعطاء بن أبي رباح: ما لكم لا ترجون لله ثواباً ولا تخافون منه عقاباً، وقال مجاهد والضحاك: ما لكم لا تبالون لله عظمة، قال قطرب: هذه لغة حجازية وهذيل وخزاعة ومضر يقولون لم أرج لم أبل، وقال قتادة ما لكم لا ترجون لله عاقبة الإيمان، وقال ابن كيسان ما لكم لا ترجون في عبادة الله وطاعته أن يثيبكم على توقيركم خيراً، وقال ابن زيد: ما لكم لا تؤدون لله طاعة، وقال الحسن: ما لكم لا تعرفون لله حقاً ولا تشكرون له نعمة، وقال ابن عباس: لا تعلمون لله عظمة، وعنه قال: لا تخافون لله عظمة ولا تخشون له عقاباً، ولا ترجون له ثواباً، وعن علي بن أبي طالب أن النبي صلى الله عليه وسلم: " رأى ناساً يغتسلون عراة ليس عليهم أزر فوقف فنادى بأعلى صوته ما لكم لا ترجون لله وقاراً " أخرجه عبد الرزاق في المصنف.(14/336)
وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا (14)
(وقد خلقكم أطواراً) أي والحال أنه سبحانه قد خلقكم على أطوار مختلفة وأحوال منافية لما أنتم عليه بالكلية، فخلقكم تارة عناصر ثم أغذية ثم اخلاطاً ثم نطفاً ثم مضغاً ثم علقاً ثم عظاماً ولحوماً ثم أنشأكم خلقاً آخر، والطور في اللغة المرة، وقال ابن الأنباري: الطور الحال والهيئة وجمعه أطوار، وقيل أطواراً صبياناً ثم شباناً ثم شيوخاً، وقيل الأطوار اختلافهم في الأفعال والأقوال والأخلاق، والمعنى كيف تقصرون في توقير من خلقكم على هذه الأطوار البديعة تارات وكرات، فهذا مما لا يكاد يصدر عن العاقل.(14/336)
أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا (15) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا (16) وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا (17) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا (18) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا (19) لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا (20) قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا (21)
ثم لما نبههم سبحانه وتعالى أولاً على النظر في أنفسهم لأنها أقرب، نبههم ثانياً على النظر في العالم وما سوى فيه من العجائب الدالة على الصانع الحكيم فقال(14/337)
أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا (15)
(أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا) الخطاب لمن يصلح له، والمراد الاستدلال بخلق السموات على كمال قدرته وبديع صنعه، وأنه الحقيق بالعبادة، والطباق المتطابقة بعضها فوق بعض كل سماء طبقة على الأخرى كالقباب من غير مماسة، قال الحسن خلق الله سبع سموات على سبع أرضين بين كل سماء وسماء وأرض وأرض خلق وأمر.
وقد تقدم تحقيق هذا في قوله (ومن الأرض مثلهن) وانتصاب طباقاً على المصدرية تقول طابقه طباقاً ومطابقة أو حال بمعنى ذات طباق فحذف ذات وأقام طباقاً مقامه، وأجاز الفراء في غير القرآن جر طباق على النعت.(14/337)
وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا (16)
(وجعل القمر فيهن نوراً) أي منوراً لوجه الأرض وجعل القمر في السموات مع كونه في سماء الدنيا لأنه إذا كان في إحداهن فهو فيهن كذا قال ابن كيسان وأبو السعود، قال الأخفش: كما تقول أتاني بنو تميم والمراد بعضهم أو لأن كل واحدة منها شفافة لا تحجب ما وراءها فيرى الكل كأنه سماء واحدة، ومن ضرورة ذلك أن يكون ما في كل واحدة منها كأنه في الكل، وقال قطرب " فيهن " بمعنى معهن أي خلق الشمس والقمر مع خلق السموات والأرض، قال ابن عباس: وجهه في السماء إلى العرش وقفاه إلى(14/337)
الأرض وعنه قال خلق فيهن حين خلقهن ضياء لأهل الأرض وليس من ضوئه في السماء شيء.
(وجعل الشمس) فيهن (سراجاً) أي كالمصباح لأهل الأرض ليتوصلوا بذلك إلى التصرف فيما يحتاجون إليه من المعاش، عن ابن عمرو: قال الشمس والقمر وجوههما قبل السماء وأقفيتهما قبل الأرض، وأنا أقرأ بذلك عليكم آية من كتاب الله يعني هذه الآية، وعن ابن عمر قال في الآية تضيء لأهل السموات كما تضيء لأهل الأرض، وعن شهر بن حوشب قال: اجتمع عبد الله بن العاص وكعب الأحبار، وكان بينهما بعض العتب فتعاتبا فذهب ذلك فقال ابن عمرو لكعب سلني عما شئت فلا تسألني عن شيء إلا أخبرتك بتصديق قولي من القرآن، فقال له أرأيت ضوء الشمس والقمر أهو في السموات السبع كما هو في الأرض؟ قال نعم ألم تر إلى قول الله، يعني هذه الآية، قال النسفي: وأجمعوا على أن الشمس في السماء الرابعة وضوءها أقوى من نور القمر، وقيل في الخامسة وقيل في الشتاء في الرابعة وفي الصيف في السابعة (1).
_________
(1) قال ابن جرير الطبري: وقوله: (وجعل القمر فيهن نوراً) يقول: وجعل القمر في السموات السبع نوراً، وجعل الشمس فيهن سراجاً، وقال ابن كثير: المقصود أن الله سبحانه وتعالى: خلق سبع سموات طباقاً، وجعل القمر فيهن نوراً وجعل الشمس سراجاً، أي: فاوت بينهما في الاستنارة، فجعل كلاً منهما أنموذجاً على حدة ليعرف الليل والنهار بمطلع الشصر ومغيبها، وقدَّر للقمر منازل وبروجاً، وفاوت نوره، فتارة يزداد حتى يتناهى، ثم يشرع في النقص حتى يستسر ليدل على مضي الشهور والأعوام، كما قال تعالى (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ). وقال الآلوسي: (وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا) منوِّراً لوجه الأرض في ظلمة الليل، وجعله فيهن مع أنه في إحداهن وهي السماء الدنيا، كما يقال: زيد في بغداد وهو في بقعة منها، والمرجح له الإيجاز والملابسة بالكلية والجزئية وكونها طباقاً شفافة.(14/338)
وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا (17)
(والله أنبتكم من الأرض نباتاً) يعني آدم خلقه الله من أديم الأرض،(14/338)
والمعنى أنشأكم منها إنشاء، فاستعير الإنبات للإنشاء لكونه أدل على الحدوث والتكوين من الأرض، ونباتاً إما مصدر لأنبت على حذف الزوائد ويسمى اسم مصدر، ويجوز أن يكون مصدراً لنبتم مقدراً أي أنبتكم فنبتم نباتاً فيكون منصوباً بالمطاوع المقدر. وقال الخليل والزجاج: هو مصدر محمول على المعنى لأن معنى أنبتكم جعلكم تنبتون نباتاً، وقيل المعنى والله أنبت لكم من الأرض النبات، فنباتاً على هذا مفعول به، قال ابن بحر: أنبتهم في الأرض بالكبر بعد الصغر وبالطول بعد القصر.(14/339)
ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا (18)
(ثم يعيدكم) في الأرض بعد الموت مقبورين (فيها ويخرجكم) منها بالبعث يوم القيامة (إخراجاً) حقاً لا محالة.(14/339)
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا (19)
(والله جعل لكم الأرض بساطاً) أي فرشها وبسطها لكم تتقلبون عليها تقلبكم على بسطكم في بيوتكم، ولم يجعلها مسنمة(14/339)
لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا (20)
(لتسلكوا منها سبلاً فجاجاً) أي طرقاً واسعة، وقال ابن عباس طرقاً مختلفة، والفجاج جمع فج وهو الطريق الواسع، كذا قال الفراء وغيره، وقيل هو المسلك بين الجبلين، وقد مضى تحقيق هذا في سورة الأنبياء وفي سورة الحج مستوفى، وفي الأنبياء تقديم الفجاج فقال فجاجاً سبلاً لتناسب الفواصل هنا.(14/339)
قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا (21)
(قال نوح) بعد يأسه من إيمانهم (رب إنهم عصوني) أي كلهم استمروا على عصياني ولم يجيبوا دعوتي، شكاهم إلى الله عز وجل وأخبره بأنهم عصوه ولم يتبعوه وهو أعلم بذلك (واتبعوا من لم يزده ماله وولده إلا خساراً) أي أتبع الأصاغر رؤساءهم وأهل الثروة منهم الذين لم تزدهم كثرة المال والولد إلا ضلالاً وطغياناً وكفراً في الدنيا، وعقوبة في الآخرة، واستمروا على اتباعهم لا أنهم أحدثوا الاتباع، قرىء ولده بفتح الواو واللام، وبضم الواو وسكون اللام، هما سبعيتان وبفتح الأول وسكون الثاني، وهي لغة في الولد، ويجوز أن يكون جمعاً وقد تقدم تحقيقه.(14/339)
وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا (22) وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا (23) وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا (24) مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا (25) وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (26) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا (27) رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا (28)(14/340)
وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا (22)
(ومكروا) أي الرؤساء (مكراً كباراً) قرأ الجمهور بالتشديد أي كبيراً عظيماً جداً، يقال كبير وكبار وكبار مثل عجيب وعجاب وعجاب، وحميل وحمال وحمال، قال المبرد: كباراً بالتشديد للمبالغة ومثل كبار قراء لكثير القراءة، وقرىء بالضم والتخفيف وهو بناء مبالغة أيضاًً دون الأول، وقرىء بكسر الكاف وتخفيف الباء، قال أبو بكر: هو جمع كبير كأنه جعل مكراً مكان ذنوب أو أفاعيل فلذلك وصفه بالجمع، وقال عيسى بن عمر هي لغة يمانية، قيل جمع الضمير حملاً على معنى من بعد حمله على لفظها في قوله (من لم يزده ماله وولده) قاله السمين.
واختلف في مكرهم هذا ما هو فقيل هو تحريشهم سفلتهم على قتل نوح وأذاه وصد الناس عن الإيمان به والميل إليه، والاستماع منه، وقيل هو تغريرهم على الناس بما أوتوا من المال والولد حتى قلل الضعفة لولا أنهم على الحق لما أوتوا هذه النعم، وقال الكلبي: هو ما جعلوه لله من الصاحبة والولد، وقال مقاتل: هو قول كبرائهم لأتباعهم (لا تذرن آلهتكم) وقيل مكرهم كفرهم وقيل: افتروا على الله الكذب وكذبوا رسله.(14/340)
وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا (23)
(وقالوا لا تذرن آلهتكم) أي لا تتركوا عبادة آلهتكم وهي الأصنام(14/340)
والصور التي كانت لهم ثم عبدتها العرب من بعدهم، وبهذا قال الجمهور (ولا تذرن وداً ولا سواعاً ولا يغوث ويعوق ونسراً) أي لا تتركوا عبادة هذه الأوثان.
قال محمد بن كعب: هذه أسماء قوم صالحين كانوا بين آدم ونوح، فنشأ بعدهم قوم يقتدون بهم في العبادة. فقال لهم إبليس لو صورتم صورهم كان أنشط لكم وأشوق إلى العبادة ففعلوا، ثم نشأ قوم من بعدهم فقال لهم إبليس إن الذين من قبلكم كانوا يعبدونهم فاعبدوهم، فابتداء عبادة الأوثان كان من ذلك الوقت، وسميت هذه الصور بهذه الأسماء لأنهم صوروها على صور أولئك القوم.
وقال عروة بن الزبير وغيره إن هذه كانت أسماء أولاد آدم وكان ود أكبرهم، وكانوا عباداً فمات رجل منهم فحزنوا عليه، فقال الشيطان أنا أصور لكم مثله إذا نظرتم إليه ذكرتموه، قالوا افعل فصوره في المسجد من صفر ورصاص، ثم مات آخر فصوره حتى ماتوا كلهم وصورهم، فلما تقدم الزمان تركت الناس عبادة الله فقال لهم الشيطان ما لكم لا تعبدون شيئاًً قالوا وما نعبد، قال آلهتكم وآلهة آبائكم، ألا ترون أنها في مصلاكم فعبدوها من دون الله حتى بعث الله نوحاً عليه السلام فقالوا (لا تذرن آلهتكم) الآية.
قال الماوردي: فأما ود فهو أول صنم معبود سمي وداً لودهم له وكان بعد قوم نوح لكلب بدومة الجندل، في قول ابن عباس وعطاء ومقاتل، وفيه يقول شاعرهم:
حياك ود فإنا لا يحل لنا ... لهو النساء وإن الدين قد غربا
وأما سواع فكان لهذيل بساحل البحر، وأما يغوث فكان لغطيف من مراد بالجرف من سبأ في قول قتادة، وقال المهدوي: لمراد ثم لغطفان، وأما يعوق فكان لهمدان في قول قتادة وعكرمة وعطاء، وقال الثعلبي: كان لكهلان بن سبأ ثم توارثوه حتى صار في همدان وفيه يقول مالك بن نمط الهمداني.(14/341)
يريش الله في الدنيا ويبري ... ولا يبري يعوق ولا يريش
وأما نسر فكان بذي الكلاع من حمير في قول قتادة ومقاتل، قال ابن عباس هذه الأصنام كانت تعبد في زمن نوح، قال الواقدي كان ود على صورة رجل، وسواع على صورة امرأة، ويغوث على صورة أسد، ويعوق على صورة فرس، ونسر على صورة النسر الطائر.
قال البقاعي: ولا يعارض هذا أنهم صور لناس صالحين لأن تصويرهم لهم يمكن أن يكون منتزعاً من معانيهم، فكان ود كاملاً في الرجولية، وكان سواع امرأة كاملة في العبادة، وكان يغوث شجاعاً وكان يعوق سابقاً قوياً وكان نسر عظيماً طويل العمر، ومثله في القرطبي.
وأخرج البخاري وابن المنذر، وابن مردويه عن ابن عباس قال: " صارت الأوثان التي كانت تعبد في قوم نوح في العرب. أما ود فكانت لكلب بدومة الجندل، وأما سواع فكانت لهذيل وأما يغوث فكانت لمراد ثم لبني غطيف، وأما يعوق فكانت لهمدان، وأما نسر فكانت لحمير لآل ذي الكلاع، أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن أنصبوا إلى مجلسهم الذي كانوا يجلسون فيه أنصاباً وسموها بأسمائهم ففعلوا فلم تعبد حتى هلك أولئك ونسخ العلم فعبدت ".
وفي الصحيحين من حديث عائشة أن أم حبيبة وأم سلمة " ذكرتا لرسول الله صلى الله عليه وسلم كنيسة رأيتاها بأرض الحبشة تسمى مارية فيها تصاوير فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن أولئك كان إذا مات الرجل الصالح منهم بنوا على قبره مسجداً ثم صوروا فيه تلك الصور، أولئك شر الخلق عند الله يوم القيامة " قرأ الجمهور وداً بفتح الواو، وقرىء بضمها، قال الليث: ود بضم الواو صنم لقريش، وبفتحها صنم كان لقوم نوح وبه سمي عمرو بن ود قال في الصحاح: والود بالفتح الوتد في لغة أهل نجد كأنهم سكنوا التاء وأدغموها في الدال، وقرأ الجمهور يغوث ويعوق بغير تنوين، فإن كانا عربيين فالمنع من الصرف للعلمية ووزن الفعل، وإن كانا أعجميين(14/342)
فللعجمة والعلمية، وقرىء يغوثاً ويعوقاً بالنصب مصروفين لأمرين (أحدهما) أنه صرفهما للتناسب إذ قبلهما اسمان منصرفان وبعدهما اسم منصرف كما صرف سلاسل (والثاني) أنه جاء على لغة من يصرف غير المنصرف مطلقاً، وهي لغة حكاها الكسائي ذكره السمين. وقال ابن عطية وذلك وهم، ووجه تخصيص هذه الأصنام بالذكر مع دخولها تحت الآلهة أنها كانت أكبر أصنامهم وأعظمها، ولم يذكر النفي مع يعوق ونسرا لكثرة التكرار وعدم اللبس.(14/343)
وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا (24)
(وقد أضلوا كثيراً) أي وقال نوح قد أضل كبراؤهم ورؤساؤهم كثيراً من الناس، وقيل الضمير راجع إلى الأصنام أي ضل بسببها كثير من الناس كقول إبراهيم (رب إنهن أضللن كثيراً من الناس) وأجرى عليهم صيغة من يعقل لاعتقاد الكفار الذين يعبدونها أنها تعقل.
(ولا تزد الظالمين إلا ضلالاً) معطوف على (رب إنهم عصوني) ووضع الظاهر موضع المضمر تسجيلاً عليهم بالظلم، وقال أبو حيان: إنه معطوف على قد أضلوا ومعنى (إلا ضلالاً) إلا عذاباً كذا قال ابن بحر واستدل على ذلك بقوله (إن المجرمين في ضلال وسعر) وقيل إلا خسراناً، وقيل إلا فتنة بالمال والولد، وقيل الضياع وقيل ضلالاً في مكرهم، وهذا دعاء عليهم من نوح بعد أن أعلمه الله أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن.(14/343)
مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا (25)
(مما) ما مزيدة للتأكيد والمعنى من (خطيئاتهم) قرأ الجمهور على جمع السلامة وهي سبعية وقرىء خطاياهم على جمع التكسير وخطيئتهم على الإفراد والمعنى من أجلها وبسببها (أغرقوا) بالطوفان قرأ الجمهور من أغرق وقرىء غرقوا بالتشديد.
(فأدخلوا) عقب الإغراق (ناراً) وهي نار الآخرة، وهذا من التعبير عن المستقبل بالماضي لتحقق وقوعه نحو (أتى أمر الله) وقيل عذاب القبر، وعلى هذا هو على بابه كقوله في آل فرعون (النار يعرضون عليها غدواً وعشياً) (فلم يجدوا لهم من دون الله أنصاراً) أي لم يجدوا أحداً يمنعهم من عذاب الله ويدفعه عنهم.(14/343)
وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (26)
(وقال نوح رب لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً) يعني لما أيس نوح عليه السلام من إيمانهم وإقلاعهم عن الكفر، دعا عليهم بالهلاك، قال قتادة دعا عليهم بعد أن أوحى إليه أنه (لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن) فأجاب الله دعوته وأغرقهم، وقال محمد بن كعب ومقاتل والربيع بن أنس وابن زيد وعطيه: إنما قال هذا حين أخرج الله كل مؤمن من أصلابهم وأرحام نسائهم، وأعقم أرحام النساء وأصلاب الآباء قبل العذاب بسبعين سنة، وقيل بأربعين، قال قتادة: لم يكن فيهم صبي وقت العذاب وقال الحسن وأبو العالية: لو أهلك الله أطفالهم معهم كان عذاباً من الله وعدلاً فيهم، ولكن أهلك ذريتهم وأطفالهم بغير عذاب ثم أهلكهم بالعذاب.
ومعنى (ديّاراً) من يسكن الديار ويدور في الأرض وأصله ديوار على فيعال من دار يدور فقلبت الواو ياء وأدغمت إحداهما في الأخرى مثل القيام أصله قيوام، وقال القتيبي أصله من الدار أي نازل بالدار يقال ما بالدار ديار وديور أي أحد كقيام وقيوم، وهو من الأسماء المستعملة في النفي العام، وقيل الديار صاحب الديار، والمعنى لا تدع أحداً منهم إلا أهلكته، وقيل هو مأخوذ من الدوران وهو التحرك.
قال سليمان الجمل: انظر ما الحكمة في تأخيره عن قوله (مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا) مع أن مقتضى الظاهر تقديمه عليه لكونه سبباً لإغراقهم، تأمل، ثم رأيت، أبا السعود: قال هذا عطف على نظيره السابق وقوله (مما خطيئاتهم) اعتراض وسط بين دعائه عليه السلام للإيذان من أول الأمر بأن ما أصابهم من الإغراق والإحراق لم يصبهم إلا لأجل خطاياهم التي عددها نوح، وإشارة إلا أن استحقاقهم للإهلاك لأجلها أهـ كلام الجمل.(14/344)
إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا (27)
(إنك إن تذرهم) أي إن تركتهم على الأرض (يضلوا عبادك) عن طريق الحق (ولا يلدوا إلا فاجراً) بترك طاعتك (كفّاراً) لنعمتك أي كثير الكفران لها، والمعنى إلا من سيفجر ويكفر، ففي الكلام مجاز الأول لأنهم لم يفجروا وقت الولاده بل بعدها بزمان طويل، وقال عليه السلام هذا القول(14/344)
لعلمه بالتجربة من أحوالهم أن أولادهم يكونون مثلهم.
ثم لما دعا على الكافرين أتبعه بالدعاء لنفسه ووالديه وللمؤمنين فقال(14/345)
رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا (28)
(رب اغفر لي ولوالدي) قرأ العامة بكسر اللام وفتح الدال على أنه تثنية والد، يريد أبويه وكانا مؤمنين وأبوه لامك أو لمك بفتحتين أو بفتح فسكون ابن متوشلخ بن أخنوخ وهو إدريس (1)، وأمه شمخابوزن سكرى بنت أنوش.
وقيل أراد آدم وحواء والأول أولى، وقال سعيد بن جبير أراد بوالديه أباه وجده وقرىء ولولدي بكسر الدال على الإفراد وعلى التثنية يعني ابنيه ساماً وحاماً، وقرىء ولوالدي بكسر الدال يعني أباه فيجوز أن يكون أراد أباه الأقرب الذي ولده، وخصه بالذكر لأنه أشرف من الأم، وأن يريد جميع من ولده من لدن آدم إلى من ولده ".
(ولمن دخل بيتي) قال الضحاك والكلبي يعني مسجده وقيل منزله الذي هو ساكن فيه وقيل سفينته وقيل لمن دخل في دينه، وانتصاب (مؤمناً) على الحال أي لمن دخل بيتي متصفاً بصفة الإيمان فيخرج من دخله غير متصف بهذه الصفة كامرأته وولده الذي قال (سآوي إلى جبل يعصمني من الماء) ثم عمم الدعوة فقال:
(وللمؤمنين والمؤمنات) أي واغفر لكل متصف بالإيمان من الذكور والإناث، ثم عاد إلى الدعاء على الكافرين فقال: (ولا تزد الظالمين إلا تباراً) مفعول ثان والاستثناء مفرغ أي لا تزد المتصفين بالظلم إلا هلاكاً وخسراناً ودماراً فأهلكوا وغرق معهم صبيانهم أيضاًً لكن لا على وجه العقاب لهم بل لتشديد عذاب آبائهم وأمهاتهم بإراءة هلاك أطفالهم الذين كانوا أعز عليهم من أنفسهم.
وفي الحديث " يهلكون مهلكاً واحداً ويصدرون مصادر شتى " وعن الحسن أنه سئل عن ذلك فقال علم الله براءتهم فأهلكهم بغير عذاب، وقد يشمل دعاؤه هذا كل ظالم إلى يوم القيامة كما شمل دعاؤه للمؤمنين والمؤمنات كل مؤمن ومؤمنة إلى يوم القيامة.
_________
(1) نرى اختلافاً في اسم نوح عليه السلام انظر ما ذكره المؤلف في أول تفسيره للسورة ولا أرى لهذا سبباً.(14/345)
سورة الجن
ثمان وعشرون آية وهي مكية قال القرطبي في قول الجميع، عن ابن عباس قال نزلت بمكة وعن عائشة وابن الزبير مثله وتسمى سورة قل أوحي.(14/347)
بسم الله الرحمن الرحيم
قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا (2)(14/349)
قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (1)
(قل) يا محمد للناس (أوحي إليّ) ليعرفوا بذلك وأنك مبعوث إلى الجن كالإنس، ولتعلم قريش أن الجن مع تمردهم لما سمعوا القرآن وعرفوا إعجازه آمنوا قرأ الجمهور أوحي رباعياً وقرىء وحي ثلاثياً وهما لغتان، والمعنى أخبرت بالوحي من الله.
(أنه استمع نفر من الجن) واختلف هل رآهم النبي صلى الله عليه وسلم أم لم يرهم، فظاهر القرآن أنه لم يرهم لأن المعنى قل يا محمد لأمتك أوحي إليّ على لسان جبريل أنه استمع نفر من الجن، ومثله قوله (وإذ صرفنا إليك نفراً من الجن يستمعون القرآن).
ويؤيد هذا ما ثبت في الصحيح قال " ما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم على الجن وما رآهم "، وروى ابن مسعود أنه رآهم، ورجحه العلماء والحق صحتهما وإن الأول وقع أولا ثم نزلت السورة، ثم أمر بالخروج إليهم، قال عكرمة والسورة التي كان يقرؤها رسول الله صلى الله عليه وسلم هي (اقرأ باسم ربك الذين خلق) وقد تقدم في سورة الأحقاف ذكر ما يفيد زيادة في هذا.
والنفر اسم للجماعة ما بين الثلاثة إلى العشرة، قال البغوي كانوا تسعة وقيل سبعة وقد اختلف الناس قديماً وحديثاً في ثبوت وجود الجن فأنكر(14/349)
وجودهم معظم الفلاسفة، واعترف به جمع منهم وسموهم بالأرواح السفلية، وزعموا أنهم أسرع إجابة من الأرواح الفلكية إلا أنهم أضعف.
وأما جمهور أرباب الملل وهم أتباع الرسل والشرائع فقد اعترفوا بوجودهم، لكن اختلفوا في ماهيتهم وقد نطق الكتاب العزيز والسنة المطهرة بوجودهم فلا اعتداد بمنكريهم، وإذا جاء نهر الله بطل نهر معقل، قال الضحاك: والجن ولد الجان وليسوا بشياطين، وقال الحسن: إنهم ولد إبليس وقيل هم أجسام عاقلة خفية تغلب عليهم النارية والهوائية، وقيل نوع من الأرواح المجردة وقيل هي النفوس البشرية المفارقة لأبدانها.
وقد اختلف أهل العلم في دخول مؤمني الجن الجنة كما تدخل عصاتهم النار لقوله في سورة تبارك (وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ) وقول الجن فيما سيأتي في هذه السورة (وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا) وغير ذلك من الآيات، فقال الحسن: يدخلون الجنة وقال مجاهد: لا يدخلونها وإن صرفوا عن النار والأول أولى لقوله في سورة الرحمن.
(لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان) وفي سورة الرحمن آيات غير هذه تدل على ذلك فراجعها، وقد قدمنا أن الحق أنه لم يرسل الله إليهم رسلاً منهم بل الرسل جميعاً من الإنس، وإن أشعر قوله (قد أرسلنا إليكم رسلاً منكم) بخلاف هذا فهو مدفوع الظاهر بآيات كثيرة في الكتاب العزيز دالة على أن الله سبحانه لم يرسل الرسل إلا من بني آدم، وهذه الأبحاث الكلام فيها يطول، والمراد الإشارة بأخصر عبارة، قال ابن مسعود في الآية: كانوا من جن نصيبين.
وقد أخرج أحمد والبخاري ومسلم والترمذي وغيرهم عن ابن عباس " قال انطلق النبي صلى الله عليه وسلم في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء وأرسلت عليهم الشهب فرجعت الشياطين إلى قومهم فقالوا ما لكم، فقيل حيل بيننا وبين خبر السماء(14/350)
وأرسلت علينا الشهب، قالوا ما حال بينكم وبين خبر السماء إلا شيء حدث فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها لتعرفوا ما هذا الأمر الذي حال بينكم وبين خبر السماء، فانصرف أولئك الذين توجهوا نحو تهامة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو بنخلة عامدين إلى سوق عكاظ وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر، فلما سمعوا القرآن استمعوا له قالوا هذا والله الذي حال بينكم وبين خبر السماء، فهناك رجعوا إلى قومهم فقالوا يا قومنا (إنا سمعنا قرآنا عجباً يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحداً) فأنزل الله على نبيه صلى الله عليه وسلم (قل أوحي إليّ أنه استمع نفر من الجن) وإنما أوحي إليه قول الحق.
(فقالوا) لقومهم لما رجعوا إليهم (إنا سمعنا قرآناً) أي كلاما مقروءاً (عجباً) في فصاحته وبلاغته وغزارة معانيه وغير ذلك، وقيل عجباً في مواعظه، وقيل في بركته، وعجباً مصدر وصف به للمبالغة أو على حذف المضاف أي ذا عجب أو المصدر بمعنى اسم الفاعل أي معجباً.(14/351)
يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا (2)
(يهدي إلى الرشد) أي إلى مراشد الأمور، وهي الحق والصواب والإيمان، وقيل إلى معرفة الله والتوحيد، والجملة صفة أخرى للقرآن (فآمنا به) أي صدقنا بأنه من عند الله (ولن نشرك) بعد اليوم (بربنا أحداً) من خلقه ولا نتخذ معه إلهاً آخر لأنه المتفرد بالربوبية، وفيه دليل على أن أولئك النفر كانوا مشركين قيل كانوا يهوداً وقيل كانوا نصارى وقيل مجوساً ومشركين.
وفي هذا توبيخ للكفار من بني آدم حيث آمنت الجن بسماع القرآن مرة واحدة وانتفعوا بسماع آيات يسيرة منه، وأدركوا بعقولهم أنه كلام الله وآمنوا به، ولم ينتفع كفار الإنس لا سيما رؤساؤهم وعظماؤهم بسماعه مراراً متعددة، وتلاوته عليهم في أوقات مختلفة، مع كون الرسول منهم يتلوه عليهم بلسانهم، لا جرم صرعهم الله أذل مصرع وقتلهم أقبح مقتل ولعذاب الآخرة أشد لو كانوا يعلمون.(14/351)
وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا (3) وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا (4) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (5) وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا (6) وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا (7)(14/352)
وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا (3)
(وأنه تعالى جد ربنا) قرىء بفتح أن وكذا فيما بعدها وذلك أحد عشر موضعاً إلى قوله (وأنه لما قام عبد الله) وقرىء بالكسر في هذه المواضع كلها إلا في قوله (وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ) فإنهم اتفقوا على الفتح، أما من قرأ بالفتح في هذه المواضع فعلى العطف على محل الجار والمجرور في (فآمنا به) كأنه قيل فصدقناه وصدقنا أنه تعالى جد ربنا الخ.
وأما من قرأ بالكسر في هذه المواضع فعلى العطف على (إنا سمعنا) أي (فقالوا إنا سمعنا قرآنا) وقالوا (إنه تعالى جد ربنا) الخ: واختار أبو حاتم وأبو عبيدة قراءة الكسر لأنه كله من كلام الجن. ومما هو محكي عنهم بقوله (فقالوا إنا سمعنا).
وقرىء بالفتح في ثلاثة مواضع وهي (وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا)،(14/352)
وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا (4)
(وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا)، (وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ) لأنه من الوحي وكسر ما بقي لأنه من كلام الجن، وقرأ الجمهور (وأنه لما قام عبد الله) بالفتح لأنه معطوف على قوله أنه استمع. وقرىء بالكسر في هذا الموضع عطفاً على (فآمنا به) بذلك التقدير السابق.
واتفقوا على الفتح في (أنه استمع) كما اتفقوا على الفتح في (أن المساجد) وفي (وأن لو استقاموا) واتفقوا على الكسر في (فقالوا إنا سمعنا) وقال إنما أدعو ربي وقل إن أدري وقل إني لا أملك لكم.
والجد عن أهل اللغة العظمة والجلال، يقال جد في عيني أي أعظم، فالمعنى ارتفع عظمة ربنا وجلاله، وبه قال عكرمة ومجاهد وقال الحسن: المراد(14/352)
تعالى غناؤه ومنه قيل للحظ جد ورجل مجدود أي محظوظ، وفي الحديث " ولا ينفع ذا الجد منك الجد " قال أبو عبيد والخليل أنه لا ينفع ذا الغنى منك الغنى، أي وإنما ينفعه الطاعة، وقال القرطبي والضحاك: جده آلاؤه وعظمته وأمره وقدرته، وقال أبو عبيدة والأخفش: ملكه وسلطانه وقال السدي: أمره وقال سعيد بن جبير.
(وأنه تعالى جد ربنا) أي تعالى ربنا وقيل جده قدرته، وقال محمد بن علي بن الحسن وابنه جعفر الصادق والربيع بن أنس: ليس لله جد، وإنما قالته الجن للجهالة، والجد أيضاًً أبو الأب قرأ الجمهور جد بفتح الجيم وقرىء بكسرها وهو ضد الهزل. وقرىء جدي ربنا أي جدواه ومنفعته وقرىء بتنوين جد ورفع ربنا على أنه بدل من جد.
(ما اتخذ صاحبة ولا ولداً) هذا بيان لتعالى جده سبحانه قال الزجاج: تعالى جلال ربنا وعظمته عن أن يتخذ صاحبة أو ولداً لأن الصاحبة تتخذ للحاجة والولد للاستئناس به، والله تعالى منزه عن كل نقص، وكأن الجن نبهوا بهذا على خطأ الكفار الذين ينسبون إلى الله الصاحبة والولد، ونزهوا الله سبحانه عنهما.
(وأنه كان يقول سفيهنا) أي جاهلنا (على الله شططاً) أي غلواً في الكذب بوصفه بالصاحبة والولد، والضمير في " أنه " للحديث أو الأمر وسفيهنا يجوز أن يكون اسم كان ويقول الخبر، ويجوز أن يكون سفيهنا فاعل يقول، والجملة خبر كان واسمها ضمير يرجع إلى الحديث أو الأمر، ويجوز أن تكون كان زائدة، ومرادهم بسفيههم عصاتهم ومشركوهم.
وقال مجاهد وابن جريج وقتادة: أرادوا به إبليس، عن أبي موسى الأشعري مرفوعاً " قال إبليس "، أخرجه ابن مردويه والديلمي قال السيوطي بسند واه، والشطط الغلو في الغمر، وقال أبو مالك الجور وقال الكلبي الكذب، وأصله البعد عن القصد ومجاوزة الحد.(14/353)
وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (5)
(وأنا ظننا أن لن تقول الإنس والجن على الله كذباً) أي إنا حسبنا أن(14/353)
الإنس والجن كانوا لا يكذبون على الله بأن له شريكاً وصاحبة وولداً، فلذلك صدقناهم في ذلك حتى سمعنا القرآن فعلمنا بطلان قولهم، وبطلان ما كنا نظنه بهم من الصدق، وانتصاب كذباً على أنه مصدر مؤكد ليقول، لأن الكذب نوع من القول أو صفة لمصدر محذوف أي قولاً كذباً، وقرىء أن لن تقول من التقول فعلى هذا كذباً مفعول به.(14/354)
وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا (6)
(وأنه كان رجال) في الجاهلية (من الإنس يعوذون) أي يستعيذون (برجال من الجن) حين ينزلون في سفرهم بمخوف، قال الحسن وابن زيد وغيرهما: كان العرب إذا نزل الرجل بواد قال أعوذ بسيد هذا الوادي من شر سفهاء قومه، فيبيت في جواره حتى يصبح، فنزلت هذه الآية، قال مقاتل: كان أول من تعوذ بالجن قوم من أهل اليمن ثم من بني حنيفة ثم فشا ذلك في العرب، فلما جاء الإسلام عاذوا بالله وتركوهم.
وعن عكرمة بن أبي السائب الأنصاري " قال خرجت مع أبي إلى المدينة في حاجة وذلك أول ما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة فآوانا المبيت إلى راعي غنم، فلما انتصف الليل جاء ذئب فأخذ حملاً من الغنم فوثب الراعي فقال يا عامر الوادي أنا جارك، فنادى مناد يا سرحان أرسله فأتى الحمل يشتد حتى دخل في الغنم، وأنزل الله على رسوله بمكة (وأنه كان رجال) الآية وذكر ابن الجوزي في تفسيره بغير سند. (1)
_________
(1) ذكر هذا الحديث ابن كثير في التفسير من رواية ابن أبي حاتم، وفي سنده عبد الرحمن بن إسحاق الكوفي، وهو ضعيف، وذكره الهيثمي في " مجمع الزوائد " 7/ 129 وقال: رواه الطبراني، وفيه عبد الرحمن بن إسحاق الكوفي، وهو ضعيف، قال الحافظ ابن حجر في " الإصابة " في ترجمة " كردم بن أبي السائب " بعد ما ساق حديثه هذا من رواية العقيلي من طريق عبد الرحمن بن إسحاق عن أبيه عن كردم بن أبي السائب: وأخرجه ابن مردويه في " التفسير " من هذا الوجه، وأخرج له شاهداً من حديث معاوية بن قرة عن أبيه. وأورده السيوطي في " الدر " 6/ 271 وزاد نسبته لابن المنذر، وأبي الشيخ في " العظمة " وبأن عساكر عن كدرم بن أبي السائب الأنصاري رضي الله عنه. قال ابن كثير: وروي عن عبيد بن عمير، ومجاهد، وأبي العالية، والحسن، وسعيد بن جبير، وإبراهيم النخعي نحوه، ثم قال: وقد يكون هذا الذئب الذي أخذ الحمل وهو ولد الشاة، كان جنياً حتى يرهب الإنسي ويخاف منه، ثم ردَّه عليه لما استجار به ليضله ويخرجه عن دينه، والله أعلم. اهـ.(14/354)
(فزادوهم) أي زاد رجال الجن من يعوذ بهم من رجال الإنس، أو زاد المستعيذون من رجال الإنس من استعاذوا بهم من رجال الجن (رهقاً) لأن المستعاذ بهم كانوا يقولون سدنا الجن والإنس، وبالأول قال مجاهد وقتادة وبالثاني قال أبو العالية وقتادة والربيع بن أنس وابن زيد.
والرهق في كلام العرب الإثم وغشيان المحارم، ورجل رهق إذا كان كذلك، ومنه قوله (ترهقهم ذلة) أي تغشاهم وقيل الرهق الخوف أي أن الجن زادت الإنس بهذا التعوذ بهم خوفاً منهم، وقيل كان الرجل من الإنس يقول أعوذ بفلان من سادات العرب من جن هذا الوادي.
ويؤيد هذا ما قيل من أن لفظ رجال لا يطلق على الجن فيكون قوله برجال وصفاً لمن يستعيذون به من رجال الإنس أي يعوذون بهم من شر الجن، وهذا فيه بعد، وإطلاق لفظ رجال على الجن على تسليم عدم صحته لغة لا مانع من إطلاقه عليهم هنا من باب المشاكلة، قال ابن عباس: كان القوم في الجاهلية إذا نزلوا بالوادي قالوا نعوذ بسيد هذا الوادي من شر ما فيه، فلا يكون شيء أشد ولعاً منهم بهم، فذلك قوله: (فزادهم رهقاً).(14/355)
وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا (7)
(وأنهم ظنوا كما ظننتم أن لن يبعث الله أحداً) أي وأن الجن ظنوا كما ظننتم أيها الناس أنه لا بعث بعد الموت، فتكون هذه الآية وما قبلها من جملة الكلام الموحى به، وقيل المعنى: وأن الإنس ظنوا كما ظننتم أيها الجن. على أنه كلام بعض الجن لبعض، والمعنى أنهم لا يؤمنون بالبعث كما أنكم لا تؤمنون به. وهذان القولان من كلام الله تعالى معترضان في خلال كلام الجن المحكي عنهم عند بعض المفسرين. وعند بعضهم هما من جملة كلام الجن، وعليه فلا اعتراضم، في الكلام، تأمل.(14/355)
وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا (8) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا (9) وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا (10) وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا (11) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَبًا (12) وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا (13) وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا (14)(14/356)
وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا (8)
(وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ) هذا من قول الجن أيضاًً أي طلبنا خبرها كما جرت به عادتنا، واللمس المس فاستعير للطلب لأن الماس طالب متعرف (فوجدناها ملئت حرساً شديداً) أي جمعاً أقوياء من الملائكة يحرسونها عن استراق السمع، والحرس جمع حارس وهو الرقيب، والمصدر الحراسة، وقيل إسم مفرد في معنى الحراس كالخدم في معنى الخدام، ولذا وصف بشديد، ولو نظر إلى معناه لقيل شداداً، وشهباً جمع شهاب وهو الشعلة المقتبسة من نار الكوكب. كما تقدم بيانه في تفسير قوله: (وجعلناها رجوماً للشياطين).(14/356)
وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا (9)
(وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع) أي وإنا كنا معشر الجن قبل هذا نقعد من السماء مواضع نقعد في مثلها لاستماع الأخبار من السماء؛ وللسمع متعلق بنقعد أي لأجل السمع أو بمضمر هو صفة لمقاعد أي مقاعد كائنة للسمع، والمقاعد جمع مقعد إسم مكان وذلك أن مردة الجن كانوا يفعلون ذلك ليسمعوا من الملائكة أخبار السماء فيلقونها إلى الكهنة، فحرسها الله سبحانه ببعثة رسوله صلى الله عليه وسلم بالشهب المحرقة.
عن ابن عباس قال: " كانت الشياطين لهم مقاعد في السماء يسمعون فيها الوحي فإذا سمعوا الكلمة زادوا فيها تسعاً فأما الكلمة فتكون حقاً. وأما ما زادوا فيكون باطلاً فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم منعوا(14/356)
مقاعدهم، فذكروا ذلك لإبليس، ولم تكن النجوم يرمى بها قبل ذلك فقال لهم ما هذا إلا من أمر قد حدث في الأرض، فبعث جنوده فوجدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائماً يصلي بين جبلين بمكة، فأتوه فأخبروه فقال هذا الحدث الذي حدث في الأرض " أخرجه أحمد والترمذي وصححه النسائي وغيرهم.
(فمن يستمع الآن يجد له شهاباً رصداً) أي أرصد له ليرمي به أو لأجله لمنعه من الاستماع، وقوله (الآن) هو ظرف للحال واستعير هنا للاستقبال لأنهم لا يريدون به وقت قولهم فقط، وانتصاب رصداً على أنه صفة لشهاباً أو مفعول له وهو مفرد، ويجوز أن يكون اسم جمع كالحرس.
وقد اختلف أهل العلم هل كانت الشياطين ترمى بالشهب وتقذف قبل المبعث أم لا؟ فقال قوم لم يكن ذلك وحكى الواحدي عن معمر قال قلت للزهري؟ أكان يرمى بالنجوم في الجاهلية؟ قال نعم قلت أفرأيت قوله (وأنا كنا نقعد منها) الآية؟ قال غلظ وشدد أمرها حين بعث محمد صلى الله عليه وسلم، قال ابن قتيبة: إن الرجم قد كان قبل مبعثه ولكنه لم يكن مثله في شدة الحراسة بعد مبعثه، وكانوا يسترقوق السمع في بعض الأحوال، فلما بعث منعوا من ذلك أصلاً.
وقال عبد الملك بن سابور: ولم تكن السماء تحرس في الفترة بين عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام: فلما بعث محمد صلى الله عليه وآله وسلم حرست السماء ورميت الشياطين بالشهب، ومنعت من الدنو إلى السماء، وقال نافع بن جبير: كانت الشياطين في الفترة تسمع فلا ترمى، فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وآله رميت بالشهب، قال الزمخشري: والصحيح أنه كان قبل البعث، فلما بعث صلى الله عليه وسلم كثر الرجم وازداد زيادة ظاهرة حتى تنبه لها الإنس والجن ومنع الاستراق أصلاً؛ وقد تقدم البحث عن هذا.(14/357)
وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا (10)
(وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض) بسبب هذه الحراسة(14/357)
للسماء. وارتفاع الشر على الاشتغال أو على الابتداء وخبره ما بعده. والأول أولى لتقدم طالب الفعل على الاشتغال أو على الابتداء وخبره ما بعده. والأول (أم أراد بهم ربهم رشداً) أي خيراً: قال ابن زيد قال إبليس لا ندري أأراد الله بهذا المنع أن ينزل على أهل الأرض عذاباً أو يرسل إليهم رسولاً؟ والجملة سادة مسد مفعولي ندري، والأولى أن هذا من قول الجن فيما بينهم، وليس من قول إبليس كما قال ابن زيد.(14/358)
وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا (11)
(وأنا منا الصالحون) أي قال بعض لبعض لما دعوا أصحابهم إلى الإيمان بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم وإنا كنا قبل استماع القرآن منا الموصوفون بالصلاح (ومنا دون ذلك) أي قوم دون الموصوفين بالصلاح، وقيل أراد بأهل الصلاح المؤمنين وبمن هم دون ذلك الكافرين، والأول أولى، وقال ابن عباس يقول منا المسلم ومنا المشرك.
(كنا طرائق قدداً) أي جماعات متفرقة وفرقاً شتى، وأصنافاً مختلفة وذوي مذاهب متفاوتة، والقدة القطعة من الشيء وصار القوم قدداً إذا تفرقت أحوالهم، واستعمال القدد في الفرق مجاز، والمعنى كنا ذوي طرائق قدداً أو كانت طرائقنا طرقاً قدداً أو كنا مثل طرائق قدداً أو كنا في اختلاف أحوالنا مثل الطرائق المختلفة: وقال السدي والضحاك: أدياناً مختلفة، وقال قتادة: أهواء متباينة، وقال ابن عباس: أهواء شتى. وقال سعيد بن المسيب: كانوا مسلمين ويهوداً ونصارى ومجوساً، وكذا قال مجاهد: قال الحسن: الجن أمثالكم قدرية ومرجئة وخوارج ورافضة وشيعة وسنية وكذا قال السدي.(14/358)
وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَبًا (12)
(وأنا ظننا) الظن هنا بمعنى العلم واليقين أي وأنا علمنا وتيقنا بالتفكر والاستدلال في آيات الله (أن لن نعجز الله في الأرض) أينما كنا فيها ولن نفوته بهرب ولا غيره إن أراد بنا أمراً (ولن نعجزه هرباً) مصدر في موضع الحال أي ولن نعجزه هاربين منها إلى السماء. وهذه صفة الجن وما هم عليه(14/358)
من أحوالهم وعقائدهم.(14/359)
وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا (13)
(وأنا لما سمعنا الهدى) يعنون القرآن (آمنا به) وصدقنا أنه من عند الله ولم نكذب به كما كذبت به كفرة الإنس (فمن يؤمن بربه فلا يخاف بخساً ولا رهقاً) أي لا يخاف نقصاً في عمله وثوابه ولا ظلماً ومكروهاً يغشاه، والبخس النقصان، والرهق العدوان والطغيان، والمعنى لا يخاف أن ينقص من حسناته ولا أن يزاد في سيئاته، وقد تقدم تحقيق الرهق قريباً، قرأ الجمهور بخساً بسكون الخاء، وقرىء بفتحها وقرىء فلا يخف جزماً على جواب الشرط، ولا وجه لهذا بعد دخول الفاء والتقدير فهو لا يخاف، والأمر ظاهر، وفي الآية دليل على أن العمل ليس من الإيمان، قاله النسفي.(14/359)
وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا (14)
(وأنا منا المسلمون) وهم الذين آمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم (ومنا القاسطون) أي الجائرون الكافرون الظالمون الذين حادوا عن طريق الحق. ومالوا إلى طريق الباطل، يقال قسط إذا جار وأقسط إذا عدل (1) قال ابن عباس القاسطون العادلون عن الحق. وعن سعيد بن جبير أن الحجاج قال له حين أراد قتله ما تقول فيَّ قال قاسط عادل فقال القوم ما أحسن ما قال، حسبوا أنه يصفه بالقسط والعدل فقال الحجاج يا جهلة إنه سماني ظالماً مشركاً، وتلا لهم قوله تعالى
_________
(1) ومنه قوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم في " صحيحه " عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن المقسطين عند الله على منابر من نور ".(14/359)
وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا (15)
(وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا) وقوله (ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) ذكره الخطيب.
(فمن أسلم فأولئك تحروا رشداً) أي قصدوا طريق الحق وتوخوه باجتهاد، ومنه التحري في الشيء، قال الراغب: حرى الشيء يحريه أي قصد حراه أي جانبه وتحراه كذلك. وقال الفراء: أموا الهدى قال النسفي: تحرى طلب الأحرى. أي الأولى وفيه دليل على أن الجن يثاب بالجنة.(14/359)
وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا (15) وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا (16) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا (17) وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا (18) وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا (19) قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا (20) قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا (21) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (22)
(وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا) في علم الله (لِجَهَنَّمَ حَطَبًا) أي وقوداً للنار يوقد بهم كما يوقد بكفرة الإنس، وفيه دليل على أن الجني الكافر يعذب في النار، وأنهم وإن خلقوا منها لكنهم تغيروا عن تلك الكيفية فصاروا لحماً ودماً هكذا قيل، وأيضاًً النار قويها قد يأكل ضعيفها فيكون الضعيف حطباً للقوي.(14/360)
وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا (16)
(وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ) قرأ الجمهور بكسر الواو من " لو " لالتقاء الساكنين وقرىء بضمها تشبيهاً بواو الضمير، وهذا ليس من قول الجن بل هو معطوف على أنه استمع نفر من الجن، والمعنى وأوحي إلى أن الشأن لو استقام الجن والإنس، أو كلاهما على الطريقة وهي طريقة الإسلام.
وقد قدمنا أن القراء اتفقوا على فتح " أن " ههنا. قال ابن الأنباري والفتح ههنا على إضمار يمين تأويلها، والله أن لو استقاموا على الطريقة كما يقال في الكلام: ولله لو قمت قمت، قال أو على (أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ) (وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا) وعلى (آمَنَّا بِهِ) أي آمنا به وبأن لو استقاموا، وعلى هذا يكون جميع ما تقدم معترضاً بين المعطوف والمعطوف عليه، قال ابن عباس: لو أقاموا على ما أمروا به.
(لأسقيناهم ماء غدقاً) وليس المراد خصوص السقيا بل المراد لوسعنا عليهم في الدنيا وبسطنا لهم في الرزق، وقال ابن عباس: معيناً، وقال مقاتل: ماء كثيراً من السماء، وذلك بعد ما رفع عنهم المطر سبع سنين،(14/360)
وقال ابن قتيبة: المعنى لو آمنوا جميعاً لوسعنا عليهم في الدنيا، وضرب الماء الغدق مثلاً لأن الخير والرزق كله بالمطر، وهذا كقوله:
(ولو أن أهل الكتاب آمنوا واتقوا) الآية وقوله (ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب) وقوله (اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ) الآية.
وقيل المعنى وأن لو استقام أبوهم على عبادته وسجد لآدم ولم يكفر. وتبعه ولده على الإسلام لأنعمنا عليهم، واختار هذا الزجاج، والماء الغدق هو الكثير في لغة العرب، قرأ العامة غدقاً بفتحتين وقرىء بفتح الغين وكسر الدال، وهما لغتان في الماء الغزير، ومنه الغيداق للماء الكثير وللرجل الكثير العدو، والكثير النطق ويقال غدقت عينه تغدق أي هطل دمعها، وفي المصباح غدقت العين غدقاً من باب تعب كثر ماؤها فهي غدقة وأغدقت إغداقاً كذلك.(14/361)
لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا (17)
(لنفتنهم فيه) أي لنختبرهم فنعلم كيف شكرهم على تلك النعم علم ظهور للخلائق وإلا فهو تعالى لا يخفى عليه شيء، وقال الكلبي المعنى وأن لو استقاموا على الطريقة التي هم عليها من الكفر فكانوا كلهم كفاراً لأوسعنا أرزاقهم مكراً بهم واستدراجاً حتى يفتنوا بها فنعذبهم في الدنيا والآخرة، وبه قال الربيع بن أنس وزيد بن أسلم وابنه عبد الرحمن والثمالي ويمان بن ريان وابن كيسان وأبو مجلز، واستدلوا بقوله:
(فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء) وقوله (وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ) الآية والأول أولى، وقال عمر: في الآية حيثما كان الماء كان المال وحيثما كان المال كانت الفتنة، وقال ابن عباس: لنبتليهم به.
(ومن يعرض عن ذكر ربه) أي ومن يعرض عن القرآن أو عن العبادة أو عن الموعظة أو عن التوحيد أو عن جميع ذلك (يسلكه) أي يدخله(14/361)
(عذاباً صعداً) أي شاقاً، قرأ الجمهور نسلكه بالنون مفتوحة من سلكه، وقرىء بالياء التحتية، واختار هذه القراءة أبو عبيد وأبو حاتم لقوله (عن ذكر ربه) ولم يقل عن ذكرنا، وقرىء بضم النون وكسر اللام من أسلكه، والصعد في اللغة المشقة تقول تصعد بي الأمر إذا شق عليك، وهو مصدر صعد يقال صعد صعداً وصعوداً فوصف به العذاب مبالغة لأنه يتصعد المعذب أي يعلوه ويغمره ويغلبه فلا يطيقه.
قال أبو عبيدة: الصعد مصدر أي عذاباً ذا صعد، وقال عكرمة: الصعد هو صخرة ملساء في جهنم يكلف صعودها فإذا انتهى إلى أعلاها حدر إلى جهنم كما في قوله (سأرهقه صعوداً) والصعود العقبة الكؤود، وقال ابن عباس: عذاباً صعداً شقة من العذاب يصعد فيها، وعنه قال جبلاً في جهنم، وعنه قال لا راحة فيه.(14/362)
وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا (18)
(وأن المساجد لله) أي وأوحي إليَّ أن المساجد مختصة بالله، وقال الخليل التقدير ولأن المساجد، والمساجد المواضع التي بنيت للصلاة فيها، جمع مسجد بكسر الجيم وهو موضع السجود، قال سعيد بن جبير: قالت الجن كيف لنا أن نأتي المساجد ونشهد معك الصلاة ونحن ناؤون فنزلت، وقال الحسن أراد بها كل البقاع لأن الأرض جعلت كلها مسجداً للنبي صلى الله عليه وسلم، وقال سعيد بن المسيب وطلق بن حبيب أراد بالمساجد الأعضاء التي يسجد عليها العبد (1)، وهي القدمان والركبتان واليدان والجبهة والأنف، وهو على هذا جمع مسجد بالفتح يقول هذه أعضاء أنعم الله بها عليك فلا تسجد بها لغيره فتجحد نعمة الله، وكذا قال عطاء وقيل المساجد هي الصلاة لأن السجود من جملة أركانها قاله الحسن، قال ابن عباس: لم يكن يوم نزلت هذه الآية في الأرض مسجد إلا المسجد الحرام ومسجد إيليا
_________
(1) ومنه قوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري ومسلم عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أمرت أن أسجد على سبعة أعظم: على الجبهة (وأشار بيده إلى أنفه)، واليدين، والركبتين، وأطراف القدمين ".(14/362)
ببيت المقدس، وقيل المراد بها البيوت التي تبنيها أهل الملل للعبادة، والقول بأنها البيوت المبنية للعبادة أظهر الأقوال إن شاء الله تعالى وهو مروي عن ابن ابن عباس، وإضافة المساجد إلى الله إضافة تشريف وتكريم وقد تنسب إلى غيره تعريفاً، قال صلى الله عليه وسلم " صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام " (1) ذكره القرطبي.
(فلا تدعوا) أي فلا تعبدوا (مع الله أحداً) من خلقه كائناً من كان، هذا توبيخ للمشركين في دعائهم مع الله غيره في المسجد الحرام، قال مجاهد كانت اليهود والنصارى إذا دخلوا كنائسهم وبيعهم أشركوا بالله، فأمر الله نبيه والمؤمنين أن يخلصوا لله الدعوة إذا دخلوا المساجد كلها، يقول فلا تشركوا فيها صنماً أو غيره مما يعبد، وقيل المعنى أفردوا المساجد بذكر الله تعالى ولا تجعلوا لغير الله تعالى فيها نصيباً، وفي الصحيح " من نشد ضالة في المسجد فقولوا لا ردها الله عليك فإن المساجد لم تبن لهذا ".
_________
(1) صحيح الجامع/2733.(14/363)
وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا (19)
(وأنه) أي وأوحي إليَّ أن الشأن (لما قام عبد الله) وهو النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يقل نبي الله أو رسول الله لأنه من أحب الأسماء إلى النبي صلى الله عليه وسلم. ولأنه لما كان واقعاً في كلامه صلى الله عليه وسلم عن نفسه جيء به على ما يقتضيه التواضع؛ أو لأن عبادة عبد الله المستفادة من قوله:
(يدعوه) ليست بمستبعدة؛ ثم كان وقوع هذا الأمر ببطن نخل على ما قاله المحلي؛ وقال الحفناوي سياق هذه الآية إنما يظهر في المرة الثانية من مرَّتي الجن وهي التي كانت بحجون مكة؛ وكان معه فيها ابن مسعود وكان الجن إثني عشر ألفاً أو أكثر، وأما المرة الأولى التي تقدم الكلام فيها التي كانت ببطن نخل فكانوا فيها تسعة أو سبعة ولا يظهر في حقهم أن يقال (كادوا يكونون عليه لبداً) كما لا يخفى فليتأمل اهـ.
ومعنى الآية أنه لما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي ويتلو(14/363)
القرآن كاد الجن أن يكونوا عليه صلى الله عليه وسلم متراكمين من ازدحامهم عليه لسماع القرآن منه؛ قال الزجاج: ومعنى لبداً يركب بعضهم بعضاً؛ ومن هذا اشتقاق هذه اللبود التي تفرش. قرأ الجمهور لبداً بكسر اللام وفتح الباء وقرىء بضم اللام وفتح الباء وبضم الباء واللام وبضم اللام وتشديد الباء مفتوحة فعلى القراءة الأولى المعنى ما ذكرناه وعلى الثانية المعنى كثيراً كما في قوله:
(أهلكت مالاً لبداً) وقيل المعنى كاد المشركون يركب بعضهم بعضاً حرداً على النبي صلى الله عليه وسلم وقال الحسن وقتادة وابن زيد: لما قام عبد الله محمد بالدعوى تلبدت الجن والإنس على هذا الأمر ليطفئوه فأبى الله إلا أن ينصره ويتم نوره، واختار هذا ابن جرير.
قال مجاهد: لبداً أي جماعات وهو من تلبد الشيء أي اجتمع، ومنه اللبد الذي يفرش لتراكم صوفه وكل شيء ألصقته الصاقاً شديداً فقد لبدته، ويقال للشعر الذي على ظهر الأسد لبدة وجمعها لبد، ويقال للجراد الكثير لبد ويطلق اللبد بضم اللام وفتح الباء على الشيء الدائم، ومنه قيل لنسر لقمان لبد لطول بقائه.
وعن ابن مسعود قال: " خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الهجرة إلى نواحي مكة فخط لي خطاً وقال لا تحدثن شيئاًً حتى آتيك؛ ثم قال لا يهولنك شيء تراه؛ فتقدم شيئاًً ثم جلس فإذا رجال سود كأنهم رجال الزط وكانوا كما قال الله تعالى (كادوا يكونون عليه لبداً) أخرجه ابن مردويه وأبو نعيم في الدلائل ".
وعن ابن عباس في الآية قال: " لما سمعوا النبي صلى الله عليه وسلم يتلو القرآن كادوا يركبونه من الحرص لما سمعوه ودنوا منه فلم يعلم بهم حتى أتاه الرسول فجعل يقرئه (قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ) أخرجه ابن جرير وابن مردويه.(14/364)
وعنه في الآية قال: " لما أتى الجن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي بأصحابه يركعون بركوعه وشمجدون بسجوده فعجبوا من طواعية أصحابه، فقالوا لقومهم لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لبداً " أخرجه عبد بن حميد والحاكم والترمذي وصححاه وغيرهم؛ وعنه قال لبداً أي أعواناً.(14/365)
قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا (20)
(قل) يا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مجيباً للكفار (إنما أدعو ربي) وحده وأعبده (ولا أشرك به) في العبادة (أحداً) من خلقه، قرأ الجمهور " قال " وقرىء قل على الأمر، وهي سبعية، ففي الكلام التفات من الغيبة إلى الخطاب، وسبب نزولها أن كفار قريش قالوا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم أنك جئت بأمر عظيم وقد عاديت الناس كلهم فارجع عن هذا فنحن نجيرك.(14/365)
قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا (21)
(قل إني لا أملك لكم ضراً ولا رشداً) أي لا أقدر أن أدفع عنكم غياً (1) ولا أسوق إليكم خيراً لأن الضار والنافع هو الله سبحانه وقيل الضر الكفر والرشد الهدى، والأول أولى لوقوع النكرتين في سياق النفي فهما يعمان كل ضرر وكل رشد في الدنيا والدين.
_________
(1) استعمال الضر في الغي من استعمال المسبب في السبب فهو مجاز مرسل اهـ منه.(14/365)
قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (22)
(قل إني لن يجيرني من الله أحد) أي لا يدفع عني أحد عذابه إن أنزله بي كقول صالح (فمن ينصرني من الله إن عصيته) وهذا بيان لعجزه عن شؤون نفسه بعد بيان عجزه عن شؤون غيره (ولن أجد من دونه ملتحداً) أي ملجأً ومعدلاً وحرزاً ألجأ إليه وأحترز به، والملتحد معناه في اللغة الممال أي موضعاً أميل إليه، في القاموس ألحد إليه مال كالملتحد، والملتحد الملتجأ، وفي المصباح الملتحد بالفتح اسم الموضع وهو الملجأ أهـ قال قتادة: مولى، وقال السدي: حرزاً، وقال الكلبي: مدخلاً في الأرض مثل السرب، وقيل مذهباً ومسلكاً، والمعنى متقارب.(14/365)
إِلَّا بَلَاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا (23) حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا (24) قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا (25) عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا (27) لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا (28)
والاستثناء في قوله(14/366)
إِلَّا بَلَاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا (23)
(إلا بلاغاً) هو من قوله لا أملك أي لا أملك ضراً ولا رشداً إلا التبليغ (من الله) فإن فيه أعظم الرشد أو من ملتحداً أي لن أجد من دونه ملجأً إلا التبليغ، وقال مقاتل: ذلك الذي يجيرني من عذابه، وقال قتادة: إلا بلاغاً من الله فذلك الذي أملكه بتوفيق الله، فأما الكفر والإيمان فلا أملكهما، قال الفراء لكن أبلغكم ما أرسلت به فهو على هذا منقطع، وقال الزجاج هو منصوب على البدل من ملتحداً أي لن أجد من دونه ملتحداً إلا أن أبلغ ما يأتي من الله.
(ورسالاته) معطوف على بلاغاً أي إلا بلاغاً من الله وإلا رسالاته التي أرسلني بها إليكم أو إلا أن أبلغ عن الله وأعمل برسالاته، فآخذ نفسي بما آمر به غيري، وقيل معطوف على الاسم الشريف أي إلا بلاغاً عن الله وعن رسالاته كذا قال أبو حيان ورجحه واستظهره الكرخي.
(ومن يعص الله ورسوله) في الأمر بالتوحيد ولم يؤمن لأن السياق فيه (فإن له نار جهنم) قرأ الجمهور بكسر " إن " على أنها جملة مستأنفة مستقلة، وقرىء بفتحها لأن ما بعد فاء الجزاء موضع ابتداء، وإن مع في حيزها خبر لمبتدأ مضمر، والتقدير فجزاؤه أو فحكمه أن له نار جهنم.(14/366)
(خالدين فيها) أي يدخلون في النار أو في جهنم مقدار خلودهم والجمع باعتبار معنى " من " كما أن التوحيد في قوله فإن له باعتبار لفظه (أبداً) تأكيد لمعنى الخلود أي خالدين فيها بلا نهاية.(14/367)
حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا (24)
(حتى إذا رأوا ما يوعدون) من العذاب في الدنيا أو في الآخرة، والمعنى لا يزالون على ما هم عليه من الإصرار على الكفر وعداوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين إلى أن يروا الذي يوعدون به من العذاب، وحتى ابتدائية فيها معنى الغاية لمقدر قبلها يدل عليه الحال وهي قوله (خالدين) فإن الخلود في النار يستلزم استمرارهم على كفرهم وعدم انقطاعه بالإيمان إذ لو آمنوا لم يخلدوا في النار، ولو جعلت لمجرد الابتداء من غير ملاحظة معنى الغاية كما أشار إليه القرطبي لكان أسهل وأوضح فتكون جملة مستقلة بالاستفادة.
(فسيعلمون) عند حلوله بهم يوم بدر أو يوم القيامة (من أضعف ناصراً) " من " موصولة أي هو أضعف جنداً ينتصر به أو استفهامية، والأول أولى (وأقل عدداً) أي أعواناً أهم أم المؤمنون قال الخطيب أي أنا وإن كنت في هذا الوقت وحيداً مستضعفاً وأقل عدداً، أو هم وإن كانوا الآن بحيث لا يحصيهم عدداً إلا الله تعالى.
فيا لله ما أعظم كلام الرسل حيث يستضعفون أنفسهم ويذكرون قوتهم من جهة مولاهم الذي بيده الملك وله جنود السموات والأرض بخلاف الجبابرة فإنهم لا كلام لهم إلا في تعظيم أنفسهم، وازدراء غيرهم، والظاهر أن " إذا " شرطية وأن قوله (فسيعلمون) جوابها لكن يشكل عليه الاستقبال المفاد بالسين وذلك لأن وقت رؤية العذاب يحصل علم الضعيف من القوي، والسين تقتضي أنه يتأخر عنه، فليتأمل هذا المحل فإنه لم ينبه عليه أحد من المفسرين، ولا يتلخص منه إلا بجعل السين لمجرد التأكيد لا للاستقبال وله نظائر كثيرة، قاله الحفناوي.(14/367)
قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا (25)
(قل إن) أي ما (أدري أقريب) حصول (ما توعدون) من العذاب أو يوم القيامة أي فيكون واقعاً الآن أو قريباً من هذا الأوان بحيث يتوقع عن قريب (أم يجعل له ربي أمداً) أي غاية ومدة فلا يتوقع دون ذلك الأمد، أمره الله سبحانه أن يقول لهم هذا القول لما قالوا له متى يكون هذا الذي توعدنا به، ولا يقال إنه صلى الله عليه وسلم قال " بعثت أنا والساعة كهاتين " (1) فكان عالماً بقرب وقوع القيامة، فكيف قال ههنا لا أدري أقريب الخ لأن المراد بقرب وقوعه الذي علمه هو أن ما بقي من الدنيا أقل مما انقضى، فهذا القدر من القرب معلوم، وأما معرفة مقدار القرب فغير معلوم لا يعلمه إلا الله، وهو على كل حال متوقع لا كلام فيه، وإنما الكلام في تعيين وقته وليس إليه صلى الله عليه وآله وسلم، قال عطاء: يريد أنه لا يعرف يوم القيامة إلا الله سبحانه وحده، والمعنى أن علم وقت العذاب علم غيب لا يعلمه إلا الله (2).
_________
(1) قال ابن كثير: وفي هذه الآية الكريمة دليل على أن الحديث الذي يتداوله كثير من الجهلة من أنه عليه الصلاة والسلام لا يؤلّف تحت الأرض، كذب لا أصل له، ولم نره في شيء من الكتب، وقد كان صلى الله عليه وسلم يسأل عن وقت الساعة، فلا يجيب عنها، ولما تبدَّى له جبريل في صورة أعرابي، كان فيما سأله أن قال: يا محمد: فأخبرني عن الساعة؟ قال: " ما المسؤول عنها بأعلم من السائل " ولما ناداه ذلك الأعرابي بصوت جهوري فقال: يا محمد متى الساعة؟ قال: " ويحك إنها كائنة فما أعددت لها؟ " قال: أما إني لم أعدّ لها كثير صلاة ولا صيام. ولكني أحب الله ورسوله، قال: " فأنت مع من أحببت " قال أنس: فما فرح المسلمون بشيء فرحهم بهذا الحديث.
(2) زاد المسير 8/ 385.(14/368)
عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26)
(عالم الغيب) قرأ الجمهور بالرفع على أنه بدل من ربي أو بيان له أو خبر مبتدأ محذوف، والجملة مستأنفة مقررة لما قبلها من عدم الدراية، وقرىء بالنصب على المدح، وقرأ السري (علم الغيب) بصيغة الماضي ونصب الغيب والفاء في قوله:
(فلا يظهر على غيبه أحداً) لترتيب عدم الإظهار على تفرده سبحانه بعلم الغيب أي لا يطلع على الغيب الذي يعلمه وهو ما غاب عن العباد أحداً(14/368)
منهم، ثم استثنى فقال(14/369)
إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا (27)
(إلا من ارتضى من رسول) أي إلا من اصطفاه من الرسل أو من ارتضاه منهم لإظهاره على بعض غيبه ليكون ذلك دالاً على نبوته.
قال القرطبي قال العلماء لما تمدح سبحانه بعلم الغيب واستأثر به دون خلقه كان فيه دليل على أنه لا يعلم الغيب أحد سواه، ثم استثنى من ارتضى من الرسل فأودعهم ما شاء من غيبه بطريق الوحي إليهم وجعله معجزة لهم، ودلالة على نبوتهم.
وليس المنجم ومن ضاهاه ممن يضرب بالحصى، وينظر في الكفّ ويزجر بالطير، ممن ارتضاه من رسول فيطلعه على ما يشاء من غيبه، فهو كافر بالله مفتر عليه بحدسه وتخمينه وكذبه، وقال سعيد بن جبير (إلا من ارتضى من رسول) هو جبريل وفيه بعد، وقيل المراد أنه يطلعه على بعض غيبه وهو ما يتعلق برسالته كالمعجزة وأحكام التكاليف وجزاء الأعمال وما يبينه من أحوال الآخرة لا ما لا يتعلق برسالته من الغيوب كوقت قيام الساعة ونحوه.
قال الواحدي: وفي هذا دليل على أن من ادعى أن النجوم تدله على ما يكون من حادث فقد كفر بما في القرآن، قال في الكشاف: وفي هذا إبطال للكرامات لأن الذين تضاف إليهم الكرامات وإن كانوا أولياء مرتضين فليسوا برسل، وقد خص الله الرسل من بين المرتضين بالاطلاع على الغيب، وفيه أيضاًً إبطال للكهانة والسحر والتنجيم لأن أصحابها أبعد شيء من الارتضاء وأدخله في السخط.
قال الرازي وعندي أن الآية لا دلالة فيها على شيء مما قالوه إذ لا صيغة عموم في غيبه فيحمل على غيب واحد، وهو وقت القيامة لأنه واقع بعد قوله (أقريب ما توعدون) الآية.
فإن قيل فما معنى الاستثناء حينئذ، قلنا لعله إذا قربت القيامة يظهره وكيف لا وقد قال (يوم تشقق السماء بالغمام ونزل الملائكة تنزيلاً) فتعلم(14/369)
الملائكة حينئذ قيام الساعة، أو هو استثناء منقطع أي من ارتضاه من رسول يجعل من بين يديه ومن خلفه حفظة يحفظونه من شر مردة الجن والإنس، ويدل على أنه ليس المراد أنه لا يطلع أحداً على شيء من المغيبات إلا الرسل أنه ثبت كما يقارب التواتر أن شقاً وسطيحاً كانا كاهنين وقد عرفا بحديث النبي صلى الله عليه وسلم قبل ظهوره، وكانا مشهورين بهذا العلم عند العرب حتى رجع إليهما كسرى، فثبت أن الله قد يطلع غير الرسل على شيء من المغيبات.
وأيضاًً أطبق أهل الملل على أن معبر الرؤيا يخبر عن أمور مستقبلة ويكون صادقاً فيها، وأيضاًً قد نقل السلطان سنجر بن ملك شاه كاهنة من بغداد إلى خراسان وسألها عن أمور مستقبلة فأخبرته بها فوقعت على وفق كلامها، قال وأخبرني ناس محققون في علم الكلام والحكمة أنها أخبرت عن أمور غائبة بالتفصيل فكانت على وفق خبرها، وبالغ أبو البركات في كتاب المعتبر في شرح حالها، وقال فحصت عن حالها ثلاثين سنة فتحققت أنها كانت تخبر عن المغيبات إخباراً مطابقاً، وأيضاًً فإنا نشاهد ذلك في أصحاب الإلهامات الصادقة، وقد يوجد ذلك في السحرة أيضاًً، وقد نرى الأحكام النجومية مطابقة وإن كانت قد تتخلف، فلو قلنا إن القرآن يدل على خلاف هذه الأمور المحسوسة لتطرق الطعن إلى القرآن فيكون التأويل ما ذكرنا انتهى كلامه بمعناه.
قال محمد بن علي الشوكاني: أما قوله: إذ لا صيغة عموم في غيبه، فباطل فإن إضافة المصدر واسم الجنس من صيغ العموم كما صرح به أئمة الأصول وغيرهم، وأما قوله: أو هو استثناء منقطع، فمجرد دعوى يأباه النظم القرآني، وأما قوله: إن شقاً وسطيحاً الخ فقد كانا في زمن تسترق فيه الشياطين السمع ويلقون ما يسمعونه إلى الكهان فيخلطون الصدق بالكذب، كما ثبت في الحديث الصحيح، وفي قوله (إلا من خطف الخطفة) ونحوها مني الآيات، فباب الكهانة قد ورد بيانه في هذه الشريعة وإنه كان طريقاً لبعض(14/370)
الغيب بواسطة استراق الشياطين حتى منعوا ذلك بالبعثة المحمدية على صاحبها الصلاة والسلام والتحية، وقالوا (وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا (8) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا) فباب الكهانة في الوقت الذي كانت فيه مخصوص بأدلته، فهو من جملة ما يخصص به هذا العموم، فلا يرد ما زعمه من إيراد الكهانة على هذه الآية.
وأما حديث المرأة الذي أورده فحديث خرافة، ولو سلم وقوع شيء مما حكاه عنها من الأخبار لكان من باب ما ورد في الحديث " إن في هذه الأمة محدثين وإن منهم عمر " فيكون كالتخصيص لعموم هذه الآية لا نقضاً، وأما ما اجترأ به على الله وعلى كتابه من قوله في آخر كلامه: فلو قلنا إن القرآن يدل على خلاف هذه الأمور المحسوسة لتطرق الطعن إلى القرآن، فيقال له ما هذه بأول زلة من زلاتك وسقطة من سقطاتك، وكم لها لديك من أشباه وأمثال نبض بها عرق فلسفتك، وركض بها الشيطان الذي صار يتخبطك في مباحث تفسيرك، يا عجباً لك أيكون ما بلغك من خبر هذه المرأة ونحوه موجباً لتطرق الطعن إلى القرآن، وما أحسن ما قاله بعض أدباء عصرنا.
وإذا رامت الذبابة للشمـ ... ـس غطاء مدت عليها جناحا
وقلت من أبيات منها:
مهب رياح سده بجناح ... وقابل بالمصباح ضوء صباح
فإن قلت: إذاً قد تقرر بهذا الدليل القرآني أن الله يظهر من ارتضى من رسله على ما شاء من غيبه فهل للرسول الذي أظهره الله على ما شاء من غيبه أن يخبر بعض أمته.
قلت نعم، ولا مانع من ذلك، وقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا ما لا يخفى على عارف بالسنة المطهرة، فمن ذلك ما صح أنه قام مقاماً أخبر فيه بما سيكون إلى يوم القيامة، وما ترك شيئاًً مما يتعلق بالفتن(14/371)
ونحوها، حفظ ذلك من حفظه ونسيه من نسيه، وكذلك ما ثبت من أن حذيفة ابن اليمان كان قد أخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بما يحدث من الفتن بعده حتى سأله عن ذلك أكابر الصحابة ورجعوا إليه.
وثبت في الصحيح وغيره أن عمر بن الخطاب سأله عن الفتنة التي تموج كموج البحر فقال إن بينك وبينها باباً فقال عمر هل يفتح أو يكسر؟ فقال بل يكسر، فعلم عمر أنه الباب وأن كسره قتله كما في الحديث الصحيح المعروف أنه قيل لحذيفة هل كان عمر يعلم ذلك؟ فقال نعم كما يعلم أن دون غد الليلة.
وكذلك ما ثبت من إخباره لأبي ذر بما حدث له وإخباره لعلي بن أبي طالب بخبر ذي الثدية ونحو هذا مما يكثر تعداده، ولو جمع لجاء منه مصنف مستقل.
وإذا تقرر هذا فلا مانع من أن يختص بعض صلحاء هذه الأمة بشيء من أخبار الغيب التي أظهرها الله لرسوله صلى الله عليه وسلم وأظهرها رسوله لبعض أمته وأظهرها هذا البعض من الأمة لمن بعدهم، فتكون كرامات الصالحين من هذا القبيل، والكل من الفيض الرباني بواسطة الجناب النبوي اهـ كلامه رحمة الله تعالى عليه.
قال ابن عباس " في الآية أعلم الله رسوله من الغيب الوحي وأظهر عليه مما أوحى إليهم من غيبه وما يحكم الله فإنه لا يعلم ذلك غيره " أخرجه ابن المنذر وابن مردويه.
ثم ذكر سبحانه أنه يحفظ ذلك الغيب الذي يطلع عليه الرسول فقال: (فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصداً) والجملة تقرير للإظهار المستفاد من الاستثناء والمعنى أنه يجعل سبحانه بين يدي الرسول ومن خلفه حرساً من الملائكة يحرسونه من تعرض الشياطين لما أظهره عليه من الغيب، أو يجعل بين يدي الوحي وخلفه حرساً من الملائكة يحوطونه من أن يسترقه الشياطين(14/372)
فتلقيه إلى الكهنة والمراد من جميع الجوانب، قال الضحاك: ما بعث الله نبياً إلا ومعه ملائكة يحفظونه من الشياطين أن يتشبهوا بصورة الملك، فإذا جاءه شيطان في صورة الملك قالوا هذا شيطان فاحذره، وإن جاءه الملك قالوا هذا رسول ربك.
قال ابن زيد: رصداً أي حفظة يحفظون النبي صلى الله عليه وسلم من أمامه وورائه من الجن والشياطين، قال قتادة، وسعيد بن المسيب: هم أربعة من الملائكة حفظة، وقال الفراء: المراد جبريل قال في الصحاح: الرصد القوم يرصدون كالحرس يستوي فيه الواحد والجمع والمؤنث والمذكر والراصد الشيء الراقب له، يقال رَصَدَهُ يَرْصُدُهُ رَصْداً ورَصَداً والترصد الترقب والمرصد موضع الرصد.
قال ابن عباس في قوله (رصداً) هي معقبات من الملائكة يحفظون رسول الله من الشياطين حتى يبين الذي أرسل إليهم به، وذلك حتى يقول أهل الشرك قد أبلغوا رسالات ربهم وعنه قال ما أنزل الله على نبيه آية من القرآن إلا ومعها أربعة من الملائكة يحفظونها حتى يؤدوها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قرأ الآية.(14/373)
لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا (28)
(ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم) اللام متعلقة بيسلك والمراد به العلم المتعلق بالإبلاغ الموجود بالفعل وأن هي المخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن والخبر الجملة، والرسالات عبارة عن الغيب الذي أريد إظهاره لمن ارتضاه الله من رسول، وضمير أبلغوا يعود إلى الرصد، وقال قتادة ومقاتل ليعلم محمد أن الرسل قبله قد أبلغوا الرسالة كما بلغ هو الرسالة، وفيه حذف يتعلق به اللام أي أخبرناه بحفظنا الوحي ليعلم أن الرسل قبله كانوا على حالته من التبليغ، وقيل ليعلم محمد أن جبريل ومن معه قد أبلغوا إليه رسالات ربه، قاله سعيد بن جبير.
وقيل ليعلم الرسل أن الملائكة قد بلغوا رسالات ربهم، وقيل ليعلم إبليس أن الرسل قد أبلغوا رسالات ربهم من غير تخليط، وقال ابن قتيبة:(14/373)
ليعلم الجن أن الرسل قد أبلغوا ما أنزل إليهم ولم يكونوا هم المبلغين باستراق السمع عليهم، وقال مجاهد ليعلم من كذب الرسل أن الرسل قد أبلغوا رسالات ربهم.
قرأ الجمهور ليعلم بفتح التحتية على البناء للفاعل أي ليعلم الناس أن الرسل قد أبلغوا، وقال الزجاج: ليعلم الله أن رسله قد أبلغوا رسالاته أي ليعلم ذلك عن مشاهدة كما علمه غيباً، وقرىء بضم الياء على البناء للمفعول، وقرىء بضم الياء وكسر اللام.
(وأحاط بما لديهم) أي بما عند الرصد من الملائكة أو بما عند الرسل المبلغين لرسالاته، والجملة في محل نصب على الحال من فاعل يسلك بإضمار قد أي والحال أنه تعالى قد أحاط بما لديهم من الأحوال، قال سعيد بن جبير ليعلم أن ربهم قد أحاط بما لديهم فبلغوا رسالاته.
