إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (33)
(إن يشأ) قرأ الجمهور بالهمز وقرىء بلا همز (يسكن الريح) قرأ الجمهور بالافراد وقرىء بالجمع والمعنى يسكن الريح التي تجري بها السفن (فيظللن) أي السفن الجواري. العامة على فتح اللام التي هي عين الفعل؛ وهو القياس لأن الماضي بكسرها؛ وقرىء بكسرها؛ وهو شاذ، وقال الزمخشري: من ظل يظل ويظل نحو ضل يضل ويضل؛ قال الشيخ: وليس كما ذكر؛ لأن يضل بفتح العين من ضللت بكسرها في الماضي، ويضل بالكسر من ضللت بالفتح وكلاهما مقيس يعني أن كلاًّ منهما له أصل يرجع إليه، بخلاف ظل فإن ماضيه مكسور العين فقط، وظل هنا بمعنى صار، لأن المعنى ليس على وقت الظلول وهو النهار فقط، أفاده السمين.
(رواكد) أي سواكن ثوابت وقوفاً يقال ركد الماء ركوداً سكن وكذلك ركدت الريح وركدت السفينة وكل ثابت في مكان فهو راكد وركد الميزان استوى، وركد القوم هدأوا والمراكد المواضع التي يركد فيها الإنسان وغيره (على ظهره) أي ظهر البحر لا تجري، قال ابن عباس: يتحركن ولا(12/307)
يجرين في البحر (إن في ذلك) الذي ذكر من أمر السفينة (لآيات) دلالات عظيمة (لكل صبار شكور) أي لكل من كان كثير الصبر على البلوى كثير الشكر على النعماء، قيل الإيمان نصفان نصف صبر عن المعاصي ونصف شكر وهو الإتيان بالواجبات، وقال قطرب: الصبار الشكور الذي إذا أعطى شكر، وإذا ابتلى صبر، قال عون ابن عبد الله فكم من منعم عليه غير شاكر وكم من مبتلي غير صابر.(12/308)
أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ (34)
(أو يوبقهن) أي يهلكهن بالغرق قاله ابن عباس والمراد أهلكهن يقال أوبقه أي أهلكه (بما كسبوا) من الذنوب، وقيل بما أشركوا والأول أولى، فإنه يهلك في البحر المشرك وغير المشرك (وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ) من أهلها بالتجاوز عن ذنوبهم؛ فينجيهم من الغرق، قرأ الجمهور يعف بالجزم عطفاً على جواب الشرط، قال القشيري، وفي هذه القراءة إشكال لأن المعنى إن يشأ يسكن الريح فتبقى تلك السفن رواكد، أو يهلكها بذنوب أهلها، فلا يحسن عطف (ويعف) على هذا لأنه يصير المعنى إن يشأ يعف، وليس المعنى ذلك بل المعنى الإخبار عن العفو من غير شرط المشيئة، فهو إذن عطف على المجزوم من حيث اللفظ، لا من حيث المعنى، وقد قرأ قوم يعفو بالرفع وهي جيدة في المعنى، قال أبو حيان: وما قاله ليس بجيد إذ لم يفهم مدلول التركيب، والمعنى ألا إنه تعالى إن يشأ أهلك ناساً وأنجى ناساً على طريق العفو عنهم، وقرىء بالنصب بإضمار إن بعد الواو.(12/308)
وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (35)
(ويعلم الذين يجادلون في آياتنا) قرأ الجمهور بنصب يعلم، قال الزجاج على الصرف، قال: ومعنى الصرف صرف العطف على اللفظ إلى العطف على المعنى، قال: وذلك أنه لما لم يحسن عطف ويعلم مجزوماً على ما قبله إذ يكون المعنى إن يشأ يعلم، عدل إلى العطف على مصدر الفعل الذي قبله، ولا يتأتى ذلك إلا بإضمار إن، ليكون مع الفعل في تأويل اسم، وكما قال الزجاج: قال المبرد وأبو علي الفارسي: واعترض على هذا الوجه بما لا طائل تحته، وقيل النصب على العطف على تعليل محذوف، والتقدير لينتقم(12/308)
منهم ويعلم واعترضه الحفناوي بأنه ترتب على الشرط إهلاك قوم ونجاة قوم، فلا يحسن تقدير لينتقم منهم.
وقرأ نافع وابن عامر برفع يعلم على الاستئناف، أي على أنه جملة إسمية أو فعلية، فعلى كونها فعلية يكون الموصول. فاعلاً، وعلى كونها إسمية بكون مفعولاً والفاعل ضمير مستتر يعود على مبتدأ مقدر، أي وهو يعلم الذين، وهي قراءة ظاهرة واضحة اللفظ، وقرىء بالجزم عطفاً على المجزوم قبله على معنى: وإن يشأ يجمع بين الإهلاك والنجاة والتحذير.
ومعنى قوله: (ما لهم من محيص) ما لهم من فرار ولا مهرب من العذاب قاله قطرب وقال السدي: ما لهم من ملجأ وهو مأخوذ من قولهم: حاص به البعير حيصة إذا رمى به، ومنه قولهم، فلان يحيص عن الحق أي يميل عنه ثم لما ذكر سبحانه دلائل التوحيد ذكر التنفير عن الدنيا فقال:(12/309)
فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (36)
(فما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا) أي ما أعطيتم أيها الناس من الغنى والسعة في الرزق وأثاث الدنيا فإنما هو متاع قليل يتمتع به في أيام قليلة تنقضي وتذهب وتزول.
إنما الدنيا فناء ... ليس للدنيا ثبوت
إنما الدنيا كبيت ... نسجته العنكبوت
ثم رغبهم في ثواب الآخرة وما عند الله من النعيم المقيم فقال: (وما عند الله) من ثواب الطاعات والجزاء عليها بالجنات هو (خير) من متاع الدنيا (وأبقى) لأنه دائم لا ينقطع ومتاع الدنيا ينقطع بسرعة، ثم بين سبحانه لمن هذا فقال:
(للذين آمنوا) أي صدقوا وعملوا على ما يوجبه الإيمان (وعلى ربهم) لا على غيره (يتوكلون) أي يفوضون إليه أمورهم ويعتمدون عليه في كل شؤونهم، قيل: " نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه حين تصدق بجميع ماله، ولامه الناس ".(12/309)
وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (37) وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (38) وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39) وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40)(12/310)
وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (37)
(والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش) الموصول في محل جر معطوف على الذين آمنوا، أو بدل منه، أو في محل نصب على إضمار أعني، والأول أولى، والمراد الكبائر من الذنوب وقد قدمنا تحقيقها في سورة النساء، قرأ الجمهور كبائر بالجمع وقرىء كبير بالإفراد وهو يفيد مفاد كبائر لأن الإضافة للجنس كاللام، والرسم الكريم يحتمل القراءتين؛ والفواحش هي من الكبائر، ولكنها مع وصف كونها فاحشة كأنها فوقها، وذلك كالقتل والزنا ونحو ذلك، وقال مقاتل: الفواحش موجبات الحدود؛ وقال السدي هي الزنا فعطفها من عطف الخاص على العام، والبعض على الكل إذ الكبائر قد لا توجب الحد كالغيبة والنميمة.
(وإذا ما غضبوا هم يغفرون) أي يتجاوزون عن الذنب الذي أغضبهم ويكظمون الغيظ ويحلمون على من ظلمهم وخص الغضب بالغفران، لأن استيلاءه على طبع الإنسان وغلبته عليه شديدة فلا يغفره عند سورة الغضب إلا من شرح الله صدره، وخصه بمزيد الحلم، ولهذا أثنى الله سبحانه عليهم بقوله في آل عمران (والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس) قال ابن زيد: جعل الله المؤمنين صنفين صنفاً يعفون عن ظالمهم فبدأ بذكرهم: وصنفاً ينتصرون من ظالمهم وهم الذين سيأتي ذكرهم.(12/310)
وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (38)
(والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة) أي أجابوه إلى ما دعاهم(12/310)
إليه وأقاموا ما أوجبه عليهم من فريضة الصلاة، قال ابن زيد هم الأنصار بالمدينة استجابوا إلى الإيمان بالرسول حين أنفذ إليهم اثني عشر نقيباً منهم قبل الهجرة وأقاموا الصلاة لمواقيتها بشروطها وهيئاتها قاله القرطبي، ونحوه البيضاوي.
(وأمرهم شورى بينهم) أي يتشاورون فيما بينهم ولا يعجلون ولا ينفردون بالرأي، والشورى مصدر شاورته مثل البشرى والقربى، قال الضحاك: هو تشاورهم حين سمعوا بظهور رسول الله صلى الله عليه وسلم، وورد النقباء إليهم حين اجتمع رأيهم في دار أبي أيوب على الإيمان به، والنصرة له، وقيل: المراد تشاورهم في كل أمر يعرض لهم فلا يستأثر بعضهم على بعض برأي، قال ابن العربي: الشورى ألفة للجماعة، وسبار للعقول، وسبب إلى الصواب، وما تشاور قوم قط إلا هدوا، فمدح الله تعالى المشاورة في الأمور بمدح القوم الذين كانوا يمتثلون ذلك وما أحسن ما قاله بشار بن برد:
إذا بلغ الرأي المشورة فاستعن ... برأي نصيح أو نصيحة حازم
ولا تجعل الشورى عليك غضاضة ... فريش الخوافي قوة للقادم
وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشاور أصحابه في أموره، وأمره الله سبحانه بذلك فقال: (وشاورهم في الأمر) وذلك في الآراء كثير، ولم يكن يشاورهم في الأحكام لأنها منزلة من عند الله على جميع الأقسام من الفرض، والندب والمكروه والمباح والحرام، فأما الصحابة بعده صلى الله عليه وسلم فكانوا يتشاورون في الأحكام، ويستنبطونها من الكتاب والسنة، وأول ما تشاور فيه الصحابة الخلافة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينص عليها وتشاوروا في أهل الردة، فاستقر رأي أبي بكر على القتال، وشاور عمر رضي الله عنه الهرمزان حين وفد عليه مسلماً، وقد قدمنا في آل عمران كلاماً في الشورى.(12/311)
(وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) في سبيل الخير، ويتصدقون به على المحاويج، ثم ذكر سبحانه الطائفة التي تنتصر ممن ظلمها فقال:(12/312)
وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39)
(والذين إذا أصابهم البغي) أي بغي من بغى عليهم بغير الحق (هم ينتصرون) أي ينتقمون من ظالمهم من غير تعد، ذكر سبحانه هؤلاء المنتصرين في معرض المدح كما ذكر المغفرة عند الغضب في معرض المدح، لأن التذلل لمن بغى ليس من صفات من جعل الله له العزة، حيث قال (ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين) فالانتصار عند البغي فضيلة، كما أن العفو عند الغضب فضيلة.
قال ابن العربي ذكر الله الانتصار في البغي في معرض المدح وذكر العفو عن الجرم في موضع آخر، في معرض المدح، فاحتمل أن يكون أحدهما رافعاً للآخر، أو يكون ذلك راجعاً إلى حالتين إحداهما أن يكون الباغي معلناً بالفجور مؤذياً للصغير والكبير، فيكون الانتقام منه أفضل، الثانية أن يقع ذلك ممن لم يعرف بالزلة ويسأل المغفرة فالعفو ههنا أفضل، وهكذا ذكر الكيا الطبري في أحكامه.
وقال النخعي: كانوا يكرهون أن يذلوا أنفسهم فيجترىء عليهم السفهاء والفساق، لكن هذا الانتصار مشروط بالاقتصار على ما جعله الله له وعدم مجاوزته كما بينه سبحانه عقب هذا بقوله:(12/312)
وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40)
(وجزاء سيئة سيئة مثلها) فبين سبحانه أن العدل في الانتصار هو الاقتصار على المساواة وظاهر هذا العموم، وقال مقاتل والشافعي وأبو حنيفة وسفيان إن هذا خاص بالمجروح، ينتقم من الجارح بالقصاص دون غيره وقال مجاهد والسدي هو جواب القبيح إذا قال شخص أخزاك الله يقول: أخزاك الله من غير أن يعتدي، وإذا انتصر فقد استوفى ظلامته وبرىء الأول من حقه، وبقي عليه إثم الابتداء، والإثم لحق الله تعالى، وتسمية الجزاء سيئة إما لكونها تسوء من وقعت عليه أو على طريق المشاكلة لتشابهما في الصورة.
أخرج النسائي وابن ماجة وابن مردويه عن عائشة قالت: " دخلت عليّ(12/312)
زينب وعندي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقبلت عليّ فسبتني فردعها النبي صلى الله عليه وسلم فلم تنته، فقال لي سبيها فسببتها حتى جف ريقها في فمها ووجه رسول الله صلى الله عليه وسلم يتهلل سروراً "، وأخرج أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي وابن مردويه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " المستبّان ما قالا من شيء فعلى البادىء حتى يعتدي المظلوم ثم قرأ (وجزاء سيئة مثلها) ".
(فمن عفا) الفاء للتفريع أي إذا كان الواجب في الجزاء رعاية المماثلة من غير زيادة، وهي عسرة جداً، فالأولى العفو والإصلاح إذا كان قابلاً للإصلاح، فلا يرد أنه يخالف قولهم الحلم على العاجز محمود، وعلى المتغلب مذموم، والمعنى من عفا عمن ظلمه.
(وأصلح) بالعفو بينه وبين ظالمه (فأجره على الله) أي يأجره على ذلك لا محالة، وأبهم الأجر تعظيماً لشأنه، وتنبيهاً على جلالته، قال مقاتل فكان العفو من الأعمال الصالحة، وقد بينا هذا في سورة آل عمران، والمقصود من الآية التحريض على العفو، وقد عرفت التوفيق بينه وبين الانتصار.
أخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان يوم القيامة أمر الله منادياً ينادي ألا ليقم من كان له على الله أجر، فلا يقوم إلا من عفا في الدنيا، وذلك قوله فمن عفا الآية.
وأخرج البيهقي عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ينادي مناد من كان له أجر على الله فليدخل الجنة مرتين فيقوم من عفا عن أخيه قال الله تعالى: فمن عفى الآية ثم ذكر سبحانه خروج الظلمة عن محبته التي هي سبب الفوز والنجاة فقال (إنه لا يحب الظالمين) يعني من يبدأ بالظلم قاله مقاتل وبه قال سعيد بن جبير وقيل: لا يحب من يتعدى في الاقتصاص. ويجاوز الحد فيه لأن المجاوزة ظلم.(12/313)
وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (42) وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43)(12/314)
وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41)
(ولمن انتصر بعد ظلمه) مصدر مضاف إلى المفعول، أي بعد أن ظلمه الظالم واللام هي لام الابتداء وقال الحوفي وابن عطية هي لام القسم وليس بجيد بل الأولى أولى، ومن هي الشرطية وجوابه (فأولئك ما عليهم من سبيل) بمؤاخذة وعقوبة لأنهم فعلوا ما هو جائز لهم، وقيل من موصولة، والأولى أولى. وفي القرطبي: الآية دليل على أن له يستوفي ذلك بنفسه، وهذا ينقسم ثلاثة أقسام وذكرها في حاشية الجمل لا نطول ببسطها فمحلها كتب الفقه دون التفاسير، ولما نفى سبحانه السبيل على من انتصر بعد ظلمه بين من عليه السبيل فقال:(12/314)
إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (42)
(إنما السبيل على الذين يظلمون الناس) أي يتعدون عليهم ابتداء كذا قال الأكثر، وقال ابن جريج: أي يظلمونهم بالشرك المخالف لدينهم (ويبغون في الأرض) أي يعملون في النفوس والأموال (بغير الحق) كذا قال الأكثر قيد به لأن البغي قد يكون مصحوباً بحق كالانتصار المقترن بالتعدي فيه، وقال مقاتل: بغيهم عملهم بالمعاصي، وقيل: يتكبرون ويتجبرون؛ وقال أبو مالك: هو ما يرجوه أهل مكة أن يكون بمكة غير الإسلام ديناً.
(أولئك) أي الذين يظلمون الناس (لهم) بهذا السبب (عذاب أليم) شديد الألم ثم رغب سبحانه في الصبر والعفو فقال:(12/314)
وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43)
(ولمن صبر(12/314)
وغفر) كرره اهتماماً بالصبر وترغيباً فيه، والصبر هنا هو الإصلاح المتقدم. فأعيد هنا وعبر عنه بالصبر، لأنه من شأن أولي العزم وإشارة إلى أن العفو المحمود ما نشأ عن التحمل، لا عن العجز، والمعنى ومن صبر على الأذى وغفر لمن ظلمه لوجه الله ولم ينتصر، وهذا فيمن ظلمه مسلم.
ويحكى أن رجلاً سب رجلاً في مجلس الحسن رحمه الله فكان المسبوب يكظم ويعرق فيمسح العرق، ثم قام فتلا هذه الآية، فقال الحسن عقلها والله وفهمها إذ ضيعها الجاهلون، وبالجملة العفو مندوب إليه ثم قد ينعكس في بعض الأحوال فيرجع ترك العفو مندوباً إليه كما تقدم، وذلك إذا احتيج إلى كف زيادة البغي، وقطع مادة الأذى.
(إن ذلك) الصبر والمغفرة منه وحذف الراجع لأنه مفهوم كما حذف من قولهم السمن منوان بدرهم (لمن عزم الأمور) قال مقاتل: أي من الأمور التي أمر الله بها، وندب إليها، أو مما ينبغي أن يوجبه العاقل على نفسه ولا يترخص في تركه قال أبو سعيد القرشي الصبر على المكاره من علامات الانتباه فمن صبر على مكروه يصيبه ولم يجزع أورثه الله تعالى حال الرضاء، وهو أجل الأحوال ومن جزع من المصيبات وشكا وكله الله تعالى إلى نفسه، ثم لم تنفعه شكواه.
وقال الزجاج الصابر يؤتى بصبره ثواباً فالرغبة في الثواب أتم عزماً قال ابن زيد إن هذا كله منسوخ بالجهاد، وأنه خاص بالمشركين، وقال قتادة إنه عام، وهو ظاهر النظم القرآني، وقال هنا بلام التوكيد، وفي لقمان بدونها لأن الصبر على مكروه حدث بظلم كقتل ولد أشد من الصبر على مكروه حدث بلا ظلم كموت ولد، كما أن العزم على الأول آكد منه على الثاني، وما هنا من القبيل الأول فكان أنسب بالتوكيد، وما في لقمان القبيل الثاني فكان أنسب بعدمه، أفاده الكرخي.(12/315)
وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ (44) وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ (45) وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِيَاءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ سَبِيلٍ (46) اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ (47) فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَفُورٌ (48)(12/316)
وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ (44)
(ومن يضلل الله) أي يخذله (فما له من ولي من بعده) أي فما له من أحد يلي هدايته وينصره، وظاهر الآية العموم، وقيل هي خاصة بمن أعوض عن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يعمل بما دعاه إليه من الإيمان بالله والعمل بما شرعه الله والمودة في القربى، أي فمن أضله الله عن هذه الأشياء فلا يهديه هاد، قاله القرطبي والأول أولى.
(وترى) الخطاب في الموضعين لكل من تتأتى منه الرؤية والرؤية فيهما بصرية، والجملة الواقعة بعد كل منهما حالية (الظالمين) أي المشركين المكذبين بالبعث (لما رأوا العذاب) أي حين نظروا النار، وقيل نظروا ما أعده الله لهم عند الموت، واختير لفظ الماضي للتحقيق (يقولون هل إلى مرد من سبيل) أي هل إلى الرجعة إلى الدنيا من طريق؟(12/316)
وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ (45)
(وتراهم يعرضون عليها) أي على النار (خاشعين من الذل) أي ساكنين متواضعين من أجله (ينظرون) إليها (من طرف خفي) أي ذليل، قاله ابن عباس، ومن هي لابتداء الغاية، أي يبتدىء نظرهم إلى النار، ويجوز أن تكون تبعيضية، وقال يونس: من بمعنى الباء، أي ينظرون بطرف ضعيف من الذل والخوف، وبه قال الأخفش، والطرف الخفي الذي يخفي نظره كالمصبور ينظر إلى السيف لما لحقهم من الذل والخوف والوجل قال مجاهد: وإنما ينظرون بقلوبهم لأنهم يحشرون عمياً وعين القلب طرف خفي وقال قتادة وسعيد بن جبير والسدي ومحمد بن كعب القرظي: يسارقون النظر إلى النار من شدة الخوف.
(وقال الذين آمنوا إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم) أي إن الكاملين في الخسران هم هؤلاء الذين جمعوا بين خسران الأنفس والأهلين بتخليدهم في النار (يوم القيامة) إما ظرف لخسروا فالقول في الدنيا أو لقال فالقول في القيامة، ويكون التعبير عنه بالماضي للدلالة على تحقق وقوعه قاله أبو السعود وأما خسرانهم لأنفسهم فلكونهم صاروا في النار معذبين بها، وأما خسرانهم لأهليهم فلأنهم إن كانوا معهم في النار فلا ينتفعون بهم وإن كانوا في الجنة فقد حيل بينهم وبينهم، وقيل خسران الأهل أنهم لو آمنوا لكان لهم في الجنة أهل من الحور العين.
(ألا إن الظالمين في عذاب مقيم) هذا من تمام كلام المؤمنين، أو من كلام الله سبحانه أي هم في عذاب دائم لا ينقطع(12/317)
وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِيَاءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ سَبِيلٍ (46)
(وما كان لهم من أولياء ينصرونهم من دون الله) أي لم يكن لهم أعوان يدفعون عنهم العذاب، وأنصار ينصرونهم في ذلك الموطن من دون الله، بل هو المتصرف سبحانه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن (ومن يضلل الله فما له من سبيل) أي من طريق(12/317)
يسلكها إلى النجاة، ثم أمر سبحانه عباده بالإستجابة وحذرهم فقال:(12/318)
اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ (47)
(استجيبوا لربكم) أي استجيبوا دعوته لكم إلى الإيمان به وبكتبه ورسله (من قبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله) أي لا يقدر أحد على رده ودفعه على معنى من قبل أن يأتي من الله يوم لا يرده أحد، ولا يرده الله بعد (1) كالأليم بمعنى المؤلم، أي لا تجدون يومئذ منكراً لما ينزل بكم من العذاب حكاه ابن أبي حاتم، وقاله الكلبي وغيره: والأول أولى قال الزجاج. معناه أنهم لا يقدرون أن ينكروا الذنوب التي يوقفون عليها.
_________
(1) سقط من الأصل: أن حكم به على عباده ووعدهم به، والمراد به يوم القيامة، أي يوم الموت (ما لكم من ملجأ يومئذ) تلجأون إليه (وما لكم من نكير) أي إنكار، يعني بل تعترفون بذنوبكم لأنها مدونة في صحائفكم وتشهد بها عليكم جوارحكم، وقال مجاهد: ما لكم من ناصر ينصركم، وقيل: النكير بمعنى المنكر.(12/318)
فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَفُورٌ (48)
(فإن أعرضوا فما أرسلناك عليهم حفيظاً) أي حافظاً تحفظ أعمالهم الصادرة عنهم حتى تحاسبهم عليها ولا موكلاً بهم رقيباً عليهم، لتقهرهم على امتثال ما أرسلناك به.
(إن) أي ما (عليك إلا البلاغ) لما أمرت بإبلاغه وليس عليك غير ذلك، وهذا منسوخ بآية السيف، لأنه قبل الأمر بالجهاد (وإنا إذا أذقنا الإنسان منا رحمة) أي إذا أعطيناه رخاء وصحة وغنى (فرح بها) بطراً ونعم الدنيا وإن كانت عظيمة إلا أنها بالنسبة إلى سعادة الآخرة كالقطرة بالنسبة إلى البحر، فلهذا سمى الإنعام إذاقة، والمراد بالإنسان الجنس ولهذا قال:
(وإن تصبهم سيئة) أي بلاء وشدة ومرض وفقر (بما قدمت أيديهم) من الذنوب وعبر بالأيدي لأن أكثر الأفعال تزاول بها (فإن الإنسان كفور) أي كثير الكفر بما أنعم به عليه من نعمه غير شكور له عليها، وهذا باعتبار غالب جنس الإنسان، ولم يقل: فإنه كفور، بل وضع الظاهر موضع المضمر ليسجل على أن هذا الجنس موسوم بكفران النعم، كما قال (إن(12/318)
لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (50) وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (51)
الإنسان لظلوم كفار) والمعنى أنه يذكر البلاء وينسى النعم ويغطيها، ثم ذكر سبحانه سعة ملكه ونفاذ تصرفه فقال:(12/319)
لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (49)
(لله ملك السموات والأرض) أي له التصرف فيهما بما يريد لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع، والملك بالضم الاستيلاء على الشيء والتمكن من التصرف فيه، وفي المصباح وملك على الناس أمرهم ملكاً من باب ضرب إذا تولى السلطنة فهو ملك والاسم الملك بضم الميم.
(يخلق ما يشاء) من الخلق (يهب لمن يشاء إناثاً) بدل مفصل من مجمل أي لا ذكور معهن، قاله مجاهد والحسن والضحاك وأبو مالك وأبو عبيدة وقال ابن عباس يريد لوطاً وشعيباً لأنهما لم يكن لهما إلا البنات.
(ويهب لمن يشاء الذكور) أي لا إناث معهم، يريد إبراهيم لأنه لم يكن له إلا الذكور، قاله ابن عباس، قيل: وتعريف الذكور بالألف واللام للدلالة على شرفهم على الإناث، ويمكن أن يقال إن التقديم للإناث قد عارض ذلك فلا دلالة في الآية على المفاضلة، بل هي مسوقة لمعنى آخر، وقد دل على شرف الذكور قوله سبحانه:
(الرجال قوامون على النساء بما فضل الله) وغير ذلك من الأدلة الدالة على شرف الذكور على الإناث، وقيل: تقديم الإناث لكثرتهن بالنسبة إلى الذكور. وقيل: لتطيب قلوب آبائهن، وقيل لغير ذلك مما لا حاجة إلى(12/319)
التطويل بذكره، أخرج ابن مردويه وابن عساكر عن وائلة بن الأسقع عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من بركة المرأة ابتكارها بالأنثى لأن الله قال: يهب لمن يشاء إناثاً " إلخ.(12/320)
أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (50)
(أو يزوجهم ذكراناً وإناثاً) أي يقرن بين الإناث والذكور، ويجعلهم أزواجاً فيهبهما جميعاً لبعض خلقه يريد محمداً صلى الله عليه وسلم فإنه كان له من البنين ثلاثة على الصحيح، القاسم وعبد الله وإبراهيم، ومن البنات أربع زينب ورقية وأم كلثوم وفاطمة، قاله ابن عباس قال مجاهد. هو أن تلد المرأة غلاماً ثم تلد جارية، ثم تلد غلاماً، ثم تلد جارية. وقال محمد بن الحنفية: هو أن تلد توأماً غلاماً وجارية، وقال القتيبي التزويج هنا هو الجمع بين البنين والبنات، تقول العرب: زوجت إبلي إذا جمعت بين الصغار والكبار، ومعنى الآية أوضح من أن يختلف في مثله، فإنه سبحانه أخبر أنه يهب لبعض خلقه إناثاً ويهب لبعض خلقه ذكوراً ويجمع لبعض بين الذكور والإناث.
(ويجعل من يشاء عقيماً) لا يولد له ذكر ولا أنثى، والعقيم الذي لا يولد له يريد يحيى وعيسى، قاله ابن عباس، وقال أكثر المفسرين: هذا على وجه التمثيل، وإنما الحكم عام في كل الناس، لأن المقصود بيان نفاذ قدرة الله تعالى في تكوين الأشياء كيف يشاء، فلا معنى للتخصيص، يقال رجل عقيم، وامرأة عقيم، وعقمت المرأة تعقم عقماً، وأصله القطع، ويقال: نساء عقّم وعقماء (إنه عليم قدير) أي بليغ العلم عظيم القدرة.(12/320)
وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (51)
(وما كان لبشر) أي ما صح لفرد من أفراد البشر (أن يكلمه الله) بوجه من الوجوه (إلا وحياً) بأن يوحي إليه فيلهمه في المنام، ويقذف في قلبه ذلك، قال مجاهد: نفث ينفث في قلبه فيكون إلهاماً منه كما أوحى إلى أم موسى وإلى إبراهيم في ذبح ولده، والوحي الإشارة والرسالة والكتابة، وكل ما ألقيته إلى غيرك ليعلمه وحي، كيف كان، قاله ابن فارس، وهو مصدر وحى إليه(12/320)
يحي من باب وعي، وأوحى إليه بالألف مثله، ثم غلب استعمال الوحي فيما يلقى إلى الأنبياء من عند الله تعالى، ولغة القرآن الفاشية أوحى بالألف.
(أو من وراء حجاب) كما كلم موسى يريد أن كلامه يسمع من حيث لا يرى، وهو تمثيل بحال الملك المحتجب الذي يكلم خواصه من وراء حجاب قال ابن عباس في الآية إلا أن يبعث ملكاً يوحي إليه من عنده، أو يلهمه فيقذف في قلبه. أو يكلمه من وراء حجاب، وقيل: المراد به أن السامع محجوب عن الرؤية في الدنيا.
(أو يرسل رسولاً) أي ملكاً (فيوحي) ذلك الملك إلى الرسول من البشر (بإذنه) أي بأمر الله وتيسيره (ما يشاء) أن يوحي إليه، قال الزجاج: المعنى أن كلام الله للبشر إما أن يكون بإلهام يلهمهم أو يكلمهم من وراء حجاب كما كلم موسى، أو برسالة ملك إليهم، وتقدير الكلام ما كان لبشر أن يكلمه الله إلا أن يوحي وحياً أو يكلمه من وراء حجاب، أو يرسل رسولاً، ومن قرأ يرسل رفعاً أراد وهو يرسل فهو ابتداء واستئناف لها.
وقرأ الجمهور بنصب يرسل وبنصب فيوحي على تقدير أن، وتكون أن وما دخلت عليه معطوفين على (وحياً) وحياً في محل الحال، والتقدير: إلا موحياً أو مرسلاً ولا يصح عطف أو (يرسل) على أن (يكلمه) لأنه يصير التقدير: وما كان لبشر أن يرسل الله رسولاً، وهو فاسد لفظاً ومعنى. وقد قيل في توجيه قراءة الجمهور غير هذا مما لا يخلو عن ضعف، وقرىء بالرفع وكذلك فيوحي بإسكان الياء على أنه خبر مبتدأ محذوف، والتقدير أو هو يرسل، كما قال الزجاج وغيره.
وجملة (إنه عليّ حكيم) تعليل لما قبلها أي متعال عن صفات النقص، حكيم في كل أحكامه، قال المفسرون سبب نزول هذه الآية أن اليهود قالوا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: ألا تكلم الله وتنظر إليه إن كنت نبياً كما كلمه موسى فنزلت.(12/321)
وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (53)(12/322)
وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52)
(وكذلك) أي كالوحي الذي أوحينا إلى الأنبياء قبلك (أوحينا إليك روحاً من أمرنا) المراد به القرآن قاله ابن عباس، وقيل النبوة، قال مقاتل يعني الوحي بأمرنا ومعناه القرآن لأنه يهتدي به ففيه حياة من موت الكفر، وقيل: من تبعيضية لأن الموحى إليه لا ينحصر في القرآن، وقيل: المراد به الرحمة، وقيل جبريل، ثم ذكر سبحانه صفة رسوله قبل أن يوحي إليه فقال: (ما كنت تدري ما الكتاب) أي: أيُّ شيء هو لأنه صلى الله عليه وسلم كان أمياً لا يقرأ ولا يكتب، وذلك أدخل في الإعجاز، وأدل على صحة نبوته، ومعنى (ولا الإيمان) أنه كان صلى الله عليه وسلم لا يعرف تفاصيل الشرائع ومعالمها، ولا يهتدي إلى معانيها، كالصلاة والصوم والزكاة والختان وإيقاع الطلاق والغسل من الجنابة، وتحريم ذوات المحارم بالقرابة والصهر، وهذا هو الحق وخص الإيمان لأنه رأسها وأساسها، وقيل أراد بالإيمان هنا الصلاة، قال بهذا جماعة من أهل العلم، منهم إمام الأئمة محمد بن إسحق بن خزيمة واحتج بقوله تعالى:
(وما كان الله ليضيع إيمانكم) يعني الصلاة، فسماها إيماناً، وذهب جماعة إلى أن الله لم يبعث نبياً إلا وقد كان مؤمناً به، وقالوا معنى الآية ما كنت تدري قيل الوحي كيف تقرأ القرآن؟ ولا كيف تدعو الخلق إلى الإيمان؟ وقيل كان هذا قبل البلوغ حين كان طفلاً وفي المهد.
وقال الحسين بن الفضل إنه على حذف المضاف، أي ولا أهل الإيمان، وقيل المراد بالإيمان، دين الإسلام، وقيل الإيمان هنا عبارة عن الإقرار بكل(12/322)
ما كلف الله به العباد، وقال الكواشي ويجوز أن يراد بالإيمان نفس الكتاب وهو القرآن وعطف عليه لاختلاف لفظيهما أي ما كنت تعرف القرآن وما فيه من الأحكام، ويدل على هذا التأويل توحيد الضمير في جعلناه، وقيل المراد بالإيمان الكلمة التي بها دعوة الإيمان والتوحيد، وهي لا إله إلا الله محمد رسول الله، والإيمان بهذا التفسير إنما علمه بالوحي لا بالعقل، قاله الكرخي.
وعن علي قال: " قيل لمحمد صلى الله عليه وسلم هل عبدت وثناً قط؟ قال: لا قالوا فهل شربت خمراً قط؟ قال: لا، وما زلت أعرف أن الذي هم عليه كفر، وما كنت أدري ما الكتاب ولا الإيمان؟ وبذلك نزل القرآن ". (وما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان) (1).
(ولكن جعلناه نوراً) أي جعلنا الروح الذي أوحيناه إليك ضياء ودليلاً على التوحيد والإيمان (نهدي به) المراد به الهداية الموصلة بدليل قوله (من نشاء) هدايته (من عبادنا) ونرشده إلى الدين الحق (وإنك لتهدي) أي كل مكلف فالهداية فيه أعم من التي قبلها قرأ الجمهور لتهدي على البناء للفاعل وقرىء على البناء للمفعول، وقرىء بضم التاء وكسر الدال من أهدى، وفي قراءة أبيّ وإنك لتدعو (إلى صراط مستقيم) قال قتادة والسدي ومقاتل: وإنك لتدعو إلى الإسلام فهو الصراط المستقيم.
ثم بين الصراط المستقيم بقوله:
_________
(1) زاد المسير 299.(12/323)
صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (53)
(صراط الله) بدل من الأول بدل المعرفة من النكرة وفي هذه الإضافة للصراط إلى الإسم الشريف من التعظيم له والتفخيم لشأنه ما لا يخفى (الذي له ما في السموات وما في الأرض) ملكاً وخلقاً وعبيداً والمعنى أنه المالك لذلك، والمتصرف فيه.
(ألا إلى الله تصير) أي ترجع (الأمور) يوم القيامة لا إلى غيره، أي جميع أمور الخلائق بارتفاع الوسائط والتعلقات وعلى هذا المضارع على(12/323)
ظاهره، وقيل: المراد بهذا المضارع الديمومة كقولك زيد يعطي ويمنع أي من شأنه ذلك وليس المراد حقيقة المستقبل لأن الأمور منوطة به تعالى كل وقت وفيه وعيد بالبعث المستلزم للمجازاة ووعد بنعيم الجنات فيثيب المحسن ويعاقب المسيء.
قال سهيل بن أبي الجعد: أحترق مصحف ولم يبق منه إلا قوله (ألا إلى الله تصير الأمور) وغرق مصحف فانمحى كله إلا قوله ذلك والله أعلم القرطبي.(12/324)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
سورة الزخرف
(وهي تسع وثمانون آية)
قال القرطبي: هي مكيّة بالإجماع وبه قال ابن عباس، قال مقاتل إلا قوله (وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا) يعني فإنها نزلت بالمدينة.(12/325)
بسم الله الرحمن الرحيم
حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (4) أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ (5) وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ (6) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (7) فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ (8) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (9)(12/327)
حم (1)
(حم) الكلام ههنا كالكلام الذي قدمناه والله أعلم بمراده به(12/327)
وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2)
(والكتاب المبين) أقسم بالقرآن الذي أبان طرق الهدى من طرق الضلالة، وأبان ما تحتاج إليه الأمة من الشريعة، وقيل المبين الواضح للمتدبرين وهو من الإيمان الحسنة البديعة لتناسب القسم والمقسم عليه ولعل أقسام الله بالأشياء استشهاده بما فيها من الدلالة على المقسم عليه، وجواب القسم.(12/327)
إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3)
(إنا جعلناه قرآناً عربياً)، وهذا عندهم من البلاغة وهو كون القسم والمقسم عليه من واد واحد إن أريد بالكتاب القرآن وإن أريد به جنس الكتب المنزلة لم يكن من ذلك والضمير في جعلناه على الأول، يعود على الكتاب، وعلى الثاني يعود على القرآن وإن لم يصرح بذكره، والجعل هنا تصيير ولا يلتفت لخطأ الزمخشري في تجويزه أن يكون بمعنى خلقناه قاله السمين.
والمعنى سميناه وصيرناه ووصفناه ولذلك تعدى إلى مفعولين، وقال السدي: أي أنزلناه قرآناً، وقال مجاهد قلناه وقال سفيان الثوري: بيناه، وكذا قال الزجاج أي أنزل بلسان العرب لأن كل نبي أنزل كتابه بلسان قومه، وقال مقاتل لأن لسان أهل الجنة عربي.(12/327)
(لعلكم تعقلون) أي لكي تفهموه وتتعقلوا معانيه وتحيطوا بما فيه، قال ابن زيد لعلكم تتفكرون(12/328)
وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (4)
(وإنه) أي وإن القرآن (في أم الكتاب لدينا) أي عندنا (لعلي حكيم) أخبر عن منزلته وشرفه وفضله أي إن كذبتم به يا أهل مكة فإنه عندنا شريف رفيع القدر محكم النظم في أعلى طبقات البلاغة، ودرجات الفصاحة، لا يوجد فيه اختلاف ولا تناقض، والجملة عطف على الجملة المقسم بها داخلة تحت معنى القسم أو مستأنفة مقررة لما قبلها، قال الزجاج: أم الكتاب أصل الكتاب، وأصل كل شيء أمه والقرآن مثبت عند الله في اللوح المحفوظ، كما قال (بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ).
قال ابن جريج: المراد بقوله وإنه الخ أعمال الخلق من إيمان وكفر وطاعة ومعصية، عن ابن عباس قال: " إن أول ما خلق الله من شيء القلم، وأمره أن يكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة عنده " (1)، ثم قرأ هذه الآية وأخرج ابن مردويه نحوه عن أنس مرفوعاً.
_________
(1) سبق ذكره.(12/328)
أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ (5)
(أفنضرب عنكم الذكر صفحاً) يقال: ضربت عنه وأضربت عنه إذا تركته وأمسكت عنه، كذا قال الفراء والزجاج وغيرهما، وانتصاب صفحاً على المصدرية أو على الحال أي صافحين، والصفح مصدر قولهم: صفحت عنه إذا أعرضت عنه، وذلك أنك توليه صفحة وجهك وعنقك، والمراد بالذكر هنا القرآن، والاستفهام للإنكار والتوبيخ قال الكسائي:
المعنى أفنضرب عنكم الذكر طياً فلا توعظون ولا تؤمرون. وقال مجاهد وأبو صالح والسدي أفنضرب عنكم العذاب ولا نعاقبكم على إسرافكم وكفركم؟ وقال قتادة المعنى أفنهلككم ولا نأمركم ولا ننهاكم، وروي عنه إنه قال: المعنى أفنمسك عن إنزال القرآن من قبل، أنكم لا تؤمنون به، وقيل: الذكر التذكير كأنه قال أنترك تذكيركم.
(أن كنتم قوماً مسرفين) قرىء إن بالكسر على أنها الشرطية والجزاء(12/328)
محذوف لدلالة ما قبله عليه وبفتحها على التعليل، أي لأن كنتم قوماً منهمكين في الإسراف مصرين عليه مفرطين في الجهالة مجاوزين الحد في الضلالة، قال ابن عباس في الآية أحببتم أن نصفح عنكم ولم تفعلوا ما أمرتم به، ثم سلى سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم، فقال:(12/329)
وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ (6)
(وكم أرسلنا من نبي في الأولين) كم هي الخبرية التي معناها التكثير والمعنى: ما أكثر ما أرسلنا من الأنبياء في الأمم السابقة.(12/329)
وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (7)
(وما يأتيهم من نبي إلا كانوا به يستهزئون) كاستهزاء قومك بك(12/329)
فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ (8)
(فأهلكنا) قوماً (أشد منهم) أي من هؤلاء القوم (بطشاً) أي قوة تمييز أو حال، أو باطشين والأول أحسن، والبطش شدة الأخذ (ومضى مثل الأولين) أي سلف في القرآن في غير موضع منه، ذكر قصتهم وحالهم العجيبة التي حقها أن تسير مسير المثل لشهرتها، وقال قتادة: عقوبتهم، وقيل: صفتهم في الإهلاك والمثل الوصف والخبر، وفي هذا وعد لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وتهديد شديد لهم لأنه يتضمن أن الأولين أهلكوا بتكذيب الرسل، وهؤلاء إن استمروا على تكذيبك والكفر بما جئت به هلكوا مثلهم.(12/329)
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (9)
(ولئن) لام قسم (سألتهم) أي هؤلاء الكفار من قومك (من خلق السموات والأرض) أي هذه الأجرام العلوية والسفلية (ليقولن خلقهن العزيز العليم) جواب القسم لا جواب الشرط، وهذا على القاعدة في اجتماع الشرط والقسم، من حذف جواب المتأخر منهما وحذف منه نون الرفع لتوالي النونات وواو الضمير لالتقاء الساكنين، وكرر الفعل للتوكيد إذ لو جاء (العزيز) بغير (خلقهن) لكان كافياً، والمعنى أقروا بأن الله خالقهن ولم ينكروا ذلك وهذا أسوأ لحالهم وأشد لعقوبتهم، لأنهم عبدوا بعض مخلوقات الله وجعلوه شريكاً له، بل عمدوا إلى ما لا يسمع ولا يبصر، ولا ينفع ولا يضر من المخلوقات، وهي الأصنام فجعلوها شركاء لله، ثم وصف سبحانه نفسه بما يدل على عظيم نعمته على عباده، وكمال قدرته في مخلوقاته فقال:(12/329)
الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (10) وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (11) وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ (12) لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13)(12/330)
الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (10)
(الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا) أي فراشاً كالمهد للصبي، ولو شاء لجعلها مزلة لا يثبت فيها شيء كما ترون من بعض الجبال، ولو شاء لجعلها متحركة فلا يمكن الانتفاع بها في الزراعة والأبنية، فالانتفاع بها إنما حصل لكونها مسطحة قارة ساكنة وقد تقدم بيانه، قرأ الجمهور مهاداً وقرأ الكوفيون مهداً وهذا كلام مبتدأ غير متصل بما قبله، ولو كان متصلاً بما قبله من جملة مقول الكفار لقالوا: الذي جعل لنا الأرض مهاداً.
(وجعل لكم فيها سبلاً) أي طرقاً تسلكونها إلى حيث تريدون ولو شاء لجعلها بحيث لا يسلك في مكان منها كما جعل بعض الجبال كذلك وقيل معايش تعيشون بها (لعلكم تهتدون) بسلوكها إلى مقاصدكم ومنافعكم في أسفاركم.(12/330)
وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (11)
(والذي نزل من السماء ماء بقدر) أي بقدر الحاجة وحسبما تقتضيه المصلحة (1) بالغرق ولا دونها حتى تحتاجوا إلى الزيادة وعلى حسب ما تقتضيه مشيئته في أرزاق عباده بالتوسيع تارة والتقتير أخرى.
(فأنشرنا به بلدة ميتاً) أي أحيينا بذلك الماء بلدة مقفرة من النبات
_________
(1) سقط من الأصل: ولم ينزل عليكم منه فوق حاجتكم حتى يهلك زرعكم ويهدم منازلكم ويهلككم ...(12/330)
وفيه التفات قرأ الجمهور ميتاً بالتخفيف وقرىء بالتشديد (كذلك) أي مثل ذلك الإِحياء للأرض بإخراج نباتها بعد أن كانت لا نبات بها (تخرجون) أي تبعثون من قبوركم أحياء فإن من قدر على هذا قدر على ذلك، وقد مضى بيان هذا في آل عمران والأعراف، قرأ الجمهور: تخرجون مبنياً للمفعول وقرىء مبنياً للفاعل.(12/331)
وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ (12)
(والذي خلق الأزواج كلها) أي الضروب والأنواع كالحلو والحامض والأبيض والأسود، قال سعيد بن جبير الأصناف كلها وقال الحسن الأزواج الشتاء والصيف، والليل والنهار، والسموات والأرض والجنة والنار. وقيل أزواج الحيوان من ذكر وأنثى، وقيل أزواج النبات كقوله:
(وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج) و (من كل زوج كريم) وقيل: ما يتقلب فيه الإنسان من خير وشر وإيمان وكفر، ونفع وضر وفقر وغنى، وصحة وسقم وهذا القول يعم الأقوال ويجمعها بعمومه، وقيل: الأول أولى، قال بعض المحققين: كل ما سوى الله فهو زوج كالفوق والتحت، والربيع والخريف، واليمين واليسار، والقدام والخلف، والماضي والمستقبل والذوات والصفات، وكونها أزواجاً يدل على أنها ممكنة الوجود، محدثة مسبوقة بالعدم، فأما الحق تعالى فهو الفرد المنزه عن الضد والند والمقابل والمعاضد.
(وجعل لكم من الفلك) السفن (والأنعام ما تركبون) أي ما تركبونه في البحر والبر وأريد بالأنعام هنا ما يركب من الحيوان، وهو الإبل والخيل والبغال والحمير، وقرينة هذا قوله في سورة النحل (والخيل والبغال والحمير لتركبوها) فحينئذ في الأنعام هنا تغليب إذ الأنعام هي الإبل والبقر والغنم وقال(12/331)
الشوكاني: المراد بالأنعام ههنا الإبل خاصة، وقيل: الإبل والبقر والأول أولى انتهى.(12/332)
لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13)
(لتستووا) اللام لام العلة، وهو الظاهر، أو للصيرورة وجوز ابن عطية أن تكون لام الأمر، وفيه بعد لقلة دخولها على أمر المخاطب (على ظهوره) الضمير راجع إلى ما قاله أبو عبيد، وقال الفراء أضاف الظهور إلى واحد لأن المراد الجنس، فصار الواحد في معنى الجمع بمنزلة الجنس فلذلك ذكر وجمع الظهر لأن المراد ظهور هذا الجنس، والاستواء الاستعلاء أي لتستعلوا على ظهور ما تركبون من الفلك والأنعام.
(ثم تذكروا نعمة ربكم) أي التي أنعم بها عليكم من تسخير ذلك المركب في البحر والبر (إذا استويتم عليه) أي على ما تركبون ففيه مراعاة لفظ (ما) أيضاً قال مقاتل والكلبي هو أن تقول الحمد لله الذي رزقني هذا وحملني عليه:
(وتقولوا) أي بألسنتكم جمعاً بين القلب واللسان: (سبحان الذي سخر لنا هذا) وقرأ علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه سبحان من سخر لنا هذا، وقال قتادة قد علمكم كيف تقولون إذا ركبتم والمعنى ذلل لنا هذا المركب الذي ركبناه سفينة كان أو دابة قاله الخطيب وصرح غيره بأنه خاص بالدابة، وأما السفينة فيقول فيها (بسم الله مجريها ومرساها) ويؤيده:
(وما كنا له مقرنين) فإن الامتناع والتعاصي والتوحش لولا تسخير الله وإذلاله إنما يتأتى في الدواب. وأما السفن فهي من عمل ابن آدم فليس لها امتناع بقوتها كامتناع الدابة. قال ابن عباس والكلبي: مقرنين مطيقين يقال أقرن هذا البعير إذا أطاقه. وقال الأخفش وأبو عبيدة: مقرنين ضابطين، يقال فلان مقرن لفلان أي ضابط له، وقيل مماثلين له في القوة من قولهم: هو قرن فلان إذا كان مثله في القوة.(12/332)
وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ (14) وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (15) أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ (16) وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (17) أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ (18) وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ (19) وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (20)(12/333)
وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ (14)
(وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ) أي راجعون إليه وهذا تمام ما يقال عند ركوب الدابة أو السفينة، وفيه إشارة إلى الرد عليهم في إنكار البعث أخرج مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي والحاكم وابن مردويه عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، " كان إذا سافر ركب راحلته ثم كبر ثلاثاً، ثم قال: سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين، وإنا إلى ربنا لمنقلبون ".
روي أن قوماً ركبوا، وقالوا سبحان الذي سخر لنا هذا الخ وفيهم رجل على ناقة لا تتحرك هزالاً فقال: إني مقرن لهذه فسقط لوثبتها واندقت عنقه، وينبغي أن لا يكون ركوب العاقل للتنزه والتلذذ، بل للاعتبار، ويتأمل عنده أنه هالك لا محالة ومنقلب إلى الله غير منفلت من قضائه.
قال القرطبي علمنا سبحانه وتعالى ما نقول إذا ركبنا الدواب وعرفنا في آية أخرى على لسان نوح عليه السلام ما نقول إذا ركبنا السفن فكم من راكب دابة عثرت به أو شمست أو تقحمت أو طاح عن ظهرها فهلك، وكم من راكب سفينة انكسرت به فغرق فلما كان الركوب مباشرة أمر مخوف واتصالاً بسبب من أسباب التلف أمر أن لا ينسى عند اتصاله به موته ولا يدع ذكر ذلك بقلبه(12/333)
ولسانه، حتى يكون مستعداً لقضاء الله بإصلاحه من نفسه، والحذر من أن يكون ركوبه ذلك من أسباب موته في علم الله، وهو غافل عنه. وقال ابن العربي: ليس بواجب ذكره باللسان بل يستحب وإنما الواجب اعتقاده بالقلب والأول أولى والجمع أفضل.
ثم رجع سبحانه إلى ذكر الكفار الذين تقدم ذكرهم فقال:(12/334)
وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (15)
(وجعلوا له) أي بعد ذلك الاعتراف كما قاله القاضي أو معه كذا في الكشاف، والجملة حالية والجعل تصيير قولي أي حكموا وأثبتوا له أو بمعنى سموا واعتقدوا (مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا) أي ولداً وسماه جزءاً دلالة على استحالته على الواحد في ذاته، لأن المركب لا يكون واحد الذات، قال قتادة جزءاً أي عدلاً يعني ما عبد من دون الله، وقال الزجاج والمبرد الجزء هنا البنات، والجزء عند أهل العربية البنات، يقال: قد أجزأت المرأة إذا ولدت البنات.
وقد جعل صاحب الكشاف تفسير الجزء بالبنات من بدع التفسير، وصرح بأنه مكذوب على العرب ويجاب عنه بأنه قد رواه الزجاج والمبرد وهما إماما اللغة العربية وحافظاها ومن إليهما المنتهى في معرفتها، ويؤيد تفسير الجزء بالبنات ما سيأتي من قوله(12/334)
أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ (16)
(أم اتخذ مما يخلق بنات) وقوله(12/334)
وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (17)
(وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلاً) وقوله (وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثاً) وقيل: المراد بالجزء هنا الملائكة فإنهم جعلوهم أولاداً لله سبحانه قاله مجاهد والحسن قال الأزهري، ومعنى الآية أنهم جعلوا لله من عباده نصيباً على معنى أنهم جعلوا نصيب الله من الولدان.
(إن الإنسان) القائل ما تقدم (لكفور مبين) أي ظاهر الكفران مبالغ فيه قيل المراد بالإنسان هنا الكافر فإنه الذي يجحد نعم الله عليه جحوداً بيناً ثم أنكر عليهم هذا فقال: (أم اتخذ مما يخلق بنات) هذا استفهام تقريع وتوبيخ وأم هي المنقطعة بمعنى همزة الإِنكار وقدرها بعضهم ببل التي للانتقال وبعضهم بهما وكل صحيح لأن فيها مذاهب ثلاثة كما نقله أبو حيان والمعنى أتقولون اتخذ ربكم لنفسه البنات.(12/334)
(وأصفاكم) أخلصكم وخصكم (بالبنين) فجعل لنفسه المفضول من الصنفين، ولكم الفاضل منهما يقال أصفيته بكذا أي آثرته به وأصفيته الود أخلصته له، ومثل هذه الآية قوله (أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى (21) تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى) وهذه الجملة معطوفة على اتخذ داخلة معها تحت الإنكار، ثم زاد في تقريعهم وتوبيخهم فقال:
(وإذا بشر أحدهم) استئناف أو حال (بما ضرب للرحمن مثلاً) أي بما جعله للرحمن سبحانه من كونه جعل لنفسه البنات، والالتفات إلى الغيبة للإِيذان بأن قبائحهم اقتضت أن يعرض عنهم، وتحكى لغيرهم ليتعجب منها والمثل بمعنى الشبه أي المشابه لا بمعنى الصفة الغريبة العجيبة، والمعنى إذا بشر أحدهم بأنها ولدت له بنت اغتم لذلك وظهر عليه أثره، وهو معنى قوله:
(ظل) أي صار (وجهه مسوداً) بسبب حدوث الأنثى له حيث لم يكن الحادث له ذكراً مكانها (وهو كظيم) أي والحال إنه شديد الحزن كثير الكرب مملوء منه قال قتادة: حزين وقال عكرمة: مكروب، وقيل ساكت ثم زاد في توبيخهم وتقريعهم فقال:(12/335)
أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ (18)
(أو من ينشأ في الحلية) النشوء التربية والحلية الزينة و (من) عبارة عن الأنثى أي يجعلون لله الأنثى التي تتربى في الزينة لنقصها إذ لو كملت في نفسها لما تكملت بالزينة قرأ الجمهور ينشأ بفتح الياء وإسكان النون وقرأ ابن عباس والضحاك وحفص بضم الياء وفتح النون وتشديد الشين، واختار القراءة الأولى أبو حاتم واختار الثانية أبو عبيدة، وقال الهروي: الفعل على القراءة الأولى لازم، وعلى الثانية متعد، والمعنى يربى ويكبر في الحلية.
(وهو في الخصام غير مبين) أي عاجز عن أن يقوم بأمر نفسه وإذا خوصم لا يقدر على إقامة حجته وتقرير دعواه، ودفع ما يجادله به خصمه لنقصان عقله، وضعف رأيه، وإضافة (غير) يمنع عمل ما بعدها في الجار المتقدم عليها. لأنها بمعنى النفي قال المبرد: تقدير الآية ويجعلون له من(12/335)
ينبت في الزينة، وإذا احتاج إلى مجاثاة الخصوم ومجاراة الرجال كان غير مبين ليس عنده بيان ولا يأتي ببرهان.
وفيه أنه جعل النشأة في الزينة من المعايب فعلى الرجل أن يجتنب ذلك ويتزين بلباس التقوى. قال قتادة: قلما تتكلم امرأة بحجتها إلا تكلمت بالحجة عليها، وقال ابن زيد والضحاك: الذي ينشأ في الحلية أصنامهم التي صاغوها من ذهب وفضة، قال ابن عباس في الآية هو النساء فرق بين زيهن وزي الرجال ونقصهن من الميراث ومن الشهادة، وأمرهن بالقعدة وسماهن الخوالف.(12/336)
وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ (19)
(وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثاً) الجعل هنا بمعنى القول والحكم على الشيء كما تقول: جعلت زيداً أفضل الناس أي قلت بذلك وحكمت له به أي سموهم وحكموا، وقالوا: إنهم إناث وجمعوا في كفرهم ثلاث كفرات وذلك أنهم نسبوا إلى الله الولد ونسبوا إليه أخس النوعين وجعلوا ملائكته المكرمين إناثاً فاستخفوا بهم قرأ الجمهور: عباد بالجمع، وبها قرأ ابن عباس وقرأ الباقون عند بنون ساكنة، واختار الأولى أبو عبيد لأن الإسناد فيها على، ولأن الله إنما كذبهم في قولهم إنهم بنات الله فأخبرهم بأنهم عباده.
قال النسفي: وهو ألزم في الحجاج مع أهل العناد لتضاد بين العبودية والولادة انتهى، ويؤيد هذه القراءة قوله (بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ) واختار أبو حاتم الثانية قال: وتصديق هذه القراءة قوله: (إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ) عن سعيد بن جبير قال كنت أقرأ هذا الحرف الذين هم عند الرحمن إناثاً فسألت ابن عباس فقال عباد الرحمن، قلت فإنها في مصحفي قال فامحها واكتبها عباد الرحمن ثم وبخهم وقرعهم فقال:
(أشهدوا خلقهم) أي أحضروا خلق الله إياهم فهو من الشهادة التي هي الحضور وفي هذا تهكم بهم، وتجهيل لهم، قرأ الجمهور: (ستكتب شهادتهم) بضم الفوقية وبناء الفعل للمفعول ورفع شهادتهم، وقرىء بالنون(12/336)
وبناء الفعل للفاعل، ونصب شهادتهم، وقرىء شهاداتهم بالجمع، والمعنى سنكتب هذه الشهادة التي شهدوا بها في ديوان أعمالهم، لنجازيهم على ذلك، قال البقاعي يجوز أن يكون في السين استعطاف إلى التوبة قبل كتابة ما قالوا ولا علم لهم به (ويسألون) عنها يوم القيامة في الآخرة، وهذا وعيد. قال سليمان الجمل وهذا يدل على أن القول بغير دليل منكر، وأن التقليد حرام يوجب الذم العظيم انتهى.(12/337)
وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (20)
(وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم) هذا فن آخر من فنون كفرهم بالله جاؤوا به للاستهزاء والسخرية، ومعناه لو شاء الرحمن في زعمكم عدم عبادة الملائكة ما عبدنا هذه الملائكة، فاستدلوا بنفي مشيئته عدم العبادة على امتناع النهي عنها، أو على حسنها، وذلك باطل لأن المشيئة ترجيح بعض الممكنات على بعض، مأموراً كان أو منهياً، حسناً كان أو غيره، وبالجملة هذا كلام حق يراد به باطل، وقد مضى بيانه في الأنعام، وتعلقت المعتزلة بظاهر هذه الآية في أن الله لم يشأ الكفر من الكافر، وإنما شاء الإيمان، فإن الكفار ادعوا أن الله شاء منهم الكفر، وما شاء منهم ترك عبادة الأصنام فرد الله عليهم قولهم واعتقادهم، وبين جهلهم بقوله:
(ما لهم بذلك) أي بما قالوه من أن الله لو شاء عدم عبادتهم للملائكة ما عبدوهم (من علم) بل تكلموا بذلك جهلاً، وأرادوا بما صورته صورة الحق باطلاً، وزعموا أنه إذا شاء فقد رضي. وقيل: الإشارة بذلك إلى قوله (وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثاً) قاله قتادة ومقاتل والكلبي، وقال مجاهد وابن جريج أي ما لهم بعبادة الأوثان من علم ثم بين انتفاء علمهم بقوله:
(إن هم إلا يخرصون) أي ما هم إلا يكذبون فيما قالوا ويتمحلون تمحلاً باطلاً، قال هنا (يخرصون) وفي الجاثية (يظنون)، هذا كذب فناسبه الخرص وما هناك صدق مخلوط بالكذب فناسبه الظن.(12/337)
أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (21) بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ (22) وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ (23)(12/338)
أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (21)
(أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ) أم هي المنقطعة بمعنى همزة الاستفهام الإنكاري أي أأعطيناهم كتاباً من قبل القرآن، بما ادعوه بأن يعبدوا غير الله وقيل إن الضمير في (من قبله) يعود إلى ادعائهم، أي أم آتيناهم كتاباً من قبل ادعائهم ينطق بصحة ما يدعونه؟ والأول أولى أو أم معادلة لقوله أشهدوا فتكون متصلة، والمعنى أحضروا أم آتيناهم كتاب الخ والأول أرجح وأولى، كما أفاده الشهاب (فهم به مستمسكون) يأخذون بما فيه ويحتجون به ويجعلونه لهم دليلاً.
ثم بين سبحانه أنه لا حجة بأيديهم ولا شبهة ولكنهم اتبعوا آباءهم في الضلالة فقال:(12/338)
بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ (22)
(بل قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة) أي على طريقة ومذهب، قال أبو عبيدة هي الطريقة والدين، وبه قال ابن عباس وقتادة وغيره قال الجوهري والأمة الطريقة والدين يقال فلان لا أمة له ولا نحلة أي لا دين له وقال الفراء وقطرب على قبلة. وقال الأخفش على استقامة قرأ الجمهور أمة بالضم، وقرىء بكسرها قال الجوهري والإمة بالكسر النعمة والإمة أيضاًً لغة في الأمة.
(وإنا) ماشون (على آثارهم مهتدون) بهم وكانوا يعبدون غير الله اعترفوا بأنه لا مستند لهم من حيث العيان ولا من حيث العقل ولا من حيث السمع والبيان سوى تقليد آبائهم قال الخازن جعلوا أنفسهم مهتدين باتباع(12/338)
آبائهم وتقليدهم من غير حجة انتهى؛ وعبارة أبي السعود لم يأتوا بحجة عقلية ولا نقلية، بل اعترفوا بأنه لا مستند لهم سوى تقليد آبائهم الجهلة مثلهم اهـ.
وقال هنا: مهتدون، وفيما بعده: مقتدون، لأن الأول وقع في محاجتهم النبي صلى الله عليه وسلم، وادعائهم أن آباءهم كانوا مهتدين، وأنهم مهتدون كآبائهم، فناسبه مهتدون والثاني وقع حكاية عن قوم ادعوا الاقتداء بالآباء دون الاهتداء، فناسبه مقتدون، أفاده الكرخي. ثم أخبر سبحانه أن غير هؤلاء من الكفار قد سبقهم إلى هذه المقالة، وقال بها فقال:(12/339)
وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ (23)
(وَكَذَلِكَ) أي الأمر كما ذكر من عجزهم عن الحجة وتمسكهم بالتقليد، وقوله (مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ) استئناف مبين لذلك، دال على أن التقليد فيما بينهم ضلال قديم، ليس لأسلافهم أيضاً مستند غيره، قاله أبو السعود، والمترفون الأغنياء والرؤساء والمتنعمون جمع مترف. اسم مفعول من أترف، وأترفته النعمة أطغته.
قال الكرخي: هذا تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ودلالة على أن التقليد في نحو ذلك ضلال قديم، وأن من تقدمهم أيضاًً لم يكن لهم مستند منظور إليه، وتخصيص المترفين للإِشعار بأن التنعم هو الذي أوجب البطر، وصرفهم عن النظر إلى التقليد انتهى. والأمة هي من الأم وهو القصد، فالأمة الطريقة التي تؤم أي تقصد، ومقتدون أي متبعون، قاله قتادة، قال النسفي: وهذه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم، وبيان أن تقليد الآباء داء قديم اهـ.
قال الرازي في تفسيره: لو لم يكن في كتاب الله إلا هذه الآيات لكفت في إبطال القول بالتقليد، وذلك لأنه تعالى بين أن هؤلاء الكفار لم يتمسكوا في إثبات ما ذهبوا إليه لا بطريق عقلي، ولا بدليل نقلي ثم بين أنهم إنما ذهبوا إليه بمجرد تقليد الآباء والأسلاف، وإنما ذكر تعالى هذه المعاني في(12/339)
معرض الذم والتهجين، وذلك يدل على أن القول بالتقليد باطل.
ومما يدل عليه أيضاًً من حيث العقل أن التقليد أمر مشترك فيه بين المبطل وبين المحق، وذلك لأنه كما حصل لهذه الطائفة قوم من المقلدة، فكذلك حصل لأضدادهم أقوام من المقلدة، فلو كان التقليد، طريقاً إلى الحق لوجب كون الشيء ونقيضه حقاً، ومعلوم أن ذلك باطل، وأنه تعالى بين أن الداعي إلى القول بالتقليد والحامل عليه إنما هو حب التنعم في طيبات الدنيا، وحب الكسل والبطالة، وبغض تحمل مشاق النظر والاستدلال، لقوله: (إلا قال مترفوها) والمترفون هم الذين أترفتهم النعمة، أي أبطرتهم، فلا يحبون إلا الشهوات والملاهي، ويبغضون تحمل المشاق في طلب الحق أهـ.
أقول وقد احتج جماعة من الفقهاء وأهل النظر على من أجاز التقليد بحجج نظرية عقلية، منها ما ذكره ابن القيم، وأنا أورده ههنا قال: يقال لمن حكم بالتقليد: هل لك من حجة فيما حكمت به؟ فإن قال: نعم بطل التقليد لأن الحجة أوجبت ذلك عنده لا التقليد، وإن قال: حكمت به بغير حجة، قيل له: فلم أرقت الدماء وأبحت الفروج وأتلفت الأموال وقد حرم الله ذلك إلا بحجة قال الله عز وجل.
(هل عندكم من سلطان بهذا) أي من حجة بهذا، فإذا قال أنا أعلم أني قد أصبت، وإن لم أعرف الحجة لأني قلدت كثيراً من العلماء، وهو لا يقول إلا بحجة خفيت على قيل له: إذا جاز تقليد معلمك لأنه لا يقول إلا بحجة خفيت عليك فتقليد معلم معلمك أولى، لأنه لا يقول إلا بحجة خفيت على معلمك، كما لم يقل معلمك إلا بحجة خفيت عليك. فإن قال نعم ترك تقليد معلمه إلى تقليد معلم معلمه، وكذلك من هو أعلى حتى ينتهي الأمر إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن أبى ذلك نقض قوله، وقيل له كيف يجوز تقليد من هو أصغر وأقل علماً؟ ولا(12/340)
يجوز تقليد من هو أكبر وأكثر علماً؟ وهذا تناقض، فإن قال لأن معلمي -وإن كان أصغر- فقد جمع علم من هو فوقه إلى علمه، فهو أبصر بما أخذ وأعلم بما ترك، قيل له وكذلك من تعلم من معلمك فقد جمع علم معلمك وعلم من فوقه إلى علمه فليلزمه تقليده، وترك تقليد معلمك وكذلك أنت أولى أن تقلد نفسك من معلمك لأنك جمعت علم معلمك وعلم من هو فوقه إلى علمك؛ فإن قلد قوله جعل الأصغر ومن يحدث من صغار العلماء أولى بالتقليد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك الصاحب عنده يلزمه تقليد التابع والتابع من دونه في قياس قوله، والأعلى للأدنى أبداً، وكفى بقول يؤول إلى هذا تناقضاً وفساداً.
قال أبو عمرو قال أهل العلم والنظر حد العلم التبيين، وإدراك المعلوم على ما هو به، فمن بأن له الشيء فقد علمه، قالوا والمقلد لا علم له، لم يختلفوا في ذلك، ومن ههنا والله أعلم قال البحتري:
عرف العالمون فضلك بالعلـ ... ـم قال الجهال بالتقليد
وأرى الناس مجمعين على فضـ ... ـلك من بين سيد ومسود
وقال أبو عبد الله بن خواز منداد البصري المالكي: التقليد معناه في الشرع الرجوع إلى قول لا حجة لقائله، وذلك ممنوع منه في الشريعة، والاتباع ما ثبت عليه حجة. وقال في موضع آخر من كتابه كل من اتبعت قوله من غير أن يجب عليك قبوله بدليل يوجب ذلك فأنت مقلده، والتقليد في دين الله غير صحيح وكل من أوجب الدليل عليك اتباع قوله فأنت متبعه، والاتباع في الدين مسوغ، والتقليد ممنوع اهـ.
قال ابن حارث: هذا والله الدين الكامل والعقل الراجح. لا كمن يأتي بالهذيان ويريد أن ينزل قوله من القلوب منزلة القرآن اهـ. ثم أمر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم، أن يرد عليهم فقال:(12/341)
قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (24) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (25)(12/342)
قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (24)
(قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ) أي أتتبعون آباءكم وتقلدونهم؟ ولو جئتكم بدين أهدى من دين آبائكم؟ قال الزجاج المعنى قل لهم أتتبعون ما وجدتم عليه آباءكم من الضلالة التي ليست من الهداية في شيء وإن جئتكم بأهدى منه؟ قرأ الجمهور قل وقرىء قال: وهو حكاية لما جرى بين المنذرين وقومهم، أي قال كل منذر من أولئك المنذرين لأمته، وقيل إن كلتا القراءتين حكاية لما جرى بين المنذرين وقومهم أي قال كل منذر من أولئك المنذرين لأمته المقلدين، كأنه قال لكل نبي قل بدليل قوله:
(قالوا إنا بما أرسلتم به كافرون) قال الشوكاني وهذا من أعظم الأدلة الدالة على بطلان التقليد وقبحه، فإن هؤلاء المقلدة في الإسلام إنما يعملون بقول أسلافهم، ويتبعون آثارهم، ويقتدون بهم فإذا رام الداعي إلى الحق أن يخرجهم من ضلالة أو يدفعهم عن بدعة قد تمسكوا بها، وورثوها عن أسلافهم بغير دليل نير، ولا حجة واضحة، بل لمجرد قيل وقال، لشبهة داحضة، وحجة زائفة، ومقالة باطلة، قالوا بما قاله المترفون من هذه الملل (إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ) أو بما يلاقي معناه معنى ذلك.
فإن قال لهم الداعي إلى الحق قد جمعتنا الملة الإسلامية وشملنا هذا الدين المحمدي، ولم يتعبدنا الله ولا تعبدكم ولا آباءكم من قبلكم إلا بكتابة الذي أنزله على رسوله، وبما صح عن رسوله صلى الله عليه وسلم، فإنه(12/342)
المبين لكتاب الله، الموضح لمعانيه، الفارق بين محكمه ومتشابهه، فتعالوا نرد ما تنازعنا فيه إلى كتاب الله وسنة رسوله، كما أمرنا الله بذلك في كتابه بقوله:
(فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول) فإن الرد إليهما أهدى لنا ولكم من الرد إلى ما قاله أسلافكم ودرج عليه آباؤكم، نفروا نفور الوحش، ورموا الداعي لهم إلى ذلك بكل حجر ومدر، كأنهم لم يسمعوا قول الله سبحانه (إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا) ولا قوله (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا).
فإن قال لهم القائل: هذا العالم الذي تقتدون به وتتبعون أقواله هو مثلكم في كونه متعبداً بكتاب الله وسنة رسوله، مطلوباً منه ما هو مطلوب منكم، وإذا عمل برأيه عند عدم وجدانه للدليل، فذلك رخصة له، لا يحل أن يتبعه غيره عليها، ولا يجوز له العمل بها، وقد وجد الدليل الذي لم يجده، وها أنا أوجدكموه في كتاب الله، أو فيما صح من سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وذلك أهدى لكم مما وجدتم عليه آباءكم، قالوا: لا نعمل بهذا، ولا سمع لك ولا طاعة، ووجدوا في صدورهم أعظم الحرج من حكم الكتاب والسنة، ولم يسلموا لذلك ولا أذعنوا له.
وقد وهب لهم الشيطان عصا يتوكأون عليها عند أن يستمعوا من يدعوهم إلى الكتاب والسنة، وهي أنهم يقولون: إن إمامنا الذي قلدناه واقتدينا به أعلم منك بكتاب الله وسنة رسوله، وذلك لأن أذهانهم قد تصورت من يقتدون به تصوراً عظيماً بسبب تقدم العصر وكثرة الأتباع، وما علموا أن هذا منقوض عليهم مدفوع به في وجوههم.
فإنه لو قيل لهم: إن في التابعين من هو أعظم قدراً وأقدم عصراً من صاحبكم، فإن كان لتقدم العصر وجلالة القدر مزية توجب الاقتداء فتعالوا(12/343)
حتى أريكم من هو أقدم عصراً وأجل قدراً، فإن أبيتم ذلك ففي الصحابة رضي الله عنهم من هو أعظم قدراً من صاحبكم علماً وفضلاً وجلالة قدر، فإن أبيتم ذلك فها أنا أدلكم على من هو أعظم قدراً وأجل خطراً، وأكثر أتباعاً، وأقدم عصراً، وهو محمد بن عبد الله نبينا ونبيكم صلى الله عليه وسلم، ورسول الله إلينا وإليكم، فتعالوا فهذه سنته موجودة في دفاتر الإسلام ودواوينه التي تلقتها جميع هذه الأمة قرناً بعد قرن، وعصراً بعد عصر، وهذا كتاب ربنا خالق الكل، ورازق الكل، وموجد الكل، بين أظهرنا، موجود في كل بيت، وبيد كل مسلم، لم يلحقه تغيير ولا تبديل، ولا زيادة ولا نقص، ولا تحريف ولا تصحيف، ونحن وأنتم ممن يفهم ألفاظه، ويتعقل معانيه، فتعالوا لنأخذ الحق من معدنه، ونشرب صفو الماء من منبعه، فهو مما وجدتم عليه آباءكم.
قالوا: لا سمع ولا طاعة، إما بلسان القال أو بلسان الحال، فتدبر هذا وتأمله إن بقي فيك بقية من إنصاف وشعبة من خير، ومزعة من حياء، وحصة من دين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وقد أوضحت هذا غاية الإيضاح في كتابي الذي سميته أدب الطلب ومنتهى الأرب انتهى. وقد أوضحه الحافظ ابن القيم في إعلام الموقعين عن رب العالمين فأرجع إليهما إن رمت أن تنجلي عنك ظلمات التعصب، وتنقشع لك سحائب التقليد.(12/344)
فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (25)
(فانتقمنا منهم) وذلك الانتقام ما أوقعه الله بقوم نوح وعاد وثمود بما استحقوه على اصرارهم على التقليد (فانظر كيف كان عاقبة المكذبين) للأنبياء من تلك الأمم. فإن آثارهم موجودة، ولا تكترث بتكذيب قومك لك، ثم لما بين في الآية المتقدمة أنه ليس لأولئك الكفار داع يدعوهم إلى تلك الأقاويل الباطلة إلا تقليد الآباء والأسلاف، وبين أنه طريق باطل، ومنهج فاسد، وأن الرجوع إلى الدليل أولى من الاعتماد على التقليد، أردفه بهذه الآية:(12/344)
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (27) وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (28) بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ (29) وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ (30) وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31)(12/345)
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26)
(وإذا قال إبراهيم) الذي هو أعظم آبائهم، ومحط فخرهم، والمجمع على محبته وحقية دينه منهم ومن غيرهم (لأبيه) أي واذكر لهم وقت قوله لأبيه من غير أن يقلده، كما قلدتم أنتم آباءكم (وقومه) أي الذين قلدوا آباءهم، وعبدوا الأصنام.
(إنني براء مما تعبدون) تبرأ مما هم عليه وتمسك بالبرهان، ليسلكوا مسلكه في الاستدلال، والبراء مصدر نعت به للمبالغة، وهو يستعمل للواحد والمثنى والمجموع والمذكر والمؤنث، وقال الجوهري: وتبرأت من كذا وأنا منه براء وخلاء لا يثنى ولا يجمع، لأنه مصدر في الأصل وبه قال الكسائي والمبرد والزجاج، ثم استثنى خالقه من البراءة فقال:(12/345)
إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (27)
(إلا الذي فطرني) أي خلقني، والاستثناء منقطع أي لكن الذي فطرني أو متصل من عموم (ما) لأنهم كانوا يعبدون الله والأصنام، أو إلا صفة بمعنى غير، وما نكرة موصوفة، قاله الزمخشري (فإنه سيهدين) أي سيرشدني لدينه، ويوفقني لطاعته، ويثبتني على الحق، وإخباره بأنه سيهديه جزماً لثقته بالله سبحانه، وقوة يقينه، والأوجه أن السين للتأكيد دون التسويف، وصيغة المضارع للدلالة على الاستمرار.(12/345)
وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (28)
(وجعلها كلمة باقية في عقبه) الضمير في جعلها عائد إلى قوله إلا الذي فطرني، وهي بمعنى التوحيد كأنه قال: وجعل كلمة التوحيد باقية في عقب إبراهيم، وهم ذريته، فلا يزال فيهم من يوحد الله، وفاعل جعلها(12/345)
إبراهيم، وذلك حيث وصاهم بالتوحيد، وأمرهم أن يدينوا به، كما في قوله: (ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب) الآية، وقيل: الفاعل هو الله عز وجل، أي وجعل الله سبحانه كلمة التوحيد باقية في عقب إبراهيم، والعقب من بعد، قال مجاهد وقتادة. الكلمة لا إله إلا الله، لا يزال من عقبه من يعبد الله إلى يوم القيامة، ويوحده ويدعو إلى توحيده وقال عكرمة: هي الإِسلام، قال ابن زيد: الكلمة هي قوله (أسلمت لرب العالمين) قال ابن عباس: كلمة باقية لا إله إلا الله وعقب إبراهيم ولده.
(لعلهم يرجعون) تعليل للجعل أي جعلها باقية رجاء أن يرجع إليها من يشرك منهم بدعاء من يوحد، وقيل: الضمير في لعلهم يرجع إلى أهل مكة أي لعل أهلها يرجعون إلى دينك الذي هو دين إبراهيم، وقيل: في الكلام تقديم وتأخير، والتقدير فإنه سيهدين لعلهم يرجعون وجعلها الخ، قال السدي: لعلهم يتوبون فيرجعون عما هم عليه إلى عبادة الله، قال الرازي في تفسيره.
والمقصود من هذه الآية ذكر وجه آخر يدل على فساد القول بالتقليد، وتقريره من وجهين، الأول أنه تعالى حكى عن إبراهيم عليه السلام أنه تبرأ عن دين آبائه بناء على الدليل، فنقول: إما أن يكون تقليد الآباء في الأديان محرماً أو جائزاً فإن كان محرماً فقد بطل القول بالتقليد، وإن كان جائزاً فمعلوم أن أشرف آباء العرب هو إبراهيم عليه السلام، وذلك لأنه ليس لهم فخر ولا شرف إلا بأنهم من أولاده، وإذا كان كذلك فتقليد هذا الأب الذي هو أشرف الآباء أولى من تقليد سائر الآباء وإذا ثبت أن تقليده أولى من تقليد غيره فنقول: إنه ترك دين الآباء وحكم بأن اتباع الدليل أولى من متابعة الآباء، وإذا كان كذلك وجب تقليده في ترك تقليد الآباء، ووجب تقليده في ترجيح الدليل على التقليد.(12/346)
وإذا ثبت هذا فنقول: فقد ظهر أن القول بوجوب التقليد يوجب المنع من التقليد، وما أفضى ثبوته إلى نقله كان باطلاً، فوجب أن يكون القول بالتقليد باطلاً، فهذا طريق دقيق في إبطال التقليد، وهو المراد من هذه الآية، الوجه الثاني في بيان أن ترك التقليد والرجوع إلى متابعة الدليل أولى في الدنيا والدين، أنه تعالى بين أن إبراهيم عليه السلام لما عدل عن طريقة أبيه إلى متابعة الدليل، لا جرم جعل الله دينه ومذهبه باقياً في عقبه إلى يوم القيامة، وأما أديان آبائه فقد اندرست وبطلت، فثبت أن الرجوع إلى متابعة الدليل يبقى محمود الأثر إلى قيام الساعة، وأن التقليد والإصرار ينقطع أثره ولا يبقى منه في الدنيا خبر، ولا أثر، فثبت من هذين الوجهين أن متابعة الدليل، وترك التقليد أولى، فهذا بيان المقصود الأصلي من هذه الآية انتهى.
ثم ذكر سبحانه نعمته على قريش، ومن وافقهم من الكفار المعاصرين لهم فقال:(12/347)
بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ (29)
(بل متعت هؤلاء) أي أهل مكة عقب إبراهيم (وَآبَاءَهُمْ) أضرب سبحانه عن الكلام الأول إلى ذكر ما متعهم به من الأنفس والأهل والأموال، والمد في الأعمار، وأنواع النعم، وسلامة الأبدان من البلايا والنقم، وما متع به آباءهم ولم يعاجلهم بالعقوبة فاغتروا بالمهلة، وأنكبوا على الشهوات، وشغلوا بالتنعم عن كلمة التوحيد، وبطروا وتمادوا على الباطل.
(حتى جاءهم الحق) يعني القرآن (ورسول مبين) يعني محمداً صلى الله عليه وسلم، ظاهر الرسالة واضحها، أو مبين لهم ما يحتاجون إليه من أمر الدين، فلم يجيبوه ولم يعملوا بما أنزل عليه، وفي هذه الغاية خفاء بيّنة في الكشاف وشروحه، وهو أن ما ذكر ليس غاية للتمتيع، إذ لا مناسبة بينهما مع أن مخالفة ما بعدها لما قبلها غير مرعي فيها.
والجواب أن المراد بالتمتيع ما هو سببه من اشتغالهم به عن شكر(12/347)
المنعم، فكأنه قال: اشتغلوا به حتى (جاءهم الحق ورسول مبين) وهو غاية في نفس الأمر لأنه مما ينبههم ويزجرهم، لكنهم لطغيانهم عكسوا، فهو كقوله: (وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ) أفاده الشهاب ثم بين سبحانه ما صنعوه عند مجيء الحق فقال:(12/348)
وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ (30)
(ولما جاءهم الحق قالوا هذا سحر وإنا به كافرون) أي جاحدون فسموا القرآن سحراً وجحدوه واستحقروا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووجه النظم أنهم لما عولوا على تقليد الآباء والأسلاف لم يتفكروا في الدليل واغتروا بطول الإمهال، وامتاع الله إياهم بنعيم الدنيا فأعرضوا عن الحق والغرض بهذا الكلام توبيخ المقلد المسيء.(12/348)
وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31)
(وقالوا) متحكمين بالباطل (لولا) هلا (نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم) أي رجل عظيم من إحدى القريتين كقوله (يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان) أي من أحدهما، والمراد بهما مكة والطائف، قاله ابن عباس، وبالرجلين الوليد بن المغيرة من مكة، وعروة بن مسعود الثقفي من الطائف، كذا قال قتادة وغيره: وقال مجاهد وغيره عتبة بن ربيعة من مكة وعمير بن عبد ياليل الثقفي من الطائف، وقال ابن عباس، عمير بن مسعود وخيار قريش، وقال أيضاً العظيم الوليد بن المغيرة القرشي وحبيب بن عمير الثقفي، وعنه قال: يعنون أشرف من محمد الوليد بن المغيرة من أهل مكة ومسعود الثقفي من أهل الطائف، وقيل غير ذلك، وظاهر النظم أن المراد رجل من إحدى القريتين عظيم الجاه، واسع المال، مسود في قومه، والمعنى أنه لو كان قرآنا لنزل على رجل من عظماء القريتين، فهؤلاء المساكين قالوا منصب رسالة الله منصب شريف، فلا يليق إلا برجل شريف، وقد صدقوا في ذلك إلا أنهم ضموا إليه مقدمة فاسدة، وهي أن الرجل الشريف عندهم هو الذي يكون كثير المال والجاه، ومحمد صلى الله عليه وسلم، ليس كذلك، فأجاب الله سبحانه عليهم بقوله:(12/348)
أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (32) وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ (33) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ (34)(12/349)
أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (32)
(أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ) يعني النبوة أو ما هو أعم منها والاستفهام للإنكار المستقل بالتجهيل والتعجيب من تحكمهم في اختيار من يصلح للنبوة وترسم هذه التاء مجرورة اتباعا لرسم المصحف الإمام كما نص عليه ابن الجزري ثم بين أنه سبحانه هو الذي قسم بينهم ما يعيشون به من أمور الدنيا فقال:
(نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا) أي نحن أوقعنا هذا التفاوت بين العباد، فجعلنا هذا غنياً وهذا فقيراً، وهذا مالكاً، وهذا مملوكاً، وهذا قوياً، وهذا ضعيفاً، ولم نفوض ذلك إليهم، وليس لأحد من العباد أن يتحكم في شيء بل الحكم لله وحده، وإذا كان الله سبحانه هو الذي قسم بينهم أرزاقهم فكيف لا يقنعون بقسمته في أمر النبوة؟ وتفويضها إلى من يشاء من خلقه؟ قال مقاتل: يقول بأيديهم مفاتيح الرسالة فيضعونها حيث شاؤوا، قرأ الجمهور معيشتهم الإفراد، وقرأ ابن عباس ومجاهد وابن محيصن معايشهم بالجمع.
(و) معنى (رفعنا بعضهم فوق بعض درجات) أنه فاضل بينهم فجعل بعضهم أفضل من بعض في الدنيا بالرزق والرياسة والقوة والحرية والعقل والعلم، ثم ذكر العلة لرفع درجات بعضهم على بعض فقال:(12/349)
(ليتخذ بعضهم بعضاً سخرياً) أي ليستخدم بعضهم بعضاً فيستخدم الغني الفقير، والرئيس المرؤوس والقوي الضعيف، والحر العبد، والعاقل من دونه في العقل والعالم الجاهل وهذا في غالب أحوال أهل الدنيا، وبه تتم مصالحهم وينتظم معاشهم، ويصل كل واحد منهم إلى مطلوبه، فإن كل صناعة دنيوية يحسنها قوم دون آخرين فجعل البعض محتاجاً إلى البعض لتحصل المواساة بينهم في متاع الدنيا ويحتاج هذا إلى هذا ويصنع هذا لهذا ويعطي هذا هذا.
وقال السدي وابن زيد سخرياً خولاً وخدماً، يسخر الأغنياء الفقراء، فيكون بعضهم سبباً لمعاش بعض، وقال قتادة والضحاك: ليملك بعضهم بعضاً، وقيل هو من السخرية التي بمعنى الاستهزاء، قال الأخفش سخرت به، وسخرت منه، وضحكت به، وضحكت منه، وهزأت به، وهزأت منه، وهذا وإن كان مطابقاً للمعنى اللغوي لكنه بعيد من معنى القرآن، ومناف لما هو مقصود السياق، وعلى هذا القول تكون اللام للصيرورة والعاقبة، لا للعلة والسببية.
(وَرَحْمَتُ رَبِّكَ) يعني بالرحمة ما أعده الله لعباده الصالحين في الدار الآخرة. وقيل هي النبوة لأنها المرادة بالرحمة المتقدمة في قوله (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ) ولا مانع من أن يراد كل ما يطلق عليه اسم الرحمة إما شمولاً أو بدلاً (خير مما يجمعون) أي مما يجمعونه من الأموال وسائر متاع الدنيا لأن الدنيا على شرف الزوال والإنقراض وفضل الله ورحمته تبقى أبد الآبدين، ثم بين سبحانه حقارة الدنيا عنده فقال:(12/350)
وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ (33)
(ولولا أن يكون الناس أمة واحدة) أي لولا أن يجتمعوا على الكفر ميلاً إلى الدنيا وزخرفها أو يرغبوا فيه إذا رأوا الكفار في سعة وتنعم (لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفاً من فضة) جمع الضمير في بيوتهم وأفرده في (يكفر) باعتبار معنى من ولفظها ولبيوتهم بدل اشتمال من(12/350)
الموصول واللام للاختصاص، والسقف جمع سقف قرأ الجمهور بضم السين والقاف كرهن ورهن، قال أبو عبيدة ولا ثالث لهما، وقال الفراء. هو جمع سقيف نحو كثيب وكثب ورغيف ورغف وقيل: هو جمع سقوف، فيكون جمعاً للجمع، وقرىء بفتح السين وإسكان القاف على الإفراد، ومعناه الجمع لكونه الجنس قال الحسن: معنى الآية لولا أن يكفر الناس جميعاً بسبب ميلهم إلى الدنيا وتركهم الآخرة لأعطيناهم في الدنيا ما وصفناه لهوان الدنيا عندنا وقال بهذا أكثر المفسرين.
وقال ابن زيد لولا أن يكون الناس أمة واحدة في طلب الدنيا واختيارهم لها على الآخرة، وقال الكسائي المعنى لولا أن يكون في الكفار غني وفقير وفي المسلمين مثل ذلك لأعطينا الكفار من الدنيا لهوانها.
(ومعارج) كالدرج من فضة، جمع معرج بفتح الميم وكسرها، وسميت المصاعد من الدرج المعارج، لأن المشي عليها مثل مشي الأعرج ومعاريج جمع معراج، والمعراج السلم، وهي لغة بعض تميم وهذا كمفاتح جمع مفتح، ومفاتيح جمع مفتاح قال الأخفش إن شئت جعلت الواحدة معرج ومعرج مثل مرقا ومرقا والمعنى جعلنا لهم معارج من فضة.
(عليها) أي على المعارج (يظهرون) يرتقون ويصعدون يقال: ظهرت على البيت أي علوت سطحه(12/351)
وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ (34)
(ولبيوتهم أبواباً وسرراً) أي وجعلنا لبيوتهم أبواباً من فضة وسرراً من فضة وتكرير لفظ البيوت لزيادة التقرير (عليها) أي على السرر، وهو جمع سرير، وقيل جمع أسرة فيكون جمعاً للجمع (يتكئون) الإتكاء والتوكؤ التحامل على الشيء ومنه (أتوكأ عليها) واتكأ على الشيء فهو متكىء والموضع متكأ.(12/351)
وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (35) وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37) حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (38)(12/352)
وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (35)
(وَزُخْرُفًا) أي وجعلنا لهم زخرفاً ليجعلوه في السقف والمعارج والأبواب والسرر، ليكون بعض كل منها من فضة، وبعضه من ذهب، لأنه أبلغ في الزينة، وقيل: النصب بنزع الخافض أي أبواباً وسرراً من فضة ومن ذهب فلما حذف الخافض انتصب، والزخرف الذهب، وقيل: الزينة أعم من أن يكون ذهباً أو غيره، قال ابن زيد هو ما يتخذه الناس في منازلهم من الأمتعة والأثاث، وقال الحسن: النقوش، وأصله الزينة، يقال: زخرفت الدار زينتها، وتزخرف فلان أي تزين، قال ابن عباس في الآية: يقول لولا أن نفعل الناس كلهم كفاراً لجعلنا لبيوت الكفار سقفاً من فضة، ومعارج من فضة، وهي درج عليها يصعدون إلى الغرف وسرر فضة وزخرفاً وهو الذهب.
وأخرج الترمذي وصححه، وابن ماجة عن سهل بن سعد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء " وعن المسور بن شداد قال: كنت في الركب الذين وقفوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على السخلة الميتة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أترون هذه هانت على أهلها حين ألقوها؟ قالوا: من هوانها ألقوها يا رسول الله، قال: فإن(12/352)
الدنيا أهون على الله من هذه الشاة على أهلها " أخرجه الترمذي وحسنه، وعن قتادة بن النعمان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إذا أحب الله عبداً حماه من الدنيا كما يظل أحدكم يحمي سقيمه الماء " أخرجه الترمذي وقال حسن غريب.
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. " الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر " أخرجه مسلم، قال البقاعي: ولا يبعد أن يكون ما صار إليه الفسقة والجبابرة من زخرفة الأبنية وتذهيب السقوف وغيرها من مبادىء الفتنة بأن يكون الناس أمة واحدة في الكفر قرب الساعة، حتى لا تقوم الساعة على من يقول: الله، أو في زمن الدجال، لأن من يبقى إذ ذاك على الحق في غاية القلة بحيث إنه لا عداد له في جانب الكفرة لأن كلام الملوك لا يخلو عن حقيقة، وإن خرج مخرج الشرط فكيف بملك الملوك سبحانه ثم أخبر سبحانه أن جميع ذلك إنما يتمتع به في الدنيا فقال:
(وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا) قرأ الجمهور لما بالتخفيف، وقرىء بالتشديد، فعلى الأولى إن هي المخففة من الثقيلة، وعلى الثانية هي النافية، ولما بمعنى إلا ما كل ذلك إلا ما يتمتع به في الدنيا، وقرىء بكسر اللام من لما على أن اللام للعلة، وما موصولة، والعائد محذوف، أي للذي هو متاع (والآخرة) أي الجنة (عند ربك للمتقين) أي لمن اتقى الشرك والمعاصي وآمن بالله وحده، وعمل بطاعته، وترك الدنيا وآثر الآخرة فإنها الباقية التي لا تفنى، ونعيمها الدائم الذي لا ينقطع.(12/353)
وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36)
(ومن يعش) يقال عشوت إلى النار قصدتها وعشوت عنها أي أعرضت عنها، كما تقول: عدت إلى فلان وعدلت عنه، أي ملت إليه(12/353)
وملت عنه كذا قال الفراء والزجاج وأبو الهيثم والأزهري، وقال الخليل: العشو النظر الضعيف، وقال أبو عبيدة والأخفش. إن معنى (ومن يعش) ومن تظلم عينه وهو نحو قول الخليل، وهذا على قراءة الجمهور من يعش بضم الشين من عشا يعشو، وقرىء بفتح الشين يقال: عشى الرجل يعشى عشا إذا عمى، وقال الجوهري: العشا مقصور مصدر الأعشى وهو الذي لا يبصر بالليل ويبصر بالنهار، والمرأة عشوى، وقرىء يعشو بالواو على أن من موصولة غير متضمنة معنى الشرط.
والمعنى ومن يعرض ويتعامى ويتجاهل ويتغافل (عن ذكر الرحمن) ولم يخف عقابه ولم يرد ثوابه، وقيل: يول ظهره عن القرآن (نقيض له شيطاناً) قرأ الجمهور بالنون، وقرى بالتحتية مبنياً للفاعل، وقرأ ابن عباس بالتحتية مبنياً للمفعول، ورفع شيطان على النيابة والمعنى نسبي له جزاء على كفره شيطاناً.
(فهو له قرين) أي ملازم له في الدنيا، يمنعه من الحلال ويبعثه على الحرام وينهاه عن الطاعة ويأمره بالمعصية ولا يفارقه. وقيل في الآخرة إذا قام من قبره قاله سعيد الجريري وقيل: فيهما قال القشيري: وهو الصحيح أو هو ملازم للشيطان لا يفارقه بل يتبعه في جميع أموره ويطيعه في كل ما يوسوس به إليه وقال الزجاج معنى الآية أن من أعرض عن القرآن وما فيه من الحكم إلى أباطيل المضلين يعاقبه الله بشيطان يقيضه له حتى يضله ويلازمه قريناً فلا يهتدي مجازاة له حين آثر الباطل على الحق البيِّن.
أخرج ابن أبي حاتم عن محمد بن عثمان المخزومي " أن قريشاً قالت قيضوا لكل رجل من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم رجلاً يأخذه فقيضوا لأبي بكر طلحة ابن عبيد الله فأتاه وهو في القوم فقال أبو(12/354)
بكر: إلام تدعوني؟ قال أدعوك إلى عبادة اللات. والعزى، قال أبو بكر وما اللات؟ قال أولاد الله قال وما العزى؟ قال بنات الله قال أبو بكر فمن أمهم؟ فسكت طلحة فلم يجبه فقال لأصحابه أجيبوا الرجل فسكت القوم فقال طلحة قم يا أبا بكر أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله فأنزل الله هذه الآية " وثبت في صحيح مسلم وغيره أن مع كل مسلم قرين من الجن.(12/355)
وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37)
(وإنهم) أي وإن الشياطين الذين يقيضهم الله لكل أحد ممن يعشو عن ذكر الرحمن كما هو معنى من (ليصدونهم عن السبيل) أي يحولون بينهم وبين سبيل الحق ويمنعونهم منه ويوسوسون لهم أنهم على الهدى حتى يظنوا صدق ما يوسوسون به، وهو معنى قوله:
(ويحسبون أنهم) أي يحسب الكفار أن الشياطين (مهتدون) فيطيعونهم أو يحسب الكفار بسبب تلك الوسوسة أنهم في أنفسهم مهتدون، وصيغة المضارع في الأفعال الأربعة للدلالة على الاستمرار التجددي لقوله:(12/355)
حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (38)
(حتى إذا جاءنا) فإن حتى وإن كانت ابتدائية داخلة على الجملة الشرطية لكنها تقتضي حتماً أن تكون غاية لأمر ممتد، كما مر مراراً، قاله أبو السعود قرأ الجمهور بالتثنية أي الكافر والشيطان المقارن له، وقرىء بالإفراد أي الكافر أو كل واحد منهما.
(قال) الكافر مخاطباً للشيطان: (يا ليت) كان في الدنيا (بيني وبينك بعد المشرقين) أي بعد ما بين المشرق والمغرب، فغلب المشرق على المغرب، قال مقاتل: يتمنى الكافر أن بينهما بعد مشرق أطول يوم في السنة من مشرق أقصر يوم في السنة والأول أولى وبه قال الفراء (فبئس القرين) أي أنت أيها الشيطان.(12/355)
وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (39) أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (40) فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ (41) أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ (42) فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (43) وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ (44) وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (45)(12/356)
وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (39)
(ولن ينفعكم اليوم) هذا حكاية لما سيقال لهم يوم القيامة (إذ ظلمتم) أي لأجل ظلمكم أنفسكم في الدنيا، وقيل: إن إذ بدل من اليوم لأنه تبين ذلك في اليوم أنهم ظلموا أنفسهم في الدنيا (أنكم في العذاب مشتركون) قرأ الجمهور بفتح إن على أنها وما بعدها في محل رفع على الفاعلية، أي لن ينفعكم اليوم اشتراككم في العذاب، قال المفسرون لا يخفف عنهم بسبب الاشتراك شيء من العذاب، لأن لكل أحد من الكفار والشياطين الحظ الأوفر منه وقيل إنها للتعليل لنفي النفع، أي لن ينفعكم الاعتذار والندم اليوم، فأنتم وقرناؤكم اليوم مشتركون في العذاب كما كنتم مشتركين في سببه في الدنيا ويقوي هذا المعنى قراءة إن بالكسر.
ثم ذكر سبحانه أنها لا تنفع الدعوة والوعظ من سبقت له الشقاوة فقال(12/356)
أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (40)
(أفأنت تسمع الصم أو تهدي العمي) الهمزة لإنكار التعجب أي ليس لك ذلك فلا يضيق صدرك إن كفروا، وفيه تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وإخبار له بأنه لا يقدر على ذلك إلا الله عز وجل.
(ومن كان في ضلال مبين) عطف على العمي للتغاير العنواني، وإلا فالمصداق واحد، أي إنك لا تهدي من كان كذلك، ومعنى الآية أن هؤلاء الكفار بمنزلة الصم الذين لا يعقلون ما جئت به، وبمنزلة العمي(12/356)
الذين لا يبصرون لإفراطهم في الضلالة وتمكنهم من الجهالة.(12/357)
فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ (41)
(فإما نذهبن بك) بالموت قبل أن ننزل بهم العذاب، وقيل: المعنى نخرجنك من مكة (فإنا منهم منتقمون) إما في الدنيا أو في الآخرة، قال علي كرم الله وجهه: ذهب الله بنبيه صلى الله عليه وسلم وبقيت نقمته في عدوه(12/357)
أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ (42)
(أو نرينك الذي وعدناهم) من العذاب قبل موتك (فإنا عليكم مقتدرون) متى شئنا عذبناهم.