(وأحصى كل شيء عدداً) معطوف على أحاط، وعدداً يجوز أن يكون منتصباً على التمييز محولاً من المفعول به أي وأحصى عدد كل شيء كما في قوله: (وفجرنا الأرض عيوناً) ويجوز أن يكون منصوباً على المصدرية أو في موضع الحال أي معدوداً، والمعنى أن علمه سبحانه بالأشياء ليس على وجه الإجمال بل على وجه التفصيل، أي أحصى كل فرد من مخلوقاته التي كانت والتي ستكون على حدة فلم يخف عليه منها شيء على حدة.(14/374)
سورة المزمل
هي تسع عشرة آية وقيل عشرون آية وهي مكية
قال الماوردي كلها مكية في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر، قال وقال ابن عباس وقتادة إلا آيتين منها (وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ) والتي تليها، وقال الثعلبي إلا قوله: (إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ) إلى آخر السورة فإنه نزل بالمدينة، وأخرج النحاس عن ابن عباس أنه قال نزلت بمكة إلا آيتين (إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ) إلخ، وأخرج ابن الضريس وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس قال نزلت يا أيها المزمل بمكة، وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير مثله، وعن جابر قال اجتمعت قريش في دار الندوة فقالوا سموا هذا الرجل اسماً تصدون الناس عنه فقالوا كاهن، قالوا ليس بكاهن، قالوا مجنون قالوا ليس بمجنون، قالوا ساحر، قالوا ليس بساحر فتفرق المشركون على ذلك، فبلغ النبي - صلى الله عليه وسلم - فتزمل في ثيابه وتدثر فيها فأتاه جبريل فقال: (يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ)، (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ)، أخرجه البزار والطبراني في الأوسط وأبو(14/375)
نعيم في الدلائل، وقال البزار بعد إخرجه من طريق معلي بن عبد الرحمن أن معلي قد حدث عنه جماعة من أهل العلم واحتملوا حديثه لكنه إذا تفرد بالأحاديث لا يتابع عليها، وعن ابن عباس " قال بت عند خالتي ميمونة فقام النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي من الليل فصلى ثلاث عشرة ركعة منها ركعتا الفجر، فحرزت قيامه في كل ركعة بقدر يا أيها المزمل "، أخرجه أبو داود والبيهقي في السنن.(14/376)
بسم الله الرحمن الرحيم
يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (4)(14/377)
يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1)
(يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ) أصله المتزمل فأدغمت التاء في الزاي، والتزمل التلفف في الثوب، وفي المصباح زملته بثوبه فتزمل مثل لففته فتلفف وزملت الشيء حملته، ومنه قيل للبعير زاملة بالهاء للمبالغة لأنه يحمل متاع المسافر، قرأ الجمهور بالإدغام، وقرأ أبيّ (المتزمل) على الأصل وقرأ عكرمة بتخفيف الزاي، وهذا الخطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقد اختلف في معناه فقال جماعة إنه كان يتزمل صلى الله عليه وآله وسلم بثيابه في أول ما جاءه جبريل بالوحي فرقاً منه حتى أنس به، وقيل المعنى يا أيها المزمل بالنبوة والملتزم للرسالة، وبهذا قال عكرمة وكان يقرأ يا أيها المزمل بتخفيف الزاي وفتح الميم المشددة اسم مفعول، وعنه أيضاًً يا أيها الذي زمل هذا الأمر أي حمله ثم فتر، وقيل المعنى يا أيها المزمل بالقرآن وقال الضحاك تزمل بثيابه لمنامه ونحوه عن قتادة، وقيل بلغه من المشركين سوء قول فتزمل في ثيابه وتدثر، فنزلت يا أيها المزمل ويا أيها المدثر.
وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما سمع صوت الملك ونظر إليه أخذته الرعدة فأتى أهله وقال زملوني دثروني، وكان خطابه صلى الله عليه وآله وسلم بهذا الخطاب في أول نزول الوحي، ثم بعد ذلك خوطب بالنبوة والرسالة، وقال ابن عباس زملت هذا الأمر فقم به، وعنه قال يتزمل بالثياب، قال السهيلي ليس المزمل من أسماء النبي صلى الله عليه وسلم كما ذهب إليه بعض الناس وعدوه في أسمائه صلى الله عليه وسلم، وإنما المزمل(14/377)
اسم مشتق من حاله التي كان عليها حين الخطاب، وكذلك المدثر.
وفي خطابه صلى الله عليه وسلم بهذا الاسم فائدتان (إحداهما) الملاطفة فإن العرب إذا قصدت ملاطفة المخاطب وترك المعاتبة سموه باسم مشتق من حالته التي هو عليها " كقول النبي صلى الله عليه وسلم لعلي حين غاضب فاطمة رضي الله عنها فأتاه وهو نائم وقد لصق بجنبه التراب فقال له: " قم أبا تراب "، إشعاراً له بأنه غير عاتب عليه وملاطف له. وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم لحذيفة " قم يا نومان وكان نائماً " ملاطفة له وإشعاراً بترك العتب، فقول الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم (يا أيها المزمل) فيه تأنيس له وملاطفة ليستشعر أنه غير عاتب عليه.
والفائدة الثانية التنبيه لكل متزمل راقد ليله أن يتنبه إلى قيام الليل وذكر الله تعالى، لأن الاسم المشتق من الفعل يشترك فيه مع المخاطب كل من عمل ذلك العمل واتصف بتلك الصفة، ذكره الخطيب.(14/378)
قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2)
(قم الليل) أي قم للصلاة في الليل الذي هو وقت الخلوة والخفية والستر، وقيل أن معنى قم صل عَبّر به عنه واستعير له، واختلف هل كان هذا القيام الذي أمره به فرضاً عليه أو نفلاً فقيل الأمر للوجوب، وكان واجباً عليه وعلى أمته، بل وعلى سائر الأنبياء قبله، وأول ما فرض عليه صلى الله عليه وسلم بعد الدعاء والإنذار قيام الليل، قال القرطبي؛ والدلائل تقوي أن قيامه كان فرضاً عليه صلى الله عليه وآله وسلم وحده أو عليه وعلى من كان قبله من الأنبياء أو عليه وعلى أمته، ثلاثة أقوال: الأول قول سعيد بن جبير لتوجه الخطاب له، والثاني قول ابن عباس، والثالث قول عائشة وابن عباس أيضاًً. كذا في الخطيب والخازن وغيرهما.
والعامة على كسر الميم لالتقاء الساكنين، وأبو السماك يضمها إتباعاً لحركة القاف، وقرىء بفتحها طلباً للخفة، قال أبو الفتح والغرض الهرب من التقاء الساكنين فبأي حركة حرك الأول حصل الغرض.(14/378)
قلت إلا أن الأصل الكسر لدليل ذكره النحويون، والليل ظرف للقيام وإن استغرقه الحدث الواقع فيه، هذا قول البصريين، وأما الكوفيون فيجعلون هذا النوع مفعولاً به.
أخرج أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي والبيهقي وغيرهم عن سعد بن هشام قال قلت لعائشة " أنبئيني عن قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت ألست تقرأ هذه السورة (يا أيها المزمل) قلت بلى، قالت فإن الله افترض قيام الليل في أول هذه السورة فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه حولاً حتى انتفخت أقدامهم، وأمسك الله خاتمتها في السماء اثني عشر شهراً. ثم أنزل التخفيف في آخر هذه السورة، وصار قيام الليل تطوعاً من بعد فرضه " وقد روي هذا الحديث عنها من طرق.
وعن ابن عباس قال: " لما نزل أول المزمل كانوا يقومون نحواً من قيامهم في شهر رمضان حتى نزل آخرها وكان بين أولها وآخرها نحو من سنة " أخرجه البيهقي والحاكم وصححه والطبراني وغيرهم، وعن أبي عبد الرحمن السلمي قال: " لما نزلت يا أيها المزمل قاموا حولاً حتى ورمت أقدامهم وسوقهم حتى نزلت (فاقرأوا ما تيسر منه) فاستراح الناس " وأخرج أبو داود في ناسخه وابن نصر وابن مردويه والبيهقي في سننه من طريق عكرمة عن ابن عباس " في الآية قال نسختها الآية التي فيها (عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ) ".
وقوله (إلا قليلاً) استثناء من الليل أي صل الليل كله إلا يسيراً منه، والقليل من الشيء هو ما دون النصف، وقيل ما دون السدس، وقيل ما دون العشر، وقال مقاتل والكلبي المراد بالقليل هنا الثلث وقد أغنانا عن هذا الاختلاف قوله(14/379)
نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3)
(نصفه) قال الزجاج هو بدل من الليل والاستثناء هو من النصف.
(أو انقص منه قليلاً) الضمير في منه وعليه عائد إلى النصف والمعنى قم نصف الليل أو انقص من النصف قليلاً إلى الثلث.(14/379)
أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (4)
(أو زد عليه) قليلاً إلى الثلثين فكأنه قال قم ثلثي الليل أو نصفه أو ثلثه. وأو للتخيير بين قيام النصف وقيام الثلث الذي هو مفاد قوله أو انقص منه قليلاً، وقيام الثلثين الذي هو مفاد أو زد عليه، وقيل إن نصفه بدل من قوله قليلاً فيكون المعنى قم الليل إلا نصفه أو أقل من نصفه أو أكثر من نصفه، وقال المحلي بدل من قليلاً، وقلته بالنظر إلى الكل انتهى.
قال الحفناوي قوله وقلته الخ جواب عما يقال أن النصف مساو للنصف الآخر فكيف يوصف بالقلة ومحصل الجواب أنه يوصف بها بالنظر لكل الليل لا بالنظر للنصف الآخر منه قال الأخفش نصفه أي أو نصفه كما يقال أعطه درهماً درهمين ثلاثة يريد أو درهمين أو ثلاثة، قال الواحدي قال المفسرون أو انقص من النصف قليلاً إلى الثلث أو زد على النصف إلى الثلثين جعل له سعة في مدة قيامه في الليل، وخيره في هذه الساعات للقيام، فكان النبي صلى الله عليه وسلم وطائفة معه يقومون على هذه المقادير، وشق ذلك عليهم فكان الرجل لا يدري كم صلى أو كم بقي من الليل، فكان يقوم الليل كله حتى خفف الله عنهم ورحمهم ونسخ وجوب قيام الليل في حقه وحقنا.
وقيل الضميران في (منه وعليه) راجعان للأقل من النصف كأنه قال قم أقل من نصفه أو قم أنقص من ذلك الأقل، أو أزيد منه قليلاً، وهو بعيد جداً: والظاهر أن نصفه بدل من قليلاً، والضميران راجعان إلى النصف المبدل من قليلاً.
واختلف في الناسخ لهذا الأمر فقيل هو قوله (إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه) إلى آخر السورة كما تقدم وقيل هو قوله (علم أن لن تحصوه) الخ وقيل هو قوله (علم أن سيكون منكم مرضى) الخ وقيل هو منسوخ بالصلوات الخمس. وبهذا قال مقاتل والشافعي وابن كيسان، وقيل هو قوله:
(فاقرؤا ما تيسر منه) وليس في القرآن سورة نسخ آخرها أولها إلا هذه(14/380)
السورة، وكان بين نزول أولها المنسوخ وآخرها الناسخ سنة، وقيل ستة عشر شهراً، وهذا على القول بأن السورة كلها مكية.
وأما على القول بأن قوله (إن ربك يعلم) مدني فبين الناسخ والمنسوخ عشر سنين لما علمت أن نزول المنسوخ كان في أول الوحي بمكة، ونزول الناسخ كان بالمدينة، وأقل ما يتحقق بينهما عشر سنين، وقد قال به سعيد بن جبير، وقيل نسخ التقدير بمكة وبقي التهجد حتى نسخ بالمدينة، وقيل نسخ أولها بآخرها ثم نسخ آخرها بإيجاب الصلوات الخمس، وذهب الحسن وابن سيرين إلى أن صلاة الليل فريضة على كل مسلم ولو قدر حلب شاة.
(ورتل القرآن ترتيلاً) أي اقرأه على مهل مع تدبر، وقيل بين وفصل من الثغر المرتل أي المفلج الأسنان، وكلام رتل بالتحريك أي مرتل، وثغر رتل أيضاًً إذا كان مستوي البنيان، أو اقرأ على تؤدة بتبيين الحروف وحفظ الوقوف وإشباع الحركات، بحيث يتمكن السامع من عدها، وقال الضحاك: اقرأه حرفاً حرفاً، وقال الزجاج: هو أن يبين جميع الحروف ويوفي حقها من الإشباع، وأصل الترتيل التنضيد والتنسيق وحسن النظام، وقال ابن عباس: بينه تبيينا، وتأكيد الفعل بالمصدر يدل على المبالغة، وإيجاب الأمر على وجه لا يلتبس فيه بعض الحروف ببعض، ولا ينقص من النطق بالحرف من مخرجه المعلوم، مع استيفاء حركته المعتبرة وأنه لا بد منه للقارىء.
عن قتادة قال سئل أنس " كيف كانت قراءة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال كانت مداً ثم قرأ بسم الله الرحمن الرحيم يمد بسم الله ويمد الرحمن ويمد الرحيم " أخرجه البخاري (1)، وعن أم سلمة وقد سألها يعلى بن
_________
(1) قال ابن كثير: وقوله تعالى: (ورتل القرآن ترتيلاً) أي: اقرأه على تمهُّل فإنه يكون عوناً على فهم القرآن وتدبُّره، قال، وكذلك كان يقرأ صلوات الله وسلامه عليه، قالت عائشة رضي الله عنها: كان يقرأ السورة فيرتِّلها حتى تكون أطول من أطوال منها. وفي " صحيح البخاري " عن أنس أنه سئل عن قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: كانت مَدَّاًً، ثم قرأ (بسم الله الرحمن الرحيم) يمد (بسم الله) ويمد (الرحمن) ويمد (الرحيم). ثم قال: وروى الإمام
[ص:382]
أحمد عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " يقال لقارىء القرآن: اقرأ وارق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا، فإن منزلتك عند آخر آية تقرأها " ورواه أبو داود والترمذي والنسائي وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.(14/381)
مالك عن قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم وصلاته، فقالت " ما لكم وصلاته، ثم نعتت قراءته فإذا هي تنعت قراءة مفسرة حرفاً حرفاً " (1) أخرجه النسائي.
وللترمذي قالت " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقطع قراءته يقول الحمد لله رب العالمين، ثم يقف، الرحمن الرحيم، ثم يقف، وكان يقول مالك يوم الدين ثم يقف " وفي رواية أبي داود قالت " قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين؛ الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، يقطع قراءته آية آية ".
وعن عبد الله بن مغفل قال: " رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة على ناقته يقرأ سورة الفتح فرجع في قراءته " أخرجه الشيخان. وعن جابر قال: " خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نقرأ القرآن وفينا العربي والعجمي فقال اقرأوا وكل حسن، وسيجيء أقوام يقيمونه كما يقام القدح يتعجلونه ولا يتأجلونه " أخرجه أبو داود، وزاد غيره في رواية " لا يجاوز تراقيهم ".
وعن ابن مسعود قال لا تنثروه نثر الدقل ولا تهذوه هَذّ الشعر، قفوا عند عجائبه وحركوا به القلوب، ولا يكن هَمُّ أحدكم آخر السورة، وفي الباب أحاديث.
والمقصود من الترتيل إنما هو حضور القلب عند القراءة لا مجرد إخراج الحروف من الحلقوم بتعويج الوجه والفم وألحان الغناء كما يعتاده قراء هذا الزمان من أهل مصر وغيره، في مكة المكرمة وغيرها، بل هو بدعة أحدثها البطالون الأكالون، والحمقاء الجاهلون بالشرائع وأدلتها الصادقة، وليس هذا بأول قارورة كسرت في الإسلام.
_________
(1) زاد المسير 8/ 389.(14/382)
إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (5) إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا (6) إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا (7)
وقوله(14/383)
إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (5)
(إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا) اعتراض بين الأمر بقيام الليل وبين تعليله بقوله الآتي (إن ناشئة الليل) والقصد بهذا الاعتراض تسهيل ما كلفه من القيام كأنه يقول إن قيام الليل وإن كان عليك فيه مشقة لكنه أسهل من غيره من التكاليف فإنا سنلقي الخ. وقال السمين هذه الجملة مستأنفة، وقال الزمخشري هذه الآية اعتراض ويعني بالاعتراض من حيث المعنى لا من حيث الصناعة، والمعنى سنوحي وسننزل إليك القرآن وهو قول ثقيل، وكلام عظيم ذو خطر وعظمة، لأنه كلام رب العالمين وكل شيء له خطر ومقدار فهو ثقيل.
قال قتادة: ثقيل والله فرائضه وحدوده، وقال مجاهد: حلاله وحرامه، وقال الحسن: العمل به، وقال أبو العالية: ثقيلاً بالوعد والوعيد والحلال والحرام، وقال محمد بن كعب: ثقيل على المنافقين والكفار بما فيها من الاحتجاج عليهم والبيان لضلالهم وهتك أسرارهم، وبطلان أديانهم وسب آلهتهم، وقال السدي: ثقيل بمعنى كريم من قولهم فلان ثقل عليّ أي كرم عليّ، قال الفراء: ثقيلاً أي رزيناً ليس بالخفيف السفساف، لأنه كلام ربنا، وقال الحسين بن الفضل: ثقيلاً لا يحمله إلا قلب مؤيد بالتوفيق، ونفس مزينة بالتوحيد، وقيل هو خفيف على اللسان بالتلاوة ثقيل في الميزان بالثواب يوم القيامة، وقيل ثقيل أي ثابت كثبوت، الثقيل في محله، ومعناه أنه ثابت الإعجاز لا يزول إعجازه أبداً، وقيل وصفه بكونه ثقيلاً حقيقة لما ثبت " أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا أوحي إليه وهو على ناقته وضعت جرانها (1) على الأرض فما تستطيع أن تتحرك حتى يسرى عنه " أخرجه أحمد
_________
(1) الجران: باطن العنق.(14/383)
وعبد بن حميد والحاكم وصححه عن عائشة (1).
وقيل ثقيلاً بمعنى أن العقل الواحد لا يفي بإدراك فوائده ومعانيه بالكلية، فالمتكلمون غاصوا في بحار معقولاته، والفقهاء بحثوا عن أحكامه وكذا أهل اللغة والنحو والمعاني والبيان، ثم لا يزال كل متأخر يفوز منه بفوائد ما وصل إليها المتقدمون، فعلمنا أن الإنسان الواحد لا يقوى على الاستقلال بحمله فصار كالجبل الثقيل الذي يعجز الخلق عن حمله، والأولى أن جميع هذه المعاني فيه، وقال القشيري القول الثقيل هو قول لا إله إلا الله لأنه ورد في الخبر " لا إله إلا الله خفيفة على اللسان ثقيلة في الميزان ".
_________
(1) رواه البخاري في " صحيحه " عن عائشة رضي الله عنها أن الحارث بن هشام سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف يأتيك الوحي؟ فقال: أحياناً يأتيني مثل صلصلة الجرس، وهو أشده عليَّ، فيفصم عني وقد وعيت عنه ما قال، وأحياناً يتمثل لي الملك رجلاً فيكلّمني فأعي ما يقول: قالت عائشة: ولقد رأيته ينزل عليه الوحي صلى الله عليه وسلم في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه وإن جبينه يتفصَّد عرقاً.(14/384)
إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا (6)
(إن ناشئة الليل) أي ساعاته وأوقاته، لأنها تنشأ أولاً فأولاً، يقال نشأ الشيء ينشأ إذا ابتدىء وأقبل شيئاًً بعد شيء فهو ناشىء وأنشأه الله فنشأ، ومنه نشأت السحاب إذا بدأت، فناشئة فاعلة من نشأت تنشىء فهي ناشئة، قال الزجاج: ناشئة الليل كل ما نشأ منه أي حدث فهو ناشئة، قال الواحدي: قال المفسرون الليل كله ناشئة، والمراد أن ساعات الليل الناشئة فاكتفى بالوصف عن الاسم الموصوف، وقيل إن ناشئة الليل هي النفس التي تنشأ من مضجعها للعبادة أي تنهض، من نشأ من مكانه إذا نهض، وقيل إنما يقال لقيام الليل ناشئة إذا كان بعد نوم، فلو لم يتقدمه نوم لم يكن ناشئة، وقيل ما ينشأ فيه من الطاعات.
قال ابن الأعرابي إذا نمت من أول الليل ثم قمت فتلك المنشأة والنشأة ومنه ناشئة الليل قيل وناشئة الليل هي ما بين المغرب والعشاء لأن معنى نشأ ابتدأ وكان زين العابدين علي بن الحسين رضي الله تعالى عنهما يصلي بين المغرب والعشاء ويقول: هذه ناشئة الليل، وقال عكرمة وعطاء: هي بدو(14/384)
الليل، وقال مجاهد وغيره: هي في الليل كله لأنه ينشأ بعد النهار، واختار هذا مالك، وقال ابن كيسان هي القيام من آخر الليل.
وقال في الصحاح: ناشئة الليل أول ساعاته، وقال الحسن: هي ما بعد العشاء الآخرة إلى الصبح، وقال ابن عباس: هي قيام الليل بلسان الحبشة إذا قام الرجل قالوا نشأ، قال الشيخ فعلى هذا هي جمع ناشىء أي قائم (قلت) يعني أنها صفة لشيء يفهم الجمع أي طائفة أو فرقة ناشئة وإلا ففاعل لا يجمع على فاعلة.
وأخرج البيهقي عن ابن عباس قال: هي أوله، وعنه قال الليل كله ناشئة، وعن ابن مسعود قال ناشئة الليل بالحبشية قيام الليل، وعن أنس بن مالك: قال هي ما بين المغرب والعشاء.
(هي أشد وطأً) قرأ الجمهور بفتح الواو وسكون الطاء مقصورة واختارها أبو حاتم وقرىء بكسر الواو وفتح الطاء ممدودة واختار هذه الفراء وأبو عبيدة، فالمعنى على الأولى أن الصلاة ناشئة الليل أثقل على المصلي من صلاة النهار، لأن الليل للنوم، قال ابن قتيبة المعنى أنها أثقل على المصلي من ساعات النهار من قول العرب اشتدت على القوم وطأة السلطان إذا ثقل عليهم ما يلزمهم منه، ومنه قوله صلى الله عليه عليه وآله وسلم " اللهم اشدد وطأتك على مضر " (1).
والمعنى على القراءة الثانية أنها أشد مواطأة أي موافقة السمع للقلب على تفهم القرآن من قولهم واطأت فلاناً على كذا مواطأة ووطاء إذا وافقته عليه، قال مجاهد وابن أبي مليكة: أي أشد موافقة بين القلب والسمع والبصر واللسان، لانقطاع الأصوات والحركات فيها، ومنه (ليواطئوا عدة ما حرم الله) أي ليوافقوا، وقال الأخفش: أشد قياماً، وقال الفراء: أي أثبت للعمل وأدوم لمن أراد الاستكثار من العبادة، والليل وقت الفراغ عن الاشتغال
_________
(1) متفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه في قصة القنوت في صلاة الصبح.(14/385)
بالمعاش، فعبادته تدوم ولا تنقطع، وقال الكلبي أشد نشاطاً.
(وأقوم قيلاً) أي أبين قولاً، وأسد مقالاً، وأثبت قراءة وأصح قولاً من النهار لحضور القلب فيها وهدو الأصوات وسكونها، وأشد استقامة واستمراراً على الصواب، لأن الأصوات فيها هادئة والدنيا ساكنة، فلا يضطرب على المصلي ما يقرأه، قال قتادة ومجاهد: أي أصوب للقراءة وأثبت للقول لأنه زمان التفهم، قال أبو علي الفارسي: أَقوم قيلاً أي أشد استقامة بفراغ البال بالليل، قال الكلبي: أي أبين قولاً بالقرآن، وقال عكرمة: أي أتم نشاطاً وإخلاصاً وأكثر بركة، وقال ابن زيد: أجدر أن يتفقه في القرآن وقيل أعجل إجابة للدعاء.(14/386)
إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا (7)
(إن لك في النهار سبحاً طويلاً) قرأ الجمهور بالحاء المهملة أي تصرفاً في حوائجك وأشغالك وإقبالاً وإدباراً وذهاباً ومجيئاً، والسبح الجري والدوران ومنه السباحة في الماء لتقلبه بيديه ورجليه، وفرس سابح أي شديد الجري، وقد استعير من السباحة في الماء للتصرف في الحوائج، وقيل السبح الفراغ أي أن لك فراغاً بالنهار للحاجات فصل بالليل.
وقال ابن عباس: السبح الفراغ للحاجة والنوم، قال ابن قتيبة: أي تصرفاً وإقبالاً وإدباراً في حوائجك وأشغالك وقيل فراغاً وسعة لنومك وراحتك، وقال الخليل: سبحاً أي نوماً والسبح التمدد، وقال الزجاج: المعنى إن فاتك في الليل شيء فلك في النهار فراغ للاستدراك.
وقرىء سبخاً بالخاء المعجمة قيل ومعنى هذه القراءة الخفة والسعة والاستراحة، قال الأصمعي يقال سبخ الله الحمى أي خففها، وسبخ الحر فتر وخف ومنه قول الشاعر.
فسبخ عليك الهم واعلم بأنه ... إذا قدر الرحمن شيئاًً فكائن
أي خفف عنك الهم، والتسبيخ من القطن ما ينسبخ بعد الندف، وقال ثعلب السبخ بالخاء المعجمة التردد والاضطراب، والسبخ السكون، وقال أبو عمر السبخ النوم والفراغ.(14/386)
وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا (8) رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا (9) وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا (10) وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا (11) إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا (12) وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا (13) يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا (14) إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا (15) فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا (16)(14/387)
وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا (8)
(واذكر اسم ربك) أي ادعه بأسمائه الحسنى، وقيل اقرأ باسم ربك في ابتداء صلاتك وقيل اذكر اسم ربك في وعده ووعيده لتوفر على طاعته وتبعد عن معصيته، وقيل المعنى دم على ذكر ربك وتلاوة القرآن ودراسة العلم ليلاً ونهاراً، واستكثر من ذلك على أي وجه كان من تسبيح وتهليل وتحميد وصلاة وقراءة قرآن، قاله القاضي كالكشاف، وقال الكلبي: المعنى صل لربك وقال المحلي: أي قل بسم الله الرحمن الرحيم في ابتداء قراءتك انتهى تبع فيه سهلاً وزاد عليه سهل توصلك ببركة قراءتها إلى ربك وتقطعك عما سواه، ذكره الكرخي، ومعنى في ابتداء قراءتك سواء قرأت في الصلاة أو في خارجها، وهذا إذا قرأ من أول سورة، وأما إذا قرأ من أثناء سورة فإنه إن كان في غير الصلاة سن له أن يبسمل، وإن كان فيها لم تسن له البسملة لأن قراءة السورة بعد الفاتحة تعد قراءة واحدة فتأمل.
(وتبتل تبتيلاً) أي انقطع إليه انقطاعاً بالإشتغال لعبادته، والتبتل الانقطاع يقال تبتلت الشيء أي قطعته وميزته عن غيره، وصدقة بتلة أي منقطعة من مال صاحبها، ويقال للراهب تبتل لانقطاعه عن الناس، ووضع تبتيلاً مكان تبتلاً لرعاية الفواصل، قال الواحدي والتبتل رفض الدنيا وما فيها والتماس ما عند الله، وقيل المعنى أخلص إليه إخلاصاً، وقيل توكل عليه توكلاً.(14/387)
رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا (9)
(رب المشرق والمغرب) قرأ حمزة والكسائي وأبو بكر وابن عامر بجر (رب) على النعت لربك أو البدل منه أو البيان له، وقرأ الباقون برفعه على أنه مبتدأ وخبره.
(لا إله إلا هو) أو على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هو رب الخ وقرأ زيد بن علي بنصبه على المدح، وقرأ الجمهور المشرق والمغرب مفردين، وقرأ ابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهم المشارق والمغارب على الجمع، وقد قدمنا تفسير المشرق والمغرب والمشرقين والمغربين والمشارق والمغارب.
(فاتخذه وكيلاً) أي إذا عرفت أنه المختص بالربوبية فاتخذه قائماً بأمورك وعول عليه في جميعها، وقيل كفيلاً بما وعدك من الجزاء والنصر، وفائدة الفاء أن لا تلبث بعد أن عرفت في تفويض الأمور إلى الواحد القهار إذ لا عذر لك في الانتظار بعد الإقرار.
قال البقاعي وليس ذلك بأن يترك الإنسان كل عمل فإن ذلك طمع فارغ بل بالإجمال في طلب كل ما ندب الإنسان إلى طلبه ليكون متوكلاً في السبب، منتظراً المسبب، فلا يهمل الأسباب ويتركها طامعاً في المسببات، لأنه حينئذ يكون كمن يطلب الولد من غير زوجة، وهو مخالف لحكمة هذه الدار المبنية على الأسباب.(14/388)
وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا (10)
(واصبر على ما يقولون) فيَّ من الصاحبة والولد، وفيك من الساحر والشاعر، والأذى والسب والاستهزاء ولا تجزع من ذلك (واهجرهم هجراً جميلاً) أي لا تتعرض لهم ولا تشتغل بمكافآتهم وتجانبهم وتداريهم وكل أمرهم إلى الله فالله يكفيكهم، وقيل الهجر الجميل الذي لا جزع فيه. وهذا كان قبل الأمر بالقتال.(14/388)
وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا (11)
(وذرني والمكذبين) أي دعني وإياهم ولا تهتم بهم، فإني أكفيك أمرهم وأنتقم لك منهم، وقيل نزلت في المطعميين يوم بدر، وهم عشرة،(14/388)
وقد تقدم ذكرهم، وقال يحيي بن سلام: هم بنو المغيرة، وقال سعيد بن جبير: أخبرت أنهم إثنا عشر.
(أولي النعمة) أي أرباب الغنى والسعة والترفه واللذة في الدنيا، والنعمة بالفتح التنعم بالكسر الإنعام وبالضم المسرة.
(ومهلهم قليلاً) أي تمهيلاً قليلاً، على أنه نعت لمصدر محذوف، أو زماناً قليلاً على أنه صفة لزمان محذوف، والمعنى أمهلهم إلى انقضاء آجالهم، وقيل إلى نزول عقوبة الدنيا بهم كيوم بدر، قالت عائشة " لما نزلت هذه الآية لم يكن إلا يسيراً حتى كانت وقعة بدر " وقيل إلى يوم القيامة، والأول أولى لقوله:(14/389)
إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا (12)
(إن لدينا أنكالاً) وما بعده فإنه وعيد لهم بعذاب الآخرة، والأنكال جمع نكل وهو القيد كما قال الحسن ومجاهد وغيرهما، قال ابن مسعود: أنكالاً قيوداً، وقال الكلبي: الأنكال: الأغلال من حديد، والأول أعرف في اللغة، وقال مقاتل: هي أنواع العذاب الشديد، وقال أبو عمران الجوني هي قيود لا تحل.
(وجحيماً) أي ناراً مؤججة محرقة(14/389)
وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا (13)
(وطعاماً ذا غصة) أي لا يسوغ في الحلق بل ينشب فيه فلا ينزل ولا يخرج، قال ابن عباس: هو شجرة الزقوم، وبه قال مجاهد، وقال الزجاج: هو الضريع كما قال تعالى:
(ليس لهم طعام إلا من ضريع) وقال: هو شوك العوسج، قال عكرمة: هو شوك يأخذ بالحلق لا يدخل ولا يخرج والغصة الشجى في الحلق وهو ما ينشب فيه من عظم أو غيره وجمعها غصص (وعذاباً أليماً) أي ونوعاً آخر من العذاب غير ما ذكر وجعاً يخلص وجعه إلى القلب.(14/389)
يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا (14)
(يوم ترجف الأرض والجبال) انتصاب الظرف إما بذرني أو بالاستقرار المتعلق به لدينا أو هو صفة لعذاب فيتعلق بمحذوف أي عذاباً واقعاً يوم ترجف، أو متعلق بأليمٍ، قرأ الجمهور ترجف بفتح التاء وضم الجيم مبنياً(14/389)
للفاعل، وقرىء مبنياً للمفعول مأخوذ أرجفها، والمعنى تتحرك وتتزلزل وتضطرب بمن عليها وهو يوم القيامة، والرجفة الزلزلة والرعدة الشديدة.
(وكانت الجبال) أي وتكون الجبال التي هي مراسي الأرض وأوتادها (كثيباً مهيلاً) وإنما عبر عنه بالماضي لتحقق وقوعه، والكثيب الرمل المجتمع من كثب الشيء إذا جمعه، كأنه فعيل بمعنى مفعول، والمهيل الذي يمر تحت الأرجل، قال الواحدي: أي رملاً سائلاً يقال لكل شيء أرسلته إرسالاً من تراب أو طعام أهلته هيلاً، قال الضحاك والكلبي: المهيل الذي إذا وطئته بالقدم زل من تحتها، وإذا أخذت أسفله انهال. وقال ابن عباس: المهيل الذي إذا أخذت منه شيئاًً تبعك آخره، وعنه قال المهيل الرمل السائل.(14/390)
إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا (15)
(إنا أرسلنا إليكم رسولاً شاهداً عليكم) الخطاب لأهل مكة أو لكفار قريش أو لجميع الكفار ففيه التفات من الغيبة في قوله (واصبر على ما يقولون) وقوله: (والمكذبين) والرسول محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم والمعنى يشهد عليكم يوم القيامة بأعمالكم.
(كما أرسلنا إلى فرعون رسولاً) يعني موسى(14/390)
فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا (16)
(فعصى فرعون الرسول) الذي أرسلناه إليه وكذبه ولم يؤمن بما جاء به، والنكرة إذا أعيدت معرفة كان الثاني عين الأول، وإنما خص موسى وفرعون بالذكر لأن خبرهما كان منتشراً بين أهل مكة، لأنهم كانوا جيران اليهود، والمعنى إنا أرسلنا إليكم رسولاً فعصيتموه كما أرسلنا إلى فرعون رسولاً فعصاه.
(فأخذناه أخذاً وبيلاً) أي شديداً ثقيلاً غليظاً، ومنه قيل للمطر وابل، وقال الأخفش شديداً، وبه قال ابن عباس، والمعنى متقارب، ومنه طعام وبيل إذا كان لا يستمرأ.(14/390)
فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا (17) السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا (18)(14/391)
فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا (17)
(فكيف تتقون) أي فكيف تقون أنفسكم وتوجدون الوقاية التي تقي أنفسكم، والمعنى لا سبيل لكم إلى التقوى إذا رأيتم القيامة، وقيل معناه فكيف تتقون العذاب يوم القيامة (إن كفرتم) أي إذا بقيتم على كفركم في الدنيا (يوماً) أي عذاب يوم.
(يجعل الولدان شيباً) لشدة هوله أي يصير الولدان شيوخاً شمطاً، والشيب جمع أشيب، وهذا يجوز أن يكون حقيقة وأنهم يصيرون كذلك، أو تمثيلاً لأن من شاهد الهول العظيم تقاصرت قواه وضعفت أعضاؤه وصار كالشيخ في الضعف وسقوط القوة، قال الشاعر:
والهم يخترم الجسيم نحافة ... ويشيب ناصية الصبى ويهرم
قال في المصباح والشيب ابيضاض الشعر المسود وشيب الحزن رأسه وبرأسه بالتشديد وأشابه بالألف وأشاب به فشاب في المطاوع انتهى. وفي القاموس الشيب الشعر وبياضه كالمشيب وهو أشيب، ولا فعلاء له أي لا يقال امرأة شيباء كما في المصباح، وقومٌ شِيبٌ وَشُيُبٌ بضمتين، وقيل يحتمل أن يكون المراد وصف ذلك اليوم بالطول وأن الأطفال يبلغون منه الشيخوخة والشيب، والأول أولى. وفي هذا توبيخ لهم شديد وتقريع عظيم.
قال الحسن أي كيف تتقون يوماً يجعل الولدان شيباً إذ كفرتم وكذا قرأ ابن مسعود وعطية، ويوماً مفعول به لتتقون، قال ابن الأنباري: ومنهم من نصب اليوم بكفرتم، وهذا قبيح، والولدان الصبيان.
وعن ابن عباس " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ يجعل الولدان شيباً قال ذلك يوم القيامة. وذلك يوم يقول الله لآدم قم فابعث من ذريتك بعثاً إلى النار، قال من كم يا رب؟ قال من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين(14/391)
وينجو واحد، فاشتد ذلك على المسلمين فقال حين أبصر ذلك في وجوههم إن بني آدم كثير، وأن يأجوج ومأجوج من ولد آدم إنه يموت رجل منهم حتى يرثه لصلبه ألف رجل ففيهم وفي أشباههم جنة لكم " أخرجه الطبراني وابن مردويه، وأخرج ابن المنذر عن ابن مسعود بأخصر منه.
ثم زاد سبحانه في وصف ذلك اليوم بالشدة فقال:(14/392)
السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا (18)
(السماء منفطر به) أي منشقة به لشدته وعظيم هوله، فما ظنك بغيرها من الخلائق، والجملة صفة أخرى ليوم والباء سببية، وجوز الزمخشري أن تكون للاستعانة فإنه قال والباء في " به " مثلها في قولك فطرت العود بالقدوم فانفطر به، وقال القرطبي إنها بمعنى " في " أي منفطر فيه وهو ظاهر، وقيل بمعنى اللام أي منفطر له، وإنما قال منفطر ولم يقل منفطرة لتنزيل السماء منزلة شيء لكونها قد تغيرت ولم يبق منها إلا ما يعبر عنه بالشيء.
وقال أبو عمرو بن العلاء: لم يقل منفطرة لأن مجازها السقف، فيكون هذا كما في قوله (وجعلنا السماء سقفاً محفوظاً) وقال الفراء: السماء تذكر وتؤنث، وقال أبو علي الفارسي: هو من باب الجراد المنتشر، والشجر الأخضر و (أعجاز نخل منقعر) وقال أيضاًً أي السماء ذات انفطار كقولهم امرأة مرضع، أي ذات إرضاع على طريق النسب. وانفطارها لنزول الملائكة قال:
(إذا السماء انفطرت) وقوله: (والسموات يتفطرن من فوقهن) وقيل منفطر به أي بالله والمراد بأمره، والأول أولى، وقال ابن عباس: منفطر به ممتلئة بلسان الحبشة وعنه قال مثقلة موقرة، وعنه قال يعني تشقق السماء.
(وكان وعده مفعولاً) أي كان وعد الله بما وعد به من البعث والحساب وغير ذلك كائناً لا محالة، والمصدر مضاف إلى فاعله، أو وكان وعد اليوم مفعولاً فالمصدر مضاف إلى مفعوله، ومعنى مفعولاً أنه مقضي نافذ لا يرد على حد (من قبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله) قال مقاتل كان وعده أن يظهر دينه على الدين كله.(14/392)
إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (19) إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (20)(14/393)
إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (19)
(إن هذه) أي ما تقدم من الآيات (تذكرة) أي موعظة، وقيل الإشارة إلى جميع آيات القرآن لا إلى ما في هذه السورة فقط (فمن شاء) النجاة (اتخذ) بالطاعة التي هي أهم أنواعها التوحيد (إلى ربه سبيلاً) أي طريقاً توصله إلى الجنة، وقال القرطبي أي من أراد أن يؤمن ويتخذ بذلك إلى ربه سبيلاً أي طريقاً إلى رضاه ورحمته فليرغب فقد أمكن له لأنه أظهر له الحجج والدلائل.(14/393)
إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (20)
(إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى) أي أقل، استعير له الأدنى لأن المسافة بين الشيئين إذا دنت قل ما بينهما من الإحياز، وإذا بعدت كثر ذلك (من ثلثي الليل ونصفه) معطوف على أدنى، وقوله: (وثلثه) معطوف على نصفه، والمعنى أن الله يعلم أن رسوله صلى الله عليه وسلم يقوم أقل من ثلثي الليل ويقوم نصفه ويقوم ثلثه وبالنصب قرأ ابن كثير والكوفيون، وقرأ الجمهور ونصفه وثلثه بالجر عطفاً على ثلثي الليل، والمعنى أن الله يعلم أن رسوله يقوم أقل من ثلثي الليل وأقل من نصفه وأقل من ثلثه، واختار قراءة الجمهور أبو عبيد وأبو حاتم لقوله الآتي:
(علم أن لن تحصوه) فكيف يقومون نصفه وثلثه وهم لا يحصونه، وقال الفراء النصب أشد بالصواب، لأنه قال أقل من ثلثي الليل ثم فسر نفس القلة.(14/393)
(وطائفة من الذين معك) معطوف على الضمير (تقوم) وجاز من غير تأكيد للفصل أي وتقوم ذلك القدر معك طائفة من أصحابك (والله يقدر الليل والنهار) أي يعلم مقاديرهما على حقائقها، ويختص بذلك دون غيره، وأنتم لا تعلمون ذلك على الحقيقة، قال عطاء يريد لا يفوته علم ما يفعلون أي أنه يعلم مقادير الليل والنهار فيعلم قدر الذي يقومونه من الليل والذي ينامون منه.
(علم أن لن تحصوه) أي لن تطيقوا علم مقاديرهما على الحقيقة، وفي أن ضمير شأن محذوف أي أنه وقيل المعنى لن تطيقوا قيام الليل، قال القرطبي والأول أصح، فإن قيام الليل ما فرض كله قط قال مقاتل وغيره لما نزل (قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ) شق ذلك عليهم وكان الرجل لا يدري متى نصف الليل من ثلثه فيقوم حتى يصبح مخافة أن يخطىء فانتفخت أقدامهم وامْتُقِعَتْ (1) ألوانهم، فرحمهم الله وخفف عنهم فقال (علم أن لن تحصوه) لأنكم إن زدتم ثقل عليكم واحتجتم إلى تكلف ما ليس فرضاً، وإن نقصتم شق ذلك عليكم.
(فتاب عليكم) أي فعاد عليكم بالعفو ورخص لكم في ترك القيام، وقيل أسقط عنكم فرض القيام إذ عجزتم، وأصل التوبة الرجوع كما تقدم، فالمعنى رجع بكم من التثقيل إلى التخفيف، ومن العسر إلى اليسر، قال المحلي رجع بكم إلى التخفيف، قال الحفناوي فالمراد التوبة اللغوية لا التوبة من الذنب والمراد بالتخفيف الذي رجع بهم إليه ما كان قبل وجوب القيام لكن الرجوع في الجملة لأنه قبل وجوب قيام الليل لم يكن عليهم قيام شيء منه، وفي هذا الرجوع والتخفيف وجوب جزء مطلق يصدق بركعتين.
(فاقرأوا ما تيسر من القرآن) بيان للبدل الذي وقع النسخ إليه أي فنسخ التقدير بالأجزاء الثلاثة إلى جزء مطلق من الليل، وسيأتي أن هذا الجزء نسخ أيضاًً بوجوب الصلوات الخمس، والمعنى فاقرأوا في الصلاة بالليل ما
_________
(1) امتُقِعَ لونه (بالبناء للمجهول) تغيَّر من حزن أو فزع أو مرض.(14/394)
خف عليكم وتيسر لكم منه من غير أن ترقبوا وقتاً، قاله القرطبي ورجحه، قال الحسن هو ما يقرأ في صلاة المغرب والعشاء، وقال السدي: ما تيسر منه هو مائة آية، وقال الحسن أيضاًً: من قرأ مائة آية في ليلة لم يحاجه القرآن، وقال كعب: من قرأ في ليلة مائة آية كتب من القانتين، وقال سعيد خمسون آية وعن ابن عباس مرفوعاً قال مائة آية أخرجه الطبراني وابن أبي حاتم وابن مردويه.
وعن قيس بن أبي حازم قال: " صليت خلف ابن عباس فقرأ في أول ركعة بالحمد لله رب العالمين وأول آية من البقرة ثم ركع فلما انصرفنا أقبل علينا فقال إن الله يقول فاقرأوا ما تيسر منه " أخرجه الدارقطني والبيهقي في سننه وحسناه، قال ابن كثير هذا حديث غريب جداً لم أره إلا في معجم الطبراني.
وعن أبي سعيد عند أحمد والبيهقي في سننه قال: " أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نقرأ بفاتحة الكتاب وما تيسر " وقد قدمنا في أول هذه السورة ما روي أن هذه الآيات المذكورة هنا هي الناسخة لوجوب قيام الليل وقيل المعنى فصلوا ما تيسر لكم من صلاة الليل، والصلاة تسمى قرآناً كقوله (وقرآن الفجر) قيل إن هذه الآية نسخت قيام الليل ونصفه والنقصان من النصف والزيادة عليه فيحتمل أن يكون ما تضمنته هذه الآية فرضاً ثابتاً ويحتمل أن يكون منسوخاً لقوله (ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً).
قال الشافعي: الواجب طلب الاستدلال بالسنة على أحد المعنيين، فوجدنا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم تدل على أن لا واجب من الصلاة إلا الخمس، وقد ذهب قوم إلى أن قيام الليل نسخ في حقه صلى الله عليه وسلم وفي حق أمته، وقيل نسخ التقدير بمقدار، وبقي أصل الوجوب وقيل أنه نسخ في حق الأمة وبقي فرضاً في حقه صلى الله عليه وسلم، والأول القول بنسخ قيام الليل على العموم في حقه صلى الله عليه وسلم وفي حق(14/395)
أمته، وليس في قوله: (فاقرأوا ما تيسر منه) ما يدل على بقاء شيء من الوجوب، لأنه إن كان المراد به القراءة من القرآن فقد وجدت في المغرب والعشاء وما يتبعهما من النوافل المؤكدة، وإن كان المراد به الصلاة من الليل فقد وجدت صلاة الليل بصلاة المغرب والعشاء وما يتبعهما من التطوع.
وأيضاًً الأحاديث الصحيحة المصرحة بقول السائل لرسول الله صلى الله عليه وسلم هل على غيرها يعني الصلوات الخمس، فقال " لا إلا أن تطوع " تدل على عدم وجوب غيرها فارتفع بهذا وجوب قيام الليل وصلاته على الأمة كما ارتفع وجوب ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم بقوله:
(ومن الليل فتهجد به نافلة لك) قال الواحدي قال المفسرون في قوله: (فاقرأوا ما تيسر منه) كان هذا في صدر الإسلام ثم نسخ بالصلوات الخمس عن المؤمنين وثبت على النبي صلى الله عليه وسلم خاصة، وذلك قوله (وأقيموا الصلاة).
قلت فيه نظر لأن وجوب الصلوات الخمس لا ينافي وجوب قيام الليل، وشرط الناسخ أن يكون حكمه منافياً ومعارضاً لحكم المنسوخ كوجوب العدة بحول مع وجوبها بأربعة أشهر فليتأمل، فالصواب أن يكون النسخ بغير ذلك كالحديث الذي قدمنا.
ثم ذكر سبحانه عذرهم فقال: (علم أن سيكون منكم مرضى) فلا يطيقون قيام الليل ويشق عليهم ذلك، وقال الحفناوي هذا استئناف مبين لحكمة أخرى، فالحكمة الأولى هي قوله: (علم أن لن تحصوه) والثانية هي قوله (علم أن سيكون) الخ.
(وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله) أي يسافرون فيها للتجارة والأرباح يطلبون من رزق الله ما يحتاجونه إليه في معاشهم فلا يطيقون قيام الليل (وآخرون يقاتلون في سبيل الله) يعني الغزاة والمجاهدين فلا يطيقون قيام الليل، قال النسفي: سوى سبحانه وتعالى في هذه الآية بين(14/396)
درجة المجاهد والمكتسب، لأن كسب الحلال جهاد.
قال ابن مسعود أيما رجل جلب شيئاًً إلى مدينة من مدائن المسلمين صابراً محتسباً فباعه بسعر يومه كان عند الله من الشهداء ثم قرأ هذه الآية، وقال ابن عمر ما خلق الله موتة أموتها بعد القتل في سبيل الله أحب إليَّ من أن أموت بين شعبتي رحل أضرب في الأرض أبتغي من فضل الله، وقال طاوس الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله.
ثم لما ذكر سبحانه ههنا ثلاثة أسباب مقتضية للترخيص ورفع وجوب القيام فرفعه عن جميع الأمة لأجل هذه الأعذار التي تنوب بعضهم، ذكر ما يفعلونه بعد هذا الترخيص فقال (فاقرأوا ما تيسر منه) وقد تقدم تفسيره قريباً والتكرير للتأكيد (وأقيموا الصلاة) يعني المفروضة وهي الخمس لوقتها (وآتوا الزكاة) يعني الواجبة في الأموال (1)، وقال الحرث العكلي صدقة الفطر لأن زكاة الأموال وجبت بعد ذلك، وقيل صدقة التطوع، وقيل كل أفعال الخير.
(وأقرضوا الله قرضاً حسناً) أي أنفقوا ما سوى المفروض في سبل الخير من أموالكم إنفاقاً حسناً عن طيب قلب، وإنما أضافه إلى نفسه لئلا يمن على الفقير فيما يتصدق به عليه، وهذا لأن الفقير معاون له في تلك القربة فلا تكون له عليه منة، بل المنة للفقير عليه، وقد مضى تفسيره في سورة الحديد.
_________
(1) قال ابن كثير: وقوله تعالى: (وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة) أي: أقيموا صلاتكم الواجبة عليكم، وآتوا الزكاة المفروضة، قال: وهذا يدل لمن قال: إن فرض الزكاة نزل بمكة، لكن مقادير النُّصُب والمخرَج لم تُبين إلا بالمدينة، والله أعلم. قال: وقد قال ابن عباس، وعكرمة، ومجاهد، والحسن، وقتادة، وغير واحد من السلف: إن هذه الآية نسخت الذي كان الله قد أوجبه على المسلْمين أولاً من قيام الليل، واختلفوا في المدة التي بينهما على أقوال، وقد ثبت في " الصحيحين " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لذلك الرجل الذي سأل: ماذا فرض الله عليه من الصلوات؟: " خمس صلوات في اليوم والليلة " قال: هل عليَّ غيرها؟ قال: " لا إلا أن تطوع ".(14/397)
قال زيد بن أسلم القرض الحسن الإنفاق على الأهل وقيل الإنفاق من الحلال بالإخلاص والصرف إلى المستحق، وقيل النفقة في الجهاد، وقيل هو إخراج الزكاة المفترضة على وجه حسن فيكون تفسيراً لقوله: (وآتوا الزكاة) والأول أولى لقوله (وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله) فإن ظاهره العموم أي أيّ خير كان مما ذكر ومما لم يذكر.
(هو خيراً وأعظم أجراً) أي أجزل ثواباً مما تؤخرونه إلى عند الموت أو توصون به ليخرج بعد موتكم، وانتصاب خيراً على أنه ثاني مفعولي تجدوه وضمير هو ضمير فصل وبالنصب قرأ الجمهور، وقرىء بالرفع على أنه خبر هو، والجملة في محل نصب على أنها ثاني مفعولي تجدوه، قال أبو زيد وهي لغة تميم يرفعون ما بعد ضمير الفصل، وقرأ الجمهور أيضاًً أعظم بالنصب عطفاً على (خيراً) وقرىء بالرفع مثل خير وانتصاب أجراً على التمييز.
(واستغفروا الله) أي اطلبوا منه المغفرة لذنوبكم في مجامع أحوالكم فإنكم لا تخلون من ذنوب تقترفونها (إن الله غفور رحيم) أي كثير المغفرة لمن استغفره كثير الرحمة لمن استرحمه، ويستر على أهل الذنب والتقصير، ويخفف عن أهل الجهد والتوفير، وهو على ما يشاء قدير (1).
_________
(1) قال ابن جرير الطبري في تتمة الآية من آخر السورة (واستغفروا الله) يقول تعالى ذكره: سلوا الله غفران ذنوبكم، يصفح لكم عنها (إن الله غفور رحيم) يقول: إن الله ذو مغفرة لذنوب من تاب من عباده من ذنوبه، وذو رحمة أن يعاقبهم عليها من بعد توبتهم منها.(14/398)
سورة المدثر
هي خمس أو ست وخمسون آية وهي مكيّة في قول الجميع، قال ابن عباس نزلت بمكة، وعن ابن الزبير مثله.(14/399)
بسم الله الرحمن الرحيم
يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5) وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (7) فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8) فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9) عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (10) ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11)
قال الواحدي قال المفسرون لما بدىء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالوحي أتاه جبريل فرآه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على سرير بين السماء والأرض كالنور المتلألىء ففزع ووقع مغشياً عليه، فلما أفاق دخل على خديجة ودعا بماء فصبه عليه، وقال دثروني، فدثروه بقطيفة فقال(14/401)
يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1)
(يا أيها المدثر) أي يا أيها الذي قد تدثر بثيابه، أي تغشى بها من الرعب الذي حصل له من رؤية الملك عند نزول الوحي، وأصله المتدثر فأدغمت التاء في الدال لتجانسهما، وقد قرأ الجمهور بالإدغام، وقرأ أبيّ على الأصل، والدثار هو ما يلبس فوق الشعار، والشعار هو الذي يلي الجسد، وفي الحديث الأنصار شعار، والناس دثار، وسيف داثر بعيد العهد بالصقال، ومنه قيل للمنزل الدارس داثر لذهاب أعلامه، وقال عكرمة المعنى يا أيها المدثر بالنبوة وأثقالها، قال ابن العربي وهذا مجاز بعيد لأنه لم يكن نبياً إذ ذاك.
أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن جابر بن عبد الله أن أبا سلمة بن عبد الرحمن قال إن أول ما نزل من القرآن (يا أيها المدثر) فقال له يحيى بن أبي كثير يقولون إن أول ما نزل من القرآن (اقرأ باسم ربك الذي خلق) فقال أبو سلمة سألت جابر بن عبد الله عن ذلك وقلت له مثل ما قلت فقال جابر لا أحدثنك إلا ما حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " جاورت بحراء فلما قضيت جواري هبطت فنوديت فنظرت عن يميني فلم أر شيئاً،(14/401)
ونظرت عن شمالي فلم أر شيئاًً، ونظرت خلفي فلم أر شيئاًً فرفعت رأسي فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض، فجئثت منه رعباً فرجعت فقلت دثروني فنزلت (يا أيها المدثر) إلى قوله (والرجز فاهجر) (1) " وعن ابن عباس قال دثر هذا الأمر فقم به، وعنه قال المدثر النائم، وسيأتي في سورة اقرأ ما يدل على أنها أول سورة أنزلت، والجمع ممكن.
قال الخطيب اختلف في أول ما نزل من القرآن اختلافاً طويلاً، وتحقيق المعتمد منه وطريق الجمع بين الأحاديث المتناقضة فيه أن أول ما نزل على الإطلاق (اقرأ باسم ربك) إلى (ما لم يعلم)، وأول ما نزل بعد فترة الوحي يا أيها المدثر إلى فاهجر، وفي صدر حاشية سليمان الجمل استيفاء الكلام على ترتيب القرآن نزولاً نقلاً عن الخازن فراجعه إن شئت.
_________
(1) رواه البخاري 8/ 520 ومسلم 1/ 144 وأحمد في " المسند " 3/ 306 والطبري 29/ 143 والواحدي في " أسباب النزول " 333 وأورده السيوطي في " الدر " 6/ 280 وزاد نسبته للطيالسي، وعبد الرزاق، وعبد بن حميد، والترمذي، وابن الضريس، وابن المنذر، وابن مردويه، وابن الأنباري في " المصاحف " عن جابر رضي الله عنه.(14/402)
قُمْ فَأَنْذِرْ (2)
(قم فأنذر) أي انهض فخوف أهل مكة وحذرهم العذاب إن لم يسلموا، أو قم من مضجعك واترك الدثر بالثياب واشتغل بهذا المنصب الذي نصبك الله له وهو الإنذار، أو قم قيام عزم وتصميم، وقيل الإنذار هنا هو إعلامهم بنبوته، وقيل إعلامهم بالتوحيد، وقال الفراء المعنى قم فصل وأمر بالصلاة.(14/402)
وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3)
(وربك فكبر) أي واختص سيدك ومالكك ومصلح أمورك بالتكبير، وهو وصفه سبحانه بالكبرياء والعظمة عقداً وقولاً، وأنه أكبر من أن يكون له شريك كما يعتقده الكفار، وأعظم من أن تكون له صاحبة أو ولد، قال ابن العربي المراد به تكبير التقديس والتنزيه لخلع الأضداد والأنداد والأصنام، ولا(14/402)
تتخذ ولياً غيره، ولا تعبد سواه، ولا ترى لغيره فعلاً إلا له ولا نعمة إلا منه.
قال الزجاج إن الفاء في (فكبر) دخلت على معنى الجزاء كما دخلت في قوله فأنذر، وقال ابن جني هو كقولك زيداً فاضرب أي زيداً اضرب فالفاء زائدة وعبارة الكرخي دخلت الفاء لمعنى الشرط كأنه قيل وأياماً كان فلا تدع تكبيره.(14/403)
وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4)
(وثيابك فطهر) المراد بها الثياب الملبوسة على ما هو المعنى اللغوي، أمره الله سبحانه بتطهير ثيابه وحفظها عن النجاسات وإزالة ما وقع فيها منها، وقال مجاهد وابن زيد وأبو رزين أي عملك فأصلح وقال قتادة نفسك فطهر من الذنب، والثياب عبارة عن النفس، وقال سعيد بن جبير قلبك فطهر، وقال الحسن والقرطبي أخلاقك فطهر، لأن خلق الإنسان مشتمل على أحواله اشتمال ثيابه على نفسه.
وقال الزجاج المعنى وثيابك فقصر، لأن تقصير الثوب أبعد من النجاسات إذا انجر على الأرض، وبه قال طاوس، وذلك لأن العرب كانت عادتهم تطويل الثياب وجر الذيول ولا يؤمن معه إصابة النجاسة، وفي الثوب الطويل من الخيلاء والكبر والفخر ما ليس في الثوب القصير، فنهى عن تطويل الثوب وأمر بتقصيره لذلك.
وقال أبيّ ابن كعب معناه لا تلبسها على غدر ولا على ظلم ولا على إثم، البسها وأنت بر طاهر، وقال ابن عباس أي لا تكن ثيابك التي تلبس من مكسب باطل، وعنه قال فطهر من الإثم قال وهي في كلام العرب نقي الثياب، وعنه قال من الغدر لا تكن غداراً، وفي لفظ لا تلبسها على غدرة، والأول أولى لأنه المعنى الحقيقي، وليس في استعمال الثياب مجاز عن غيرها لعلاقة مع قرينة ما يدل على أنه المراد عند الإطلاق، وليس في مثل هذا الأصل أعني الحمل على الحقيقة عند الإطلاق خلاف.(14/403)
وفي الآية دليل على وجوب طهارة الثياب في الصلاة.
قال الرازي إذا حملنا التطهير على حقيقته ففي الآية ثلاث احتمالات (الأول) قال الشافعي المقصود من الآية الإعلام بأن الصلاة لا تجوز إلا في ثياب طاهرة من الأنجاس (وثانيها) قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم كان المشركون لا يصونون ثيابهم عن النجاسات فأمره الله أن يصون ثيابه عنها (وثالثها) روي أنهم ألقوا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قذراً فقيل له وثيابك فطهر عن تلك النجاسات والقاذورات.(14/404)
وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5)
(والرجز فاهجر) الرجز معناه في اللغة العذاب، وفيه لغتان كسر الراء وضمها وهما قراءتان سبعيتان، والزاي منقلبة عن السين، والعرب تعاقب بين السين والزاي ومعناهما واحد، وإنما سمي الشرك وعبادة الأوثان رجزاً لأنها سبب الرجز، وقال مجاهد وعكرمة الرجز الأوثان كما في قوله:
(فاجتنبوا الرجس من الأوثان) وبه قال ابن زيد، وقال إبراهيم النخعي الرجز المأثم، والهجر الترك، وقال قتادة الرجز أساف ونائلة، وهما صنمان كانا عند البيت، وقال أبو العالية والربيع والكسائي الرجز بالضم الوثن، وبالكسر العذاب، وقال السدي الرجز بضم الراء الوعيد والأول أولى، وقال ابن عباس الرجز الأصنام.(14/404)
وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6)
(ولا تمنن تستكثر) قرىء لا تمن بالإدغام، وقرأ الجمهور بفك الإدغام، وتستكثر بالرفع على أنه حال أي ولا تمنن حال كونك مستكثراً وقيل على حذف " أن " والأصل ولا تمنن أن تستكثر، فلما حذفت رفع، قال الكسائي فإذا حذف " أن " رفع الفعل، وقرىء تستكثر بالنصب على تقدير " أن " وبقاء عملها، ويؤيدها قراءة ابن مسعود أن تستكثر بزيادة أن، وقرىء بالجزم على أنه بدل من تمنن كما في قوله (يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ) أو الجزم لإجراء الوصل مجرى الوقف.(14/404)
وقد أعترض على قراءة الجزم لأن قوله تستكثر لا يصح أن يكون بدلاً من تمنن، لأن المن غير الاستكثار، ولا يصح أن يكون جواباً للنهي، والمن الإنعام وبابه رد.
واختلف السلف في معنى الآية فقيل المعنى لا تنعم بشيء مستكثراً أي طالباً للكثرة، كارهاً أن ينقص المال بسبب العطاء فيكون الاستكثار هنا عبارة عن طلب العوض كيف كان، وقيل المعنى لا تمنن على ربك بما تتحمله من أعباء الرسالة والنبوة كالذي يستكثر ما يتحمله بسبب الغير، وقيل لا تعط عطية تلتمس فيها أكثر منها قاله عكرمة وقتادة، وقال ابن عباس لا تعط تلتمس بها أفضل منها وعنه قال لا تعط الرجل عطاء رجاء أن يعطيك أكثر منه، قال الضحاك هذا حرمه الله على رسوله لأنه مأمور بأشرف الآداب وأجل الأخلاق، وأباحه لأمته، وقال مجاهد لا تضعف أن تستكثر من الخير من قولك حبل متين إذا كان ضعيفاً، وقال الربيع ابن أنس لا يعظم عملك في عينك أن تستكثر من الخير.
وقال ابن كيسان لا تستكثر عملاً فتراه من نفسك إنما عملك منة من الله عليك إذ جعل لك سبيلاً إلى عبادته، وقيل لا تمنن بالنبوة والقرآن على الناس فتأخذ منهم أجراً تستكثره، وقال محمد بن كعب لا تعط مالك مصانعة وقال زيد بن أسلم إذا أعطيت عطية فأعطها لربك.(14/405)
وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (7)
(ولربك فاصبر) على طاعته وفرائضه، والمعنى لأجل ربك وثوابه، وقال مقاتل ومجاهد اصبر على الأذى والتكذيب، وقال ابن زيد حملت أمراً عظيماً فحاربتك العرب والعجم فاصبر عليه لله، وقيل اصبر تحت موارد القضاء لله، وقيل فاصبر على البلوى وقيل على الأوامر والنواهي.(14/405)
فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8)
(فإذا نقر في الناقور) فاعول من النقر كأنه من شأنه أن ينقر فيه(14/405)
للتصويت، والنقر في كلام العرب الصوت ويقولون نقر باسم الرجل إذا دعاه، والمراد هنا النفخ في الصور، والمراد النفخة الثانية وقيل الأولى، وقد تقدم الكلام على هذا في سورة الأنعام وسورة النحل، والفاء للسببية كأنه قيل اصبر على أذاهم فبين أيديهم يوم هائل يلقون فيه عاقبة أمرهم.
قال ابن عباس: الناقور الصور أي القرن الذي هو مستطيل وفيه ثقب بعدد الأرواح كلها وتجمع الأرواح في تلك الثقب، فيخرج من كل ثقبة روح إلى الجسد الذي نزعت منه فيعود الجسد حياً بإذن الله تعالى كما مر غير مرة، والعامل في " إذا " ما دل عليه قوله الآتي(14/406)
فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9)
(فذلك يومئذ) الخ فإن معناه عسر الأمر عليهم، وقيل العامل فيه ما دل عليه قوله (فذلك) لأنه إشارة إلى النقر أي وقت النقر وهو النفخة يوم القيامة (يومئذ) بدل مما قبله وهو اسم الإشارة، وبنى يوم لإضافته إلى غير متمكن وهو إذ وتنوينها عوض عن الجملة أي يوم إذ نفخ في الصور، وخبر ذلك (يوم عسير) أي شديد.(14/406)
عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (10)
(على الكافرين غير يسير) تأكيد العسر عليهم لأن كونه غير يسير قد فهم من قوله (يوم عسير) وفيه إيذان بأنه يسير على المؤمنين، وقال الرازي: يحتمل أنه عسير على المؤمنين والكافرين إلا أنه على الكافرين أشد. أهـ وما قاله الرازي يفهمه التقييد بالجار والمجرور إن جعل متعلقاً بيسير، وإن كان مضافاً إليه لأنه قد أجازه بعضهم كما ذكره السمين.(14/406)
ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11)
(ذرني ومن خلقت وحيداً) أي دعني واتركني وهي كلمة تهديد ووعيد، والمعنى دعني والذي خلقته حال كونه وحيداً في بطن أمه لا مال ولا ولد، هذا على أن وحيداً منتصب على الحال من الموصول أو من الضمير العائد المحذوف، ويجوز أن يكون حالاً من الياء في ذرني أي دعني وحدي معه(14/406)
فإني أكفيك في الانتقام منه، والأول أولى، قال المفسرون وهو الوليد بن المغيرة وبه قال ابن عباس، قال مقاتل خل بيني وبينه فأنا أنفرد بهلكته، وإنما خص بالذكر لمزيد كفره وعظيم جحوده لنعم الله عليه.
وقيل أراد بالوحيد الذي لا يُعرف أبوه وكان يقال في الوليد أنه دعي، وعن ابن عباس قال " إن الوليد بن المغيرة جاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقرأ عليه القرآن فكأنه رق له، فبلغ ذلك أبا جهل فأتاه فقال يا عم إن قومك يريدون أن يجمعوا لك مالاً ليعطوكه فإنك أتيت محمداً لتعرض لما قبله، قال قد علمت قريش أني من أكثرها مالاً، قال فقل فيه قولاً يبلغ قومك أنك منكر له وأنك كاره له، قال وماذا أقول فوالله ما فيكم رجل أعلم بالشعر مني لا برجزه ولا بقصيده ولا بأشعار الجن، والله ما يشبه هذا الذي يقول شيئاًً من هذا، ووالله إن لقوله الذي يقول لحلاوة وإن عليه لطلاوة، وإنه لمثمر أعلاه، مغدق أسفله، وإنه ليعلو وما يعلى، وإنه ليحطم ما تحته، قال والله لا يرضى قومك حتى تقول فيه، قال فدعني حتى أفكر فلما فكر قال هذا سحر يؤثر يأثره عن غيره، فنزلت (ذرني ومن خلقت وحيداً) " أخرجه الحاكم وصححه والبيهقي في الدلائل وقد أخرجه عبد الرزاق عن عكرمة مرسلاً وكذا غير واحد (1).
_________
(1) رواه بهذا اللفظ الواحدي في " أسباب النزول " 330 من رواية عبد الرزاق عن معمر عن أيوب السختياني عن عكرمة عن ابن عباس، وسنده صحيح. ورواه الحاكم به وقال:
زاد المسير 8/ 403.(14/407)
وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا (12) وَبَنِينَ شُهُودًا (13) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا (14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15) كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا (16) سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا (17) إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20) ثُمَّ نَظَرَ (21)(14/408)
وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا (12)
(وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا) أي كثيراً أو يمد بالزيادة والنماء شيئاًً بعد شيء، قال الزجاج مال غير منقطع عنه وقد كان الوليد بن المغيرة مشهوراً بكثرة المال على اختلاف أنواعه كالزرع والضرع والتجارة، قيل كان يحصل له من غلة أمواله ألف ألف دينار، وقيل أربعة آلاف دينار، وقيل ألف دينار قاله ابن عباس وعن عمر بن الخطاب أنه سئل عن هذه الآية فقال غلة شهر بشهر قيل كان له بستان بالطائف لا ينقطع ثماره شتاء ولا صيفاً، وكان له عبيد وجوار كثيرة.(14/408)
وَبَنِينَ شُهُودًا (13)
(وبنين شهوداً) أي وجعلت له بنين حضوراً بمكة معه لا يسافرون ولا يحتاجون إلى التفرق في طلب الرزق لكثرة مال أبيهم، قال الضحاك كانوا سبعة ولدوا بمكة وخمسة ولدوا بالطائف، وقال سعيد بن جبير كانوا ثلاثة عشر ولداً، وقال مقاتل كانوا سبعة كلهم رجال أسلم منهم ثلاثة خالد وهشام والوليد بن الوليد، وقيل عمارة وفيه نظر لأن ابن حجر قال في الإصابة إن عمارة مات كافراً، وقيل معنى شهوداً أنه إذا ذكر ذكروا معه وقيل كانوا يشهدون ما كان يشهده من المحافل والمجامع، ويقومون بما كان يباشره.(14/408)
وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا (14)
(ومهدت له تمهيداً) أي بسطت له في العيش الرغيد وطول العمر، والجاه العريض والرياسة في قريش حتى كان يدعى ريحانة قريش، وهو الكمال عند أهل الدنيا، والتمهيد عند العرب التوطئة ومنه مهد الصبي، وأصله التسوية والتهيئة ويتجوز به عن بسط المال والجاه وهو المراد هنا، وقال مجاهد إنه المال بعضه فوق بعض كما يمهد الفراش.(14/408)
ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15)
(ثم يطمع أن أزيد) أي يطمع بعد هذا كله في الزيادة لكثرة حرصه وشدة طمعه مع كفرانه بالنعم وإشراكه بالله، قال الحسن ثم يطمع أن أدخله الجنة. وكان يقول إن كان محمد صادقاً فما خلقت الجنة إلا لي. فردعه الله سبحانه وزجره فقال(14/409)
كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا (16)
(كلا) أي لست أزيده بل أنقصه فقد ورد أنه بعد نزول هذه الآية ما زال في نقصان ماله وولده حتى هلك فقيراً.
ثم علل ذلك على وجه الاستئناف التحقيقي بقوله (إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا) أي معانداً لها كافراً بما أنزلناه منها على رسولنا، فإن معاندة آيات النعم مع وضوحها وكفرانها مع شيوعها مما يوجب الحرمان بالكلية، وإنما أوتي ما أوتي استدراجاً، يقال عند يعند بالكسر إذا خالف الحق ورده وهو يعرفه فهو عنيد وعاند، والعاند الذي يجوز عن الطريق ويعدل عن القصد، قال أبو صالح: عنيداً معناه مباعداً، وقال قتادة: جاحداً وقال مقاتل: معرضاً وقال ابن عباس: جحوداً.(14/409)
سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا (17)
(سأرهقه صعوداً) أي سأكلفه مشقة من العذاب لا راحة فيها وهو مثل لما يلقاه من العذاب الصعب الذي لا يطاق، وقيل المعنى إنه يكلف أن يصعد جبلاً من نار، والإرهاق في كلام العرب أن يحمل الإنسان الشيء الثقيل، قال أبو سعيد الخدري في قوله صعوداً هو جبل في النار يكلفون أن يصعدوا فيه، فكلما وضعوا أيديهم عليه ذابت فإذا رفعوها عادت كما كانت، وعنه عن النبي صلى الله عليه وسلم " قال الصعود جبل في النار يصعد فيه الكافر سبعين خريفاً ثم يهوي، وهو كذلك فيه أبداً " أخرجه أحمد والترمذي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن حبان والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي، قال الترمذي غريب لا نعرفه إلا من حديث ابن لهيعة عن دراج. قال ابن كثير وفيه غرابة ونكارة انتهى. وقد أخرجه جماعة من قول أبي سعيد (1).
_________
(1) هذا الحديث ذكره المؤلف ملفقاً من حديثين، الأول رواه ابن جرير الطبري من رواية شريك بن عبد الله بن أبي شريك النخعي عن عمارة بن القعقاع عن عطية العوفي عن أبي سعيد الخدري،
[ص:410]
ورواه ابن أبي حاتم من رواية شريك عن عمار الدهني عن عطية به، بلفظ " (سأرهقه صعوداً) " قال: " هو جبل من نار يكلَّف أن يصعده، فإذا وضع يده ذابت، وإذا رفعها عادت، فإذا وضع رجله ذابت، وإذا رفعها عادت ". وعطية العوفي ضعيف. والحديث الثاني رواه أحمد من حديث ابن لهيعة عن دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري، والطبري عن عمرو بن الحارث عن دراج به، بلفظ " الصُّعود: جبل من نار، يصعد فيه الكافر سبعين خريفاً، ثم يهوي به كذلك منه أبدا " ودراج عن شيخه أبي الهيثم ضعيفان. وقال ابن كثير بعد ما ذكر حديث أحمد والطبري (وهو الرواية الثانية): وفيه غرابة ونكارة.(14/409)
وقال ابن عباس صعوداً صخرة في جهنم يسحب عليها الكافر على وجهه. وعنه قال جبل في النار.
وجملة(14/410)
إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18)
(إِنَّهُ فَكَّرَ) تعليل لما تقدم من الوعيد أي أنه فكر في شأن النبي صلى الله عليه وسلم وما أنزل عليه من القرآن (وقدر) أي هيأ الكلام في نفسه، والعرب تقول هيأت الشيء إذا قدرته وقدرت الشيء إذا هيأته، وذلك أنه لا سمع القرآن لم يزل يتفكر ماذا يقول فيه وقدر في نفسه ما يقول فذمه الله وقال(14/410)
فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19)
(فقتل) أي لعن وعذب (كيف قدر) أي على أي حال قدر ما قدر من الكلام كما يقال في الكلام لأضربنه كيف صنع أي على أيّ حال كانت منه، وقيل المعنى قهر وغلب كيف قدر، وقال الزهري عذب، وهو من باب الدعاء عليه.
والتكرير في قوله(14/410)
ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20)
(ثم قتل كيف قدر) للمبالغة والتأكيد، وقيل فقتل في الدنيا ثم قتل فيما بعد الموت في البرزخ والقيامة، و (ثم) يشعر بأن الدعاء الثاني أبلغ من الأول فهي للتفاوت في الرتبة وقيل بل للتراخي في الزمان أيضاًً.(14/410)
ثُمَّ نَظَرَ (21)
(ثم نظر) بأي شيء يدفع القرآن ويقدح فيه، فالنظر بمعنى التأمل وعلى هذا فتتكرر هذه الجملة مع قوله أنه فكر وقدر أو فكر في القرآن وتدبر ما هو.(14/410)
ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23) فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (25) سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ (27) لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ (28) لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (29) عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ (30)(14/411)
ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22)
(ثم عبس) أي قطب وجهه لما لم يجف مطعناً يطعن به في القرآن، والعبس مصدر عبس مخففاً يعبس عبساً وعبوساً إذا قطب وقيل عبس في وجوه المؤمنين، وقيل عبس في وجه النبي صلى الله عليه وسلم.
(وبسر) أي كلح وجهه وتغير، وقيل إن ظهور العبس في الوجه يكون بعد المحاورة وظهور البسور في الوجه قبلها، والعرب تقول وجه باسر إذا تغير واسود، وقال الراغب: البسر استعمال الشر قبل أوانه نحو بسر الرجل حاجته أي طلبها في غير أوانها قال ومنه قوله عبس وبسر أي أظهر العبوس قبل أوانه وقبل وقته، وأهل اليمن يقولون بسر المركب وأبسر أي وقف لا يتقدم ولا يتأخر، وقد أبسرنا أي صرنا إلى البسور.(14/411)
ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23)
(ثم أدبر واستكبر) أي أعرض عن الحق وذهب إلى أهله وتعظم عن أن يؤمن(14/411)
فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24)
(فقال) عقب ما جره إليه طبعه الخبيث من الكفر القائم به (إن هذا إلا سحر يؤثر) أي يأثره عن غيره ويرويه عن السحرة كمسيلمة وأهل بابل، والسحر إظهار الباطل في صورة الحق أو الخديعة على ما تقدم بيانه في سورة البقرة، يقال أثرت الحديث تأثره إذا ذكرته عن غيرك أي أمور تخييلية لا حقائق لها وهي لدقتها بحيث تخفي أسبابها شؤون تمويهية.(14/411)
إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (25)
(إن هذا إلا قول البشر) يعني أنه كلام الإنس، وليس بكلام الله، وهو تأكيد لما قبله وقد تقدم أن الوليد بن المغيرة إنما قال هذا القول إرضاء لقومه بعد اعترافه أن له لحلاوة وأن عليه لطلاوة إلى آخر كلامه.
ولما قال هذا القول الذي حكاه الله عنه قال الله عز وجل(14/411)
سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26)
(سأصليه سقر) أي سأدخله النار، وسقر من أسماء النار ومن دركات جهنم ولم(14/411)
تتصرف للتعريف والتأنيث، قال السمين هذا بدل من قوله سأرهقه صعوداً قاله الزمخشري، فإن كان المراد بالصعود المشقة فالبدل واضح، وإن كان المراد صخرة في جهنم كما جاء في بعض التفاسير فيعسر البدل ويكون فيه شبه من بدل الاشتمال لأن جهنم مشتملة على تلك الصخرة.
ثم بالغ في وصف النار وشدة أمرها فقال(14/412)
وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ (27)
(وما أدراك ما سقر) أي وما أعلمك أي شيء هي، والعرب تقول وما أدراك ما كذا إذا أرادوا المبالغة في أمره وتعظيم شأنه وتهويل خطبه، و (ما) الأولى مبتدأ وجملة (ما سقر) خبر المبتدأ ثم فسر حالها فقال:(14/412)
لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ (28)
(لا تبقي ولا تذر) والجملة مستأنفة لبيان حال سقر والكشف عن وصفها، وقيل هي في محل نصب على الحال والعامل فيها معنى التعظيم لأن قوله وما أدراك ما سقر يدل على التعظيم فكأنه قال استعظموا سقر في هذه الحال، والأول أولى ومفعول الفعلين محذوف قال السدي لا تبقي لهم لحماً ولا تذر لهم عظماً، وقال عطاء لا تبقي من فيها حياً ولا تذره ميتاً، وقيل هما لفظان بمعنى واحد كررا للتأكيد كقولك صدر عني وأعرض عني، وقال ابن عباس لا تبقي منهم شيئاًً وإذا بدلوا خلقاً آخر لم تذر أن تعاودهم سبيل العذاب الأول.(14/412)
لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (29)
(لواحة للبشر) قرأ الجمهور بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف وقيل على أنه نعت لسقر والأول أولى، وقرىء بالنصب على الحال أو الاختصاص للتهويل يقال لاح يلوح أي ظهر، والمعنى أنها تظهر للبشر، قال الحسن تلوح لهم جهنم حتى يرونها عياناً كقوله (وبرزت الجحيم لمن يرى) وقيل معنى لواحة للبشر مغيرة لهم ومسودة قال مجاهد والعرب تقول لاحه الحر والبرد والحزن والسقم إذا غيره وهذا أرجح من الأول، وإليه ذهب جمهور المفسرين.
وقال الأخفش المعنى: أنها معطشة للبشر قال ابن عباس: تلوح الجلد فتحرقه وتغير لونه فيصير أسود من الليل، وعنه قال لواحة محرقة والمراد بالبشر(14/412)
إما جلدة الإنسان الظاهرة كما قاله الأكثر أو المراد به أهل النار من الإنس كما قال الأخفش.(14/413)
عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ (30)
(عليها تسعة عشر) قال المفسرون يقول سبحانه على النار تسعة عشر من الملائكة هم خزنتها، وقيل تسعة عشر صنفاً من أصناف الملائكة، وقيل تسعة عشر صفاً من صفوفهم وقيل تسعة عشر نقيباً مع كل نقيب جماعة من الملائكة والأول أولى، قال الثعلبي ولا ينكر هذا فإذا كان ملك واحد يقبض أرواح الخلائق كان أحرى أن يكونوا تسعة عشر على عذاب بعض الخلق، قرأ الجمهور عشر بفتح الشين وقرىء بإسكانها.
عن البراء " أن رهطاً من اليهود سألوا بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عن خزنة جهنم فقال: الله ورسوله أعلم فجاء جبريل فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم فنزل عليه ساعتئذ (عليها تسعة عشر) رواه البيهقي في البعث وابن أبي حاتم وابن مردويه ".
وقال الكرخي وخص هذا العدد بالذكر لكونه موافقاً لعدد أسباب فساد النفس الإنسانية وهي القوى الإنسانية والطبيعية إذ القوى الإنسانية اثنتا عشرة الخمسة الظاهرة والخمسة الباطنة والشهوة والغضب، والقوى الطبيعية سبعة الجاذبة والماسكة والهاضمة والدافعة والغاذية والنامية والمولدة والمجموع تسعة عشر انتهى.
قلت: وهذا ليس بتفسير للآية، بل الحكمة المودعة في هذا العدد مفوضة إلى علم الله تعالى، قال الرازي وتخصيص هذا العدد لحكمة اختص الله بها.
ولما نزل هذا قال أبو جهل أما لمحمد من الأعوان إلا تسعة عشر، يخوفكم محمد بتسعة عشر وأنتم الدهم، أفيعجز كل مائة رجل منكم أن يبطشوا بواحد منهم ثم يخرجوا من النار، فقال أبو الأشد: وهو رجل من بني جمح يا معشر قريش إذا كان يوم القيامة فأنا أمشي بين أيديكم فأدفع عشرة بمنكبي الأيمن وتسعة بمنكبي الأيسر، ونمضى ندخل الجنة فأنزل الله سبحانه:(14/413)
وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ (31) كَلَّا وَالْقَمَرِ (32) وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (33) وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ (34) إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ (35)(14/414)
وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ (31)
(وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ) يعني ما جعلنا المدبرين لأمر النار القائمين بعذاب من فيها (إلا ملائكة) فمن يطيق الملائكة ومن يغلبهم، فكيف تتعاطون أيها الكافرون مغالبتهم.