قال كثير من المفسرين قد أراه ذلك يوم بدر وبه قال ابن عباس وقال الحسن وقتادة: هي في أهل الإسلام يريد ما كان بعد النبي صلى الله عليه وسلم من الفتن، وقد كان بعد النبي صلى الله عليه وسلم فتنة شديدة فأكرم الله نبيه صلى الله عليه وسلم وذهب به فلم يره في أمته شيئاًً من ذلك والأول أولى.(12/357)
فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (43)
(فاستمسك بالذي أوحي إليك) من القرآن وإن كذب به من كذب (إنك على صراط مستقيم) أي طريق واضح تعليل للإستمساك أو للأمر به (وأنه) أي وإن القرآن (لذكر لك ولقومك) أي شرف لك ولقريش إذ نزل عليك وأنت منهم بلغتك ولغتهم، ومثله قوله:
(لقد أنزلنا إليكم كتاباً فيه ذكركم) وقيل بيان لك ولأمتك فيما لكم حاجة، وقيل تذكره تذكرون بها أمر الدين وتعملون به، وعن علي وابن عباس قالا: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرض نفسه على القبائل بمكة ويعدهم الظهور، فإذا قالوا لمن الملك بعدك أمسك فلم يجبهم بشيء لأنه لا يؤمر في ذلك بشيء حتى نزلت(12/357)
وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ (44)
(وإنه لذكر لك ولقومك) فكان إذا سئل بعد قال لقريش فلا يجيبوه حتى قبلته الأنصار على ذلك ".
وعن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي منهم اثنان " أخرجه الشيخان، وعن معاوية قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " إن هذا الأمر في(12/357)
قريش لا يعاديهم أحد إلا أكبه الله تعالى على وجهه، ما أقاموا الدين " أخرجه البخاري.
(وسوف تسألون) عما جعله الله لكم من الشرف، كذا قال الزجاج والكلبي وغيرهما، وقيل يسألون عما يلزمهم من القيام بما فيه والعمل به وعن تعظيمهم له، وشكرهم لهذه النعمة يوم القيامة.(12/358)
وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (45)
(واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن) أي غيره (آلهة يعبدون) قال الزهري وسعيد بن جبير وابن زيد أن جبريل قال ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم لما أسرى به فالمراد سؤال الأنبياء في ذلك الوقت عند ملاقاته لهم، وبه قال جماعة من السلف.
وقال المبرد والزجاج وجماعة من العلماء إن المعنى واسأل أمم من قد أرسلنا وبه قال ابن عباس ومجاهد والسدي والضحاك وقتادة وعطاء والحسن، وفائدة إيقاع السؤال على الرسل مع أن المراد أممهم التنبيه على أن المسؤول عنه عين ما نطقت به ألسنة الرسل، لا ما تقوله علماؤهم من تلقاء أنفسهم، وعلى الأول هي مكية، وعلى الثاني مدنية.
ومعنى الآية على القولين سؤالهم هل أذن الله بعبادة الأوثان في ملة من الملل؟ وهل سوغ ذلك لأحد منهم؟ والمقصود تقريع مشركي قريش بأن ما هم عليه لم يأت في شريعة من الشرائع. وقيل ليس المراد بسؤال الرسل حقيقة السؤال ولكنه مجاز عن النظر في أديانهم، والفحص عن مللهم، هل جاءت عبادة الأوثان قط في ملة من ملل الأنبياء؟ وكفاه فحصاً ونظره في كتاب الله المعجز المصدق لما بين يديه، وإخبار الله فيه بأنهم يعبدون من دون الله ما لم ينزل به سلطاناً، وهذه الآية في نفسها كافية لا حاجة إلى غيرها.
ولما أعلم الله سبحانه نبيه بأنه منتقم له من عدوه وذكر اتفاق الأنبياء على التوحيد، أتبعه بذكر قصة موسى وفرعون، وبيان ما نزل بفرعون وقومه من النقمة فقال:(12/358)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (46) فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِآيَاتِنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ (47) وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (48) وَقَالُوا يَا أَيُّهَ السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ (49) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (50) وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ (51)(12/359)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (46)
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا) التسع التي تقدم بيانها (إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ) أي القبط (فقال إني رسول رب العالمين) أرسلني إليكم ما أجابوه به عند قوله هذا محذوف دل عليه قوله(12/359)
فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِآيَاتِنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ (47)
(فلما جاءهم بآياتنا) وهو مطالبتهم إياه بإحضار البينة على دعواه وإبراز الآية (إذا هم منها يضحكون) استهزاء وسخرية وجواب لما هو إذا الفجائية لأن التقدير فاجأوا وقت ضحكهم.(12/359)
وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (48)
(وما نريهم من آية إلا هي أكبر من أختها) أي كل واحدة من آيات موسى أكبر مما قبلها وأعظم قدراً مع كون التي قبلها عظيمة في نفسها وقيل المراد بهذا الكلام أنهن موصوفات بالكبر ولا يكدن يتفاوتن فيه وعليه كلام الناس هما أخوان كل واحد منهما أكبر من الآخر وقيل المعنى إن الأولى تقتضي علماً والثانية تقتضي علماً فإذا ضمت الثانية إلى الأولى ازداد الوضوح ومعنى الأخوة بين الآيات أنها متشاكلة متناسبة في دلالتها(12/359)
على صحة نبوة موسى كما يقال هذه صاحبة هذه أي هما قرينتان في المعنى وقيل المعنى أن كل واحدة من الآيات إذا انفردت ظن الظان أنها أكبر من سائر الآيات.
(وأخذناهم) بسبب تكذيبهم بتلك الآيات (بالعذاب) أي بالسنين والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم والطمس، كما قال تعالى (ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين) الآية، ثم بين سبحانه أن العلة في أخذه لهم بالعذاب هو رجاء رجوعهم، فقال: (لعلهم يرجعون) أي لكي يرجعوا عن الكفر إلى الإيمان، ولما عاينوا ما جاءهم به من الآيات البينات، والدلالات الواضحات، ظنوا أن ذلك من قبيل السحر.(12/360)
وَقَالُوا يَا أَيُّهَ السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ (49)
(وقالوا يا أيها الساحر) وكانوا يسمون العلماء سحرة، ويوقرون السحرة ويعظمونهم، ولم يكن السحر صفة ذم عندهم، قال الزجاج: خاطبوه بما تقدم له عندهم من التسمية بالساحر، أو نادوه بذلك في تلك الحال لشدة شكيمتهم، وفرط حماقتهم، والأظهر أن النداء كان باسمه العلم، كما في الأعراف في قوله: قالوا: يا موسى.
(ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ) لكن حكى الله سبحانه هنا كلامهم لا بعبارتهم، بل على وفق ما أضمرته قلوبهم من اعتقادهم أنه ساحر، لاقتضاء مقام التسلية ذلك فإن قريشاً سموه ساحراً، وسموا ما أتى به سحراً، أفاده الكرخي، والمعنى: ادع الله به، أخبرتنا من عهده إليك أنا إذا آمنا كشف عنا العذاب الذي نزل بنا (إننا لمهتدون) أي فنحن مهتدون فيما يستقبل من الزمان ومؤمنون بما جئت به.(12/360)
فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (50)
(فلما كشفنا عنهم العذاب) في الكلام حذف، والتقدير فدعا موسى ربه، فكشف عنهم العذاب، فلما كشف عنهم العذاب (إذا هم ينكثون) فاجأوا نكثهم للعهد الذي جعلوه على أنفسهم من الاهتداء، والنكث النقض وكانوا ينقضونه في كل مرة من مرات العذاب.(12/361)
وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ (51)
(ونادى فرعون) افتخاراً (في قومه) قيل: لما رأى تلك الآيات خاف ميل القوم إلى موسى فجمعهم ونادى بصوته فيما بينهم، أو أمر منادياً ينادي بقوله: (قال يا قوم أليس لي ملك مصر) لا ينازعني فيه أحد، ولا يخالفني فيه مخالف.
(وهذه الأنهار تجري من تحتي) أي والحال أن الأنهار تجري من تحت قصري، والمراد هنا أنهار النيل، وقال قتادة: المعنى تجري بين يدي وفي بساتيني، قال الحسن: تجري بأمري أي تجري تحت أمري وقال الضحاك: أراد بالأنهار القواد والرؤساء والجبابرة، وأنهم يسيرون تحت لوائه، وقيل: أراد بالأنهار الأموال، والأول أولى.
(أفلا تبصرون) ذلك وتستدلون به على قوة ملكي وعظم قدري، وضعف موسى عن مقاومتي، وعن الرشيد أنه لما قرأها قال: لأولينها أخس عبيدي، فولاها الخصيب، وكان خادمه على وضوئه، وعن عبد الله بن طاهر أنه وليها فخرج إليها، فلما شارفها قال: أهي القرية التي افتخر بها فرعون حتى قال (أليس لي ملك مصر) والله لهي أقل عندي من أن أدخلها فثنى عنانه.(12/361)
أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ (52) فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (53) فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (54) فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (55) فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ (56) وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (57) وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (58)(12/362)
أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ (52)
(أم أنا خير) أم هي المنقطعة المقدرة ببل، التي للإضراب دون الهمزة التي للإنكار أي بل أنا خير، قال أبو عبيدة أم بمعنى: بل، والمعنى قال فرعون لقومه بل أنا خير، وقال الفراء: إن شئت جعلتها من الإستفهام الذي جعل بأم لاتصاله بكلام قبله - وقيل: هي زائدة، وحكى أبو زيد عن العرب أنهم يجعلون أم زائدة، والمعنى أنا خير من هذا، وقال الأخفش: في الكلام حذف، والمعنى أفلا تبصرون أم تبصرون؟ ثم ابتدأ فقال: أنا خير، وروي عن الخليل وسيبويه نحو قول الأخفش، ويؤيد هذا أن عيسى الثقفي ويعقوب الحضرمي وقفا على أم على تقدير أم تبصرون فحذف لدلالة الأول عليه، وعلى هذا فتكون أم متصلة لا منقطعة والأول أولى، وحكى الفراء أن بعض القراء قرأ أما أنا خير؟ أي ألست خيراً؟
(من هذا الذي هو مهين) أي ضعيف حقير ممتهن في نفسه، لا عز له لأنه يتعاطى أموره بنفسه وليس له ملك ولا قوة يجري بها نهراً وينفذ بها أمراً (ولا يكاد يبين) الكلام لما في لسانه من العقدة، وقد تقدم بيانه في سورة طه، قال ابن عباس في الآية: كانت بموسى لثغة في(12/362)
لسانه، واللثغة بالضم أن تصير الراء غيناً أو لاماً أو السين ثاء، وقد لثغ من باب طرب فهو ألثغ، وقيل المعنى لا يكاد يبين حجته التي تدل على صدقه فيما يدعي، ولم يرد به أنه لا قدرة له على الكلام، والأول أولى.(12/363)
فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (53)
(فلولا ألقي عليه) من عند مرسله الذي يدعي أنه الملك بالحقيقة (أسورة) جمع سوار، وبها قرأ حفص، وقرأ الجمهور أساور جمع أسورة، وقال أبو عمرو بن العلاء واحد الأساورة والأساور والأساوير أسوار، وهي لغة في سوار، وقرأ أبيّ أساور، وابن مسعود أساوير، قال مجاهد: كانوا إذا سودوا رجلاً سوروه بسوارين، وطوقوه بطوق ذهب، علامة لسيادته، أرادوا بإلقاء الأسورة عليه إلقاء مقاليد الملك إليه، أي فهلا حلي بأسورة (من ذهب) إن كان عظيماً مقدماً سيداً.
(أو جاء معه الملائكة مقترنين) أي هلا جاء معه الملائكة متتابعين متقارنين إن كان صادقاً يعينونه على أمره، ويشهدون له بالنبوة، ويمشون معه، فأوهم اللعين قومه أن الرسل لا بد أن يكونوا على هيئة الجبابرة، ومحفوفين بالملائكة(12/363)
فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (54)
(فاستخف قومه) أي حملهم على خفة الجهل والسفه، بقوله وكيده، واستفزهم بالقول، واستزلهم وعمل فيهم كلامه، وقيل: طلب منهم الخفة في الطاعة وهي الإسراع، قال ابن الأعرابي المعنى فاستجهل قومه فأطاعوه لخفة أحلامهم، وقلة عقولهم، فقال استخفه الفرح، أي أزعجه، استخفه أي حمله، ومنه (ولا يستخفنك الذين لا يوقنون)، وقد استخف بقومه وقهرهم حتى اتبعوه وعزروه وقيل استخف قومه أي وجدهم خفاف العقول، فصيغة الاستفعال للوجدان، وفي نسبته إلى القوم تجوز.
(فأطاعوه) فيما أمرهم به وقبلوا قوله وكذبوا موسى (إنهم كانوا قوماً فاسقين) أي خارجين عن طاعة الله.(12/363)
فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (55)
(فلما آسفونا) أي اغضبونا قاله المفسرون، والأسف الغضب وقيل أشد الغضب، وقيل السخط، وقيل، المعنى أغضبوا رسلنا قال ابن عباس فلما أسخطونا وأغضبونا أي بالإفراط في الفساد والعصيان (انتقمنا منهم) ثم بين العذاب الذي وقع به الانتقام فقال (فأغرقناهم أجمعين) في البحر وإنما أهلكوا بالغرق ليكون هلاكهم بما تعززوا به وهو الماء في قوله (وهذه الأنهار تجري من تحتي) ففيه إشارة إلى أن من تعزز بشيء دون الله أهلكه الله به وقد استضعف اللعينُ موسى وعابه بالفقر والضعف، فسلطه الله تعالى عليه إشارة إلى أنه ما استضعف أحد شيئاًً إلا غلبه، أفاده القشيري.
أخرج أحمد والطبراني والبيهقي في الشعب وابن أبي حاتم عن عقبة ابن عامر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم " قال إذا رأيت الله يعطى العبد ما شاء وهو مقيم على معاصيه فإنما ذلك استدراج منه له وقرأ (فلما آسفونا انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين) وعن طاوس بن شهاب قال كنت عند عبد الله فذكر عنده موت الفجاءة فقال تخفيف على المؤمن وحسرة على الكافر (فلما آسفونا انتقمنا منهم).(12/364)
فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ (56)
(فجعلناهم سلفاً) أي قدوة لمن عمل بعملهم من الكفار، في استحقاق العذاب، لأجل الاعتبار بهم، قرأ الجمهور سلفاً بفتح السين واللام جمع سالف كخدم وخادم، ورصد وراصد، وحرس وحارس، يقال سلف يسلف إذا تقدم ومضى، قال الفراء والزجاج جعلناهم متقدمين سابقين، ليتعظ بهم الآخرون اللاحقون، وقرىء سلفاً بضم السين واللام، قال الفراء هو جمع سليف نحو سرر وسرير، وقال أبو حاتم هو جمع سلف نحو خشب وخشب، وقرىء بضم السين وفتح اللام جمع سلفة، وهم الفرقة المتقدمة نحو غرف وغرفة، كذا قال النضر بن شميل، وقال ابن عباس سلفاً أهواء مختلفة.(12/364)
(ومثلاً للآخرين) أي عبرة وموعظة لمن يأتي بعدهم، أو قصة عجيبة تجري مجرى الأمثال، وتسير سير الأقوال، ولما قال سبحانه (وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ) تعلق المشركون بأمر عيسى وقالوا ما يريد محمد صلى الله عليه وسلم إلا أن نتخذه إلهاً، كما اتخذ النصارى عيسى بن مريم فأنزل الله(12/365)
وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (57)
(ولما ضرب ابن مريم مثلاً) كذا قال قتادة ومجاهد.
وقال الواحدي: أكثر المفسرين على أن هذه الآية نزلت في مجادلة ابن الزبعري مع النبي صلى الله عليه وسلم لما نزل قوله تعالى (إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم) قال ابن الزبعرى: خصمتك ورب الكعبة أليست النصارى يعبدون المسيح؟ واليهود عزيراً؟ وبنو مليح الملائكة؟ فإن كان هؤلاء في النار فقد رضينا أن نكون نحن وآلهتنا معهم، ففرحوا به، وضحكوا وارتفعت أصواتهم، فأنزل الله (إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون) ونزلت هذه الآية المذكورة هنا، وقد مضى هذا في سورة الأنبياء، ولا يخفاك أن ما قاله ابن الزبعري مندفع من أصله، وباطل برمته فإن الله سبحانه قال: (إنكم وما تعبدون) ولم يقل: ومن تعبدون، حتى يدخل في ذلك العقلاء كالمسيح وعزير والملائكة، قال الشهاب: ابن الزبعري هو عبد الله الصحابي المشهور، وهذه القصة على تقدير صحتها كانت قبل إسلامه.
(إذا قومك) يا محمد صلى الله عليه وسلم (منه) أي من ذلك المثل المضروب (يصدون) أي يضجون ويصيحون، فرحاً بذلك المثل المضروب، والمراد بقومه هنا كفار قريش، إذ ظنوا أنه ألزم وأفحم النبي صلى الله عليه وسلم به، وهو إنما سكت انتظاراً للوحي.
قرأ الجمهور: يصدون بكسر الصاد، وقرىء بضمها، وهما سبعيتان قال الكسائي والفراء والزجاج والأخفش: هما لغتان ومعناهما يضجون،(12/365)
قال الجوهري: صد يصد صديداً أي ضج، وقيل: إنه بالضم للإعراض، وبالكسر من الضجيج، قاله قطرب، قال أبو عبيدة: لو كانت من الصدود عن الحق يقال: إذا قومك عنه يصدون، عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لقريش: " إنه ليس أحد يعبد من دون الله فيه خير، قالوا: ألست تزعم أن عيسى كان نبياً؟ وعبداً من عباد الله صالحاً؟ وقد عبدته النصارى، فإن كنت صادقاً فإنه كآلهتهم، فأنزل الله: ولما ضرب ابن مريم مثلاً " الآية، قلت: وما يصدون؟ قال: يضجون.(12/366)
وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (58)
(وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ) عندك (أَمْ هُوَ) أي المسيح، قال السدي وابن زيد: خاصموه وقالوا إن كان كل من عبد غير الله في النار فنحن نرضى أن تكون آلهتنا مع عيسى وعزير والملائكة، وقال قتادة يعنون محمداً صلى الله عليه وسلم، أي أآلهتنا خير أم محمد صلى الله عليه وسلم؟ ويقوي هذا قراءة ابن مسعود أآلهتنا خير أم هذا.
(ما ضربوه لك إلا جدلاً) أي ما ضربوا لك هذا المثل في عيسى إلا ليجادلوك لا لطلب الحق حتى يرجعوا له عند ظهوره وبيانه، على أن جدلاً منتصب على العلة، أو مجادلين على أنه مصدر في موضع الحال وقرىء جدالاً.
(بل هم قوم خصمون) أي شديدو الخصومة، كثيرو اللدد، عظيمو الجدل، وأخرج سعيد بن منصور وأحمد وعبد بن حميد والترمذي وصححه وابن ماجة وابن جرير وابن المنذر والطبراني والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل "، ثم تلا هذه الآية، وقد ورد في ذم الجدل بالباطل أحاديث كثيرة، ثم بيّن سبحانه أن عيسى ليس برب، وإنما هو عبد من عباده اختصه بنبوته فقال:(12/366)
إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (59) وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ (60) وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61)(12/367)
إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (59)
(إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ) بما أكرمناه به من النبوة، وأنعمنا عليه برفعة المنزلة والذكر (وجعلناه مثلاً لبني إسرائيل) أي آية وعبرة لهم، يعرفون به قدرة الله سبحانه، فإنه كان من غير أب، وكان يحيي الموتى ويبرىء الأكمه والأبرص، وكل مريض بإذن الله، فمن أين يدخل في قوله (إنكم وما تعبدون)؟.
أخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال إن المشركين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا أرأيت من يعبد من دون الله أين هم؟ قال في النار، قالوا الشمس والقمر قال والشمس والقمر قالوا فعيسى ابن مريم؟ قال: قال الله (إن هو إلا عبد أنعمنا عليه وجعلناه مثلاً لبني إسرائيل).(12/367)
وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ (60)
(ولو نشاء لجعلنا منكبم ملائكة في الأرض يخلفون) الخطاب لقريش، أي لو نشاء لأهلكناكم، وجعلنا بدلكم في الأرض ملائكة مكرمين يعمرونها، ويعبدوننا، فهذا تهديد وتخويف لقريش، قال السمين في (من) هذه أقوال أحدها أنها بمعنى بدل أي لجعلنا بدلكم، ومنه قوله تعالى (أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة) أي بدلها، والثاني وهو المشهور أنها ابتدائية وتأويل الآية عليه لولدنا منكم يا رجال ملائكة في الأرض يخلفونكم كما تخلفكم أولادكم، كما ولدنا عيسى من أنثى دون ذكر، ذكره الزمخشري، والثالث أنها تبعيضية قال أبو البقاء وقيل المعنى لحولنا بعضكم ملائكة، وقال ابن عطية لجعلنا بدلاً منكم، ومقصود الآية(12/367)
أنا لو نشاء لأسكنّا الملائكة الأرض، وليس في إسكاننا إياهم السماء شرف حتى يعبدوا.(12/368)
وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61)
(وإنه لعلم للساعة) قال مجاهد والضحاك والسدي وقتادة إن المراد المسيح، وأن خروجه أي نزوله مما يعلم به قيام الساعة، أي قربها لكونه شرطاً من أشراطها لأن الله سبحانه ينزله من السماء قبيل قيام الساعة، كما أن خروج الدجال من أعلام الساعة، وقال الحسن وسعيد بن جبير المراد القرآن لأنه يدل على قرب مجيء الساعة، وبه يعلم وقتها وأهوالها وأحوالها، وقيل المعنى أن حدوث المسيح من غير أب وإحياءه للموتى دليل على صحة البعث، وقيل الضمير لمحمد صلى الله عليه وسلم والأول أولى.
قال ابن عباس " أي خروج عيسى ابن مريم عليه السلام قبل يوم القيامة " (1)، وأخرجه الحاكم وابن مردويه عنه مرفوعاً، وعن أبي هريرة نحوه أخرجه عبد بن حميد قرأ الجمهور لعلم بصيغة المصدر، جعل المسيح علماً للساعة مبالغة، لما يحصل من العلم بحصولها عند نزوله، وقرأ جماعة من الصحابة بفتح العين واللام، أي خروجه علم من أعلامها، وشرط من شروطها، وقرىء للعلم بلامين مع فتح العين واللام أي للعلامة التي يعرف بها قيام الساعة.
(فلا تمترن بها) أي فلا تشكن في وقوعها، ولا تكذبن بها، فإنها كائنة لا محالة (واتبعون) قرأ الجمهور بحذف الياء وصلاً ووقفاً، وقرىء بإثباتها وصلاً ووقفاً وقرىء بحذفها في الوصل دون الوقف أي اتبعوني فيما آمركم به من التوحيد وبطلان الشرك، وفرائض الله التي فرضها عليكم (هذا) أي الذي آمركم به وأدعوكم إليه (صراط مستقيم) أي طريق قيم، موصل إلى الحق.
_________
(1) وقد قال به ابن كثير في تفسيره.(12/368)
وَلَا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (62) وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (63) إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (64) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ (65) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (66) الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ (67)(12/369)
وَلَا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (62)
(ولا يصدنكم الشيطان) أي لا تغتروا بوساوسه وشبهه التي يوقعها في قلوبكم فيمنعكم ذلك من اتباعي أو من الإيمان بالساعة، فإن الذي دعوتكم إليه هو دين الله الذي اتفق عليه رسله وكتبه، ثم علل نهيهم عن أن يصدهم الشيطان ببيان عداوته لهم فقال: (إنه لكم عدو مبين) أي مظهر لعدواته لكم غير متحاش عن ذلك ولا متكتم به كما يدل على ذلك ما وقع بينه وبين آدم، وما ألزم به نفسه من إغراء جميع بني آدم إلا عباد الله المخلصين.(12/369)
وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (63)
(ولما جاء عيسى) إلى بني إسرائيل (بالبينات) أي بالمعجزات الواضحة، والشرائع النيرة، قال قتادة البينات ههنا الإنجيل (قال قد جئتكم بالحكمة) أي النبوة وقيل: الإنجيل، وقيل ما يرغب في الجميل ويكف عن القبيح.
(و) جئتكم (لأبين لكم بعض الذي تختلفون فيه) من أحكام التوارة، ولم يترك العاطف ليتعلق بما قبله ليؤذن بالاهتمام بالعلة حتى جعلت كأنها كلام برأسه والبعض هو أمر الدين قال قتادة يعني اختلاف الفرق الذين تحزبوا في أمر عيسى، قال الزجاج: الذي جاء به عيسى(12/369)
في الإنجيل إنما هو بعض الذي اختلفوا فيه فبين لهم في غير الإنجيل ما احتاجوا إليه.
وقيل: إن بني إسرائيل اختلفوا بعد موت موسى في أشياء من أمر دينهم وقال أبو عبيدة إن بعض هنا بمعنى كل كما في قوله (يصبكم بعض الذي يعدكم) وقال مقاتل هو كقوله (ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم) يعني ما أحل في الإنجيل مما كان محرماً في التوراة كلحم الإبل والشحم من كل حيوان وصيد السمك يوم السبت ثم أمرهم بالتقوى والطاعة فقال:
(فاتقوا الله) أي اتقوا معاصيه (وأطيعون) فيما آمركم به من التوحيد والشرائع وأبلغه عنه(12/370)
إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (64)
(إن الله هو ربي وربكم فاعبدوه) هذا بيان لما أمرهم بأن يطيعوه فيه (هذا) أي عبادة الله وحده والعمل بشرائعه (صراط مستقيم) وهذا تمام كلام عيسى عليه السلام أو استئناف من الله يدل على ما هو المقتضى للطاعة في ذلك.(12/370)
فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ (65)
(فاختلف الأحزاب من بينهم) قال مجاهد والسدي الأحزاب هم أهل الكتاب من اليهود والنصارى، وقال الكلبي ومقاتل هم فرق النصارى اختلفوا في أمر عيسى، قال قتادة المعنى أنهم اختلفوا فيما بينهم، وقيل اختلفوا من بين من بعث إليهم من اليهود والنصارى والأحزاب هي الفرق المتحزبة قيل هم اليعقوبية والنسطورية والملكانية والشمعونية، وهذا مبني على أنه بعث لجميع بني إسرائيل فتحزبوا في أمره، وقيل المراد بالأحزاب الذين تحزبوا على النبي صلى الله عليه وسلم وكذبوه وهم المرادون بقوله:(12/370)
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (66)
(هل ينظرون إلا الساعة) والأول أولى.
(فويل للذين ظلموا) من هؤلاء المختلفين وهم الذين أشركوا بالله ولم يعملوا بشرائعه، وقالوا في عيسى ما كفروا به (من عذاب يوم أليم) أي أليم عذابه وهو يوم القيامة.(12/370)
(هل ينظرون) أي هل يترقب وينتظر هؤلاء الأحزاب أو الكفار (إلا الساعة أن تأتيهم بغتة) أي فجأة (وهم لا يشعرون) أي لا يفطنون بذلك لاشتغالهم بأمر دنياهم وإنكارهم لها، كقوله تأخذهم وهم يخصمون.(12/371)
الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ (67)
(الأخلاء) في الدنيا أي المتحابون فيها (يومئذ) أي يوم تأتيهم الساعة (بعضهم لبعض عدو) أي يعادي بعضهم بعضاً لأنه، قد انقطعت بينهم العلائق واشتغل كل واحد منهم بنفسه ووجدوا تلك الأمور التي كانوا فيها أخلاء أسباباً للعذاب، فصاروا أعداء ثم استثنى المتقين فقال (إلا المتقين) فإنهم أخلاء في الدنيا والآخرة، لأنهم وجدوا تلك الخلة التي كانت بينهم من أسباب الخير والثواب فبقيت خلتهم على حالها.
عن علي بن أبي طالب في الآية " قال: خليلان مؤمنان، وخليلان كافران توفي أحد المؤمنين فبشر بالجنة فذكر خليله فقال: اللهم إن خليلي فلاناً كان يأمرني بطاعتك وطاعة رسولك، ويأمرني بالخير وينهاني عن الشر، وينبئني أني ملاقيك، اللهم لا تضله بعدي حتى تريه ما أريتني، وترضى عنه كما رضيت عني فيقال له: اذهب فلو تعلم ما له عندي لضحكت كثيراً ولبكيت قليلاً، ثم يموت الآخر فيجمع بين أرواحهما فيقال: ليثن كل واحد منكما على صاحبه فيقول كل واحد منهما لصاحبه: نعم الأخ ونعم الصاحب ونعم الخليل، وإذا مات أحد الكافرين بشر بالنار، فيذكر خليله فيقول: اللهم إن خليلي فلاناً كان يأمرني بمعصيتك ومعصية رسولك، ويأمرني بالشر وينهاني عن الخير، وينبئني أني غير ملاقيك اللهم فلا تهده بعدي حتى تريه مثل ما أريتني وتسخط عليه كما سخطت علي فيموت الآخر فيجمع بين أرواحهما فيقال: ليثن كل واحد منكما على صاحبه فيقول كل لصاحبه. بئس الأخ وبئس الصاحب، وبئس الخليل "، أخرجه عبد الرزاق وعبد بن حميد وحميد بن زنجويه في ترغيبه وابن جرير والبيهقي وابن مردويه وابن أبي حاتم.(12/371)
يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (68) الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ (69) ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ (70) يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (71)(12/372)
يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (68)
(يا عباد لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون) أي يقال لهؤلاء المتقين المتحابين في الله بهذه المقالة تشريفاً لهم وتطييباً لقلوبهم، فيذهب عند ذلك خوفهم، ويرتفع حزنهم(12/372)
الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ (69)
(الذين آمنوا بآياتنا وكانوا مسلمين) لله منقادين له مخلصين في أمر الدين.(12/372)
ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ (70)
(ادخلوا الجنة) أي يقال لهم ذلك، قال مقاتل، إذا وقع الخوف يوم القيامة نادى مناد يا عبادي لا خوف عليكم، فإذا سمعوا النداء رفع الخلائق رؤوسهم فيقال: الذين آمنوا بآياتنا وكانوا مسلمين، فينكس أهل الأوثان رؤوسهم غير المسلمين.
(أنتم وأزواجكم) المراد بها نساؤهم المؤمنات وقيل قرناؤهم من المؤمنين وقيل زوجاتهم من الحور العين (تحبرون) تكرمون أو تنعمون أو تفرحون أو تسرون أو تعجبون أو تلذذون بالسماع، والأولى تفسير ذلك بالفرح والسرور الناشئين عن الكرامة والنعمة، ناداهم بأربعة أمور الأول نفي الخوف، والثاني نفي الحزن، والثالث الأمر بدخول الجنة، والرابع البشارة بالسرور.(12/372)
يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (71)
(يطاف عليهم بصحاف من ذهب) جمع صحفة وهي القصعة الواسعة العريضة، قال الكسائي أعظم القصاع الجفنة، ثم القصعة، وهي تشبع عشرة ثم الصحفة، وهي تشبع الخمسة، ثم الميكلة، وهي تشبع الرجلين أو الثلاثة، والمعنى أن لهم في الجنة أطعمة يطاف عليهم بها في(12/372)
صحاف الذهب.
(وأكواب) أي ولهم فيها أشربة يطاف عليهم بها في الأكواب، وهي جمع كوب قال الجوهري الكوب كوز لا عروة له والجمع أكواب، قال قتادة الكوب المدور القصير العنق، القصير العروة، والإبريق المستطيل العنق الطويل العروة، وقال الأخفش الأكواب الأباريق التي لا خراطيم لها، وقال قطرب هي الأباريق التي ليست لها عرى، والعروة ما يمسك منه ويسمى أذناً، قال ابن عباس الأكواب الجرار من الفضة.
(وفيها) أي في الجنة (ما تشتهيه الأنفس) أي أنفس أهل الجنة من فنون الأطعمة والأشربة، والأشياء المعقولة والمسموعة والملموسة ونحوها. مما تتطلبه النفس وتهواه كائناً ما كان، جزاء لهم بما منعوا أنفسهم من الشهوات في الدنيا قرأ الجمهور تشتهي وفي مصحف عبد الله ابن مسعود تشتهيه بإثبات الضمير العائد إلى الموصول.
(وتلذ الأعين) من كل المستلذات التي يستلذ بها ويطلب مشاهدتها، وأعلاها النظر إلى وجهه الكريم، جزاء ما تحملوه من مشاق الاشتياق، تقول لذ الشيء يلذ لذاذاً ولذاذة إذا وجده لذيذاً أو التذ به، وهذا حصر لأنواع النعم، لأنها إما مشتهيات في القلوب أو مستلذات في العيون.
عن عبد الرحمن بن سابط قال: قال رجل " يا رسول الله، هل في الجنة خيل؟ فإني أحب الخيل، قال إن يدخلك الله الجنة فلا تشاء أن تركب فرساً من ياقوتة حمراء فتطير بك في أي الجنة شئت إلا فعلت، وسأله آخر فقال: يا رسول الله هل في الجنة من إبل؟ فإني أحب الإبل قال فلم يقل له ما قال لصاحبه فقال إن يدخلك الله الجنة يكن لك ما اشتهت نفسك ولذت عينك " أخرجه الترمذي (وأنتم فيها خالدون) لا تموتون ولا تخرجون منها.(12/373)
وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (72) لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ (73) إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (74) لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (75) وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ (76) وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ (77) لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (78) أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ (79)(12/374)
وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (72)
(وتلك الجنة التي أورثتموها) أي يقال لهم يوم القيامة هذه المقالة أي صارت إليكم كما يصير الميراث إلى الوارث (بما كنتم تعملون) في الدنيا من الأعمال الصالحة، وتلك مبتدأ والجنة صفته والموصول مع صلته صفة للجنة، والخبر بما كنتم الخ، وقيل الخبر الموصول مع صلته، والأول أولى وفيه التفات من الغيبة إلى الخطاب للتشريف، والمخاطب كل واحد من أهل الجنة، فلذلك أفرد الكاف، ولم يقل وتلكم الذي هو مقتضى أورثتموها إيذاناً بأن كل واحد مقصود بذاته.
أخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ما من أحد إلا وله منزل في الجنة، ومنزل في النار، فالكافر يرث المؤمن منزله من النار، والمؤمن يرث الكافر منزله في الجنة، وذلك قوله وتلك الجنة التي أورثتموها ".(12/374)
لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ (73)
(لكم فيها) سوى الطعام والشراب (فاكهة كثيرة) أي كثيرة الأنواع والأصناف والفاكهة معروفة وهي الثمار كلها رطبها ويابسها (منها تأكلون)(12/374)
وكل ما يؤكل يخلف بدله ومن تبعيضيه أو ابتدائية، وقدم الجار لأجل الفاصلة، ثم شرع سبحانه في الوعيد بعد ذكر الوعد كما هو دأب القرآن الكريم فقال:(12/375)
إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (74)
(إن المجرمين) أي أهل الإجرام الكفرية، كما يدل عليه إيرادهم في مقابلة المؤمنين الذين لهم ما ذكره الله سبحانه قبل هذا (في عذاب جهنم خالدون) لا ينقطع عنهم العذاب أبداً(12/375)
لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (75)
(لا يفتر عنهم) أي لا يخفف عنهم ذلك العذاب جملة حالية وكذلك.
(وهم فيه مبلسون) أي آيسون من النجاة وقيل ساكتون سكوت يأس، وقد مضى تحقيق معناه في الأنعام، ولا يشكل على هذا قوله الآتي؛ (ونادوا) الخ لأن تلك أزمنة متطاولة وأحقاب ممتدة، فتختلف بهم الأحوال فيسكتون تارة لغلبة اليأس عليهم، وعلمهم أنه لا فرج ويشتد عليهم العذاب تارة فيستغيثون، وقرأ عبد الله: هم فيها أي في النار لدلالة العذاب عليها.(12/375)
وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ (76)
(وما ظلمناهم) أي ما عذبناهم بغير ذنب، ولا بزيادة على ما يستحقونه (ولكن كانوا هم الظالمين) لأنفسهم بما فعلوا من الذنوب، قرأ الجمهور الظالمين، بالنصب على أنه خبر كان والضمير ضمير فصل، وقرىء الظالمون بالرفع على أن الضمير مبتدأ، وما بعده خبره، والجملة خبر كان.(12/375)
وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ (77)
(ونادوا يا مالك) أي نادى المجرمون هذا النداء، والإتيان بالماضي على حد (أتى أمر الله) ومالك هو خازن النار، قرأ الجمهور بغير الترخيم، وقرىء يا مال بالترخيم، قيل لابن عباس: إن ابن مسعود قرأ يا مال، فقال ما أشغل أهل النار عن الترخيم (ليقض علينا ربك) بالموت من قضى عليه إذا أماته قال تعالى: (فوكزه موسى فقضى عليه) توسلوا بمالك خازن النار إلى الله سبحانه ليسأله لهم أن يقضي عليهم(12/375)
بالموت ليستريحوا من العذاب، وقال البيضاوي: هو لا ينافي إبلاسهم فإنه جؤار وتمن للموت من فرط الشدة.
(قال إنكم ماكثون) أي مقيمون في العذاب، هانت والله دعوتهم على مالك وعلى رب مالك قيل سكت عن إجابتهم أربعين سنة قاله الخازن والسنة ثلثماثة وستون يوماً واليوم كألف سنة مما تعدون قاله القرطبي وقيل: ثمانين سنة، وقيل مائة سنة وقال ابن عباس يمكث عنهم ألف سنة ثم يجيبهم بهذا الجواب.(12/376)
لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (78)
(لقد جئناكم بالحق) يحتمل أن يكون هذا من كلام الله سبحانه أو من كلام مالك والأول أظهر، والمعنى: إنا أرسلنا إليكم الرسل وأنزلنا عليهم الكتب فدعوكم فلم تقبلوا ولم تصدقوا وهو معنى قوله.
(ولكن أكثركم للحق كارهون) أي لا تقبلونه وتنفرون منه، لأن مع الباطل الدعة ومع الحق التعب، قيل معنى أكثركم كلكم وقيل أراد الرؤساء والقادة ومن عداهم أتباع لهم والمراد بالحق كل ما أمر الله به على ألسن رسله وأنزله في كتبه وقيل هو خاص بالقرآن:(12/376)
أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ (79)
(أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ) كلام مستأنف ناع على المشركين ما فعلوا من الكيد برسول الله صلى الله وسلم. وأم هي المنقطعة التي بمعنى بل والهمزة أي بل أبرموا أمراً وفي ذلك انتقال من توبيخ أهل النار وحكاية حالهم إلى حكاية ما يقع من هؤلاء والإبرام الإتقان والإحكام، يقال برمت الشيء أحكمته وأتقنته وأبرم الحبل إذا أحكم فتله.
والمعنى بل أحكموا كيداً للنبي صلى الله عليه وسلم فإنا محكمون لهم كيداً قاله مجاهد وقتادة وابن زيد ومثل هذا قوله: تعالى: (أم يريدون كيداً فالذين كفروا هم المكيدون) وقيل المعنى أم قضوا أمراً فإنا قاضون عليهم أمرنا بالعذاب قاله الكلبي.(12/376)
أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (80) قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ (81) سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (82) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (83) وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (84) وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (85) وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (86) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (87)(12/377)
أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (80)
(أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ) أي بل أيحسبون أنا لا نسمع ما يسرون في أنفسهم أو ما يتحادثون به سراً في مكان خال، وما يتناجون به فيما بينهم (بلى) نسمع ذلك ونعلم به (ورسلنا لديهم يكتبون) أي الحفظة عندهم يكتبون جميع ما يصدر عنهم من قول أو فعل. عن يحيى بن معاذ قال من ستر من الناس ذنوبه وأبداها لمن لا تخفى عليه خافية فقد جعله أهون الناظرين إليه وهو من أمارات النفاق.
أخرج ابن جرير عن محمد بن كعب القرظي قال: " بينا ثلاثة بين الكعبة وأستارها قرشيان وثقفي، أو ثقفيان وقرشي، فقال واحد منهم: أترون أن الله يسمع كلامنا؟ فقال واحد: إذا جهرتم يسمع، وإذا أسررتم لم يسمع فنزلت هذه الآية ".
ثم أمر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول للكفار قولاً يلزمهم به الحجة، ويقطع ما يوردونه من الشبهة فقال:(12/377)
قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ (81)
(قل إن كان للرحمن ولد) وصح ذلك ببرهان صحيح، أو إن كان له ولد في قولكم، وعلى زعمكم (فأنا أول العابدين) أي أول من عبد الله وحده لأن من عبد الله وحده فقد دفع أن يكون له ولد، قاله ابن قتيبة وقال الحسن والسدي. إن المعنى ما كان للرحمن ولد، ويكون قوله: فأنا أول العابدين ابتداء كلام.
قال ابن عباس في الآية يقول إن يكن للرحمن ولد (فأنا أول العابدين) أي الشاهدين، وعن زيد بن أسلم قال هذا معروف من كلام العرب إن كان هذا الأمر قط، أي ما كان، وعن قتادة نحوه وقيل: المعنى قل يا محمد: إن ثبت لله ولد، فأنا أول من يعبد هذا الولد الذي تزعمون ثبوته، ولكنه يستحيل أن يكون له ولد. وفيه نفي للولد على أبلغ وجه، وأتم عبارة، وأحسن أسلوب، وهذا هو الظاهر من النظم القرآني، لأن هذا الكلام وارد على سبيل الفرض والمراد نفي الولد، وذلك أنه علق العبادة بكينونة الولد وهي محال في نفسها فكان المعلق بها محالاً مثلها، ومن هذا القبيل قوله تعالى:
(وإنا وإياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين) ومثل هذا قول الرجل لمن يناظره إن ثبت ما تقوله بالدليل فأنا أول من يعتقده ويقول به فتكون إن في (إن كان) شرطية ورجح هذا ابن جرير وغيره.
وقيل: معنى العابدين الآنفين من العبادة وهو تكلف لا ملجىء إليه ولكنه قرىء العبدين: بغير ألف؛ من عبد يعبد عبداً بالتحريك إذا أنف وغضب، فهو عبد، والإسم العبدة مثل الأنفة ولعل الحامل على هذه القراءة الشاذة البعيدة لمن قرأها هو استبعاد معنى (فأنا أول العابدين) وليس بمستبعد ولا مستنكر وقد حكى الجوهري عن أبي عمرو في قوله: (فأنا أول العابدين) أنه من الأنف أو الغضب؛ وحكاه الماوردي عن الكسائي والقتيبي(12/378)
وبه قال الفراء، وكذا قال ابن الأعرابي إن معنى العابدين الغضاب الآنفين.
وقال أبو عبيدة: معناه الجاحدين، وحكى عبدني حقي أي جحدني ولا شك أن عبد وأعبد بمعنى أنف أو غضب ثابت في لغة العرب، وكفى بنقل هؤلاء الأئمة حجة ولكن جعل ما في القرآن من هذا من التكلف الذي لا ملجىء إليه ومن التعسف الواضح، وقد رد ابن عرفة ما قالوه فقال: إنما يقال: عبد يعبد فهو عبد، وقل ما يقال: عابد والقرآن لا يأتي بالقليل من البغة ولا الشاذ، قرأ الجمهور ولد بالإفراد وقرىء بضم الواو وسكون اللام.(12/379)
سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (82)
(سبحان رب السموات والأرض رب العرش عما يصفون) أي تنزيهاً له وتقديساً عما يقولون من الكذب، بأن له ولداً ويفترون عليه سبحانه ما لا يليق بجنابه، وهذا إن كان من كلام الله سبحانه فقد نزه نفسه الكريمة عما قالوه وإن كان من تمام كلام رسوله صلى الله عليه وسلم الذي أمره بأن يقوله فقد أمره بأن يضم إلى ما حكاه عنهم بزعمهم الباطل تنزيه ربه وتقديسه.(12/379)
فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (83)
(فذرهم يخوضوا ويلعبوا) أي اترك الكفار حيث لم يهتدوا لما هديتهم به ولا أجابوك فيما دعوتهم إليه يخوضوا في أباطيلهم؛ ويلهوا في دنياهم (حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدون) وهو يوم القيامة، وقيل العذاب في الدنيا: وقيل يوم الموت وهو الأظهر فإن خوضهم ولعبهم إنما ينتهي بيوم الموت، قيل: وهذا منسوخ بآية السيف وقيل: هو غير منسوخ وإنما أخرج مخرج التهديد، وفيه دليل على أن ما يقولونه من باب الجهل والخوض واللعب، قرأ الجمهور يلاقوا وقرىء يلقوا.(12/379)
وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (84)
(وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله) الجار والمجرور في الموضعين متعلق بإله لأنه بمعنى معبود، أو مستحق للعبادة والمعنى وهو الذي معبود في السماء ومعبود في الأرض، أو مستحق للعبادة في السماء والعبادة في الأرض وبما تقرر من أن المراد بإله معبود اندفع ما قيل هذا يقتضي تعدد الآلهة(12/379)
لأن النكرة إذا أعيدت نكرة تعددت؛ كقولك: أنت طالق وطالق وإيضاح الاندفاع أن الإله هنا بمعنى المعبود؛ وهو تعالى معبود فيهما والمغايرة إنما هي بين معبوديته في السماء ومعبوديته في الأرض، لأن المعبودية من الأمور الإضافية فيكفي التغاير فيها من أحد الطرفين؛ فإذا كان العابد في السماء غير العابد في الأرض صدق أن معبوديته في السماء غير معبوديته في الأرض، مع أن المعبود واحد، وفيه دلالة على اختصاصه باستحقاق الألوهية، فإن التقديم يدل على الإختصاص أفاده الكرخي. (1)
قال أبو علي الفارسي وإله في الموضعين مرفوع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هو الذي في السماء هو إله وفي الأرض هو إله وحسن حذفه لطول الكلام قال والمعنى على الإخبار بالإلهية لا على الكون فيهما، قال قتادة يعبد في السماء والأرض وقيل في بمعنى على أي هو القادر على السماء والأرض، كما في قوله (ولأصلبنكم في جذوع النخل).
وقرأ عمر وعلي وابن مسعود: وهو الذي في السماء الله وفي الأرض الله على تضمين العلم معنى المشتق فيتعلق به الجار والمجرور من هذه الحيثية (وهو الحكيم العليم) أي البليغ الحكمة الكثير العلم.
_________
(1) زاد المسير 233.(12/380)
وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (85)
(وتبارك الذي له ملك السموات والأرض وما بينهما) تبارك تفاعل من البركة؛ وهي كثرة الخيرات والمراد بما بينهما الهواء وما فيه من الحيوانات (وعنده علم الساعة) أي علم الوقت الذي يكون فيه قيامها (وإليه ترجعون) فيجازي كل أحد بما يستحقه من خير وشر، وفيه وعيد شديد، قرأ الجمهور بالفوقية على سبيل الالتفات من الغيبة إلى الخطاب، وقرىء بالتحتية.(12/380)
وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (86)
(ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة) أي لا يملك من يدعونه(12/380)
من دون الله من الأصنام ونحوها الشفاعة عند الله كما يزعمون أنهم يشفعون لهم قرأ الجمهور يدعون بالتحتية وقرىء بالفوقية (إلا من شهد بالحق) أي التوحيد.
(وهم يعلمون) أي هم على علم وبصيرة بما شهدوا به، والإستثناء متصل والمعنى إلا من شهد بالحق وهم المسيح وعزير والملائكة فإنهم يملكون الشفاعة لمن يستحقها، وقيل هو منقطع.
والمعنى ليكن من شهد بالحق يشفع فيه هؤلاء، وقيل المستثنى منه محذوف، أي لا يملكون الشفاعة في أحد إلا فيمن شهد بالحق قال سعيد بن جبير وغيره: معنى الآية أنه لا يملك هؤلاء الشفاعة إلا لمن شهد بالحق وآمن على علم وبصيرة قال قتادة: لا يشفعون لعابديها بل يشفعون لمن شهد بالوحدانية، وقيل: مدار الاتصال في هذا الاستثناء على جعل الذين يدعون عاماً لكل ما يعبد من دون الله ومدار الانقطاع على جعله خاصاً بالأصنام.(12/381)
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (87)
(ولئن سألتهم) اللام هي الموطئة للقسم، والمعنى: لئن سألت هؤلاء المشركين العابدين للأصنام (من خلقهم ليقولن الله) جواب القسم وجواب الشرط محذوف على القاعدة أي أقروا واعترفوا بأن خالقهم الله ولا يقدرون على الإنكار، ولا يستطيعون الجحود لظهور الأمر وجلائه.
(فأنى يؤفكون) أي فيكف ينقلبون عن عبادة الله إلى عبادة غيره، وينصرفون عنها مع هذا الاعتراف، فإن المعترف بأن الله خالقه إذا عمد إلى صنم أو حيوان، وعبده مع الله، أو عبده وحده، فقد عبد بعض مخلوقات الله، وفي هذا من الجهل ما لا يقادر قدره يقال: أفكه يأفكه إفكاً إذا قلبه وصرفه عن الشيء، وقيل: المعنى ولئن سألت المسيح وعزيراً والملائكة من خلقهم ليقولن الله فأنى يؤفك هؤلاء الكفار في اتخاذهم لهم آلهة، وقيل المعنى ولئن سألت العابدين والمعبودين جميعاً.(12/381)
وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ (88) فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (89)(12/382)
وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ (88)
(وَقِيلِهِ) قرأ الجمهور بالنصب عطفاً على محل الساعة، كأنه قيل إنه يعلم الساعة ويعلم قيله، أو عطفاً على سرهم ونجواهم، أي يعلم سرهم ونجواهم؛ ويعلم قيله أو عطفاً على مفعول يكتبون المحذوف، أي يكتبون ذلك ويكتبون قيله، أو عطفاً على مفعول يعلمون المحذوف، أي يعلمون ذلك ويعلمون قيله، أو هو مصدر أي قال قيله، أو منصوب بإضمار فعل أي الله بعلم قيل رسوله، أو هو معطوف على محل بالحق أي شهد بالحق وبقيله، أو منصوب على حذف حرف القسم، ومن المجوزين للأول المبرد وابن الأنباري، وللثاني الفراء والأخفش، وللنصب على المصدرية أيضاًً الفراء والأخفش.
وقرىء قيله بالجر عطفاً على لفظ الساعة أي (وعنده علم الساعة) وعلم (قيله) والقول والقال والقيل والمقال كلها مصادر بمعنى واحد، جاءت على هذه الأوزان، وقال أبو عبيدة: يقال قلت قولاً وقالاً وقيلاً أو على أن الواو للقسم.
وقرأ قتادة ومجاهد والحسن وأبو قلابة والأعرج بن هرمز ومسلم بن جندب قيله بالرفع عطفاً على علم، أي (وعنده علم الساعة) وعنده (قيله) أو على الابتداء وخبره الجملة المذكورة بعده أو خبره محذوف تقديره وقيله كيت وكيت، أو وقيله مسموع، والضمير في وقيله راجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال قتادة: هذا نبيكم يشكو قومه إلى ربه وقيل عائد إلى المسيح وعلى الوجهين فالمعنى أنه قال منادياً لربه:
(يا رب إن هؤلاء) الذين أرسلتني إليهم (قوم لا يؤمنون) ثم لما(12/382)
نادى ربه بهذا، أجابه بقوله:(12/383)
فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (89)
(فاصفح عنهم) أي أعرض عن دعوتهم.
(وقل سلام) أي أمري تسليم منكم، ومتاركة لكم، وقال الفراء إن سلام مرفوع بإضمار عليكم، قال عطاء: يريد مداراة حتى ينزل حكمي، ومعناه المتاركة كقوله (سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين) فليس في الآية مشروعية السلام على الكفار كما قيل، وقال قتادة أمره بالصفح عنهم، ثم أمره بقتالهم، فصار الصفح منسوخاً بالسيف، وقيل هي محكمة لم تنسخ (فسوف يعلمون) قرأ الجمهور بالتحتية، وقرىء بالفوقية، وفيه تهديد شديد لهم ووعيد عظيم من الله عز وجل وتسلية له صلى الله عليه وسلم.(12/383)
سورة الدخان
(هي ست أو سبع أو تسع وخمسون آية)
قال القرطبي: هي مكيّة بالاتفاق إلا قوله: (إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلًا) وبه قال ابن عباس وابن الزبير، وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " من قرأ حم الدخان في ليلة الجمعة أصبح يستغفر له سبعون ألف ملك " أخرجه البيهقي في الشعب، ورفعه الثعلبي أيضاً والترمذي، وقال: غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وعمرو بن أبي خثعم ضعيف، قال البخاري: منكر الحديث، وعنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " من قرأ حم الدخان في ليلة الجمعة أصبح مغفوراً له ". أخرجه البيهقي وابن مردويه ومحمد بن نصر والترمذي وقال غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وهشام بن مقدام يضعف، والحسن لم يسمع من أبي هريرة، كذا قال أيوب ويونس بن عبيد وعلي بن زيد.
ويشهد له طرق أخرى منها ما أخرجه الدارمي ومحمد بن نصر عن أبي رافع قال: " من قرأ الدخان في ليلة الجمعة أصبح مغفوراً له، وزوج من الحور العين "، وأخرج ابن مردويه عن أبي أمامة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " من قرأ سورة حم الدخان في ليلة الجمعة أو يوم الجمعة بنى الله له بيتاً في الجنة "، قال الشهاب: في سورة الواقعة، ولم يذكر البيضاوي في فضائل السورة حديثاًَ غير موضوع من أول القرآن إلى هنا غير ما هنا، وما مر في سورة يس والدخان.(12/385)
بسم الله الرحمن الرحيم
حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (5) رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (6) رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (7) لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (8)
(بسم الله الرحمن الرحيم(12/387)
حم (1)
حم) قد تقدم قبل هذه السورة الكلام على هذا والله أعلم بمراده به(12/387)
وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2)
(والكتاب) الواو للقسم والكتاب القرآن (المبين) أي المشتمل على بيان ما للناس حاجة إليه في دينهم ودنياهم.(12/387)
إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3)
(إنا أنزلناه) جواب القسم، وقد أنكر بعض النحاة أن تكون هذه الجملة جواباً للقسم، لأنها صفة للمقسم به، ولا تكون صافة المقسم به جواباً للقسم، وقال: الجواب:
(إنا كنا منذرين) واختاره ابن عطية، وقال أيضاًً وجملة إنا أنزلناه اعتراض متضمن لتفخيم الكتاب، ورجح الأول بالسبق، وبكونه من البدائع، وبسلامته من الفك اللازم لما اختاره ابن عطية، وقيل: إن قوله إنا كنا الخ جواب ثان أو جملة مستأنفة مقررة للإنزال، وفي حكم العلة له كأنه قال: إنا أنزلناه لأن من شأننا الإنذار. والضمير في أنزلناه راجع إلى الكتاب وهو القرآن، واقتصر على ذلك البيضاوي، وتبعه الجلال المحلي.(12/387)
وعلى هذا فقد أقسم بالقرآن أنه أنزل القرآن، وهذا النوع من الكلام يدل على غاية تعظيم القرآن، فقد يقول الرجل إذا أراد تعظيم الرجل له إليه حاجة: أتشفع بك إليك، وأقسم بحقك عليك.
وجاء في الحديث: " أعوذ برضاك من سخطك وبعفوك من عقوبتك، وبك منك، لا أحصي ثناء عليك ". وقيل: المراد بالكتاب سائر الكتب المنزلة، والضمير راجع إلى القرآن على معنى أنه سبحانه أقسم بسائر الكتب المنزلة أنه أنزل القرآن والأول أولى، واستدلوا بهذه الآية على حدوث القرآن بوجوه لا دلالة لها عليه.
(في ليلة مباركة) أي ليلة القدر، كما في قوله (إنا أنزلناه في ليلة القدر) ولها أربعة أسماء هي، وليلة البراءة، وليلة الصك، وليلة الرحمة. قال عكرمة وطائفة الليلة المباركة هنا ليلة النصف من شعبان، وقال النووي في باب صوم التطوع من شرح مسلم إنه خطأ، والصواب وبه قال العلماء إنها ليلة القدر، وقيل بينها وبين ليلة القدر أربعون ليلة.
والجمهور وأكثر المفسرين على الأول وليلة القدر في أكثر الأقاويل في شهر رمضان، وقال قتادة أنزل القرآن كله في ليلة القدر من أم الكتاب، وهو اللوح المحفوظ إلى بيت العزة في سماء الدنيا ثم أنزل الله سبحانه على نبيه صلى الله عليه وسلم في الليالي والأيام في ثلاث وعشرين سنة في أنواع الوقائع حالاً فحالاً، وقد تقدم تحقيق الكلام في هذا في سورة البقرة، عند قوله:
(شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن) وذكر سليمان الجمل أدلة القولين، وبسط فيها لا نطول بذكرها هنا.
وقال مقاتل كان ينزل من اللوح المحفوظ كل ليلة قدر من الوحي على مقدار ما ينزل به جبريل في السنة إلى مثلها من العام، وقيل ابتداء نزوله في ليلة القدر، ووصف الله سبحانه هذه الليلة بأنها مباركة لنزول القرآن فيها(12/388)
وهو مشتمل على مصالح الدين والدنيا، ولكونها تتنزل فيها الملائكة والروح كما سيأتي في سورة القدر إن شاء الله تعالى.
قال ابن عباس " أنزل القرآن في ليلة القدر، ونزل به جبريل على رسول الله صلى الله عليه وسلم نجوماً لجواب الناس "، وقيل المباركة الكثيرة الخير، لما ينزل فيها من الخير والبركة، ويستجاب من الدعاء، ولو لم يوجد فيها إلا إنزال القرآن وحده لكفى به بركة.
(إنا كنا منذرين) أي مخوفين عقابنا مستأنف أو جواب ثان بغير عاطف، ومن جملة بركتها ما ذكره الله سبحانه ههنا بقوله:(12/389)
فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4)
(فيها يفرق كل أمر حكيم) أي يفصل ويبين من قولهم فرقت الشيء أفرقه فرقاً، والأمر الحكيم المحكم المبرم الذي لا يحصل فيه تغيير ولا نقض، وذلك أن الله سبحانه يكتب فيها ما يكون في السنة من حياة وموت، وبسط وقبض، وخير وشر، ورزق وأجل، ونصر وهزيمة، وخصب وقحط، وغير ذلك من أقسام الحوادث وجزئياتها في أوقاتها وأماكنها، ويبين ذلك للملائكة من تلك الليلة إلى مثلها من العام المقبل فيجدونه سواء، فيزدادون بذلك إيماناً، كذا قال مجاهد وقتادة والحسن وغيرهم.
وقيل: معنى حكيم أي مفعول على ما تقتضيه الحكمة، وهو من الإسناد المجازي، لأن الحكيم صاحب الأمر على الحقيقة، ووصف به الأمر مجازاً، وهذه الجملة إما صفة أخرى لليلة وما بينهما اعتراض أو مستأنفة لتقرير ما قبلها، قرأ الجمهور يفرق بضم الياء وفتح الراء مخففاً، وقرىء بفتح الياء وضم الراء، ونصب كل أمر ورفع حكيم على أنه الفاعل.
والحق ما ذهب إليه الجمهور من أن هذه الليلة المباركة هي ليلة القدر لا ليلة النصف من شعبان لأن الله سبحانه أجملها هنا وبينها في سورة البقرة بقوله: (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن) وبقوله في سورة القدر (إنا(12/389)
أنزلناه في ليلة القدر) فلم يبق بعد هذا البيان الواضح ما يوجب الخلاف، ولا ما يقتضي الاشتباه.
قال ابن عباس في الآية " يكتب من أم الكتاب في ليلة القدر ما يكون في السنة من رزق وموت وحياة ومطر، حتى يكتب الحاج يحج فلان ويحج فلان " وقال ابن عمر: " أمر السنة إلى السنة إلا الشقاوة والسعادة، فإنه في كتاب الله لا يبدل ولا يغير " أخرجه ابن أبي حاتم، وأخرج عبد بن حميد وغيره عنه أنه قال: " إنك لترى الرجل يمشي في الأسواق وقد وقع اسمه في الموتى، ففي تلك الليلة يفرق أمر الدنيا إلى مثلها من قابل من موت أو حياة أو رزق كل أمر الدنيا يفرق تلك الليلة إلى مثلها "، وأخرج ابن زنجويه والديلمي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يقطع الآجال من شعبان إلى شعبان حتى إن الرجل لينكح ويولد له قد خرج اسمه في الموتى " وأخرجه ابن أبي الدنيا وابن جرير عن عثمان بن محمد، وهذا مرسل لا تقوم به الحجة، ولا يعارض بمثله صرائح القرآن، وما روي في هذا فهو إما مرسل أو غير صحيح، وقد أورد ذلك صاحب الدر المنثور، وأورد ما ورد في فضل ليلة النصف من شعبان، وذلك لا يستلزم أنها المراد بقوله في ليلة مباركة (1).
وانتصاب قوله
_________
(1) زاد المسير 337.(12/390)
أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (5)
(أمراً من عندنا) بيفرق أي يفرق فرقاً لأن أمراً بمعنى فرقاً، قاله الزجاج والفراء، والمعنى أنا نأمر ببيان ذلك ونسخه من اللوح المحفوظ، فهو على هذا منتصب على المصدرية، مثل قولك يضرب ضرباً، قال المبرد أمراً في موضع المصدر، والتقدير أنزلناه إنزالاً، وقال الأخفش انتصابه على الحال، أي آمرين، وقيل على الاختصاص أعني بهذا الأمر أمراً حاصلاً من عندنا، وفيه تفخيم لشأن القرآن وتعظيم له. وقد ذكر بعض أهل العلم في انتصاب أمراً أثني عشر وجهاً أظهرها ما ذكرناه، وقرأ زيد بن عليّ بالرفع أي هو أمر.(12/390)
(إنا كنا مرسلين) الرسل محمداً ومن قبله قال الرازي المعنى إنا فعلنا ذلك الإنذار لأجل أنا كنا مرسلين للأنبياء، ومثله قال ابن الخطيب، وانتصاب(12/391)
رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (6)
(رحمة) على العلة أي أنزلناه للرحمة، قاله الزجاج وقال المبرد: إنها منتصبة على أنها مفعول لمرسلين، أي إنا كنا مرسلين رحمة، وقيل: هي مصدر في موضع الحال أي راحمين قاله الأخفش وقيل: إنها مصدر منصوب بفعل مقدر، أي رحمنا رحمة، وقيل: إنها حال من ضمير مرسلين أي ذوي رحمة، وقرأ الحسن بالرفع أي هي رحمة ورأفة بالمرسل إليهم.
(من ربك) متعلق بالرحمة أو صفة لمحذوف، وفيه التفات من التكلم إلى الغيبة، ولو جرى على منوال ما تقدم لقال: من ربنا، والمعنى رأفة مني بخلقي ونعمة عليهم بما بعثت إليهم من الرسل (إنه هو السميع) لمن دعاه (العليم) بكل شيء ثم وصف سبحانه نفسه بما يدل على عظيم قدرته الباهرة فقال:(12/391)
رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (7)
(رب السموات والأرض وما بينهما) قرأ الجمهور رب بالرفع على أنه عطف بيان على السميع العليم أو على أنه مبتدأ وخبره قوله الآتي(12/391)
لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (8)
(لا إله إلا هو) أو على أنه خبر لمبتدأ محذوف، أي هو رب وقرأ الكوفيون بالجر على أنه بدل من ربك أو بيان له أو نعت (إن كنتم موقنين) بأنه رب السموات والأرض وما بينهما، وقد أقروا بذلك كما حكاه الله عنهم في غير موضع فأيقنوا بأن محمداً رسوله.
(لا إله إلا هو) مستأنفة مقررة لما قبلها أو خبر رب السموات كما مر وكذلك جملة (يحيي ويميت) فإنها مستأنفة مقررة لما قبلها (ربكم ورب آبائكم الأولين) قرأ الجمهور بالرفع على الاستئناف بتقدير مبتدأ أي هو ربكم أو على أنه بدل من رب السموات أو بيان أو نعت له وقرأ الكسائي في رواية الشيرازي عنه وغيره بالجر ووجه الجر ما ذكرناه في قراءة من قرأ بالجر في رب السموات، وقرأ الأنطاكي بالنصب على المدح.(12/391)
بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ (9) فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ (10) يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (11) رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (12) أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (13) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ (14) إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ (15) يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ (16) وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (17)(12/392)
بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ (9)
(بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ) أضرب عن كونهم موقنين إلى كونهم في شك من التوحيد والبعث وفي إقرارهم بأن الله خالقهم وخالق سائر المخلوقات، وإنما يقولونه تقليداً لآبائهم من غير علم وأن ذلك منهم على طريقة اللعب والهزء في دينهم بما يعن لهم من غير حجة، ومحل يلعبون الرفع على أنه خبر ثان أو النصب على الحال(12/392)
فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ (10)
(فارتقب) الفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها لأن كونهم في شك ولعب، يقتقي ذلك والمعنى فانتظر لهم يا محمد.
(يوم تأتي السماء بدخان مبين) وقيل المعنى احفظ قولهم هذا لتشهد عليهم يوم تأتي السماء الخ وقد اختلف في هذا الدخان المذكور في الآية متى يأتي فقيل إنه من أشراط الساعة، وإنه يمكث في الأرض أربعين يوماً.
وقد ثبت في الصحيح أنه من جملة العشر الآيات التي تكون قبل قيام الساعة وقيل إنه أمر قد مضى، " وهو ما أصاب قريشاً بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم حتى كان الرجل يرى بين السماء والأرض دخاناً " وهذا ثابت في الصحيحين وغيرهما وبه قال الفراء والزجاج، وقيل إنه يوم فتح مكة.(12/392)
وقال ابن قتيبة: فيه وجهان، الأول: أنه في سنة القحط يعظم يبس الأرض بسبب انقطاع المطر ويرتفع الغبار الكثير، ويظلم الهواء وذلك يشبه الدخان، ويقولون كان بيننا أمر ارتفع له دخان، ولهذا يقال للسنة المجدبة: الغبراء (الثاني): أن العرب يسمون الشيء الغالب بالدخان، والسبب فيه أن الإنسان إذا اشتد خوفه أو ضعفه اظلمت عيناه، ويرى الدنيا كالمملوءة من الدخان.
أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن مسعود " أن قريشاً لما استعصت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبطأوا عن الإسلام قال: اللهم أعني عليهم بسبع كسبع يوسف، فأصابهم قحط وجهد حتى أكلوا العظام، فجعل الرجل ينظر إلى السماء فيرى ما بينه وبينها كهيئة الدخان من الجوع فأنزل الله هذه الآية فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقيل يا رسول الله استسق الله المطر فاستسقى لهم فسقوا فأنزل الله (إنا كاشفو العذاب قليلا إنكم عائدون) فلما أصابتهم الرفاهية عادوا إلى حالهم فأنزل الله (يوم نبطش البطشة الكبرى إنا منتقمون) فانتقم الله منهم يوم بدر فقد مضى البطشة والدخان واللزام "، وقد روي عن ابن مسعود نحو هذا من غير وجه وروي نحوه عن جماعة من التابعين كمقاتل ومجاهد وعن أبي مليكة قال دخلت على ابن عباس فقال: " لم أنم هذه الليلة فقلت لم؟ قال طلع الكوكب فخشيت أن يطرق الدخان " (1) قال ابن كثير: وهذا إسناد صحيح وكذا صححه السيوطي ولكن ليس فيه أنه سبب نزول الآية (2).
وقد عرفناك أنه لا منافاة بين كون هذه الآية نازلة في الدخان الذي كان يتراءى لقريش من الجوع، وبين كون الدخان من آيات الساعة وعلاماتها
_________
(1) الطبري 25/ 113.
(2) ذكره البخاري بألفاظ مختلفة 8/ 394 - 420 - 440 ورواه مسلم أيضاًً.(12/393)
وأشراطها، فقد وردت أحاديث صحاح وحسان وضعاف بذلك. وليس فيها أنه سبب نزول الآية فلا حاجة بنا إلى التطويل بذكرها.
والواجب التمسك بما ثبت في الصحيحين وغيرهما أن دخان قريش عند الجهد والجوع هو سبب النزول، وبهذا تعرف اندفاع ترجيح من رجح أنه الدخان الذي من أشراط الساعة كابن كثير في تفسيره وغيره في غيره، وهكذا يندفع قول من قال: إنه الدخان الكائن يوم فتح مكة متمسكاً بما أخرجه ابن سعد عن أبي هريرة قال: " كان يوم فتح مكة دخان، وهو قول الله فارتقب الخ " فإن هذا لا يعارض ما في الصحيحين على تقدير صحة إسناده مع احتمال أن يكون أبو هريرة رضي الله تعالى عنه ظن من وقوع ذلك الدخان يوم الفتح أنه المراد بالآية، ولهذا لم يصرح بأنه سبب نزولها.(12/394)
يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (11)
(يغشى الناس) صفة ثانية للدخان أي يشملهم ويحيط بهم (هذا عذاب أليم) أي يقولون هذا أو قائلين ذلك أو يقول الله لهم ذلك(12/394)
رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (12)
(ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون) أي يقولون ذلك " وقد روي أنهم أتوا النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: إن كشف الله عنا العذاب أسلمنا " والمراد بالعذاب الجوع الذي كان بسببه ما يرونه من الدخان أو يقولونه إذا رأوا الدخان الذي هو من آيات الساعة أو إذا رأوه يوم فتح مكة على اختلاف الأقوال.
والراجح منها أنه الدخان الذي كانوا يتخيلونه مما نزل بهم من الجوع وشد الجهد، ولا ينافي ترجيح هذا ما ورد أن الدخان من آيات الساعة، فإن ذلك دخان آخر، ولا ينافيه أيضاًً ما قيل إنه الذي كان يوم فتح مكة، فإنه دخان آخر على فرض صحة وقوعه.(12/394)
أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (13)
(أنى لهم الذكرى) أي كيف يتذكرون ويتعظون بما نزل بهم (و) الحال أنه (قد جاءهم رسول مبين) يبين لهم كل شيء يحتاجون إليه من أمر(12/394)
الدنيا والدين(12/395)
ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ (14)
(ثم تولوا عنه) أي أعرضوا عن ذلك الرسول الذي جاءهم ولم يكتفوا بمجرد الإعراض عنه بل جاوزوه.
(وقالوا معلم مجنون) أي قالوا في حقه تارة إنما يعلمه القرآن بشر، وتارة أخرى إنه مجنون، أو قال بعضهم هذا وبعضهم ذلك فيكف يتذكر هؤلاء وأنى لهم الذكرى؟ ثم لما دعوا الله بأن يكشف عنهم العذاب، وأنه إذا كشفه عنهم آمنوا أجاب الله سبحانه عليهم بقوله:(12/395)
إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ (15)
(إنا كاشفو العذاب قليلاً) أي إنا نكشفه عنهم كشفاً قليلاً أو زماناً قليلاً وهذا جواب بطريق الالتفات لمزيد التهديد والتوبيخ، وما بينهما اعتراض أي إلى يوم بدر أو إلى ما بقي من أعمارهم، ثم أخبر سبحانه عنهم أنهم لا ينزجرون عما كانوا عليه من الشرك ولا يفون بما وعدوا به من الإيمان فقال:
(إنكم عائدون) إلى ما كنتم عليه من الشرك، وقد كان الأمر هكذا فإن الله سبحانه لما كشف عنهم العذاب رجعوا إلى ما كانوا عليه من الكفر والعناد، وقيل المعنى إنكم عائدون إلينا بالبعث والنشور والأول أولى.(12/395)
يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ (16)
(يوم نبطش البطشة الكبرى إنا منتقمون) قرأ الجمهور نبطش بفتح النون وكسر الطاء أي نبطش بهم وقرىء بضم الطاء وهي لغة وقرىء بضم النون وكسر الطاء والظرف منصوب بإضمار اذكر، وقيل بدل من (يوم تأتي السماء) وقيل هو متعلق بـ (منتقمون)، وقيل بما دل عليه منتقمون، وهو منتقم والبطشة الكبرى هي يوم بدر، قاله الأكثر.
والمعنى أنهم لما عادوا إلى التكذيب والكفر بعد رفع العذاب عنهم انتقم الله منهم بوقعة بدر. وقال الحسن وعكرمة والمراد بها عذاب النار يوم القيامة، واختار هذا الزجاج، والأول أولى.
وعن ابن عباس أنه قال: قال ابن مسعود: البطشة الكبرى يوم بدر(12/395)
وأنا أقول هي يوم القيامة، قال ابن كثير وهذا إسناد صحيح، وقال ابن الخطيب هذا القول أصح لأن يوم بدر لا يبلغ هذا المبلغ الذي يوصف بهذا الوصف العظيم، وأن الانتقام التام إنما يحصل يوم القيامة، لقوله تعالى:
(اليوم تجزى كل نفس بما كسبت) وقال ابن كثير قبل هذا فسر ذلك ابن مسعود بيوم بدر، وهذا قول جماعة ممن وافق ابن مسعود على تفسيره الدخان بما تقدم، وروي أيضاًً عن ابن عباس من رواية العوفي عنه، وعن أبيّ بن كعب وجماعة وهو محتمل والظاهر أن ذلك يوم القيامة، وإن كان يوم بدر يوم بطشة كبرى أيضاًً انتهى.
قال الشوكاني: بل الظاهر أنه يوم بدر، وإن كان يوم القيامة بطشة أكبر من كل بطشة، فإن السياق مع قريش، فتفسيره بالبطشة الخاصة لهم أولى من تفسيره بالبطشة التي تكون يوم القيامة لكل عاص من الإنس والجن انتهى.(12/396)
وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (17)
(ولقد فتنا) وقرىء فتنا بالتشديد على المبالغة أو التكثير لكثرة متعلقة أي ابتلينا (قبلهم) أي قبل هؤلاء العرب، ليكون ما مضى من خبرهم عبرة لهم (قوم فرعودن) معه ومعنى الفتنة هنا أن الله سبحانه أرسل إليهم رسله وأمرهم بما شرعه لهم، فكذبوهم، أو وسع عليهم الأرزاق فطغوا وبغوا، قال الزجاج: بلوناهم أي امتحناهم، وفعلنا بهم فعل الممتحن، والمعنى عاملناهم معاملة المختبر ببعث الرسل إليهم، والتمكين في الأرض.
(وجاءهم رسول كريم) على الله، كريم في قومه أي كريم في نفسه حسيب نسيب، لأن الله لم يبعث نبياً إلا من سراة قومه وكرامهم، وقال مقاتل: حسن الخلق بالتجاوز والصفح، وقال الفراء كريم على ربه إذ اختصه بالنبوة وإسماع الكلام، قال ابن عباس: هو موسى.(12/396)
أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (18) وَأَنْ لَا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (19) وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ (20) وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (21) فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ (22) فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (23) وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ (24) كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25) وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (26) وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ (27) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ (28)(12/397)
أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (18)
(أن أدوا) أن هذه هي المفسرة لتقدم ما هو بمعنى القول، أو مخففة من الثقيلة، والمعنى أن الشأن والحديث أدوا (إليَّ عباد الله) أو مصدرية أي بأن أدوا، والمعنى أنه طلب منهم أن يسلموا إليه بني إسرائيل الذين كان فرعون استعبدهم، فأداؤهم استعارة بمعنى إطلاقهم وإرسالهم معه.
قال مجاهد: المعنى أرسلوا معي عباد الله وأطلقوهم من العذاب، فعباد الله على هذا مفعول به، كقوله في سورة طه: (فأرسل معنا بني إسرائيل ولا تعذبهم) وقيل: المعنى أدوا إلى عباد الله ما وجب عليكم من حقوق الله فيكون منصوباً على أنه منادى مضاف، وقيل: أدوا إلى سمعكم حتى أبلغكم رسالة ربي وقال ابن عباس: اتبعوني إلى ما أدعوكم إليه من الحق (إني لكم رسول) من الله (أمين) على الرسالة غير متهم وهذا تعليل للأمر.(12/397)
وَأَنْ لَا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (19)
(وأن لا تعلوا على الله) أي لا تتجبروا ولا تتكبروا عليه بترفعكم عن طاعته ومتابعة رسله وإهانة وحيه وهذا أوضح، وقيل: لا تبغوا على الله وقيل: لا تفتروا عليه، قاله ابن عباس، والأول أولى، والفرق بين البغي والافتراء أن البغي بالفعل والافتراء بالقول، وقال ابن عباس أيضاً لا تعثوا، وقال ابن جريج لا تتعظموا، وقال يحيى بن سلام لا تستكبروا والفرق بينهما(12/397)
أن التعاظم تطاول المقتدر، والاستكبار ترفع المحتقر، أفاده الماوردي.
وجملة (إني آتيكم) تعليل لما قبلها من النهي قرأ الجمهور بكسر همزة إني وقرىء بالفتح بتقدير اللام (بسلطان مبين) أي بحجة بينة واضحة يعترف بصحتها كل عاقل، ولا سبيل إلى إنكارها، وقال قتادة وابن عباس بعذر بين، والأول أولى، وبه قال يحيى بن سلام.(12/398)
وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ (20)
(وإني عذت بربي وربكم) من (أن ترجمون) استعاذ بالله سبحانه لما توعدوه بالقتل، قال قتادة ترجموني بالحجارة، وبه قال ابن عباس، وقيل تشتموني، كذا قال ابن عباس أيضاً، وقيل تقتلوني(12/398)
وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (21)
(وإن لم تؤمنوا لي) أي إن لم تصدقوا لي وتقروا بنبوتي، ولم تؤمنوا بالله لأجل برهاني، فاللام في لي لام الأجل، وقيل أي وإن لم تؤمنوا بي. كقوله (فآمن له لوط) أي به.
(فاعتزلون) أي فاتركوني ولا تتعرضوا لي بأذى، قال مقاتل دعوني كفافاً لا علي ولا لي وقيل كونوا بمعزل عني، وأنا بمعزل منكم إلى أن يحكم الله بيننا وقيل فخلوا سبيلي قاله ابن عباس، والمعنى متقارب، ثم لما لم يصدقوه ولم يجيبوا دعوته رجع إلى ربه بالدعاء كما حكى الله عنه بقوله:(12/398)
فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ (22)
(فدعا ربه إن هؤلاء قوم مجرمون) أي كافرون قرأ الجمهور بفتح الهمزة على إضمار حرف الجر أي دعاه بأن هؤلاء وقرىء بكسرها على إضمار القول، وفي الكلام حذف أي لكفروا فدعا ربه، وسماه دعاء مع أنه لم يذكر إلا مجرد كونهم مجرمين لأنهم قد استحقوا بذلك الدعاء عليهم، وقيل كان دعاؤه اللهم عجل لهم ما يستحقونه باجرامهم، وقيل: هو قوله: (ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين) والأول أولى.(12/398)
فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (23)
(فأسر بعبادي ليلاً) أجاب الله سبحانه دعاءه، فأمره أن يسري ببني إسرائيل ليلاً، يقال: سرى وأسرى لغتان جيدتان، قرأ الجمهور فأسر بالقطع من أسرى، وقرأ أهل الحجاز بالوصل من سرى، وهما سبعيتان، والجملة بتقدير القول أي فقال الله لموسى أسر بعبادي ليلاً (إنكم متبعون)(12/398)
أي يتبعكم فرعون وجنوده، وقد تقدم في غير موضع خروج فرعون بعدهم.(12/399)
وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ (24)
(واترك البحر رهواً) أي ساكناً، يقال: رها يرهو رهواً إذا سكن لا يتحرك قال الجوهري: يقال افعل ذلك رهواً أي ساكناً على هيئتك وعيش راه أي ساكن، ورها البحر سكن، وقال الهروي وغيره: وهو المعروف في اللغة، والمعنى اترك البحر ساكناً على صفته بعد أن ضربته بعصاك، ولا تأمره أن يرجع كما كان ليدخله آل فرعون بعدك وبعد بني إسرائيل، فينطبق عليهم فيغرقون.
وقال أبو عبيدة: رها بين رجليه يرهو رهواً أي فتح، قال: ومنه قوله (واترك البحر رهواً) والمعنى اتركه منفرجاً، كما كان بعد دخولكم فيه، وكذا قال أبو عبيدة، وبه قال مجاهد وغيره قال ابن عرفة وهما يرجعان إلى معنى واحد، وإن اختلف لفظاهما لأن البحر إذا سكن جريه انفرج قال الهروي ويجوز أن يكون رهواً نعتاً لموسى، أي سر ساكناً على هيئتك، وقال كعب والحسن: رهواً طريقاً، وقال الضحاك والربيع: سهلاً، وقال عكرمة يبساً كقوله (فاضرب لهم طريقاً في البحر يبساً) وعلى كل تقدير فالمعنى اتركه ذا رهو أو اتركه رهواً على المبالغة في الوصف بالمصدر وقال ابن عباس: رهواً سمتاً وعنه قال كهيئة وأمضِ وعنه أيضاًً قال الرهو أن يترك كما كان.
(إنهم) أي إن فرعون وجنده بعد خروجكم (جند مغرقون) أي متمكنون في هذا الوصف، وإن كان لهم وصف القوة والتجمع الذي شأنه النجدة الموجبة للعلو في الأمور أخبر سبحانه موسى بذلك ليسكن قلبه ويطمئن جأشه، قرأ الجمهور بكسر إن على الاستئناف لقصد الإخبار بذلك وقرىء بالفتح على تقدير لأنهم.(12/399)
كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25)
(كم تركوا) كم هي الخبرية المفيدة للتكثير، وقد مضى الكلام في معنى الآية في سورة الشعراء، والتقدير فأغرقوا، وكم مفعول به أي تركوا أموراً كثيرة وقد بينها بقوله: (من جنات) أي بساتين (وعيون) تجري(12/399)
وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (26)
(وزروع ومقام كريم) قرأ الجمهور مقام بفتح الميم على أنه اسم مكان للقيام وقرىء بضمها اسم مكان الإقامة قال ابن عباس ومقام كريم المنابر، وعن جابر مثله، وقيل: هو ما كان لهم من المنازل الحسنة، والمجالس الشريفة والمحافل المزينة.(12/400)
وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ (27)
(ونعمة كانوا فيها فاكهين) النعمة بالفتح التنعم ونضارة العيش ولذاذته يقال نعمه الله وناعمه فتنعم، وبالكسر المنة وما أنعم به عليك وفلان واسع النعمة أي واسع المال، ذكر معنى هذا الجوهري، وقال المحلي: نعمة أي متعة أي أمور يتمتعون وينتفعون بها، كالملابس والمراكب قرأ الجمهور فاكهين بالألف، وقرىء بغير ألف والمعنى على الأولى متنعمين طيبة أنفسهم وعلى الثانية أشرين بطرين. قال الجوهري: فكه الرجل بالكسر فهو فكه إذا كان طيب النفس مزاحاً، والفكه أيضاًً الأشر البطر، قال وفاكهين أي ناعمين وقال الثعلبي هما لغتان كالحاذر والحذر، والفاره والفره وقيل: إن الفاكه هو المستمتع بأنواع اللذة كما يتمتع الرجل بأنواع الفاكهة.(12/400)
كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ (28)
(كذلك) أي الأمر كذلك يجوز أن تكون في محل نصب، والإشارة إلى مصدر فعل يدل عليه تركوا، أي مثل ذلك السلب سلبناهم إياها، وقيل مثل ذلك الإخراج أخرجناهم منها. وقيل مثل ذلك الإهلاك أهلكناهم، فعلى الوجه الأول يكون قوله (وأورثناها) معطوفاً على تركوا وعلى الوجوه الآخرة يكون معطوفاً على الفعل المقدر (قوماً آخرين) المراد بهم بنو إسرائيل، فإن الله سبحانه ملكهم مصر، بعد أن كانوا مستعبدين فصاروا لها وارثين أي أنها وصلت إليهم كما يصل الميراث إلى الوارث، ومثل هذا قوله (وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها) وهذا قول الحسن، وقيل: إنهم لم يرجعوا إلى مصر، والقوم الآخرون غير بني إسرائيل وهو قول ضعيف جداً قاله الكرخي.(12/400)
فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ (29) وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ (30) مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ (31) وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (32) وَآتَيْنَاهُمْ مِنَ الْآيَاتِ مَا فِيهِ بَلَاءٌ مُبِينٌ (33)(12/401)
فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ (29)
(فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ) هذا بيان لعدم الأكتراث بهلاكهم والاعتداد بوجودهم، كقولك: بكت عليهم السماء وكسفت لمهلكهم الشمس في نقيض ذلك فالبكاء مجاز مرسل ومع ذلك لا بد من جعل الآية استعارة بالكناية، والمعنى أنه لم يصب بفقدهم وهلاكهم أحد من أهل السماء ولا من أهل الأرض، وكانت العرب تقول عند موت السيد منهم: بكت له السماء والأرض، أي عمت مصيبته، وقال الحسن في الكلام مضاف محذوف أي فما بكى عليهم أهل السماء والأرض من الملائكة والناس، وقال الزمخشري ذكر هذا على سبيل السخرية بهم يعني أنهم كانوا يستعظمون أنفسهم ويعتقدون أنهم لو ماتوا لبكت عليهم السماء والأرض، ولم يكونوا بهذا الحد بل كانوا دون ذلك فذكر هذا تهكماً بهم.
وقال مجاهد إن السماء والأرض تبكيان على المؤمن أربعين صباحاً، وقيل تبكي على المؤمن مواضع صلاته ومصاعد عمله، وعلى هذا إنه بكاء كالمعروف من بكاء الحيوان، وفي معنى الآية وجهان، والثاني أظهر وأوفق بالأحاديث ونظم القرآن قال السدي: لما قتل الحسين رضي الله عنه بكت عليه السماء وبكاؤها حمرتها.
وعن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما من عبد إلا(12/401)
وله بابان باب يصعد منه عمله، وباب ينزل منه رزقه، فإذا مات فقداه وبكيا عليه، وتلا هذه الآية فما بكت " (1) الخ وذكر أنهم لم يكونوا يعملون على الأرض عملاً صالحاً تبكي عليهم، ولم يصعد لهم إلى السماء من كلامهم، ولا من عملهم، كلام صالح فيفتقدهم، فيبكي عليهم، " (2) أخرجه الترمذي وابن أبي الدنيا وأبو يعلى وابن أبي حاتم وابن مردويه وأبو نعيم في الحلية والخطيب.
وأخرج ابن جرير وعبد بن حميد وابن المنذر والبيهقي في الشعب نحوه من قول ابن عباس، وعنه قال: " يقال: الأرض تبكي على المؤمن أربعين صباحاً " وعن شريح بن عبيد الحضرمي مرسلاً قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الإسلام بدأ غريباً وسيعود غريباً كما بدأ ألا لا غربة على مؤمن ما مات مؤمن في غربة غابت عنه فيها بواكيه إلا بكت عليه السماء والأرض ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية ثم قال إنهما لا تبكيان على كافر " أخرجه ابن جرير وابن أبي الدنيا.
وعن علي رضي الله تعالى عنه " إن المؤمن إذا مات بكى عليه مصلاه ومصعد عمله من السماء، ثم تلا هذه الآية " (وما كانوا منظرين) أي مؤخرين للتوبة وممهلين إلى وقت آخر. بل عوجلوا بالعقوبة لفرط كفرهم وشدة عنادهم.
_________
(1) الترمذي 2/ 158.
(2) السيوطي في الدر 6/ 31.(12/402)
وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ (30)
(ولقد نجينا بني إسرائيل من العذاب المهين) أي خلصناهم بإهلاك
عدوهم مما كانوا فيه من الاستعباد، وقتل الأبناء واستيحاء النساء وتكليفهم(12/402)
للأعمال الشاقة(12/403)
مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ (31)
(من فرعون) بدل من العذاب إما على حذف مضاف أي من عذابه، وإما على المبالغة كأنه نفس العذاب، فأبدل منه أو على أنه حال من العذاب، أي صادراً من فرعون، وقرأ ابن عباس من فرعون؟ بفتح الميم على الاستفهام التحقيري، كما يقال لمن افتخر بحسبه أو نسبه: من أنت؟ والأول أولى.
ثم بين سبحانه فقال (إنه كان عالياً) في التكبر والتجبر (من المسرفين) في الكفر بالله، وارتكاب معاصيه، كما في قوله (إن فرعون علا في الأرض) ومن إسرافه أنه كان على حقارته وخسته ادعى الإلهية، ولما بين سبحانه كيفية دفعه للضرر عن بني إسرائيل بين ما أكرمهم به فقال:(12/403)
وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (32)
(ولقد اخترناهم) أي مؤمني بني إسرائيل (على) أي مع (علم) منا بحالهم، وهي كونهم أحقاء بأن يختاروا، أو كونهم يزيغون وتحصل منهم الفرطات في بعض الأحوال (على العالمين) أي على عالمي زمانهم على علم منه سبحانه باستحقاقهم لذلك، وليس المراد أنه اختارهم على جميع العالمين، بدليل قوله في هذه الأمة (كنتم خير أمة أخرجت للناس) وقيل على كل العالمين لكثرة الأنبياء فيهم، وهذا خاصة لهم، وليس لغيرهم، حكاه ابن عيسى والزمخشري وغيرهما والأول أولى، وقيل: يرجع هذا الاختيار إلى تخلصيهم من الغرق، وإيراثهم الأرض بعد فرعون.(12/403)
وَآتَيْنَاهُمْ مِنَ الْآيَاتِ مَا فِيهِ بَلَاءٌ مُبِينٌ (33)
(وآتيناهم من الآيات) أي معجزات موسى (ما فيه بلاء مبين) أي اختبار ظاهر، وامتحان واضح لننظر كيف يعلمون؟ وقال قتادة: الآيات إنجاؤهم من الغرق، وفلق البحر لهم، وتظليل الغمام عليهم، وإنزال المن والسلوى لهم، وقال ابن زيد الآيات هي الشر الذي كفهم عنه، والخير الذي أمرهم به، وقال الحسن وقتادة البلاء المبين النعمة الظاهرة، كما في قوله (وليبلي المؤمنين منه بلاء حسناً) (ونبلوكم بالشر والخير فتنة).(12/403)
إِنَّ هَؤُلَاءِ لَيَقُولُونَ (34) إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ (35) فَأْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (36) أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (37) وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (38) مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (39) إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (40) يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (41)(12/404)
إِنَّ هَؤُلَاءِ لَيَقُولُونَ (34)
(إِنَّ هَؤُلَاءِ) أي كفار قريش، لأن الكلام فيهم، وقصة فرعون مسوقة للدلالة على استوائهم في الإصرار على الكفر، (ليقولون(12/404)
إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ (35)
إن هي إلا موتتنا الأولى) التي نموتها في الدنيا، ولا حياة بعدها ولا بعث، وهو معنى قوله (وما نحن بمنشرين) أي بمبعوثين، يقال أنشر الله الموتى ونشرهم إذا بعثهم، وليس في الكلام قصد إلى إثبات موتة أخرى، بل المراد ما العاقبة ونهاية الأمر، إلا الموتة الأولى المزيلة للحياة الدنيوية.
قال الرازي وابن الخطيب المعنى أنه لا يأتينا من الأحوال الشديدة إلا الموتة الأولى، وهذا الكلام يدل على أنه لا تأتيهم الحياة الثانية البتة، فلا حاجة إلى التكلف الذي ذكره الزمخشري في هذا المقام، ثم أوردوا على من وعدهم بالبعث ما ظنوه دليلاً، وهو حجة داحضة فقالوا:(12/404)
فَأْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (36)
(فأتوا بآبائنا) أي ارجعوهم بعد موتهم إلى الدنيا، قال الفراء والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم وحده، كقوله (رب أرجعونِ)(12/404)
والأولى أنه خطاب له صلى الله عليه وسلم ولأتباعه من المسلمين (إن كنتم صادقين) فيما تقولونه وتخبروننا به من البعث، ثم رد الله سبحانه عليهم بقوله(12/405)
أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (37)
(أهم خير) في القوة والمنعة.
(أم قوم تبع) الحميري الذي دار في الدنيا بجيوشه، وغلب أهلها وقهرهم، وحير الحيرة وبني سمرقند، وقيل هدمها وكان مؤمناً، وكان قومه كافرين، وكان من ملوك اليمن، سمي تبعاً لكثرة أتباعه، وقيل كل واحد من ملوك اليمن يسمى تبعاً لأنه يتبع صاحبه الذي قبله، كما سمي في الإسلام خليفة، وفيه وعيد شديد، وقيل المراد بقوم تبع جميع أتباعه لا واحد بعينه، وكان تبع هذا يعبد النار فأسلم ودعا قومه وهم حمير إلى الإسلام فكذبوه.
وعن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " لا تسبوا تبعاً فإنه قد أسلم " رواه البيهقي والحاكم وصححه، وابن المبارك وعبد بن حميد وابن أبي الدنيا، وعن سهل بن سعد الساعدي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " فذكر نحوه " (1) أخرجه أحمد والطبراني وابن ماجة وابن مردويه وروي نحو هذا عن غيرهما من الصحابة والتابعين، قال الرياشي كان أبو كرب أسعد الحميري من التبابعة ممن آمن بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم قبل أن يبعث بسبعمائة سنة وإليه تنسب الأنصار وهو أول من كسى البيت بعد ما أراد غزوه وبعد ما غزا المدينة وأراد خرابها ثم انصرف عنها لما أخبر أنها مهاجر نبي اسمه أحمد وقال شعراً أودعه عند أهلها وكانوا يتوارثونه كابراً عن كابر إلى أن هاجر النبي صلى الله عليه وسلم فدفعوه إليه وقال " كعب ذم الله قومه ولم يذمه ".
والمراد بقوله (والذين من قبلهم) عاد وثمود ونحوهم من الأمم الكافرة (أهلكناهم) مستأنفة لبيان حالهم وعاقبة أمرهم (إنهم كانوا
_________
(1) رواه الحاكم 2/ 450 مثله.(12/405)
مجرمين) أي كافرين منكرين للبعث، تعليل لإهلاكهم، يعني أن الله سبحانه قد أهلكهم بسبب كونهم مجرمين، فإهلاكه لمن هو دونهم بسبب كونه مجرماً، مع ضعفه وقصور قدرته بالأولى.(12/406)
وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (38)
(وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما) أي ما بين جنسي السماء والأرض (لاعبين) أي بغير غرض صحيح، قال مقاتل لم نخلقهما عابثين لغير شيء، وقال الكلبي لاهين، وقيل غافلين قرأ الجمهور ما بينهما، وقرىء وما بينهن لأن السموات والأرض جمع.(12/406)
مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (39)
(ما خلقناهما) وما بينهما (إلا بالحق) أي بالأمر الحق، والاستثناء مفرغ من أعم الأحوال، وقال الكلبي إلا للحق وكذا قال الحسن، وقيل إلا لإقامة الحق وإظهاره، وقيل بالعدل، وهو الثواب على الطاعة والعقاب على المعصية، وقيل بالجد ضد اللعب.
(ولكن أكثرهم لا يعلمون) لقلة نظرهم أن الأمر كذلك، وهم المشركون، وفيه تجهيل عظيم لمنكري البعث والحشر، وتوكيد لأن إنكارهم يؤدي إلى إبطال الكائنات بأسرها ويحسبونه هيناً وهو عند الله عظيم، وفي هذه الآية دليل على صحة الحشر ووقوعه.
ووجه الدلالة أنه لو لم يحصل البعث والجزاء لكان هذا الخلق عبثاً، لأنه تعالى خلق نوع الإنسان، وخلق ما ينتظم به أسباب معاشهم من السقف المرفوع، والمهاد المفروش، وما فيهما وما بينهما من عجائب المصنوعات وبدائع الأحوال ثم كلفهم بالإيمان والطاعة فاقتضى ذلك أن يتميز المطيع من المعاصي، بأن يكون المطيع متعلق فضله وإحسانه، والعاصي متعلق عدله وعقابه، وذلك لا يكون في الدنيا لقصر زمانها، وعدم الاعتداد بمنافعها، لكونها مشوبة بأنواع الآفات والمحن، فلا بد من البعث (لتجزى كل نفس بما كسبت) فظهر بهذا وجه اتصال الآية بما قبلها، وهو أنه لما حكى مقالة(12/406)
منكري البعث والجزاء، وهددهم ببيان مآل المجرمين الذين مضوا، ذكر الدليل القاطع، الدال على صحة البعث والجزاء فقال: وما خلقنا الخ.(12/407)
إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (40)
(إن يوم الفصل) أي يوم القيامة الذي يفصل فيه الحق عن الباطل، والإضافة على معنى في، والظاهر أنها بمعنى اللام (ميقاتهم) أي الوقت المجعول لتميز المحسن من المسيء، والمحق من المبطل (أجمعين) لا يخرج عنهم أحد من ذلك، وقد اتفق القراء على رفع ميقاتهم على أنه خبر إن، واسمها يوم الفصل، وأجاز الكسائي والفراء نصبه على أنه اسمها، ويوم الفصل خبرها، ثم وصف سبحانه ذلك اليوم فقال:(12/407)
يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (41)
(يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا) بدل من يوم الفصل أو منتصب بفعل يدل عليه الفصل، أي يفصل بينهم يوم لا يغني، والمعنى أنه لا ينفع قريب قريباً، ولا يدفع عنه شيئاًً.
ويطلق المولى على الولي، وهو القريب والناصر، وفي المختار المولى المعتق والمعتق وابن العم والناصر والجار، والحليف، أي لا يدفع ابن عم عن ابن عمه ولا صديق عن صديقه شيئاًً، ومولى الأول مرفوع بالفاعلية، والثاني مجرور بعن، وإعرابهما إعراب المقصور كفتى وعصا ورحى، والمراد بالمولى الثاني الكافر، ويالأول المؤمن، أي لا يغني مولىً مؤمن عن مولىً كافر شيئاًً فهذه الآية نظير قوله تعالى (واتقوا يوماً لا تجزي نفس عن نفس شيئاًً) الآية.
(ولا هم ينصرون) الضمير راجع إلى المولى وإن كان مفرداً في اللفظ، لأنه في المعنى جمع لأنه نكرة في سياق النفي، وهو من صيغ العموم، أي ولا هم يمنعون من عذاب الله، والجملة توكيد لما قبلها، فالمعنى لا ينصر المؤمن الكافر، ولو كان بينهما في الدنيا علقة من قرابة أو صداقة أو غيرهما، كما أشار له القرطبي.(12/407)
إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (42) إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ (43) طَعَامُ الْأَثِيمِ (44) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (45) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (46) خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ (47) ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ (48) ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (49) إِنَّ هَذَا مَا كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ (50) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ (51) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (52) يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ (53)(12/408)
إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (42)
(إلا من رحم الله) قال الكسائي الاستثناء منقطع أي لكن من رحم الله، وكذا قال الفراء، وقيل هو متصل، والمعنى لا يغني قريب عن قريب إلا المؤمنين، فإنه يؤذن لهم في الشفاعة فيشفعون في بعضهم أو مرفوع على البدلية من مولى الأول، ويغني بمعنى ينفع، قال الحوفي أو مرفوع المحل أيضاًً على البدلية من واو ينصرون، أي لا يمنع من عذاب الله إلا من رحمه الله ذكره السمين.
(إنه هو العزيز الرحيم) أي الغالب الذي لا ينصر من أراد عذابه، الرحيم بعباده المؤمنين، ثم لما وصف اليوم ذكر بعده وعيد الكفار فقال:(12/408)
إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ (43)
(إن شجرة الزقوم طعام الأثيم) هي الشجرة التي خلقها الله في جهنم على صورة شجر الدنيا، وسماها الشجرة الملعونة، والزقوم ثمرها، وهو كل طعام ثقيل، فإذا جاء أهل النار التجأوا إليها فأكلوا منها، وقد مضى الكلام على شجرة الزقوم في سورة الصافات، وشجرت ترسم بالتاء(12/408)
المفتوحة، ووقف عليها بالهاء أبو عمرو وابن كثير والكسائي، ووقف الباقون بالتاء على الرسم قاله الخطيب.
وفي القرطبي: كل ما في كتاب الله من ذكر الشجرة فالوقف عليه بالهاء إلا حرفاً واحداً في سورة الدخان: (إن شجرة الزقوم) انتهى أي فيجوز الوقف عليها بالتاء والهاء، وفي القاموس كلام مبسوط على الزقم والزقوم فليرجع إليه، والأثيم الكثير الإثم، قال في الصحاح: أثم الرجل بالكسر إثماً ومأثماً إذا وقع في الإثم فهو آثم وأثيم وأثوم فمعنى طعام الأثيم طعام ذي الإثم، قيل هو أبو جهل ولا وجه للتخصيص.(12/409)
كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (45)
(كالمهل) وهو دردي الزيت وعكر القطران وقيل: هو النحاس المذاب وقيل كل ما يذوب في النار من ذهب أو فضة وكل منطبع سواء كان من صفر أو حديد أو رصاص وقيل الصديد والقيح.