قال ابن عباس لما سمع أبو جهل (عليها تسعة عشر) قال لقريش ثكلتكم أمهاتكم، أسمع ابن أبي كبشة يخبركم أن خزنة جهنم تسعة عشر وأنتم الدهم أفيعجز كل عشرة منكم أن يبطشوا برجل من خزنة جهنم، أخرجه ابن جرير وابن مردويه، قيل جعلهم ملائكة لأنهم خلاف جنس المخلوقين من الجن والإنس فلا يأخذهم ما يأخذ المجانس من الرقة والرأفة، وقيل لأنهم أقوم خلق الله بحقه والغضب له وأشدهم بأساً وأقواهم بطشاً.
(وما جعلنا عدتهم إلا فتنة) أي سبب ضلالة (للذين كفروا) أي للذين استقلوا، عددهم، والمعنى ما جعلنا عددهم هذا العدد المذكور في القرآن إلا ضلالة ومحنة لهم حتى قالوا ليتضاعف عذابهم ويكثر غضب الله عليهم، وقيل المعنى إلا عذاباً كما في قوله (يوم هم على النار يفتنون) أي يعذبون.
قال ابن عباس في الآية. قال أبو الأشد خلوا بيني وبين خزنة جهنم أنا أكفيكم مؤونتهم قال وحدثت أن النبي صلى الله عليه وسلم وصف خزان جهنم فقال " كأن أعينهم البرق وكأن أفواههم الصياصي يجرون أشعارهم، لهم مثل(14/414)
قوة الثقلين يقبل أحدهم بالأمة من الناس يسوقهم، على رقبته جبل حتى يرمي بهم في النار فيرمي بالجبل عليهم " أخرجه ابن مردويه.
(ليستيقن الذين أوتوا الكتاب) المراد بهم اليهود والنصارى لموافقة ما نزل من القرآن بأن عدة خزنة جهنم تسعة عشر لما عندهم قاله الضحاك وقتادة ومجاهد وغيرهم، والمعنى أن الله سبحانه جعل عدة خزنة جهنم هذه العدة ليحصل اليقين لليهود والنصارى بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم لموافقة ما في القرآن لما في كتبهم.
(ويزداد الذين آمنوا) من أهل الكتاب كعبد الله بن سلام، وقيل أراد المؤمنين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم (إيماناً) أي ليزدادوا يقيناً إلى يقينهم لما رأوا من موافقة أهل الكتاب لهم.
وجملة (ولا يرتاب الذين أوتوا الكتاب والمؤمنون) مقررة لما تقدم من الإستيقان وازدياد الإيمان، والمعنى نفي الارتياب عنهم في الدين أو في أن عدة خزنة جهنم تسعة عشر، ولا ارتياب في الحقيقة من المؤمنين ولكنه من باب التعريض لغيرهم ممن في قلبه شك من المنافقين.
(وليقول الذين في قلوبهم مرض) المراد بأهل المرض المنافقون، والسورة وإن كانت مكية ولم يكن إذ ذاك نفاق فهو إخبار بما سيكون في المدينة فهو معجزة له صلى الله عليه وسلم حيث أخبر وهو بمكة عما سيكون بالمدينة بعد الهجرة، أو المراد بالمرض مجرد حصول الشك والريب وهو كائن في الكفار، قال الحسين بن الفضل السورة مكية ولم يكن بمكة نفاق؛ فالمرض في هذه الآية الخلاف.
والمراد بقوله (والكافرون) كفار مكة من العرب وغيرهم (ماذا) مجموع الكلمتين اسم استفهام فـ (ذا) ملغاة أي أيّ شيء (أراد الله بهذا) العدد المستغرب استغراب المثل (مثلاً) تسير به الركبان سيرها بالأمثال، قال الليث المثل الحديث ومنه قوله (مثل الجنة التي وعد المتقون) أي حديثها والخبر عنها.(14/415)
(كذلك) أي مثل ذلك الإضلال المتقدم ذكره وهو قوله (وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا) (يضل الله من يشاء) من عباده (ويهدي من يشاء) منهم والمعنى مثل ذلك الإضلال للكافرين والهداية للمؤمنين يضل الله من يشاء الإضلال ويهدي من يشاء هدايته، وهو الذي علم منه اختيار الإهتداء، وفيه دليل على خلق الأفعال، وقيل المعنى كذلك يضل الله عن الجنة من يشأ ويهدي إليها من يشاء.
(وما يعلم جنود ربك) أي ما يعلم عدد خلقه ومقدار جموعه من الملائكة وغيرهم (إلا هو) وحده لا يقدر على علم ذلك أحد، قال عطاء يعني من الملائكة الذين خلقهم لتعذيب أهل النار لا يعلم عدتهم إلا الله وحده، والمعنى أن خزنة النار وإن كانوا تسعة عشر فلهم من الأعوان والجنود من الملائكة ما لا يعلمه إلا الله سبحانه.
عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثهم عن ليلة أسرى به قال " فصعدت أنا وجبريل إلى السماء الدنيا فإذا أنا بملك يقال له إسماعيل وهو صاحب سماء الدنيا وبين يديه سبعون ألف ملك مع كل ملك جنده مائة ألف، وتلا هذه الآية " أخرجه الطبراني في الأوسط وأبو الشيخ.
وعن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أطَّت السماء وحق لها أن تئط ما فيها موضع أصبع إلا عليه ملك ساجد "، أخرجه أحمد والترمذي وابن ماجة قال الترمذي حسن غريب ويروى عن أبي ذر موقوفاً.
ثم رجع سبحانه إلى ذكر سقر فقال (وما هي إلا ذكرى للبشر) أي وما سقر وما ذكر من عدد خزنتها إلا تذكرة وموعظة للعالم يتذكرون بها ويعلمون كمال قدرته تعالى، وأنه لا يحتاج إلى أعوان وأنصار، وقيل ما هي الدلائل والحجج والقرآن إلا تذكرة للبشر، وقال الزجاج: نار الدنيا تذكرة لنار الآخرة وهو بعيد، وقيل الضمير في (وما هي) يرجع إلى الجنود.(14/416)
ثم ردع سبحانه المكذبين وزجرهم فقال(14/417)
كَلَّا وَالْقَمَرِ (32)
(كلا والقمر) قال الفراء (كلا) صلة للقسم والتقدير أي والقمر، وقيل المعنى حقاً والقمر.
قال الكرخي (كلا) استفتاح بمعنى ألا بفتح الهمزة وتخفيف اللام المفيدة للتنبيه على تحقق ما بعدها، وقال النضر بن شميل حرف جواب بمعنى أي ونعم، وهو مذهب البصريين، وجعلها، الزمخشري في الآية للإنكار أو الردع قال الكافيجي: ولا منافاة بينه وبين كلام البصريين فإن مدار كلامهم على ما يتبادر من ظاهر القول، ومدار كلامه على أساس البلاغة والإعجاز وهو أحسن.
قال ابن جرير الطبري رَدّ زَعْم مَنْ زَعَمَ أنه يقاوم خزنة جهنم أي ليس الأمر كما يقول، ثم أقسم على ذلك بالقمر وبما بعده وهذا هو الظاهر من معنى الآية.(14/417)
وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (33)
(والليل إذ أدبر) أي ولى، قرأ الجمهور إذا بزيادة الألف ودبر بزنة ضرب على أنه ظرف لما يستقبل من الزمان، وقرىء إذ أدبر بزنة أكرم ظرف لما مضى من الزمان ودبر وأدبر لغتان كما يقال أقبل الزمان وقبل الزمان، ويقال دبر الليل وأدبر الليل إذا تولى ذاهباً، عن مجاهد قال سألت ابن عباس عن قوله إذا دبر فسكت عني حتى إذا كان من آخر الليل وسمع الأذان ناداني يا مجاهد هذا حين دبر الليل، وعن ابن عباس قال دبوره ظلامه.(14/417)
وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ (34)
(والصبح إذا أسفر) أي أضاء وتبين وظهر(14/417)
إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ (35)
(إنها لإحدى الكبر) قرأ الجمهور لإحدي بالهمزة وقرىء لحدى بدونها وهذا جواب القسم، والضمير راجع إلى سقر أي أن سقر لإحدى الدواهي أو البلايا الكبر، والكبر جمع كبرى وقال مقاتل إن الكبر اسم من أسماء النار، وقيل إنها تكذيبهم لمحمد صلى الله عليه وسلم لإحدى الكبر، وقيل إن قيام الساعة لإحدى الكبر، والأول أولى، وقال الكلبي أراد بالكبر دركات جهنم وأبوابها.(14/417)
نَذِيرًا لِلْبَشَرِ (36) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (37) كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ (39) فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ (40) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41) مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (45)(14/418)
نَذِيرًا لِلْبَشَرِ (36)
(نذيراً للبشر) حال من ضمير في (إنها) قاله الزجاج وروي عنه وعن الكسائي وأبي علي الفارسي أنه حال من قوله (قم فأنذر) أي قم يا محمد فأنذر حال كونك نذيراً للبشر، وقال الفراء هو مصدر بمعنى الإنذار منصوب بفعل مقدر، وقيل إنه منتصب على التمييز لإحدى لتضمنها معنى التعظيم، كأنه قيل أعظم الكبر إنذاراً، وقيل التقدير لأجل إنذاراً للبشر، وقيل غير ذلك.
قرأ الجمهور بالنصب، وقرىء بالرفع أي هي نذير أو هو نذير، وقد اختلف النذير فقال الحسن هي النار وقيل محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وقال أبو رزين المعنى أنا نذير لكم منها وقيل القرآن نذير للبشر لما تضمنه من الوعد والوعيد.(14/418)
لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (37)
(لمن شاء منكم) بدل من قوله للبشر (أن يتقدم) يسبق إلى الطاعة (أو يتأخر) يتخلف عنها، والمعنى أن الإنذار قد حصل لكل من آمن وكفر، وقيل فاعل المشيئة هو الله سبحانه أي لمن شاء الله أن يتقدم منكم بالإيمان أو يتأخر بالكفر والأول أولى، وقال السدي لمن شاء أن يتقدم إلى النار المتقدم ذكرها أو يتأخر إلى الجنة، وقال ابن عباس من شاء اتبع طاعة الله ومن شاء تأخر عنها قال الحسن هذا وعد وتهديد وإن خرج مخرج الخبر كقوله تعالى (فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر).(14/418)
كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38)
(كل نفس بما كسبت رهينة) أي مأخوذة بعملها مرتهنة به إما خلصها(14/418)
وإما أوبقها والرهينة اسم بمعنى الرهن كالشتيمة بمعنى الشتم، وليست صفة ولو كانت صفة لقيل رهين لأن فعيلاً يستوي فيه المذكر والمؤنث، والمعنى كل نفس رهينة بكسبها غير مفكوكة، كافرة كانت أو مؤمنة، عاصية أو غير عاصية(14/419)
إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ (39)
(إلا أصحاب اليمين) فإنهم لا يرتهنون بذنوبهم بل يفكون بما أحسنوا من أعمالهم، والاستثناء متصل لأن المستثنى هو المؤمنون الخالصون من الذنوب.
وقوله رهينة أي على الدوام بالنسبة للكفار، وعلى وجه الانقطاع بالنسبة لعصاة المؤمنين، واختلف في تعيينهم فقيل هم الملائكة وقيل المؤمنون وقيل أولاد المسلمين وأطفالهم، وقيل الذين كانوا عن يمين آدم وقيل أصحاب الحق، وقيل هم المعتمدون على الفضل دون العمل، وقيل هم الذين اختارهم الله لخدمته، وقال ابن عباس: هم المسلمون، وقال علي: هم أطفال المسلمين، قيل هو أشبه بالصواب لأن الأطفال لم يكتسبوا إثماً يرتهنون به.(14/419)
فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ (40)
(في جنات) هو في محل رفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هم في جنات لا يكتنه وصفها. والجملة استئناف جواباً عن سؤال نشأ مما قبله أو حال من أصحاب اليمين أو من فاعل قوله (يتساءلون) ويجوز أن يكون ظرفاً له، ويتساءلون أي يسألون غيرهم نحو دعيته وتداعيته، فعلى الوجه الأول يكون(14/419)
عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41)
(عن المجرمين) متعلقاً بيتساءلون أي يسأل بعضهم بعضاً عن، أحوالهم، وعلى الوجه الثاني تكون عن زائدة أي يسألون المجرمين، ثم المراد بهم الكافرون.
وهذا التساؤل فيما بينهم قبل أن يروا المجرمين فلما يرونهم يسألونهم ويقولون في سؤالهم(14/419)
مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42)
(ما سلككم في سقر) أي ما أدخلكم فيها تقول سلكت الخيط في كذا إذا أدخلته فيه، قال الكلبي يسأل الرجل من أهل الجنة الرجل من أهل النار باسمه فيقول له يا فلان ما سلكك في النار، وقيل إن الملائكة(14/419)
يسألون الملائكة عن أقربائهم فتسأل الملائكة المشركين يقولون لهم (ما سلككم في سقر) قال الفراء في هذا ما يقوي أن أصحاب اليمين هم الولدان لأنهم لا يعرفون الذنوب، وهذا سؤال توبيخ وتقريع.
ثم ذكر سبحانه ما أجاب به أهل النار فقال(14/420)
قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43)
(قالوا لم نك من المصلين) أي من المؤمنين الذين يصلون لله في الدنيا ولم نعتقد فرضيتها (1)
_________
(1) الآية صريحة في أنهم تركو الصلاة فاستحقوا سقر، أما قوله: ولم نعتقد فرضيتها فليس في الآية.(14/420)
وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44)
(ولم نك نطعم المسكين) أي لم نتصدق على المساكين، وقيل وهذان محمولان على الصلاة الواجبة والصدقة لأنه لا تعذيب على غير الواجب، وفيه دليل على أن الكفار مخاطبون بالشرعيات والفروع، فقول صاحب الكشاف يحتمل أن يدخل بعضهم النار بمجموع ذلك وهو ترك الصلاة وترك الإطعام والخوض في الباطل مع الخائضين والتكذيب بيوم القيامة، وبعضهم بمجرد ترك الصلاة أو ترك الطعام تخيل منه كما قال صاحب الانتصاف أن تارك الصلاة يخلد في النار.(14/420)
وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (45)
(وكنا نخوض مع الخائضين) أي نخالط أهل الباطل في باطلهم، قال قتادة كلما غوى غاو غوينا معه، وقال السدي كنا نكذب مع المكذبين، وقال ابن زيد نخوض مع الخائضين في أمر محمد صلى الله عليه وسلم وهو قولهم كاذب ساحر مجنون شاعر، وعبارة الخطيب أي نشرع في الباطل مع الخائضين فنقول في القرآن إنه سحر وشعر وكهانة وغير ذلك من الأباطيل، لا نتورع عن شيء من ذلك ولا نقف مع صريح عقل، ولا نرجع إلى صحيح نقل، فمن هذا يحذر الذين يبادرون بالجواب في كل ما يسألون عنه من أنواع العلم من غير تثبت.(14/420)
وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ (47) فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ (48) فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (51) بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً (52) كَلَّا بَلْ لَا يَخَافُونَ الْآخِرَةَ (53) كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (54) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (55) وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (56)(14/421)
وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46)
(وكنا نكذب بيوم الدين) أي بيوم الجزاء والحساب آخره لتعظيمه وهذا تخصيص بعد تعميم، لأن الخوض في الباطل عام شامل لتكذيب يوم الدين وغيره أي وكنا بعد ذلك كله مكذبين بيوم القيامة، والصحيح أن الآية في الكفار أي لم نكن من أهل الصلاة وكذلك البقية، ولا تصح منه هذه الطاعات وإنما يتأسفون على فوات ما ينفع، ذكره سليمان الجمل.(14/421)
حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ (47)
(حتى أتانا اليقين) وهو الموت كما في قوله (واعبد ربك حتى يأتيك اليقين) وبه قال ابن عباس، وهذا غاية في الأمور الأربعة.(14/421)
فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ (48)
(فما تنفعهم شفاعة الشافعين) أي شفاعة الملائكة والنبيين كما تنفع الصالحين، والمعنى لا شفاعة لهم، قال الحفناوي فالنفي مسلط على المقيد وقيده وليس المراد أن ثم شفاعة غير نافعة كما يتوهم من ظاهر اللفظ من حيث أن الغالب في النفي إذا دخل على مقيد بقيد أن يتسلط على القيد فقط، وفيه دليل على ثبوت الشفاعة للمؤمنين، وفي الحديث أن من أمتي من يدخل الجنة بشفاعته أكثر من ربيعة ومضر، قال ابن مسعود تشفع الملائكة والنبيون والشهداء والصالحون وجميع المؤمنين فلا يبقى في النار إلا أربعة ثم تلا (قالوا لم نك من المصلين) الآيات، وقال عمران بن حصين الشفاعة نافعة لكل أحد دون هؤلاء الذين تسمعون.(14/421)
فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49)
(فما لهم عن التذكرة معرضين) التذكرة التذكير بمواعظ القرآن،(14/421)
والفاء لترتيب إنكار إعراضهم عن التذكرة على ما قبله من موجبات الإقبال عليها، وانتصاب معرضين على الحال من الضمير في متعلق الجار والمجرور أي أيّ شيء حصل لهم حال كونهم معرضين عن القرآن الذي هو مشتمل على التذكرة الكبرى، والموعظة العظمى.
ثم شبههم في نفورهم عن القرآن بالحمر فقال(14/422)
كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50)
(كأنهم حمر مستنفرة) أي نافرة يقال نفر واستنفر مثل عجب واستعجب، والمراد الحمر الوحشية، والجملة حال من الضمير في معرضين على التداخل، قرىء في السبع بكسر الفاء بمعنى نافرة وقرىء بفتحها أي منفرة مذعورة، واختار هذا أبو حاتم وأبو عبيد قال في الكشاف المستنفرة الشديدة النفار كأنها تطلب النفار من نفوسها في جمعها له وحملها عليه.(14/422)
فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (51)
(فرت من قسورة) حال بتقدير قد أي قد فرت من رماة يرمونها، والقسور الرامي وجمعه قسورة قاله سعيد بن جبير وعكرمة ومجاهد وقتادة وابن كيسان، وقيل هو الأسد قاله عطاء والكلبي، قال ابن عرفة هو من القسر وهو القهر لأنه يقهر السباع، وقيل القسورة أصوات الناس وقيل القسورة بلسان العرب الأسد، وبلسان الحبشة جماعة الرماة ولا واحد له من لفظه، وقال ابن الأعرابي: القسورة أول الليل أي فرت من ظلمة الليل، وبه قال عكرمة، والأول أولى، وكل شديد عند العرب فهو قسورة، قال أبو موسى الأشعري: القسورة الرماة رجال القسى، وقال ابن عباس: القسورة الرجال الرماة القنص، وقيل هي حبال الصيادين.
وعن أبي حمزة قال قلت لابن عباس القسورة الأسد، فقال ما أعلمه بلغة أحد من العرب الأسد، هم عصبة الرجال، وعن ابن عباس قال هو ركز الناس يعني أصواتهم شبههم في إعراضهم عن القرآن واستماع الذكر بحمر جدت في نفارها.(14/422)
بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً (52)
(بل يريد كل امرىء منهم أن يؤتى صحفاً منشرة) عطف على مقدر(14/422)
يقتضيه المقام كأنه قيل لا يكتفون بتلك التذكرة بل يريد الخ فهو اضراب انتقالي عن محذوف هو جواب الاستفهام السابق كأنه قيل فلا جواب لهم عن هذا السؤال أي لا سبب لهم في الإعراض بل يريد الخ.
قال المفسرون إن كفار قريش قالوا لمحمد صلى الله عليه وسلم ليصبح عند رأس كل رجل منا كتاب منشور من الله أنك لرسول الله، والصحف الكتب واحدتها صحيفة والمنشرة المنشورة المبسوطة المفتوحة أي غير مطوية أي طرية لم تطو، بل تأتينا وقت كتابتها، وهذا من زيادة تعنتهم، ومثل هذه الآية قوله سبحانه (حتى تنزل علينا كتاباً نقرأه) قرأ الجمهور منشرة بالتشديد، وقرأ سعيد بن جبير بالتخفيف وقرأ الجمهور أيضاًً بضم الحاء من صحف وقرأ سعيد بإسكانها.
ثم ردعهم الله سبحانه عن هذه المقالة وزجرهم فقال(14/423)
كَلَّا بَلْ لَا يَخَافُونَ الْآخِرَةَ (53)
(كلا بل لا يخافون الآخرة) يعني عذابها لأنهم لو خافوا النار لما اقترحوا الآيات، وهذا إضراب انتقالي لبيان سبب هذا التعنت والاقتراح، وقيل كلا بمعنى حقاً.
ثم كرر الردع والزجر لهم فقال(14/423)
كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (54)
(كلا إنه تذكرة) أو بمعنى " ألا " الاستفتاحية أو حقاً أن القرآن تذكرة بليغة كافية، والمعنى أنه يتذكر به ويتعظ بمواعظه، أو إنكار لأن يتذكروا بها، قاله القاضي كالكشاف.(14/423)
فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (55)
(فمن شاء ذكره) أي فمن شاء " أن يذكره ولا ينساه فعل واتعظ فإن نفع ذلك عائد إليه.
ثم رد سبحانه المشيئة إلى نفسه فقال(14/423)
وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (56)
(وما يذكرون إلا أن يشاء الله) قرأ الجمهور يذكرون بالياء التحتية، وقرأ نافع ويعقوب بالفوقية وهما سبعيتان، واتفقوا على التخفيف والاستثناء مفرغ من أعم الأحوال، قال مقاتل إلا أن يشاء الله لهم الهدى، وقال في الكشاف يعني إلا أن يقسرهم على الذكر قال الإمام إنه تعالى نفى الذكر مطلقاً واستثنى منه حال المشيئة المطلقة، فيلزم أنه متى حصلت المشيئة يحصل الذكر، فحيث لم يحصل الذكر علمنا أنه(14/423)
لم تحصل المشيئة، وتخصيص المشيئة بالمشيئة القسرية ترك للظاهر، وقال وهو تصريح بأن فعل العبد بمشيئة الله تعالى ذكره الكرخي.
(هو أهل التقوى) أي هو الحقيق بأن يتقيه المتقون بترك معاصيه والعمل بطاعاته (وأهل المغفرة) أي هو الحقيق بأن يغفر للمؤمنين ما فرط منهم من الذنوب، والحقيق بأن يقبل توبة التائبين من العصاة فيغفر ذنوبهم.
عن أنس " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية فقال: قال ربكم أنا أهل أن أتقى فلا يجعل معي إله فمن اتقاني فلم يجعل معي إلهاً فأنا أهل أن أغفر له " أخرجه أحمد والدارمي والترمذي وحسنه والنسائي وابن ماجة والبزار وأبو يعلى وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن عدي وصححه وابن مردويه، وأخرج ابن مردويه عن أبي هريرة وابن عمر وابن عباس مرفوعاً نحوه (1).
_________
(1) رواه أحمد في " المسند " والترمذي 2/ 168 والحاكم 2/ 508، وابن ماجة، والدارمي، والطبراني في " الأوسط " وابن عدي، وأبو يعلى. والبزار، كلهم من رواية سهيل بن أبي حزم القُطَعي عن ثابت بن أنس، وهو ضعيف كما قال الحافظ ابن حجر في " التقريب " قال الترمذي: حديث حسن غريب، وسهيل ليس بالقوي في الحديث، وقد تفرد سهيل بهذا الحديث عن ثابت. قال الحافظ ابن حجر في " تخريج الكشاف " 180: ورواه الحكيم الترمذي في السابع والسبعين بعد المائة بلفظ؛ " قال: هو أهل أن يتقى، فمن اتقى فهو أهل أن يغفر له " وله شاهد من رواية عبد الله قال: سمعت ثلاثة نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: أبا هريرة، وابن عمر، وابن عباس رضي الله عنهم يقولون: سئل رسول الله صلى الله عليه. وسلم عن قوله تعالى ... فذكره.(14/424)
تعليق هام للناشر:
إبراز حقيقة قرآنية
هذه سورة " المدثر " وهي مكية من أوائل ما نزل من القرآن، وقد ختمها بقوله:
1 - (فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ) .. الخ كما ختم سورة (اقرأ) وهي أول سورة نزلت بقوله:
2 - (كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعًا (1) بِالنَّاصِيَةِ (15) نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ (16) فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ (17) سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ).
كما نزلت سورة بأسرها تقول:
3 - (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ (2) سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ (3) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4) فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ).
كذلك جاء في سورة المزمل وهي كذلك من أوائل ما نزل:
4 - وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا (11) إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا (12) وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا (13) يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا) (2).
إذا تأملت هذه الآيات وكلها سب وتسفيه وتهديد للمشركين وزعمائهم، مع ملاحظة أنها من أوائل ما نزل، برزت لك حقيقة قرآنية عجيبة، هي أن القرآن يدعو إلى مواجهة خصومه بكل شدة وعنف، فلا هوادة ولا خنوع،
_________
(1) السفع: الجذب بقوة واللطم بشدة، والناصية شعر الجبهة.
(2) أولي النعمة الذين يتمتعون بنعم الله وهم الأغنياء والزعماء. والأنكال: الأغلال والقيود. والكثيب تل الرمل، والمهيل الرخو المتداعي للتبعثر.(14/425)
مهما كانت الظروف، فهذه الآيات صرخ بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، في الأيام الأولى ولم يكن معة من يغني عنه فتيلاً، في الوقت الذي تمالأ عليه الشرك وأهله لمحوه من الوجود.
ولم أر من المفسرين للقرآن من أدرك هذه النقطة غير صاحب التفسير الحديث حيث يقول تعليقاً على آيات سورة اقرأ (كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ): والتهديد والتحدي والإنذار والتنديد بالطاغية قوي كل القوة عنيف كل العنف.
وتبدو روعة هذه القوة حينما يلاحظ أن النبي عليه السلام لم يكن قد آمن به من يستطيع له نصراً ويقف إلى جانبه، وأن المتصدي له زعيم معتد بقوته وماله وجاهه وناديه.
وإذ يتصور المرء النبي صلى الله عليه وسلم، يصرخ بملء فيه صرخته المدوية " كلا، كلا " ثم يقذف بكلمات التنديد والتهديد والتحدي والإنذار القرآنية النارية غير مبال بالزعامة وقوتها، وهو من دون نصير من الناس، يدرك من دون ريب تلك الشجاعة التي كان يتحلى بها والتي استمدها من إيمان قوي عميق متول على مشاعره، جعله لا يرى إلا عظمة لله ولا قوة إلا لله ولا سلطاناً إلا لله، وجعله يرى كل ما عداه أضعف من أن يخشى، وأعجز من أن يستطيع له نفعاً أو ضراً، أو يقف أمام دين الله ويحول دون الدعوة إليه. ويدرك بهذا ما تحلى به من عظمة الخلق وقوة الجنان وعمق اليقين.
ويتبادر من عنف الآيات وقوتها القارعة أن الحكمة الربانية اقتضت أن يكون الرد على أول متصد للنبي صلى الله عليه وسلم، من الزعماء الأقوياء بهذا الأسلوب لتثبيت النبي وأصحابه القلائل الذين آمنوا به ومواجهة الزعيم القوي بقوة وعنف يصدمانه على غير توقع.
ولا شك في أن النبي صلى الله عليه وسلم، قد تلا الآيات على أصحابه، فقوت من روحهم وزادتهم إيماناً، ووصلت إلى صاحبها وناديه فصعقهم بعنفها وجعلتهم يشعرون بالقوة الروحية التي يستمد منها النبي،(14/426)
وازداد النبي بهذا وذاك قوة وعزماً على الاستمرار في مهمته، غير مبال بالزعيم القوي وناديه.
وقد روى الطبري أن الذي عنته الآيات هو عمرو بن هشام المخزومي الذي عرف في التاريخ الإسلامي بأبي جهل وكان من كبار الزعماء وأشد أعداء النبي صلى الله عليه وسلم، ورسالته والمؤلبين عليه. " وقد روي أنه لما تصدى للنبي صلى الله عليه وسلم، انتهره وأغلظ له وتوعده، وأنه قال: علام يتوعدني محمد وأنا أكثر أهل الوادي نادياً؟ وأنه قال: لئن رأيته يصلي ثانية لأطأن عنقه، وأن النبي صلى الله عليه وسلم، استمر على الصلاة في فناء الكعبة فرآه أبو جهل ولكنه لم يلبث أن نكص على عقبيه رافعاً يديه كأنما يقي بهما نفسه فقيل له ما لك؟ فقال إن بيني وبينه خندقاً من نار، وقد اسود ما بيني وبينه من الكتائب ".
على أن جملة (فليدع ناديه) تسوغ القول إن أبا جهل لم يكن وحيداً في موقفه من النبي صلى الله عليه وسلم، وهو ما تدل عليه الآيات التي نزلت بعد هذه الآيات في مناسبات عديدة مبكرة.
وليس بعيداً أن يكون تعبير " ناديه " قد عنى دار الندوة التي كان يجتمع فيها أهل الحل والعقد في مكة الذين هم رؤساء الأسر القرشية البارزة، وقد كانت هذه الدار قرب الكعبة. فإذا صح هذا فإن من السائغ أن يقال إن السلطات الرسمية قد رأت في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم، علناً بصلاة جديدة لا عهد للناس بها وفي دعوته الناس جهاراً إلى دين يخالف ما عليه الناس بدعة، ورأت وجوب الوقوف في وجهها، وأنها عمدت إلى أعضائها بتنفيذ ذلك، أو أن هذا العضو كان أشد حماساً ضدها من غيره فكان هو المتصدي اهـ.
ومنطق القوة هذا يذكرنا بموقف لخليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، في بدء توليه الخلافة فقد ارتد كثير من العرب بعد موت النبي صلى(14/427)
الله عليه وسلم، وكان هناك جيش أعده النبي قبل وفاته، فرأى بعض الصحابة أن لا يمضي هذا الجيش إلى وجهته، وأن يبقى لتأديب أهل الردة، ولكن الخليفة الراشد أبى، وأصر على أن يمضي الجيش الذي أمر به النبي إلى وجهته، فكانت النتيجة أن أهل الردة اضطربوا وقالوا لولا أن الخليفة أعد لنا قوة كبرى ما سمح لهذا الجيش أن يذهب إلى غيرنا - وكان النصر حليف المؤمنين.
...
وهناك نكتة أخرى وهي أن القرآن كان حريصاً على مواجهة المشركين ومصارحتهم وإعلانهم بأوصافهم كما في الآيات السابقة ولم يسمح بأدنى تردد أو كتمان أو إخفاء مراعاة للظروف، مع أن هناك آية تقول (وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه) وهذه الآية نزلت في قصة زيد وزينب، وخلاصتها أن العرب كانت من عادتها التبني، وهو أن يتخذ الرجل ولداً من غيره يتبناه، فإذا كبر الولد وتزوج لا يجوز للرجل الذي تبناه أن يتزوج امرأته إذا طلقها وجاء الإسلام بإبطال هذه العادة، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم، قد تبنى زيداً في صغره فلما كبر تزوج زيد بزينب بنت جحش وهي من الأشراف وهو دونها في الشرف، فلم يستقم الحال بينهما فطلقها زيد، فجاء القرآن يكلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن يتزوج بزينب ليكون هو أول من يبطل هذه العادة، وكأن الرسول صلى الله عليه وسلم، تردد بعض الشيء في التنفيذ لما فيه من إتاحة الفرصة للمنافقين أن يلمزوه صلى الله عليه وسلم، ويقولوا إن محمداً تزوج حليلة ولده، وما هو بولده.
فأنت ترى أنه صلى الله عليه وسلم، قد يخفي بعض الأمور الفرعية إلى حين مراعاة للظروف، أما الشرك وهدمه من جذوره، وهي وظيفة الرسل الأصلية، فكان يؤدي دوره فيه بكل صراحة ووضوح.(14/428)
(علنية الدعوة في بدئها)
وهذه الآيات التي سبقت في صدر هذا التعليق تدل على خلاف ما روي بأن الدعوة النبوية قد بدأت سرية، وتدل بقوة على أنها بدأت علنية، وكل ما يمكن أن يقال إزاء ما ورد في الأحاديث التي تروي أقوال بعض أصحاب رسول الله مثل ما روي عن عمر في قصة إسلامه حيث سأل بعد إسلامه " أنحن على حق أم باطل؟ فقال له رسول الله: بل على حق، فقال ففيم التخفي إذا " هو أن النبي صلى الله عليه وسلم، حماية لأصحابه كان يلزم الحذر والتحفظ في الصلاة والاجتماع بهم، غير أن دعوته للناس كانت وظلت جهرة.
وهذا هو المعقول المتسق مع هدف الدعوة وإيمان النبي بالله ورسالته.(14/429)
سورة القيامة
هي تسع وثلاثون أو أربعون آية وهي مكية بلا خلاف. وعن ابن عباس نزلت بمكة وعن ابن الزبير مثله.(14/431)
بسم الله الرحمن الرحيم
لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ (1) وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (2) أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ (3) بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ (4) بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ (5) يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ (6) فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ (7)(14/433)
لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ (1)
(لا أقسم بيوم القيامة) قال أبو عبيدة وجماعة من المفسرين أن (لا) زائدة والتقدير أقسم، قال السمرقندي أجمع المفسرون أن معنى (لا أقسم) أقسم، واختلفوا في تفسير لا فقال بعضهم هي زائدة وزيادتها جارية في كلام العرب كقوله (مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ) يعني أن تسجد (ولئلا يعلم أهل الكتاب).
واعترضوا هذا بأنها إنما تزاد في وسط الكلام لا في أوله، وأجيب بأن القرآن في حكم سورة واحدة متصل بعضه ببعض، يدل على ذلك أنه قد يجيء ذكر الشيء في سورة ويذكر جوابه في سورة أخرى كقوله تعالى: (يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون) وجوابه في سورة أخرى (ما أنت بنعمة ربك بمجنون) وإذا كان كذلك كان أول هذه السورة جارياً مجرى الوسط، ورد هذا بأن القرآن في حكم السورة الواحدة في عدم التناقض، لا في أن تقرن سورة بما بعدها فذلك غير جائز.
وقال الزمخشري إدخال لا النافية على فعل القسم مستفيض في كلامهم وأشعارهم، وفائدتها توكيد القسم، وقال بعضهم هي رد لكلامهم حيث أنكروا البعث كأنه قال ليس الأمر كما ذكرتم، أقسم بيوم القيامة، وهذا قول الفراء وكثير من النحويين، كقول القائل لا والله فـ (لا) رد لكلام قد تقدمها، وقيل هي للنفي لكن لا لنفي الأقسام بل لنفي ما ينبىء عنه من إعظام(14/433)
المقسم به وتفخيمه، كأن معنى لا أقسم بكذا لا أعظمه بإقسامي به حق إعظامه، فإنه حقيق بأكثر من ذلك، وقيل إنها لنفي الإقسام لوضوح الأمر، وقد تقدم الكلام على هذا في تفسير قوله (فلا أقسم بمواقع النجوم).
وقرأ الحسن وابن كثير في رواية عنه والزهري وابن هرمز (لأقسم) بدون ألف على أن اللام لام الابتداء والقول الأول هو أرجح الأقوال، وقد اعتوض عليه، الرازي بما لا يقدح في قوته ولا يفت في عضد رجحانه.
وإقسامه سبحانه بيوم القيامة لتعظيمه وتفخيمه، ولله أن يقسم بما شاء من مخلوقاته، قال سعيد بن جبير سألت ابن عباس عن قوله (لا أقسم بيوم القيامة) قال يقسم ربك بما شاء من خلقه.(14/434)
وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (2)
(ولا أقسم بالنفس اللوامة) ذهب قوم إلى أنه سبحانه أقسم بالنفس اللوامة كما أقسم بيوم القيامة فيكون الكلام في (لا) هذه كالكلام في الأولى وهذا قول الجمهور، وقال الحسن أقسم بيوم القيامة ولم يقسم بالنفس اللوامة، قال الثعلبي: والصحيح أنه أقسم بهما جميعاً، وجرى الجلال المحلى على زيادتها في الموضعين وهو الصواب، ومعنى النفس اللوامة النفس التي تلوم صاحبها على تقصيره أو تلوم جميع النفوس على تقصيرها في الدنيا أو في القيامة، قال الحسن: هي والله نفس المؤمن لا يرى المؤمن إلا يلوم نفسه ما أردت بكذا، ما أردت بكذا، والفاجر لا يعاتب نفسه.
وقال مجاهد: هي التي تلوم على ما فات وتندم فتلوم نفسها على الشر لِمَ عمله وعلى الخير لِمَ لَمْ يستكثر منه، قال ابن عباس التي تلوم على الخير والشر يقول لو فعلت كذا وكذا، وعنه تندم على ما فات وتلوم عليه.
قال الفراء: ليس من نفس برة ولا فاجرة إلا وهي تلوم نفسها إن كانت عملت خيراً قالت هلا ازددت، وإن كانت عملت سوءاً قالت ليتني لم أفعل.
وعلى هذا فالكلام خارج مخرج المدح للنفس، فيكون الإقسام بها حسناً سائغاً، وقيل اللوامة هي الملومة المذمومة، قاله ابن عباس فهي صفة(14/434)
ذم وبهذا أحتج من نفي أن يكون قسماً إذ ليس لنفس العاصي خطر يقسم به، وقال مقاتل هي نفس الكافر تلوم نفسه وتتحسر في الآخرة على ما فرط في جنب الله، والأول أولى.
وقيل هي آدم لم تزل تلوم على فعلها التي خرجت به من الجنة وما أبعده، وقال ابن عباس اللوامة اللؤم. قال القاضي ضمها بيوم القيامة بهما لأن المقصود من إقامة القيامة مجازاة النفوس اهـ فهو من بديع القسم لتناسب الأمرين المقسم بهما حيث أقسم بيوم البعث والنفوس المجزية فيه على حقية البعث والجزاء.(14/435)
أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ (3)
(أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ) المراد بالإِنسان الجنس، وقيل الإنسان الكافر والهمزة للإنكار وأن هي المخففة من الثقيلة واسمها ضمير شأن محذوف والمعنى أيحسب الإنسان أن الشأن أن لن نجمع عظامه بعد أن صارت رفاتاً مختلطة بالتراب، وبعد ما نسفتها الريح فطيرتها في أباعد الأرض فنعيدها خلقاً جديداً، وذلك الحسبان باطل فإنا نجمعها، وما يدل عليه هذا الكلام هو جواب القسم.
قال الزجاج: أقسم ليجمعن العظام للبعث فهذا جواب القسم، وقال النحاس جوابه محذوف أي لتبعثن، والمعنى أن الله سبحانه يبعث جميع أجزاء الإنسان، وإنما خص العظام لأنها قالب الخلق (1).
_________
(1) قال البغوي: نزلت في عدي بن ربيعة حليف بني زهرة خَتَن الأخنس بن شريق الثقفي، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: اللهم اكفني جَارَيِ السوء، يعني عدياً والأخنس، وذلك أن عدي بن ربيعة أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد حدثني عن القيامة متى تكون؟ وكيف أمرها وحالها؟ فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: لو عاينتُ ذلك اليوم لم أصدقك ولم أؤمن بك، أو يجمع الله العظام؟! فأنزل الله عز وجل: (أيحسب الإنسان) يعني الكافر (أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ) بعد التفرق والبلي فنحييه قبل ذكر العظام، وذكره كذلك بغير سند القرطبي والخازن. والله أعلم. وفي القرطبي و " البحر المحيط ": وقيل: نزلت في أبي جهل.(14/435)
بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ (4)
(بلى قادرين على أن نسوي بنانه) بلى إيجاب لما بعد النفي المنسحب إليه الاستفهام والوقف على هذا اللفظ وقف حسن، ثم يبتدىء الكلام بقوله (قادرين) وانتصابه على الحال أي بلى نجمعها قادرين، فالحال من ضمير الفعل المقدر، وقيل المعنى بل نجمعها نقدر قادرين، قال الفراء أي نقدر ونقوي قادرين على أكثر من ذلك، وقال أيضاً إنه يصلح نصبه على التكرير أي بلى فليحسبنا قادرين، وقيل التقدير بلى كنا قادرين وهذا ليس بواضح.
وقرأ ابن أبي عبله وابن السميفع (بلى قادرون) على تقدير مبتدأ أي بلى نحن قادرون، ومعنى تسوية البنان نقدر على أن نجمع بعضها إلى بعض فنردها كما كانت مع لطافتها وصغرها فكيف بكبار الأعضاء، فنبه سبحانه بالبنان، وهي الأصابع على بقية الأعضاء وأن الاقتدار على بعثها وإرجاعها كما كانت أولى في القدرة من إرجاع الأصابع الصغيرة اللطيفة المشتملة على المفاصل والأظفار والعروق اللطاف والعظام الدقاق فهذا وجه تخصيصها بالذكر، وبهذا قال الزجاج وابن قتيبة.
وقال جمهور المفسرين إن معنى الآية أن نجعل أصابع يديه ورجليه شيئاًً واحداً كخف البعير وحافر الحمار صفحة واحدة لا شقوق فيها فلا يقدر على أن ينتفع بها في الأعمال اللطيفة كالكتابة والخياطة ونحوهما، ولكنا فرقنا أصابعه لينتفع بها، وقيل المعنى بل نقدر على أن نعيد الإنسان في هيئة البهائم فكيف في صورته التي كان عليها والأول أولى.
قال ابن عباس لو شاء لجعله خفاً أو حافراً، وبنان جمع أو اسم جمع لبنانة قولان. وفي المختار البنانة واحد البنان وهي أطراف الأصابع، ويقال بنان مخضب لأن كل جمع ليس بينه وبين واحده إلا الهاء فإنه يؤنث ويذكر.(14/436)
بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ (5)
(بل يريد الإنسان ليفجر أمامه) عطف على (أيحسب) إما على أنه استفهام مثله واضرب عن التوبيخ بذلك إلى التوبيخ بهذا أو على أنه إيجاب انتقل إليه من الاستفهام، والمعنى بل يريد الإنسان أن يقدم فجوره فيما بين يديه من الأوقات وما يستقبله من الزمان، فيقدم الذنب ويؤخر التوبة.
قال ابن الأنباري: يريد أن يفجر ما امتد عمره وليس في نيته أن يرجع من ذنب يرتكبه، قال مجاهد والحسن وعكرمة والسدي وسعيد بن جبير يقول: سوف أتوب ولا يتوب حتى يأتيه الموت وهو على أشر أحواله، قال الضحاك: هو الأمل يقول سوف أعيش وأصيب من الدنيا ولا يذكر الموت، وقال ابن عباس: يمضي قدماً، وعنه قال: هو الكافر الذي يكذب بالحساب، وعنه قال: يعني الأمل يقول أعمل ثم أتوب وعنه قال: يقدم الذنب ويؤخر التوبة، وعنه قال: يقول سوف أتوب، والفجور أصله الميل عن الحق فيصدق على كل من مال عن الحق بقول أو فعل.(14/437)
يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ (6)
(يسأل أيان يوم القيامة) مستأنفة، وقال أبو البقاء تفسير لبيان معنى يفجر فتكون مفسرة مستأنفة أو بدلاً من الجملة قبلها لأن التفسير يكون بالاستئناف وبالبدل، وأيان خبر مقدم ويوم القيامة مبتدأ مؤخر، والمعنى يسأل متى يقوم يوم القيامة، سؤال استبعاد واستهزاء، قال ابن عباس أي يقول متى يوم القيامة.(14/437)
فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ (7)
(فإذا برق البصر) أي فزع وتخير، من برق الرجل إذا نظر إلى البرق فدهش بصره، قرأ الجمهور برق بكسر الراء قال أبو عمرو بن العلاء والزجاج وغيرهما المعنى تحير فلم يطرف، وقال الخليل والفراء: برق بالكسر فزع وبهت وتحير، والعرب تقول للإنسان المبهوت قد برق فهو برق، وقرىء بفتح الراء أي لمع بصره من شدة شخوصه للموت، قال مجاهد وغيره: هذا عند الموت، وقيل برق يبرق شق عينيه وفتحهما، وقال أبو عبيدة: فتح الراء وكسرها لغتان بمعنى، قال ابن عباس: يعني الموت.(14/437)
وَخَسَفَ الْقَمَرُ (8) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (9) يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (10) كَلَّا لَا وَزَرَ (11) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (12) يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ (13) بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14) وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ (15) لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (19)(14/438)
وَخَسَفَ الْقَمَرُ (8)
(وخسف القمر) قرأ الجمهور بفتح الخاء والسين مبنياً للفاعل، وقرىء بضم الخاء وكسر السين مبنياً للمفعول، والمعنى ذهب ضوؤه وأظلم ولا يعود كما يعود إذا خسف في الدنيا، ويقال خسف إذا ذهب جميع ضوئه، وكسف إذا ذهب بعض ضوئه.(14/438)
وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (9)
(وجمع الشمس والقمر) أي ذهب ضوؤهما جميعاً ولم يقل جمعت لأن التأنيث مجازي، قاله المبرد وقال أبو عبيدة هو لتغليب المذكر على المؤنث، وقال الكسائي حمل على معنى جمع النيران، وقال الزجاج والفراء: لم يقل جمعت لأن المعنى جمع بينهما في ذهاب نورهما، وقيل جمع بينهما في طلوعهما من المغرب أسودين مكورين مظلمين. قال عطاء: يجمع بينهما يوم القيامة ثم يقذفان في البحر فيكونان نار الله الكبرى، وقيل يجمع الشمس والقمر فلا يكون هناك تعاقب ليل ونهار، وقرأ ابن مسعود وجمع بين الشمس والقمر.(14/438)
يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (10)
(يقول الإنسان) جواب إذا (يومئذ) أي يوم إذا برق البصر الخ (أين المفر) أي يقول عند وقوع هذه الأمور أين الفرار، والمراد بالإنسان الكافر أو المؤمن أيضاً يقول ذلك من الهول، والمفر مصدر بمعنى الفرار، قال الفراء: يجوز أن يكون موضع الفرار.
قال الماوردي يحتمل وجهين (أحدهما) أين المفر من الله سبحانه استحياء منه (والثاني) أين المفر من جهنم حذراً منها، قرأ الجمهور بفتح(14/438)
الميم والفاء مصدراً كما تقدم، وقرىء بضم الميم على أنه اسم مكان أي أين مكان الفرار وقال الكسائي هما لغتان مثل مَذَب ومُذَب ومَصَح ومُصَح، وقرأ الزهري بكسر الميم وفتح الفاء على أن المراد به الإنسان الجيد الفرار.(14/439)
كَلَّا لَا وَزَرَ (11)
(كلا) للردع عن طلب الفرار أو لنفي ما قبلها أو بمعنى حقاً (لا وزر) أي لا سلاح ولا جبل ولا حصن ولا ملجأ يتحصن به من الله، وقال ابن جبير لا محيص ولا منعة، والوزر في اللغة ما يلجأ إليه الإنسان من حصن أو جبل وغيرهما، مني يومئذ، قال ابن مسعود: لا وزر لا حصن، وقال ابن عباس: لا ملجأ وفي لفظ لا حرز وفي لفظ لا جبل ولا حصن، وخبر لا محذوف أي لا وزر له.(14/439)
إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (12)
(إلى ربك يومئذ المستقر) أي إليه المرجع والمنتهى والمصير لا إلى غيره، وقيل إليه الحكم بين العباد لا إلى غيره، وقيل: المستقر الاستقرار حيث يقره الله من جنة أو نار.(14/439)
يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ (13)
(يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ) أي يخبر يوم القيامة بما عمل من خير وشر، وقال قتادة: بما عمل من طاعة الله وما أخر من طاعته فلم يعمل بها، وقال زيد ابن أسلم: بما قدم من أمواله وما خلف للورثة، وقال مجاهد: بأول عمله وآخره، وقال الضحاك: بما قدم من فرض وأخر من فرض.
قال القشيري: هذا الإنباء يكون يوم القيامة عند وزن الأعمال، ويجوز أن يكون عند الموت، قال القرطبي: والأول أظهر، قال ابن مسعود: بما قدم من عمل وأخر من سنة عمل بها من بعده من خير أو شر، وعن ابن عباس نحوه، وعنه قال: بما قدم من معصية وآخر من طاعة فينبأ بذلك.(14/439)
بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14)
(بل الإنسان على نفسه بصيرة) قال الأخفش جعله هو البصيرة كما تقول للرجل أنت حجة على نفسك، وقيل المعنى أن جوارحه تشهد عليه بما عمل كما في قوله (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا(14/439)
يَعْمَلُونَ) فيكون المعنى بل جوارح الإنسان عليه شاهدة، قال أبو عبيدة والقتيبي أن هذه الهاء في البصيرة هي التي يسميها أهل الأعراب هاء المبالغة كما في قولهم علامة، وقيل المراد بالبصيرة الكاتبان اللذان يكتبان ما يكون منه من خير وشر، والتاء على هذا للتأنيث. وقال الحسن: أي بصير بعيوب نفسه، وقال ابن عباس: شهد على نفسه وحده، وعنه قال سمعه وبصره ويديه ورجليه وجوارحه.(14/440)
وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ (15)
(ولو ألقى معاذيره) أي ولو اعتذر وتجرد من ثيابه وجادل عن نفسه لم ينفعه ذلك يقال معذرة ومعاذير على غير قياس كملاقيح ومذاكير جمع لقحة وذكر، قال الفراء أي وإن اعتذر فعليه من يكذب عذره، وقال الزجاج: المعاذير الستور والواحد معذار أي وإن أرخى الستور وأغلق الأبواب، يريد أن يخفي نفسه فنفسه شاهدة عليه، وكذا قال الضحاك والسدي، والستر بلغة اليمن يقال له معذار كذا قال المبرد والأول أولى، وبه قال مجاهد وقتادة وسعيد بن جبير وابن زيد وأبو العالية ومقاتل ومثله قوله (يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم) وقوله (وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ) وقول الشاعر:
فما سن أن يعذر المرء نفسه ... وليس له من سائر الناس عاذر
وقال النسفي والمعاذير ليس بجمع معذرة لأن جمعها معاذر بل هي اسم جمع لها ونحوه المناكير في المنكر، قال الشيخ وليس هذا البناء من أبنية أسماء الجموع وإنما هو من أبنية جموع التكسير وهو الصحيح.(14/440)
لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16)
(لا تحرك به لسانك لتعجل به) أي لا تحرك بالقرآن لسانك عند إلقاء الوحي لتأخذه على عجل مخافة أن يتفلت منك، ومثل هذا قوله (ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه) الآية.(14/440)
إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17)
(إن علينا جمعه) في صدرك حتى لا يذهب عليك منه شيء (وقرآنه) أي إثبات قراءته في لسانك وهو تعليل للنهي، قال الفراء القراءة والقرآن مصدران.(14/440)
فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18)
(فإذا قرأناه) أي أتممنا قراءته عليك بلسان جبريل عليه السلام وبيناه (فاتبع قرآنه) أي فاستمع قراءته وكررها حتى يرسخ في ذهنك، وقال ابن عباس يقول اعمل به، وقال قتادة فاتبع قرآنه أي شرائعه وأحكامه.(14/441)
ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (19)
(ثم إن علينا بيانه) أي تفسير ما فيه من الحلال والحرام وبيان ما أشكل من معانيه. قال الزجاج: المعنى أن علينا أن ننزله عليك قرآناً عربياً فقه بيان للناس، وقيل المعنى أن علينا أن نبينه بلسانك، وهو دليل على جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب، وهو اعتراض بما يؤكد التوبيخ على حب العجلة لأن العجلة إذا كانت مذمومة فيما هو أهم الأمور وأصل الدين فكيف بها في غيره.
والمناسبة بين هذه الآية وما قبلها أن تلك تضمنت الإعراض عن آيات الله، وهذه تضمنت المبادرة إليها بحفظها.
أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن عباس قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، يعالج من التنزيل شدة فكان يحرك به لسانه وشفتيه مخافة أن يتفلت منه، يريد أن يحفظه فأنزل الله (لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ) (1) يقول إن علينا أن نجمعه في صدرك ثم نقرأه فإذا قرأناه يقول إذا أنزلناه عليك فاتبع قرآنه فاستمع له وأنصت، ثم إن علينا بيانه أن نبينه بلسانك، وفي لفظ علينا أن نقرأه، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم، بعد ذلك إذا أتاه جبريل أطرق، وفي لفظ استمع، فإذا ذهب قرأه كما وعده الله.
_________
(1) رواه الإمام أحمد في " المسند " من حديث سعيد بن جبير عن ابن عباس، والبخاري 8/ 325 ومسلم، والترمذي، والنسائي، وابن جرير، وذكره السيوطي في " الدر " 6/ 219 وزاد نسبته للطيالسي، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن الأنباري في " المصاحف " والطبراني، وابن مردويه، وأبي نعيم والبيهقي معاً في " الدلائل " عن ابن عباس رضي الله عنهما.(14/441)
كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ (20) وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ (21) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ (24) تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ (25) كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ (26) وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ (27) وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ (28) وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (29) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ (30) فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى (31) وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (32) ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (33)(14/442)
كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ (20) وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ (21)
(كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ (20) وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ) كلا للردع عن العجلة، والترغيب في الأناة، وقيل هي ردع لمن لا يؤمن بالقرآن وبكونه بيّنا من الكفار، قال عطاء: أي لا يؤمن أبو جهل بالقرآن وبيانه، قرأ أهل المدينة والكوفيون تحبون وتذرون بالفوقية في الفعلين جميعاً، وقرأ الباقون بالتحتية فيهما وهما سبعيتان، فعلى الأولى يكون الخطاب لهم تقريعاً وتوبيخاً، والمعنى تحبون الدنيا وتختارونها وتتركون الآخرة ونعيمها فلا تعملون لها، وعلى الثانية يكون الكلام عائداً إلى الإِنسان لأنه بمعنى الناس، قال ابن مسعود عجلت لهم الدنيا خيرها وشرها، وغيبت الآخرة، أخرجه عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد.(14/442)
وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22)
(وجوه يومئذ ناضرة) أي ناعمة غضة حسنة يقال شجر ناضر، وروض ناضر أي حسن ناعم، ونضارة العيش حسنه وبهجته، قال الواحدي: قال المفسرون: مضيئة مسفرة مشرقة، وقال ابن عباس: ناعمة وقيل مسرورة بالنعيم، وقيل بيض يعلوها نور، والأول أولى، ووجوه مبتدأ وناضرة صفة لوجوه، ويومئذ ظرف لناضرة، وناظرة خبر مبتدأ وسوغ الابتداء بالنكرة هنا العطف عليها وكون الموضع موضع تفصيل، ولو لم يكن المقام مقام تفصيل لكان وصف النكرة بقوله ناضرة مسوغاً للابتداء بها، ولكن مقام التفصيل بمجرده مسوغ للابتداء بالنكرة.(14/442)
إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23)
(إلى ربها ناظرة) أي تنظر إليه عياناً بلا حجاب، هكذا قال جمهور أهل العلم والمراد به ما تواترت به الأحاديث الصحيحة من أن العباد ينظرون(14/442)
إلى ربهم يوم القيامة كما ينظرون إلى القمر ليلة البدر.
قال ابن كثير وهذا بحمد الله مجمع عليه بين الصحابة والتابعين وسلف هذه الأمة كما هو متفق عليه بين أئمة الأسلام وهداة الأنام، وقال مجاهد إن النظر هنا انتظار ما لهم عند الله من الثواب، وروي نحوه عن عكرمة، وقيل لا يصح هذا إلا عن مجاهد وحده، قال الأزهري وقول مجاهد خطأ لأنه لا يقال نظر إلى كذا بمعنى الانتظار لأن قول القائل نظرت إلى فلان ليس إلا رؤية عين، فإذا أرادوا الانتظار قالوا نظرته، فإذا أرادوا نظر العين قالوا نظرت إليه، وأشعار العرب وكلماتهم في هذا كثيرة جداً.
ويشهد لصحة هذا أن النظر الوارد في التنزيل بمعنى الانتظار كثير ولم يوصل في موضع بإلى قوله (انظرونا نقتبس من نوركم) وقوله (هل ينظرون إلا تأويله) وقوله (هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله) والوجه إذا وصف بالنظر وعدِّي بإلى لم يحتمل غير الرؤية.
والأحاديث الصحيحة تعضد قول من فسر النظر في هذه الآية بالرؤية وسيأتي بعضها قال ابن عباس في الآية تنظر إلى الخالق، وعنه قال تنظر إلى وجه ربها.
وعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، في الآية ينظرون إلى ربهم بلا كيفية ولا حد محدود ولا صفة معلومة. أخرجه ابن مردويه.
وعن أبي هريرة قال: " قال الناس يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة قال هل تضارون في الشمس ليس دونها سحاب، قالوا لا يا رسول الله، قال فهل تضارون في القمر ليلة البدر ليس دونه سحاب، قالوا لا يا رسول الله، قال فإنكم ترونه يوم القيامة كذلك " أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما (1).
_________
(1) وقد ثبت رؤية المؤمنين لله عز وجل في الدار الآخرة في الأحد الصحاح من طرق متواترة عند أئمة الحديث لا يمكن دفعها ولا منعها، كحديث أبيّ وأبي هريرة، وهما في " الصحيحين " أن ناساً
[ص:444]
قالوا: يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة فقال: " هل تضارون في رؤية الشمس والقمر ليس دونهما سحاب؟ " قالوا: لا يا رسول الله، قال: " إنكم ترون ربكم كذلك " وفي (الصحيحين) عن جرير قال: نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم القمر ليلة البدر فقال: " إنكم ترون ربكم كما ترون هذا القمر، فإن استطعتم أن لا تقلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس ولا قبل غروبها فافعلوا ".(14/443)
وأخرج الشيخان وغيرهما من حديث أبي هريرة نحوه.
وقد أخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد والترمذي وابن جرير وابن المنذر والدارقطني والحاكم وابن مردويه والبيهقي عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن أدنى أهل الجنة منزلة لمن ينظر إلى جناته وأزواجه ونعيمه وخدمه وسرره مسيرة ألف سنة، وأكرمهم على الله من ينظر إلى وجهه غدوة وعشية ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ) " وأخرجه أحمد في المسند من حديثه بلفظ " وإن أفضلهم منزلة لينظر في وجه الله كل يوم مرتين ".
وأخرج النسائي والدارقطني وصححه وأبو نعيم عن أبي هريرة قال: " قلنا يا رسول الله هل نرى ربنا قال هل ترون الشمس في يوم لا غيم فيه، وترون القمر في ليلة لا غيم فيها قلنا نعم، قال فإنكم سترون ربكم عز وجل حتى أن أحدكم ليحاور ربه محاورة فيقول عبدي هل تعرف ذنب كذا وكذا فيقول: ألم تغفر لي؟ فيقول بمغفرتي صرت إلى هذا ".
وقد تظافرت أدلة الكتاب والسنة وإجماع الصحابة ومن بعدهم من سلف الأمة على إثبات رؤية الله تعالى، وقد رواها نحو من عشرين صحابياً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وآيات القرآن فيها مشهورة، ولاعتراضات المبتدعة من المعتزلة والخوارج وبعض المرجئة عليها أجوبة معروفة في كتب الكلام من أهل السنة، وكذلك باقي شبههم وأجوبتها مستفاضة في كتب أهل الحق، وليس هذا موضع ذكرها، وقد قدمنا أن أحاديث الرؤية متواترة فلا نطيل بذكرها وهي تأتي في مصنف مستقل، ولم يتمسك(14/444)
من نفاها واستبعدها بشيء يصلح للتمسك به لا من كتاب الله ولا من سنة رسوله.
وقد أطال الحافظ المتكلم محمد بن أبي بكر القيم الجوزي رحمه الله تعالى في إثبات رؤيته تعالى يوم القيامة في كتابه " حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح " ومن أحب النظر في أدلة الفريقين فعليه برسالة الشوكاني المسماة بالبغية في مسألة الرؤية جمع فيها جميع ما استدل به النافون والمثبتون من الأدلة العقلية والنقلية.(14/445)
وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ (24)
(ووجوه يومئذ باسرة) أي كالحة عابسة كئيبة قال في الصحاح: بسر الرجل وجهه بسوراً أي كلح قال السدي: باسرة أي متغيرة، وقيل مصفرة والمراد بالوجوه هنا وجوه الكفار.(14/445)
تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ (25)
(تظن) أي توقن (أن يفعل بها فاقرة) الفاقرة الداهية العظيمة، يقال فقرته الفاقرة أي كسرت فقار ظهره، قال قتادة: الفاقرة الشر، وقال السدي: الهلاك وقال ابن زيد: دخول النار، وقيل الحجاب عن رؤية الله تعالى، والأول أولى.
وأصل الفاقرة الوسم على أنف البعير بحديدة أو نار حتى تخلص إلى العظم، كذا قال الأصمعي ومن هذا قولهم قد عمل به الفاقرة.(14/445)
كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ (26)
(كلا) ردع وزجر أي بعيد أن يؤمن الكافر بيوم القيامة ثم استأنف فقال (إذا بلغت) النفس أو الروح أي نفس المحتضر مؤمناً كان أو كافراً، وإنما أضمرت وإن لم يجر لها ذكر لأن السياق يدل عليها (التراقي) جمع ترقوة وهي عظم بين ثغرة النحر والعاتق يميناً وشمالاً، ولكل إنسان ترقوتان ويكنى ببلوغ النفس التراقي عن الإشفاء على الموت، ومثله قوله تعالى (فلولا إذا بلغت الحلقوم) وقيل معنى كلا حقاً أي حقاً أن المساق إلى الله إذا بلغت التراقي، والمقصود تذكيرهم بشدة الحال عند نزول الموت قال دريد بن الصمة:
ورب كريهة دافعت عنها ... وقد بلغت نفوسهم التراقي(14/445)
وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ (27)
(وقيل) هذا الفعل وما بعده من الفعلين معطوف على بلغت (من(14/445)
راق) أي قال من حضر صاحبها من يرقيه ويشتفي برقيته، قال قتادة إلتمسوا له الأطباء فلم يغنوا عنه من قضاء الله شيئاًً وبه قال أبو قلابة ومنه قول الشاعر:
هل للفتى من بنات الموت من واقٍ؟ ... أم هل له من حمام الموت من راقِ؟
وقال أبو الجوزاء هو من رقى يرقى إذا صعد والمعنى من يرقى بروحه إلى السماء أملائكة الرحمة أم ملائكة العذاب، وقيل إنه يقول ذلك ملك الموت وذلك أن نفس الكافر تكره الملائكة قربها، وقال ابن عباس: في قوله (وقيل من راق) قال تنتزع نفسه حتى إذا كانت في تراقيه قيل من يرقى بروحه ملائكة الرحمة أو ملائكة العذاب، وهذا الاستفهام يجوز أن يكون على بابه وأن يكون استبعاداً وإنكاراً، وراق اسم فاعل إما من رقى يرقي بالفتح في الماضي والكسر في المضارع من الرقية وهي كلام معد للاستشفاء يرقى به المريض ليشفى، وفي الحديث " وما أدراك أنها رقية " (1)، يعني الفاتحة وهي من أسمائها، وإما من رقي يرقى بالكسر في الماضي والفتح في المضارع من الرقي وهو الصعود، يقال رقى بالفتح من الرقية وبالكسر من الرقي.
_________
(1) سبق شرحها في تفسير سورة الفاتحة.(14/446)
وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ (28)
(وظن) أي أيقن الذي بلغت روحه التراقي وسمي اليقين ظناً لأن الإنسان ما دامت روحه متعلقة ببدنه فإنه يطمع في الحياة لشدة حبه لها ولا ينقطع رجاؤه منها (أنه) أي ما نزل به (الفراق) من الدنيا ومن الأهل والمال والولد.(14/446)
وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (29)
(والتفت الساق بالساق) أي الشفت ساقه بساقه عند نزول الموت به، وقال جمهور المفسرين المعنى تتابعت عليه الشدائد وقال الحسن: هما ساقاه إذا التفتا في الكفن، وقال زيد بن أسلم التفت ساق الكفن بساق الميت، وقيل ماتت رجلاه ويبست ساقاه ولم تحملاه، وقد كان جوالاً عليهما، وقال الضحاك: اجتمع عليه أمران شديدان الناس يجهزون جسده، والملائكة يجهزون روحه، وبه قال ابن زيد:
والعرب لا تذكر الساق إلا في الشدائد الكبار والمحن العظام، ومنه قولهم قامت الحرب على ساق، وقيل الساق الأول تعذيب روحه عند خروج(14/446)
نفسه، والساق الآخر شدة البعث وما بعده، وقال ابن عباس التفت عليه الدنيا والآخرة، وعنه قول يقول آخر يوم من أيام الدنيا وأول يوم من أيام الآخرة فيلقى الشدة بالشدة إلا من رحم الله، وقال الشعبي وغيره المعنى التفت ساق الإنسان عند الموت من شدة الكرب، وقال قتادة أما رأيته إذا أشرف على الموت يضرب إحدى رجليه على الأخرى، قال النحاس القول الأول أحسنها.(14/447)
إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ (30)
(إلى ربك يومئذ المساق) أي إلى خالقك يوم القيامة المرجع، وذلك جمع العباد إلى الله يساقون إليه وقيل التنوين عوض عن جمل أربع أي يوم إذ بلغت الروح التراقي الخ.(14/447)
فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى (31)
(فلا صدق ولا صلى) أي لم يصدق الإنسان المذكور في أول هذه السورة بالرسالة ولا بالقرآن ولا صلى لربه أي الصلاة الشرعية، فهو ذم له يترك العقائد والفروع، قال قتادة فلا صدق بالكتاب ولا صلى لله، وقيل فلا آمن بقلبه ولا عمل ببدنه، وقيل صدق من التصدق أي فلا صدق بشيء يدخره عند الله تعالى، قاله القرطبي قال الكسائي: لا بمعنى لم وكذا قال الأخفش والعرب تقول لا ذهب أي لم يذهب، وهذا مستفيض في كلاء العرب ومنه.
إن تغفر اللهم فاغفر جما ... وأي عبد لك لا ألما
ولما كان عدم التصديق يصدق بالشك والسكوت والتكذيب استدرك على عمومه وبمن أن المراد منه خصوص التكذيب فقال:(14/447)
وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (32)
(ولكن كذب وتولى) أي كذب بالرسول وبما جاء به، وتولى عن الطاعة والإيمان، ولم يستدرك على نفي الصلاة لأنه لا يصدق إلا بصورة واحدة فلم يحتج للإستدراك عليه.(14/447)
ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (33)
(ثم ذهب إلى أهله يتمطى) أي يتبختر ويختال في مشيه افتخاراً بذلك، وقيل هو مأخوذ من المطا، وهو الظهر والمعنى يلوي مطاه وقيل أصله يتمطط وهو التمدد والتثاقل أي يتثاقل ويتكاسل عن الداعي إلى الحق.
قال الإمام هذا ذكر لما يتعلق بدنياه بعد ذكر ما يتعلق بدينه، وثم للاستبعاد لأن من صدر عنه مثل ذلك ينبغي أن يخاف من حلول غضب الله به فيمشي خائفاً منه متطامناً لا فرحاً متبختراً، ذكره الشهاب.(14/447)
أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (34) ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (35) أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى (36) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى (37) ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (38) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (39) أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى (40)(14/448)
أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (34)
(أولى لك) فيه التفات عن الغيبة، والكلمة اسم فعل مبنية على السكون لا محل لها من الإعراب، والفاعل ضمير مستتر يعود على ما يفهم من السياق وهو كون هذه الكلمة تستعمل في الدعاء بالمكروه، واللام مزيدة والمعنى وليك ما تكرهه (فأولى) أي فهو أولى بك من غيرك، فدلت الأولى على الدعاء عليه بقرب المكروه منه، ودلت الثانية على الدعاء عليه بأن يكون أقرب إليه من غيره، هذا ما سلكه الجلال المحلي في تقرير هذا المقام وانفرد به عن غيره من المفسرين وهو حسن جداً.(14/448)
ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (35)
(ثم أولى لك فأولى) الأولى تأكيد للأولى والثانية تأكيد للثانية، وقيل أي وليك الويل وأصله أولاك الله ما تكرهه واللام مزيدة كما في ردف لكم، وهذا تهديد شديد ووعيد بعد وعيد، والتكرير للتأكيد أي يتكرر عليك ذلك مرة بعد مرة.
قال الواحدي قال المفسرون: " أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم، بيد أبي جهل فقال أولى لك فأولى فقال أبو جهل بأي شيء تهددني؟ لا تستطيع أنت ولا ربك أن تفعلا بي شيئاًً وإني لأعز أهل هذا الوادي " فنزلت هذه الآية، وقيل معناه الويل لك وعلى هذا القول قيل هو من القلوب، كأنه قيل أويل لك ثم أخر الحرف المعتل، قيل ومعنى التكرير لهذا اللفظ أربع مرات الويل لك حياً والويل لك ميتاً والويل لك يوم البعث والويل لك يوم تدخل(14/448)
النار، وقيل المعنى أن الذم لك أولى لك من تركه، وقيل المعنى أنت أولى وأحق وأجدر بهذا العذاب قاله محي السنة، وقال الأصمعي أولى في كلام العرب معناه مقاربة الهلاك، قال المبرد كأنه يقول قد وليت الهلاك وقد دانيته، وأصله من الولي وهو القرب.
قال ثعلب: لم يقل أحد في (أولى) أحسن وأصح مما قاله الأصمعي، وعن سعيد بن جبير قال: " سألت ابن عباس عن قوله أولى لك فأولى أشيء قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأبي جهل من قبل نفسه أم أمره الله به قال بل قاله من قبل نفسه ثم أنزله الله " أخرجه النسائي والحاكم وصححه والطبراني وغيرهم.(14/449)
أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى (36)
(أيحسب الإنسان أن يترك سدى) أي مهملاً لا يؤمر ولا ينهى ولا يحاسب ولا يعاقب ولا يكلف في الدنيا ولا يبعث ولا يجازى، وقال السدي معناه المهمل ومنه إبل سدى أي ترعى بلا راع، وقيل المعنى أيحسب أن يترك في قبره كذلك أبداً لا يبعث، وهو يتضمن تكرير إنكاره للحشر، والدلالة عليه من حيث أن الحكمة تقتضي الأمر بالمحاسن والنهي عن القبائح، والتكليف لا يتحقق إلا بالمجازاة وهي قد لا تكون في الدنيا فتكون في الآخرة.(14/449)
أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى (37)
(ألم يك نطفة من مني يمنى) مستأنفة أي ألم يك ذلك الإنسان قطرة من مني تراق وتصب في الرحم، وسمي المني منياً لإراقته، والنطفة الماء القليل، يقال نطف الماء إذا قطر، قرأ الجمهور ألم يك بالتحتية على إرجاع الضمير إلى الإِنسان، وقرأ الحسن بالفوقية على الالتفات إليه توبيخاً له، وقرأ الجمهور تمنى أيضاًً بالفوقية على أن الضمير للنطفة، وقرىء بالتحتية على أن(14/449)
الضمير للمني، ورويت هذه القراءة عن أبي عمرو واختارها أبو حاتم وفائدته بعد قوله (من مني) الإشارة إلى حقارة حاله كأنه قيل إنه مخلوق من مني الذي يجري على مخرج النجاسة.(14/450)
ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (38)
(ثم كان علقة) أي كان بعد النطفة دماً أحمر شديد الحمرة (فخلق) أي فقدر الله منها الإنسان بأن جعلها مضغة مخلقه (فسوى) أي فعدله وكمل نشأته ونفخ فيه الروح وجعله بشراً سوياً(14/450)
فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (39)
(فجعل منه) أي حصل من الإنسان وقيل من المني (الزوجين) أي الصنفين من نوع الإنسان، قال الكرخي أي لا خصوص الفردين وإلا فقد تحمل المرأة بذكرين وأنثى وبالعكس، ثم بين ذلك فقال (الذكر والأنثى) أي الرجل والمرأة يجتمعان تارة وينفرد كل منهما عن الآخر أخرى.(14/450)
أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى (40)
(أليس ذلك) الفعال الذي أنشأ هذا الخلق البديع وقدر عليه (بقادر على أن يحيي الموتى) أي يعيد الأجسام بالبعث كما كانت عليه في الدنيا، فإن الإعادة أهون من الإِبداء وأيسر مؤنة منه، قرأ الجمهور بقادر، وقرأ زيد بن علي (يقدر) فعلاً مضارعاً، وقرأ الجمهور أيضاًً يحيى بنصبه بأن، وقرىء بسكونها تخفيفاً أو على إجراء الوصل مجرى الوقف كما مر في مواضع.
عن صالح أبي الخليل قال " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا قرأ هذه الآية قال سبحانك اللهم وبلى " (1)، أخرجه عبد بن حميد وابن الأنباري.
_________
(1) ذكره ابن كثير في التفسير من رواية ابن أبي حاتم عن ابن عباس موقوفاً من حديث أبي إسحاق السبيعي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس. وأبو إسحاق السبيعي ثقة عابد لكنه اختلط بأخرة. ورواه أبو داود والترمذي مطولاً عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً وفي سنده أعرابي لم يسم، وعنه أخرجه أحمد 2/ 249 والترمذي 2/ 238 مختصراً وأعله بالأعرابي. ورواه الحاكم في " المستدرك " 2/ 510 وصححه ووافقه الذهبي، وفي سنده يزيد بن عياض، وهو متروك كما قال الحافظ ابن حجر في " تخريج الكشاف ". ورواه أبو داود رقم (484) من رواية موسى بن أبي عائشة عن رجل سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم، قال ابن كثير: تفرد به أبو داود، ولم يسم هذا الصحابي، ولا يضر ذلك.(14/450)
وعن البراء بن عازب قال " لما نزلت هذه الآية قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، سبحانك ربي وبلى " أخرجه ابن مردويه.
وعن أبي أمامة أنه " سمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول عند قراءته لهذه الآية بلى وأنا على ذلك من الشاهدين " أخرجه ابن النجار في تاريخه.
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " من قرأ منكم والتين والزيتون فانتهى إلى آخرها أليس الله بأحكم الحاكمين، فليقل بلى وأنا على ذلك من الشاهدين، ومن قرأ لا أقسم بيوم القيامة فانتهى إلى قوله: (أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى) فليقل بلى، ومن قرأ والمرسلات عرفاً فبلغ فبأي حديث بعد يؤمنون، فليقل آمنا بالله "، أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي وابن المنذر والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي وفي إسناده رجل مجهول.
وعن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " إذا قرأت لا أقسم بيوم القيامة فبلغت أليس ذلك بقادر إلى آخرها فقل بلى " أخرجه ابن المنذر وابن مردويه.
قال ابن عباس من قرأ سبح اسم ربك الأعلى إماماً كان أو غيره فليقل سبحان ربي الأعلى، ومن قرأ لا أقسم بيوم القيامة إلى آخرها فليقل سبحانك اللهم بلى، إماماً كان أو غيره، ذكره الخطيب.
قال الحفناوي: قوله إماماً كان أو غيره يقتضي أن هذه الكلمة وهي (بلى) لا تبطل الصلاة وهو كذلك لأنها ذكر وتقديس وتنزيه لله تعالى.(14/451)
سورة الإنسان
(وتسمى سورة هل أتى وسورة الأمشاج وسورة الدهر وهي إحدى وثلاثون آية)
قال الجمهور هي مدنية، وقال مقاتل والكلبي: هي مكيّة، وجرى عليه البيضاوي والزمخشري، وقال المحلي: مكيّة أو مدنية ولم يجزم بشيء قال ابن عباس: نزلت بمكة، وعن ابن الزبير مثله، وقيل فيها مكي من قوله: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ) إلى آخر السورة وما قبله مدني وقال الحسن وعكرمة هي مدنية إلا آية وهي (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ) -إلى قوله- (كَفُورًا) وأخرج الطبراني وابن مردويه وابن عساكر عن ابن عمرو قال: جاء رجل من الحبشة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " سل واستفهم " فقال يا رسول الله فضلتم علينا بالألوان والصور والنبوة أفرأيت إن آمنت بما آمنت به وعملت بما عملت به أني كائن معك في الجنة قال: " نعم والذي نفسي بيده إنه ليرى بياض الأسود في الجنة من مسيرة ألف عام " ثم قال " من قال لا إله إلا الله كان له عهد عند الله ومن قال سبحان الله وبحمد كتب له مائة ألف حسنة، وأربعة وعشرون ألف حسنة، ونزلت هذه السورة إلى قوله: (وَمُلْكًا كَبِيرًا) " فقال الحبشي وإن عيني لترى ما ترى عيناك في الجنة قال: " نعم "، فاستبكى حتى فاضت نفسه، قال ابن عمر فلقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدليه في حفرته بيده ".(14/453)
وأخرج أحمد في الزهد عن محمد بن مطرف قال حدثني الثقة أن رجلاً أسود كان يسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن التسبيح والتهليل فقال له عمر بن الخطاب أكثرت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: " مه يا عمر "، وأنزلت على رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - (هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ) حتى إذا أتى علي ذكر الجنة زفر الأسود زفرة خرجت نفسه فقال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - " مات شوقاً إلى الجنة " وأخرج نحوه ابن وهب عن ابن زيد مرفوعاً مرسلاً.
وأخرج أحمد والترمذي وحسنه وابن ماجة وغيرهم عن أبي ذر قال قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ) حتى ختمها ثم قال: " إني أرى ما لا ترون وأسمع ما لا تسمعون أطت السماء وحق لها أن تئط ما فيها موضع أربعة أصابع إلا وملك واضع جبهته ساجداً لله، والله وتعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً وما تلذذتم بالنساء على الفرش ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله عز وجل " (1).
_________
(1) حديث حسن - صحيح الجامع 2445 - المشكاة 5347.(14/454)
بسم الله الرحمن الرحيم
هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا (1) إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (2) إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3) إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا (4) إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا (5)(14/455)
هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا (1)
(هل أتى) حكى الواحدي عن المفسرين وأهل المعاني أن هل هنا بمعنى قد، وليس باستفهام لأن الاستفهام محال على الله تعالى، وقد قال بهذا سيبويه والكسائي والفراء وأبو عبيدة، قال الفراء (هل) يكون جحداً ويكون خبراً فهذا من الخبر، لأنك تقول هل أعطيتك تقرره بأنك أعطيته والجحد أن تقول هل يقدر أحد على مثل هذا، وقيل هي وإن كانت بمعنى قد ففيها معنى الاستفهام، والأصل أهل أتى، فالمعنى أقد أتى، والاستفهام للتقرير والتقريب وبه قال مكي وهو تقرير لمن أنكر البعث أن يقول نعم قد مضى دهر طويل لا إنسان فيه، قال السمين: جعلها للاستفهام التقريري لا للاستفهام المحض، وهذا هو الذي يجب أن يكون لأن الاستفهام لا يرد من الله إلا على هذا النحو وما أشبهه انتهى والأول أنسب.
(على الإنسان) المراد بالإنسان هنا آدم قاله قتادة والثوري وعكرمة والسدي وغيرهم وقال ابن عباس كل إنسان (حين من الدهر) أي طائفة محدودة من الزمان الممتد غير المحدود، فإنه عند الجمهور يقع على مدة العالم جميعها، وعلى كل زمان طويل غير معين قيل أربعون سنة قبل أن ينفخ فيه الروح، وهو ملقى بين مكة والطائف، وقيل إنه خلق من طين أربعين سنة ثم من حمأ مسنون أربعين سنة ثم من صلصال أربعين سنة فتم خلقه بعد مائة وعشرين سنة ثم نفخ فيه الروح، وقيل الحين المذكور هنا لا يعرف مقداره.
وجملة (لم يكن شيئاًً مذكوراً) في محل نصب على الحال من الإنسان(14/455)
أو في محل رفع صفة لحين، قال الفراء وقطرب وثعلب المعنى أنه كان جسداً مصوراً تراباً وطيناً لا يذكر في السماء ولا في الأرض ولا يعرف ولا يدري ما اسمه ولا ما المراد به، ثم نفخ فيه الروح فصار مذكوراً، وقال يحيى: لم يكن شيئاًً مذكوراً في الخلق وإن كان عند الله شيئاًً مذكوراً، وقيل ليس المراد بالذكر هنا الإخبار فإن إخبار الرب عن الكائنات قديم بل هو الذكر بمعنى الخطر والشرف كما في قوله (وإنه لذكر لك ولقومك) قال القشيري ما كان مذكوراً لله سبحانه.
قال الفراء: كان شيئاًً ولم يكن مذكوراً، فجعل النفي متوجهاً إلى القيد وقيل المعنى قد مضت أزمنة وما كان آدم شيئاًً ولا مخلوقاً ولا مذكوراً لأحد من الخليقة.