(يغلي في البطون(12/409)
كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (46)
كغلي الحميم) قرأ الجمهور تغلي بالتاء على أن الفاعل ضمير يعود على الشجرة والجملة خبر ثالث أو حال أو خبر مبتدأ محذوف أي تغلي غلياً مثل غلي الحميم وهو الماء الشديد الحرارة وقرىء بالتحتية على أن الفاعل ضمير يعود إلى الطعام، وهو في معنى الشجرة ولا يصح عوده إلى المهل لأنه مشبه به وإنما يغلي ما يشبه بالمهل.(12/409)
خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ (47)
(خذوه) أي يقال للملائكة الذين هم خزنة النار: خذوه أي الأثيم (فاعتلوه) العتل القود بالعنف، يقال عتله يعتله إذا جره وذهب به إلى مكروه، وقيل: العتل أن تأخذ بتلابيب الرجل ومجامعه فتجره، قرأ الجمهور فاعتلوه بكسر التاء، وقرىء بضمها وهما لغتان وقراءتان سبعيتان (إلى سواء الجحيم) أي إلى وسطه ومعظمه كقوله (فرآه في سواء الجحيم)(12/409)
ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ (48)
(ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ) من هي التبعيضية أي صبوا فوق رأسه بعض(12/409)
هذا النوع، وإضافة العذاب إلى الحميم للبيان أي عذاب هو الحميم وهو الماء الحار كما تقدم أو من إضافة الصفة للموصوف أو المسبب للسبب فالمصبوب هو الحميم لا عذابه وصب العذاب استعارة، كقوله (أفرغ علينا صبراً) فقد شبه العذاب بالمائع ثم خيل له بالصب.(12/410)
ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (49)
(ذق) الأمر للإهانة به أي قولوا له تهكماً وتقريعاً وتوبيخاً ذق العذاب (إنك) قرأ الجمهور بكسر الهمزة وقرأ الكسائي بفتحها، وروي ذلك عن عليّ أي لأنك (أنت العزيز الكريم) قيل إن أبا جهل كان يزعم أنه أعز أهل الوادي وأكرمهم فيقولون له: ذق العذاب أيها المتعزز المتكرم على زعمك، وفيما كنت تقوله قال الفراء أي لهذا القول الذي قلته في الدنيا - عن ابن عباس في الآية قال: " يقول لست بعزيز ولا كريم " أخرج الأموي في مغازيه عن عكرمة قال: لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا جهل فقال: " إن الله أمرني أن أقول لك (أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (34) ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى) قال فنزع يده من يده وقال ما تستطيع لي أنت ولا صاحبك من شيء، لقد علمت أني أمنع أهل بطحاء، وأنا العزيز الكريم، فقتله الله يوم بدر وأذله وعيره بكلمته، وأنزل (ذق إنك أنت العزيز الكريم) ".(12/410)
إِنَّ هَذَا مَا كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ (50)
(إن هذا) العذاب أو هذا الأمر (ما كنتم به تمترون) أي تشكون فيه حين كنتم في الدنيا والجمع باعتبار جنس الأثيم، ثم ذكر سبحانه مستقر المتقين فقال:(12/410)
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ (51)
(إن المتقين) الذين اتقوا الكفر والمعاصي (في مقام) قرأ الجمهور مقام بفتح الميم وهو موضع القيام، وقرىء بضمها وهو موضع الإقامة قاله الكسائي وغيره وهما سبعيتان وقال الجوهري قد يكون كل واحد منهما بمعنى الإقامة وقد يكون بمعنى موضع القيام والمراد المكان وهو من الخاص الذي وقع(12/410)
مستعملاً في معنى العموم، ثم وصف المقام بقوله:
(أَمِينٍ) يأمن فيه صاحبه من جميع المخاوف، قال النسفي: هو من أمن الرجل أمانة فهو أمين وهو ضد الخائن فوصف به المكان استعارة لأن المكان المخيف كأنما يخون صاحبه بما يلقي فيه من المكاره انتهى.
وأصل الأمن طمأنينة النفس وزوال الخوف والأمن والأمان والأمانة في الأصل مصادر ويستعمل الأمان تارة اسماً للحالة التي عليها الإنسان في الأمن، وتارة لما يؤمن عليه الإنسان كقوله: (وتخونوا أماناتكم) أي ما ائتمنتم عليه.(12/411)
فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (52)
(في جنات وعيون) بدل من مقام أمين، جيء به للدلالة على نزاهته واشتماله على ما يستلذ به من المآكل والمشارب، أو بيان له أو خبر ثان.(12/411)
يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ (53)
(يلبسون من سندس وإستبرق) خبر ثان أو ثالث أو حال من الضمير المستكن في الجار والمجرور، والسندس مارق من الديباج، وفي المصباح الديباج ثوب سداه ولحمته إبريسم ويقال إنه معرب انتهى والإستبرق ما غلظ منه وهو تعريب استبر واللفظ إذا عرب خرج من أن يكون عجمياً لأن معنى التعريب أن يجعل عربياً بالتصرف فيه، وتغييره عن منهاجه وإجرائه على أوجه الإعراب فساغ أن يقع في القرآن العربي، وقد تقدم تفسيره في سورة الكهف.
(مُتَقَابِلِينَ) أي في مجالسهم ينظر بعضهم إلى بعض وهو أتم للأنس فلا يرد ما قيل من أن الجلوس على هذه الصفة موحش، لأن قليل الثواب إذا اطلع على حال كثير الثواب يتنغص، لأن أحوال الآخرة بخلاف أحوال الدنيا وقال المحلي: لا ينظر بعضهم إلى قفا بعض لدوران الأسرة بهم.(12/411)
كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (54) يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ (55) لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (56) فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (57) فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (58) فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ (59)(12/412)
كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (54)
(كذلك) أي نفعل بالمتقين فعلاً كذلك أو الأمر كذلك (وزوجناهم) أي أكرمناهم بأن زوجناهم (بحور عين) الحور جمع حوراء وهي البيضاء والعين جمع عيناء، وهي الواسعة العين، وقال مجاهد إنما سميت الحوراء حوراء لأنه يحار الطرف في حسنها، وقيل هو من حور العين وهو شدة بياض العين في شدة سوادها، كذا قال أبو عبيدة، وقال الأصمعي: ما أدري ما الحور في العين، قال أبو عمرو: الحور أن تسود العين كلها مثل أعين الظباء والبقر قال وليس في بني آدم حور، وإنما قيل للنساء: حور لأنهن شبهن بالظباء والبقر.
وقيل المراد بقوله (زوجناهم) قرناهم، وليس من عقد التزويج لأنه لا يقال زوجته بامرأة، وقال أبو عبيدة وجعلناهم أزواجاً لهن كما يزوج البعل بالبعل، أي جعلناهم اثنين اثنين، وكذا قال الأخفش، واختلف أيهما أفضل في الجنة النساء الآدميات أم الحور ذكر ابن المبارك أن نساء الآدميات من دخل منهن الجنة فضلن على الحور العين بما عملن في الدنيا، وروي مرفوعاً " أن الآدميات أفضل من الحور العين بسبعين ألف ضعف "، وقيل إن الحور العين أفضل لقوله عليه الصلاة والسلام " فأبدله زوجاً خيراً من زوجه " والله أعلم.(12/412)
يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ (55)
(يدعون فيها) أي في الجنة (بكل فاكهة) أي يأمرون بإحضار ما يشتهون من الفواكه حال كونهم (آمنين) من التخم والأسقام والآلام قال قتادة آمنين من الموت والوصب والشيطان وقيل من انقطاع ما هم فيه من النعيم.(12/413)
لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (56)
(لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى) أي لا يموتون فيها أبداً إلا الموتة التي ذاقوها في الدنيا والإستثناء منقطع أي لكن الموتة كذا قال الزجاج والفراء وغيرهما، ومثل هذه الآية قوله (ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف) وقيل إن إلا بمعنى بعد واختاره الطبري كقولك ما كلمت رجلاً اليوم إلا رجلاً عندك، أي بعد رجل عندك وأباه الجمهور لأن مجيء إلا بمعنى بعد لم يثبت.
وقيل هي بمعنى سوى أي سوى الموتة الأولى نقله الطبري وضعفه. قال ابن عطية وليس تضعيفه بصحيح بل كونها بمعنى سوى مستقيم متسق، قال ابن قتيبة إنما استثنى الموتة الأولى، وهي في الدنيا لأن السعداء حين يموتون يصيرون بلطف الله وقدرته إلى أسباب من الجنة يلقون الروح والريحان ويرون منازلهم من الجنة ويفتح لهم أبوابها فإذا ماتوا في الدنيا فكأنهم ماتوا في الجنة لاتصالهم بأسبابها ومشاهدتهم إياها فيكون الاستثناء على هذا متصلاً.
قال الزمخشري فإن قلت كيف استثنيت الموتة الأولى المذوقة قبل دخول الجنة من الموت المنفي ذوقه فيها قلت أريد أن يقال لا يذوقون فيها الموت البتة فوضع قوله: إلا الموتة الأولى موضع ذلك لأن الموتة الماضية محال ذوقها في المستقبل؛ فهو من باب التعليق بالمحال، كأنه قيل إن كانت الموتة الأولى يستقيم ذوقها في المستقبل فإنهم يذوقونها في الجنة انتهى. قلت وهذا عند علماء البيان يسمى نفي الشيء بدليله.
(ووقاهم عذاب الجحيم) قرأ الجمهور وقاهم بالتخفيف وقرىء(12/413)
بالتشديد على المبالغة(12/414)
فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (57)
(فضلاً من ربك) أي لأجل الفضل منه، أو أعطاهم ذلك عطاء فضلاً منه.
(ذلك) الذي تقدم ذكره من صرف العذاب ودخول الجنة (هو الفوز العظيم) الذي لا فوز بعده، المتناهي في العظم، لأنه خلاص عن المكاره، وظفر بالمطالب ثم لما بين سبحانه الدلائل، وذكر الوعد والوعيد قال:(12/414)
فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (58)
(فإنما يسرناه بلسانك) أي إنما أنزلنا القرآن بلغتك كي يفهمه قومك فيتذكروا ويعتبروا ويعملوا بما فيه، أو سهلناه بلغتك عليك وعلى من يقرأه، وهذا فذلكة للسورة وإجمال لما فيها من التفصيل (لعلهم يتذكرون) أي يتعظون فيؤمنون، لكنهم لا يؤمنون.(12/414)
فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ (59)
(فارتقب) أي فانتظر ما وعدناك من النصر عليهم وإهلاكهم على يدك (إنهم مرتقبون) أي فإنهم منتظرون ما ينزل بك من موت أو غيره، وقيل انتظر أن يحكم الله بينك وبينهم فإنهم منتظرون بك نوائب الدهر والمعنى متقارب قال المحلي وهذا قبل الأمر بجهادهم أي فهو منسوخ وليس بصحيح لأن رفع الإباحة الأصلية ليس نسخاً إنما النسخ رفع حكم ثبت في الشرع بحكم آخر.(12/414)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
سورة الجاثية
وتسمى الشريعة قاله الخازن هي ست أو سبع وثلاثون آية
وهي مكيّة كلها في قول الحسن وجابر وعكرمة، وقال ابن عباس وقتادة إلا آية منها، وهي قوله: (قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ) فأنها نزلت بالمدينة في عمر بن الخطب، ذكره الماوردي، وقال المهدوي والنحاس: " إنها نزلت في عمر شتمه رجل من المشركين بمكة قبل الهجرة فأراد أن يبطش به، فأنزل الله: (قل للذين آمنوا) الآية ثم نسخت بآية القتال فالسورة كلها مكيّة على هذا من غير استثناء.(12/415)
بسم الله الرحمن الرحيم
حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (3) وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (4) وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (5) تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ (6) وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (7) يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (8) وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (9)
(بسم الله الرحمن الرحيم(12/417)
حم (1)
حم) قد تقدم الكلام على هذا في فاتحة سورة غافر، وما بعدها والله أعلم بمراده به(12/417)
تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2)
(تنزيل الكتاب) أي القرآن مبتدأ (من الله) خبره (العزيز) في ملكه (الحكيم) في صنعه، ثم أخبر سبحانه بما يدل على قدرته الباهرة فقال:(12/417)
إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (3)
(إن في السموات والأرض) أي في خلقهما (لآيات) دالة على قدرة الله ووحدانيته (للمؤمنين) قال الزجاج: ويدل على أن المعنى في خلقهما قوله:(12/417)
وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (4)
(وفي خلقكم) أنفسكم على أطوار مختلفة، قال مقاتل: من تراب، ثم من نطفة إلى أن يصير إنساناً، وحاصل ما ذكر هنا من الدلائل ستة على ثلاث فواصل، الأولى للمؤمنين الثانية يوقنون، الثالثة يعقلون، ووجه التغاير بينها أن المنصف من نفسه إذا نظر في السموات والأرض وأنه لا بد لهما من صانع آمن، وإذا نظر في خلق نفسه ونحوها إزداد إيماناً فأيقن، وإذا(12/417)
نظر في سائر الحوادث عقل واستحكم علمه.
(و) في خلق (ما يبث) أي ما يفرقه وينشره (من دابة آيات) وللنحاة في هذا الموضع كلام طويل في رفع آيات ونصبها، والبحث في مسألة العطف على معمولي عاملين مختلفين، وحجج المجوزين له، وجوابات المانعين منه مقرر في علم النحو، مبسوط في مطولاته (لقوم يوقنون) يعني أنه لا إله إلا هو.(12/418)
وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (5)
(واختلاف الليل والنهار) أي في تعاقبهما أو تفاوتهما في الطول والقصر والظلام والضياء وذهابهما ومجيئهما (وما أنزل الله من السماء من رزق) معطوف على اختلاف والرزق المطر لأنه سبب لكل ما يرزق الله العباد به (فأحيا به الأرض بعد موتها) إيحاء الأرض إخراج نباتها، وموتها خلوها عن النبات ويبسها.
(وتصريف الرياح) في مهابها أي أنها تهب تارة من جهة وتارة من أخرى، وتارة تكون حارة وتارة تكون باردة، وتارة نافعة وتارة ضارة، والرياح أربعة بحسب جهات الأفق (آيات لقوم يعقلون) مراد الله سبحانه في كتابه، ويفهمون الدليل فيؤمنون.(12/418)
تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ (6)
(تلك آيات الله نتلوها عليك) أي هذه الآيات المذكورة هي حجج الله وبراهينه (بالحق) أي محقين أو متلبسة بالحق، أو الباء للسببية فتتعلق بنفس الفعل (فبأي حديث بعد الله وآياته) أي حججه، قيل: إن المقصود فبأي حديث بعد آيات الله، وذكر الاسم الشريف ليس إلا لقصد تعظيم الآيات فيكون من باب أعجبني زيد وكرمه، وقيل المراد بعد حديث الله، هو القرآن كما في قوله: (الله نزل أحسن الحديث) وهو المراد بالآيات، والعطف لمجرد التغاير العنواني (يؤمنون) قرأ الجمهور بالفوقية وقرىء بالتحتية والمعنى يؤمنون بأي حديث، وإنما قدم عليه لأن الاستفهام له صدر الكلام.(12/418)
وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (7)
(ويل) واد في جهنم أو كلمة عذاب (لكل أفاك أثيم) أي لكل كذاب كثير الإثم مرتكب لما يوجبه ثم وصف هذا الأفاك بصفة أخرى فقال(12/419)
يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (8)
(يسمع آيات الله) أي القرآن (تتلى عليه ثم يصر) على كفره، ويقيم على ما كان عليه، حال كونه (مستكبراً) أي متمادياً على كفره، متكبراً على الإيمان، ومتعظماً في نفسه عن الانقياد للحق، والإصرار مأخوذ من إصرار الحمار على العانة، وهو أن ينحى عليها، صاراً أذنيه، وثم للتراخي الرتبي عند العقل، أي إصراره على الكفر بعد ما قررت له الأدلة المذكورة وسمعها مستبعد في العقول، قال مقاتل: إذا سمع من آيات القرآن شيئاً اتخذها هزواً، وجملة (كأن لم يسمعها) في محل نصب على الحال، أو مستأنفة، وأن هي المخففة من الثقيلة واسمها ضمير شأن محذوف.
(فبشره بعذاب أليم) هذا من باب التهكم، أي فبشره على إصراره واستكباره وعدم استماعه إلى الآيات بعذاب شديد الألم قيل: نزلت في النضر ابن الحرث، وما كان يشتري من أحاديث العجم، ويشغل بها الناس عن استماع القرآن، والآية عامة في كل من كان مضاداً لدين الله.(12/419)
وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (9)
(وإذا علم من آياتنا شيئاًً) قرأ الجمهور بفتح العين وكسر اللام مخففة على البناء للفاعل وقرىء على البناء للمفعول، والمعنى أنه إذا وصل إليه وبلغه شيء وعلم أنه من آيات الله (اتخذها) أي الآيات (هزواً) وقيل الضمير في اتخذها عائد إلى شيء لأنه عبارة عن الآيات، والأول أولى.
(أولئك) أي كل أفاك متصف بتلك الصفات (لهم عذاب مهين) بسبب ما فعلوا من الإصرار والاستكبار عن سماع آيات الله، واتخاذها هزواً، والعذاب المهين هو المشتمل على الإذلال والفضيحة.(12/419)
مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلَا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئًا وَلَا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (10) هَذَا هُدًى وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (11) اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (13) قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14)(12/420)
مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلَا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئًا وَلَا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (10)
(من ورائهم) أي من وراء ما هم فيه من التعزز بالدنيا والتكبر عن الحق (جهنم) فإنها من قدامهم، لأنهم متوجهون إليها، وعبر عن القدام بالوراء كقوله: (من ورائه جهنم) والوراء مستعمل بمعنى الأمام كما يستعمل بمعنى الخلف، وهو مشترك بين المعنيين، فيستعمل في الشيء وضده، كالجون يستعمل في الأبيض والأسود على سبيل الاشتراك، وقيل: جعلها باعتبار إعراضهم عنها، كأنها خلفهم، وقيل الوراء اسم للجهة التي يواريها الشخص من خلف أو قدام.
(ولا يغني) أي لا يدفع (عنهم ما كسبوا) من أموالهم وأولادهم (شيئاًً) من عذاب الله، ولا ينفعهم بوجه من وجوه النفع (ولا) يغني عنهم (ما اتخذوا من دون الله أولياء) من الأصنام، وما في الموضعين إما مصدرية أو موصولة، وزيادة لا في الجملة الثانية للتأكيد (ولهم عذاب عظيم) في جهنم التي هي من ورائهم.(12/420)
هَذَا هُدًى وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (11)
(هذا) أي القرآن (هدى) للمهتدين به (والذين كفروا بآيات(12/420)
ربهم) القرآنية (لهم عذاب من رجز أليم) الرجز أشد العذاب، قرأ الجمهور أليم بالجر صفة للرجز، وقرىء بالرفع صفة لعذاب.(12/421)
اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12)
(الله الذي سخر لكم البحر) أي جعله على صفة تتمكنون بها من الركوب عليه بأن جعله أملس السطح، يطفو عليه ما يتخلله كالأخشاب ولا يمنع الغوص فيه (لتجري الفلك فيه بأمره) أي بإذنه وإقداره لكم (ولتبتغوا من فضله) بالتجارة تارة والغوص للدر والمعالجة للصيد وغير ذلك (ولعلكم تشكرون) أي ولكي تشكروا النعم التي تحصل لكم بسبب هذا التسخير للبحر.(12/421)
وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (13)
(وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ) أي سخر لعباده جميع ما خلقه في سمواته وأرضه، مما يتعلق به مصالحهم ويقوم به معايشهم ومما سخره لهم من مخلوقات السموات الشمس والقمر والنجوم النيرات والمطر والسحاب والرياح، وجميعاً حال من ما في السموات أو تأكيد له، وقوله (منه) متعلق بمحذوف هو صفة لجميعاً أي كائناً منه، أو متعلق بسخر، أو حال من ما في السموات، أو خبر لمبتدأ محذوف والمعنى أن كل ذلك رحمة منه لعباده، وقال ابن عباس (جميعاً منه) أي منه النور والشمس والقمر وكل شيء هو من الله، وعن طاوس قال: " جاء رجل إلى عبد الله بن عمرو بن العاص فسأله مم خلق الخلق؟ قال من الماء والنور والظلمة والهواء والتراب، قال فمم خلق هؤلاء؟ قال لا أدري، ثم أتى الرجل عبد الله بن الزبير فسأله فقال: مثل قول عبد الله بن عمرو فأتى ابن عباس فسأله مم خلق الخلق؟ فقال من الماء والنور والظلمة والريح والتراب، قال فمم خلق هؤلاء فقرأ ابن عباس وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعاً منه، فقال الرجل ما كان ليأتي بهذا إلا رجل من أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم ".
(إن في ذلك) المذكور من التسخير (لآيات لقوم يتفكرون) خص(12/421)
المتفكرين لأنه لا ينتفع بها إلا من تفكر فيها، فإنه ينتقل من التفكير إلى الاستدلال بها على التوحيد(12/422)
قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14)
(قل للذين آمنوا يغفروا) أي قل لهم اغفروا يغفروا أي يعفوا ويصفحوا، قاله علي بن عيسى واختاره ابن العربي. وقيل التقدير قل لهم ليغفروا، والمعنى قل لهم ليتجاوزوا.
(للذين لا يرجون أيام الله) أي عن الذين لا يرجون وقائع الله بأعدائه أي لا يتوقعونها، ومعنى الرجاء هنا الخوف، وقيل هو على معناه الحقيقي، والمعنى لا يرجون ثوابه في الأوقات التي وقتها الله لثواب المؤمنين، والأول أولى، والأيام يعبر بها عن الوقائع كما تقدم في تفسير قوله (وذكرهم بأيام الله) قال مقاتل لا يخشون مثل عذاب الله للأمم الخالية، وذلك أنهم لا يؤمنون به، فلا يخافون عقابه وقيل المعنى لا يأملون نصر الله لأوليائه وإيقاعه بأعدائه، وقيل: لا يخافون البعث.
قيل والآية منسوخة بآية السيف والأقرب أن يقال: إنه محمول على ترك المنازعة، وعلى التجاوز فيما يصدر عنهم من الكلمات المؤذية وعن ابن عباس في الآية قال " كان نبي الله صلى الله عليه وسلم يعرض عن المشركين إذا آذوه وكانوا يستهزئون به ويكذبونه فأمره الله أن يقاتل المشركين كافة "، فكان هذا من المنسوخ والأولى القول بعدم النسخ.
(ليجزي) الله (قوماً) قرىء بالتحتية وقرىء بالنون أي لنجزي نحن، والجملة لتعليل الأمر بالمغفرة، والمراد بالقوم المؤمنون، أمروا بالمغفرة ليجزيهم الله يوم القيامة (بما كانوا يكسبون) في الدنيا من الأعمال الحسنة التي من جملتها الصبر على أذية الكفار، والإغضاء عنهم، بكظم الغيظ، واحتمال المكروه، وقيل المعنى ليجزي الكفار بما عملوا من السيئات كأنه قال لا تكافئوهم أنتم لنكافئهم نحن، قيل المراد بالقوم كلاهما فيكون التنكير للتعظيم أو التحقير أو التنويع والأول أولى، ثم ذكر المؤمنين وأعمالهم والمشركين وأعمالهم فقال:(12/422)
مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (15) وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (16) وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (17) ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (18) إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (19) هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (20)(12/423)
مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (15)
(مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا) أي إن عمل كل طائفة من إحسان وإساءة لعامله لا يتجاوزه إلى غيره، وفيه ترغيب وترهيب، والجملة مستأنفة لبيان كيفية الجزاء (ثم إلى ربكم ترجعون) أي تصيرون فيجازي كلاً بعمله إن كان خيراً فخير وإن كان شراً فشر.(12/423)
وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (16)
(ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب والحكم والنبوة) المراد بالكتاب التوراة كذا في الكشاف وتبعه القاضي، ولعل الأولى أن يحمل الكتاب على الجنس حتى يشمل الإنجيل والزبور أيضاًً لكن جمهور المفسرين على تفسيره هنا بالتوراة لأنه ذكر بعدها الحكم ونحوه وما ذكر لا حكم فيه إذ الزبور أدعية ومناجاة، والإنجيل أحكامه قليلة جداً، وعيسى مأمور بالعمل بالتوراة والمراد بالحكم الفهم والفقه الذي يكون بهما الحكم بين الناس، وفصل خصوماتهم، وبالنبوة من بعثه الله من الأنبياء فيهم.(12/423)
(ورزقناهم من الطيبات) أي المستلذات التي أحلها الله لهم، ومن ذلك المن والسلوى، وهذه نعم دنيوية وما قبله من الكتاب والنبوة نعم دينية.
(وفضلناهم على العالمين) من أهل زمانهم حيث آتيناهم ما لم نؤت من عداهم من كثرة الأنبياء فيهم، وفلق البحر، وغرق العدو، ونحوها، وقد تقدم بيان هذا في سورة الدخان، قال ابن عباس: لم يكن أحد من العاملين في زمانهم أكرم على الله ولا أحب إليه منهم.(12/424)
وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (17)
(وآتيناهم بينات من الأمر) أي شرائع واضحات في الحلال والحرام، أو معجزات ظاهرات، وقيل: العلم بمبعث النبي صلى الله عليه وسلم وشواهد نبوته، وتعيين مهاجره (فما اختلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم) أي فما وقع الاختلاف بينهم في ذلك الأمر إلا بعد مجيء العلم إليهم ببيانه، وإيضاح معناه، فجعلوا ما يوجب زوال الخلاف موجباً لثبوته، وقيل المراد بالعلم يوشع بن نون فإنه آمن به بعضهم، وكفر بعضهم وقيل نبوة محمد صلى الله عليه وسلم فاختلفوا فيها حسداً و:
(بغياً بينهم) قيل بغياً من بعضهم على بعض يطلب الرياسة (إن ربك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون) من أمر الدين فيجازي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته.(12/424)
ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (18)
(ثم جعلناك على شريعة من الأمر) ثم للاستئناف والشريعة في اللغة المذهب والملة والمنهاج ويقال لمشرعة الماء وهي مورد شاربيه شريعة، والجمع شرائع، فاستعير ذلك للدين لأن العباد يردون ما تحيا به نفوسهم، ومنه الشارع لأنه طريق إلى المقصد، فالمراد بالشريعة هنا ما شرعه الله لعباده من الدين، أي جعلناك يا محمد على منهاج واضح من أمر الدين يوصلك إلى الحق وقال ابن عباس: على هدى من أمر دينه، قال قتادة الشريعة الأمر والنهي والحدود والفرائض البينة، لأنها طريق إلى الحق، وقال الكلبي السنة، لأنه يستن بطريقة من قبله من الأنبياء، وقال ابن زيد: الدين لأنه(12/424)
طريق إلى النجاة وقال ابن العربي: الأمر يرد في اللغة بمعنيين أحدهما بمعنى الشأن كقوله:
(واتبعوا أمر فرعون وما أمر فرعون برشيد) والثاني ما يقابله النهي وكلاهما يصح أن يكون مراداً هنا وتقديره ثم جعلناك على طريقة من الدين، وهي ملة الإسلام، كما قال تعالى (ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفاً) ولا خلاف أن الله تعالى لم يغاير بين الشرائع في التوحيد والمكارم والمصالح، وإنما خالف بينها في الفروع حسب ما علمه سبحانه وتعالى.
(فاتبعها) أي فاعمل بأحكامها في أمتك (ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون) توحيد الله وشرائعه لعباده، وهم كفار قريش ومن وافقهم، ثم علل النهي عن اتباع أهوائهم فقال:(12/425)
إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (19)
(إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئاًً) أي لا يدفعون عنك شيئاًً مما أراده الله بك إن اتبعت أهوائهم.
(وإن الظالمين بعضهم أولياء بعض) أي أنصار ينصر بعضهم بعضاً لأن الجنسية علة الانضمام قال ابن زيد إن المنافقين أولياء اليهود (والله ولي المتقين) أي ناصرهم، والمراد بالمتقين الذين أتقوا الشرك والمعاصي والإشارة بقول(12/425)
هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (20)
(هذا) إلى القرآن أو إلى اتباع الشريعة.
(بصائر للناس) أي براهين، ودلائل لهم فيما يحتاجون إليه من أحكام الدين وبينات تبصرهم وجه الفلاح، ومعالم يتبصرون بها في الأحكام والحدود جعل ذلك بمنزلة البصائر في القلوب ليتوصل بكل واحد منها إلى تحصيل العرفان واليقين، وجمع الخبر باعتبار ما في المبتدأ من تعدد الآيات. والبراهين، وقرىء هذه بصائر أي هذه الآيات لأن القرآن بمعناها.
(وهدى) أي رشد وطريق يؤدي إلى الجنة لمن عمل به (ورحمة) من الله في الآخرة (لقوم يوقنون) أي من شأنهم الإيقان وعدم الشك والتزلزل بالشبهة.(12/425)
أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (21) وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (22) أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (23)(12/426)
أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (21)
(أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ) أم هي المنقطعة المقدرة ببل، والهمزة وما فيها من معنى بل للانتقال من البيان الأول إلى الثاني، والهمزة لإنكار الحسبان بطريق إنكار الواقع واستقباحه، والتوبيخ عليه، والاجتراح الاكتساب، ومنه الجوارح، وقد تقدم في المائدة، والجملة مستأنفة سيقت لبيان تباين حالي المسيئين والمحسنين إثر بيان حالي الظالمين والمتقين، وهو معنى قوله:
(أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات)؟ أي نسوي بينهم مع اجتراحهم السيئات وبين أهل الحسنات، قيل نزلت في قوم من المشركين، وقيل المسيئون عتبة وشيبة ابنا ربيعة، والوليد بن عتبة، والمحسنون علي وحمزة وعبيدة بن الحرث حين برزوا إليهم يوم بدر فقتلوهم والعموم أولى.
(سواء محياهم ومماتهم) في دار الدنيا، وفي الآخرة؟ كلا لا يستوون في شيء منهما، فإن حال أهل السعادة فيهما غير حال أهل الشقاوة، فهؤلاء في عز الإيمان والطاعة وشرفهما في المحيا، وفي رحمة الله تعالى ورضوانه في الممات، وأولئك في ذل الكفر والمعاصي وهو أنهما في المحيا، وفي لعنة الله(12/426)
والعذاب الخالد في الممات، وشتان بينهما، وقيل المراد إنكار أن يستووا في الممات، كما استووا في الحياة.
قرأ الجمهور سواء بالرفع على أنه خبر مقدم، والمبتدأ محياهم ومماتهم والمعنى إنكار حسبانهم أن محياهم ومماتهم سواء، وقرىء بالنصب على أنه حال من الضمير المستتر في الجار والمجرور، في قوله: كالذين آمنوا، أو على أنه مفعول ثان لحسب، واختار قراءة النصب أبو عبيدة، وقال: معناه نجعلهم سواء، وقرىء محياهم ومماتهم بالنصب على معنى سواء في محياهم ومماتهم. ولما سقط الخافض انتصب.
(ساء ما يحكمون) أي ساء حكمهم هذا الذي حكموا به وقال مجاهد في الآية المؤمن في الدنيا والآخرة مؤمن، والكافر في الدنيا والآخرة كافر، وقال مسروق: قال لي رجل من أهل مكة هذا مقام أخيك تميم الداري، ولقد رأيته قام ذات ليلة حتى أصبح أو قرب أن يصبح يقرأ آية من كتاب الله يركع بها ويسجد، ويبكي (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ) الآية، وعن الفضيل أنه بلغها فجعل يرددها ويبكي ويقول يا فضيل ليت شعري من أي الفريقين أنت؟.(12/427)
وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (22)
(وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ) المقتضي للعدل بين العباد وهذا كالدليل لما قبله من نفي الاستواء، ومحل بالحق النصب على الحال من الفاعل، أو المفعول، أو الباء للسببية (ولتجزى كل نفس ما كسبت) أي خلق الله إياهما ليدل بهما على قدرته ولتجزى، أو اللام للصيرورة قاله ابن عطية أي صار الأمر من حيث اهتدى بها قوم وضل بها قوم آخرون (وهم) أي النفوس المدلول عليها بكل نفس.
(لا يظلمون) بنقص ثواب، أو زيادة عقاب وتسميته ذلك ظلماً مع أنه ليس كذلك على ما عرف من قاعدة أهل السنة لبيان غاية تنزه ساحة لطفه تعالى عما ذكر، بتنزيله منزلة الظلم الذي يستحيل صدوره عنه، أو سماه ظلماً(12/427)
نظراً إلى صدوره منا كما في الابتلاء والاختبار، ثم عجب سبحانه من حال الكفار فقال:(12/428)
أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (23)
(أفرأيت من اتخذ إلهه هواه) قال الحسن وقتادة: ذلك الكافر اتخذ دينه ما يهواه، فلا يهوى شيئاًً إلا ركبه وقال عكرمة يعبد ما يهواه أو يستحسنه فإذا استحسن شيئاًً وهواه، اتخذه إلهاً، قال سعيد بن جبير؛ كان أحدهم يعبد الحجر فإذا رأى ما هو أحسن منه رمى به وعبد الآخر.
وقال ابن عباس: ذلك الكافر اتخذ دينه بغير هدى من الله ولا برهان، والمعنى هو مطواع لهوى النفس، يتبع ما يدعوه إليه فكأنه يعبده كما يعبد الرجل إلهه.
(وأضله الله على علم) قد علمه، قال ابن عباس: يقول أضله في سابق علمه تعالى، وقيل المعنى أضله عن الثواب على علم منه بأنه لا يستحقه، وقال مقاتل على علم منه أنه ضال لأنه يعلم أن الصنم لا ينفع ولا يضر، قال الزجاج: على سبق في علمه أنه ضال قبل أن يخلقه، وقال الكرخي: أضله وهو عالم بالحق، وهذا أشد تشنيعاً عليه.
(وختم) أي طبع (على سمعه) حتى لا يسمع الوعظ (و) طبع على (قلبه) حتى لا يفقه الهدى ولا يعقله (وجعل على بصره غشاوة) أي ظلمة وغطاء حتى لا يبصر الرشد، قرأ الجمهور غشاوة بالألف مع كسر الغين وقرىء بغير ألف مع فتح الغين. وقرأ ابن مسعود والأعمش كقراءة الجمهور مع فتح الغين، وهي لغة ربيعة، وقرىء بضمها وهي لغة عكل.
(فمن يهديه من بعد الله) أي بعد إضلال الله له أي لا يهتدي (أفلا تذكرون) تذكر اعتبار، حتى تعلموا حقيقة الحال؛ قال الواحدي: ليس يبقى للقدرية مع هذه الآية عذر ولا حيلة، لأن الله صرح بمنعه إياه عن الهدى حتى أخبر أنه ختم على سمعه وقلبه وبصره، ثم بين سبحانه بعض جهالاتهم وضلالاتهم فقال:(12/428)
وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (24) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (25) قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (26) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ (27)(12/429)
وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (24)
(وقالوا) أي منكرو البعث (ما هي إلا حياتنا الدنيا) أي ما الحياة إلا الحياة التي نحن فيها (نموت ونحيا) أي يصيبنا الموت والحياة فيها وليس وراء ذلك حياة، وقيل نموت نحن ويحيا فيها أولادنا، وقيل نكون نطفاً ميتة ثم نصير أحياء، وقيل في الآية تقديم وتأخير أي نحيا ونموت وكذا قرأ ابن مسعود وعلى كل تقدير فمرادهم بهذه المقالة إنكار البعث وتكذيب الآخرة وقيل: هذا من كلام من يقول بالتناسخ أي بموت الرجل ثم تجعل روحه في موات فيحيا به.
(وما يهلكنا إلا الدهر) أي مرور الليالي والأيام، والدهر في الأصل مدة بقاء العالم، من دهره إذا غلبه. وفي القاموس: دهرهم أمر كمنع نزل بهم مكروه، فهم مدهور بهم، ومدهورون، وقرىء إلا دهر يمر قال مجاهد يعني السنين والأيام انتهى.
كانوا يزعمون أن مرورها هو المؤثر في هلاك الأنفس وينكرون ملك الموت وقبض الأرواح بإذن الله، وكانوا يضيفون كل حادثة تحدث إلى الدهر والزمان، ألا ترى أن أشعارهم ناطقة بشكوى الزمان؟ وقال قتادة: إلا العمر؛ والمعنى واحد؛ وقال قطرب المعنى وما يهلكنا إلا الموت وقال عكرمة: وما يهلكنا إلا الله.(12/429)
عن أبي هريرة قال: " كان أهل الجاهلية يقولون: إنما يهلكنا الليل والنهار، وهو الذي يحيينا ويميتنا، فيسبون الدهر، فقال الله تعالى: يؤذيني ابن آدم بسب الدهر وأنا الدهر بيدي الأمر أقلب الليل والنهار.
وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما من حديثه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " قال الله عز وجل: يؤذيني ابن آدم الحديث "، وفي الموطأ عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا يقولن أحدكم: يا خيبة الدهر، فإن الله هو الدهر "، وقد استدل بهذا الحديث من قال: إن الدهر من أسماء الله تعالى، ومرادهم بهذا الحصر إنكار أن يكون الموت بواسطة ملك الموت وإضافة الحوادث إلى الدهر والزمان، وأن المؤثر في هلاك الأنفس هو مرور الأيام والليالي (1).
(وما لهم بذلك) أي بنسبة الحوادث إلى حركات الأفلاك وما يتعلق بها على الإستقلال (من علم) ثم بين كون ذلك صادراً منهم لا عن علم فقال: (إن هم إلا يظنون) أي ما هم إلا قوم غاية ما عندهم الظن، فما يتكلمون إلا به، ولا يستندون إلا إليه.
_________
(1) روى مسلم 4/ 1763 لا تسبوا الدهر فإن الدهر هو الله.(12/430)
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (25)
(وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات) أي إذا تليت آيات القرآن على المشركين حال كونها واضحات ظاهرة المعنى والدلالة على البعث أو مبينات لما يخالف معتقدهم قاله الكرخي.
(ما كان حجتهم إلا أن قالوا ائتوا بآبائنا) أحياء (إن كنتم صادقين) أنا نبعث بعد الموت أي ما كان لهم حجة ولا متمسك ولا متشبث يتعلقون ويعارضون به إلا هذا القول الباطل الذي ليس من الحجة في شيء وإنما سماه حجة مع أنه ليس بحجة لأنهم أدلوا به كما يدلي المحتج بحجته، وساقوه مساقها فسمي حجة على سبيل التهكم، أو لأنه في حسابهم وتقديرهم حجة، ثم أمر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم أن يرد عليهم فقال:(12/430)
قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (26)
(قل الله يحييكم) في الدنيا (ثم يميتكم) عند انقضاء آجالكم (ثم يجمعكم إلى) أي في (يوم القيامة) بالبعث والنشور (لا ريب فيه) أي في جمعكم لأن من قدر على ابتداء الخلق قدر على إعادته، وفي هذا رد لقولهم، (وما يهلكنا إلا الدهر).
(ولكن أكثر الناس لا يعلمون) بذلك لإعراضهم عن التفكر بالدلائل، فلهذا حصل معهم الشك في البعث وجاءوا في دفعه بما هو أوهن من بيت العنكبوت، ولو نظروا حق النظر لحصلوا على العلم اليقين، واندفع عنهم الريب، وأراحوا أنفسهم من ورطة الشك والحيرة، ثم لما ذكر سبحانه ما أحتج به المشركون وما أجاب به عليهم ذكر اختصاصه بالملك فقال:(12/431)
وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ (27)
(ولله ملك السموات والأرض) أي هو المتصرف فيهما وحده كما أراد لا يشاركه أحد من عباده، وهو شامل للإحياء والإماتة المذكورين قبله، وللجمع والبعث، وللمخاطبين غيرهم، ثم توعد أهل الباطل فقال:
(ويوم تقوم الساعة يومئذ يخسر المبطلون) أي المكذبون الكافرون المتعلقون بالأباطيل، يظهر في ذلك اليوم خسرانهم، لأنهم يصيرون إلى النار، والعامل في يوم هو يخسر، ويومئذ بدل منه، والتنوين عوض عن المضاف إليه المدلول عليه بما أضيف إليه المبدل منه فيكون التقدير: ويوم تقوم الساعة يوم تقوم الساعة فيكون بدلاً توكيدياً، والأولى أن يكون العامل في يوم هو ملك أي ولله ملك يوم تقوم الساعة، ويكون يومئذ معمولاً ليخسر، والجملة مستأنفة من حيث اللفظ، وإن كان لها تعلق بما قبلها من حيث المعنى أفاده السمين، وقال التفتازاني وهذا بالتأكيد أشبه، وأنىّ يتأتى أن هذا مقصود بالنسبة دون الأول؟ وقال الحفناوي: اليوم في البدل بمعنى الوقت، والمعنى وقت أن تقوم الساعة، وتحشر الموتى فيه، وهو جزء من يوم تقوم الساعة فإنه يوم متسع مبدؤه من النفخة الأولى، فهو بدل البعض. والعائد مقدر ولما كان خسرانهم وقت حشرهم كان هو المقصود بالنسبة.(12/431)
وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (29) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (30) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْمًا مُجْرِمِينَ (31) وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ (32)(12/432)
وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28)
(وترى كل أمة) الخطاب لكل من يصلح له أو للنبي صلى الله عليه وسلم، والأمة الملة والرؤية بصرية أو علمية، وفيه بعد ومعنى قوله: (جاثية) مستوفزة والمستوفز الذي لا يصيب الأرض منه إلا ركبتاه، وأطراف أنامله قال الضحاك: وذلك عند الحساب، وقيل معنى جاثية مجتمعة، قال ابن عباس، وقال الفراء: المعنى وترى أهل كل دين مجتمعين، وقال عكرمة متميزة عن غيرها، وقال مؤرج: معناه بلغة قريش خاضعة، وقال الحسن باركة على الركب والجثو الجلوس على الركب تقول: جثا يجثو ويجثي جثواً.
وجثياً إذا جلس على ركبتيه، والأول أولى، ولا ينافيه ورود هذا اللفظ لمعنى آخر في لسان العرب، وقد ورد إطلاق الجثوة على الجماعة من كل شيء في لغة العرب.
وعن عبد الله بن بأبأه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كأني أراكم بالكوم دون جهنم جاثين "، ثم قرأ سفيان هذه الآية أخرجه البيهقي في البعث، وعبد الله ابن أحمد في زوائد الزهد، وابن أبي حاتم وسعيد بن منصور.
وعن ابن عمر في الآية قال: " كل أمة مع نبيها حتى يجيء رسول الله(12/432)
صلى الله عليه وسلم على كوم قد علا الخلائق، فذلك المقام المحمود "، وظاهر الآية أن هذه الصفة تكون لكل أمة من الأمم من غير فرق بين أهل الأديان المتبعين للرسل وغيرهم من أهل الشرك، وقال يحيى بن سلام: هو خاص بالكفار، والأول أولى ويؤيده قوله:
(كل أمة تدعى إلى كتابها) وقوله فيما سيأتي، فأما الذين آمنوا الخ، ومعنى إلى كتابها إلى الكتاب المنزل عليها؛ وقيل إلى صحيفة أعمالها وقيل: إلى حسابها، وقيل اللوح المحفوظ؛ والأول أولى قرأ الجمهور كل أمة بالرفع على الابتداء، وخبره تدعى، وقرىء بالنصب على البدل من كل أمة.
(اليوم) أي يقال لهم اليوم (تجزون ما كنتم تعملون) من خير وشر(12/433)
هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (29)
(هذا كتابنا) لا منافاة بين هذا وقوله كتابها لأنه كتابهم بمعنى أنه مشتمل على أعمالهم، وكتاب الله بمعنى أنه هو الذي أمر الملائكة بكتبه وإليه أشار في التقرير قاله الكرخي.
(ينطق عليكم) بما عملتم (بالحق) بلا زيادة ونقصان وهذا من تمام ما يقال لهم، والقائل بهذا هم الملائكة، وقيل: هو من قول الله سبحانه أي يشهد عليهم؛ وهو استعارة، يقال: نطق الكتاب بكذا أي بيّن وقيل: إنهم يقرأونه فيذكرهم ما عملوا فكأنه ينطق عليهم دليله قوله تعالى:
(وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا) قال ابن عباس هو أم الكتاب فيه أعمال بني آدم، وقيل هو ديوان الحفظة، ومحل (ينطق) النصب على الحال أو الرفع على أنه خبر آخر لاسم الإشارة.
وجملة (إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون) تعليل للنطق بالحق أي نأمر الملائكة بنسخ أعمالكم أي بكتبها وتثبيتها عليكم، وليس المراد بالنسخ إبطال(12/433)
ما في اللوح قال الواحدي: وأكثر المفسرين على أن هذا الاستنساخ من اللوح المحفوظ، فإن الملائكة تكتب منه كل عام ما يكون من أعمال بني آدم فيجدون ذلك موافقاً لما يعملونه؛ قالوا لأن الاستنساخ لا يكون إلا من أصل وقيل إن الملائكة تكتب كل يوم ما يعمله العبد فإذا رجعوا إلى مكانهم نسخوا منه الحسنات والسيئات وتركوا المباحات، وقيل إن الملائكة إذا رفعت أعمال العباد إلى الله سبحانه أمر عز وجل أن يثبت عنده منها ما فيه ثواب وعقاب، ويسقط منها ما لا ثواب فيه ولا عقاب.
وقال ابن عباس " الملائكة يستنسخون أعمال بني آدم، فقام رجل فقال يا ابن عباس ما كنا نرى هذا تكتبه الملائكة في كل يوم وليلة، فقال إنكم لستم قوماً عرباً هل يستنسخ الشيء إلا من كتاب "؟.
وعن علي بن أبي طالب " إن لله ملائكة ينزلون كل يوم بشيء يكتبون فيه أعمال بني آدم "، وعن ابن عمر نحو ما روي عن ابن عباس، وعن ابن عباس أيضاًً في الآية قال: يستنسخ الحفظة من أم الكتاب ما يعمل بنو آدم، فإنما يعمل الإنسان ما استنسخ الملك من أم الكتاب، وأخرج نحوه الحاكم عنه، وصححه.
وأخرج الطبراني عنه أيضاًً في الآية قال: " إن الله وكل ملائكة ينسخون من ذلك العام في رمضان ليلة القدر ما يكون في الأرض من حدث إلى مثلها من السنة المقبل، فيتعارضون به حفظة الله على العباد عشية كل خميس، فيجدون ما رفع الحفظة موافقاً لما في كتابهم ذلك، ليس فيه زيادة ولا نقصان ".(12/434)
فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (30)
(فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيدخلهم ربهم في رحمته) التي من جملتها الجنة قاله البيضاوي، وهذا تفصيل لحال الفريقين، فالمؤمنون يدخلهم الله برحمته الجنة، وفسر المحلي كالزمخشري الرحمة بنفس الجنة، وهو(12/434)
أظهر (ذلك) الإدخال في رحمته (هو الفوز المبين) أي الظاهر الواضح لخلوصه عن الأكدار والشوائب التي تخالطه.(12/435)
وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْمًا مُجْرِمِينَ (31)
(وأما الذين كفروا) فيقال لهم: (أفلم تكن آياتي) أي القرآن (تتلى عليكم) الاستفهام للتوبيخ لأن الرسل قد أتتهم وتلت عليهم آيات الله فكذبوا أو لم يعملوا بها (فاستكبرتم) أي تكبرتم عن قبولها وعن الإيمان بها.
(وكنتم قوماً مجرمين) أي من أهل الإجرام وهي الآثام والاجترام الاكتساب يقال فلان جريمة أهله إذا كان كاسبهم فالمجرم من كسب الآثام بفعل المعاصي.(12/435)
وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ (32)
(و) كنتم (إذا قيل) لكم أيها الكفار: (إن وعد الله حق) أي وعده بالبعث والحساب، والجزاء، أو بجميع ما وعد به من الأمور المستقبلة واقع لا محالة، والعامة على كسر الهمزة لأنها محكية بالقول وقرىء بفتحها وذلك مخرج على لغة سليم يجرون القول مجرى الظن مطلقاً قاله السمين.
(والساعة) قرأ الجمهور بالرفع على الابتداء أو العطف على موضع اسم إن وقرىء بالنصب على اسم إن أي القيامة (لا ريب فيها) أي في وقوعها (قلتم) استغراباً واستبعاداً وإنكاراً لها:
(ما ندري ما الساعة) أي أيُّ شيء هي (إن نظن إلا ظناً) أي نحدس حدساً، ونتوهم توهماً، قال المبرد: تقديره إن نحن إلا نظن ظناً وقيل التقدير إن نظن إلا أنكم تظنون ظناً، وقيل: إن نظن مضمن معنى نعتقد أي ما نعتقد إلا ظناً لا علماً، وقيل: إن ظناً له صفة مقدرة أي إلا ظناً بيناً وقيل إن الظن يكون بمعنى العلم والشك، فكأنهم قالوا ما لنا اعتقاد إلا الشك، ولعل ذلك قول بعضهم، تحيروا بين ما سمعوا من آبائهم وما تلي عليهم في أمر الساعة (وما نحن بمستيقنين) أي لم يكن لنا يقين بذلك ولم يكن معنا إلا مجرد الظن أن الساعة آتية.(12/435)
وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (33) وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (34) ذَلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ لَا يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (35) فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (36) وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (37)(12/436)
وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (33)
(وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا) أي ظهر لهم سيئات أعمالهم على الصورة التي هي عليها أي جزاؤها (وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون) أحاط بهم ونزل عليهم جزاء أعمالهم بدخولهم النار(12/436)
وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (34)
(وقيل اليوم ننساكم كما نسيتم لقاء يومكم هذا) أي نترككم في النار كما تركتم العمل لهذا اليوم والنسيان أريد به الترك مجازاً إما بعلاقة السببية أو لتشبهه في عدم المبالاة، وأضاف اللقاء إلى اليوم توسعاً لأنه أضاف إلى الشيء ما هو واقع فيه كمكر الليل (ومأواكم النار) أي مسكنكم ومستقركم الذي تأوون إليه (وما لكم من ناصرين) ينصرونكم فيمنعون عنكم العذاب.(12/436)
ذَلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ لَا يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (35)
(ذلكم بأنكم اتخذتم آيات الله هزواً) أي ذلك العذاب العظيم، بسبب أنكم اتخذتم القرآن هزواً ولعباً (وغرتكم الحياة الدنيا) أي خدعتكم بزخارفها وأباطيلها فظننتم أنه لا دار غيرها ولا بعث ولا نشور.
(فاليوم لا يخرجون منها) أي من النار، قرأ الجمهور بضم الياء، وفتح الراء مبنياً للمفعول وقرىء بفتح الياء وضم الراء مبنياً للفاعل وهما سبعيتان والالتفات من الخطاب إلى الغيبة لتحقيرهم، وللإيذان بإسقاطهم عن رتبة الخطاب (ولا هم يستعتبون) أي لا يسترضون ولا يطلب منهم الرجوع إلى طاعة الله لأنه يوم لا تقبل فيه توبة ولا تنفع فيه معذرة.(12/436)
فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (36)
(فللَّه الحمد) أي الوصف بالجميل، على وفاء وعده في المكذبين (رب السموات ورب الأرض رب العالمين) أي خالق ما ذكر لا يستحق الحمد سواه، والعالم ما سوى الله وجمع لاختلاف أنواعه، قرأ الجمهور رب في المواضع الثلاثة بالجر على الصفة للاسم الشريف، أو البيان أو البدل وقرىء بالرفع في الثلاثة على تقدير مبتدأ أي هو رب السموات الخ.(12/437)
وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (37)
(وله الكبرياء في السموات والأرض) أي الجلال والعظمة والسلطان، وخص السموات والأرض لظهور آثار ذلك فيهما، وهو القهر والتصرف لأنفسها لأنها صفة ذاتية للرب تعالى، وإظهارهما في موضع الإضمار لتفخيم شأن الكبرياء.
(وهو العزيز الحكيم) أي العزيز في سلطانه فلا يغالبه مغالب والحكيم في كل أفعاله وأقواله، وجميع أقضيته، عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يقول الله تبارك وتعالى: الكبرياء ردائي والعظمة إزاري فمن نازعني واحداً منهما ألقيته في النار " أخرجه ابن أبي شيبة ومسلم وأبو داود وابن ماجة والبيهقي.(12/437)
خاتمة الجزء الثاني عشر
تم بعون الله تعالى الجزء الثاني عشر ويليه الجزء الثالث عشر وأوله: سورة الأحقاف.(12/438)
فتحُ البيان في مقاصد القرآن
تفسِير سَلفي أثري خالٍ منَ الإِسرَائيليّاتِ والجَدليَّاتِ المذهبية والكلامية يغني عَن جميع التفاسِير وَلا تغني جميعُهَا عَنه
تأليف: السيد الإمام العلامة الملك المؤيد من الله الباري آبي الطيب صديق بن حسن بن علي الحسين القنوجي النجاري 1248 - 1307 هـ
عني بطبعهِ وقدّم له وراجعه: خادم العلم عَبد الله بن إبراهيم الأنصَاري
الجزء الثالث عشر
المَكتبة العصريَّة
صَيدَا - بَيروت(13/1)
جَمِيع الحُقُوق محفُوظَة
1412 هـ - 1992 م
شركة أبناء شريف الأنصاري للطباعة والنشر والتوزيع
المَكتبة العصريَّة للطبَاعة والنّشْر
الدار النموذجية ــ المكتبة العصرية
بَيروت - صَ. ب 8355 - تلكس LE 20437 SCS
صَيدَا - صَ. ب 221 - تلكس LE 29198(13/2)
فتح البيان في مقاصد القرآن(13/3)
الجزء الثالث عشر
ويشتمل على:
- سورة الأحقاف
- سورة محمد
- سورة الفتح
- سورة الحجرات
- سورة ق
- سورة الذاريات
- سورة الطور
- سورة النجم
- سورة القمر
- سورة الرحمن
- سورة الواقعة
- سورة الحديد(13/5)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
سورة الأحقاف
(وهي أربع أو خمس وثلاثون آية)
وهذا الاختلاف مبني على أن حم آية أو لا وهي مكية، قال القرطبي: في قول جميعهم، قال ابن عباس وابن الزبير: نزلت بمكة، وقال المحلي: إلا (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) الآية وإلا (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ) وإلا (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ) الثلاث آيات، يعني آخرها قوله (إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ) وعن ابن مسعود قال: " أقرأني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سورة الأحقاف وأقرأها آخر فخالف قراءته، فقلت من أقرأكها؟ قال: رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت والله لقد أقرأني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غير ذا فأتينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت: يا رسول الله ألم تقرئني كذا وكذا؟ قال بلى، وقال الآخر ألم تقرئني كذا وكذا قال بلى فتعمر وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال ليقرأ كل واحد منكما ما سمع فإنما هلك من كان قبلكم بالاختلاف، والأحقاف واد باليمن كانت فيه منازل عاد وقيل جمع حقف وهو التل من الرمل.(13/7)
بسم الله الرحمن الرحيم
حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ (3) قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (4) وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ (5) وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ (6)
(بسم الله الرحمن الرحيم)(13/9)
حم (1)
(حم) الله أعلم بمراده به، وقد تقدم الكلام على هذا مستوفى، وبيان ما هو الحق من أن فواتح السور من المتشابه الذي يجب أن يوكل علمه إلى من أنزله(13/9)
تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ (3)
(تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا) من المخلوقات بأسرها (إلا بالحق) ليدل على قدرتنا ووحدانيتنا هو استثناء مفرغ من أعم الأحوال أي إلا خلقاً متلبساً بالحق الذي تقتضيه المشيئة الإلهية.
(وأجل) أي وبتقدير أجل (مسمى) وهذا الأجل هو يوم القيامة، فإنها تنتهي فيه السموات والأرض وما بينهما، وتبدل الأرض غير الأرض والسموات، وقيل المراد به هو انتهاء أجل كل فرد من أفراد المخلوقات، والأول أولى، وهذا إشارة إلى قيام الساعة وانقضاء مدة الدنيا، وأن الله لم يخلق خلقه باطلاً وعبثاً لغير الله، بل خلقه للثواب والعقاب.(13/9)
(والذين كفروا عما أنذروا) وخوفوا به في القرآن من البعث والحساب والجزاء والعذاب (معرضون) والجملة في محل نصب على الحال، أي: والحال أنهم مولُّون غير مستعدين له ولا مؤمنين به(13/10)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (4)
(قل أرأيتم) أخبروني (ما تدعون) وتعبدون (من دون الله) من الأصنام وغيرها.
(أروني) يحتمل أن يكون تأكيداً لقوله: قل أرأيتم أي أخبروني أروني والمفعول الثاني لأرأيتم قوله: (ماذا) أي أيُّ شيء (خلقوا من الأرض)؟ ويحتمل أن لا يكون تأكيداً بل يكون هذا من باب التنازع، لأن أرأيتم يطلب مفعولاً ثانياً وأروني كذلك.
(أم لهم شرك في السموات) أم منقطعة مقدرة ببل والهمزة والمعنى بل ألهم شركة مع الله فيها؟ والاستفهام للتوبيخ والتقريع وتخصيص الشرك بالسموات دون أن يعمم بالأرض أيضاً احتراز عما يتوهم أن للوسائط شركة في إيجاد الحوادث السفلية.
(ائْتُونِي بِكِتَابٍ) منزل، هذا من جملة المقول والأمر تبكيت لهم وإظهار لعجزهم وقصورهم عن الإتيان بذلك، وإشارة إلى نفي الدليل المنقول بعد الإشارة إلى نفي الدليل المعقول (من قبل هذا) أي القرآن فإنه صرح ببطلان الشرك، وأن الله واحد لا شريك له، وأن الساعة حق لا ريب فيها، فهل للمشركين كتاب يخالف هذا الكتاب؟ أو حجة تنافي هذه الحجة؟.
(أو أثارة من علم) قال في الصحاح أي بقية منه وكذا الأثَرَة بالتحريك قال ابن قتيبة: أي بقية من علم الأولين، وقال الفراء والمبرد، يعني: ما يؤثر عن كتب الأولين قال الواحدي: وهو معنى قول المفسرين. قال عطاء، أو(13/10)
شيء تأثرونه عن نبي كان قبل محمد صلى الله عليه وسلم، قال مقاتل أو رواية من علم عن الأنبياء، وقال الزجاج: أو أثارة أي علامة والأثارة مصدر كالسماحة والشجاعة، وأصل الكلمة من الأثر، وهي الرواية يقال: أثرت الحديث أثره أثرة وأثاره وأثراً إذا ذكرتَه عن غيرك، قرأ الجمهور " آثارة " على المصدر كالسماحة والغواية.
وقرأ ابن عباس وزيد بن علي وغيرهما بفتح الهمزة والثاء أَثرَة من غير ألف وقرىء أثْرة بضم الهمزة وسكون الثاء، قال ابن عباس: " أو أثارة من علم أي خط " وأخرجه أحمد وابن المنذر وابن أبي حاتم وغيرهم قال سفيان لا أعلم إلا عن النبي صلى الله عليه وسلم يعني أن هذا الحديث مرفوع لا موقوف على ابن عباس.
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كان نبي من الأنبياء يخط فمن صادف مثل خطه علم " أخرجه عبد بن حميد، وابن مردويه، ومعنى هذا ثابت في الصحيح، ولأهل العلم فيه تفاسير مختلفة، ومن أين لنا أن هذه الخطوط الرملية موافقة لذلك الخط؟ وأين السند الصحيح إلى ذلك النبي؟ أو إلى نبينا صلى الله عليه وسلم إن هذا الخط هو على صورة كذا فليس ما يفعله أهل الرمل إلا جهالات وضلالات.
وعن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم: " أو أثارة من علم قال: حسن الخط " أخرجه ابن مردويه، وعن ابن عباس قال: " خط كان تخطه العرب في الأرض " وعنه قال بينة من العلم (إن كنتم صادقين) في دعواكم التي تدعونها وهي قولكم: إن لله شريكاً، أو إن الله أمركم بعبادة الأوثان ولم يأتوا بشيء من ذلك فتبين بطلان قولهم لقيام البرهان العقلي والنقلي على خلافه.(13/11)
وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ (5)
(ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له)؟ أي لا أحد(13/11)
أضل منه ولا أجهل، فإنه دعا من لا يسمع فكيف يطمع في الإجابة فضلاً عن جلب نفع أو دفع ضر، فتبين بهذا أنه أجهل الجاهلين. وأضل الضالين والإستفهام للتوبيخ والتقريع.
(إلى يوم القيامة) غاية لعدم الإستجابة والمراد بها التأييد كقوله تعالى: (وإن عليك لعنتي إلى يوم الدين) قاله الشهاب، وقال في الانتصاف في هذه الغاية نكتة، وهي أنه تعالى جعل عدم الاستجابة مُغياً بيوم القيامة، فأشعرت الغاية بانتفاء الاستجابة في يوم القيامة على وجه أبلغ وأتم وأوضح وضوحاً ألحقه بالبين الذي لا يتعرض لذكره، إذ هناك تتجدد العداوة والمباينة بينها وبين عابديها.
(وهم عن دعائهم غافلون) الضمير الأول للأصنام، والثاني لعابديها، والمعنى، الأصنام التي يدعونها غافلون عن ذلك لا يسمعون ولا يعقلون، لكونهم جمادات، فالغفلة مجاز عن عدم الفهم فيهم والجمع في الضميرين باعتبار معنى من، وأجرى على الأصنام ما هو للعقلاء، لاعتقاد المشركين فيها أنها تعقل.(13/12)
وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ (6)
(وإذا حشر الناس) العابدون للأصنام (كانوا) أي كان الأصنام (لهم) أي لعابديهم (أعداء) يتبرأ بعضهم من بعض، ويلعن بعضهم بعضاً، وقد قيل: إن الله يخلق الحياة في الأصنام فتكذبهم، وقيل: المراد إنها تكذبهم وتعاديهم بلسان الحال لا بلسان المقال، وأما الملائكة والمسيح وعزير والشياطين فإنهم يتبرأون ممن عبدهم يوم القيامة، كما في قوله تعالى: (تبرأنا إليك ما كانوا إيانا يعبدون).
(وكانوا بعبادتهم كافرين) أي كان المعبودون بعبادة المشركين إياهم جاحدين مكذبين، وقيل: الضمير في كانوا للعابدين، كما في قوله: (والله ربنا ما كنا مشركين) والأول أولى.(13/12)
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلَا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (8) قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (9)(13/13)
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (7)
(وإذا تتلى عليهم آياتنا) أي آيات القرآن حال كونها (بينات) واضحات المعاني ظاهرات الدلالات (وقال الذين كفروا للحق) أي لأجله وفي شأنه، وهو عبارة عن الآيات كما قاله القاضي في الكشاف، وإليه أشار في التقرير، ووضعه موضع ضميرها، ووضع الذين كفروا موضع ضمير المتلو عليهم للتسجيل عليها بالحق، وعليهم بالكفر، والانهماك في الضلالة كما يؤخذ ذلك من تقريره.
وإيضاحه: أنه هنا اقام ظاهرين مقام مضمرين إذ الأصل قالوا لها أي للآيات ولكنه أبرزهما ظاهرين لأجل الوصفين المذكورين أفاده الكرخي (لما جاءهم) أي وقت أن جاءهم قالوا من غير نظر وتأمل (هذا سحر مبين) أي ظاهر السحرية بين البطلان.(13/13)
أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلَا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (8)
(أم يقولون افتراه)؟ أم هي المنقطعة المقدرة ببل والهمزة، أي بل أيقولون؟ والإستفهام للإنكار، والتعجب من صنيعهم وبل للانتقال عن تسميتهم الآيات سحراً إلى قولهم: إن رسول الله افترى ما جاء به، والظاهر أن الافتراء على الله أشنع من السحر، لا يحتاج إلى البيان، وإن كان كلاهما(13/13)
كفراً، وفي ذلك من التوبيخ والتقريع ما لا يخفى، ثم أمره الله سبحانه أن يجيب عنهم فقال:
(قل إن افتريته) على سبيل الفرض والتقدير كما تدعون (فلا تملكون لي من الله شيئاًً) أي فلا تقدرون على أن تردوا عني عقاب الله فكيف أفترى على الله لأجلكم وأنتم لا تقدرون على دفع عقابه عني.
(هو أعلم بما تفيضون فيه) أي تخوضون فيه من التكذيب، والإفاضة في الشيء الخوض والاندفاع فيه، يقال: أفاضوا في الحديث أي اندفعوا فيه، وأفاض البعير إذا دفع جرته من كرشه، والمعنى الله أعلم بما تقولون في القرآن وتخوضون فيه من التكذيب له والقول بأنه سحر وكهانة.
(كفى به شهيداً بيني وبينكم) فإنه يشهد لي بأن القرآن من عنده، وأني قد بلغتكم، ويشهد عليكم بالتكذيب والجحود، وفي هذا وعيد شديد بجزاء إفاضتهم (وهو الغفور الرحيم) لمن تاب وآمن وصدق بالقرآن، وعمل بما فيه، أي كثير الرحمة والمغفرة بليغهما، وفيه إشعار بحلم الله عنهم، مع عظيم جرمهم.(13/14)
قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (9)
(قل ما كنت بدعاً من الرسل) البدع من كل شيء المبدأ أي ما أنا بأول رسول كذا قال ابن عباس يعني قد بعث الله قبلي كثيراً من الرسل، وقيل البدع بمعنى البديع كالخف والخفيف، والبديع ما لم ير له مثل من الابتداع وهو الاختراع، وشيء بدع بالكسر أي مبتدع. وفلان بدع في هذا الأمر أي بديع كذا قال الأخفش، وقرىء بدعاً بفتح الدال مصدراً على تقدير حذف مضاف، أي ما كنت ذا بدع قاله أبو البقاء. وقرىء بفتح الباء وكسر الدال على الوصف كحذر.
(وما أدري ما يفعل بي) فيما يستقبل من الزمان، هل أبقى في مكة؟(13/14)
أو أخرج منها؟ وهل أموت أو أقتل كما فعل بالأنبياء قبلي؟ قرىء يفعل مبنياً للمفعول وللفاعل وما استفهامية كما جرى عليه المحلِّي، أو موصولة كما قال الزمخشري.
(ولا) أدري ما يفعل (بكم) يعني هل تعجل لكم العقوبة كالمكذبين قبلكم؟ أم تمهلون وهذا إنما هو في الدنيا وأما في الآخرة فقد علم أنه وأمته في الجنة، وأن الكافرين في النار، وقيل إن المعنى ما أدري ما يفعل بي ولا بكم يوم القيامة وأنها لما نزلت قدح المشركون، وقالوا: كيف نتبع نبياً لا يدري ما يفعل به ولا بنا؟ وأنه لا فضل له علينا، فنزل قوله تعالى: (ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر)، والأول أولى.
قال ابن عباس رضي الله عنه: " فأنزل الله تعالى بعد هذا (ليغفر لك الله) الخ، وقوله: (ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات) الآية فأعلم الله سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم ما يفعل به وبالمؤمنين جميعاً وأرغم الله أنف الكفار وأخرج أبو داود في ناسخه أن هذه الآية منسوخة بقوله: (ليغفر لك الله) وقد ثبت في صحيح البخاري وغيره من حديث أم العلاء قالت: " لما مات عثمان بن مظعون رضي الله تعالى عنه قلت رحمك الله يا أبا السائب شهادتي عليك لقد أكرمك الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وما يدريك أن الله أكرمه؟ أما هو فقد جاءه اليقين من ربه، وإني لأرجو له الخير، وما أدري وأنا رسول الله ما يفعل بي ولا بكم. قالت أم العلاء: فوالله لا أزكي بعده أحداً ".
(إن أتبع إلا ما يوحى إلي) قرأ الجمهور مبنياً للمفعول أي ما أتبع إلا القرآن ولا أبتدع من عندي شيئاًً والمعنى قصر أفعاله صلى الله عليه وسلم على الوحي، لاقصر اتباعه على الوحي (وما أنا إلا نذير مبين) أي أنذركم عقاب الله وأخوفكم عذابه على وجه الإيضاح.(13/15)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ (11) وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ (12) إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (13)(13/16)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10)
(قُلْ أَرَأَيْتُمْ) أي أخبروني ماذا حالكم (إن كان) ما يوحى إليّ من القرآن (من عند الله) وقيل المراد محمد صلى الله عليه وسلم والمعنى إن كان مرسلاً من عند الله في الحقيقة.
(و) الحال أنكم قد (كفرتم به وشهد شاهد من بني إسرائيل) العالمين بما أنزل الله في التوراة (على مثله فآمن) أي على مثل القرآن من المعاني الموجودة في التوراة المطابقة له من إثبات التوحيد والبعث والنشور وغير ذلك، وهذه المثلية هي باعتبار تطابق المعاني، وإن اختلفت الألفاظ، قال الجرجاني: مثل صلة، والمعنى وشهد شاهد عليه أنه من عند الله، وكذا قال الواحدي: فآمن الشاهد بالقرآن لما تبين له أنه من كلام الله، ومن جنس ما ينزله على رسله.
وهذا الشاهد من بني إسرائيل هو عبد الله بن سلام، كما قال الحسن ومجاهد وقتادة وعكرمة وغيرهم، وفي هذا نظر فإن السورة مكية بالإجماع وعبد الله بن سلام كان إسلامه بعد الهجرة، فيكون المراد بالشاهد رجلاً من(13/16)
أهل الكتاب قد آمن بالقرآن في مكة، وصدقه واختار هذا ابن جرير والراجح أنه عبد الله بن سلام وأن هذه الآية مدنية لا مكية، وروي عن مسروق أن المراد بالرجل موسى عليه السلام وشهادته ما في التوراة من نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن سعد بن أبي وقاص قال: " ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لأحد يمشي على وجه الأرض: إنه من أهل الجنة إلا لعبد الله بن سلام، وفيه نزلت: وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله ".
وأخرج الترمذي وابن جرير وابن مردويه عن عبد الله بن سلام قال: " نزل فيّ آيات من كتاب الله نزلت في (وشهد شاهد من بني إسرائيل) ونزل فيّ (قل كفى بالله شهيداً بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب).
وعن ابن عباس قال هو عبد الله بن سلام وقد روي نحو هذا عن جماعة من التابعين. وفيه دليل على أن هذه الآية مدنية فيخصص بها عموم قولهم إن سورة الأحقاف كلها مكية، وإياه ذكر الكواشي وكونه إخباراً قبل الوقوع خلاف الظاهر، ولذا قيل لم يذهب أحد إلى أن الآية مكية إذا فسر الشاهد بابن سلام، وفيه بحث لأن قوله وشهد شاهد معطوف على الشرط الذي يصير به الماضي مستقبلاً فلا ضرر في شهادة الشاهد بعد نزولها وادعاء أنه لم يقل به أحد من السلف مع ذكره في شروح الكشاف لا وجه له إلا أن يراد من السلف المفسرون، قاله الشهاب.
(واستكبرتم) أي آمن الشاهد واستكبرتم أنتم عن الإيمان، وقد اختلف في جواب الشرط ما هو؟ فقال الزجاج محذوف تقديره أتؤمنون؟ وقيل تقديره فقد ظلمتم لدلالة أن الله لا يهدي الخ عليه، وقيل تقديره فمن أضل منكم؟ وقيل: قوله فآمن واستكبرتم، وقال أبو علي الفارسي تقديره أتأمنون(13/17)
عقوبة الله؟ وقيل التقدير ألستم ظالمين.
(إن الله لا يهدي القوم الظالمين) فحرمهم الله سبحانه الهداية بظلمهم لأنفسهم بالكفر، بعد قيام الحجة الظاهرة على وجوب الإيمان ومن فقد هداية الله له ضل، عن عوف بن مالك الأشجعي قال " انطلق النبي (صلى الله عليه وسلم) وأنا معه حتى دخلنا كنيسة اليهود يوم عيدهم فكرهوا دخولنا عليهم، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا معشر اليهود أروني اثني عشر رجلاً منكم يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله يحط الله عن كل يهودي تحت أديم السماء الغضب الذي عليه فسكتوا فما أجابه منهم أحد، ثم رد عليهم فلم يجبه أحد ثلاثاً، فقال أبيتم فوالله لأنا الحاشر، وأنا العاقب، وأنا المقفى، آمنتم أو كذبتم، ثم انصرف، وأنا معه حتى كدنا أن نخرج فإذا رجل من خلفه، فقال: كما أنت يا محمد، فأقبل فقال ذلك الرجل أي رجل تعلموني فيكم يا معشر اليهود؟ فقالوا: والله ما نعلم فينا رجلاً أعلم بكتاب الله ولا أفقه منك، ولا من أبيك، ولا من جدك، فقال: فإني أشهد بالله أنه النبي الذي تجدونه مكتوباً في التوراة والإنجيل، قالوا كذبت، ثم ردوا عليه، وقالوا شراً فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كذبتم لن يقبل منكم قولكم، فخرجنا ونحن ثلاثة رسول الله وأنا وابن سلام، فأنزل الله: (قل أرأيتم إن كان من عند الله) إلى قوله: (إن الله لا يهدي القوم الظالين) أخرجه أبو يعلى وابن جرير والطبراني والحاكم وصححه، وصححه السيوطي.
ثم ذكر الله سبحانه نوعاً آخر من أقاويلهم الباطلة في حق القرآن العظيم والمؤمنين به فقال:(13/18)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ (11)
(وقال الذين كفروا) أي كفار مكة (للذين آمنوا) أي لأجلهم، وفي حقهم، وقيل: هي لام التبليغ: (لو كان) ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من القرآن والنبوة (خيراً ما سبقونا إليه) فإن معالي الأمور لا تنالها أيدي الأراذل وهم سقاط، عامتهم فقراء وموال ورعاة، قالوه زعماً منهم(13/18)
أنهم المستحقون للسبق إلى كل مكرمة، وأن الرياسة الدينية مما ينال بأسباب دنيوية، وزل عنهم أنها منوطة بكمالات نفسانية، وملكات روحانية، مبناها الإعراض عن زخارف الدنيا الدنية والإقبال على الآخرة بالكلية، وأن من فاز بها فقد حازها بحذافيرها ومن حرمها فما له منها من خلاق ولم يعلموا أن الله سبحانه يختص برحمته من يشاء ويعز من يشاء ويذل من يشاء ويصطفي لدينه من يشاء عن قتادة قال: قال ناس من المشركين: نحن أعز ونحن ونحن فلو كان خيراً ما سبقنا إليه فلان وفلان، فنزلت هذه الآية.
وعن عون بن أبي شداد: " كانت لعمر بن الخطاب أمة أسلمت قبله يقال لها زنيرة. وكان عمر يضربها على الإسلام وكان كفار قريش يقولون: لو كان خيراً ما سبقتنا إليه زنيرة فأنزل الله في شأنها هذه الآية " وعن سمرة بن جندب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " بنو غفار وأسلم كانوا لكثير من الناس فتنة يقولون لو كان خيراً ما جعلهم الله أول الناس فيه ".
(وإذ لم يهتدوا به) أي بالقرآن وقيل: بمحمد صلى الله عليه وسلم وقيل بالإيمان (فسيقولون) غير مكتفين بنفي خيريته: (هذا إفك قديم) فجاوزوا نفي خيرية القرآن إلى دعوى أنه كذب قديم كما قالوا أساطير الأولين.(13/19)
وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ (12)
(ومن قبله كتاب موسى) قرأ الجمهور بكسر الميم من (من) على أنها حرف جر وهي مع مجرورها خبر مقدم، وكتاب موسى مبتدأ مؤخر، والجملة في محل نصب علي الحال، أو مستأنفة، والكلام مسوق لرد قولهم: (هذا إفك قديم) فإن كونه قد تقدم القرآن كتاب موسى وهو التوراة، وتوافقا في أصول الشرائع يدل على أنه حق، ويقتضي بطلان قولهم. وقرىء بفتح الميم على أنها موصولة ونصب كتاب أي وآتينا من قبله كتاب موسى.
(إماماً) أي يقتدى به في الدين (ورحمة) من الله لمن آمن به وهما منتصبان على الحال، قاله الزجاج وغيره، وقال الأخفش على القطع وقال أبو عبيدة أي جعلناه إماماً ورحمة.(13/19)
(وهذا كتاب مصدق) يعني القرآن فإنه مصدق لكتاب موسى الذي هو إمام ورحمة ولغيره من كتب الله، وقيل: مصدق للنبي صلى الله عليه وسلم وانتصاب (لساناً عربياً) على الحال الموطئة، وصاحبها الضمير في مصدق العائدة إلى كتاب الله وجوز أبو البقاء أن يكون مفعولاً لمصدق، والأول أولى وقيل: على حذف مضاف أي ذا لسان عربي، وهو النبي صلى الله عليه وسلم، وقيل بلسان على إسقاط حرف الجر وهو ضعيف (لينذر الذين ظلموا) أي لينذر الكتاب أو لينذر الله وقيل الرسول والأول أولى قرأ الجمهور بالتحتية وقرىء " لتنذر " بالفوقية على أن فاعله النبي صلى الله عليه وسلم.
(وبشرى) في محل نصب عطفاً على محل لتنذر، لأنه مفعول به، قاله الزمخشري وتبعه أبو البقاء وتقديره للإنذار والبشرى، وقيل منصوب على المصدرية لفعل محذوف أي وبشر بشرى، وقال الزجاج الأجود أن يكون في محل رفع أي وهو بشرى وقيل: إنه معطوف على مصدق فهو في محل رفع وقوله: (للمحسنين) متعلق ببشرى.(13/20)
إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (13)
(إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا) أي جمعوا بين التوحيد الذي هو خلاصة العلم، والاستقامة على الشريعة التي هي منتهى العلم، وثم للدلالة على تأخر رتبة العمل وتوقف اعتباره على التوحيد وقد تقدم تفسير هذا في سورة السجدة.
(فلا خوف عليهم) أي من لحوق مكروه في الآخرة والفاء زائدة في خبر الموصول لما فيه من معنى الشرط ولم تمنع أن من ذلك لبقاء معنى الابتداء بخلاف ليت ولعل وكان (ولا هم يحزنون) على فوات محبوب في الدنيا وإن ذلك دائم مستمر.(13/20)
أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (14) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (15)(13/21)
أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (14)
(أولئك) الموصوفون بما ذكر (أصحاب الجنة) التي هي دار المؤمنين حال كونهم (خالدين فيها) وفي هذه الآية من الترغيب أمر عظيم، فإن نفي الخوف والحزن على الدوام والاستقرار في الجنة على الأبد مما لا تطلب الأنفس سواه، ولا تتشوق الأرواح إلى ما عداه.
(جزاء بما كانوا يعملون) أي يجزون جزاء بسبب أعمالهم التي عملوها من الطاعات لله، وترك معاصيه في الدنيا ولما كان رضا الله في رضا الوالدين وسخطه في سخطهما كما ورد به الحديث حث الله تعالى عليه بقوله:(13/21)
وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (15)
(ووصينا الإنسان بوالديه حسناً) قرأ الجمهور بضم الحاء وسكون السين وقرىء بفتحهما، وقرىء إحساناً. وقد تقدم في سورة العنكبوت (ووصينا الإنسان بوالديه حسناً) من غير اختلاف بين القراء، وقد تقدم في سورة الأنعام وسورة بني إسرائيل (وبالوالدين إحساناً) فلعل هذا هو وجه اختلاف القراء هنا، وعلى جميعها فانتصابه على المصدرية، أي وصيناه أن يحسن إليهما حسناً أو إحساناً، وقيل يتضمن وصينا معنى ألزمنا، وقيل على أنه مفعول له والحسن خلاف القبح، والإحسان خلاف الإساءة والتوصية الأمر.(13/21)
(حملته أمه كرهاً ووضعته كرهاً) تعليل للتوصية المذكورة، واقتصر في التعليل على الأم لأن حقها أعظم ولذلك كان لها ثلثا البر قاله الخطيب، قرأ الجمهور كرهاً بضم الكاف في الموضعين، وقرىء بفتحها، قال الكسائي وهما لغتان بمعنى واحد، قال أبو حاتم الكره بالفتح لا يحسن لأنه الغضب والغلبة، واختار أبو عبيدة الفتح، وقال لأن لفظ الكره في القرآن كله بالفتح إلا التي في سورة البقرة (كتب عليكم القتال وهو كره لكم) وقيل: إن الكره بالضم ما حمل الإنسان على نفسه، وبالفتح ما حمل على غيره، وإنما ذكر سبحانه حمل الأم ووضعها تأكيداً لوجوب الإحسان إليها الذي وصى الله به، والمعنى أنها حملته ذات كره ووضعته ذات كره، ثم بين سبحانه مدة حمله وفصاله فقال:
(وحمله وفصاله ثلاثون شهراً) أي عدتهما هذه المدة من عند ابتداء حمله إلى أن يفصل من الرضاع أي يفطم عنه؛ وقد استدل بهذه الآية على أن أقل مدة الحمل ستة أشهر لأن مدة الرضاع سنتان أي مدة الرضاع الكامل في قوله: (حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة)، فذكر سبحانه في هذه الآية أقل مدة الحمل وأكثر مدة الرضاع، وفي هذه الآية إشارة إلى أن حق الأم آكد من حق الأب، لأنها حملته بمشقة ووضعته بمشقة وأرضعته هذه المدة بتعب ونصب. ولم يشاركها الأب في شيء من ذلك.
قرأ الجمهور فصاله بالألف، وقرىء فصله بفتح الفاء وسكون الصاد والفصل والفصال بمعنى كالفطم والفطام والقطف والقطاف، عن نافع بن جبير أن ابن عباس أخبره قال: " إني لصاحب المرأة التي أتى بها عمر وضعت لستة أشهر، فأنكر الناس ذلك فقلت لعمر لم تظلم؟ قال كيف؟ قلت اقرأ (وحمله وفصاله ثلاثون شهراً) (والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين) كم الحول؟ قال: سنة، قلت: كم السنة؟ قال اثنا عشر شهراً، قلت: فأربعة وعشرون شهراً حولان كاملان، ويؤخر الله من الحمل ما شاء، ويقدم ما شاء فاستراح عمر إلى قوله "، وعنه أنه كان يقول إذا ولدت المرأة لتسعة أشهر كفاها من الرضاع أحد وعشرون شهراً وإذا ولدت لسبعة أشهر كفاها من(13/22)
الرضاع ثلاثة وعشرون شهراً وإذا وضعت لستة أشهر فحولان كاملان لأن الله يقول وحمله وفصاله ثلاثون شهراً.
(حتى إذا بلغ أشده) أي بلغ استحكام قوته وعقله، وغاية شبابه واستوائه، وهو جمع لا واحد له من لفظه، وكان سيبويه يقول: واحده شدة، وبلوغ الأشد أن يكتهل، ويستوفي السن التي تستحكم فيها قوته ولبه، وذلك إذا أناف على الثلاثين وناطح الأربعين، وقد مضى تحقيق الأشد مستوفى، ولا بد من تقدير جملة تكون حتى غاية لها، أي عاش واستمرت حياته، وقيل: بلغ عمره ثماني عشرة سنة. وقيل: الأشد الحلم، قاله الشعبي وابن زيد، وقال الحسن: وهو بلوغ الأربعين والأول أولى لقوله: (وبلغ أربعين سنة) فإن هذا يفيد أن بلوغ الأربعين هو شيء وراء بلوغ الأشد، قال المفسرون: لم يبعث الله نبياً قط إلا بعد أربعين سنة إلا ابني الخالة.
(قال رب أوزعني) أي ألهمني ورغبني ووفقني، قال الجوهري: استوزعت الله فأوزعني أي استلهمته فألهمني (أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي) أي ألهمني شكر ما أنعمت علي من الهداية (وعلى والدي) من التحنن عليّ منهما حين ربياني صغيراً وقيل أنعمت عليَّ بالصحة والعافية وعلى والدي بالغنى والثروة (وأن أعمل) عملاً (صالحا ترضاه) مني.
(وأصلح لي في ذريتي) أي اجعل ذريتي صالحين راسخين في الصلاح، متمكنين منه، وعدي بفي لتضمنه معنى اللطف أو هو نزل منزلة اللازم، ثم عدي ليفيد سريان الصلاح فيم، وإلا فالإصلاح متعد كما في قوله تعالى: (وأصلحنا له زوجه) وفي هذه الآية دليل على أنه ينبغي لمن بلغ عمره أربعين سنة أن يستكثر من هذه الدعوات (إني تبت إليك) من ذنوبي (وإني من المسلمين) أي المستسلمين لك المنقادين لطاعتك المخلصين لتوحيدك.(13/23)
أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (16) وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (17) أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (18)(13/24)
أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (16)
(أولئك) إشارة إلى الإنسان المذكور والجمع لأنه يراد به الجنس (الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا) من أعمال الخير في الدنيا. والمراد بالأحسن الحسن كقوله: (واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم) فالقبول ليس قصراً على أفضل عباداتهم وأحسنها، بل يعم كل طاعاتهم فاضلها ومفضولها، والقبول هو الرضا بالعمل والإتابة عليه، وقيل: إن اسم التفضيل على معناه، ويراد به ما يثاب العبد عليه من الأعمال، لا ما لا يثاب عليه، كالمباح فإنه حسن، وليس بأحسن.
(ونتجاوز عن سيئاتهم) فلا نعاقبهم عليها، قرأ الجمهور: يتقبل ويتجاوز على بناء الفعلين للمفعول، وقرىء بالنون فيهما على إسنادهما إلى الله سبحانه، والتجاوز الغفران، وأصله من جزت الشيء إذا لم تقف عليه.
(في أصحاب الجنة) أي أنهم كائنون في عدادهم، منتظمون في سلكهم، فالجار والمجرور في مجال النصب على الحال، كقولك أكرمني الأمير في أصحابه أي كائناً في جملتهم، وقيل: إن في بمعنى مع، أي: مع أصحاب(13/24)
الجنة، وقيل: إنهما خبر مبتدأ محذوف أي هم في أصحاب الجنة.
(وعد الصدق) مصدر مؤكد لمضمون الجملة السابقة، لأن قوله (أولئك الذين نتقبل عنهم) في معنى الوعد بالتقبل، والتجاوز، ويجوز أن يكون مصدراً لفعل محذوف، أي ووعدهم الله وعد الصدق.
(الذي كانوا يوعدون) به على ألسن الرسل في الدنيا، عن ابن عباس قال: " أنزلت هذه الآية في أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه، فاستجاب الله له، فأسلم والداه جميعاً وإخوانه وولده كلهم "، ونزلت فيه أيضاًً: (فأما من أعطى واتقى) آخر السورة ".
وقال النسفي: قيل: نزلت في أبي بكر الصديق في أبيه أبي قحافة، وأمه أم الخير، وفي أولاده واستجابة دعائه فيهم، فإنه آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثمان وثلاثين سنة، ودعا لهما وهو ابن أربعين سنة، ولم يكن أحد من الصحابة من المهاجرين منهم والأنصار، أسلم هو ووالداه وبنوه وبناته غير أبي بكر رضي الله تعالى عنه.
ولما ذكر سبحانه من شكر نعمة الله عليه وعلى والديه، ذكر من قال لهما قولاً يدل على التضجر منهما، عند دعوتهما له إلى الإيمان فقال:(13/25)
وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (17)
(والذي قال لوالديه أفٍ لكما) الموصول عبارة عن الجنس القائل ذلك القول، ولهذا أخبر عنه بالجمع، وأف كلمة تصدر عن قائلها عند تضجره من شيء يرد عليه، قرىء أف بكسر الفاء مع التنوين، وقرىء بفتحها من غير تنوين وقرىء بكسرها من غير تنوين فالقراآت ثلاثة سبعية والهمزة في الكل مضمومة وقد مضى بيان الكلام على هذا في سورة بني إسرائيل واللام في لكما لبيان المؤفف له كما في قوله: (هيت لك).
وقد أخرج البخاري عن يوسف بن ماهك قال: كان مروان على الحجاز(13/25)
استعمله معاوية بن أبي سفيان فخطب فجعل يذكر يزيد ابن معاوية عليه ما عليه لكي يبايع له بعد أبيه، فقال عبد الرحمن بن أبي بكر شيئاًً، فقال: خذوه فدخل بيت عائشة فلم يقدروا عليه. فقال مروان إن هذا أنزل فيه (والذي قال لوالديه أف لكما)، فقالت عائشة: ما أنزل الله فينا شيئاًً من القرآن إلا أن الله أنزل عذري ".
وعن محمد بن زياد قال لما بايع معاوية لابنه قال مروان سنة أبي بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما فقال عبد الرحمن سنة هرقل وقيصر، فقال مروان هذا الذي قال الله فيه والذي قال لوالديه أف لكما الآية فبلغ ذلك عائشة كذب مروان والله ما هو به، ولو شئت أن أسمي الذي نزلت فيه لسميته، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن أبا مروان ومروان في صلبه، فمروان من لعنه الله " أخرجه النسائي، وعبد بن حميد وابن المنذر، والحاكم وصححه.
وعن ابن عباس في الآية قال هذا ابن لأبي بكر، ونحوه عن السدي، ولا يصح هذا، ويرده ما سيأتي من قوله تعالى:(13/26)
أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (18)
(أولئك الذين حق عليهم القول في أمم)، والصحيح أنه ليس المراد من الآية شخصاً معيناً، بل المراد كل شخص كان موصوفاً بهذه الصفة، وهو كل من دعاه أبواه إلى الدين الصحيح والإيمان بالبعث، فأبى وأنكر وقيل نزلت في كل كافر عاق لوالديه.
(أتعدانني)؟ بنونين مخففتين وفتح ياءه أهل المدينة ومكة، وأسكنها الباقون، وقرىء بإدغام إحدى النونين في الأخرى. وقرىء بفتح النون الأولى فراراً من توالي مثلين مكسورين (أن أخرج) قرأ الجمهور مبنياً للمفعول، وقرىء مبنياً للفاعل، والمعنى أتعدانني أن أبعث بعد الموت، وهذا هو الموعود به.
(وقد خلت القرون من قبلي) أي والحال أن قد مضت القرون فماتوا(13/26)
ولم يبعث منهم أحد (وهما يستغيثان الله) له، ويطلبان منه التوفيق إلى الإيمان واستغاث يتعدى بنفسه تارة وبالباء أخرى، يقال استغاث الله واستغاث به.
وقال الرازي معناه يستغيثان بالله من كفره فلما حذف الجار وصل الفعل وقيل الاستغاثة الدعاء فلا حاجة إلى الباء، وزعم ابن مالك أنه يتعدى بنفسه فقط، وعاب قول النحاة مستغاث به، قلت لكنه لم يرد في القرآن إلا متعدياً بنفسه (إذ تستغيثون ربكم) (فاستغاثه الذي من شيعته) (وإن يستغيثوا يغاثوا) قال الفراء يقال أجاب الله دعاءه وغواثه.
(ويلك) أي: يقولان له ويلك. وليس المراد به الدعاء عليه بل الحث له على الإيمان ولهذا قالا له (آمن) بالبعث واعترف وصدق (إن وعد الله حق) قرأ الجمهور بكسر إن على الاستئناف أو التعليل، وقرىء بفتحهما أي آمن بأن وعد الله حق لا خلف فيه، وهو من جملة مقولهما.
(فيقول) عند ذلك مكذباً لما قالاه (ما هذا) الذي تقولانه من البعث (إلا أساطير الأولين) أي: أحاديثهم وأباطيلهم التي يسطرونها في الكتب من غير أن تكون في حقيقة.
(أولئك) القائلون هذه المقالات هم (الذين حق عليهم القول) أي وجب عليهم العذاب بقوله سبحانه لإبليس (لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين) كما يفيده قوله:
(في أمم قد خلت من قبلهم من الجن والإنس) وجملة (إنهم كانوا خاسرين) تعليل لما قبلها، وهذا يدفع كون سبب النزول عبد الرحمن ابن أبي بكر، وأنه الذي قال لوالديه ما قال. فإنه من أفاضل المؤمنين، وليس ممن حقت عليه كلمة العذاب.(13/27)
وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (19) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ (20)(13/28)
وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (19)
(ولكل) أي لكل فريق من الفريقين المؤمنين والكافرين والأبرار والفجار من الجن والإنس (درجات مما عملوا) أي مراتب عند الله يوم القيامة بأعمالهم قال ابن زيد درجات أهل النار تذهب سفلاً، ودرجات أهل الجنة تذهب علواً، ومراتب أهل النار يقال لها دركات بالكاف، كما في الحديث لا درجات، والجواب أن ذلك على جهة التغليب أو المراد المراتب مطلقاً.
(وليوفيهم أعمالهم) أي جزاء أعمالهم، ولا يظلمهم حقوقهم، قدر جزاءهم على مقادير أعمالهم، فجعل الثواب درجات، والعقاب دركات، قرأ الجمهور بالنون، وقرىء بالتحتية، واختار أبو عبيدة الأولى، وأبو حاتم الثانية (وهم لا يظلمون) أي لا يزاد مسيء ولا ينقص محسن، بل يوفي كل فريق ما يستحقه من خير وشر والجملة حالية مؤكدة، أو مستأنفة مقررة لما قبلها.(13/28)
وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ (20)
(ويوم يعرض الذين كفروا على النار) أي اذكر لهم يا محمد يوم ينكشف الغطاء فينظرون إلى النار ويقربون منها، وقيل معنى يعرضون يعذبون من قولهم عرضه على السيف وعرض الشخص على النار أشد في إهانته من عرض النار عليه إذ عرضه عليها يفيد أنه كالحطب المخلوق للاحتراق، وقيل: في الكلام قلب والمعنى تعرض النار عليهم.(13/28)
(أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا) أي يقال لهم ذلك، قرأ الجمهور: أذهبتم بهمزة واحدة، وقرىء بهمزتين محققتين، ومعنى الاستفهام التقريع والتوبيخ، قال الفراء والزجاج: العرب توبخ بالإستفهام وبغيره، فالتوبيخ كائن على القراءتين، قال الكلبي: المراد بالطيبات اللذات وما كانوا فيه من المعايش والمعنى أن كل ما قدر لكم من اللذات والطيبات فقد ذهبتم به وأخذتموه وتمتعتم به فلم يبق لكم بعد استيفاء حظكم منها شيء، وقيل: المعنى أفنيتم شبابكم في الكفر والمعاصي، قال ابن بحر: الطيبات الشباب والقوة، مأخوذة من قولهم: ذهب أطيباه أي شبابه وقوته، قال الماوردي: ووجدت الضحاك قاله أيضاًً، قلت: القول الأول أظهر، والثاني فيه بعد.
(واستمتعتم بها) أي بالطيبات، والمعنى: أنهم اتبعوا الشهوات واللذات التي في معاصي الله سبحانه، ولم يبالوا بالذنب تكذيباً منهم لما جاءت به الرسل من الوعد بالحساب والعقاب والثواب.
(فاليوم تجزون عذاب الهون) أي العذاب الذي فيه ذلكم، وخزي عليكم، قال مجاهد وقتادة الهون الهوان بلغة قريش (بما كنتم تستكبرون في الأرض بغير الحق) أي بسبب تكبركم عن عبادة الله، والإيمان به وتوحيده.
(وبما كنتم تفسقون) أي تخرجون عن طاعة الله وتعملون بمعاصيه، فجعل السبب في عذابهم أمرين: التكبر عن اتباع الحق، والعمل بمعاصي الله سبحانه، وهذا شأن الكفرة فإنهم جمعوا بينهما، قيل لما وبخ الله تعالى الكافرين بالتمتع بالطيبات آثر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه والصالحون من بعدهم اجتناب اللذات في الدنيا رجاء ثواب الآخرة وفي الباب أخبار وآثار تدل على ذم التمتع.(13/29)
وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (21)
وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (21)
(واذكر) يا محمد لقومك (أخا عاد) هو هود بن عبد الله بن رباح كان أخاهم في النسب لا في الدين (إذ أنذر قومه) أي وقت إنذاره إياهم (بالأحقاف) هي ديار عاد جمع حقف وهو الرمل العظيم المستطيل المعوج قاله الخليل وغيره، وكانوا قهروا أهل الأرض بقوتهم والمعنى أن الله سبحانه أمره أن يذكر لقومه قصتهم ليتعظوا ويخافوا ويعتبروا بها، وقيل أمره أن يتذكر في نفسه قصتهم مع هود ليقتدى به ويهون عليه تكذيب قومه له.
قال عطاء الأحقاف رمال بلاد الشحر والشحر قريب من عدن وفي القاموس الشحر كمنع فتح الفم وساحل البحر بين عمان وعدن، وقال مقاتل: هي باليمن في حضرموت. وقال ابن زيد: هي رمال مبسوطة مستطيلة مشرفة على البحر كهيئة الجبال، ولم تبلغ أن تكون جبالاً؛ وقيل: الأحقاف ما استدار من الرمل. وقال ابن عباس: الأحقاف جبل بالشام، وقيل: واد بين عمان ومهرة وإليه تنسب الإبل المهرية وقيل: كانوا من قبيلة إرم.
(وقد خلت النذر من بين يديه ومن خلفه) أي وقد مضت الرسل من قبله ومن بعده، كذا قال الفراء وغيره والمعنى أعلمهم أن الرسل الذين بعثوا قبله والذين سيبعثون بعده كلهم منذورون نحو إنذاره، فالذين قبله أربعة آدم وشيث وإدريس ونوح، والذين بعده كصالح وإبراهيم وإسماعيل وإسحق وكذا سائر أنبياء بني إسرائيل (أن) أي بأن قال: (لا تعبدوا إلا الله) وحده (إني أخاف عليكم) تعليل لما قبله (عذاب يوم عظيم) أي هائل بسبب شرككم، قاله القاضي، وفيه إشارة إلى أن عظيم مجاز عن هائل لأنه يلزم العظم.(13/30)
قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (22) قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (23) فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (24) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (25) وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (26) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (27)(13/31)
قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (22)
(قَالُوا) أي جواباً لإنذاره (أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا) أي لتصرفنا عن عبادتها، وقيل: لتزيلنا، وقيل لتمنعنا، والمعنى متقارب (فأتنا بما تعدنا) من عذاب يوم عظيم (إن كنت من الصادقين) في وعدك لنا به(13/31)
قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (23)
(قال إنما العلم) بوقت مجيئه (عند الله) لا عندي ولا مدخل لي فيه فاستعجل به.
(وأبلغكم) أي وأما أنا فإنما وظيفتي التبليغ (ما أرسلت به) إليكم من ربكم من الإنذار والإعذار لا الإتيان بالعذاب إذ ليس من مقدوري بل هو من مقدورات الله تعالى: (ولكني أراكم قوماً تجهلون) حيث بقيتم مصرين على كفركم، ولم تهتدوا بما جئتكم به بل اقترحتم عليّ ما ليس من وظائف الرسل.(13/31)
فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (24)
(فلما رأوه) الضمير يرجع إلى ما في قوله: (بما تعدنا) وقال المبرد(13/31)
والزجاج يعود إلى غير مذكور وبينه قوله (عارضاً) فيعود إلى السحاب أي فلما رأوا السحاب عارضاً، فعارضاً نصب على التكرير بمعنى التفسير وسمي السحاب عارضاً لأنه يبدو في عرض السماء، قال ابن عباس: العارض السحاب وبه قال الجوهري، وزاد يعترض في الأفق ومنه قوله: (هذا عارض ممطرنا)، وانتصاب عارضاً على الحال أو التمييز.