وقال مقاتل: في الكلام تقديم وتأخير وتقديره هل أتى حين من الدهر على الإنسان لم يكن شيئاًً مذكوراً لأنه خلقه بعد خلق الحيوان كله ولم يخلق بعده حيوان، وعن عمر أنه سمع رجلاً يقرأ هذه الآية لم يكن شيئاً مذكوراً فقال عمر ليتها تمت، يعني ليته بقي على ما كان عليه، ويروى نحوه عن أبي بكر وابن مسعود، وقيل المراد بالإنسان جنس الإنسان وهو بنو آدم بدليل قوله:(14/456)
إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (2)
(إنا خلقنا الإنسان من نطفة) فإن المراد بالإنسان هنا بنو آدم، قال القرطبي من غير خلاف، والنطفة الماء الذي يقطر، وهو المني وكل ماء قليل في وعاء فهو نطفة وجمعها نطف أي خلقناه من مادة هي شيء يسير جداً من الرجل والمرأة، والنطفة ماء الرجل والمرأة وأيضاًً الماء الصافي قل أو كثر، ولا فعل للنطفة أي لا يستعمل لها فعل من لفظها.
(أمشاج) صفة لنطفة وهي جمع مشج بفتحتين أو مشج كعدل وأعدال أو مشيج كشريف وأشراف وهي الأخلاط، ووقع الجمع صفة لمفرد لأنه في معنى الجمع أو جعل كل جزء من النطفة نطفة فاعتبر ذلك فوصف بالجمع والمراد نطفة الرجل ونطفة المرأة واختلاطهما يقال مشج هذا بهذا فهو(14/456)
ممشوج أي خلط هذا بهذا فهو مخلوط.
قال المبرد مشج يمشج إذا اختلط وهو هنا اختلاط النطفة بالدم، قال الفراء أمشاج اختلاط ماء الرجل وماء المرأة والدم والعلقة، ويقال مشج هذا إذا خلط، وقيل الأمشاج الحمرة في البياض، والبياض في الحمرة.
قال القرطبي: وهذا قول يختاره كثير من أهل اللغة وذلك لأن ماء الرجل أبيض غليظ وماء المرأة أصفر رقيق فيخلق منهما الولد، قيل وما كان من عصب وعظم فمن نطفة الرجل، وما كان من لحم ودم وشعر فمن ماء المرأة، حتى لو زنت المرأة بامرأة واجتمع الماءآن في رحم إحداهما خلق الولد بلا عظم، وقد وقع ذلك في عصر السلطان غياث الدين فلم يدر السلطان، فجمع الأطباء والعلماء فلم يدركوا شيئاًً من شأنه فأرسل الاستفتاء إلى علماء ظفر أباد فقال محمد بن الحاج إنه خلق من ماء امرأتين فتفحص السلطان فظهر أنه كذلك، وقيل الأمشاج أطوار الخلق نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم عظماً ثم يكسوه لحماً ثم ينشئه خلقاً آخر.
قال ابن السكيت: الأمشاج الأخلاط لأنها ممتزجة من أنواع يخلق الإنسان منها وطباع مختلفة، وقيل الأمشاج لفظ مفرد كبرمة أعشار، ويؤيد هذا وقوعه نعتاً للنطفة، قال ابن مسعود: أمشاجها عروقها، وعن ابن عباس: قال ماء الرجل وماء المرأة حين يختلطان، وعنه قال: نطفة الرجل بيضاء وحمراء ونطفة المرأة خضراء وحمراء، وعنه قال: الأمشاج الذي يخرج على أثر البول كقطع الأوتار، ومنه يكون الولد.
وجملة (نبتليه) في محل نصب على الحال من فاعل خلقنا أي مريدين ابتلاءه حين تأهله ويجوز أن يكون حالاً من الإنسان، والمعنى نبتليه بالخير والشر والتكاليف قال الفراء معناه والله أعلم (فجعلناه سميعاً بصيراً) نبتليه وهي مقدمة معناها التأخير، لأن الابتلاء لا يقع إلا بعد تمام الخلقة، وعلى هذا هذه حال مقدرة وقيل مقارنة.(14/457)
وقال الكرخي: لا حاجة إلى دعوى التقديم والتأخير مع صحة المعنى بدونه، وقيل معنى الابتلاء نقله من حال إلى حال على طريقة الاستعارة والأول أولى، والمراد بالسمع والبصر الحاستان المعروفتان، وخصهما بالذكر لأنهما أعظم الحواس وأشرفها قال الخطيب أي جعلناه عظيم السمع والبصر والبصيرة ليتمكن من مشاهدة الدلائل ببصره، وسماع الآيات بسمعه ومعرفة الحجج ببصيرته فيصح تكليفه وابتلاؤه، وقدم السمع لأنه أنفع في المخاطبات، ولأن الآيات المسموعة أبين من الآيات المرئية وقيل المراد بالسميع المطيع كقولهم سمعاً وطاعة، وبالبصير العالم يقال لفلان بصر في هذا الأمر أي علم، والأول أولى.
ثم ذكر سبحانه أنه أعطاه ما يصح معه الابتلاء فقال:(14/458)
إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3)
(إنا هديناه السبيل إما شاكراً وإما كفوراً) أي بينا له وعرفناه طريق الهدى والضلال والخير والشر بأدلة السمع والعقل، كما في قوله (وهديناه النجدين) قال مجاهد: أي بينا السبيل إلى الشقاوة وإلى السعادة، وقال الضحاك والسدي وأبو صالح: السبيل هنا خروجه من الرحم، وقيل منافعه ومضاره التي يهتدي إليها بطبعه وكمال عقله، وانتصاب شاكراً وكفوراً على الحال من مفعول هديناه أي مكناه من سلوك الطريق في حالتيه جميعاً، وقيل على الحال من السبيل على المجاز أي عرفناه السبيل إما سبيلاً شاكراً وإما سبيلاً كفوراً (1).
وحكى مكي عن الكوفيين إن قوله إما هي إن الشرطية زيدت بعدها ما أي بينا له الطريق إن شكر وإن كفر، واختار هذا الفراء ولا يجيزه البصريون لأن (إن) الشرطية لا تدخل على الأسماء إلا أن يضمر بعدها فعل، ولا يصح هنا إضمار الفعل لأنه كان يلزم رفع شاكراً وكفوراً، ويمكن أن يضمر فعل ينصب شاكراً وكفوراً وتقديره إن خلقناه شاكراً فشكوراً؛ وإن خلقناه كافراً
_________
(1) قال ابن كثير: فهو في ذلك إما شقي وإما سعيد، كما جاء في الحديث الذي رواه مسلم عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها ".(14/458)
فكفوراً، وهذا على قراءة الجمهور (إمّا) بكسر الهمزة وقرأ أبو السماك وأبو العجاج بفتحها وعلى الفتح هي (أمّا) العاطفة في لغة بعض العرب أو هي التفصيلية وجوابها مقدرة وقيل انتصب شاكراً وكفوراً بإضمار كان والتقدير سواء كان شاكراً أو كان كفوراً.
ولما كان الشكر قل من يتصف به قال شاكراً، ولما كان الكفر كثيراً من يتصف به ويكثر وقوعه عن الإنسان بخلاف الشكر قال كفوراً بصيغة المبالغة، كذا في النهر أو هو مراعاة لرؤوس الآي.
ثم بين سبحانه ما أعد للكافرين فقال:(14/459)
إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا (4)
(إنا أعتدنا للكافرين سلاسل وأغلالاً وسعيراً) قرأ نافع والكسائي وأبو بكر عن عاصم وهشام عن ابن عامر (سلاسلاً) بالتنوين ووقف قنبل عن ابن كثير وحمزة بغير ألف، والباقون وقفوا بالألف، ووجه من قرأ بالتنوين في سلاسل مع كونه صيغة منتهى الجموع أنه قصد بذلك التناسب لأن ما قبله وهو إما شاكراً وإما كفوراً، وما بعده وهو أغلالاً وسعيراً منون أو على لغة من يصرف جميع ما لا ينصرف كما حكاه الكسائي وغيره من الكوفيين عن بعض العرب.
قال الأخفش: سمعنا من العرب من يصرف كل ما لا ينصرف لأن الأصل في الأسماء الصرف وترك الصوف لعارض فيها، قال الفراء هو على لغة من يجر الأسماء كلها إلا قولهم هو أظرف منك فإنهم لا يجرونه، وقيل إن التنوين لموافقة رسم المصاحف المكية والمدنية والكوفية فإنها فيها بالألف، وقيل إن هذا التنوين بدل من حرف الإطلاق ويجري الوصل مجرى الوقف.
والسلاسل قد تقدم تفسيرها، والخلاف فيها هل هي القيود أو ما يجعل في الأعناق كما في قول الشاعر:
ولكن أحاطت بالرقاب السلاسل
والسلاسل جمع سلسلة أي يشدون ويسحبون بها في النار، والأغلال جمع غل تغل به الأيدي إلى الأعناق، وقد تقدم تفسير السعير وهي نار مهيجة يعذبون بها.(14/459)
ولما أوجز في جزاء الكافرين ذكر ما أعده للشاكرين وأطنب تأكيداً للترغيب فقال:(14/460)
إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا (5)
(إن الأبرار يشربون من كأس) الأبراز أهل الطاعة والإخلاص والصدق جمع بر أو بار، قال في الصحاح: جمع البر الأبرار، وجمع البار البررة، وفلان يبر خالقه ويبرره أي يطيعه، وقال الحسن: البر الذي لا يؤذي الذر، وقال قتادة: الأبرار الذين يؤدون حق الله ويوفون بالنذر، وقيل هم الصادقون في إيمانهم المطيعون لربهم الذين سمت همتهم عن المحقرات فظهرت في قلوبهم ينابيع الحكمة، وقيل سماهم الأبرار لأنهم بروا الآباء والأبناء، والكأس في اللغة هو الإناء الذي فيه الشراب، وإذا لم يكن فيه الشراب لم يسم كأساً، بل هو إناء، ولا وجه لتخصيصه بالزجاجة بل يكون من الزجاج ومن الذهب والفضة والصيني وغير ذلك، وقد كانت كؤوس العرب من أجناس مختلفة، وقد يطلق الكأس على نفس الخمر كما في قول الشاعر:
وكأس شربت على لذة ... وأخرى تداويت منها بها
(كان مزاجها كافوراً) أي ما يخالطها وتمزج به، يقال مزجه يمزجه مزجاً أي خلطه يخلطه خلطاً ومنه مزاج البدن وهو ما يمازجه من الإخلاط، والكافور قيل هو اسم عين في الجنة يقال لها الكافور أي تمزج خمر الجنة بماء هذه العين، وقال قتادة ومجاهد: تمزج لهم بالكافور وتختم لهم بالمسك، وقال عكرمة: مزاجها طعمها، وقيل إنما الكافور في ريحها لا في طعمها، وقيل إنما أراد الكافور في بياضه وطيب رائحته وبرده، لأن الكافور لا يشرب كما في قوله (حتى إذا جعله ناراً) أي كنار، وقال ابن كيسان: طيبها المسك والكافور والزنجبيل، وقال مقاتل: ليس هو كافور الدنيا وإنما سمى الله ما عنده بما عندكم حتى تهتدي له القلوب.
والجملة في محل جر صفة لكأس، وقيل إن " كان " ههنا زائدة أي من كأس مزاجها كافور، وقرأ عبد الله قافوراً بالقاف بدل الكاف، قال السمين وهذا من التعاقب بين الحرفين.(14/460)
عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا (6) يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا (7) وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا (9) إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا (10) فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا (11) وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا (12)
وقوله(14/461)
عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا (6)
(عيناً) بدل من كافور لأن ماءها في بياض الكافور، وقال مكي إنها بدل من محل من كأس على حذف مضاف كأنه قيل يشربون خمراً خمر عين، وقيل إنها منتصبة على أنها مفعول يشربون أي عيناً من كأس، وقيل هي منتصبة على الاختصاص، قاله الأخفش وقيل بإضمار فعل يفسره ما بعده أي يشربون عيناً، وذكر السمين في نصبها وجوهاً والأول أولى.
(يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ) أي أولياؤه أو المؤمنون، والجملة صفة لعيناً، وقيل الباء في بها زائدة ويؤيده قراءة ابن أبي عبلة يشربها، وقيل بمعنى (من) قاله الزجاج، وقيل إن يشرب مضمن معنى يلتذ وقيل هي متعلقة بيشرب والضمير يعود على الكأس، وقيل إنها حالية أي ممزوجة بها، وقال الفراء يشربها ويشرب بها سواء في المعنى وكأن يشرب بها يروى بها وينتفع.
(يفجرونها تفجيراً) أي يجرونها إلى حيث يريدون وينتفعون بها كما يشاؤون ويتبعهم ماؤها إلا كل مكان يريدون وصوله إليه، فهم يشقونها شقاً كما يشق النهر ويفجر إلى هنا وهنا، قال مجاهد: يقودونها حيث شاؤوا وتتبعهم حيث مالوا مالت معهم أي فهي سهلة لا تمتنع عليهم، والجملة صفة أخرى لعيناً.
وجملة(14/461)
يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا (7)
(يوفون بالنذر) مستأنفة مسوقة لبيان ما لأجله رزقوا ما ذكر، وكذا ما عطف عليها، ومعنى النذر في اللغة الإيجاب، والمعنى يوفون بما أوجبه الله عليهم من الطاعات، قال قتادة ومجاهد: يوفون بطاعة الله من(14/461)
الصلاة والحج ونحوهما، وفيه مبالغة في وصفهم بالتوفيق على أداء الواجبات لأن من وفى بما أوجبه هو على نفسه لوجه الله تعالى كان بما أوجب الله عليه أوفى.
وقال عكرمة: يوفون إذا نذروا في حق الله سبحانه، والنذر في الشرع ما أوجبه المكلف على نفسه، فالمعنى يوفون بما أوجبوه على أنفسهم (1).
قال الفراء: في الكلام إضمار أي كانوا يوفون بالنذر في الدنيا، وقال الكلبي: يوفون بالنذر أي يتممون العهود لقوله تعالى (وأوفوا بعهد الله) وقوله: (أوفوا بالعقود) أمروا بالوفاء بهما لأنهم عقدوهما على أنفسهم باعتقادهم الإيمان، والأولى حمل النذر هنا على ما أوجبه العبد على نفسه من غير تخصيص.
(ويخافون يوماً كان شره مستطيراً) المراد يوم القيامة، ومعنى استطارة شره فشوه وانتشاره غاية الانتشار، يقال استطار يستطير فهو مستطير، وهو استفعل من الطيران، والعرب تقول استطار الصدع في القارورة والزجاجة إذا امتد ويقال استطار الحريق إذا انتشر، وهو أبلغ من طار، قال الفراء: المستطير المستطيل، قال قتادة استطار شر ذلك اليوم حتى ملأ السموات والأرض.
قال مقاتل كان شره فاشياً في السموات فانشقت وتناثرت الكواكب وكورت الشمس والقمر وفزعت الملائكة، وفي الأرض نسفت الجبال وغارت
_________
(1) قال ابن كثير: وقوله تعالى: (يوفون بالنذر) أي: يتعبدون الله فيما أوجبه عليهم من فعل الطاعات الواجبة بأصل الشرع وما أوجبوه على أنفسهم بطريق النذر. قال الإمام مالك في " الموطأ " 2/ 476 عن طلحة بن عبد الملك الأيلي عن القاسم بن محمد بن الصديق عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه " ورواه البخاري في صحيحه " كتاب الأيمان والنذور ": باب النذر في الطاعة من حديث مالك.(14/462)
المياه، وفي الآية إشارة لحسن عقيدتهم واجتنابهم المعاصي.(14/463)
وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8)
(ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً) أي يطعمون هؤلاء الثلاثة الأصناف الطعام مع حبه لديهم وقلته عندهم، قال مجاهد على قلته وحبهم إياه وشهوتهم له، فقوله (على حبه) في محل نصب على الحال أي كائنين على حبه ومثله قوله (لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون) وقيل على حب الإطعام لرغبتهم في الخير قال الفضيل بن عياض على حب إطعام الطعام، وقيل الضمير يرجع إلى الله أي يطعمون إطعاماً كائناً على حب الله، ويؤيد هذا قوله الآتي(14/463)
إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا (9)
(إنما نطعمكم لوجه الله) والأول أمدح لأن فيه الإيثار على النفس، والطعام محبوب للفقراء والأغنياء، والمسكين ذو المسكنة وهو الفقير أو من هو أفقر من الفقير، والمراد باليتيم يتامى المسلمين. والأسير الذي يؤسر فيحبس، قال قتادة ومجاهد الأسير المحبوس، وقال عكرمة الأسير العبد، وقال أبو حمزة الثمالي الأسير المرأة.
قال سعيد بن جبير: نسخ هذا الإطعام آية الصدقات وآية السيف في حق الأسير الكافر، وقال غيره بل هي محكمة، وإطعام المسكين واليتيم على التطوع، وإطعام الأسير لحفظ نفسه إلى أن يتخير فيه الإمام، قال ابن عباس أسيراً هو المشرك.
وعن أبي سعيد الخدري " عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله (مسكيناً) قال فقيراً (ويتيماً) قال لا أب له (وأسيراً) قال المملوك والمسجون " أخرجه ابن مردويه وأبو نعيم، وعن ابن عباس قال: " نزلت هذه الآية في علي بن أبي طالب وفاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم " أخرجه ابن مردويه، وقيل عامة في كل من أطعم هؤلاء لله وآثر على نفسه (1).
_________
(1) ذكره الواحدي في " أسباب النزول " 331 والبغوي من رواية عطاء عن ابن عباس بغير سند. وأورده السيوطي في " الدر " 6/ 299 من رواية ابن مردويه عن ابن عباس قال: نزلت في علي بن أبي طالب وفاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم. والله أعلم.(14/463)
وجملة (إنما نطعمكم لوجه الله) في محل نصب على الحال بتقدير القول أي يقولون بلسان المقال أو بلسان الحال، أو قائلين إنما نطعمكم يعني أنهم لا يتوقعون المكافأة ولا يريدون ثناء الناس عليهم بذلك، وهذا الوصف من باب التكميل، فقد وصفهم أولاً بالجود والبذل وكمله بأن ذلك عن إخلاص لا رياء فيه.
قال الواحدي قال المفسرون لم يتكلموا بهذا، ولكن علمه الله من قلوبهم فأثنى عليهم وعلم من ثنائه أنهم ذلك خوفاً من الله ورجاء ثوابه.
(لا نريد منكم جزاء ولا شكوراً) أي لا نطلب منكم المجازاة على هذا الإطعام ولا نريد منكم الشكر لنا، بل هو خالص لوجه الله، وهذه الجملة مقررة لما قبلها لأن من أطعم لوجه الله لا يريد المكافأة ولا يطلب الشكر له ممن أطعمه.(14/464)
إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا (10)
(إنا نخاف من ربنا يوماً عبوساً قمطريراً) أي نخاف عذاب يوم متصف بهاتين الصفتين ومعنى عبوساً أنه يوم تعبس فيه الوجوه من هوله وشدته، فالمعنى أنه ذو عبوس، قال الفراء وأبو عبيده والمبرد: يوم قمطرير وقماطر إذا كان صعباً شديداً، قال الأخفش القمطرير أشد ما يكون من الأيام وأطوله في البلاء. قال الكسائي اقمطر اليوم وازمهر إذا كان شديداً صعباً.
وقال مجاهد إن العبوس بالشفتين والقمطرير بالجبهة والحاجبين فجعلهما من صفات اليوم والمتغير في ذلك اليوم بما يراه من الشدائد، قال أبو عبيدة يقال قمطرير أي منقبض ما بين العينين والحاجبين.(14/464)
قال الزجاج يقال اقمطرت الناقة إذا رفعت ذنبها وجمعت قطريها ورمت بأنفها ما سبقها من القطر، وجعل الميم مزيدة.
وقال ابن عباس: عبوساً ضيقاً قمطريراً طويلاً، وعن أنس بن مالك " عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله عبوساً قمطريراً قال يقبض ما بين الأبصار " وقال ابن عباس القمطرير الرجل المنقبض ما بين عينيه ووجهه.(14/465)
فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا (11)
(فوقاهم الله شر ذلك اليوم) أي دفع عنهم شره بسبب خوفهم منه وإطعامهم لوجهه، والفاء سببيه (ولقاهم نضرة وسروراً) أي أعطاهم بدل العبوس في الكفار نضرة في الوجوه وسروراً في القلوب بدل الخوف، قال الضحاك النضرة البياض والنقاء في وجوههم، وقال سعيد بن جبير: الحسن والبهاء، وقيل النضرة أثر النعمة، وعن ابن عباس: قال نضرة في وجوههم، وسروراً في صدورهم.(14/465)
وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا (12)
(وجزاهم بما صبروا) أي بسبب صبرهم على التكاليف، وقيل على الفقر، وقيل على الجوع، وقيل على الصوم والأولى حمل الآية على الصبر على كل شيء يكون الصبر عليه طاعة لله سبحانه (جنة وحريراً) أي أدخلهم الجنة وألبسهم الحرير، وهو لباس أهل الجنة عوضاً عن تركه في الدنيا امتثالاً لما ورد في الشرع من تحريمه.
والمراد بالجنة هنا بستان المأكولات لا ما يقابل النار، وهي دار الكرامة حتى يقال أي حاجة إلى ذكر الحرير بعد ذكر الجنة مع أنها مشتملة عليه في جملة ما أعد فيها للمؤمنين.
وظاهر هذه الآيات العموم في كل من خاف من يوم القيامة وأطعم لوجه الله وخاف من عذابه، والسبب وإن كان خاصاً كما تقدم فالاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، ويدخل سبب النزول تحت عمومها دخولاً أولياً.(14/465)
مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا (13) وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا (14) وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا (15) قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا (16)
وقوله(14/466)
مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا (13)
(مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ) منصوب على الحال من مفعول جزاهم، والعامل فيها جزي ولا يعمل فيها صبروا، لأن الصبر إنما كان في الدنيا قال الفراء وإن شئت جعلت متكئين تابعاً كأنه قال وجزاهم جنة متكئين فيها.
وقال الأخفش يجوز أن يكون منصوباً على المدح والضمير في (فيها) يعود إلى الجنة، وجوز أبو البقاء والزمخشري أن يكون متكئين صفة لجنة، وهذا لا يجوز عند البصريين لأنه كان يلزم بروز الضمير فيقال متكئين هم فيها لجريان الصفة على غير من هي له، وقد منعه مكي لما ذكر من عدم بروز الضمير، ولا يجوز كونه حالاً من فاعل صبروا لأن الصبر كان في الدنيا واتكاؤهم إنما هو في الآخرة.
والأرائك جمع أريكة وهي السرر في الحجال وهي بيت يزين بالثياب والأسرة والستور، وقد تقدم تفسيرها في سورة الكهف.
(لا يرون فيها شمساً ولا زمهريراً) الجملة في محل نصب على الحال من مفعول جزاهم، فتكون من الحال المترادفة أو من الضمير في متكئين فتكون من الحال المتداخلة، أو صفة أخرى لجنة، قال ابن مسعود الزمهرير هو البرد الشديد، والمعنى أنهم لا يرون في الجنة حر الشمس ولا برد لزمهرير، ومنه قول الأعشى:(14/466)
منعمة طفلة كالمها ... لم تر شمساً ولا زمهريرا
وفي الحديث " هواء الجنة سجسج لا حر ولا قر " قاله النسفي، وقال ثعلب الزمهرير القمر بلغة طي وأنشد لشاعرهم:
وليلة ظلامها قد اعتكر ... قطعتها والزمهرير ما زهر (1)
ويروي ما ظهر أي ما طلع القمر، وقد تقدم تفسير هذا في سورة مريم.
أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم اشتكت النار إلى ربها فقالت رب أكل بعضي بعضاً، فجعل لها نفسين نفساً في الصيف ونفساً في الشتاء، فشدة ما تجدون من البرد من زمهريرها، وشدة ما تجدون في الصيف من الحر من سمومها ".
_________
(1) البيت غير منسوب راجع القرطبي 19/ 136 والآلوسي 29/ 158.(14/467)
وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا (14)
(ودانية عليهم ظلالها) قرأ الجمهور دانية بالنصب عطفاً على محل لا يرون أو على متكئين أو صفة لمحذوف أي وجنة دانية كأنه قال وجزاهم جنة دانية، وقال الزجاج هو صفة لجنة المتقدم ذكرها، وقال الفراء منصوب على المدح، وقرىء بالرفع على أنه خبر مقدم وظلالها مبتدأ مؤخر، والجملة في محل نصب على الحال، والمعنى أن ظلال الأشجار قريبة منهم مظلة عليهم، زيادة في نعيمهم وإن كان لا شمس هنالك، قال مقاتل: يعني شجرها قريب منهم، وقرأ ابن مسعود ودانياً عليهم قال البراء بن عازب: دانية قريبة.
(وذللت قطوفها تذليلاً) معطوف على دانية كأنه قال ومذللة، ويجوز أن تكون الجملة في محل نصب على الحال من الضمير في (عليهم) ويجوز أن تكون مستأنفة، والقطوف الثمار جمع قطف بالكسر وهو العنقود.
والمعنى أنها سخرت ثمارها لمتناوليها تسخيراً كثيراً بحيث يتناولها القائم(14/467)
والقاعد، والمضطجع والمتكىء، ولا يرد أيديهم عنها بعد ولا شوك، قال النحاس المذلل القريب التناول، ومنه قولهم حائط ذليل أي قصير، قال ابن قتيبة ذللت أدنيت من قولهم حائط ذليل إذا كان قصير السمك وقيل ذللت أي جعلت منقادة لا تمتنع على قطافها كيف شاؤوا.
عن البراء ابن عازب قال إن أهل الجنة يأكلون من ثمار الجنة قياماً وقعوداً ومضطجعين وعلى أي حال شاؤوا وفي لفظ قال ذللت فيتناولون منها كيف شاؤوا.
ولما وصف تعالى طعامهم ولباسهم ومسكنهم وصف شرابهم بقوله(14/468)
وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا (15)
(ويطاف عليهم) وقال هنا يطاف وفيما بعد يطوف لأن المقصود في الأول ما يطاف به لا الطائفون بقرينة قوله: (بآنية من فضة وأكواب) والمقصود في الثاني الطائفون، فذكر في كل منهما ما يناسبه كما أشار إليه في التقرير، والمعنى يدور عليهم الخدم إذا أرادوا الشراب بآنية الفضة، والآنية جمع إناء والأصل أأنية بهمزتين الأولى مزيدة للجمع، والثانية فاء الكلمة فقلبت الثانية ألفاً وجوباً، وهذا نظير كساء وأكسية وغطاء وأغطية ونظيره في الصحيح اللام حمار وأحمرة قاله السمين وهو وعاء الماء.
والأكواب جمع كوب وهو الكوز العظيم والإبريق الذي لا أذن له ولا عروة، وهو من عطف الخاصر على العام، ولم تنف الآية آنية الذهب، بل نبه سبحانه بذكر أحدهما على الآخر كقوله (تقيكم الحر) والمعنى قد يسقون في أواني الفضة، وقد يسقون في أواني الذهب وقد مضى تفسيره في سورة الزخرف.
(كانت قواريراً) بتكوين الله تعالى تفخيماً لتلك الخلقة العجيبة الشأن الجامعة بين صفتي الجوهرين المتباينين وكذا كان مزاجها كافوراً.(14/468)
قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا (16)
(قوارير من فضة) أي في وصف القوارير في الصفاء وفي بياض الفضة، فصفاؤها صفاء الزجاج ولونها الفضة، قال ابن عباس آنية من فضة(14/468)
وصفاؤها كصفاء القوارير، وعنه قال ليس في الدنيا شيء مما في الجنة إلا الأسماء إذ الذي في الجنة أشرف وأعلى.
قرأ نافع الكسائي وأبو بكر قواريراً بالتنوين فيهما مع الوصل وبالوقوف عليهما وبالألف، وقد تقدم وجه هذه القراءة في تفسير قوله (سلاسلاً) من هذه السورة، وبينا هنالك وجه صرف ما فيه صيغة منتهى الجموع.
وقرأ حمزة بعدم التنوين فيهما وعدم الوقف بالألف، ووجه هذه القراءة ظاهر لأنهما ممتنعان لصيغة منتهى الجموع.
وقرأ هشام بعدم التنوين فيهما مع الوقف عليهما بالألف.
وقرأ ابن كثير بتنوين الأول دون الثاني والوقف على الأول بالألف دون الثاني.
وقرأ أبو عمرو وحفص وابن ذكوان بعدم التنوين فيهما والوقف على الأول بالألف دون الثاني، وبسط السمين في ذكر هذه الوجوه الخمسة في القراءة.
والجملة في محل جر صفة لأكواب، وقوارير جمع قارورة وهي ما أقر فيه الشراب ونحوه من كل إناء رقيق صاف، وقيل هو خاص بالزجاج.
قال أبو البقاء: وحسن التكرير لما اتصل به من بيان أصلها، ولولا التكرير لم يحسن أن يكون الأول رأس آية لشدة اتصال الصفة بالموصوف.
قال الواحدي قال المفسرون: جعل الله قوارير أهل الجنة من فضة فاجتمع لها بياض الفضة وصفاء القوارير.
قال الزجاج القوارير التي في الدنيا من الرمل فأعلم الله فضل تلك القوارير أن أصلها من فضة يرى من خارجها ما في داخلها، قال ابن عباس: لو أخذت فضة من فضة الدنيا فضربتها حتى جعلتها مثل جناح الذباب لم ير الماء من ورائها، ولكن قوارير الجنة ببياض الفضة في صفاء القوارير: وعنه قال:(14/469)
ليس في الجنة شيء إلا وقد أعطيتم في الدنيا شبهه إلا قوارير من فضة.
وجملة (قدروها تقديراً) صفة لقوارير، قرأ الجمهور قدروها بفتح القاف على البناء للفاعل أي قدرها السقاة من الخدم الذين يطوفون عليهم على قدر ما يحتاج إليه الشاربون من أهل الجنة من دون زيادة ولا نقصان، وذلك ألذ الشراب لكونه على مقدار الحاجة لا يفضل عنه ولا يعجز، قال مجاهد: وغيره أتوا بها على قدر ربهم أي شهوتهم بغير زيادة ولا نقصان إذ لا عطش في الجنة قال الكلبي: وذلك ألذ وأشهى.
وقيل قدرها الملائكة وقيل قدرها أهل الجنة الشاربون على مقدار شهوتهم وحاجتهم فجاءت كما يريدون في الشكل لا تزيد ولا تنقص.
وقرىء قدروها بضم القاف وكسر الدال مبنياً للمفعول أي جعلت لهم على قدر إرادتهم.
قال أبو علي الفارسي: هو من باب القلب قال لأن حقيقة المعنى أن يقال قدرت عليهم لا قدروها لأنه في معنى قدروا عليها.
وقال أبو حاتم التقدير قدرت الأواني على قدر ريِّهم، فمفعول ما لم يسم محذوف. قال أبو حيان والأقرب في تخريج هذه الآية الشاذة أن يقال قدر ريهم منها تقديراً، فحذف المضاف فصار قدروها.
قال المهدوي: هذه القراءة يرجع معناها إلى القراءة الأولى، وكان الأصل قدروا عليها فحذف حرف الجر، وقال ابن عباس: قدرت للكف، وقال أيضاًً أتوا بها على قدر الفم لا يفضلون شيئاً ولا يشتهون بعدها شيئاًً، وعنه قال: قدرتها السقاة.(14/470)
وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلًا (17) عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا (18) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا (19) وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا (20) عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا (21) إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا (22) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا (23)(14/471)
وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلًا (17)
(ويسقون) أي يسقيهم من أرادوه من خدمهم الذين لا يحصون كثرة (فيها) أي في الجنة أو الأكواب (كأساً كان مزاجها زنجبيلاً) قد تقدم أن الكأس هو الإناء الذي فيه الخمر، وإذا كان خالياً عن الخمر فلا يقال له كأس.
والمعنى أن أهل الجنة يسقون في الجنة كأساً من الخمر ممزوجة بالزنجبيل، وقد كانت العرب تستلذ مزيج الشراب بالزنجبيل لطيب رائحته، وقال مجاهد وقتادة الزنجبيل اسم للعين التي يشرب بها المقربون، وقال مقاتل هو زنجبيل لا يشبه الدنيا أي يلذع الحلق فتصعب إساغته.
قلت: وكذلك ما في الجنان من الأشجار والثمار والقصور والنساء والحور والمأكولات والمشروبات والملبوسات لا يشبه ما في الدنيا إلا في مجرد الاسم، لكن الله سبحانه وتعالى يرغب الناس ويطمعهم بأن يذكر لهم أحسن شيء وألذه وأطيبه مما يعرفونه في الدنيا لأجل أن يرغبوا ويسعوا فيما يوصلهم إلى هذا النعيم المقيم.(14/471)
عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا (18)
(عيناً فيها تسمى سلسبيلاً) انتصاب عيناً على أنها بدل من كأس(14/471)
ويجوز أن تكون منصوبة بفعل مقدر أي يسقون عيناً، ويجوز أن تكون منصوبة بنزع الخافض أي ومن عين، والسلسبيل الشراب اللذيذ مأخوذ من السلاسة، تقول العرب هذا شراب سلس وسلسال وسلسبيل أي طيب لذيذ.
قال الزمخشري: وقد زيدت الباء في التركيب حتى صارت الكلمة خماسية ودلت على غاية السلاسة، قال الزجاج السلسبيل في اللغة اسم لماء في غاية السلاسة سريع الجريان يسوغ في حلوقهم، ومنه قول حسان بن ثابت:
يسقون من ورد البريض عليهم ... كأساً يصفق بالرحيق السلسل
وقال ابن الأعرابي لم أسمع السلسبيل إلا في القرآن، وقال مكي هو اسم عجمي نكرة فلذلك صرف وزنه مثل دردبيس، وقيل فعفليل لأن الفاء مكررة وقيل سلسة منقادة لهم يصرفونها حيث شاؤوا والأول أولى.
وقال الخازن معنى (تسمى) توصف لأن أكثر العلماء على أن سلسبيلاً صفة لا اسم انتهى.
قال مقاتل ابن حيان سميت سلسبيلاً لأنها تسيل عليهم في الطرق وفي منازلهم تنبع من أصل العرش من جنة عدن إلى أهل الجنان.
قال البغوي وشراب الجنة في برد الكافور، وطعم الزنجبيل، وريح المسك من غير لذع، قال مقاتل يشربها المقربون صرفاً، وتمزج لسائر أهل الجنة.
ولما فرغ سبحانه من وصف شرابهم ووصف آنيته وصف السقاة الذين يسقونهم ذلك الشراب فقال:(14/472)
وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا (19)
(ويطوف عليهم) بالشراب (ولدان) بكسر الواو باتفاق السبعة أي غلمان هم في سن من هو دون البلوغ، قال بعض المفسرين هم غلمان ينشئهم الله تعالى لخدمة المؤمنين، وقال بعضهم أطفال المؤمنين لأنهم ماتوا على الفطرة.(14/472)
وقال ابن برحان: وأرى والله أعلم أنهم من علم الله تعالى إيمانه من أولاد الكفار، ويكونون خدماً لأهل الجنة كما كانوا في الدنيا لنا سبياً وخدماً، وأما أولاد المؤمنين فيلحقون بآبائهم تأنساً وسروراً بهم.
وفي الخازن في سورة الواقعة والصحيح الذي لا معدل عنه إن شاء الله تعالى أنهم ولدان خلقوا في الجنة لخدمة أهل الجنة كالحور ولم يولدوا، ولم يخلقوا عن ولادة انتهى.
قلت الله أعلم بهم، ولا أقول فيهم بشيء ظناً وتخميناً إذ لم يرد نص صريح صحيح في كتاب الله ولا في سنة رسوله فالوقف أولى وأحوط.
(مخلدون) أي باقون على ما هم عليه من الشباب والطراوة والنضارة لا يهرمون ولا يتغيرون، وقيل المعنى لا يموتون، وقيل التخليد التحلية أي محلون.
(إذا رأيتهم حسبتهم لؤلؤاً منثوراً) أي إذا نظرت إليهم ظننتهم لمزيد حسنهم وصفاء ألوانهم ونضارة وجوههم، وانبثاثهم في مجالسهم، لؤلؤاً مفرقاً، قال عطاء يريد في بياض اللون وحسنه، واللؤلؤ إذا نثر من الخيط على البساط كان أحسن منه منظوماً.
قال أهل المعاني إنما شبهوا الانتثار لأنهم في الخدمة ولو كانوا صفاً لشبهوا بالمنظوم، قيل إنما شبههم بالمنثور لأنهم سراع في الخدمة بخلاف الحور العين فإنه شبههن باللؤلؤ المكنون لأنهن لا يمتهن بالخدمة.
عن أبي عمرو قال: " إن أدنى أهل الجنة منزلاً من يسعى عليه ألف خادم كل خادم على عمل ليس عليه صاحبه، وتلا " إذا رأيتهم حسبتهم، الخ " أخرجه ابن المبارك وهناد وعبد بن حميد والبيهقي في البعث.(14/473)
وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا (20)
(وإذا رأيت ثم) أي وإذا رميت ببصرك هناك يعني في الجنة، والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم أو لكل من يدخل الجنة، وثم ظرف مكان مختص بالبعد، والعامل فيها رأيت.(14/473)
قال الفراء في الكلام " ما " مضمرة أي وإذا رأيت ما ثم كقوله لقد انقطع بينكم أي ما بينكم.
قال الزجاج معترضاً على الفراء أنه لا يجوز إسقاط الموصول وترك الصلة ولكن رأيت يتعدى في المعنى إلى ثم، والمعنى إذا رأيت ببصرك ثم ويعني بثم الجنة، وقيل إن رأيت ليس له مفعول ملفوظ ولا مقدر ولا منوي بل معناه أن بصرك أينما وقع في الجنة (رأيت نعيماً) لا يوصف، والنعيم سائر ما يتنعم به.
(وملكاً كبيراً) لا يقادر قدره، قال السدي الملك الكبير استئذان الملائكة عليهم وكذا قال مقاتل والكلبي وقيل واسعاً لا غاية له، وقيل كون التيجان على رؤوسهم كما تكون على رؤوس الملوك وأعظمهم منزلة من ينظر إلى وجه ربه كل يوم.(14/474)
عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا (21)
(عاليهم ثياب سندس) قرأ نافع وحمزة وابن محيصن عاليهم بسكون الياء وكسر الهاء وهي سبعية على أنه خبر مقدم وثياب مبتدأ مؤخر أو على أن عاليهم مبتدأ ثياب مرتفع بالفاعلية وأن لم يعتمد الوصف كما هو مذهب الأخفش، وقال الفراء: هو مرفوع بالابتداء وخبره ثياب واسم الفاعل مراد به الجمع.
وقرأ الباقون بفتح الياء وضم الهاء لتحرك ما قبلها على أنه ظرف كأنه قيل فوقهم ثياب قال الفراء إن عاليهم بمعنى فوقهم، وكذا قال ابن عطية.
قال أبو حيان عال وعالية اسم فاعل فيحتاج في كونهما ظرفين إلى أن يكون منقولاً من كلام العرب، وقد تقدمه إلى هذا الزجاج، وقال هذا مما لا نعرفه في الظروف، ولو كان ظرفاً لم يجز إسكان الياء ولكنه نصب على الحال من شيئين أحدهما الهاء والميم في قوله يطوف عليهم، أي على الأبرار ثياب(14/474)
سندس، أي يطوف عليهم في هذه الحال.
والثاني أن يكون حالاً من الولدان أي إذا رأيتهم حسبتهم لؤلؤاً منثوراً في حال علو الثياب أبدانهم.
قلت: قد وردت ألفاظ من صيغ أسماء الفاعلين ظروفاً نحو خارج الدار وداخلها وباطنها وظاهرها فكذلك هذا فلا وجه للإنكار، وقال أبو علي الفارسي: العامل في الحال إما لقاهم نضرة وإما جزاهم بما صبروا قال ويجوز أن يكون ظرفاً.
وقرىء (عليهم) وهي قراءة واضحة المعنى ظاهرة الدلالة، واختار أبو عبيد الأولى لقراءة ابن مسعود (عاليتهم).
وقرأ الجمهور ثياب سندس بالإضافة على معنى " من " وقرأ أبو حيوة وابن أبي عبلة بفكها ورفع سندس، و (خضر واستبرق) على أن السندس نعت للثياب لأن السندس نوع منها وعلى أن خضر نعت لسندس لأنه يكون أخضر وغير أخضر، وعلى أن استبرق معطوف على سندس أي وثياب استبرق.
والجمهور من القراء اختلفوا في خضر واستبرق مع اتفاقهم على جر سندس بإضافة ثياب إليه، فقرأ ابن كثير وأبو بكر عن عاصم وابن محيصن بجر خضر نعتاً لسندس، ورفع استبرق عطفاً على ثياب أي عليهم ثياب سندس، وعليهم استبرق.
وقرأ أبو عمرو وابن عامر برفع خضر نعتاً لثياب وجر استبرق نعتاً لسندس، واختار هذه القراءة أبو حاتم وأبو عبيد لأن الخضر أحسن ما كانت نعتاً للثياب فهي مرفوعة ولاستبرق من جنس السندس.
وقرأ نافع وحفص برفع خضر واستبرق لأن خضراً نعت للثياب واستبرق عطف على الثياب.(14/475)
وقرأ الأعمش وحمزة والكسائي بجر خضر واستبرق على أن خضراً نعت للسندس واستبرق معطوف على سندس.
واستشكل على هذه القراءة وكذا على قراءة جر الأول ورفع الثاني بوقوع خضر الذي هو جمع نعتاً لسندس الذي هو مفرد.
والجواب أن السندس اسم جنس واحده سندسة، ووصف اسم الجنس بالجمع شائع فصيح على حد (وينشيء السحاب الثقال) وقرأوا كلهم بصرف استبرق إلا ابن محيصن فإنه قرأ بعدم صرفه قال لأنه أعجمي، ولا وجه لهذا لأنه نكرة إلا أن يقول أنه علم لهذا الجنس من الثياب، والسندس ترقَّ من الديباج، والاستبرق ما غلظ منه، وقد تقدم تفسيرهما في سورة الكهف.
(وحلوا أساور من فضة) عطف على يطوف عليهم ماض لفظاً مستقبل معنى وأبرزه بالماضي لتحققه.
ذكر سبحانه هنا أنهم يحلون بأساور الفضة، وفي سورة فاطر (يحلون فيها من أساور من ذهب) وفي سورة الحج (يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤاً).
ولا تعارض بين هذه الآيات لإمكان الجمع بأن تجعل لهم سوارات من ذهب وفضة ولؤلؤ لتجتمع لهم محاسن الجنة أو بأن المراد لهم يلبسون سوارات الذهب تارة، وسوارات الفضة تارة، وسوارات اللؤلؤ تارة، وأنه يلبس كل أحد منه ما تميل إليه نفسه من ذلك أو حلي الرجال الفضة وحلي النساء الذهب، وقيل أسورة الفضة إنما تكون للولدان، وأسورة الذهب للنسوان، وقيل هذا بحسب الأوقات والأعمال.
(وسقاهم ربهم شراباً طهوراً) هذا نوع آخر من الشراب الذي يمن الله عليهم به يفوق على النوعين المتقدمين، ولذلك أسند سقياه إلى الله(14/476)
ووصفه بالطهورية فإنه يطهر شاربه عن الميل إلى اللذات الحسية، والركون إلى ما سوى الحق فيتجرد لمطالعة جماله، متلذذاً بلقائه باقياً ببقائه، وهو منتهى درجات الصديقين.
قال الفراء يقول هو طهور ليس بنجس كما كان في الدنيا موصوفاً بالنجاسة أي لم تمسه الأيدي ولم تدنسه الأرجل، وقيل لا يستحيل بولاً، وطهور صيغة مبالغة في الطهارة والنظافة.
والمعنى أن ذلك الشراب طاهر ليس كخمر الدنيا، فشتان ما بين الشرابين والآنيتين والمنزلتين، قال مقاتل هو عين ماء على باب الجنة من شرب منها نزع الله ما كان في قلبه من غش وغل وحسد.
قال أبو قلابة وإبراهيم والنخعي يؤتون بالطعام فإذا كان آخره أتوا بالشراب الطهور فيشربون فتضمر بطونهم من ذلك ويفيض عرق من أبدانهم مثل ريح المسك ثم يقال لهم بعد دخولهم في الجنة ومشاهدتهم نعيمها.(14/477)
إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا (22)
(إن هذا) الذي ذكر من أنواع النعم (كان) في علم الله (لكم جزاء) بأعمالكم أي ثواباً لها أعده لكم إلى هذا الوقت (وكان سعيكم مشكوراً) أي كان عملكم في الدنيا بطاعة الله مرضياً مقبولاً مقابلاً بالثواب، وشكر الله سبحانه لعمل عبده هو قبوله لطاعته.(14/477)
إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا (23)
(إنا نحن نزلنا عليك القرآن تنزيلاً) أي فرقناه في الإنزال ولم ننزله جملة واحدة لحكمة بالغة تقتضي تخصيص كل شيء بوقت معين، قيل المعنى نزلناه عليك ولم تأت به من عندك كما يدعيه المشركون، والمقصود من ذلك تثبيت قلب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وشرح صدره وإن الذي أنزل عليه وحي ليس بكهانة ولا سحر لتزول الوحشة الحاصلة له من قول الكفار إنه كهانة أو سحر.(14/477)
فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا (24) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (25) وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا (26) إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا (27) نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلًا (28) إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (29) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (30) يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (31)(14/478)
فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا (24)
(فاصبر لحكم ربك) أي لقضائه ومن حكمه وقضائه تأخير نصرك إلى أجل اقتضته حكمته، قيل هذا منسوخ بآية السيف (ولا تطع منهم آثماً أو كفوراً) أي لا تطع كل واحد من مرتكب لإثم وغال في كفر، فنهاه الله سبحانه وتعالى عن ذلك.
قال الزجاج: إن الألف هنا آكد من الواو وحدها لأنك إذا قلت لا تطع زيداً وعمراً فأطاع أحدهما كان غير عاص لأنك أمرته أن لا يطيع الاثنين، فإذا قال منهم آثماً أو كفوراً دل ذلك على أن كل واحد منهما أهل أن يعصى، كما أنك إذا قلت لا تخالف الحسن أو ابن سيرين فقد قلت أنهما أهل أن يتبعا، وكل واحد منهما أهل أن يتبع.
وقال الفراء " أو " هنا بمنزلة لا كأنه قال ولا كفوراً، وقيل المراد بقوله (آثماً) عتبه ابن ربيعة وبقوله (أو كفوراً) الوليد بن المغيرة لأنهما قالا للنبي صلى الله عليه وسلم ارجع عن هذا الأمر ونحن نرضيك بالمال والتزويج.(14/478)
وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (25)
(واذكر اسم ربك بكرة وأصيلاً) أي دم على ذكره في جميع الأوقات وقيل المعنى صل لربك أول النهار وآخره، فأول النهار صلاة الصبح، وآخره صلاة العصر، قال البيضاوي دم على صلاة الفجر والظهر والعصر، فإن(14/478)
الأصيل يتناول وقتيهما، وفي الشهاب تناول الأصيل للعصر ظاهر، وأما تناوله للظهر فباعتبار آخره إذ الزوال وما يقرب منه لا يسمى أصيلاً.(14/479)
وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا (26)
(ومن الليل فاسجد له) أي صل المغرب والعشاء وقيل المراد الصلاة في بعضه من غير تعيين، ومن للتبعيض على كل تقدير والفاء دالة على معنى الشرطية والتقدير مهما يكن من شيء فصل من الليل، وهو يفيد أيضاًً بتأكيده الاعتناء التام (وسبحه ليلاً طويلاً) أي نزهه عما لا يليق به فيكون المراد الذكر بالتسبيح سواء كان في الصلاة أو في غيرها، وقيل المراد التطوع في الليل.
قال ابن زيد وغيره إن هذه الآية منسوخة بالصلوات الخمس، وقيل الأمر للندب وقيل هو مخصوص بالنبي صلى الله عليه وسلم.
وفيه دليل على عدم صحة ما قاله بعض أهل علم المعاني والبيان أن الجمع بين الحاء والهاء مثلاً يخرج الكلمة عن فصاحتها وجعلوا من ذلك قول أبي تمام:
كريم متى أمدحه أمدحه والورى ... معي، وإذا ما لمته لمته وحدي
ويمكن أن يفرق بين ما أنشدوه وبين الآية الكريمة بأن التكرار في البيت هو المخرج له عن الفصاحة بخلاف الآية فإنه لا تكرار فيها ذكره السمين.(14/479)
إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا (27)
(إن هؤلاء) يعني كفار مكة ومن هو موافق لهم (يحبون) الدار (العاجلة) وهي دار الدنيا (ويذرون وراءهم يوماً ثقيلاً) أي يتركون ويدعون خلفهم أو بين أيديهم وأمامهم يوماً شديداً عسيراً وهو القيامة، وسمي ثقيلاً لما فيه من الشدائد والأهوال، ووصفه بالثقل على المجاز لأنه من صفات الأعيان لا المعاني، ومعنى كونهم يذرونه وراءهم أنهم لا يستعدون له ولا يعبأون به، فهم كمن ينبذ الشيء وراء ظهره تهاوناً به واستخفافاً بشأنه، وإن كانوا في الحقيقة مستقبلين له وهو أمامهم.(14/479)
نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلًا (28)
(نحن خلقناهم) أي ابتدأنا خلقهم من تراب ثم من نطفة ثم من مضغة ثم من علقة إلى أن كمل خلقهم، ولم يكن لغيرنا في ذلك عمل ولا سعي، لا اشتراكاً ولا استقلالاً (وشددنا أسرهم) الأسر شدة الخلق يقال شد الله أسر فلان أي قوى خلقه، قال مجاهد وقتادة ومقاتل وغيرهم: شددنا خلقهم، قال الحسن شددنا وربطنا أوصالهم بعضاً إلى بعض بالعروق والعصب.
قال أبو عبيدة: يقال فرس شديد الأسر أي الخلق وقال ابن زيد الأسر القوة واشتقاقه من الأسار وهو القد الذي تشد به الأقتاب، قال ابن عباس: أسرهم خلقهم وقال: أبو هريرة هي المفاضل، وقيل المراد بالأسر عَجْبُ الذنب لأنه لا يتفتت في القبر والأسر بالضم احتباس البول كالحصر في الغائط.
(وإذا شئنا بدلنا أمثالهم تبديلاً) أي لو شئنا لأهلكناهم وجئنا بأطوع لله منهم، وقيل المعنى مسخناهم إلى أسمج صورة وأقبح خلقه.(14/480)
إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (29)
(إن هذه تذكرة) يعني أن هذه السورة تذكير وموعظة للخلق لأن في تصفحها تنبيهات للغافلين، وفي تدبرها وتذكرها فوائد جمة للطالبين السالكين ممن ألقى سمعه وأحضر قلبه، وكانت نفسه مقبلة على ما ألقى إليه سمعه (فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلاً) أي طريقاً يتوصل به إليه، وذلك بالإيمان والطاعة والمراد إلى ثوابه أو إلى جنته، لأنا بينا الأمور غاية البيان وكشفنا اللبس، وأزلنا جميع موانع الفهم، فلم يبق مانع من استطراق الطريق غير مشيئة العبد.(14/480)
وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (30)
(وما تشاؤون) أن تتخذوا إلى الله سبيلاً، وفيه التفات عن الغيبة في خلقناهم إلى الخطاب، وقرىء بالياء التحتية لمناسبة قوله خلقناهم.
وقوله: (إلا أن يشاء الله) منصوب على الظرفية وأصله إلا وقت مشيئة الله فالأمر إليه سبحانه ليس إليكم والخير والشر بيده لا مانع لما أعطى، ولا(14/480)
معطي لما منع، فمشيئة العبد مجردة لا تأتي بخير، ولا تدفع شراً وإن كان يثاب على المشيئة الصالحة ويؤجر على قصد الخير كما في حديث " إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرىء ما نوى " (1) قال الزجاج أي لستم تشاؤون إلا بمشيئة الله، والآية حجة على المعتزلة والقدرية (إن الله كان عليماً) أي بليغ العلم بما يكون من الأحوال (حكيماً) بليغ الحكمة في أمره ونهيه، مصيباً في جميع الأقوال والأحوال.
_________
(1) سبق ذكره.(14/481)
يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (31)
(يدخل من يشاء في رحمته) أي يدخل في رحمته من يشاء أن يدخله فيها أو يدخل في جنته من يشاء من عباده لأنها برحمته تنال، وهو حجة على المعتزلة، قال عطاء من صدقت نيته أدخله الله تعالى جنته (والظالمين أعد لهم عذاباً أليماً) انتصاب الظالمين بفعل مقدر يدل عليه ما قبله أي يعذب الظالمين لأن ما قبله منصوب أي يدخل من يشاء في رحمته، ويعذب الظالمين أي المشركين، ويكون أعد لهم تفسيراً لهذا المضمر والاختيار النصب وإن جاز الرفع، وبالنصب قرأ الجمهور، وقرأ أبان بن عثمان بالرفع على الابتداء، ووجهه أنه لم يكن بعده فعل يقع عليه.(14/481)
خاتمة الجزء الرابع عشر
بسم الله الرحمن الرحيم
تم بعون الله سبحانه وتعالى الجزء الرابع عشر من كتاب فتح البيان في مقاصد القرآن ويليه الجزء الخامس عشر وأوله سورة المرسلات.(14/483)
فتحُ البيان في مقاصد القرآن
تفسِير سَلفي أثري خالٍ منَ الإِسرَائيليّاتِ والجَدليَّاتِ المذهبية والكلامية يغني عَن جميع التفاسِير وَلا تغني جميعُهَا عَنه
تأليف: السيد الإمام العلامة الملك المؤيد من الله الباري آبي الطيب صديق بن حسن بن علي الحسين القنوجي النجاري 1248 - 1307 هـ
عني بطبعهِ وقدّم له وراجعه: خادم العلم عَبد الله بن إبراهيم الأنصَاري
الجزء الخامس عشر
المَكتبة العصريَّة
صَيدَا - بَيروت(15/1)
جَمِيع الحُقُوق محفُوظَة
1412 هـ - 1992 م
شركة أبناء شريف الأنصاري للطباعة والنشر والتوزيع
المَكتبة العصريَّة للطبَاعة والنّشْر
الدار النموذجية ــ المكتبة العصرية
بَيروت - صَ. ب 8355 - تلكس LE 20437 SCS
صَيدَا - صَ. ب 221 - تلكس LE 29198(15/2)
فتح البيان في مقاصد القرآن(15/3)
الجزء الخامس عشر
بسم الله الرحمن الرحيم
ويشتمل على:
- سورة المرسلات
- سورة عم
- سورة النازعات
- سورة عبس
- سورة التكوير
- سورة الانفطار
- سورة المطففين
- سورة الإنشقاق
- سورة البروج
- سورة الطارق
- سورة الأعلى
- سورة الغاشية
- سورة الفجر
- سورة البلد
- سورة الشمس
- سورة الليل
- سورة الضحى
- سورة ألم نشرح
- سورة التين
- سورة اقرأ
- سورة القدر
- سورة لم يكن
- سورة الزلزلة
- سورة العاديات
- سورة القارعة
- سورة التكاثر
- سورة العصر
- سورة الهمزة
- سورة الفيل
- سورة قريش
- سورة أرأيت
- سورة الكوثر
- سورة الكافرون
- سورة النصر
- سورة تبت
- سورة الإخلاص
- سورة الفلق
- سورة الناس(15/5)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
سورة المرسلات
هي خمسون آية وهي مكية في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر
قال قتادة إلا آية منها وهي قوله: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ) فإنها مدنية وروي هذا عن ابن عباس.
أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن مسعود قال: بينما نحن مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في غار بمنى إذ نزلت سورة (وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا) فإنه ليتلوها وإني لأتلقاها من فيه، وإن فاه لرطب بها إذ وثبت علينا حية فقال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - اقتلوها فابتدرناها فذهبت، فقال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - " وق شركم كما وقيتم شرها ".
وأخرج الشيخان وغيرهما عن ابن عباس أن أم الفضل سمعته وهو يقرأ (وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا) فقالت: يا بني لقد ذكرتني بقراءتك هذه السورة إنها آخر ما سمعت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ بها في المغرب ".(15/7)
بسم الله الرحمن الرحيم
وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا (1) فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا (2) وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا (3) فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا (4) فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا (5) عُذْرًا أَوْ نُذْرًا (6) إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ (7) فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (8) وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ (9) وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ (10)(15/9)
وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا (1)
(والمرسلات عرفاً) قال جمهور المفسرين هي الرياح، روي عن ابن مسعود قال إنه الريح وقيل هي الملائكة، وبه قال مقاتل وأبو صالح والكلبي، وقال أبو هريرة: هي الملائكة أرسلت بالعرف، وعن ابن مسعود مثله، وقيل هم الأنبياء.
فعلى الأول أقسم سبحانه بالرياح المرسلة لما يأمرها به كما في قوله (وأرسلنا الرياح لواقح) وقوله (ويرسل الرياح) وغير ذلك وعلى الثاني أقسم سبحانه بالملائكة المرسلة لوحيه وأمره ونهيه، وعلى الثالث أقسم برسله المرسلة إلى عباده لتبليغ شرائعه، وقيل المراد بالمرسلات السحاب لما فيها من نقمة ونعمة (1).
وإنتصاب (عرفاً) إما على أنه مفعول لأجله أي المرسلات لأجل العرف وهو ضد النكر أو على أنه حالط بمعنى متتابعة يتبع بعضها بعضاً كعرف
_________
(1) قال ابن جرير الطبري: والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال: إن الله تعالى ذكره أقسم بالمرسلات عُرفاً، وقد ترسل عرفاً الملائكة، وترسل كذلك الرياح، ولا دلالة تدل على أن المعني بذلك أحد الحزبين دون الآخر، وقد عم جل ثناؤه بإقسامه بكل ما كانت صفته ما وصف، فكل من كانت صفته كذلك، فداخل في قسمه ذلك، ملكاً أو ريحاً أو رسولاً من بني آدم مرسلاً. وقال ابن كثير: والأظهر أن المرسلات: هي الرياح، كما قال تعالى: (وأرسلنا الرياح لواقح) وقال تعالى: (وهو الذي يرسل الرياح بشراً بين يدي رحمته) وهكذا العاصفات هي الرياح، يقال: عصفت الرياح: إذا هبت بتصويت، وكذا الناشرات: هي الرياح التي تنشر السحاب في آفاق السماء كما يشاء الرب عز وجل.(15/9)
الفرس، تقول العرب سار الناس إلى فلان عرفاً واحداً إذا توجهوا إليه، وهم على فلان كعرف الضبع إذا تألبوا عليه، أو على أنه مصدر كأنه قال والمرسلات إرسالاً أي متتابعة، أو على أنه منصوب بنزع الخافض أي والمرسلات بالعرف، قرأ الجمهور (عرفاً) بسكون الراء، وقرأ عيسى بن عمر بضمها.(15/10)
فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا (2)
(فالعاصفات عصفاً) وهي الرياح الشديدة الهبوب، وقال القرطبي: بغير اختلاف، يقال عصف بالشيء إذا أباده وأهلكه، وناقة عصوف أي تعصف براكبها فتمضي كأنها ريح في السرعة، ويقال عصفت الحرب بالقوم إذا ذهبت بهم، وقيل هي الملائكة الموكلون بالريح، يعصفون بها، وقيل يعصفون بروح الكافر، وقيل هي الآيات المهلكة كالزلازل ونحوها، وقال ابن مسعود هي الريح، وعن علي قال هي الرياح، وبه قال ابن عباس.(15/10)
وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا (3)
(والناشرات نشراً) يعني الرياح تأتي بالمطر وهي تنشر السحاب نشراً، قال ابن مسعود هي الريح أو الملائكة الموكلون بالسحاب ينشرونها أو ينشرون أجنحتهم في الجو عند النزول بالوحي، أو هي الأمطار لأنها تنشر النبات، وقال الضحاك: يريد ما ينشر من الكتب وأعمال بني آدم، قال الربيع: أنه البعث للقيامة ينشر الأرواح وجاء بالواو هنا لأنه إستئناف قسم آخر.(15/10)
فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا (4)
(فالفارقات فرقاً) يعني الملائكة تأتي بما يفرق بين الحق والباطل، والحلال والحرام وقال مجاهد هي الريح تفرق بين السحاب فتبدده، وروي عنه أنها آيات القرآن تفرق بين الحق والباطل، وقيل هي الرسل فرقوا بين ما أمر الله به ونهى عنه، وبه قال الحسن قال ابن عباس هي الملائكة فرقت بين الحق والباطل.(15/10)
فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا (5)
(فالملقيات ذكراً) هي الملائكة قال القرطبي: بإجماع أي تلقي الوحي إلى الأنبياء، وقيل هو جبريل وسمي بإسم الجمع تعظيماً له، وقيل هي الرسل(15/10)
يلقون إلى أممهم ما أنزل الله عليهم، قاله قطرب، قال ابن عباس: فالملقيات ذكراً قال بالتنزيل.
قرأ الجمهور ملقيات بسكون اللام وتخفيف القاف إسم فاعل.
وقرأ ابن عباس بفتح اللام وتشديد القاف من التلقية وهي إيصال الكلام إلى المخاطب.
أقسم سبحانه بصفات خمسة موصوفها محذوف فجعله بعضهم الرياح في الكل، وبعضهم جعله الملائكة في الكل، وبعضهم غاير فجعله تارة الرياح وتارة الملائكة، وجعل الجلال المحلي الصفات الثلاث الأول لموصوف واحد وهو الرياح، وجعل الرابعة لموصوف ثان وهو الآيات وجعل الخامسة لموصوف ثالث وهو الملائكة، ولم يسلك هذه الطريق غيره من المفسرين.
وعبارة النهر: ولما كان للمقسم به موصوفات قد حذفت وأقيمت صفاتها مقامها وقع الخلاف في تلك الموصوفات، والذي يظهر أن المقسم به شيئان، ولذلك جاء العطف بالواو في (والناشرات) والعطف بالواو يشعر بالتغاير، وأما العطف بالفاء إذا كان في الصفات فيدل على أنها راجعة لموصوف واحد:
وإذا تقرر هذا فالظاهر أنه أقسم أولاً بالرياح ويدل عليه عطف الصفة بالفاء، والقسم الثاني فيه ترق إلى أشرف من المقسم به الأول وهم الملائكة، ويكون قوله (فالفارقات، فالملقيات) من صفاتهم وإلقاؤهم للذكر وهو ما أنزل الله تعالى صحيح إسناده إليهم.
وما ذكر من اختلاف المفسرين في المراد بهذه الأوصاف ينبغي أن يحمل على التمثيل لا على التعيين، والراجح أن الأوصاف الثلاثة الأول للرياح، والرابع والخامس للملائكة، وهو الذي اختاره الزجاج والقاضي وغيرهما.(15/11)
عُذْرًا أَوْ نُذْرًا (6)
(عذراً أو نذراً) انتصابهما على البدل من (ذكراً) أو على المفعولية والعامل فيهما المصدر المنون كما في قوله تعالى (أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14)(15/11)
يَتِيمًا) أو على المفعول لأجله أي للإعذار والإنذار، أو على الحال بالتأويل المعروف أي معذرين أو منذرين.
قرأ الجمهور بإسكان الذال فيهما، وقريء بضمها وبسكونها في (عذراً) وضمها في نذراً.
وقرأ الجمهور عذراً أو نذراً على العطف بأو، وقرىء بالواو.
والمعنى أن الملائكة تلقي الوحي إعذاراً من الله إلى خلقه وإنذاراً من عذابه، كذا قال الفراء، وقيل عذراً للمحقين ونذراً للمبطلين.
قال أبو علي الفارسي: يجوز أن يكون العذر والنذر بالتثقيل جمع عاذر وناذر كقوله (هذا نذير من النذر الأولى) فيكون نصباً على الحال من الإلقاء أي يلقون الذكر في حال العذر والإنذار، قال المبرد هما بالتثقيل جمع والواحد عذير ونذير، وقيل الإعذار محو الإساءة، والإنذار التخويف، والأول أظهر.
ثم ذكر سبحانه جواب القسم فقال(15/12)
إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ (7)
(إنما توعدون لواقع) أي إن الذي توعدونه من مجيء الساعة والبعث كائن لا محالة ما إسم الموصول، والقاعدة أنها إذا كانت كذلك ترسم مفصولة من أن ورسمت هنا موصولة بها إتباعاً لرسم المصحف الإمام.
ثم بين سبحانه متى يقع ذلك فقال(15/12)
فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (8)
(فإذا النجوم طمست) أي محي نورها وذهب ضؤها يقال طمس الشيء إذا درس وذهب أثره(15/12)
وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ (9)
(وإذا السماء فرجت) أي فتحت وشقت ومثله قوله (وفتحت السماء فكانت أبواباً)(15/12)
وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ (10)
(وإذا الجبال نسفت) أي قلعت من مكانها بسرعة، يقال نسفت الشيء وأنسفته إذا أخذته بسرعة، وقال الكلبي سويت بالأرض، والعرب تقول نسفت الناقة الكلأ إذا رعته، وقيل جعلته كالحب الذي ينسف بالمنسف، ومنه قوله (وبست الجبال بسّا) والأول أولى، قال المبرد: نسفت قلعت من مواضعها.(15/12)
وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ (11) لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (12) لِيَوْمِ الْفَصْلِ (13) وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ (14) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (15) أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (16) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ (17) كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (18) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (19) أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (20) فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (21) إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ (22) فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ (23) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (24)(15/13)
وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ (11)
(وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ) الهمزة بدل من الواو المضمومة، وكل واو انضمت وكانت ضمتها لازمة يجوز إبدالها بالهمزة، وقد قرىء بالواو، والوقت الأجل الذي يكون عنده الشيء المؤخر إليه.
والمعنى جعل لها وقت للفصل والقضاء بينهم وبين الأمم كما في قوله سبحانه (يوم يجمع الله الرسل) وقيل هذا في الدنيا أي جمعت الرسل لميقاتها الذي ضرب لها في إنزال العذاب بمن كذبها، والأول أولى، قال أبو علي الفارسي أي جعل يوم الدين والفصل لها وقتاً، وقيل أقتت أرسلت لأوقات معلومة على ما علم الله به.(15/13)
لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (12)
(لأي يوم أجلت) هذا الإستفهام للتعظيم والتعجيب، أي لأي يوم عظيم تعجب العباد منه لشدته ومزيد أهواله ضرب لهم الأجل لجمعهم، والجملة مقول قول مقدر هو جواب لإذا أو في محل نصب على الحال من الضمير في أقتت، قال الزجاج المراد بهذا التأقيت تبيين الوقت الذي يحضرون فيه للشهادة على أممهم.
ثم بين هذا اليوم فقال(15/13)
لِيَوْمِ الْفَصْلِ (13)
(ليوم الفصل) قال قتادة يفصل فيه بين الناس بأعمالهم إلى الجنة والنار، ثم أتبع ذلك تعظيماً وتهويلاً فقال(15/13)
وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ (14)
(وما أدراك ما يوم الفصل) أي وما أعلمك بيوم الفصل يعني أنه أمر بديع هائل لا يقادر قدره، وما مبتدأ وأدراك خبره أو العكس كما اختاره سيبويه.(15/13)
ثم ذكر حال الذين كذبوا بذلك اليوم فقال(15/14)
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (15)
(ويل يومئذ للمكذبين) أي ويل لهم في ذلك اليوم الهائل، قال الزمخشري ويل أصله مصدر ساد مسد فعله لكنه عدل به إلى الرفع للدلالة على الثبات.
قلت: سوغ الإبتداء به كونه دعاء لا ما ذكره الزمخشري، ويجوز ويلاً بالنصب ولكنه لم يقرأ به، والويل الهلاك أو هو إسم واد في جهنم، قال ابن مسعود يسيل فيه صديد أهل النار فجعل للمكذبين.
وكررت هذه الآية في هذه السورة عشر مرات لأنه قسم الويل بينهم على قدر تكذيبهم، فإن لكل مكذب بشيء عذاباً سوى تكذيبه بشيء آخر، ورب شيء كذب به هو أعظم جرماً من التكذيب بغيره، فيقسم له من الويل على قدر ذلك التكذيب.
وقال الكرخي: التكرار في مقام الترغيب والترهيب مستحسن لا سيما إذا تغيرت الآيات السابقة على المرات المكررة كما هنا.
ذكر سبحانه ما فعل بالكفار من الأمم الخالية فقال(15/14)
أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (16)
(ألم نهلك الأولين) أخبر سبحانه بإهلاك الكفار من الأمم الماضية من لدن آدم إلى محمد صلى الله عليه وآله وسلم كقوم نوح وعاد وثمود، قال مقاتل يعني بالعذاب في الدنيا حين كذبوا رسلهم، والإستفهام إنكاري وهو داخل على نفي، ونفي النفي إثبات، ويعبر عنه بالإستفهام التقريري والمراد به طلب الإقرار بما بعد النفي.(15/14)
ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ (17)
(ثم نتبعهم الآخرين) يعني كفار مكة ومن وافقهم حين كذبوا محمداً صلى الله عليه وآله وسلم، قرأ الجمهور نتبعهم بالرفع على الإستئناف أي ثم نحن نتبعهم، كذا قدره أبو البقاء، وقال ليس بمعطوف لأن العطف يوجب أن يكون المعنى أهلكنا الأولين ثم أتبعناهم الآخرين في الهلاك، وليس كذلك لأن إهلاك الآخرين لم يقع بعد، ويدل على الرفع قراءة ابن مسعود (ثم سنتبعهم الآخرين) بسين التنفيس.(15/14)
وقرىء بالجزم عطفاً على نهلك، قال شهاب الدين على جعل الفعل معطوفاً على مجموع الجملة من قوله ألم نهلك، والمراد بالآخرين حينئذ قوم شعيب ولوط وموسى، وبالأولين قوم نوح وعاد وثمود.(15/15)
كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (18)
(كذلك نفعل بالمجرمين) أي مثل ذلك الفعل الفظيع نفعل بهم، يريد من يهلكه فيما بعد، والكاف في موضع نصب على النعت لمصدر محذوف أي مثل ذلك الإهلاك نفعل بكل مشرك إما في الدنيا أو في الآخرة.(15/15)
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (19)
(ويل يومئذ للمكذبين) أي ويل يوم ذلك الإهلاك للمكذبين بكتب الله ورسله، قيل والويل الأول لعذاب الآخرة وهذا لعذاب الدنيا، والتكرير للتوكيد شائع في كلام العرب.(15/15)
أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (20)
(ألم نخلقكم من ماء مهين) أي ضعيف حقير قذر منتن ذليل وهو النطفة، قال ابن عباس مهين ضعيف، هذا نوع آخر من تخويف الكفار.
ونظيره قوله سبحانه (ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين).(15/15)
فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (21)
(فجعلناه في قرار مكين) أي مكان حريز وهو الرحم يحفظ فيه المني من الآفات المفسدة له كالهواء(15/15)
إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ (22)
(إلى قدر معلوم) أي إلى مقدار قدره الله تعالى للولادة وهو مدة الحمل وهو تسعة أشهر أو ما فوقها أو ما دونها، وقيل إلى أن يصور.(15/15)
فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ (23)
(فقدرنا) قرأ الجمهور بالتخفيف من القدرة ويدل عليه (فنعم القادرون) وقرىء بالتشديد من التقدير، وهو موافق لقوله (من نطفة خلقه فقدره) قال الكسائي والفراء وهما لغتان بمعنى قدرت كذا وقدرته (فنعم القادرون) أي نعم المقدرون نحن، قيل المعنى قدرناه قصيراً أو طويلاً، وقيل قدرنا أي ملكنا.(15/15)
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (24)
(ويل يومئذ للمكذبين) بقدرتنا على ذلك أو على الإعادة وبنعمة الفطرة.(15/15)
أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا (25) أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا (26) وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا (27) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (28) انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (29) انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ (30) لَا ظَلِيلٍ وَلَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ (31) إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (32) كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ (33) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (34)
ثم بين لهم بديع صنعه وعظيم قدرته ليعتبروا فقال(15/16)
أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا (25)
(ألم نجعل الأرض كفاتاً) معنى الكفت في اللغة الضم والجمع، ويقال كفت الشيء إذا ضمه وجمعه، ومن هذا يقال للجراب والقدر كفت، والكفات بالكسر الموضع الذي يكفت فيه شيء أي يضم، ذكره المختار والقاموس، وقال المحلي: مصدر كفت وفيه نظر لأن كفت من باب ضرب، فالحق أنه إسم مكان وقيل جمع كافت كصيام وقيام، وقيل مصدر كالكتاب والحساب.
وقال الأخفش: كفاتاً جمع كافتة والأرض يراد بها الجمع فنعتت بالجمع. وقال الخليل: التكفت تقليب الشيء ظهراً لبطن أو بطناً لظهر، ويقال إنكفت القوم إلى منازلهم أي ذهبوا.
والمعنى ألم نجعل الأرض ضامة للأحياء على ظهرها، والأموات في بطنها، تضمهم وتجمعهم قال الفراء يريد تكفتهم أحياء على ظهرها في دورهم ومنازلهم، وتكفتهم أمواتاً في بطنها أي تحوزهم، وهو معنى قوله(15/16)
أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا (26)
(أحياء وأمواتاً) والتنكير فيهما للتفخيم أي تكفت أحياء لا يعدون وأمواتاً لا يحصرون، وقال أبو عبيدة: (كفاتاً) أوعية، وقيل معنى جعلها كفاتاً أنه يدفن فيها ما يخرج من الإنسان من الفضلات، وقال ابن عباس: (كفاتاً) كنا.
وقال الأخفش وأبو عبيدة: الأحياء والأموات وصفان للأرض أي(15/16)
الأرض منقسمة إلى حي وهو الذي ينبت، وإلى ميت وهو الذي لا ينبت.
قال الفراء: إنتصاب أحياء وأمواتاً لوقوع الكفات عليه أي ألم نجعل الأرض كفات أحياء وأموات، فإذا نون نصب ما بعده، وقيل نصباً على الحال من الأرض أي منها كذا ومنها كذا، وقيل هو مصدر نعت به للمبالغة.(15/17)
وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا (27)
(وجعلنا فيها رواسي شامخات) أي جبالاً مرتفعات طوالاً، والرواسي الثوابت، والشامخات الطوال وكل عال فهو شامخ، وقال ابن عباس: جبالاً مشرفات وقيل ثوابت عاليات.
(وأسقيناكم ماء فراتاً) أي عذباً قاله ابن عباس، والفرات الماء العذب يشرب منه ويسقى به، قال مقاتل: وهذا كله أعجب من البعث، روي أن في الأرض من الجنة سيحان وجيحان والفرات والنيل كلها من أنهار الجنة(15/17)
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (28)
(ويل يومئذ للمكذبين) بما أنعمنا عليهم من نعمنا التي هذه من جملتها.(15/17)
انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (29)
(انطلقوا إلى ما كنتم به تكذبون) في الدنيا يقول لهم ذلك خزنة جهنم توبيخاً وتقريعاً أي سيروا إليه من العذاب، وهو عذاب النار.(15/17)
انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ (30)
(انطلقوا إلى ظل ذي ثلاث شعب) أي إلى ظل من دخان جهنم قد سطع ثم افترق ثلاث فرق يكونون فيه حتى يفرغ من الحساب، وهذا شأن الدخان العظيم إذا ارتفع تشعب شعباً.
قرأ الجمهور انطلقوا في الموضعين على صيغة الأمر على التأكيد، وقرىء بصيغة الماضي في الثاني أي لما أمروا بالإنطلاق امتثلوا ذلك فانطلقوا، وقيل المراد بالظل هنا هو السرادق، وهو لسان من النار تحيط بهم ثم تتشعب ثلاث شعب فتظلهم حتى يفرغ من حسابهم ثم يصيرون إلى النار، وقيل هو الظل من يحموم كما في قوله (فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (42) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ) على ما تقدم، وقيل أن الشعب الثلاث هي الضريع والزقوم والغسلين لأنها أوصاف النار.(15/17)
ثم وصف سبحانه هذا الظل تهكماً بهم فقال(15/18)
لَا ظَلِيلٍ وَلَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ (31)
(لا ظليل) كنين يظلهم من حر ذلك اليوم، وهذا تهكم بهم ورد لما أوهمه لفظ الظل (ولا يغني) أي لا يرد عنهم شيئاًً (من اللهب) أي النار، قال الكلبي لا يرد حر جهنم عنكم.
ثم وصف سبحانه النار فقال(15/18)
إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (32)
(إنها ترمي بشرر كالقصر) العظيم أي كل شررة من شررها التي ترمي بها كالقصر من القصور في عظمها، والشرر ما تطاير من النار متفرقاً، والقصر البناء العظيم، وقيل القصر جمع قصرة ساكنة الصاد مثل جمر وجمرة وتمر وتمرة وهي الواحدة من جزل الحطب الغليظ، قال سعيد بن جبير والضحاك وهي أصول الشجر العظام، وقيل أعناقه.
قرأ الجمهور كالقصر بإسكان الصاد وهو واحد القصور كما تقدم، وقرىء بفتحها أي أعناق النخل والقصرة العنق جمعه قصر وقصرات، وقال قتادة: أعناق الإبل.
وقرأ سعيد بن جبير: بكسر القاف وفتح الصاد وهي جمع أيضاًً لقصرة مثل بدر وبدرة وقصع قصعة.
وقرأ الجمهور بشرر بفتح الشين، وقرأ ابن عباس وابن مقسم شرار بكسرها مع ألف بين الراءين، وقرأ عيسى كذلك إلا أنه بفتح الشين وهي لغات، قال ابن عباس قصر النخل يعني الأعناق، وعنه قال كانت العرب في الجاهلية تقول اقصروا لنا الحطب فيقطع على قدر الذراع والذراعين، وقال ابن مسعود: إنها ليست كالشجر والجبال، ولكنها مثل المدائن والحصون.
ثم شبه الشرر باعتبار لونه فقال(15/18)
كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ (33)
(كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ) قرأ حمزه والكسائي وحفص جمالة جمع جمل، وقرأ الجمهور جمالات بكسر الجيم وهي جمع جمال وهي الإبل أو جمع جمالة، وقرىء بضم الجيم وهي حبال السفن، قال ابن عباس: جمالات صفر قطع النحاس.(15/18)
عن عبد الرحمن بن عابس قال: " سمعت ابن عباس يسأل عن قوله (بشرر كالقصر) قال كنا نرفع الخشب بقدر ثلاثة أذرع أو أقل فنرفعه للشتاء فنسميه القصر، قال وسمعته يسأل عن قوله (كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ) قال حبال السفن يجمع بعضها إلى بعض حتى تكون كأوساط الرجال ".
ولفظ البخاري " كنا نعمد إلى الخشبة ثلاثة أذرع وفوق ذلك فنرفعه للشتاء فنسميه القصر (كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ)، حبال السفن تجمع حتى تكون كأوساط الرجال " وعنه قال هي الإبل.
قال الواحدي الصفر معناها السود في قول المفسرين، قال الفراء الصفر سود الإبل لا يرى أسود من الإبل إلا وهو مشرب صفرة لذلك سمت العرب سود الإبل صفراً، قيل والشرر إذا تطاير وسقط وفيه بقية من لون النار أشبه شيء بالإبل السود.
قيل وهذا القول محال في اللغة أن يكون شيء يشوبه شيء قليل فينسب كله إلى ذلك الشائب فالعجب لمن قال بهذا وقد قال تعالى (جِمَالَتٌ صُفْرٌ) وأجيب أن وجهه أن النار خلقت من النور فهي مضيئة، فلما خلق الله جهنم هي موضع النار حشى ذلك الموضع بتلك النار وبعث إليها سلطانه وغضبه فاسودت من سلطانه وإزدادت سواداً وصارت أشد سوادا من كل شيء فيكون شررها أسود لأنه من نار سوداء.
قلت هذا الجواب البارد لا يدفع ما قاله القائل لأن كلامه باعتبار ما وقع في الكتاب العزيز هنا من وصفها بكونها صفراً، فلو كان الأمر كما ذكره المجيب من اسوداد النار واسوداد شررها لقال الله تعالى كأنها جمالات سود، ولكن إذا كانت العرب تسمى الأسود أصفر لم يبق إشكال لأن القرآن نزل بلغتهم، وقد نقل الثقات عنهم ذلك ويدل عليه الحديث في صفة جهنم وفي آخره " فهي سوداء مظلمة " فكان ما في القرآن هنا وارداً على هذا الإستعمال العربي(15/19)
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (34)
(ويل يومئذ للمكذبين) لرسل الله وآياته.(15/19)
هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ (35) وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (36) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (37) هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالْأَوَّلِينَ (38) فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ (39) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (40) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ (41) وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ (42) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (44) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (45) كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ (46) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (47) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ (48) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (49) فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (50)(15/20)
هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ (35)
(هذا يوم لا ينطقون) أي لا يتكلمون، قرأ الجمهور برفع يوم على أنه خبر لإسم الإشارة، وقرأ زيد بن علي والأعرج والأعمش وغيرهم بالفتح على البناء لإضافته إلى الفعل ومحله الرفع على الخبرية، وقيل هو منصوب على الظرفية.
قال الواحدي قال المفسرون: في يوم القيامة مواقف ففي بعضها يتكلمون وفي بعضها يختم على أفواههم فلا يتكلمون، وقد قدمنا الجمع بهذا في غير موضع، وقيل إن هذا إشارة إلى وقت دخولهم النار وهم عند ذلك لا ينطقون لأن مواقف السؤال والحساب قد انقضت، وقال الحسن لا ينطقون بحجة وإن كانوا ينطقون، والإشارة بهذا إلى ما تقدم من الوعيد كأنه قيل هذا العقاب المذكور كائن يوم لا ينطقون.
وعن عكرمة قال: " سأل نافع بن الأزرق: ابن عباس عن قوله (هذا يوم لا ينطقون) و (لا تسمع لهم إلا همساً) و (أقبل بعضهم على بعض يتساءلون)، و (هاؤم إقرأوا كتابيه) فقال له ويحك هل سألت عن هذا أحداً قبلي؟ قال لا قال أما إنك لو كنت سألت هلكت. أليس قال الله (وإن يوماً عند ربك كألف سنة مما تعدون) قال بلى، قال فإن لكل مقدار يوم من(15/20)
هذه الأيام لوناً من الألوان ".(15/21)
وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (36)
(ولا يؤذن لهم فيعتذرون) قرأ الجمهور يؤذن على البناء للمفعول، وقرأ زيد بن علي لا يأذن على البناء للفاعل أي لا يأذن الله لهم أي لا يكون لهم إذن من الله فيكون لهم اعتذار من غير أن يجعل الإعتذار مسبباً عن الأذن كما لو نصب، قال الفراء الفاء في (فيعتذرون) نسق على يؤذن وأجيز ذلك لأن أواخر الكلام بالنون ولو قال فيعتذروا لم يوافق الآيات، وقد قال (لا يقضى عليهم فيموتوا) بالنصب والكل صواب(15/21)
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (37)
(ويل يومئذ للمكذبين) بما دعتهم إليه الرسل وأنذرتهم عاقبته.(15/21)
هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالْأَوَّلِينَ (38)
(هذا يوم الفصل جمعناكم والأولين) أي ويقال لهم هذا يوم الفصل الذي يفصل فيه بين الخلائق، ويتميز فيه الحق من الباطل، والخطاب في (جمعناكم) للكفار في زمن نبينا صلى الله عليه وآله وسلم والمراد بالأولين كفار الأمم الماضية.(15/21)
فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ (39)
(فإن كان لكم كيد) أي إن قدرتم على حيلة في دفع العذاب عنكم الآن (فيكيدون) أي فافعلوها، وهذا تقريع لهم وتهكم وتوبيخ قال مقاتل يقول إن كان لكم حيلة فاحتالوا لأنفسكم، وقيل المعنى فإن قدرتم على حرب فحاربون، وقيل إن هذا من قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيكون كقول هود (فكيدوني جميعاً ثم لا تنظرون)(15/21)
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (40)
(ويل يومئذ للمكذبين) بالبعث لأنه قد ظهر لهم عجزهم وبطلان ما كانوا عليه في الدنيا.
ثم لما ذكر سبحانه في سورة الدهر أحوال الكفار في الآخرة على سبيل الإختصار وأطنب في أحوال المؤمنين فيها، ذكر في هذه السورة أحوال الكفار على سبيل الإطناب، وأحوال المؤمنين على سبيل الإيجاز فوقع بذلك التعادل بين السورتين فقال(15/21)
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ (41)
(إن المتقين في ظلال وعيون) أي في ظلال الأشجار وظلال القصور لا كالظل الذي للكفار من الدخان ومن النار كما تقدم، قال المحلي أي تكاثف أشجار، وعبارة الكازروني أي تحت أشجار.(15/21)
قرأ الجمهور (في ظلال) وقرىء في ظل جمع ظلة، قال مقاتل والكلبي: المراد بالمتقين الذين يتقون الشرك بالله لأن السورة من أولها إلى آخرها في تقريع الكفار على كفرهم.
قال الرازي: فيجب أن تكون هذه الآية مذكورة لهذا الغرض وإلا لتفككت السورة في نظمها وترتيبها، وإنما يتم النظم بأن يكون هذا الوعد حاصلاً للمؤمنين بسبب إيمانهم، لأنه لما تقدم وعيد الكافر بسبب كفره وجب أن يقرن ذلك بوعد المؤمن بسبب إيمانه حتى يصير ذلك سبباً في الزجر عن الكفر، فأما أن يقرن به وعد المؤمن بسبب طاعته فلا يليق بالنظر، كذا قال.
والمراد بالعيون الأنهار أي نابعة من ماء وعسل ولبن وخمر كما قال تعالى (فيها أنهار من ماء غير آسن) إلخ.(15/22)
وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ (42)
(وفواكه مما يشتهون) المراد بالفواكه ما يتفكه به مما تطلبه أنفسهم وتستدعيه شهواتهم فمتى اشتهوا فاكهة وجدوها حاضرة فليست فاكهة الجنة مقيدة بوقت دون وقت كما في أنواع فاكهة الدنيا.(15/22)
كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43)
(كلوا واشربوا هنيئاً بما كنتم تعملون) أي يقال لهم ذلك، والقائل لهم الملائكة إكراماً لهم، أو يقال لهم من قبل الله، فالجملة مقدرة بالقول والباء للسببية أي بسبب ما كنتم تعملونه في الدنيا من الأعمال الصالحة.(15/22)
إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (44)
(إنا كذلك) أي مثل ذلك الجزاء العظيم (نجزي المحسنين) في أعمالهم وعقائدهم(15/22)
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (45)
(ويل يومئذ للمكذبين) حيث صاروا في شقاء عظيم وصار المؤمنون في نعيم مقيم.(15/22)
كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ (46)
(كلوا وتمتعوا) خطاب للكفار أي الويل ثابت لهم في حال ما يقال لهم ذلك تذكيراً لهم بحالهم في الدنيا أو يقال لهم هذا في الدنيا، وإنما قال (قليلاً) لأن متاع الدنيا وزمانه قليل لأنه زائل مع قصر مدته في مقابلة مدة الآخرة، وذلك إلى منتهى آجالهم.(15/22)
قال بعض العلماء التمتع بالدنيا من أفعال الكافرين، والسعي لها من أفعال الظالمين والاطمئنان إليها من أفعال الكاذبين، والسكون فيها على حد الإذن والأخذ منها على قدر الحاجة من أفعال عوام المؤمنين، والإعراض عنها من أفعال الزاهدين، وأهل الحقيقة أجل خطراً من أن يؤثر فيهم حب الدنيا وبغضها وجمعها وتركها.
(إنكم مجرمون) أي المشركون بالله، وهذا وإن كان في اللفظ أمر فهو في المعنى تهديد وزجر عظيم(15/23)
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (47)
(ويل يومئذ للمكذبين) حيث عرضوا أنفسهم للعذاب الدائم بالتمتع القليل.(15/23)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ (48)
(وإذا قيل لهم) أي لهؤلاء المجرمين من أي قائل كان (اركعوا لا يركعون) أي وإذا أمروا بالصلاة لا يصلون، قال مقاتل: " نزلت في ثقيف امتنعوا من الصلاة بعد أن أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بها فقالوا لا ننحني فإنها سبة علينا فقال النبي صلى الله عليه وسلم لا خير في دين ليس فيه ركوع ولا سجود " وقيل إنما يقال لهم ذلك في الآخرة حين يدعون إلى السجود فلا يستطيعون من أجل أنهم لم يكونوا يسجدون في الدنيا لله سبحانه، قاله ابن عباس (1).
وفي هذه الآية دليل على أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة، وسميت الصلاة باسم جزئها وهو الركوع، وخص هذا الجزء لأنه يقال على الخضوع والطاعة، ولأنه خاص بصلاة المسلمين
_________
(1) قال الحافظ ابن حجر في " تخريج الكشاف " 181: هكذا ذكره الثعلبي، قال: وأخرجه أبو داود 3/ 222، وأحمد 4/ 218 وابن أبي شيبة، والطبراني، من رواية الحسن عن عثمان بن أبي العاص به، وأتم منه. قلت: وفيه عنعنة الحسن.(15/23)
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (49)
(ويل يومئذ للمكذبين) بأوامر الله سبحانه ونواهيه.(15/23)
فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (50)
(فبأي حديث بعده) أي بعد القرآن (يؤمنون) أي يصدقون إذا لم(15/23)
يؤمنوا به، مع أنه آية مبصرة ومعجزة باهرة من بين الكتب السماوية، قرأ الجمهور يؤمنون بالتحتية على الغيبة، وقرأ ابن عامر في رواية عنه ويعقوب بالفوقية على الخطاب.(15/24)
سورة عمّ
كذا في الخازن والخطيب، وتسمى سورة التساؤل وسورة النبأ، وهي أربعون آية وقيل إحدى وأربعون آية وهي مكيّة عند الجميع، وقال ابن عباس نزلت بمكة، وعن ابن الزبير ومثله.(15/25)
بسم الله الرحمن الرحيم
عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ (1) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (2) الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ (3) كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (4) ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (5) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا (6) وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا (7)(15/27)
عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ (1)
(عم يتساءلون) أصله عن ما فأدغمت النون في الميم لأن الميم تشاركها في الغنة، كذا قال الزجاج، وحذفت الألف ليتميز الخبر عن الاستفهام، وكذلك فيم وبم، ونحو ذلك، والمعنى عن أي شيء يسأل بعضهم بعضاً.
قرأ الجمهور: عمَّ بحذف الألف لما ذكرنا، وقرىء بإثباتها، ولكنه قليل لا يجوز إلا للضرورة، وقرىء بهاء السكت عوضاً عن الألف، قال الزجاج: اللفظ لفظ الاستفهام والمعنى تفخيم القصة، كما تقول أي شيء تريد، إذا عظمت شأنه.
قال الشهاب: وهذا الاستفهام لا يمكن حمله على حقيقته لأن المطلوب به لا بد أن يكون مجهولاً عند الطالب، فلذا جعل مجازاً عن الفخامة، لأنه ورد على طريق مخاطبات العرب فالاستفهام بالنسبة إلى الناس.
وقال في النهر: هذا الاستفهام فيه تفخيم وتهويل وتقرير وتعجيب.
قال الواحدي قال المفسرون: " لما بعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسم وأخبرهم بتوحيد الله والبعث بعد الموت وتلا عليهم القرآن، جعلوا يتساءلون بينهم، يقولون ماذا جاء به محمد، وما الذي أتى به؟ فأنزل الله عم يتساءلون " (1) قال الفراء التساؤل هو أن يسأل بعضهم بعضاً كالتقابل، وقد
_________
(1) روى ابن جرير الطبري سبب النزول هذا عن الحسن 30/ 1 وأورده السيوطي في " الدر " 6/ 305 وزاد نسبته لعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه عن الحسن.(15/27)
يستعمل أيضاًً في أن يتحدثوا به وإن لم يكن بينهم سؤال. قال تعالى: (وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون) وهذا يدل على أنه التحدث. ومناسبتها لما قبلها ظاهرة لما ذكر في قوله: (فبأي حديث بعده) أي بعد هذا الحديث وهو القرآن وكانوا يتجادلون فيه ويتساءلون عنه فقال: (عمَّ يتساءلون).
ثم ذكر سبحانه تساؤلهم عما ذا وبينه فقال:(15/28)
عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (2)
(عن النبأ العظيم) أورده سبحانه أولاً على طريقة الاستفهام مبهماً لتتوجه إليه أذهانهم، وتلتفت إليه أفهامهم، ثم بينه بما يفيد تعظيمه وتفخيمه، كأنه قيل عن أي شيء يتساءلون، هل أخبركم به، ثم قيل بطريق الجواب (عن النبأ العظيم) على منهاج قوله: (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ) وإنما كان ذلك النبأ أي القرآن عظيماً لأنه ينبىء عن التوحيد وتصديق الرسول، ووقوع البعث والنشور.
وقال الضحاك: يعني نبأ يوم القيامة وكذا قال قتادة.
وقد استدل على أن النبأ هو القرآن بقوله الآتي:(15/28)
الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ (3)
(الذي هم فيه مختلفون) فإنهم اختلفوا في القرآن فجعله بعضهم سحراً وبعضهم شعراً وبعضهم كهانه وبعضهم قال هو أساطير الأولين، وأما البعث فقد اتفق الكفار إذ ذاك على إنكاره، وممكن أن يقال أنه قد وقع الاختلاف في البعث في الجملة فصدق به المؤمنون، وكذب به الكافرون، فقد وقع الخلاف فيه من هذه الحيثية وإن لم يقع الاختلاف فيه بين الكفار أنفسهم على التسليم والتنزل.
ومما يدل على أنه القرآن قوله سبحانه: (قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ (67) أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ) ومما يدل على أنه البعث أنه أكثر ما كان يستنكره المشركون وتأباه عقولهم السخيفة.
وأيضاًً فطوائف الكفار قد وقع الاختلاف بينهم في البعث فأثبتت النصارى المعاد الروحاني، وأثبتت طائفة من اليهود المعاد الجسماني، وفي(15/28)
التوراة التصريح بلفظ الجنة باللغة العبرانية بلفظ جنعيذا بجيم مفتوحة ثم نون ساكنة ثم عين مهملة مكسورة ثم تحتية ساكنة ثم ذال معجمة بعدها ألف، وفي الإنجيل في مواضع كثيرة التصريح بالعاد، وأنه يكون فيه النعيم للمطيعين، والعذاب للعاصين.
وقد كان بعض طوائف كفار العرب ينكر المعاد كما حكى الله عنه بقوله: (إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ) وكانت طائفة منهم غير جازمة بنفيه بل شاكة فيه كما حكى الله عنهم بقوله: (إن نظن إلا ظناً وما نحن بمستيقنين) وما حكاه الله عنهم بقوله: (وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى) فقد حصل الاختلاف بين طوائف الكفر على هذه الصفة.
وقد قيل إن الضمير في قوله يتساءلون يرجع إلى المؤمنين والكفار لأنهم جميعاً كانوا يتساءلون عنه: فأما المسلم فيزداد يقيناً واستعداداً وبصيرة في دينه، وأما الكافر فاستهزاء وسخرية.
قال الرازي: ويحتمل أنهم يسألون الرسول ويقولون ما هذا الذي تعدنا به من أمر الآخرة، قال ابن عباس: النبأ العظيم القرآن، وهذا مروي عن جماعة من التابعين.
(الذي هم فيه مختلفون) الموصول صفة للنبأ بعد وصفه بكونه عظيماً فهو متصف بالعظم ومتصف بوقوع الاختلاف فيه.(15/29)
كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (4)
(كلا سيعلمون) ردع لهم وزجر، وهذا يدل على أن المختلفين فيه هم الكفار، وبه يندفع ما قيل أن الخلاف بينهم وبين المؤمنين، فإنه إنما يتوجه الردع والوعيد إلى الكفار فقط، وقيل كلا بمعنى حقاً.
ثم كرر الردع والزجر فقال:(15/29)
ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (5)
(ثم كلا سيعلمون) للمبالغة في التأكيد والتشديد في الوعيد، وقرأ الجمهور بالياء التحتية في الفعلين على الغيبة، وقرىء بالفوقية على الخطاب، وقرأ الضحاك الأولى بالفوقية، وقرأ الثانية(15/29)
بالتحتية، قال الضحاك أيضاًً (كلا سيعلمون) يعني الكافرين عاقبة تكذيبهم (ثم كلا سيعلمون) يعني المؤمنين عاقبة تصديقهم، وقيل بالعكس، وقيل هو وعيد بعد وعيد.
وقيل: المعنى (كلا سيعلمون) عند النزع ما يحل بهم (ثم كلا سيعلمون) عند البعث لأنه يكشف لهم الغطاء حينئذ، وقيل الأول للبعث والثاني للجزاء.
وقال ابن مالك تأكيد لفظي ولا يضر توسط حرف العطف، قال السمين: والنحويون يأبون هذا ولا يسمون إلا عطفاً وإن أفاد التأكيد، قال زاده " ثم " موضوعة للتراخي الزماني وقد تستعمل في التراخي الرتبي كما هنا تشبيهاً لتباعد الرتبة بتباعد الزمان.(15/30)
أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا (6) وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا (7)
ثم ذكر سبحانه بديع صنعه وعظيم قدرته على البعث وأشار إلى الأدلة الدالة عليها وذكر منها تسعة ليعرفوا توحيده ويؤمنوا بما جاء به رسوله فقال:
(ألم نجعل الأرض مهاداً والجبال أوتاداً) أي قدرتنا على هذه الأمور المذكورة أعظم من قدرتنا على الإعادة بالبعث، فما وجه إنكاركم، لأنه قد تقرر أن الأجسام متساوية الأقدام في قبول الصفات والأعراض.
وهذا الجعل بمعنى الإنشاء والإبداع كالخلق خلا إنه مختص بالإنشاء التكويني، وفيه معنى التقدير والتسوية، وهذا عام له كما في الآية الكريمة، وقيل: الجعل بمعنى التصيير، والمهاد الوطاء والفراش كما في قوله: (الذي جعل لكم الأرض فراشاً) قرأ الجمهور بالجمع، وقرىء مهداً.
والمعنى أنها كالمهد للصبي وهو ما يمهد له فينام عليه، وسمي الممهود بالمهد تسمية للمفعول بالمصدر كضرب الأمير، والأوتاد جمع وتد أي جعلنا الجبال أوتاداً للأرض لتسكن ولا تتحرك كما ترسى الخيام بالأوتاد.
وفي هذا دليل على أن التساؤل الكائن بينهم هو عن أمر البعث لا عن القرآن ولا عن نبوة محمد صلى الله عليه وسلم كما قيل، لأن هذا الدليل إنما يصلح للإستدلال به على البعث.(15/30)
وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا (8) وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا (9) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا (10) وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا (11) وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا (12) وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا (13) وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا (14) لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا (15) وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا (16) إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا (17) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا (18) وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا (19)(15/31)
وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا (8)
(وخلقناكم أزواجاً) معطوف على المضارع المنفي داخل في حكمه، فهو في قوة أما خلقناكم، والمراد بالأزواج هنا الأصناف أي المذكور والإناث، وقيل المراد بها الألوان، وقيل يدخل في هذا كل زوج من المخلوقات من قبيح وحسن وطويل وقصير.(15/31)
وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا (9)
(وجعلنا نومكم سباتاً)، قال الزجاج السبات أن ينقطع عن الحركة والروح في بدنه أي جعلنا نومكم راحة لكم، قال ابن الأنباري جعلنا نومكم قطعاً لأعمالكم لأن أصل السبت القطع، وقيل أصله التمدد يقال سبتت المرأة شعرها إذا حلته وأرسلته، ورجل مسبوت الخلق أي ممدوده، والرجل إذا أراد أن يستريح تمدد فسمي النوم سباتاً.
وفي المختار السبات النوم وأصله الراحة وبابه نصر. وفي المصباح السبات كغراب النوم الثقيل، وأصله الراحة يقال سبت يسبت من باب قتل وسبت بالبناء للمفعول غشي عليه وأيضاًً مات، ومن هنا قيل المعنى وجعلنا نومكم موتاً، والنوم أحد الموتتين فالمسبوت يشبه الميت ولكنه لم يفارقه الروح، ومن هذا قوله: (الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها) الآية، وقوله: (وهو الذي يتوفاكم بالليل).(15/31)
وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا (10)
(وجعلنا الليل لباساً) أي نلبسكم ظلمته ونغشيكم بها كما يغشيكم اللباس، فشبه الليل باللباس، لأن في كل منهما ستراً. فهو استعارة. وقال سعيد بن جبير والسدي أي سكناً لكم، وقيل المراد ما يستره عند النوم من(15/31)
اللحاف ونحوه وهو بعيد لأن الجعل وقع على الليل لا على ما يستتر به النائم عند نومه.(15/32)
وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا (11)
(وجعلنا النهار معاشاً) أي وقت معاش، والمعاش مصدر ميمي بمعنى العيشة، وقع هنا ظرفاً، وكل شيء يعاش به فهو معاش، والمعنى أن الله جعل لهم النهار مضيئاً ليسعوا فيما يقوم به معاشهم وما قسمه الله لهم من الرزق.(15/32)
وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا (12)
(وبنينا فوقكم سبعاً شداداً) يريد سبع سموات قوية الخلق محكمة البناء لا يؤثر فيها مرور الزمان، ولهذا وصفها بالشدة وغلظ كل واحدة منها مسيرة خمسمائة عام كما ورد ذلك.(15/32)
وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا (13)
(وجعلنا سراجاً) منيراً (وهاجاً) وقاداً يعني الشمس، والوهاج المضيء المتلألىء من قولهم وهج الجوهر أي تلألأ، ويقال وهج يوهج كوجل يوجل وكوعد يعد، قال الزجاج الوهاج الوقاد، وهو الذي وهج يقال وهجت النار تهج وهجاً ووهجاناً، قال مقاتل جعل فيه نوراً وحراً، والوهج يجمع النور والحرارة، وقال ابن عباس وهاجاً مضيئاً.(15/32)
وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا (14)
(وأنزلنا من المعصرات ماء ثجاجاً) المعصرات هي السحاب التي تنعصر بالماء ولم تمطر بعد كالمرأة المعتصرة التي قد دنا حيضها، كذا قال سفيان والربيع وأبو العالية والضحاك، وقال مجاهد ومقاتل وقتادة والكلبي هي الرياح، والرياح تسمى معصرات يقال أعصرت الريح تعصر إعصاراً إذا أثارت العجاج، قال الأزهري هي الرياح ذوات الأعاصير، وذلك أن الرياح تستدر المطر، وقال الفراء المعصرات السحاب التي يتحلب منها المطر.
قال النحاس: وهذه الأقوال صحاح يقال للريح التي تأتي بالمطر معصرات، والرياح تلقح السحاب فيكون المطر، ويجوز أن تكون هذه الأقوال قولاً واحداً ويكون المعنى وأنزلنا من ذوات المعصرات.
قال في الصحاح والمعصرات السحاب تعتصر بالمطر، وعصر القوم أي(15/32)
مطروا، قال المبرد يقال سحاب معصر أي ممسك للماء ويعتصر منه شيء بعد شيء.
وقال أبيّ بن كعب والحسن وابن جبير وزيد بن أسلم ومقاتل بن حيان: المعصرات السموات وقال ابن عباس: السحاب، وقال ابن مسعود: يبعث الله الريح فتحمل الماء فتمر به السحاب فتدر كما تدر اللقحة.
وقرأ ابن عباس (وأنزلنا من المعصرات بالرياح) وقيل المعصرات المغيثات والعاصر هو الغيث.
والثجاج هو المنصب بكثرة على وجه التتابع، يقال ثج الماء أي سال بكثرة وثجه أي أساله فيكون لازماً ومتعدياً، وبابه رد، ومطر ثجاج أي منصب جداً، والثج أيضاًً سيلان دماء الهدي، وفي الحديث " أحب العمل إلى الله العج والثج " فالعج رفع الصوت بالتلبية، والثج إراقة دماء الهدى.
وقال الزجاج: الثجاج الصباب، وقال ابن زيد ثجاجاً كثيراً، وقال ابن عباس: منصباً، وقيل مدراراً متتابعاً يتلو بعضه بعضاً، وقال ابن مسعود الثجاج ينزل من السماء أمثال العزالى فتصرفه الرياح فينزل متفرقاً.(15/33)
لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا (15)
(لنخرج به حباً ونباتاً) أي لنخرج بذلك الماء حباً يقتات به كالحنطة والشعير ونحوهما والنبات ما تأكله الدواب من الحشيش والتبن وسائر النبات والكلأ.(15/33)
وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا (16)
(وجنات ألفافاً) أي بساتين ملتف بعضها ببعض تتشعب أغصانها ولا واحد للألفاف كالأوزاع والأخياف، وقيل واحدها لف بكسر اللام وضمها، ذكره الكسائي، وقال أبو عبيدة: واحدها لفيف كشريف وأشراف، وروي عن الكسائي أنها جمع الجمع يقال جنة لفاء ونبت لف والجمع لف بالضم مثل حمر ثم يجمع هذا الجمع على ألفاف، وقيل هو جمع ملتفة بحذف الزوائد.
وقال ابن عباس: ألفافاً ملتفة، وقال: يقول التف بعضها ببعض، قال الفراء: الجنة ما فيه النخيل، والفردوس ما فيه الكرم.(15/33)
ولما أثبت الله البعث بالأدلة التسعة المتقدمة كأن سائلاً سأل عن وقته ما هو فقال(15/34)
إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا (17)
(إن يوم الفصل) بين المحسن والمسيء، والمحق والمبطل، وأكده بأن لأنه مما ارتابوا فيه (كان) في علمه وحكمه (ميقاتاً) أي وقتاً ومجمعاً وميعاداً للأولين والآخرين يصلون فيه إلى ما وعدوا من البعث، وقيل معنى ميعاداً إنه حد توقت به الدنيا وتنتهي عنده وقيل حد للخلائق ينتهون إليه أو منتهى معلوماً لوقوع الجزاء أو ميعاداً للثواب والعقاب.(15/34)
يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا (18)
(يوم ينفخ) بدل من يوم الفصل أو بيان له مفيد لزيادة تفخيمه وتهويله وإن كان الفصل متأخراً عن النفخ (في الصور) هو القرن الذي ينفخ فيه إسرافيل، والمراد هنا النفخة الثانية التي تكون للبعث (فتأتون) من قبوركم إلى الموقف (أفواجاً) أي زمراً زمراً وجماعات جماعات، وهي جمع فوج والفاء في (فتأتون) فصيحة تدل على محذوف أي فتأتون إلى موضع العرض عقيب ذلك أفواجاً أي أمماً مع كل أمة إمامهم.(15/34)
وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا (19)
(وفتحت السماء) معطوف على (ينفخ) وصيغة الماضي للدلالة على تحقق الوقوع أي فتحت لنزول الملائكة، وقال علي القارىء عطف على (فتأتون) أو حال أي والحال أنها قد فتحت، وقرىء بالتخفيف والتشديد وهما سبعيتان.
قال الشهاب المراد بالفتح ليس ما عرف من فتح الأبواب، وهو موافق لقوله (إذا السماء انشقت) و (إذا السماء انفطرت) فإن القرآن يفسر بعضه بعضاً، وعبر عن التشقيق بالفتح إشارة إلى كمال قدرته حتى كان تشقيق هذا الجرم العظيم كفتح الباب سهولة وسرعة (فكانت أبواباً) كما في قوله: (وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا) وقيل معنى فتحت قطعت فصارت قطعاً كالأبواب، وقيل أبوابها طرقها، وقيل تنحل وتتناثر حتى تصير فيها أبواب وطرق، وقيل أن لكل عبد بابين في السماء باب لرزقه وباب لعمله، فإذا قامت القيامة انفتحت الأبواب.
وظاهر قوله: (فكانت أبواباً) أنها صارت كلها أبواباً، وليس المراد ذلك بل المراد أنها صارت ذات أبواب كثيرة.(15/34)
وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا (20) إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا (21) لِلطَّاغِينَ مَآبًا (22) لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا (23) لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا (24) إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا (25) جَزَاءً وِفَاقًا (26) إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا (27) وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا (28) وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا (29) فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا (30)(15/35)
وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا (20)
(وسيرت الجبال) عن أماكنها في الهواء كالهباء الذي هو الغبار وقلعت عن مقارها، وقيل معنى سيرت أنها نسفت من أصولها، ومثل هذا قوله: (وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب) (فكانت سراباً) أي هباء منبثاً يظن الناظر أنها سراب، وتخيل الشمس أنها ماء، والمعنى أن الجبال صارت كلا شيء كما أن السراب يظن الناظر أنه ماء وليس بماء.
ذكر سبحانه أحوال الجبال بوجوه مختلفة، وممكن الجمع بينها بأن نقول أول أحوالها الإندكاك وهو قوله: (وحملت الأرض والجبال فدكتا دكة واحدة) وثاني أحوالها أن تصير كالعهن المنفوش كما في قوله: (وتكون الجبال كالعهن المنفوش) وثالث أحوالها أن تصير كالهباء وهو قوله: (وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا (5) فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا) ورابع أحوالها أن تنسف وتحملها الرياح كما في قوله: (وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب) وخامس أحوالها أن تصير سراباً أي لا شيء كما في هذه الآية.
ثم شرع سبحانه في تفصيل أحكام الفصل فقال:(15/35)
إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا (21)
(إن جهنم كانت مرصاداً) قال الأزهري المرصاد المكان الذي يرصد الراصد فيه العدو، وقال المبرد مرصاداً يرصدون به أي هو معد لهم يرصد به خزنتها الكفار، قال الحسن إن على الباب رصداً لا يدخل أحد الجنة حتى يجتاز عليهم، فمن جاء بجواز جاز ومن لم يجىء بجواز حبس وقال مقاتل محبساً، وقيل طريقاً وممراً.
قال في الصحاح الراصد للشيء الراقب له، يقال رصده يرصده رصداً(15/35)
والرصد الترقب، والمرصد موضع الرصد، قال الأصمعي رصدته أرصده ترقبته.
ومعنى الآية إن جهنم كانت في حكم الله وقضائه موضع رصد يرصد فيه خزنة النار الكفار ليعذبوهم فيها، أو هي في نفسها متطلعة لما يأتي إليها من الكفار كما يتطلع الرصد لمن يمر بهم، ويأتي إليهم، والمرصاد مفعال من أبنية المبالغة كالمعطار والمعمار، فكأنه يكثر من جهنم انتظار الكفار.
ثم ذكر من هي مرصد له فقال(15/36)
لِلطَّاغِينَ مَآبًا (22)
(لِلطَّاغِينَ مَآبًا) أي مرجعاً يرجعون إليه، والمئآب المرجع يقال آب يؤوب إذا رجع، والطاغي من طغى بالكفر، وللطاغين نعت لمرصاداً متعلق بمحذوف ومئآباً بدل من مرصاداً، ويجوز أن يكون للطاغين في محل نصب على الحال من مئآباً قدمت عليه لكونه نكرة.
وانتصاب(15/36)
لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا (23)
(لابثين فيها أحقاباً) على الحال المقدرة من الضمير المستكن في الطاغين قرأ الجمهور لابثين بالألف، وقرىء بدون ألف، وانتصاب (أحقاباً) على الظرفية أي ماكثين في النار ما دامت الأحقاب، وهي لا تنقطع، وكلما مضى حقب جاء حقب، وهي جمع حقب بضمتين وهو الدهر، والأحقاب الدهور، والحقب بضم الحاء وسكون القاف قيل هو ثمانون سنة.
وحكى الواحدي عن المفسرين أنه بضع وثمانون سنة، السنة ثلثمائة وستون يوماً اليوم ألف سنة من أيام الدنيا، وقال السدي الحقب سبعون سنة، وقال بشير بن كعب ثلثمائة سنة، وقال ابن عمر أربعون سنة، وقيل ثلاثون ألف سنة.
قال الحسن الأحقاب لا يدري أحد كم هي، ولكن ذكروا أنها مائة حقب، والحقب الواحد منها سبعون ألف سنة، اليوم منها كألف سنة، قال ابن عباس أحقاباً سنين.
وعن سالم بن أبي الجعد قال سأل علي بن أبي طالب: هلال الهجري ما تجدون الحقب في كتاب الله؟ قال نجده ثمانين سنة كل سنة منها إثنا عشر(15/36)
شهراً كل شهر ثلاثون يوماً كل يوم ألف سنة، وعن ابن مسعود في الآية قال الحقب الواحد ثمانون سنة.
وعن أبي هريرة رفعه " قال الحقب ثمانون سنة والسنة ثلثمائة وستون يوماً، كل يوم منها ألف سنة مما تعدون ".
وعن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم: " قال الحقب ألف شهر والشهر ثلاثون يوماً والسنة إثنا عشر شهراً ثلثمائة وستون يوماً، كل يوم ألف سنة مما تعدون فالحقب ثلاثون ألف ألف سنة " أخرجه ابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه قال السيوطي بسند ضعيف.
وعن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " والله لا يخرج من النار من دخلها حتى يمكث فيها أحقاباً والحقب بضع وثمانون سنة، كل سنة ثلثمائة وستون يوماً، واليوم ألف سنة مما تعدون "، قال ابن عمر: فلا يتكلن أحد أنه يخرج من النار " أخرجه البزار وابن مردويه والبيهقي.
وعن ابن عمرو قال: الحقب الواحد ثمانون سنة وعن ابن عباس مثله، وعن عبادة ابن الصامت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " الحقب أربعون سنة " أخرجه ابن مردويه.
وقيل الأحقاب وقت شربهم الحميم والغساق، فإذا انقضت فيكون لهم نوع آخر من العذاب، وعن خالد بن معدان في الآية وفي قوله (إلا ما شاء ربك) أنهما في أهل التوحيد من أهل القبلة.
وقيل إن الآية منسوخة بقوله: (فلن يزيدكم إلا عذاباً) يعني أن العدد قد ارتفع، والخلود قد حصل، والأول أولى، وقيل الآية محمولة على العصاة الذين يخرجون من النار، والأولى ما ذكرناه أولاً من أن المقصود بالآية التأييد لا التقييد، وحكى الواحدي عن الحسن أنه قال: والله ما هي إلا أنه إذا مضى حقب دخل آخر ثم آخر كذلك إلى الأبد.(15/37)
لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا (24)
(لا يذوقون فيها) حال من الضمير في (لابثين) أو صفة لأحقاباً أو مستأنفة لبيان ما اشتملت عليه من أنهم لا يذوقون في جهنم أو في الأحقاب (برداً) ينفعهم من حرها (ولا شراباً) ينفعهم من عطشها.(15/38)
إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا (25)
(إلا حميماً) هو الماء الحار (وغساقاً) هو صديد أهل النار، وقيل هو ماء يسيل من صديد أهل النار، والاستثناء منقطع عند من جعل البرد النوم، وبه قال الزمخشري، ويجوز أن يكون متصلاً من قوله: (ولا شراباً) وبه قال أبو حيان، وقضية كلام الكواشي تجويز الأمرين، وقيل أنه بدل من (شراباً) وهو الأحسن لأن الكلام غير موجب.
وقال مجاهد والسدي وأبو عبيدة والكسائي والفضل بن خالد وأبو معاذ النحوي: البرد المذكور في هذه الآية النوم، قال الزجاج: أي لا يذوقون فيها برد ريح ولا ظل ولا نوم، فجعل البرد يشمل هذه الأمور، وإطلاق البرد على النوم لغة هذيل وسمي بذلك لأنه يقطع سورة العطش، ألا ترى أن العطشان إذا نام سكن عطشه ولأنه يبرد صاحبه، والعرب تقول منع البرد البرد يعني أذهب البرد النوم.
وفي الحديث أنه صلى الله عليه وسلم: " سئل هل في الجنة نوم فقال: لا، النوم أخو الموت والجنة لا موت فيها " وكذلك النار وقد قال تعالى: (لا يقضى عليهم فيموتوا) وقيل البرد برد الشراب، والشراب الماء، وجعل الزجاج البرد برد كل شيء له راحة، وهذا ينفعهم. فأما الزمهرير فهو برد يتأذون به فلا ينفعهم فلهم منه من العذاب ما الله أعلم به، وقال الحسن وعطاء وابن زيد برداً أي روحاً وراحة.
قرأ الجمهور غساقاً بالتخفيف، وقرأ حمزة والكسائي بتشديد السين وهما سبعيتان، وقد تقدم تفسيره وتفسير الحميم والخلاف فيهما في سورة (ص).
عن ابن مسعود قال زمهرير جهنم يكون لهم من العذاب لأن الله يقول لا يذوقون فيها برداً ولا شراباً إلا حميماً، قال قد انتهى حره، وغساقاً قد(15/38)
انتهى حره، وأن الرجل إذا أدنى الإناء من فيه سقط فروة وجهه حتى يبقى عظاماً تقعقع.(15/39)
جَزَاءً وِفَاقًا (26)
(جزاء وفاقاً) أي موافقاً لأعمالهم على أن (وفاقاً) صفة لجزاء بتأويله باسم الفاعل، ويصح أن يكون على حذف مضاف أي ذا وفاق أو باق على مصدريته لقصد المبالغة، قال الفراء والأخفش: جازيناهم جزاء وافق أعمالهم، وقال الزجاج: جوزوا جزاء وافق أعمالهم.
قال الفراء: الوفاق جمع الوفق، والوفق والموافق واحد، قال مقاتل وافق العذاب الذنب فلا ذنب أعظم من الشرك ولا عذاب أعظم من النار، وقال الحسن وعكرمة: كانت أعمالهم سيئة فأتاهم الله بما يسوءهم.(15/39)
إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا (27)
(إنهم كانوا لا يرجون حساباً) أي ثواب حساب، قال الزجاج كانوا لا يؤمنون بالبعث فيرجون حسابهم. والجملة مستأنفة وتعليل لاستحقاقهم الجزاء المذكور.(15/39)
وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا (28)
(وكذبوا بآياتنا كذاباً) أي كذبوا بالآيات القرآنية أو كذبوا بما هو أعم منها تكذيباً شديداً، وفعال من مصادر التفعيل قال الفراء هي لغة فصيحة يمانية تقول كذبت كذاباً وخرقت القميص خراقاً.
قال في الصحاح هو أحد مصادر المشدد لأن مصدره قد يجيء على تفعيل مثل التكليم وعلى فعال مثل كذاب، وعلى تفعلة مثل توصية، وعلى مفعل مثل ومزقناهم كل ممزق.
وقرأ الجمهور كذاباً بالتشديد وقرأ علي بن أبي طالب كرم الله وجهه بالتخفيف، قال أبو علي الفارسي التخفيف والتشديد جميعاً مصدر المكاذبة، وقرأ ابن عمر كذاباً بضم الكاف والتشديد جمع كاذب، قال أبو حاتم ونصبه على الحال، قال الزمخشري وقد يكون يعني على هذه القراءة بمعنى الواحد البليغ في الكذب تقول رجل كذاب كقولك حسان وبخال.(15/39)
قرأ الجمهور(15/40)
وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا (29)
(وكل شيء) بالنصب على الاشتغال أي وأحصينا كل شيء (أحصيناه) وقرأ أبو السماك برفعه على الابتداء وما بعده خبره، وهذه الجملة معترضة بين السبب والمسبب، وفائدة الاعتراض تقرير ما ادعاه من قوله (جزاء وفاقاً).
وفي انتصاب قوله: (كتاباً) أوجه.
أحدها: أنه مصدر من معنى أحصينا أي إحصاء فالتجوز في نفس المصدر.
والثاني: أنه مصدر لأحصينا لأنه في معنى كتبنا، فالتجوز في نفس الفعل أي لالتقاء الإحصاء والكتب في معنى الضبط والتحصيل.
والثالث: أن يكون منصوباً على الحال أي مكتوباً في اللوح لتعرفه الملائكة، وقيل أراد ما كتبته الحفظة على العباد من أعمالهم، وقيل المراد به العلم لأن ما كتب كان أبعد من النسيان، والأول أولى لقوله: (وكل شيء أحصيناه في إمام مبين).(15/40)
فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا (30)
(فذوقوا فلن نزيدكم إلا عذاباً) هذه الجملة مسببة عن كفرهم وتكذيبهم بالآيات، والأمر أمر إهانة وتحقير، قال الرازي هذه الفاء للجزاء فنبه على أن الأمر بالذوق معلل بما تقدم شرحه من قبائح أفعالهم ومن الزيادة في عذابهم أنها كلما نضجت جلودهم بدلهم الله جلوداً غيرها وكلما خبت النار زادهم الله سعيراً، قيل هذه أشد آية في القرآن على أهل النار كلما استغاثوا من نوع من العذاب أغيثوا بأشد منه.
قال الرازي وفي هذه الآية مبالغات منها التأكيد بلن، ومنها الالتفات، ومنها إعادة قوله فذوقوا بعد ذكر العذاب.(15/40)
إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا (31) حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا (32) وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا (33) وَكَأْسًا دِهَاقًا (34) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا (35) جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا (36) رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا (37) يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا (38) ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا (39) إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا (40)(15/41)
إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا (31)
(إن للمتقين مفازاً) هذا شروع في بيان حال المؤمنين وما أعد الله لهم من الخير بعد بيان حال الكافرين وما أعد الله لهم من الشر، والمفاز مصدر بمعنى الفوز والظفر بالبغية والمطلوب والنجاة من النار، ومنه قيل للفلاة مفازة تفاؤلاً بالخلاص منها، ويصلح أن يراد به الجنة على أنه مصدر ميمي بمعنى المكان أو بمعنى الحدث ويحتمل أن يفسر الفوز بالأمرين جميعاً، لأنهم فازوا بمعنى نجوا من العذاب، وفازوا بما حصل لهم من النعيم، وفي المختار الفوز النجاة، وهو الهلاك أيضاًً، وعلى هذا فإطلاق المفازة على الفلاة الخالية من الماء حقيقي لأنها مهلكة، ومن معاني الفوز الهلاك كما رأيت وبابهما قال:
ثم فسر سبحانه هذا المفاز فقال:(15/41)
حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا (32)
(حدائق وأعناباً) وانتصابهما على أنهما بدل اشتمال من (مفازاً) أو بدل كل من كل على طرق المبالغة بجعل نفس هذه الأشياء مفازاً، ويجوز أن يكون النصب بإضمار أعني وإذا كان مفازاً بمعنى الفوز فيقدر مضاف أي فوز حدائق، وهي جمع حديقة وهي البستان المحوط عليه فيه أنواع الشجر المثمر، والأعناب جمع عنب أي كروم أعناب، والتكرير يدل على تعظيم ذلك العنب.
قال المحلي (وأعناباً) عطف على مفاز أي ذكرت بعد الحدائق تنويهاً لعظم شأنها وإلا فهي من جملة الحدائق، قال القاري وهذا بعيد جداً والظاهر(15/41)
عطفه على حدائق وكذا كواعب وكأساً انتهى.(15/42)
وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا (33)
(وكواعب أتراباً) الكواعب جمع كاعبة وهي الناهدة قال ابن عباس أي نواهد، يقال كعبت الجارية تكعب تكعيباً وكعوباً، ونهدت تنهد نهوداً، والمراد أن لهم نساء كواعب تكعبت ثديهن وتفلكت حتى صارت كالكعب في صدورهن، أي استدارت مع ارتفاع يسير، قال الضحاك الكواعب العذارى، والأتراب الأقران في السن، وقد تقدم تحقيقه في سورة البقرة، وقال ابن عباس أي لدات مستويات.(15/42)
وَكَأْسًا دِهَاقًا (34)
(وكأساً دهاقاً) قال الحسن وقتادة وابن زيد: أي مترعة مملوءة، يقال أدهقت الكأس أي ملأتها، وقال سعيد بن جبير وعكرمة ومجاهد (دهاقاً) متتابعة يتبع بعضها بعضاً، وقال زيد بن أسلم: دهاقاً صافية، قال ابن عباس: دهاقاً ممتلئاً، وعنه قال: هي الممتلئة المترعة المتتابعة، وربما سمعت العباس يقول يا غلام إسقنا وأدهق لنا. وعنه قال (دهاقاً) دراكاً، وعنه قال إذا كان فيها خمر فهي كأس، وإذا لم تكن فيها خمر فليس بكأس.(15/42)
لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا (35)
(لا يسمعون) حال من المتقين (فيها) أي في الجنة عند شرب الخمر وغيره من الأحوال (لغواً) وهو الباطل منِ الكلام (ولا كذاباً) أي لا يكذب بعضهم بعضاً قرأ الجمهور كذاباً مشدداً وقرأ الكسائي هنا مخففاً، ووافق الجماعة على التشديد في الآية المتقدمة للتصريح بفعله المشدد هناك، وقد قدمنا الخلاف في كذاباً هل هو من مصادر التفعيل أو من مصادر المفاعلة.(15/42)
جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا (36)
(جزاء من ربك) أي جازاهم بما تقدم ذكره جزاء، قال الزجاج: المعنى جزاهم جزاء أي بمقتضى وعده وكذا (عطاء) أي وأعطاهم عطاء تفضلاً منه، إذ لا يجب عليه شيء، وقيل عطاء بدل من جزاء أي بدل كل من كل، وفي إبداله منه نكتة لطيفة، وهي الدلالة على أن بيان كونه عطاء وتفضلاً منه هو المقصود وبيان كونه جزاء وسيلة له.(15/42)
(حساباً) قال أبو عبيدة كافياً فهو مصدر أقيم مقام الوصف أو باق على مصدريته مبالغة أو هو على حذف مضاف، وقال ابن قتيبة كثيراً، يقال أحسبت فلاناً أي أكثرت له العطاء. قال الزجاج حساباً أي ما يكفيهم قال الأخفش يقال أحسبني كذا أي كفاني.
قال الكلبي حاسبهم فأعطاهم بالحسنة عشراً وقال مجاهد حساباً لما عملوه، فالحساب بمعنى القدر أي بقدر ما وجب له. في وعد الرب سبحانه فإنه وعد للحسنة عشراً، ووعد لقوم سبعمائة ضعف، وقد وعد لقوم جزاء لا نهاية له ولا مقدار كقوله: (إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب).
وقرأ أبو هاشم حساباً بفتح الحاء وتشديد السين أي كفافاً قال الأصمعي تقول العرب حسبت الرجل بالتشديد إذا أكرمته، وفي القاموس حسبك درهم كفاك، وشيء حساب كاف ومنه (عطاء حساباً) وأحسبه كفاه وقرأ ابن عباس حساناً بالنون.(15/43)
رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا (37)
(رب السموات والأرض وما بينهما الرحمن) قرىء بخفض رب والرحمن على أن رب بدل من ربك والرحمن صفة له، وقرىء برفعهما على أن رب مبتدأ والرحمن خبره أو الرحمن صفته ولا يملكون خبره أو على أن رب خبر مبتدأ مقدر أي هو رب، والرحمن صفته، أو على أن رب مبتدأ والرحمن مبتدأ ثان ولا يملكون خبر المبتدأ الثاني، والجملة خبر المبتدأ الأول.
وقرأ ابن عباس وحمزة والكسائي بخفض الأول ورفع الثاني على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هو الرحمن، واختار هذه القراءة أبو عبيدة، وقال هذه أعدلها فخفض رب لقربه من ربك فيكون نعتاً له، ورفع الرحمن لبعده منه على الاستئناف، وخبره قوله:
(لا يملكون) أي الخلق (منه) تعالى أن يسألوا إلا فيما أذن لهم فيه (خطاباً) بالشفاعة إلا بإذنه، وقيل الخطاب الكلام أي لا يملكون أن يخاطبوا الرب سبحانه خوفاً إلا بإذنه، دليله (لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ) وقيل(15/43)
أراد الكفار وأما المؤمنون فيشفعون، والجملة مستأنفة مقررة لما تفيده الربوبية العامة من العظمة والكبرياء.(15/44)
يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا (38)
(يوم يقوم الروح والملائكة) الظرف منتصب بلا يملكون أو بلا يتكلمون وقوله (صفاً) منتصب على الحال أي مصطفين أو على المصدرية أي يصفون صفاً، والجملة حالية أو مستأنفة لتقرير ما قبله.
واختلف في الروح على أقوال ثمانية فقيل أنه ملك من الملائكة أعظم من السموات السبع ومن الأرضين السبع ومن الجبال، وقيل هو جبريل، قاله الشعبي والضحاك وسعيد بن جبير، وقيل الروح جند من جنود الله ليسوا بملائكة قاله أبو صالح ومجاهد، وعن ابن عباس مثله مرفوعاً وزاد لهم رؤوس وأيد وأرجل ثم قرأ هذه الآية، وقال هؤلاء جند وهؤلاء جند، أخرجه ابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه، وقيل هم أشراف الملائكة، قاله مقاتل بن حيان، وقيل هم حفظة على الملائكة قاله ابن أبي نجيح.
وقيل هم بنو آدم قاله الحسن وقتادة، وقيل هم أرواح بني آدم تقوم صفاً وتقوم الملائكة صفاً وذلك بين النفختين قبل أن ترد إلى الأجسام، قاله عطية العوفي، وقيل إنه القرآن قاله زيد بن أسلم، وقال ابن عباس هو ملك من أعظم الملائكة خلقاً.
وعن ابن مسعود قال: الروح في السماء الرابعة وهو أعظم من السموات والجبال ومن الملائكة يسبح كل يوم اثني عشر ألف تسبيحة يخلق من كل تسبيحة ملكاً من الملائكة يجيء يوم القيامة صفاً واحداً (1)، أخرجه ابن جرير، وعن ابن عباس قال: (إن جبريل يوم القيامة لقائم بين يدي الجبار ترعد فرائصه فرقاً من عذاب الله يقول سبحانك لا إله إلا أنت ما
_________
(1) ذكره السيوطي في " الدر " 6/ 309 من رواية ابن أبي حاتم وأبي الشيخ في " العظمة " وابن مردويه عن ابن عباس، والله أعلم بصحة سنده. وقد ذكر ابن كثير هذا المعنى عن ابن عباس موقوفاً عليه، وذكره ابن كثير والشوكاني عن مجاهد وأبي صالح، ولعله مما تلقاه ابن عباس من الإسرائيليات. والله أعلم.(15/44)
عبدناك حق عبادتك ما بين منكبيه كما بين المشرق والمغرب، أما سمعت قول الله:
(يوم يقوم الروح والملائكة صفاً) (1) أخرجه أبو الشيخ، وعنه قال
يقول حين تقوم أرواح الناس مع الملائكة فيما بين النفختين قبل أن ترد الروح إلى الأجساد، أخرجه البيهقي في الأسماء والصفات.
(لا يتكلمون) أي الخلائق ثم خوفاً وإجلالاً لعظمة الله جل جلاله من هول ذلك اليوم ولا يشفعون لأحد (إلا من أذن له الرحمن) بالشفاعة أو لا يتكلمون إلا في حق من أذن له الرحمن.
(و) كان ذلك الشخص ممن (قال صواباً) قال الضحاك ومجاهد: صواباً يعني حقاً وقال أبو صالح: لا إله إلا الله، وبه قال ابن عباس، وأصل الصواب السداد من القول والفعل، قيل لا يتكلمون يعني الملائكة والروح الذين قاموا صفاً هيبة وإجلالاً إلا من أذن له الرحمن منهم في الشفاعة، وهم قد قالوا صواباً، قال الحسن: إن الروح يقول يوم القيامة لا يدخل أحد الجنة إلا بالروح، ولا النار إلا بالعمل.
قال الواحدي: فهم لا يتكلمون يعني الخلق كلهم إلا من أذن له الرحمن وهم المؤمنون والملائكة، وقال في الدنيا صواباً أي شهد بالتوحيد.
قال البيضاوي: قوله لا يتكلمون الخ تقرير وتأكيد لقوله: (لا يملكون) فإن هؤلاء الذين هم أفضل الخلائق وأقربهم من الله إذ لم يقدروا أن يتكلموا بما يكون صواباً كالشفاعة لمن ارتضى إلا بإذنه فكيف يملكه غيرهم.
والإشارة بقوله:
_________
(1) روى هذا المعنى ابن جرير الطبري في " تفسيره " 30/ 22 عن ابن مسعود قال ابن كثير: وهذا قول غريب جداً.(15/45)
ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا (39)
(ذلك) إلى يوم قيامهم على تلك الصفة وهو مبتدأ وخبره (اليوم الحق) أي الكائن الواقع المتحقق الثابت وقوعه (فمن شاء اتخذ إلى ربه مآباً) أي مرجعاً يرجع إليه بالعمل الصالح لأنه إذا عمل خيراً(15/45)
قربه إلى الله، وإذا عمل شراً باعده منه، قال قتادة مآباً سبيلاً.
قال أبو السعود: الفاء فصيحة تفصح عن شرط محذوف ومفعول المشيئة محذوف، وقوله: (إلى ربه) أي إلى ثوابه، وهو متعلق بمآباً كأنه قيل وإذا كان الأمر كما ذكر من تحقق اليوم المذكور لا محالة فمن شاء أن يتخذ مرجعاً إلى ثواب ربه الذي ذكر شأنه العظيم فعل ذلك بالإيمان والطاعة، وتعلق الجار به لما فيه من معنى الإفضاء والإيصال انتهى.
ثم زاد سبحانه في تخويف الكفار فقال:(15/46)
إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا (40)
(إنا أنذرناكم) يا كفار مكة (عذاباً قريباً) يعني العذاب في الآخرة وكل ما هو آت فهو قريب، ومثله قوله: (كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها) كذا قال الكلبي وغيره، وقال قتادة هو عذاب الدنيا لأنه أقرب العذابين، قال مقاتل هو قتل قريش ببدر، والأول أولى لقوله:
(يوم ينظر المرء) أي كل امرىء مسلماً كان أو كافراً (ما قدمت يداه) أي يشاهد كل ما قدمه من خير أو شر لقوله: (ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (181) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ) وتخصيص الأيدي لأن أكثر الأعمال يقع بها، وإن احتمل أن لا يكون للأيدي مدخل فيما ارتكب من الآثام، و " ما " موصولة أو استفهامية قال الحسن والمرء هنا هو المؤمن أي يجد لنفسه عملاً، فأما الكافر فلا يجد لنفسه عملاً فيتمنى أن يكون تراباً، وقيل المراد به الكافر على العموم، وقيل أبيّ بن خلف وعقبة بن أبي معيط، والأول أولى لقوله:
(ويقول الكافر يا ليتني كنت تراباً) فإن الكافر واقع في مقابلة المرء. والمراد جنس الكافر يتمنى أن يكون تراباً لما يشاهده مما قد أعده الله له من أنواع العذاب. والمعنى أنه يتمنى أنه كان تراباً في الدنيا فلم يخلق ولم يكلف، أو تراباً يوم القيامة فلم يبعث، وقيل المراد بالكافر أبو جهل، وقيل أبو سلمة بن عبد الأسد المخزومي، وقيل إبليس، والأول أولى اعتباراً بعموم اللفظ ولا ينافيه خصوص السبب كما تقدم غير مرة، ووضع الظاهر موضع(15/46)
المضمر لزيادة الذم.
عن أبي هريرة: " قال يحشر الخلق كلهم يوم القيامة البهائم والدواب والطير وكل شيء فيبلغ من عذاب الله أن يؤخذ للجمَّاء من القرناء ثم يقول كوني تراباً فذلك حين يقول الكافر يا ليتني كنت تراباً " أخرجه عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في البعث والنشور.
وأما الجن فقال أبو الزناد يعودون تراباً أيضاًً. وقال عمر بن عبد العزيز ومجاهد وغيرهما مؤمنو الجن حول الجنة في ربض ورحاب وليسوا فيها، والذي عليه الأكثرون أنهم مكلفون مثابون ومعاقبون، فالمؤمن يدخل الجنة، والكافر يدخل النار كبني آدم، ذكره الخطيب والله أعلم بالصواب.(15/47)
سورة النازعات
وتسمى سورة الساهرة خمس أو ست وأربعون آية وهي مكية بلا خلاف قال ابن عباس نزلت بمكة وعن ابن الزبير مثله.(15/49)
بسم الله الرحمن الرحيم
وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا (1) وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا (2) وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا (3) فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا (4) فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا (5) يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (7)(15/51)
وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا (1)
(وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا) أقسم سبحانه بهذه الأشياء التي ذكرها وهي الملائكة التي تنزع أرواح العباد عن أجسادهم كما ينزع النازع في القوس فيبلغ بها غاية المد، وكذا المراد بالناشطات والسابحات والسابقات والمدبرات، يعني الملائكة (1)، والعطف مع اتحاد الكل لتنزيل التغاير الوصفي منزلة التغاير الذاتي، وإنما جاءت هذه الأقسام بلفظ التأنيث والكل وصف للملائكة مع أنهم ليسوا إناثاً لأن المقسم به طوائف من الملائكة، والطوائف جمع طائفة وهي مؤنثة، وهذا قول الجمهور من الصحابة والتابعين ومن بعدهم.
وقال السدي: النازعات هي النفوس حين تغرق في الصدور، وقال مجاهد: هي الموت ينزع النفس، وقال قتادة: هي النجوم تنزع من أفق إلى أفق، من قولهم نزع إليه إذا ذهب، أو من قولهم نزعت بالحبل أي أنها تغرب وتغيب وتطلع من أفق آخر، وبه قال أبو عبيدة والأخفش وابن كيسان.
وقال عطاء وعكرمة: النازعات القسي تنزع بالسهام، وإغراق النازع في القوس أن يمده غاية المد حتى ينتهي به إلا النصل، وقيل أراد بالنازعات
_________
(1) ذكر ابن كثير أن الصحيح في قوله: (والنازعات غرقاً): الملائكة، قال: يعنون حين تنزع أرواح بني آدم، فمنهم من تأخذ روحه بعسر فتغرقه في نزعها، ومنهم من تأخذ روحه بسهولة وكأنما حلته من نشاط، وهو قوله: (والناشطات نشطاً).(15/51)
الغزاة الرماة، وانتصاب غرقاً على أنه مصدر محذوف الزوائد أي إغراقاً، والناصب له ما قبله لملاقاته له في المعنى أي إغراقاً في النزع حيث تنزعها من أقاصي الأجساد، أو على الحال أي ذوات إغراق يقال أغرق في الشيء يغرق فيه إذا أوغل فيه وبلغ غايته، وعن علي قال: هي الملائكة تنزع أرواح الكفار، وعن ابن عباس قال: هي أنفس الكفار تنزع ثم تنشط ثم تغرق في النار وقال ابن مسعود الملائكة الذين يلون أنفس الكفار.(15/52)
وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا (2)
(و) معنى (الناشطات نشطاً) أنها تنشط النفوس أن تخرجها من الأجساد كما ينشط العقال من يد البعير إذا حل عنه حلاً رفيقاً، ونشط الرجل الدلو في البئر إذا أخرجها، والنشاط الجذب بسرعة، ومنه الأنشوطة للعقدة التي يسهل حلها.
قال أبو زيد نشطت الحبل أنشطه نشطاً عقدته، وأنشطته أي حللته وأنشطت الحبل أي مددته، قال الفراء أنشط العقال أي حل ونشط أي ربط الحبل في يديه، قال الأصمعي بئراً نشاط أي قريبة القعر يخرج الدلو منها بجذبة واحدة، وبئر نشوط وهي التي لا يخرج منها الدلو حتى ينشط كثيراً، وقال مجاهد هو الموت ينشط نفس الإنسان، وبه قال ابن عباس، وقال السدي: هي النفوس حين تنشط من القدمين، وقال عكرمة وعطاء: هي الأوهاق التي تنشط السهام، وقال قتادة والحسن والأخفش هي النجوم تنشط من أفق إلى أفق أي تذهب.
قال في الصحاح والناشطات نشطاً يعني النجوم من برج إلى برج كالثور الناشط من بلد إلى بلد والهموم تنشط بصاحبها، وقال أبو عبيدة وقتادة هي الوحوش حين تنشط من بلد إلى بلد، وقيل الناشطات لأرواح المؤمنين والنازعات لأرواح الكافرين لأنها تجذب روح المؤمن برفق، وتجذب روح الكافر بعنف.
وقوله نشطاً مصدر وكذا سبحاً وسبقاً، قال علي: هي الملائكة تنشط(15/52)
أرواح الكفار ما بين الأظفار والجلد حتى تخرجها، وعن معاذ بن جبل قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " لا تمزق الناس فتمزقك كلاب النار، قال الله والناشطات نشطاً أتدري ما هو؟ قلت يا نبي الله ما هو؟ قال: كلاب في النار تنشط اللحم والعظم " أخرجه ابن مردويه.(15/53)
وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا (3)
(والسابحات سبحاً) هي الملائكة تسبح في الأبدان لإخراج الأرواح كما يسبح الغواص في البحر لإخراج شيء منه، يعني الملائكة يقبضون أرواح المؤمنين يسلونها سلاً رفيقاً ثم يدعونها حتى تستريح ثم يستخرجونها كالسابح في الماء يتحرك فيه برفق ولطافة.
وقال مجاهد وأبو صالح: هي الملائكة ينزلون من السماء مسرعين لأمر الله كما يقال للفرس الجواد سابح إذا أسرع في جريه، وقال مجاهد: أيضاًً السابحات الموت يسبح في نفوس بني آدم، وقيل هي الخيل السابحة في الغزو، وقال قتادة والحسن هي النجوم تسبح في أفلاكها كما في قوله: (وكل في فلك يسبحون) وقال عطاء هي السفن تسبح في الماء. وقيل هي أرواح المؤمنين تسبح شوقاً إلى الله، وقال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه هي الملائكة تسبح بأرواح المؤمنين بين السماء والأرض.(15/53)
فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا (4)
(فالسابقات سبقاً) هم الملائكة على قول الجمهور كما سلف، قال مسروق ومجاهد: تسبق الملائكة الشياطين بالوحي إلى الأنبياء، وقال أبو روق هي الملائكة سبقت ابن آدم بالخير والعمل الصالح. وروي نحوه عن مجاهد، وقال مقاتل هي الملائكة تسبق بأرواح المؤمنين إلى الجنة، وقال الربيع هي أنفس المؤمنين تسبق إلى الملائكة شوقاً إلى الله، وقال علي كرم الله وجهه: هي الملائكة يسبق بعضها بعضاً بأرواح المؤمنين إلى الله تعالى، وقال مجاهد: أيضاًً هو الموت يسبق الإنسان، وقال قتادة والحسن ومعمر: هي النجوم يسبق بعضها في السير بعضاً.
وقال عطاء: هي الخيل التي تسبق إلى الجهاد، وقيل هي الأرواح التي تسبق الأجساد إلى الجنة أو النار.(15/53)
قال الجرجاني عطف السابقات بالفاء لأنها مسببة عن التي قبلها أي واللاتي يسبحن فيسبقن. تقول قام فذهب، فهذا يوجب أن يكون القيام سبباً للذهاب، ولو قلت قام وذهب بالواو، لم يكن القيام سبباً للذهاب، قال الواحدي: وهذا غير مطرد في قوله الآتي:(15/54)
فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا (5)
(فالمدبرات أمراً) لأنه يبعد أن يجعل السبق سبباً للتدبير.
قال الرازي ويمكن الجواب عما قاله الواحدي بأنها لما أمرت سبحت فسبقت فدبرت ما أمرت بتدبيره، فتكون هذه أفعالاً يتصل بعضها ببعض، كقوله قام زيد فذهب فضرب عمراً.
ولما سبقوا في الطاعات وسارعوا إليها ظهرت أمانتهم ففوض إليهم التدبير.
ويجاب عنه بأن السبق لا يكون سبباً للتدبير كسببية السبح للسبق، والقيام للذهاب ومجرد الإتصال لا يوجب السببية والمسببية.
والأولى أن يقال العطف بالفاء في المدبرات طوبق به ما قبله من عطف السابقات بالفاء ولا يحتاج إلى نكتة كما احتاج إليها ما قبله لأن النكتة إنما تطلب لمخالفة اللاحق للسابق لا لمطابقته وموافقته.
(فالمدبرات أمراً) قال علي هي الملائكة تدبر أمر العباد من السنة إلى السنة. وعنه يدبرون ذكر الرحمن وأمره، وقال ابن عباس ملائكة يكونون مع ملك الموت يحضرون الموتى عند قبض أرواحهم فمنهم من يعرج بالروح، ومنهم من يؤمن على الدعاء، ومنهم من يستغفر للميت حتى يصلى عليه ويدلى في حفرته، قال القشيري أجمعوا على أن المراد هنا الملائكة.
وقال الماوردي فيه قولان: (أحدهما) الملائكة وهو قول الجمهور، والثاني إنها الكواكب السبع، حكاه خالد بن معدان عن معاذ بن جبل، وفي تدبيرها الأمر وجهان (أحدهما) تدبر طلوعها وأفولها (الثاني) تدبر ما قضاه الله فيها من الأحوال.(15/54)
ومعنى تدبير الملائكة للأمر نزولها بالحلال والحرام وتفصيلهما والفاعل للتدبير في الحقيقة وإن كان هو الله عز وجل لكن لما نزلت الملائكة به وصفت به، وقيل إن الملائكة لما أمرت بتدبير أهل الأرض في الرياح والأمطار وغير ذلك قيل لها مدبرات.
قال عبد الرحمن بن ساباط تدبير أمر الدنيا إلى أربعة من الملائكة جبريل وميكائيل وعزرائيل وإسرافيل، أما جبريل فموكل بالرياح والجنود، وأما ميكائيل فموكل بالقطر والنبات، وأما عزرائيل فموكل بقبض الأنفس، وأما إسرافيل فهو ينزل بالأمر عليهم.
وجواب القسم بهذه الأمور التي أقسم الله بها محذوف أي والنازعات وكذا وكذا لتبعثن. قال الفراء وحذف لمعرفة السامعين به ويدل عليه قوله (أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً) وقيل إن جواب القسم لقوله (إن في ذلك لعبرة لمن يخشى) أي أن في يوم القيامة وذكر موسى وفرعون لعبرة لمن يخشى، قال ابن الأنباري وهذا قبيح لأن الكلام قد طال بينهما.
وقيل جواب القسم (هل أتاك حديث موسى) لأن المعنى قد أتاك وهذا ضعيف جداً.
وقيل الجواب(15/55)
يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6)
(يوم ترجف الراجفة) على تقدير ليوم ترجف الراجفة تتبعها الرادفة.
قال السجستاني: يجوز أن يكون هذا من التقديم والتأخير كأنه قال فإذا هم بالساهرة والنازعات، قال ابن الأنباري وهذا خطأ لأن الفاء لا يفتتح بها الكلام والأول أولى.
وقال الكرخي الفاء فيهما للدلالة على ترتبهما بغير مهلة، وهو من عطف المقسم به والمعطوف بالواو من عطف الصفات بعضها على بعض، والعطف مع اتحاد الكل بتنزيل التغاير العنواني منزلة التغاير الذاتي للإشعار بأن كل واحد من الأوصاف المعدودة من معظمات الأمور حقيق بأن يكون على حياله(15/55)
مناطاً لاستحقاق موصوفه للإجلال والإعظام بالإقسام به من غير انضمام الأوصاف الأخر إليه.
(يوم ترجف الراجفة) انتصاب هذا الظرف بالجواب المقدر للقسم أو بإضمار اذكر، والراجفة المضطربة، يقال رجف يرجف إذا اضطرب، والمراد هنا الصيحة العظيمة التي فيها تردد واضطراب كالرعد وهي النفخة الأولى التي يموت بها جميع الخلائق، قاله ابن عباس.(15/56)
تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (7)
(تتبعها الرادفة) هي النفخة الثانية التي تكون عند البعث، قاله ابن عباس وبينهما أربعون سنة، فاليوم واسع للنفختين وغيرهما فصح ظرفيته للبعث الواقع عقب الثانية، وسميت رادفة لأنها ردفت النفخة الأولى، كذا قال جمهور المفسرين وقال ابن زيد: الراجفة الأرض، والرادفة الساعة، وقال مجاهد الراجفة الزلزلة تتبعها المرادفة الصيحة، وقيل الراجفة اضطراب الأرض والرادفة الزلزلة.
وأصل الرجفة الحركة، وليس المراد التحرك هنا فقط بل الراجفة هنا مأخوذة من قولهم رجف الرعد يرجف رجفاً ورجيفاً إذا ظهر صوته، ومنه سميت الأراجيف لإضطراب الأصوات بها وظهور الأصوات فيها، ومحل تتبعها الرادفة النصب على الحال من الراجفة.
والمعنى لتبعثن يوم النفخة الأولى حال كون النفخة الثانية تابعة لها، وعن أبيّ بن كعب قال: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذهب ربع الليل قام فقال: يا أيها الناس اذكروا الله جاءت الراجفة تتبعها الرادفة، جاء الموت بما فيه " أخرجه أحمد والترمذي وحسنه والحاكم وصححه وغيرهم.
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ترجف الأرض رجفاً وتزلزل بأهلها وهي التي يقول الله (يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ) يقول مثل السفينة في البحر تكفأ بأهلها مثل القنديل المعلق بأرجائها. أخرجه أبو الشيخ وابن مردويه والديلمي.(15/56)
قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ (8) أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ (9) يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ (10) أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً (11) قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ (12) فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ (13) فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (14) هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (15) إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (16) اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (17) فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى (18) وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى (19)(15/57)
قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ (8)
(قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ) قلوب مبتدأ ويومئذ منصوب بواجفة. وواجفة صفة لقلوب وهو المسوغ للإبتداء بالنكرة أي قلوب مضطربة خائفة قلقة خافقة لما عاينت من أهوال يوم القيامة، قال جمهور المفسرين. أي خائفة وجلة، وقال ابن عباس: وجلة متحركة، وقال السدي زائلة عن أماكنها نظيره (إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ) وقال المؤرج: قلقة مستوفزة، وقال المبرد: مضطربة يقال وجف القلب يجف وجيفاً إذا خفق كما يقال وجب يجب وجيباً، والإيجاف السير السريع فأصل الوجيف إضطراب القلب، وقال ابن عباس: خائفة.(15/57)
أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ (9)
(أبصارها) مبتدأ ثان وخبره (خاشعة) والجملة خبر الأول، في الكلام حذف مضاف تقديره أبصار أصحاب القلوب ذليلة، والضمير راجع إلى أصحاب القلوب فهو من الإستخدام والمراد أنها تظهر عليهم الذلة والخشوع عند معاينة أهوال يوم القيامة، كقوله (خاشعين من الذل) قال عطاء يريد أبصار من مات على غير الإسلام ويدل على هذا أن السياق في منكري البعث.(15/57)
يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ (10)
(يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ) هذا حكاية لما يقوله المنكرون للنعت في الدنيا إستهزاء وإنكاراً للبعث إذا قيل لهم أنكم تبعثون، أي أنرد إلى أول حالنا وإبتداء أمرنا فنصير أحياء بعد موتنا، يقال رجع فلان في حافرته أي رجع من حيث جاء والحافرة عند العرب إسم لأول الشيء وإبتداء الأمر، ومنه قولهم رجع فلان على حافرته أي على الطريق الذي جاء منه، يقال النقد عند(15/57)
الحافرة أي عند الحالة الأولى وهي الصفقة، ويقال اقتتل القوم عند الحافرة أي عند أول ما التقوا، وسميت الطريق التي جاء منها حافرة لتأثيره فيها بمشيه فيها فهي حافرة بمعنى محفورة، وقيل الحافرة العاجلة.
والمعنى إنا لمردودون إلى الدنيا وقيل الحافرة جمع حافر بمعنى القدم أي أنمشي أحياء على أقدامنا ونطأ بها الأرض، وقيل فاعلة بمعنى مفعولة، وقيل على النسب أي ذات حفر، والمراد الأرض، وقيل الحافرة الأرض التي يحفر فيها قبورهم، والمعنى إنا لمردودون في قبورنا أحياء، كذا قال الخليل والفراء وبه قال مجاهد، وقال ابن زيد: الحافرة النار، واستدل بقوله (تلك إذاً كرة خاسرة) قال ابن عباس في الحافرة أي الحياة وعنه قال خلقاً جديداً، قرأ الجمهور في الحافرة، وقرأ أبو حيوة في الحفرة.
ثم زادوا في الاستبعاد بقولهم(15/58)
أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً (11)
(أئذا كنا عظاماً نخرة) أي بالية متفتتة يقال نخر العظم بالكسر إذا بلي، وهذا تأكيد لإنكار البعث أي كيف نرد أحياء ونبعث إذا كنا عظاماً نخرة، والعامل في " إذا " مضمر يدل عليه مردودون أي أئذا كنا عظاماً بالية نرد ونبعث مع كونها أبعد شيء من الحياة.
قرأ الجمهور نخرة، وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر ناخرة، واختار الأولى أبو عبيدة وأبو حاتم، والثانية الفراء وابن جرير وأبو معاذ النحوي.
قال أبو عمرو بن العلاء: الناخرة التي لم تنخر بعد أي لم تبل ولا بد أن تنخر، وقيل هما بمعنى، تقول العرب نخر الشيء فهو ناخر ونخر، وطمع فهو طامع وطمع ونحو ذلك، قال الأخفش هما جميعاً لغتان أيهما قرأت فحسن.
وقيل الناخرة التي أكلت أطرافها وبقيت أوساطها، والنخرة التي فسدت كلها، وقال مجاهد نخرة أي مرفوتة كما في قوله (رفاتاً) وقيل الناخرة المجوفة التي تمر فيها الريح فتنخر أي تصوت، وقد قرىء إذا كنا وأإذا كنا بالإستفهام وبعدمه.(15/58)
ثم ذكر سبحانه عنهم قولاً آخر قالوه فقال(15/59)
قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ (12)
(قالوا تلك إذاً كرة خاسرة) أي رجعة ذات خسران لما يقع على أصحابها من الخسران، والمعنى أنهم قالوا إن رددنا بعد الموت لنخسرن بما يصيبنا بعد الموت مما يقوله محمد، وهذا إستهزاء منهم، وقيل معنى خاسرة كاذبة أي ليست بكائنة كذا قال الحسن وغيره، وقال الربيع بن أنس: خاسرة على من كذب بها، وقال قتادة ومحمد بن كعب: أي لئن رجعنا بعد الموت لنخسرن بالنار، وإنما قالوا هذا لأنهم أوعدوا بالنار، والكرة الرجعة والجمع كرات.
وقوله(15/59)
فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ (13)
(فإنما هي زجرة واحدة) تعليل لما يدل عليه ما تقدم من استبعادهم لبعث العظام النخرة وإحياء الأموات، والمعنى لا تستبعدوا ذلك فإنما هي زجرة واحدة وكان ذلك الإحياء والبعث، والمراد بالزجرة الصيحة وهي النفخة الثانية التي يكون البعث بها، وقيل أن الضمير في (إنما هي) راجع إلى المرادفة المتقدم ذكرها التي يعقبها البعث وسميت هذه النفخة زجرة لأنه يفهم منها النهي عن التخلف والمنع منه، وعبارة الخطيب وعبر بالزجرة لأنها أشد من النهي لأنها صيحة لا يتخلف عنها القيام أصلاً.(15/59)
فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (14)
(فإذا هم بالساهرة) أي فإذا الخلائق الذين قد ماتوا ودفنوا أحياء على وجه الأرض، قال الواحدي المراد بالساهرة وجه الأرض وظاهرها في قول الجميع، قال الفراء سميمت بهذا الإسم لأن فيها نوم الحيوان وسهرهم، وقيل لأنه يسهر في فلاتها خوفاً منها فسميت بذلك، قال في الصحاح الساهرة وجه الأرض، ومنه قوله (فإذا هم بالساهرة) وقال الساهرة أرض بيضاء، وقيل أرض من فضة لم يعص الله فيها، وقيل الساهرة الأرض السابعة يأتي بها الله سبحانه فيحاسب عليها الخلائق.
وقال سفيان الثوري: الساهرة أرض الشام أو أرض مكة أو أرض القيامة، وقال قتادة هي جهنم، أي فإذا هؤلاء الكفار في جهنم، وإنما قيل لها ساهرة لأنهم لا ينامون فيها لاستمرار عذابهم، وقال ابن عباس هي وجه(15/59)
الأرض وفي لفظ الأرض كلها ساهرة.
وجملة(15/60)
هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (15)
(هل أتاك حديث موسى) مستأنفة مسوقة لتسلية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن تكذيب قومه، وأنه يصيبهم مثل ما أصاب من كان قبلهم ممن هو أقوى منهم، ومعنى (هل أتاك) قد جاءك وبلغك، وهذا على تقدير أن قد سمع من قصص فرعون وموسى ما يعرف به حديثهما، وعلى تقدير أن هذا أول ما نزل عليه في شأنهما فيكون المعنى على الإستفهام إذ لا وجه لحملة على الإقرار حينئذ أي هل أتاك حديثه؟ أنا أخبرك به.(15/60)
إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (16)
(إذ ناداه ربه بالواد المقدس طوى) الظرف متعلق بحديث لا بأتاك لاختلاف وقتيهما، وقد مضى من خبر موسى وفرعون في غير موضع ما فيه كفاية.
والواد المقدس المبارك المطهر غاية الطهر بتشريف الله له بإنزال النبوة فيه المفيضة للبركات، قال الفراء (طوى) واد بين المدينة ومصر سمي طوى لأنه طوى فيه الشر عن بني إسرائيل أو لأن موسى طواه بالليل إذ مر به فارتفع إلى أعلى الوادي، وقيل واد بالشام عند الصور بين أيلة ومصر، وهو معدول من طاو كما عدل عمر من عامر، قاله الفراء، قال: والصرف أحب إلي إذ لم أجد في المعدول نظيراً له.
وقيل طوى معناه بالعبرانية يا رجل فكأنه قيل يا رجل، وقيل المعنى أن الوادي المقدس بورك فيه مرتين والأول أولى، وقد مضى تحقيق القول فيه، قرىء طوى بالتنوين وتركه وهما سبعيتان، قال الجوهري طوى اسم موضع بالشام تكسر طاؤه وتضم ويصرف ولا يصرف، فمن صرفه جعله إسم واد ومكان وجعله نكرة، ومن لم يصرفه جعله بلدة وبقعة وجعله معرفة.(15/60)
اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (17)
(إذهب إلى فرعون) قيل هو على تقدير القول، وقيل هو تفسير للنداء أي ناداه نداء هو قوله إذهب، وقيل هو على حذف (أن) المفسرة ويؤيده قراءة ابن مسعود (أن اذهب) لأن في النداء معنى القول.(15/60)
وجملة (إنه طغى) تعليل للأمر أو لوجوب الإمتثال أي جاوز الحد في العصيان والفساد والتكبر والكفر بالله، قال الرازي ولم يبين أنه طغى في أي شيء فقيل تكبر على الله وكفر به، وقيل تكبر على الخلق واستعبدهم.(15/61)
فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى (18)
(فقل هل لك أن تزكى) أي قل له بعد وصولك إليه هل لك رغبة إلى التزكي وهو التطهر من الشرك، وأصله تتزكى، قرأ الجمهور بالتخفيف، وقرأ نافع وابن كثير بتشديد الزاي على إدغام التاء في الزاي.
قال أبو عمرو ابن العلاء معنى قراءة التخفيف تكون زكياً مؤمناً، ومعنى قراءة التشديد الصدقة، وفي الكلام مبتدأ مقدر تتعلق به إلى، والتقدير هل لك رغبة أو توجه أو سبيل إلى التزكي، ومثل هذا قولهم هل لك في الخير يريدون هل لك رغبة في الخير، وقال ابن عباس: هل لك أن تقول لا إله إلا الله، وقيل معناه هل لك أن تسلم وتصلح العمل، أمر عليه السلام أن يخاطبه بالإستفهام الذي معناه العرض ليستدعيه بالتلطف ويستنزله بالمداراة من عتوه، وهذا نوع تفصيل لقوله (فقولا له قولاً ليِّناً لعله يتذكر أو يخشى).(15/61)
وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى (19)
(وأهديك إلى ربك فتخشى) أي أرشدك إلى عبادته وتوحيده فتخشى عقابه، والفاء لترتيب الخشية على الهداية لأن الخشية لا تكون إلا من مهتد راشد، قال ابن عطاء الخشية أتم من الخوف، لأنها صفة العلماء في قوله تعالى (إنما يخشى الله من عباده العلماءُ) أي العلماء به رواه السلمي.
وعن الواسطي: أوائل العلم الخشية ثم الإجلال ثم الهيبة ثم التعظيم ثم الفناء (1) وعن بعضهم من تحقق بالخوف ألهاه خوفه عن كل مفروح به، وألزمه الكمد إلى أن يظهر له الأمن من خوفه، ذكره الكرخي.
_________
(1) الفناء اصطلاح صوفي لا يعرفه الإسلام.(15/61)
فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى (20) فَكَذَّبَ وَعَصَى (21) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى (22) فَحَشَرَ فَنَادَى (23) فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (24) فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى (25) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى (26) أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا (27) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (28) وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا (29) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (30) أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا (31) وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا (32) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (33)(15/62)
فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى (20)
(فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى) هذه الفاء هي الفصيحة لإفصاحها عن كلام محذوف يعني فذهب فقال له ما قال مما حكاه الله في غير موضع، وأجاب عليه بما أجاب إلى أن قال: إن كنت جئت بآية فأت بها فعند ذلك أراه الآية الكبرى.
واختلف فيها ما هي فقيل العصا، وقيل يده وقيل فلق البحر، وقيل هي جميع ما جاء به من الآيات التسع، والأول أولى ثم اليد، والأكثرون على أنه أراهما له، وأطلق عليهما الآية الكبرى لاتحادهما معنى أو أراد بالكبرى العصا وحدها لأنها كانت مقدمة على الأخرى.