(مستقبل أوديتهم) أي متوجهاً نحوها سائراً إليها، قال المفسرون: كانت عاد قد حبس عنهم المطر أياماً فساق الله إليهم سحابة سوداء فخرجت عليهم من واد لهم يقال له المعتب فلما رأوه مستقبل أوديتهم استبشروا.
و (قالوا هذا عارض ممطرنا) أي غيم فيه مطر وقوله مستقبل أوديتهم صفة لعارض لأن إضافته لفظية لا معنوية فصح وصف النكرة به وهكذا ممطرنا، فلما قالوا ذلك أجاب عليهم هوداً القائل هو الله: (بل هو ما استعجلتم به) من العذاب حيث قلتم: فائتنا بما تعدنا.
(ريح فيها عذاب أليم) الريح التي عذبوا بها نشأت من ذلك السحاب الذي رأوه(13/32)
تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (25)
(تدمر كل شيء بأمر ربها) صفة ثانية لريح أي تهلك كل شيء مرت به من نفوس عاد وأموالها، والتدمير الإهلاك وكذا الدماء، وقرىء يدمر بالتحتية مفتوحة وسكون الدال وضم الميم ورفع كل على الفاعلية من دمر دماراً ومعنى بأمر ربها أن ذلك بقضائه وقدره.
أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن عائشة قالت: " ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مستجمعاً ضاحكاً حتى أرى منه لهواته إنما كان يتبسم، وكان إذا رأى غيماً أو ريحاً عرف ذلك في وجهه قلت يا رسول الله: الناس إذا رأوا الغيم فرحوا أن يكون فيه المطر، وأراك إذا رأيته عرفت في وجهك الكراهية، قال: يا عائشة وما يؤمنني أن يكون فيه عذاب، قد عذب قوم بالريح وقد رأى قوم العذاب فقالوا هذا عارض ممطرنا ".
وأخرج مسلم والترمذي والنسائي وابن ماجة عن عائشة قالت: " كان(13/32)
رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا عصفت الريح قال اللهم إني أسألك خيرها وخير ما فيها، وخير ما أرسلت به وأعوذ بك من شرها وشر ما فيها وشر ما أرسلت به، فإذا تخيلت السماء تغير لونه، وخرج ودخل وأقبل وأدبر، فإذا مطرت سرى عنه فسألته فقال لا أدري لعله كما قال قوم عاد هذا عارض ممطرنا ".
(فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم) بعد خراب أموالهم وذهاب أنفسهم قرأ الجمهور بالفوقية على الخطاب لمحمد صلى الله عليه وسلم أو لكل من يصلح للرؤية، ونصف مساكنهم وقرىء بالتحتية مبنياً للمفعول ورفع مساكنهم، قال سيبويه معناه لا يرى أشخاصهم إلا مساكنهم وقال الكسائي والزجاج معناها لا يرى شيء إلا مساكنهم فهي محمولة على المعنى، كما تقول ما قام إلا هند أي ما قام أحد إلا هند، وفي الكلام حذف، والتقدير فجاءتهم الريح فدمرتهم فأصبحوا الخ.
قال ابن عباس في الآية: " أول ما عرفوا أنه عذاب رأوا ما كان خارجاً من رحالهم ومواشيهم يطير بين السماء والأرض مثل الريش، دخلوا بيوتهم وأغلقوا أبوابهم فجاءت الريح ففتحت أبوابهم ومالت عليهم بالرمل فكانوا تحت الرمل سبع ليال وثمانية أيام حسوماً لهم أنين ثم أمر الله الريح فكشفت عنهم الرمل وطرحتهم في البحر فهو قوله فأصبحوا الآية " وعنه قال ما أرسل الله على عاد من الريح إلا قدر خاتمي هذا (كذلك) الجزاء (نجزي القوم المجرمين) قد تقدم تفسير هذه القصة في سورة الأعراف.(13/33)
وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (26)
(ولقد مكناهم فيما إن مكناكم فيه) قال المبرد (ما) في قوله: فيما بمنزلة الذي، وإن بمنزلة ما النافية وتقديره ولقد مكناهم في الذي ما مكناكم فيه من كثرة المال وطول العمر وقوة الأبدان، وقيل إن زائدة أي ولقد مكناهم فيما مكناكم فيه، وبه قال القتيبي، والأول أولى، لأنه أبلغ في التوبيخ لكفار قريش وأمثالهم، مال ابن عباس يقول لم نمكنكم، وعنه قال: عاد(13/33)
مكنوا في الأرض أفضل مما مكنت فيه هذه الأمة وكانوا أشد قوة وأكثر أموالاً، وأطول أعماراً.
(وجعلنا لهم سمعاً وأبصاراً وأفئدة) أي أنهم أعرضوا عن قبول الحجة والتذكر مع ما أعطاهم الله من الحواس وآلات الفهم التي بها تدرك الأدلة ولهذا قال:
(فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء) أي فما نفعهم ما أعطاهم الله من ذلك، حيث لم يتوصلوا به إلى التوحيد واعتقاد صحة الوعد والوعيد، ووحد السمع لأنه لا يدرك به إلا الصوت وما يتبعه بخلاف البصر حيث يدرك به أشياء كثيرة بعضها بالذات وبعضها بالواسطة، والفؤاد يعم إدراكه كل شيء قاله الكرخي، وقد قدمنا من الكلام على إفراد السمع وجمع البصر ما يغني عن الإعادة و (من) في من شيء زائدة والتقدير فما أغنى عنهم شيئاًً من الإغناء ولا نفعهم بوجه من وجوه النفع.
(إذ كانوا يجحدون بآيات الله) أي لأنهم كانوا جاحدين (وحاق بهم ما كانو به يستهزئون) أي أحاط بهم العذاب الذي كانوا يستعجلونه بطريق الاستهزاء، حيث قالوا فائتنا بما تعدنا(13/34)
وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (27)
(ولقد أهلكنا ما حولكم من القرى) الخطاب لأهل مكة، والمراد بالقرى قرى قوم ثمود، وهي الحجر وسدوم قرى قوم لوط بالشام ونحوهما مما كان مجاوراً لبلاد الحجاز وكانت أخبارهم متواترة عندهم (وصرفنا الآيات لعلهم يرجعون) أي بينا الحجج ونوعناها لكي يرجعوا عن كفرهم فلم يرجعوا ثم ذكر سبحانه أنه لم ينصرهم من عذاب الله ناصر فقال:(13/34)
فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (28) وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29)(13/35)
فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (28)
(فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً) أي فهلا نصرهم آلهتهم التي تقربوا بها بزعمهم إلى الله لتشفع لهم حيث قالوا: (هؤلاء شفعاؤنا عند الله) ومنعتهم من الهلاك الواقع بهم.
قال الكسائي: القربان كل ما يتقرب به إلى الله من طاعة ونسيكة، والجمع قرابين كالرهبان والرهابين، وأحد مفعولي اتخذوا ضمير محذوف راجع إلى الموصول، والثاني آلهة وقرباناً حال، ولا يصح أن يكون قرباناً مفعولآ ثانياً وآلهة بدلاً منه الفاسد المعنى، وقيل يصح ذلك ولا يفسد المعنى ورجحه ابن عطية وأبو البقاء وأبو حيان، وأنكر أن يكون في المعنى فساد على هذا الوجه.
(بل ضلوا عنهم) أي غابوا عن نصرهم ولم يحضروا عند الحاجة إليهم بالكلية، وقيل: بل هلكوا وقيل الضمير في ضلوا راجع إلى الكفار أي تركوا الأصنام وتبرؤا منها والأول أولى.
(وذلك إفكهم) أي ذلك الضلال والضياع أثر إفكهم الذي هو اتخاذهم إياها آلهة، وزعمهم أنها تقربهم إلى الله قرأ الجمهور إفكهم بكسر الهمزة وسكون الفاء مصدر أفك يأفك إفكاً أي كذبهم، وقرىء أفك بفتح الهمزة والفاء والكاف على أنه فعل أي ذلك القول صرفهم عن التوحيد وقرىء بفتح الهمزة وتشديد الفاء أي صيرهم آفكين، قال أبو حاتم يعني قلبهم عما كانوا عليه من النعيم، وقرىء بالمد وكسر الفاء بمعنى صارفهم.
(وما كانوا يفترون) معطوف على إفكهم أي وأثر إفترائهم أو أثر(13/35)
الذي كانوا يفترونه والمعنى وذلك إفكهم أي كذبهم الذي يقولون: أنها تقربهم إلى الله وتشفع لهم وما كانوا يكذبون أنها آلهة ولما بين سبحانه أن في الإنس من آمن، وفيهم من كفر بين أيضاًً أن في الجن كذلك فقال:(13/36)
وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29)
(وإذ صرفنا إليك نفراً من الجن) أي اذكر إذ وجهنا إليك نفراً منهم وبعثناهم إليك، وأقبلنا بهم نحوك والنفر دون العشرة (يستمعون القرآن) صفة ثانية لنفر أو حال، لأن النكرة قد تخصصت بالصفة الأولى.
عن ابن مسعود قال: هبطوا يعني الجن على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ القرآن ببطن نخلة فلما سمعوه قالوا: أنصتوا قالوا صه، وكانوا تسعة أحدهم زوبعة فأنزل الله: وإذ صرفنا إلى قوله ضلال مبين ".
وعن الزبير قال: إذ صرفنا إليك نفراً من الجن بنخلة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي العشاء الآخرة كادوا يكونون عليه لبداً وكانوا تسعة نفر من أهل نصيبين فجعلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم رسلاً إلى قومهم " وعنه قال " أتوه ببطن نخلة "، وعنه قال: " صرفت الجن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مرتين وكانوا أشراف الجن بنصيبين، وهي قرية من اليمن وجنها أشرف الجن وسادتهم "، وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن مسروق قال: سألت ابن مسعود من آذن النبي صلى الله عليه وسلم بالجن ليلة استمعوا القرآن قال آذنته بهم الشجرة (1).
وأخرج أحمد ومسلم والترمذي عن علقمة قال قلت لابن مسعود هل صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم منكم أحد ليلة الجن؟ قال: ما صحبه منا أحد ولكنا فقدناه ذات ليلة فقلنا اغتيل استطير ما فعل؟ قال فبتنا
_________
(1) روي بألفاظ كثيرة - البخاري 2/ 210 - 8/ 513 ومسلم 1/ 331 السيوطي في الدر 6/ 270 أحمد/4149.(13/36)
بشر ليلة بات بها قوم، فلما كان في وجه الصبح إذا نحن به يجيء من قبل حراء، فأخبرناه فقال إنه أتاني داعي الجن فأتيتهم فقرأت عليهم القرآن فانطلق فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم ".
وأخرج أحمد عنه قال: كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن وقد روي نحو هذا من طرق والجمع بين الروايات بالحمل على قصتين وقعتا منه صلى الله عليه وسلم مع الجن حضر إحداهما ابن مسعود ولم يحضر في الأخرى وقد وردت أحاديث كثيرة أن الجن بعد هذا وفدت على رسول الله صلى الله عليه وسلم مرة بعد مرة وأخذوا عنه الشرائع وذكر سليمان الجمل في سبب هذه الواقعة قولين من الخطيب والخازن لا حاجة بنا إلى ذكرهما فإنهما ليسا من التفسير في شيء.
(فلما حضروه) أي حضروا القرآن عند تلاوته وقيل حضروا النبي صلى الله عليه وسلم ويكون في الكلام التفات من الخطاب إلى الغيبة والأول أولى (قالوا أنصتوا) أي اسكتوا أمر بعضهم بعضاً لأجل أن يسمعوا.
(فَلَمَّا قُضِيَ) قرأ الجمهور مبنياً للمفعول أي فرغ من تلاوته وقرىء مبنياً لفاعل أي فرغ النبي صلى الله عليه وسلم من تلاوته والأولى تؤيد أن الضمير في حضروه القرآن والثانية تؤيد أنه للنبي صلى الله عليه وسلم.
(وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ) أي انصرفوا قاصدين إلى من وراءهم من قومهم منذرين لهم عن مخالفة القرآن، ومحذرين لهم وانتصاب منذرين على الحال المقدرة أي مقدرين الإنذار وهذا يدل على أنهم آمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم وكانوا يهوداً وقد أسلموا والجن لهم ملل مثل الإنس ففيهم اليهود والنصارى والمجوس وعبدة الأصنام، وفي مسلميهم مبتدعة، ومن يقول بالقدر وخلق القرآن ونحو ذلك من المذاهب والبدع قاله الخازن.(13/37)
قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (30) يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (31) وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (32)(13/38)
قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (30)
(قالوا يا قومنا) في الكلام حذف والتقدير فوصلوا إلى قومهم فقالوا يا قومنا (إنا سمعنا كتاباً) أي قرآناً (أنزل من بعد موسى مصدقاً لما بين يديه) أي لما قبله من الكتب المنزلة كالتوراة والإنجيل والزبور وصحف إبراهيم وغيرها.
(يهدي إلى الحق) أي: إلى الدين الحق أي العقائد الصحيحة (وإلى طريق مستقيم) أي إلى طريق الله القويم أي الشرائع الفرعية والأحكام الدينية، قال مقاتل لم يبعث الله نبياً إلى الجن والإنس قبل محمد صلى الله عليه وسلم.(13/38)
يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (31)
(يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به) يعنون محمداً صلى الله عليه وسلم أو القرآن (يغفر لكم) جواب الأمر (من ذنوبكم) أي بعضها، وهو ما عدا حق العباد لأنه لا يغفر إلا برضاء أصحابه، وقيل: إن من هنا لابتداء الغاية والمعنى أنه يقع ابتداء الغفران من الذنوب ثم ينتهي إلى غفران ترك ما هو الأولى وقيل هي زائدة والأول أولى.
(ويجركم من عذاب أليم) وهو عذاب النار، وفي هذه الآية دليل على أن حكم الجن حكم الإنس فيه الثواب والعقاب والتعبد بالأوامر والنواهي، وقال الحسن: ليس لمؤمني الجن ثواب غير نجاتهم من النار، وبه قال أبو حنيفة والأول أولى، وبه قال مالك والشافعي وابن أبي ليلى، وعلى القول الثاني فقال القائلون به إنهم بعد نجاتهم من النار يقال لهم كونوا تراباً كما يقال للبهائم، والأول أرجح، وقد قال الله تعالى في مخاطبة الجن والإنس:(13/38)
(وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (46) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) فامتن الله سبحانه على الثقلين بأن جعل جزاء محسنهم الجنة ولا ينافي هذا الاقتصار ههنا على ذكر إجارتهم من عذاب أليم، ومما يؤيد هذا أن الله سبحانه قد جازى كافرهم بالنار، وهو مقام عدل فكيف لا يجازي محسنهم بالجنة، وهو مقام فضل، ومما يؤيد هذا أيضاًً ما في القرآن الكريم في غير موضع أن جزاء المؤمنين الجنة وجزاء من عمل الصالحات الجنة وجزاء من قال لا إله إلا الله الجنة وغير ذلك مما هو كثير في الكتاب والسنة.
وقد اختلف أهل العلم هل أرسل الله إلى الجن رسولاً منهم؟ أم لا؟ وظاهر الآيات القرآنية أن الرسل من الإنس كما في قوله: (وما أرسلنا من قبلك إلا رجالاً نوحي إليهم من أهل القرى) وقال (وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا أنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق) وقال سبحانه في إبراهيم الخليل (وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب) فكل نبي بعثه الله بعد إبراهيم فهو من ذريته وأما قوله سبحانه في سورة الأنعام (يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم) فقيل المراد من مجموع الجنسين ما صدق عليه أحدهما وهم الإنس كقوله (يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان) أي من أحدهما.(13/39)
وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (32)
(ومن) شرطية (لا يجب داعي الله فليس بمعجز في الأرض) أي: لا يفوت الله ولا يسبقه ولا يقدر على الهرب منه لأنه وإن هرب كل مهرب فهو في الأرض لا سبيل له إلى الخروج منها وفي هذا ترهيب شديد.
(وليس له من دونه أولياء) أي أنصار يمنعونه من عذاب الله بين سبحانه بعد استحالة نجاته بنفسه استحالة نجاته بواسطة غيره (أولئك) أي: من لا يجب داعي الله.
(في ضلال مبين) أي ظاهر واضح، وهذا آخر كلام الجن الذين سمعوا القرآن. وقد اجتمع ههنا همزتان مضمومتان من كلمتين وليس لهما نظير في القرآن غير هذا، ثم ذكر سبحانه دليلاً على البعث فقال:(13/39)
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (33) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (34) فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ (35)(13/40)
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (33)
(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ)؟ الرؤية هنا هي القلبية التي بمعنى العلم والهمزة للإنكار والواو للعطف على مقدر، أي ألم يتفكروا ولم يعلموا أن الذي خلق هذه الأجرام العظام من السموات والأرض ابتداء (ولم يعي) مجزوم بحذف الألف، قرأ الجمهور بسكون العين وفتح الياء مضارع عي، وقرىء بكسر العين وسكون الباء.
(يخلقهن) أي: لم يتعب ولم ينصب ولم يعجز عن ذلك ولا ضعف عنه، يقال عي بالأمر وعيي إذا لم يهتد لوجهه، قال الشهاب: عدم العي مجاز عن عدم الانقطاع والنقص، يعني: أن قدرته واجبة لا تنقص ولا تنقطع بالإيجاد أبد الآباد.
(بقادر على أن يحيي الموتى) قال أبو عبيدة والأخفش: الباء زائدة للتوكيد كما في قوله (وكفى الله شهيداً) قال الكسائي والفراء والزجاج: العرب تدخل الباء مع الجحد والاستفهام فتقول: ما أظنك بقائم، والجار والمجرور في محل رفع على أنهما خبر لأن، وقرأ جماعة يقدر على صيغة المضارع، واختار أبو عبيدة الأولى وأبو حاتم الثانية.
(بلى إنه على كل شيء قدير) لا يعجزه شيء تعليل لما أفادته بلى من تعاليل الخاص بالعام، ولما أثبت البعث ذكر بعض ما يحصل في يومه من الأهوال فقال(13/40)
وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (34)
(ويوم يعرض الذين كفروا على النار) أي يقال ذلك اليوم للذين كفروا.(13/40)
(أليس هذا بالحق) وهذه الجملة هي المحكية بالقول والإشارة بهذا إلى ما هو مشاهد لهم يوم عرضهم على النار، وفي الاكتفاء بمجرد الإشارة من التهويل للمشار إليه والتفخيم لشأنه ما لا يخفى، كأنه أمر لا يمكن التعبير عنه بلفظ يدل عليه.
(قالوا بلى وربنا) اعترفوا حين لا ينفعهم الاعتراف، وأكدوا هذا الاعتراف بالقسم لأن المشاهدة هي حق اليقين الذي لا يمكن جحده ولا إنكاره ولأنهم يطمعون في الخلاص بالاعتراف بحقية ما هم فيه (قال فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون) أي بسبب كفركم بهذا في الدنيا وإنكاركم له، وفي هذا الأمر لهم بذوق العذاب توبيخ بالغ وتهكم عظيم، ولما قرر سبحانه الأدلة على النبوة والتوحيد والمعاد أمر رسوله بالصبر فقال:(13/41)
فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ (35)
(فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل) إصبر أو ثق بحكم الله، والثبات من غير بث ولا استكراه قاله القشيري، والفاء جواب شرط محذوف أي إذا عرفت ذلك وقامت عليه البراهين ولم ينجح في الكافرين فاصبر كما صبر أرباب الثبات والحزم وأولو الجد والصبر فإنك منهم.
قال مجاهد: أولو العزم من الرسل خمسة: نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد، وهم أصحاب الشرائع، وبه قال ابن عباس. وقال أبو العالية: هم نوح وهود وإبراهيم، فأمر الله رسوله أن يكون رابعهم. وقال السدي هم ستة: إبراهيم وموسى وداود وسليمان وعيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم وقيل نوح وهود وصالح وشعيب ولوط وموسى. وقال ابن جريج: إن منهم إسماعيل ويعقوب وأيوب وليس منهم يونس.
وقال الشعبي والكلبي: هم الذين أمروا بالقتال فأظهروا المكاشفة وجاهدوا الكفرة؛ وقيل هم نجباء الرسل المذكورين في سورة الأنعام وهم ثمانية عشر: إبراهيم وإسحاق ويعقوب ونوح وداود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وزكريا ويحيى وعيسى وإسماعيل وإلياس واليسع ويونس(13/41)
ولوط، واختار هذا الحسين بن الفضل لقوله بعد ذكرهم.
(أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده) وقيل إن الرسل كلهم أولو عزم ولم يبعث الله عز وجل نبياً إلا كان ذا عزم وحزم ورأي وكمال عقل. وقيل هم أثنا عشر نبياً أرسلوا إلى بني إسرائيل، وقال الحسن هم أربعة إبراهيم وموسى وداود وعيسى وعن ابن عباس قال هم الذين أمروا بالقتال حتى مضوا على ذلك نوح وهود وصالح وموسى وداود وسليمان.
وعن جابر بن عبد الله قال: " بلغني أن أولي العزم من الرسل كانوا ثلثمائة وثلاثة عشر "، وعن عائشة قالت: " ظل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) صائماً ثم طوى ثم ظل صائماً ثم طوى ثم ظل صائماً، قال: يا عائشة إن الدنيا لا تنبغي لمحمد ولا لآل محمد، يا عائشة إن الله لم يرض من أولي العزم من الرسل إلا بالصبر على مكروهها، والصبر عن محبوبها، ثم لم يرض مني إلا أن يكلفني ما كلفهم فقال: اصبر كما صبر أولو العزم من الرسل، وإني والله لأصبرن كما صبروا جهدي، ولا قوة إلا بالله "، أخرجه ابن أبي حاتم والديلمي. قيل: هذه الآية منسوخة بآية السيف، وقيل: محكمة، قال القرطبي: والأظهر أنها منسوخة لأن السورة مكية، وذكر مقاتل أن هذه الآية نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد فأمره الله أن يصبر على ما أصابه أولو العزم تسهيلاً عليه وتثبيتاً له.
(ولا تستعجل لهم) أي لا تستعجل العذاب يا محمد للكفار، فإنه نازل بهم لا محالة وإن تأخر، واللام للتعليل، ولا أمره سبحانه بالصبر ونهاه عن استعجال العذاب لقومه رجاء أن يؤمنوا قال (كأنهم يوم يرون ما يوعدون) من العذاب في الآخرة لطوله (لم يلبثوا إلا ساعة من نهار) أي إلا قدر ساعة من ساعات الأيام لا يشاهدونه من الهول العظيم والبلاء القيم.
(بلاغ) قرأ الجمهور بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي هذا الذي وعظتهم به بلاغ؛ أو تلك الساعة بلاغ، أو هذا القرآن بلاغ، أو هو(13/42)
مبتد والخبر لهم الواقع بعد قوله (ولا تستعجل لهم) أي: لهم بلاع، وقرىء بالنصب على المصدر، أي بلغ بلاغاً، وقرىء بلغ بصيغة الأمر، وبلغ بصيغة الماضي.
(فهل يهلك إلا القوم الفاسقون) قرأ الجمهور يهلك على البناء للمفعول وقرىء على البناء للفاعل، وقرىء بالنون ونصب القوم، والمعنى أنه لا يهلك بعذاب الله إلا القوم الخارجون عن الطاعة الواقعون في معاصي الله.
قال قتادة " لا يهلك على الله إلا هالك مشرك " قيل وهذه الآية أقوى آية في الرجاء " وقال الزجاج تأويله لا يهلك مع رحمة الله تعالى وفضله إلا القوم الفاسقون وهذا تطميع في سعة فضل الله سبحانه وتعالى.(13/43)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
سورة محمد - صلى الله عليه وسلم -
(وتسمى سورة القتال، وسورة الذين كفروا)
وهي ثمان أو تسع وثلاثون آية، وقيل: هي أربعون آية، والخلاف في قوله: (حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا)، وقوله: (لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ)، وهي مدنية قال الماوردي: في قول الجميع إلا ابن عباس وقتادة فإنهما قالا: إلا آية منها نزلت بعد حجة الوداع حين خرج من مكة، وجعل ينظر إلى البيت وهو يبكي حزناً عليه، فنزل قوله تعالى: (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ)، وهذا مبني على أن المكي ما نزل بمكة ولو بعد الهجرة، والمشهور أن المكي ما نزل قبل الهجرة والمدني ما نزل بعدها، ولو في مكة، فعليه تكون هذه الآية مدنية وهذا كله مبني على هذا النقل الذي نقله الماوردي هنا، ونقله القرطبي أيضاً هنا.
والذي نقله الخازن والخطيب وغيرهما بل والقرطبي أنها نزلت لما خرج من مكة إلى الغار مهاجراً، والنقل الثاني هو الصحيح لأنه هو الذي يناسبه التوعد بقوله: (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ) وأما على النقل الأول فلا يظهر هذا الوعيد لأنه في حجة الوداع فارقها مختاراً بعدما(13/45)
صارت دار إسلام وأسلم جميع أهلها، وبدئ فتحها في السنة الثامنة، وقال الثعلبي: أنها مكيّة، وحكاه ابن هبة الله عن الضحاك وسعيد بن جبير، وهو غلط من القول فالسورة مدنية كما لا يخفى.
قال ابن عباس: نزلت سورة القتال بالمدينة وعن ابن الزبير نزلت بالمدينة سورة الذين كفروا.
وعن ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ بهم في المغرب الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله أخرجه الطبراني في الأوسط.(13/46)
بسم الله الرحمن الرحيم
الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (1) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ (2) ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ (3) فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ (4) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ (5) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ (6) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (7)(13/47)
الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (1)
(الذين كفروا) هم كفار قريش كفروا بالله (وصدوا) أنفسهم وغيرهم (عن سبيل الله) وهو دين الإسلام بنهيهم عن الدخول فيه، كذا قال مجاهد والسدي وابن عباس، وقال الضحاك: معنى سبيل الله بيت الله بمنع قاصديه، وقيل: هم أهل الكتاب أو عام في كل من كفر وصد (أضل أعمالهم) أي أبطلها الله وأحبطها، وجعلها ضائعة.
قال الضحاك: المعنى أبطل كيدهم ومكرهم بالنبي صلى الله عليه وسلم، وجعل الدائرة عليهم في كفرهم، وقيل: أبطل ما عملوه في الكفر مما كانوا يسمونه مكارم الأخلاق من صلة الأرحام وفك الأسارى، وإطعام الطعام، وعمارة المسجد الحرام وإجارة المستجير، وقرى الأضياف، ونحو ذلك، وهذه -وإن كانت باطلة من أصلها- لكن المعنى أنه سبحانه حكم ببطلانها فلا يرون لها في الآخرة ثواباً، ويجزون بها في الدنيا من فضله تعالى، وقال ابن عباس: كانت لهم أعمال فاضلة لا يقبل الله مع الكفر عملاً، ولما ذكر سبحانه فريق الكافرين أتبعهم بذكر فريق المؤمنين فقال:(13/47)
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ (2)
(والذين آمنوا وعملوا الصالحات وآمنوا بما نزل على محمد) ظاهر(13/47)
هذا العموم، فيدخل تحته كل مؤمن من المؤمنين الذين يعملون الصالحات، ولا يمنع من ذلك خصوص سببها، فقد قيل: إنها نزلت في الأنصار قاله ابن عباس، وقيل: في ناس من قريش، وقيل في مؤمني أهل الكتاب ولكن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. العامة على بناء نزل للمفعول مشدداً، وقرىء مبنياً للفاعل، وهو الله وقرىء أنزل بالهمزة ونزل ثلاثياً، والمراد به القرآن، وهذا من عطف الخاص على العام.
ولا شك أن الإيمان بالقرآن المنزل على محمد من جملة أفراد ما يجب الإيمان به، وخص سبحانه وتعالى الإيمان بما نزل على محمد صلى الله عليه وسلم، بالذكر مع الدراجة تحت مطلق الإيمان المذكور قبله تنبيهاً على شرفه، وعلو مكانه، وإشعاراً بأن الإيمان لا يتم دونه، وأنه الأصل فيه، ولذا أكده بقوله:
(وهو الحق من ربهم) ومعنى كونه الحق أنه الناسخ لما قبله، ولا ينسخ والجملة اعتراضية (كفر عنهم سيئاتهم) التي عملوها فيما مضى فإنه غفرها لهم بالإيمان والعمل الصالح (وأصلح بالهم) أي شأنهم قاله مجاهد، وقال قتادة: حالهم وقيل: أمرهم، والمعاني متقاربة، قال المبرد: البال الحال ههنا، وقيل: القلب وهو كالمصدر، ولا يعرف منه فعل ولا تجمعه العرب إلا في ضرورة الشعر، قال الجوهري: والبال أيضاًً رخاء العيش، يقال فلان رخيّ البال؛ والبال الحوت العظيم من حيتان البحر وليس بعربي والبالة القارورة والجراب ووعاء الطيب وموضع بالحجاز، وقيل والمعنى أنه عصمهم عن المعاصي في حياتهم، وأرشدهم إلى أعمال الخير وليس المراد إصلاح حال دنياهم من إعطائهم المال ونحو ذلك، وقال النقاش: إن المعنى أصلح نياتهم.(13/48)
ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ (3)
(ذلك) أي ما مر مما أوعد به الكفار، ووعد به المؤمنين، أو الأمر(13/48)
ذلك (ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ) فالباطل الشرك والكفر، والحق التوحيد والإيمان، والمعنى أن ذلك الإضلال لأعمال الكافرين بسبب اتباعهم الباطل من الشرك بالله والعمل بمعاصيه، وذلك التكفير لسيئات المؤمنين وإصلاح بالهم، بسبب اتباعهم للحق الذي أمر الله باتباعه من التوحيد والإِيمان وعمل الطاعات.
(كذلك)؟ أي مثل ذلك البيان (يضرب) يبين (الله للناس أمثالهم) أي أحوال الفريقين الجارية مجرى الأمثال في الغرابة، قال الزجاج: كذلك يضرب لهم أمثال حسنات المؤمنين وإضلال أعمال الكافرين، يعني أن من كان كافراً أضل الله عمله، ومن كان مؤمناً كفر الله سيئاته أو جعل الإضلال، مثلاً لخيبة الكفار، وتكفير السيئات مثلاً لفوز الأبرار ولما بين سبحانه حال الفريقين أمر بجهاد الكفار فقال:(13/49)
فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ (4)
(فإذا لقيتم) الفاء لترتيب ما في حيزها من الأمر على ما قبلها فإن ضلال أعمال الكفرة وخيبتهم وصلاح أحوال المؤمنين وفلاحهم مما يوجب أن يترتب على كل من الجانبين ما يليق به من الأحكام، أي فإذا كان الأمر كما ذكر فإذا لقيتم في المحاربة (الذين كفروا) أي المشركين. ومن لم يكن صاحب عهد من أهل الكتاب (فضرب الرقاب) قال الزجاج: أي فاضربوا الرقاب ضرباً، وقيل: هو منصوب على الإغراء، قال أبو عبيدة: هو كقولهم يا نفس صبراً، وقيل: التقدير أقصدوا ضرب الرقاب وخص الرقاب بالذكر لأن القتل أكثر ما يكون بقطعها، لا أن الواجب ضرب الرقبة خاصة لأن هذا لا يكاد يتأتى حالة الحرب، وإنما يتأتى القتل في أي موضع كان من الأعضاء، وقيل: لأن في التعبير عنه من الغلظة والشدة ما ليس في نفس القتل، وهي حز العنق وإطارة العضو الذي هو رأس البدن وعلوه، وأحسن أعضائه.
(حتى إذا أثخنتموهم) غاية للأمر بضرب الرقاب، لا لبيان غاية القتل(13/49)
وهو مأخوذ من الشيء الثخين أي الغليظ، وفي المصباح أثخن في الأرض إثخاناً سار إلى العدو وأوسعهم قتلاً، وأثخنته أوهنته بالجراحة، وأضعفته وقد مضى تحقيق معناه في الأنفال، والمعنى إذا أثقلتموهم وقهرتموهم بالقتل والجراح ومنعتموهم النهوض والحركة.
(فشدوا الوثاق) بالفتح القيد والحبل، ويجيء بالكسر اسم الشيء الذي يوثق به كالرباط، قال الجوهري وأوثقه في الوثاق بكسر الواو لغة فيه والجمع وثق مثل رباط وربط وعناق وعنق، قرأ الجمهور فشدوا بضم الشين؛ وقرىء بكسرها، وإنما أمر سبحانه بشد الوثاق لئلا يفوتوا وينفلتوا أو المعنى إذا بالغتم في قتلهم وأكثرتم القتل فيهم فأمسكوا عنهم وأسروهم واحفظوهم بالوثاق.
(فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً) قرأ الجمهور بالمد، وقرىء بالقصر أي فإما أن تمنوا عليهم بعد الأسر وشد الوثاق مناً أو تفدوا فداء، والمن الإطلاق بغير عوض والفداء ما يفدى به الأسير نفسه من الأسر، ولم يذكر القتل هنا اكتفاء بما تقدم، وإنما قدم المن على الفداء لأنه من مكارم الأخلاق ولهذا كانت العرب تفتخر به كما قال شاعرهم:
ولا نقتل الأسرى ولكن نفكهم ... إذا أثقل الأعناق حمل المغارم
قال ابن عباس في الآية: جعل الله النبي والمؤمنين بالخيار في الأسارى إن شاؤوا قتلوهم، وإن شاؤوا استعبدوهم، وإن شاؤوا فادوهم، وعنه أيضاًً قال: هذا منسوخ نسختها: (فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين) وعن الحسن قال: أتى الحجاج بأسارى فدفع إلى ابن عمر رجلاً يقتله فقال ابن عمر ليس بهذا أمرنا إنما قال الله: (حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً).(13/50)
وعن ليث قال: قلت لمجاهد بلغني أن ابن عباس قال لا يحل قتل الأسارى لأن الله قال: (فإما منا بعد وإما فداء)، فقال مجاهد: لا تعبأ بهذا شيئاًً أدركت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكلهم ينكر هذا ويقول هذه منسوخة، إنما كانت في الهدنة التي كانت بين رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبين المشركين، فأما اليوم فلا، يقول الله: (اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم) أو يقول: (فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب) فإن كان مشركو العرب لم يقبل منهم إلا الإسلام فإن لم يسلموا فالقتل، وأما من سواهم فإنهم إذا أسروا فالمسلمون فيهم بالخيار، إن شاؤا قتلوهم وإن شاؤا استحيوهم، وإن شاؤوا فادوهم إذا لم يتحولوا عن دينهم فإن أظهروا الإسلام لم يفادوا.
" ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن قتل الصغير والمرأة والشيخ الفاني "، ثم ذكر سبحانه الغاية لذلك فقال:
(حتى تضع الحرب أوزارها) أوزار الحرب آلاتها وأثقالها التي لا تقوم إلا بها من السلاح والكراع، أسند الوضع إليها وهو لأهلها على طريق المجاز والمعنى أن المسلمين مخيرون بين تلك الأمور الأربعة إلى غاية هي أن لا تكون حرب مع الكفار بأن لا تبقى لهم شوكة، قال مجاهد: المعنى حتى لا يكون دين غير دين الإسلام، وبه قال الحسن والكلبي، قال الكسائي: حتى يسلم الخلق، وقال الفراء: حتى يؤمنوا ويذهب الكفر، أي: لا يبقى إلا مسلم أو مسالم، وقيل: المعنى حتى يضع الأعداء المحاربون أوزارهم، وهو سلاحهم بالهزيمة أو الموادعة.
وروي عن الحسن وعطاء أنهما قالا: في الآية تقديم وتأخير، والمعنى فضرب الرقاب حتى تضع الحرب أوزارها، فإذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق، وقد اختلف العلماء في هذه الآية هل هي محكمة أو منسوخة؟ فقيل: إنها(13/51)
منسوخة في أهل الأوثان، وأنه لا يجوز أن يفادوا، ولا يمن عليهم، والناسخ لها قوله: (فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم)، وقوله: (فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم) وقوله: (وقاتلوا المشركين كافة) وبهذا قال قتادة والضحاك والسدي وابن جريج وكثير من الكوفيين قالوا: والمائدة آخر ما نزل فوجب أن يقتل كل مشرك إلا من قامت الدلالة على تركه، كالنساء والصبيان، ومن تؤخذ منه الجزية، وهذا هو المشهور من مذهب أبي حنيفة.
وقيل: إن هذه الآية ناسخة لقوله: (فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم)، روي ذلك عن عطاء وغيره، وقال كثير من العلماء: إن الآية محكمة وإن الإِمام مخير بين القتل والأسر، وبعد الأسر مخير بين المن والفداء، وبه قال مالك والشافعي والثوري والأوزاعي وأبو عبيدة وغيرهم، وهذا هو الراجح لأن النبي صلى الله عليه وسلم، والخلفاء الراشدين من بعده فعلوا ذلك، وقال سعيد بن جبير: لا يكون فداء ولا أسر إلا بعد الإثخان والقتل بالسيف، لقوله: (ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض)، فإذا أسر بعد ذلك فللإِمام أن يحكم بما رآه من قتل أو غيره.
وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: " يوشك من عاش منكم أن يلقى عيسى ابن مريم إماماً مهدياً، وحكماً عدلاً، فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، وتضع الحرب أوزارها "، رواه عبد بن حميد وابن أبي حاتم وابن مردويه.
وعن سلمة بن نفيل عن النبي صلى الله عليه وسلم، من حديث قال: " ولا تضع الحرب أوزارها حتى يخرج يأجوج ومأجوج (1) "، رواه ابن مردويه وابن سعد وأحمد والنسائي والبغوي والطبراني.
والحاصل أن حتى غاية لأحد الأمور الأربعة أو للمجموع عند الشافعي وأما عند أبي حنيفة فإن حمل الحرب على حرب بدر فهي غاية للمن والفداء
_________
(1) وذلك من علامات الساعة.(13/52)
وإن حملت على الجنس فهي غاية للضرب والشد والمراد بالوضع ترك القتال، ولو كان الشخص متقلداً بآلته.
(ذلك) أي الأمر ذلك، وقيل: ذلك حكم الكفار، وقيل: افعلوا ذلك (ولو يشاء الله لانتصر منهم) يعني أن الله قادر على الانتصار منهم بالانتقام منهم وإهلاكهم، وتعذيبهم بما شاء من أنواع العذاب، كالخسف أو الرجفة أو غير ذلك بغير قتال (ولكن) أمركم بحربهم (ليبلو بعضكم ببعض) أي ليختبر فيعلم المجاهدين في سبيله، والصابرين على ابتلائه ويجزل ثوابهم، ويعذب الكفار بأيديهم (والذين قتلوا في سبيل الله فلن يضل أعمالهم) قرأ الجمهور: قاتلوا مبنياً للفاعل، وقرىء قتلوا مخففاً ومشدداً مبنياً للمفعول، وقرىء قتلوا على البناء للفاعل مع التخفيف من غير ألف، والمعنى على الأولى والرابعة أن المجاهدين في سبيل الله ثوابهم غير ضائع وعلى الثانية والثالثة أن المقتولين في سبيل الله كذلك لا يضيع الله سبحانه أجرهم قال قتادة: ذكر لنا أن هذه الآية نزلت في يوم أحد، وقد فشت في المسلمين الجراحات والقتل، ثم ذكر سبحانه ما لهم من جزيل الثواب عنده فقال:(13/53)
سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ (5)
(سيهديهم) الله سبحانه إلى الرشد في الدنيا، وهو العمل الصالح والإخلاص فيه، ويعطيهم الثواب في الآخرة قال أبو العالية: قد ترد الهداية والمراد بها إرشاد المؤمنين إلى مسالك الجنان، والطرق المفضية إليها، وقال ابن زياد: يهديهم إلى محاجة منكر ونكير في القبر (ويصلح بالهم) أي حالهم وشأنهم وأمرهم، وقيل: يرضي خصماءهم ويقبل أعمالهم.(13/53)
وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ (6)
(ويدخلهم الجنة عرفها لهم) الجملة مستأنفة أو حالية بتقدير قد أو بدون تقديرها، قاله السمين، أي بينها لهم حتى عرفوها من غير استدلال، وذلك أنهم إذا دخلوا الجنة تفرقوا إلى منازلهم، قال الواحدي: هذا قول(13/53)
عامة المفسرين، وقال الحسن وصف الله لهم الجنة في الدنيا، فلما دخلوها عرفوها بصفتها، وقيل: فيه حذف أي عرف طرقها ومساكنها وبيوتها، وقيل هذا التعريف بدليل يدلهم عليها، وهو الملك الموكل بالعبد يسير بين يديه، حتى يدخله منزله، كذا قال مقاتل.
ويرده حديث أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يخلص المؤمنون من النار فيحبسون على قنطرة بين الجنة والنار، حتى إذا هذبوا ونقوا أذن لهم في دخول الجنة، فوالذي نفس محمد بيده لأحدهم أهدى بمنزله في الجنة من منزله الذي كان في الدنيا " (1). رواه البخاري وهذا يدل على صحة القول الأول، وقيل: (عرفها لهم) أي طيبها بأنواع الملاذ مأخوذ من العرف وهو الرائحة أو المعنى: حددها لهم بحيث يكون لكل واحد جنة مفرزة، وقيل: عرف أهل السماء أنها لهم، وقيل: (عرفها لهم) إظهاراً لكرامتهم فيها، وقيل: عرف المطيعين أعمالهم، والأول أولى، ثم وعدهم سبحانه على نصر دينه بقوله:
_________
(1) كذلك رواه الطبراني.(13/54)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (7)
(يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله) أي دينه (ينصركم) على الكفار وعلى عدوكم ويفتح لكم، ومثله قوله ولينصرن الله من ينصره قال قطرب: إن تنصروا نبي الله ينصركم (ويثبت أقدامكم) أي يثبتكم في المعترك عند القتال. فالمراد بالأقدام الذوات بتمامها. وعبر بالقدم لأن الثبات والتزلزل يظهران فيها، وتثبيت الأقدام عبارة عن النصر والمعونة في مواطن الحرب وقيل على الإسلام وقيل على الصراط.(13/54)
وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (8) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (9) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا (10) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ (11) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ (12) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ (13) أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (14)(13/55)
وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (8)
(والذين كفروا) من أهل مكة وغيرهم (فتعساً لهم) منتصب على المصدر للفعل المقدر قال الفراء: مثل سقياً لهم ورعياً وأصل التعس الانحطاط والعثار، قال ابن السكيت: التعس أن يجر على وجهه والنكس أن يجر على رأسه، قال: والتعس أيضاًً الهلاك، قال الجوهري: وأصله الكب وهو ضد الانتعاش قال المبرد: أي فمكروهاً لهم، وقال ابن جريج: بعداً لهم وقال السدي: خزياً لهم، وقال ابن زيد: شقاءً لهم، وقال الحسن شتماً لهم وقال ثعلب: هلاكاً لهم، وقال الضحاك وابن زياد: خيبة لهم، وقيل: قبحاً لهم حكاه النقاش وقال الضحاك أيضاًً: رغماً لهم وقال ثعلب أيضاًً: شراً لهم وقال أبو العالية: شقوة لهم وعنه سقوطاً لهم.
قيل: والتعس في الدنيا العثرة، وفي الآخرة التردي في النار يقال للعاثر تعساً إذا دعوا عليه، ولم يريدوا قيامه وضده لعاً إذا دعوا له وأرادوا قيامه، واللام في لهم للبيان كما في قوله هيت لك.
(وأضل أعمالهم) معطوف على ما قبله، داخل معه في خبرية(13/55)
الموصول أي أبطلها لأنها كانت في طاعة الشيطان والإشارة بقوله(13/56)
ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (9)
(ذلك) إلى ما تقدم مما ذكره الله من التعس والإضلال أي الأمر ذلك أو ذلك الأمر (بأنهم كرهوا ما أنزل الله) على رسوله من القرآن المشتمل على التكاليف، وذلك لأنهم قد ألفوا الإهمال وإطلاق العنان في الشهوات والملاذ، فلما جاء القرآن بترك ذلك كرهوه، أو ما أنزل على رسله من كتبه لاشتمالها على ما في القرآن من التوحيد والبعث (فأحبط أعمالهم) بذلك السبب، والمراد بالأعمال ما كانوا عملوا من أعمال الخير في الصورة، وإن كانت باطلة من الأصل، لأن عمل الكافر لا يقبل قبل إسلامه، ثم خوف سبحانه الكفار وأرشدهم إلى الاعتبار بحال من قبلهم فقال:(13/56)
أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا (10)
(أفلم يسيروا في الأرض)؟ أي في أرض عاد وثمود وقوم لوط وغيرهم ليعتبروا (فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم) أي: آخر أمر الكافرين قبلهم، فإن آثار العذاب في ديارهم باقية، ثم بين سبحانه ما صنع بمن قبلهم فقال (دمر الله عليهم) التدمير الإهلاك، أي: أهلكهم واستأصلهم يقال دمره ودمر عليه بمعنى، والثاني أبلغ لما فيه من العموم، أي أهلك ما يختص به من المال والنفس ونحوها والإتيان بعلى لتضمينه معنى أطبق عليهم أي أوقعه عليهم محيطاً بهم، والجملة مستأنفة جواب سؤال مقدر، ثم توعد مشركي مكة فقال: (وللكافرين) أي السائرين بسيرة من قبلهم من الكفار (أمثالها) قال ابن عباس: يعني لكفار قومك يا محمد صلى الله عليه وسلم، مثل ما دمرت به القرى فأهلكوا بالسيف، قال الزجاج وابن جرير: الضمير راجع إلى عاقبة الذين من قبلهم من الأمم الكافرة، وإنما جمع لأن العواقب متعددة بحسب تعدد الأمم المعذبة، وقبل أمثال العقوبة أو الهلكة أو التدميرة والأول أولى؛ لرجوع الضمير إلى ما هو مذكور قبله مع صحة معناه.(13/56)
ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ (11)
(ذلك) أي ما ذكر من أن للكافرين أمثالها (بأن) أي بسبب أن(13/56)
قلوبهم ثم دل الله تعالى النبي صلى الله عليه وسلم بعد المنافقين فكان يدعو باسم الرجل من أهل النفاق.
(ولو نشاء لأريناكم) أي لأعلمناكهم وعرفناكهم بأعيانهم معرفة تقوم مقام الرؤية تقول العرب: سأريك ما أصنع أي سأعلمك والالتفات إلى نون العظمة لإبراز العناية بالإراءة (فلعرفتهم بسيماهم) أي بعلامتهم الخاصة بهم التي يتميزون بها قال الزجاج: المعنى لو نشاء لجعلنا على المنافقين علامة وهي السيما فلعرفتهم بتلك العلامة قال أنس: ما خفي على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية أحد من المنافقين وكان يعرفهم بسيماهم، وتكرير اللام للمبالغة أو للتأكيد.
(ولتعرفنهم في لحن القول) قال المفسرون: لحن القول فحواه ومقصده ومغزاه، وما يعرضون به من تهجين أمرك، وأمر المسلمين، وكان بعد هذا لا يتكلم منافق عنده إلا عرفه، قال أبو زيد: لحنت له اللحن إذا قلت له قولاً بفقهه عنك، ويخفى على غيره، وأصل اللحن إمالة الكلام وصرفه إلى نحو من الأنحاء لغرض من الأغراض بإزالة الإعراب أو التصحيف والأول محمود، والثاني مذموم، قال أبو سعيد الخدري في الآية: لحن القول ببغضهم علي بن أبي طالب.
(والله يعلم أعمالكم) لا تخفى عليه منها خافية فيجازيكم بها، وفيه وعيد شديد ووعد للمؤمنين وإيذان بأن حالهم بخلاف حال المنافقين (ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين) أي: لنعاملنكم معاملة المختبر، وذلك بأن نأمركم بالجهاد حتى نعلم علم ظهور من امتثل الأمر بالجهاد، وصبر على دينه ومشاق ما كلف به (ونبلو أخباركم) أي نظهرها ونكشفها إمتحاناً لكم، ليظهر للناس من أطاع الله فيما أمره، ومن عصى ولم يمتثل، وقرىء بالياء والنون في الأفعال الثلاثة، وعن الفضيل رحمه الله أنه كان إذا قرأها بكى وقال: اللهم لا تبتلنا فإنك إن بلوتنا فضحتنا وهتكت أستارنا وعذبتنا.(13/57)
هم أهل قرية النبي صلى الله عليه وسلم، وهي مكة، فالكلام على حذف المضاف كما في قوله (واسأل القرية)، والجملة بيان لعدم خلاصهم من العذاب بواسطة الأعوان والأنصار إثر بيان عدم خلاصهم منه بأنفسهم، والفاء لترتيب ذكر ما بالغير على عدم ما بالذات، وهو حكاية حال ماضية إذ كان الظاهر أن يقال فلم ينصرهم ناصر لأن هذا إخبار عما مضى.
عن ابن عباس " أن النبي صلى الله عليه وسلم، لما خرج من مكة إلى الغار التفت إلى مكة وقال أنت أحب بلاد الله إلي ولولا أن أهلك أخرجوني منك لم أخرج فأعتى الأعداء من عتا على الله في حرمه، أو قتل غير قاتله أو قتل بدخول الجاهلية " (1) فأنزل الله:
_________
(1) رواه أحمد.(13/58)
وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ (13)
(وكأين من قرية) الآية، ثم ذكر سبحانه الفرق بين حال المؤمنين وحال الكافرين فقال:(13/58)
أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (14)
(أفمن كان على بينة من ربه كمن زين له سوء عمله)؟ الهمزة للإنكار والفاء للعطف على مقدر كنظائره، والمعنى أنه لا يستوي من كان على يقين من ربه، وحجة وبرهان من عنده، ولا يكون كمن زين له سوء عمله وهو عبادة الأوثان، والإشراك بالله، والعمل بمعاصي الله، أي لا مماثلة بينهما (واتبعوا أهواءهم) في عبادتها، وانهمكوا في أنواع الضلالات بلا شبهة توجب الشك، فضلاً عن حجة نيرة، روعي في هذين الضميرين معنى من، كما روعي فيما قبلهما لفظها، ثم لما بين سبحانه الفرق بين الفريقين في الاهتداء والضلال بيّن الفرق بين مرجعهما ومآلهما فقال:(13/58)
مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ (15) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (16) وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ (17) فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ (18) فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ (19)(13/59)
مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ (15)
(مثل) أي صفة (الجنة التي وعد المتقون) مستأنفة لشرح محاسن الجنة الموعود بها المؤمنين، وبيان ما فيها وفيه أوجه:
أحدها: أنه مبتدأ وخبره مقدر، فقدره النضر بن شميل: ما تسمعون، وقوله: (فيها أنهار) مفسر له، وقدره سيبويه: فيما يتلى عليكم مثل الجنة، والجملة بعدها أيضاًً مفسرة للمثل.
الثاني: أن مثل زائدة تقديره الجنة التي وعد المتقون فيها أنهار.
الثالث: أن مثل الجنة مبتدأ، والخبر قوله: فيها أنهار، وفيه نظر.
الرابع: أن مثل الجنة مبتدأ خبره كمن هو خالد في النار فقدره ابن عطية أمثل أهل الجنة؟ كمن هو خالد، فقدر حرف الإنكار ومضافاً ليصح، وقدره الزمخشري: كمثل جزاء من هو خالد والجملة من قوله: (فيها أنهار على هذا فيها ثلاثة أوجه:
أحدها: هي حال من الجنة، أي مستقرة فيها أنهار.(13/59)
الثاني: أنها خبر لمبتدأ مضمر، أي هي فيها أنهار كأن قائلاً قال: ما مثلها فقيل: فيها أنهار.
الثالث: أن يكون تكريراً للصلة لأنها في حكمها ألا ترى أنه يصح قولك: التي فيها أنهار وإنما عُرِّيَ من حرف الإنكار وحذف ما حذف استغناء، يجري مثله تصويراً لمكابرة من يسوي بين المتمسك بالبينة، والتابع للهوى بمكابرة من سوى بين الجنة والنار، أفاده السمين.
(من ماء غير آسن) بالمد والقصر سبعيتان ولغتان، وقال الأخفش: إن الممدود يراد به الاستقبال، والمقصور يراد به الحال، يقال: أسن الماء يأسن أسوناً إذا تغيرت رائحته، ومثله الآجن وزناً ومعنى، قال ابن عباس: غير متغير، يعني بخلاف ماء الدنيا فيتغير بعارض.
(وأنهار من لبن لم يتغير طعمه) أي لم يحمض، كما تتغير ألبان الدنيا، لأنها لم تخرج من ضروع الإبل والغنم والبقر فلا يعود حامضاً ولا قارصاً ولا ما يكره من الطعوم (وأنهار من خمر لذة للشاربين) أي: لذيذة لهم، طيبة الشرب لا يتكرهها الشاربون بخلاف خمر الدنيا فإنها كريهة عند الشرب، يقال: شراب لذ ولذيذ، وفيه لذة بمعنى، ومثل هذه الآية قوله: (بيضاء لذة للشاربين)، والمعنى ليس فيها حموضة ولا عفوصة ولا مرارة ولا غضاضة ولم تدنسها الأرجل بالدوس: ولا الأيدي بالعصر، وليس في شربها ذهاب عقل ولا صداع ولا خمار ولا آفة من آفات الخمر، بل هي لمجرد الالتذاذ وتفريح الطبع فقط، تعويضاً بخمور الدنيا كقوله تعالى: (لا فيها غول ولا هم عنها ينزفون).
(وأنهار من عسل مصفى) مما يخالطه من الشمع والقذاء والعكر والكدر نقلوا في العسل التذكير والتأنيث، وجاء القرآن على التذكير، وفي المصباح يذكر ويؤنث وهو الأكثر ويصغر على عسيلة على لغة التأنيث ذهاباً إلى(13/60)
أنها قطعة من الجنس وطائفة منه ونحوه في المختار، وزاد والعاسل الذي يأخذ العسل من بيت النحل، والنحلة عسالة.
عن معاوية بن حيدة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: " في الجنة بحر اللبن، وبحر الماء، وبحر العسل، وبحر الخمر، ثم تشقق الأنهار منها بعد "، أخرجه أحمد والترمذي وصححه، وابن المنذر وابن مردويه والبيهقي في البعث.
وعن كعب قال: نهر النيل نهر العسل في الجنة ونهر دجلة نهر اللبن في الجنة ونهر الفرات نهر الخمر في الجنة ونهر سيحان نهر الماء في الجنة.
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، " سيحان وجيحان والنيل والفرات كل من أنهار الجنة " (1) أخرجه مسلم.
قال النووي: هما غير سيحون وجيحون واللذان هما من الجنة فهما في بلاد الأرمن فسيحان نهر أردنه وجيحان نهر المصيصة وهما نهران عظيمان جداً أكبرهما جيحان هذا هو الصواب في موضعهما، ثم ذكر بعد هذا كلاماً طويلاً ثم قال: فأما كون هذه الأنهار من ماء الجنة ففيه تأويلان. الثاني: وهو الصحيح أنها على ظاهرها، وأن لها مادة من الجنة مخلوقة موجودة اليوم هذا مذهب أهل السنة.
(ولهم فيها من كل الثمرات) أي لأهل الجنة في الجنة مع ما ذكر من الأشربة من كل صنف من أصناف الثمرات، ومن زائدة للتوكيد، وفي ذكر الثمرات بعد المشروب إشارة إلى أن مأكول أهل الجنة للذة لا لحاجة فلهذا ذكر الثمار بعد المشروب لأنها للتفكه واللذة.
_________
(1) رواه مسلم في صحيحه.(13/61)
(ومغفرة من ربهم) لذنوبهم قبل دخولهم إليها والواو لمطلق الجمع، وتنكير مغفرة للتعظيم، أي ولهم مغفرة عظيمة كائنة من ربهم، برفع التكاليف عنهم (كمن هو خالد في النار)؟ هو خبر لمبتدأ محذوف، أي أمن هو في نعيم الجنة على هذه الصفة خالداً فيها؟ كمن هو خالد في النار؟ أو خبر لقوله مثل الجنة، ورجح الأول الفراء فقال: أراد أمن كان في هذا النعيم كمن هو خالد في النار، وقدره الكواشي أمثل هذا الجزاء الموصوف؟ كمثل جزاء من هو خالد؟ وهو مأخوذ من اللفظ فهو أحسن.
وقال الزجاج: أي أفمن كان على بينة من ربه وأعطي هذه الأشياء؟ كمن زين له سوء عمله وهو خالد في النار؟ وقال ابن كيسان: ليس مثل الجنة التي فيها الثمار والأنهار كمثل النار التي فيها الحميم والزقوم، وليس مثل أهل الجنة في النعيم كمثل أهل النار في العذاب الأليم وقيل: غير ذلك.
(وسقوا ماء حميماً) الحميم الماء الحار الشديد الحرارة والغليان، فإذا شربوه قطع أمعاءهم وهو معنى قوله (فقطع أمعاءهم) أي مصارينهم فخرجت من أدبارهم لفرط حرارته، والأمعاء جمع معى بالقصر، وألفه مبدل عن ياء لقولهم معيان، وهو ما في البطون من الحوايا(13/62)
وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (16)
(ومنهم) أي من هؤلاء الكفار الذين يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام (من يستمع إليك) وهم المنافقون، أفرد الضمير باعتبار لفظة (من) وجمع في قوله: (حتى إذا خرجوا من عندك) باعتبار معناها، والمعنى أن المنافقين كانوا يحضرون مواقف وعظ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومواطن خطبه التي يمليها على المسلمين يوم الجمعة، وحينئذ تكون هذه الآية مدنية، بل وكذا ما بعدها من الآيات الآتية فتكون مستثناة من القول بأن السورة مكية، والمعنى: حتى إذا خرجوا من عنده.
(قالوا للذين أوتوا العلم) وهم علماء الصحابة، وقيل: عبد الله بن(13/62)
عباس وقيل عبد الله بن مسعود، وقيل: أبو الدرداء والأول أولى، أي سألوا أهل العلم فقالوا لهم على طريقة الاستهزاء: (ماذا) أي أَيُّ شيء (قال) أي النبي صلى الله عليه وسلم، (آنفاً)؟ بالمد والقصر أي الساعة، وبها فسره الزمخشري وقال: إنه ظرف حالي كالآن، وقال ابن عطية والمفسرون: معناه الساعة الماضية القريبة منا، وهذا تفسير بالمعنى، والمعنى أنا لم نلتفت إلى قوله ولم نرجع إليه، ومنه أمر أنف أي مستأنف، وروضة أنف، أي لم يرعها أحد، وانتصابه على الظرفية أي وقتاً مؤتنفاً أو حال من الضمير في قال، قال الزجاج: هو من استأنفت الشيء إذا ابتدأته.
وأصله مأخوذ من أنف الشيء لما تقدم منه مستعار من الجارحة قال ابن عباس: كنت فيمن يسأل، وعنه قال: أنا منهم، وفي هذا منقبة لابن عباس جليلة لأنه كان إذ ذاك صبياً فإن النبي صلى الله عليه وسلم، مات وهو في سن البلوغ، فسؤال الناس له عن معاني القرآن في حياة النبي صلى الله عليه وسلم (1)، ووصف الله سبحانه للمسؤولين بأنهم الذين أوتوا العلم وهو منهم من أعظم الأدلة على سعة علمه، ومزيد فقهه في كتاب الله وسنة رسوله، مع كون أترابه وأهل سنه إذ ذاك يلعبون مع الصبيان.
وعن عكرمة قال: " كانوا يدخلون على رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا خرجوا من عنده قالوا لابن عباس: ماذا قال آنفاً فيقول كذا وكذا وكان ابن عباس أصغر القوم فأنزل الله الآية ". فكان ابن عباس من الذين أوتوا العلم، وعن ابن بريده قال: هو ابن مسعود، وعن ابن عباس قال: هو ابن مسعود والإشارة بقوله: (أولئك) إلى المذكورين من المنافقين، وهو مبتدأ وخبره (الذين طبع الله على قلوبهم) أي بالكفر فلم يؤمنوا، ولا توجهت قلوبهم إلى شيء من الخير.
_________
(1) وهو ترجمان هذه الأمة.(13/63)
(واتبعوا أهواءهم) في الكفر والعناد، ثم ذكر حال أضدادهم فقال:(13/64)
وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ (17)
(والذين اهتدوا) إلى طريق الخير فآمنوا بالله وعملوا بما أمرهم به (زادهم هدى) بالتوفيق، وقيل: زادهم النبي صلى الله عليه وسلم، وقيل: زادهم القرآن، وقال الفراء: زادهم إعراض المنافقين واستهزاؤهم هدى، وقيل: زادهم نزول الناسخ هدى، وعلى كل تقدير فالمراد إنه زادهم إيماناً وعلماً وبصيرة في الدين، قال ابن عباس في الآية: لما أنزل القرآن آمنوا به، وكان هدى، فلما تبين الناسخ من المنسوخ زادهم هدى.
(وآتاهم تقواهم) أي ألهمهم إياها، وأعانهم عليها بمعنى خلق التقوى فيهم أو أعطاهم ثواب تقواهم وجزاءها، والأول أولى وأوفق لتأليف النظم لما سبق أن أغلب آيات هذه السورة الكريمة روعي فيه التقابل، فقوبل الطبع بزيادة الهدى، لأن الطبع يحصل من تزايد الرين وترادف ما يزيد في الكفر، وقوبل اتباع الهوى بإيتاء التقوى فيحمل على كمال التقوى، وهو أن يتنزه العارف عما يشغل سره عن الحق ويتبتل إليه بشر أشره، وهو التقي الحقيقي المعني بقوله: (اتقوا الله حق تقاته)، فإن المزيد على مزيد الهدى، مزيد، لا مزيد عليه، وقال الربيع: التقوى هي الخشية، وقال السدي: هي ثواب الآخرة، وقال مقاتل: هي التوفيق للعمل بما يرضاه، وقيل: العمل بالناسخ وترك المنسوخ، وقيل: ترك الرخص والأخذ بالعزائم.(13/64)
فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ (18)
(فهل ينظرون)، أي ما ينتظر كفار مكة (إلا الساعة) أي القيامة (أن تأتيهم) بدل اشتمال من الساعة أي ليس الأمر إلا أن تأتيهم (بغتة) أي فجأة، وفي هذا وعيد للكفار شديد.
وعن أبي هريرة قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، بادروا بالأعمال سبعاً فهل تنتظرون إلا فقراً منسياً أو غنى مطغياً؛ أو مرضاً مفسداً،(13/64)
أو هرماً مقعداً أو موتاً مجهزاً أو الدجال فشر غائب ينتظر أو الساعة فالساعة أدهى وأمر " (1) أخرجه الترمذي وحسنه (فقد جاء أشراطها) تعليل لمفاجأتها أو لإتيانها من حيث هو، أو هذا كالعلة للفعل باعتبار تعلقه بالبدل، لأن ظهور أشراط الشيء موجب لانتظاره، ومعنى أشراطها أماراتها وعلاماتها، وكانوا قد قرأوا في كتبهم أن النبي صلى الله عليه وسلم، آخر الأنبياء فبعثته من أشراطها قاله الحسن والضحاك، والأشراط جمع شرط بسكون الراء وفتحها، وهو العلامة، وقيل: المراد بأشراطها هنا أسبابها التي هي دون معظمها، وقيل: أراد بعلامات الساعة انشقاق القمر والدخان كذا قال الحسن، وقال الكلبي: كثرة المال والتجارة، وشهادة الزور، وقطع الأرحام، وقلة الكرام، وكثرة اللئام، قلت: كما يشاهد الآن في هذا الزمان والله المستعان.
قال ابن عباس في الآية: أول الساعات. وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما " من حديث أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بعثت أنا والساعة كهاتين، وأشار بالوسطى والسبابة " (2)، ومثله عند البخاري من حديث سهل بن سعد، وفي الباب أحاديث كثيرة فيها بيان أشراط الساعة وبيان ما قد وقع منها، وما لم يكن قد وقع وهي تأتي في مصنف مستقل فلا نطيل بذكرها، وفي هذا الباب كتاب الاشاعة لأشراط الساعة، وهو نفيس جداً.
(فأنى لهم إذا جاءتهم)؟ الساعة بغتة (ذكراهم) أي: فمن أين لهم التذكر والإتعاظ والتوبة والخلاص، كقوله: (يومئذ يتذكر الإنسان وأنى له الذكرى)؟.
_________
(1) رواه الترمذي.
(2) البخاري ومسلم.(13/65)
فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ (19)
(فاعلم أنه لا إله إلا الله) أي إذا علمت أن مدار الخير هو التوحيد والطاعة، ومدار الشر هو الشرك والعمل بمعاصي الله، فاعلم أنه لا إله غيره، ولا رب سواه والمعنى أثبت على ذلك واستمر عليه ودم على ما أنت(13/65)
عليه من العلم بالوحدانية، فإنه النافع يوم القيامة، لأنه صلى الله عليه وسلم، قد كان عالماً بأنه لا إله إلا الله قبل هذا.
ويدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: " من مات وهو يعلم أن لا إله إلا الله دخل الجنة " (1) رواه مسلم، وقيل: ما علمته استدلالاً فاعلمه خبراً يقينياً، وقيل: المعنى: فاذكر أنه لا إله إلا الله فعبر عن الذكر بالعلم، وقيل: الفاآت في هذه الآيات لعطف جملة على جملة بينهما اتصال.
(واستغفر لذنبك) أي: استغفر الله أن يقع منك ذنب أو استغفر الله ليعصمك، أو استغفره مما ربما يصدر منك من ترك الأولى، قال القاضي عياض: إن المراد به الفترات والغفلات من الذكر الذي كان شأنه صلى الله عليه وسلم الدوام عليه، فإذا فتر وغفل عد ذلك ذنباً واستغفر منه، وقيل: يحتمل أن يكون استغفاره شكراً ويأباه قوله لذنبك، وقيل: استغفر لذنوب أهل بيتك، وهذا تكلف بلا موجب، وقيل: لتستن به أمته وليقتدوا به في ذلك، وقيل: الخطاب له والمراد الأمة ويأبى هذا قوله (وللمؤمنين والمؤمنات) فإن المراد به استغفاره لذنوب أمته، بالدعاء لهم بالمغفرة عما فرط من ذنوبهم، وهذا إكرام من الله عز وجل لهذه الأمة، حيث أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يستغفر لذنوبهم، وهو الشفيع المجاب فيهم إن شاء الله تعالى.
" عن ابن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أفضل الذكر لا إله إلا الله وأفضل الدعاء الاستغفار، ثم قرأ فاعلم أنه لا إله إلا الله الآية " (2) رواه الطبراني وابن مردويه والديلمي.
" وعن أبي هريرة في قوله (واستغفر لذنبك) قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إني لأستغفر الله في اليوم سبعين مرة " (3)، رواه عبد الرزاق
_________
(1) رواه مسلم في صحيحه.
(2) صحيح الجامع الصغير.
(3) ضعيف الجامع الصغير.(13/66)
وعبد بن حميد والترمذي وصححه ابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في الشعب، وأصله في البخاري وشي رواية أكثر من سبعين.
" وعن عبد الله بن سرجس قال: أتيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأكلت معه من طعام فقلت: غفر الله لك يا رسول الله قال ولك، فقيل استغفر لك يا رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال نعم ولكم، وقرأ: واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات (1) أخرجه مسلم وأحمد والترمذي والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه، وروى مسلم عن الأغر المزني قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إنه ليغان على قلبي حتى استغفر الله في اليوم مائة مرة " (2) وللعلماء في هذا الغين كلام طويل لا يسعه هذا الموضع، وقد وردت أحاديث في استغفاره صلى الله عليه وسلم لنفسه ولأمته وترغيبه في الاستغفار.
(والله يعلم متقلبكم) في الدنيا في أعمالكم ومعايشكم ومتاجركم (ومثواكم) في الدار الآخرة، قاله ابن عباس، وقيل: متقلبكم في أعمالكم نهاراً، ومثواكم في ليلكم نياماً، وقيل: متقلبكم في أصلاب آبائكم إلى أرحام أمهاتكم، ومثواكم في الأرض أي: مقامكم فيها، قال ابن كيسان: متقلبكم من ظهر إلى بطن في الدنيا، ومثواكم في القبور، وقيل: منصرفكم في أعمالكم، ومثواكم أي مصيركم إلى الجنة أو النار، والمعنى أنه عالم بجميع أحوالكم، لا يخفى عليه شيء منها، وإن دق وخفى، ومثله حقيق بأن يتقي ويخشى، وأن يستغفر، وسأل المؤمنون ربهم عز وجل أن ينزل على رسوله صلى الله عليه وآله وسلم سورة يأمرهم فيها بقتال الكفار، حرصاً منهم على الجهاد، ونيل ما أعده الله للمجاهدين من جزيل الثواب فحكى الله عنهم ذلك بقوله:
_________
(1) مسلم وأحمد.
(2) مسلم والبخاري.(13/67)
وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ (20) طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ (21) فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ (22) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ (23) أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24) إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ (25)(13/68)
وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ (20)
(ويقول الذين آمنوا) من هنا إلى آخر السورة لا يظهر إلا كونه مدنياً إذ القتال لم يشرع إلا بالمدينة، وكذلك النفاق لم يظهر إلا بها فيحمل القول فيما تقدم بأنها مكية على أغلبها، وأكثرها، وكذا يحمل القول بأنها مدنية على البعض منها (لولا) هلا (نزلت سورة) فيها ذكر القتال، والأمر بالجهاد، والتحريض عليه (فإذا أنزلت سورة) في معنى الجهاد (محكمة) أي غير منسوخة (وذكر فيها القتال) أي فرض الجهاد وطلبه، قال قتادة: كل سورة ذكر فيها الجهاد فهي محكمة، وهي أشد القرآن على المنافقين لأن النسخ لا يرد عليها من قبل أن القتال نسخ ما كان من الصفح والمهادنة، وهو غير منسوخ إلى يوم القيامة، وقرأ ابن مسعود: فإذا نزلت سورة محدثة، أي محدثة النزول وقرأ الجمهور أنزلت وذكر على بناء الفعلين للمفعول وقرىء نزلت، وذكر على بنائهما للفاعل، ونصب القتال.
(رأيت الذين في قلوبهم مرض) أي شك، وهم المنافقون، أو ضعف في الدين، وأصل المرض الفتور، فمرض القلوب فتورها عن قبول الحق، والأول هو الأظهر الموافق لسياق النظم الكريم (ينظرون إليك) يعني(13/68)
شزراً وكراهية منهم (نظر المغشي عليه من الموت) أي نظراً مثل نظر من شخص نظره وبصره عند الموت، لجبنهم عن القتال، وميلهم إلى الكفار، كدأب من أصابته غشية الموت، وقال ابن قتيبة والزجاج: يريد أنهم يشخصون نحوك بأبصارهم وينظرون إليك نظراً شديداً كما ينظر الشاخص بصره عند الموت.
(فأولى لهم) قال الجوهري: أولا لك تهديد ووعيد، وكذا قال مقاتل والكلبي وقتادة، قال الأصمعي: معنى قولهم في التهديد: أولى لك أي وليك وقاربك ما تكره. وهو فعل ماض، قال ثعلب: ولم يقل في أولى أحسن مما قاله الأصمعي، وقال المبرد: يقال لمن همّ بالغضب ثم أفلت أولى لك أي قاربت الغضب، وقال الجرجاني: هو مأخوذ من الويل، أي: فويل لهم وكذا قال في الكشاف. قال قتادة أيضاًً: كأنه قال العقاب أولى لهم، وعلى هذا يكون إسماً لا فعلاً وعليه الأكثر، وفي إعرابه أوجه ذكرها السمين.(13/69)
طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ (21)
(طاعة وقول معروف) كلام مستأنف أي أمرهم طاعة، أو طاعة وقول معروف خير لكم، قال الخليل وسيبويه إن التقدير طاعة وقول معروف أحسن وأمثل بكم من غيرهما، وقدره مكي منا طاعة فقدره مقدماً، وقيل: إن طاعة خبر أولى أي: الأولى بهم أن يطيعوك ويخاطبوك بالقول الحسن الخالي عن الأذية، وقيل: إن طاعة صفة لسورة، أي فإذا أنزلت سورة محكمة طاعة، أي ذات طاعة أو مطاعة، ذكره مكي وأبو البقاء، وفيه بعد لكثرة الفواصل، وقيل إن (لهم) خبر مقدم، وطاعة مبتدأ مؤخر، والأول أولى.
(في عزم الأمر) عزم الأمر، جد الأمر، أي جد القتال ووجب وفرض، وأسند الأمر إلى العزم -وهو لأصحابه- مجازاً، وجواب إذا قيل هو قوله الآتي: (فلو صدقوا الله)، وقيل: محذوف تقديره كرهوه، قال المفسرون: معناه إذا جد الأمر ولزم فرض القتال، خالفوا وتخلفوا، فلو(13/69)
صدقوا الله في إظهار الإيمان والطاعة (لكان خيراً لهم) من المعصية والمخالفة.(13/70)
فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ (22)
(فهل عسيتم) يقال عسيت أن أفعل كذا، وعسيت بالفتح والكسر لغتان، ذكره الجوهري وهما سبعيتان، وفيه التفات عن الغيبة إلى الخطاب لتأكيد التوبيخ وتشديد التقريع أي فهل يتوقع منكم (إن توليتم) أي أعرضتم عن الإيمان الذي تلبستم به ظاهراً.
(أن تفسدوا في الأرض) بأنواع الفساد، قال الكلبي: فهل عسيتم إن توليتم أمر الأمة أن تفسدوا فيها بالظلم، وقال كعب: أن يقتل بعضكم بعضاً وقال قتادة: إن توليتم عن طاعة كتاب الله عز وجل أن تفسدوا فيها بسفك الدماء وقال ابن جريج: إن توليتم عن الطاعة أن تفسدوا في الأرض بالمعاصي، وقبل أعرضتم عن القتال وفارقتم أحكامه، فتعودوا إلى جاهليتكم، أو توليتم الحكم فجعلتم حكاماً أن تفسدوا في الأرض، بأخذ الرشا، قرأ الجمهور: توليتم مبنياً للفاعل، وقرىء مبنياً للمفعول فهل عسيتم إن ولي عليكم ولاة جائرون أن يخرجوا عليكم في الفتنة وتحاربوهم.
(وتقطعوا أرحامكم) بالبغي والظلم والقتل، قرأ الجمهور تقطعوا بالتشديد على التكثير، وقرىء بالتخفيف من القطع.
" عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله تعالى خلق الخلق حتى إذا فرغ منهم قامت الرحم فأخذت بحِقْوِ الرحمن فقال: مه؟ قالت هذا مقام العائذ بك من القطيعة قال: نعم أما ترضين أن أصل من وصلك؟ وأقطع من قطعك؟ قالت: بلى قال: فذلك لك، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إقرأوا إن شئتم فهل عسيتم الآية " (1) أخرجه
_________
(1) البخاري ومسلم.(13/70)
البخاري ومسلم وغيرهما، والأحاديث في صلة الرحم كثيرة.(13/71)
أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ (23)
(أولئك) المفسدون يدل عليه ما تقدم وفي الإشارة التفات للإيذان بأن ذكر جناياتهم أوجب إسقاطهم عن رتبة الخطاب وحكاية أحوالهم الفظيعة لغيرهم (الذين لعنهم الله) أي أبعدهم من رحمته، وطردهم عنها، (فأصمهم) عن استماع الحق (وأعمى أبصارهم) أي عن مشاهدة ما يستدلون به على التوحيد والبعث وحقية سائر ما دعاهم إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقل فأصم آذانهم، كما قال (وأعمى أبصارهم) ولم يقل وأعماهم لأنه لا يلزم من ذهاب الأذن ذهاب السماع، فلم يتعرض لها، والأعين يلزم من ذهابها ذهاب الإبصار.(13/71)
أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24)
(أفلا يتدبرون القرآن) أصل التدبر التفكر في عاقبة الشيء وما يؤول إليه أمره وتدبر القرآن لا يكون إلا مع حضور القلب وجمع الهم، وقت تلاوته ويشترط فيه تقليل الغذاء من الحلال الصرف، وخلوص النية، قاله الخازن، والاستفهام للإنكار، والمعنى أفلا يتفهمونه فيعلمون بما اشتمل عليه من المواعظ الزاجرة؟ والحجج الظاهرة؟ والبراهين القاطعة الباهرة؟ التي تكفي من له فهم وعقل، وتزجره عن الكفر بالله والاشراك به والعمل بمعاصيه؟ وقيل: المراد به التأسي، وقيل: هذه الآية محققة للآية المتقدمة، ومهيجة لهم على ترك ما هم فيه من الكفر، الذي استحقوا بسببه اللعنة، أو كالتبكيت لهم على إصرارهم على الكفر.
(أم) هي المنقطعة بمعنى بل، والهمزة التي للانتقال من توبيخ إلى توبيخ أي بل أ (على قلوب أقفالها) فهم لا يفهمون ولا يعقلون قال مقاتل: يعني الطبع على القلوب، والتنكير إما لتهويل حالها أو تفظيع شأنها. كأنه قيل على قلوب منكرة لا يعرف حالها. وإما لأن المراد بها قلوب بعضهم وهم المنافقون(13/71)
والأقفال إستعارة لانغلاق القلب عن معرفة الحق، وإضافة الأقفال إلى القلوب للتنبيه على أن المراد بها ما هو للقلوب بمنزلة الأقفال للأبواب، أو أنها أقفال مخصوصة بها، مناسبة لها.
ومعنى الآية أنه لا يدخل في قلوبهم الإيمان، ولا يخرج منها الكفر والشرك، لأن الله سبحانه قد طبع عليها قرىء أقفالها بالجمع، وإقفالها بكسر الهمزة على أنه مصدر، كالإقبال، والآية بعمومها تشمل كل من لا يتدبر القرآن، ولا يتأسى به، ويدخل فيه من نزلت فيه دخولاً أولياً، وأما المقلدة التاركة للتدبر في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فهؤلاء هم الذين على قلوبهم أقفالها.(13/72)
إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ (25)
(إن الذين ارتدوا على أدبارهم) أي رجعوا كفاراً كما كانوا، قال قتادة: هم كفار أهل الكتاب كفروا بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد ما عرفوا نعته عندهم وبه قال ابن جريج وقال ابن عباس: هم أهل النفاق وقال الضحاك والسدي: هم المنافقون قعدوا عن القتال وهذا أولى لأن السياق في المنافقين.
(من بعد ما تبيّن لهم الهدى) بما جاءهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم من المعجزات الظاهرة والآيات القاهرة والدلائل الواضحة، والبراهين الباهرة (الشيطان سول لهم) أي زين لهم خطاياهم، وسهل لهم الوقوع فيها، وإقتراف الكبائر، والجملة خبر إن.
(وأملى لهم) أي مد لهم في الآمال والأماني ووعدهم طول العمر وقيل: إن الذي أملى لهم هو الله عز وجل على معنى أنه لم يعاجلهم بالعقوبة، قرأ الجمهور أملى على البناء للفاعل، وقرىء على البناء للمفعول، أي أمهلوا ومد في عمرهم، واختار القول بأن الفاعل هو الله الفراء والمفضل والأولى اختيار أنه الشيطان لتقدم ذكره قريباً.(13/72)
ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ (26) فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ (27) ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (28) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ (29) وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ (30) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ (31)(13/73)
ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ (26)
(ذلك) أي ما تقدم من ارتدادهم أو التسويل والإملاء والأول أولى (بأنهم) أي بسبب أن هؤلاء المنافقين الذين ارتدوا على أدبارهم (قالوا للذين كرهوا ما نزل الله) وهم المشركون (سنطيعكم في بعض الأمر) وهذا البعض هو عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومخالفة ما جاء به، وقيل المعنى أن المنافقين قالوا لليهود سنطيعكم في بعض الأمر كالقعود عن الجهاد، والموافقة في الخروج معهم إن خرجوا والتظافر على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقيل: إن القائلين اليهود والذين كرهوا المنافقون ويؤيد كون القائلين المنافقين والكارهين اليهود قوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ) ولما كان قولهم المذكور للذين كرهوا ما أنزل الله بطريقة السر بينهم قال الله سبحانه:
(والله يعلم إسرارهم) بكسر الهمزة على المصدر، أي إخفاءهم، وبها قرأ الكوفيون وقرأ الجمهور بفتحها على أنه جمع سر(13/73)
فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ (27)
(فكيف إذا توفتهم الملائكة) الفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها وكيف في محل رفع على أنها خبر مقدم، والتقدير فكيف علمه بأسرارهم إذا توفتهم الملائكة، أو في محل نصب(13/73)
بفعل محذوف، أي فكيف يصنعون؟ أو خبر لكان مقدرة، أي فكيف يكونون والظرف معمول للمقدر، قرأ الجمهور: توفتهم، وقرىء توفاهم وقوله:
(يضربون وجوههم وأدبارهم) في محل نصب على الحال من فاعل توفتهم، أو من مفعوله أي ضاربين وجوههم، وضاربين أدبارهم وفي الكلام تخويف وتشديد، والمعنى أنه إذا تأخر عنهم العذاب فسيكون حالهم هذا وهو تصوير لتوفيهم على أقبح حال وأشنعه، قيل: لا يتوفى أحد على معصية إلا يضرب الملائكة في وجهه ودبره، وقيل: ذلك عند القتال نصرة من الملائكة لرسول الله، وقيل ذلك يوم القيامة والأول أولى.(13/74)
ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (28)
(ذلك) أي التوفي المذكور على الصفة المذكورة (بأنهم اتبعوا ما أسخط الله) أي بسبب اتباعهم ما بسخط الله من الكفر والمعاصي، وقيل: كتمانهم ما في التوراة من نعت نبينا صلى الله عليه وسلم، والأول أولى، لما في الصيغة من العموم (وكرهوا رضوانه) أي ما يرضاه الله من الإيمان والتوحيد والطاعة (فأحبط أعمالهم) بهذا السبب والمراد الأعمال التي صورتها صورة الطاعة، وإلا فلا عمل لكافر أو ما كانوا قد عملوا قبل الردة من الخير.(13/74)
أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ (29)
(أم) أي: بل أ (حسب الذين في قلوبهم مرض) يعني المنافقين الذين فصلت أحوالهم الشنيعة، ووصفوا بوصفهم السابق، بكونه المدار في النعي عليهم بقوله (أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ) والمعنى: أن ذلك مما لا يكاد أن يدخل تحت الاحتمال، والإخراج بمعنى الإظهار، والأضغان جمع ضغن، وهو ما يضمر من المكروه، واختلف في معناه فقيل: هو الغش، وقيل: الحسد، وقيل: الحقد، قال الجوهري: الضغن والضغينة الحقد قال قطرب: هو في الآية العداوة، وأن هي المخففة من الثقيلة، وإسمها ضمير شأن مقدر، قال ابن عباس: أضغانهم أعمالهم، خبثهم والحسد الذي في(13/74)
(الله مولى الذين آمنوا) أي ناصرهم ووليهم (وأن الكافرين لا مولى لهم) أي لا ناصر يدفع عنهم كما يؤخذ من مقابله، وهذا لا يخالف قوله (ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق)، فإن المولى فيه بمعنى المالك لا بمعنى الناصر، قال قتادة: نزلت يوم أحد، وقرأ ابن مسعود (وَلِيُّ الَّذِينَ).
(إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار) قد تقدم تفسير الآية في غير موضع، وتقدم كيفية جري الأنهار من تحت الجنات، والجملة مسوقة لبيان ولاية الله للمؤمنين وثمرتها الأخروية (والذين كفروا يتمتعون) بمتاع الدنيا أياماً قلائل، وينتفعون به غير متفكرين في العاقبة.
(ويأكلون كما تأكل الأنعام) في معالفها ومسارحها غافلة عما هي بصدده من النحر والذبح، والمعنى كأنهم أنعام ليس لهم همة إلا بطونهم وفروجهم، ساهون عن العاقبة لا هون بما هم فيه، لا يلتفتون إلى الآخرة (والنار مثوى لهم) أي مقام يقيمون به، ومنزل ينزلونه ويستقرون فيه، ومصير يصيرون إليه، والجملة في محل نصب على الحال أو مستأنفة.
ثم خوف الله سبحانه الكفار بأنه قد أهلك من هو أشد منهم فقال:
(وكأين من قرية) قد قدمنا أن كأين مركبة من الكاف وأي، وأنها بمعنى كم الخبرية أي وكم من قرية، والمعنى كم من أهل قرية كذبت رسلها (هي) أي هم (أشد قوة من) أهل (قريتك التي أخرجتك) أي أخرجوك منها (أهلكناهم) فكذلك نفعل بأهل قريتك فاصبر كما صبر رسل أهل هؤلاء القرى قال مقاتل: أي أهلكناهم بالعذاب حين كذبوا رسلهم.
(فلا ناصر لهم) فبالأولى من هو أضعف منهم، وهم قريش الذين(13/75)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ (32) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ (33) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ (34) فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ (35) إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ (36) إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ (37) هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ (38)(13/76)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ (32)
(إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله) المراد بهؤلاء المنافقون، وقيل: أهل الكتاب، وقيل: هم المطعمون يوم بدر من المشركين، وقيل: نزلت في قريظة والنضير، ومعنى صدهم منعهم للناس عن الإسلام، واتباع الرسول صلى الله عليه وسلم (وشاقوا الرسول) أي عادوه وخالفوه (من بعد ما تبين لهم الهدى) أي علموا أنه صلى الله عليه وسلم نبي من عند الله سبحانه وتعالى، بما شاهدوا من المعجزات الواضحة، والحجج القاطعة (لن يضروا الله) ورسوله (شيئاًً) بتركهم الإيمان، وإصرارهم على الكفر، وما ضروا إلا أنفسهم.
(وسيحبط أعمالهم) أي يبطلها، والمراد بهذه الأعمال ما صورته صورة أعمال الخير، كإطعام الطعام، وصلة الأرحام، وسائر ما كانوا يفعلونه من الخير، وإن كانت باطلة من الأصل، لأن الكفر مانع، وقيل: المراد بالأعمال المكايد التي نصبوها لإبطال دين الله والغوائل التي كانوا يبغونها برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ثم أمر سبحانه عباده المؤمنين بطاعته(13/76)
وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم فقال:(13/77)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ (33)
(يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول) فيما أمرتم به من الشرائع المذكورة في كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم نهاهم عن أن يبطلوا أعمالهم كما أبطلت الكفار أعمالهم بالإصرار على الكفر، فقال:
(ولا تبطلوا أعمالكم) قال الحسن: أي لا تبطلوا حسناتكم بالمعاصي، وقال الزهري: بالكبائر وهو الأولى، وقال الكلبي وابن جريج: بالرياء والسمعة، وقال مقاتل: بالمن، وقال عطاء: بالنفاق والشرك، قلت: والظاهر النهي عن كل سبب من الأسباب التي توصل إلى بطلان الأعمال، كائناً ما كان، من غير تخصيص بنوع معين، عن أبي العالية قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يرون أنه لا يضر مع لا إله إلا الله ذنب، كما لا ينفع مع الشرك عمل، حتى نزلت هذه الآية، فخافوا أن يبطل الذنب العمل، وفي لفظ فخافوا الكبائر أن تحبط أعمالهم.
" وعن ابن عمر قال: كنا معشر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم نرى أنه ليس شيء من الحسنات إلا مقبول، حتى نزلت هذه الآية فلما نزلت قلنا: ما هذا الذي يبطل أعمالنا؟ فقلنا: الكبائر الموجبات، والفواحش، فكنا إذا رأينا من أصاب شيئاًً منها قلنا قد هلك حتى نزلت هذه الآية (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ)، فلما نزلت كففنا عن القول في ذلك، وكنا إذا رأينا أحداً أصاب منها شيئاًً خفنا عليه، وإن لم يصب منها شيئاًً رجوناه (1).
واستدل بهذه الآية من لا يرى إبطال النوافل، حتى لو دخل في صلاة تطوع، أو صوم تطوع، لا يجوز له إبطال ذلك العمل والخروج منه، وبه قال أبو حنيفة رحمه الله، وقال الشافعي بخلافه، ولا دليل لهم في الآية، ولا حجة، لأن السنة مبينة للكتاب.
_________
(1) انظر زاد المسير.(13/77)
وقد ثبت في الصحيحين: " أن النبي صلى الله عليه وسلم أصبح صائماً فلما رجع إلى البيت وجد حيساً، فقال لعائشة: قربيه فلقد أصبحت صائماً، فأكل " (1) وهذا معنى الحديث، وليس بلفظه، فليس في هذه الآية دليل كما ظنه الزمخشري على إحباط الطاعات بالكبائر على ما زعمت المعتزلة والخوارج، فجمهورهم على أن كبيرة واحدة تحبط جميع الطاعات، حتى إن من عبد الله طول عمره، ثم شرب جرعة خمر فهو كمن لم يعبده قط، ثم بيّن سبحانه أنه لا يغفر للمصرين على الكفر والصد عن سبيل الله فقال:
_________
(1) صحيح البخاري.(13/78)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ (34)
(إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله ثم ماتوا وهم كفار فلن يغفر الله لهم) فقيّد سبحانه عدم المغفرة بالموت على الكفر، لأن باب التوبة وطريق المغفرة لا يغلقان على من كان حياً، وظاهر الآية العموم، وإن كان السبب خاصاً، نزلت في أصحاب القليب، قاله المحلي، لكن حكمها عام في كل كافر مات على كفره، ثم نهى سبحانه المؤمنين عن الوهن والضعف فقال:(13/78)
فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ (35)
(فلا تهنوا) أي فلا تضعفوا عن القتال، والوهن الضعف، والخطاب لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، والحكم عام لجميع المسلمين (وتدعوا إلى السلم) أي ولا تدعوا الكفار إلى الصلح ابتداء منكم، فإن ذلك لا يكون إلا عند الضعف. قال الزجاج: منع الله المسلمين أن يدعوا الكفار إلى الصلح وأمرهم بحربهم حتى يسلموا، وقرىء تدعوا من ادعى القوم وتداعوا، والسلم بفتح السين وكسرها سبعيتان، قال قتادة: معنى الآية لا تكونوا أول الطائفتين ضرعت إلى صاحبتها.
واختلف أهل العلم في هذه الآية هل هي محكمة أو منسوخة؟ فقيل: إنها محكمة، وأنها ناسخة لقوله: (وإن جنحوا للسلم فاجنح لها) وقيل:(13/78)
منسوخة بهذه الآية، ولا يخفاك أنه لا مقتضى للقول بالنسخ، فإن الله سبحانه نهى المسلمين في هذه الآية عن أن يدعو إلى السلم ابتداء ولم ينه عن قبول السلم إذا جنح إليه المشركون، فالآيتان محكمتان، ولم يتواردا على محل واحد حتى يحتاج إلى دعوى النسخ أو التخصيص، بل نزلتا في وقتين مختلفي الأحوال، وجملة (وأنتم الأعلون) حالية أو مستأنفة مقررة لما قبلها من النهي، أي وأنتم القاهرون الغالبون بالسيف والحجة، قال الكلبي: أي آخر الأمر لكم وإن غلبوكم في بعض الأوقات.
(والله معكم) بالنصر والمعونة عليهم (وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ) أي لن ينقصكم شيئاًً من ثواب أعمالكم، يقال: وتره يتره وتراً إذا أنقصه حقه، وأصله من وترت الرجل إذا قتلت له قريباً أو نهبت له مالاً، ويقال: فلان مأتور إذا قتل له قتيل، ولم يؤخذ بدمه، قال الجوهري: أي لن ينقصكم في أعمالكم، كما تقول: دخلت البيت وأنت تريد في البيت، قال الفراء: هو مشتق من الموتر وهو الذحل وقيل: مشتق من الموتر وهو الفرد، فكأن المعنى ولن يفردكم بغير ثواب قال ابن عباس: يتركم يظلمكم.(13/79)
إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ (36)
(إنما الحياة الدنيا لعب ولهو) أي باطل وغرور، لا أصل لشيء منها، ولا ثبات له، ولا اعتداد به، تنقطع في أسرع مدة فكيف تمنعكم عن طلب الآخرة؟ واللعب ما يشغل الإنسان، وليس فيه منفعة في الحال ولا في المآل ثم إذا استعمله الإنسان ولم يشغله عن غيره ولم ينسه أشغاله المهمة فهو اللعب، وإن أشغله عن مهمات نفسه فهو اللهو (وإن تؤمنوا) بالله (وتتقوا) الكفر والمعاصي (يؤتكم أجوركم) أي جزاء ذلك في الآخرة والأجر الثواب على الطاعة.
(ولا يسألكم أموالكم) أي: لا يأمركم بإخراجها جميعها في الزكاة وسائر وجوه الطاعات، بل أمركم بإخراج القليل منها غيضاً من فيض، أي ربع العشر وهو الزكاة، وبه قال ابن عيينة وغيره، وقيل: المعنى ولا يسألكم(13/79)
أموالكم، إنما يسألكم أمواله لأنه أملك لها، وهو المنعم عليكم بإعطائها وقيل: لا يسألكم محمد صلى الله عليه وسلم أموالكم أجراً على تبليغ الرسالة، كما في قوله: (ما أسألكم عليه من أجر) والأول أولى.(13/80)
إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ (37)
(إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا) أي أموالكم كلها (فيحفكم) أي يبالغ في طلبها، قال المفسرون: يجهدكم ويلحف عليكم بمسألة جميعها؛ يقال: أحفى بالمسألة، وألحف والح، بمعنى واحد والمحفي المستقصي في السؤال والإحفاء والإستقصاء في الكلام، ومنه إحفاء الشارب أي استئصاله، وجواب الشرط قوله: (تبخلوا) أي إن يأمركم بإخراج جميع أموالكم تبخلوا بها، وتمتنعوا من الإمتثال.
(ويخرج أضغانكم) الأضغان الأحقاد، والمعنى أنها تظهر عند ذلك قال قتادة: قد علم الله أن في سؤال المال خروج الأضغان لدين الإسلام من حيث محبة المال بالجبلة والطبيعة، ومن نوزع في حبيبه ظهرت طويته التي كان يسرها.(13/80)
هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ (38)
(ها أنتم) يا مخاطبون (هؤلاء) الموصوفون وجملة (تدعون) مستأنفة مقررة ومؤكدة لما قبلها لاتحاد محصل معناهما (لتنفقوا في سبيل الله) أي في الجهاد، وفي طرق الخير (فمنكم من يبخل) بما يطلب منه ويدعى إليه من الإنفاق في سبيل الله، وإذا كان منكم من يبخل باليسير من المال، فكيف لا يبخلون بالكثير، وهو جميع الأموال، ومقابله ومنكم من يجود وحذف، لأن المراد الإستدلال على البخل ثم بين سبحانه أن ضرر البخل عائد على النفس فقال:
(ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه) أي: يمنعهما الأجر والثواب، وبخل وضن يتعديان تارة بعلى، وبعن أخرى، لتضمينهما معنى الإمساك، والتعدي قال السمين: والأجود أن يكونا حال تعديهما بعن مضمنين معنى الإمساك وقيل: المعنى يبخل عن داعي نفسه، لا عن داعي ربه (والله الغني)(13/80)
المطلق المتنزه عن الحاجة إلى أموالكم (وأنتم الفقراء) إلى الله وإلى ما عنده من الخير والرحمة.
(وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم) معطوف على الشرطية المتقدمة وهي وإن تؤمنوا، والمعنى إن تعرضوا عن الإيمان والتقوى، يستبدل قوماً آخرين يكونوا مكانكم، هم أطوع لله منكم.
" عن ابن عباس قال: لما نزلت هذه الآية قالوا: من هؤلاء؟ وسلمان إلى جانب النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: هم الفرس هذا وقومه "، وفي إسناده مسلم الزنجي، قد تفرد به، وفيه مقال معروف، ولهذا الحديث طرق في الصحيح (1).
" وعن أبي هريرة قال: تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية فقالوا: يا رسول الله من هؤلاء الذين إن تولينا استبدلوا بنا، ثم لا يكونوا أمثالنا؟ فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم على منكب سلمان، ثم قال: هذا وقومه والذي نفسي بيده لو كان الإيمان منوطاً بالثريا لتناوله رجال من فارس " أخرجه الترمذي وابن مردويه من حديث جابر والطبراني في الأوسط والبيهقي في الدلائل، وعبد بن حميد وعبد الرزاق وفي إسناده أيضاًً مسلم ابن خالد الزنجي نحوه.
وقال عكرمة: هم فارس والروم، وقال الحسن: هم العجم، وقال شريح بن عبيد: هم أهل اليمن وقيل الأنصار وقيل: الملائكة، وقيل: التابعون وقال مجاهد: هم من شاء الله من سائر الناس، وقال الكلبي: هم كندة والنخعي عن عرب اليمن، وقال المحاسبي: فلا أحد يعد من جميع أجناس الأعاجم أحسن ديناً، ولا كانت منهم العلماء إلا الفرس.
_________
(1) الطبراني 26/ 66.(13/81)
" وحكي عن أبي موسى الأشعري: أنه لما نزلت هذه الآية فرح بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال هي أحب إلي من الدنيا " والله أعلم ولينظر في سنده.
(ثم لا يكونوا أمثالكم) في التولي عن الإيمان والتقوى، بل مطيعين له عز وجل، قال ابن جرير في البخل بالإنفاق في سبيل الله، وكلمة ثم للدلالة على أن مدخولها مما يستبعده المخاطبون لتقارب الناس في الأحوال واشتراكهم في الميل إلى المال.(13/82)
سورة الفتح
(هي تسع وعشرون آية، وهي مدنية)
قال القرطبي: بالإجماع، وبه قال ابن عباس وابن الزبير، وعن المسور بن مخرمة ومروان قالا نزلت بين مكة والمدينة في شأن الحديبية من أولها إلى آخرها، وهذا لا ينافي الإجماع على كونها مدنية، لأن المراد بالسور المدنية النازلة بعد الهجرة من مكة.
وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما، عن عبد الله ابن مغفل قال، قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام الفتح في مسيرة سورة الفتح على راحلته فرجع فيها.
وفي الصحيحين، عن زيد بن أسلم عن أبيه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يسير في بعض أسفاره وعمر بن الخطاب يسير معه ليلاً، فسأله عمر عن شيء فلم يجبه فقال عمر بن الخطاب هلكت أم عمر نزرت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاث مرات كل ذلك لا يجيب فقال عمر فحركت بعيري ثم تقدمت أمام الناس وخشيت أن ينزل فيّ قرآن، فما نشبت أن سمعت صارخاً يصرخ بي، فقلت لقد خشيت أن(13/83)
يكون قد نزل فيّ قرآن، فجئت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسلمت عليه فقال: " لقد أنزلت عليّ سورة لهي أحب إليّ مما طلعت عليه الشمس "، ثم قرأ: (إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً).
وفي صحيح مسلم: عن قتادة أن أنس بن مالك حدثهم قال: لما نزلت (إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً) إلى قوله (فوزاً عظيماً) مرجعه من الحديبية، وهم يخالطهم الحزن والكآبة، وقد نحروا الهدي بالحديبية فقال " لقد أنزلت عليّ آية هي أحب إليّ من الدنيا جميعها " (1).