ولا ينافي هذا قوله في الآية الأخرى (ولقد أريناه آياتنا كلها) وكل آياته كبرى لأن الإخبار هنا عما أراه له أول ملاقاته إياه وهو العصا واليد، ثم أردف ذلك برؤية الكل.
ولا مساغ لحمل الآية على مجموع معجزاته فإن ما عدا هاتين الآيتين من الآيات التسع إنما ظهر على يده عليه السلام بعد ما غلب السحرة على مهل في نحو من عشرين سنة كما في سورة الأعراف، ولا ريب في أن هذا مطلع القضية وأمر السحرة مترقب بعده.(15/62)
فَكَذَّبَ وَعَصَى (21)
(فكذب وعصى) أي فلما أراه الآية الكبرى كذب فرعون بموسى وبما جاء به وعصى الله عز وجل بعد ظهور الآية وتحقق الأمر فلم يطعه.(15/62)
ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى (22)
(ثم أدبر) أي تولى وأعرض عن الإيمان، وأتى بثم لأن إبطال الأمر ونقضه يقتضي زماناً طويلاً (يسعى) أي يعمل بالفساد في الأرض ويجتهد في معارضة ما جاء به موسى، وقيل أدبر هارباً من الحية يسعى خوفاً منها، وقال الرازي معنى أدبر يسعى أقبل يسعى كما يقال أقبل يفعل كذا أي أنشأ يفعل كذا فوضع أدبر موضع أقبل، لئلا يوصف بالإقبال، ويسعى حال من الضمير في أدبر.(15/63)
فَحَشَرَ فَنَادَى (23)
(فحشر) أي فجمع جنوده للقتال والمحاربة أو جمع السحرة للمعارضة أو جمع الناس للحضور ليشاهدوا ما يقع أو جمعهم ليمنعوه من الحية (فنادى(15/63)
فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (24)
فقال أنا ربكم الأعلى) أي قال لهم بصوت عال أو أمر من ينادي بهذا القول بعد ما قال له موسى ربي أرسلني إليك، والمعنى أنه لا رب فوقي، قال عطاء كان صنع لهم أصناماً صغاراً وأمرهم بعبادتها، وقال أنا رب أصنامكم، وقيل أراد بكونه ربهم أنه قائدهم وسائدهم والأول أولى لقوله في آية أخرى (ما علمت لكم من إله غيري).(15/63)
فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى (25)
(فأخذه الله نكال الآخرة والأولى) النكال نعت مصدر محذوف أي أخذه أخذ نكال أو هو مصدر لفعل محذوف أي أخذه الله فنكله نكال الآخرة والأولى، أو مصدر مؤكد لمضمون الجملة، ويجوز أن يكون انتصاب نكال على أنه مفعول له أي أخذه الله لأجل نكال، ويجوز أن ينتصب بنزع الخافض أي بنكال، ورجح الزجاج أنه مصدر مؤكد، قال لأن معنى أخذه الله نكل الله به فأخرج من معناه لا من لفظه.
وقال الفراء أي أخذه الله أخذاً نكالاً أي للنكال، والنكال اسم لما جعل نكالاً للغير أي عقوبة له، يقال نكل فلان بفلان إذا عاقبه وأصل الكلمة من الإمتناع، ومنه النكول عن اليمين، والنكل القيد، والمراد بنكال الآخرة عذاب النار، ونكال الأولى عذاب الدنيا بالغرق، وقال مجاهد عذاب أول عمره وآخره، وقال قتادة: الآخرة قوله (أنا ربكم الأعلى) والأولى تكذيبه لموسى، وقيل الآخرة قوله (أنا ربكم الأعلى) والأولى قوله (ما(15/63)
علمت لكم من إله غيري) قاله ابن عباس وكان بين الكلمتين أربعون سنة، قاله ابن عمرو (1).
_________
(1) قال ابن كثير: (فأخذه الله نكال الآخرة والأولى) أي: انتقم الله منه انتقاماً جعله به عبرة ونكالاً لأمثاله من المتمردين في الدنيا (ويوم القيامة بئس الوفد المرفود) كما قال تعالى: (وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار ويوم القيامة لا ينصرون) قال: وهذا هو الصحيح في معنى الآية أن المراد بقوله: (نكال الآخرة والأولى) أي الدنيا والآخرة.(15/64)
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى (26)
(إن في ذلك) أي فيما ذكر من قصة فرعون وما فعل به (لعبرة) عظيمة (لمن) شأنه أن (يخشى) الله ويتقيه ويخاف عقوبته ويحاذر غضبه.(15/64)
أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا (27)
(أأنتم أشد خلقاً أم السماء) أي أخلقكم بعد الموت وبعثكم أشد عندكم وفي تقديركم أم خلق السماء، والخطاب لكفار مكة والمقصود به التوبيخ لهم والتبكيت لأن من قدر على خلق السماء التي لها هذا الجرم العظيم، وفيها من عجائب الصنع وبدائع القدرة ما هو بيّن للناظرين، كيف يعجز عن إعادة الأجسام التي أماتها بعد أن خلقها أول مرة، ومثل هذا قوله سبحانه (لخلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس) وقوله (أليس الذي خلق السموات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم).
ثم بيّن سبحانه كيفية خلق السماء فقال (بناها) أي جعلها كالبناء المرتفع فوق الأرض(15/64)
رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (28)
(رفع سمكها) أي أعلاه في الهواء، وهذا بيان للبناء، أو جعل مقدار ذهابها وارتفاعها في سمت العلو رفيعاً مسيرة خمسمائة عام، يقال سمكت الشيء أي رفعته في الهواء وسمك الشيء سموكاً ارتفع قال الفراء كل شيء حمل شيئاًً من البناء أو غيره فهو سمك، وبناء مسموك وسنام سامك أي عال والسموكات السموات.
وقال ابن جزي: السمك غلظ السماء وهو الإرتفاع الذي بين السطح السفلي الأسفل الذي يلينا، وسطحها الأعلى الذي يلي ما فوقها، قال البغوي: رفع سمكها أي سقفها ولينظر ما المراد بسقفها، ويمكن أن يقال(15/64)
سقف كل سماء هو السماء التي فوقها كما أن السماء الدنيا سقف للأرض تأمل.
قال الكسائي والفراء والزجاج: تمّ الكلام عند قوله بناها لأنه من صلة السماء والتقدير أم السماء التي بناها فحذف التي، ومثل هذا الحذف جائز.
ومعنى (فسواها) جعلها مستوية الخلق معتدلة الشكل لا تفاوت فيها ولا اعوجاج ولا فطور، ولا فروج ولا شقوق(15/65)
وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا (29)
(وأغطش ليلها) الغطش الظلمة بلغة أنمار أي جعله مظلماً يقال أغطش الليل وأغطشه الله كما يقال أظلم الليل وأظلمه الله، ورجل أغطش وامرأة غطشى لا يهتديان.
قال الراغب وأصله من الأغطش وهو الذي في عينه عمش، ومنه فلاة غطشى لا يهتدى فيها والتغاطش التعامي، وأضاف الليل إلى السماء لأن الليل يكون بغروب الشمس، والشمس مضافة إلى السماء.
(وأخرج ضحاها) أي أبرز نهارها المضيء بإضاءة الشمس وعبر عن النهار بالضحى لأنه أشرف أوقاته وأطيبها، وأضافه إلى السماء لأنه يظهر بظهور الشمس، وهي منسوبة إلى السماء.(15/65)
وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (30)
(والأرض بعد ذلك) أي بعد خلق السماء (دحاها) بسطها يقال دحا يدحو دحوا ودحى يدحي دحياً أي بسط ومد فهو من ذوات الواو والياء فيكتب بالألف والياء ويقال لعش المنعامة أدحى لأنه مبسوط على الأرض، قال أمية ابن الصلت:
دحوت البلاد فسويتها ... وأنت على طيها قادر
قيل دحيت من مكة بعد خلق السماء بألفي عام (1).
_________
(1) قال ابن كثير 4/ 92: أما خلق الأرض، فقبل خلق السماء بالنص، وبهذا أجاب ابن عباس رضي الله عنهما فيما ذكره البخاري. انظر " صحيح البخاري " 8/ 427، 428. ثم قال ابن كثير 4/ 468: ولكن إنما دحيت الأرض بعد خلق السماء، بمعنى أنه أخرج ما كان فيها بالقوة إلى الفعل، قال: وهذا معنى قول ابن عباس وغير واحد، واختاره ابن جرير.(15/65)
ولا معارضة بين هذه الآية وبين ما تقدم في سورة فصلت من قوله (ثم استوى إلى السماء) بل الجمع بأنه سبحانه خلق الأرض أولاً غير مدحوة ثم خلق السماء ثم دحى الأرض، وقد قدمنا الكلام على هذا مستوفى هنالك، وقدمنا أيضاًً بحثاً في هذا في أول سورة البقرة عند قوله (هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً) وذكر بعض أهل العلم أن (بعد) بمعنى مع كما في قوله (عتل بعد ذلك زنيم) وقيل (بعد) بمعنى قبل كقوله (ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر) أي من قبل الذكر، والجمع الذي ذكرناه أولى وهو قول ابن عباس وغير واحد واختاره ابن جرير.
وعن ابن عباس أن رجلاً قال له آيتان في كتاب الله تخالف إحداهما الأخرى، فقال إنما أتيت من قبل رأيك قال اقرأ (قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ -حتى بلغ- ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ) وقوله (والأرض بعد ذلك دحاها) قال خلق الله الأرض قبل أن يخلق السماء ثم خلق السماء ثم دحى الأرض بعد ما خلق السماء وإنما قوله (دحاها) بسطها، وعنه قال دحاها أن أخرج منها الماء والمرعى وشقق فيها الأنهار وجعل فيها الجبال والرمال والسبل والآكام وما بينهما في يومين.
قرأ الجمهور بنصب الأرض على الاشتغال وقرىء بالرفع على الابتداء.
ثم فسر سبحانه الدحو فقال:(15/66)
أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا (31)
(أخرج منها ماءها ومرعاها) فجرت من الأرض الأنهار والبحار والعيون، والمرعى النبات الذي يرعى والمرعى مصدر سمي أي رعيها وهو في الأصل موضع الرعي، واستعير الرعي للإنسان على سبيل التجوز.
قال الشهاب: والمرعى ما يأكله الحيوان غير الإنسان فأريد به مجازاً(15/66)
مطلق المأكول للإنسان وغيره، فهو مجاز مرسل من باب استعمال المقيد في المطلق انتهى، وهو استعارة تصريحية حيث شبه أكل الناس برعي الدواب أو فيه جمع بين الحقيقة والمجاز، وقال الكرخي يجوز أن يكون استعارة معنوية.
والظاهر أنه تغليب لأن قوله الآتي (متاعاً لكم ولأنعامكم) وارد عليه ومن حقه أن تغلب ذوو العقول على الأنعام فعكس تجهيلاً لأن الكلام مع منكري الحشر بشهادة قوله (أأنتم أشد خلقاً) كما مر كأنه قيل أيها المعاندون الداخلون في زمرة البهائم الملزوزون في قرنها في تمتعكم بالدنيا وذهولكم عن الأخرى.
والجملة إما بيان وتفسير لدحاها لأن السكنى لا تتأتى بمجرد البسط بل لا بد من تسوية أمر المعاش من المأكل والمشرب، وإما في محل نصب على الحال.(15/67)
وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا (32)
(والجبال أرساها) أي أثبتها في الأرض وجعلها كالأوتاد للأرض لتثبت وتستقر وأن لا تميد بأهلها، قرأ الجمهور بنصب الجبال على الاشتغال، وقرىء بالرفع على الابتداء، قيل ولعل وجه تقديم ذكر إخراج الماء والمرعى على إرساء الجبال مع تقدم الارساء عليه الاهتمام بأمر المأكل والمشرب.(15/67)
مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (33)
(متاعاً) أي منفعة (لكم ولأنعامكم) من البقر والإبل والغنم، وانتصاب متاعاً على المصدرية أي متعكم بذلك متاعاً أو هو مصدر من عير لفظه لأن قوله (أخرج منها ماءها ومرعاها) بمعنى متع بذلك أو على أنه مفعول له أي فعل ذلك لأجل التمتع وإنما قال لكم ولأنعامكم لأن فائدة ما ذكر من الدحو وإخراج الماء والمرعى كائنة لهم ولأنعامهم، والمرعى يعم ما يأكله الناس والدواب.(15/67)
فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى (34) يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ مَا سَعَى (35) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى (36) فَأَمَّا مَنْ طَغَى (37) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى (39) وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41) يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا (42) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا (43) إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا (44) إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا (45) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا (46)(15/68)
فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى (34)
(فإذا جاءت الطامة) أي الداهية التي تعلو سائر الدواهي (الكبرى) أي العظمى التي تطم على سائر الطامات، فالوصف بالكبرى تأسيس لا تأكيد فهي أكبر من داهية فرعون، وهي قوله (أنا ربكم الأعلى).
وهذا شروع في بيان أحوال معادهم إثر بيان أحوال معاشهم، والفاء للدلالة على ترتب ما بعدها على ما قبلها كما ينبىء عنه لفظ المتاع، وفي الكرخي وخص ما هنا بالطامة موافقة لما قبله من داهية فرعون، ولذلك وصفت بالكبرى، موافقة لقوله (فأراه الآية الكبرى) بخلاف ما في عبس فإنه لم يتقدمه شيء من ذلك فخصت بالصاخة وإن شاركت الطامة في أنها النفخة الثانية لأنها الصوت الشديد والصوت يكون بعد الطم فناسب جعل الطم للسابقة، والصخ للاحاقة انتهى.
قال الحسن وغيره: هي النفخة الثانية، وقال الضحاك وغيره: هي القيامة سميت بذلك لأنها تطم على كل شيء لعظم هولها قال المبرد: الطامة عند العرب الداهية التي لا تستطاع، وإنما أخذت فيما أحسب من قولهم طم الفرس طميماً إذا استفرغ جهده في الجري، وطم الماء إذا ملأ النهر كله.
وقال غيره هو من طم السيل الركية أي دفنها، والطم الدفن.
قال مجاهد وغيره: الطامة الكبرى هي التي تسلم أهل الجنة إلى الجنة وأهل النار إلى النار، قال ابن عباس: الطامة اسم من أسماء يوم القيامة،(15/68)
وجواب " إذا " قيل هو قوله (فأما من طغى) وقيل محذوف أي فإن الأمر كذلك أو عاينوا أو علموا أو أدخل أهل النار النار، وأهل الجنة الجنة، وقدره بعضهم بقوله كان من عظائم الشؤون ما لم تشاهده العيون.
وقال أبو البقاء العامل فيها جوابها وهو معنى(15/69)
يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ مَا سَعَى (35)
(يوم يتذكر الإنسان ما سعى) لأنه منصوب بفعل مضمر أي أعني يوم يتذكر أو يوم يتذكر بكون كيت وكيت، وقيل إن الظرف بدل من " إذا " وقيل هو بدل من الطامة الكبرى، ومعنى، تذكر الإنسان ما سعى أنه يتذكر ما عمله من خير أو شر لأنه يشاهده مدوناً في صحائف أعماله، و " ما " مصدرية أو موصولة.(15/69)
وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى (36)
(وبُرزت الجحيم لمن يرى) معطوف على (جاءت) أي أظهرت النار المحرقة إظهاراً بيناً مكشوفاً لا تخفى على أحد، قال مقاتل فكشف عنها الغطاء فينظر إليها الخلق، وقيل لمن يرى من الكفار لا من المؤمنين.
والظاهر أنها تبرز لكل راء، فأما المؤمن فيعرف برؤيتها قدر نعمة الله عليه بالسلامة منها، وأما الكافر فيزداد غماً إلى غمه وحسرة إلى حسرته.
قرأ الجمهور لمن يرى بالتحتية وقرأت عائشة ومالك بن دينار وعكرمة وزيد بن علي: بالفوقية أي لمن تراه الجحيم، أو لمن تراه أنت يا محمد، وقرأ ابن مسعود لمن رأى على صيغة الفعل الماضي.(15/69)
فَأَمَّا مَنْ طَغَى (37)
(فأما من طغى) أي جاوز الحد في الكفر والمعاصي(15/69)
وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38)
(وآثر الحياة الدنيا) أي قدمها على الآخرة باتباع الشهوات المحرمات ولم يستعد لها ولا عمل عملها(15/69)
فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى (39)
(فإن الجحيم هي المأوى) أي مأواه، والألف واللام عوض عن المضاف إليه، وهذا عند الكوفيين، وعند سيبويه وعند البصريين هي المأوى له، ولا بد من أحد هذين التأويلين في الآية لأجل العائد من الجملة الواقعة خبراً عن المبتدأ الذي هو من طغى، وحسن عدم ذكر ذلك العائد كون الكلمة وقعت فاصلة ورأس آية، والمعنى أنها منزله الذي ينزله ومأواه الذي يأوي إليه لا غيرها.(15/69)
ثم ذكر القسم الثاني من القسمين فقال:(15/70)
وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40)
(وأما من خاف مقام ربه) أي حذر مقامه بين يدي ربه يوم القيامة لعلمه بالمبدأ والمعاد، قال الربيع مقامه يوم الحساب، قال قتادة يقول إن لله عز وجل مقاماً قد خافه المؤمنون، وقال مجاهد هو خوفه في الدنيا من الله عز وجل مواقعة الذنب فيقلع عنه، نظيره قوله (ولمن خاف مقام ربه جنتان) والأول أولى.
(ونهى النفس) الأمارة بالسوء (عن الهوى) أي زجرها من الميل إلى المعاصي والمحارم التي تشتهيها، قال مقاتل هو الرجل يهم بالمعصية فيذكر مقامه للحساب فيتركها، والهوى ميل النفس إلى شهواتها(15/70)
فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41)
(فإن الجنة هي المأوى) أي المنزل الذي ينزله والمكان الذي يأوي إليه لا غيرها.(15/70)
يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا (42)
(يسألونك) يا محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - (عن الساعة أيان مرساها) أي متى وقوعها وقيامها، قال الفراء أي منتهى قيامها كرسو السفينة، قال أبو عبيدة ومرسى السفينة حين تنتهي، والمعنى يسألونك عن الساعة متى يقيمها الله، وقد مضى بيان هذا في سورة الأعراف.(15/70)
فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا (43)
(فيم أنت من ذكراها) أي في أي شيء أنت يا محمد من ذكر القيامة والسؤال عنها والمعنى لست في شيء من علمها وذكرها إنما يعلمها الله سبحانه، وهو استفهام إنكار ورد لسؤال المشركين عنها أي فيم أنت من ذلك حتى يسألوك عنها ولست تعلمها وأنت آخر الأنبياء وعلامة من علاماتها فلا معنى لسؤالهم عنها فكفاهم ذلك دليلاً على دنوها ووجوب الاستعداد لها، والأول أولى.
عن علي بن أبي طالب قال: " كان النبي صلى الله عليه وسلم يسأل عن الساعة فنزلت فيم أنت من ذكراها " أخرجه ابن مردويه.
وعن عائشة قالت: ما زال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يسأل عن الساعة حتى أنزل الله فيم أنت من ذكراها الخ فانتهى فلم يسأل عنها " أخرجه البزار وابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه.(15/70)
وعن طارق بن شهاب قال: " كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يكثر ذكر الساعة حتى نزلت هذه الآية فكف عنها " أخرجه عبد بن حميد والنسائي وابن جرير وغيرهم.
وعن ابن عباس: " أن مشركي مكة سألوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا متى الساعة استهزاء منهم، فأنزل الله (يسألونك عن الساعة أيان مرساها) يعني مجيئها فيم أنت من ذكراها يعني ما أنت ممن علمها يا محمد - صلى الله عليه وآله وسلم -(15/71)
إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا (44)
(إلى ربك منتهاها) يعني منتهى علمها " أخرجه ابن أبي حاتم وابن مردويه، قال السيوطي: بسند ضعيف.
وعن عائشة قالت: " كانت الأعراب إذا قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم يسألوه عن الساعة فينظر إلى أحدث إنسان منهم فيقول إن يعش هذا قامت عليكم ساعتكم "، أخرجه ابن مردويه.
وجملة (إلى ربك منتهاها) مستأنفة أي منتهى علمها فلا يوجد علمها عند غيره وهذا كقوله: (قل إنما علمها عند ربي) وقوله: (إن الله عنده علم الساعة) فكيف يسألونك عنها ويطلبون منك بيان وقت قيامها.(15/71)
إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا (45)
(إنما أنت منذر من يخشاها) أي مخوف لمن يخشى قيام الساعة وذلك وظيفتك ليس عليك غيره من الإخبار بوقت قيام الساعة ونحوه مما استأثر لله بعلمه إذ لا مدخل لتعيين وقتها في الإنذار، فإن محض الإنذار لا يتوقف على علم المنذر بوقت قيامها، فقصر حاله على الإنذار فلا يتعداه إلى علم الوقت وخص الإنذار بمن يخشى لأنهم المنتفعون بالإنذار، وإن كان منذراً لكل مكلف من مسلم وكافر.
قرأ الجمهور بإضافة منذر إلى ما بعده، وقرىء بالتنوين قال الفراء كلاهما صواب كقوله بالغ أمره وموهن كيد الكافرين، قال أبو علي الفارسي يجوز أن تكون الإضافة للماضي نحو ضارب زيد أمس، وقال الزمخشري التنوين هو الأصل والإضافة تخفيف، وكلاهما يصلح للحال والاستقبال.(15/71)
كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا (46)
(كأنهم) أي كفار قريش (يوم يرونها) أي يوم يرون الساعة ويعاينوها (لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها) أي يستقصرون مدة لبثهم ويزعمون أنهم لم يلبثوا إلا قدر آخر نهار أو أوله، أو قدر الضحى الذي يلي تلك العشية، والمراد تقليل مدة الدنيا كما قال لم يلبثوا إلا ساعة من نهار، وقيل لم يلبثوا في قبورهم.
قال الفراء والزجاج: المراد بإضافة الضحى إلى العشية إضافته إلى يوم العشية على عادة العرب يقولون آتيك الغداة أو عشيتها، وآتيك العشية أو غداتها فتكون العشية في معنى آخر النهار، والغداة في معنى أول النهار، وزاد زاده أن الضحى والعشية لما كانتا من يوم واحد كان بينهما ملابسة مصححة لإضافة إحداهما إلى الأخرى.
قال المحلي: وحسن الإضافة وقوع الكلمة فاصلة أي من الفواصل.
والجملة تقرير لما يدل عليه الإنذار من سرعة مجيء المنذر به، والعشية هي من الزوال إلى غروب الشمس، والضحى هو البكرة إلى الزوال.(15/72)
سورة عبس
وتسمى سورة السفرة وسورة الأعمى، وهي إحدى أو اثنتان وأربعون آية وهي مكية في قول الجميع وعن ابن عباس - رضي الله عنه - نزلت بمكة، وعن ابن الزبير - رضي الله عنه - مثله.(15/73)
بسم الله الرحمن الرحيم
عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى (2) وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى (4) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى (7) وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى (8) وَهُوَ يَخْشَى (9) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10) كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ (11) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (12) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13)(15/75)
عَبَسَ وَتَوَلَّى (1)
(عبس وتولى) أي كلح بوجهه وقطب وأعرض، وقرىء عبس بالتشديد، جيء في هذه المواضع بضمائر الغائب إجلالاً له صلى الله عليه وسلم ولطفاً به لما في المشافهة بتاء الخطاب ما لا يخفى.(15/75)
أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى (2)
(أن جاءه الأعمى) مفعول لأجله أي لأن جاءه، والعامل فيه إما عبس أو تولى، على الاختلاف بين البصريين والكوفيين في التنازع هل المختار أعمال الأول أو الثاني، والمختار مذهب البصريين لعدم الإضمار في الثاني.
وقد أجمع المفسرون على أن سبب نزول الآية " أن قوماً من أشراف قريش كانوا عند النبي صلى الله عليه وسلم وقد طمع في إسلامهم، فأقبل عبد الله ابن أم مكتوم، فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقطع عليه ابن أم مكتوم كلامه، فأعرض عنه، فنزلت " (1).
وعن عائشة قالت: " أنزلت عبس وتولى في ابن أم مكتوم الأعمى، أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يا رسول الله أرشدني، وعند رسول
_________
(1) قوله تعالى: (عبس وتولى) قال المفسرون: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوماً يناجي عتبة بن ربيعة، وأبا جهل بن هشام، وأُمية وأُبَيّاً ابني خلف، ويَدعْوهم إلى الله تعالى، ويرجو إسلامهم، فجاء بن أم مكتوم الأعمى، فقال: علمني يا رسول الله مما علَّمك الله، وجعل يناديه، ويكرِّر النداء، ولا يدري أنه مشتغل بكلام غيره، حتى ظهرت الكراهية في وجهه - صلى الله عليه وسلم - لقطعه كلامه، فأعرض عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأقبل على القوم يكلِّمهم، فنزلت هذه الآيات، فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يكرمه بعد ذلك، ويقول: مرحباً بمن عاتبني فيه ربي.(15/75)
الله صلى الله عليه وسلم رجل من عظماء المشركين فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرض عنه ويقبل على الآخر ويقول أترى بما أقول بأساً، فيقول لا، ففي هذا أنزلت " أخرجه الترمذي وحسنه وابن المنذر وابن حيان والحاكم وصححه وابن مردويه.
وعن أنس قال: " جاء ابن أم مكتوم وهو يكلم أبيّ بن خلف فأعرض عنه، فأنزل الله (عبس) الخ وكان النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك يكرمه " أخرجه عبد الرزاق وعبد بن حميد وأبو يعلى.
وعن ابن عباس قال: " بينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يناجي عتبة بن ربيعة والعباس بن عبد المطلب وأبا جهل بن هشام، وكان يتصدى لهم كثيراً، ويحرص عليهم أن يؤمنوا فأقبل عليهم رجل أعمى يقال له عبد الله ابن أم مكتوم يمشي وهو يناجيهم، فجعل عبد الله يستقرىء النبي صلى الله عليه وآله وسلم آية من القرآن، قال يا رسول الله علمني مما علمك الله، فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعبس في وجهه وتولى وكره كلامه، وأقبل على الآخرين، فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نجواه وأخذ ينقلب إلى أهله أمسك الله ببعض بصره ثم خفق برأسه ثم أنزل الله (عبس وتولى) الآية، فلما نزل فيه ما نزل أكرمه نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم وكلمه وقال له: ما حاجتك هل تريد من شيء؟ وإذا ذهب من عنده قال: هل لك حاجة في شيء " أخرجه ابن جرير وابن مردويه، قال ابن كثير فيه غرابة وقد تكلم في إسناده (1).
_________
(1) ذكره الواحدي في " أسباب النزول " ص 333 بغير سند، وقال الحافظ في " تخريج أحاديث الكشاف 181 ذكره الثعلبي بلا إسناد، وأخرجه ابن أبي حاتم من رواية العوفي عن ابن عباس نحوه. وأخرج الترمذي وحسنه، والحاكم وصححه، وابن حبان عن عائشة قالت: أُنزلت سورة " عبس وتولى " في ابن أم مكتوم الأعمى، أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجعل يقول. يا رسول الله أرشدني، وعند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجل من عظماء المشركين، فجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعرض عنه، ويقبل على الآخر، ويقول: أترى بما أقول بأساً؟ فيقول: لا، ففي هذا أُنزلت.(15/76)
وقال المحلي: فكان بعد ذلك يقول له إذا جاء مرحباً بمن عاتبني فيه ربي، ويبسط له رداءه، وقال الخازن استخلفه النبي صلى الله عليه وآله وسلم على المدينة ثلاث عشرة مرة في غزواته (1) وكان من المهاجرين الأولين، قيل قتل شهيداً بالقادسية قال أنس بن مالك رأيته يوم القادسية وعليه درع ومعه راية سوداء (2).
قرأ الجمهور (أن جاءه الأعمى) على الخبر بدون الاستفهام، ووجهه ما تقدم.
وقرأ الحسن (أن جاءه) بالمد على الاستفهام فهو على هذه القراءة متعلق بفعل محذوف دل عليه عبس وتولى والتقدير أن جاءه الأعمى تولى وأعرض.
_________
(1) أي يستخلفه للصلاة بالناس.
(2) كلمة أنس لا تصح لأن الرجل أعمى.(15/77)
وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3)
(وما يدريك) التفت سبحانه من الغيبة إلى خطاب نبيه صلى الله عليه وآله وسلم لأن المشافهة أدخل في العتاب. أي أيّ شيء يجعلك دارياً بحاله حتى تعرض عنه.
وجملة (لعله يزكى) مستأنفة لبيان أن له شأناً ينافي الإعراض عنه أي لعله يتطهر من الذنوب بالعمل الصالح بسبب ما يتعلمه منك لا من الشرك لأنه أسلم قديماً بمكة، فالضمير في لعله راجع إلى الأعمى، وقيل هو راجع إلى الكافر أي وما يدريك أن ما طمعت فيه ممن اشتغلت بالكلام معه عن الأعمى أنه يزكى أو يذكر، والأول أولى، وكلمة الترجي باعتبار من وجه إليه الخطاب للتنبيه على أن الإعراض عنه مع كونه مرجو التزكي مما لا يجوز.
ومثل هذه الآية قوله في سورة الأنعام (ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي) وكذلك قوله: في سورة الكهف: (ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا).(15/77)
أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى (4)
(أو يذكر) عطف على يزكى داخل معه في حكم الترجي، أي أو يتذكر فيتعظ بما تعلمه من المواعظ (فتنفعه الذكرى) أي الموعظة المسموعة منك، قرأ الجمهور بالرفع وقرىء بالنصب على جواب الترجي أي أنك لا تدري ما هو مترقب منه من تزكي أو تذكر ولو دريت ما فرط ذلك منك.(15/78)
أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى (5)
(أما من استغنى) أي كان ذا ثروة وغنى، أو استغنى عن الإيمان وعما عندك من العلم الذي ينطوي عليه القرآن(15/78)
فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6)
(فأنت له تصدى) أي تصغي لكلامه، والتصدي الإصغاء وقيل هو من الصدى وهو الصوت المسموع في الأماكن الخالية والأجرام الصلبة، وقيل من الصدى وهو العطش، والمعنى على التعريض، قرأ الجمهور تصدى بالتخفيف على طرح إحدى التاءين تخفيفاً، وقرأ نافع وابن محيصن بالتشديد على الإدغام، وفي هذا مزيد تنفير له صلى الله عليه وآله وسلم عن الإقبال عليهم والإصغاء إلى كلامهم.(15/78)
وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى (7)
(وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى) أي أيُّ شيء عليك في أن لا يسلم ولا يهتدي، فإنه ليس عليك إلا البلاغ فلا تهتم بأمر من كان هكذا من الكفار، ويجوز أن تكون (ما) نافية أي ليس عليك بأس في أن لا يتزكى من تصديت له وأقبلت عليه، وتكون الجملة في محل نصب على الحال من ضمير تصدى.
ثم زاد سبحانه في معاتبة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم فقال:(15/78)
وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى (8)
(وأما من جاءك يسعى) أي وصل إليك حال كونه مسرعاً في المجيء إليك طالباً منك أن ترشده إلى الخير وتعظه بمواعظ الله(15/78)
وَهُوَ يَخْشَى (9)
(وهو يخشى) حاك من فاعل (يسعى) على التداخل، أو من فاعل جاءك على الترادف أي يخشى الله أو أذى الكفار يعني ابن أم مكتوم(15/78)
فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10)
(فأنت عنه تلهى) أي تتشاغل عنه وتعرض عن الإقبال عليه. والتلهي التشاغل والتغافل، يقال لهيت عن الأمر ألهى أي تشاغلت عنه وكذا تلهيت. وليس هو من اللهو في شيء ولم يجعل من اللهو(15/78)
لأنه مسند إلى ضمير النبي، ولا يليق بمنصبه الكريم أن ينسب إليه الفعل من اللهو بخلاف الاشتغال فإنه يجوز أن يصدر منه في بعض الأحيان، ولا ينبغي أن يعتقد غير هذا.
وقوله(15/79)
كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ (11)
(كلا) ردع له صلى الله عليه وآله وسلم عما عوتب عليه أي لا تفعل بعد هذا الواقع منك مثله من الإعراض عن الفقير، والتصدي للغني والتشاغل به مع كونه ليس ممن يتزكى. عن إرشاد من جاءك من أهل التزكي والقبول للموعظة، وهذا الواقع من النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو من باب ترك الأولى، فأرشده الله سبحانه إلى ما هو الأولى به.
(إنها تذكرة) أي أن هذه الآيات أو السورة موعظة حقها أن تتعظ بها وتقبلها وتعمل بموجبها أو تعمل بها كل أمتك.(15/79)
فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (12)
(فمن شاء ذكره) أي فمن رغب فيها اتعظ بها وحفظها وعمل بموجبها، ومن رغب عنها كما فعله من استغنى فلا حاجة إلى الاهتمام بأمره، قيل الضميران في (إنها) وفي (ذكره) للقرآن وتأنيث الأول لتأنيث خبره، وقيل الأول للسورة أو للآيات السابقة والثاني للتذكرة لأنها في معنى الذكر، وقيل المعنى فمن شاء الله ألهمه وفهمه القرآن حتى يذكره ويتعظ به والأول أولى.
ثم أخبر سبحانه عن عظم هذه التذكرة وجلالتها فقال:(15/79)
فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13)
(في صحف) أي أنها تذكرة كائنة في صحف، فالجار والمجرور صفة لتذكرة وما بينهما اعتراض، والصحف جمع صحيفة.
ومعنى (مكرمة) أنها مكرمة عند الله لما فيها من العلم والحكمة، أو لأنها نازلة من اللوح المحفوظ، وقيل المراد بالصحف كتب الأنبياء كما في قوله (إن هذا لفي الصحف الأولى صحف إبراهيم وموسى).(15/79)
مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرَامٍ بَرَرَةٍ (16) قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (17) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20) ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21) ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ (22) كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ (23) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24) أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26) فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (27) وَعِنَبًا وَقَضْبًا (28) وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا (29) وَحَدَائِقَ غُلْبًا (30)(15/80)
مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14)
(مرفوعة) أي أنها رفيعة القدر عند الله، وقيل مرفوعة في السماء السابعة، قال الواحدي قال المفسرون مكرمة يعني في اللوح المحفوظ، مرفوعة يعني في السماء السابعة، قال ابن جرير مرفوعة القدر والذكر، وقيل مرفوعة عن الشبه والتناقض.
(مطهرة) أي منزهة لا يمسها إلا المطهرون، قال الحسن مطهرة من كل دنس. قال السدي مصانة عن الكفار لا ينالونها، وقال المحلي منزهة عن مس الشياطين انتهى.
وفيه أن الصحف بأيدي الملائكة في السماء، والشياطين لا يصلون إلى السماء فلا يظهر مدح الصحف بتطهيرها من مسهم فليتأمل، قاله سليمان الجمل.(15/80)
بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15)
(بأيدي سفرة) جمع سافر ككتبة وكاتب، قال ابن عباس سفرة كتبة، وقال هم النبطية القراء، والمعنى أنها بأيدي كتبة من الملائكة ينسخون الكتب من اللوح المحفوظ، قال الفراء السفرة هنا الملائكة الذين يسفرون بالوحي بين الله ورسوله من السفارة وهي السعي بين القوم.
قال الزجاج إنما قيل للكتاب سفر بكسر السين، والكاتب سافر لأن معناه أنه بين، يقال أسفر الصبح إذا أضاء وسفرت المرأة إذا كشفت النقاب عن وجهها، ومنه سفرت بين القوم أسفر سفارة أي أصلحت بينهم، قال مجاهد هم الملائكة الكرام الكاتبون لأعمال العباد.(15/80)
وقال قتادة: السفرة هنا هم القراء لأنهم يقرأون الأسفار، وقال وهب بن منبه هم أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
ثم أثنى سبحانه على السفرة فقال:(15/81)
كِرَامٍ بَرَرَةٍ (16)
(كرام) على ربهم كذا قال الكلبي، وقال الحسن كرام عن المعاصي فهم يرفعون أنفسهم عنها، وقيل يتكرمون أن يكونوا مع ابن آدم إذا خلا بزوجته أو قضى حاجته، وقيل يؤثرون منافع غيرهم على منافعهم، وقيل يتكرمون على المؤمنين بالاستغفار لهم.
(بررة) جمع بار مثل كفرة وكافر أي أتقياء مطيعون لربهم صادقون في إيمانهم وقد تقدم تفسيره، وقال ابن عباس هم الملائكة.
أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن عائشة قالت: " قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذي يقرأ القرآن وهو ماهر به مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرأه وهو عليه شاق له أجران ".(15/81)
قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (17)
(قتل الإنسان ما أكفره) أي لعن الإنسان الكافر ما أشد كفره، قال الكرخي وهذا دعاء عليه بأشنع الدعوات وإن ذلك ورد على أسلوب كلام العرب لبيان استحقاقه لأعظم العقاب حيث أتى بأعظم القبائح كقولهم إذا تعجبوا من شيء قاتله الله ما أخبثه، أخزاه الله ما أظلمه، قال الشاعر:
يتمنى المرء في الصيف الشتا ... فإذا جاء الشتا أنكره
لا بذا يرضى ولا يرضى بذا ... قتل الإنسان ما أكفره
وقيل معناه أي شيء أكفره أي دعاه إلى الكفر، وهو استفهام توبيخ، والظاهر هو الأول، قيل المراد بالإنسان عتبة بن أبي لهب، ومعنى ما أكفره التعجب من إفراط كفره، قال الزجاج معناه اعجبوا أنتم من كفره، وقيل المراد بالإنسان من تقدم ذكره في قوله (أما من استغنى) وقيل المراد به الجنس وهذا هو الأولى فيدخل تحته كل كافر شديد الكفر ويدخل تحته من كان سبباً لنزول الآية دخولاً أولياً.(15/81)
ثم ذكر سبحانه ما كان ينبغي لهذا الكافر أن ينظر فيه حتى ينزجر عن كفره ويكف عن طغيانه فقال:(15/82)
مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18)
(من أي شيء خلقه) أي من أي شيء خلق الله هذا الكافر، والاستفهام للتقرير أو تحقير له والأول أظهر، لأن الاستفهام ذكروا من معانيه التقرير، لكن التحقير أخص بالمقام، وجمع بعضهم بينهما فقال الاستفهام هنا لتقرير التحقير، قال الشهاب ولو قيل أنه للتقرير والتحقير مستفاد من شيء المنكر لكان له وجه.
ثم فسر سبحانه ذلك فقال:(15/82)
مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19)
(من نطفة) أي من ماء مهين، وهذا كمال تحقير له قال الحسن كيف يتكبر من خرج من مخرج البول مرتين.
(خلقه فقدره) أي فسواه وهيأه لمصالح نفسه، وخلق له اليدين والرجلين والعينين وسائر الآلات والحواس، وقيل قدره أطواراً من حال أي حال، نطفة ثم علقة إلى أن تم خلقه، والفاء للترتيب في الذكر.(15/82)
ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20)
(ثم السبيل يسره) أي يسر له الطريق إلى الخير والشر، وقال السدي ومقاتل وعطاء وقتادة يسره للخروج من بطن أمه، قال بعضهم إن رأس المولود في بطن أمه من فوق ورجليه من تحت فهو في بطن أمه على الانتصاب، فإذا جاء وقت خروجه انقلب بإلهام من الله تعالى، ذكره الرازي والأول أولى، ومثله قوله (وهديناه النجدين) وانتصاب السبيل بمضمر يدل عليه الفعل المذكور أي يسر السبيل يسره.(15/82)
ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21)
(ثم أماته فأقبره) أي جعله بعد أن أماته ذا قبر يوارى فيه إكراماً له، ولم يجعله مما يلقى على وجه الأرض تأكله السباع والطير، كذا قال الفراء، وقال أبو عبيدة جعل له قبراً وأمر أن يقبر فيه، وقال أقبره ولم يقل قبره لأن القابر هو الدافن بيده والمقبر هو الله تعالى، ويقال قبر الميت إذا دفنه بيده، وأقبره إذا أمر غيره أن يجعله في قبر، وعد الإماتة من النعم لأنها وصلة في الجملة إلى الحياة الأبدية والنعيم المقيم.(15/82)
ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ (22)
(ثم إذا شاء) إنشاره (أنشره) أي أحياه بعد موته، وعلق الإنشار(15/82)
بالمشيئة للدلالة على أن وقته غير متعين بل هو تابع للمشيئة، وأما سائر الأحوال المذكورة قبل ذلك فإنها تعلم أوقاتها من بعض الوجوه فلم تفوض إلى مشيئته تعالى، قرأ الجمهور أنشره وقرىء نشره، وهما لغتان فصيحتان.(15/83)
كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ (23)
(كلا) ردع وزجر للإنسان الكافر عما هو عليه من التكبر والتجبر والترفع والإصرار على إنكار التوحيد والبعث والحساب أي ليس الأمر كما يقول (لما يقض ما أمره) الله به من العمل بطاعته واجتناب معاصيه، وقيل المراد الإنسان على العموم، وأنه لم يفعل ما أمره الله به مع طول المدة لأنه لا يخلو من تقصير (1)، قال الحسن أي حقاً لم يعمل ما أمر به، وقال ابن فورك: أي كلا لم يقض لهذا الكافر ما أمره به من الاتيان بل أمره بما لم يقض له.
قال ابن الأنباري: الوقف على كلا قبيح، والوقف على أمره وانشره جيد، وكلا على هذا بمعنى حقاً. وقيل المعنى لما يقض جميع أفراد الإنسان ما أمره بل أخل به بعضها بالكفر، وبعضها بالعصيان، وما قضى ما أمره الله به إلا القليل.
وقال بعضهم: ما لإبن آدم والفخر، أوله نطفة مذرة، وآخره جيفة قذرة، وهو بينهما حامل عذرة.
ثم شرع سبحانه في تعداد نعمه على عباده ليشكروها وينزجروا عن كفرانها، بعد ذكر النعم المتعلقة بحدوثهم فقال
_________
(1) قال ابن كثير: وحكاه البغوي عن الحسن البصري بنحو من هذا، قال: ولم أجد للمتقدمين فيه كلاماً سوى هذا، والذي يقع لي في معنى ذلك -والله أعلم- أن المعنى: (ثم إذا شاء أنشره) أي: بعثه (كلا لما يقضِ ما أمره) أي: لا يفعله الآن حتى تنقضي المدة ويفرغ القدر من بني آدم ممن كتب الله أن سيوجد منهم ويخرج إلى الدنيا، وقد أمر به تعالى كوناً وقدراً، فإذا تناهى ذلك عن الله أنشر الله الخلائق وأعادهم كما بدأهم.(15/83)
فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24)
(فلينظر الإنسان إلى طعامه) أي ينظر كيف خلق الله طعامه الذي جعله سبباً لحياته، وكيف هيأ له أسباب المعاش يستعد بها للسعادة الأخروية، قال مجاهد إلى مدخله(15/83)
ومخرجه، وبه قال ابن الزبير، والأول أولى، وعن ابن عباس قال إلى خرئه، أخرجه ابن أبي الدنيا.
ثم بين سبحانه ذلك فقال:(15/84)
أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا (25)
(أنا صببنا الماء صباً) قرأ الجمهور إنا بالكسر على الاستئناف، وقرأ الكوفيون وورش عن يعقوب بالفتح على أنه بدل من طعامه بدل اشتمال لكون نزول المطر سبباً لحصول الطعام فهو كالمشتمل عليه أو بتقدير لام العلة، قال الزجاج الكسر على الابتداء والاستئناف، والفتح على معنى البدل من الطعام.
والمعنى فلينظر الإنسان إلى أنا صببنا الماء صباً، وأراد بصب الماء المطر، وبه قال ابن عباس، وقرأ الحسن بن علي رضي الله عنهما بالفتح والإمالة.(15/84)
ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26)
(ثم شققنا الأرض) بالنبات الخارج منها بسبب نزول المطر (شقاً) بديعاً لائقاً بما يخرج منه في الصغر والكبر والشكل والهيئة، قال ابن عباس شقاً عن النبات.
قال البيضاوي أسند الشق إلى نفسه تعالى إسناد الفعل إلى السبب، وتبع في ذلك الزمخشري، وقد رده في الانتصاف بأنه تعالى موجد الأشياء فالإسناد إليه تعالى حقيقة، وإنما ذكره الزمخشري اعتزالاً فإن أفعال العباد مخلوقة لهم عنده، ورده المدقق في الكشف بأنه ليس مبنياً على ما ذكر، بل لأن الفعل إنما يسند حقيقة لمن قام به لا لمن أوجده، فالاعتراض عليه ناشىء من قلة التدبر، أفاده الشهاب.
ثم بين سبب هذا الشق وما وقع لأجله فقال:(15/84)
فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (27)
(فأنبتنا فيها حباً) يعني الحبوب التي يتغذى بها، والمعنى أن النبات لا يزال ينمو ويتزايد إلى أن يصير حباً(15/84)
وَعِنَبًا وَقَضْبًا (28)
(و) أنبتنا فيها (عنباً) قيل وليس من لوازم العطف أن يقيد المعطوف(15/84)
بجميع ما قيد به المعطوف عليه، فلا ضير في خلو نبات العنب عن شق الأرض.
قلت بل يمكن التقييد ويكون باعتبار أصل نبات العنب ففيه شق الأرض.
(وقضباً) هو القت الرطب الذي يقضب مرة بعد أخرى تعلف به الدواب، ولهذا سمي قضباً على مصدر قضبه أي قطعه، كأنه لتكرر قطعه نفس القطع، قال الخليل: القضب الفصفصة الرطبة فإذا يبست فهي القت، قال في الصحاح والقضبة والقضب الرطبة، قال والموضع الذي تنبت فيه المقضبة قال القتيبي وثعلب وأهل مكة يسمون العنب القضب، قال ابن عباس القضب الفصفصة يعني القت.(15/85)
وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا (29)
(وزيتوناً) هو ما يعصر منه الزيت وهي شجرة الزيتون المعروفة (ونخلاً) هو جمع نخلة(15/85)
وَحَدَائِقَ غُلْبًا (30)
(وحدائق غلباً) جمع حديقة وهي البستان، والغلب العظام الغلاظ الرقاب، قال مقاتل ومجاهد الغلب الملتف بعضها ببعض، يقال رجل أغلب إذا كان عظيم الرقبة، ويقال للأسد أغلب لأنه مصمت العنق لا يلتفت إلا جميعاً، وجمع أغلب وغلباء غلب كما جمع أحمر وحمراء حمر، يقال حديقة غلباء أي غليظة الشجر ملتفة فالحدائق ذات أشجار غلاظ فهو مجاز مرسل، وفيه تجوز في الإسناد أيضاًً لأن الحدائق نفسها ليست غليظة بل الغليظ أشجارها.
وقال قتادة وابن زيد الغلب النخل الكرام، وعن ابن زيد أيضاًً وعكرمة هي غلاظ الأوساط والجذوع، وقال ابن عباس: غلباً طوالاً، وعنه قال: الحدائق كل ملتف، والغلب ما غلظ، وعنه قال شجر في الجنة يستظل به لا يحمل شيئاًً.(15/85)
وَفَاكِهَةً وَأَبًّا (31) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (32) فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ (33) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ (41) أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (42)(15/86)
وَفَاكِهَةً وَأَبًّا (31)
(وفاكهة) عطف عام فيدخل رطب وعقب ورمان وأترج وتمر وزبيب وغير ذلك وهذا بالنظر لعطفه على عنباً، وأما إذا عطف على حدائق كما هو المتبادر فهو عطف خاص على عام كما لا يخفى، ثم الفاكهة ما يأكله الناس من ثمار الأشجار كالعقب والتين والخوخ ونحوه.
(وأباً) هو كل ما أنبتت الأرض مما لا يأكله الناس، ولا يزرعونه من الكلأ وسائر أنواع المراعي، قال الضحاك الأب كل شيء ينبت على وجه الأرض، وقال ابن أبي طلحة: هو الثمار الرطبة وبه قال ابن عباس، وروي عن الضحاك أيضاًً أنه قال: هو التين خاصة والأول أولى.
وعن ابن عباس أيضاًً الأب ما أنبتت الأرض مما يأكله الدواب ولا يأكله الناس وعنه قال الأب الكلأ والمرعى، وعن إبراهيم التيمي قال: " سئل أبو بكر الصديق عن الأب ما هو فقال أي سماء تظلني وأي أرض تقلني إذا قلت في كتاب الله ما لا أعلم " أخرجه أبو عبيد في فضائله وعبد بن حميد.
وعن عبد الله بن يزيد " أن رجلاً سأل عمر عن قوله (أباً) فلما رآهم يقولون أقبل عليهم بالدرة " أخرجه عبد بن حميد.
وعن أنس " أن عمر قرأ على المنبر فأنبتنا فيها حباً وعنباً إلى قوله (وأباً) قال كل هذا قد عرفناه فما الأب، ثم رفض عصاً كانت في يده فقال هذا لعمر الله هو التكلف فما عليك أن لا تدري ما الأب، اتبعوا ما بين لكم(15/86)
من هذا الكتاب فاعملوا عليه، وما لم تعرفوه فكلوه إلى ربه " أخرجه ابن سعد وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه والبيهقي في الشعب والخطيب (1).
قال المحلي (أباً) أي ما ترعاه البهائم أي سواء كان رطباً أو يابساً فهو أعم من القضب وقيل التين وعليه فالمغايرة بينه وبين القضب ظاهرة.
_________
(1) وما ورد من أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه سئل عن قوله تعالى: (وفاكهة وأباً) فقال: أي سماء تظلني وأي أرض تقلّني إن قلت في كتاب الله ما لا أعلم، فقد رواه أبو عبيد القاسم بن سلام في " فضائل القرآن "، من رواية محمد بن زيد عن العوام بن حوشب عن إبراهيم التيمي عن أبي بكر رضي الله عنه، وهو منقطع بين إبراهيم التيمي وبين أبي بكر رضي الله عنه. وقد روى ابن جرير قال: حدثنا بشار، حدثنا ابن أبي عدي، حدثنا حميد، عن أنس قال: قرأ عمر بن الخطاب رضي الله عنه (عبس وتولى) حتى أتى على هذه الآية (وفاكهة وأباً) قال: قد عرفنا ما الفاكهة فما الأب؟ فقال: لعمرك يا ابن الخطاب إن هذا لهو التكلف. قال ابن كثير: وهذا إسناد صحيح، إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقد رواه غير واحد عن أنس به، ولكن هذا محمول على أنه أراد أن يعرف شكله وجنسه وعينه، وإلا فهو وكل من قرأ هذه الآية يعلم أنه من نبات الأرض، لقوله تعالى: (فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (27) وَعِنَبًا وَقَضْبًا (28) وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا (29) وَحَدَائِقَ غُلْبًا (30) وَفَاكِهَةً وَأَبًّا).(15/87)
مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (32)
(متاعاً لكم) منصوب بأنبتنا لأنه مصدر مؤكد لعامله لأن إنباته الأشياء إمتاع لجميع الحيوانات، ويحتمل أن العامل محذوف تقديره فعل ذلك متاعاً لكم أو متعكم بذلك تمتيعاً لكم (ولأنعامكم) جمع نعم وهي الإبل والبقر والغنم.
ثم شرع سبحانه في بيان أحوال المعاد فقال:(15/87)
فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ (33)
(فإذا جاءت الصاخة) يعني صيحة يوم القيامة، وسميت صاخة لشدة صوتها لأنها تصخ الآذان أي تصمها فلا تسمع، وقيل لأنها تصخ لها الأسماع من قولك أصاخ إلى كذا أي ْاستمع إليه، والأول أصح قال الخليل: الصاخة صيحة تصخ الآذان حتى تصمها لشدة وقعها، وأصل الكلمة في اللغة مأخوذ من الصك الشديد يقال، صخه الحجر إذا صكه به، وقال ابن عباس: الصاخة من أسماء يوم القيامة.
قال ابن الأعرابي: الصاخة التي تورث الصمم وأنها لمسمعة، وهذا(15/87)
من بديع الفصاحة والفاء للدلالة على ترتيب ما بعدها على ما قبلها من فنون النعم، وجواب (إذا) محذوف يدل عليه قوله الآتي (لكل امرىء منهم) الخ أي فإذا جاءت الصاخة اشتغل كل أحد بنفسه.(15/88)
يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36)
(يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه) الظرف إما بدل من إذا جاءت أو منصوب بمقدر أي أعني، ويكون تفسيراً للصاخة أو بدلاً منها مبني على الفتح، وخص هؤلاء بالذكر لأنهم أخص القرابة وأولاهم بالحنو والرأفة، فالفرار منهم لا يكون إلا لهول عظيم وخطب فظيع، وتبعات بينه وبينهم، والمراد بالفرار التباعد.
والمعنى أنه لا يلتفت إلى واحد من هؤلاء لشغله بنفسه، قيل أول من يفر من أخيه هابيل، ومن أبويه إبراهيم، ومن صاحبته نوح ولوط، ومن ابنه نوح، والعموم أولى، وقيل إنما يفر عنهم حذراً من مطالبتهم إياه بما بينهم. وقيل يفر عنهم لئلا يروا ما هو فيه من الشدة وقيل لعلمه بأنهم لا ينفعونه ولا يغنون عنه شيئاً كما قال تعالى (يوم لا يغني مولى عن مولى شيئاًً).
قال عبد الله بن طاهر الأبهري: يفر منهم لما يتبين له من عجزهم وقلة حيلتهم، إلى من يملك كشف تلك الكروب عنه ولو ظهر له ذلك في الدنيا لما اعتمد شيئاً سوى ربه تعالى.(15/88)
لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37)
(لكل امرىء منهم يومئذ شأن يغنيه) أي لكل إنسان يوم القيامة شأن يشغله عن الأقرباء ويصرفه عنهم، والجملة مستأنفة لبيان سبب الفرار، قال ابن قتيبة يغنيه أي يصرفه عن قرابته، ومنه يقال أغن عني وجهك أي أصرفه.
عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " تحشرون حفاة عراة فقالت امرأة أيبصر أحدنا أو يرى بعضنا عورة بعض؟ قال يا فلانة لكل امرىء منهم يومئذ شأن يغنيه " أخرجه الترمذي، وقال حديث حسن(15/88)
صحيح (1).
قرأ الجمهور يغنيه بالغين المعجمة وقرأ ابن محيصن بالعين المهملة مع فتح الياء أي يهمه من عناه الأمر إذا أهمه.
ثم بين مآل أمر المذكورين وانقسامهم إلى الأشقياء والسعداء بعد وقوعهم في داهية عظيمة فقال
_________
(1) رواه بنحوه الطبري 30/ 61 من رواية الحسين بن حريث عن الفضل بن موسى عن عائذ بن شريح عن أنس، ورواه ابن أبي حاتم من رواية أزهر بن حاتم عن الفضل بن موسى عن عائذ بن شريح به، وعائذ بن شريح، قال أبو حاتم الرازي في " الجرح والتعديل ": في حديثه ضعف. وروى الترمذي في " سننه " 2/ 168 عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " تحشرون حفاة عراة غُرلاً " فقالت امرأة: أيُبصر أو يرى بعضنا عورة بعض؟! قال: يا فلانة (لكل امرىء منهم يومئذ شأن يغنيه) قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، قد روي من غير وجه عن ابن عباس. وروى مسلم في " صحيح " 4/ 2194 عن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " يحشر الناس يوم القيامة حفاةً عراةً غرلاً (غير مختونين) قلت: يا رسول الله النساء والرجال جميعاً ينظر بعضهم إلى بعض؟ قال - صلى الله عليه وسلم -: " يا عائشة الأمر أشد من أن ينظر بعضهم إلى بعض ".(15/89)
وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38)
(وجوه) مبتدأ وإن كان نكرة لأنه في مقام التفصيل وحيز التنويع، وهو من مسوغات الابتداء بالنكرة (يومئذ) متعلق به ومعنى (مسفرة) مشرقة متهللة مضيئة، وبه قال ابن عباس، وهي وجوه المؤمنين لأنهم قد علموا إذا ذاك ما لهم من النعيم والكرامة، يقال أسفر الصبح إذا أضاء قال الضحاك: مسفرة من آثار الوضوء وقيل من قيام الليل، وقيل من الغبار في سبيل الله(15/89)
ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39)
(ضاحكة) عند الفراغ من الحساب (مستبشرة) أي فرحة بما نالته من الثواب الجزيل وكرامة الله ورضوانه.
ثم لما فرغ سبحانه من ذكر حال المؤمنين ذكر حال الكفار فقال(15/89)
وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ (40)
(ووجوه يومئذ عليها غبرة) أي غبار وكدورة لما تراه مما أعده الله لها من العذاب(15/89)
تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ (41)
(ترهقها قترة) أي يغشاها ويعلوها سواد وكسوف، ولا ترى أوحش من اجتماع الغبرة والسواد في الوجه، والقتر في كلام العرب الغبار كذا قال أبو عبيدة، ويدفع ما قاله أبو عبيدة تقدم ذكر الغبرة فإنها واحدة الغبار، وقال زيد(15/89)
بن أسلم القترة ما ارتفعت إلى السماء والغبرة ما انحطت إلى الأرض، قال ابن عباس: ذلة وشدة وعنه أنه قال قترة سواد الوجه.(15/90)
أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (42)
(أولئك) يعني أصحاب الوجوه وأهل هذه الحالة (هم الكفرة الفجرة) جمع كافر وفاجر أي الجامعون بين الكفر بالله والفجور، ولذلك جمع إلى سواد وجوههم الغبرة كما جمعوا الفجور إلى الكفر، يقال فجر أي فسق، وفجر أي كذب، وبابهما دخل، وأصله الميل، والفاجر المائل عن الحق.(15/90)
سورة التكوير
تسع وعشرون آية وهي مكية بلا خلاف قال ابن عباس نزلت بمكة وعن عائشة وابن الزبير مثله.
وعن ابن عمر قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " من سره أن ينظر إلى يوم القيامة كأنه رأى عين فليقرأ (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ)، و (إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ)، (إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ) "، أخرجه الترمذي وحسنه وابن المنذر والطبراني والحاكم وصححه وابن مردويه (1).
قال الكازروني: مناسبتها لما قبلها أنه لما ذكر بعض أحوال القيامة فيما قبلها أردفه ببعض أحوالها الآخر.
_________
(1) أخرجه أحمد في " المسند " رقم 4816 و4934 و4941 و5755 وإسناده صحيح، والترمذي 2/ 168، والحاكم 2/ 515، وصححه ووافقه الذهبي، وأورده السيوطي في " الدر " 6/ 319 وزاد نسبته لابن المنذر وابن مردويه.(15/91)
بسم الله الرحمن الرحيم
إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (2) وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ (3) وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ (4) وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5) وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ (6) وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (7) وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9)(15/93)
إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1)
(إذا الشمس كورت) أي أظلمت، قاله ابن عباس، ارتفاع الشمس بفعل محذوف يفسره ما بعده على الاشتغال، وهذا عند البصريين، وأعرب الزمخشري الشمس فاعلاً لفعل مقدر يدل عليه كورت، ومنع أن يرتفع بالإبتداء لأن " إذا " تطلب الفعل لما فيها من معنى الشرط، وما منعه من وقوع المبتدأ بعدها أجازه الأخفش والكوفيون، وأجازوا إذا زيد أكرمك فأكرمه، ولكن الأولى ما ذكره.
والتكوير الجمع وهو مأخوذ من كار العمامة على رأسه يكورها قال الزجاج لفت كما تلف العمامة يقال كورت العمامة على رأسي أكورها كوراً وكورتها تكويراً إذا لففتها.
قال أبو عبيدة كورت مثل تكوير العمامة تلف فتجمع، قال الربيع بن خثيم كورت أي رمى بها ومنه كورته فتكور أي سقط قال مقاتل وقتادة والكلبي ذهب ضوؤها، وقال مجاهد اضمحلت وقيل غورت.
قال الواحدي قال المفسرون تجمع الشمس بعضها إلى بعض ثم تلف فيرمى بها. فالحاصل أن التكوير إما بمعنى لف جرمها أو لف ضوئها أو الرمي بها، والمعنى طويت كطي السجل.
عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم " الشمس والقمر(15/93)
يكوران يوم القيامة " أخرجه (1) البخاري، قيل أنهما جمادان فإلقاؤهما في النار يكون سبباً لازدياد الحر في جهنم، وإذا ظرف في هذه المواضع الاثنى عشر وجوابها (علمت نفس) كما سيأتي.
_________
(1) وقد ورد في حديث مرفوع أخرجه الطماوي وإسناده صحيح.(15/94)
وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (2)
(وإذا النجوم انكدرت) أي تهافتت وتساقطت وانقضت وتناثرت، يقال انكدر الطائر من الهوى إذا انقض، والأصل في الانكدار الانصباب. قال الخليل يقال انكدر عليهم القوم إذا جاؤوا أرسالاً فانصبوا عليهم، قال أبو عبيدة انصبت كما ينصب العقاب، قال الكلبي وعطاء تمطر السماء يومئذ نجوماً فلا يبقى نجم في السماء إلا وقع على الأرض وقيل انكدارها طمس نورها، وقال ابن عباس تغيرت.
وعن أبي مريم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال " كورت في جهنم وانكدرت في جهنم فكل من عبد دون الله فهو في جهنم إلا ما كان من عيسى وأمه ولو رضيا أن يعبدا، لدخلاها " أخرجه ابن أبي حاتم والديلمي.(15/94)
وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ (3)
(وإذا الجبال سيرت) أي قلعت عن وجه الأرض وأبعدت ورفعت عن مكانها بعد تفتيتها وسيرت في الهواء سير السحاب، ومنه قوله (ويوم نسير الجبال وترى الأرض بارزة).(15/94)
وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ (4)
(وإذا العشار عطلت) العشار النوق الحوامل التي في بطونها أولادها، الواحدة عشراء وهي التي قد أتى عليها في الحمل عشرة أشهر، ثم لا يزال ذلك اسمها حتى تضع، وخص العشار لأنها أنفس مال عند العرب وأعزه عندهم. ومعنى عطلت تركت هملاً بلا راع وبلا حلب، قال أبيّ بن كعب أي أهملها أهلها، وذلك لما شاهدوا من الهول العظيم، أو لاشتغالهم بأنفسهم.
قيل وهذا على وجه المثل لأن يوم القيامة لا يكون فيه ناقة عشراء. بل(15/94)
المراد أنه لو كان للرجل ناقة عشراء في ذلك اليوم أو نوق عشار لتركها ولم يلتفت إليها اشتغالاً بما هو فيه من هول يوم القيامة، وسيأتي ما يفيد أن هذا في الدنيا.
وقيل العشار السحاب فإن العرب تشبهها بالحامل، ومنه قوله تعالى (فالحاملات وقراً) وتعطيلها عدم إمطارها، وقيل المراد أن الديار تعطل فلا تسكن، وقيل الأرض التي تعشر زرعها تعطل فلا تزرع، قرأ الجمهور عطلت بالتشديد وقرأ ابن كثير في رواية عنه بالتخفيف.(15/95)
وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5)
(وإذا الوحوش) أي ما توحش من دواب البر (حشرت) قرأ الجمهور بالتخفيف، وقرىء بالتشديد أي بعثت وجمعت بعد البعث من كل ناحية حتى يقتص بعضها من بعض، فيقتص للجماء من القرناء.
قال قتادة يحشر كل شيء حتى الذباب للقصاص، فإذا اقتص منها ردت تراباً فلا يبقى منها إلا ما فيه سرور لبني آدم وإعجاب بصورته كالطاووس ونحوه.
وقيل حشرها موتها وقيل أنها مع نفرتها اليوم من الناس وتبددها في الصحاري تضم ذلك اليوم إليهم، قال أبيّ بن كعب حشرت اختلطت.
قال الشهاب في ريحانة الألباء: وههنا أمر نفيس نمحو به السيئات وبحث عظيم نحيي به عظام الرفات وهو أن الحيوانات هل يحييها الله تعالى وتحشر ويقتص لبعضها من بعض؟ فأكثر أهل الحديث والسنة والأصول على أنه كذلك لوروده في القرآن في قوله تعالى (وإذا الوحوش حشرت) ولقول سيد المرسلين صلى الله عليه وآله وسلم في خبر القصاص يوم القيامة يؤخذ للجماء من القرناء.
وخالفهم أبو الحسن الأشعري فقال في كتاب الإيجاز ما نصه لا يجب على الله أن يعوض البهائم والأطفال والمجانين وجميع الخلق الذين خلق فيهم الألم خلافاً للقدرية حيث قالوا إن الله تعالى إذا آلم الحيوان لا على سبيل(15/95)
الإستحقاق ويجب عليه أن يعوضهم وإلا يكون ظالماً.
ودليلنا أن العقل لا يوجب على الله شيئاًً، وإذا ثبت أن البهائم وغيرها من الحيوان الذي خلق فيه الألم من غير جرم ولا ذنب لا يستحقون ذلك لم تجب إعادتهم ولا نشرهم ولا حشرهم يوم القيامة.
وقال القدرية إن لم يعوضهم في الدنيا فإنه يجب عليه حشرهم في الآخرة وبعثهم كبعث المكلفين.
فإن قالوا قد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم في خبر القصاص " حتى يؤخذ للجماء من القرناء ".
قلنا المراد به حتى يؤخذ للضعيف من القوي، فكنى بذلك عنهم لأن الدليل قد قام على أنهم غير مكلفين، ومن لا تكليف عليه لا يعاقب ولا يقتص منه انتهى.
وفي سراج الملوك اختلف السلف في هذا فقال ابن عباس حشرها موتها، وهو تأويل بعيد لأن الحشر الجمع، وليس في موتها جمعها، بل تفريقها بتمزيقها، ومعظم المفسرين على أنها تحشر كلها حتى الذباب يقتص منها ثم يقال لها كوني تراباً.
وقال بعضهم لا نقطع بإعادتها كالمجانين ومن لم تبلغه الدعوة، وتوقف بعضهم في ذلك والدليل عليه الآية المذكورة والحديث الصحيح عن أبي هريرة " ليؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء " وأنكرها الأشعري لأنها غير مكلفة والخبر تمثيل لشدة التقصي في الحساب.
وقال الأسفراييني يقتص منها بما تفعله في الدنيا، ورد بأنها ليست بمكلفة فهي في المشيئة يفعل بها ما أراد انتهى.(15/96)
أقول قد تصل بهذا التفصيل الوقوف على الأقوال الأربعة وأدلتها، والحق الذي تشتفي به الصدور أن لا تؤول الآية والحديث بما هو خلاف الظاهر، والشبهة الداعية له بأنها غير عاقلة ولا مكلفة، والحشر والحساب مبني على ذلك، فإذا سقط الأساس سقط ما بني عليه.
فالجواب عنها أن نسلم أنها غير مكلفة لأنها لا تعقل، والنزاع فيه مكابرة إلا أنها لما كانت في المشيئة يفعل الله بها ما يريد، وهو لا يسأل عما يفعل باتفاق أهل السنة بل العقلاء فنقول إن الله تعالى يعيدها وينصف بعضها من بعض بما فعلته بإرداتها لإدراكها للجزئيات، وليس هذا بتكليف ولا مبني عليه، لأن جزاء التكليف إنما يكون في داري الخلود والنار وهي تعود تراباً قبل دخول أهليهما فيهما.
وأما فعل الحكيم القدير لذلك فليعرف أهل المحشر أنه عز وجل لا يترك مثقال ذرة من العدل، ليتحقق أهل النعيم ما لهم من النعيم المقيم وأهل الجحيم ما أعد لهم من العذاب الأليم تنويراً لهم وإرشاداً لأن يعلموا عظمة كبريائه، وتساوي جمع مخلوقاته عنده بالنسبة لذلك.
ولك أن تقول قول ابن عباس حشرها موتها معناه أن حشرها لأجل أن يفنيها ويقول لها كوني تراباً، ولولا بعد كلام الأشعري بتصريحه بما ينافيه حملنا أنه تمثيل على ما ذكر، أو قلنا أنه إنما أنكر الوجوب، ولكن الحق أحق أن يتبع، وهذا مما ينبغي أن يكتب بالنور، على صفحات خدود الحور، وإنما ذكرنا هذا مع طوله وعدم مناسبته لموضوع التفسير تصدقاً على من طالعه بجواهر الفرائد.(15/97)
وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ (6)
(وإذا البحار سجرت) (1) أي أوقدت فصارت ناراً تضطرم وقال الفراء
_________
(1) في هذه الآية عجيبة قرآنية تقطع ألسنة الملحدين الذين يقولون إن القرآن من عند محمد، من أين لمحمد أو لعصر محمد ما في هذه الآية من علوم لم يعرفها العالم إلا في العصر الحديث.
لم يكن عصر محمد يعرف في البحار إلا الري والإنبات، أما أن البحار تنقلب ناراً فهذا ما لم يخطر لهم
[ص:98]
ببال. وإليك كلمة لأستاذ جامعي.
ونرى كذلك أن المعامل الطبيعية والكيميائية أثبتت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صادق فيما بلغه من كتاب الله، ذلك أن قوله تعالى (وإذا البحار سجرت) معناه التهبت وصارت ناراً. والبحوث العلمية أثبتت أن الماء مكون من عنصرين: أكسوجين وهيدروجين، وأن الهيدروجين يشتعل. والأكسوجين يساعد على الاشتعال. فإذا فصلت القدرة بين عنصري الماء تحولت البحار إلى نيران. وهذا دليل جديد على صدق القرآن. الناشر.(15/97)
ملئت بأن صارت بحراً واحداً وكثر ماؤها وبه قال الربيع بن خيثم والكلبي ومقاتل والحسن والضحاك، وقيل أرسل عذبها على مالحها، ومالحها على عذبها حتى امتلأت. وقيل فجرت فصارت بحراً واحداً وروي عن قتادة وابن حبان أن معنى الآية يبست ولا يبقى فيها قطرة يقال سجرت الحوض أسجره سجراً إذا ملأته، وقال القشيري هو من سجرت التنور أسجره سجراً إذا أحميته.
قال ابن زيد وعطية وسفيان ووهب وغيرهم أوقدت فصارت ناراً، وقيل معنى سجرت أنها صارت حمراء كالدم من قولهم عين سجراء أي حمراء.
قرأ الجمهور سجِّرت بتشديد الجيم وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بتخفيفها عن أبي العالية قال ست من آيات هذه السورة في الدنيا والناس ينظرون إليها، وست في الآخرة (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ -إلى- وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ) هذه في الدنيا والناس ينظرون إليها، (وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ - إلى- وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ) هذه في الآخرة أخرجه عبد بن حميد وابن المنذر.
وعن أبيّ بن كعب قال ست آيات قيل يوم القيامة بينما الناس في أسواقهم إذ ذهب ضوء الشمس، فبينما هم كذلك إذ وقعت الجبال على وجه الأرض فتحركت واضطربت واختلطت، وفزعت الجن إلى الإنس، والإنس إلى الجن، واختلطت الدواب والطير والوحوش، فماجوا بعضهم في بعض.
وقال أيضاًً في الآية قال الجن للإنس نحن نأتيكم بالخبر فانطلقوا إلى البحر، فإذا هو نار تأجج فبينما هم كذلك إذ تصدعت الأرض صدعة واحدة(15/98)
إلى الأرض السابعة وإلى السماء السابعة فبينما هم كذلك إذ جاءتهم ريح فأماتتهم، وقال ابن عباس: تسجر حتى تصير ناراً، وقال أيضاًً سجرت أي اختلط ماؤها بماء الأرض.(15/99)
وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (7)
(وإذا النفوس زوجت) أي قرنت بأجسادها أي ردت الأرواح إلى أبدانها، وهذا بناء على أن التزويج بمعنى جعل الشيء زوجاً، والنفوس على هذا بمعنى الأرواح وقيل معناه قرن بين الرجل الصالح مع الرجل الصالح في الجنة، وقرن بين الرجل السوء مع رجل السوء في النار كذلك تزويج الأنفس، قاله عمر بن الخطاب، وأخرج نحوه ابن مردويه عن النعمان بن بشير مرفوعاً.
وقال عطاء زوجت نفوس المؤمنين بالحور العين، وقرنت نفوس الكافرين بالشياطين، وقيل قرن كل شكل إلى شكله في العمل، وهو راجع إلى القول الثاني.
وقيل قرن كل رجل إلى من كان يلازمه من ملك أو سلطان كما في قوله (أحشروا الذين ظلموا وأزواجهم) وقال الحسن ألحق كل امرىء بشيعته، اليهود باليهود والنصارى بالنصارى والمجوس بالمجوس، وكل من كان يعبد شيئاًً من دون الله يلحق بعضهم ببعض، والمنافقون بالمنافقين والمؤمنون بالمؤمنين.
وقيل يقرن الغاوي بمن أغواه من شيطان أو إنسان، ويقرن المطيع بمن دعاه إلى الطاعة من الأنبياء والمؤمنين.
وقيل قرنت النفوس بأعمالها وكتبها فأصحاب اليمين زوج. وأصحاب الشمال زوج، والسابقون زوج(15/99)
وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8)
(وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ) أي المدفونة حية (سُئِلَتْ (8)(15/99)
بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9)
بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ) وقد كانت العرب إذا ولدت لأحدهم بنت دفنها حية مخافة العار أو الحاجة والإملاق، وخشية الاسترقاق، يقال وأد يئد فهو وائد والمفعول به موؤود، وأصله مأخوذ من الثقل لأنها تدفن فيطرح عليها التراب(15/99)
فيثقلها فتموت، ومنه (ولا يؤوده حفظهما) أي لا يثقله وهنا قول متمم بن نويرة *ومؤودة مقبورة في مغارة* ومنه قول الراجز:
سميتها إذ ولدت تموت ... والقبر صهر ضامن رميت
قرأ الجمهور " الْمَوْءُودَةُ " بهمزة بين واوين ساكنين كالموعودة، وقرأ البزي في رواية عنه بهمزة مضمومة ثم واو ساكنة، وقرأ الأعمش المودة بزنة الموزة، وقرأ الجمهور سئلت مبنياً للمفعول، وقرأ الحسن بكسر السين من سأل يسيل، وقرأ علي وابن مسعود وابن عباس سألت مبنياً للفاعل، وقتلت بضم التاء الأخيرة، وهذه قراءة شاذة.
والمعنى على الأولى أن توجيه السؤال إليها لإظهار كمال الغيظ على قاتلها حتى كأنه لا يستحق أن يخاطب ويسأل عن ذلك، وفيه تبكيت لقاتلها وتوبيخ له شديد بصرف الخطاب كقوله (أأنت قلت للناس) وهذه الطريقة أفظع في ظهور جناية القاتل وإلزام الحجة عليه.
قال الحسن أراد الله أن يوبخ قاتلها لأنها قتلت بغير ذنب، وقيل لتدل على قاتلها وقيل لتقول بلا ذنب قتلت، وعلى هذا هو سؤال تلطف.
وقرأ الجمهور قتلت بالتخفيف مبنياً للمفعول، وقرأ أبو جعفر بالتشديد على التكثير وقرىء بكسر التاء الثانية على أنها تاء المؤنثة المخاطبة والفعل مبني للمفعول، وهذه قراءة شاذة وفي مصحف أُبيّ وإذا الموؤودة سألت بأي ذنب قتلتني.
وفي الآية دليل على أن أطفال المشركين لا يعذبون، وعلى أن التعذيب لا يكون بلا ذنب.
عن عمر بن الخطاب قال " جاء قيس بن عاصم التميمي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إني وأدت ثمان بنات لي في الجاهلية فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: فأعتق عن كل واحدة رقبة، قال إني: صاحب إبل قال: فاهد عن كل واحدة بدنة " أخرجه البزار والحاكم في الكنى والبيهقي في سننه.(15/100)
وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (10) وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ (11) وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (12) وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (13) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ (14) فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوَارِ الْكُنَّسِ (16) وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ (17) وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ (18) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20)(15/101)
وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (10)
(وإذا الصحف) أي صحائف الأعمال (نشرت) أي فتحت وبسطت للحساب لأنها تطوى عند الموت وتنشر عند الحساب، فيقف كل إنسان على صحيفته فيعلم ما فيها فيقول (مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا) ويجوز أن يراد نشرت بين أصحابها أي فرقت بينهم، قرأ نافع وابن عامر وأبو عمرو نشرت بالتخفيف وقرأ الباقون بالتشديد على التكثير وهما سبعيتان.(15/101)
وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ (11)
(وإذا السماء كشطت) أي أزيلت عن أماكنها وعدمت بالمرة، والكشط قلع عن شدة التزاق، فالسماء تكشط كما يكشط الجلد عن الكبش، والقشط بالقاف لغة في الكشط وهي قراءة ابن مسعود، قال الزجاج: قلعت كما يقلع السقف، وقال الفراء: نزعت فطويت، وقال مقاتل كشفت عما فيها، قال الواحدي ومعنى الكشط رفعك شيئاًً عن شيء قد غطاه.(15/101)
وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (12)
(وإذا الجحيم سعرت) أي أججت وأوقدت لأعداء الله إيقاداً شديداً، وزيد في إحمائها قرأ الجمهور سعرت بالتخفيف، وقرأ نافع وابن ذكوان وورش بالتشديد لأنها أوقدت مرة بعد مرة وهما سبعيتان، قال قتادة سعرها غضب الله وخطايا بني آدم.(15/101)
وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (13)
(وإذا الجنة أزلفت) أي قربت إلى المتقين وأدنيت منهم ليدخلوها، قال الحسن إنهم يقربون منها لا أنها تزول عن موضعها، وقال ابن زيد معنى أزلفت تزينت، والأول أولى لأن الزلفى القرب في كلام العرب.(15/101)
قيل هذه الأمور الإثنا عشر ست منها في الدنيا وهي من أول السورة إلى قوله (وإذا البحار سجرت) وست في الآخرة هي (وإذا النفوس زوجت) إلى هنا وقد سبق بيانها.
وجواب الجميع قوله(15/102)
عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ (14)
(علمت نفس ما أحضرت) على أن المراد الزمان الممتد من الدنيا إلى الآخرة لكن لا بمعنى أنها تعلم ما تعلم في كل جزء من أجزاء هذا الوقت الممتد أو عند وقوع كل داهية من تلك الدواهي، بل المراد علمت ما أحضرته عند نشر الصحف أو في موقف المحاسبة أو عند الميزان إلا أنه لما كان بعض تلك الدواهي من مباديه وبعضها من روادفه نسب علمها بذلك إلى زمان وقوع كلها تهويلاً للخطب، وتفظيعاً للحال.
والمراد بما أحضرت أعمالها من الخير والشر وبحضورها حضور صحائف الأعمال لأن الأعمال أعراض لا يمكن إحضارها أو حضور الأعمال نفسها، كما ورد أن الأعمال تصور بصور تدل عليها، وتعرف بها، وتنكير نفس المفيد لثبوت العلم المذكور لفرد من النفوس أي لبعض منها للإيذان بأن ثبوته لجميع أفرادها من الظهور والوضوح بحيث لا يخفى على أحد، ويدل على هذا قوله:
(يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضراً) وقيل يجوز أن يكون ذلك للإشعار بأنه إذا علمت حينئذ نفس من النفوس ما أحضرت وجب على كل نفس إصلاح عملها مخافة أن تكون هي تلك التي علمت ما أحضرت، فكيف وكل نفس تعلمه على طريقة قولك لمن تنصحه " لعلك ستندم على ما فعلت، وربما ندم الإنسان على فعله ".(15/102)
فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15)
(فلا أقسم) لا زائدة كما تقدم تحقيقه وتحقيق ما فيه من الأقوال في أول سورة القيامة أي فأقسم (بالخنس) وهي الكواكب، وسميت الخنس من خنس إذا تأخر لأنها تخنس بالنهار فتخفى ولا ترى وهي زحل والمشترى والمريخ والزهرة وعطارد كما ذكره أهل التفسير، ووجه تخصيصها بالذكر من(15/102)
بين سائر النجوم أنها تستقبل الشمس وتقطع المجرة.
وقال في الصحاح الخنس الكواكب كلها لأنها تخنس في المغيب أو لأنها تخفى نهاراً أو يقال هي الكواكب السيارة منها دون الثابتة.
قال الفراء إنها الكواكب الخمس المذكورة لأنها تخنس في مجراها وتكنس أي تستتر كما تكنس الظباء في المغار، وقيل سميت خنساً لتأخرها لأنها الكواكب المتحيرة التي ترجع وتستقيم، يقال خنس عنه يخنس خنوساً إذا تأخر وأخنسه غيره إذا خلفه ومضى عنه والخنس تأخر الأنف عن الوجه مع ارتفاع قليل في الأرنبة.
قال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: هي الكواكب تكنس بالليل وتخنس بالنهار فلا ترى، وعنه قال خمسة أنجم زحل وعطارد والمشترى وبهرام والزهرة ليس شيء يقطع المجرة غيرها.
وعن ابن عباس قال: هي النجوم السبعة وزاد الشمس والقمر وخنوسها رجوعها وكنوسها تغيبها بالنهار.(15/103)
الْجَوَارِ الْكُنَّسِ (16)
(الجوار) أي السيارة لأنها تجري مع الشمس والقمر (الكنس) أي أنها ترجع حتى تخفى تحت ضوء الشمس فخنوسها رجوعها وكنوسها اختفاؤها تحت ضوئها وقيل خنوسها خفاؤها بالنهار وكنوسها غروبها، قال الحسن وقتادة هي النجوم التي تخنس بالنهار وإذا غربت، والمعنى متقارب لأنها تتأخر في النهار عن البصر لخفائها فلا ترى وتظهر بالليل وتكنس في وقت غروبها.
وقيل المراد بها بقر الوحش وبه قال ابن مسعود: لأنها تتصف بالخنس وبالجواري وبالكنس، وقال عكرمة: اخنس البقر والكنس الظباء فهي تخنس إذا رأت الإنسان وتنقبض وتتأخر وتدخل كناسها، وقيل هي الملائكة والأول أولى لذكر الليل والصبح بعد هذا.
والكنس مأخوذ من الكناس الذي يختفي فيه الوحش، والخنس جمع خانس وخانسة، والكنس جمع كانس وكانسة.(15/103)
وقال ابن عباس هي البقرة تكنس إلى الظل، وعنه قال تكنس لأنفسها في أصول الشجر تتوارى فيه، وعنه قال هي الظباء وعنه الخنس البقر، والجوار الكنس الظباء، ألم ترها إذا كانت في الظل كيف تكنس بأعناقها ومدت نظرها.
وعن أبي العديس قال: " كنا عند عمر بن الخطاب فأتاه رجل فقال يا أمير المؤمنين ما الجواري الكنس فطعن عمر بمخصرة معه في عمامة الرجل فألقاها عن رأسه فقال عمر: أحروري؟ والذي نفس عمر بن الخطاب بيده لو وجدتك محلوقاً لأنحيت القمل عن رأسك " أخرجه الحاكم في الكنى، وهذا منكر، فإن الحرورية لم يكونوا في زمن عمر رضي الله عنه ولا كان لهم في ذلك الوقت ذكر.(15/104)
وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ (17)
(والليل إذا عسعس) أي أقبل بظلامه أو أدبر، قال أهل اللغة: هو من الأضداد. يقال عسعس الليل إذا أقبل، وعسعس إذا أدبر، ويدل على أن المراد هنا أدبر قوله الآتي(15/104)
وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ (18)
(والصبح إذا تنفس) قال الفراء: أجمع المفسرون على أن معنى عسعس أدبر كذا حكاه عنه الجوهري، وقال الحسن: أقبل ظلامه، قال الفراء العرب تقول عسعس الليل إذا أقبل وإذا أدبر.
وهذا لا ينافي ما تقدم عنه لأنه حكى عن المفسرين أنهم أجمعوا على حمل معناه في هذه الآية على أدبر، وإن كان في الأصل مشتركاً بين الإقبال والإدبار، قال المبرد هو من الأضداد، قال والمعنيان يرجعان إلى شيء واحد وهو ابتداء الظلام في أوله وإدباره في آخره، قال ابن عباس عسعس أدبر وعنه قال إقبال سواده.
(والصبح إذا تنفس) أي امتد حتى يصير نهاراً بيناً، والتنفس في الأصل خروج النسيم من الجوف، وتنفس الصبح إقباله لأنه يقبل بروح ونسيم، فجعل ذلك تنفساً له مجازاً أو شبه الليل المظلم بالمكروب المحزون الذي حبس بحيث لا يتحرك فإذا تنفس وجد راحة، وههنا لما طلع الصبح(15/104)
فكأنه تخلص من ذلك الحزن فعبر عنه بالتنفس.
قال الواحدي تنفس أي امتد ضوؤه حتى يصير نهاراً ومنه يقال للنهار إذا زاد تنفس، وقيل المعنى إذا انشق وانفلق ومنه تنفست القوس أي تصدعت قال ابن عباس إذا تنفس إذا بدا النهار حين طلوع الفجر.
قال الشهاب مناسبته لقرينه ظاهرة على التفسيرين لأن ما قبله إن كان للإقبال فهو أول الليل وهذا أول النهار، وإن كان للإدبار فهذا ملاصق له فبينهما مناسبة الجوار فلا وجه لما قيل من أنه على الأول أنسب انتهى.
ثم ذكر سبحانه جواب القسم فقال(15/105)
إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19)
(إنه) أي القرآن (لقول رسول كريم) على الله تعالى يعني جبريل وبه قال ابن عباس لكونه نزل به من جهة الله سبحانه إلى رسوله صلى الله عليه وآله وسلم وأضاف القول إلى جبريل لكونه مرسلاً به وقيل المراد بالرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم، والأول أولى.
ثم وصف الرسول المذكور بأوصاف محمودة فقال(15/105)
ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20)
(ذي قوة عند ذي العرش مكين) أي ذي قوة شديدة في القيام بما كلف به كما في قوله (شديد القوى) ومن قوته أنه اقتلع قرى قوم لوط الأربع من الماء الأسود وحملها على جناحه فرفعها إلى السماء ثم قلبها، وأنه صاح صيحة بثمود فأصبحوا جاثمين، وأنه يهبط من السماء إلى الأرض ثم يصعد في أسرع من رد الطرف.
والمعنى أنه ذو رفعة عالية ومكانة مكينة عند الله سبحانه، وهو في محل نصب على الحال من مكين، وأصله الوصف فلما قدم صار حالاً، ويجوز أن يكون نعتاً لرسول يقال مكن فلان عند فلان مكانة أي صار ذا منزلة عنده ومكانة قال أبو صالح من مكانته عند ذي العرش أنه يدخل سبعين سرادقاً بغير إذن.(15/105)
مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21) وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (22) وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (23) وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (24) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (25) فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26) إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (27) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (29)
ومعنى قوله(15/106)
مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21)
(مطاع) أنه مطاع بين الملائكة يرجعون إليه ويطيعونه ومن طاعتهم له أنهم فتحوا أبواب السموات ليلة المعراج بقوله لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وفتح خزنة الجنة أبوابها بقوله.
قال الحسن فرض الله على أهل السموات طاعة جبريل كما فرض على أهل الأرض طاعة محمد صلى الله عليه وآله وسلم (ثََمَّ أمين) قرأ الجمهور بفتح ثم على أنها ظرف مكان للبعيد، والعامل فيه مطاع أو ما بعد، والمعنى أنه مطاع في السموات أو أمين فيها أي مؤتمن على الوحي وغيره.
وقرىء بضمها على أنها عاطفة وكأن العطف بها للتراخي في الرتبة لأن ما بعدها أعظم مما قبلها ومن قال أن المراد بالرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم فالمعنى أنه ذو قوة على تبليغ الرسالة إلى الأمة، مطاع يطيعه من أطاع الله، أمين على الوحي.(15/106)
وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (22)
(وما صاحبكم بمجنون) الخطاب لأهل مكة والمراد بصاحبكم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والمعنى وما محمد يا أهل مكة بمجنون، وذكره بوصف الصحبة للإشعار بأنهم عالمون بأمره، وأنه ليس مما يرمونه به من الجنون وغيره في شيء، وأنهم افتروا عليه ذلك عن علم منهم بأنه أعقل الناس وأكملهم.
وهذه الجملة داخلة في جواب القسم فأقسم سبحانه بأن القرآن نزل به جبريل وأن محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليس كما يقولون من أنه مجنون، وأنه يأتي بالقرآن من جهة نفسه.(15/106)
والمقصود (1) رد قولهم (إنما يعلمه بشر) (افترى على الله كذباً أم به جنة) لا تعداد فضلهما والموازنة بينهما.
ثم إنك إذا أمعنت النظر وقفت على أن إجراء تلك الصفات على جبريل في هذا المقام إدماج لتعظيم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأنه بلغ من المكانة وعلو المنزلة عند ذي العرش بأن جعل السفير بينه وبينه مثل هذا الملك المقرب المطاع الأمين، فالقول في هذه الصفات بالنسبة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رفعة منزلة له كالقول في قوله ذي العرش بالنسبة إلى رفعة منزلة جبريل عليه السلام، كذا ذكره الكرخي.
_________
(1) جواب سؤال تقريره أن بعضهم استدل بالآية على فضل جبريل على محمد صلى الله عليه وآله وسلم حيث عد فضائل جبريل واقتصر على نفي الجنون عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأجاب المؤلف العلامة عن هذا بقوله والمقصود رد قولهم الخ أهـ السيد ذو الفقار.(15/107)
وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (23)
(ولقد رآه بالأفق المبين) اللام جواب قسم محذوف أي وتالله لقد رأى محمد صلى الله عليه وآله وسلم جبريل بمطلع الشمس من قبل المشرق، لأن هذا الأفق إذا كانت الشمس تطلع منه فهو مبين، لأن من جهته ترى الأشياء وهذه الرؤية هي الواقعة في غار حراء حين رآه على كرسي بين السماء والأرض، وقيل الأفق المبين أقطار السماء ونواحيها.
وإنما قال سبحانه ذلك مع أنه قد رآه غير مرة لأنه رآه هذه المرة في صورته له ستمائة جناح.
قال سفيان: إنه رآه في أفق السماء الشرقي أي لأنه كان في المشرق من حيث تطلع الشمس، وقال ابن بحر في أفق السماء الغربي، وقال مجاهد: رآه نحو أجياد وهو مشرق مكة، والمبين صفة للأفق، قاله الربيع: وقيل صفة لمن رآه قاله مجاهد.
وقيل معنى الآية ولقد رأى محمد صلى الله عليه وسلم ربه عز وجل، وقد تقدم القول في هذا في سورة النجم.(15/107)
قال ابن عباس في الآية إنما عنى جبريل أن محمداً صلى الله عليه وآله وسلم رآه في صورته عند سدرة المنتهى، والأفق المبين السماء السابعة.(15/108)
وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (24)
(وما هو) أي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (على الغيب) يعني خبر السماء وما اطلع عليه مما كان غائباً علمه عن أهل مكة (بظنين) أي بمتهم أي هو ثقة فيم يؤدي عن الله سبحانه، وقيل بضنين بالضاد أي ببخيل، قاله ابن عباس أي لا يبخل بالوحي ولا يقصر في التبليغ.
وسبب هذا الاختلاف اختلاف القراء فقرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي بالظاء أي بمتهم والظنة التهمة واختارها أبو عبيد، قال لأنهم لم يبخلوه ولكن كذبوه واتهموه.
وقرأ الباقون بالضاد من ضننت بالشيء أضن ضناً إذا بخلت، قال مجاهد أي لا يضن عليكم بما يعلم بل يعلم الخلق كلام الله وأحكامه، وقيل المراد جبريل أنه ليس على الغيب بضنين والأول أولى.
وقرأ ابن مسعود بالظاء بمعنى متهم.
وعن عائشة: " أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يقرأها بالظاء " أخرجه الدارقطني في الإفراد والحاكم وصححه وابن مردويه والخطيب، فإن البخل وما في معناه لا يتعدى بعلى وإنما يتعدى بالباء.(15/108)
وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (25)
(وما هو) أي القرآن (بقول شيطان رجيم) طريد من الشياطين المسترقة للسمع المرجومة بالشهب، قال الكلبي يقول أن القرآن ليس بشعر ولا كهانة كما قالت قريش كقوله (وما تنزلت به الشياطين) قال عطاء يريد بالشيطان الشيطان الأبيض الذي كان يأتي النبي صلى الله عليه وآله وسلم في صورة جبريل يريد أن يفتنه.
ثم بكتهم الله سبحانه ووبخهم فقال(15/108)
فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26)
(فأين تذهبون) الفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها من ظهور إنه وحي مبين، وليس مما يقولون في شيء أي(15/108)
أين تعدلون عن هذا القرآن وعن طاعته، قاله قتادة، وقال الزجاج: معناه أي طريق تسلكون أبين من هذه الطريقة التي قد بينت لكم.
وهذا استضلال لهم كما يقال لتارك الجادة اعتسافاً أو ذهاباً في جنبات الطريق أين تذهب وإلى أين تذهب، وحكى الفراء عن العرب ذهبت الشام وخرجت العراق وانطلقت السوق أي إليها قال سمعناه في هذه الأحرف الثلاثة يريد إلى أي أرض تذهب فحذف إلى.(15/109)
إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (27)
(إن هو إلا ذكر للعالمين) أي ما القرآن إلا موعظة للخلق أجمعين، وتذكير لهم.
وقوله(15/109)
لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28)
(لمن شاء منكم) بدل من العالمين بإعادة الجار ومفعول المشيئة (أن يستقيم) أي لمن شاء منكم الإستقامة على الحق والإيمان والطاعة.(15/109)
وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (29)
(وَمَا تَشَاءُونَ) الاستقامة (إلا أن) أي بأن (يشاء الله) تلك المشيئة فأعلمهم سبحانه أن المشيئة في التوفيق إليه وأنهم لا يقدرون على ذلك إلا بمشيئة الله وتوفيقه، ومثل هذا قوله سبحانه (وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله) وقوله (وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ) وقوله (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ) والآيات القرآنية في هذا المعنى كثير.
والخطاب هنا ليس للمخاطبين في قوله (فأين تذهبون) بل هو لمن عبر عنهم بقوله لمن شاء منكم أن يستقيم (رب العالمين) أي مالك الخلق أجمعين.
ْعن أبي هريرة قال " لما نزلت لمن شاء منكم أن يستقيم قالوا الأمر إلينا إن شئنا استقمنا وإن شئنا لم نستقم فهبط جبريل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال كذبوا يا محمد (وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) أخرجه ابن أبي حاتم وابن مردويه ".(15/109)
سورة الانفطار
هي تسع عشرة آية وهي مكية بلا خلاف وقال ابن عباس نزلت بمكة وعن ابن الزبير مثله، وأخرج النسائي عن جابر قال: " قام معاذ فصلى العشاء فطول فقال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - " أفتّان أنت يا معاذ أين أنت عن سبح اسم ربك، والضحى، وإذا السماء انفطرت " وأصل الحديث في الصحيحين ولكن بدون ذكر إذا السماء انفطرت وقد تفرد بها النسائي، وقد تقدم في سورة التكوير حديث " من سره أن ينظر إلى يوم القيامة رأي عين فليقرأ إذا الشمس كورت، وإذا السماء انفطرت " الحديث.(15/111)
بسم الله الرحمن الرحيم
إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ (1) وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ (2) وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ (3) وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (4) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (5) يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ (8)(15/113)
إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ (1)
(إذا السماء انفطرت) السماء فاعل فعل محذوف يدل عليه المذكور، قال الواحدي قال المفسرون انفطارها انشقاقها كقوله (ويوم تشقق السماء بالغمام وتنزل الملائكة تنزيلاً) والفطر الشق يقال فطرته فانفطر، ومنه فطر ناب البعير إذا طلع، قيل والمراد أنها انفطرت هنا لنزول الملائكة منها وقيل انفطرت لهيبة الله عز وجل.(15/113)
وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ (2)
(وإذا الكواكب انتثرت) أي إذا انقضت وتساقطت متفرقة، يقال نثرت الشيء انثره نثراً، والانتثار استعارة لإزالة الكواكب حيث شبهت بجواهر قطع سلكها وهي مصرحة أو مكنية.(15/113)
وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ (3)
(وإذا البحار فجرت) أي فجر بعضها من أعلاها أو أسفلها في بعض فصارت بحراً واحداً واختلط العذب منها بالمالح، وأزال ما بينهما من البرزخ الحاجز، وقال الحسن معنى فجرت ذهب ماؤها ويبست، قال ابن عباس فجرت بعضها في بعض، وقيل فاضت.
العامة على بناء فجرت للمفعول مثقلاً، وقرأ مجاهد مبنياً للفاعل مخففاً من الفجور نظراً إلى قوله (بينهما برزخ لا يبغيان) فلما زال البرزخ بغياً، وقرأ مجاهد أيضاًً والربيع بن خيثم والزعفراني والثوري مبنياً للمفعول مخففاً.(15/113)
وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (4)
(وإذا القبور بعثرت) أي قلب ترابها الذي أهيل على الأموات وقت الدفن، وأخرج الموتى الذين هم فيها، يقال بعثر يبعثر بعثرة إذا قلب التراب، ويقال بعثر المتاع قلبه ظهراً لبطن وبعثرت الحوض وبعثرته إذا هدمته، وجعلت أعلاه أسفله.
قال الفراء بعثرت أخرجت ما في بطنها من الذهب والفضة وذلك من أشراط الساعة أن تخرج الأرض ذهبها وفضتها، وقال ابن عباس أي بحثت.
وكررت " إذا " لتهويل ما في حيزها من الدواهي.
قال الرازي المراد من هذه الآيات أنه إذا وقعت هذه الأشياء التي هي أشراط الساعة فهناك يحصل الحشر والنشر، وهي ههنا أربعة اثنان منها يتعلقان بالعلويات واثنان يتعلقان بالسفليات.
والمراد بهذه الآيات بيان تخريب العالم وفناء الدنيا وانقطاع التكاليف، والسماء كالسقف، والأرض كالبناء، ومن أراد تخريب دار فإنه يبدأ أولاً بتخريب السقف ثم يلزم من تخريب السماء انتثار الكواكب، ثم بعد تخريب السماء والكواكب يخرب كل ما على وجه الأرض من البحار، ثم بعد ذلك تخرب الأرض التي فيها الأموات، وأشار لذلك بقوله (وإذا القبور بعثرت).
ثم ذكر سبحانه الجواب عما تقدم فقال(15/114)
عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (5)
(علمت نفس ما قدمت وأخرت) والمعنى أنها علمته عند نشر الصحف لا عند البعث لأنه وقت واحد من عند البعث إلى عند مصير أهل الجنة إلى الجنة وأهل النار إلى النار، والكلام في إفراد نفس هنا كما تقدم في السورة الأولى في قوله:
(علمت نفس ما أحضرت) ومعنى ما قدمت وأخرت ما قدمت من عمل خير أو شر أو أخرت من سنة حسنة أو سيئة لأن لها أجر ما سنته من السنن الحسنة وأجر من عمل بها، وعليها وزر ما سنته من السنن السيئة ووزر من عمل بها.(15/114)
وقال قتادة ما قدمت من معصية وأخرت من طاعة، وقيل ما قدم من فرض وأخر من فرض وقيل أول عمله وآخره.
وقيل أن النفس تعلم عند البعث بما قدمت وأخرت علماً إجمالياً لأن المطيع يرى آثار السعادة، والعاصي يرى آثار الشقاوة، وأما العلم التفصيلي فإنما يحصل عند نشر الصحف.
عن ابن مسعود قال ما قدمت من خير وما أخرت من سنة صالحة يعمل بها بعده فإن له مثل أجر من عمل بها من غير أن ينقص من أجورهم شيئاًً أو سنة سيئة يعمل بها بعده فإن عليه مثل وزر من عمل بها ولا ينقص من أوزارهم شيئاًً، وعن ابن عباس نحوه.
وأخرج الحاكم وصححه عن حذيفة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم من استن خيراً فاستن به فله أجره ومثل أجور من اتبعه من غير منتقص من أجورهم، ومن استن شراً فاستن به فعليه وزره ومثل أوزاره من اتبعه من غير منتقص من أوزارهم (1) وتلا حذيفة (علمت نفس ما قدمت وأخرت).
ولما أخبر سبحانه في الآية الأولى عن وقوع الحشر والنشر ذكر في هذه الآية ما يدل عقلاً على وقوعه فقال:
_________
(1) الحاكم 2/ 516.(15/115)
يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6)
(يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم) هذا خطاب للكفار وقال بعضهم المراد بالإنسان ما يشمل الكافر والمؤمن العاصي، قال الشهاب وهذا أرجح كما في الكشف وغيره.
والمعنى ما الذي غرك وخدعك أو جعلك غاراً حتى كفرت بربك الكريم الذي تفضل عليك في الدنيا بإكمال خلقك وحواسك وجعلك عاقلاً فاهماً ورزقك وأنعم عليك بنعمه التي لا تقدر على جحد شيء منها، قال قتادة غره شيطانه المسلط عليه، وقال الحسن غره شيطانه الخبيث وقيل غره حمقه وجهله.(15/115)
وقيل غره عفو الله إذ لم يعاجله بالعقوبة أول مرة كذا قال مقاتل، وذكر الكريم للمبالغة في المنع من الاغترار، فإن محض الكرم لا يقتضي إهمال الظالم وتسوية الموالي والمعادي والمطيع والعاصي، فكيف إذا انضم إليه صفة القهر والانتقام والإشعار بما به يغره الشيطان فإنه يقول له افعل ما شئت فربك كريم لا يعذب أحداً ولا يعاجل بالعقوبة، والدلالة على أن كثرة كرمه تستدعي الجد في طاعته لا الإنهماك في عصيانه إغتراراً بكرمه، وعن عمر بن الخطاب أنه قرأ هذه الآية وقال: غره والله جهله.(15/116)
الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7)
(الذي خلقك) من نطفة ولم تك شيئاًً (فسواك) رجلاً تسمع وتبصر وتعقل (فعدلك) أي فجعلك معتدلاً قال عطاء جعلك قائماً معتدلاً حسن الصورة وقال مقاتل عدل خلقك في العينين والأذنين واليدين والرجلين، والمعنى عدل بين ما خلق لك من الأعضاء.
قرأ الجمهور فعدلك مشدداً وقرىء بالتخفيف واختار الأولى أبو عبيد وأبو حاتم قال الفراء وأبو عبيد: يدل عليها قوله (لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم) ومعنى القراءة الأولى أنه سبحانه جعل أعضاءه متعادلة لا تفاوت فيها، ومعنى الثانية أنه صرفه وأماله إلى أي صورة شاء إما حسناً وإما قبيحاً وإما طويلاً وإما قصيراً.(15/116)
فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ (8)
(في أي صورة ما شاء ركبك) في أي صورة متعلق بركبك وما مزيدة وشاء صفة لصورة أي ركبك في أي صورة شاءها، ويجوز أن يتعلق بمحذوف على أنه حال أي ركبك حاصلاً في أي صورة.
ونقل أبو حيان عن بعض المفسرين أنه متعلق بعدلك، واعترض عليه بأن أي لها صدر الكلام فلا يعمل فيها ما قبلها، قال مقاتل والكلبي ومجاهد: في أي شبه من أب أو أم أو خال أو عم، وقال مكحول إن شاء ذكراً وإن شاء أنثى.(15/116)
كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (9) وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ (12) إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14) يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ (15) وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ (16) وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (17) ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (18) يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (19)(15/117)
كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (9)
(كلا) ردع وزجر عن الاغترار بكرم الله وجعله ذريعة إلى الكفر به والمعاصي له أو بمعنى حقاً (بل تكذبون بالدين) إضراب عن جملة مقدرة ينساق إليها الكلام كأنه قيل بعد الردع بطريق الاعتراض وأنتم لا ترتدعون عن ذلك بل تجاوزونه إلى ما هو أعظم منه من التكذيب بالدين وهو الجزاء أو بدين الإسلام.
قال ابن الأنباري الوقف الجيد على الدين وعلى ركبك، وعلى كلا قبيح، والمعنى بل تكذبون يا أهل مكة بالدين أي بالحساب وبل لنفي شيء تقدم، وتحقيق غيره، وإنكار البعث قد كان معلوماً عندهم وإن لم يجر له ذكر.
قال الفراء كلا ليس الأمر كما غررت به، قرأ الجمهور تكذبون بالفوقية على الخطاب، وقرأ الحسن وأبو جعفر وشيبة بالتحتية على الغيبة.
وجملة(15/117)
وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10)
(وإن عليكم لحافظين) في محل نصب على الحال من فاعل تكذبون أي تكذبون والحال أن عليكم من يدفع تكذيبكم، أو مستأنفة مسوقة لبيان ما يبطل تكذيبهم، والحافظون الرقباء من الملائكة الذين يحفظون على العباد أعمالهم ويكتبونها في الصحف.
قال ابن عباس: جعل الله على ابن آدم حافظين في الليل والنهار يحفظان عمله ويكتبان أثره.(15/117)
وهذا الخطاب وإن كان مشافهة إلا أن الأمة أجمعت على عموم هذا الخطاب في حق المكلفين.
وقوله تعالى حافظين جمع يحتمل أن يكونوا حافظين لجميع بني آدم من غير أن يختص واحد من الملائكة بواحد من بني آدم، ويحتمل أن يكون الموكل بكل أحد منهم غير الموكل بالآخر، ويحتمل أن يكون الموكل بكل واحد منهم جمعاً من الملائكة كما قيل إثنان بالليل وإثنان بالنهار أو كما قيل أنهم خمسة، واختلفوا في الكفار هل عليهم حفظة فقيل لا، لأن أمرهم ظاهر وعملهم واحد، قال تعالى (يعرف المجرمون بسيماهم) وقيل عليهم حفظة وهو ظاهر قوله تعالى في هذه الآية وفي قوله تعالى: (وأما من أوتي كتابه وراء ظهره) فأخبر أن لهم كتاباً، وأن عليهم حفظه.
ثم وصفهم سبحانه فقال(15/118)
كِرَامًا كَاتِبِينَ (11)
(كراماً كاتبين) أي أنهم كرام لديه يكتبون ما يأمرهم به من أعمال العباد (يعلمون) على التجدد والاستقرار (ما تفعلون) في الآية دلالة على أن الشاهد لا يشهد إلا بعد العلم لوصف الملائكة بكونهم (حافظين كراماً كاتبين(15/118)
يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ (12)
يعلمون ما تفعلون) فدل على أنهم يكونون عالمين بها حتى أنهم يكتبونها فإذا كتبوها يكونون عالمين عند أداء الشهادة.
قال الرازي المعنى التعجيب من حالهم كأنه قال إنكم تكذبون بيوم الدين وملائكة الله موكلون يكتبون أعمالكم حتى تحاسبوا بها يوم القيامة ونظيره قوله تعالى (عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17) مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ).
وفي تعظيم الكتبة بالثناء عليهم تعظيم لأمر الجزاء وأنه عند الله من جلائل الأمور فيه إنذار وتهويل للمجرمين، ولطف للمتقين، وعن الفضيل أنه كان إذا قرأها قال ما أشدها من آية على الغافلين.
ثم بين سبحانه حال الفريقين فقال(15/118)
إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13)
(إن الأبرار لفي نعيم) أي جنة(15/118)
وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14)
(وإن الفجار لفي جحيم) أي نار، والجملة مستأنفة لتقرير هذا المعنى الذي سيقت له وهي كقوله سبحانه (فريق في الجنة وفريق في السعير).
لفظ الفجار عائد على الكافرين الذين تقدم ذكرهم، وليس شاملاً لعصاة المؤمنين، لأنا لا نسلم أن مرتكب الكبيرة من المؤمنين فاجر على الإطلاق (فأل) في الفجار للعهد لا الذكرى بدليل قوله (بل تكذبون بالدين).(15/119)
يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ (15)
(يَصْلَوْنها يوم الدين) صفة لجحيم أو مستأنفة جواب سؤال مقدر كأنه قيل ما حالهم فقيل يصلونها يوم الجزاء الذي كانوا يكذبون به، ويجوز أن يكون في محل نصب على الحال من الضمير في متعلق الجار والمجرور، ومعنى يصلونها أنهم يلزمونها مقاسين لوهجها وحرها يومئذ.
قرأ الجمهور يصلونها مخففاً مبنياً للفاعل، وقرىء بالتشديد مبنياً للمفعول.(15/119)
وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ (16)
(وما هم عنها بغائبين) أي لا يفارقونها أبداً ولا يغيبون عنها بل هم فيها وقيل المعنى وما كانوا غائبين عنها قبل ذلك بالكلية بل كانوا يجدون حرها في قبورهم.
ثم عظم سبحانه ذلك اليوم فقال(15/119)
وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (17)
(وما أدراك ما يوم الدين) أي يوم الجزاء والحساب(15/119)
ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (18)
(ثم ما أدراك ما يوم الدين) كرره تعظيماً لشأنه وتفخيماً لقدره وتهويلاً لأمره كما في قوله (الْقَارِعَةُ (1) مَا الْقَارِعَةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ) و (الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ) والمعنى أي شيء جعلك دارياً ما يوم الدين قال الكلبي الخطاب للإنسان الكافر.
ثم أخبر سبحانه عن اليوم فقال(15/119)
يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (19)
(يوم لا تملك نفس) من النفوس (لنفس) أخرى (شيئاًً) من النفع والضر، وملك الشفاعة لبعض الناس إذ ذاك إنما هو بإذن الله (من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه) ذكره الحفناوي.
قرأ ابن كثير وأبو عمرو برفع يوم على أنه بدل من يوم الدين أو خبر مبتدأ محذوف.(15/119)
وقرأ أبو عمرو في رواية عنه (يوم) بالتنوين والقطع عن الإضافة.
وقرأ الباقون بفتحه على أنها فتحة إعراب بتقدير أعني أو أذكر فيكون مفعولاً به أو على أنها فتحة بناء لإضافته إلى الجملة على رأي الكوفيين وهو في محل رفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أو على أنه بدل من يوم الدين.
قال الزجاج يجوز أن يكون في موضع رفع إلا أنه بني على الفتح لإضافته إلى قوله (لا تملك) وما أضيف إلى غير المتمكن فقد يبنى على الفتح وإن كان في موضع رفع، وهذا الذي ذكره إنما يجوز عند الخليل وسيبويه إذا كانت الإضافة إلى الفعل الماضي وأما إلى الفعل المستقبل فلا يجوز عندهما، وقد وافق الزجاج على ذلك أبو علي الفارسي والفراء وغيرهما.
(والأمر يومئذ لله) وحده لا يملك شيئاًً من الأمر غيره كائناً من كان. قال مقاتل يعني لنفس كافرة شيئاًً من المنفعة، قال قتادة: ليس ثم أحد يقضي شيئاًً أو يصنع شيئاًً إلا الله رب العالمين، والمعنى أن الله لا يملك أحداً في ذلك اليوم شيئاًً من الأمور كما ملكهم في الدنيا، ومثل هذا قوله (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ).(15/120)
سورة المطففين
هي ست وثلاثون آية، قال القرطبي وهي مكية في قول ابن مسعود والضحاك ومقاتل، ومدنية في قول الحسن وعكرمة، وقال مقاتل أيضاً هي أول سورة نزلت بالمدينة، وقال ابن عباس وقتادة هي مدنية إلا ثمان آيات من قوله: (إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا) إلى آخرها، وقال الكلبي وجابر بن زيد نزلت بين مكة والمدينة، وعن ابن عباس نزلت بمكة وعن ابن الزبير مثله.
وعن ابن عباس قال آخر ما نزل بمكة سورة المطففين، وعنه قال: " لما قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - كانوا من أخبث الناس كيلاً فأنزل الله (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ) فأحسنوا الكيل بعد ذلك " أخرجه ابن مردويه والبيهقي في الشعب، قال السيوطي بسند صحيح (1).
_________
(1) أخرجه ابن ماجة 2/ 748، والطبري 30/ 91، والواحدي: 333، وقال الحافظ في " تخريج الكشاف " 218: رواه النسائي وابن حبان والحاكم من رواية يزيد النحوي عن عكرمة عن ابن عباس، وأورده السيوطي في " الدر " 6/ 323 وزاد نسبته إلى الطبراني وابن مردويه والبيهقي في " شعب الإيمان " بسند صحيح عن ابن عباس.(15/121)
بسم الله الرحمن الرحيم
وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3) أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6)(15/123)
وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1)
(ويل للمطففين) ويل مبتدأ، وسوغ الابتداء به كونه دعاء، ولو نصب لجاز، قال مكي والمختار في ويل وشبهه إذا كان غير مضاف الرفع، ويجوز النصب، فإن كان مضافاً أو معرفاً كان الاختيار فيه النصب كقوله (ويلكم لا تفتروا) والمطفف المنقص، وحقيقته الأخذ في الكيل أو الوزن شيئاًً طفيفاً أي نزراً خفيفاً حقيراً.
قال أهل اللغة: المطفف مأخوذ من الطفف وهو القليل، فالمطفف هو المقلل حق صاحبه بنقصانه عن الحق في كيل أو وزن.
قال الزجاج: إنما قيل للذي ينقص المكيال والميزان مطفف لأنه لا يكاد يسرق في المكيال والميزان إلا الشيء اليسير الطفيف.
قال أبو عبيدة والمبرد: المطفف الذي يبخس في الكيل والوزن.
والمراد بالويل هنا شدة العذاب أو نفس العذاب أو الشر الشديد أو هو واد في جهنم.
قال الكلبي " قدم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المدينة وهم يسيئون كيلهم ووزنهم لغيرهم، ويستوفون لأنفسهم فنزلت هذه الآية " (1).
وقال السدي قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وكان بها رجل
_________
(1) قال الألوسي و " هم " ضمير مرفوع تأكيد للضمير المرفوع وهو الواو يعني في " كالوا ".(15/123)
يقال له أبو جهينة ومعه صاعان، يكيل بأحدهما ويكتال بالآخر فأنزل الله هذه الآية.
قال الفراء: هم بعد نزول هذه الآية أحسن الناس كيلاً إلى يومهم هذا.
وقد أخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " ما نقص قوم العهد إلا سلط الله عليهم العدو، ولا طففوا الكيل إلا منعوا النبات وأخذوا بالسنين " وهذا الوعيد يلحق كل من يأخذ لنفسه زائداً أو يدفع إلى غيره ناقصاً قليلاً أو كثيراً، لكن إن لم يتب منه فإن تاب قبلت توبته، ومن فعل ذلك وأصر عليه كان مصراً على كبيرة من الكبائر، وذلك لأن عامة الخلق محتاجون إلى المعاملات وهي مبنية على أمر الكيل والوزن والزرع، فلهذا السبب عظم الله أمر الكيل والوزن.
ثم بين سبحانه المطففين من هم فقال(15/124)
الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2)
(الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون) الاكتيال الأخذ بالكيل، قال الفراء يريد اكتالوا من الناس، " وعلى " " ومن " في هذا الموضع يعتقبان، يقال اكتلت منك أي استوفيت منك وتقول اكتلت عليك أي أخذت ما عليك، قال الزجاج: إذا اكتالوا من الناس استوفوا عليهم الكيل.
قال الزمخشري: لما كان اكتيالهم اكتيالاً يضرهم ويتحامل فيه عليهم أبدل " على " مكان " من " للدلالة على ذلك، ويجوز أن يتعلق بيستوفون، وقدم المفعول على الفعل لإفادة الخصوصية أي يستوفون على الناس خاصة، فأما أنفسهم فيستوفون لها قال السمين: وهو حسن.
ولم يذكر اتزنوا لأن الكيل والوزن بهما الشراء والبيع فأحدهما يدل على الآخر، قال الواحدي قال المفسرون: يعني الذين إذا اشتروا لأنفسهم استوفوا في الكيل والوزن، وإذا باعوا ووزنوا لغيرهم نقصوا وهو معنى قوله:(15/124)
وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3)
(وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون) أي كالوا لهم أو وزنوا لهم(15/124)
فحذفت اللام فتعدى الفعل إلى المفعول فهو من باب الحذف والإيصال، ومثله نصحتك ونصحت لك كذا قال الأخفش والكسائي والفراء.
وقال الفراء: سمعت أعرابية تقول إذا صدر الناس أتينا التاجر فيكيلنا المد والمدين إلى الموسم المقبل، قال وهو من كلام أهل الحجاز ومن جاورهم من قيس.
قال الزجاج: لا يجوز الوقف على كالوا حتى يوصل بالضمير، ومن الناس من يجعله تأكيداً أي توكيداً للضمير المستكن في الفعل فيجيز الوقف على كالوا أو وزنوا قال أبو عبيد: وكان عيسى بن عمر يجعلهما حرفين ويقف على كالوا أو وزنوا ثم يقول هم يخسرون، قال: وأحسب قراءة حمزة كذلك.
قال أبو عبيد الاختيار أن يكونا كلمة واحدة من جهتين.
(إحداهما) الخط ولذلك كتبوهما بغير ألف ولو كانتا مقطوعتين لكانتا كالوا أو وزنوا بالألف.
(والأخرى) أنه يقال كلتك ووزنتك بمعنى كلت لك ووزنت لك وهو كلام عربي كما يقال صدتك وصدت لك وكسبتك وكسبت لك، وشكرتك وشكرت لك ونحو ذلك، وقيل هو على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه، والمضاف المكيل والموزون أي وإذا كالوا مكيلهم أو وزنوا موزونهم، ومعنى يخسرون ينقصون كقوله (ولا تخسروا الميزان) والعرب تقول خسرت الميزان وأخسرته.
ثم خوفهم سبحانه فقال:(15/125)
أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4)
(ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون) مستأنفة مسوقة لتهويل ما فعلوه من التطفيف وتفظيعه وللتعجيب من حالهم في الاجتراء عليه، والإشارة بأولئك إلى المطففين وما فيه من معنى البعد للإشعار ببعد درجتهم في الشرارة والفساد.
والمعنى أنهم لا يخطرون ببالهم أنهم مبعوثون فمسؤولون عما يفعلون(15/125)
قيل والظن هنا بمعنى اليقين أي لا يوقن أولئك ولو أيقنوا ما نقصوا الكيل والوزن، وقيل الظن على بابه والمعنى إن كانوا لا يستيقنون البعث فهلا ظنوه حتى يتدبروا فيه ويبحثوا عنه، ويتركوا ما يخشون من عاقبته ويأخذوا بالأحوط.(15/126)
لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5)
(ليوم عظيم) هو يوم القيامة، ووصفه بالعظم لكونه زماناً لتلك الأمور العظام من البعث والحساب والعقاب ودخول أهل الجنة الجنة وأهل النار النار.
عن عبد الملك بن مروان أن أعرابياً قال له قد سمعت ما قال الله في المطففين، أراد بذلك أن المطفف قد توجه عليه الوعيد العظيم الذي سمعت به، فما ظنك بنفسك وأنت تأخذ أموال المسلمين بلا كيل ولا وزن.
ثم زجر عن ذلك اليوم فقال(15/126)
يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6)
(يوم يقوم الناس لرب العالمين) أي يوم يقومون من قبورهم لأمر رب العالمين أو لجزائه أو لحسابه أو لحكمه وقضائه، وفي وصف اليوم بالعظم مع قيام الناس لله خاضعين فيه، ووصفه سبحانه بكونه رب العالمين دلالة على عظم ذنب التطفيف ومزيد إثمه وفظاعة عقابه، وفيما كان مثل حاله من الحيف وترك القيام بالقسط والعمل على السوية والعدل في كل أخذ وعطاء بل في كل قول وعمل وحال.
وقيل المراد بقوله يوم يقوم الناس قيامهم في رشحهم إلى أنصاف آذانهم.
وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن عمر " أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال يوم يقوم الناس لرب العالمين حتى يغيب أحدهم في رشحه إلى أنصاف أذنيه " (1).
وقيل المراد قيامهم بما عليهم من حقوق العباد، وقيل المراد قيام الرسل بين يدي الله للقضاء، والأول أولى.
_________
(1) رواه مالك والبخاري 5/ 535 ومسلم 4/ 219.(15/126)
وعن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في هذه الآية " فكيف بكم إذا جمعكم الله كما يجمع النبل في الكنانة خمسين ألف سنة لا ينظر إليكم " أخرجه الطبراني وأبو الشيخ والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في البعث.
وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم يوم يقوم الناس لرب العالمين بمقدار نصف يوم من خمسين ألف سنة فيهون ذلك على المؤمن كتدلي الشمس إلى الغروب إلى أن تغرب، أخرجه أبو يعلى وابن حيان وابن مردويه.
وعن ابن مسعود قال " إذا حشر الناس قاموا أربعين عاماً " أخرجه ابن أبي حاتم وأخرجه ابن مردويه من حديثه مرفوعاً.
وعن ابن عمر أنه قال: " يا رسول الله كم مقام الناس بين يدي رب العالمين يوم القيامة؟ قال ألف سنة لا يؤذن لهم " أخرجه الطبراني وعن ابن عمر أنه قرأ هذه السورة فلما بلغ هنا بكى نحيباً وامتنع عن قراءة ما بعدها.(15/127)
كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7)
(كلا) هي للردع والزجر للمطففين الغافلين عن البعث وما بعده أو بمعنى حقاً. ثم استأنف فقال (إن كتاب الفجار) أظهر في موضع الإضمار تعميماً وتعليقاً للحكم بالوصف، يعني أن كتب أعمال الكفار (لفي سجين) وهو ما فسره به سبحانه من قوله:(15/127)
وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ (8)
(وما أدراك ما سجين كتاب مرقوم) فأخبر بهذا أنه كتاب مرقوم أي مسطور، قيل هو كتاب جامع لأعمال الشر الصادرة من الشياطين والكفرة والفسقة، ولفظ سجين علم به.
وقال قتادة وسعيد بن جبير ومقاتل وكعب: أنه صخرة تحت الأرض السابعة تقلب فيجعل كتاب الفجار تحتها وبه قال مجاهد فيكون في الكلام على هذا القول مضاف محذوف، والتقدير محل كتاب مرقوم، وقال أبو عبيدة والأخفش والمبرد والزجاج: لفي حبس وضيق شديد، والمعنى كأنهم في حبس جعل ذلك دليلاً على خساسة منزلتهم وهوانهم.(15/127)
كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ (8) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (9) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (10) الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (11) وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (13) كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14) كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ (16) ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (17) كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18) وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ (19) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (20)
قال الواحدي ذكر قوم أن قوله(15/128)
كِتَابٌ مَرْقُومٌ (9)
(كتاب مرقوم) تفسير سجين وهو بعيد لأنه ليس السجين من الكتاب في شيء على ما حكيناه عن المفسرين، والوجه أن يجعل بياناً لكتاب المذكور في قوله (إن كتاب الفجار) على تقدير هو كتاب مرقوم أي مكتوب قد بينت حروفه انتهى، والأولى ما ذكرناه.
ويكون المعنى أن كتاب الفجار الذين من جملتهم المطففون أي ما يكتب من أعمالهم أو كتابة أعمالهم لفي ذلك الكتاب المدون للقبائح المختص بالشر، وهو سجين.
ثم ذكر ما يدل على تهويله وتعظيمه فقال (وما أدراك ما سجين) ثم بينه بقوله كتاب مرقوم.
قال الزجاج: معنى قوله وما أدراك ما سجين ليس ذلك مما كنت تعلمه أنت ولا قومك أي في الدنيا قبل نزول الوحي عليك وإنما علمته بالوحي.
قال قتادة: ومعنى مرقوم رقم لهم بشر، كأنه أعلم بعلامة يعرف بها أنه كافر وكذا قال مقاتل.
وقد اختلفوا في نون سجين فقيل هي أصلية واشتقاقه من السجن وهو الحبس، وهو بناء مبالغة كخمير وسكير وفسيق من الخمر والسكر والفسق، وكذا قال أبو عبيدة والمبرد والزجاج، قال الواحدي: وهذا ضعيف لأن العرب ما كانت تعرف سجيناً، ويجاب عنه بأن رواية هؤلاء الأئمة تقوم بها الحجة(15/128)
وتدل على أنه من لغة العرب، ومنه قول ابن مقبل:
ورفقة يضربون البيض ضاحية ... ضرباً تواصت به الأبطال سجيناً وقيل النون بدل من اللام والأصل سجيل مشتقاً من السجل وهو الكتاب، قال ابن عطية: من قال أن سجيناً موضع، فكتاب مرفوع على أنه خبر " إن " والظرف وهو قوله لفي سجين ملغى، ومن جعله عبارة عن الكتاب، فكتاب خبر مبتدأ محذوف، والتقدير هو كتاب، ويكون هذا الكلام مفسر السجين ما هو كذا قال الضحاك، وقوله مرتوم مختوم بلغة حمير، وأصل الرقم الكتابة.
وقال كعب الأحبار في الآية أن روح الفاجر يصعد بها إلى السماء فتأبى السماء أن تقبلها فتهبط بها إلى الأرض فتأبى أن تقبلها، فيدخل بها تحت سبع أرضين حتى ينتهي بها إلى سجين، وهو خد إبليس فيخرج لها من تحت خد إبليس كتاباً فيختم ويوضع تحت خد إبليس (1) وعن ابن عباس قال سجين أسفل الأرضين.
وأخرج ابن جرير عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: " الفلق جب في جهنم مغطى، وأما سجين مفتوح، قال ابن كثير هو حديث غريب منكر لا يصح (2).
_________
(1) هذا من إسرائيليات كعب الأحبار ولا خير فيها.
(2) قال ابن كثير: والصحيح أن " سجيناً " مأخوذ من السجن، وهو الضيق، فإن المخلوقات كلُّ ما تسافل منها ضاق، وكل ما تعالى منها اتسع، فإن الأفلاك السبعة كل واحد منها أوسع وأعلى من الذي دونه، وكذلك الأرضون كل واحدة أوسع من التي دونها حتى ينتهي السفول المطلق والمحل الأضيق إلى المركز في وسط الأرض السابعة، ولما كان مصير الفجار إلى جهنم، وهي أسفل السافلين، كما قال تعالى: (ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (5) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ): قال ها هنا: (كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ) وهو يجمع الضيق والسفول، كما قال تعالى: (وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا).(15/129)
وأخرج ابن مردويه عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم " قال سجين الأرض السابعة السفلى ".
وأخرج هو عن جابر نحوه مرفوعاً.
وعن عبد الله بن كعب بن مالك قال لما حضرت كعباً الوفاة أتته أم بشر بنت البراء فقالت إن لقيت إبني فاقرأه مني السلام فقال غفر الله لك يا أم بشر، نحن أشغل من ذلك، فقالت أما سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول إن نسمة المؤمن تسرح في الجنة حيث شاءت وإن نسمة الكافر في سجين، قال بلى قالت فهو ذاك " أخرجه ابن ماجه والطبراني والبيهقي في البعث وعبد بن حميد.(15/130)
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (10)
(ويل يومئذ للمكذبين) هذا متصل بقوله (يوم يقوم الناس) وما بينهما اعتراض، والمعنى ويل يوم القيامة لمن وقع منه التكذيب بالبعث وبما جاءت به الرسل.
ثم بين سبحانه هؤلاء المكذبين فقال(15/130)
الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (11)
(الذين يكذبون بيوم الدين) أي بيوم القيامة لأنه يوم الجزاء والحساب، والموصول بدل من المكذبين أو صفة.(15/130)
وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12)
(وما يكذب به إلا كل معتد أثيم) أي فاجر جائر متجاوز في الإثم منهمك في أسبابه(15/130)
إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (13)
(إذا تتلى عليه آياتنا) المنزلة على محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو القرآن الكريم (قال أساطير الأولين) أي أحاديثهم وأباطيلهم التي زخرفوها والحكايات التي سطرت قديماً جمع أسطورة بالضم أو إسطاره بالكسر، قرأ الجمهور تتلى بفوقيتين، وقرىء بالتحتية.
وقوله(15/130)
كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14)
(كلا) للردع والزجر للمعتدي الأثيم عن ذلك القول الباطل وتكذيب له وقال الحسن: بمعنى حقاً، وقوله (بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون) بيان للسبب الذي حملهم على قولهم بأن القرآن أساطير الأولين.(15/130)
وقال أبو عبيدة: ران على قلوبهم غلب عليها، رينا وريوناً وكل ما غلبك وعلاك فقد ران بك وران عليك، قال الفراء هو أنها كثرت منهم المعاصي والذنوب فأحاطت بقلوبهم فذلك الرين عليها. قال الحسن: هو الذنب على الذنب حتى يعمى القلب.
قال مجاهد: القلب مثل الكف ورفع كفه فإذا أذنب انقبض وضم إصبعه، فإذا أذنب ذنباً آخر انقبض وضم أخرى، حتى ضم أصابعه كلها حتى يطبع على قلبه، قال وكانوا يرون أن ذلك هو الرين، ثم قرأ هذه الآية.
قال أبو زيد يقال قد رين بالرجل ريناً إذا وقع فيما لا يستطيع الخروج منه ولا قبل له به.
وقال أبو معاذ النحوي الرين أن يسود القلب من الذنوب، والطبع أن يطبع على القلب وهو أشد من الرين، والإقفال أشد من الطبع.
قال الزجاج: الرين هو كالصدأ يغشى القلب كالغيم الرقيق ومثله الغين.
وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال " إن العبد إذا أذنب ذنباً نكتت في قلبه نكتة سوداء فإن تاب ونزع واستغفر صقل قلبه، وإن عاد زادت حتى تغلف قلبه، فذلك الران الذي ذكره الله سبحانه في القرآن (كلا بل ران على قلوبهم) الخ أخرجه أحمد والترمذي وصححه والنسائي وابن ماجه وغيرهم (1).
_________
(1) روى الترمذي والنسائي وابن ماجه من طرق عن محمد بن عجلان، عن القعقاع بن حكيم، عن أبي صالح، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " إن العبد إذا أذنب ذنباً كانت نكتة سوداء في قلبه، فإن تاب منها صقل قلبه، وإن زاد زادت، فذلك قول الله تعالى: (كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون) وقال الترمذي: حسن صحيح، ولفظ النسائي " إن العبد إذا أخطأ خطيئة نكت في قلبه نكتة سوداء، فإن هو نزع واستغفر وتاب، صقل قلبه، فإن عاد زيد فيها حتى تعلو قلبه، فهو الران الذي قال الله تعالى: (كلا بك ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون).(15/131)
ثم ذكر سبحانه الردع والزجر فقال(15/132)
كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15)
(كلا) وقيل كلا بمعنى حقاً أي حقاً (إنهم) يعني الكفار (عن ربهم) أي عن رؤيته (يومئذ) أي يوم القيامة (لمحجوبون) لا يرونه أبداً، قال مقاتل يعني أنهم بعد العرض والحساب لا ينظرون إلى ربهم نظر المؤمنين إِليه، قال الحسين بن الفضل: كما حجبهم في الدنيا عن توحيده حجبهم في الآخرة عن رؤيته.
قال الزجاج في هذه الآية دليل على أن الله عز وجل يرى في القيامة، ولولا ذلك ما كان في هذه الآية فائدة، وقال جل ثناؤه (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ) فأعلم سبحانه أن المؤمنين ينظرون، وأعلم أن الكفار محجوبون.
وقيل هو تمثيل لإهانتهم بإهانة من يحجب عن الدخول على الملوك، وقال قتادة وابن أبي مليكة: هو أن لا ينظر إليهم برحمته ولا يزكيهم، وقال مجاهد: محجوبون عن كرامته، وكذا قال ابن كيسان والأول أولى.(15/132)
ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ (16)
(ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ) أي لداخلو النار وملازموها غير خارجين منها، وثم لتراخي الرتبة لأن صلي الجحيم أشد من الإهانة وحرمان الكرامة.(15/132)
ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (17)
(ثم يقال هذا الذي كنتم به تكذبون) أي يقول لهم خزنة جهنم تبكيتاً وتوبيخاً هذا ما كذبتم به في الدنيا وأنكرتم وقوعه فانظروه وذوقوه.
وقوله(15/132)
كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18)
(كلا) للردع والزجر عما كانوا عليه والتكرير للتأكيد.
وجملة (إن كتاب الأبرار لفي عليين) مستأنفة لبيان ما تضمنته، ويجوز أن تكون كلا بمعنى حقاً فتلخص أن في كل واحدة من الأربعة الواقعة في هذه السورة قولين، والأبرار هم المطيعون وكتابهم صحائف حسناتهم، قال الفراء عليين ارتفاع بعد ارتفاع لا غاية له.
ووجه هذا أنه منقول من جمع علي من العلو قال الزجاج: هو أعلى الأمكنة قال الفراء والزجاج: فأعرب كإعراب الجمع لأنه على لفظ الجمع ولا واحد له من لفظه نحو ثلاثين وعشرين وقنسرين قيل هو علم لديوان الخير(15/132)
الذي دون فيه ما عمله الصالحون وحكى الولد عن المفسرين أنه السماء السابعة. قال الضحاك ومجاهد وقتادة يعني السماء السابعة فيها أرواح المؤمنين، وقال الضحاك أيضاًً هو سدرة المنتهى ينتهي إليه كل شيء من أمر الله لا يعدوها. وقيل هو الجنة وبه قال ابن عباس: وقال قتادة أيضاًً هو فوق السماء السابعة عند قائمة العرش اليمنى، وقيل أن عليين صفة للملائكة في الملأ الأعلى كما يقال فلان بني فلان أي في جملتهم، وقيل هو لوح من زبرجدة خضراء معلق تحت العرش مكتوبة فيه أعمالهم وقيل هو قائمة العرش اليمنى وقيل هو مراتب عالية محفوفة بالجلالة وقد عظمها الله وأعلاها.(15/133)
وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ (19)
(وما أدراك ما عليون) أي ما أعلمك يا محمد أي شيء عليون، على جهة التفخيم والتعظيم لعليين.
أخرج ابن المبارك في الزهد وعبد بن حميد وابن المنذر من طريق شمر ابن عطية أن ابن عباس سأل كعب الأحبار عن قوله (إن كتاب الأبرار لفي عليين) قال " روح المؤمن إذا قبضت عرج بها إلى السماء ففتح لها أبواب السماء وتلقاها الملائكة بالبشرى حتى ينتهى بها إلى العرش، وتعرج الملائكة فيخرج لها من تحت العرش رق فيرقم ويختم ويوضع تحت العرش لمعرفة النجاة لحساب يوم الدين ".
وعن أبي أمامة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله سلم " صلاة على إثر صلاة لا لغو بينهما كتاب في عليين " أخرجه أحمد وأبو داود والطبراني وابن مردويه.
ثم فسره سبحانه بقوله(15/133)
كِتَابٌ مَرْقُومٌ (20)
(كتاب مرقوم) أي مسطور، وقيل مكتوب فيه أعمالهم أو ما أعد لهم في الآخرة من الكرامة، وهذا التفسير الالهي يغني عن تفاسير الخلق، قال الخطيب مكتوب فيه أن فلاناً آمن من النار، رقماً يا له من رقم ما أبهاه وأجمله.
والكلام في هذا كالكلام المتقدم في قوله (وما أدراك ما سجين) الخ.(15/133)
يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (21) إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (22) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (23) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24) يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25) خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (26) وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (27) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (28) إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (29)
وجملة(15/134)
يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (21)
(يشهده المقربون) صفة أخرى لكتاب والمعنى أن الملائكة يحضرون ذلك الكتاب المرقوم ويحفظونه، وقيل يشهدون بما فيه يوم القيامة لتعظيمه، والأول من الشهود والثاني من الشهادة.
قال وهب وابن إسحق المقربون هنا إسرافيل فإذا عمل المؤمن عمل البر صعدت الملائكة بالصحيفة ولها نور يتلألأ في السموات كنور الشمس في الأرض حتى ينتهى بها إلى إسرافيل فيختم عليها. وقال ابن عباس المقربون أهل السماء.
ثم ذكر سبحانه حالهم في الجنة بعد ذكر كتابهم فقال(15/134)
إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (22)
(إن الأبرار لفي نعيم) أي أن أهل الطاعة لفي تنعم عظيم لا يقادر قدره(15/134)
عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (23)
(على الأرائك ينظرون) الأرائك الأسرة التي في الحجال (1) وقد تقدم أنها لا تطلق الأريكة على السرير إلا إذا كان في حجلة.
قال الحسن: ما كنا ندري ما الأرائك حتى قدم علينا رجل من اليمن فزعم أن الأريكة عندهم الحجلة إذا كان فيها سرير، قال الشهاب الحجلة بفتحتين بيت مربع من الثياب الفاخرة يرخى على السرير يسمى في عرف الناس بالناموسية والمعنى أنهم ينظرون إلى ما أعد الله لهم من الكرامات،
_________
(1) قال الجوهري الحجال جمع حجلة بالتحريك واحدهُ حجال العروس وهو بيت يزين بالثياب والأسرة ذكره الكرخي أهـ.(15/134)
كذا قال عكرمة ومجاهد وغيرهما، وقال مقاتل ينظرون إلى أهل النار وقيل ينظرون إلى وجهه وجلاله.(15/135)
تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24)
(تعرف في وجوههم نضرة النعيم) أي إذا رأيتهم عرفت أنهم من أهل النعمة لما تراه في وجوههم من النور والحسن والبياض والبهجة والتنعم والرونق.
أخرج ابن المنذر عن علي بن أبي طالب في الآية قال " عين في الجنة يتوضؤون منها ويغتسلون فتجري عليهم نضرة النعيم " أي بهجة التنعم وطراوته، والخطاب، لكل راء يصلح لذلك، يقال أنضر النبات إذا أزهر ونور قال عطاء وذلك أن الله زاد في جمالهم وفي ألوانهم ما لا يصفه واصف.
قرأ الجمهور تعرف بفتح الفوقية وكسر الراء ونصب نضرة، وقرىء بضم الفوقية وفتح الراء على البناء للمفعول ورفع نضرة بالنيابة.(15/135)
يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25)
(يسقون من رحيق) خمر خالصة من الدنس فهي بيضاء (مختوم) على إنائها لا يفك ختمها إلا هم قال أبو عبيدة والأخفش والمبرد والزجاج الرحيق من الخمر ما لا غش فيه ولا شيء يفسده، والمختوم الذي له ختام.
وقال الخليل: الرحيق أجود الخمر، وفي الصحاح: الرحيق صفوة الخمر. وقال مجاهد؛ هو الخمر العتيقة البيضاء الصافية قال مجاهد: مختوم مطين كأنه ذهب إلى معنى الختم بالطين، ويكون المعنى أنه ممنوع أن تمسه يد إلى أن يفك ختمه للأبرار. وقال تعالى: في سورة محمد صلى الله عليه وسلم (وأنهار من خمر) والنهر لا يختم عليه فطريق الجمع بينهما أن المذكور في هذه الآية في أوان مختوم عليها لشرفها ونفاستها، وهي غير تلك الخمر التي في الأنهار:(15/135)
خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (26)
(ختامه مسك) أي آخر طعمه إذا رفع الشارب فاه من آخر شرابه وجد ريحه كريح المسك، وقيل مختوم أوانيه من الأكواب والأباريق بمسك مكان الطين، وكأنه تمثيل لكمال نفاسته وطيب رائحته.(15/135)
والحاصل أن المختوم والختام إما أن يكون من ختام الشيء وهو آخره أو من ختم الشيء وهو جعل الخاتم عليه كما تختم الأشياء بالطين ونحوه.
وقال ابن مسعود: الرحيق الخمر والمختوم يجدون عاقبتها طعم المسك، وعنه (مختوم) ممزوج (ختامه مسك) قال طعمه في ريحه، وقيل يمزج لهم بالكافور، ويختم لهم بالمسك.
وقال ابن عباس رحيق خمر ومختوم ختم بالمسك.
عن ابن مسعود قال: ليس بخاتم فيختم به ولكن خلطه بمسك، ألم تر إلى المرأة من نسائكم تقول خلطة من الطيب كذا كذا، وعن أبي الدرداء ختامه مسك قال هو شراب أبيض مثل الفضة يختمون به آخر شرابهم، ولو أن رجلاً من أهل الدنيا أدخل أصبعه فيه ثم أخرجها لم يبق ذو روح إلا وجد ريحها.
قرأ الجمهور (ختامه) وقرىء (خاتمه) بفتح الخاء قال علقمة أما رأيت المرأة تقول للعطار إجعل خاتمه مسكاً أي آخره، والخاتم والختام يتقاربان في المعنى إلا أن الخاتم الاسم والختام المصدر، كذا قال الفراء، وقال في الصحاح: والختام الطين الذي يختم به، وكذا قال ابن زيد.
(وفي ذلك) الرحيق الموصوف بتلك الصفة (فليتنافس المتنافسون) أي فليرغب الراغبون وقيل إن " في " بمعنى إلى أي وإلى ذلك فليتبادر المتبادرون في العمل، كما في قوله (لمِثل هذا فليعمل العاملون) وأصل التنافس التشاجر على الشيء والتنازع فيه بأن يحب كل واحد أن ينفرد به دون صاحبه.
يقال نفست الشيء عليه نفاسة أي ضننت به ولم أحب أن يصير إليه، قال البغوي أصله من الشيء النفيس الذي تحرص عليه نفوس الناس فيريده كل واحد لنفسه وينفس به على غيره أي يضن به، قال عطاء المعنى فليستبق(15/136)
المستبقون، وقال مقاتل بن سليمان فليتنازع المتنازعون، وهذا لا يكون إلا بالمسارعة إلى الخيرات، والإنتهاء عن السيئات، وقال الزمخشري فليرتقب المرتقبون والمعنى في الجميع واحد.(15/137)
وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (27)
(ومزاجه) معطوف على ختامه صفة أخرى لرحيق أي ومزاج ذلك الرحيق (من تسنيم) وهو شراب ينصب عليهم من علو وهو أشرف شراب الجنة وأصل التسنيم في اللغة الإرتفاع فهي عين ماء تجري من علو إلى أسفل، ومنه سنام البعير لعلوه من بدنه، ومنه تسنيم القبور.
قال ابن عباس: لما سئل عن هذا: هذا مما قاله الله (فلا تعلم نفس ما أُخفي لهم من قرة أعين) وقال ابن مسعود: عين في الجنة تمزج لأصحاب اليمين ويشربها المقربون صرفاً.
ثم بين سبحانه ذلك فقال(15/137)
عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (28)
(عيناً يشرب بها المقربون) انتصاب عيناً على المدح، وقال الزجاج: على الحال، وإنما جاز أن يكون عيناً حالاً مع كونها جامدة غير مشتقة لاتصافها بقوله (يشرب بها) وقال الأخفش أنها منصوبة بيسقون، وقال الفراء بتسنيم والأول أولى، وبه قال المبرد قيل والباء في بها زائدة أي يشربها أو بمعنى " من " أي يشرب منها قال ابن زيد: بلغنا أنها عين تجري من تحت العرش.
ثم ذكر سبحانه بعض قبائح المشركين فقال(15/137)
إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (29)
(إن الذين أجرموا) وهم كفار قريش كأبي جهل والوليد بن المغيرة والعاصي بن وائل وأصحابهم من أهل مكة ومن وافقهم على الكفر، حكى الله عنهم أربعة أشياء من العلامات القبيحة أولها:
(كانوا من الذين آمنوا) كعمار وبلال وخباب وصهيب وأصحابهم من فقراء المؤمنين (يضحكون) أي يستهزئون بهم في الدنيا ويسخرون منهم، وآخرها قولهم (إن هؤلاء لضالون) وتقديم الجار والمجرور إما للقصر إشعاراً بغاية شناعة ما فعلوا أو لمراعاة الفواصل.(15/137)
وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ (30) وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (31) وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ (32) وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ (33) فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (35) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36)(15/138)
وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ (30)
(وإذا مروا بهم) أي وإذا مر المؤمنون بالكفار وهم في مجالسهم (يتغامزون) من الغمز وهو الإشارة بالجفون والحواجب أي يغمز بعضهم بعضاً ويشيرون بأعينهم وحواجبهم طعناً فيهم وعيباً لهم، وقيل يعيرونهم بالإسلام ويعيبونهم به.(15/138)
وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (31)
(وإذا انقلبوا) أي إذا انقلب الكفار من مجالسهم (إلى أهلهم انقلبوا فكهين) أي معجبين بما هم فيه متلذذين به يتفكهون بذكر المؤمنين والطعن فيهم والاستهزاء بهم والسخرية منهم، والانقلاب الانصراف.
قرأ الجمهور فاكهين وقرىء فكهين بغير ألف، قال الفراء هما لغتان مثل طمع وطامع وحذر وحاذر، وقد تقدم بيانه في سورة الدخان أن الفكه الأشر البطر والفاكه الناعم المتنعم.(15/138)
وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ (32)
(وإذا رأوهم) أي إذا رأى الكفار المسلمين في أي مكان (قالوا إن هؤلاء لضالون) في اتباعهم محمداً صلى الله عليه وسلم وتمسكهم بما جاء به، وتركهم التنعم الحاضر يعني خدع محمد هؤلاء فضلوا وتركوا اللذات لما يرجونه في الآخرة من الكرامات فقد تركوا الحقيقة بالخيال، وهذا هو عين الضلال أو المعنى وإذا رأى المسلمون الكافرين قالوا هذا القول، والأول أولى.(15/138)
وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ (33)
(وما أرسلوا عليهم حافظين) أي والحال أنهم لم يرسلوا على(15/138)
المسلمين من جهة الله موكلين بهم يحفظون عليهم أحوالهم وأعمالهم، ويشهدون برشدهم وضلالهم، بل أمروا بإصلاح أنفسهم، فاشتغالهم بذلك أولى بهم من تتبع عورات غيرهم وتسفيه أحلامهم، وهذا تهكم بهم وإشعار بأن ما اجترؤا عليه من القول مات وظائف الرسل من جهته تعالى.
ويجوز أن يكون ذلك من جملة قول المؤمنين كأنهم (قالوا إن هؤلاء لضالون وما أرسلوا علينا حافظين) إنكاراً لصدهم عن الشرك ودعائهم إلى الإسلام، قاله أبو السعود والأول أولى وأظهر.(15/139)
فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34)
(فاليوم) أي يوم الآخرة (الذين آمنوا من الكفار يضحكون) يعني أن المؤمنين في ذلك اليوم يضحكون من الكفار حين يرونهم أذلاء مغلوب قد نزل بهم ما نزل من العذاب كما ضحك الكفار منهم في الدنيا.(15/139)
عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (35)
(على الأرائك ينظرون) أي يضحكون منهم ناظرين إليهم وإلى ما هم فيه من الحال الفظيع والهوان والصغار بعد العزة والاستكبار، وقد تقدم تفسير الأرائك قريباً.
قال الواحدي قال المفسرون أن أهل الجنة إذا أرادوا نظروا من منازلهم إلى أعداء الله وهم يعذبون في النار فضحكوا منهم كما ضحكوا منهم في الدنيا.
وقال أبو صالح يقال لأهل النار أخرجوا ويفتح لهم أبوابها فإذا رأوها قد فتحت أقبلوا إليها يريدون الخروج، والمؤمنون ينظرون إليهم على الأرائك فإذا انتهوا إلى أبوابها غلقت دونهم، فذلك قوله: (فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون) الخ.
وجملة(15/139)
هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36)
(هل ثُوّب الكفار ما كانوا يفعلون) مستأنفة لبيان أنه قد وقع الجزاء للكفار بما كان يقع منهم في الدنيا من الضحك من المؤمنين والاستهزاء بهم، والاستفهام للتقرير، وثوب بمعنى أثيب والمعنى هل جوزي الكفار بما(15/139)
كانوا يفعلونه بالمؤمنين، وقيل الجملة في محل نصب بينظرون وقيل هي على إضمار القول أي يقول بعض المؤمنين لبعض هل ثوب الكفار، والثواب ما يرجع على العبد في مقابلة عمله، ويطلق على الخير والشر.
قرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي بإدغام لام هل في ثاء ثوب، وقرأ الباقون بترك الإدغام.(15/140)
سورة الانشقاق
هي ثلاث أو خمس وعشرون آية وهي مكية بلا خلاف، قال ابن عباس نزلت بمكة وعن ابن الزبير مثله.
وعن أبي رافع " صليت مع أبي هريرة العتمة (1) فقرأ (إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ) فسجد فقلت له، فقال سجدت خلف أبي القاسم - صلى الله عليه وآله وسلم - فلا أزال أسجد فيها حتى ألقاه " (2) أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما وأخرج مسلم وأهل السنن وغيرهم عن أبي هريرة " قال سجدنا مع رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - في (إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ) و (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) ".
وعن بريدة أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - " كان يقرأ في الظهر (إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ) ونحوها " أخرجه ابن خزيمة والروياني في مسنده والضياء المقدسي في المختارة.
_________
(1) أي العشاء.
(2) أي سجود التلاوة إذا وصل إلى آية (وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ).(15/141)
بسم الله الرحمن الرحيم
إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ (1) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (2) وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (3) وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ (4) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ(15/143)
إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ (1)
(إذا السماء انشقت) أي انصدعت وتفطرت، فيه حذف، والتقدير إذا انشقت السماء انشقت لأن إذا الشرطية يختص دخولها بالجمل الفعلية، وما جاء من هذا ونحوه فمؤول محافظة على قاعدة الاختصاص، فالسماء فاعل لفعل محذوف.
قال الواحدي قال المفسرون انشقاقها من علامات القيامة، ومعنى انشقاقها انفطارها بالغمام الأبيض كما في قوله (ويوم تشقق السماء بالغمام) وقيل تنشق من المجرة وبه قال علي بن أبي طالب والمجرة باب السماء، وأهل الهيئة يقولون أنها نجوم صغار مختلطة غير متميزة في الحس.
واختلف في جواب " إذا " فقال الفراء أنه أذنت، والواو زائدة. وكذلك ألقت. قال ابن الأنباري هذا غلط لأن العرب لا تقحم الواو إلا مع حتى إذا كقوله (حتى إذا جاؤوها وفتحت أبوابها) ومع لما كقوله (فلما أسلما وتلة للجبين وناديناه) ولا تقحم مع غير هذين.
وقيل أن الجواب قوله (فملاقيه) أي فأنت ملاقيه. وبه قال الأخفش. وقال المبرد إن في الكلام تقديماً وتأخيراً أي (يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحاً فملاقيه) إذا السماء انشقت.
وقال المبرد أيضاًً إن الجواب قوله (فأما من أوتي كتابه) وبه قال الكسائي، والتقدير إذا السماء انشقت فمن أوتي كتابه بيمينه فحكمه كذا، وقيل هو يا أيها الإنسان على إضمار الفاء أو على إضمار القول أي يقال له يا(15/143)
أيها الإنسان، وقيل الجواب محذوف تقديره بعثتم أو لاقى كل إنسان عمله.
وقيل هو ما صرح به في سورة التكوير أي (علمت نفس)، هذا على تقدير أن " إذا " شرطية، وقيل ليست بشرطية وهي منصوبة باذكر المحذوف وهي مبتدأ وخبرها إذا الثانية والواو مزيدة وتقديره وقت انشقاق السماء وقت مد الأرض.
ومعنى(15/144)
وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (2)
(وأذنت لربها وحقت) أنها أطاعته في الانشقاق ولم تأب ولم تمتنع، مشتق من الأذن وهو الاستماع للشيء والإصغاء إليه. وحق لها أن تطيع وتنقاد وتسمع: وقد استعمل الأذن في الاستماع في أشعار العرب، وفي الحديث " ما أذن الله لشيء أذنه لنبي يتغنى بالقرآن " قال الشاعر:
صم إذا سمعوا خيراً ذكرت به ... وإن ذكرت بسوء عندهم أذن (1)
وقال الحجار بن حكيم: أذنت لكم لما سمعت هديركم.
وفي المختار أذن له استمع وبابه طرب، وقيل المعنى وحقق الله عليها الاستماع لأمره بالانشقاق أي جعلها حقيقة بذلك، قال الضحاك حقت أطاعت وحق لها أن تطيع ربها لأنه خلقها، يقال فلان محقوق بكذا. ومعنى طاعتها أنها لا تمتنع مما أراده الله بها. قال قتادة حق لها أن تفعل ذلك، ومن هذا قول كثير:
فإن تكن العتبى فأهلاً ومرحبا ... وحقت لها العتبى لدنيا وقلت
_________
(1) البيت لقَعْنَب بن ضمرة بن أم صاحب أم قعنب، وكان في أيام الوليد، وهو في " مجاز القرآن " 1/ 177، و " الطبري " 30/ 112. و " السمط ": 362، و " الاقتضاب ": 292 و " شواهد الكشاف " 143، و " القرطبي " 19/ 267، و " اللسان " أذن، وأورد بيتاً قبله، هو:
إن يسمعوا ريبةً طاروا بها فرحاً ... مني وما علموا من صالحٍ دفنوا(15/144)
وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (3)
(وإذا الأرض مدت) أي بسطت كما تبسط الأدم ودكت جبالها وكل(15/144)
أمت فيها حتى صارت (قَاعًا صَفْصَفًا (106) لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا) قال مقاتل سويت كمد الأديم فلا يبقى عليها بناء ولا جبل إلا دخل فيها، وقيل مدت زيد في سعتها من المدد، وهو الزيادة، قال ابن عباس: تمد يوم القيامة.
وأخرج الحاكم قال السيوطي بسند جيد عن جابر قال: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم " تمد الأرض يوم القيامة مد الأديم ثم لا يكون لابن آدم فيها إلا موضع قدميه ".(15/145)
وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ (4)
(وألقت ما فيها) أي أخرجت ما فيها من الأموات والكنوز وطرحتهم إلى ظهرها ورمت (وتخلت) من ذلك، قال ابن عباس أخرجت ما فيها من الموتى وتخلت ممن على ظهرها من الأحياء ومثل هذا قوله: (وأخرجت الأرض أثقالها) والمعنى تخلت غاية الخلو لم يبق شيء في باطنها كأنها تكلفت أقصى جهدها في الخلو يقال تكرم الكريم إذا بلغ جهده في الكرم، وتكلف فوق ما في طبعه، وذلك يؤذن بعظم الأمر.
وقيل ألقت ما استودعته وتخلت مما استحفظته. ووصفت الأرض بالإلقاء والتخلية توسعاً وإلا فالتحقيق أن المخرج لتلك الأشياء هو الله تعالى.(15/145)
وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (5)
(وأذنت لربها) أي سمعت وأجابت وأطاعت لما أمرها به من الإلقاء والتخلي، وقال ابن عباس سمعت حين كلمها وعنه قال أطاعت وحقت بالطاعة وعنه قال سمعت وأطاعت (وحقت) أي وجعلت حقيقة بالاستماع لذلك والانقياد له إذ هي مصنوعة مربوبة لله تعالى، وقد تقدم بيان معنى الفعلين قبل هذا، وليس تكراراً لأن الأول في السماء وهذا في الأرض، وتكرير إذا لاستقلال كل من الجملتين بنوع من القدرة.(15/145)
يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ (6) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8) وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا (9) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ (10) فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا (11) وَيَصْلَى سَعِيرًا (12) إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا (13) إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (14) بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا (15)(15/146)
يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ (6)
(يا أيها الإنسان) المراد جنس الإنسان فيشمل المؤمن والكافر وقيل هو الإنسان الكافر والأول أولى لما سيأتي من التفصيل (إنك كادح إلى ربك كدحاً) الكدح في كلام العرب السعي في الشيء بجهد من غير فرق بين أن يكون ذلك الشيء خيراً أو شراً، والمعنى أنك ساع إلى ربك في عملك أو إلى لقاء ربك مأخوذ من كدح جلده إذا خدشه، قال قتادة والضحاك والكلبي: عامل لربك عملاً، وفي المختار الكدح العمل والسعي والكد والكسب، وهو الخدش أيضاًً وباب الكل قطع.
(فملاقيه) أي فملاق عملك وبه قال ابن عباس، والمعنى أنه لا محالة ملاق لجزاء عمله وما يترتب عليه من الثواب والعقاب، قال الشهاب: أي ملاق كدحه بنفسه من غير تقدير لوجوده في صحفه، وعلى هذا فما بعده تفصيل له.
قال القتيبي معنى الآية أنك كادح أي عامل ناصب في معيشتك إلى لقاء ربك لا مفر لك منه، والملاقاة بمعنى اللقاء أي تلقى ربك بعملك، وقيل فملاق كتاب عملك لأن العمل قد انقضى.(15/146)
فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7)
(فأما من أوتي كتابه) أي كتاب عمله (بيمينه) وهم المؤمنون(15/146)
فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8)
(فسوف يحاسب حساباً يسيراً) سهلاً هيناً لا مناقشة فيه، قال مقاتل لأنها تغفر ذنوبه ولا يحاسب عليها.
وقال المفسرون هو أن تعرض عليه سيئاته ثم يغفرها الله فهو الحساب(15/146)
اليسير، وعن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ليس أحد يحاسب إلا هلك فقلت أليس يقول الله فأما من أوتي كتابه بيمينه فسوف يحاسب حساباً يسيراً قال ليس ذلك بالحساب ولكن ذلك العرض، ومن نوقش الحساب هلك " أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما.
وعنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول في بعض صلاته " اللهم حاسبني حساباً يسيراً فلما انصرف قلت: يا رسول الله ما الحساب اليسير؟ قال أن ينظر في كتابه فيتجاوز له عنه، أنه من نوقش الحساب هلك "، أخرجه أحمد وعبد ابن حميد وابن جرير والحاكم وصححه وابن مردويه، وفي بعض ألفاظ الحديث الأول وهذا الحديث " عُذِّب " مكان هلك.
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " ثلاث من كن فيه يحاسبه الله حساباً يسيراً، ويدخله الجنة برحمته: تعطي من حرمك وتعفو عمن ظلمك وتصل من قطعك " أخرجة البزار والطبراني في الأوسط والبيهقي والحاكم.(15/147)
وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا (9)
(وينقلب) أي يرجع وينصرف بنفسه بعد الحساب اليسير من غير مزعج برغبة وقبول (إلى أهله الذين أهل بهم) الجنة من عشيرته أو إلى أهله الذين كانوا له في الدنيا من الزوجات والأولاد وقد سبقوه إلى الجنة أو إلى من أعده الله له في الجنة من الحور العين والولدان المخلدين أو إلى جميع هؤلاء (مسروراً) مبتهجاً فرحاً بما أوتي من الخير والكرامة.(15/147)
وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ (10)
(وأما من أوتي كتابه) بشماله و (وراء ظهره) قال الكلبي لأن يمينه مغلولة إلى عنقه وتكون يده اليسرى خلفه وقال قتادة ومقاتل تفك ألواح صدره وعظامه ثم تدخل يده وتخرج من ظهره فيأخذ كتابه كذلك(15/147)
فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا (11)
(فسوف يدعو ثبوراً) أي ينادي هلاكه ويتمنى فإن نداء ما لا يعقل يراد به التمني فالدعاء بمعنى الطلب بالنداء، والمعنى إذا قرأ كتابه قال يا ويلاه يا ثبوراً، والثبور الهلاك، وقال ابن عباس ثبوراً الويل.(15/147)
وَيَصْلَى سَعِيرًا (12)
(ويصلى سعيراً) أي يدخلها ويقاسي حر نارها وشدتها، قرأ أبو عمرو وحمزة وعاصم يصلي بفتح الياء وسكون الصاد وتخفيف اللام، وقرأ الباقون بضم الياء وفتح اللام وتشديدها، وقرىء بضم الياء وإسكان الصاد من أصلى يصلي.(15/148)
إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا (13)
(إنه كان في أهله) أي عشيرته في الدنيا (مسروراً) باتباع هواه وركون شهوته بطراً أشراً لعدم خطور الآخر بباله أي كان لنفسه متابعاً، وفي مراتع هواه راتعاً، والجملة تعليل لما قبلها.(15/148)
إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (14)
(إنه ظن) أي علم وتيقن (أن لن يحور) تعليل لكونه كان في الدنيا بين أهله مسروراً والمعنى أن سبب ذلك السرور ظنه بأنه لا يرجع إلى الله ولا يبعث للحساب والعقاب لتكذيبه بالبعث وجحده لدار الآخرة، وأن هي المخففة من الثقيل سادَّة مع ما في حيزها مسد مفعولي ظن، والحور في اللغة الرجوع يقال حار يحور إذا رجع وقال الراغب الحور التردد في الأمر، ومحاورة الكلام مراجعته والمحار المرجع والمصير.
قال عكرمة وداود بن أبي هند: " يحور " كلمة بالحبشية ومعناها يرجع، قال القرطبي: الحور في كلام العرب الرجوع، ومنه قوله صلى الله عليه وآله وسلم " اللهم أني أعوذ بك من الحور بعد الكور " يعني من الرجوع إلى النقصان بعد الزيادة، وكذلك الحور بالضم، وفي المثل حور في محار أي نقصان في نقصان، والحور أيضاًً الهلكة، قال ابن عباس: يحور يبعث ويرجع.(15/148)
بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا (15)
(بلى إن ربه كان به بصيراً) أي كان به وبأعماله عالماً لا يخفى عليه منها خافية، وبلى إيجاب للمنفي بأن أي بلى ليحورن وليبعثن، وأن ربه جواب قسم مقدر فالجملة بمنزلة التعليل لما أفادته بلى، قال الزجاج كان به بصيراً قبل أن يخلقه عالماً بأن مرجعه إليه.(15/148)
فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (16) وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ (17) وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (18) لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ (19) فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20) وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ (21) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (22) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ (23) فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (24) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (25)(15/149)
فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (16)
(فلا أقسم بالشفق) لا زائدة كما تقدم في أمثال هذه العبارة وقد قدمنا الخلاف فيها في سورة القيامة فارجع إليه.
أقسم بمخلوقاته تشريفاً لها وتعريضاً للاعتبار بها، والشفق الحمرة التي تكون بعد غروب الشمس إلى وقت صلاة العشاء الآخرة، قال الواحدي: هذا قول المفسرين وأهل اللغة جميعاً، قال الفراء: سمعت بعض العرب يقول عليه ثوب مصبوغ كأنه الشفق وكان أحمراً، وحكاه القرطبي عن أكثر الصحابة والتابعين والفقهاء.