_________
(1) مسلم في صحيحه.(13/84)
بسم الله الرحمن الرحيم
إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (2) وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا (3) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (4) لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا (5) وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (6)(13/85)
إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1)
(إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً) الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وحده قيل المراد الحكم والقضاء كما في قوله (ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق)، فكأنه قال إنا قضينا وحكمنا لك فتحاً ظاهراً واضحاً مكشوفاً بغير قتال ولا تعب، والفتح الظفر بالبلدة، عنوة أو صلحاً بحرب أو غير حرب، وبخراج أو بدونه لأنه مغلق. ما لم يظفر به فإذا ظفر به فقد فتح، مأخوذ من فتح باب الدار، وجيء به بلفظ الماضي لأن عادة الله في تحققها بمنزلة الكائنة، وفي ذلك من الفخامة والدلالة على علو شأن المخبر عنه، وهو الفتح ما لا يخفى، وإسناده إلى نون العظمة لاستناد أفعال العباد إليه تعالى خلقاً وإيجاداً، واختلف في تعيين هذا الفتح فقال الأكثر على ما في البخاري: هو صلح الحديبية، والصلح قد يسمى فتحاً قال الفراء: والفتح قد يكون صلحاً، وقال قوم: إنه فتح مكة، وقال آخرون: إنه فتح خيبر، والأول أرجح، ويؤيده ما ذكرناه قبل هذا من أن السورة نزلت في شأن الحديبية.
وقيل: هو جميع ما فتح الله لرسوله من الفتوح، وقيل: هو ما فتح له من النبوة، والدعوة إلى الإسلام، وقيل: فتح الروم، ومعنى الفتح في اللغة(13/85)
فتح المنغلق، والصلح الذي كان مع المشركين بالحديبية كان مشدوداً متعذراً، حتى فتحه الله، قال الزهري: لم يكن فتح أعظم من صلح الحديبية، وذلك أن المشركين اختلطوا بالمسلمين فسمعوا كلامهم، فتمكن الإسلام في قلوبهم وأسلم في ثلاث سنين خلق كثير، وكثر بهم سواد الإسلام.
قال الشعبي: لقد أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديبية ما لم يصب في غزوة، غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وبويع بيعة الرضوان، وأطعموا نخل خيبر، وبلغ الهدىُ محله، وظهرت الروم على فارس ففرح المؤمنون بظهور أهل الكتاب على المجوس، وقال الزجاج: كان في فتح الحديبية آية عظيمة، وذلك أنه نزح ماؤها ولم يبق فيها قطرة فتمضمض رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم مجه في البئر فدرت بالماء حتى شرب جميع الناس.
" وعن مجمع بن جارية الأنصاري قال: شهدنا الحديبية فلما انصرفنا منها حتى بلغنا كراع الغميم إذ الناس يوجفون الأباعر، فقال الناس بعضهم لبعض: ما للناس؟ فقالوا: أوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرجنا مع الناس نوجف، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم على راحلته عند كراع الغميم، فاجتمع الناس إليه فقرأ عليهم إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً، فقال رجل: أي رسول الله أو فتح هو؟ قال: إي والذي نفس محمد بيده، إنه لفتح، فقسمت خيبر على أهل الحديبية لم يدخل معهم فيها أحد إلا من شهد الحديبية، فقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمانية عشر سهماً وكان الجيش ألفاً وخمسمائة منهم ثلثمائة فارس، فأعطى الفارس سهمين، وأعطى الراجل سهماً (1)، أخرجه أحمد وأبو داود والحاكم وصححه والبيهقي في الدلائل وغيرهم.
وعن ابن مسعود قال: " أقبلنا من الحديبية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فبينا نحن نسير إذ أتاه الوحي وكان إذا أتاه اشتد عليه فسرى عنه، وبه
_________
(1) رواه أحمد.(13/86)
من السرور ما شاء الله فأخبرنا أنه أنزل عليه إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً " (1) أخرجه أحمد والبخاري في تاريخه وأبو داود والنسائي وغيرهم وعن أنس في الآية قال الحديبية أخرجه البخاري وغيره.
وعن البراء قال: " تعدون أنتم الفتح فتح مكة وقد كان فتح مكة فتحاً ونحن نعد الفتح بيعة الرضوان يوم الحديبية " (2) أخرجه البخاري وغيره.
وعن عائشة قالت: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنا فتحنا الخ فتح مكة أخرجه ابن مردويه وعن أنس نحوه ومذهب أبي حنيفة أن مكة فتحت عنوة ومذهب الشافعي أنها فتحت صلحاً وفي البويطي أن أسفلها فتحه خالد عنوة وأعلاها فتحه الزبير صلحاً ودخل صلى الله عليه وسلم من جهته فصار الحكم له وبهذا تجتمع الأخبار التي ظاهرها التعارض.
_________
(1) رواه أحمد.
(2) البخاري في صحيحه.(13/87)
لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (2)
(ليغفر لك الله) اللام هي لام العلة قال ابن الأنباري: سألت أبا العباس يعني المبرد عن اللام هذه فقال: هي لام كي معناها إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً لكي يجتمع لك مع المغفرة تمام النعمة في الفتح فلما انضم إلى المغفرة شيء حادث واقع حسن معنى كي وغلط من قال ليس الفتح سبب المغفرة وقال الزمخشري: فإن قلت كيف جعل فتح مكة علة للمغفرة قلت لم يجعل علة للمغفرة ولكنه علة لاجتماع ما عدد من الأمور الأربعة: وهي المغفرة، وإتمام النعمة، وهداية الصراط المستقيم، والنصر العزيز، كأنه قيل يسرنا لك فتح مكة ونصرناك على عدوك لنجمع لك بين عز الدارين وأغراض الآجل والعاجل قال ابن عادل وغيره: وهذا كلام غير جيد مخالف لظاهر الآية، فإن اللام داخلة على المغفرة، فهي علة للفتح، والفتح معلل بها، وقيل غير ذلك، والأسلم ما اقتصر عليه المحلي كما يأتي.
وقال الرازي في توجيه التعليل: إن المراد بقوله: ليغفر لك الله(13/87)
التعريف بالمغفرة تقديره إنا فتحنا لك لتعرف أنك مغفور لك معصوم، فإن الناس علموا بعد عام الفيل أن مكة لا يأخذها عدو الله، وإنما يأخذها حبيب الله، وقال ابن عطية: المراد أن الله فتح لك لكي يجعل الفتح علامة لغفرانه لك، فكأنها لام الصيرورة، وقال أبو حاتم: هي لام القسم والأصل ليغفرن فكسرت اللام تشبيهاً بلام كي، وحذفت النون، وهو خطأ فإن لام القسم لا تكسر ولا تنصب المضارع.
قال ابن عادل: وقد يقال: إن هذا ليس بنصب، وإنما هو بقاء للفتح الذي كان قبل نون التوكيد بقي ليدل عليها، ولكن هذا قول مردود، وقال البيضاوي اللام علة للفتح، من حيث إنه مسبب عن جهاد الكفار، والسعي في إعلاء الدين وإزاحة الشرك وتكميل النفوس الناقصة، وقال الجلال المحلي: اللام: للعلة الغائبة فمدخولها مسبب لا سبب.
واختلف في معنى قوله: (ما تقدم من ذنبك وما تأخر) فقيل: ما تقدم من ذنبك قبل الرسالة وما تأخر بعدها، قاله مجاهد وسفيان الثوري وابن جرير والواحدي وغيرهم، وقال عطاء: (ما تقدم من ذنبك) يعني: ذنب أبويك آدم وحواء، وما تأخر من ذنوب أمتك، وما أبعد هذا عن معنى القرآن، وقيل: ما تقدم من ذنب أبيك إبراهيم، وما تأخر من ذنوب النبيين من بعده، وهذا كالذي قبله، وقيل: ما تقدم من ذنب يوم بدر وما تأخر من ذنب يوم حنين، وهذا كالقولين الأولين في البعد وقيل: لو كان ذنب قديم أو حديث لغفرناه لك، وقيل غير ذلك مما لا وجه له والأول أولى، ويكون المراد بالذنب بعد الرسالة ترك ما هو الأولى وسمي ذنباً في حقه لجلالة قدره وإن لم يكن ذنباً في حق غيره فهو من باب حسنات الأبرار سيئات المقربين.
أخرج البخاري ومسلم وغيرهما، عن المغيرة بن شعبة قال: " كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي حتى ترم قدماه، فقيل له: أليس قد غفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: أفلا أكون عبداً شكوراً " وفي الباب أحاديث.(13/88)
(ويتم نعمته عليك) بإظهار دينك على الدين كله وقيل بالجنة وقيل بالنبوة والحكمة، وقيل بفتح مكة والطائف وخيبر، والأولى أن يكون المعنى ليجتمع لك مع الفتح تمام النعمة بالمغفرة والهداية إلى صراط مستقيم، وهو دين الإسلام (ويهديك) به (صراطاً) طريقاً (مستقيماً) أي يثبتك عليه وهو دين الإسلام، وقيل: على الهدى إلى أن يقبضك إليه، وقال البيضاوي: في تبليغ الرسالة وإقامة مراسم الرياسة، فالهداية على حقيقتها، فلا حاجة إلى ما قيل من أن المراد زيادة الاهتداء أو الثبات عليه(13/89)
وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا (3)
(وينصرك الله نصراً عزيزاً) أي غالباً قوياً، ذا عز، لا يتبعه ذل.(13/89)
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (4)
(هو الذي أنزل السكينة) أي السكون والطمأنينة والوقار (في قلوب المؤمنين) وهم أهل الحديبية بما يسره لهم من الفتح لئلا تنزعج نفوسهم لما يرد عليهم قال ابن عباس: السكينة هي الرحمة قيل: كل سكينة في القرآن طمأنينة إلا التي في سورة البقرة، وقد تقدم تفسيرها في موضعها (ليزدادوا إيماناً مع إيمانهم) أي: ليزدادوا بسبب تلك السكينة إيماناً منضماً إلى إيمانهم الحاصل لهم من قبل، قال ابن مسعود: تصديقاً مع تصديقهم، وقال الكلبي: كلما نزلت آية من السماء فصدقوا بها ازدادوا تصديقاً إلى تصديقهم، وقال الربيع بن أنس: خشية مع خشيتهم، وقال الضحاك: يقيناً مع يقينهم.
قال ابن عباس في الآية إن الله بعث نبيه صلى الله عليه وسلم بشهادة أن لا إله إلا الله، فلما صدق بها المؤمنون زادهم الصلاة، فلما صدقوا بها زادهم الصيام، فلما صدقوا به زادهم الزكاة، فلما صدقوا بها زادهم الحج، فلما صدقوا به زادهم الجهاد، ثم أكمل لهم دينهم فقال (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً)، وعنه أيضاًً قال فأوثق إيمان أهل السماء وأهل الأرض وأصدقه وأكمله شهادة أن لا إله إلا الله.
(ولله جنود السموات والأرض) يعني: الملائكة والإنس والجن والشياطين، يدبر أمرهم كيف يشاء، ويسلط بعضهم على بعض، ويحفظ(13/89)
بعضهم ببعض، (وكان الله عليماً) كثير العلم بخلقه بليغه (حكيماً). في صنعه وأقواله وأفعاله(13/90)
لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا (5)
(ليدخل) أي أمر بالجهاد ليدخل (المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها) وقيل: هذه اللام متعلقة بمحذوف يدل على ما قبلها، تقديره يبتلي بتلك الجنود من شاء فيقبل الخير من أهله، والشر ممن قضى له به، ليدخل؛ ويعذب، وقيل: متعلقة بقوله إنا فتحنا لك ليدخل ويعذب، وهذا لا يصح، وقيل: متعلقة بينصرك أي نصرك الله بالمؤمنين، ليدخل، ويعذب، وقيل: متعلقة بـ (يزدادوا) وهذا لا يصح أيضاًً، فالأول أولى.
(ويكفر عنهم سيئاتهم) أي يغطيها ولا يظهرها، ولا يعذبهم بها، وتقديم الإدخال في الذكر على التكفير، مع أن الترتيب في الوجود على العكس، للمسارعة إلى بيان ما هو المطلب الأعلى والمقصد الأسنى (وكان ذلك) أي المذكور من الإدخال والتكفير (عند الله) أي: في علمه وقضائه وحكمه (فوزاً عظيماً) أي: ظفراً بكل مطلوب، ونجاة من كل غم وجلباً لكل نفع ودفعاً لكل ضر والظرف متعلق بمحذوف على أنه حال من (فوزاً) لأنه صفة له في الأصل فلما قدم صار حالاً أي كائناً من عند الله، والجملة إعتراض مقرر لما قبله بين المعطوف -وهو يعذب- والمعطوف عليه - وهو يدخل.
أخرج البخاري ومسلم وغيرهم، عن أنس رضي الله عنه قال: " لما نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم ليغفر لك الله الآية مرجعه من الحديبية قال: لقد نزلت عليّ آية هي أحب إليّ مما على الأرض، ثم قرأها عليهم فقالوا هنيئاً مريئاً يا رسول الله قد بيّن الله لك ماذا يفعل بك، فماذا يفعل بنا فنزلت عليه ليدخل المؤمنين، حتى بلغ فوزاً عظيماً " (1).
ثم لما فرغ الله سبحانه مما وعد به صالحي عباده ذكر ما يستحقه غيرهم فقال:
_________
(1) البخاري ومسلم.(13/90)
وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (6)
(ويعذب المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات) معطوف على يدخل أي يعذبهم في الدنيا بإيصال الهموم والغموم إليهم، بسبب علو كلمة المسلمين، وما يشاهدونه من ظهور الإسلام، وبأن يسلط النبي صلى الله عليه وسلم عليهم قتلاً وأسراً واسترقاقاً في الدنيا، وفي الآخرة بعذاب جهنم وقدم المنافقين على المشركين لأنهم كانوا أشد على المؤمنين ضرراً من الكفار المجاهرين، لأن المؤمن كان يتوقى المجاهر؛ ويخالط المنافق لظنه إيمانه وكان يفشي إليه سره، وفيه دلالة على أنهم أشد منهم عذاباً، وأحق منهم مما وعدهم الله به، ثم وصف الفريقين فقال:
(الظانين بالله ظن السوء) وهو ظنهم أن النبي صلى الله عليه وسلم يغلب، وأن كلمة الكفر تعلو كلمة الإسلام ومما ظنوه ما حكاه الله عنهم بقوله، (بل ظننتم أن لن ينقلب الرسول والمؤمنون إلى أهليهم أبداً) والسوء صفة لموصوف محذوف أي ظن الأمر السوء.
(عليهم دائرة السوء) أي ما يظنونه ويتربصون بالمؤمنين دائر عليهم حائق بهم؛ الدائرة مصدر بزنة اسم الفاعل أو اسم فاعل من دار يدور، سمى به عاقبة الزمان أي حادثته، وهي في الأصل عبارة عن الخط المحيط بالمركز ثم استعملت في الحادثة المحيط بمن وقعت عليه، إلا أن أكثر استعمالها في المكروه، والسوء بالضم معناه العذاب، والهزيمة والشر، وبالفتح معناه الذم وقد قرىء بهما، وهما لغتان، وفي الأصل مصدران وهذا إخبار عن وقوع السوء بهم، أو دعاء عليهم، والإضافة من باب إضافة العام للخاص، فهي للبيان وقال سيبويه: السوء هنا الفساد.
ولما بين الله سبحانه أن دائرة السوء عليهم في الدنيا بين ما يستحقونه مع ذلك من الغضب واللعنة وعذاب جهنم فقال:
(وغضب الله عليهم ولعنهم وأعد لهم جهنم وساءت مصيراً) أي مرجعاً.(13/91)
وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (7) إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (8) لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (9) إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (10) سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (11)(13/92)
وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (7)
(وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) من الملائكة والإنس والجن والشياطين والصيحة، والرجفة والحجارة، والزلازل، والخسف، والغرق، ونحو ذلك وكرر هذه الآية لقصد التأكيد، أو المراد جنود العذاب كما يفيده التعبير بالعزة هنا مكان العلم هناك أو التهديد بأنهم في قبضة قدرة المنتقم فلا تكرار (وكان الله عزيزاً) غالباً فلا يرد بأسه (حكيماً) فيما دبره أي لم يزل متصفاً بذلك.(13/92)
إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (8)
(إنا أرسلناك شاهداً) على أمتك بتبليغ الرسالة إليهم (ومبشراً) بالجنة للمطيعين (ونذيراً) لأهل المعصية من النار(13/92)
لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (9)
(لتؤمنوا بالله ورسوله) قرأ الجمهور بالفوقية وقرىء بالتحتية، فعلى الأولى الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأمته، وعلى الثانية المراد المبشرون والمنذرون وهما سبعيتان، وفيه امتنان منه تعالى عليه صلى الله عليه وسلم حيث شرفه بالرسالة وبعثه إلى الكافة شاهداً على أعمال أمته.
(وتعزروه وتوقروه وتسبحوه بكرة وأصيلاً) أي غدوة وعشية، والخلاف بين القراء في هذه الأفعال الثلاثة، كالخلاف في لتؤمنوا كما سلف ومعنى تعزروه تعظموه أو تفخموه قاله الحسن، والتعزيز التوقير والتعظيم وقال(13/92)
قتادة: تنصروه وتمنعوا منه، وقال عكرمة: تقاتلوا معه بالسيف، وقال ابن عباس: يعني الإجلال، وعنه قال: تضربوا بين يديه بالسيف.
وعن جابر بن عبد الله قال: " لما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية وتعزروه قال لأصحابه: ما ذاك؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: لتنصروه " (1)، رواه ابن عدي وابن مردويه والخطيب وابن عساكر في تاريخه، ومعنى توقروه تعظموه، وقال السدي: تسودوه، وقال ابن عباس: يعني التعظيم قيل: والضميران في الفعلين للنبي صلى الله عليه وسلم، وهنا وقف تام، ثم يبتدىء وتسبحوه، أي تسبحوا الله عز وجل وهو من التسبيح الذي هو التنزيه من جميع النقائض، أو من السبحة وهي الصلاة وقيل: الضمائر كلها في الأفعال الثلاثة لله عز وجل فيكون المعنى تثبتون له التوحيد وتنفون عنه الشركاء وقيل تنصروا دينه وتجاهدوا مع رسوله وزاد الزمخشري ومن فرق الضمائر فقد أبعد، ومثله في المدارك قال الحفناوي: وهذا أظهر لتكون الضمائر على وتيرة واحدة.
_________
(1) مسلم.(13/93)
إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (10)
(إن الذين يبايعونك) أصل البيعة العقد الذي يعقده الإنسان على نفسه من بذل الطاعة للإمام والوفاء بالعهد الذي التزمه له وهي بيعة الرضوان بالحديبية، فإنهم بايعوه تحت الشجرة على قتال قريش فبايعه جماعة على الموت منهم سلمة بن الأكوع وبايعه جماعة على أن لا يفروا منهم معقل بن يسار والحديبية قرية ليست كبيرة بينها وبين مكة أقل من مرحلة أو مرحلة سميت ببئر هناك، وقد جاء في الحديث أن الحديبية بئر، قال مالك: هي من الحرم وقال ابن القصار: بعضها من الحل ويجوز في الحديبية التخفيف والتشديد، والأول أفصح وعامة المحدثين يشددونها.
(إنما يبايعون الله) أخبر سبحانه أن هذه البيعة لرسوله صلى الله عليه(13/93)
وسلم هي بيعة له، كما قال: (من يطع الرسول فقد أطاع الله)، وذلك لأنهم باعوا أنفسهم من الله بالجنة، وجملة: (يد الله فوق أيديهم) مستأنفة لتقرير ما قبلها على طريق التخييل، أو في محل نصب على الحال وفي هذا التركيب إستعارة تصريحية تبعية في الفعل، ومكنية في الإسم الكريم، وتخييلية في إثبات اليد له، وفيه مشاكلة في مقابلة يده بأيديهم، والمعنى أن عقد الميثاق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كعقدة مع الله سبحانه من غير تفاوت بينهما، قاله الزمخشري والكرخي، وقيل: يد الله بالوفاء بما وعدهم من الخير فوق أيديهم، وقال السدي: كانوا يأخذون بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم فيبايعونه، ويد الله فوق أيديهم في المبايعة.
قال الرازي: وذلك يحتمل وجوهاً، لأن اليد في الموضعين إما أن تكون بمعنى واحد، وإما أن تكون بمعنيين، فإن قلنا: إنها بمعنى واحد ففيه وجهان.
أحدهما يد الله بمعنى نعمة الله عليهم فوق أجسامهم، كما قال: (بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان).
وثانيهما نصرته إياهم أقوى وأعلى من نصرتهم إياه، يقال اليد لفلان أي الغلبة والنصرة والقوة، وإن قلنا إنها بمعنيين فنقول: اليد في حق الله تعالى بمعنى الحفظ، وفي حق المبايعين. بمعنى الجارحة، فيكون المعنى يد الله فوق أيديهم بالحفظ انتهى.
قلت: وهذا هو مذهب أهل التأويل والكلام، ومذهب السلف في هذه الآية وأمثالها السكوت عن التأويل، وإمرار آيات الله وأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم المتعلقة بالصفات كما جاءت مع الإيمان بها. من غير تشبيه، ولا تكييف، ولا تعطيل، ولا تحريف، ولا صرف عن الظاهر، ولا تأويل وهو الحق.(13/94)
(فمن نكث فإنما ينكث على نفسه) أي فمن نقض ما عقد من البيعة فإنما ينقض على نفسه، لأن ضرر ذلك راجع إليه لا يجاوزه إلى غيره.
عن عبادة بن الصامت قال: " بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في النشاط والكسل، وعلى النفقة في العسر واليسر، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعلى أن نقول في الله لا تأخذنا فيه لومة لائم، وعلى أن ننصره إذا قدم علينا يثرب، فنمنعه مما نمنع منه نفوسنا وأزواجنا وأبناءنا ولنا الجنة، فمن وفّى وفى الله له، ومن نكث فإنما ينكث على نفسه " (1)، أخرجه أحمد وابن مردويه.
وفي الصحيحين من حديث جابر " أنهم كانوا في بيعة الرضوان خمس عشرة مائة "، و " فيهما عنه أنهم كانوا أربع عشرة مائة " (2).
وفي البخاري من حديث قتادة. عن سعيد بن المسيب: " أنه سأله كم كانوا في بيعة الرضوان؟ قال خمس عشرة مائة، فقال له: إن جابراً قال: كانوا أربع عشرة مائة، قال رحمه الله وهم هو حدثني أنهم كانوا خمس عشرة مائة ".
(ومن أوفى بما عاهد عليه الله) أي ثبت على الوفاء بما عاهد الله عليه في البيعة لرسوله، يقال وفيت بالعهد وأوفيت به، ومنه قوله: (أوفوا بعهد الله) (والموفون بعهدهم)، قرأ الجمهور (عليه) بكسر الهاء وقرىء بضمها (فسيؤتيه) بالياء والنون سبعيتان (أجراً عظيماً) وهو الجنة وهذه الآية فيها دلالة على مشروعية البيعة، وقد صدرت منه صلى الله عليه وسلم مبايعات كثيرة اشتملت عليها الأحاديث الواردة في الصحيحين وغيرهما من
_________
(1) رواه أحمد.
(2) رواه البخاري.(13/95)
دواوين الإسلام، وفيها أن الناس كانوا يبايعونه تارة على الهجرة والجهاد، وتارة على إقامة أركان الإسلام وتارة على الثبات والقرار في معارك الكفار، وتارة على هجر الفواحش والمنكرات، وتارة على التمسك بالسنة، والاجتناب عن البدعة، والحرص على الطاعات، كما بايع نسوة من الأنصار على أن لا يخن.
" وبايع ناساً من فقراء المهاجرين على أن لا يسألوا الناس شيئاًً فكان أحدهم يسقط سوطه فينزل عن فرسه فيأخذه، ولا يسأل أحداً " رواه ابن ماجة في سننه.
وقد نطق به الكتاب العزيز كما في هذه الآية وفي قوله تعالى (إذا جاءك المؤمنات يبايعنك) الآية، ومما لا شك فيه ولا شبهة أنه إذا ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل على سبيل العبادة والاهتمام بشأنه، فإنه لا ينزل عن كونه سنة في الدين، بقي أنه صلى الله عليه وسلم كان خليفة الله في أرضه، وعالماً بما أنزله الله تعالى من القرآن والحكمة، معلماً للكتاب والسنة، مزكياً للأمة فما فعله على جهة الخلافة كان سنة للخلفاء؛ وما فعله على جهة كونه معلماً للكتاب والحكمة ومزكياً للأمة كان سنة للعلماء الراسخين؛ وهذا صحيح البخاري شاهد على أنه:
" صلى الله عليه وسلم اشترط على جرير عند مبايعته: والنصح لكل مسلم ".
وأنه " بايع قوماً من الأنصار فاشترط أن لا يخافوا في الله لومة لائم ويقولوا بالحق حيث كانوا فكان أحدهم يجاهر الأمراء والملوك بالرد والإنكار " إلى غير ذلك وكل ذلك من باب التزكية: والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فالبيعة على أقسام منها بيعة الخلافة ومنها بيعة الإسلام ومنها بيعة التمسك(13/96)
بحبل التقوى ومنها بيعة الهجرة والجهاد ومنها بيعة التوثق في الجهاد وكان بيعة الإسلام متروكة في زمن الخلفاء.
أما في زمن الراشدين منهم فلأن دخول الناس في الإسلام في أيامهم كان غالباً بالقهر والسيف لا بالتأليف، وإظهار البرهان، ولا طوعاً ولا رغبة، وأما في غيرهم، فلأنهم كانوا في الأكثر ظلمة فسقة لا يهتمون، وكذلك بيعة التمسك بحبل التقوى كانت متروكة، أما في زمن الخلفاء الراشدين فلكثرة الصحابة الذين استناروا بصحبة النبي صلى الله عليه وسلم وتأدبوا في حضرته فكانوا لا يحتاجون إلى بيعة الخلفاء، وأما في زمن غيرهم فخوفاً من افتراق الكلمة، وأن يظن بهم مبايعة الخلافة فتهيج الفتن، ثم لما اندرس هذا في الخلفاء انتهز أكابر العلماء والمشايخ الفرصة وتمسكوا بسنة البيعة، وأن الذي اعتاده الصوفية رحمهم الله من مبايعة المتصوفين، ففيه ما يقبل وما يرد، ويظهر ذلك بعرضها على الكتاب والسنة، فما وافقهما فهو السنة والصواب، وما خالفهما فهو الخطأ والتباب، وإنما هذه البيعة سنة وليست بواجبه، لأن الناس بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقربوا بها إلى الله تعالى، ولم يدل دليل على تأثيم تاركها، ولم ينكر أحد من الأئمة على من تركها، فكان كالاتفاق على أنها ليست بواجبة.
وشرط من يأخذ البيعة أمور:
أحدها علم الكتاب والسنة، وإنما شرطنا ذلك لأن الغرض من البيعة أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر، وإرشاده إلى تحصيل السكينة الباطنة، وإزالة الرذائل، وإكتساب الحمائد، متقيداً بظاهر القرآن الكريم، والحديث الشريف، ومن لم يكن عالماً بهما، وعاملاً بموجبهما لا يتصور منه ذلك أبداً وقد اتفقت كلمة المشايخ على أن لا يتكلم على الناس إلا من كتب الحديث، وقرأ القرآن.
وثانيها، العدالة والتقوى والصدق والضبط، فيجب أن يكون مجتنباً(13/97)
عن الكبائر، غير مصر على الصغائر.
ثالثها: أن يكون زاهداً في الدنيا، راغباً في الآخرة مواظباً على الطاعات المؤكدة والأذكار المأثورة في صحاح الأحاديث مواظباً على تعلق القلب بالله سبحانه.
رابعها: أن يكون آمراً بالمعروف، ناهياً عن المنكر، مستبداً برأيه، لا إمعة ليس له رأي، ولا أمرؤ ذا مروءة وعقل تام يعتمد عليه في كل ما يأمر به، وينهي عنه، قال تعالى (ممن ترضون من الشهداء)، فما ظنك بصاحب البيعة؟
خامسها: أن يكون صحب العلماء بالكتاب والسنة، وتأدب بهم دهراً طويلاً، وأخذ منهم العلم للظاهر، والنور الباطن والسكينة، وهذا لأن سنة الله جرت بأن الرجل لا يفلح إلا إذا رأى المفلحين، ولا يشترط في ذلك ظهور الكرامات وخوارق العادات ولا ترك الإكتساب؛ لأن الأول ثمرة المجاهدات، لا شرط الكمال، والثاني مخالف للشرع المطهر ولا تغتر بما فعله المغلوبون في أحوالهم، إنما المأثور القناعة بالقليل، والورع من الشبهات.
وإذا تقرر لك هذا عرفت ما هو صاف عما هو كدر، فاشدد يديك عليه ولا تلتفت إلى غير ما ذكرنا، وبالله التوفيق. ولما ذكر تعالى أهل بيعة الرضوان وأضافهم إلى حضرة الرحمن، ذكر من غاب عن ذلك الجناب، وأبطأ عن حضرة تلك العمرة بقوله:(13/98)
سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (11)
(سيقول) أي بوعده لا خلف فيه (لك) لأنهم يعلمون شدة رحتمك ورفقك وشفقتك على عباد الله فهم يطمعون في قبولك عذرهم الفاسد ما لا يطمعون فيه من غيرك من خلص المؤمنين (المخلفون من الأعراب) هم الذين خلفهم الله عن صحبة رسوله حين خرج عام الحديبية معتمراً قال مجاهد وغيره يعني أعراب غفار ومزينة وجهينة وأسلم وأشجع والدئل، وهم الأعراب الذين كانوا حول المدينة، وقيل تخلفوا عن رسول الله(13/98)
صلى الله عليه وسلم حين سافر إلى مكة عام الفتح، بعد أن كان قد استنفرهم ليخرجوا معه وخافوا أن يكون قتال وقالوا: يذهب إلى قوم قد غزوه في قعر داره بالمدينة، وقتلوا أصحابه يعنون بأحد (شغلتنا أموالنا وأهلونا) أي منعنا من الخروج معك ما لنا من الأموال والنساء والذراري وليس لنا من يقوم بهم، ويخلفنا عليهم وإنا لو تركناهم لضاعوا.
(فاستغفر لنا) ليغفر الله لنا ما وقع منا من التخلف عنك لهذا السبب ولما كان طلب الاستغفار منهم ليس عن اعتقاد بل على طريقة الاستهزاء وكانت بواطنهم مخالفة لظواهرهم فضحهم الله بقوله: (يقولون بألسنتهم) من طلب الاستغفار وما قبله (ما ليس في قلوبهم) فهم كاذبون في إعتذارهم وفي طلب الإستغفار لهم وهذا هو صنيع المنافقين، والجملة مستأنفة لبيان ما تنطوي عليه بواطنهم أو بدل من الجملة الأولى ثم أمر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم أن يجيب عنهم فقال:
(قل فمن يملك لكم من الله شيئاًً)؟ أي فمن يمنعكم مما أراده الله بكم من خير وشر ونفع وضر والاستفهام بمعنى النفي أي لا أحد يقدر لأجلكم من مشيئته وقضائه فما في النظم مجاز عن هذا ثم بين ذلك فقال: (إن أراد بكم ضراً) أي إنزال ما يضركم من ضياع الأموال وهلاك الأهل والقتل والهزيمة والعقوبة على التخلف قرأ الجمهور ضراً بفتح الضاد، وهو مصدر ضررته ضراً وقرىء بضمها وهو اسم ما يضر وقيل لغتان وسبعيتان.
(أو أراد بكم نفعاً) أي نصراً وغنيمة، وهذا رد عليهم حين ظنوا أن التخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يدفع عنهم الضر، ويجلب لهم النفع، ثم أضرب سبحانه عن ذلك فقال: (بل كان الله بما تعملون خبيراً) أي إن تخلفكم ليس لما زعمتم، بل كان الله خبيراً بجميع ما تعملونه من الأعمال التي من جملتها تخلفكم، وقد علم أن تخلفكم لم يكن لذلك، بل للشك والنفاق وما خطر لكم من الظنون الفاسدة الناشئة عن عدم الثقة بالله، ولهذا قال:(13/99)
بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا (12) وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا (13) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (14) سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا (15) قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (16)(13/100)
بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا (12)
(بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا) وهذه الجملة مفسرة لما قبلها لما فيها من الإبهام، أي بل ظننتم أن العدو يستأصل المؤمنين بالمرة، فلن يرجع منهم أحد إلى أهله لما في قلوبكم من عظمة المشركين، وحقارة المؤمنين، فلأجل ذلك تخلفتم، لا لما ذكرتم من المعاذير الباطلة.
(وزين) قرأ الجمهور مبنياً للمفعول، وقرىء مبنياً للفاعل، وهو الشيطان (ذلك في قلوبكم) فقبلتموه (وظننتم ظن السوء) هو أن الله سبحانه لا ينصر رسوله، وهذا الظن إما هو الظن الأول والتكرير للتأكيد والتوبيخ أو المراد به ما هو أعم من الأول فيدخل الظن الأول تحته دخولاً أولياً (وكنتم قوماً بوراً) قال الزجاج: هالكين عند الله وكذا قال مجاهد، قال الجوهري: البور الرجل الفاسد الهالك الذي لا خير فيه، قال أبو عبيدة: بوراً هلكى، وهو جمع بائر مثل حائل وحول في المعتل وبازل وبزل في الصحيح وقد بار فلان أي: هلك، وأباره الله أي أهلكه، قيل: والبور الهلاك، وهو مصدر أخبر به عن الجمع.(13/100)
وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا (13)
(ومن لم يؤمن بالله ورسوله فإنا اعتدنا للكافرين سعيراً) هذا كلام مستأنف من جهة الله سبحانه، غير داخل تحت ما أمر الله سبحانه رسوله أن يقوله أي: ومن لم يؤمن بهما كما صنع هؤلاء المخلفون فجزاؤهم ما أعده الله لهم من عذاب السعير، والنار الشديدة، وأقيم الظاهر مقام المضمر للإيذان بأن من لم يجمع بين الإيمان بالله ورسوله فهو كافر مستوجب للسعير، ونكر سعيراً لأنها نار مخصوصة، كما نكر ناراً تلظى، أو للتهويل.(13/101)
وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (14)
(ولله ملك السموات والأرض) يتصرف فيه كيف يشاء، لا يحتاج إلى أحد من خلقه، وإنما تعبدهم ليثبت من أحسن، ويعاقب من أساء، ولهذا قال: (يغفر لمن يشاء) أن يغفر له (ويعذب من يشاء) أن يعذبه لا يسأل عما يفعل، وهم يسألون، وهذا حسم لأطماعهم الفارغة في إستغفاره صلى الله عليه وسلم لهم (وكان الله غفوراً رحيماً) أي كثير المغفرة والرحمة، بليغهما، يختص بمغفرته ورحمته من يشاء من عباده وتقتضي الحكمة مغفرته من المؤمنين دون من عداهم من الكافرين فهم بمعزل عن ذلك قطعاً.(13/101)
سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا (15)
(سيقول المخلفون) المذكورون (إذا انطلقتم) أي عند انطلاقكم أيها المسلمون (إلى مغانم) أي مغانم خيبر (لتأخذوها) أي لتحوزوها (ذرونا) أي: اتركونا ودعونا (نتبعكم) ونشهد معكم غزوة خيبر، وأصل القصة أنه لما انصرف النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه من المسلمين من الحديبية في ذي الحجة من سنة ست، أقام بالمدينة بقيته وأوائل المحرم من سنة سبع. وعدهم الله فتح خيبر وخص لغنائمها من شهد الحديبية، فلما انطلقوا إليها قال هؤلاء المخلفون: ذرونا نتبعكم، فقال سبحانه: (يريدون أن يبدلوا كلام الله) أي: يغيروه، والمراد بهذا الكلام هو مواعيد الله لأهل الحديبية خاصة، بغنيمة خيبر.
وقال مقاتل: يعني أمر الله لرسوله ألا يسير معه أحد منهم، وقال ابن زيد هو قوله تعالى: (فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا) واعترض هذا(13/101)
ابن جرير وغيره بأن غزوة تبوك كانت بعد فتح خيبر وبعد فتح مكة، والأول أولى، وبه قال مجاهد وقتادة. ورجحه ابن جرير وغيره، وعليه عامة أهل التأويل، قرأ الجمهور كلام الله، وقرىء كلم الله، قال الجوهري: الكلام اسم جنس يقع على القليل والكثير، والكلم لا يكون أقل من ثلاث كلمات، لأنه جمع كلمة مثل نبق ونبقة، ثم أمر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم أن يمنعهم من الخروج معه فقال:
(قل لن تتبعونا) هذا النفي هو بمعنى النهي للمبالغة، والمعنى لا تتبعونا (كذلكم قال الله من قبل) أي: من قبل رجوعنا من الحديبية إن غنيمة خيبر لمن شهد الحديبية خاصة، ليس لغيرهم فيها نصيب (فسيقولون) يعني المنافقين عند سماع هذا القول، وهو قوله: (قل لن) الخ (بل) إضراب عن محذوف هو مقول القول كما علمت (تحسدوننا) أي بل ما يمنعكم من خروجنا معكم إلا الحسد لئلا نشارككم في الغنيمة، وليس ذلك حكماً من الله كما تزعمون، ثم رد الله سبحانه عليهم بقوله:
(بل كانوا لا يفقهون إلا قليلاً) أي: لا يعلمون إلا علماً قليلاً، وهو علمهم بأمر الدنيا وقيل: لا يفقهون من أمر الدين إلا فقهاً قليلاً، وهو ما يصنعونه نفاقاً بظواهرهم دون بواطنهم، والفرق بين الإضرابين أن:
الأول: رد أن يكون حكم الله أن لا يتبعوهم، وإثبات الحسد.
والثاني: إضراب عن وصفهم بإضافة الحسد إلى المؤمنين إلى وصفهم بما هو أعم منه، وهو الجهل وقلة الفقه، وفيه إن الجهل غاية في الذم، وحب الدنيا ليس من شيمة العالم العاقل.(13/102)
قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (16)
(قل للمخلفين من الأعراب) كرر ذكرهم بهذا الإسم مبالغة في الذم وإشعاراً بشناعة التخلف أي فذمهم مرة بعد أخرى كما أشار إليه في التقرير (ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد) قال عطاء بن أبي رباح ومجاهد وابن أبي ليلى وعطاء الخراساني: هم فارس وقال كعب والحسن وابن أبي ليلى: هم(13/102)
الروم، وروي عن الحسن أيضاًً أنه قال: هم فارس والروم وقال سعيد بن جبير: هم هوازن وثقيف، وقال قتادة: هوازن وغطفان يوم حنين.
وقال الزهري ومقاتل: هم بنو حنيفة أهل اليمامة أصحاب مسيلمة، وحكى هذا القول الواحدي عن أكثر المفسرين، وعن أبي هريرة: أنهم الأكراد وقال ابن عباس: هم فارس والروم وعنه قال: هوازن وبنو حنيفة، يعني: أهل الردة الذين حاربهم أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه، لأن مشركي العرب والمرتدين هم الذين لا يقبل منهم إلا الإسلام أو السيف.
وقال أبو هريرة: لم يأت تأويل هذه الآية بعد وظاهر الآية يرده، وفي هذه الآية دليل على صحة إمامة أبي بكر الصديق وعمر رضي الله تعالى عنهما لأن أبا بكر دعاهم إلى قتال بني حنيفة وعمر دعاهم إلى قتال فارس والروم، قال الخازن: وأقوى هذه الأقوال أنهم هوازن وثقيف، لأن الداعي هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبعدها أنهم بنو حنيفة ثم ذكر الدليل على صحة القول الأول، وأطال فيه ولا يصح؛ لأنه قال: (لن تخرجوا معي أبداً ولن تقاتلوا معي عدواً) فدل على أن المراد بالداعي غير النبي صلى الله عليه وسلم، ومعلوم أنه لم يدع هؤلاء القوم بعد النبي إلا أبو بكر وعمر رضي الله عنهما.
(تقاتلونهم أو يسلمون) فلا تقاتلون أي يكون أحد الأمرين إما المقاتلة أو الإسلام، ولا ثالث لهما، وهذا حكم الكفار الذين لا تؤخذ منهم الجزية قال الزجاج: التقدير أو هم يسلمون، وقرىء أو يسلموا أي حتى يسلموا (فإن تطيعوا) إلى قتالهم (يؤتكم الله أجراً حسناً) وهو الغنيمة في الدنيا، والجنة في الآخرة (وإن تتولوا) أي: تعرضوا (كما توليتم من قبل) وذلك عام الحديبية (يعذبكم عذاباً أليماً) بالقتل والأسر والقهر في الدنيا، وبعذاب النار في الآخرة لتضاعف جرمكم.(13/103)
لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا (17) لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا (18) وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (19) وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (20) وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (21)(13/104)
لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا (17)
(لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ) أي ليس على هؤلاء المعذورين بهذه الأعذار حرج في التخلف عن الغزو وترك الجهاد لعدم استطاعتهم، قال مقاتل: عذر الله أهل الزمانة الذين تخلفوا عن المسير إلى الحديبية بهذه الآية، والحرج الإثم.
وعن زيد بن ثابت قال: " كنت أكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم وإني لواضع القلم على أذني إذا أمر بالقتال إذ جاء أعمى فقال: كيف لي وأنا ذاهب البصر؟ فنزلت (ليس على الأعمى حرج) الآية (1)، قال: هذا في الجهاد وليس عليهم من جهاد إذا لم يطيقوا "، أخرجه الطبراني، قال السيوطي بسند حسن: وهذه أعذار صحيحة ظاهرة، لأن أصحابها لا يقدرون على الكر والفر، وهناك أعذار أخر ذكرها الخازن وغيره، وموضعها كتب الفقه دون التفسير.
(ومن يطع الله ورسوله) فيما أمراه به ونهياه عنه، ومنه الجهاد (يدخله) بالياء وقرىء بالنون وهما سبعيتان (جنات تجري من تحتها
_________
(1) صحيح الجامع الصغير.(13/104)
الأنهار ومن يتول يعذبه عذاباً أليماً) أي ومن يعرض عن الطاعة، ويستمر على الكفر والنفاق يعذبه الله عذاباً شديد الألم، كرر الوعيد لأن المقام أدعى للترهيب وفصل الوعد وأجمل الوعيد مبالغة في الوعد، لكون الغفران والرحمة من دأبه بخلاف التعذيب، ثم ذكر سبحانه الذين أخلصوا نياتهم وشهدوا بيعة الرضوان فقال:(13/105)
لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا (18)
(لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة) أي رضي الله عنهم وقت تلك البيعة، وهي بيعة الرضوان وكانت بالحديبية، وهذه الشجرة هي سمرة كانت بها، وقيل: سدرة، وكانت البيعة على أن يقاتلوا قريشاً ولا يفروا وروي أنه بايعهم على الموت وأتى بصيغة المضارع لاستحضار صورة المبايعة والسمرة من شجر الطلح، وجمهور المفسرين على أن المراد بالطلح في القرآن الموز، وفي الصحيح عن ابن عمر أن الشجرة أخفيت، والحكمة في ذلك أن لا يحصل الافتتان بها لما وقع تحتها من الخير، فلو بقيت لما أمن تعظيم الجهال لها، حتى ربما اعتقدوا أن لها قوة نفع أو ضر، كما نشاهده الآن فيما دونها، ولذلك أشار ابن عمر بقوله: كان خفاؤها رحمة من الله، كذا في الفتح وشرح المواهب.
وعن نافع قال: " بلغ عمر بن الخطاب أن ناساً يأتون الشجرة التي بويع تحتها فأمر بها فقطعت " أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف، وقد تقدم ذكر عدد أهل هذه البيعة قريباً، والقصة مبسوطة في كتب الحديث والسير، وفي الباب أحاديث ذكرها الخازن وغيره (1)، والمعنى فعل بالراسخين في الإيمان فعل الراضي بما جعل لهم من الفتح، وما قدر لهم من الثواب، وأفهم ذلك أنه لم يرض عن الكافرين فخذلهم في الدنيا، مع ما أعد لهم في الآخرة، فالآية تقرير لما ذكر من جزاء الفريقين بأمور شاهدة، ولأجل هذا الرضا سميت بيعة الرضوان.
_________
(1) ابن حجر في الفتح 7/ 345.(13/105)
(فعلم) الله (ما في قلوبهم) أي علم ما فيها من الصدق والوفاء، قاله الفراء، وقال قتادة وابن جريج: من الرضا بأمر البيعة على أن لا يفروا، وقال مقاتل: من كراهة البيعة على الموت (فأنزل السكينة) أي الطمأنينة وسكون النفس والأمن كما تقدم، وقيل: الصبر (عليهم) أي على المؤمنين المخلصين، حتى ثبتوا وبايعوا على الموت. وعلى أن لا يفروا، والآية تشير إلى أن أهل بيعة الرضوان من أهل الجنة، لأن رضوان الله موجب لدخولها والأحاديث الصحيحة تدل لذلك، قال ابن عباس: إنما أنزلت السكينة على من علم منه الوفاء.
(وأثابهم فتحاً قريباً) هو فتح خيبر عند انصرافهم من الحديبية، قاله قتادة وابن أبي ليلى وغيرهما، وقيل: فتح مكة والأول أولى.(13/106)
وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (19)
(ومغانم كثيرة يأخذونها) أي وأثابهم مغانم كثيرة، أو أتاهم وهي غنائم خيبر وكانت ذات نخل وعقار وأموال فقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم وقرىء بالتاء والالتفات لتشريفهم بالخطاب (وكان الله عزيزاً حكيماً) أي غالباً مصدراً أفعاله وأقواله على أسلوب الحكمة.
عن سلمة بن الأكوع قال: " بينا نحن قائلون إذ نادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم أيها الناس البيعة البيعة نزل روح القدس فثرنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو تحت شجرة سمرة، فبايعناه، فذلك قوله تعالى: لقد رضي الله عن المؤمنين الآية فبايع لعثمان بإحدى يديه على الأخرى، فقال الناس هنيئاً لابن عفان يطوف بالبيت ونحن ههنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو مكث كذا وكذا سنة ما طاف حتى أطوف " (1) أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه.
وأخرج البخاري عن سلمة بن الأكوع قال: بايعت رسول الله صلى
_________
(1) رواه البخاري.(13/106)
الله عليه وسلم تحت الشجرة، قيل: على أي شيء كنتم تبايعون يومئذ؟ قال: على الموت " (1) وأخرج مسلم وغيره عن جابر قال: " بايعناه على أن لا نفر، ولم نبايعه على الموت ".
" وعن جابر عن النبي- صلى الله عليه وسلم قال: " لا يدخل النار أحد ممن بايع تحت الشجرة " أخرجه أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي.
وعنه قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليدخلن الجنة من بايع تحت الشجرة، إلا صاحب الجمل الأحمر " أخرجه الترمذي واستغربه.
_________
(1) رواه البخاري.(13/107)
وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (20)
(وعدكم الله مغانم كثيرة تأخذونها) في هذا وعد منه سبحانه لعباده المؤمنين بما سيفتحه عليهم من الغنائم إلى يوم القيامة يأخذونها في أوقاتها التي قدر وقوعها فيها. وقيل: الإلتفات إلى الخطاب لتشريفهم في مقام الامتنان، والخطاب لأهل الحديبية (فعجل لكم هذه) أي غنائم خيبر قاله مجاهد وغيره، وقيل: صلح الحديبية، وهي في جنب ما وعدهم الله به من الفتوحات، كالقليل من الكثير.
(وكف أيدي الناس عنكم) أي أيدي قريش يوم الحديبية بالصلح وقيل: أيدي أهل خيبر وأبصارهم عن قتالكم وقذف في قلوبهم الرعب، وقال ابن عباس: يعني أهل مكة أن يستحلوا حرم الله، ويستحل بكم وأنتم حرم وقال قتادة: كف أيدي اليهود عن المدينة بعد خروج النبي صلى الله عليه وسلم بالحديبية وخيبر ورجح هذا ابن جرير، قال: لأن كف أيدي الناس بالحديبية مذكور في قوله: وهو الذي كف أيديهم عنكم، وقيل: الناس يعني عيينة بن حصن الفزاري، وعوف بن مالك النضري، ومن كان معهما إذ جاؤوا لينصروا أهل خيبر عند حصار النبي صلى الله عليه وسلم لهم.(13/107)
(ولتكون آية للمؤمنين) أي فعل ما فعل من التعجيل والكف لتكون آية لهم، أو وعد، فعجل وكف لتنتفعوا بذلك، ولتكون آية. وقيل: إن الواو مزيدة واللام للتعليل ما قبلها أي: وكف لتكون والمعنى؛ ذلك الكف آية يعلم بها صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم في جميع ما يعدكم به، وقال ابن عباس: أي: سنة لمن بعدكم، وقيل: عبرة يعرفون بها أنهم من الله عز وجل بمكان، وأنه ضامن نصرتهم، والفتح عليهم (ويهديكم صراطاً مستقيماً) أي: يزيدكم بتلك الآية هدى وبصيرة ويقيناً وثقة بفضل الله تعالى، ويثبتكم على الهداية إلى طريق الحق بصلح الحديبية، وفتح خيبر، وقيل: طريق التوكل عليه، وتفويض الأمر إليه تعالى، لأن الحاصل من الكف ليس إلا ذلك، ولأن أصل الهدى حاصل قبله.(13/108)
وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (21)
(وأخرى) أي: فعجل لكم هذه المغانم، ومغانم أخرى، ويجوز فيها أوجه ذكرها السمين وغيره (لم تقدروا عليها) وهي الفتوح التي فتحها الله على المسلمين من بعد، كفارس والروم ونحوهما، كذا قال الحسن ومقاتل وابن أبي ليلى، وقال الضحاك وابن زيد وابن إسحق: هي خيبر وعدها الله نبيه قبل أن يفتحها، ولم يكونوا يرجونها، وقال قتادة: فتح مكة، وقال عكرمة: حنين، والأول أولى، وقال ابن عباس: هذه الفتوح التي تفتح إلى اليوم، وعنه قال: هي خيبر، وقيل: فتح بلدة أخرى مطلقاً، وقيل: مغانم هوازن في غزوة حنين.
(قد أحاط الله بها) صفة ثانية لأخرى قال الفراء: أحاط الله بها لكم حتى تفتحوها وتأخذوها، والمعنى أنه أعدها لهم وجعلها كالشيء الذي قد أحيط به من جميع جوانبه، فهو محصور لا يفوت منه شيء فهم وإن لم يقدروا عليها في الحال فهي محبوسة لهم، لا تفوتهم وقيل: المعنى إنه أحاط علمه بأنها ستكون لهم (وكان الله على كل شيء) من فتح القرى والبلدان (قديراً) لا يعجزه شيء ولا تختص قدرته ببعض المقدورات دون بعض.(13/108)
وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (22) سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (23) وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (24) هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (25) إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (26)(13/109)
وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (22)
(وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ) قال قتادة: يعني كفار قريش بالحديبية وأهل مكة وقيل: أسد وغطفان الذين أرادوا نصر أهل خيبر والأول أولى (ثم لا يجدون ولياً) يواليهم على قتالكم ويحرسهم (ولا نصيراً) ينصرهم عليكم(13/109)
سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (23)
(سنة الله التي قد خلت من قبل) أي طريقته وعادته التي قد مضت في الأمم من نصر أوليائه على أعدائه، وهو قوله: (لأغلبن أنا ورسلي)، وانتصاب سنة على المصدرية بفعل محذوف أي سن الله سنة أو هو مصدر مؤكد لمضمون الجملة المتقدمة من هزيمة الكفار ونصر المؤمنين (ولن تجد لسنة الله تبديلاً) أي تغييراً بل هي مستمرة ثابتة.(13/109)
وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (24)
(وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم) أي كف أيدي المشركين عن المسلمين وأيدي المسلمين عن المشركين لما جاؤوا يصدون رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه عن البيت عام الحديبية، وهي المراد بقوله: ببطن مكة، لأن أكثرها من الحرم (من بعد أن أظفركم عليهم) أي أقدركم وسلطكم.(13/109)
لما روي: " أن عكرمة بن أبي جهل خرج في خمسمائة فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم من هزمه وأدخله حيطان مكة "، وعن ابن عباس أظهر الله المسلمين عليهم بالحجارة حتى أدخلوهم البيوت، وقيل: المعنى هو الذي قضى بينهم وبينكم المكافة والمحاجزة بعد ما خولكم الظفر عليهم والغلبة، وذلك يوم الفتح، وبه استشهد أبو حنيفة رحمه الله على أن مكة فتحت عنوة لا صلحاً، والمراد على هذا ببطن: مكة.
(وكان الله بما تعملون بصيراً) لا يخفى عليه من ذلك شيء، قرىء بالتاء وبالياء وهما سبعيتان.
عن أنس قال: " لما كان يوم الحديبية هبط على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ثمانون رجلاً من أهل مكة في السلاح من قبل جبل التنعيم يريدون غرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعا عليهم فأخذوا فعفا عنهم، فنزلت هذه الآية " أخرجه ابن شيبة وأحمد ومسلم وأبو داود والنسائي والترمذي وغيرهم.
وفي صحيح مسلم وغيره " أنها نزلت في نفر أسرهم سلمة بن الأكوع يوم الحديبية ".
وأخرج أحمد والنسائي والحاكم وصححه، وغيرهم في سبب نزول الآية: " أن ثلاثين شاباً من المشركين خرجوا يوم الحديبية على المسلمين في السلاح، فثاروا في وجوههم، فدعا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ الله بأسماعهم، ولفظ الحاكم: بأبصارهم، فقام إليهم المسلمون فأخذوهم، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل جئتم في عهد أحد؟ أو هل جعل لكم أحد أماناً؟ فقالوا: لا، فخلى سبيلهم، فنزلت هذه الآية ".(13/110)
هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (25)
(هم الذين كفروا) يعني: كفار قريش (وصدوكم عن المسجد الحرام) أي عن الوصول إليه، ومعنى الصد أنهم منعوهم أن يطوفوا بالمسجد الحرام، ويحلوا عن عمرتهم (والهدي معكوفاً) أي محبوساً، قرأ الجمهور بنصب الهدي عطفاً على الضمير المنصوب في صدوكم، وقرىء عطفاً على المسجد، ولا بد من تقدير مضاف، أي عن نحر الهدي، وقرىء بالرفع على تقدير وصد الهدي، وقرأ الجمهور بفتح الهاء من الهدي وسكون الدال، وقرىء بكسرها وتشديد الياء، وانتصاب معكوفاً على الحال من الهدي، قال الجوهري: عكفه أي حبسه ووقفه، ومنه و (الهدي معكوفاً) ومنه الاعتكاف في المسجد. وهو الاحتباس، وعكف على الشيء أقبل عليه مواظباً، وقال أبو عمرو بن العلاء؛ معكوفاً مجموعاً. وأنكر الفارسي تعدية عكف بنفسه، وأثبتها ابن سيده والأزهري وغيرهما، وهو ظاهر القرآن لبناء اسم المفعول منه.
(أن يبلغ محله) أي عن أن يبلغ محله، أو مفعول لأجله، والمعنى صدوا الهدي كراهة أن يبلغ محله، ومحله منحره، وهو حيث يحل نحره من الحرم، أو هو بدل اشتمال من الهدي، وكان الهدي سبعين بدنة، وقال ابن عباس: نحروا يوم الحديبية سبعين بدنة، فلما صدت عن البيت حنت كما تحن إلى أولادها، ورخص الله سبحانه لهم بجعل ذلك الموضع الذي وصلوا إليه وهو الحديبية محلاً للنحر، فلا ينتهض حجة للحنفية على أن مذبح هدي المحصر هو الحرم، وللعلماء في هذا الكلام معروف في كتب الفروع.
(ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات) يعني المستضعفين من المؤمنين بمكة (لم تعلموهم) أي لم تعرفوهم، وقيل: لم تعلموا أنهم مؤمنون (أن تطأوهم) أي بالقتل، والإيقاع بهم يقال: وطأت القوم أي أوقعت بهم، وذلك أنهم لو كبسوا مكة وأخذوها عنوة بالسيف لم يتميز المؤمنون الذين هم(13/111)
فيها من الكفار، وعند ذلك لا يأمنون أن يقتلوا المؤمنين فتلزمهم الكفارة وتلحقهم سبة، وهو معنى قوله: (فتصيبكم منهم) أي من جهتهم (معرة) أي مشقة، بما يلزمكم في قتلهم من كفارة وعيب، وأصل المعرة العيب، مأخوذ من العر وهو الجرب.
وذلك أن المشركين سيقولون: إن المسلمين قد قتلوا أهل دينهم، قال الزجاج: معرة أي إثم، وكذا قال الجوهري، وبه قال ابن زيد، وقال الكلبي ومقاتل وغيرهما: المعرة كفارة قتل الخطأ، كما في قوله (فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة)، لأن الله أوجب على قاتل المؤمن في دار الحرب إذا لم يعلم إيمانه الكفارة، دون الدية، وقال ابن إسحق: المعرة غرم الدية، وقال قطرب: المعرة الشدة وقيل الغم، وقيل: هي مفعلة من عره بمعنى عراه إذا دهاه ما يكرهه ويشق عليه.
(بغير علم) متعلق بأن تطأوهم أي: غير عالمين، وجواب لولا محذوف والتقدير: لأذن الله لكم، أو لما كف أيديكم عنهم (ليدخل الله) اللام متعلقة بما يدل عليه الجواب المقدر، أي ولكن لم يأذن لكم، أو كف أيديكم عنهم، ليدخل الله (في رحمته) بذلك أي في توفيقه لزيادة الخير في الإسلام (من يشاء) من عباده وهم المؤمنون والمؤمنات الذين كانوا في مكة، فيتمم لهم أجورهم بإخراجهم من بين ظهراني الكفار، ويفك أسرهم، ويرفع ما كان ينزل بهم من العذاب، وقيل اللام متعلقة بمحذوف غير ما ذكر، والتقدير لو قتلتموهم لأدخلهم الله في رحمته والأول أولى.
وقيل إن: (من يشاء) عبارة عمن رغب في الإسلام من المشركين.
عن أبي جمعة جنيد بن سبع قال: " قاتلت رسول الله صلى الله عليه وسلم أول النهار كافراً وقاتلت معه آخر النهار مسلماً، وفينا نزلت ولولا رجال(13/112)
إلخ وكنا تسعة نفر: سبعة رجال وامرأتان ".
وفي رواية ابن أبي حاتم " كنا ثلاثة رجال وتسع نسوة "، أخرجه الطبراني وأبو يعلى وابن أبي حاتم وابن قانع والبارودي والطبراني وابن مردويه، قال السيوطي. بسند جيد، وعن ابن عباس في الآية قال: حين ردوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن تطأوهم بقتلكم إياهم.
(لو تزيلوا) التزيل التميز أي لو تميز الذين آمنوا من الذين كفروا منهم، قاله العتبي، وقال الكلبي لو تفرقوا، وقيل لو زال الذين آمنوا من بين أظهرهم والمعاني متقاربة، قرأ الجمهور لو تزيلوا، وقرىء لو تزايلوا والتزايل التباين (لعذبنا الذين كفروا منهم) أي من أهل مكة حينئذ بأن نأذن لكم في فتحها (عذاباً أليماً) قال القاضي بالقتل والسبي، وهو الظاهر، لأن المراد من تعذيبهم التعذيب الدنيوي الذي هو تسليط المؤمنين عليهم وقتالهم، فإن عدم التمييز لا يوجب عدم عذاب الآخرة، أفاده على القاري، قال ابن عباس: لو تزيل الكفار من المؤمنين لعذبهم الله عذاباً أليماً بقتلكم إياهم، قال قتادة: إن الله يدفع بالمؤمنين عن الكفار، كما دفع بالستضعفين من المؤمنين عن مشركي مكة.(13/113)
إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (26)
(إذ جعل) أي: اذكر وقت أن جعل (الذين كفروا في قلوبهم الحمية) أي: اضمروها وأصروا عليها، والحمية الأنفة يقال فلان ذو حمية أي: ذو أنفة وغضب وتكبر وتعاظم، أي جعلوها ثابتة راسخة في قلوبهم، والجعل بمعنى الإلقاء (حمية الجاهلية) بدل من الحمية، قال مقاتل بن سليمان، ومقاتل بن حيان: قال أهل مكة: قد قتلوا أبناءنا وإخواننا ويدخلون علينا في منازلنا فتتحدث العرب أنهم قد دخلوا علينا على رغم أنفسنا، واللات والعزى لا يدخلونها علينا فهذه الحمية هي حمية الجاهلية، التي دخلت في قلوبهم.(13/113)
وقال الزهري: حميتهم أنفتهم من الإقرار للنبي صلى الله عليه وسلم بالرسالة وقال الخطيب: حمية الجاهلية هي التي مدارها مطلق المنع، سواء كان بحق أو باطل، فتمنع من الإذعان للحق، ومبناها على التشفي على مقتضى الغضب لغير الله، فتوجب تخطي حدود الشرع ولذلك أنفوا من دخول المسلمين مكة المشرفة لزيارة البيت العتيق الذي الناس فيه سواء.
(فأنزل الله سكينته) أي الطمأنينة والوقار (على رسوله وعلى المؤمنين) حيث لم يدخلهم ما دخل أهل الكفر من الحمية، وقيل: ثبتهم على الرضا والتسليم.
أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن سهل بن حنيف أنه قال يوم صفين: " اتهموا أنفسكم فلقد رأيتنا يوم الحديبية يعني الصلح الذي كان بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين المشركين ولو نرى قتالاً لقاتلنا فجاء عمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ألسنا على الحق؟ وهم على الباطل؟ أليس قتلانا في الجنة؟ وقتلاهم في النار؟ قال: بلى، قال ففيم نعطي الدنية في ديننا ونرجع ولما يحكم الله بيننا وبينهم؟ قال: يا ابن الخطاب إني رسول الله ولم يضيعني الله أبداً، فرجع متغيظاً فلم يصبر حتى جاء أبا بكر فقال: يا أبا بكر ألسنا على الحق وهم على الباطل؟ قال: بلى، قال: أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار: قال: بلى. قال: ففيم نعطي الدنية في ديننا؟ قال: يا ابن الخطاب إنه رسول الله ولم يضيعه الله أبداً فنزلت سورة الفتح، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عمر فأقرأه إياها، قال: يا رسول الله أفتح هو؟ قال: نعم ".
(وألزمهم) أي أختار لهم، فهو إلزام تشريف وإكرام (كلمة التقوى) من الشرك وهي لا إله إلا الله، كذا قال الجمهور؛ وزاد بعضهم(13/114)
محمد رسول الله وزاد بعضهم وحده لا شريك له، وقال الزهري: هي بسم الله الرحمن الرحيم، وذلك أن الكفار لم يقروا بها، وامتنعوا من كتابتها في كتاب الصلح الذي كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما ثبت ذلك في كتب الحديث والسير، فخص الله بهذه الكلمة المؤمنين وألزمهم بها والأول أولى، لأن كلمة التوحيد هي التي يتقى بها الشرك بالله، وقيل: كلمة التقوى هي الوفاء بالعهد والثبات عليه.
عن أُبيّ بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم: " وألزمهم كلمة التقوى قال لا إله إلا الله " أخرجه أحمد وابن جرير والدارقطني في الأفراد، وابن مردويه والبيهقي في الأسماء والصفات، والترمذي وقال حديث غريب لا نعرفه إلا من حديثه أي: الحسن بن قزعة، وكذا قال أبو زرعة، وأخرج ابن مردويه عن سلمة بن الأكوع مرفوعاً مثله، وعن علي بن أبي طالب مثله من قوله، ومن قول عمر ابن الخطاب نحوه، وعن ابن عباس نحوه، وعن مسور بن مخرمة ومروان نحوه، وروي عن جماعة من التابعين نحو ذلك.
(وكانوا أحق بها وأهلها) عطف تفسيري، أي وكان المؤمنون أحق بهذه الكلمة من الكفار، والمستأهلين لها دونهم في علم الله تعالى، لأن الله سبحانه أهلهم لدينه، وأختارهم لصحبه رسوله صلى الله عليه وسلم (وكان الله بكل شيء عليماً) أي من أمر الكفار وما كانوا يستحقونه من العقوبة وأمر المؤمنين وما كانوا يستحقونه من الخير.(13/115)
لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا (27) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (28) مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (29)(13/116)
لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا (27)
(لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا) أي: جعل رؤياه صادقة محققة ولم يجعلها أضغاث أحلام وإن كان تفسيرها لم يقع إلا بعد ذلك في عمرة القضاء قال الواحدي، قال المفسرون: إن الله سبحانه أرى نبيه صلى الله عليه وسلم في المدينة قبل أن يخرج إلى الحديبية كأنه هو وأصحابه حلقوا وقصروا، فأخبر بذلك أصحابه، ففرحوا وحسبوا أنهم سيدخلون مكة عامهم ذلك، فلما رجعوا من الحديبية ولم يدخلوا مكة قال المنافقون والله ما حلقنا ولا قصرنا ولا دخلنا المسجد الحرام فأنزل الله هذه الآية، وقيل إن الرؤيا كانت بالحديبية (1).
(بالحق) متعلق بصدق أي صدقة فيما رأى وفي كونه وحصر له صدقاً متلبساً بالحق، أي بالحكمة البالغة وذلك ما فيه من الإبتلاء والتمييز بين المؤمن الخالص وبين من في قلبه مرض، ويجوز أن يكون بالحق قسماً إما بالحق الذي هو نقيض الباطل، أو بالحق الذي هو من أسمائه سبحانه وجوابه (لتدخلن المسجد الحرام) في العام القابل، وعلى الأول هو جواب قسم
_________
(1) زاد المسير 443.(13/116)
محذوف (إن شاء الله) تعليق للعدة بالمشيئة لتعليم العباد لما يجب أن يقولوه، كما في قوله: (وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ) قال ثعلب: إن الله استثنى فيما يعلم ليستثني الخلق فيما لا يعلمون، وقيل: كأن الله سبحانه علم أنه يموت بعض هؤلاء الذين كانوا معه في الحديبية، فوقع الإستثناء لهذا المعنى، قاله الحسن بن الفضل، وقيل: معنى إن شاء الله كما شاء الله وقال أبو عبيدة: إن بمعنى إذ يعني إذ شاء الله حيث أرى رسوله ذلك.
(آمنين) حال من فاعل لتدخلن والشرط معترض، والمعنى: آمنين في حال الدخول، لا تخافون عدوكم أن يخرجكم في المستقبل (محلقين رؤوسكم ومقصرين) أي محلقاً بعضكم جميع الشعور، ومقصراً بعضكم، والحلق والتقصير خاص بالرجال، والحلق أفضل من التقصير، كما يدل على ذلك الحديث الصحيح في استغفاره صلى الله عليه وسلم للمحلقين في المرة الأولى والثانية، والقائل يقول له: وللمقصرين، فقال في الثالثة: وللمقصرين، وقد ورد في الدعاء للمحلقين والمقصرين في البخاري ومسلم وغيرهما أحاديث منها ما قدمنا الإشارة إليه وهو من حديث ابن عمر، وفيهما من حديث أبي هريرة أيضاًً (1).
(لا تخافون) مستأنف، وفيه زيادة تأكيد لما قد فهم من قوله آمنين فلا تكرار.
(فعلم ما لم تعلموا) معطوف على صدق، أي صدق رسوله الرؤيا، فعلم ما لم تعلموا من المصلحة في الصلح، لما في دخولكم في عام الحديبية من الضرر على المستضعفين من المؤمنين (فجعل من دون ذلك) أي دخولكم مكة كما أرى رسوله (فتحاً قريباً) ليقويكم به، فإنه كان موجباً
_________
(1) زاد المسير/444.(13/117)
لإسلام كثير، قال أكثر المفسرين: هو صلح الحديبية، وقال ابن زيد والضحاك: فتح خيبر، وتحققت الرؤيا في العام القابل، وقال الزهري: لا فتح في الإسلام كان أعظم من صلح الحديبية، ولقد دخل في تلك السنين في الإسلام مثل من كان قد دخل فيه قبل ذلك، بل أكثر، فإن المسلمين كانوا في سنة ست وهي سنة الحديبية ألفاً وأربعمائة وكانوا في سنة ثمان عشرة آلاف وقيل: هو فتح مكة.(13/118)
هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (28)
(هو الذي أرسل رسوله بالهدى) أي إرسالاً متلبساً بالهدى (ودين الحق) وهو الإسلام (ليظهره على الدين كله) أي: يغلبه ويعليه على كل الأديان، بنسخ ما كان حقاً، وإظهار فساد ما كان باطلاً، كما يفيده تأكيد الجنس، وقيل: ليظهر رسوله، والأول أولى، وقد كان ذلك بحمد الله، فإن دين الإسلام قد ظهر على جميع الأديان، وانقهر له كل أهل الملل، ولا ترى ديناً قط إلا وللإسلام دونه العز والغلبة، وقيل: هو عند نزول عيسى عليه السلام حين لا يبقى على وجه الأرض كافر، وقيل هو إظهاره بالحجج والآيات والأول أولى، وفي هذا تأكيد لما وعده من الفتح (وكفى بالله) الباء زائدة (شهيداً) على الإظهار الذي وعد المسلمين به، وعلى صحة نبوة نبيه صلى الله عليه وسلم.(13/118)
مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (29)
(محمد رسول الله) الجملة مبينة لما هو من جملة المشهود به (والذين معه) من المؤمنين، وقيل: هم أصحاب الحديبية، والأولى الحمل على العموم (أشداء على الكفار) أي غلاظ عليهم، كما يغلظ الأسد على فريسته، وهو جمع شديد لا تأخذهم بهم رأفة، لأن الله أمرهم بالغلظة عليهم، فلا يرحمونهم (رحماء بينهم) أي متوادون متعاطفون، كالوالد مع الولد، وهو جمع رحيم والمعنى أنهم يظهرون لمن خالف دينهم الشدة والصلابة، ولمن وافقهم الرحمة والرأفة، ونحوه قوله: (أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين).(13/118)
قال الحسن: بلغ من تشديدهم على الكفار أنهم كانوا يتحرزون من ثيابهم أن تلزق بثيابهم وتمسها، ومن أبدانهم أن تمس أبدانهم وتلزق بها، وبلغ من ترحمهم فيما بينهم أنه كان لا يرى مؤمن مؤمناً إلا صافحه وعانقه، ومن حق المسلمين في كل زمان أن يراعوا هذا التذلل، وهذا التعطف، فيشددوا على من ليس من دينهم، ويعاشروا إخوانهم المؤمنين في الإسلام، متعطفين بالبر والصلة وكف الأذى والاحتمال منهم، قرأ الجمهور برفع أشداء ورحماء على أنه خبر للموصول، وقرىء بنصبهما على الحال، أو على المدح، ويكون الخبر على هذه القراءة قوله: (تراهم ركعاً سجداً) أي تشاهدهم وتبصرهم حال كونهم راكعين ساجدين، أخبر عن كثرة صلاتهم ومداومتهم عليها.
(يبتغون فضلاً من الله ورضواناً) أي: يطلبون ثواب الله لهم، ورضاه عنهم، وفيه لطيفة أن المخلص بعمله لله يطلب أجره من الله، والمرائي بعمله لا ينبغي له أجر، وذكر بعضهم في الآية والذين معه أبا بكر الصديق أشداء على الكفار عمر بن الخطاب، رحماء بينهم عثمان بن عفان، تراهم ركعاً سجداً علي بن أبي طالب، يبتغون فضلاً من الله ورضواناً بقية الصحابة رضي الله تعالى عنهم أجمعين.
(سيماهم في وجوههم من أثر السجود) السيما: العلامة، وفيها لغتان المد والقصر، أي: يظهر علامتهم في جباههم من أثر السجود في الصلاة لكثرة التعبد بالليل والنهار، وقال الضحاك: إذا سهر الرجل أصبح مصفراً فجعل هذا هو السيما، وقال الزهري: مواضع السجود أشد وجوههم بياضاً، وقال مجاهد: هو الخشوع والتواضع وبالأول -أعنى كونه ما يظهر في الجباه من كثرة السجود- قال سعيد بن جبير ومالك، وقال ابن جريج: هو الوقار وقال الحسن: إذا رأيتهم رأيتهم مرضى وما هم بمرضى، وقيل: هو البهاء في الوجه وظهور الأنوار عليه، وبه قال سفيان الثوري، قال ابن عباس: أما إنه ليس الذي ترونه، ولكنه سيما الإسلام وسمته وخشوعه، وعنه قال: هو السمت الحسن.(13/119)
وعن أُبي بن كعب قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: سيماهم الخ النور يوم القيامة " أخرجه الطبراني في الأوسط والصغير، وابن مردويه، قال السيوطي: بسند حسن.
وعن ابن عباس قال: " بياض يغشى وجوههم يوم القيامة "، قال عطاء الخراساني: دخل في هذه الآية كل من حافظ على الصلوات الخمس، قال البقاعي ولا يظن أن من السيما ما يصنعه بعض المرائين من أثر هيئة السجود في جبهته فإن ذلك من سيماء الخوارج.
وعن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم: " إني لأبغض الرجل وأكرهه إذا رأيت بين عينيه أثر السجود "، ذكره الخطيب ولينظر في سنده.
(ذلك) أي ما تقدم من هذه الصفات الجليلة (مثلهم) أي وصفهم العجيب الشأن الذي وصفوا به (في التوراة) (ومثلهم) أي وصفهم الذي وصفوا به (في الإنجيل) تكرير ذكر المثل لزيادة تقريره، وللتنبيه على غرابته، وأنه جار مجرى الأمثال في الغرابة، قال ابن عباس: أي نعتهم مكتوب في التوراة والإنجيل قبل أن يخلق الله السموات والأرض.
(كزرع أخرج شطأه) كلام مستأنف، أي هم كزرع، وقيل: هو تفسير لذلك على أنه إشارة مبهمة لم يرد به ما تقدم من الأوصاف، وقيل هو خبر لقوله مثلهم في الإنجيل، أي: ومثلهم في الإنجيل كزرع قال الفراء: فيه وجهان.
إن شئت قلت ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل، يعني كمثلهم في القرآن فيكون الوقف على الإنجيل.
وإن شئت قلت ذلك مثلهم في التوراة ثم تبتدي ومثلهم في الإنجيل كزرع، قرأ الجمهور شطأه بسكون الطاء وقرىء بفتحها وهم سبعيتان وقرىء شطاه كعصاه. وقرىء شطه بغير همز، وكلها لغات قال الأخفش والكسائي:(13/120)
شطأه أي طرفه قال الفراء: شطأ الزرع فهو مشطىء إذا خرج قال الزجاج: أخرج شطأه أي نباته وقال قطرب: الشطء سوي السنبل، وعن الفراء: هو السنبل وقال الجوهري: شطء الزرع والنبات فراخه والجمع أشطاء، وقد أشطأ الزرع خرج شطؤه وقال أنس: نباته فروخه.
(فآزره) أي قواه وشده وأعانه وقيل إن المعنى أن الشطء قوى الزرع قاله السمين وقيل: إن الزرع قوى الشطء وبه قال النسفي وهو أنسب فإن العادة أن الأصل يتقوى بفروعه فهي تعينه وتقويه قرأ الجمهور فآزره بالمد وقرىء بالقصر وهما سبعيتان قال الفراء: أزرت فلاناً أزره أزراً إذا قويته (فاستغلظ) أي صار ذلك الزرع غليظاً بعد أن كان دقيقاً فهو من باب استحجر الطين، أو المراد المبالغة في الغلظة كما في استعصم ونحوه وإيثار الأول لأن بناء الساق على التدرج.
(فاستوى على سوقه) أي فاستقام على أعواده والسوق جمع ساق وقرىء سؤقه بالهمزة الساكنة (يعجب الزراع) أي يعجب هذا الزرع زراعه لقوته وحسن منظره وهنا تم المثل قاله السمين (قلت) وهذا مثل ضربه الله سبحانه لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وأنهم يكونون في الابتداء قليلاً ثم يزدادون ويكثرون ويقوون كالزرع فإنه يكون في الابتداء ضعفياً ثم يقوى حالاً بعد حال حتى يغلظ ساقه قال قتادة مثل أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم في الإنجيل مكتوب فيه، أنه سيخرج من قوم ينبتون نبات الزرع. يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، وعن عكرمة: أخرج شطأه بأبي بكر، فآزره بعمر، فاستغلظ بعثمان، فاستوى على سوقه بعلي، وهذا ونحوه ما تقدم ليس بتفسير للقرآن بل من لطائف الكلام.
وعن بعض الصحابة أنه لما قرأ هذه الآية قال: تم الزرع وقد دنا حصاده، قلت: وهذا المثل الذي أشار إليه القرآن موجود في إنجيل متى ولوقا وترجمته بالعربية انظروا إلى زارع خرج للزرع، وبينما هو يزرع سقط بعض(13/121)
البذر في الطريق فجاءت الطيور ولقطته وسقط بعضه على الصخر حيث لم يكن التراب كثيراً، وفي ساعته نبت لأنه لم يكن له في الأرض عمق، ولما طلعت الشمس احترق ويبس لأنه لم يكن له أصل وسقط بعضه في الشوك فنما الشوك وخنقه وسقط بعضه في الأرض الطيبة وأثمر بعضه مائة ضعف وبعضه ستين وبعضه ثلاثين، فمن كانت له أذن سامعة فليستمع انتهى.
وهذا هو معنى الآية الكريمة بعينه وهذا في بعض أمثالهم في الإنجيل وقد غفل عنه النصارى وأولوه بتأويل ضعيف وقالوا: إن هذا المثل فيمن يعمل الخير ويسمع الواعظ وجعلوه من التهذيب، ولم يفكروا في قوله: فمن كانت له أذن سامعة فليستمع فإن فيه من الكناية ما لا يوجد في غيره، وذلك أن الذين أصفهم لكم في مثل هذا ليسوا بحاضرين حتى تستطيعوا أن تروهم. لكنكم اسمعوا كلامي هذا إن كانت لكم أذن واعية، وحدثوا به وأودعوه صفحات الكتب حتى يبلغ الكلام أجله.
وقوله سقط بعضه على الطريق الخ إشارة إلى النواميس التي وقعت في أيدي الفلاسفة اليونانيين الذين قلوبهم لا قابلية لها، أن تكون ظرفاً لمفهوم النواميس، لأن النواميس لم تصدر عن المبدىء جل اسمه إلا على سبيل السذاجة، فلا تؤثر في قلوبهم، لأنها لا تستقيم فيها، فيأتي الشيطان ويخطفها من قلوبهم بشبهاته السفسطية، وقوله سقط بعضه على الصخرة الخ إشارة إلى النواميس التي وقعت في أيدي اليهود، لأن قلوبهم كانت أقسى من الصخرة في قبولها، فلم تكن قابلة لأخذها، بل كانوا يتفوهون بها إلى مدة يسيرة، وهي تحولها من أيديهم إلى أيدي النصارى، وذلك هو طلوع الشمس فلما لم يذعنوا لما آتاهم به عيسى زال ما كان قد ألقى إليهم من ذلك من قلوبهم، واضمحل، كما يزول النبت المزروع على الصخرة بحرارة الشمس.
وقوله وبعضه وقع في الشوك الخ إشارة إلى النواميس التي وقعت في أيدي النصارى، والشوك عبارة عن مشتبهات الأمور التي كانت تصدر عن(13/122)
عيسى عليه السلام، كإحياء الميت وإشفاء المريض وإعادة بصر الأكمه وسمع الأصم ونطق الأبكم التي هي من خوارق العادة، ونمو الشوك إزدياد هذه الأمور واختناقها زوال الاعتقاد بموضوعاتها، قوله: وسقط بعضه في الأرض الطيبة الخ برهان قاطع، ودليل لامع ساطع على النواميس التي وقعت في أيدي العرب على معرفة محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، لأن قلوبهم كانت ساذجة لائقة أن تكون لها ظرفاً.
قوله: وأثمر، المراد بمطلق الإثمار أبو بكر، بعضه مائة ضعف عمر، وبعضه ستون عثمان، وبعضه ثلاثون علي، ونسبة الإثمار إلى أبي بكر لاستقلال الخلافة في أيامه، ونسبة مائة إلى عمر لنمو الإسلام في عهده، ونسبة ستين إلى عثمان لإنخفاض ضعف ذلك النمو، الذي حصل في أيام عمر، ونسبة ثلاثين إلى علي لأنه هو آخر الخلفاء وخاتمهم.
ومصداق لقوله صلى الله عليه وسلم: " الخلافة بعدي ثلاثون عاماً " (1)، وفيه مطابقة مع ما روي عن عكرمة في قوله: أخرج زرعه بأبي بكر فآزره بعمر، فاستغلظ بعثمان فاستوى على سوقه بعلي، وقد تقدم.
وتكرره في لوقا ضرب من لطيف التأكيد، فإن قيل: لم لا يحمل على ما حمله عليه النصارى، فيكون المراد بالزراع عمل الخير، وبالإثمار مطلق الجزاء، قلت إنه لا يجوز الحمل على هذا المعنى لوجوه:
الأول: أنا قد وجدنا ذلك في القرآن والمطابقة لازمة.
والثاني: أن التعريف يفيد العهد، والعهد يفيد التخصيص والتخصيص
_________
(1) مسلم.(13/123)
يباين العموم فيفيد ما ذكرته فلا يفيد ذلك وهذا برهان مقنع لمن كانت له أذن واعية من النصارى والمسلمين. ويجوز أن يراد بالزراع الشارع صلى الله عليه وسلم، وبالأرض الأمة، وبالبذر الإيمان، على حسب مراتب المؤمنين، وبالنوع الأخير خيار الأمة على حسب مراتبهم ثم ذكر سبحانه علة تكثيره لأصحاب نبيه صلى الله عليه وسلم، وتقويته لهم وتشبيههم بالزرع فقال:
(ليغيظ بهم الكفار) أي إنما كثرهم وقواهم ليكونوا غيظاً للكفار واللام متعلقة بمحذوف، أي فعل ذلك ليغيظ قيل: هو قول عمر بن الخطاب لأهل مكة بعد ما أسلم: لا يعبد الله سراً بعد اليوم، وقال مالك بن أنس: من أصبح وفي قلبه غيظ على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد أصابته هذه الآية وقد وردت أحاديث كثيرة في فضل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على الخصوص والعموم، ليس هذا محل بسطها.
(وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجراً عظيماً) أي وعد سبحانه هؤلاء الذين مع محمد صلى الله عليه وسلم أن يغفر ذنوبهم، ويجزل أجرهم، بإدخالهم الجنة التي هي أكبر نعمة، وأعظم منة، ومن هنا لبيان الجنس لا للتبعيض وهذه الآية ترد قول الروافض أنهم كفروا بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم إذ الوعد لهم بالمغفرة والأجر العظيم إنما يكون لو أن ثبتوا على ما كانوا عليه في حياته صلى الله عليه وسلم، قال الجلال المحلي: وهما أي المغفرة والأجر لمن بعدهم أيضاًً في آيات أي بعد الصحابة من التابعين ومن بعدهم إلى يوم القيامة، كقوله تعالى: سابقوا إلى مغفرة من ربكم إلى قوله أعدت للذين آمنوا بالله ورسله ونحو ذلك من الآيات.
(خاتمة) قد جمعت هذه الآية وهي: (محمد رسول الله) إلى آخر السورة جميع حروف المعجم، وفي ذلك بشارة تلويحيية مع ما فيها من البشارة التصريحيية باجتماع أمرهم، وعلو نصرهم، رضي الله تعالى عنهم وحشرنا(13/124)
معهم وهذا من لطائف النظم القرآني، وهذا آخر القسم الأول من القرآن وهو المطول وقد ختم كما ترى بسورتين هما في الحقيقة للنبي صلى الله عليه وسلم وحاصلهما الفتح بالسيف والنصر على من قاتله ظاهراً، كما ختم القسم الثاني المفصل بسورتين هما نصرة له صلى الله عليه وسلم بالحال على من قصده بالضر باطناً.(13/125)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الحجرات
(ثماني عشرة آية وهي مدنية)
قال القرطبي: بالإجماع قال ابن عباس وابن الزبير: إنها نزلت بالمدينة.(13/127)
بسم الله الرحمن الرحيم
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (2) إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (3) إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (4) وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)(13/129)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1)
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) ذكر هذا اللفظ في هذه السورة خمس مرات، والمخاطب فيه المؤمنون، والمخاطب به أمر أو نهي، وذكر فيها يا أيها الناس مرة والخطاب فيها يعم المؤمنين والكافرين، كما أن المخاطب به وهو قوله إنا خلقناكم من ذكر وأنثى يعمهما، فناسب فيها ذكر الناس (لا تقدموا بين يدي الله ورسوله) قرأ الجمهور بتشديد الدال مكسورة وفيه وجهان:
أحدهما: أنه متعد، وحذف مفعوله لقصد التعميم، أو ترك المفعول للقصد إلى نفس الفعل كقولهم: هو يعطي ويمنع.
والثاني: أنه لازم، نحو وجه وتوجه، ويعضده قراءة تقدموا بفتح التاء والقاف والدال، قال الواحدي: قدم ههنا بمعنى تقدم وهو لازم، قال أبو عبيدة العرب تقول: لا تقدم بين يدي الإمام وبين يدي الأب، أي: لا تعجل بالأمر دونه، والنهي لأن المعنى لا تقدموا قبل أمرهما ونهيهما، وبين يدي الإمام عبارة عن الأمام لا بين يدي الإنسان، وقرىء بضم التاء وكسر الدال من أقدم أي لا تقدموا على شيء ومعنى الآية لا تقطعوا أمراً دون الله ورسوله ولا تعجلوا به.
وقيل: معنى بين يدي فلان بحضرته، لأن ما يحضره الإنسان فهو بين(13/129)
يديه وقيل: لا تقولوا بخلاف الكتاب والسنة، وهو الأظهر والأشمل وجرت هذه العبارة أي بين يدي الله ورسوله هنا على سنن من المجاز وهو الذي يسميه أهل البيان تمثيلاً أي استعارة تمثيلية، والغرض تصوير كمال الهجنة وتقبيح قطع الحكم بغير إذن الله ورسوله أو المراد بين يدي رسول الله وذكر لفظاً لله تعظيماً للرسول وإشعاراً بأنه من الله بمكان يوجب إجلاله وعلى هذا فلا استعارة، وإليه يميل كلام المحلي.
وقال الشهاب: في هذا الكلام تجوزان، أحدهما في: بين اليدين، فإن حقيقته ما بين العضوين، فتجوز بهما عن الجهتين المقابلتين لليمين والشمال القريبتين منه، بإطلاق اليدين على ما يجاورهما ويحاذيهما، فهو من المجاز المرسل، ثم استعيرت الجملة وهي التقدم بين اليدين استعارة تمثيلية للقطع بالحكم بلا اقتداء ومتابعة لمن تلزمه متابعته، والمعنى كما قال الخازن: لا تعجلوا بقول أو فعل قبل أن يقول رسول الله، أو قبل أن يفعل، وفي البيضاوي، المعنى: لا تقطعوا أمراً قبل أن يحكم الله ورسوله به انتهى؛ وقطع الأمر الجزم به، والجرأة على ارتكابه من غير إذن من له الإذن.
(واتقوا الله) في كل أموركم ويدخل تحتها الترك للتقدم بين يدي الله ورسوله دخولاً أولياً، ثم علل ما أمر به من التقوى بقوله: (إن الله سميع) لكل مسموع (عليم) بكل معلوم.
عن عبد الله بن الزبير قال: قدم ركب من بني تميم على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال أبو بكر: أمر القعقاع بن معبد، وقال عمر أمر الأقرع بن حابس، فقال أبو بكر: ما أردت إلا خلافي فقال عمر: ما أردت خلافك فتماريا حتى ارتفعت أصواتهما فأنزل الله (يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله)، حتى انقضت الآية " (1)، أخرجه البخاري وغيره قال ابن عباس نهوا أن يتكلموا بين يدي كلامه، وهذا يشمل معارضة السنة والكتاب بالرأي، والتقليد أيضاًً.
_________
(1) البخاري 8/ 454.(13/130)
وعن عائشة قالت: " لا تصوموا قبل أن يصوم نبيكم " (1).
وأخرج البخاري في تاريخه عنها قالت: " كان أناس يتقدمون بين يدي رمضان بصيام يعني يوماً أو يومين فأنزل الله هذه الآية " ..
_________
(1) السيوطي في الدر 6/ 84.(13/131)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (2)
(يا أيها الذين آمنوا) في إعادة النداء فوائد، منها أن في ذلك بيان زيادة الشفقة على المسترشد كقول لقمان لابنه: (يا بني لا تشرك بالله)، لأن النداء تنبيه للمنادى، ليقبل على استماع الكلام، ويجعل باله منه، فإعادته تفيد تجدد ذلك، ومنها أن لا يتوهم أن المخاطب ثانياً غير المخاطب أولاً، ومنها أن يعلم أن كل واحد من الكلامين مقصود، وليس الثاني تأكيداً للأول.
(لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي) يحتمل أن المراد حقيقة رفع الصوت، لأن ذلك يدل على قلة الإحتشام، وترك الاحترام، لأن خفض الصوت وعدم رفعه من لوازم التعظيم والتوقير، ويحتمل أن يكون المراد المنع من كثرة الكلام، ومزيد اللغط، والأول أولى، والمعنى: لا ترفعوا أصواتكم إلى حد يكون فوق ما يبلغه صوت النبي صلى الله عليه وسلم، قال المفسرون: المراد من الآية تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم وتوقيره، وأن لا ينادوه كما ينادي بعضهم بعضاً وهذا نهي عن قول، كما أن قوله: (لا تقدموا) نهي عن فعل.
عن أبي بكر الصديق قال: " لما أنزلت هذه الآية قلت: يا رسول الله، والله لا أكلمك إلا كأخي السرار " وفي سنده حصين بن عمر وهو ضعيف، ولكنه يؤيده.
ما روي عن أبي هريرة قال: " لما أنزلت:(13/131)
إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (3)
(إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله) قال أبو بكر: والذي أنزل عليك الكتاب يا رسول الله لا أكلمك إلا كأخي السرار حتى ألقى الله ".(13/131)
وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما. عن أنس قال: " لما نزلت هذه الآية إلى قوله: (وأنتم لا تشعرون) وكان ثابت بن قيس بن شماس رفيع الصوت فقال: أنا الذي كنت أرفع صوتي على رسول الله صلى الله عليه وسلم حبط عملي أنا من أهل النار وجلس في بيته حزيناً ففقده رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانطلق بعض القوم إليه فقالوا: فقدك رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لك؟ فقال: أنا الذي أرفع صوتي فوق صوت النبي، وأجهر له بالقول، حبط عملي أنا من أهل النار، فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فأخبروه بذلك، فقال: لا بل هو من أهل الجنة، فلما كان يوم اليمامة قتل "، وفي الباب أحاديث بمعناه وعن ابن مسعود قال: نزلت في ثابت بن قيس بن شماس (1).
(ولا تجهروا له بالقول) إذا كلمتموه (كجهر بعضكم لبعض) أي كما تعتادونه من الجهر بالقول إذا كلم بعضكم بعضاً، قال الزجاج: أمرهم الله سبحانه بتجليل نبيه صلى الله عليه وسلم. وأن يغضوا أصواتهم ويخاطبوه بالسكينة والوقار. وقيل: المراد بقوله: ولا تجهروا له بالقول لا تقولوا: يا محمد، يا أحمد، ولكن يا نبي الله، ويا رسول الله، توقيراً له، وليس المراد برفع الصوت وبالجهر بالقول هو ما يقع على طريقة الإستخفاف، فإن ذلك كفر، وإنما المراد أن يكون الصوت في نفسه غير مناسب لما يقع في مواقف من يجب تعظيمه وتوقيره، والحاصل أن النهي هنا وقع عن أمور:
الأول: عن التقديم بين يديه، بما لم يأذن به من الكلام.
والثاني: عن رفع الصوت البالغ إلى حد يكون فوق صوته سواء كان في خطابه أو خطاب غيره.
والثالث: ترك الجفا في مخاطبته، ولزوم الأدب في محاورته، لأن المقاولة المجهورة إنما تكون بين الأكفاء، الذين ليس لبعضهم على بعض مزية توجب إحترامه وتوقيره.
_________
(1) البخاري 8/ 452.(13/132)
ثم علل سبحانه ما ذكره بقوله: (أن تحبط أعمالكم) قال الزجاج: أي لأن تحبط يعني فتحبط، فاللام المقدرة لام الصيرورة، وهذه العلة تصح أن تكون علة للنهي، أي: نهاكم الله عن الجهر خشية أو كراهة أن تحبط، أو علة للمنهي أي: لا تفعلوا الجهر، فإنه يؤدي إلى الحبوط، فكلام الزجاج ينظر إلى الوجه الثاني لا إلى الأول وجملة:
(وأنتم لا تشعرون) في محل نصب على الحال، وفيه تحذير شديد. ووعيد عظيم، قال الزجاج: وليس المراد قوله: وأنتم لا تشعرون يوجب أن يكفر الإنسان وهو لا يعلم، فكما لا يكون الكافر مؤمناً إلا باختياره الإيمان على الكفر، كذلك لا يكون الكافر كافراً من حيث لا يعلمه.
ثم رغب الله سبحانه في امتثال أمره فقال:(13/133)
إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (4)
(إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله) إجلالاً له وتعظيماً، وأصل الغض النقص من كل شيء، ومنه نقص الصوت (أولئك الذين امتحن الله قلوبهم) قال الفراء: أخلص قلوبهم (للتقوى) كما يمتحن الذهب بالنار، فيخرج جيده من رديئه، ويسقط خبيثه، وبه قال مقاتل ومجاهد وقتادة، وقال الأخفش: اختصها للتقوى، وقال الواحدي: تقدير الكلام امتحن الله قلوبهم فأخلصها للتقوى، فحذف الإخلاص لدلالة الامتحان عليه، وهذا الوجه أنسب لأن الكلام وارد في مدح أولئك السادة، الكرام، أو في التعريض بمن ليسوا على وصفهم، ومن ثم قال في فاصلة الآية السابقة: (وأنتم لا تشعرون) وفي فاصلة اللاحقة: (أكثرهم لا يعقلون)، وقيل: طهرها من كل قبيح، وقيل وسعها وشرحها من محنت الأديم إذا وسعته وقال أبو عمر: وكل شيء جهدته فقد محنته، واللام متعلقة بمحذوف أي: صالحة للتقوى، كقولك: أنت صالح لكذا، أو للتعليل كقولك: جئت لأداء الواجب أي: ليكون مجيئي سبباً لأدائه.
(لهم مغفرة وأجر عظيم) خبر آخر لأولئك أو مستأنفة لبيان ما أعد الله لهم في الآخرة، وهو الظاهر.(13/133)
(إن الذين ينادونك من وراء الحجرات) هم جفاة بني تميم، كما سيأتي بيانه، ووراء الحجرات خارجها وخلفها، أو قدامها، والحجرات جمع حجرة كالغرفات جمع غرفة، والظلمات جمع ظلمة، وقيل جمع حجر والحجر جمع حجرة فهو جمع الجمع، والحجرة الرقعة من الأرض المحجورة بحائط يحوط عليها، وهي فعلة بمعنى مفعولة، قرأ الجمهور الحجرات بضم الجيم، وقرىء بفتحها تخفيفاً وقرىء بإسكانها، وهي لغات ومناداتهم من وراء الحجرات إما بأنهم أتوها حجرة حجرة فنادوه من ورائها، أو بأنهم تفرقوا على الحجرات متطلبين له، فنادى كل واحد على حجرة و (من) في (من وراء) لابتداء الغاية، ولا وجه للمنع من جعلها لهذا المعنى.
(أكثرهم لا يعقلون) لغلبة الجهل عليهم، وكثرة الجفاء في طباعهم، والمراد بالأكثر الكل، لأن العرب قد تفعل هكذا.
عن الأقرع بن حابس أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: " يا محمد أخرج إلينا فلم يجبه فقال: يا محمد إن حمدي زين، وإن ذمي شين، فقال: ذلك الله، فأنزل الله (إن الذين) الخ " (1) أخرجه أحمد وابن جرير والبغوي والطبراني وابن مردويه، قال السيوطي بسند صحيح، قال ابن منيع: لا أعلم روى الأقرع مسنداً غير هذا.
وعن البراء بن عازب في الآية، قال: جاء رجل فقال يا محمد إن حمدي زين وإن ذمي شين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ذاك الله أخرجه الترمذي وحسنه.
وعن زيد بن أرقم قال: " اجتمع ناس من العرب فقالوا: انطلقوا إلى هذا الرجل، فإن يك نبياً فنحن أسعد الناس به، وإن يك ملكاً نعش بجناحه، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته بما قالوا فجاؤوا إلى حجرته فجعلوا ينادونه: يا محمد فأنزل الله هذه الآية فأخذ رسول الله صلى
_________
(1) رواه أحمد.(13/134)
الله عليه وسلم بأدني وجعل يقول لقد صدق الله قولك يا زيد " أخرجه ابن راهويه؛ ومسدد وأبو يعلى والطبراني وابن مردويه قال السيوطي: بإسناد حسن، وفي الباب أحاديث.
قال النسفي: وورود الآية على النمط الذي وردت عليه فيه ما لا يخفى من إجلال محل رسول الله صلى الله عليه وسلم، منها التسجيل على الصائحين به السفه والجهل ومنها إيقاع لفظ الحجرات كناية عن موضع خلوته، ومقيله مع بعض نسائه ومنها التعريف باللام دون الإضافة.
ولو تأمل متأمل من أول هذه السورة إلى آخر هذه الآية لوجدها كذلك، فتأمل كيف ابتدأ بإيجاب أن تكون الأمور التي تنتمي إلى الله ورسوله متقدمة على الأمور كلها من غير تقييد، ثم أردف ذلك النهي عما هو من جنس التقديم من رفع الصوت والجهر. كأن الأول بساط للثاني، ثم أثنى على الغاضين أصواتهم ليدل على عظم موقعه عند الله، ثم عقبه بما هو أطم، وهجنته أتم، من الصياح برسول الله صلى الله عليه وسلم في حال خلوته من وراء الجدر كما يصاح بأهون الناس قدراً لينبه على فظاعة ما جسروا عليه لأن من رفع الله قدره عن أن يجهر له بالقول كان صنيع هؤلاء من المنكر الذي بلغ من التفاحش مبلغاً انتهى.(13/135)
وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)
(ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم لكان خيراً لهم) أي: لو انتظروا خروجك، ولم يعجلوا بالمناداة لكان أصلح لهم في دينهم ودنياهم، لما في ذلك من رعاية حسن الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورعاية جانبه الشريف والعمل بما يستحقه من التعظيم والتبجيل، وقيل: إنهم جاؤوا شفعاء في أسارى فأعتق رسول الله صلى الله عليه وسلم نصفهم، وفادى نصفهم، ولو صبروا لأعتق الجميع ذكر معناه مقاتل. وقيل: يفيد أنه لو خرج ولم يكن خروجه إليهم ولا لأجلهم للزمهم أن يصبروا إلى أن يعلموا أن خروجه إليهم (والله غفور رحيم) كثير المغفرة والرحمة بليغهما، لا يؤاخذ مثل هؤلاء فيما فرط منهم من إساءة الأدب إن تابوا وأنابوا.(13/135)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ (6) وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (8) وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10)(13/136)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ (6)
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا) قرأ الجمهور من التبين وقرىء فتثبتوا من التثبت، والمراد من التبين التعرف والتفحص ومن التثبت الإفادة وعدم العجلة، والتبصر بالأمر الواقع، والخبر الوارد حتى يتضح ويظهر، وفي تنكير الفاسق والنبأ شياع في الفساق والأنباء كأنه قال: أي فاسق جاءكم بأي نبأ فتوقفوا فيه، وتطلبوا بيان الأمر وانكشاف الحقيقة، ولا تعتمدوا على قول الفساق لأن من لا يتحامى جنس الفسوق لا يتحامى الكذب الذي هو نوع منه والفسوق الخروج من الشيء يقال فسقت الرطبة عن قشرها، ومن مقلوبه فقست البيضة إذا كسرتها، وأخرجت ما فيها من بياضها وصفرتها؛ ومن مقلوبه أيضاًً فقست الشيء إذا أخرجته من يد مالكه مغتصباً له، عليه، ثم استعمل في الخروج عن القصد بركوب الكبائر قال المفسرون إن هذه الآية نزلت في الوليد بن عقبة بن أبي معيط كما سيأتي بيانه.
(أن) أي كراهة أن أو لئلا (تصيبوا) بالقتل والأسر (قوماً بجهالة) لأن الخطأ ممن لم يتبين الأمر ولم يتثبت فيه هو الغالب، وهو جهالة،(13/136)
لأنه لم يصدر عن علم والمعنى متلبسين بجهالة بحالهم (فتصبحوا على ما فعلتم) بهم من إصابتهم بالخطأ (نادمين) على ذلك مغتمين له، مهتمين به، وفي الآية دليل على قبول خبر الواحد العدل، لأنا لو توقفنا في خبره لسوينا بينه وبين الفاسق، ولخلا التخصيص به عن الفائدة.
عن الحارث بن ضرار الخزاعي قال: " قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعاني إلى الإسلام فدخلت فيه، وأقررت به، ودعاني إلى الزكاة فأقررت بها وقلت: يا رسول الله أرجع إلى قومي فأدعوهم إلى الإسلام، وأداء الزكاة فمن استجاب لي جمعت زكاته، وترسل إلي يا رسول الله رسولاً إبان كذا وكذا ليأتيك ما جمعت من الزكاة، فلما جمع الحارث الزكاة ممن استجاب له وبلغ الإبان الذي أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبعث إليه احتبس الرسول فلم يأت فظن الحارث أن قد حدث فيه سخط من الله ورسوله، فدعا سروات قومه فقال لهم: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقت لي وقتاً يرسل إليّ رسوله، ليقبض ما كان عندي من الزكاة، وليس من رسول الله الخلف، ولا أرى حبس رسوله إلا من سخطه فانطلقوا فنأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم الوليد بن عقبة إلى الحارث ليقبض ما عنده مما جمع من الزكاة، فلما أن سار الوليد حتى بلغ بعض الطريق فرق فرجع، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن الحارث منعني الزكاة وأراد قتلي فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم البعث إلى الحارث فأقبل الحارث بأصحابه حتى إذا استقل البعث وفصل عن المدينة لقيهم الحارث فقالوا: هذا الحارث فلما غشيهم قال لهم: إلى من بعثتم؟ قالوا: إليك قال: ولم؟ قالوا: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إليك الوليد بن عقبة فزعم أنك منعته الزكاة وأردت قتله، قال: لا والذي بعث محمداً بالحق ما رأيته بتة، ولا أتاني، فلما دخل الحارث على رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: منعت(13/137)
الزكاة وأردت قتل رسولي؟ قال: لا والذي بعثك بالحق ما رأيته، ولا رآني وما أقبلت إلا حين احتبس عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم خشيت أن تكون كانت سخطة من الله ورسوله فنزلت (يا أيها الذين آمنوا) إلى قوله: (حكيم) " (1) أخرجه أحمد وابن أبي حاتم، والطبراني، وابن منده وابن مردويه، قال السيوطي: بسند جيد قال ابن كثير هذا من أحسن ما روي في سبب نزول الآية.
وقد رويت روايات كثيرة متفقة على أنه سبب نزول الآية، وأنه المراد بها وإن اختلفت القصص ثم وعظهم الله سبحانه فقال:
_________
(1) رواه أحمد.(13/138)
وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7)
(واعلموا أن فيكم رسول الله) فلا تقولوا قولاً باطلاً ولا تتسرعوا عند وصول الخبر إليكم من غير تبين، فإن الله يخبره فينهتك ستر الكاذب، أو فارجعوا إليه واطلبوا رأيه، ثم قال مستأنفاً: (لو يطيعكم في كثير من الأمر) أي: مما تخبرونه به من الأخبار الباطلة، وتشيرون به عليه من الآراء التي ليست بصواب (لعنتم) أي: لوقعتم في العنت وهو التعب والجهد والإثم والهلاك، ولكنه لا يطيعكم في غالب ما تريدون قبل وضوح وجهه له، ولا يسارع إلى العمل بما يبلغه قبل النظر فيه.
عن أبي سعيد الخدري أنه قرأ هذه الآية وقال: " هذا نبيكم يُوحى إليه، وخيار أئمتكم لو أطاعهم في كثير من الأمر لعنتوا، فكيف بكم اليوم؟ " أخرجه الترمذي، وقال حديث حسن صحيح غريب.
(ولكن الله حبب إليكم الإيمان) أي جعله أحب الأشياء إليكم أو محبوباً لديكم، فلا يقع منكم إلا ما يوافقه ويقتضيه من الأمور الصالحة،(13/138)
وترك التسرع في الأخبار وعدم التثبت فيها قيل: والمراد بهؤلاء من عدا الأولين لبيان براءتهم عن أوصاف الأولين، والظاهر إنه تذكير للكل بما يقتضيه الإيمان، وتوجيه محبته التي جعلها الله في قلوبهم.
(وزينَّه) أي حسنه بتوفيقه وقربه منكم وأدخله (في قلوبكم) حتى جريتم على ما يقتضيه في الأقوال والأفعال (وكرَّه إليكم الكفر والفسوق والعصيان) أي: جعل كل ما هو من جنس هذه الثلاثة مكروهاً عندكم وأصل الفسق الخروج عن الطاعة، والعصيان جنس ما يعصى الله به، وقيل: أراد بذلك الكذب خاصة والأول أولى وفي هذه الآية لطيفة وهو أن الله سبحانه وتعالى ذكر هذه الثلاثة الأشياء في مقابلة الإيمان الكامل وهو ما اجتمع فيه ثلاثة أمور، إقرار باللسان، وتصديق بالجنان وعمل بالأركان، فكراهة الكفر في مقابلة محبة الإيمان وتزيينه في القلوب هو التصديق بالجنان، والفسوق وهو الكذب، في مقابلة الإقرار باللسان، والعصيان في مقابلة العمل بالأركان.
(أولئك) الموصوفون بما ذكر (هم الراشدون) يعني أصابوا طرق الحق، ولم يميلوا عن الاستقامة، والرشد الاستقامة على طريق الحق مع تصلب، من الرشادة وهي الصخرة وفيه التفات عن الخطاب(13/139)
فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (8)
(فضلاً من الله ونعمة) أي لأجل فضله وإنعامه والمعنى إنه حبب إليكم ما حبب وكره إليكم ما كره لأجل فضله وإنعامه أو جعلكم راشدين لأجل ذلك، وقيل التقدير تبتغون فضلاً ونعمة (والله عليم) بكل معلوم (حكيم) في صنعه وفي كل ما يقضي به بين عباده ويقدره لهم.(13/139)
وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9)
(وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا) قرأ الجمهور بالجمع باعتبار كل فرد من أفراد الطائفتين كقوله: (هذان خصمان اختصموا) وقال النسفي: حملاً على المعنى، لأن الطائفتين في معنى القوم والناس وثنى في قوله: (فأصلحوا بينهما) نظراً إلى اللفظ.(13/139)
عن أنس قال: " قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: لو أتيت عبد الله ابن أبيّ فانطلق إليه وركب حماراً، وانطلق المسلمون يمشون، وهي أرض سبخة، فلما انطلق إليه قال: إليك عني، فوالله لقد آذاني ريح حمارك، فقال رجل من الأنصار: والله لحمار رسول الله صلى الله عليه وسلم أطيب ريحاً منك، فغضب لعبد الله رجال من قومه، فغضب لكل منهما أصحابه، وكان بينهم ضرب بالجريد والأيدي والنعال، فنزلت (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا) " الآية (1) أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما.
وقد روي نحو هذا من وجوه أخر، قال ابن عباس كان قتال بالنعال والعصي، فأمرهم أن يصلحوا بينهما وعن عائشة قالت: ما رأيت مثل ما رغبت عنه هذه الأمة في هذه الآية، وقيل المراد من الطائفتين الأوس والخزرج.
(فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ) البغي التعدي بغير حق، والامتناع من الصلح الموافق للصواب، والاستطالة والظلم، والفيء الرجوع، وقد سمي به الظل والغنيمة، لأن الظل يرجع بعد نسخ الشمس، والغنيمة ما يرجع من أموال الكفار إلى المسلمين، والمعنى أنه إذا تقاتل فريقان من المسلمين، فعلى المسلمين أن يسعوا بالصلح بينهم، ويدعوهم إلى حكم الله. فإن حصل بعد ذلك التعدي من إحدى الطائفتين على الأخرى، ولم تقبل الصلح ولا دخلت فيه، ولم تتأثر بالنصيحة وأبت الإجابة إلى حكم الله تعالى، كان على المسلمين أن يقاتلوا هذه الطائفة الباغية، حتى ترجع إلى أمر الله وحكمه وكتابه، وقيل: إلى طاعته في الصلح الذي أمر به، وحتى للغاية، وقيل بمعنى كي، فتكون للتعليل، والأول كما قال بعضهم هو الظاهر المناسب لسياق الآية.
_________
(1) رواه البخاري.(13/140)
عن ابن عباس في الآية قال: " إن الله أمر النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين إذا اقتتلت طائفة من المؤمنين أن يدعوهم إلى حكم الله، وينصف بعضهم عن بعض، فإذا أجابوا حكم فيهم بكتاب الله حتى ينصف المظلوم، فمن أبى منهم أن يجيب فهو باغ، وحق على الإمام أن يقاتلهم حتى يفيئوا إلى أمر الله، ويقروا بحكم الله "، وعن ابن عمر قال ما وجدت في نفسي من شيء ما وجدت في نفسي من هذه الآية أني لم أقاتل هذه الفئة الباغية كما أمرني الله. والحاصل أن حكم الفئة الباغية وجوب قتالها ما قاتلت، فإذا كفت وقبضت عن الحرب أيديها تركت، والمراد بأمر الله الصلح وزوال الشحناء.
(فإن فاءت) أي فإن رجعت تلك الطائفة الباغية عن بغيها إلى الحق، وأجابت الدعوات إلى كتاب الله وحكمه والرضا بما فيه (فأصلحوا بينهما بالعدل) أي بالنصح والدعاء إلى حكم الله، ولا تكتفوا بمجرد متاركتهما عسى أن يكون بينهما قتال في وقت آخر، يعني فعلى المسلمين أن يعدلوا بين الطائفتين في الحكم، ويتحروا الصواب المطابق لحكم الله. ويأخذوا على يد الطائفة الظالمة حتى تخرج من الظلم. وتؤدي ما يجب عليها للأخرى. ثم أمر الله سبحانه المسلمين أن يعدلوا في كل أمورهم بعد أمرهم بهذا العدل الخاص بالطائفتين المتقاتلين فقال:
(وأقسطوا) أي: اعدلوا وهو أمر باستعمال القسط على طريق العموم بعد ما أمر به في إصلاح ذات البين والقسط الجور، والقسط العدل، والفعل منه أقسط الرباعي وهمزته للسلب أي أزال القسط، وهو الجور بخلاف قسط الثلاثي فمعناه الجور، يقال: قسط الرجل إذا جار، وأقسط إذا عدل، وهذا هو المشمهور خلافاً للزجاج في جعلهما سواء (إن الله يحب المقسطين) أي: العادلين، ومحبته لهم تستلزم مجازاتهم بأحسن الجزاء.
وجملة(13/141)
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10)
(إنما المؤمنون إخوة) مستأنفة مقررة لما قبلها من الأمر بالإصلاح، والمعنى: أنهم راجعون إلى أصل واحد، وهو الإيمان، قال(13/141)
الزجاج: الدين يجمعهم فهم إخوة إذا كانوا متفقين في دينهم فرجعوا بالاتفاق في الدين إلى أصل النسب، لأنهم لآدم وحواء، قال بعضهم:
أبي الإسلام لا أب لي سواه ... إذا افتخروا بقيس أو تميم
ولنعم ما قيل:
القوم إخوان صدق بينهم سبب ... من المودة لم يعدل به نسب
وذلك أن الإيمان قد عقد بين أهله من السبب القريب والنسب اللاصق ما إن لم يفضل الأخوة لم ينقص عنها ثم قد جرت العادة على أنه إذا نشأ مثل ذلك بين الأخوين ولاداً لزم السائر أن يتناهضوا في رفعه وإزاحته بالصلح بينهما، فالأخوة في الدين أحق بذلك.
(فأصلحوا بين أخويكم) يعني بين كل مسلمين تخاصما وتقاتلا، وفيه وضع الظاهر موضع المضمر مضافاً إلى المأمورين بالإصلاح، للمبالغة في التقرير والفاء للإيذان بأن الأخوة الدينية موجبة للإصلاح أو تخصيص الاثنين بالذكر لإثبات وجوب الإصلاح فيما فرقهما بطريق الأولى لأنهما أقل من يقع بينهما الشقاق، فإذا لزمت المصالحة بين الأقل كانت بين الأكثر ألزم لأن الفساد في شقاق الجمع أكثر منه في شقاق الاثنين، قرأ الجمهور على التثنية، قال أبو علي الفارسي في توجيهها: أراد بالأخوين الطائفتين، لأن لفظ التثنية قد يرد ويراد به الكثرة، وقال أبو عبيدة: أي أصلحوا بين كل أخوين، وقرىء إخوانكم بالجمع وقرىء أخوتكم بالفوقية على الجمع أيضاًً.
(واتقوا الله) في كل أموركم (لعلكم ترحمون) بسبب التقوى، والترجي باعتبار المخاطبين أي راجين أن يرحموا، أو لعل من الله في هذا المقام(13/142)
إطماع من الكريم الرحيم إذ لإطماع فعل ما يطمع فيه لا محالة وفي هذه الآية دليل على قتال الفئة الباغية إذا تقرر بغيها على الإمام أو على أحد من المسلمين، وعلى فساد قول من قال بعدم الجواز مستدلاً بقوله صلى الله عليه وسلم " قتال المسلم كفر " فإن المراد بهذا الحديث وما ورد في معناه قتال المسلم الذي لم يبغ، قال ابن جرير، لو كان الواجب في كل اختلاف يكون بين فريقين من المسلمين الهرب منه ولزوم المنازل، لما أقيم حق ولا أبطل باطل، ولوجد أهل النفاق والفجور سبباً إلى استحلال كل ما حرم الله من أموال المسلمين، وسبي نسائهم، وسفك دمائهم، بأن يتحزبوا عليهم، ويكف المسلمون أيديهم عنهم وذلك مخالف لقوله صلى الله عليه وسلم " خذوا على أيدي سفهائكم " (1).
قال ابن العربي: هذه الآية أصل في قتال المسلمين وعمدة في حرب المتأولين، وعليها عول الصحابة، وإليها لجأ الأعيان من أهل الملة، وإياها عنى النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: " تقتل عمار الفئة الباغية " وقوله صلى الله عليه وسلم في شأن الخوارج " يخرجون على حين فرقة من الناس تقتلهم أولى الطائفتين بالحق " والآية تدل أيضاً على أن البغي لا يزيل اسم الإيمان لأنه سماهم مؤمنين مع وجود البغي.
وعن علي وقد سئل عن أهل الجمل، وصفين، أمشركون؟ قال: لا، إنهم من الشرك فروا، فقيل: أمنافقون هم؟ قال: لا، إن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلاً قيل: فما حالهم؟ قال إخواننا بغوا علينا، وهو رضي الله تعالى عنه قدوة في قتال أهل البغي، وعنه أنه سمع رجلاً يقول في ناحية المسجد: لا حكم إلا لله فقال: كلمة حق أراد بها باطل لكم، علينا ثلاثة: لا نمنعكم مساجد الله أن تذكروا فيها اسم الله، ولا نمنعكم الفيء ما دامت أيديكم مع أيدينا، ولا نبدأكم بقتال.
_________
(1) رواه مسلم.(13/143)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (12) يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13) قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14)(13/144)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11)
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ) أي: رجال منكم (مِنْ قَوْمٍ) تنكير القوم للتبعيض، وأن المعنى على الإفراد، وإن جاء النظم على الجمع لأن السخرية تقع في المجامع، قال الكرخي: إنه من نسبة فعل البعض إلى الجميع، لرضاهم به في الأغلب ولوجوده فيما بينهم، والسخرية الاستهزاء وحكى أبو زيد: سخرت به وضحكت به وهزأت به، وقال الأخفش: سخرت به وسخرت منه، وضحكت به ومنه وهزأت منه وبه كل ذلك يقال: والاسم السخرية والسخري بالكسر وبالضم لغة فيه، وقرىء بهما في قوله (ليتخذ بعضهم بعضاً سخرياً) ومعنى الآية النهي للمؤمنين عن أن يستهزىء بعضهم ببعض.
(عسى أن يكونوا خيراً منهم) علل النهي بأن يكون المسخور بهم عند الله خيراً من الساخرين بهم، فينبغي أن لا يجترىء أحد على الاستهزاء بمن تقتحمه عينه إذا رآه رث الحال، أو ذا عاهة في بدنه؛ أو غير لبق في محادثته، فلعله أخلص ضميراً وأتقى قلباً ممن هو على ضد صفته، فيظلم(13/144)
نفسه بتحقير من وقره الله تعالى، قال ابن مسعود: إن البلاء موكل بالقول لو سخرت من كلب لخشيت أن أحول كلباً، ولما كان لفظ قوم مختصاً بالرجال لأنهم القوام على النساء أفرد النساء بالذكر فقال:
(ولا) يسخر (نساء من نساء عسى أن يكن) المسخور بهن (خيراً منهن) يعني من الساخرات منهن وقيل أفرد النساء بالذكر لأن السخرية منهن أكثر، عن مقاتل قال: نزلت في قوم من بني تميم استهزأوا من فقراء المسلمين كبلال وسلمان وعمار وخباب وصهيب وابن فهيرة وسالم مولى أبي حذيفة، وعن أنس نزلت في نساء النبي صلى الله عليه وسلم عيرن أم سلمة بالقصر، وعن ابن عباس نزلت في صفية بنت حيي، قال لها بعض نساء النبي صلى الله عليه وسلم: يهودية بنت يهودي.
(ولا تلمزوا أنفسكم) أي: لا تطعنوا أهل دينكم. واللمز العيب والطعن وقد مضى تحقيقه في سورة براءة عند قوله ومنهم من يلمزك في الصدقات قال ابن جرير: اللمز باليد والعين واللسان والإشارة، والهمز لا يكون إلا باللسان، والمعنى لا يلمز بعضكم بعضاً، كما في قوله: (ولا تقتلوا أنفسكم) وقوله (فسلموا على أنفسكم)، والمؤمنون كنفس واحدة، فإذا عاب المؤمنُ المؤمنَ فكأنما عاب نفسه، وقيل: لا تفعلوا ما تلمزون به، لأن فعل ما استحق به اللمز فقد لمز نفسه حقيقة، قال مجاهد وقتادة وسعيد بن جبير: لا يطعن بعضكم على بعض، وبه قال ابن عباس، وقال الضحاك: لا يلعن بعضكم بعضاً.
(ولا تنابزوا بالألقاب) أي لا تدعوا الإنسان بغير ما سمي به والتنابز التفاعل من النبز بالتسكين، وهو المصدر والنبز بالتحريك اللعب مطلقاً، أي حسناً كان أو قبيحاً، خص في العرف بالقبيح، والجمع أنباز، والألقاب جمع لقب، وهو اسم غير الذي سمي به الإنسان، والمراد هنا لقب السوء والتنابز بالألقاب أن يلقب بعضهم بعضاً، والتداعي بها قال الواحدي: قال(13/145)
المفسرون: هو أن يقول لأخيه المسلم يا فاسق يا منافق، أو يقول لمن أسلم يا يهودي يا نصراني، قال عطاء: هو كل شيء أخرجت به أخاك من الإسلام كقولك يا كلب يا حمار يا خنزير قال الحسن ومجاهد كان الرجل يعير بكفره فيقال له يا يهودي يا نصراني فنزلت، وبه قال قتادة وأبو العالية وعكرمة.
عن أبي جبيرة بن الضحاك قال: فينا نزلت في بني سلمة، " قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وليس فينا رجل إلا وله اسمان أو ثلاثة، فكان إذا دعا واحداً منهم باسم من تلك الأسماء قالوا: يا رسول الله إنه يكرهه، فنزلت (ولا تنابزوا بالألقاب) " (1) أخرجه البخاري في الأدب، وأهل السنن الأربع، وغيرهم، وعن ابن عباس نحوه، وعنه قال التنابز أن يكون الرجل عمل السيئات ثم تاب منها وراجع الحق، فنهى الله أن يعير بما سلف من عمله.
وعن ابن مسعود في الآية قال: إذا كان الرجل يهودياً فأسلم فيقول: يا يهودي يا مجوسي، ويقول للرجل المسلم يا فاسق، قيل والتلقيب المنهي عنه هو ما يتداخل المدعو به كراهة لكونه تقصيراً به، فأما ما يحبه فلا بأس به، ومنه الألقاب التي صارت كالأعلام لأصحابها نحو الأخفش والأعمش وما أشبه ذلك قال القرطبي: إنه يستثنى من هذا من غلب عليه الاستعمال، كالأعرج والأحدب؛ ولم يكن له سبب يجد في نفسه منه عليه فجوزته الأئمة واتفق أهل اللغة على قوله انتهى، وأما الألقاب التي تكسب حمداً أو مدحاً وتكون حقاً وصدقاً فلا تكره، كما قيل لأبي بكر عتيق ولعمر الفاروق ولعثمان ذو النورين ولعلي أبو تراب، ولخالد سيف الله.
(بئس الاسم الفسوق) أي بئس الاسم أن يذكر بالفسق، والإسم هنا ليس المراد به ما يقابل اللقب والكنية، ولا ما يقابل الفعل والحرف، بل
_________
(1) رواه البخاري.(13/146)
المراد به الذكر المرتفع لأنه من السمو من قولهم: طار اسمه في الناس بالمكرم أو باللؤم، وحقيقة ما سما من ذكره وارتفع بين الناس، كأنه قيل: بئس الذكر المرتفع للمؤمنين بسبب ارتكاب هذه الجرائم أن يذكروا بالفسق (بعد) دخولهم في (الإيمان) استقباح للجمع بين الإيمان والفسق الذي يحظره الإيمان، كما تقول: بئس الشأن بعد الكبرة الصبوة، قال ابن زيد: أي لفسق أن يسمى الرجل كافراً أو زانياً بعد إسلامه وتوبته، وقيل إن من فعل ما نهى عنه من السخرية واللمز والنبز فهو فاسق.
(ومن لم يتب) عما نهى الله عنه (فأولئك هم الظالمون) لإرتكابهم ما نهى الله عنه، وامتناعهم من التوبة، وظلموا من لقبوه، وظلموا أنفسهم بما لزمها من الإثم.(13/147)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (12)
(يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن) يقال: جنبه الشر إذا أبعده عنه، وحقيقته جعله في جانب، فيعدى إلى مفعولين، قال تعالى: (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ) ومطاوعه اجتنب الشر فنقص مفعولاً، والظن هنا مجرد التهمة التي لا سبب لها كمن يتهم غيره بشيء من الفواحش، ولم يظهر عليه ما يقتضي ذلك، وأمر سبحانه باجتناب الكثير وأبهم، ليفحص المؤمن عن كل ظن [يظنه] حتى يعلم وجهه، لأن من الظن ما يجب اتباعه، فإن أكثر الأحكام الشرعية مبنية على الظن: كالقياس، وخبر الواحد، ودلالة العموم ولكن هذا الظن الذي يجب العمل به قد قوي بوجه من الوجوه الموجبة للعمل به، فارتفع عن الشك والتهمة.
قال الزجاج: وهو أن يظن بأهل الخير سوءاً فأما أهل السوء والفسوق فلنا أن نظن بهم مثل الذي ظهر منهم، قال مقاتل بن سليمان ومقاتل بن حيان: هو أن يظن بأخيه المسلم سوءاً، ولا بأس به ما لم يتكلم به، فإن تكلم بذلك الظن وأبداه [أثم]، وحكى القرطبي عن أكثر العلماء أن الظن القبيح بمن ظاهره الخير لا يجوز، وأنه لا حرج في الظن القبيح بمن ظاهره القبيح.(13/147)
وجملة: (إن بعض الظن إثم) تعليل لما قبلها من الأمر باجتناب كثير من الظن، وهذا البعض هو ظن السوء بأهل الخير، والإثم هو ما يستحقه الظان من العقوبة، ومما يدل على تقييد هذا الظن المأمور باجتنابه بظن السوء قوله تعالى: (وظننتم ظن السوء وكنتم قوماً بوراً) فلا يدخل في الظن المأمور باجتنابه شيء من الظن المأمور باتباعه من مسائل الدين، فإن الله قد تعبد عباده باتباعه، وأوجب العمل به جمهور أهل العلم، ولم ينكر ذلك إلا بعض طوائف المبتدعة، كياداً للدين، وشذوذاً عن جمهور المسلمين، وقد جاء التعبد بالظن في كثير من الشريعة المطهرة، بل في أكثرها، قال أبو السعود: من الظن ما يجب اتباعه كالظن فيما لا قاطع فيه من العمليات وحسن الظن بالله تعالى، ومنه ما حرم كالظن في الإلهيات والنبوات، وحيث يخالفه قاطع وظن السوء بالمؤمنين ومنه ما يباح كالظن في الأمور المعاشية أهـ.
وقيل: الظن أنواع فمنه واجب ومأمور به، وهو الظن الحسن بالله عز وجل، ومنه مندوب إليه، وهو الظن الحسن بالأخ المسلم الظاهر العدالة، ومنه حرام محظور، وهو سوء الظن بالله عز وجل، وسوء الظن بالأخ المسلم، قال ابن عباس في الآية: نهى الله المؤمن أن يظن بالمؤمن سوءاً.
وعن أبي هريرة قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث، ولا تجسسوا، ولا تحسسوا، ولا تنافسوا، ولا تحاسدوا، ولا تباغضوا، وكونوا عباد الله إخواناً " (1) الحديث أخرجه الشيخان.
ثم لما أمرهم الله سبحانه باجتناب كثير من الظن نهاهم عن التجسس فقال:
(ولا تجسسوا) التجسس البحث عما ينكتم عنك من عيوب المسلمين وعوراتهم، نهاهم الله سبحانه عن البحث عن معائب الناس ومثالبهم، حتى يطلع عليها بعد أن سترها الله تعالى، وقرأ الجمهور بالجيم، ومعناه ما ذكرنا
_________
(1) رواه مسلم.(13/148)
وقرىء بالحاء قال الأخفش: ليس يبعد أحدهما عن الآخر، لأن التجسس بالجيم هو البحث عما ينكتم عنك، والتحسس بالحاء طلب الإخبار والبحث عنها، وقيل؛ إن التجسس بالجيم هو البحث، ومنه قيل: رجل جاسوس إذا كان يبحث عن الأمور، وبالحاء ما أدركه الإنسان ببعض حواسه، وقيل: إنه بالحاء فيما يطلبه الإنسان لنفسه، وبالجيم أن يكون رسولاً لغيره، قاله ثعلب والأول أعرف. يقال: تحسست الأخبار وتجسستها أي: تفحصت عنها.
قال ابن عباس: نهى الله المؤمنين عن تتبع عورات المؤمن وعن زيد بن وهب قال: أتى ابن مسعود فقيل هذا فلان يقطر لحيته خمراً، فقال ابن مسعود إنا قد نهينا عن التجسس، ولكن إن يظهر لنا شيء نأخذه قال مجاهد: خذوا ما ظهر ودعوا ما ستره الله.
وعن عقبة بن عامر " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من رأى عورة فسترها كان كمن أحيا موؤودة " أخرجه أبو داود.
وعن أبي هريرة " أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا يستر عبد عبداً في الدنيا إلا ستره الله يوم القيامة " (1) رواه مسلم.
وفي كتاب أبي داود عن معاوية قال: " سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إنك إن اتبعت عورات المسلمين أفسدتهم، أو كدت أن تفسدهم "، فقال أبو الدرداء كلمة سمعها معاوية من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فنفعه الله بها. وقد وردت أحاديث في النهي عن تتبع عورات المسلمين والتجسس عن عيوبهم.
(ولا يغتب بعضكم بعضاً) أي لا يتناول بعضكم بعضاً بظهر الغيب بما يسوءه، يقال اغتابه اغتياباً إذا وقع فيه والاسم الغيبة، وهي ذكر العيب بظهر الغيب يعني: أن تذكر الرجل بما يكرهه.
_________
(1) رواه مسلم.(13/149)
كما في حديث أبي هريرة الثابت في الصحيح لمسلم " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أتدرون ما الغيبة؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: ذكرك أخاك بما يكره، فقيل: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ فقال: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه فقد بهَّته " (1) قال: ابن عباس: حرم الله أن يغتاب المؤمن بشيء كما حرم الميتة والأحاديث في تحريم الغيبة كثيرة جداً معروفة في كتب الحديث، قال الحسن: الغيبة ثلاثة أوجه كلها في كتاب الله تعالى، الغيبة، والإفك، والبهتان، فأما الغيبة: فهي أن تقول في أخيك ما هو فيه، وأما الإفك: فهو أن تقول فيه ما بلغك عنه، وأما البهتان: فهو أن تقول ما ليس فيه، ولا خلاف أن الغيبة من الكبائر، وأن على من اغتاب أحداً التوبة إلى الله أو الاستغفار لمن اغتابه أو الإستحلال منه، وللشوكاني رسالة في ذلك، سماها: رفع الريبة عن مسألة الغيبة، وهي نفيسة جداً.
(أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً)؟ مثل سبحانه الغيبة بأكل الميتة لأن الميت لا يعلم بأكل لحمه، كما أن الحي لا يعلم بغيبة من اغتابه، ذكر معناه الزجاج، وفيه إشارة إلى أن عرض الإنسان كلحمه وأنه كما يحرم أكل لحمه تحرم الاستطالة في عرضه، وفي هذا من التنفير عن الغيبة والتقبيح لها والتوبيخ لفاعلها والتشنيع عليه ما لا يخفى، فإن لحم الإنسان مما تنفر عنه الطباع الإنسانية، وتستكرهه الجبلة البشرية فضلاً عن كونه محرماً شرعاً، وفيه مبالغات، منها الاستفهام الذي معناه التقرير، ومنها جعل ما هو في الغاية من الكراهة موصولاً بالمحبة، ومنها إسناد الفعل إلى أحدكم للتعميم، والإشعار بأن أحداً من الأحدين لا يحب ذلك، ومنها أنه لم يقتصر على تمثيل الاغتياب بأكل لحم الإنسان حتى جعل الإنسان أخاً، ومنها أنه لم يقتصر على لحم الأخ حتى جعله ميتاً، فهذا تمثيل على أفحش وجه.
(فكرهتموه) أي فاغتيابه في حياته كأكل لحمه بعد مماته، فالكلام من
_________
(1) رواه مسلم.(13/150)
باب الاستعارة التمثيلية، وفي هذا التمثيل والتشبيه إشارة إلى أن عرض الإنسان كدمه ولحمه، لأن الإنسان يتألم قلبه من قرض العرض، كما يتألم جسمه من قطع اللحم وهذا من باب القياس الظاهر، لأن عرض الإنسان أشرف من لحمه ودمه، فإذا لم يحسن من العاقل أكل لحوم الإنسان، لم يحسن منه قرض عرضهم بالطريق الأولى، لأن ذلك أشد ألماً قال الفراء: تقديره فقد كرهتموه فلا تفعلوا، والمعنى فلما كرهتم هذا فاجتنبوا ذكره بالسوء، أو المعنى فكما كرهتم هذا فاجتنبوا ذكره بالسوء غائباً، قال الرازي: الفاء في تقديره جواب كلام كأنه قال: لا يحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه إذن، وقال أبو البقاء: هو معطوف على محذوف تقديره عليكم ذلك فكرهتموه، ولا يمكنكم إنكار كراهته، وبه قال البيضاوي، وقيل: إن صح ذلك عندكم فأنتم تكرهونه، وقيل هو خبر بمعنى الأمر.
(واتقوا الله) بترك ما أمركم باجتنابه (إن الله تواب رحيم) لمن اتقاه وتاب عما فرط منه من الذنب، ومخالفة الأمر، والمبالغة في (التواب) للدلالة على كثرة من يتوب عليه من عباده، أو لأنه ما من ذنب يقترفه العبد إلا كان معفواً عنه بالتوبة، أو لأنه لما بولغ في قبول التوبة نزل صاحبها منزلة من لم يذنب قط لسعة كرمه.(13/151)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)
(يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى) هما آدم وحواء، والمقصود أنهم متساوون لاتصالهم بنسب واحد، وكونهم يجمعهم أب واحد وأم واحدة، وأنه لا موضع للتفاخر بينم بالأنساب، وقيل: المعنى أن كل واحد منكم من أب وأم، فالكل سواء.
عن ابن أبي مليكة قال: " لما كان يوم الفتح رقى بلال فأذن على الكعبة، فقال بعض الناس: أهذا العبد الأسود يؤذن على ظهر الكعبة؟ وقال بعضهم: إن سخط الله هذا يغيره، فنزلت هذه الآية " أخرجه ابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الدلائل.
وعن الزهري قال: " أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بني بياضة أن يزوجوا أبا هند امرأة منهم، فقالوا: يا رسول الله أنزوج بناتنا موالينا؟ فنزلت(13/151)
هذه الآية " أخرجه أبو داود في مراسيله وابن مردويه والبيهقي في سننه، وقال الزهري: نزلت في أبي هند خاصة، وعن عمر بن الخطاب أن هذه الآية هي مكية، وهي للعرب خاصة الموالي أي قبيلة لهم وأي شعاب.
(وجعلناكم شعوباً وقبائل) الشعوب جمع شعب بفتح الشين، وهو الحي العظيم مثل مضر وربيعة، والقبائل دونها كبني بكر من ربيعة، وبني تميم من مضر، قال الواحدي: هذا قول جماعة من المفسرين سموا شعباً لتشعبهم واجتماعهم، كشعب أغصان الشجرة، والشعب من أسماء الأضداد يقال شعبته إذا جمعته، وشعبته إذا فرقته ومنه سميت المنية شعوباً لأنها مفرقة فأما الشعب بالكسر فهو الطريق في الجبل، قال الجوهري: الشعب ما تشعب من قبائل العرب والعجم، والجمع الشعوب وقال مجاهد: الشعوب البعيد من النسب والقبائل دون ذلك وقال قتادة: الشعوب النسب الأقرب وقيل: أعلى طبقات النسب، وقيل: إن الشعوب عرب اليمن من قحطان والقبائل من ربيعة ومضر، وسائر عدنان وقيل: الشعوب بطون العجم والقبائل بطون العرب.
وحكى أبو عبيدة أن الشعب أكثر من القبيلة، ثم القبيلة، ثم العمارة ثم البطن. ثم الفخذ، ثم الفصيلة، ثم العشيرة، وكل واحدة تدخل فيما قبلها فالقبائل تحت الشعوب، والعمائر تحت القبائل، والبطون تحت العمائر، والأفخاذ تحت البطون، والفصائل تحت الأفخاذ " والعشائر تحت الفصائل، فخزيمة شعب، وكنانة قبيلة، وقريش عمارة، وقصي بطن، وعبد مناف فخذ، وبنو هاشم فصيلة، والعباس عشيرة، وليس بعد العشيرة حي يوصف، ومما يؤيد ما قاله الجمهور من أن الشعب أكثر من القبيلة قول الشاعر:
قبائل من شعوب ليس فيهم ... كريم قد يعد ولا نجيب
قال ابن عباس: الشعوب القبائل العظام، والقبائل البطون، وعنه قال: الشعوب الجماع، والقبائل الأفخاذ التي يتعارفون بها، وعنه قال: القبائل الأفخاذ، والشعوب الجمهور مثل مضر.
(لتعارفوا) أي: خلقناكم كذلك ليعرف بعضكم بعضاً. والفائدة في(13/152)
التعارف أن ينتسب كل واحد منهم إلى نسبه ولا يعتزي إلى غيره، ويصل رحمه والمقصود من هذا أن الله سبحانه خلقهم كذلك لهذه الفائدة لا للتفاخر بأنسابهم، ودعوى أن هذا الشعب أفضل من هذا الشعب وهذه القبيلة أكرم من هذه القبيلة، وهذا البطن أشرف من هذا البطن، وإنما الفخر بالتقوى، قرأ الجمهور لتعارفوا بتخفيف التاء، وأصله لتتعارفوا، وقرىء بتشديدها على الإدغام، وقرىء بتاءين ثم علل سبحانه ما يدل عليه الكلام من النهي عن التفاخر فقال:
(إن أكرمكم عند الله أتقاكم) أي إن التفاضل بينكم إنما هو بالتقوى فمن تلبس بها فهو المستحق لأن يكون أكرم ممن لم يتلبس بها، وأشرف وأفضل فدعوا ما أنتم فيه من التفاخر بالأنساب فإن ذلك لا يوجب كرماً، ولا يثبت شرفاً، ولا يقتضي فضلاً، قرأ الجمهور بكسر إن وقرىء بفتحها أي لأن أكرمكم.
عن أبي هريرة قال: " سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الناس أكرم؟ قال: أكرمهم عند الله أتقاهم، قالوا: ليس عن هذا نسألك، قال: فأكرم الناس يوسف نبي الله بن نبي الله ابن نبي الله ابن خليل الله قالوا: ليس عن هذا نسألك، قال: فعن معادن العرب تسألوني؟ قالوا: نعم، قال: خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا (1) " أخرجه البخاري وغيره، وقال عمر بن الخطاب: أتقاكم للشرك، وقد وردت أحاديث في الصحيح وغيره أن التقوى هي التي تتفاضل بها العباد.
(إن الله عليم) بكل معلوم، ومن ذلك أعمالكم (خبير) بما تسرون وما تعلنون، ولا تخفى عليه من ذلك خافية، ولما ذكر سبحانه أن أكرم الناس عند الله أتقاهم له وكان أصل التقوى الإيمان ذكر ما كانت تقوله العرب من دعوى الإيمان ليثبت لهم الشرف والفضل فقال:
_________
(1) رواه مسلم.(13/153)
قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14)
(قالت الأعراب آمنا) وهم بنو أسد، قاله مجاهد، وقيل هم جهينة(13/153)
ومزينة وأسلم وأشجع وغفار، والأول أولى، وهم الذين أظهروا الإسلام في سنة مجدبة يريدون الصدقة، فأمر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم أن يرد عليهم فقال: (قل لم تؤمنوا) أي لم تصدقوا تصديقاً صحيحاً عن اعتقاد قلب، وخلوص نية، وطمأنينة (ولكن قولوا أسلمنا) أي استسلمنا خوف القتل والسبي، أو للطمع في الصدقة، وهذه صفة المنافقين لأنهم أسلموا في ظاهر الأمر، ولم تؤمن قلوبهم، ولهذا قال سبحانه:
(ولما يدخل الإيمان في قلوبكم) أي لم يكن ما أظهرتموه بألسنتكم عن مواطأة قلوبكم، بل مجرد قول باللسان من دون اعتقاد صحيح، ولا نية خالصة، وفي لما معنى التوقع، وهذا تكرار، لكنه مستقل بفائدة زائدة، لأنه علم من الأول نفي الإيمان عنهم، ومن الثاني نفيه مع توقع حصوله، قال الزجاج: الإسلام إظهار الخضوع وقبول ما أتى به النبي صلى الله عليه وسلم، وبذلك يحقن الدم، فإن كان مع ذلك الإظهار اعتقاد وتصديق بالقلب فذلك الإيمان وصاحبه المؤمن، وقد أخرج هؤلاء من الإيمان بقوله: ولما يدخل الإيمان في قلوبكم، أي: لم تصدقوا، وإنما أسلمتم تعوذاً من القتل، وهذه الآية تنقض على الكرامية مذهبهم أن الإيمان لا يكون بالقلب ولكن باللسان.
(وإن تطيعوا الله ورسوله) طاعة صحيحة، صادرة عن نيات خالصة وقلوب مصدقة غير منافقة (لا يلتكم) أي لا ينقصكم (من أعمالكم شيئاً) يقال: لات يليت إذا نقص، ولأنه يليته ويلوته إذا نقصه، قرأ الجمهور يلتكم من لاته يليته كباعه يبيعه، وقرىء لا يألتكم بالهمز من ألته يألته بالفتح في الماضي والكسر في المضارع، واختار الثانية أبو حاتم لقوله (وما ألتناهم من عملهم من شيء) وهما لغتان فصيحتان (إن الله غفور) أي بليغ المغفرة لمن فرط منه ذنب (رحيم) بليغ الرحمة لهم.
ثم لما ذكر سبحانه أن أولئك الذين قالوا آمنا لم يؤمنوا، ولا دخل الإيمان في قلوبهم، بيّن المؤمنين المستحقين لإطلاق اسم الإيمان عليهم فقال:(13/154)
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15) قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (16) يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (17) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18)(13/155)
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15)
(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ) إيماناً صحيحاً خالصاً عن مواطأة القلب واللسان (ثم لم يرتابوا) أي لم يدخل في قلوبهم شيء من الريب، ولا خالطهم شك من الشكوك، أتى بثم للتراخي للإشارة إلى أن نفي الريب عنهم ليس في وقت حصول الإيمان فيهم، وإنشائه فقط، بل هو مستمر بعد ذلك فيما يتطاول من الأزمنة فكأنه قال: ثم داموا على ذلك (وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله) أي: في طاعته وابتغاء مرضاته ويدخل في الجهاد الأعمال الصالحة التي أمر الله بها، فإنها من جملة ما يجاهد المرء نفسه حتى يقوم به ويؤديه، كما أمر الله سبحانه، والطاعات كلها في سبيل الله وجهته، والمجاهدة بالأموال عبارة عن العبادات المالية كالزكاة، وقدم الأموال لحرص الإنسان عليها، فإن ماله شقيق روحه، وجاهدوا بمعنى بذل الجهد. أو مفعوله مقدر، أي: العدو أو النفس والهوى.
(أولئك) أي: الجامعون بين الأمور المذكورة (هم الصادقون) في الاتصاف بصفة الإيمان والدخول في عداد أهله، لا من عداهم ممن أظهر الإسلام بلسانه، وادّعى أنه مؤمن ولم يطمئن بالإيمان قلبه، ولا وصل إليه معناه، ولا عمل بأعمال أهله، وهم الأعراب الذين تقدم ذكرهم وسائر أهل النفاق ثم أمر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول لأولئك الأعراب وأمثالهم قولاً آخر لما ادعوا أنهم مؤمنون فقال:(13/155)
قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (16)
(قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ)؟ التعليم ههنا بمعنى الإعلام، ولهذا أدخلت الباء في (بدينكم) أي أتخبرونه بذلك حيث قلتم آمنا (وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ) فكيف يخفى عليه بطلان ما تدعونه من الإيمان؟ (والله بكل شيء عليم) لا يخفى عليه من ذلك خافية، وقد علم ما تبطنونه من الكفر، وتظهرونه من الإسلام لخوف الضر، أو رجاء النفع.(13/156)
يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (17)
(يمنون عليك أن أسلموا) أي يعدون إسلامهم منة عليك حيث قالوا جئناك بالأثقال والعيال، ولم نقاتلك كما قاتلك بنو فلان وبنو فلان، قاله عبد الله بن أبي أوفى، أخرجه ابن مردويه وغيره، قال السيوطي بسند حسن وعن ابن عباس نحوه، وذكر أنهم بنو أسد كما تقدم، والمن: تعداد النعم على المنعم عليه، وهو مذموم من الخلق، ممدوح من الله تعالى، ثم أمر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم بما يقوله لهم عند المن عليه بما يدعونه من الإسلام فقال:
(قل لا تمنوا عليّ إسلامكم) أي لا تعدوه منة علي، فإن الإسلام هو المنة التي لا يطلب موليها ثواباً لمن أنعم بها عليه، ولهذا قال (بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان) أي: أرشدكم إليه وأراكم طريقه سواء وصلتم إلى المطلوب أم لم تصلوا إليه، قرأ الجمهور بفتح أن وقرىء بكسرها (إن كنتم صادقين) فيما تدعونه، والجواب محذوف يدل عليه ما قبله أي إن كنتم صادقين فلله المنة عليكم.(13/156)
إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18)
(إن الله يعلم غيب السموات والأرض) أي: ما غاب فيهما، لا يخفى عليه شيء فيهما فكيف يخفى عليه حالكم، بل يعلم سركم وعلانيتكم (والله بصير بما تعملون) لا يخفى عليه من ذلك شيء، فهو مجازيكم بالخير خيراً، وبالشر شراً، وفي هذا بيان لكونهم غير صادقين، قرأ الجمهور على الخطاب وقرىء على الغيبة.(13/156)
سورة ق
(هي خمس وأربعون آية، وهي مكية كلها)
في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر، وعن ابن عباس وقتادة أنها مكيّة إلا آية، وهي قوله: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ) وهي أول المفصل على الصحيح. وقيل: من الحجرات.
وقد أخرج مسلم وغيره عن قطبة بن مالك قال: " كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في الفجر في الركعة الأولى (ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ) ".
وعن أبي واقد الليثي قال: " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في العيد بقاف واقتربت " (1) أخرجه أحمد ومسلم وأهل السنن.
وعن أم هشام ابنة حارثة قالت: " ما أخذت (ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ) إلا من في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ بها في كل جمعة على المنبر إذا خطب الناس " (2) أخرجه ابن أبي شيبة وأبو داود وابن ماجة والبيهقي، وهو في صحيح مسلم.
_________
(1) رواه مسلم.
(2) رواه مسلم.(13/157)
بسم الله الرحمن الرحيم
ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1) بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ (2) أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (3) قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ (4) بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ (5) أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ (6) وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7) تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (8) وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9)(13/159)
ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1)
(ق) الكلام في إعراب هذا، كالكلام الذي قدمناه في (ص) سواء بسواء، لالتقائهما في أسلوب واحد، قرأ العامة بالجزم، وقرىء بكسر الفاء لأن الكسر أخو الجزم، وقرىء بفتحها لأن الفتح أخف الحركات قرىء بضمها لأنه في غالب الأمر حركة البناء، نحو منذ، وقط، وقبل، وبعد واختلف في معنى ق فقال الواحدي قال المفسرون: هو اسم جبل يحيط بالدنيا من زبرجد وقيل من زمردة خضراء، واخضرت السماء منه والسماء مقببة عليه وهو وراء الحجاب الذي تغيب الشمس من ورائه بمسيرة سنة قال الفراء: كان يجب على هذا أن يظهر الإعراب في ق لأنه اسم وليس بهجاء، قال: ولعل القاف وحدها ذكرت من اسمه كقول القائل: قلت لها قفي، فقالت: قاف، أي: أنا واقفة، وحكى الفراء والزجاج أن قوماً قالوا: معنى ق قضي الأمر وقضي ما هو كائن كما قيل في حم: حم الأمر، وقيل: هو اسم من أسماء الله تعالى أقسم به، قاله ابن عباس وقال قتادة: هو اسم من أسماء القرآن.
وقال الشعبي: فاتحة السورة، وقال أبو بكر الوراق: معناه قف عند أمرنا ونهينا ولا تعدهما. وقال الأنطاكي: هو قرب الله من عباده، بيانه (ونحن أقرب إليه من حبل الوريد) وقال القرطبي: افتتاح اسم الله عز وجل(13/159)
قادر وقاهر وقريب وقابض، وقاض، وقيل غير ذلك مما هو أضعف منه وأبطل والحق أنه من المتشابه الذي استأثر الله بعلمه، كما حققنا ذلك في فاتحة سورة البقرة، فالله أعلم بمراده به وقد روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس أثراً طويلاً في بيان جبل قاف قال ابن كثير: لا يصح سنده عنه وفيه أيضاًً انقطاع.
(والقرآن المجيد) أي: أنه ذو مجد وشرف على سائر الكتب المنزلة وقال الحسن الكريم، وبه قال ابن عباس، وقيل: الرفيع القدر، وقيل الكبير القدر، وعن ابن عباس قال: ليس شيء أحسن منه ولا أفضل، وجواب القسم قال الكوفيون: هو قوله:(13/160)
بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ (2)
(بل عجبوا) وقال الأخفش محذوف أي لتبعثن، يدل عليه (أئذا متنا وكنا تراباً)؟ وقال ابن كيسان: جوابه (ما يلفظ من قول)، لأن ما قبلها عوض منها، وقيل: هو (قد علمنا) بتقدير اللام، أي لقد علمنا، وقيل: محذوف تقديره أنزلناه إليك لتنذر، كأنه قيل: ق والقرآن المجيد أنزلناه إليك لتنذر به الناس.
(بل عجبوا) بل للإضراب عن الجواب على اختلاف الأقوال لبيان حالهم الزائدة في الشناعة على عدم الإيمان، والمعنى بل عجب الكفار (أن) أي لأن (جاءهم منذر منهم) وهو محمد صلى الله عليه وسلم، ولم يكتفوا بمجرد الشك والرد بل جعلوا ذلك من الأمور العجيبة، وقيل: هو إضراب عن وصف القرآن بكونه مجيداً، وقد تقدم تفسير هذا في سورة ص ثم فسر ما حكاه عنهم من كونهم عجبوا بقوله:
(فقال الكافرن هذا شيء عجيب) وفيه زيادة تصريح وإيضاح وإضمار ذكرهم، ثم إظهاره للإشعار بتعنتهم في هذا المقال. ثم التسجيل على كفرهم بهذا المقال، قال قتادة: عجبهم أن دعوا إلى إله واحد، وقيل تعجبهم من البعث والنشور. والذي نص عليه القرآن أولى، فيكون لفظ هذا إشارة إلى مبهم مفسر بما بعده من قوله: (أئذا متنا وكنا تراباً) وقال الشوكاني: الأول أولى قال الرازي: الظاهر أن قولهم هذا إشارة إلى مجيء المنذر ثم قالوا(13/160)
أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (3)
(أئذا متنا وكُنَّا تُراباً) وأيضاًً قد وجد ههنا بعد الإستبعاد بالاستفهام أمر يؤدي معنى التعجب وهو قولهم: (ذلك رجع بعيد) فإنه استبعاد، وهو كالتعجب، فلو كان التعجب بقولهم: (هذا شيء عجيب) عائداً إلى قولهم (أئذا) لكان كالتكرار. فإن قيل التكرار الصريح يلزم من قولك هذا شيء عجيب أنه يعود إلى مجيىء المنذر، فإن تعجبهم منه علم من قوله: (عجبوا أن جاءهم)، فقوله: (هذا شيء عجيب) يكون تكراراً، فنقول ذلك ليس بتكرار بل هو تقرير، لأنه لما قال: (بل عجبوا) بصيغة الفعل وجاز أن يتعجب الإنسان مما لا يكون عجباً، كقوله: (أتعجبين من أمر الله)؟ ويقال في العرف لا وجه لتعجبك مما ليس بعجيب، فكأنهم لما عجبوا قيل لهم لا معنى لتعجبكم، فقالوا: (هذا شيء عجيب) فكيف لا نعجب منه ويدل على ذلك قوله ههنا: (فقال الكافرون) بالفاء فإنها تدل على أنه مترتب على ما تقدم.
قرأ الجمهور بالاستفهام وقرىء بهمزة واحدة فيحتمل الإستفهام كقراءة الجمهور، والهمزة مقدرة، ويحتمل أن يكون معناه الإخبار والمعنى استنكارهم للبعث بعد موتهم ومصيرهم تراباً. ثم جزموا باستبعادهم للبعث فقالوا:
(ذلك) أي البعث (رجع بعيد) أي بعيد عن الأفهام أو العقول أو العادة أو الإمكان يقال رجعته أرجعه رجعاً، ورجع هو يرجع رجوعاً ثم رد الله سبحانه ما قالوه فقال:(13/161)
قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ (4)
(قد علمنا ما تنقص الأرض منهم) أي ما تأكل من أجسادهم، فلا يضل عنا شيء من ذلك، ومن أحاط علمه بكل شيء حتى انتهى إلى علم ما يذهب من أجساد الموتى في القبور لا يصعب عليه البعث، ولا يستبعد منه وقال السدي: النقص هنا الموت، يقول قد علمنا من يموت منهم ومن يبقى لأن من مات دفن، فكأن الأرض تنقص من الأموات، وقيل المعنى من يدخل في الإسلام من المشركين والأول أولى، قال ابن عباس في الآية: أجسادهم وما يذهب منها وما تأكل من لحومهم وعظامهم(13/161)
وأشعارهم (وعندنا كتاب حفيظ) أي حافظ لعدتهم وأسمائهم ولكل شيء من الأشياء وهو اللوح المحفوظ وقيل: المراد بالكتاب هنا العلم والإحصاء والأول أولى، وقيل: حفيظ بمعنى محفوظ أي محفوظ من الشياطين أو محفوظ فيه كل شيء ثم أضرب سبحانه من الكلام الأول وانتقل إلى ما هو أشنع منه وأقبح فقال:(13/162)
بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ (5)
(بل كذبوا بالحق) فإنه تصريح بالتكذيب منهم بعد ما تقدم عنهم من الاستبعاد والمراد بالحق هنا القرآن قال الماوردي: في قول الجميع، وقيل: هو الإسلام وقيل: محمد وقيل: النبوة الثابتة بالمعجزات (لما جاءهم) أي وقت مجيئه إليهم، من غير تدبر ولا تفكر ولا إمعان نظر (فهم في أمر مريج) أي مختلط ومضطرب، يقولون تارة ساحر ومرة شاعر، ومرة كاهن، قاله الزجاج وغيره، وقال قتادة: مختلف، وقال الحسن: ملتبس، وقيل: فاسد، والمعاني متقاربة ومنه قولهم مرجت أمانات الناس أي فسدت ومرج الدين والأمر اختلط، وقال ابن عباس: المريج الشيء المتغير.(13/162)
أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ (6)
(أفلم ينظروا)؟ شروع في بيان الدليل الذي يدفع قولهم ذلك رجع بعيد والاستفهام للتقريع والتوبيخ أي كيف غفلوا عن النظر (إلى السماء) كائنة (فوقهم) يشاهدونها كل وقت (كيف بنيناها)؟ أي أوجدناها وجعلناها على هذه الصفة، مرفوعة كالخيمة، إلا إنها بغير عماد تعتمد عليه (وزيناها) بما جعلنا فيها من المصابيح والنيرات والكواكب (وما لها من فروج) أي فتوق وشقوق وصدوع تعيبها، وهو جمع فرج، قال الكسائي: ليس فيها تفاوت ولا اختلاف ولا فتوق ولا صداع ولا خلل والواو للحال.(13/162)
وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7)
(والأرض مددناها) أي دحوناها وبسطناها على وجه الماء (وألقينا فيها رواسي) أي جبالاً ثوابت تثبتها وقد تقدم تفسير هذا في سورة الرعد (وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج) أي من كل صنف حسن كريم يسر به، وقد تقدم تفسير هذا أيضاًً في سورة الحج(13/162)
تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (8)
(تبصرة وذكرى) هما علتان لما(13/162)
تقدم أي فعلنا ما فعلنا للتبصير والتذكير، قاله الزجاج، وقال المحلي: تبصيراً منا أي تعليماً وتفهيماً واستدلالاً، وقيل منصوبان بفعل مقدر من لفظهما، أي بصرناهم تبصرة، وذكرناهم ذكرى أو تذكرة، وقيل: حالان، أي: مبصرين ومذكرين، وقيل حال من المفعول، أي ذات تبصرة وتذكير لمن يراها، وقال أبو حاتم، أي: جعلنا ذلك تبصرة وذكرى.
قال الرازي: يحتمل أن يكون المصدران عائدين إلى السماء والأرض، أي خلقنا السماء تبصرة، وخلقنا الأرض ذكرى، ويدل على ذلك أن السماء وزينتها غير متجددة في كل عام فهي كالشيء المرئي على ممر الزمان، وأما الأرض فهي كل سنة تأخذ زينتها وزخرفتها، فتذكر، فالسماء تبصرة والأرض تذكرة، ويحتمل أن يكون كل واحد من المصدرين موجوداً من الأمرين، فالسماء تبصرة وتذكرة، والأرض كذلك، والفرق بين التذكرة والتبصرة هو أن فيهما آيات مستمرة منصوبة في مقابلة البصائر، وآيات متجددة مذكرة عند التناسي (لكل عبد منيب) المنيب الراجع إلى الله بالتوبة المتدبر في بديع صنعه، وعجائب مخلوقاته، وفي سياق هذه الآيات تذكير لمنكري البعث، وإيقاظ لهم عن سنة الغفلة، وبيان لإمكان ذلك وعدم امتناعه، فإن القادر على هذه الأمور يقدر عليه، وهكذا قوله:(13/163)
وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9)
(ونزلنا من السماء) أي السحاب (ماء مباركاً) أي كثير البركة لانتفاع الناس به في غالب أمورهم (فأنبتنا به) أي: بذلك الماء (جنات) أي بساتين كثيرة (وحب الحصيد) أي: ما يقتات ويحصد من الحبوب، والمعنى وحب الزرع الحصيد. وخص الحب لأنه المقصود، كذا قال البصريون، وقال الكوفيون: هو من باب إضافة الشيء إلى نفسه، كمسجد الجامع حكاه الفراء، وأنها جائزة إذا اختلف اللفظان كحق اليقين، وحبل الوريد، ودار الآخرة، قاله الكرخي قال الضحاك: حب الحصيد البر والشعير وقيل: كل حب يحصد ويدخر ويقتات.(13/163)
وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ (10) رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ (11) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (12) وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ (13) وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (14) أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (15) وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17) مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18) وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (19) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (20) وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ (21) لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22)(13/164)
وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ (10)
(و) أنبتنا به (النخل) تخصيصها بالذكر مع دخولها في الجنات للدلالة على فضلها على سائر الأشجار، أو لفرط ارتفاعها وكثرة منافعها، ولذلك شبه صلى الله عليه وسلم المسلم بها (باسقات) حال مقدرة لأنها وقت الإنبات لم تكن باسقة، قال مجاهد وعكرمة وقتادة: الباسقات الطوال، وقال سعيد بن جبير: مستويات، وقال الحسن وعكرمة والفراء: مواقير حوامل، يقال للشاة: بسقت إذا ولدت، والأشهر في لغة العرب الأول، يقال بسقت النخلة بسوقاً إذا طالت، وبسقت الشاة ولدت، وأبسقت الناقة وقع في ضرعها اللبأ قبل النتاج، وبسق الرجل مهر في علمه، وبسق فلان على أصحابه من باب دخل أي طال عليهم في الفضل.
عن قطبة قال: " سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في الصبح ق، فلما أتى على هذه الآية: والنخل باسقات فجعلت أقول: ما بسوقها؟ قال: طولها (1) أخرجه الحاكم وصححه وابن مردويه، وقال ابن عباس: الطول.
_________
(1) أخرجه الحاكم.(13/164)
(لها طلع نضيد) الطلع هو أول ما يخرج من ثمر النخل، يقال: طلع الطلع طلوعاً، والنضيد التراكب الذي نضد بعضه على بعض، وذلك قبل أن يتفتح فهو نضيد في أكمامه فإذا خرج من أكمامه فليس بنضيد قال ابن عباس: متراكم بعضه على بعض(13/165)
رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ (11)
(رزقاً للعباد) أي رزقناهم رزقاً، أو أنبتنا هذه الأشياء للرزق، لم يقيد هنا العباد بالإنابة كما قيد به في قوله: (تبصرة وذكرى لكل عبد منيب) لأن التذكرة لا تكون إلا لمنيب، والرزق يعم كل أحد، غير أن المنيب يأكل ذاكراً وشاكراً للأنعام، وغيره يأكل كما تأكل الأنعام، فلم يخصص الرزق بقيد، قاله الخطيب.
(وأحيينا به) أي بذلك الماء (بلدة ميتاً) قرىء بالتخفيف والتثقيل أي مجدبة لا ثمار فيها ولا زرع، والتذكير باعتبار كون البلدة بلداً أو مكاناً، كما في عبارة أبي السعود (كذلك الخروج) مستأنفة لبيان أن الخروج من القبور عند البعث كمثل هذا الإحياء الذي أحيا الله به الأرض الميتة، وقدم فيها الخبر للقصد إلى الحصر، ثم ذكر سبحانه الأمم المكذبة فقال:(13/165)
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (12)
(كذبت قبلهم قوم نوح وأصحاب الرس) هم قوم شعيب، وقيل: حنظلة بن صفوان أو نبي آخر أرسل بعد صالح لبقية من ثمود، وتقدم لهذا مزيد كلام في سورة الفرقان، وقيل: هم الذين جاءهم من أقصى المدينة رجل يسعى، وهم من قوم عيسى، وقيل: هم أصحاب الأخدود، والرس: إما موضع نسبوا إليه، أو بئر كانوا مقيمين عليها بمواشيهم يعبدون الأصنام، فخسفت تلك البئر مع ما حولها فذهبت بهم، وبكل ما لهم كما ذكرت قصتهم في سورة الفرقان، أو فعل وهو حفر البئر، يقال: رس إذا حفر بئراً وتأنيث الفعل لمعنى قوم، والجملة إستئناف وارد لتقرير حقية البعث ببيان إتفاق كافة الرسل عليها، وتعذيب منكريها (وثمود(13/165)
وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ (13)
وعاد وفرعون) وقومه؛ ذكرت ثمود بعد أصحاب الرس، لأن الرجفة التي أخذتهم مبدؤها الخسف بأصحاب الرس، ثم أتبع ثمود بعاد، لأن الريح التي أهلكتهم إثر صيحة ثمود.(13/165)
(وإخوان لوط) جعلهم إخوانه لأنهم كانوا أصهاره وقيل: هم من قوم إبراهيم وكانوا من معارف لوط(13/166)
وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (14)
(وأصحاب الأيكة) تقدم الكلام على الأيكة في سورة الشعراء، وقرىء هنا ليكة، وهي الغيضة أي الشجر الملتف بعضه على بعض، ونبيهم الذي بعثه الله إليهم شعيب عليه السلام (وقوم تبع) هو تبع الحميري، الذي تقدم ذكره في قوله: أهم خير أم قوم تبع، واسمه سعد، وقيل: أسعد، وكنيته أبو كرب، قال قتادة: ذم الله سبحانه قوم تبع، ولم يذمه.
(كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ) التنوين عوض عن المضاف إليه أي كل واحد من هؤلاء المذكورين كذب رسوله الذي أرسله الله إليه. وكذلك ما جاء به من الشرع. وكان بعض النحاة يجيز حذف تنوينها، وبناءها على الضم كالغايات، كقبل وبعد، فاللام في الرسل يكون للعهد كما سبق أو للجنس، أي كل طائفة من هذه الطوائف كذبت جميع الرسل، لأن من كذب رسولاً فكأنه كذب جميعهم، وإفراد الضمير في كذب باعتبار لفظ كل، وفي هذا تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم كأنه قيل له: لا تحزن ولا تكثر غمك لتكذيب هؤلاء لك، فهذا شأن من تقدمك من الأنبياء، فإن قومهم كذبوهم ولم يصدقهم إلا القليل منهم، والمراد بالكلية هنا التكثير، كما في قوله تعالى. (وأوتيت من كل شيء) فهي باعتبار الأغلب.
(فحق وعيد) حذفت الياء وبقيت الكسرة دليلاً عليها أي: وجب عليهم وعيدي، وحقت عليهم كلمة العذاب، وحل بهم ما قدره الله عليهم من الخسف والمسخ، والإهلاك بالأنواع التي أنزلها الله بهم من عذابه.(13/166)
أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (15)
(أفعيينا بالخلق الأول)؟ الإستفهام للتقريع والتوبيخ، والجملة مستأنفة لتقرير أمر البعث الذي أنكرته الأمم، أي: أفعجزنا بالخلق حين خلقناهم أولاً ولم يكونوا شيئاًً؟ فكيف نعجز عن بعثهم؟ يقال: عييت بالأمر إذا عجزت عنه، ولم تعرف وجهه، قال ابن عباس: يقول لم يعينا الخلق(13/166)
الأول، قال الكازروني: معناه لم نعجز عن الإبداء فلا نعجز عن الإعادة، قرأ الجمهور بكسر الياء الأولى بعدها ياء ساكنة وقرىء بتشديد الياء من غير إشباع، ثم ذكر سبحانه أنهم في شك من البعث فقال: (بل هم في لبس من خلق جديد) أي في شك وشبهة وحيرة واختلاط من خلق مستأنف، وهو بعث الأموات، لما فيه من مخالفة العادة، وتنكير خلق لتفخيم شأنه والإيذان بأنه حقيق بأن يبحث عنه، ويهتم بمعرفته، ومعنى الإضراب أنهم غير منكرين لقدرة الله على الخلق الأول (بل هم في لبس من خلق جديد) قد لبس عليهم الشيطان وحيرهم، وذلك تسويله لهم أن إحياء الموتى أمر خارج عن العادة، فتركوا لذلك الإستدلال الصحيح وهو أن من قدر على الإنشاء كان على الإعادة أقدر.(13/167)
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16)
(ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه) هذا كلام مبتدأ يتضمن ذكر بعض القدرة الربانية، والمراد بالإنسان الجنس، وقيل: آدم، ونعلم حال بتقدير نحن، والجملة إسمية ولا يصح أن يكون ونعلم حالاً بنفسه لأنه مضارع مثبت باشرته الواو وما مصدرية أو موصولة كما في البيضاوي، والباء زائدة كقولك: صوت بكذا وهمس به أو للتعدية، أي نعلم وسوسة نفسه له، أو نعلم الأمر الذي تحدثه نفسه به، فالنفس تجعل الإنسان قائماً به الوسوسة، والوسوسة هي في الأصل الصوت الخفي، والمراد بها هنا ما يختلج في سره وقلبه وضميره. أي حديث النفس، وهو ما ليس فيه صوت كالكلية لكن مناسبته للمعنى الأصلي الخفاء في كل، أي: نعلم ما يخفي ويكن في نفسه، ومن استعمال الوسوسة في الصوت الخفي قول الأعشى:
تسمع للحلي وسواساً إذا انصرفت.
فاستعمل لما خفي من حديث النفس.
(ونحن أقرب إليه) أي إلى الإنسان، لأن أبعاضه وأجزاءه يحجب بعضها بعضاً، ولا يحجب على الله شيء (من حبل الوريد) هو حبل(13/167)
العاتق، وهو ممتد من ناحية حلقه إلى عاتقه وهما وريدان، أي: عرقان عن يمين وشمال، وقال الحسن: الوريد الوتين، وهو عرق معلق بالقلب، وهو تمثيل للقرب بقرب ذلك العرق من الإنسان، أي نحن أقرب إليه بالعلم من حبل وريده، لا يخفى علينا شيء من خفيانه، فكأن ذاته قريبة منه، كما يقال: الله في كل مكان، أي: بعلمه، فإنه سبحانه منزه عن الأمكنة، وحاصله أنه تجوز بقرب الذات عن قرب العلم، قاله الكرخي والإضافة بيانية، أي حبل من الوريد، وقيل: الحبل هو نفس الوريد، فهو من باب مسجد الجامع، سمي وريداً لأن الروح ترد إليه وهو في العنق الوريد، وفي القلب الوتين، وفي الظهر الأبهر. وفي الذراع والفخذ الأكحل والنسا، وفي الخنصر الأسيلم.
وفي الخازن: الوريد الذي يجري فيه الدم ويصل إلى كل جزء من أجزاء البدن، وهو بين الحلق والعلباوين، وقال الزمخشري: إنهما وريدان يكتنفان بصفحتي العنق في مقدمهما، متصلان بالوتين يردان من الرأس إليه، قال أبو السعود: وهو عرق متصل بالقلب، إذا قطع مات صاحبه، وقيل: المعنى نحن أقرب إليه بنفوذ قدرتنا فيه، ويجري فيه أمرنا كما يجري الدم في عروقه.
وقد أخرج ابن مردويه عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " نزل الله من ابن آدم أربع منازل، هو أقرب إليه من حبل الوريد، وهو يحول بين المرء وقلبه، وهو آخذ بناصية كل دابة، وهو معهم أينما كانوا ". وقال أبو سعيد في حبل الوريد: هو عروق العنق، وعنه هو نياط القلب، قال القشيري: في هذه الآية هيبة وفزع وخوف لقوم، وروح وأنس وسكون قلب لقوم، ذكره الخطيب.
ثم ذكر الله سبحانه أنه مع علمه به وكل به ملكين يكتبان ويحفظان عليه عمله إلزاماً للحجة فقال:(13/168)
إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17)
(إذ) أي أذكر إذ (يتلقى المتلقيان) ويجوز أن يكون الظرف منتصباً(13/168)
بما في أقرب من معنى الفعل، والمعنى أنه أقرب إليه من حبل وريده، حين يتلقى المتلقيان، وهما الملكان الموكلان به، وبما يلفظ به، وما يعمل به، أي يأخذان ذلك ويثبتانه والتلقي الأخذ، وقيل: التلقي التلقن بالحفظ والكتابة، والمعنى نحن أعلم بأحواله غير محتاجين إلا الحفظة الموكلين به. وإنما جعلنا ذلك إلزاماً للحجة وتوكيداً للأمر.
(عن اليمين وعن الشمال قعيد) قال الحسن وقتادة: المتلقيان ملكان يتلقيان عملك، أحدهما عن يمينك ويكتب حسناتك، والآخر عن شمالك يكتب سيئاتك. وقال مجاهد أيضاًً: وكل الله بالإنسان ملكين بالليل، وملكين بالنهار يحفظان عمله، ويكتبان أثره، روي أنهما قاعدان على ثنيتيه، لسانه قلمهما وريقه مدادهما ذكره أبو السعود وإنما قال قعيد ولم يقل قعيدان وهما اثنان؛ لأن المراد عن اليمين قعيد. وعن الشمال قعيد. فحذف الأول لدلالة الثاني عليه؛ كذا قال سيبويه. وقال الأخفش والفراء: إن لفظ قعيد يصلح للواحد والإثنين والجمع. ولا يحتاج إلى تقدير في الأول. قال الجوهري وغيره من أئمة اللغة والنحو: فعيل وفعول مما يستوي فيه الواحد والإثنان والجمع، والقعيد المقاعد، كالجليس بمعنى المجالس لفظاً ومعنى.(13/169)
مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18)
(ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد) أي ما يتكلم من كلام فيلفظه ويرميه من فيه إلا لدى ذلك اللافظ ملك يرقب قوله ويكتب، والرقيب الحافظ المتتبع لأمور الإنسان الذي يكتب ما يقوله من خير وشر، فكاتب الخير هو ملك اليمين. وكاتب الشر ملك الشمال. والعتيد الحاضر المهيأ. قال الجوهري: العتيد المهيأ. يقال: عتده تعتيداً وأعتده إعتاداً. أي أعده. ومنه: (وأعتدت لهن متكأً) والمراد ههنا أنه معد للكتابة مهيأ لها. والإفراد في رقيب عتيد مع إطلاعهما معاً على ما صدر منه لما أن كل منهما رقيب لما فوض إليه لا لما فوض لصاحبه كما ينبىء عنه قوله: عتيد. وتخصيص القول بالذكر لإثبات الحكم في الفعل بدلالة النص. فعلم أن كلاً منهما يقال له:(13/169)
(رقيب عتيد). ويعلم من هذه الآية أن الملكين معدان لذلك بخلاف الأولى فإنه لا يعلم منها ذلك، وأيضاًً يعلم من هذه صريحاً أن الملك يضبط كل لفظ ولا يعلم ذلك من الأولى، قال أبو سعيد في الآية: يكتب كل ما تكلم به من خير أو شر حتى إنه ليكتب قوله أكلت شربت ذهبت جئت رأيت حتى إذا كان يوم الخميس عرض قوله وعمله فأقر منه ما كان من خير أو شر وألقى سائره فذلك قوله: (يمحو الله ما يشاء ويثبت) وقال ابن عباس: إنما يكتب الخير والشر، لا يكتب يا غلام أسرج الفرس يا غلام أسقني الماء.
وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إن الله غفر لهذه الأمة ما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم " (1).
وعن عمرو بن ذر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله عند لسان كل قائل فليتق الله عبد ولينظر ما يقول " أخرجه أحمد وأبو نعيم والبيهقي في الشعب وابن أبي شيبة وأخرج الحكيم الترمذي عن ابن عباس مرفوعاً مثله.
_________
(1) مسلم.(13/170)
وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (19)
(وجاءت سكرة الموت) لما بين سبحانه أن جميع أعمالهم محفوظة مكتوبة ذكر بعده ما ينزل بهم من الموت والبعث، وما يتفرع عليه من الأحوال والأهوال، وقد عبر عن وقوع كل منها بصيغة الماضي إيذاناً بتحققها، وغاية اقترابها، والمراد بسكرة الموت شدته وغمرته التي تغشى الإنسان وتغلب على عقله، ومعنى (بالحق) أنه عند الموت يتضح له الحق، ويظهر له صدق ما جاءت به الرسل من الإخبار بالبعث والوعد والوعيد، وقيل: الحق هو الموت نفسه، وقيل: في الكلام تقديم وتأخير، أي وجاءت سكرة الحق بالموت، وكذا قرأ أبو بكر الصديق وابن مسعود.
والسكرة هي الحق فأضيفت إلى نفسها لاختلاف اللفظين، وقيل الباء(13/170)
للملابسة كالتي في قوله: (تنبت بالدهن) أي متلبسة بالحق أي بحقيقة الحال وقيل بالحق من أمر الآخرة حتى يراه المنكر لها عياناً وهو نفس الشدة قاله الجلال المحلي وقال القاري: لم يظهر لي معنى هذه العبارة، وممكن أن يقال الضمير في قوله هو راجع لأمر الآخرة، والمراد بالشدة الأمر الشديد، وهو أهوال الآخرة فعلى هذا تكون هذه الجملة تفسيراً لقوله من أمر الآخرة، وقيل بالحكمة وقيل بما يؤول إليه أمر الإنسان من السعادة والشقاوة.
(ذلك) أي الموت (ما كنت منه تحيد) أي الذي كنت تميل عنه وتفر منه في حياتك، فلم ينفعك الهرب والفرار، يقال: حاد عن الشيء يحيد حيوداً وحيدة وحيدودة مال عنه وعدل. وقال الحسن: تحيد تهرب، وقيل تفزع، وقيل: تكره، وقيل تنفر(13/171)
وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (20)
(ونفخ في الصور) عبر عنه بالماضي لتحقق وقوعه، وهذه هي النفخة الآخرة للبعث عطف على جاءت سكرة الموت والصور هو القرن الذي ينفخ فيه إسرافيل عليه السلام، وهو من العظمة بحيث لا يعلم قدره إلا الله، وقد التقمه إسرافيل من حين بعث محمد صلى الله عليه وسلم منتظراً للإذن بالنفخ ذكره الخطيب (ذلك) أي الوقت الذي يكون فيه النفخ في الصور، والفعل كما يدل على المصدر يدل على الزمان أيضاًً (يوم الوعيد) الذي أوعد الله به الكفار، قال مقاتل: يعني بالوعيد العذاب في الآخرة وخصص الوعيد مع كون اليوم هو يوم الوعد والوعيد جميعاً لتهويله والمعنى يوم تحقق الوعيد وإنجازه.(13/171)
وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ (21)
(وجاءت) فيه (كل نفس) من النفوس (معها سائق وشهيد) أي من يسوقها، ومن يشهد لها وعليها، واختلف في السائق والشهيد، فقال الضحاك: السائق من الملائكة، والشهيد من أنفسهم: يعني الأيدي والأرجل وقال الحسن وقتادة: سائق يسوقها؛ وشاهد يشهد عليها بعملها أي هما ملكان، وقيل: ملك جامع بين الوصفين، وقال ابن مسلم: السائق قرينها من الشياطين سمي سائقاً لأنه يتبعها وإن لم يحثها، والشهيد جوارحه وأعماله، وقال مجاهد: السائق والشهيد ملكان، وقيل: السائق كاتب السيئات(13/171)
والشهيد كاتب الحسنات، قال عثمان بن عفان: سائق ملك يسوقها إلى أمر الله وشهيد ملك يشهد عليها بما عملت، قال القرطبي: قلت هذا أصح.
وعن أبي هريرة قال: السائق الملك، والشهيد العمل، وقال ابن عباس: السائق الملك والشهيد شاهد عليه من نفسه، ثم في الآية قولان.
أحدهما: أنها عامة في المسلم والكافر، وهو قول الجمهور.
الثاني: أنها خاصة بالكافر، قاله الضحاك ويقال للكافر:(13/172)
لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22)
(لقد كنت في غفلة من هذا) وبه قال ابن عباس. وقال الضحاك: المراد بهذا المشركون، لأنهم كانوا في غفلة من عواقب أمورهم. وقال ابن زيد: الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، أي لقد كنت يا محمد في غفلة من الرسالة، وقال أكثر المفسرين المراد به جميع الخلق برهم وفاجرهم، واختار هذا ابن جرير لأنه ما من أحد إلا وله اشتغال ما عن الآخرة، قرأ الجمهور بفتح التاء من كنت وفتح الكاف في غطاءك وبصرك حملاً على ما في لفظ كل من التذكير وقرىء بالكسر في الجميع على أن المراد النفس.
(فكشفنا عنك غطاءك) الذي كان في الدنيا، يعني رفعنا الحجاب الذي كان بينك وبين أمور الآخرة، ورفعنا ما كنت فيه من الغفلة عن ذلك، وقال ابن عباس: الحياة بعد الموت، قال البيضاوي: الغطاء الحاجب لأمور المعاد وهو الغفلة والإنهماك في المحسوسات، والإلف بها وقصور النظر عليها، قال السدي: المراد بالغطاء أنه كان في بطن أمه فولد، وقيل إنه كان في القبر فنشر، والأول أولى.
(فبصرك اليوم حديد) أي: نافذ تبصر به ما كان يخفى عليك في الدنيا، وتدرك به ما أنكرته فيها والبصر، قيل: هو بصر القلب، وقيل: بصر العين، وقال مجاهد: بصرك أي لسان ميزانك، حين توزن حسناتك وسيئاتك، وبه قال الضحاك.(13/172)
وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ (23) أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (24) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ (25) الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ (26) قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (27) قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (28) مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (29) يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (30) وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (31) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (32) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (33) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (34) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ (35)(13/173)
وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ (23)
(وقال قرينه) أي قال الملك الموكل به وهو الرقيب السابق ذكره قد تقدم أنه كاتب الحسنات وكاتب السيئات، وأن للإنسان رقيبين وهما العتيدان فإفراده لتأويله كما مر في الرقيب وفي الشهاب وزاده أن المراد بالقرين الجنس ولو جعلت الخطابات السابقة للكافر لكان وجه إفراد القرين ظاهراً.
(هذا ما لدي) أي عندي من كتاب عملك، وما موصولة أو نكرة موصوفة (عتيد) حاضر قد هيأته، كذا قال الحسن وقتادة والضحاك، وقال ابن عباس: قرينه شيطانه، وقال مجاهد: إن الملك يقول للرب سبحانه هذا الذي وكلتني به من بني آدم قد أحضرته، وأحضرت ديوان عمله. وروي عنه أنه قال: إن قرينه من الشيطان يقول ذلك أي: هذا ما قد هيأته لك بإغوائي وإضلالي وقال ابن زيد: إن المراد هنا قرينه من الإنس، وعتيد مرفوع على أنه صفة (ما) ما إن كانت موصوفة، وإن كانت موصولة فهو خبر.(13/173)
أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (24)
(ألقيا في جهنم) هذا خطاب من الله عز وجل للسائق والشهيد، قال الزجاج: هذا أمر للملكين الموكلين به، وقيل: هو خطاب للملكين من خزنة النار وقيل هو خطاب لواحد على تنزيل تثنية الفاعل منزلة تثنية الفعل(13/173)
وتكريره. وقال الخليل والأخفش: هذا كلام العرب الصحيح أن يخاطب الواحد بلفظ الاثنين يقولون أرحلاها وازجراها وخذاها وأطلقاه للواحد، قال الفراء: العرب تقول للواحد قوما عنا، وأصل ذلك أن أدنى أعوان الرجل في إبله وغنمه ورفقته في سفره اثنان. فجرى كلام الرجل للواحد على ذلك ومنه قولهم في الشعر خليلي، قال المازني: قوله (ألقيا) يدل على ألق ألق، قال المبرد: هي تثنية على التوكيد، فناب ألقيا مناب ألق ألق، أو الألف ليست للتثنية لا حقيقة ولا صورة بل هي منقلبة عن نون التوكيد الخفيفة على حد قوله:
وابدلها بعد فتح ألفا ... وقفا كما تقول في قفن قفا
وأجرى الوصل مجرى الوقف كنسفعاً، ويؤيده قراءة الحسن في الشواذ ألقين بنون التوكيد الخفيفة، ولم يقرأ بهذه القراءة أحد من السبعة وقال الكرخي: الخطاب للملكين السائق والشهيد، على ما عليه الأكثر وهو الظاهر.
(كل كفار) للنعم (عنيد) مجانب للإيمان؛ معاند لأهله: قال مجاهد وعكرمة: العنيد المعاند للحق، وقيل: المعرض عن الحق يقال عند يعند بالكسر عنود إذا خالف الحق ورده، وهو يعرفه(13/174)
مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ (25)
(مناع للخير) لا يبذل خيراً، ولا يؤدي زكاة مفروضة، أو كل حق وجب عليه في ماله (معتد) ظالم لا يقر بتوحيد الله (مريب) شك في الحق، من قولهم أراب الرجل إذا صار ذا ريب(13/174)
الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ (26)
(الذي جعل مع الله إلهاً آخر) بدل من كل، أو منصوب على الذم أو بدل من كفار، أو مرفوع بالابتداء، والخبر: (فألقياه في العذاب الشديد) أي النار، تأكيد للأمر الأول أو بدل منه.(13/174)
قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (27)
(قال قرينه ربنا ما أطغيته) مستأنفة لبيان ما يقوله القرين، والمراد به هنا الشيطان الذي قيض لهذا الكافر، أنكر أن يكون أطغاه ثم قال:(13/174)
(ولكن كان في ضلال بعيد) عن الحق، فدعوته فاستجاب لي، ولو كان من عبادك المخلصين لم أقدر عليه وقيل: إن قرينه الملك الذي كان يكتب سيئاته وإن الكافر يقول رب إنه أعجلني فيجيبه بهذا كذا، قال مقاتل وسعيد ابن جبير والأول أولى، وبه قال الجمهور.(13/175)
قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (28)
(قال) تعالى: (لا تختصموا لدي) مستأنفة كأنه قيل: فماذا قال الله؟ فقيل قال: لا تختصموا لدي، يعني الكافرين وقرناءهم، نهاهم سبحانه عن الاختصام في مواقف الحساب، قال ابن عباس: إنهم اعتذروا بغير عذر فأبطل الله حجتهم ورد عليهم قولهم (وقد قدمت إليكم بالوعيد) بإرسال الرسل وإنزال الكتب، والباء مزيدة للتأكيد، أو على تضمين قدم معنى تقدم قيل: إن مفعول قدمت إليكم هو قوله: ما يبدل أي وقد قدمت إليكم هذا القول متلبساً بالوعيد وهذا بعيد جداً.(13/175)
مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (29)
(ما يبدل) أي ما يغير (القول لدي) في ذلك أي لا خلف لوعيدي، بل هو كائن لا محالة؛ وقد قضيت عليك بالعذاب فلا تبديل له وقيل: هذا القول هو قوله: (مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا)، وقيل: هو قوله: (لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين)، وقيل: المراد بالقول هو الوعيد بتخليد الكافر في النار ومجازاة العصاة على حسب استحقاقهم، وقال الفراء وابن قتيبة: معنى الآية أنه ما يكذب عندي بزيادة في القول ولا ينقص منه لعلمي بالغيب، وهو قول الكلبي، واختاره الواحدي لأنه قال: (لدي) ولم يقل: ما يبدل قولي قيل والمعنى لا تطمعوا أني أبدل وعيدي، والعفو عن بعض المذنبين لبعض الأسباب ليس من التبديل فإن دلائل العفو في حق عصاة المذنبين تدل على تخصيص الوعيد، ولا تخصيص في حق الكافر فالوعيد على عمومه في حقهم والأول أولى.
(وما أنا بظلام للعبيد) أي لا أعذبهم ظلماً بغير جرم اجترموه ولا(13/175)
ذنب أذنبوه، وقال ابن عباس في الآية: ما أنا بمعذب من لم يجترم ولما كان نفي الظلام لا يستلزم نفي مجرد الظلم، قيل: إنه هنا بمعنى الظالم، كالتمّار بمعنى التامر، وقيل إن صيغة المبالغة لتأكيد هذا المعنى بإبراز ما ذكر من التعذيب بغير ذنب، في معرض المبالغة في الظلم، وقيل: صيغة المبالغة لرعاية جمعية العبيد من قولهم فلان ظالم لعبده، وظالم لعبيده، وقيل ظلام بمعنى ذي ظلم لقوله: (لا ظلم اليوم) وإذا لم يظلم في هذا اليوم فنفي الظلم عنه في غيره أحرى فلا مفهوم له، وقيل غير ذلك، وقد تقدم الكلام على هذا في سورة آل عمران وفي سورة الحج.(13/176)
يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (30)
(يَوْمَ نَقُولُ) قرأ الجمهور بالنون، وقرىء بالياء، وقرىء أقول ويقال، والعامل في الظرف ما يبدل القول، أو محذوف، أي: اذكر يوم أو أنذرهم يوم نقول (لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ)؟ قيل هذا الكلام على طريقة التمثيل والتخييل، ولا سؤال ولا جواب؛ وبه قال الزمخشري، والأولى أنه على طريقة التحقيق ولا يمنع من ذلك عقل ولا شرع، قال الكرخي: جعل الزمخشري هذا من باب المجاز مردود، لما ورد: تحاجت النار والجنة، واشتكت النار إلى ربها، ولا مانع من ذلك فقد سبح الحصى، وسلم الحجر على النبي صلى الله عليه وسلم، ولو فتح باب المجاز فيه لاتسع الخرق. قال النسفي: هذا على تحقيق القول من جهنم، وهو غير مستنكر، كإنطاق الجوارح والسؤال لتوبيخ الكفار، لعلمه تعالى أنها قد امتلأت أم لا، وقال الواحدي: قال المفسرون: أراها الله تصديق قوله: (لأملأن جهنم) فلما امتلأت قال لها: هل امتلأت؟ وتقول هل من مزيد؟ أي قد امتلأت ولم يبق فيّ موضع لم يمتلىء. وبهذا قال عطاء ومجاهد ومقاتل بن سليمان.
وقيل: إن هذا الإستفهام بمعنى الاستزادة، أي: أنها تطلب الزيادة على من قد صار فيها، وقيل إن المعنى أنها طلبت أن يزاد في سعتها لتضايقها(13/176)
بأهلها. والمزيد؛ إما مصدر كالمجيد، أو إسم مفعول كالمبيع، فالأول بمعنى هل من زيادة والثاني: بمعنى هل من شيء تزيد فيه؟ قال ابن عباس: وهل في من مكان يزاد فيّ؟.
وأخرج البخاري ومسلم والترمذي وغيرهم عن أنس قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تزال جهنم يلقى فيها وتقول هل من مزيد؟ حتى يضع رب العزة فيها قدمه، فينزوي بعضها إلى بعض وتقول: قط قط، وعزتك وكرمك، ولا يزال في الجنة فضل حتى ينشىء الله لها خلقاً آخر فيسكنهم في فضول الجنة (1) هذا لفظ مسلم، وأخرجاه أيضاًً من حديث أبي هريرة نحوه، وفيه: فأما النار فلا تمتلىء حتى يضع الله عليها رجله يقول لها قط قط، قيل معنى القدم هنا القوم المتقدم إلى النار، ومعنى الرجل العدد الكثير من الناس وغيرهم، وفي الباب أحاديث، ومذهب جمهور السلف فيها الإيمان بها من غير تأويل ولا تعطيل ولا تكييف ولا تحريف ولا تمثيل، وإمرارها على ظاهرها، وهذا هو الحق الذي لا محيد عنه، قال القرطبي في تذكرته: باب ما جاء أن جهنم في الأرض وأن البحر طبقها.
روي عن عبد الله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لا يركب البحر رجل إلا غاز أو حاج معتمر، فإن تحت البحر ناراً " ذكره أبو عمرو وضعفه، قال ابن عمر: لا يتوضأ بماء البحر لأنه طبق جهنم وضعفه أبو عمرو أيضاًً.
ثم لما فرغ الله سبحانه من بيان حال الكافرين شرع في بيان حال المؤمنين فقال:
_________
(1) رواه البخاري ومسلم.(13/177)
وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (31)
(وأزلفت الجنة) أي: قربت وأدنيت (للمتقين) الذين اتقوا الشرك تقريباً (غير بعيد) أو مكاناً غير بعيد منهم، بحيث يشاهدونها ويرونها في الموقف، وينظرون ما فيها مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وقيل: المعنى أنها زينت لقلوبهم في الدنيا بالترغيب والترهيب فصارت قريبة من قلوبهم، والأول أولى، وقيل: يطوي الله المسافة التي بين المؤمن والجنة فهو التقريب، وذلك إكراماً للمؤمن وبياناً لشرفه وأنه ممن تمشي إليه وقيل: المراد قرب الدخول فيها لا بمعنى القرب المكاني، وقيل: معنى أزلفت جمعت محاسنها لأنها مخلوقة، أو أن المعنى قرب حصولها لأنها تنال بكلمة طيبة، وخص المتقين بذلك لأنهم أحق بها.(13/178)
هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (32)
(هذا) إشارة إلى الجنة التي أزلفت لهم على معنى هذا الذي ترونه من فنون نعيمها (ما توعدون) والجملة بتقدير القول أي يقال لهم: هذا ما توعدون قرأ الجمهور بالفوقية، وقرىء بالتحتية (لكل أواب حفيظ) هو بدل من المتقين بإعادة الخافض، أو متعلق بقول محذوف هو حال، أي مقولاً لهم: لكل أواب، والأواب الرجاع إلى طاعة الله تعالى بالتوبة عن المعاصي، وقيل: هو المسبح، وقيل: هو الذاكر لله في الخلوة. قال الشعبي ومجاهد: هو الذي يذكر ذنوبه في الخلوة فيستغفر الله منها، وقال عبيد بن عمير: هو الذي لا يجلس مجلساً حتى يستغفر الله فيه، والحفيظ هو الحافظ حتى يثوب منها، وقال قتادة: هو الحافظ لما استودعه الله من حقه ونعمته قال مجاهد وقيل: هو الحافظ لأمر الله، وقال الضحاك: هو الحافظ لوصية الله له بالقبول، قال ابن عباس: حفيظ ذنوبه حتى رجع عنها، وقيل: حافظ لحدود الله.(13/178)
مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (33)
(من خشي الرحمن بالغيب) بدل أو بيان لكل أواب، أو بدل بعد بدل من المتقين، وفيه نظر، لأنه لا يتكرر البدل والمبدل منه واحد، ويجوز أن يكون مرفوعاً على الاستئناف، والخبر: ادخلوها بتقدير يقال لهم: ادخلوها والخشية(13/178)
انزعاج القلب عند ذكر الخطيئة، والخشية بالغيب أن يخاف الله، ولم يكن رآه، وقال الضحاك والسدي: يعني في الخلوة حيث لا يراه أحد، قال الحسن: إذا أرخى الستر وأغلق الأبواب (وجاء بقلب منيب) أي راجع إلى الله مخلص لطاعته، وقيل: بسريرة مرضية، وعقيدة صحيحة، وقيل: المنيب المقبل على الطاعة، وقيل السليم.(13/179)
ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (34)
(أدخلوها) الجمع باعتبار معنى من أي ادخلوا الجنة (بسلام) أي بسلامة من العذاب، وكل مخوف، وقيل: بسلام من الله أو من ملائكته، وقيل بسلامة من زوال النعم وحلول النقم، أي متلبسين به أو مع سلام، أي: ليسلم بعضكم على بعض، فالمراد السلام فيما بينهم، ولا مانع من حمل الآية الكريمة على كل (ذلك) إشارة إلى زمن ذلك اليوم الذي حصل فيه الدخول، كما قال أبو البقاء، وخبره: (يوم الخلود) وسماه يوم الخلود، لأنه لا انتهاء له بل هو دائم أبداً، وهذا القول في الدنيا إعلام وإخبار،
وليس ذلك قولاً يقوله عند قوله: ادخلوها، أو أن اطمئنان القلب بالقول أكثر.(13/179)
لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ (35)
(لهم ما يشاؤون فيها) أي في الجنة ما تشتهي أنفسهم، وتلذ أعينهم من فنون النعم، وأنواع الخير (ولدينا مزيد) من النعم التي لم تخطر لهم على بال ولا مرت لهم في خيال قيل: هو النظر إلى وجهه الكريم، قاله جابر وقال أنس: يتجلى لهم الرب تبارك وتعالى في كل ليلة جمعة في دار كرامته، فهذا هو المزيد، وعن علي قال: يتجلى لهم الرب عز وجل، وقيل: إن السحابة تمر بأهل الجنة فتمطرهم الحور، فيقلن: نحن المزيد الذي قال تعالى: ولدينا مزيد، وفي الباب روايات وأحاديث، ثم خوف سبحانه أهل مكة بما اتفق للقرون الماضية قبلهم، فقال:(13/179)
وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ (36) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37) وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ (38) فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (39) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ (40) وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ (41) يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ (42) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ (43) يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ (44) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ (45)(13/180)
وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ (36)
(وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ) أي قبل قريش ومن وافقهم (من قرن) أي أمة كثيرة من الكفار (هم أشد منهم بطشاً) أي: قوة كعاد وثمود وغيرهم (فنقبوا في البلاد) قرىء بتشديد القاف على الماضي، والتنقيب التنقير عن الأمر والبحث والطلب، أي ساروا وتقلبوا فيها، وطافوا بقاعها طلباً للهرب، وأصله من النقب وهو الطريق، قال مجاهد: ضربوا وطافوا، وقال النضر بن شميل: دوروا، وقال المؤرج: تباعدوا، والأول أولى؛ وقرأ ابن عباس وغيره نقبوا بفتح القاف مخففة والنقب هو الخرق والطريق في الجبل وكذا المنقب والمنقبة؛ كذا قال ابن السكيت: وجمع النقب نقوب؛ وقرىء بكسر القاف مشددة على الأمر للتهديد، أي طوفوا فيها وسيروا في جوانبها.
ولما كان التقدير ولم يسلموا مع كثرة تنقيبهم وتفتيشهم توجه سؤال فيه تنبيه الغافل وتقريع وتبكيت للمعاند الجاهل بقوله (هل من محيص)؟ لهم أو لغيرهم: أي من معدل ومحيد، ومهرب يهربون إليه من الموت أو مخلص يتخلصون به من العذاب؛ ليكون لهؤلاء وجه ما في رد أمرنا؛ وهل حرف استفهام، ومن زائدة، قال الزجاج: لم يروا محيصاً من الموت؛ والمحمص(13/180)
مصدر حاص عنه يحيص حيصاً وحيوصاً ومحيصاً ومحاصاً وحيصاناً أي عدل وحاد، والجملة مستأنفة لبيان أنه لا مهرب لهم ولا مفر، وهي من كلام الله تعالى، إذ لو كانت من كلامهم لكان التقدير هل من محيص لنا؟ فليتأمل وفي هذا إنذار لأهل مكة أنهم مثل من قبلهم من القرون لا يجدون من الموت والعذاب مفراً.(13/181)
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37)
(إن في ذلك لذكرى) أي فيما ذكر من قصتهم في هذه السورة من أولها إلى آخرها تذكرة وموعظة (لمن كان له قلب) أي عقل، قال الفراء: وهذا جائز في العربية تقول مالك قلب. وما قلبك معك أي مالك عقل وما عقلك معك، وقيل: المراد القلب نفسه، لأنه إذا كان سليماً أدرك الحقائق وتفكر كما ينبغي، وقيل لمن كان له حياة ونفس مميزة فعبر عن ذلك بالقلب، لأنه وطنها ومعدن حياتها (أو ألقى السمع) أي استمع ما يقال له من الوعظ وغيره يقال: ألق سمعك إليّ أي استمع مني، والمعنى: أنه ألقى السمع إلى ما يتلى عليه من الوحي الحاكي لما جرى على تلك الأمم.
قرأ الجمهور ألقى مبنياً للفاعل، وقرىء على البناء للمفعول ورفع السمع وأو مانعة الخلو، لا مانعة الجمع، فإن إلقاء السمع لا يجدي بدون سلامة القلب كما يلوح به قوله (وهو شهيد) أي حاضر الفهم أو حاضر القلب لأن من لا يفهم، في حكم الغائب وإن حضر بجسمه فهو لم يحضر بفهمه، قال الزجاج: أي وقلبه حاضر فيما يسمع؛ قال سفيان: أي لا يكون حاضراً وقلبه غائب قال مجاهد وقتادة: هذه الآية في أهل الكتاب، وكذا قال الحسن، وقال محمد بن كعب وأبو صالح: إنها في أهل القرآن خاصة.(13/181)
وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ (38)
(ولقد خلقنا السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام) أولها الأحد وآخرها الجمعة، فخلق الأرض في يومين ومنافعها في يومين والسموات في يومين ولو شاء لخلق الكل في أقل من لمح البصر، ولكنه تعالى من فضله علمنا(13/181)
بذلك التأني في الأمور، واليوم قد يطلق ويراد به الوقت والحين، وقد يعبر به عن مدة الزمان، أي مدة كانت وقد تقدم تفسير هذة الآية في سورة الأعراف وغيرها مراراً.
(وما مسنا من) زائدة (لغوب) أي تعب وإعياء، يقال: لغب يلغب بالضم لغوباً وقال ابن عباس: لغوب نصب، قال الواحدي: قال جماعة المفسرين: نزلت رداً على اليهود في قولهم: إن الله استراح يوم السبت واستلقى على العرش، فلذلك تركوا العمل فيه، فأكذبهم الله بقوله: وما مسنا من لغوب، وانتفاء التعب عنه لتنزهه تعالى عن صفات المخلوقين، ولعدم المماسة بينه وبين غيره إنما أمره إذا أراد شيئاًً أن يقول له كن فيكون قال الرازي: والظاهر أن المراد الرد على المشركين، والاستدلال بخلق السموات والأرض وما بينهما في أمر البعث وأما ما قاله اليهود ونقلوه فهو ما تحرف منهم، أو لم يعلموا تأويله.(13/182)
فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (39)
(فاصبر على ما يقولون) هذه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم، وأمر له بالصبر على ما يقوله المشركون، أي هون عليك ولا تحزن لقولهم، وتلق ما يرد عليك منهم بالصبر (وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب) أي نزه الله عما لا يليق بجنابه العالي، متلبساً بحمده وقت الفجر ووقت العصر، وقيل: المراد صلاة الفجر وصلاة العصر، قاله ابن عباس، وقيل الصلوات الخمس، وقيل: صلِّ ركعتين قبل طلوع الشمس وركعتين قبل غروبها، والأول أولى(13/182)
وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ (40)
(ومن الليل فسبحه) من للتبعيض أي سبحه بعض الليل، وقيل: هي صلاة الليل، وقيل ركعتا الفجر، وقيل صلاة العشاء والأول أولى.
(وإدبار السجود) أي وسبحه أعقاب الصلوات، قرأ الجمهور بفتح الهمزة جمع دبر، وقرىء بكسرها على المصدر من أدبر الشيء إدباراً إذا ولّى وقال جماعة من الصحابة والتابعين: إدبار السجود الركعتان بعد المغرب،(13/182)
وإدبار النجوم الركعتان قبل الفجر، وقد اتفق القراء السبعة في إدبار النجوم أنه بكسر الهمزة.