وقال أسد بن عمرو وأبو حنيفة رحمه الله: في إحدى الروايتين عنه أنه البياض، ولا وجه لهذا القول ولا متمسك له لا من لغة العرب ولا من الشرع، قال الخليل الشفق الحمرة من غروب الشمس إلى وقت العشاء الآخرة.
قال في الصحاح: الشفق بقية ضوء الشمس وحمرتها في أول الليل إلى قريب العتمة، وكتب اللغة والشرع مطبقة على هذا (1).
وقال مجاهد: الشفق النهار كله، ألا تراه قال
_________
(1) أخرجه الدارقطني في " سننه " ص 100، وصحح البيهقي وقفه، وقال في " المعرفة ": روي هذا: الحديث عن عمر، وعلي، وابن عباس، وعبادة بن الصامت، وشداد بن أوس، وأبي هريرة، ولا يصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه شيء، وذكره السيوطي في " الدر " موقوفاً على ابن عمر، وعزاه إلى عبد الرزاق، وابن أبي شيبة، وابن المنذر، وعبد بن حميد، وابن مردويه.(15/149)
وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ (17)
(والليل وما وسق)(15/149)
وقال عكرمة هو ما بقي من النهار، وإنما قالا هذا لقوله بعده (والليل وما وسق) فكأنه تعالى أقسم بالضياء والظلام، ولا وجه لهذا على أنه قد روي عن عكرمة أنه قال الشفق الذي يكون بين المغرب والعشاء، وروي عن أسد بن عمرو الرجوع، وعن عمر بن الخطاب قال الشفق الحمرة، وعن ابن عباس نحوه، وعن أبي هريرة الشفق النهار كله.
وقال الراغب الشفق اختلاط ضوء النهار بسواد الليل عند غروب الشمس، وقال الزمخشري الشفق الحمرة التي ترى في المغرب بعد سقوط الشمس وبسقوطه يخرج وقت المغرب ويدخل وقت العتمة عند عامة العلماء إلا ما يروى عن أبي حنيفة في إحدى الروايتين أنه البياض وروى أسد بن عمرو أنه رجع عنه انتهى، وسمي شفقاً لرقته ومنه الشفقة على الإنسان وهي رقة القلب عليه.
(والليل وما وسق) أي جمع ما دخل عليه من الدواب وغيرها، والوسق عند أهل اللغة ضم الشيء بعضه إلى بعض يقال استوسقت الإبل إذا اجتمعت وانضمت والراعي يسقها أي يجمعها، قال الواحدي: المفسرون يقولون وما جمع وضم وحوى ولف.
والمعنى أنه جمع وضم ما كان منتشراً بالنهار في تصرفه وذلك الليل إذا أقبل أوى كل شيء إلى مأواه، وقال عكرمة وما وسق أي وما ساق من شيء إلى حيث يأوي فجعله من السوق لا من الجمع، وقيل وما وسق أي وما جن ما ستر، وقيل وما حمل وكل شيء حملته فقد وسقته، والعرب تقول لا أحمله وما وسقت عيني الماء أي حملته ووسقت الناقة تسق وسقاً أي حملت.
قال قتادة: والضحاك ومقاتل بن سليمان: وما وسق وما حمل من الظلمة أو حمل من الكواكب، قال القشيري ومعنى حمل ضم وجمع والليل يحمل بظلمته كل شيء، وقال سعيد بن جبير وما وسق أي وما عمل فيه من التهجد والاستغفار بالأسحار، والأول أولى، وقال ابن عباس: ما وسق ما دخل فيه وعنه ما جمع.(15/150)
وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (18)
(والقمر إذا اتسق) أي اجتمع وتكامل، قال الفراء: اتساقه امتلاؤه واجتماعه واستواؤه ليلة ثلاث عشرة ورابع عشرة إلى ست عشرة، وهو افتعل من الوسق الذي هو الجمع، قال الحسن اتسق امتلأ واجتمع، وقال قتادة استدار يقال وسقته فاتسق كما يقال وصلته فاتصل، ويقال أمر فلان متسق أي مجتمع منتظم، ويقال اتسق الشيء إذا تتابع، قال ابن عباس اتسق استوى، وعنه قال ليلة ثلاث عشرة.(15/151)
لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ (19)
(لتركبن) أيها الناس (طبقاً عن طبق) حالاً بعد حال، هذا جواب القسم ومحل عن طبق النصب على أنه صفة لطبقاً مجاوزاً لطبق، أو على الحال من ضمير لتركبن أي مجاوزين أو مجاوزاً، قرىء بفتح الموحدة على أنه خطاب للواحد وهو النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو لكل من يصلح له، وقرىء بضم الموحدة خطاباً للجمع وهم الناس. قال الشعبي ومجاهد لتركبن يا محمد سماء بعد سماء، قال الكلبي يعني تصعد فيها وهذا على القراءة الأولى، وقيل درجة ورتبة بعد رتبة في القرب من الله ورفعة المنزله.
وقيل المعنى لتركبن حالاً بعد حال كل حالة منها مطابقة لأختها في الشدة، وقيل المعنى لتركبن أيها الإنسان حالاً بعد حال من كونك نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم حياً وميتاً وغنياً وفقيراً، فالخطاب للإنسان المذكور في قوله (يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحاً) واختار أبو حاتم وأبو عبيدة القراءة الثانية قالا لأن المعنى بالناس أشبه منه بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وقرأ عمر رضي الله عنه ليركبن بالتحتية وضم الموحدة على الإخبار، وروي عنه وعن ابن عباس أنهما قرآ بالغيبة وفتح الوحدة أي ليركبن الإنسان، وروي عن ابن مسعود وابن عباس أنهما قرآ بكسر حرف المضارعة وهي لغة، وقرىء بفتح حرف المضارعة وكسر الموحدة على أنه خطاب للنفس.
وقيل أن معنى الآية ليركبن القمر أحوالاً من سرار واستهلال وهو بعيد،(15/151)
قال مقاتل: طبقاً عن طبق يعني الموت والحياة، وقال عكرمة: رضيع ثم فطيم ثم غلام ثم شاب ثم شيخ. وعن ابن مسعود: قال يعني السماء تنفطر ثم تنشق ثم تحمر، وعنه قال: السماء تكون كالمهل وتكون وردة كالدهان وتكون واهية وتنشق فتكون حالاً بعد حال، وقيل يعني الشدائد وأهوال الموت ثم البعث ثم العرض، وقيل " لتركبن سنن من كان قبلكم " كما ورد في الحديث الصحيح.(15/152)
فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20)
(فما لهم لا يؤمنون) الاستفهام للإنكار والفاء لترتيب ما بعدها من الإنكار والتعجيب على ما قبلها من أحوال يوم القيامة الموجبة للإيمان والسجود أو من غيرها على الإختلاف السابق، والمعنى أي شيء للكفار لا يؤمنون بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم بما جاء به من القرآن مع وجود موجبات الإيمان بذلك من التغيرات العلوية والسفلية الدالة على خالق عظيم القدرة.(15/152)
وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ (21)
(وإذا قرىء عليهم القرآن لا يسجدون) الجملة في محل نصب على الحال أي أيّ مانع لهم حال عدم سجودهم وخضوعهم عند قراءة القرآن، قال الحسن وعطاء والكلبي ومقاتل ما لهم لا يصلُّون، وقال أبو مسلم المراد الخضوع والاستكانة. وقيل المراد نفس السجود المعروف بسجود التلاوة، وقد وقع الخلاف على هذا الموضع من مواضع السجود عند التلاوة أم لا وقد تقدم في فاتحة هذه السورة الدليل على السجود، وهذه السجدة آخر سجدات القرآن عند الشافعي ومن وافقه.(15/152)
بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (22)
(بل الذين كفروا يكذبون) أي بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم وبما جاء به من الكتاب المشتمل على إثبات التوحيد والبعث والثواب والعقاب(15/152)
وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ (23)
(والله أعلم بما يوعون) أي بما يضمرونه في أنفسهم من التكذيب. وقال مقاتل: بما يكتمون من أفعالهم. وقال ابن زيد: يجمعون من الأعمال الصالحة والسيئة، مأخوذ من الوعاء الذي يجمع فيه، ويقال وعاء، حفظه وعيت الحديث أعيه وعياً ومنه (أذن واعية) وقال ابن عباس يوعون يسرون.(15/152)
فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (24)
(فبشرهم بعذاب أليم) أي أخبرهم خبراً يظهر أثره على بشرتهم واجعل ذلك بمنزلة البشارة لهم لأن علمه سبحانه بذلك على الوجه المذكور موجب لتعذيبهم، والأليم المؤلم الموجع، والكلام خارج مخرج التهكم بهم.(15/153)
إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (25)
(إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات) الاستثناء منقطع لأن الموصول مبتدأ، والجملة خبره والاستثناء من قبيل المفردات أي لكن الذين جمعوا بين الإيمان بالله والعمل الصالح (لهم أجر) عند الله (غير ممنون) أي غير مقطوع ولا منقوص، يقال مننت الحبل إذا قطعته، قال المبرد: المنين الغبار لأنه يقطعه وراءه وكل ضعيف منين وممنون، وقيل المعنى أنه لا يمن عليهم به وقيل متصل وليس بذلك لأن الضمير راجع إلى الذين كفروا، والذين كفروا قد وضع موضع المظهر للإشعار بأنهم لا يؤمنون ولا يسجدون عند قراءة القرآن عليهم لأنهم كافرون مكذبون.
قال أبو السعود استئناف مقرر لما أفاده الاستثناء من انتفاء العذاب عنهم ومبين لكيفيته ومقارنته الثواب العظيم.(15/153)
سورة البروج
هي اثنتان وعشرون آية وهي مكية بلا خلاف قال ابن عباس نزلت بمكة، وعن أبي هريرة " أن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - كان يقرأ في العشاء الآخرة بالسماء ذات البروج، والسماء والطارق " أخرجه أحمد وعن جابر بن سمرة " أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - كان يقرأ في الظهر والعصر بالسماء والطارق والسماء ذات البروج " أخرجه أحمد والدارمي وأبو داود والترمذي وحسنه والنسائي وغيرهم.(15/155)
بسم الله الرحمن الرحيم
وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ (1) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2) وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (3) قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ (4)
بسم الله الرحمن الرحيم(15/157)
وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ (1)
(والسماء ذات البروج) قد تقدم الكلام في البروج عند قوله (هو الذي جعل في السماء بروجاً) قال الحسن ومجاهد وقتادة والضحاك: هي النجوم والسماء ذات النجوم، وقال عكرمة ومجاهد أيضاًً هي قصور في السماء وبه قال ابن عباس، وقال المنهال بن عمرو: ذات الخلق الحسن، وقال أبو عبيدة ويحيى بن سلام وغيرهما: هي المنازل للكواكب وهي إثنا عشر برجاً لاثني عشر كوكباً وهي: الحمل والثور والجوزاء والسرطان والأسد والسنبلة والميزان والعقرب والقوس والجدي والدلو والحوت، قيل وهي منازل الكواكب السبعة السيارة المريخ وله الحمل والعقرب، والزهرة ولها الثور والميزان، وعطارد وله الجوزاء والسنبلة، والقمر وله السرطان، والشمس ولها الأسد والمشتري وله القوس والحوت وزحل وله الجدي والدلو.
والبروج في كلام العرب القصور، ومنه قوله (ولو كنتم في بروج مشيدة) شبهت منازل هذه النجوم بالقصور لكونها تنزل فيها، وقيل هي أبواب السماء. وقيل هي منازل القمر، وأصل البرج الظهور سميت بذلك لظهورها.
وعن جابر بن عبد الله " أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن السماء ذات البروج فقال الكواكب، وسئل عن قوله (جعل في السماء بروجاً) قال الكواكب وعن قوله (في بروج مشيدة) قال القصور " أخرجه ابن مردويه.(15/157)
وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2)
(واليوم الموعود) أي الموعود به وهو يوم القيامة قال الواحدي: في قول جميع المفسرين، وبه قال ابن عباس.(15/158)
وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (3)
(وشاهد ومشهود) نكرهما دون بقية ما أقسم به لاختصاصهما من بين الأيام بفضيلة ليست لغيرهما فلم يجمع بينهما وبين البقية بلام الجنس. وهذا جواب أيضاًً عما يقال لم خصصهما بالذكر دون بقية الأيام؟ وإنما لم يعرفا بلام الجهد لأن التنكير أدل على التفخيم والتعظيم بدليل قوله تعالى (وإلهكم إله واحد) والمراد بالشاهد من يشهد في ذلك اليوم من الخلائق أي يحضر فيه والمراد بالمشهود ما يشاهد في ذلك اليوم من العجائب.
وذهب جماعة من الصحابة والتابعين إلى أن الشاهد يوم الجمعة وأنه يشهد على كل عامل بما عمل فيه، والمشهود يوم عرفة لأنه يشهد الناس فيه موسم الحج وتحضره الملائكة، قال الواحدي وهذا قول الأكثر، قال ابن عباس: الشاهد يوم الجمعة والمشهود يوم عرفة وهو الحج الأكبر.
فيوم الجمعة جعله الله عيداً لمحمد صلى الله عليه وسلم وأمته وفضله بها على الخلق أجمعين وهو سيد الأيام عند الله وأحب الأعمال إلى الله، وفيه ساعة لا يوافقها عبد مسلم يصلي يسأل الله فيها خيراً إلا أعطاه إياه، أخرجه ابن مردويه.
وحكى القشيري عن ابن عمر وابن الزبير أن الشاهد يوم الأضحى، وقال سعيد بن المسيب: الشاهد يوم التروية والمشهود يوم عرفة، وقال النخعي: الشاهد يوم عرفة والمشهود يوم النحر: وقيل الشاهد هو الله سبحانه، وبه قال الحسن وسعيد بن جبير لقوله (وكفى بالله شهيداً) وقوله (قل أي شيء أكبر شهادة قل الله شهيد بيني وبينكم).
وقيل الشاهد محمد صلى الله عليه وآله وسلم لقوله (فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً). وقوله (يا أيها الرسول إنا أرسلناك شاهداً) وقوله (ويكون الرسول عليكم شهيداً) وقيل الشاهد جميع(15/158)
الأنبياء لقوله (فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد).
وقيل هو عيسى ابن مريم لقوله (وكنت عليهم شهيداً ما دمت فيهم).
والمشهود على هذه الأقوال الثلاثة إما أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أو أمم الأنبياء أو أمة عيسى.
وقيل الشاهد آدم والشهود ذريته، وقال محمد بن كعب: الشاهد الإنسان لقوله (كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً) وقال مقاتل أعضاؤه لقوله (يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم).
وقال الحسين بن الفضل: الشاهد هذه الأمة والمشهود سائر الأمم لقوله (وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس) وقيل الشاهد الحفظة والمشهود بنو آدم " وقيل الأيام والليالي، وقيل الشاهد الخلق يشهدون لله عز وجل بالوحدانية والمشهود له بالوحدانية هو الله سبحانه. وسيأتي بيان ما هو الحق.
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " اليوم الموعود يوم القيامة واليوم المشهود يوم عرفة والشاهد يوم الجمعة " وما طلعت الشمس ولا غربت على يوم أفضل منه فيه ساعة لا يوافقها عبد مؤمن يدعو الله بخير إلا استجاب الله له، ولا يستعيذ من شيء إلا أعاذ منه " أخرجه الترمذي وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في سننه.
وعن أبي هريرة رفعه " قال الشاهد يوم عرفة ويوم الجمعة والمشهود هو الموعود يوم القيامة " أخرجه الحاكم وصححه والبيهقي وابن مردويه (1).
_________
(1) رواه الترمذي، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وفي سنده موسى بن عبيدة الربذي وهو ضعيف كما قال الحافظ ابن حجر في " التقريب "، وقال الترمذي: هذا حديث لا نعرفه إلا من حديث موسى بن
[ص:160]
عبيدة، وموسى بن عبيدة: يضعف في الحديث، ضعفه يحيى بن سعيد وغيره من قبل حفظه، وقال ابن كثير: وروى هذا الحديث ابن خزيمة من طرق عن موسى بن عبيدة الربذي، وهو ضعيف، وقد روي موقوفاً على أبي هريرة، وهو أشبه.(15/159)
وعن علي بن أبي طالب اليوم الموعود يوم القيامة والمشهود يوم النحر والشاهد يوم الجمعة.
وعن أبي مالك الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " اليوم الموعود يوم القيامة والشاهد يوم الجمعة والمشهود يوم عرفة " أخرجه ابن جرير والطبراني وابن مردويه.
وعن جبير بن مطعم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الآية " الشاهد يوم الجمعة والمشهود يوم عرفة " أخرجه ابن عساكر وابن مردويه، وعن أبي هريرة مثله موقوفاً.
وعن سعيد بن المسيب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أن سيد الأيام يوم الجمعة وهو الشاهد، والمشهود يوم عرفة " وهذا مرسل من مراسيله أخرجه سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن مردويه.
وعن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " أكثروا من الصلاة عليَّ يوم الجمعة فإنه يوم مشهود تشهده الملائكة " أخرجه ابن ماجه والطبراني وابن جرير.
وعن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه قال في الآية الشاهد يوم الجمعة والمشهود يوم عرفة، وعن الحسن بن علي رضي الله تعالى عنهما أن رجلاً سأله عن قوله (وشاهد ومشهود) قال هل سألت أحداً قبلي قال نعم سألت ابن عمر وابن الزبير فقالا يوم الذبح ويوم الجمعة قال لا ولكن الشاهد محمد صلى الله عليه وآله وسلم ثم قرأ (وجئنا بك على هؤلاء شهيداً) والمشهود يوم القيامة، ثم قرأ (ذلك يوم مشهود) وعن الحسين بن علي رضي الله تعالى عنهما في الآية قال الشاهد جدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والمشهود يوم القيامة ثم تلا (إنا أرسلناك شاهداً) (ذلك يوم مشهود).
وعن ابن عباس قال اليوم الموعود يوم القيامة والشاهد محمد صلى الله عليه(15/160)
وسلم والمشهود يوم القيامة ثم تلا ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود.
وعنه قال الشاهد الله والشهود يوم القيامة.
قلت وهذه التفاسير عن الصحابة رضي الله عنهم قد اختلفت كما ترى وكذلك اختلفت تفاسير التابعين بعدهم، واستدل من استدل منهم بآيات ذكر الله فيها أن ذلك الشيء شاهد أو مشهود، فجعله دليلاً على أنه المراد بالشاهد والمشهود في هذه الآية المطلقة، وليس ذلك بدليل يستدل به على أن الشاهد والمشهود المذكورين في هذا المقام هو ذلك الشاهد والمشهود الذي ذكر في آية أخرى، وإلا لزم أن يكون قوله هنا وشاهد ومشهود هو جميع ما أطلق عليه في الكتاب العزيز أو السنة المطهرة أنه يشهد أو أنه مشهود، وليس بعض ما استدلوا به مع اختلافه بأولى من بعض، ولم يقل قائل ذلك.
فإن قلت هل في المرفوع الذي ذكرته من حديثي أبي هريرة وحديث أبي مالك الأشعري وحديث جبير بن مطعم ومرسل سعيد بن المسيب ما يعين هذا اليوم الموعود والشاهد والمشهود.
قلت أما اليوم الموعود فلم تختلف هذه الروايات التي ذكر فيها بل اتفقت على أنه يوم القيامة، وأما الشاهد ففي حديث أبي هريرة الأول أنه يوم الجمعة وفي حديثه الثاني أنه يوم عرفة ويوم الجمعة، وفي حديث الأشعري أنه يوم الجمعة، وفي حديث جبير أنه يوم الجمعة وفي مرسل سعيد أنه يوم الجمعة فاتففت هذه الأحاديث عليه، ولا تضر زيادة يوم عرفة عليه في حديث أبي هريرة الثاني.
وأما المشهود ففي حديث أبي هريرة الأول أنه يوم عرفة وفي حديثه الثاني أنه يوم القيامة وفي حديث أبي مالك أنه يوم عرفة وفي حديث جبير أنه يوم عرفة، وكذا في حديث سعيد، فقد تعين في هذه الروايات أنه يوم عرفة، وهي أرجح من تلك الرواية التي صرح فيها بأنه يوم القيامة، فحصل من مجموع هذا رجحان ما ذهب إليه الجمهور من الصحابة والتابعين ومن بعدهم أن الشاهد يوم الجمعة والمشهود يوم عرفة، وأما اليوم الموعود فقد قدمنا أنه(15/161)
وقع الإجماع على أنه يوم القيامة.(15/162)
قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ (4)
(قتل أصحاب الأخدود) هذا جواب القسم واللام فيه مضمرة وهو الظاهر، وبه قال الفراء وغيره وقيل تقديره لقد قتل فحذفت اللام وقد، وعلى هذا تكون الجملة خبرية والظاهر أنها دعائية لأن معنى قتل لعن، قال الواحدي: في قول الجميع والدعائية لا تكون جواباً للقسم فقيل الجواب قوله (إن الذين فتنوا المؤمنين) وقيل قوله (إن بطش ربك لشديد) وبه قال المبرد واعترض عليه بطول الفصل.
وقيل هو مقدر يدل عليه قوله قتل أصحاب الأخدود كأنه قال أقسم بهذه الأشياء أن كفار قريش ملعونون كما لعن أصحاب الأخدود، فإن السورة وردت لتثبيت المؤمنين على أذاهم وتذكيرهم بما جرى على من قبلهم.
وقيل تقدير الجواب أن الأمر حق في الجزاء، وقيل تقدير الجواب لتبعثن، واختاره ابن الأنباري.
وقال أبو حاتم السجستاني وابن الأنباري أيضاًً في الكلام تقديم وتأخير أي (قتل أصحاب الأخدود) (والسماء ذات البروج) واعترض عليه بأنه لا يجوز أن يقال والله قام زيد.
وعن ابن مسعود قال: (والسماء ذات البروج إلى قوله) شاهد ومشهود) هذا قسم على (أن بطش ربك لشديد) إلى آخرها، والأخدود جمع خد وهو الحق العظيم المستطيل في الأرض كالخندق وجمعه أخاديد ومنه الخد لمجاري الدموع والمخدة لأن الخد يوضع عليها، ويقال تخدد وجه الرجل إذا صارت فيه أخاديد من جراح.
أخرج عبد الرازق وابن أبي شيبة وأحمد وعبد بن حميد ومسلم والترمذي والنسائي والطبراني عن صهيب أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال " كان ملك من الملوك فيمن كان قبلكم وكان لذلك الملك كاهن يكهن له فقال له ذلك الكاهن انظروا لي غلاماً فهماً -أو قال فطناً- ألقنه فأعلمه علمي فإني أخاف أن أموت فينقطع منكم هذا العلم، ولا يكون فيكم من يعلمه قال فنظروا له على(15/162)
ما وصف فأمروه أن يحضر ذلك الكاهن وأن يختلف إليه فجعل الغلام يختلف إليه وكان على طريق الغلام راهب في صومعة فجعل الغلام يسأل ذلك الراهب كلما مر به فلم يزل به حتى أخبره فقال إنما أعبد الله فجعل الغلام يمكث عند هذا الراهب، ويبطىء عن الكاهن، فأرسل الكاهن إلى أهل الغلام أنه لا يكاد يحضرني، فأخبر الغلام الراهب بذلك فقال له الراهب إذا قال لك أين كنت فقل عند أهلي، وإذا قال لك أهلك أين كنت فأخبرهم أني كنت عند الكاهن، فبينما الغلام على ذلك إذ مر بجماعة من الناس كثير قد حبستهم دابة يقال أنها كانت أسداً فأخذ الغلام حجراً فقال اللهم إن كان ما يقول ذلك الراهب حقاً فأسألك أن أقتل هذا الدابة، وإن كان ما يقول الكاهن حقا فأسألك أن لا أقتلها، ثم رمى فقتل الدابة فقال الناس من قتلها قالوا الغلام ففزع الناس وقالوا قد علم هذا الغلام علماً لم يعلمه أحد، فسمع أعمى فجاءه فقال له إن أنت رددت عليّ بصري فلك كذا وكذا فقال الغلام لا أريد منك هذا، ولكن أرأيت إن رجع عليك بصرك أتؤمن بالذي رده عليك قال نعم، فدعا الله فرد عليه بصره فآمن الأعمى فبلغ الملك أمرهم فبعث إليهم فأتى بهم فقال لأقتلن كل واحد منكم قتلة لا أقتل بها صاحبه فأمر بالراهب والرجل الذي كان أعمى فوضع المنشار على مفرق أحدهما فقتله وقتل الآخر بقتلة أخرى، ثم أمر بالغلام فقال انطلقوا به إلى جبل كذا وكذا فألقوه من رأسه فانطلقوا به إلى ذلك الجبل فلما انتهوا إلى ذلك المكان الذي أرادوا أن يلقوه منه جعلوا يتهافتون من ذلك الجبل ويتردون حتى لم يبق منهم إلا الغلام، ثم رجع الغلام فأمر به الملك أن ينطلقوا به إلى البحر فيلقوه فيه، فانطلقوا به إلى البحر، فغرّق الله الذين كانوا معه وأنجاه، فقال الغلام للملك إنك لن تقتلني حتى تصلبني وترميني وتقول إذا رميتني بسم الله رب الغلام، فأمر به فصلب ثم رماه وقال بسم الله رب الغلام فوقع السهم في صدغه فوضع الغلام يده على موضع السهم ثم مات، فقال الناس لقد علم هذا الغلام علماً ما علمه أحد، فإنا نؤمن برب هذا الغلام، فقيل للملك(15/163)
أجزعت أن خالفك ثلاثة فهذا العالم كلهم قد خالفوك، قال فخد أخدوداً ثم ألقي فيها الحطب والنار، ثم جمع الناس فقال: من رجع عن دينه تركناه، ومن لم يرجع ألقيناه في هذه النار، فجعل يلقيهم في تلك الأخدود، فقال يقول الله (قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ (4) النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ) حتى بلغ (الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) فأما الغلام فإنه دفن ثم أخرج فيذكر أنه خرج في زمن عمر بن الخطاب وإصبعه على صدغه كما وضعها حين قتل.
ولهذه القصة ألفاظ فيها بعض اختلاف، وقد رواها مسلم في أواخر الصحيح عن هدبة بن خالد عن حماد بن سلمة عن ثابت عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن صهيب.
وأخرجها أحمد من طريق عفان عن حماد به.
وأخرجها النسائي عن أحمد بن سليمان عن حماد بن سلمة به.
وأخرجها الترمذي عن محمود بن غيلان وعبد بن حميد عن عبد الرزاق عن معمر عن ثابت به.
وعن علي بن أبي طالب في قوله (أصحاب الأخدود) قال هم الحبشة أخرجه ابن المنذر وابن أبي حاتم.
وعن ابن عباس " قال هم ناس من بني إسرائيل خدوا أخدوداً في الأرض أوقدوا فيه ناراً ثم أقاموا على ذلك الأخدود رجالاً ونساء فعرضوا عليها " أخرجه ابن جرير وقال مقاتل كانت الأخاديد ثلاثة واحدة بنجران باليمن وأخرى بالشام. وأخرى بفارس، حرق أصحابها بالنار فأما التي بالشام فهو أبطاموس الرومي، وأما التي بفارس فبختنصر، ويزعمون أنهم أصحاب دانيال، وأما التي باليمن فذو نواس.
فأما التي بالشام وفارس فلم ينزل الله فيهم قرآنا وأنزل في التي بنجران اليمن وذلك لأن هذه القصة كانت مشهورة عند أهل مكة فذكرها الله تعالى لأصحاب رسوله يحملهم بذلك على الصبر وتحمل المكاره في الدين.(15/164)
النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (5) إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ (6) وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7) وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (9) إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ (10) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (11) إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12) إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (13)(15/165)
النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (5)
(النار ذات الوقود) قرأ الجمهور النار بالجر على أنها بدل اشتمال من الأخدود لأن الأخدود مشتمل عليها وحينئذ فلا بد من ضمير مقدر أي النار فيه وذات الوقود وصف لها بأنها نار عظيمة والوقود الحطب الذي توقد به، وقيل هو بدل كل من كل، وقيل أن النار مخفوضة على الجوار حكاه مكي عن الكوفيين.
قرأ الجمهور بفتح الواو من الوقود، وقرىء بضمها وبرفع النار على أنها خبر مبتدأ محذوف أي هي النار أو على أنها فاعل فعل محذوف أي أحرقتهم النار.(15/165)
إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ (6)
(إذ هم عليها قعود) العامل في الظرف قتل أي لعنوا حين أحرقوا بالنار قاعدين على ما يدنو منها ويقرب إليها، قال مقاتل يعني عند النار قعود يعرضونهم على الكفر، وقال مجاهد كانوا قعوداً على الكراسي عند الأخدود، قال زاده عبر عن القعود على حافة النار بالقعود على نفس النار للدلالة على أنهم حال قعودهم على شفيرها مستولون عليها يقذفون فيها من شاؤوه ويخلون سبيل من شاؤوه.(15/165)
وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7)
(وهم) أي الذين خدّدوا الأخدود وهم الملك وأصحابه (على ما يفعلون بالمؤمنين) بالله تعالى من عرضهم على النار ليرجعوا إلى دينهم (شهود) أي(15/165)
حضور أو يشهد بعضهم لبعض عند الملك بأنه لم يقصر فيما أمر به، وقيل يشهدون بما فعلوا يوم القيامة ثم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم، وقيل على بمعنى مع والتقدير وهم مع ما يفعلون بالمؤمنين من الإحراق شهود لا يرقون لهم لغاية قسوة قلوبهم، هذا هو الذي يستدعيه النظم وتنطق به الروايات المشهورة.
قال الزجاج أعلم الله قصة قوم بلغت بصيرتهم وحقيقة إيمانهم إلى أن صبروا على أن يحرقوا بالنار في الله، وفيه حث للمؤمنين على الصبر وتحمل أذى أهل الكفر والعناد.
روي أن الله أنجى المؤمنين الملقين في النار وكانوا سبعة وسبعين بقبض أرواحهم قبل وقوعهم فيها وخرجت النار إلى من ثم فأحرقتهم، وهؤلاء لم يرجعوا عن دينهم، والذين رجعوا عشرة أو أحد عشر، ولم يرد نص بتعيين عدد أصحاب الأخدود.(15/166)
وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8)
(وما نقموا منهم) قرأ الجمهور نقموا بفتح النون، وقرىء بكسرها والفصيح الفتح في المختار نقم الأمر كرهه، وبابه ضرب ونقم من باب فهم لغة أي ما أنكروا عليهم ولا عابوا منهم (إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد) إلا أن صدقوا بالله الغالب المحمود في كل حال، قال الزجاج ما أنكروا عليهم ذنباً إلا إيمانهم، وهذا كقوله (هل تنقمون منا إلا أن آمنا بآيات ربنا) وهذا من تأكيد المدح بما يشبه الذم كما في قوله:
لا عيب فيهم سوى أن النزيل بهم ... يسلو عن الأهل والأوطان والحشم
وقول الآخر:
ولا عيب فيها غير شكلة عينها ... كذاك عتاق الطير شكلاً عيونها
وقول الآخر:
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ... بهن فلول من قراع الكتائب(15/166)
ثم وصف سبحانه بما يدل على العظم والفخامة فقال(15/167)
الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (9)
(الذي له ملك السموات والأرض) ومن كان هذا شأنه فهو حقيق بأن يؤمن به ويوحد (والله على كل شيء شهيد) من فعلهم بالمؤمنين لا تخفى عليه منه خافية، وفي هذا وعيد شديد لأصحاب الأخدود، ووعد خير لمن عذبوه على دينه من أولئك المؤمنين.
ثم بين سبحانه ما أعد لأولئك الذين فعلوا بالمؤمنين ما فعلوا من التحريق فقال(15/167)
إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ (10)
(إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات) أي حرقوهم بالنار، والعرب تقول فتنت الشيء أي أحرقته وفتنت الدرهم والدينار إذا أدخلته النار لتنظر جودته، ويقال دينار مفتون ويسمى الصائغ الفتان، ومنه قوله (يوم هم على النار يفتنون) أي يحرقون وقيل معنى فتنوا المؤمنين محنوهم في دينهم ليرجعوا عنه.
قال الرازي: ويحتمل أن يكون المراد كل من فعل ذلك، قال وهذا أولا، لأن اللفظ عام والحكم بالتخصيص ترك للظاهر من غير دليل (ثم لم يتوبوا) من قبح صنعهم ولم يرجعوا عن كفرهم وفتنتهم (فلهم) في الآخرة (عذاب جهنم) بسبب كفرهم (ولهم) عذاب آخر زائد على عذاب كفرهم وهو (عذاب الحريق) الذي وقع منهم للمؤمنين. وقيل أن الحريق إسم من أسماء النار كالسعير وقيل أنهم يعذبون في جهنم بالزمهرير، ثم يعذبون بعذاب الحريق فالأول عذاب ببردها، والثاني عذاب بحرها.
وقال الربيع بن أنس أن عذاب الحريق أصيبوا به في الدنيا، وذلك أن النار ارتفعت من الأخدود إلى الملك وأصحابه فأحرقتهم، وبه قال الكلبي، ومفهوم الآية أنهم لو تابوا لخرجوا من هذا الوعيد، وإنما عبر سبحانه بأداة التراخي لأن التوبة مقبولة قبل الغرغرة ولو طال الزمان.
ثم لما ذكر سبحانه وعيد المجرمين أتبعه بذكر ما أعده للمؤمنين الذين أحرقوا بالنار فقال(15/167)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (11)
(إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات) وظاهر الآية العموم(15/167)
فيدخل في ذلك المحرقون في الأخدود بسبب إيمانهم دخولاً أولياً، والمعنى أن الجامعين بين الإيمان وعمل الصالحات (لهم) بسبب الإيمان والعمل الصالح (جنات تجري من تحتها) أي تحت أسرتها وغرفها وجميع أماكنها (الأنهار) يتلذذون ببردها في نظير ذلك الحر الذي صبروا عليه في الدنيا.
وقد تقدم كيفية جري الأنهار من تحت الجنات في غير موضع، وأوضحنا أنه إن أريد بالجنات الأشجار فجري الأنهار من تحتها واضح وإن أريد بها الأرض المشتملة عليها فالتحتية باعتبار جزئها الظاهر وهو الشجر لأنها ساترة لساحتها وأرضها.
(ذلك) أي ما تقدم ذكره مما أعده الله لهم (الفوز الكبير) الذي لا يعدله فوز ولا يقاربه ولا يدانيه، والفوز الظفر بالمطلوب، وما في " ذلك " من معنى البعد للإيذان بعلو درجته في الفضل والشرف.(15/168)
إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12)
(إن بطش ربك) بالكفار (لشديد) بحسب إرادته قاله الجلال المحلي، وفيه إشارة إلى الرد على الفلاسفة القائلين بأنه موجب بالذات، وقد نطق القرآن بأنه فعال لما يريد، والجملة مستأنفة لخطاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم مبينة لما عند الله سبحانه من الجزاء لمن عصاه، والمغفرة لمن أطاعه، والمعنى أن أخذه تعالى للجبابرة والظلمة شديد، والبطش الأخذ بعنف، ووصفه بالشدة يدل على، أنه قد تضاعف وتفاقم. ومثل هذا قوله: (إن أخذه أليم شديد).(15/168)
إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (13)
(إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ) أي يخلق الخلق أولاً في الدنيا ويعيدهم أحياء بعد الموت كذا قال الجمهور، وقيل يبدىء للكفار عذاب الحريق في الدنيا ثم يعيده لهم في الآخرة، واختار هذا ابن جرير والأول أولى، وقال ابن عباس: يبدىء العذاب ويعيده انتهى، ومن كان قادراً على الإيجاد والإعادة إذا بطش كان بطشه في غاية الشدة، وبهذا ظهر التعليل بهذه الجملة لما سبق من شدة البطش.(15/168)
وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15) فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (16) هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (17) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (18) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (19) وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ (20) بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (22)(15/169)
وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14)
(وهو الغفور الودود) أي بالغ المغفرة لذنوب عباده المؤمنين لا يفضحهم بها، بالغ المحبة للمطيعين من أوليائه، قال مجاهد الواد لأوليائه فهو فعول بمعنى فاعل. وقال ابن زيد معنى الودود الرحيم، وحكى المبرد عن إسماعيل القاضي أن الودود هو الذي لا ولد له، وقيل الودود بمعنى المودود أي يوده عباده الصالحون ويحبونه كذا قال الأزهري.
قال ويجوز أن يكون فعولاً بمعنى فاعل أي يكون محباً لهم، قال وكلتا الصفتين مدح لأنه جل ذكره إن أحب عباده المطيعين فهو فضل منه، وإن أحبه عباده العارفون فلما تقرر عندهم من كريم إحسانه، قال ابن عباس: الودود الحبيب.
وقالت المعتزلة غفور لمن تاب، وقال أصحاب السنة غفور مطلقاً لمن تاب ومن لم يتب، لأن الآية مذكورة في معرض التمدح بكونه غفوراً مطلقاً أتم، فالحمل عليه أولى، ولأن الغفور صيغة مبالغة فالمناسب أن يحمل على الإطلاق. قاله زاده.(15/169)
ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15)
(ذو العرش المجيد) قرأ الجمهور برفع الجيد على أنه نعت لذو، واختاره أبو عبيدة وأبو حاتم قالا لأن المجد هو النهاية في الكرم والفضل، والله سبحانه هو المنعوت بذلك.
وقرىء بالجر على أنه نعت للعرش ومجده علوه وعظمته.
وقدم وصف سبحانه عرشه بالكرم كما في آخر سورة المؤمنين، قال ابن عباس: المجيد الكريم، قيل أن العرش أحسن الأجسام، وقيل هو نعت(15/169)
لربك، ولا يضر الفصل بينهما لأنها صفات لله سبحانه، وقال مكي: هو خبر بعد خبر. والأول أولى. ومعنى ذو العرش ذو الملك والسلطان كما يقال فلان على سرير ملكه، وقيل المراد خالق العرش.(15/170)
فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (16)
(فعال لما يريد) من الإبداء والإعادة، قال عطاء لا يعجز عن شيء يريده ولا يمتنع منه شيء طلبه، وارتفاع فعال على أنه خبر مبتدأ محذوف، قال الفراء: هو رفع على التكرير والاستئناف لأنه نكرة محضة، قال ابن جرير: رفع فعال وهو نكرة محضة على وجه الاتباع لإعراب (الغفور الودود).
وإنما قال: " فعال " لأن ما يريد ويفعل في غاية الكثرة، والإرادة هنا تكوينية فيكون فيه دلالة على خلق أفعالهم، وختم به الصفات لأنه كالنتيجة للأوصاف السابقة.
قال الكرخي: نكره لضرب من التعظيم تتلاشى عنده الأوهام والعقول، قال بعضهم: وفيه دلالة على أنه لا يجب عليه شيء لأنها دالة على أن فعله بحسب إرادته، ثم ذكر سبحانه خبر الجموع الكافرة فقال:(15/170)
هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (17)
(هل أتاك حديث الجنود) والجملة مستأنفة مقررة لما تقدم من شدة بطشه سبحانه وكونه فعالاً لما يريد، وفيه تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم أي هل أتاك يا محمد خبر الجموع الكافرة الطاغية في الأمم الخالية المكذبة لأنبيائهم المتجندة عليها.
ثم بيّنهم فقال(15/170)
فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (18)
(فرعون وثمود) وهو بدل من الجنود، فالمراد بفرعون هو وقومه والمراد بثمود القوم المعروفون، والمراد بحديثهم ما وقع منهم من الكفر والعناد والضلال، وما وقع عليهم من العذاب والنكال، وقصتهم مشهورة، وقد تكرر في الكتاب العزيز ذكرها في غير موضع، واقتصر على الطائفتين لاشتهار أمرهما عند أهل الكتاب، وعند مشركي العرب ودل بهما على أمثالهما.
ثم أضرب عن مماثلة هؤلاء الكفار الموجودين في عصره صلى الله عليه(15/170)
وآله وسلم إضراباً إنتقالياً لمن تقدم ذكرهم وبين أنهم أشد منهم في الكفر والتكذيب فقال(15/171)
بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (19)
(بل الذين كفروا في تكذيب) شديد لك ولما جئت به، ولم يعتبروا بمن كان قبلهم من الكفار.(15/171)
وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ (20)
(والله من ورائهم محيط) أي يقدر على أن ينزل بهم ما أنزل بأولئك لا عاصم لهم منه، والإحاطة بالشيء الحصر له من جميع جوانبه فهو تمثيل لعدم نجاتهم بعدم فوت المحاط به على المحيط.
ثم رد سبحانه تكذيبهم بالقرآن فقال:(15/171)
بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21)
(بل هو قرآن مجيد) أي متناه في الشرف والكرم والبركة والنفع، معجز بنظمه عالي الطبقة من بين الكتب، وحيد في النظم والمعنى لكونه بياناً لما شرعه الله لعباده من أحكام الدين والدنيا وليس هو كما يقولون أنه شعر وكهانة وسحر.(15/171)
فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (22)
(في لوح محفوظ) أي مكتوب في لوح وهو أم الكتاب محفوظ عند الله من وصول الشياطين إليه، قرأ الجمهور لوح بفتح اللام واتفق عليها القراء وقرأ الجمهور محفوظ بالجر على أنه نعت للوح وقرىء برفعه على أنه نعت للقرآن، أي (بل هو قرآن مجيد) محفوظ في لوح، قيل والمراد باللوح بضم اللام الهواء والفضاء الذي فوق السماء السابعة، وبه قال أبو الفضل وكذا قال ابن خالويه.
وقال في الصحاح اللوح بالضم الهواء بين السماء والأرض، وعن ابن عباس قال " أخبرت أن لوح الذكر لوح واحد فيه الذكر " وأن ذلك اللوح نور، وأنه مسيرة ثلثمائة سنة " أخرجه ابن المنذر، وعن أنس أن اللوح المحفوظ الذي ذكره الله في الآية في جبهة إسرافيل.
وأخرج أبو الشيخ قال السيوطي بسند جيد عن ابن عباس قال: " خلق الله اللوح المحفوظ كمسيرة مائة عام فقال للقلم قبل أن يخلق الخلق اكتب علمي في خلقي، فجرى بما هو كائن إلى يوم القيامة " وقال مقاتل: اللوح المحفوظ عن يمين العرش.(15/171)
سورة الطارق
هي سبع عشرة آية وهي مكية بلا خلاف قال ابن عباس نزلت بمكة وعن خالد العدواني " أنه أبصر رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - في سوق ثقيف وهو قائم على قوس أو عصا حين أتاهم يبتغي النصر عندهم، فسمعه يقرأ (وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ) حتى ختمها قال فوعيتها في الجاهلية ثم قرأتها في الإسلام، قال فدعتني ثقيف فقالوا ماذا سمعت من هذا الرجل، فقرأتها فقال من معهم من قريش: نحن أعلم بصاحبنا، لو كنا نعلم ما يقول حقاً لاتبعناه " أخرجه أحمد والبخاري في تاريخه والطبراني وابن مردويه.(15/173)
بسم الله الرحمن الرحيم
وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ (2) النَّجْمُ الثَّاقِبُ (3) إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ (4) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ (6)(15/175)
وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ (1)
(والسماء والطارق) أقسم سبحانه بالسماء والطارق، وقد أكثر في كتابه العزيز ذكر السماء والشمس والقمر والنجوم، لأن أحوالها في أشكالها وسيرها ومطالعها ومغاربها عجيبة، والطارق هو النجم الثاقب كما صرح به التنزيل.
قال الواحدي: قال المفسرون أقسم الله بالطارق يعني الكواكب تطرق بالليل وتخفى بالنهار، قال الفراء: الطارق النجم لأنه يطلع بالليل، وما أتاك ليلاً فهو طارق، وكذا قال الزجاج والمبرد.
وقد اختلف في الطارق هل هو نجم معين أو جنس النجم، فقيل هو زحل وقيل الثريا وقيل هو الذي ترمى به الشياطين، وقيل هو جنس النجم، قال في الصحاح: والطارق النجم الذي يقال له كوكب الصبح.
قال الماوردي: أصل الطروق الدق فسمي قاصد الليل طارقاً لاحتياجه في الوصول إلى الدق، ثم اتسع به في كل ما ظهر بالليل كائناً ما كان، ثم اتسع كل التوسع حتى أطلق على الصور الخالية البادية بالليل.
وقال قوم إن الطروق قد يكون نهاراً والعرب تقول أتيتك اليوم طرقتين أي مرتين ومنه قوله صلى الله عليه وآله وسلم " أعوذ بك من شر طوارق الليل والنهار، إلا طارقاً يطرق بخير " قال ابن عباس أقسم ربك بالطارق وكل شيء طرقك بالليل فهو طارق.
ثم بين سبحانه ما هو الطارق تفخيماً لشأنه بعد تعظيمه بالإقسام به فقال(15/175)
وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ (2)
(وما أدراك ما الطارق) وفيه تنبيه على أن رفعة قدره بحيث لا ينالها إدراك(15/175)
الخلق، فلا بد من تلقيها من الخلاق العليم.(15/176)
النَّجْمُ الثَّاقِبُ (3)
(النجم الثاقب) أي المضيء ومنه يقال ثقب النجم ثقوباً إذا أضاء وثقوبه ضؤوه، قال مجاهد: الثاقب المتوهج وقيل المرتفع العالي، قال سفيان: كل ما في القرآن " وما أدراك " فقد أخبره، وكل شيء قال " ما يدريك " لم يخبره به.
وقيل هو نجم في السماء السابعة وهو زحل لا يسكنها غيره من النجوم، وإذا أخذت النجوم أمكنتها من السماء هبط فكان معها ثم يرجع إلى مكانه من السماء السابعة، فهو طارق حين ينزل وحين يصعد.
ولم يقل: والنجم الثاقب، مع أنه أخضر وأظهر فعدل عنه تفخيماً لشأنه فأقسم أولاً بما يشترك فيه هو وغيره وهو الطارق، ثم فسره بالنجم إزالة لذلك الإبهام الحاصل بالاستفهام، والجملة مستأنفة جواب سؤال مقدر نشأ مما قبله كأنه قيل ما هو فقيل هو النجم الثاقب.(15/176)
إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ (4)
(إن كل نفس لما عليها حافظ) هذا جواب القسم، وما بينهما اعتراض جيء به لتأكيد فخامة القسم المستتبع لتأكيد مضمون الجملة المقسم عليها، وقد تقدم في سورة هود اختلاف القراء في " لما " فمن قرأ بتخفيفها كانت إن هنا هي المخففة من الثقيلة فيها ضمير الشأن المقدر وهو اسمها، واللام هي الفارقة و " ما " مزيدة، وهذا كله تفريع على قول البصريين أي أن الشأن كل نفس لعليها حافظ.
ومن قرأ بالتشديد فإن نافية، ولما بمعنى إلا أي ما كل نفس إلا عليها حافظ، قيل والحافظ هم الحفظة من الملائكة الذين يحفظون عليها عملها وقولها وفعلها، ويحصون ما تكسب من خير وشر، وقيل الحافظ هو الله عز وجل.
وعدى حافظ بعلى لتضمينه معنى القيام، فإنه تعالى قائم على خلقه(15/176)
بعلمه واطلاعه على أحوالهم وقيل هو العقل يرشدهم إلى المصالح ويكفهم عن المفاسد، والأول أولى لقوله (وإن عليكم لحافظين) وقوله (ويرسل عليكم حفظة) وقوله (له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه) والحافظ في الحقيقة هو الله عز وجل كما في قوله (فالله خير حافظاً) وقوله (وكان الله على كل شيء رقيباً) فإن الممكنات كما تحتاج إلى الواجب لذاته في وجودها تحتاج إليه في بقائها، وحفظ الملائكة من حفظه لأنهم يحفظونه بأمره.(15/177)
فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5)
(فلينظر الإنسان) الفاء للدلالة على أن كون حافظ على كل نفس يوجب على الإنسان أن يتفكر في مبتدأ خلقه ليعلم قدرة الله على ما هو دون ذلك من البعث، قال مقاتل يعني المكذب بالبعث (مم خلق) أي من أي شيء خلقه الله، والمعنى فلينظر نظر التفكر والإستدلال حتى يعرف أن الذي ابتدأه من نطفة قادر على إعادته.
ثم بيّن سبحانه ذلك فقال(15/177)
خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ (6)
(خلق من ماء دافق) والجملة مستأنفة جواب سؤال مقدر، والماء هو المني والدفق الصب، يقال دفقت الماء أي صببته ويقال (ماء دافق) أي مدفوق مثل (عيشة راضية) أي مرضية.
قال الفراء والأخفش أي مصبوب في الرحم، قال الفراء وأهل الحجاز يجعلون الفاعل بمعنى المفعول في كثير من كلامهم كقولهم سر كاتم أي مكتوم وهم ناصب أي منصوب وليل نائم ونحو ذلك.
قال الزجاج: من ماء ذي اندفاق يقال دارع وقايس ونابل أي ذو درع وقوس ونبل، يعني من صيغ النسب كلابن وتامر، وهو صادق على الفاعل والمفعول أو هو مجاز في الإسناد، فأسند إلى الماء ما لصاحبه مبالغة أو هو استعارة مكنية وتخييلية أو مصرحة يجعله دافقاً لأنه لتتابع قطراته كأنه يدفق بعضه بعضاً أي يدفعه كما أشار له ابن عطية.
وأراد سبحانه ماء الرجل والمرأة لأن الإنسان مخلوق منهما لكن جعلهما ماء واحداً لامتزاجهما.(15/177)
يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ (7) إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ (8) يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ (9) فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ (10) وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ (11) وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ (12) إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (13) وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ (14) إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا (15) وَأَكِيدُ كَيْدًا (16) فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا (17)
ثم وصف هذا الماء فقال(15/178)
يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ (7)
(يخرج من بين الصلب والترائب) أي صلب الرجل وترائب المرأة وهي جمع تريبة وهي موضع القلادة من الصدر، والولد لا يكون إلا من الماءين، قرأ الجمهور يخرج مبنياً للفاعل وقرىء مبنياً للمفعول، وفي الصلب وهو الظهر لغات قرأ الجمهور بضم الصاد وسكون اللام، وقرأ أهل مكة بضمهما، وقرأ اليماني بفتحهما، ويقال صالب على وزن قالب ومنه قول العباس بن عبد المطلب *تنقل من صالب إلى رحم* في أبياته المشهورة في مدح النبي صلى الله عليه وسلم، وقد تقدم كلام في هذا عند تفسير قوله (الذين من أصلابكم) وقيل الترائب ما بين الثديين.
وقال الضحاك: ترائب المرأة اليدان والرجلان والعينان وقال: سعيد بن جبير هي الجيد، وقال مجاهد هي ما بين المنكبين والصدر، وروي عنه أنه قال: هي الصدر، وعنه قال هي: التراقي، وحكى الزجاج أن الترائب ْعصارة القلب ومنه يكون الولد، والمشهور في اللغة أنها عظام الصدر والنحر، قال عكرمة الترائب الصدر.
قال في الصحاح التريبة واحدة الترائب وهي عظام الصدر، قال أبو عبيدة جمع التريبة تريب وحكى الزجاج أن الترائب أربع أضلاع من يمنة الصدر، وأربع أضلاع من يسرة الصدر.
قال قتادة والحسن المعنى يخرج من صلب الرجل وترائب المرأة، وحكى الفراء أن مثل هذا يأتي من العرب يكون معنى من بين الصلب من الصلب، وقيل إن ماء الرجل ينزل من الدماغ.(15/178)
ولا يخالف هذا ما في الآية لأنه إذا نزل من الدماغ نزل من بين الصلب والترائب، وقيل أن المني يخرج من جميع أجزاء البدن، ولا يخالف هذا ما في الآية لأن نسبة خروجه إلى ما بين الصلب والترائب باعتبار أن أكثر أجزاء البدن هي الصلب والترائب وما يجاورها وما فوقها مما يكون تنزله منها.
قال ابن عباس في الآية: ما بين الجيد والنحر، وعنه قال: تريبة المرأة وهي موضع القلادة وعنه الترائب ما بين ثدي المرأة وعنه الترائب أربع أضلاع من كل جانب من أسفل الأضلاع، قال ابن عادل أن الولد يخرج من ماء الرجل يخرج من صلبه العظم والعصب، ومن ماء المرأة يخرج من ترائبها اللحم والدم.(15/179)
إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ (8)
(إنه على رجعه لقادر) الضمير في " إنه " يرجع إلى الله سبحانه بدلالة قوله (خلق) عليه، فإن الذي خلقه هو الله سبحانه، والضمير في رجعه عائد إلى الإنسان، والمعنى أن الله سبحانه على إعادة الإنسان بالبعث بعد الموت لقادر، هكذا قال جماعة من المفسرين.
وقال مجاهد: على أن يرد الماء في الإحليل، وقال عكرمة والضحاك على أن يرد الماء في الصلب، وقال مقاتل بن حيان يقول إن شئت رددته من الكبر إلى الشباب، ومن الشباب إلى الصبا، ومن الصبا إلى النطفة وقال ابن زيد إنه على حبس ذلك الماء حتى لا يخرج لقادر، والأول أظهر، ورجحه ابن جرير والثعلبي والقرطبي، قال ابن عباس: على أن يجعل الشيخ شاباً والشاب شيخاً.(15/179)
يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ (9)
(يوم تبلى السرائر) العامل في الظرف على تفسير الأول هو رجعه، وقيل لقادر، واعترض عليه بأنه يلزم تخصيص القدرة بهذا اليوم، وقيل العامل فيه مقدر أي يرجعه أو اذكر فيكون مفعولاً به.
وأما على قول من قال أن المراد رجع الماء فالعامل فيه اذكر، والمعنى تختبر وتعرف وتكشف السرائر التي تسر في القلوب من العقائد والنيات(15/179)
وغيرها، وقيل يظهر الخبايا وقيل يبدي كل سر فيكون زيناً في وجوه، وشيناً في وجوه، والمراد هنا عرض الأعمال ونشر الصحف، فعند ذلك يتميز الحسن منها من القبيح، والغث من السمين، وفي المختار السر الذي يكتم وجمعه أسرار، والسريرة مثله والجمع سرائر.(15/180)
فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ (10)
(فما له من قوة ولا ناصر) أي فما للإنسان من قوة ومنعة في نفسه يمتنع بها من عذاب الله ولا ناصر ينصره مما نزل به، قال عكرمة هؤلاء الملوك ما لهم يوم القيامة من قوة ولا ناصر، قال سفيان القوة العشيرة والناصر الحليف والأول أولى.(15/180)
وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ (11)
(والسماء ذات الرجع) أي التي ترجع بالدوران إلى الموضع الذي تتحرك عنه، قال الزجاج: الرجع المطر، لأنه يجيء ويرجع ويتكرر، قال الخليل الرجع المطَر نفسه، والرجع نبات الربيع.
قال الواحدي: الرجع المطر في قول جميع المفسرين، وفي هذا نظر فإن ابن زيد قال الرجع الشمس والقمر والنجوم يرجعن في السماء تطلع من ناحية وتغيب في ناحية، وقال بعض المفسرين ذات الرجع ذات الملائكة لرجوعهم إليها بأعمال العباد، وقال بعضهم معناه ذات النفع.
ووجه تسمية المطر رجعاً ما قاله القفال أنه مأخوذ من ترجيع الصوت وهو إعادته وكذا المطر لكونه يعود مرة بعد أخرى سمي رجعاً، وقيل إن العرب كانوا يزعمون أن السحاب تحمل الماء من بحار الأرض ثم ترجعه إلى الأرض، وقيل سمته العرب رجعاً لأجل التفاؤل ليرجع عليهم وقيل لأن الله يرجعه وقتاً بعد وقت، وقال ابن عباس الرجع المطر بعد المطر.(15/180)
وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ (12)
(والأرض ذات الصدع) هو ما تتصدع عنه الأرض من النبات والثمار والشجر والأنهار والعيون، والصدع الشق لأنه يصدع الأرض فتنصدع له قال أبو عبيدة والفراء: تتصدع بالنبات، قال مجاهد: والأرض ذات الطرق التي تصدعها المياه وقيل ذات الحرث لأنه يصدعها، وقيل ذات(15/180)
الأموات لانصداعها عنهم عند البعث.
والحاصل أن الصدع إن كان اسماً للنبات فكأنه قال والأرض ذات النبات، وإن كان المراد به الشق فكأنه قال والأرض ذات الشق الذي يخرج منه النبات ونحوه، وقال ابن عباس صدعها عن النبات وعنه قال تصدع الأودية.
وعن معاذ بن أنس مرفوعاً قال " تصدع بإذن الله عن الأموال والنبات "، أخرجه ابن منده والديلمي.
قال الرازي إنه تعالى كما جعل كيفية خلاته الحيوان دليلاً على معرفة المبدأ والمعاد، ذكر في هذا القسم كيفية خلقه النبات، فقوله تعالى (والسماء ذات الرجع) كالأب وقوله (والأرض ذات الصدع) كالأم، وكلاهما من النعم العظام لأن نعم الدنيا موقوفة على ما ينزل من السماء مكرراً، وعلى ما ينبت من الأرض كذلك.
وجواب القسم الثاني قوله(15/181)
إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (13)
(إنه لقول فصل) أي أن القرآن لقول يفصل بين الحق والباطل بالبيان عن كل واحد منهما كما قيل له فرقان، ومنه فصل الخصومات وهو قطعها بالحكم الجازم، ويقال هذا قول فصل أي قاطع للشر والنزاع، وقال ابن عباس فصل حق.(15/181)
وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ (14)
(وما هو بالهزل) أي لم ينزل القرآن الكريم باللعب فهو جد كلمة ليس بالهزل، والهزل ضد الجد، فيجب أن يكون مهيباً في الصدور، ومعظماً في القلوب، يترفع به قارئه وسامعه عن أن يلم بهزل أو يتفكه بمزاح، وقال ابن عباس بالهزل بالباطل.(15/181)
إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا (15)
(إنهم يكيدون كيداً) أي يمكرون في إبطال ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الدين الحق، قال ألزجاج يخاتلون النبي صلى الله عليه وسلم ويظهرون ما هم على خلافه، وذلك حين اجتمعوا في دار الندوة وتشاوروا فيه وقيل الكيد إلقاء الشبهات كقولهم (إن هي إلا حياتنا الدنيا)(15/181)
(من يحيي العظام وهي رميم) (أجعل الآلهة إلهاً واحداً) وما أشبه ذلك.(15/182)
وَأَكِيدُ كَيْدًا (16)
(وأكيد كيداً) أي أستدرجهم من حيث لا يعلمون وأجازيهم جزاء كيدهم، قيل هو ما أوقع الله بهم يوم بدر من القتل والأسر، وقيل كيد الله لهم نصرة نبيه صلى الله عليه وسلم وإعلاء درجته، تسمية لإحدى المتقابلين بالاسم الآخر كقوله (وجزاء سيئة سيئة مثلها).(15/182)
فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا (17)
(فمهل الكافرين) أي أخرهم ولا تسأل الله سبحانه تعجيل هلاكهم والدعاء عليهم بإهلاكهم فإنّا لا نعجل لأن العجلة وهي إيقاع الشيء في غير وقته اللائق به نقص، وارض بما يريده لك في أمورهم (أمهلهم) بدل من مهل ومهل، وأمهل بمعنى مثل نزل وأنزل، والإمهال الإنظار، وتمهل في الأمر اتأد، وخالف بين اللفظين لزيادة التسكين والتصبير، وانتصاب (رويداً) على أنه مصدر مؤكد للفعل المذكور أو نعت لمصدر محذوف أي أمهلهم إمهالاً رويداً أي قليلاً أو قريباً.
وقد أخذهم الله تعالى، ونسخ الإمهال بآية السيف والأمر بالقتال والجهاد، قال أبو عبيدة الرويد في كلام العرب تصغير الرود والرود المهل، وقيل تصغير أرواد مصدر أرود تصغير الترخيم، ويأتي اسم فعل نحو: رويد زيداً أي أمهله ويأتي حالاً نحو سار القوم رويداً أي متمهلين ذكر معنى هذا الجوهري والبحث مستوفى في علم النحو.(15/182)
سورة الأعلى
ويقال سورة سبح وهي تسع عشرة آية هي مكية في قول الجمهور، وقال الضحاك مدنية، وعن ابن عباس نزلت بمكة وعن ابن الزبير وعائشة مثله.
وأخرج البخاري وغيره عن البراء بن عازب قال " أول من قدم علينا من أصحاب النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - مصعب بن عمير وابن أم مكتوم فجعلا يقرآننا القرآن ثم جاء عمار وبلال وسعد، ثم جاء عمر بن الخطاب في عشرين ثم جاء النبي - صلى الله عليه وسلم -، فما رأيت أهل المدينة فرحوا بشيء فرحهم به حتى رأيت الولائد والصبيان يقولون هذا رسول الله عليه وآله وسلم قد جاء فما جاء حتى قرأت (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) وسورة مثلها " (1).
_________
(1) روى البخاري في " صحيحه " 8/ 537 عن البراء بن عازب - رضي الله عنه - قال: أَوَّلُ مَنْ قَدِمَ عَلَيْنَا من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - (يعني المدينة) مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ، وَابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ فَجَعلاَ يُقْرآنِنَا القُرْآن، ثُمَّ جَاءَ عَمَّارٌ، وَبِلاَلٌ، وَسَعْدٌ، ثُمَّ جَاءَ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ فِي عِشْرِينَ، ثُمَّ جَاءَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَمَا رَأَيْتُ أَهْلَ المَدِينَةِ فَرِحُوا بِشَيْءٍ فَرَحَهُمْ بِهِ، حَتَّى رَأَيْتُ الوَلاَئِدَ وَالصِّبْيَانَ يَقُولُونَ: هَذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ جَاءَ، فَمَا جَاءَ حَتَّى قَرَأْتُ (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى) في سورة مثلها أهـ. وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ بها وبسورة الغاشية في صلاة الجمعة والعيدين ووتر العشاء، وثبت في " الصحيحين " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لمعاذ: " هلاَّ صليت بسبح اسم ربك الأعلى، والشمس وضحاها، والليل إذا يغشى "؟.(15/183)
وعن علي قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يحب هذه السورة (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) أخرجه أحمد والبزار وابن مردويه أي لكثرة ما اشتملت عليه من العلوم والخيرات الحسان.
وأخرج أحمد ومسلم وأهل السنن عن النعمان بن بشير " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ في العيدين وفي الجمعة (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) و (هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ) وإن وافق يوم جمعة قرأهما جميعاً " وفي لفظ وربما اجتمعا في يوم واحد فقرأهما، وفي الباب أحاديث.
وأخرج مسلم وغيره عن جابر بن سمرة " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ في الظهر (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) ".
وأخرج أبو داود والنسائي وابن ماجة والداقطني والحاكم والبيهقي عن أبيّ بن كعب قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوتر بـ (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) و (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ) (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ).
وأخرج أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة والحاكم وصححه والبيهقي عن عائشة قالت كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في الوتر في الركعة الأولى بسبح وفي الركعة الثانية (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ) وفي الثالثة (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) والمعوذتين ".
وفي الصحيحين أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لمعاذ " هلا صليت بـ (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) (وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا) (وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى) ".(15/184)
بسم الله الرحمن الرحيم
سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (3) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى (4) فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى (5) سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى (6) إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى (7)
بسم الله الرحمن الرحيم(15/185)
سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1)
(سبح اسم ربك الأعلى) أي نزهه عن كل ما لا يليق به في ذاته وصفاته وأسمائه وأفعاله وأحكامه، قال السدي: أي عظمه قيل والإسم هنا مقحم لقصد التعظيم، قال ابن جرير المعنى نزه اسم ربك أن يسمى به أحد سواه، فلا تكون لفظة " اسم " على هذا مقحمة وقيل المعنى نزه تسمية ربك وذكرك إياه أن تذكره إلا وأنت له خاشع معظم ولذكره محترم، وقال الحسن معنى سبح صل له وقيل المعنى صل بأسماء الله لا كما يصلي المشركون بالمكاء والتصدية وقيل المعنى ارفع صوتك بذكر ربك ومنه قول جرير:
قبح الإله وجوه تغلب كلما ... سبح الحجيج وكبروا تكبيرا
وقال جماعة من الصحابة والتابعين قل سبحان ربي الأعلى، وقيل معناه نزه ربك الأعلى عما يصفه به الملحدون، فعلى هذا يكون الإسم صلة، والأعلى صفة للرب، وقيل للاسم، والأول أولى.
وعن عقبة بن عامر الجهني قال لما نزلت فسبح باسم ربك العظيم، قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم اجعلوها في ركوعكم، فلما نزلت سبح اسم ربك الأعلى قال اجعلوها في سجودكم أخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجه وابن المنذر وابن مردويه ولا مطعن في إسناده ".
وعن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم " كان إذا قرأ سبح اسم ربك الأعلى قال سبحان ربي الأعلى " أخرجه أحمد والطبراني وابن مردويه(15/185)
والبيهقي، وقال أبو داود خولف فيه وكيع فرواه شعبة عن أبي إسحق عن سعيد عن ابن عباس موقوفاً، وأخرجه موقوفاً أيضاًً عبد الرزاق وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير عنه أنه " كان إذا قرأ سبح اسم ربك الأعلى قال سبحان ربي الأعلى ".
وفي لفظ لعبد بن حميد عنه قال إذا قرأت سبح اسم ربك الأعلى فقل سبحان ربي الأعلى، وعن علي بن أبي طالب " أنه قرأ سبح اسم ربك الأعلى فقال سبحان ربي الأعلى وهو في الصلاة فقيل له أتزيد في القرآن قال لا إنما أمرنا بشيء فقلته ".
وعن أبي موسى الأشعري أنه قرأ في الجمعة سبح اسم ربك الأعلى فقال سبحان ربي الأعلى.
وعن سعيد بن جبير قال سمعت ابن عمر يقرأ سبح اسم ربك الأعلى فقال سبحان ربي الأعلى.
وكذلك هي في قراءة أُبيّ بن كعب وعن عمر أنه كان إذا قرأ سبح اسم ربك الأعلى قال سبحان ربي الأعلى وعن ابن الزبير أنه قرأ سبح اسم ربك الأعلى فقال سبحان ربي الأعلى وهو في الصلاة.
وقوله(15/186)
الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2)
(الذي خلق فسوى) صفة أخرى للرب قال الزجاج خلق الإنسان مستوياً، ومعنى سوى عدل قامته وحسن خلقه، قال الضحاك خلقه فسوى خلقه وقيل خلق الأجساد فسوى الأفهام وقيل خلق الإنسان وهيأه للتكليف والقيام بأداء العبادات وقيل خلق في أصلاب الآباء وسوى في أرحام الأمهات.
وقيل خلق كل شيء فسوى خلقه تسوية ولم يأت به متفاوتاً غير ملتئم ولكن على إحكام واتساق ودلالة على أنه صادر عن عالم حكيم أو سوَّاه على ما فيه منفعة ومصلحة وقيل خلق كل ذي روح فسوى اليدين والرجلين والعينين.(15/186)
وقوله(15/187)
وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (3)
(والذي قدر فهدى) صفة أخرى للرب أو معطوف على الموصول الذي قبله، قرىء قدر مخفقاً ومثقلاً، قال الواحدي قال المفسرون: قدر خلق الذكر والأنثى من الدواب فهدى الذكر للأنثى كيف يأتيها.
وقال مجاهد: هدى الإنسان لسبيل الخير والسعادة والشقاوة، وروي عنه أيضاًً أنه قال: قدر السعادة والشقاوة وهدى للرشد والضلالة، وهدى الأنعام لمراعيها وقيل قدر أرزاقهم وأقواتهم وهداهم لمعايشهم إن كانوا إنساً، ولمراعيهم إن كانوا وحشاً.
وقال عطاء: جعل لكل دابة ما يصلحها وهداها له وقيل خلق المنافع في الأشياء وهدى الإنسان لوجه استخراجها منها، وقال السدي: قدر مدة الجنين في الرحم تسعة أشهر، وأقل وأكثر ثم هداه للخروج من الرحم.
قال الفراء أي قدر فهدى وأضل، فاكتفى بأحدهما.
وفي تفسير الآية أقوال غير ما ذكرنا والأولى عدم تعيين فرد أو أفراد مما يصدق عليه قدر وهدى إلا بدليل يدل عليه، ومع عدم الدليل يحمل على ما يصدق عليه معنى الفعلين إما على البدل أو على الشمول، والمعنى قدر أجناس الأشياء وأنواعها وصفاتها وأفعالها وأقوالها وآجالها، فهدى كل واحد منها إلى ما يصدر عنه وينبغي له ويسره لما خلق له، وألهمه إلى أمور دينه ودنياه.
ولما ذكر ما يختص بالناس أتبعه بما يختص بالحيوان فقال(15/187)
وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى (4)
(والذي أخرج المرعى) صفة أخرى للرب أي أنبت العشب وما ترعاه الدواب والنعم من النبات الأخضر.(15/187)
فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى (5)
(فجعله غثاء) أي فجعل المرعى بعد أن كان أخضر هشيماً يابساً جافاً بالياً كالغثاء الذي يكون فوق السيل، وفي القاموس الغثاء القماش والزبد والهالك البالي من ورق الشجر، قال قتادة الغثاء الشيء اليابس، ويقال للبقل والحشيش إذا انحطم ويبس " غثاء " وهثيم، قال الكسائي غثاء حال من المرعى أي أخرجه أحوى من شدة الخضرة والري فجعله غثاء بعد ذلك.(15/187)
(أحوى) أي اسود بعد اخضراره، وذلك أن الكلأ إذا يبس أسود، والأحوى مأخوذ من الحوة وهي سواد يضرب إلى الخضرة، وقيل خضرة عليها سواد، وفي القاموس الحوة سواد إلى خضرة أو حمرة إلى السواد، حوى كرضى حوى، قال في الصحاح والحوة أي بالضم حمرة الشفة، قال ابن عباس غثاء هشيماً أحوى متغيراً، وقال ابن زيد وهذا مثل ضربه الله للكفار بذهاب الدنيا بعد نضارتها.(15/188)
سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى (6)
(سنقرئك) أي سنجعلك قارئاً بأن نلهمك القراءة، والسين إما للتأكيد وإما لأن المراد إقراء ما أوحى الله إليه حينئذ وما سيوحي إليه بعد ذلك، فهو وعد باستمرار الوحي في ضمن الوعد بالإقراء (فلا تنسى) ما نقرأه، والجملة مستأنفة لبيان هدايته صلى الله عليه وآله وسلم الخاصة به بعد بيان الهداية العامة لكافة خلقه، وهو هدايته صلى الله عليه وآله وسلم لحفظ القرآن وتلقي الوحي، وهدايته للناس أجمعين.
قيل هو نفي، وقيل نهي والألف إشباع، ومنع مكي أن يكون نهياً لأنه لا ينهى عما ليس باختياره، وهذا غير لازم إذ المعنى أن النهي عن تعاطي أسباب النسيان وهو شائع فسقط ما قاله.
قال مجاهد والكلبي كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا نزل عليه جبريل بالوحي لم يفرغ جبريل من آخر الآية حتى يتكلم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأولها مخافة أن ينساها، فنزلت هذه الآية فلم ينس شيئاًً بعد ذلك.
وعن ابن عباس " كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يستذكر القرآن مخافة أن ينسى فقيل له قد كفيناك ذلك، ونزلت هذه الآية " وعن سعد بن أبي وقاص نحوه.
وهذه الآية تدل على المعجزة من وجهين:
(الأول) أنه كان رجلاً أمياً فحفظه لهذا الكتاب المطول من غير دراسة(15/188)
ولا تكرار خارق للعادة فيكون معجزة.
(الثاني) أن هذه السورة من أول ما نزل بمكة فهذا إخبار عن أمر عجيب مخالف للعادة سيقع في المستقبل، وقد وقع فكان هذا إخباراً فيكون معجزاً.
وقوله(15/189)
إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى (7)
(إلا ما شاء الله) استثناء مفرغ من أعم المفاعيل أي لا تنسى مما تقرأه شيئاًً من الأشياء إلا ما شاء الله أن تنساه، قال ابن عباس يقول إلا ما شئت أنا فأنسيك.
قال الفراء وهو لم يشأ سبحانه أن ينسى محمد صلى الله عليه وآله وسلم شيأ كقوله (خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك) وقيل إلا ما شاء الله أن تنسى ثم تذكر بعد ذلك فإذن قد ينسى ولكنه يتذكر ولا ينسى شيئاًً نسياناً كلياً، وقيل هو بمعنى النسخ أي إلا ما شاء الله أن ينسخه مما نسخ تلاوته وحكمه معاً، وأما ما نسخت تلاوته فقط أو حكمه فقط فلا يصح أن تنساه للاحتياج إلى تلاوته في الأول، وإلى حكمه في الثاني.
وقيل المعنى فلا تترك العمل إلا ما شاء الله أن تتركه لنسخه ورفع حكمه، وقيل إلا ما شاء أن يؤخر إنزاله، والالتفات إلى الاسم الجليل لتربية المهابة والإيذان بدوران المشيئة على عنوان الألوهية المستتبعة لسائر الصفات.
(إنه يعلم الجهر وما يخفى) تعليل لما قبله أي يعلم ما ظهر وما بطن، والإعلان والإسرار، وظاهره العموم فيندرج تحته ما قيل أن الجهر ما حفظه رسول الله صلى الله عليه وسلم من القرآن، وما يخفى هو ما نسخ من صدره، ويدخل تحته أيضاًً ما قيل من أن الجهر هو إعلان الصدقة وما يخفى هو أخفاؤها.
ويدخل تحته أيضاًً ما قيل أن الجهر جهره صلى الله عليه وسلم بالقرآن مع قراءة جبريل مخافة أن يتفلت عليه، وما يخفى ما في نفسه مما يدعوه إلى الجهر.(15/189)
وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى (8) فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى (9) سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى (10) وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (11) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى (12) ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (13) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15) بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (17) إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى (18) صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى (19)(15/190)
وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى (8)
(ونيسرك لليسرى) معطوف على سنقرئك كما ينبيء عنه الالتفات إلى الحكاية فهو داخل في حيز التنفيس، وما بينهما اعتراض وارد للتعليل.
قال مقاتل: أن نهون عليك عمل الجنة، وقيل نوفقك للطريقة التي هي أيسر وأسهل، وقيل للشريعة اليسرى وهي الحنيفية السهلة السمحة البيضاء التي ليلها كنهارها، وقيل نهون عليك الوحي حتى تحفظه وتعمل به.
والأولى حمل الآية على العموم أي نوفقك للطريقة اليسرى في الدين والدنيا في كل أمر من أمورهما التي تتوجه إليك، ولهذه النكتة قال (نيسرك) ولم يقل نيسر لك أي لإفادة أنك موفق لها، وقال ابن عباس لليسرى للخير، وقال ابن مسعود للجنة.(15/190)
فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى (9)
(فذكر إن نفعت الذكرى) أي عظ يا محمد الناس بما أوحينا إليك وأرشدهم إلى سبل الخير، واهدهم إلى شرائع الدين، قال الحسن تذكرة للمؤمن وحجة على الكافر.
قال الواحدي: إن نفعت أو لم تنفع، لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعث مبلغاً للإعذار والإنذار فعليه التذكير في كل حال نفع أو لم ينفع، ولم يذكر الحالة الثانية كقوله (سرابيل تقيكم الحر): قال الجرجاني: التذكير واجب وإن لم ينفع فالمعنى إن نفعت الذكرى أو لم تنفع، وقيل إنه مخصوص في قوم بأعيانهم، وقيل إن بمعنى ما أي فذكر ما نفعت الذكرى لأن الذكرى(15/190)
نافعة بكل حال وقيل أنها بمعنى (قد) ذكره ابن خالويه وهو بعيد جداً، وقيل أنها بمعنى إذ.
وما قاله الواحدي والجرجاني أولى وقد سبقهما إلى القول به الفراء والنحاس والزهراوي قال الرازي: قوله (إن نفعت الذكرى) للتنبيه على أشرف الحالين وهو وجود النفع الذي لأجله شرعت الذكرى والمعلق بإن على الشيء لا يلزم أن يكون عدماً عند عدم ذلك الشيء، ويدل عليه آيات منها هذه الآية، ومنها قوله تعالى (واشكروا لله إن كنتم إياه تعبدون) ومنها قوله (ولا جناح عليكم أن تقصروا من الصلاة إن خفتم) فإن القصر جائز عند الخوف وعدمه، ومنها قوله (فلا جناح عليهما أن يتراجعا إن ظنا أن يقيما حدود الله) والمراجعة جائزة بدون هذا الظن.
فهذا الشرط فيه فوائد منها ما تقدم، ومنها البعث على الانتفاع بالذكر كما يقول الرجل لمن يرشد، قد أوضحت لك أن كنت تعقل، وهو تنبيه للنبي صلى الله عليه وآله وسلم على أنها لا تنفعهم الذكرى، أو يكون هذا في تكرير الدعوة فأما الدعاء الأول فهو عام انتهى.
ثم بيّن سبحانه الفرق بين من تنفعه الذكرى ومن لا تنفعه فقال:(15/191)
سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى (10)
(سيذَّكر) أي سيتعظ بوعظك، والسين بمعنى سوف، وسوف من الله واجب كقوله سنقرئك فلا تنسى (من يخشى) الله فيزداد بالتذكير خشية وصلاحاً.(15/191)
وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (11)
(ويتجنبها) أي ويتجنب الذكرى ويبعد عنها فلا يقبلها (الأشقى) من الكفار لإصراره على الكفر بالله وانهماكه في معاصيه.
ثم وصف الأشقى فقال(15/191)
الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى (12)
(الذي يصلى النار الكبرى) أي العظيمة الفظيعة لأنها أشد حراً من غيرها. قال الحسن النار الكبرى نار جهنم والنار الصغرى نار الدنيا، وقال الزجاج هي السفلى من أطباق النار، وقيل أن في الآخرة نيراناً ودركات متفاضلة، فكما أن الكافر أشقى العصاة فكذا يصلى(15/191)
أعظم النيران.(15/192)
ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (13)
(ثم لا يموت فيها) فيستريح مما هو فيه من العذاب (ولا يحيى) حياة ينتفع بها، ومنه قول الشاعر:
ألا النفس لا تموت فينقضي ... عناها ولا تحيى حياة لها طعم
وثم للتراخي في مراتب الشدة لأن التردد بين الموت والحياة أفظع من صلي النار الكبرى.
ولما ذكر تعالى وعيد من أعرض عن النظر في دلائل الله أتبعه بالوعد لضده فقال (قد أفلح من تزكى) أي نال الفوز من تطهر من الشرك فآمن بالله ووحده وعمل بشرائعه، قال عطاء والربيع من كان عمله زاكياً نامياً، وقال قتادة: تزكى بعمل صالح، وقال عطاء وقتادة وأبو العالية نزلت في صدقة الفطر، قال عكرمة كان الرجل يقول أقدم زكاتي بين يدي صلاتي، وأصل الزكاء في اللغة النماء.
وقيل المراد بالآية زكاة الأموال كلها. وقيل المراد بها زكاة الأعمال لا زكاة الأموال لأن الأكثر أن يقال في الأموال زكى لا تزكى، قال ابن عباس: من تزكى من قال لا إله إلا الله.
وعن عوف عن النبي صلى الله عليه وسلم " أنه يأمر بزكاة الفطر قيل أن يصلي صلاة العيد ويتلو هذه الآية " أخرجه البزار وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم في الكنى والبيهقي في سننه وابن مردويه، وفي لفظ قال " سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن زكاة الفطر فقال(15/192)
قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14)
(قد أفلح من تزكى) قال هي زكاة الفطر " وكثير بن عبد الله ضعيف جداً (1) قال أبو داود وهو ركن من أركان الكذب وقد صحح الترمذي حديثاً من طرقه وخطىء في ذلك.
ولكن يشهد له ما أخرجه ابن مردويه عن أبي سعيد الخدري " قد كان
_________
(1) أحد رجال إسناد هذا الحديث ولم يذكره المؤلف اقتصاراً.(15/192)
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى) ثم يقسم الفطرة قبل أن يغدو إلى المصلى يوم الفطر ".
وليس في هذين الحديثين ما يدل على أن ذلك سبب النزول بل فيهما أنه صلى الله عليه وسلم تلا الآية، وقوله هي زكاة الفطر يمكن أن يراد به أنها مما يصدق عليه التزكي، وقد قدمنا أن السورة مكية ولم يكن في مكة صلاة عيد ولا فطرة.
وعن أبي سعيد الخدري في الآية قال " أعطى صدقة الفطر قبل أن يخرج إلى العيد وخرج إلى العيد فصلى " وعن ابن عمر قال إنما أنزلت هذه الآية في إخراج صدقة الفطر قبل صلاة العيد، وعن عطاء قال قلت لابن عباس أرأيت قوله (قد أفلح من تزكى) للفطر قال لم أسمع بذلك، ولكن للزكاة كلها، ثم عاودته فقال لي: والصدقات كلها.(15/193)