وعن ابن عباس قال: " بت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى ركعتين خفيفتين قبل صلاة الفجر، ثم خرج إلى الصلاة فقال: يا ابن عباس ركعتان قبل صلاة الفجر إدبار النجوم، وركعتان بعد المغرب إدبار السجود " (1) أخرجه الترمذي والحاكم وصححه وابن مردويه وابن أبي حاتم.
وعن علي بن أبي طالب قال: " سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن إدبار النجوم وإدبار السجود فقال: إدبار السجود ركعتان بعد المغرب، وإدبار النجوم ركعتان قبل الغداة " أخرجه مسدد في مسنده وابن المنذر وابن مردويه.
وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه إدبار السجود ركعتان بعد المغرب وإدبار النجوم ركعتان قبل الفجر، وعن أبي هريرة مثله، وقال ابن عباس أمره أن يسبح في إدبار الصلوات كلها، وبه قال مجاهد، قال الكرخي:
لخبر أبي هريرة في الصحيح مرفوعاً " من سبح دبر كل صلاة ثلاثاً وثلاثين وحمد الله ثلاثاً وثلاثين وكبر الله ثلاثاً وثلاثين فذلك تسعة وتسعون وتمام المائة لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير غفرت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر " (2).
_________
(1) رواه الحاكم.
(2) رواه مسلم.(13/183)
وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ (41)
(واستمع) ما يوحى إليك من أحوال القيامة، وفي ذلك تهويل وتعظيم لشأن المخبر به، وقيل: الاستماع بمعنى الانتظار وهو بعيد، وقيل(13/183)
استمع النداء والصوت أو الصيحة، قاله ابن عباس (يوم يناد المناد) هو إسرافيل أو جبرائيل يقف على صخرة بيت المقدس فينادي بالحشر، وهي صيحة القيامة، أعني النفخة الثانية في الصور من إسرافيل، وقيل إسرافيل ينفخ وجبريل ينادي أهل المحشر ويقول هلموا للحساب، فالنداء على هذا في المحشر، قال الشهاب: وهو الأصح، كما دلت عليه الآثار.
قال مقاتل: هو إسرافيل ينادي في المحشر فيقول: يا أيها الناس هلموا للحساب، وقيل ينادي أيتها العظام البالية، والأوصال المتقطعة، واللحوم المتمزقة والشعور المتفرقة، إن الله يأمركن أن تجتمعن لفصل القضاء.
(من مكان قريب) من السماء حيث يصل النداء إلى كل فرد من أفراد المحشر، قال قتادة: كنا نتحدث أنه ينادي من صخرة بيت المقدس، وبه قال ابن عباس، قال الكلبي: وهي أقرب موضع من الأرض إلى السماء بإثني عشر ميلاً، وهي وسط الأرض، وقال (1) كعب بثمانية عشر ميلاً
_________
(1) كلا، لا صحة لكلام كعب ولا صاحبه الكلبي فإن المسافة بين أعلى بقعة في الأرض وأقرب كوكب في سماء الدنيا مئات الألوف من الأميال.(13/184)
يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ (42)
(يوم يسمعون) أي الخلق كلهم (الصيحة بالحق) يعني صيحة البعث، وهي النفخة الثانية من إسرافيل، ويحتمل أن تكون قبل ندائه وبعده قاله الجلال المحلي، وهذا غير مستقيم لأن بعثهم وإحياءهم كان بصيحة واحدة كما في قوله تعالى: (إن كانت إلا صيحة واحدة) قال الكلبي: معنى بالحق بالبعث، وهو حال من الواو أي يسمعون متلبسين بالحق، أو من الصيحة أي متلبسة بالحق، وقال مقاتل: يعني أنها كائنة حقاً.
(ذلك) أي يوم النداء والسماع (يوم الخروج) من القبور، قال ابن عباس: أي يوم يخرجون إلى البعث من القبور، يعني يعلمون عاقبة تكذيبهم(13/184)
إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ (43)
(إنا نحن نحيي) في الآخرة (ونميت) في الدنيا، لا يشاركنا في(13/184)
ذلك مشارك، والجملة مستأنفة لتقرير أمر البعث (وإلينا المصير) فنجازي كل عامل بعمله.(13/185)
يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ (44)
(يوم تشقق الأرض عنهم سراعاً) أي حال كونهم مسرعين إلى المنادي الذي ناداهم (ذلك حشر) أي بعث وجمع (علينا يسير) هين، وتقديم الظرف يدل على الاختصاص، أي لا يتيسر مثل ذلك الأمر العظيم إلا على القادر الذي لا يشغله شأن عن شأن، ثم عزى الله سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم فقال:(13/185)
نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ (45)
(نحن أعلم بما يقولون) من تكذيبك فيما جئت به، ومن إنكار البعث والتوحيد.
(وما أنت عليهم بجبار) أي بمسلط، تجبرهم وتقهرهم على الإيمان والآية منسوخة بآية السيف، وجبار صيغة مبالغة من جبر الثلاثي، فإن فعالاً إنما يبنى من الثلاثي وفي المصباح أجبرته على كذا بالألف حملته عليه قهراً وغلبة. فهو مجبر، هذه لغة عامة العرب وفي لغة لبني تميم وكثير من أهل الحجاز جبرته جبراً من باب قتل، حكاه الأزهري، ثم قال جبرته لغتان جيدتان، وقال الخطابي: الجبار الذي جبر خلقه على ما أراد من أمره ونهيه، يقال جبره السلطان وأجبره بمعنى ورأيت في بعض التفاسير عند قوله تعالى: وما أنت عليهم بجبار، أن الثلاثي لغة حكاها الفراء وغيره واستشهد لصحتها بما معناه أنه لا يبنى فعال إلا من فعل ثلاثي نحو الفتاح والعلام ولم يجيء من أفعل بالألف الإدراك، فإن حمل جبار على هذا المعنى فهو وجيه، قال الفراء: وقد سمعت العرب تقول جبرته على الأمر وأجبرته وإذا ثبت ذلك فلا يعول على قول من ضعفها.
(فذكِّر بالقرآن من يخاف وعيد) أي وعيدي لعصاتي بالعذاب وأما من عداهم فلا تشتغل بهم، ثم أمره الله سبحانه بعد ذلك بالقتال قال ابن عباس قالوا: يا رسول الله لو خوفتنا فنزلت: (فذكر بالقرآن من يخاف وعيد) وهم المؤمنون.(13/185)
سورة الذاريات
(هي ستون آية وهي مكية)(13/187)
بسم الله الرحمن الرحيم
وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا (1) فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا (2) فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا (3) فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا (4) إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ (5) وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ (6) وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ (7) إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (8) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (9) قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (10) الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ (11) يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (12) يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (13) ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (14) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15) آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ (16) كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18) وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (19) وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20)
قال القرطبي: في قول الجميع: وبه قال ابن عباس وابن الزبير، وفي بعض النسخ والذاريات بالواو (بسم الله الرحمن الرحيم(13/189)
وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا (1)
والذاريات ذرواً) يقال ذرت الريح التراب تذروه ذرواً، وأذرته تذريه ذرياً، أقسم الله سبحانه بالرياح التي تذر والتراب وغيره، وقيل: المقسم به مقدر، وهو رب الذاريات وما بعدها، والأول أولى، عن علي قال: الذاريات الرياح، وقال غيره النساء الولود فإنهن يذرين الأولاد.(13/189)
فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا (2)
(فالحاملات وقراً) قال علي: هي السحاب، أي تحمل الماء كما تحمل ذوات الأربع الوقر، وانتصاب وقراً على أنه مفعول به كما يقال: حمل فلان عدلاً ثقيلاً، قرأ الجمهور بكسر الواو اسم ما يوقر، أي يحمل وقرىء بفتحها على أنه مصدر، وقيل: الرياح الحاملات للسحاب، أو النساء الحوامل(13/189)
فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا (3)
(فالجاريات يسراً) قال علي: هي السفن أي الجارية في البحر بالرياح جرياً سهلاً أي جرياً ذا يسر، وقيل: هي الرياح الجارية في مهابها أو الكواكب التي تجري في منازلها، وقيل: السحاب والأول أولى واليسر السهل في كل شيء.(13/189)
فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا (4)
(فالمقسمات أمراً) قال علي: الملائكة، وعن عمر بن الخطاب مثله، ورفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وفي إسناده أبو بكر بن سبرة وهو ضعيف لين الحديث وسعيد بن سلام وليس من أصحاب الحديث كذا قال البزار، قال ابن كثير: فهذا الحديث ضعيف رفعه وأقرب ما فيه أنه موقوف على عمر، وعن ابن عباس مثل قول علي، يعني الملائكة التي تقسم الأمور من الأمطار والأرزاق وغيرهما، أو ما يعمهم وغيرهم من أسباب القسمة أو الرياح يقسمن الأمطار بتصريف السحاب.
قال الفراء: تأتي الملائكة بأمر مختلف، جبريل بالغلظة والوحي إلى الأنبياء وميكائيل صاحب الرحمة والرزق، وملك الموت يأتي بالموت وإسرافيل صاحب الصور واللوح، وقيل تأتي بأمر مختلف بالجدب والخصب والمطر والموت والحوادث، وقيل هي السحب التي يقسم الله بها أمر العباد، وقيل: إن المراد بهذه الأوصاف الأربعة الرياح كما تقدم، فإنها توصف بجميع ذلك لأنها تذرو التراب، وتحمل الأثقال وتجري في الهواء وتقسم الأمطار وهو ضعيف جداً. والترتيب في هذه الأقسام ترتيب ذكرى ورتبى باعتبار تفاوت مراتبها في الدلالة على قدرته تعالى، أقسم الله بهذه الأشياء لشرف ذواتها، ولما فيها من الدلالة على عجيب صنعته وقدرته لكونها أموراً بديعة مخالفة لمقتضى العادة، فمن قدر عليها فهو قادر على البعث الموعود به.(13/190)
إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ (5)
(إنما توعدون لصادق) هذا جواب القسم وما مصدرية أو موصولة أي إن ما توعدون من الثواب والعقاب لكائن لا محالة(13/190)
وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ (6)
(وإن الدين) أي الحساب والجزاء على الأعمال (لواقع) أي حاصل وكائن لا محالة، ثم ابتدأ قسماً آخر فقال:(13/190)
وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ (7)
(والسماء) المراد بها هنا هي المعروفة، وقيل المراد بها السحاب والأول أولى.
(ذات الحبك) قرأ الجمهور بضم الحاء والباء، وقرىء بضمها وسكون الباء وقرىء بكسر الحاء وفتح الباء وبكسر الحاء وضم الباء قال(13/190)
ابن عطية: هي لغات قال الجلال المحلي: جمع حبيكة كطريقة وطرق، أي صاحبة الطرق في الخلقة، كالطرق في الرمل، واختلف المفسرون في تفسير الحبك فقال مجاهد وقتادة والربيع وغيرهم: المعنى ذات الخلق المستوي الحسن، قال ابن الأعرابي: كل شيء أحكمته وأحسنت عمله فقد حبكته واحتبكته، وقال الحسن وسعيد ابن جبير: ذات الزينة، وروي عن الحسن أيضاًً إنه قال: ذات النجوم وقيل: ذات البنيان المتقن، وقال الضحاك: ذات الطرائق، وبه قال الفراء: يقال لما تراه من الماء والرمل إذا أصابته الريح حبك، قال الفراء الحبك تكسر كل شيء كالرمل إذا مرت به الريح الساكنة، والماء إذا مرت به الريح، ويقال لدرع الحديد حبك وقيل: الحبك الشدة أي والسماء ذات الشدة، والمحبوك الشديد الخلق من فرس أو غيره.
قال الواحدي بعد حكاية القول الأول: هذا قول الأكثرين، قال ابن عباس: والسماء ذات الحبك أي حسنها واستوائها، وعنه قال: ذات البهاء والجمال، وإن بنيانها كالبرد المسلسل، وعنه قال: ذات الخلق الحسن: وعن ابن عمر مثله، وعن علي قال: هي السماء السابعة، واستعمال الحبك في الطرائق هو الذي عليه أهل اللغة، وإن كان الأكثر من المفسرين على خلافه، على أنه يمكن أن ترجع تلك الأقوال في تفسير الحبك إلى هذا، وذلك بأن يقال إن ما في السماء من الطرائق يصح أن يكون سبباً لمزيد حسنها، واستواء خلقها، وحصول الزينة فيها، ومزيد القوة لها، وفي البيضاوي ذات الحبك ذات الطرائق، والمراد إما الطرائق المحسوسة التي هي مسير الكواكب أو المعقولة التي تسلكها البطار ونتوصل بها إلى المعارف أو النجوم فإنها لها طرائق، أو منها تزينها كما يزين الموشي طرائق الوشي.(13/191)
إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (8)
(إنكم) هذا جواب القسم بالسماء ذات الحبك أي إنكم يا أهل مكة (لفي قول مختلف) متناقض في شأن محمد صلى الله عليه وسلم والقرآن، بعضكم يقول: إنه شاعر وبعضكم يقول إنه ساحر، وبعضكم يقول: إنه(13/191)
مجنون، والقرآن شعر سحر كهانه ووجه تخصيص القسم بالسماء المتصفة بتلك الصفة تشبيه أقوالهم في اختلافها باختلاف طرائق السماء، وقيل: المراد بكونهم في قول مختلف أن بعضهم ينفي الحشر، وبعضهم يشك فيه، وقيل كونهم يقرون أن الله خالقهم ويعبدون الأصنام، وقيل: (قول مختلف) مصدق مكذب.(13/192)
يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (9)
(يؤفك عنه من أفك) أي يصرف عن الإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم وبما جاء به أو عن الحق وهو البعث والتوحيد من صرف عن الهداية في علم الله تعالى يقال أفكه يأفكه إفكاً أي قلبه عن الشيء وصرفه عنه، ومنه قوله تعالى: قالوا أجئتنا لتأفكنا عن آلهتنا، وقال مجاهد: يؤفن عنه من أفن، والأفن فساد العقل، وقيل يحرم منه من حرم، وقال قطرب: يخدع عنه من خدع، وقال اليزيدي: يدفع عنه من دفع، وقال ابن عباس: يضل عنه من ضل، وفي الخطيب قيل: إن هذا القول مدح للمؤمنين، ومعناه يصرف عن القول المختلف من صرف عن ذلك القول ورشد إلى المستوى.(13/192)
قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (10)
(قتل الخراصون) هذا دعاء عليهم، وحكى الواحدي عن المفسرين جميعاً: أن المعنى لعن الكذابون، والمراد بالكذابين أصحاب القول المختلف، وأصل هذا التركيب الوعد بالقتل: أجري مجرى اللعن، واستعمل بمعناه تشبيهاً للملعون. الذي يفوته كل خير وسعادة بالمقتول الذي تفوته الحياة، وكل نعمة، وقال ابن الأنباري: والقتل إذا أخبر به عن الله كان بمعنى اللعنة لأن من لعنه الله فهو بمنزلة المقتول الهالك قال الفراء معنى قتل لعن، وفي القاموس ما يقتضي أن قتل يأتي بمعنى لعن، ونصه: (قتل الإنسان ما أكفره) أي: لعن (وقاتلهم الله) أي لعنهم، والخراصون الكذابون، الذين يتخرصون فيما لا يعلمون، فيقولون إن محمداً مجنون كذاب شاعر ساحر. قال الزجاج: الخراصون هم الكذابون، والخرص حزر ما على النخل من الرطب تمراً(13/192)
والخراص الذي يخرصها، وليس هو المراد هنا، قال ابن عباس في الآية: لعن المرتابون، وعنه قال: هم الكهنة وقيل: هم المقتسمون الذين اقتسموا أعقاب مكة ليصرفوا الناس عن الإسلام.(13/193)
الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ (11)
(الذين هم في غمرة) أي في غفلة وعمى وجهالة عن أمور الآخرة وأصل الغمرة ما ستر الشيء وغطاه ومنها غمرات الموت، قال ابن عباس: الغمرة الكفر والشوك (ساهون) أي لاهون غافلون، والسهو الغفلة عن الشيء، وذهابه عن القلب، وقال ابن عباس: في غفلة لاهون وعنه قال: في ضلالتهم يتمادون.(13/193)
يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (12)
(يسألون أيان يوم الدين)؟ أي يقولون متى يجيء يوم الجزاء، تكذيباً منهم واستهزاء، ثم أخبر سبحانه عن ذلك اليوم فقال:(13/193)
يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (13)
(يوم هم على النار يفتنون) أي يحرقون ويعذبون فيها يقال فتنت الذهب إذا أحرقته لتختبره وأصل الفتنة الإختبار، قال عكرمة: ألم تر أن الذهب إذا أدخل النار قيل فتن، قال ابن عباس: يفتنون يعذبون قال الشهاب: أصلها إذابة الجوهر ليظهر غشه، ثم استعمل في التعذيب والإحراق وعدى يفتنون بعلى لتضمنه معنى يعرضون.(13/193)
ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (14)
(ذوقوا فتنتكم) أي يقال لهم حين التعذيب: ذوقوا عذابكم، قاله ابن زيد، وقال مجاهد: حريقكم، ورجح الأول الفراء، وجملة (هذا الذي كنتم به تستعجلون) من جملة ما هو محكي بالقول، أي: هذا ما كنتم تطلبون تعجيله في الدنيا استهزاء منكم، وقيل هي بدل من فتنتكم؛ ولما ذكر سبحانه حال أهل النار ذكر حال أهل الجنة فقال:(13/193)
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15)
(إن المتقين في جنات وعيون) أي: هم كائنون في بساتين فيها عيون جارية في جهاتهم، وأمكنتهم، لا يبلغ وصفها الواصفون حال كونهم(13/193)
آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ (16)
(آخذين) أي قابضين (ما آتاهم ربهم) شيئاً فشيئاًً من الخير والثواب(13/193)
والكرامة، راضين به ومسرورين، ومتلقين له بالقبول: لا يستوفونه بكماله، لإمتناع استيفاء ما لا نهاية له (إنهم كانوا قبل ذلك محسنين) الجملة تعليل لما قبلها أي لأنهم كانوا في الدنيا قبل دخولهم الجنة محسنين في أعمالهم الصالحة، من فعل ما أمروا به، وترك ما نهوا عنه، قال ابن عباس: أي قبل أن تنزل الفرائض يعملون، ثم ذكر إحسانهم الذي وصفهم به فقال:(13/194)
كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17)
(كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون) الهجوع النوم بالليل دون النهار، وبابه خضع والهجعة النومة الخفيفة، والمعنى كانوا قليلاً ما ينامون من الليل ويصلون أكثره، وكذا قال المحلي، وما زائدة أو مصدرية أو موصولة، أي كانوا قليلاً من الليل هجوعهم أو ما يهجعون فيه، والتهجاع القليل من النوم وقيل: ما نافية أي ما كانوا ينامون قليلاً من الليل، فكيف بالكثير منه وهذا ضعيف جداً، وهكذا قول من قال: إن المعنى كان عددهم قليلاً، ثم ابتدأ فقال: من الليل ما يهجعون، وبه قال ابن الأنباري، وهو أضعف مما قبله وقال قتادة في تفسير هذه الآية: كانوا يصلون بين العشاءين وبه قال أبو العالية وابن وهب، قال ابن عباس: ما تأتي عليهم ليلة ينامون حتى يصبحوا، إلا يصلون فيها، وعنه قال: يقول: قليلاً ما كانوا ينامون، وعن أنس قال: كانوا يصلون بين المغرب والعشاء.(13/194)
وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18)
(وبالأسحار هم يستغفرون) أي يطلبون في أوقات السحر من الله سبحانه أن يغفر ذنوبهم، قال الحسن: مدوا الصلاة إلى الأسحار ثم أخذوا بالأسحار الاستغفار، وقال الكلبي ومقاتل ومجاهد: هم بالأسحار يصلون، وذلك أن صلاتهم طلب منهم للمغفرة، وقال الضحاك: هي صلاة الفجر، قال ابن عمر: يستغفرون يصلون، قال ابن زيد: السحر السدس الأخير من الليل والمعنى يعدون مع هذا الاجتهاد أنفسهم مذنبين، ويسألون غفران ذنوبهم لوفور علمهم بالله تعالى، وأنهم لا يقدرون على أن يقدروه حق قدره، وإن اجتهدوا سيد الخلق محمد صلى الله عليه وسلم: لا أحصي ثناء عليك،(13/194)
وقيل: يستغفرون من تقصيرهم في العبادة، وقيل: من ذلك القدر القليل الذي كانوا ينامونه من الليل ثم ذكر سبحانه صدقاتهم فقال:(13/195)
وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (19)
(وفي أموالهم حق للسائل والمحروم) أي يجعلون في أموالهم ويوجبون على أنفسهم، حقاً للسائل والمحروم، تقرباً إلى الله عز وجل بمقتضى الكرم يصلون بها الأرحام والفقراء والمساكين، وقال محمد بن سيرين وقتادة: الحق هنا الزكاة المفروضة والأولى أولى، فتحمل على صدقة النفل وصلة الرحم وقَرى الضيف لأن السورة مكية والزكاة لم تفرض إلا بالمدينة وسيأتي في سورة (سأل سائل) و (فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) بزيادة معلوم والسائل هو الذي يسأل الناس لفاقته، واختلف في تفسير المحروم فقيل هو الذي يتعفف عن السؤال حتى يحسبه الناس غنياً، فلا يتصدقون عليه، وبه قال قتادة والزهري، وقال الحسن ومحمد بن الحنفية: هو الذي لا سهم له في الغنيمة، ولا يجري عليه من الفيء شيء، وقال زيد بن أسلم: هو الذي أصيب ثمره أو زرعه أو ماشيته.
وقال القرظي: هو الذي أصيب بجائحة، وقيل: الذي لا يتكسب، وقيل: هو الذي لا يجد غني يغنيه، وقيل: هو المملوك، وقيل: الكلب، وقيل غير ذلك، قال الشعبي: لي اليوم سبعون سنة منذ احتلمت أسأل عن المحروم، فما أنا اليوم بأعلم مني فيه يومئذ، والذي ينبغي التعويل عليه ما يدل عليه المعنى اللغوي. والمحروم في اللغة الممنوع من الحرمان وهو المنع، فيدخل تحته من حرم الرزق من الأصل ومن أصيب ماله بجائحة أذهبته، ومن حرم العطاء، ومن حرم الصدقة لتعففه، وأظهر هذه الأقوال أنه المتعفف لأنه قرنه بالسائل، والمتعفف لا يسأل، ولا يكاد الناس يعطون من لا يسأل، وإنما يفطن له متيقظ، قال ابن عباس: في أموالهم حق سوى الزكاة، يصل بها رحماً ويقري بها ضيفاً، أو يعين بها محروماً، وعنه قال: السائل الذي يسأل الناس، والمحروم الذي ليس له سهم في المسلمين، وعنه قال:(13/195)
المحروم هو المحارف الذي يطلب الدنيا وتدبر عنه، ولا يسأل الناس، فأمر الله المؤمنين برفده.
وعن عائشة في الآية قالت: هو المحارف الذي لا يكاد يتيسر له مكسبه.
وأخرج الترمذي والبيهقي في سننه، " عن فاطمة بنت قيس أنها سألت النبي عن هذه الآية قال: إن في المال حقاً سوى الزكاة، وتلا هذه الآية: (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ) إلى قوله: (وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ) ".
ثم ذكر سبحانه ما نصبه من الدلائل الدالة على توحيده، ووعده ووعيده، فقال:(13/196)
وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20)
(وفي الأرض آيات) أي دلائل واضحة، وعلامات ظاهرة، من الجبال والبر والبحر والأشجار والأنهار والثمار، وفيها آثار الهلاك للأمم الكافرة، المكذبة لما جاءت به رسل الله، ودعتهم إليه، وهي مدحوة كالبساط لما فوقها، وفيها المسالك والفجاج للمتقلبين فيها، وهي مجزأة فمن سهل ومن جبل صلبة ورخوة وعذبة وسبخة، وفيها معادن مفتتة، ودواب منبثة، مختلفة الصور والأشكال متباينة الهيئات والأفعال إلى غير ذلك من بدائع صنعه وصنائع قدرته وحكمته وتدبيره.
(للموقنين) أي للموحدين الذين سلكوا الطريق السوي البرهاني، الموصل إلى المعرفة، فهم نظارون، بعيون باصرة، وأفهام نافذة، كلما رأوا آية عرفوا وجه تأويلها، فازدادوا إيقاناً على إيقانهم، وخص الموقنين بالله لأنهم الذين يعترفون بذلك ويتدبرون فيه فينتفعون به.(13/196)
وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (21) وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (22) فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (23) هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (24) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (25) فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (26) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (27) فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (28) فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (29) قَالُوا كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (30) قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (31) قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (32) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ (33)(13/197)
وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (21)
(وفي أنفسكم) في حال ابتدائها وتنقلها من حال إلى حال، آيات تدل على توحيد الله وصدق ما جاءت به الرسل، فإنه خلقهم نطفة، ثم علقة، ثم مضغة، ثم عظماً، إلى أن ينفخ فيهم الروح، ثم تختلف بعد ذلك صورهم، وألوانهم، وطبائعهم، وألسنتهم، ثم نفس خلقهم على هذه الصورة العجيبة الشأن من لحم ودم وعظم وأعضاء وحواس ومجاري ومنافس، وفي بواطنها وظواهرها من عجائب الفطرة وبدائع الخلق ما تتحير فيه الأذهان، وحسبك بالقلوب وما ركز فيها من العقول، وبالألسن والنطق ومخارج الحروف، وما في تركيبها وترتيبها ولطائفها من الآيات الساطعة والبينات القاطعة على حكمة مدبرها وصانعها، دع الأسماع والأبصار، والأطراف، وسائر الجوارح، وتأتيها لما خلقت له، وما سوى ذلك في الأعضاء من المفاصل للانعطاف والتثني، فإنه إذا جسا منها شيء جاء العجز، وإذا استرخى أناخ الذل (فتبارك الله أحسن الخالقين).
وقيل يريد اختلاف الألسن والصور والألوان والطبائع، وقيل يريد سبيلي الغائط والبول، يأكل ويشرب، من مدخل واحد، ويخرج من سبيلين، وقيل(13/197)
المراد بالأنفس الأرواح، أي وفي نفوسكم التي بها حياتكم آيات، ولا وجه لتخصيص شيء دون شيء، بل اللفظ أوسع من ذلك.
(أفلا تبصرون) أي: تنظرون بعين البصيرة والعبرة الأرض وما فيها، والأنفس وما فيها، فتستدلون بذلك على الخالق الرازق المنفرد بالألوهية، وأنه لا شريك له ولا ضد، ولا ند، وأن وعده الحق، وقوله الحق، وأن ما جاءت إليكم به رسله هو الحق الذي لا شك فيه، ولا شبهة تعتريه.(13/198)
وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (22)
(وفي السماء رزقكم) أي سبب رزقكم وهو المطر فإنه سبب الأرزاق قال سعيد بن جبير والضحاك: الرزق هنا ما ينزل من السماء من مطر وثلج وقيل: المراد بالسماء السحاب أي وفي السحاب رزقكم وقيل: المراد بالسماء المطر وسماه سماء لأنه ينزل من جهتها وقال ابن كيسان: يعني وعلى رب السماء رزقكم قال: ونظيره (وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها) وهو بعيد وقال سفيان الثوري: أي عند الله في السماء رزقكم وقيل المعنى وفي السماء تقدير رزقكم قرأ الجمهور بالإفراد، وقرىء أرزاقكم بالجمع.
(وما توعدون) من الجنة والنار قاله مجاهد، وقال عطاء: من الثواب والعقاب وقال الكلبي: من الخير والشر، وقال ابن سيرين: ما توعدون من أمر الساعة وبه قال الربيع، والأولى الحمل على ما هو الأعم من هذه الأقوال فإن جزاء الأعمال مكتوب في السماء والقضاء والقدر ينزل منها والجنة والنار فيها ثم أقسم سبحانه وتعالى بنفسه فقال:(13/198)
فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (23)
(فورب السماء والأرض إنه) أي إن ما أخبركم به في هذه الآيات (لحق) وقال الزجاج: هو ما ذكر من أمر الرزق والآيات، قال الكلبي: يعني ما قص في الكتاب، وقال مقاتل: يعني من أمر الساعة وقيل إن (ما) في قوله: وما توعدون مبتدأ وخبره فورب السماء الخ، فيكون الضمير لما ثم قال سبحانه: (مثل ما إنكم تنطقون) أي كمثل نطقكم وما زائدة كذا قال(13/198)
بعض الكوفيين وقال الزجاج والفراء: أي لحق حقاً مثل نطقكم وقال المازني إن مثل مع ما بمنزلة شيء واحد فبنى على الفتح وقال سيبويه: هو مبني لإضافته إلى غير متمكن قرأ الجمهور بنصب مثل على تقدير كمثل نطقكم وقرىء بالرفع على أنه صفة لحق لأن مثل نكرة وإن أضيفت فهي لا تتعرف بالإضافة كغير، ورجح قول المازني أبو علي الفارسي.
ومعنى الآية تشبيه تحقيق ما أخبر الله عنه بتحقيق نطق الآدمي ووجوده وهذا كما تقول إنه لحق كما إنك ههنا وإنه لحق كما أنت تتكلم والمعنى أنه في صدقه ووجوده كالذي تعرفه ضرورة.
عن أبي سعيد الخدري قال: " قال النبي صلى الله عليه وسلم، لو أن أحدكم فر من رزقه لتبعه كما يتبعه الموت " أسنده الثعلبي وذكره القرطبي وقال بعض الحكماء، معناه كما أن كل إنسان ينطق بلسان نفسه لا يمكنه أن ينطق بلسان غيره كذلك كل إنسان يأكل رزق نفسه الذي قسم له لا يقدر أن يأكل رزق غيره.(13/199)
هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (24)
(هل أتاك حديث ضيف إبراهيم)؟ ذكر سبحانه قصة إبراهيم ليبين أنه أهلك بسبب التكذيب من أهلك وفي الإستفهام تفخيم للحديث وشأنه وتنبيه على أن هذا الحديث ليس مما قد علم به رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه إنما علم طريق الوحي وقيل إن (هل) بمعنى قد كما في قوله: (هل أتى على الإنسان حين من الدهر) والضيف مصدر يطلق على الواحد والاثنين والجماعة وقد تقدم الكلام على قصة ضيف إبراهيم في سورة هود، وسورة الحجر (المكرمين) أي: إنهم مكرمون عند الله سبحانه لأنهم ملائكة جاؤوا إليه في صورة بني آدم كما قال تعالى في وصفهم في آية أخرى (بل عباد مكرمون) وقيل هم جبريل وميكائيل وإسرافيل وقال مجاهد ومقاتل: أكرمهم إبراهيم وأحسن إليهم وقام على رؤوسهم وكان لا يقوم على رؤوس الضيف(13/199)
وأمر امرأته أن تخدمهم، وقال الكلبي: أكرمهم بالعجل أي عجل لهم القرى وقيل لأنهم كانوا ضيف إبراهيم، وهو أكرم الخلق على الله يومئذ وضيف الكريم مكرمون، وقيل: لأنهم كانوا غير مدعوين والأول أولى.(13/200)
إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (25)
(إذ دخلوا عليه) العامل في الظرف الحديث، أي: هل أتاك حديثهم الواقع في وقت دخولهم عليه، أو ضيف لأنه مصدر، أو المكرمين، أو محذوف، أي: أذكر كذا ذكر السمين (فقالوا سلاماً) أي نسلم عليك سلاماً، ويحتمل أن يكون المعنى فقالوا كلاماً حسناً لأنه كلام سلم به المتكلم من أن يلغو فيكون على هذا مفعولاً به.
(قال سلام) أي قال إبراهيم سلام، والمراد به التحية، قرأ الجمهور بنصب سلام الأول ورفع الثاني على أنه مبتدأ محذوف الخبر، أي: عليكم سلام والعدول إلى الرفع لقصد إفادة، الجملة الاسمية للدوام والثبات، بخلاف الفعلية فإنها لمجرد التجدد والحدوث، ولهذا قال أهل المعاني: إن سلام إبراهيم أبلغ من سلام الملائكة، وقرىء بالرفع في الموضعين، وقرىء بالنصب فيهما وقرىء سلم بكسر السين وقرىء سلم فيهما.
(قوم) أي أنتم قوم (منكرون) قيل: إنه قال هذا في نفسه ولم يخاطبهم به لأن ذلك يخالف الإكرام، قيل: إنه أنكرهم لكونهم ابتدأوا بالسلام، ولم يكن ذلك معهوداً عند قومه، وقيل: إنه رأى فيهم ما يخالف بعض الصور البشرية، وقيل: لأنه رآهم على غير صور الملائكة الذين يعرفهم وقيل لأنهم دخلوا بغير استئذان، وقيل: المعنى أنتم غرباء ولا نعرفكم، فعرفوني من أنتم وقيل غير ذلك.(13/200)
فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (26)
(فراغ) أي عدل (إلى أهله) قاله الزجاج: أي الذين كان عندهم بقرة، وكان عامة ماله البقر قاله الخطيب، فالمراد بأهله خدمه كالرعاء، وقيل؛ ذهب إليهم في خفية من ضيوفه، والمعنى متقارب، وقد تقدم تفسيره(13/200)
في سورة الصافات. يقال: راغ وارتاغ أي: طلب وماذا تريغ، أي تريد وتطلب وراغ إلى كذا مأل إليه سراً وجاد (فجاء بعجل سمين) أي: فجاء ضيفه بعجل قد شواه لهم، كما في سورة هود (بعجل حنيذ)، وفي الكلام حذف تدل عليه الفاء الفصيحة أي: فذبح عجلاً فحنذه، فجاء به، قال في الصحاح: العجل ولد البقر، والعجول مثله، والجمع العجاجل والأنثى عجلة، وقيل: العجل في بعض اللغات الشاة.(13/201)
فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (27)
(فقربه) أي قرب العجل (إليهم) ووضعه بين أيديهم وعرض عليهم الأكل و (قال ألا تأكلون) الإستفهام للإنكار، وذلك أنه لما قربه إليهم لم يأكلوا منه، أو للعرض، أو للتحضيض(13/201)
فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (28)
(فأوجس منهم خيفة) أي أحس في نفسه خوفاً منهم لما لم يأكلوا مما قربه إليهم، وقيل: معنى أوجس أضمر، وإنما وقع له ذلك لما لم يتحرموا بطعامه، ومن أخلاق الناس أن من أكل من طعام إنسان صار آمناً منه، فظن إبراهيم أنهم جاؤوا للشر، ولم يأتوا للخير، وفي زاده أن الإنكار الحاصل قبل تقريب العجل كما مر في هود بمعنى عدم العلم بأنهم من أي بلدة، والإنكار الحاصل بعده بمعنى عدم العلم بأنهم دخلوا عليه لقصد الخير أو الشر، فإن من امتنع من تناول الطعام يخاف من شره، وقيل: إنه وقع في قلبه أنهم ملائكة، فلما رأوا ما ظهر عليه من أمارات الخوف (قالوا لا تخف) وأعلموه أنهم ملائكة مرسلون إليه من جهة الله سبحانه.
(وبشروه بغلام عليم) أي ذي علم كثير عند أن يبلغ مبالغ الرجال والمبشر به عند الجمهور هو إسحق وقال مجاهد وحده: إنه إسماعيل وهو مردود بقوله: (وبشرناه بإسحق) وقد قدمنا تحقيق هذا الكلام في هود بما لا يحتاج الناظر فيه إلى غيره(13/201)
فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (29)
(فأقبلت امرأته) أي سارة (في صرة) لم يكن هذا الإقبال من مكان إلى مكان، وإنما هو كقولك: أقبل يشتمني أي أخذ في شتمي كذا قال الفراء وغيره، والصرة الصيحة والضجة. أي: جاءت صائحة لأنها لما بشرت بالولد وجدت حرارة الدم، أي دم الحيض، وقيل الصرة:(13/201)
الجماعة من الناس، قال الجوهري: الضجة والصيحة والصرة الجماعة، والصرة الشدة من حرب أو غيره، وقال عكرمة وقتادة: إنها الرنة والتأوه، والمعنى أنها كانت في زاوية من زوايا البيت تنظر إليهم فأقبلت في صيحة أو ضجة أو في جماعة من الناس يستمعون كلام الملائكة.
(فصكت وجهها) أي ضربت بيدها مبسوطة على وجهها كما جرت بذلك عادة النساء عند التعجب، قال مقاتل والكلبي: جمعت أصابعها فضربت جبينها تعجباً، ومعنى الصك ضرب الشيء بالشيء العريض يقال: صكه أي ضربه، وقال ابن عباس: في صرة في صيحة، فصكت لطمت (وقالت) كيف ألد (وأنا عجوز عقيم) استبعدت ذلك لكبر سنها، ولكونها عقيماً لا تلد.(13/202)
قَالُوا كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (30)
(قالوا كذلك) أي: كما قلنا لك وأخبرناك (قال ربك) فلا تشكي في ذلك ولا تعجبي منه، فإن ما أراد الله كائن لا محالة، ولم نقل ذلك من جهة أنفسنا وقد كانت إذ ذاك بنت تسع وتسعين سنة، وإبراهيم ابن مائة سنة، وكان بين البشارة والولادة سنة، ذكره القرطبي، وقد سبق بيان هذا مستوفى وجملة (إنه هو الحكيم العليم) تعليل لما قبلها أي حكيم في أفعاله وأقواله عليم بكل شيء.(13/202)
قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (31)
(قال فما خطبكم)؟ مستأنفة جواباً عن سؤال مقدر، كأنه قيل فماذا قال إبراهيم بعد هذا القول من الملائكة؟ والخطب الشأن والقصة، والمعنى فما شأنكم وقصتكم؟ (أيها المرسلون) من جهة الله، وما ذاك الأمر الذي لأجله أرسلكم سوى هذه البشارة؟.(13/202)
قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (32)
(قالوا إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين) أي كافرين يريدون قوم لوط(13/202)
لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ (33)
(لنرسل) أي لننزل (عليهم) من السماء (حجارة) أي: لنرجمهم بحجارة (من طين) متحجرة مطبوخ بالنار، واستدل به على وجوب الرجم بالحجارة على اللائط.(13/202)
مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (34) فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (36) وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (37) وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (38) فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (39) فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (40) وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (41) مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (42) وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ (43) فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (44) فَمَا اسْتَطَاعُوا مِنْ قِيَامٍ وَمَا كَانُوا مُنْتَصِرِينَ (45) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (46) وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (47)(13/203)
مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (34)
(مسومة) صفة لحجارة أو حال من الضمير المستكن في الجار والمجرور، أو من الحجارة لكونها وصفت بالجار والمجرور، أي: معلمة بعلامات تعرف به، قيل: كانت مخططة بسواد وبياض، وقيل: بسواد وحمرة، وقيل: معروفة بأنها حجارة العذاب، وقيل: مكتوب على كل حجر من يهلك بها (عند ربك) ظرف لمسومة أي: معلمة عنده (للمسرفين) المتمادين في الضلال المجاوزين الحد في الفجور بإتيانهم الذكور، وقال مقاتل: المشركين والشرك أسرف الذنوب وأعظمها، قال السدي ومقاتل: كانوا ستمائة ألف فأدخل جبريل جناحه تحت الأرض فاقتلع قراهم وكانت أربعة، ورفع حتى سمع أهل السماء أصواتهم، ثم قلبها، ثم أرسل عليهم الحجارة فتتبعت الحجارة شذاذهم ومسافريهم، أفاده زاده، وهو جمع شاذ أي الخارجين منهم عن أرضهم.(13/203)
فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35)
(فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين) هذا كلام من جهة الله سبحانه أي لما أردنا إهلاك قوم لوط أخرجنا من كان في قرى قوم لوط من قومه المؤمنين به، والفاء مفصحة عن جمل قد حذفت ثقة بذكرها في مواضع أخر، كأنه(13/203)
قيل فباشروا ما أمروا به فأخرجنا من كان فيها بقولنا (فأسر بأهلك)(13/204)
فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (36)
(فما وجدنا فيها) أي في قرى قوم لوط، وهي وإن لم تذكر لكن دل عليها السياق.
(غير بيت من المسلمين) أي غير أهل بيت، يقال بيت شريف ويراد به أهله، قيل: وهم أهل بيت لوط، وقال مجاهد: لوط وابنتاه، وعن سعيد بن جبير قال كانوا ثلاثة عشر ونحوه قال الأصفهاني والإسلام الإنقياد والاستسلام لأمر الله سبحانه فكل مؤمن مسلم، ومن ذلك قوله: (قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا) وقد أوضح الفرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الإسلام والإيمان في الحديث الثابت في الصحيحين وغيرهما من طرق أنه سئل عن الإسلام فقال: " أن تشهد أن لا إله إلا الله وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة وتحج البيت وتصوم رمضان، وسئل عن الإيمان فقال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله والقدر خيره وشره " (1) فالمرجع في الفرق بينهما هو الذي قاله الصادق المصدوق ولا التفات إلى غيره مما قاله أهل العلم في رسم كل واحد منهما برسوم مضطربة مختلفة مختلة متناقضة.
وأما ما في الكتاب العزيز من اختلاف مواضع استعمال الإسلام والإيمان فذلك باعتبار المعاني اللغوية، والاستعمالات العربية، والواجب تقديم الحقيقة الشرعية على اللغوية، والحقيقة الشرعية هي هذه التي أخبرنا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأجاب سؤال السائل له عن ذلك بها، قال الكرخي: فيه إشارة إلى ما قاله الخطابي وغيره، أن المسلم قد يكون مؤمناً، وقد لا يكون والمؤمن مسلم دائماً فهو أخص، وبهذا يستقيم تأويل الآيات والأحاديث
_________
(1) رواه مسلم.(13/204)
وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (37)
(وتركنا فيها) أي في تلك القرى بعد إهلاك الكافرين (آية) أي: علامة ودلالة تدل على ما أصابهم من العذاب. وهي تلك الأحجار أو صخر منضود أو ماء أسود منتن خرج من أرضهم أو آثار العذاب في تلك القرى فإنها ظاهرة(13/204)
بينة، وقيل هذه الآية المتروكة نفس القرى الخربة.
(للذين يخافون العذاب الأليم) أي كل من يخاف عذاب الله ويخشاه من أهل ذلك الزمان ومن بعدهم، فلا يفعل مثل فعلهم وإنما خص هؤلاء لأنهم الذين يتعظون بالمواعظ، ويتفكرون في الآيات دون غيرهم، ممن لا يخاف ذلك، وهم المشركون المكذبون بالبعث، والوعد والوعيد(13/205)
وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (38)
(و) تركنا (في) قصة (موسى) آية وهذا معنى واضح قاله السمين، أو في الأرض، وفي موسى آيات، قاله الفراء وابن عطية والزمخشري، قال أبو حيان: وهو بعيد جداً ينزه القرآن عن مثله، وقيل: وتركنا فيها آية وجعلنا في موسى آية، قال أبو حيان: ولا حاجة إلى إضمار: وجعلنا لأنه قد أمكن أن يكون العامل في المجرور وتركنا، والوجه الأول هو الأولى، وما عداه متكلف متعسف لم تلجىء إليه حاجة ولا دعت إليه ضرورة.
(إذ أرسلناه إلى فرعون) الظرف متعلق بمحذوف وهو نعت لآية أي كائنة وقت أرسلناه، وبآية نفسها أو منصوب بتركنا والأول أولى (بسلطان مبين) وهو الحجة الظاهرة الواضحة، وهي العصا وما معها من الآيات الثمان(13/205)
فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (39)
(فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ) التولي الإعراض، والركن الجانب، قاله الأخفش والمعنى أعرض عن الإيمان بجانبه أي مع جنوده لأنهم له كالركن كما في قوله؛ (أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ). قال الجوهري: ركن الشيء جانبه الأقوى، ويأوي إلى ركن شديد أي عز ومنعة، وقال ابن عباس: بركنه بقومه، وقال ابن زيد ومجاهد وغيرهما: الركن جمعه وجنوده الذين كان يتقوى بهم، ومنه قوله تعالى: (أو آوي إلى ركن شديد)، أي عشيرة ومنعة، وقيل؛ الركن نفس القوة، وبه قال قتادة وغيره.
(وقال) فرعون في حق موسى (ساحر أو مجنون) فردد فيما رآه من أحوال موسى بين كونه ساحراً أو مجنوناً فـ (أو) هنا على بابها من الإبهام على السامع، أو للشك، نزل نفسه منزلة الشاك في أمره، تمويهاً على قومه، وهذا(13/205)
من اللعين مغالطة وإيهام لقومه، فإنه يعلم أن ما رآه من الخوارق لا يتيسر على يد ساحر ولا يفعله من به جنون، وقال أبو عبيدة: إن أو بمعنى الواو، لأنه قد قال ذلك جميعاً ولم يتردد، وبه قال المؤرج كقوله: (ولا تطع منهم آثماً أو كفوراً)، قال تعالى: (إن هذا لساحر عليم) وقال في موضع آخر: (إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون). وتجيء أو بمعنى الواو ورد الناس عليه وقالوا لا ضرورة تدعو إلى ذلك؛ وأما الآيتان فلا تدلان على أنه قالهما معاً وإنما يفيدان أنه قالهما أعم من أن يكونا معاً، أو هذه في وقت وهذه في وقت آخر ذكره السمين.(13/206)
فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (40)
(فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم) أي طرحناهم في البحر فغرقوا (وهو) أي فرعون (مليم) أي: آت بما يلام عليه حين ادعى الربوبية وكذب الرسل وكفر بالله وطغى في عصيانه، وفي الإسناد تجوز على حد عيشة راضية؛ يقال: ألام الرجل فعل ما يستحق عليه اللوم، واللوم العذل، تقول لامه على كذا، من باب قال: ولومه أيضاًً فهو ملوم، واللائمة الملامة.(13/206)
وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (41)
(و) تركنا (في) قصة إهلاك (عاد) آية (إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم) وهي التي لا خير فيها ولا بركة لا تلقح شجراً ولا تحمل مطراً إنما هي ريح العذاب والإهلاك، قال علي: هي النكباء وهي كل ريح هبت بين ريحين لتنكبها وانحرافها عن مهاب الرياح المعروفة، وهي رياح متعددة لا ريح واحدة، قال ابن عباس: الريح العقيم الشديدة التي لا تلقح شيئاًً، وعنه قال: لا تلقح الشجر ولا تثير السحاب، واختلف فيها فقيل: الجنوب، والأظهر أنها الدبور.
" لقوله صلى الله عليه وسلم نصرت بالصبا: وأهلكت عاد بالدبور "؛ العقم ههنا مستعار للمعنى المذكور على سبيل التبعية، شبه ما في الريح من الصفة التي تمنع من إنشاء مطر أو إلقاح شجر بما في المرأة من الصفة المذكورة التي تمنع من الحمل، ثم قيل العقيم وأريد به ذلك المعنى بقرينة وصف الريح(13/206)
به، أو سماها عقيماً، لأنها أهلكتهم وقطعت دابرهم، أفاده الكرخي، وفي الشهاب أصل العقم اليبس المانع من قبول الأثر، كما قاله الراغب، وهو فعيل، بمعنى فاعل أو مفعول، فلما أهلكتهم وقطعت نسلهم شبه ذلك الإهلاك بعدم الحمل لما فيه من إذهاب النسل، وهذا هو المراد هنا ثم وصف سبحانه هذه الريح فقال:(13/207)
مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (42)
(ما تذر من شيء أتت عليه) أي: مرت عليه من أنفسهم وأنعامهم وأموالهم (إلا جعلته كالرميم) أي: كالشيء الهالك البالي المتفتت، وقال قتادة: هو الذي ديس من يابس النبات، وقال السدي وأبو العالية: أنه التراب المدقوق، وقال قطرب: إنه الرماد، وقيل: ما رمته الماشية من الكلأ وأصل الكلمة من رم العظم إذا بلى فهو رميم، والرمة العظام البالية، والجمع رمم ورمام، قال ابن عباس: كالرميم كالشيء الهالك البالي، وفي القرطبي كالشيء الهشيم يقال للنبت إذا يبس وتفتت رميم وهشيم، والتقدير ما تترك من شيء إلا مجعولاً كالرميم فالجملة في موضع المفعول الثاني؛ لتذر وأعربها أبو حيان حالاً، وليس بظاهر.(13/207)
وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ (43)
(وفي ثمود إذ قيل لهم) أي وتركنا في قصة ثمود آية وقت أن قلنا لهم بعد عقر الناقة: (تمتعوا حتى حين) أي عيشوا متمتعين بالدنيا إلى حين وقت الهلاك وإنقضاء الأجل. وهو ثلاثة أيام كما في قوله تعالى: (تمتعوا في داركم ثلاثة أيام)(13/207)
فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (44)
(فعتوا عن أمر ربهم) أي تكبروا عن امتثال أمر الله. وهذا ترتيب إخباري وإلا ففي الحقيقة عتوهم إنما كان قبل وعدهم بالهلاك الذي هو المراد من قوله: تمتعوا حتى حين على تفسيره، إذ المراد به ما بقي من آجالهم، والمراد بأمر ربهم، هو المذكور في سورة هود: (يا قوم هذه ناقة الله لكم آية).
(فأخذتهم) بعد مضي ثلاثة أيام (الصاعقة) وهي كل عذاب(13/207)
مهلك وقرىء الصعقة وهي المرة من مصدر صعقتهم الصاعقة وأخذتهم من بعد عقر الناقة، والصاعقة هي نار تنزل من السماء فيها رعد شديد وقد مر الكلام على الصاعقة في البقرة وفي مواضع (وهم ينظرون) أي: يرونها عياناً، لأنها كانت نهاراً، وقيل: إن المعنى ينتظرون ما وعدوه من العذاب والأول أولى.(13/208)
فَمَا اسْتَطَاعُوا مِنْ قِيَامٍ وَمَا كَانُوا مُنْتَصِرِينَ (45)
(فما استطاعوا من قيام) أي لم يقدروا على القيام حين نزول العذاب، قال قتادة: من نهوض: يعني لم ينهضوا من تلك الصرعة، والمعنى أنهم عجزوا عن القيام فضلاً عن الهرب، ومثله قوله تعالى: (فأصبحوا في ديارهم جاثمين) (وما كانوا منتصرين) أي ممتنعين من عذاب الله بغيرهم ممن أهلكهم الله أو لم تمكنهم مقابلتها بالعذاب، لأن معنى الإنتصار المقابلة.(13/208)
وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (46)
(و) أهلكنا أو نبذنا أو اذكر (قوم نوح) وثلاثة أوجه أخر في النصب ذكرها السمين، وفي قراءة الجر أربعة أوجه ذكرها السمين أيضاًً لا نطول بذكرها (من قبل) أي من قبل هؤلاء المهلكين، فإن زمانهم متقدم على زمن فرعون وعاد وثمود (إنهم كانوا قوماً فاسقين) أي خارجين عن طاعة الله(13/208)
وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (47)
(وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ) أي بقوة وقدرة قاله ابن عباس، قيل: التقدير وبنينا السماء بنيناها، وقرىء برفع السماء على الابتداء.
(وإنا لموسعون) الموسع ذو الوسع والسعة، والمعنى إنا لذو سعة بخلقها وخلق غيرها لا نعجز عن ذلك، وقيل: لقادرون من الوسع بمعنى الطاقة والقدرة، وقيل: إنا لموسعون الرزق بالمطر، قال الجوهري: أوسع الرجل صار ذا سعة وغنى، وقيل: جاعلوها واسعة، وعليه تكون الحال مؤسسة أخبر أولاً أنه بناها بقوته وقدرته، وثانياً بأنه وسعها أي جعلها واسعة، فالأرض بالنسبة إليها كحلقة في فلاة.(13/208)
وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ (48) وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (49) فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (51) كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (52) أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (53) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ (54) وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (55) وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58) فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلَا يَسْتَعْجِلُونِ (59) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (60)(13/209)
وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ (48)
(وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا) قرىء بنصب الأرض على الاشتغال؛ وبرفعها على الإبتداء والأول أولى لعطف جملة الإشتغال على جملة فعلية قبلها، والمعنى بسطناها ومهدناها ومددناها، فالفراش كناية عن البسط والتسوية (فنعم الماهدون) أي نحن، يقال: مهدت الفراش بسطته ووطأته وتمهيد الأمور تسويتها وإصلاحها.(13/209)
وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (49)
(ومن كل شيء خلقنا زوجين) أي: صنفين، أو أمرين متقابلين أو نوعين من ذكر وأنثى، وبر وبحر، وشمس وقمر، وحلو ومر، وسماء وأرض وليل ونهار، ونور وظلمة، وجن وإنس، وخير وشر، وموت وحياة، وسهل وحزن، وصيف وشتاء، وإيمان وكفر، وسعادة وشقاوة، وحق وباطل، وحلو وحامض؛ وسرور وغم، إلى غير ذلك مما لا ينحصر، فكل اثنين منها زوج؛ والله تعالى فرد لا مثل له (لعلكم تذكرون) أي: خلقنا ذلك هكذا لتتذكروا فتعرفوا أنه خالق كل شيء، وتستدلوا بذلك على توحيد الله وصدق وعده ووعيده.(13/209)
فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (50)
(ففروا إلى الله) أي قل لهم يا محمد: إذا كان الأمر كذلك ففروا واهربوا إلى الله بالتوبة من ذنوبكم عن الكفر والمعاصي، أي إلى ثوابه من(13/209)
عقابه، بأن تطيعوه ولا تعصوه؛ وقيل: المعنى أخرجوا من مكة، وقال الحسن ابن الفضل: احترزوا عن كل شيء غير الله، فمن فر إلى غيره لم يمتنع منه، وقيل: فروا من طاعة الشيطان إلى طاعة الرحمن؛ وقيل: فروا من الجهل إلى العلم. والمعاني متقاربة أي إذا علمتم أن الله تعالى فرد لا نظير له ففروا إليه، ووحدوه ولا تشركوا به شيئاًً (إني لكم منه) أي: من الله أي من جهته (نذير) منذر (مبين) بين الإنذار، والجملة تعليل للأمر بالفرار.(13/210)
وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (51)
(ولا تجعلوا مع الله إلهاً آخر) تنصيص على أعظم ما يجب أن يفر منه وهو الشرك، فنهاهم عن الشرك بالله بعد أن أمرهم بالفرار إلى الله (إني لكم منه نذير مبين) تعليل للنهي؛ وتكرير للتوكيد، والإطالة في الوعيد أبلغ، أو الأول مرتب على ترك الإيمان والطاعة، والثاني مرتب على الإشراك وقيل إنما كرر ليعلم أن الإيمان لا ينفع إلا مع العمل، كما أن العمل لا ينفع إلا مع الإيمان، وأنه لا يفوز ولا ينجو عند الله إلا الجامع بينهما.(13/210)
كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (52)
(كذلك) أي الأمر والشأن والقصة كذلك، والكاف بمعنى مثل، ثم فصل ما أجمله بقوله: (ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون) في هذا تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم ببيان أن هذا شأن الأمم المتقدمة، وأن ما وقع من العرب من التكذيب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ووصفه بالسحر والجنون قد كان ممن قبلهم لرسلهم(13/210)
أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (53)
(أتواصوا به) الإستفهام للتقريع والتوبيخ والتعجيب من حالهم أي: هل أوصى أولهم آخرهم بالتكذيب وتواطؤوا عليه حتى قالوه جميعاً متفقين عليه؟ أو الاستفهام للنفي، أي: ما وقع منهم وصية بذلك لأنهم لم يتلاقوا في زمان واحد (بل هم قوم طاغون) إضراب عن التواصي إلى ما جمعهم من الطغيان، أي لم يتواصوا بذلك بل جمعهم الطغيان، وهو مجاوزة الحد في الكفر، فهو إضراب إنتقالي. ثم أمر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم بالإعراض عنهم فقال:(13/210)
فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ (54)
(فتول عنهم) أي: أعرض عنهم وكف عن جدالهم ودعائهم إلى الحق،(13/210)
فقد فعلت ما أمرك الله به وبلغت رسالته، وكررت عليهم الدعوة فأبوا إلا الإصرار والعناد (فما أنت بملوم) عند الله على الإعراض بعد هذا الإنذار لأنك قد أديت ما عليك وما قصرت فيما أمرت به، وبذلت المجهود في البلاغ، وهذا منسوخ بآية السيف، أو بقوله الآتي وذكر الآية قال ابن عباس: أمره الله أن يتولى عنهم ليعذبهم وعذر محمد صلى الله عليه وسلم، ولما أمره بالإعراض عنهم أمره بأن لا يترك التذكير والموعظة بالتي هي أحسن فقال:(13/211)
وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (55)
(وذكر) أي جميعهم (فإن الذكرى تنفع المؤمنين) أي من قدر الله إيمانه أو من آمن فإنه يزداد بها بصيرة، قال الكلبي: المعنى عظ بالقرآن من آمن من قومك، فإن الذكرى تنفعهم، وقال مقاتل: عظ كفار مكة، فإن الذكرى تنفع من كان في علم الله أنه يؤمن، وقيل ذكرهم بالعقوبة وأيام الله وخص المؤمنين بالتذكير لأنهم المنتفعون به.(13/211)
وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)
(وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) مستأنفة مقررة لما قبلها لأن كون خلقهم لمجرد العبادة مما ينشط رسول الله صلى الله عليه وسلم للتذكير، وينشطهم للإجابة، قيل: هذا خاص فيمن سبق بعلم الله أنه يعبده، فهو عموم مراد به الخصوص، قال الواحدي: قال المفسرون هذا خاص لأهل طاعته، يعني من أهل من الفريقين، قال: وهذا قول الكلبي والضحاك، واختيار الفراء وابن قتيبة.
قال القشيري: والآية دخلها التخصيص بالقطع، لأن المجانين والصبيان لم يؤمروا بالعبادة، ولا أرادها منهم، وقد قال: (ولقد ذرأنا لجهنم كثيراً من الجن والإنس)، ومن خلق لجهنم لا يكون ممن خلق للعبادة، قاله شيخ الإسلام زكريا نقلاً عن الرازي، فالآية محمولة على المؤمنين منهم، ويدل عليه قراءة أُبيّ بن كعب وابن مسعود، وما خلقت الجن والإنس من المؤمنين إلا ليعبدون، وقال مجاهد: إن المعنى إلا ليعرفوني قال الكلبي: وهذا قول حسن، لأنه لو لم يخلقهم لما عرف وجوده وتوحيده، وروي عن مجاهد أنه قال(13/211)
المعنى إلا لآمرهم، وأنهاهم، ويدل عليه قوله: (وما أمروا إلا ليعبدوا إلهاً واحداً لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون) واختار هذا الزجاج.
وقال زيد بن أسلم: هو ما جبلوا عليه من السعاده والشقاوة، فخلق السعداء من الجن والإنس للعبادة، وخلق الأشقياء للمعصية، وقال الكلبي: المعنى إلا ليوحدون، فأما المؤمن فيوحده في الشدة والرخاء، وأما الكافر فيوحده في الشدة دون النعمة، كما في قوله: (وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ)، وقال جماعة: إلا ليخضعوا لي ويتذللوا، ومعنى العبادة في اللغة الذل والخضوع والإنقياد، وكل مخلوق من الجن والإنس خاضع لقضاء الله متذلل لمشيئته، منقاد لما قدره عليه، خلقهم على ما أراد، ورزقهم كما قضى لا يملك أحد منهم لنفسه نفعاً ولا ضراً، ووجه تقديم الجن على الإنس ههنا تقدم وجودهم، قال ابن عباس في الآية: ليقروا بالعبودية طوعاً أو كرهاً، وعنه قال: على ما خلقتهم عليه من طاعتي ومعصيتي، وشقوتي وسعادتي، وقيل: معنى (إلا ليعبدون) إلا مستعدين لأن يعبدوا بأن خلقت فيهم العقل والحواس والقدرة التي تتحصل بها العبادة، وهذا لا ينافي تخلف العبادة بالفعل من بعضهم؛ لأن هذا البعض، وإن لم يعبد الله، لكن فيه التهيؤ والاستعداد الذي هو الغاية بالحقيقة وهذا أحسن.(13/212)
مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57)
(ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون) هذه الجملة فيها بيان استغنائه سبحانه عن عباده وأنه لا يريد منهم منفعة، كما يريده السادة من عبيدهم، بل هو الغني المطلق الرازق المعطي، وقيل: المعنى ما أريد منهم أن يرزقوا أحداً من عبادي، ولا أن يرزقوا أنفسهم، ولا يطعموا أحداً من خلقي. ولا يطعموا أنفسهم، وإنما أسند الإطعام إلى نفسه لأن الخلق عيال الله فمن أطعم عيال الله فهو كمن أطعمه.
وهذا كما ورد في قوله صلى الله عليه وسلم: " يقول الله عبدي استطعمتك فلم تطعمني " أي لم تطعم عبادي، ومن زائدة لتوكيد العموم، ثم(13/212)
بيّن سبحانه أنه هو الرازق لا غيره فقال:(13/213)
إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58)
(إن الله هو الرزاق) لا رازق سواه؛ ولا معطي غيره، فهو الذي يرزق مخلوقاته، ويقوم بما يصلحهم، فلا يشتغلوا بغير ما خلقوا له من العبادة هذا تعليل لعدم إرادة الرزق منهم (ذو القوة المتين) تعليل لعدم إحتياجه إلى استخدامهم في تمامه، من إصلاح طعامه وشرابه، ونحو ذلك، قرأ الجمهور برفع المتين على أنه وصف لرزاق، أو لذو، أو خبر بعد خبر، أو خبر مبتدأ مضمر، وعلى كل تقدير فهو تأكيد، لأن ذو القوة يفيد فائدته، وقرىء بالجر صفة للقوة والتذكير لكون تأنيثها غير حقيقي، قال الفراء: كان حقه المتينة فذكرها لأنه ذهب بها إلى الشيء المبرم المحكم الفتل، يقال: حبل متين، أي محكم القتل ومعنى المتين هنا الشديد القوة، قال ابن عباس: المتين الشديد:(13/213)
فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلَا يَسْتَعْجِلُونِ (59)
(فإن للذين ظلموا) أنفسهم بالكفر والمعاصي، من أهل مكة وغيرهم (ذنوباً) أي نصيباً من العذاب (مثل ذنوب أصحابهم) أي: نصيب الكفار من الأمم السالفة، قال ابن الأعرابي: يقال: يوم ذنوب أي: طويل الشر، لا ينقضي. وأصل الذنوب في اللغة الدلو العظيمة، ومن استعمال الذنوب في النصيب من الشيء قول الشاعر:
لعمرك والمنايا طارقات ... لكل بني أب منها ذنوب
وما في الآية مأخوذ من مقاسمة السقاة الماء بالدلو الكبيرة، فيكون لهذا ذنوب، ولهذا ذنوب فهو تمثيل جعل الذنوب مكان الحظ والنصيب، قاله ابن قتيبة، وقيل: عبر عن النصيب بالذنوب لشبهه به في أنه يصب عليهم العذاب كما يصب الذنوب، قال تعالى: (يصب من فوق رؤوسهم الحميم)، قال ابن عباس: ذنوباً دلواً، قال الراغب: الذنوب الدلو الذي له ذنب.(13/213)
(فلا يستعجلون) أي فلا يطلبوا مني أن أعجل لهم العذاب، كما في قوله: (فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين)(13/214)
فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (60)
(فويل للذين كفروا) الفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها، كما أن الفاء الأولى لترتيب النهي عن الإستعجال على ذلك، ووضع الموصول موضع ضميرهم تسجيلاً عليهم بالكفر وإشعاراً بعلة الحكم (من يومهم الذي يوعدون) العذاب فيه، قيل: هو يوم القيامة، وقيل يوم بدر والأول أولى.(13/214)
سورة الطور
(وفي نسخة والطور بالواو وهي تسع أو ثمان وأربعون آية)
وهي مكيّة قال القرطبي: في قول الجميع، قال ابن عباس: نزلت الطور بمكة، وعن ابن الزبير مثله.
" وعن جبير بن مطعم قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في المغرب بالطور "، أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما.
" وعن أم سلمة أنها سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي إلى جنب البيت بالطور وكتاب مسطور " أخرجه البخاري وغيره.(13/215)
بسم الله الرحمن الرحيم
وَالطُّورِ (1) وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ (2) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (3) وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (4) وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (5) وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (6) إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ (7) مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ (8) يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا (9) وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا (10) فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (11) الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (12) يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (13) هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (14) أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ (15) اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (16) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (17) فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (18) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (19)(13/217)
وَالطُّورِ (1)
(وَالطُّورِ) قال الجوهري والقرطبي: هو الجبل الذي كلم الله عليه موسى عليه السلام. قال مجاهد والسدي: الطور بالسريانية الجبل. والمراد به طور سيناء، قال مقاتل بن حيان: هما طوران، يقال لأحدهما: طور سيناء وللآخر طور زيتا، لأنهما ينبتان التين والزيتون، وقيل هو جبل مدين واسمه زبير، قلت: ومدين بالأرض المقدسة وهي قرية شعيب عليه السلام، وقيل: إن الطور كل جبل ينبت الشجر المثمر وما لا ينبت فليس بطور فأقسم الله سبحانه بهذا الجبل تشريفاً له وتكريماً، وتذكيراً بما فيه من الآيات، قال ابن عباس: الطور جبل.
" عن كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الطور جبل من جبال الجنة " أخرجه ابن مردويه، وكثير ضعيف جداً.(13/217)
وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ (2)
(وكتاب مسطور) أي: مكتوب متفق الكتابة بسطور مصفوفة في حروف مرتبة، جامعة لكلمات متفقة، والسطر الصف من الشيء يقال: بنى سطراً(13/217)
والسطر أيضاًً الخط والكتابة، وهو في الأصل مصدر بابه نصر، وسطر أيضاًً بفتحتين والجمع أسطار، كسبب وأسباب، وجمع الجمع أساطير، وجمع السطر أسطر وسطور كأفلس وفلوس، والمراد بالكتاب القرآن، ونكر لأنه كتاب مخصوص من بين سائر الكتب، أو للإشعار بأنه ليس مما يتعارفه الناس، وقيل: هو اللوح المحفوظ؛ وقيل جميع الكتب المنزلة وقيل ما تكتبه الحفظة قاله الفراء وغيره ومثله: (ونخرج له يوم القيامة كتاباً يلقاه منشوراً) وقوله (وإذا الصحف نشرت) وقال الكلبي: هو ما كتب الله لموسى بيده من التوراة وموسى يسمع صرير القلم، وقيل: إنه الكتاب الذي كتبه الله تعالى لملائكته في السماء يقرأون فيه ما كان وما يكون، وقيل: المراد ما كتبه الله في قلوب الأولياء من المؤمنين بيانه (أولئك كتب في قلوبهم الإيمان) وفيه بعد(13/218)
فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (3)
(في رق) متعلق بمسطور أي مكتوب في رق، وهو الصحيفة قال الجوهري: " الرق بالفتح ما يكتب فيه وهو جلد رقيق " ومنه قوله تعالى في (رق منشور) قال المبرد: " الرق ما رق من الجلد ليكتب فيه " قال أبو عبيدة وجمعه رقوق قال الراغب: الرق كل ما يكتب فيه جلداً كان أو غيره، قرىء بفتح الراء ويجوز كسرها، كما قرىء به شاذاً، وأما الرق الذي هو ملك الأرقاء فهو بالكسر لا غير، يقال عبد رق وعبد مرقوق (منشور) مبسوط مفتوح غير مطوي، لا ختم عليه، أو لائح. وهو بالنسبة للتوارة الألواح التي أنزلت على موسى، وبالنسبة للقرآن المصحف.(13/218)
وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (4)
(والبيت المعمور) بكثرة الغاشية والأهل والزوار من الملائكة قيل: هو في السماء السابعة، وقيل: في سماء الدنيا وقيل: هو الكعبة فعلى القولين الأولين يكون وصفه بالعمارة باعتبار من يدخل إليه من الملائكة، ويعبد الله فيه، وعلى القول الثالث يكون وصفه بالعمارة حقيقة أو مجازاً باعتبار كثرة من يتعبد فيه من بني آدم، وقيل: هو في السماء الثالثة أو السادسة أو الرابعة، فهذه أقوال ستة في محل البيت المعمور.
" وعن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: البيت المعمور(13/218)
في السماء السابعة يدخله كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه حتى تقوم الساعة (1) " أخرجه ابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الشعب.
وفي الصحيحين وغيرهمما: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في حديث الإسراء. بعد مجاوزته إلى السماء السابعة: ثم رفع إليَّ البيت المعمور، وإذا هو يدخله كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه ".
وعن أبي الطفيل أن ابن الكواء سأل علياً عن البيت المعمور فقال: ذلك الضراح بيت فوق سبع سموات تحت العرش، يدخله كل يوم سبعون ألف ملك، ثم لا يعودون إليه أبداً إلى يوم القيامة، ونحوه عن ابن عباس.
" وعن ابن عمر رفعه: أن البيت المعمور لبحيال الكعبة لو سقط منه شيء لسقط عليها، يصلي فيه كل يوم سبعون ألفاً ثم لا يعودون إليه "، وعن ابن عباس نحوه وضعف إسناده السيوطي.
_________
(1) رواه الحاكم.(13/219)
وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (5)
(والسقف المرفوع) يعني السماء سماها سقفاً لكونها كالسقف للأرض ومنه قوله تعالى (وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا)، وقيل هو العرش وهو سقف الجنة وقال علي السماء(13/219)
وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (6)
(والبحر المسجور) أي: الموقد المحمي من السجر وهو إيقاد النار في التنور ومنه قوله: (وإذا البحار سجرت) وقد ورد أن البحار تسجر يوم القيامة فتكون ناراً فيزاد بها في نار جهنم وقيل المسجور المملوء بالماء وهو البحر المحيط كما ذكره العمادي قيل: إنه من أسماء الأضداد، يقال بحر مسجور أي مملوء وبحر مسجور أي فارغ خال وقيل: المسجور الممسوك ومنه ساجور الكلب لأنه يمسكه وقال أبو العالية: المسجور الذي ذهب ماؤه ونضب، وقيل: المسجور المفجور ومنه قوله (وإذا البحار فجرت).
وقال الربيع بن أنس: هو الذي يختلط فيه العذب بالمالح، والأول أولى، وبه قال مجاهد، والضحاك، ومحمد بن كعب، والأخفش وغيرهم، وعن علي في(13/219)
الآية قال: بحر في السماء تحت العرش، وعن ابن عمر مثله، وقال ابن عباس: المسجور المحبوس. وعنه المرسل، والواو الأولى للقسم، والبواقي للعطف وجواب القسم قوله:(13/220)
إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ (7)
(إن عذاب ربك لواقع) أي كائن لا محالة لمن يستحقه(13/220)
مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ (8)
(ما له من دافع) يدفعه ويرده عن أهل النار خبر ثان، لأن، أو صفة لواقع ومن مزيدة للتأكيد، ووجه تخصيص هذه الأمور بالإقسام بها أنها عظيمه دالة على كمال القدرة الربانية.(13/220)
يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا (9)
(يوم تمور السماء موراً) أي إنه لواقع في هذا اليوم، والمور الاضطراب والحركة، قال أهل اللغة. مار الشيء يمور موراً إذا تحرك ودار، وجاء وذهب، قاله الأخفش وأبو عبيدة، وقال ابن عباس: تحرك، وقال الضحاك: يموج بعضها في بعض، وقال مجاهد: تدور دوراً وقيل: تجري جرياً، وقيل: تتكفأ قاله الأخفش، قال البغوي: والمور يجمع هذه المعاني، إذ هو في اللغة الذهاب والمجيء، والتردد والدوران، والاضطراب، ويطلق المور على الموج، ومنه ناقة موارة اليد، أي سريعة تموج في مشيها موجاً، ومعنى الآية أن العذاب يقع بالعصاة، ولا يدفعه عنهم دافع في هذا اليوم الذي تكون فيه السماء هكذا، وهو يوم القيامة، وقيل: إن السماء ههنا الفلك، وموره اضطراب نظمه، واختلاف سيره.(13/220)
وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا (10)
(وتسير الجبال سيراً) أي تزول عن أماكنها، وتسير عن مواضعها كسير السحاب، وتطير في الهواء، ثم تقع على الأرض مفتتة كالرمل ثم تصير كالعهن أي الصوف المندوف، ثم تطيرها الرياح فتكون هباء منبثاً، كما دل عليه كلامه في سورة النمل، قيل: ووجه تأكيد الفعلين بالمصدر الدلالة على غرابتهما وخروجهما عن المعهود، والحكمة في مور السماء، وسير الجبال الإعلام والإنذار بأن لا رجوع ولا عود إلى الدنيا لخرابها وعمارة الآخرة، وقد تقدم تفسير مثل هذا في سورة الكهف.(13/220)
فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (11)
(فويل يومئذ للمكذبين) ويل كلمة عذاب، يقال للهالك، واسم واد في جهنم، وإنما دخلت الفاء لأن في الكلام معنى المجازاة أي: إذا وقع ما(13/220)
ذكر من مور السماء وسير الجبال فويل لهم أي شدة عذاب، ثم وصف المكذبين بقوله:(13/221)
الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (12)
(الذين هم في خوض يلعبون) أي: في تردد في الباطل واندفاع فيه يلهون، لا يذكرون حساباً، ولا يخافون عقاباً، والمعنى أنهم يخوضون في أمر محمد صلى الله عليه وسلم بالتكذيب والاستهزاء، وقيل يخوضون في أسباب الدنيا، ويعرضون عن الآخرة، والخوض من المعاني الغالبة، فإنه يصلح للخوص في كل شيء إلا أنه غلب في الخوض في الباطل، كالإحضار فإنه عام في كل شيء، ثم غلب استعماله في الإحضار للعذاب، قال تعالى: (لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ)، ونظيره في الأسماء الغالبة، دابة فإنها غلبت في ذوات الأربع، والقوم غلب في الرجال أفاده الكرخي، أخذاً عن حواشي الكشاف.(13/221)
يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (13)
(يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا) الدع الدفع بعنف وجفوة، يقال؛ دععته أدعه دعاً أي: دفعته: قال الراغب: أصله أن يقال للعاثر: دع دع، وهذا بعيد من هذه اللفظة، والمعنى: أنهم يدفعون إلى النار دفعاً عنيفاً شديداً، قال مقاتل: تغل أيديهم إلى أعناقهم، وتجمع نواصيهم إلى أقدامهم ثم يدفعون إلى جهنم دفعاً على وجوههم، وقرىء يدعون مخففاً من الدعاء، أي يدعون إلى النار، قال ابن عباس: يدعون يدفعون أي يدفع في أعناقهم حتى يردوا النار، فإذا دنوا منها قال لهم خزننها:(13/221)
هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (14)
(هذه النار التي) تشاهدونها هي النار التي (كنتم بها تكذبون) في الدنيا.
ثم وبخهم سبحانه. أو أمر ملائكته بتوبيخهم فقال:(13/221)
أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ (15)
(أفسحر هذا)؟ الذي تشاهدون وترون، كما كنتم تقولون لرسل الله المرسلة، ولكتبه المنزلة هذا سحر، وقدم الخبر هنا على المبتدأ لأنه الذي وقع الاستفهام عنه، وتوجه التوبيخ إليه (أم أنتم لا تبصرون)؟ أي: أم أنتم عمي عن هذا كما كنتم عمياً عن الحق في الدنيا، وهذا بإزاء قولهم في الدنيا: (إنما سكرت أبصارنا) وظاهر كلام الكشاف أن أم منقطعة، حيث قال: أم أنتم عمي عن المخبر عنه كما كنتم عمياً عن الخبر، وهذا تقريع وتهكم، وفي التفسير الكبير: هل في أمرنا سحر؟ أم هل في بصركم خلل؟(13/221)
أي لا واحد منهما ثابت فجعلها معادلة.(13/222)
اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (16)
(اصلوها) أي إذا لم يمكنكم إنكارها، وتحققتم أن ذلك ليس بسحر، ولم يكن في أبصاركم خلل فالآن أدخلوها وقاسوا شدتها (فاصبروا) على العذاب (أو لا تصبروا) وافعلوا ما شئم فالأمران (سواء عليكم) في عدم النفع قاله أبو حيان وبه قال أبو البقاء وقيل: سواء عليكم الصبر وعدمه وإليه نحا الزمخشري والأول أحسن لأن جعل النكرة خبراً أولى من جعلها مبتدأ وجعل المعرفة خبراً.
(إنما تجزون ما كنتم تعملون) تعليل للاستواء فإن الجزاء بالعمل إذا كان واقعاً حتماً كان الصبر وعدمه سواء.(13/222)
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (17)
(إن المتقين في جنات ونعيم) لما فرغ سبحانه من ذكر حال المجرمين ذكر حال المتقين والجملة مستأنفة أو من جملة ما يقال للكفار زيادة في غمهم وحسرتهم والتنوين في جنات ونعيم للتفخيم(13/222)
فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (18)
(فاكهين بما آتاهم ربهم) يقال: رجل فاكه أي ذو فاكهة كما قيل لابن وتامر والمعنى أنهم ذوو فاكهة من فواكه الجنة وقيل ذو نعمة وتلذذ بما صاروا فيه مما أعطاهم الله عز وجل مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وقد تقدم بيان معنى هذا قرأ الجمهور فاكهين بالألف والنصب على الحال، وقرىء بالواو على أنه خبر بعد خبر وقرىء فكهين، والفكهة طيب النفس كما تقدم في الدخان، ويقال للأشر والبطر ولا يناسب التفسير به هنا، والمفاكهة الممازجة وتفكه تعجب وقيل: تندم قال تعالى (فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ) أي: تندمون وتفكه بالشيء تمتع به قيل ما مصدرية وفيه بعد من حيث المعنى إذ التفكه ليس بإعطاء الرب بل بالمعطى، وقيل موصولة والباء على أصلها أو بمعنى في.
(ووقاهم ربهم عذاب الجحيم) معطوف على الصلة أو حال بتقدير قد أو معطوف على في جنات والأول أظهر(13/222)
كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (19)
(كلوا واشربوا هنيئاً) أي يقال لهم ذلك والهني ما لا تنغيص فيه ولا نكد ولا كدر قال الزجاج: أي ليهنئكم ما صرتم إليه هنا والمعنى كلوا طعاماً هنيئاً وقد تقدم تفسير هنيئاً في سورة النساء وقال ابن عباس (هنيئاً) أي لا تموتون فيها فعندها قالوا أفما نحن بميتين إلا موتتنا الأولى وما نحن بمعذبين (بما) أي بسبب ما (كنتم تعلمون) في الدنيا للآخرة.(13/222)
مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (20) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ (21) وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (22) يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ (23) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ (24) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (25) قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ (26) فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ (27) إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (28) فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ (29) أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (30)(13/223)
مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (20)
(مُتَّكِئِينَ) على نمارق (على سرر) بضم الراء الأولى جمع سرير وقرىء بفتحها (مصفوفة) قال ابن الأعرابي: المصفوفة المتصل بعضها ببعض حتى تصير صفاً أي موضوعة بعضها إلى بعض قيل: سرر من ذهب مكللة بالدر والزبرجد والياقوت والسرير كما بين مكة وايلة (وزوجناهم) قال يونس بن حبيب: تقول العرب زوجته امرأة وتزوجت بامرأة وليس من كلام العرب زوجته بامرأة قال: وقول الله تعالى (وزوجناهم بحور عين) أي قرناهم وقال الفراء: زوجته بامرأة لغة أزد شنوءة.
وإنما قلنا قرناهم لأن الحور العين في الجنات مملوكات بملك اليمين لا بملك النكاح يقال: زوجت إبلي أي قرنت بعضها إلى بعض، وليس من التزويج الذي هو عقد النكاح، قرأ الجمهور بحور العين من غير إضافة وقرأ عكرمة بإضافة الحور إلى العين وهن عظام الأعين حسانها شداد بياض الأعين وقد تقدم تفسيرها في سورة الدخان.
ولما فرغ سبحانه من ذكر أهل الجنة على العموم ذكر حال طائفة منهم(13/223)
على الخصوص فقال(13/224)
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ (21)
(والذين آمنوا) فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه منصوب بفعل مقدر أي وأكرمنا الذين آمنوا.
والثاني: أنه مجرور على ما قاله الزمخشري والذين آمنوا معطوف على حور عين أي قرناهم بحور عين، وبالذين آمنوا أي بالرفقاء والجلساء منهم فيتمتعون تارة بملاعبة الحور العين، وتارة بمؤانسة الإخوان قال أبو حيان: ولا يتخيل أحد أن قوله والذين آمنوا معطوف على حور عين غير هذا الرجل وهو تخييل أعجمي مخالف لفهم العربي ابن عباس وغيره.
قلت: أما ما ذكره الزمخشري من المعنى فلا شك في حسنه ونضارته وليس في الكلام العربي ما يدفعه، بل لو عرض على ابن عباس وغيره لأعجبهم، وأي مانع معنوي أو صناعي يمنعه.
والثالث: أنه مرفوع على أنه مبتدأ والخبر الجملة من قوله: ألحقنا بهم والأول أولى، وقيل: المراد بالذين آمنوا المهاجرون والأنصار، وظاهر الآية العموم ولا يوجب تخصيصها بهم كونهم السبب في نزولها، إن صح ذلك، فالاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
(واتبعتهم ذريتهم بإيمان) أي حال كون الذرية متلبسة بإيمان استقلالي أو تبعي، أما الذرية الكافرة فلا تتبع آباءها، وهذا على أن الباء للملابسة لكن جمهور المفسرين على أنها للسببية، أو بمعنى في، وبهذا الاعتبار لا يظهر دخول الأولاد الكبار، فإن إيمانهم إستقلالي لا تبعي كالصغار، وقال أبو السعود: أي اتبعتهم ذريتهم بإيمان قاصر عن رتبة إيمان الآباء، واعتبار هذا القيد للإيذان بثبوت الحكم في الإيمان الكامل أصالة لا إلحاقاً، وقرأ أبو عمرو، اتبعناهم بإسناد الفعل إلى المتكلم المعظم نفسه، كقوله: ألحقنا وقرأ الباقون: اتبعتهم بإسناد الفعل إلى الذرية، وقرىء ذريتهم بالإفراد والجمع.(13/224)
ومعنى الآية: أن الله سبحانه يرفع ذرية المؤمن إليه وإن كانوا دونه في العمل، لتقر عينه، وتطيب نفسه، بشرط أن يكونوا مؤمنين فيختص ذلك بمن يتصف بالإيمان من الذرية وهم البالغون دون الصغار فإنهم وإن كانوا لاحقين بآبائهم، فبدليل آخر غير هذه الآية، وقيل: إن الذرية تطلق على الكبار والصغار، كما هو المعنى اللغوي، فيلحق بالآباء المؤمنين صغار ذريتهم وكبارهم.
(ألحقنا بهم ذريتهم) الذرية هنا تصدق على الآباء وعلى الأبناء فإن المؤمن إذا كان عمله أكثر ألحق به من دونه في العمل، ابناً كان أو أباً، وهو منقول عن ابن عباس وغيره، ويلحق بالذرية من النسب الذرية بالسبب، وهو المحبة، فإن كان معها أخذ علم أو عمل، كانت أجدر، فتكون ذرية الإفادة كذرية الولادة، قاله الخطيب، ولعل الأول أولى، وقيل: إن الضمير في بهم راجع إلى الذرية المذكورة أولاً، أي ألحقنا بالذرية المتبعة لآبائهم بإيمان ذريتهم، وإلحاق الذرية بهم بمحض الفضل والكرم، وهذا هو الأليق بكمال لطفه، قال ابن عباس أيضاًً في الآية: إن الله ليرفع ذرية المؤمن معه في درجته في الجنة، وإن كانوا دونه في العمل، لتقر به عينه، ثم قرأ هذه الآية، وأخرجه البزار وابن مردويه عنه مرفوعاً.
" وعنه أيضاًً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا دخل الرجل الجنة سأل عن أبويه وزوجته وولده، فيقال: إنهم لم يبلغوا درجتك وعملك، فيقول: يا رب قد عملت لي ولهم فيؤمر بإلحاقهم به " أخرجه الطبراني وابن مردويه.
" وعن علي بن أبي طالب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن المؤمنين وأولادهم في الجنة، وإن المشركين وأولادهم في النار، ثم قرأ(13/225)
رسول الله صلى الله عليه وسلم (والذين آمنوا) الآية " أخرجه عبد الله بن أحمد في زوائد المسند.
" وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله ليرفع الدرجة للعبد الصالح في الجنة فيقول: يا رب من أين لي هذا؟ فيقول: باستغفار ولدك لك " (1)، أخرجه أحمد وإسناده صحيح.
(وما ألتناهم من عملهم من شيء) قرىء بفتح اللام من ألتنا وبكسرها، وهما سبعيتان، أي وما نقصنا الآباء بإلحاق ذريتهم بهم من ثواب أعمالهم شيئاًً، وقيل: المعنى وما نقصنا الذرية من أعمالهم شيئاًً لقصر أعمارهم، والأول أولى، وقد قدمنا تحقيق معنى لاته وآلته في سورة الحجرات، وقرىء وآلتناهم بالد، وهو لغة قال في الصحاح: يقال ما آلته من عمله شيئاًً أي ما نقصه، قال ابن عباس: ما ألتناهم ما نقصناهم، ومن زائدة.
(كل امرىء بما كسب رهين) يعني مرهون، والظاهر أنه عام، وأن كل إنسان مرتهن بعمله، فإن قام به على الوجه الذي أمر الله به فكَّه، وإلا أهلكه، وقيل: هو بمعنى راهن، والمعنى كل امرىء بما كسب ثابت دائم وقيل: هذا خاص بالكفار لقوله: (كل نفس بما كسبت رهينة إلا أصحاب اليمين) ثم ذكر سبحانه ما أمدهم به من الخير فقال:
_________
(1) رواه أحمد.(13/226)
وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (22)
(وأمددناهم بفاكهة ولحم مما يشتهون) أي وزدناهم على ما كان لهم من مبادىء التنعم، وقتاً فوقتاً، بفاكهة متنوعة، ولحم من أنواع اللحمان، مما تشتهيه أنفسهم، ويستطيبونه من فنون النعماء وأنواع الآلاء، وإن لم يقترحوا ولم يصرحوا بطلبه، بل بمجرد ما يخطر على قلوبهم يقدم إليهم.(13/226)
"(13/227)
يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ (23)
(يتنازعون فيها) " أي يتعاطون ويتنازلون ويتعاورون هم وجلساؤهم من أقربائهم " (كأساً) " أي يتجاذب بعضهم الكأس من بعض، هذا من يد هذا، وهذا من يد هذا، تلذذاً وتأنساً، والكأس إناء الخمر، ويطلق على كل إناء مملوء من خمر أو غيره فإذا فرغ لم يسم (كأساً) (لا لغو فيها ولا تأثيم) قال الزجاج: لا يجري بينهم ما يلغي به، ولا ما فيه إثم، كما يجري بين من يشرب الخمر في الدنيا، واللغو من الكلام هو الذي لا نفع فيه ولا مضرة، والتأثيم تفعيل من الإثم، والضمير في (فيها) راجع إلى الكأس وقيل: إلى الجنة، ولا يجري فيها ما فيه إثم، والأولى أولى، قال ابن قتيبة: لا تذهب بعقولهم فيلغوا، كما يكون من خمر الدنيا، ولا يكون منهم ما يؤثمهم، وقال الضحاك: لا تأثيم أي لا كذب، قال قتادة: اللغو الباطل، وقال مقاتل بن حيان: لا فضول فيها، وقال سعيد بن المسيب: لا رفث فيها، وقال ابن زيد لا سباب ولا تخاصم فيها، قال ابن عباس: لا باطل ولا كذب فيها.(13/227)
وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ (24)
(ويطوف عليهم غلمان لهم) أي يطوف عليهم بالكأس والفواكه والطعام والنحف وغير ذلك، مماليك لهم، وقيل: أولادهم، قال الكرخي: لم يضيفهم لئلا يظن أنهم الذين كانوا يخدمونهم في الدنيا فيشفق كل من خدم أحداً في الدنيا أن يكون خادماً له في الجنة، فيحزن بكونه لا يزال تابعاً، وقيل: إنهم من أخدمهم الله تعالى إياهم من أولاد غيرهم، وقيل: هم غلمان خلقوا في الجنة قال الكلبي: لا يكبرون أبداً، وقيل هم أولاد المشركين، وهم خدم أهل الجنة، وليس في الجنة نصب ولا حاجة إلى خدمة، ولكنه أخبر بأنهم على نهاية التنعم.
(كأنهم) في الحسن واللطافة والبهاء من بياضهم وصفائهم (لؤلؤ مكنون) أي مستور مصون في الصدف، لم تمسه الأيدي، لأنه ما دام رطباً أحسن وأصفى، أو محزون لأنه لا يحزن إلا الثمين الغالي القيمة، قال الكسائي: كننت الشيء سترته وصنته من الشمس، وأكننته جعلته في(13/227)
الكن، ومنه كننت الجارية وأكننتها فهي مكنونة.(13/228)
وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (25)
(وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون) أي يسأل بعضهم بعضاً في الجنة عن حاله، وما كان فيه من تعب الدنيا، وخوف العاقبة، فيحمدون الله الذي أذهب عنهم الحزن والخوف والهم، وما كانوا فيه من الكد والنكد، بطلب المعاش وتحصيل ما لا بد منه من الرزق، وما وصلوا إليه تلذذاً واعترافاً بالنعمة وقيل: يقول بعضهم لبعض: بم صرتم في هذه المنزلة الرفيعة؟ وقيل: إن التساؤل بينهم عند البعث من القبور، والأول أولى، لدلالة السياق على أنهم قد صاروا في الجنة.
أخرج البزار، عن " أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
إذا دخل أهل الجنة الجنة اشتاقوا إلى الإخوان، فيجيء سرير هذا حتى يحاذي سرير هذا فيتحدثان فيتكىء ذا ويتكىء ذا فيتحدثان بما كانوا في الدنيا، فيقول أحدهما: يا فلان تدري أي يوم غفر الله لنا، يوم كنا في موضع كذا وكذا، فدعونا الله فغفر لنا " (1).
_________
(1) مسلم.(13/228)
قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ (26)
(قالوا) مستأنفة جواب سؤال مقدر، كأنه قيل: ماذا قال بعضهم لبعض عند التساؤل؟ فقيل: قالوا إيماء إلى علة الوصول لما هم فيه من النعيم ومحط العلة قوله الآتي: (فمنّ الله علينا) (إنا كنا قبل) أي: من قبل الآخرة، وذلك في الدنيا (في أهلنا مشفقين) أي خائفين وجلين من عذاب الله، أو كنا خائفين من عصيان الله أو من نزع الإيمان وفوت الأمان، أو من رد الحسنات والأخذ بالسيئات، والمقصود إثبات خوفهم في سائر الأوقات، والأحوال بطريق الأولى، فإن كونهم بين أهليهم مظنة الأمن، فإذا خافوا في تلك الحال، فلأن يخافوا دونها أولى، ولعل الأولى أن يجعل إشارة إلى معنى الشفقة على خلق الله، كما أن قوله الآتي (إنا كنا من قبل ندعوه)، إشارة إلى التعظيم لأمر الله.(13/228)
فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ (27)
(فمن الله علينا) بالمغفرة والرحمة وبالتوفيق لطاعته (ووقانا عذاب السموم) يعني عذاب جهنم والسموم من أسماء جهنم كذا قال الحسن ومقاتل وقال الكلبي وأبو عبيدة: هو عذاب النار، وقال الزجاج: سموم جهنم ما يوجد من حرها، قال أبو عبيدة: السموم بالنهار، وقد يكون بالليل، والحرور بالليل، وقد يكون بالنهار، وقد يستعمل السموم في لفح البرد، وهو في لفح الشمس والحر أكثر، وقيل: سميت الريح سموماً لأنها تدخل المسام وهي في الأصل الريح الحارة التي تتخلل المسام، والجمع سمائم، وقيل: سم يومنا أي: اشتد حره، قالت عائشة: لو فتح الله على أهل الأرض من عذاب السموم قدر الأنملة لأحرقت الأرض ومن عليها، وقالوا إيماء أيضاًً إلى علة الوصول:(13/229)
إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (28)
(إنا كنا من قبل ندعوه) أي نوحد الله ونعبده أو نسأله أن يمن علينا بالمغفرة والرحمة، ومحط العلة قوله: (إنه هو البر الرحيم) قرىء إنه بكسر الهمزة على الاستئناف، وبفتحها أي: لأنه، والبر كثير الإحسان، وقيل: اللطيف، قاله ابن عباس، والرحيم كثير الرحمة لعباده.(13/229)
فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ (29)
(فذكر) أي اثبت ودم على ما أنت عليه من الوعظ والتذكير (فما أنت بنعمة ربك) التي أنعم بها عليك من رجاحة العقل، وعلو الهمة، والنبوة وكرم الفعال، وطهارة الأخلاق، أو ما أنت في حال اذكارك بنعمة ربك (بكاهن ولا مجنون) وقيل: المعنى انتفى عنك الكهانة والجنون بسبب نعمة الله عليك، كما تقول: ما أنا بمعسر بحمد الله وغناه، وقيل: الباء للقسم والتقدير ما أنت ونعمة الله بكاهن ولا مجنون، والكاهن هو الذي يوهم أنه يعلم الغيب من دون وحي، أي: ليس ما تقوله كهانة، فإنك إنما تنطق بالوحي الذي أمرك الله بإبلاغه، والمقصود في الآية رد ما كان يقوله المشركون أنه كاهن أو مجنون.(13/229)
أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (30)
(أم يقولون شاعر)؟ أم هي المنقطعة وقد تقدم الخلاف، هل هي مقدرة ببل والهمزة أو ببل وحدها، قال الخليل: هي هنا للاستفهام، وقال(13/229)
سيبويه: خوطب العباد بما جرى في كلامهم، قال النحاس: يريد سيبويه أن أم في كلام العرب للخروج من حديث إلى حديث، أي لا ينبغي منهم هذا القول ولا يليق، قال الكواشي: وإنما قدرت ببل لأن ما بعدها متيقن، وما بعد أم مشكوك فيه، مسؤول عنه، وذكرت أم هنا خمس عشرة مرة، وكلها إلزامات ليس للمخاطبين بها عنها جواب، لكن قال الثعلبي نقلاً عن الخليل: إن كل ما في سورة الطور من أم فهو استفهام، وليس بعطف، وإنما استفهم تعالى مع علمه بهم تقبيحاً عليهم، وتوبيخاً لهم، كقول الشخص لغيره: أجاهل أنت؟ مع علمه بجهله.
(نتربص به) بإسناد الفعل إلى جماعة المتكلمين، وقرىء على البناء للمفعول نعت لشاعر، وقد كانت العرب تتحرز عن أذية الشاعر، فقالوا: لا نعارضه في الحال مخافة أن يغلبنا بقوة شعره، وإنما نتربص موته وهلاكه كما هلك من قبله من الشعراء (ريب المنون) أي صروف الدهر وحوادثه، والمعنى ننتظر به حوادث الأيام، فيموت كما مات غيره، أو يهلك كما هلك من قبله، والمنون يكون بمعنى الدهر، ويكون بمعنى المنية لأنها تنقص العدد، وتقطع المدد، وسمي الدهر منوناً لأنه يقطع الأجل، وإطلاق الريب على الحوادث استعارة تصريحية شبهت بالريب، أي الشك، لأنها لا تدوم ولا تبق على حال، كما أنه كذلك، قال الأخفش: المعنى نتربص إلى ريب المنون، فحذف حرف الجر، كما تقول: قصدت زيداً أي إلى زيد، قال الأصمعي: المنون واحد لا جمع له، قال الفراء: يكون واحداً وجمعاً، وقال الأخفش: جمع لا واحد له.
قال ابن عباس: إن قريشاً لما اجتمعوا إلى دار الندوة في أمر النبي صلى الله عليه وسلم قال قائل: منهم: احبسوه في وثاق، وتربصوا به المنون حتى يهلك، كما هلك من قبله من الشعراء، زهير والنابغة، إنما هو كأحدهم، فأنزل الله في ذلك هذه الآية. وقال ابن عباس: ريب المنون الموت، ثم أمره الله سبحانه أن يجيب عنهم فقال:(13/230)
قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ (31) أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُمْ بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (32) أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ (33) فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (34) أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35) أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ (36) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ (37) أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (38) أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ (39) أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (40) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (41)(13/231)
قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ (31)
(قُلْ تَرَبَّصُوا) أي انتظروا موتي أو هلاكي، أمر تهديد لا إيجاب، أو ندب أو إباحة لأن تربصهم هلاكه حرام لا محالة (فإني معكم من المتربصين) لموتكم أو هلاككم.(13/231)
أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُمْ بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (32)
(أم تأمرهم أحلامهم بهذا)؟ أي بل أتأمرهم عقولهم بهذا الكلام المتناقض؟ فإن الكاهن هو المفرط في الفطنة والذكاء، ودقة النظر. والمجنون هو ذاهب العقل، مغطى على فهمه، فضلاً عن أن تكون له فطنة وذكاء، والشاعر يكون ذا كلام موزون متسق مخيل، ولا يتأتى ذلك من المجنون قال الواحدي: قال المفسرون: كانت عظماء قريش توصف بالأحلام والعقول فأزرى الله بحلومهم حين لم تثمر لهم معرفة الحق من الباطل، وفي القاموس: الحلم بالكسر الأناة والعقل، والجمع أحلام وحلوم، فأمر الأحلام به مجاز عن أدائها إليه.
(أم هم قوم طاغون)؟ أي بل طغوا وجاوزوا الحد في العناد فقالوا ما قالوا، وهذه الإضرابات من شيء إلى شيء مع الاستفهام، كما هو مدلول أم المنقطعة، تدل على أن ما تعقبها أشنع مما تقدمها، وأكثر جرأة وعناداً.(13/231)
أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ (33)
(أم يقولون تقوله)؟ أي اختلق القرآن من جهة نفسه وافتعله(13/231)
والتقول لا يستعمل إلا في الكذب في الغالب، وإن كان أصله تكلف القول، ومنه اقتال عليه. ويقال: اقتال عليه بمعنى تحكم عليه، ثم أضرب سبحانه عن قوله تقوله وانتقل إلى ما هو أشد شناعة عليهم فقال: (بل لا يؤمنون) أي سبب صدور هذه الأقوال المتناقضة عنهم كونهم كفاراً لا يؤمنون ولا يصدقون ما جاء به رسوله استكباراً، ثم تحداهم سبحانه وألزمهم الحجة فقال:(13/232)
فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (34)
(فليأتوا بحديث) مختلق مفتعل (مثله) أي مثل القرآن في نظمه، وحسن بيانه، وبديع أسلوبه، قال الرازي: والظاهر أن الأمر ههنا على حقيقته، لأنه لم يقل فليأتوا مطلقاً بل قال (إن كانوا صادقين) فيما زعموا من قولهم: إن محمداً صلى الله عليه وسلم تقوَّله من عند نفسه، وجاء به من جهته، فهو أمر معلق على شرط، إذا وجد ذلك الشرط يجب الإتيان به، مع أنه كلام عربي وهم رؤوس العرب وفصحاؤهم، والممارسون بجميع الأوضاع العربية من نظم ونثر.(13/232)
أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35)
(أم خلقوا من غير شيء)؟ أم هي المنقطعة كما تقدم فيما قبلها، وكما سيأتي فيما بعدها، أي بل أخلقوا على هذه الكيفية البديعة: والصنعة العجيبة من غير خالق لهم؟ قال الزجاج: أي اخلقوا باطلاً لغير شيء؟ لا يحاسبون ولا يؤمرون ولا ينهون؟ وجعل من بمعنى اللام. قال ابن كيسان: أم خلقوا عبثاً وتركوا سدى؟ لا يؤمرون ولا ينهون؟ وقيل: المعنى أم خلقوا من غير أب ولا أم؟ فهم كالجماد لا يفهمون ولا تقوم عليهم حجة؟ (أم) أي بل أيقولون: (هم الخالقون) لأنفسهم فلا يؤمرون ولا ينهون، مع أنهم يقرون أن الله خالقهم، وإذا أقروا لزمتهم الحجة، قال الجلال المحلي: ولا يعقل مخلوق بغير خالق ولا معدوم يخلق فلا بد لهم من خالق هو الله الواحد، فلم لا يوحدونه ويؤمنون برسوله وكتابه.(13/232)
أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ (36)
(أم خلقوا السموات والأرض)؟ وهم لا يدعون ذلك فلزمتهم الحجة(13/232)
ولهذا أضرب عن هذا وقال: (بل لا يوقنون) أي ليسوا على يقين من الأمر، بل يخبطون في ظلمات الشك في وعد الله ووعيده، وإلا لآمنوا بنبيه وهذا فيه مزيد تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم، يعني أنهم كما طعنوا فيك طعنوا في خالقهم(13/233)
أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ (37)
(أم عندهم خزائن ربك)؟ أي خزائن أرزاق العباد وقيل: مفاتيح الرحمة قال مقاتل: يقول بأيديهم مفاتيح ربك بالرسالة، فيضعونها حيث شاؤوا، وكذا قال عكرمة، وقال الكلبي: خزائن المطر والرزق، وقيل: مقدوراته وضرب المثل بالخزائن لأن الخزانة بيت يهيأ لجمع أنواع مختلفة من الذخائر ومقدورات الرب كالخزائن التي فيها من كل الأجناس، فلا نهاية لها.
(أم هم المسيطرون)؟ أي المسلطون الغالبون القاهرون الجبارون وقيل: الأرباب القاهرون فلا يكونون تحت أمر ولا نهي ويفعلون ما يشاؤون وقرىء بالسين من سيطر عليه إذا راقبه وحفظه وقهره، ولم يأت على مفيعل إلا خمسة ألفاظ، أربعة صفة اسم فاعل مهيمن ومبيقر ومسيطر ومبيطر، وواحد اسم جبل، وهو المحيمر، قال في الصحاح: المصيطر المسلط على الشيء ليشرف عليه. وبتعهد أحواله ويكتب عمله. وأصله من السطر لأن الكتاب يسطر. أي أهم الحفظة؟ قال أبو عبيدة: سطرت على أي اتخذتني خولاً لك قرىء المصيطرون بالصاد الخالصة، وبصاد مشمَّة زاياً.(13/233)
أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (38)
(أم لهم سلم يستمعون فيه)؟ أي بل أيقولون: أن لهم سلماً ومرقى منصوباً إلى السماء يصعدون به، ويستمعون فيه كلام الملائكة، وما يوحى إليهم، ويصلون به إلى علم الغيب كما يصل إليه محمد صلى الله عليه وسلم بطريق الوحي؟ حتى تمكنهم منازعة النبي صلى الله عليه وسلم بزعمهم، وهذا الزعم منهم على سبيل الفرض والتقدير، ولم يقع منهم بالفعل لأنهم لما كانوا على حالة المعاندة والمعارضة كأنهم ادعوا ذلك؛ وقيل في بمعنى على أي يستمعون عليه كقوله (ولأصلبنكم في جذوع النخل) قاله الأخفش، وقال(13/233)
أبو عبيدة: يستمعون به وقال الزجاج: المعنى أنهم كجبريل الذي يأتي النبي صلى الله عليه وسلم بالوحي، وقيل: أي صاعدين فيه.
(فليأت مستمعهم) إن ادعى ذلك (بسلطان مبين) أي بحجة ظاهرة واضحة بينة(13/234)
أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ (39)
(أم له البنات)؟ أي بل أتقولون: لله البنات؟ (ولكم البنون)؟ سفه سبحانه أحلامهم، وضلل عقولهم، ووبخهم، أي أيضيفون إلى الله البنات؟ وهي أضعف الصنفين، ويجعلون لأنفسهم البنين وهم أعلاهما وفيه إشعار بأن من كان هذا رأيه فهو بمحل سافل في الفهم والعقل، فلا يستبعد منه إنكار البعث، وجحد التوحيد، ثم رجع سبحانه إلى خطاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:(13/234)
أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (40)
(أم تسألهم أجراً)؟ أي بل أتسألهم أجراً يدفعونه إليك على تبليغ الرسالة؟ (فهم من مغرم) أي من التزام غرامة تطلبها منهم (مثقلون) أي مجهودون بحملهم ذلك المغرم الثقيل ومتعبون ومغتمون، من أثقله الحمل أتعبه لكن هذا الثقل معنوي لأن العادة أن من غرم إنساناً ما لا يصير الغارم مغتماً منه وكارهاً له فلا يسمع قوله، ولا يمتثله، قال قتادة: يقول هل سألت هؤلاء القوم أجراً فجهدهم فلا يستطيعون الإسلام.(13/234)
أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (41)
(أم عندهم الغيب)؟ أي بل أيدعون أن عندهم الغيب وهو ما في اللوح المحفوظ، المثبت فيه المغيبات، فالغيب بمعنى الغائب، والألف واللام في الغيب بمعنى النوع لا للعهد: ولا لتعريف الجنس، فالمراد نوع الغيب، وهذا الزعم فرضي إذ لم يقع منهم بالفعل، لكنهم على حالة من المكابرة والمعارضة بحيث ينسب إليهم هذا الزعم، قال قتادة: هذا جواب لقولهم: (نتربص به ريب المنون) يقول الله: (أم عندهم الغيب) حتى علموا أن محمداً صلى الله عليه وسلم يموت قبلهم (فهم يكتبون) ذلك بعد ما وقفوا عليه، وقيل: هو رد لقولهم، إنا لا نبعث، ولو بعثنا لم نعذب، قال ابن قتيبة: معنى يكتبون يحكمون بما يقولون.(13/234)
أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ (42) أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (43) وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ (44) فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (45) يَوْمَ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (46) وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (47) وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ (49)(13/235)
أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ (42)
(أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا) أي مكراً برسول الله صلى الله عليه وسلم، فيهلكونه بذلك المكر (فالذين كفروا) هذا من وقوع الظاهر موضع المضمر تنبيهاً على اتصافهم بهذه الصفة القبيحة والأصل: أم يريدون كيداً فهم (هم المكيدون) أي الممكور بهم، المجزيون بكيدهم، فضرر كيدهم يعود عليهم، (ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله)، أو حكم على جنس هم نوع منه فيندرجون فيه اندراجاً أولياً لتوغلهم في هذه الصفة، وكان هذا المكر والتحيل والكيد في دار الندوة، وهي دار من دور أهل مكة، والظاهر أنه من الإخبار بالغيب، فإن السورة مكية، وذلك الكيد كان وقوعه ليلة الهجرة ثم أهلكهم الله تعالى ببدر عند انتهاء سنين عدتها عدة ما هنا من كلمة أم، وهي خمس عشرة، فإن بدراً كانت في الثانية من الهجرة وهي الخامسة عشر من النبوة، وأذلهم في غير موطن، ومكر سبحانه بهم (ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين).(13/235)
أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (43)
(أم لهم غير الله) أي بل أيدعون أن لهم إلهاً غير الله يحفظهم ويرزقهم وينصرهم، وهذا استفهام إنكاري، على معنى نفي الحصول من أصله أي ليس لهم في الواقع إله غير الله، وعلى معنى نفي الانبغاء واللياقة بالنظر لاعتقادهم أن هناك آلهة غيره، ثم نزه سبحانه نفسه عن هذه المقالة الشنعاء فقال: (سبحان الله عما يشركون) ما يحتمل وجهين: أحدهما: أن(13/235)
تكون مصدرية معناه سبحانه عن إشراكهم، ثانيهما خبرية معناه عن الذين يشركون وعلى هذا فيحتمل أن يكون التنزيه عن الولد لأنهم كانوا يقولون: البنات لله فقال سبحان الله عن البنات والبنين، وأن يكون عن مثل الآلهة لأنهم كانوا يقولون: هو مثل ما يعبدونه، فقال: سبحان الله عن مثل ما يعبدونه، ثم ذكر سبحانه بعض جهالاتهم فقال:(13/236)
وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ (44)
(وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ) الكسف جمع كسفة، وهي القطعة من الشيء، والمركوم المجعول بعضه على بعض، قال الفراء: من قرأ كسفاً بكسر الكاف وسكون السين جعله واحداً، ومن قرأ كسفاً بكسر الكاف وفتح السين جعله جمعاً، وهذا الكلام على سبيل الفرض والتقدير، فمن المعلوم أن قريشاً لم ينزل عليهم قطع من السماء تعذيباً لهم، كما قال تعالى: (وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم)، كأنه يقول: لو عذبناهم بسقوط قطع من السماء عليهم لم ينتهوا ولم يرجعوا ويقولون في هذا النازل عناداً واستهزاء وإغاظة لمحمد: إنه سحاب مركوم، ثم أمر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم أن يتركهم فقال:(13/236)
فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (45)
(فذرهم) أي: اتركهم وخل عنهم، جواب شرط مقدر، أي: إذا بلغوا في الكفر والعناد إلى هذا الحد، وتبين أنهم لا يرجعون عن الكفر فدعهم (حتى يلاقوا يومهم الذي فيه يصعقون) أي يوم موتهم، أو يوم قتلهم ببدر، وهو الظاهر قاله البقاعي، أو يوم القيامة قرىء يلاقوا ويلقوا ويصعقون على البناء للمفعول وللفاعل عند السبعة فالأولى يحتمل أن تكون من صعق فهو مصعوق وأن تكون من أصعق رباعياً. يقال: أصعق فهو مصعق، والمعنى أن غيرهم أصعقهم، وقراءة السلمي بضم الياء وكسر العين، تؤذن بأن أفعل بمعنى فعل، والصعقة الهلاك على ما تقدم بيانه.(13/236)
يَوْمَ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (46)
(يوم لا يغني عنهم كيدهم شيئاًً) أي لا ينفعهم في ذلك اليوم كيدهم الذي كادوا به رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدنيا (ولا هم ينصرون)(13/236)
أي: ولا يمنع عنهم العذاب النازل بهم مانع، بل هو واقع بهم لا محالة.(13/237)
وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (47)
(وإن للذين ظلموا) أي لهؤلاء الذين ظلموا أنفسهم بالكفر والمعاصي (عذاباً) في الدنيا (دون ذلك) أي غير عذاب يوم القيامة، أي قبله، وهو قتلهم يوم بدر وقال ابن زيد: هو مصائب الدنيا من الأوجاع والأسقام والبلايا، وذهاب الأموال والأولاد، وقال مجاهد: هو الجوع والجهد سبع سنين، وقيل عذاب القبر قبل يوم القيامة، قاله ابن عباس، وقيل: المراد بالعذاب هو القحط والجوع قبل يوم بدر، لأنه كان في ثانية الهجرة، والقحط وقع لهم قبلها، وبالذي يأتي بعده هو قتلهم يوم بدر (ولكن أكثرهم لا يعلمون) ما يصيرون إليه من عذاب الله وما أعده لهم في الدنيا والآخرة.(13/237)
وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48)
(واصبر لحكم ربك) إلى أن يقع لهم العذاب الذي وعدناهم به (فإنك بأعيننا) أي بمرأى ومنظر منا، أو في حفظنا وحمايتنا، فلا تبال بهم، قال الزجاج: إنك بحيث نراك ونحفظك ونرعاك، فلا يصلون إليك، وإنما جمع لفظ الأعين مع أن مدلوله واحد، وهو المصدر لمناسبة نون العظمة (وسبح بحمد ربك) أي نزه ربك عما لا يليق به متلبساً بحمد ربك على إنعامه عليك أي قل سبحان الله وبحمده (حين تقوم) من مجلسك قال عطاء وسعيد وسفيان الثوري وأبو الأحوص: يسبح الله حين يقوم من مجلسه فيقول: سبحان الله وبحمده أو سبحانك اللهم وبحمدك عند قيامه من كل مجلس يجلسه.
وقال محمد بن كعب والضحاك والربيع بن أنس: حين تقوم إلى الصلاة، قال الضحاك يقول: الله أكبر كبيراً والحمد لله كثيراً، وسبحان الله بكرة وأصيلاً، وفيه نظر لأن التكبير يكون بعد القيام، لا حال القيام، ويكون التسبيح بعد التكبير، وهذا غير معنى الآية، فالأول أولى، وقيل: المعنى صل لله حين تقوم من مقامك. وبه قال أبو الجوزاء، وحسان بن(13/237)
عطية، وقال الكلبي وابن عباس: واذكر الله باللسان حين تقوم من فراشك إلى أن تدخل الصلاة، وهي صلاة الفجر.
وعن " أبي برزة الأسلمي قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بآخرةٍ إذا قام من المجلس يقول: سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك، فقال رجل: يا رسول الله إنك لتقول قولاً ما كنت تقوله فيما مضى، قال: كفارة لما يكون في المجلس " (1) أخرجه أبو داود والنسائي والحاكم وابن مردويه وابن أبي شيبة وأخرجه النسائي والحاكم عن رافع بن خديج عن النبي صلى الله عليه وسلم.
" وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: من جلس في مجلس فكثر فيه لغطه فقال قبل أن يقوم من مجلسه: سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك، إلا غفر له ما كان في مجلسه ذلك "، أخرجه ابن جرير والترمذي، وقال حسن صحيح، وفي الباب أحاديث مسندة ومرسلة وقيل حين تقوم من منامك.
" عن عاصم بن حميد قال: سألت عائشة بأي شيء كان يفتتح رسول
الله صلى الله عليه وسلم إذا استيقظ من نومه؟ فقالت: سألتني عن شيء ما سألني عنه أحد قبلك كان إذا قام كبر عشراً، وحمد الله عشراً، وسبح عشراً، وهلل عشراً، واستغفر عشراً، وقال: اللهم اغفر لي وارحمني واهدني وارزقني وعافني. وكان يتعوذ من ضيق المقام يوم القيامة " أخرجه أبو داود والنسائي.
_________
(1) صحيح الجامع الصغير.(13/238)
وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ (49)
(ومن الليل فسبحه) أمره الله سبحانه أن يسبحه في بعض الليل حقيقة أيضاًً، قال مقاتل: أي صلِّ المغرب والعشاء، وقيل: ركعتي الفجر، و " عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في الآية قال: الركعتان قبل(13/238)
صلاة الصبح " أخرجه ابن مردويه.
(وإدبار النجوم) أي وقت إدبارها من آخر الليل وقبل صلاة الفجر واختاره ابن جرير وقيل هو التسبيح في أدبار الصلوات وقال ابن عباس: ركعتا الفجر، وقيل: سنة الصبح، قرىء إدبار بكسر الهمزة على أنه مصدر وبفتحها على الجمع، أي عقاب النجوم، وأدبارها إذا غربت، ودُبر الأمر آخره وقد تقدم الكلام على هذا في سورة ق.(13/239)
سورة النجم
(إحدى أو اثنتان وستون آية)
وهي مكية جميعها في قول الجمهور، وعن ابن عباس وعكرمة إلا آية منها وهي قوله: (الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ) الآية وقيل: أن السورة كلها مدنية، والصحيح هو الأول.
وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما " عن ابن مسعود قال: أول سورة أنزلت فيها سجدة والنجم فسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسجد الناس كلهم إلا رجلاً رأيته أخذ كفاً من تراب فسجد عليه فرأيته بعد ذلك قتل كافراً، وهو أمية بن خلف " (1) وعنه قال: أول سورة استعلن بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرؤها والنجم.
" وعن ابن عمر قال: صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقرأ والنجم، فسجد بنا وأطال السجود ".
وعن زيد بن ثابت قال: قرأت والنجم عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم يسجد فيها " أخرجه أحمد والبخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي والطبراني والطيالسي وابن أبي شيبة وابن مردويه.
" وعن ابن عباس قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسجد في النجم بمكة، فلما هاجر إلى المدينة تركها " وعنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يسجد في شيء من المفصل منذ تحول إلى المدينة.
_________
(1) رواه مسلم.(13/241)
بسم الله الرحمن الرحيم
وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى (6) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى (7) ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9) فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10) مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11) أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى (12) وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14) عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى (15) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى (16) مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (17) لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى (18) أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى (20) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى (21) تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى (22)(13/243)
وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1)
(وَالنَّجْمِ) هو الكوكب، وسمي به لطلوعه، وكل طالع نجم، يقال: نجم السن والنبت والقرن إذا طلع، والتعريف للجنس، والمراد به جنس النجوم، يعني نجوم السماء كلها حين تغرب أقسم الله بالنجوم إذا غابت وليس يمتنع أن يعبر عنها بلفظ واحد، ومعناه جمع، وبه قال جماعة من المفسرين، وقيل: المراد به الثريا، وهو اسم غلب عليها، تقول العرب: النجم وتريد به الثريا، وبه قال ابن عباس ومجاهد وغيرهما، وإن كانت في العدد نحو ما يقال: إنها سبعة أنجم، ستة ظاهرة، وواحدة خفية، يمتحن الناس بها أبصارهم، وفي الشفاء للقاضي عياض أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرى في الثريا أحد عشر نجماً، وقيل: المراد بالنجم الشعرى، لذكرها في قوله تعالى: (وأنه هو رب الشعرى).
وقال السدي: النجم هنا هو الزهرة لأن قوماً من العرب كانوا يعبدونها وقيل: النجم هنا النبت الذي لا ساق له، كما في قوله: (والنجم والشجر يسجدان) قاله الأخفش، وقيل: النجم محمد صلى الله عليه وسلم، وقيل: النجم القرآن، وسمي نجماً لأنه نزل منجماً مفرقاً، والعرب تسمي(13/243)
التفريق تنجيماً والمفرق المنجم وبه قال مجاهد والفراء وغيرهما، والأول أولى، قال الحسن: المراد بالنجم النجوم إذا سقطت يوم القيامة، وقيل: المراد بها النجوم التي ترجم بها الشياطين.
(إذا هوى) أي إذا انصب، أخرجه ابن جرير عن ابن عباس أو انتثر ومعنى هويه سقوطه من علو، يقال: هوى النجم يهوي هوياً إذا سقط من علو إلى سفل، وقيل: غروبه، وقيل طلوعه والأول أولى، وبه قال الأصمعي وغيره، ويقال هوى في السير إذا مضى قال الراغب: الهوي ذهاب في انحدار وفي ارتفاع، وقيل هوى في اللغة خرق الهواء، ومقصده السفل، أو مصيره إليه، وإن لم يقصده ومعنى هوى، على قول من فسر النجم بالقرآن أنه نزل من أعلى إلى أسفل، وأما على قول من قال إنه الشجر الذي لا ساق له أو أنه محمد صلى الله عليه وسلم فلا يظهر لهوى معنى صحيح، وفي العامل في هذا الظرف أوجه، وعلى كل منها إشكال ذكرها السمين لا نطول الكلام بذكرها هنا.
وجواب القسم قوله(13/244)
مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2)
(ما ضل صاحبكم وما غوى) أي ما ضل محمد صلى الله عليه وسلم عن الحق، والهدى، ولا عدل منه، والغي ضد الرشد، أي ما صار غاوياً، ولا تكلم بالباطل، وقيل ما خاب فيما طلب، والغي الخيبة، وبين الضلال، والغي التباين الكلي، فإن الضلال فعل المعاصي، والغي هو الجهل المركب وبتقدير اتحادهما يكون ذلك من باب التأكيد باللفظ المخالف مع اتحاد المعنى، والأول أولى قيل وهو من عطف الخاص على العام للإهتمام بشأن الإعتقاد وإيضاحه أن الجهل قد يكون من كون الإنسان غير معتقد لا صالحاً ولا فاسداً وقد يكون من اعتقاد شيء فاسد، وهذا الثاني يقال له غي وفي قوله صاحبكم إشارة بأنهم المطلعون على حقيقة حاله، وعبر بالصحبة لأنها مع كونها أدل على القصد مرغبة لهم فيه، ومقبلة بهم ومقبحة عليهم اتهامه في إنذاره، وهم يعرفون طهارة شمائله، والخطاب لقريش قال(13/244)
ابن عباس: أقسم الله أن ما ضل محمد صلى الله عليه وسلم ولا غوى.(13/245)
وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3)
(وما ينطق عن الهوى) أي ما يصدر نطقه عن الهوى لا بالقرآن ولا بغيره فـ (عن) على بابها، ومثل النطق الفعل، وقال أبو عبيدة: إن عن بمعنى الباء أي بالهوى، وقال قتادة: أي ما ينطق بالقرآن عن هواه(13/245)
إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)
(إن هو إلا وحي يوحى) أي ما هذا الذي ينطق به من القرآن وكل أحواله وأقواله وأفعاله إلا وحي من الله يوحيه إليه، ويوحى صفة لوحي تفيد الإستمرار التجددي وتفيد نفي المجاز، أي هو وحي حقيقة لا لمجرد التسمية، كما تقول: هذا قول يقال، وقيل: تقديره يوحى إليه ففيه، مزيد فائدة، والآية دليل على كون السنة المطهرة وحياً يوحى.(13/245)
عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5)
(علمه شديد القوى) جمع قوة، والمعنى أنه علمه جبريل الذي هو شديد قواه. هكذا قال أكثر المفسرين، وقال الحسن: هو الله عز وجل، والأول أولى، وهو من باب إضافة الصفة إلى الموصوف، ومن شدة قوته أنه اقتلع قرى قوم لوط ورفعها إلى السماء، ثم قلبها وصاح صيحة بثمود فأصبحوا جاثمين، وكان هبوطه على الأنبياء وصعوده أسرع من رجعة الطرف، وهذه القوة ثابتة له، ولو كان على صورة الآدميين.(13/245)
ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى (6)
(ذو مرة) أي قوة وشدة في الخلق، وقيل ذو صحة جسم، وسلامة من الآفات.
" ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: لا تحل الصدقة لغني، ولا لذي مرة سوي " (1) وقيل ذو حصافة عقل ومتانة رأي قال قطرب: العرب تقول لكل من هو جزل الرأي، حصيف العقل: ذو مرة، والتفسير للمرة بهذا أولى، لأن القوة والشدة قد أفادها قوله: شديد القوى، قال الجوهري: المرة إحدى الطبائع الأربع، والمرة القوة وشدة العقل، وقال ابن عباس: ذو
_________
(1) رواه مسلم.(13/245)
خلق حسن، وقيل منظر حسن، وقيل: قوة في العقل وحدة، بحيث لا يدفعه عما يزاوله دافع، ولا يسأم من شيء يزاوله، فحصل الفرق بين القوة والمرة، ومن جملة شدته وقوته قدرته على التشكل فلذلك قال:
(فاستوى) أي ارتفع جبريل وعلا إلى مكانه في السماء، بعد أن علم محمداً صلى الله عليه وسلم، قاله سعيد بن المسيب، وسعيد بن جبير، وقيل: معناه قام في صورته التي خلقه الله عليها، لأنه كان يأتي النبي صلى الله عليه وسلم في صورة الآدميين، كما يأتي إلى الأنبياء، فسأله النبي صلى الله عليه وسلم أن يريه نفسه التي جبله الله عليها، فأراه نفسه مرتين، مرة في الأرض ومرة في السماء، ولم يره أحد من الأنبياء على صورته التي خلق عليها إلا نبينا صلى الله عليه وسلم، وقيل: المعنى فاستوى القرآن في صدره صلى الله عليه وسلم حين نزل عليه، أو صدر جبريل حين نزل به، وقيل: المعنى اعتدل محمد في قوته أو في رسالته، ذكره الماوردي، وقيل: المعنى ارتفع النبي صلى الله عليه وسلم بالمعراج، وقال الحسن: فاستوى يعني الله عز وجل على العرش، والأول أولى، وقيل: المعنى فاستوى جبريل عالياً على صورته، ولم يكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبل ذلك رآه عليها حتى سأله إياها على ما ذكرنا.(13/246)
وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى (7)
(وهو بالأفق الأعلى) أي فاستوى جبريل حال كونه بالأفق الأعلى، والمراد بالأفق الأعلى جانب المشرق، وهو فوق جانب المغرب، والأفق ناحية السماء، وجمعه آفاق. قال قتادة ومجاهد: هو الموضع الذي تطلع منه الشمس، وكذا قال سفيان، وقيل: هو يعني جبريل والنبي صلى الله عليه وسلم بالأفق الأعلى ليلة المعراج، ويجوز أن تكون هذه الجملة مستأنفة.
" عن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم ير جبريل في صورته إلا مرتين، أما واحدة فإنه سأله أن يراه في صورته فأراه صورته فسد الأفق، وأما الثانية فإنه كان معه حيث صعد، فذلك قوله: (وَهُوَ بِالْأُفُقِ(13/246)
الْأَعْلَى)، (لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى) قال: خلق جبريل " (1)، رواه أحمد والطبراني وغيرهما.
" وعنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: رأيت جبريل عند سدرة المنتهى له ستمائة جناح " أخرجه أبو الشيخ وابن جرير وأحمد، وعن ابن عباس قال: الأفق الأعلى مطلع الشمس.
_________
(1) مسلم.(13/247)
ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8)
(ثم دنا) جبريل بعد استوائه بالأفق الأعلى، أي قرب من الأرض (فتدلى) أي فنزل على النبي صلى الله عليه وسلم بالوحي، وقيل في الكلام تقديم وتأخير والتقدير. ثم تدلى فدنا، قاله ابن الأنباري وغيره قال الزجاج: معنى دنا فتدلى واحد أي قرب وزاد في القرب، كما تقول دنا مني فلان، وقرب ولو قلت: قرب مني ودنا جاز قال الفراء الفاء في فتدلى بمعنى الواو، والتقدير تدلى جبريل ودنا، ولكنه جائز إذا كان معنى الفعلين واحداً، أن تقدم أيهما شئت قال الجمهور: والذي دنا فتدلى هو جبريل، وقيل هو النبي صلى الله عليه وسلم قال ابن عباس: هو محمد صلى الله عليه وسلم دنا فتدلى إلى ربه والمعنى دنا منه أمره وحكمه، والأول أولى قيل: ومن قال إن الذي استوى هو جبريل ومحمد صلى الله عليه وسلم؛ فالمعنى عنده. ثم دنا محمد صلى الله عليه وسلم من ربه دنو كرامة، فتدلى أي هوى للسجود، وبه قال الضحاك، وعن ابن عباس قال: دنا ربه فتدلى، والتدلي هو النزول بقرب الشيء.(13/247)
فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9)
(فكان) مقدار ما بين جبريل ومحمد صلى الله عليه وسلم، أو ما بين محمد صلى الله عليه وسلم وربه تعالى (قاب) أي قدر (قوسين) عربيين، والقاب والقيب، والقاد والقيد، والقيس المقدار ذكر معناه في الصحاح، قال الزمخشري: وقد جاء التقدير بالقوس والرمح والسوط والذراع والباع والخطوة والشبر والفتر والأصبع والقاب ما بين المقبض والسِّيَّة، ولكل قوس قابان،(13/247)
قال بعضهم أراد قابي قوس فقلبه، وقال سعيد بن المسيب: القاب صدر القوس العربية حيث يشد عليه السير الذي يتنكبه صاحبه. ولكل قوس قاب واحد. فأخبر أن جبريل قرب من محمد كقرب قاب قوسين. قال الزجاج: أي فيما تقدرون أنتم والله سبحانه عالم بمقادير الأشياء ولكنه يخاطبنا على ما جرت به عادة المخاطبة فيما بيننا.
وقال سعيد بن جبير وعطاء وأبو إسحق الهمداني وأبو وائل شقيق بن سلمة: فكان قدر ذراعين والقوس ذراع. يقاس بها كل شيء. وهي لغة بعض الحجازيين. وقيل: هي لغة أزد شنوءة. والقوس يذكر ويؤنث. فمن أنث قال في تصغيرها: قويسة ومن ذكر قال: قويس والجمع قسي وأقواس. والقوس أيضاًً بقية التمر في الجلة. أي الوعاء والقوس برج في السماء وقال الكسائي: أراد قوساً واحدة.
أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن " ابن مسعود في هذه الآية قال: رأى النبي صلى الله عليه وسلم جبريل له ستمائة جناح " وعنه قال: في الآية: دنا جبريل منه حتى كان قدر ذراع أو ذراعين وبه قال ابن عباس والحسن وعائشة وقتادة وقال ابن عباس: القاب القيد والقوسين الذراعين وعن أبي سعيد قال لما أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم اقترب من ربه فكان قاب قوسين أو أدنى. ألم تر إلى القوس ما أقربها من الوتر وعن أنس ودنا الجبار رب العزة حتى كان منه قاب قوسين أو أدنى وهذه رواية عن سلمة عن ابن عباس وفيه جهالة وقال الضحاك نحو ما قال أنس.
(أو أدنى) أو بمعنى الواو. وقيل بمعنى بل والأول أولى. كقوله (أو يزيدون) لأن المعنى فكان بأحد هذين المقدارين في رأي الرائي أي لتقارب ما بينهما يشك الرائي في ذلك؛ وأدنى أفعل تفضيل؛ والمفضل عليه محذوف أي أو أدنى من قاب قوسين، أو أدنى من ذلك، وروي لما رأى النبي صلى الله عليه وسلم جبريل عليه السلام على صورة الآدمي، سأله عند الأفق الأعلى أن يراه(13/248)
على صورته التي خلق عليها فأراه فرآه النبي صلى الله عليه وسلم وكان بحراء قد سد الأفق إلى المغرب فخر مغشياً عليه، فدنا منه قرباً زائداً؛ وضمه إلى نفسه حتى أفاق وسكن روعه وجعل يمسح التراب عن وجهه.(13/249)
فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10)
(فأوحى إلى عبده) أي فأوحى جبريل إلى محمد صلى الله عليه وسلم بتعليم من الله لا من نفسه (ما أوحى) فيه تفخيم للوحي الذي أوحي إليه والوحي إلقاء الشيء بسرعة، ومنه الوحا؛ وهو السرعة، والضمير في عبده يرجع إلى الله، كما في قوله: (ما ترك على ظهرها من دابة) وقيل المعنى فأوحى الله إلى عبده جبريل، وبالأول قال الربيع والحسن وابن زيد وقتادة؛ وقيل: فأوحى الله إلى عبده محمد صلى الله عليه وسلم، قيل: وقد أبهم الله سبحانه ما أوحاه جبريل عليه السلام إلى محمد صلى الله عليه وسلم أو ما أوحاه الله إلى عبده جبريل أو إلى محمد صلى الله عليه وسلم ولم يبينه لنا فليس لنا أن نتعرض لتفسيره.
وقال سعيد بن جبير: الذي أوحاه الله إليه هو: (ألم نشرح لك صدرك) إلخ و (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى)؟ إلخ وقيل: أوحى الله إليه أن الجنة حرام على الأنبياء حتى تدخلها، وعلى الأمم حتى تدخلها أمتك، وقيل: إن ما للعموم لا للإبهام والمراد كل ما يوحي به إليه؛ والحمل على الإبهام أولى لما فيه من التعظيم.(13/249)
مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11)
(ما كذب الفؤاد ما رأى) أي ما كذب فؤاد محمد صلى الله عليه وسلم ما رآه بصره ليلة المعراج رؤية حقيقية، يقال كذبه إذا قال له الكذب ولم يصدقه، قال المبرد؛ معنى الآية أنه رأى شيئاًً فصدق به قرىء ما كذب مخففاً، وبالتشديد وهما سبعيتان، وما في ما رأى موصولة أو مصدرية قال ابن مسعود في الآية: " رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل عليه حلتا رفرف أخضر قد ملأ ما بين السماء والأرض " (1) أخرجه الترمذي والحاكم
_________
(1) رواه الحاكم.(13/249)
وصححاه؛ والبيهقي وغيرهم، وبه قالت عائشة؛ وقيل: هو الله عز وجل رآه بعين رأسه وقيل بقلبه وقيل جعل بصره في فؤاده، والكلام على هذه المسألة مستوفى في موطنه.
وقد تكلم عليه القاضي عياض في الشفاء، والخفاجي في شرحه والقسطلاني في شرح المواهب اللدنية، والنووي، وقال: والحاصل أن الراجح عند أكثر العلماء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى ربه عز وجل بعيني رأسه ليلة الإسراء وإثبات هذا لا يأخذونه إلا بالسماع من رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا مما لا ينبغي أن يتشكك فيه انتهى.
قال سليمان الجمل: وحاصل المسألة أن الصحيح ثبوت الرؤية وهو ما جرى عليه ابن عباس حبر الأمة، وهو الذي يرجع إليه في المعضلات، وقد راجعه ابن عمر فأخبره بأنه رآه، ولا يقدح في ذلك حديث عائشة لأنها لم تخبر أنها سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: لم أر، وإنما اعتمدت على الاستنباط مما تقدم، وجوابه ظاهر؛ فإن الإدراك هو الإحاطة والله تبارك وتعالى لا يحاط به وإذا ورد النص بنفي الإحاطة لا يلزم منه نفي الرؤية بغير إحاطة، وأجيب عن احتجاجها بقوله تعالى: (وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحياً) بأنه لا يلزم من الرؤية وجود الكلام حال الرؤية فيجوز وجود الرؤية من غير كلام، وبأنه عام مخصوص.(13/250)
أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى (12)
(أفتمارونه على ما يرى)؟ قرىء من المماراة وهي المجادلة والملاحاة، وقرىء أفتمرونه، أي أفتجحدونه، واختار أبو عبيد الثانية قال: لأنهم لم يماروه، وإنما جحدوه، يقال: مراه حقه أي جحده ومريته أنا أي جحدته قال المبرد: يقال: أمراه عن حقه وعلى حقه، إذا منعه منه ودفعه، وقيل على بمعنى عن، وقرىء أفتمرونه بضم التاء من أمريت أي أتريبونه وتشكون فيه، قال جماعة من المفسرين: المعنى على الأول أفتجادلونه؟ وذلك أنهم جادلوه حين أسري به، فقالوا: صف لنا بيت المقدس، أي فتجادلونه جدالاً(13/250)
ترومون به دفعه عما شاهده وعلمه، وقال: ما يرى، ولم يقل ما رأى على حكاية الحال الماضية استحضاراً للحالة البعيدة في ذهن المخاطبين.(13/251)
وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13)
(ولقد رآه نزلة أخرى) اللام هي الموطئة للقسم، أي والله لقد رآه، والنزلة المرة من النزول، أي رأى جبريل نازلاً نزلة أخرى، أو رآه رؤية أخرى، ونصب نزلة على الظرف أو المصدرية أو الحالية، وبالأول قال الزمخشري وهو مذهب الفراء، نقله عنه مكي، وبالثاني قدر أبو البقاء، وبالثالث قال الحوفي وابن عطية، قال جمهور المفسرين: المعنى أنه رأى محمد صلى الله عليه وسلم جبريل عليه السلام مرة أخرى في صورة نفسه، وذلك ليلة المعراج، وقيل: رأى محمد صلى الله عليه وسلم ربه مرة أخرى بفؤاده وقيل: بعينه.
أخرج مسلم والطبراني وغيرهما.
" عن ابن عباس في الآية قال: رأى محمد صلى الله عليه وسلم ربه بقلبه مرتين "، وأخرج نحوه عنه الترمذي وحسنه، وعن أنس قال: رأى محمد ربه، وعن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه مرتين، مرة ببصره ومرة بفؤاده، وعنه لقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم ربه عز وجل، وعنه قال: أتعجبون أن تكون الخلة لإبراهيم؟ والكلام لموسى؟ والرؤية لمحمد صلى الله عليه وسلم، وقد روي نحو هذا عنه من طرق.
وأخرج مسلم والترمذي وابن مردويه.
" عن أبي ذر قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم هل رأيت ربك قال نور أنّى أراه ".
" وعنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم هل رأيت ربك قال رأيت نوراً " أخرجه مسلم وابن مردويه.
" وعنه قال: رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ربه بقلبه، ولم يره ببصره "، أخرجه النسائي وابن المنذر وغيرهما، قال صاحب التحرير:(13/251)
والحجج في المسألة وإن كانت كثيرة لكن لا نتمسك إلا بالأقوى منها، وهو حديث ابن عباس: أتعجبون الخ.
" وعن عكرمة سئل ابن عباس هل رأى محمد صلى الله عليه وسلم ربه قال: نعم "، وقد روي بإسناد لا بأس به، وعن أنس نحوه.
وكان الحسن يحلف لقد رأى محمد صلى الله عليه وسلم ربه، والأصل في المسألة حديث ابن عباس حبر هذه الأمة وعالمها، والمرجوع إليه في المعضلات، وقد راجعه ابن عمر في هذه المسألة فأخبره أنه رآه، ولا يقدح في هذا حديث عائشة، لأنها لم تخبر أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول لم أر ربي وإنما ذكرت ما ذكرت متأولة لقول الله تعالى: (وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحياً) الآية، وقوله (لا تدركه الأبصار)، وإذ قد صحت الروايات عن ابن عباس أنه تكلم في هذه المسألة بإثبات لرؤية وجب المصير إلى إثباتها لأنها ليس مما يدرك بالعقل، ويؤخذ بالظن، وإنما يتلقى بالسمع، ولا يستجيز لأحد أن يظن بابن عباس أنه تكلم في هذه المسألة بالظن والاجتهاد، وقد قال معمر بن راشد حين ذكر اختلاف عائشة وابن عباس: ما عائشة عندنا بأعلم من ابن عباس ثم ابن عباس أثبت ما نفاه غيره والمثبت مقدم على النافي انتهى.(13/252)
عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14)
(عند سدرة المنتهى) لما أسري به في السموات، قاله الجلال المحلي، ومن المعلوم أن الإسراء كان قبل الهجرة بسنة وأربعة أشهر، أو بثلاث سنين على الخلاف، والرؤية الأولى كانت في بدء البعثة، فبين الرؤيتين نحو عشر سنين، والسدرة هي شجرة النبق، قال مقاتل: تحمل الحلي والحلل والثمار من جميع الألوان لو وضعت ورقة منها في الأرض لأضاءت لأهلها، وهي شجرة طوبى التي ذكرها الله في سورة الرعد والنبق بكسر الموحدة ثم السدرة الواحدة نبقة ويقال فيه نبق بفتح النون وسكون الباء ذكرها يعقوب في(13/252)
الإصلاح وهي لغة البصريين والأولى أفصح وهي التي ثبتت عن النبي صلى الله عليه وسلم وهذه السدرة هي في السماء السادسة كما في الصحيح وروي أنها في السماء السابعة عن يمين العرش.
والمنتهى مكان الانتهاء، أو مصدر ميمي والمراد به الإنتهاء نفسه قيل: إليه ينتهي علم الخلائق ولا يعلم أحد منهم ما وراءها وقيل: ينتهي إليها ما يعرج به من الأرض وقيل: تنتهي إليها أرواح الشهداء وقيل غير ذلك وإضافة الشجرة إلى المنتهى من إضافة الشيء إلى مكانه كقولك أشجار البستان، أو من إضافة المحل إلى الحال، كقولك كتاب الفقه والتقدير عند سدرة عندها منتهى العلوم، أو من إضافة الملك إلى المالك على حذف الجار والمجرور أي: سدرة المنتهى إليه وهو الله عز وجل قال تعالى: (وأن إلى ربك المنتهى) واختلف لم سميت سدرة المنتهى على ثمانية أقوال ذكرها القرطبي وغيره.
" وعن ابن مسعود قال: لما أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى إلى سدرة المنتهى وهو في السماء السادسة إليها ينتهي ما يعرج من الأرواح فيقبض منها وإليها ينتهي ما يهبط به من فوقها ويقبض منها " (1) أخرجه أحمد ومسلم والترمذي وغيرهم.
_________
(1) رواه أحمد ومسلم.(13/253)
عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى (15)
(عندها جنة المأوى) أي عند تلك السدرة جنة تعرف بجنة المأوى، وهي عن يمين العرش، وسميت بها لأنه أوى إليها آدم، وقيل، إن أرواح المؤمنين تأوي إليها، وقيل: يأوي إليها جبريل والملائكة، وقيل: يصير إليها المتقون قرىء جنة بالرفع على الابتداء، وقرىء جنة فعلاً ماضياً من جن يجن، أي ضمه المبيت أو ستره إيواء الله له، قال الأخفش: أدركه كما تقول؛ جنة الليل، أي ستره وأدركه، قال ابن مسعود: الجنة في السماء السابعة العليا، والنار في الأرض السابعة السفلى.(13/253)
إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى (16)
(إذ يغشى السدرة ما يغشى) الغشيان بمعنى التغطية والستر، وبمعنى(13/253)
الإتيان، يقال: فلان يغشاني كل حين أن يأتيني، وفي إبهام الموصول وصلته من التفخيم والتكثير للغواشي ما لا يخفى، فقد علم بهذه العبارة أن ما يغشاها من الخلائق الدالة على عظمة الله تعالى وجلالته، أشياء لا يحيط بها الوصف، ولا يكتنهها نعت ولا يحصيها عدد، وقيل: يغشاها جراد من ذهب، وقال ابن مسعود: فراش من ذهب، قال الرازي: وهذا ضعيف، لأن ذلك لا يثبت إلا بدليل سمعي، فإن صح فيه خبر وإلا فلا وجه له، وقيل: طوائف من الملائكة، وقال مجاهد: رفرف أخضر، وقيل: رفرف من طيور خضر، وقيل غشيها أمر الله، وقيل نور الخلائق، وقيل نور رب العزة، والمجيء بالمضارع لحكاية الحال الماضية استحضاراً للصورة البديعة أو للدلالة على الإستمرار التجددي.(13/254)
مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (17)
(ما زاغ البصر) أي ما مال بصر النبي صلى الله عليه وسلم عما رآه، ولم يتلفت إلى ما غشى السدرة من فراش الذهب وغيره، هذا بالنظر لكون الذي غشيها هو فراش من الذهب، وبالنظر لكونه أنوار الله لم يلتفت يمنة ولا يسرة، بل اشتغل بمطالعتها، مع أن ذلك العالم غريب عن بني آدم، وفيه من العجائب ما يحير الناظر (وما طغى) أي ما جاوز ما رأى، وفي هذا وصف أدب النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك المقام، حيث لم يلتفت، ولم يمل بصره، ولم يمده إلى غير ما رأى، وقيل: ما جاوز ما أمر به.(13/254)
لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى (18)
(لقد رأى) أي والله لقد رأى تلك الليلة (من آيات ربه الكبرى) أي العظام ما لا يحيط به الوصف، قيل: رأى رفرفاً سد الأفق، وقيل: رأى جبريل في حلة خضراء كما تقدم، وقيل: عجائب الملكوت، وقال الضحاك: رأى سدرة المنتهى، وقيل: هو كل ما رآه في مسراه تلك الليلة وعوده، ومن للتبعيض، ومفعول رأي: الكبرى، أو رأى شيئاًً عظيماً من آيات ربه، أو من زائدة ولما قص الله سبحانه هذه الأقاصيص قال للمشركين موبخاً لهم ومقرعاً:(13/254)
أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19)
(أفرأيتم اللات والعزى) أي أخبروني عن هذه الآلهة التي تعبدونها من دون الله هل لها قدرة توصف بها، وهل أوحت إليكم شيئاًً كما أوحى الله إلى محمد صلى الله عليه وسلم أم هي جمادات لا تعقل ولا تنفع، وقال أبو السعود: الهمزة للإنكار، والفاء لتوجيهه إلى ترتيب الرؤية على ما ذكر من شؤونه تعالى المنافية لها غاية المنافاة، والمعنى أعقيب ما سمعتم من آثار كمال عظمته، وإحكام قدرته، ونفاذ أمره في الملأ الأعلى، وما تحت الثرى، وما بينهما، رأيتم هذه الأصنام مع غاية حقارتها وذلتها شركاء لله؟ على ما تقدم من عظمته.(13/255)
وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى (20)
(ومناة الثالثة الأخرى) ذكر هذه الأصنام الثلاثة التي اشتهرت في العرب وعظم اعتقادهم فيها قال الواحدي وغيره: وكانوا يشتقون لها أسماء من أسماء الله تعالى فقالوا من الله اللات، ومن العزيز؛ العزى، وهي تأنيث الأعز بمعنى العزيزة، ومناة من منى الله الشيء إذا قدره، قرىء اللات بتخفيف التاء وهي مأخوذة من اسم الله، وقيل: أصله لات يليت فالتاء أصلية، وقيل: هي زائدة، وأصله لوى يلوي، لأنهم كانوا يلوون أعناقهم إليها، أو يلتوون ويعتكفون عليها، ويطوفون بها، وقرىء اللات بتشديد التاء، فقيل: هو اسم رجل كان يلت السويق ويطعمه الحاج، فلما مات عكفوا على قبره يعبدونه، فهو اسم فاعل في الأصل غلب على هذا الرجل.
وقال مجاهد: كان رجلاً في رأس جبل له غنيمة يتخذ من لبنها وسمنها حيساً، ويطعم الحاج، وكان ببطن نخلة فلما مات عبدوه. وقال الكلبي: كان رجلاً من ثقيف له صرمة غنم، وقيل: إنه عامر بن الظرب العدواني، قال في الصحاح: واللات اسم صنم لثقيف، وكان بالطائف، وقيل: بعكاظ، وقيل: بنخلة، ورجح ابن عطية الأول، وبعض العرب يقف عليها بالتاء وبعضهم بالهاء، " قال ابن عباس: كان اللات رجلاً يلت(13/255)
السويق للحاج " أخرجه البخاري وغيره، والألف واللام في اللات زائدة لازمة، وقال أبو البقاء: ليست بزائدة وهو غلط، والعزى من العز وهي تأنيث الأعز، وهي اسم صنم لقريش وبني كنانة، قال مجاهد: هي شجرة كانت لغطفان وكانوا يعبدونها، فبعث إليها النبي صلى الله عليه وسلم خالد ابن الوليد فقطعها.
وقيل: كانت شيطانة تأتي ثلاث سمرات ببطن نخلة، وقال سعيد بن جبير: العزى حجر أبيض كانوا يعبدونه، وقال قتادة: هي بيت كان ببطن نخلة، وعن ابن عباس: أن العزى ببطن نخلة، وأن اللات كانت بالطائف وأن مناة كانت بقديد، ومناة صنم بني هلال، وقال ابن هشام: صنم هذيل وخزاعة وقال قتادة: كانت للأنصار وقرىء مناة بألف من دون همزة، وبالمد والهمزة فالأولى اشتقاقها من منى يمني أي صب لأن دماء النسائك كانت تصب عندها، يتقربون بذلك إليها وعلى الثانية فاشتقاقها من النوء وهو المطر، لأنهم كانوا يستمطرون عندها الأنواء، وقيل: هما لغتان للعرب ووقف عليها بالتاء اتباعاً لرسم المصحف وبالهاء.
قال في الصحاح: ومناة اسم صنم كان بين مكة والمدينة، والهاء للتأنيث، ويسكت عليها بالتاء، وهي لغة، والثالثة الأخرى وصف لمناة وصفها بأنها ثالثة، وبأنها أخرى، والثالثة لا تكون إلا أخرى، قال أبو البقاء: فالوصف بالأخرى للتأكيد، وقد استشكل وصف الثالثة بالأخرى، والعرب إنما تصف به الثانية فقال الخليل: إنما قال ذلك لوفاق رؤوس الآي، كقوله: (مآرب أخرى) وقال حسين بن الفضل: فيه تقديم وتأخير، والتقدير: أفرأيتم اللات والعزى الأخرى ومناة الثالثة، وقيل: إن وصفها بالأخرى لقصد التعظيم، لأنها كانت عند المشركين عظيمة، وقيل: إن ذلك للتحقير والذم، وإن المراد: المتأخرة الوضيعة القدار، كما في قوله: (وقالت(13/256)
أخراهم لأولاهم)، أي وضعاءهم لرؤسائهم، وهذا للزمخشري، وقال ابن عادل: وفيه نظر لأن الأخرى إنما تدل على الغيرية، وليس فيها تعرض لمدح ولا ذم، فإن جاء شيء من ذلك فلقرينة خارجية، ثم كرر سبحانه توبيخهم وتقريعهم بمقالة شنعاء قالوها فقال:(13/257)
أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى (21)
(ألكم الذكر وله الأنثى)؟ أي كيف تجعلون لله ما تكرهون من الإناث وتجعلون لأنفسكم ما تحبون من الذكور، قيل وذلك قولهم: إن الملائكة بنات الله، وقيل المراد كيف تجعلون اللات والعزى ومناة وهي إناث في زعمكم شركاء لله ومن شأنهم أن يحتقروا الإناث، ثم ذكر سبحانه أن هذه التسمية والقسمة المفهومة من الاستفهام، قسمة جائرة، فقال:(13/257)
تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى (22)
(تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى) قرىء بياء ساكنة بغير همزة، وبهمزة ساكنة والمعنى أنها قسمة خارجة عن الصواب، جائرة عن العدل، مائلة عن الحق، قال الأخفش: يقال: ضاز في الحكم أي جار وضازه حقه يضيزه ضيزاً أي نقصه وبخسه، قال: وقد يهمز، وقال الكسائي: ضاز يضيز ضيزى، وضاز يضوز ضوزاً إذا تعدى وظلم وبخس وانتقص. قال الفراء: وبعض العرب يقول ضئزاً بالهمز، وعن أبي زيد أنه سمع العرب تهمز ضيزي، قال البغوي: ليس في كلام العرب فعلى بكسر الفاء في النعوت، إنما تكون في الأسماء مثل ذكرى وشعرى، قال المؤرج: كرهوا ضم الضاد في ضيزى، وخافوا انقلاب الياء واواً، وهي من بنات الواو، فكسروا الضاد لهذه العلة، كما قالوا في جمع الأبيض بيض، وكذا قال الزجاج، وقيل: هي مصدر كذكرى فيكون المعنى قسمة ذات جور وظلم، قال ابن عباس: ضيزى جائرة لا حق فيها وقيل: عوجاء غير معتدلة ثم رد سبحانه عليهم بقوله:(13/257)
إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى (23) أَمْ لِلْإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى (24) فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولَى (25) وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى (26) إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى (27) وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا (28) فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (29) ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى (30)(13/258)
إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى (23)
(إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ) أي ما الأوثان أو الأصنام باعتبار ما تدعونه من كونها آلهة إلا أسماء محضة، ليس فيها شيء من معنى الألوهية التي تدعونها لأنها لا تبصر ولا تسمع ولا تعقل ولا تفهم ولا تضر ولا تنفع فليست إلا مجرد أسماء، وقيل إن قوله: (هي) راجع إلى الأسماء الثلاثة المذكورة والأول أولى.
(سميتموها أنتم وآباؤكم) قلد فيها الآخر الأول وتبع في ذلك الأبناء الآباء، وفي هذا من التحقير لشأنها ما لا يخفى كما تقول في تحقير رجل ما هو إلا إسم إذا لم يكن مشتملاً على صفة معتبرة ومثل هذه الآية قوله تعالى (ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم) يقال سميته زيداً وسميته يزيد فقوله (سميتموها) صفة لأسماء والضمير يرجع إلى الأسماء لا إلى الأصنام أي جعلتموها أسماء لا جعلتم لها أسماء ليشير الكلام أن هناك أسماء مجردة لا مسميات لها قطعاً (ما أنزل الله بها من سلطان) أي من حجة ولا برهان، قال مقاتل: لم ينزل لنا كتاباً لكم فيه حجة كما تقولون إنها آلهة ثم أخبر عنهم بقوله:
(إن يتبعون) بالتحتية وقرىء بالفوقية أي ما تتبعون فيما ذكر من التسمية والعمل بموجبها وفيه التفات إلى الغيبة للإيذان بأن تعداد قبائحهم إقتضى الأعراض عنهم وحكاية جناياتهم إلى غيرهم (إلا الظن الذي) لا(13/258)
يغني من الحق شيئاًً وهو ظن أنها تستحق العبادة وبهذا تبين أن العطف في قوله (وما تهوى الأنفس) للمغايرة أي ما تميل إليه وتشتهيه من غير التفات إلى ما هو الحق الذي يجب اتباعه ومن اتبع ظنه وما تشتهيه نفسه، بعد ما جاءه الهدى والبيان الشافي لا يعد إنساناً ولا يعتد به.
(ولقد جاءهم من ربهم الهدى) أي البيان الواضح الظاهر بالكتاب المنزل، والنبي المرسل، بأنها ليست بآلهة، وأن العبادة لا تصلح إلا لله الواحد القهار، والجملة اعتراض أو حال من فاعل يتبعون، وأياً ما كان ففيها تأكيد لبطلان اتباع الظن وهوى النفس، وزيادة تقبيح لحالهم فإن اتباعهما من أي شخص كان - قبيح، وممن هداه الله بإرسال الرسل وإنزال الكتب أقبح.(13/259)
أَمْ لِلْإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى (24)
(أم للإنسان ما تمنى) أم هي المنقطعة المقدرة ببل والهمزة التي للإنكار، فأضرب عن اتباعهم الظن الذي هو مجرد التوهم، وعن اتباعهم هوى النفس وما تميل إليه، وانتقل إلى إنكار أن يكون لهم ما يتمنون من كون الأصنام تنفعهم وتشفع لهم، وقيل: هو تمني بعضهم أن يكون هو النبي، وقيل قوله: (وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى) ثم علل انتفاء أن يكون للإنسان ما تمنى بقوله:(13/259)
فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولَى (25)
(فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولَى) أي إن أمور الآخرة والدنيا بأسرها لله عز وجل، فليس لهم معه أمر من الأمور، ومن جملة ذلك أمنياتهم الباطلة وأطماعهم الفارغة، ثم أكد ذلك وزاد في إبطال ما يتمنونه فقال:(13/259)
وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى (26)
(وكم من ملك في السموات لا تغني شفاعتهم شيئاًً) كم هنا هي الخبرية المفيدة للتكثير، ولهذا جمع الضمير في شفاعتهم مع إفراد الملك، فلفظها مفرد، ومعناها جمع، والمعنى الإقناط مما علقوا به والتوبيخ لهم بما يتمنونه. ويطمعون فيه من شفاعة الأصنام مع كون الملائكة مع كثرة عبادتها وكرامتها على الله، لا تشفع إلا لمن أذن أن يشفع له فكيف بهذه الجمادات الفاقدة للعقل والفهم، وهو معنى قوله:
(إلا من بعد أن يأذن الله) لهم بالشفاعة (لمن يشاء) أن يشفعوا له (ويرضى) بالشفاعة لكونه من أهل التوحيد وليس للمشركين في ذلك حظ(13/259)
ولا يأذن الله بالشفاعة لهم ولا يرضاها لكونهم ليسوا من المستحقين لها(13/260)
إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى (27)
(إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) أي: هؤلاء الذين لا يؤمنون بالبعث وما بعده من الدار الآخرة، على الوجه الذي بينته الرسل وهم الكفار يضمون إلى كفرهم مقالة شنعاء، وجهالة جهلاء، وهي أنهم (ليسمون الملائكة) المنزهين عن كل نقص (تسمية الأنثى) وذلك أنهم رأوا في الملائكة تاء التأنيث، وصح عندهم أن يقال: سجدت الملائكة فزعموا أنها بنات الله، فجعلوهم إناثاً وسموهم بنات.(13/260)
وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا (28)
(وما لهم به من علم) أي والحال أنهم غير عالمين بما يقولون، فإنهم لم يعرفوهم ولا شاهدوهم، ولا بلغ إليهم ذلك من طريق من الطرق التي يخبر المخبرون عنها بل قالوا ذلك جهلاً وضلالة وجرأة، وقرىء وما لهم بها أي بالملائكة أو التسمية، ومن زائدة في المبتدأ المؤخر (إن يتبعون إلا الظن) أي ما يتبعون في هذه المقالة إلا مجرد الظن والتوهم، وقال النسفي: هو تقليد الآباء، ثم أخبر سبحانه عن الظن وحكمه فقال:
(وإن الظن لا يغني من الحق شيئاًً) أي: إن جنس الظن لا يغني عن العلم شيئاًً من الإغناء، ومن بمعنى عن، والحق هنا العلم، وفيه دليل على أن مجرد الظن لا يقوم مقام العلم، وإن الظان غير عالم، وهذا في الأمور التي يحتاج فيها إلى العلم، وهي المسائل العلمية لا فيما يكتفي فيه بالظن، وهي المسائل العملية، وقد قدمنا تحقيق هذا، ولا بد من هذا التخصيص، فإن دلالة العموم والقياس وخبر الواحد ونحو ذلك ظنية، فالعمل بها عمل بالظن وقد وجب علينا العمل في هذه الأمور، فكانت أدلة وجوب العمل به فيها مخصصة لهذا العموم، وما ورد في معناه من الذم لمن عمل بالظن والنهي عن اتباعه. وفي الكرخي الظن لا اعتبار له في العارف الحقيقية، وإنما العبرة به في العمليات وما يكون وصلة إليها كمسائل علم الفقه، وقال ابن الخطيب: المراد منه أن الظن لا يغني في الاعتقادات شيئاًً وأما في الأفعال العرفية(13/260)
أو الشرعية فإن الظن فيها يتبع عند عدم الوصول إلى اليقين.(13/261)
فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (29)
(فأعرض عمن تولى) أي أعرض (عن ذكرنا) المراد بالذكر هنا القرآن، أو ذكر الآخرة أو ذكر الله على العموم، وقيل: المراد به هنا الإيمان والمعنى اترك مجادلتهم فقد بلغت إليهم ما أمرت به، وليس عليك إلا البلاغ وهذا منسوخ بآية السيف، قال الرازي: وأكثر المفسرين يقولون: إن كل ما في القرآن من قوله فأعرض منسوخ بآية القتال وهو باطل لأن الأمر بالإعراض موافق لآية القتال، فكيف ينسخ بها والإعراض عن المناظرة شرط لجواز المقاتلة (ولم يرد إلا الحياة الدنيا) أي لم يرد سواها ولا طلب غيرها، بل قصر نظره عليها فإنه غير متأهل للخير، ولا مستحق للإعتناء بشأنه ثم صغر سبحانه شأنهم وحقر أمرهم فقال:(13/261)
ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى (30)
(ذلك) أي التولي وقصر الإرادة على الحياة الدنيا (هو مبلغهم من العلم) ليس لهم علم غيره، ولا يلتفتون إلى سواه من أمر الدين، قال الفراء: أي ذلك قدر عقولهم ونهاية علمهم أن آثروا الدنيا على الآخرة؛ وقيل: الإشارة بقوله ذلك إلى جعلهم الملائكة بنات الله وتسميتهم لهم تسمية الأنثى والأول أولى والمراد بالعلم هنا مطلق الإدراك الذي يندرج تحته الظن الفاسد والجملة مستأنفة لتقرير جهلهم واتباعهم مجرد الظن؛ وقيل معترضة بين المعلل والعلة وهي قوله:
(إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى) فإن هذا تعليل للأمر بالإعراض، والمعنى أنه سبحانه وتعالى أعلم بمن حاد عن الحق وأعرض عنه ولم يهتد إليه وأعلم بمن اهتدى فقبل الحق، وأقبل إليه وعمل به فهو مجاز كل عامل بعمله إن خيراً فخير، وإن شراً فشر وفيه تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وإرشاد له بأنه لا يتعب نفسه في دعوة من أصر على الضلالة وسبقت له الشقاوة، فإن الله قد علم حال هذا الفريق الضال، كما علم حال الفريق الراشد وتكرير قوله هو أعلم لزيادة التقرير وللإيذان بكمال تباين المعلومين ثم أخبر سبحانه عن سعة قدرته وعظيم ملكه فقال:(13/261)
وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (31) الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى (32) أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (33) وَأَعْطَى قَلِيلًا وَأَكْدَى (34) أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى (35) أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى (36) وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37) أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى (38) وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى (40) ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى (41) وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى (42)(13/262)
وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (31)
(وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ) أي هو المالك لذلك والمتصرف فيه لا يشاركه فيه أحد (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا) من الشرك وغيره اللام متعلقة بما دل عليه الكلام، كأنه قال: هو مالك ذلك يضل من يشاء ويهدي من يشاء، ليجزي المسيء بإساءته والمحسن بإحسانه، وقيل: إن قوله ولله ما في السموات الخ جملة معترضة، والمعنى: هو أعلم بمن ضل، وهو أعلم بمن اهتدى، ليجزي، وقيل: هي لام العاقبة لا التعليل، أي: وعاقبة أمر الخلق الذين فيهم المحسن والمسيء أن يجزي الله كلاً منهما بعمله، وبه صرح الواحدي والزمخشري، وقال مكي: إن اللام متعلقة بقوله لا تغني شفاعتهم وهو بعيد من حيث اللفظ ومن حيث المعنى قرىء ليجزي بالتحتية وبالنون.
(ويجزي الذين أحسنوا) بالتوحيد وغيره من الطاعات (بالحسنى) أي: بالمثوبة الحسنى وهي الجنة أو بسبب أعمالهم الحسنى، وتكرير الفعل لإبراز كمال الإعتناء بأمر الجزاء، وللتنبيه على تباين الجزائين، ثم وصف هؤلاء(13/262)
المحسنين فقال:(13/263)
الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى (32)
(الذين) أي: هم الذين (يجتنبون كبائر الإثم) قرأ الكبائر على الجمع وكبير على الإفراد، والكبائر كل ذنب توعد الله عليه بالنار أو ما عين له حداً أو ذم فاعله ذماً شديداً، ولأهل العلم في تحقيق الكبائر كلام طويل، وكما اختلفوا في تحقيق معناها وماهيتها اختلفوا في عددها:
(والفواحش) جمع فاحشة، وهي ما فحش من كبائر الذنوب، كالزنا ونحوه، وهو من عطف الخاص على العام، قال مقاتل: كبائر الإثم كل ذنب ختم بالنار، والفواحش كل ذنب فيه الحد وقيل: الكبائر الشرك والفواحش الزنا، وقد قدمنا في سورة النساء ما هو أبسط من هذا وأكثر فائدة، وقال ابن عباس: الكبائر ما سمى الله فيه النار، والفواحش ما كان فيه حد الدنيا (إِلَّا اللَّمَمَ) أي إلا ما قل وصغر من الذنوب والاستثناء منقطع لأنه ليس من الكبائر والفواحش، قال السمين: وهذا هو المشهور، ويجوز أن يكون متصلاً عند من يفسر اللمم بغير الصغائر، وأصل اللمم في اللغة ما قل وصغر، ومنه ألم بالمكان قل لبثه فيه؛ وألم بالطعام قل أكله منه.
قال المبرد: أصل اللمم أن يلم بالشيء من غير أن يرتكبه يقال: ألم بكذا إذا قاربه، ولم يخالطه، قال الأزهري: العرب تستعمل الإلمام في معنى الدنو والقرب، قال الزجاج: أصل اللمم والإلمام ما يعمله الإنسان المرة بعد المرة ولا يتعمق فيه، ولا يقيم عليه، يقال: ألممت به إذا زرته وانصرفت عنه ويقال ما فعلته إلا لماماً وإلماماً، أي: الحين بعد الحين ومنه إلمام الخيال قال في الصحاح ألم الرجل من اللمم وهو صغائر الذنوب ويقال: هو مقاربة المعصية من غير مواقعة.
وقد اختلف أقوال أهل العلم في تفسير هذا المذكور في الآية فالجمهور على أنه صغائر الذنوب، وقيل: هو ما كان دون الزنا من القبلة والغمزة والنظرة(13/263)
وكالكذب الذي لا حد فيه ولا ضرر والإشراف على بيوت الناس وهجر المسلم فوق ثلاث والضحك في الصلاة المفروضة والنياحة وشق الجيب في المصيبة، والتبختر في المشي، والجلوس بين الفساق إيناساً بهنم، وإدخال مجانين وصبيان ونجاسة المسجد إذا كان يغلب تنجيسهم له واستعمال نجاسة في بدن أو ثوب لغير حاجة ونحو ذلك ذكره الخطيب وغيره، وقيل: هو الرجل يلم بذنب ثم يتوب أو يقع الوقعة ثم ينتهي وهو قول أبي هريرة وابن عباس وبه قال مجاهد والحسن والزهري ومنه:
إن تغفر اللهم تغفر جما ... وأي عبد لك لا ألما
واختار هذا القول الزجاج والنحاس وقيل: هو ذنوب الجاهلية فإن الله لا يؤاخذ بها في الإسلام، وله قال زيد بن ثابت، وزيد بن أسلم وقال نفطويه: هو أن يأتي بذنب لم يكن له به عادة، قال والعرب تقول: ما تأتينا إلا إلماماً أي في الحين قال: ولا يكون أن يهم ولا يفعل لأن العرب لا تقول: ألم بنا إلا إذا فعل لا أذاهم ولم يفعل الراجح الأولى.
أخرج البخاري ومسلم " عن ابن عباس قال: ما رأيت شيئاًً أشبه باللمم " (1) مما قاله أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنا أدرك ذلك لا محالة، فزنا العين النظر، وزنا اللسان النطق، والنفس تتمنى وتشتهي والفرج يصدق ذلك أو يكذبه ".
وعن ابن مسعود في قوله إلا اللمم قال: زنا العين النظر وزنا الشفتين التقبيل وزنا اليدين البطش وزنا الرجلين المشي ويصدق ذلك الفرج أو يكذبه فإن تقدم بفرجه كان زانياً وإلا فهو اللمم.
وعن أبي هريرة أنه سئل عن قوله: إلا اللمم قال هي النظرة،
_________
(1) رواه البخاري ومسلم.(13/264)
والغمزة، والقبلة، والمباشرة، فإذا مس الختان الختان فقد وجب الغسل، وهو الزنا. وهو قول ابن مسعود ومسروق والشعبي. وعن ابن عباس فيه قال: إلا اللمم إلا ما قد سلف، وعنه قال: هو الرجل يلم بالفاحشة ثم يتوب منها، وعن أبي هريرة قال: اللمة من الزنا ثم يتوب ولا يعود، واللمة من شرب الخمر ثم يتوب، ولا يعود، فذلك الإلمام، وعن ابن عباس أيضاًً قال: اللمم كل شيء بين الحدين، حد الدنيا وحد الآخرة، تكفره الصلاة، وهو دون كل موجب، فأما حد الدنيا فكل حد فرض الله عقوبته في الدنيا، وأما حد الآخرة فكل شيء ختمه الله بالنار، وأخر عقوبته إلى الآخرة، وقال عبد الله بن عمرو بن العاص: اللمم دون الشرك.
(إن ربك واسع المغفرة) حيث يغفر الصغائر باجتناب الكبائر، قال الكرخي: عقب به ما سبق لئلا ييأس صاحب الكبيرة من رحمته، ولئلا يتوهم وجوب العقاب على الله تعالى، وقال غيره: الجملة تعليل لما تضمنه الاستثناء، أي إن ذلك وإن خرج عن حكم المؤاخذة فليس لخلوه عن كونه ذنباً يفتقر إلى مغفرة الله، ويحتاح إلى رحمته، بل لسعة المغفرة الربانية، وقيل: إنه سبحانه يغفر لمن تاب عن ذنبه وأناب، وعن عمر وابن عباس قالا لا كبيرة في الإسلام، يعني مع التوبة، ولا صغيرة مع الإصرار، قلت: وفي كون الإصرار على الصغيرة كبيرة اختلاف بين أهل العلم، قال النووي في المنهاج: وشرط العدالة اجتناب الكبائر، والإصرار على صغيرة قال في تحفة المحتاج: قبل: عطف الإصرار من عطف الخاص على العام. وفيه نظر، لأن الإصرار لا يصير الصغيرة كبيرة حقيقة: وإنما يلحقها في الحكم ولا ينافي هذا قول كثيرين كابن عباس، ونسب للمحققين كالأشعري. وابن فورك، والإسناد أبي إسحاق أهـ.
وفي الزواجر عن اقتراف الكبائر نقلاً عن الرافعي: أما الصغائر فلا يشترط تجنبها بالكلية، لكن الشرط أن لا يصر عليها، فإن أصر كان الإصرار(13/265)
كارتكاب الكبيرة انتهى، والحاصل أن المعتمد وفاقاً لكثير من المتأخرين كالأذرعي والبلقيني والزركشي وابن العماد وغيرهم أنهم لا تضر المداومة على نوع من الصغائر. ولا على أنواع، سواء كان مقيماً على الصغيرة أو الصغائر أو مكثراً من فعل ذلك، حيث غلب الطاعات المعاصي، وإلا ضر، ثم رأيت ابن العماد قال ما نقله الإسنوي عن الرافعي: من أن الإصرار على الصغيرة يصيرها كبيرة ليس كذلك، ولم يذكر الرافعي هذه العبارة، قال البلقيني: المراد عدم غلبة الصغائر على الطاعة، وفسر القاضيان الماوردي والطبري الإصرار في قوله تعالى: (ولم يصروا) بأن لم يعزموا على أن لا يعودوا إليه، وقضيته حصول الإصرار بالعزم على العود، بترك العزم على عدم العود، ويوافقه قول ابن الصلاح: الإصرار التلبس بضد التوبة، باستمرار العزم على المعاودة، واستدامة الفعل بحيث يدخل به في حيز ما يطلق عليه الوصف بصيرورته كبيرة، وليس لزمن ذلك وعدده حصر.
وقال ابن عبد السلام: الإصرار أن تتكرر منه الصغيرة تكراراً يشعر بقلة مبالاته بدينه، إشعار ارتكاب الكبيرة بذلك، وكذلك إذا اجتمعت صغائر مختلفة الأنواع بحيث يشعر مجموعها بما يشعر به أصغر الكبائر انتهى.
والصواب في هذا الباب ما ذكره القاضي محمد بن علي الشوكاني رحمه الله في إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول، ونصه: قد قيل: إن الإصرار على الصغيرة حكمه حكم مرتكب الكبيرة، وليس على هذا دليل يصلح للتمسك به، وإنما هي مقالة لبعض الصوفية، فإنه قال: لا صغيرة مع الإصرار، وقد روى بعض من لا يعرف علم الرواية هذا اللفظ، وجعله حديثاً، ولا يصح ذلك، بل الحق أن الإصرار حكمه حكم ما أصر عليه، والإصرار على الصغيرة صغيرة، والإصرار على الكبيرة كبيرة انتهى.
ويفهم من ذلك أيضاً أن الإصرار على الكبيرة ليس كفراً، ثم التوبة عن الكبيرة وإن كانت واجبة عيناً فوراً بنصوص الكتاب والسنة وإجماع الأمة، لكن قد يغفرها الله تعالى من غير توبة أيضاًً، كما دلت عليه السنة المطهرة(13/266)
واختاره محققو أهل الحديث، ثم ذكر سبحانه إحاطة علمه بأحوال عباده فقال:
(هو أعلم بكم) أي: بأحوالكم، وتفاصيل أموركم (إذ) حين (أنشأكم من الأرض) أي: خلقكم منها في ضمن خلق أبيكم آدم، وحين ما صوركم في الأرحام، وقيل: المراد آدم فإنه خلقه من طين (وإذا أنتم أجنة) أي هو أعلم بأحوالكم وقت كونكم أجنة، وهي جمع جنين، وهو الولد ما دام في البطن، سمي ذلك لاجتنابه، أي لاستتاره في بطن أمه، ولهذا قال: (في بطون أمهاتكم) فلا يسمى من خرج عن البطن جنيناً، والجملة مستأنفة لتقرير ما قبلها.
" عن ثابت بن الحرث الأنصاري قال: كانت اليهود إذا هلك لهم صبي صغير قالوا: هو صديق، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: كذبت يهود، ما من نسمة يخلقها في بطن أمها إلا أنه شقي أو سعيد، فأنزل الله عند ذلك هذه الآية " أخرجه الطبراني وغيره.
(فلا تزكوا أنفسكم) أي لا تمدحوها، ولا تثنوا عليها خيراً، ولا تنسبوها إلى زكاء العمل، وزيادة الخير والطاعات، وحسن الأعمال، واهضموها فإن ترك تزكية النفس أبعد من الرياء، وأقرب إلى الخشوع، قال ابن عباس: لا تمدحوها، وقال الحسن: علم الله من كل نفس ما هي صانعة وإلى ما هي صائرة فلا تبرؤوها من الآثام، ولا تمدحوها بحسن الأعمال، وقيل لا تزكوها رياء، وخيلاء، ولا تقولوا لمن لم تعرفوا حقيقته أنا خير منك، وأنا أزكى منك، أو أتقى منك، فإن العلم عند الله، وفيه إشارة إلى وجوب خوف العاقبة فإن الله يعلم عاقبة من هو على التقوى.
وأخرج أحمد ومسلم وأبو داود " عن زينب بنت أبي سلمة أنها سميت برة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تزكوا أنفسكم، الله أعلم(13/267)
بأهل البر منكم سموها زينب " (1). وقال المحلي في الآية: وهذا النهي على سبيل الإعجاب، وأما على سبيل الإعتراف بالنعمة فحسن، ولذا قيل: المسرة بالطاعة طاعة، وذكرها شكر، لقوله تعالى: (وأما بنعمة ربك فحدث).
(هو أعلم بمن اتقى) مستأنفة مقررة للنهي، أي فإنه يعلم المتقي منكم وغيره قبل أن يخرجكم من صلب أبيكم آدم، فمن جاهد نفسه، وخلصت منه التقوى فهو يوصله فوق ما يؤمل من الثواب في الدارين، فكيف بمن صارت له التقوى وصفاً ثابتاً، وهو الذي ينتفع بها ويثاب عليها، وقيل: نزلت في ناس كانوا يعملون أعمالاً حسنة؛ ثم يقولون: صلاتنا وصيامنا وحجنا وجهادنا ثم لما بين الله سبحانه وتعالى جهالة المشركين على العموم، خص بالذم بعضهم فقال:
_________
(1) رواه أحمد ومسلم.(13/268)
أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (33)
(أفرأيت الذي تولى)؟ عن الخير وأعرض عن اتباع الحق(13/268)
وَأَعْطَى قَلِيلًا وَأَكْدَى (34)
(وأعطى قليلاً) أي أعطى عطاء قليلاً؛ أو شيئاًً قليلاً من المال المسمى.
(وأكدى) منع الباقي وقطع ذلك، وأمسك عنه، مأخوذ من الكدية وهي الصلابة، يقال لمن حفر بئراً بلغ فيها إلى حجر لا يتهيأ له فيه حفر: قد أكدى، ثم استعملته العرب: لمن أعطى فلم يتم ولمن طلب شيئاًً فلم يبلغ آخره قال الكسائي وأبو زيد ويقال: كديت أصابعه إذا محلت من الحفر، وكدت يده إذا كلت، ولم تعمل شيئاًً، وكدت الأرض إذا قل نباتها، وأكديت الرجل عن الشيء رددته، وأكدى الرجل إذا قل خيره، قال الفراء: معنى الآية أمسك عن العطية وقطع، وقال المبرد: منع منعاً شديداً.
وقال مجاهد وابن زيد ومقاتل: نزلت في الوليد بن المغيرة وكان قد اتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم على دينه فعيره بعض المشركين فترك ورجع إلى شركه قال مقاتل: كان الوليد يمدح القرآن، ثم أمسك عنه فأعطى قليلاً من(13/268)
لسانه من الخير ثم قطعه وقال الضحاك: نزلت في النضر بن الحرث وقال محمد بن كعب القرظي: نزلت في أبي جهل، قال ابن عباس: أكدى قطع نزلت في العاص بن وائل، وعنه قال: أطاع قليلاً انقطع.(13/269)
أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى (35)
(أعنده علم الغيب فهو يرى) الاستفهام للتقريع والتوبيخ والمعنى أعند هذا المكدي علم ما غاب عنه من أمر العذاب فهو يعلم ذلك قال مقاتل: وهو الوليد بن المغيرة وعليه الأكثر وقال السدي: إنه العاص بن وائل السهمي أو أبو جهل، كما قاله محمد بن كعب وهذا الخلاف فيمن تولى وأعطى وأكدى وأما الذي عيره وضمن له أن يحمل عنه العذاب فلم يذكروا هنا تعيينه.(13/269)
أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى (36)
(أم لم ينبأ) أي: ألم يخبر ولم يحدث (بما صحف موسى) يعني أسفاره وهي التوراة. أو صحف قبلها (و) بما في صحف (إبراهيم الذي وفى) أي: تمم وأكمل ما أمر به قال المفسرون: أي بلغ قومه ما أمر به وأداه وقيل: بالغ في الوفاء بما عاهد الله عليه.
" عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أتدرون ما قوله(13/269)
وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37)
(وإبراهيم الذي وفى) قالوا الله ورسوله أعلم قال وفى عمل يومه بأربع ركعات كان يصليهن وزعم أنها صلاة الضحى " أخرجه سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وغيرهم: قال السيوطي: ضعيف: وفي إسناده جعفر بن الزبير وهو ضعيف.
" وعن سهل بن معاذ ابن أنس عن أبيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ألا أخبركم لم سمى الله خليله الذي وفىّ أنه كان يقول كلما أصبح وأمسى: فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون إلى آخر الآية "، أخرجه ابن أبي حاتم وفي إسناده ابن لهيعة وهو ضعيف، وعن ابن عباس قال: سهام الإسلام ثلاثون سهماً لم يتممها أحد قبل إبراهيم؛ قال الله: وإبراهيم الذي وفىّ، وعنه قال: يقول: إبراهيم الذي استكمل الطاعة فيما(13/269)
فعل بابنه؛ حين رأى الرؤيا؛ وإنما خص هذين النبيين بالذكر؛ لأنه كان قبل إبراهيم وموسى يؤخذ الرجل بجريرة غيره، فأول من خالفهم إبراهيم ثم بين سبحانه ما في صحفهما فقال:(13/270)
أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى (38)
(ألا تزر وازرة وزر أخرى) أي لا تحمل نفس حاملة حمل نفس أخرى، ومعناه لا تؤخذ نفس بذنب غيرها. قال ابن عباس: كانوا قبل إبراهيم يأخذون الرجل بذنب غيره، كان الرجل يقتل بقتل أبيه وابنه وأخيه وامرأته وعبده، حتى كان إبراهيم، فنهاهم عن ذلك، وبلغهم عن الله تعالى ألا تزر الخ، وقد مضى تفسير هذه الآية في سورة الأنعام.(13/270)
وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39)
(وأن ليس للإنسان إلا ما سعى) وهذا أيضاًً من جملة ما في صحف موسى وإبراهيم، والمعنى ليس له إلا أجر سعيه، وجزاء عمله، ولا ينفع أحداً عمل أحد، وهذا العموم مخصوص بمثل قوله سبحانه: (وألحقنا بهم ذريتهم)، وبمثل ما ورد في شفاعة الأنبياء والملائكة للعباد، ومشروعية دعاء الأحياء للأموات، ونحو ذلك، ولم يصب من قال: إن هذه الآية منسوخة بمثل هذه الأمور، فإن الخاص لا ينسخ العام، بل يخصصه، فكل ما قام الدليل على أن الإنسان ينتفع به وهو من غير سعيه، كان مخصصاً لما في هذه الآية من العموم، وتعقب أيضاًً بأنها خبر، ولا نسخ في الأخبار، وبأنها على ظاهرها والدعاء من الولد دعاء من الوالد من حيث اكتسابه للولد، وبأنها مخصوصة بقوم إبراهيم وموسى، لأنها حكاية لما في صحفهم، وأما هذه الأمة فلها ما سعت هي وما سعى لها غيرها، لما صح أن لكل نبي وصالح شفاعة، وهو انتفاع بعمل الغير، ولغير ذلك.
ومن تأمل النصوص وجد من انتفاع الإنسان بما لم يعمله ما لا يكاد يحصى فلا يجوز أن تؤول الآية على خلاف الكتاب والسنة وإجماع الأمة. وحينئذ فالظاهر ما قلنا أن الآية عامة قد خصصت بأمور كثيرة، قال ابن عباس في الآية: فأنزل الله بعد ذلك: (والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم) الآية،(13/270)
ْفأدخل الله الأبناء الجنة بصلاح الآباء، وكان ابن عباس إذا قرأ هذه الآية إسترجع واستكان، وقيل: أراد بالإنسان الكافر، والمعنى ليس له من الخير إلا ما عمل هو، فيثاب عليه في الدنيا، بأن يوسع عليه في رزقه، ويعافى في بدنه. حتى لا يبقى له في الآخرة خير، وقيل: هو من باب العدل، وأما من باب الفضل فجائز أن يزيده الله ما يشاء من فضله وكرمه، وقيل: هذا منسوخ الحكم في هذه الشريعة، وإنما هو في صحف موسى وإبراهيم.
قال شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية (1) رحمه الله: من اعتقد أن الإنسان لا ينتفع إلا بعمله فقد خرق الإجماع، وذلك باطل من وجوه كثيرة:
أحدها: أن الإنسان ينتفع بدعاء غيره، وهو انتفاع بعمل الغير.
ثانيها: أن النبي صلى الله عليه وسلم يشفع لأهل الموقف في الحساب، ثم لأهل الجنة في دخولها.
ثالثها: لأهل الكبائر في الخروج من النار، وهذا انتفاع بسعي الغير.
رابعها: أن الملائكة يدعون ويستغفرون لمن في الأرض، وذلك منفعة بعمل الغير.
خامسها: أن الله تعالى يخرج من النار من لم يعمل خيراً قط بمحض رحمته وهذا انتفاع بغير عملهم.
سادسها: أن أولاد المؤمنين يدخلون الجنة بعمل آبائهم، وذلك انتفاع بمحض عمل الغير.
سابعها: قال تعالى في قصة الغلامين اليتيمين (وكان أبوهما صالحاً) فانتفعا بصلاح أبيهما وليس من سعيهما.
_________
(1) غفر الله لشيخ الإسلام، فقد خالف الآية على خلاف عادته، وعلى القارىء أن يراجع الملحق الذي نشرناه في آخر سورة يس (ج 8 ص 57) ففيه رد صاحب المنار على كل ما سيذكره ابن تيمية وابن القيم.(13/271)
ثامنها: أن الميت ينتفع بالصدقة عنه، وبالعتق بنص السنة والإجماع، وهو من عمل الغير.
تاسعها: أن الحج المفروض يسقط عن الميت بحج وليه بنص السنة، وهو انتفاع بعمل الغير.
عاشرها: أن الحج المنذور أو الصوم المنذور، يسقط عن الميت بعمل غيره بنص السنة، وهو انتفاع بعمل الغير.
حادي عشرها: المدين قد امتنع صلى الله عليه وسلم من الصلاة عليه حتى قضى دينه أبو قتادة، وقضى دين الآخر علي بن أبي طالب، وانتفع بصلاة النبي صلى الله عليه وسلم، وهو من عمل الغير.
ثاني عشرها: " أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمن صلى وحده: ألا رجل يتصدق على هذا فيصلي معه؟ " فقد حصل له فضل الجماعة بعمل الغير.
ثالث عشرها: أن الإنسان تبرأ ذمته من ديون الخلق إذا قضاها قاض عنه، وذلك انتفاع بعمل الغير.
رابع عشرها: أن من عليه تبعات ومظالم إذا حلل منها سقطت عنه وهذا انتفاع بعمل الغير.
خامس عشرها: أن الجار الصالح ينفع في المحيا والمات، كما جاء في الأثر وهذا انتفاع بعمل الغير.
سادس عشرها: أن جليس أهل الذكر يرحم بهم، وهو لم يكن منهم، ولم يجلس لذلك لحاجة عرضت له، والأعمال بالنيات، فقد انتفع بعمل غيره.
سابع عشرها: الصلاة على الميت والدعاء له في الصلاة انتفاع للميت بصلاة الحي عليه وهو عمل غيره.(13/272)
ثامن عشرها: أن الجمعة تحصل باجتماع العدد، وكذلك الجماعة بكثرة العدد، وهو انتفاع للبعض بالبعض.
تاسع عشرها: أن الله تعالى قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: (وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم) وقال تعالى: (ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات) الخ. وقال تعالى: (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض) الخ فقد رفع الله تعالى العذاب عن بعض الناس بسبب بعض، وذلك انتفاع بعمل الغير.
عشروها: أن صدقة الفطر تجب على الصغير وغيره، ممن يمونه الرجل فإنه ينتفع بذلك من يخرج عنه ولا سعي له فيها.
حادي عشريها: أن الزكاة تجب في مال الصبي والمجنون ويثاب على ذلك، ولا سعي له، ومن تأمل العلم وجد من انتفاع الإنسان بما لم يعمله ما لا يكاد يحصى، فكيف يجوز أن تتأول الآية الكريمة على خلاف صريح الكتاب والسنة وإجماع الأمة؟ انتهى كلامه رحمه الله.(13/273)
وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى (40)
(وأن سعيه سوف يرى) أي يعرض عليه، ويكشف له يوم القيامة، ويبصره في الآخرة في ميزانه من غير شك(13/273)
ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى (41)
(ثم يجزاه) أي يجزي الإنسان سعيه، يقال: جزاه الله بعمله، وجزاه على عمله، فالضمير المرفوع عائد على الإنسان، والمنصوب على سعيه، وقيل: على الجزاء المتأخر، وهو قوله: (الجزاء الأوفى) فيكون هو مفسراً له، ويجوز أن يرجع إلى الجزاء الذي هو مصدر يجزاه، وقواه السفاقسي، ويجعل الجزاء الأوفى تفسيراً للجزاء المدلول عليه بالفعل، كما في قوله: (اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى)، قال الأخفش: يقال جزيته الجزاء، وجزيته بالجزاء سواء لا فرق بينهما.(13/273)
وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى (42)
(وأن إلى ربك المنتهى) أي المرجع، والمصير إِليه سبحانه، لا إلى غيره، فيجازيهم بأعمالهم، هذا كله في الصحف الأولى، والمخاطب عام، أو النبي صلى الله عليه وسلم خاصة.(13/273)
وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى (43) وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا (44) وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (45) مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى (46) وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى (47) وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى (48) وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى (49) وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى (50) وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى (51) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى (52) وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى (53) فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى (54) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى (55) هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولَى (56) أَزِفَتِ الْآزِفَةُ (57) لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ (58) أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (59) وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ (60) وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ (61) فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا (62)
عن " أبيّ بن كعب في هذه الآية عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا فكرة في الرب "(13/274)
وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى (43)
(وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى) أي هو الخالق لذلك، والقاضي بسببه: قال الحسن والكلبي: أضحك أهل الجنة في الجنة، وأبكى أهل النار في النار، وقال الضحاك: أضحك الأرض بالنبات، وأبكى السماء بالمطر، وقيل أضحك من شاء في الدنيا بأن سره، وأبكى من شاء بأن غمه.
وهذا على أن كُلاًّ من الفعلين حذف مفعوله، وقال سهل بن عبد الله: أضحك المطيعين بالرحمة، وأبكى العاصين بالسخط، وقيل: أضحك المؤمنين في العقبى بالمواهب، وأبكاهم في الدنيا بالنوائب، وقيل: خلق الفرح والحزن، وقيل: إن الفعلين من الأفعال اللازمة كقوله: الله يحيي ويميت، وهذا يدل على أن ما يعمل الإنسان فبقضائه وخلقه، حتى الضحك والبكاء.(13/274)
وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا (44)
(وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا) أي: قضى أسباب الموت والحياة، ولا يقدر على ذلك غيره، وقيل: خلق نفس الموت والحياة، كما في قوله: (خلق الموت والحياة)، وقيل أمات الآباء وأحيا الأبناء، وقيل: أمات في الدنيا وأحيا للبعث، وقيل: المراد بهما النوم واليقظة، وقال عطاء: أمات بعدله،(13/274)
وأحيا بفضله، وقيل: " أمات الكافر، وأحيا المؤمن، كما في قوله: (أو من كان ميتاً فأحييناه).(13/275)
وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (45)
(وأنه خلق الزوجين) الصنفين (الذكر والأنثى) من كل حيوان وهذا أيضاًً من جملة المتضادات الواردة على النطفة، فبعضها يخلق ذكراً وبعضها يخلق أنثى، ولا يصل إليه فهم العقلاء، ولا يعلمونه، وإنما هو بقدرة الله لا بفعل الطبيعة، وفيه رد على الطبائعيين القائلين بالبرد والرطوبة في الأنثى فرب امرأة أحر وأيبس مزاجاً من الرجل(13/275)
مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى (46)
(من نطفة) مني، ولا يدخل في ذلك آدم وحواء، فإنهما لم يخلقا من النطفة، والنطفة الماء القليل (إذا تمنى) أي: تصب في الرحم، وتدفق فيه، كذا قال الكلبي والضحاك وعطاء بن أبي رباح وغيرهم يقال: منى الرجل يمني، وأمنى أي: صب المني، وقال أبو عبيدة: إذا تمنى إذا تقدر، يقال: منيت الشيء إذا قدرته ومنى له إذا قدر له.(13/275)
وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى (47)
(وأن عليه النشأة الأخرى) أي إعادة الأرواح إلى الأجسام عند البعث، وفاء بوعده. فإنه قال: إنا نحن نحيي ونميت لا بحكم العقل ولا الشرع قرىء النشأة بالقصر بوزن الضربة، وبالمد بوزن الكفالة، سبعيتان وهما على القراءتين مصدران(13/275)
وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى (48)
(وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى) أي أغنى من شاء، وأفقر من شاء، ومثله قوله: (يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر)، وقوله: (يقبض ويبسط) قاله ابن زيد، واختاره ابن جرير وقال مجاهد وقتادة والحسن: أغنى مول، وأقنى أخدم وقيل معنى أقنى: أعطى القنية وهي ما يتأثل من الأموال، أي. أصول الأموال، وما يدخرونه بعد الكفاية.
وقيل: معنى أقنى أرضى بما أعطى أي أغناه. ثم أرضاه بما أعطاه، قال الجوهري: قنى الرجل يقني مثل غنى يغني، ثم يتعدى بتغيير الحركة فيقال: قنيت له مالاً كسبته، وهو نظير شترت عينه بالكسر، وشترها الله بالفتح، فإذا دخلت عليه الهمزة والتضعيف اكتسب مفعولاً ثانياً فيقال: أقناه(13/275)
الله مالاً، وقناه إياه أي أكسبه إياه وأقناه أرضاه، والقناء الرضا، قال أبو زيد: تقول العرب: من أعطى مائة من البقر فقد أعطى القنى، ومن أعطى مائة من الضان فقد أعطى الغنى ومن أعطى مائة من الإبل فقد أعطى المنى، وقال الأخفش وابن كيسان: أقنى أفقر، وهو يؤيد القول الأول، وقال ابن عباس: أغنى وأقنى أعطى وأرضى، وقيل: أقنى زاد فوق الغنى، وحذف مفعول أغنى وأقنى لأن المراد نسبة هذين الفعلين إليه وحده، وكذلك باقيها.(13/276)
وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى (49)
(وأنه هو رب الشعرى) هي كوكب يطلع خلف الجوزاء في شدة الحر والمراد به هنا الشعرى التي يقال لها العبور، وهي أشد ضياء من الشعرى التي يقال لها الغميصاء، وإنما ذكر سبحانه أنه هو رب الشعرى، مع كونه رباً لكل الأشياء، للرد على من كان يعبدها. وأول من عبدها أو سن عبادتها أبو كبشة، وكان من أشراف العرب، وذلك لأن النجوم تقطع السماء عرضاً، والشعرى تقطعها طولاً، فهي مخالفة لها فعبدها وعبدتها خزاعة وحمير، وكانت قريش تقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم ابن أبي كبشة تشبيهاً له به، لمخالفته دينهم، كما خالفهم أبو كبشة، وكان من أجداد النبي صلى الله عليه وسلم من قبل أمه، ومن ذلك قول أبي سفيان عند دخوله على هرقل: لقد أمر أمر ابن أبي كبشة، قال ابن عباس في الآية: هو الكوكب الذي يدعى الشعرى، وعنه قال: نزلت هذه الآية في خزاعة وكانوا يعبدون الشعرى، وهو الكوكب الذي يتبع الجوزاء، ويسمى كلب الجبار أيضاًً.(13/276)
وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى (50)
(وأنه أهلك عاداً الأولى) وصف عاداً بالأولى لكونهم كانوا من قبل ثمود، قال ابن زيد: قيل لها عاد الأولى لأنهم أول أمة أهلكت بعد نوح، وقال ابن إسحق: هما عادان فالأولى أهلكت بالصرصر، والأخرى بالصيحة، وقيل: عاد الأولى قوم هود، أهلكوا بريح صرصر، وعاد الأخرى إرم بن عوص بن سام بن نوح(13/276)
وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى (51)
(و) أهلك (ثمود) كما أهلك عاداً (فما أبقى) أحداً من الفريقين، وثمود هم قوم صالح عليه السلام؛ أهلكوا بالصيحة وقد تقدم الكلام على عاد وثمود في غير موضع.(13/276)
وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى (52)
(و) أهلك (قوم نوح) بالغرق (من قبل) أي من قبل إهلاك عاد وثمود (إنهم كانوا هم أظلم) من عاد وثمود (وأطغى) منهم أو أظلم وأطغى من جميع الفرق الكفرية أو أظلم وأطغى من مشركي العرب وإنما كانوا كذلك لأنهم عتوا على الله بالمعاصي مع طول مدة دعوة نوح لهم كما في قوله: (فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً) وقيل: لأنهم كانوا يضربونه حتى لا يكون به حراك ويغشى عليه فإذا أفاق قال: رب أغفر لقومي فإنهم لا يعلمون وينفرون عنه حتى كانوا يحذرون صبيانهم أن يسمعوا منه.(13/277)
وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى (53)
(والمؤتفكة) الإئتفاك الإنقلاب، والمؤتفكة مدائن قوم لوط عليه السلام وسميت المؤتفكة لأنها انقلبت بهم وصار عاليها سافلها، تقول أفكته إذا قلبته ومعنى (أهوى) أي أسقط أي أهواها جبريل إلى الأرض بعد أن رفعها إلى السماء مقلوبة إلى الأرض قال المبرد: جعلها تهوي.(13/277)
فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى (54)
(فغشاها ما غشى) أي ألبسها ما ألبسها من الحجارة المنضودة المسومة التي وقعت عليها كما في قوله: (فجعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل) وفي هذه العبارة تهويل للأمر الذي غشاها به وتعظيم له وقيل: إن الضمير راجع إلى جميع الأمم المذكورة أي فغشاها من العذاب ما غشى على اختلاف أنواعه.(13/277)
فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى (55)
(فبأي آلاء ربك تتمارى) هذا خطاب للإنسان المكذب أي فبأي نعم ربك الدالة على وحدانيته وقدرته أيها الإنسان المكذب تتشكك وتمتري وقيل: الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم تعريضاً لغيره فهو من باب الإلهاب والتهييج والتعريض بالغير، وعن ابن عباس: أنه للوليد بن المغيرة، وقيل: لكل من يصلح له، قال ابن عادل: الصحيح العموم لقوله تعالى: (يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم) وقوله: (وكان الإنسان أكثر شيء جدلاً) قلت: ولقوله: (فبأي آلاء ربكما تكذبان) قيل: إسناد فعل التماري إلى الواحد باعتبار تعدده بحسب تعدد متعلقه وهو الآلاء المتماري فيها قلت لا حاجة إلى(13/277)
هذا التكلف لأن التفاعل مجرد عن التعدد في الفاعل والفعل، للمبالغة في الفعل، وسمى هذه الأمور المذكورة آلاء أي: نعماً مع كون بعضها نقماً لا نعماً، لأنها مشتملة على العبر والمواعظ، ويكون فيها إنتقام من العصاة، وفي ذلك نصرة للأنبياء والصالحين، وقرىء تتمارى من غير إدغام وبإدغام إحدى التاءين في الأخرى.(13/278)
هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولَى (56)
(هذا نذير من النذر الأولى) أي هذا محمد رسول إليكم من الرسل المتقدمين قبله، فإنه أنذركم كما أنذروا قومهم، كذا قال ابن جرير ومحمد ابن كعب وغيرهما، وقال قتادة: يريد القرآن، وأنه أنذر بما أنذرت به الكتب الأولى، وقيل: هذا الذي أخبرنا به عن أخبار الأمم تخويف لهذه الأمة من أن ينزل بهم ما نزل بأولئك، كذا قال أبو مالك، وقال أبو صالح: إن الإشارة بقوله هذا إلى ما في صحف موسى وإبراهيم، والأول أولى، قال ابن عباس: هذا نذير أي محمد صلى الله عليه وسلم والأولى على تأويل الجماعة لمراعاة الفواصل، والتنوين للتفخيم على جميع التقارير المتقدمة.(13/278)
أَزِفَتِ الْآزِفَةُ (57)
(أزفت الآزفة) أي: قربت الساعة ودنت، سماها آزفة لقرب قيامها وقيل: لدنوها من الناس، كما في قوله: (اقتربت الساعة)، أخبرهم بذلك ليستعدوا لها قال في الصحاح: أزفت الآزفة يعني القيامة، وأزف الرجل عجل، قال ابن عباس: الآزفة من أسماء القيامة والألم فيه للعهد لا للجنس لئلا يخلو الكلام عن الفائدة إذ لا معنى لوصف القريب بالقرب، كما قيل، ولذا قيل إن الآزفة علم بالغلبة للساعة هنا وفيه نظر لأن وصف القريب بالقرب يفيد المبالغة في قربه، كما يدل عليه الافتعال في (اقتربت الساعة) فتأمل.(13/278)
لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ (58)
(ليس لها من دون الله كاشفة) أي ليس لها نفس أو حال قادرة على كشفها عند وقوعها إلا لله سبحانه، وقيل: كاشفة بمعنى انكشاف والهاء فيها كالهاء في العاقبة والداهية، وقيل: كاشفة بمعنى كاشف والهاء للمبالغة كراوية(13/278)
وعلامة ونسابة، والأول أولى، والمعنى أنه لا يقدر على كشفها إذا غشت الخلق بشدائدها وأهوالها أحد غير الله، كذا قال عطاء والضحاك وقتادة وغيرهم، وقيل: ليس لها نفس مبينة متى تقوم، كقوله: (لا يجليها لوقتها إلا هو) ثم وبخهم سبحانه فقال:(13/279)
أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (59)
(أفمن هذا الحديث تعجبون) المراد بالحديث القرآن، أي: كيف تعجبون منه تكذيباً.(13/279)
وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ (60)
(وتضحكون) منه استهزاء مع كونه غير محل للتكذيب، ولا موضع للاستهزاء (ولا تبكون) خوفاً وانزجاراً لما فيه من الوعيد الشديد.
عن صالح أبي الخليل قال: لما نزلت هذه الآية فما ضحك النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك إلا أن يتبسم، وفي لفظ فما رئي النبي صلى الله عليه وسلم ضاحكاً ولا متبسماً حتى ذهب من الدنيا "(13/279)
وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ (61)
(وأنتم سامدون) لاهون غافلون عما يطلب منكم مستأنفة لتقرير ما قبلها أو حالية، والسمود الغفلة والسهو عن الشيء، والإعراض واللهو وقيل: الخمود، وقيل: الإستكبار، وقال في الصحاح: سمد سموداً رفع رأسه تكبراً، فهو سامد، وقال ابن الأعرابي: السمود اللهو والسامد اللاهي يقال للقينة: أسمدينا أي الهينا بالغناء، وقال المبرد: سامدون خامدون، وقال مجاهد: غضاب مبرطمون، والبرطمة الإعراض، وقيل: أشرون بطرون وقيل: ساهون لاهون غافلون لاعبون.
وقال ابن عباس: لاهون معرضون عنه، وعنه قال: هو الغناء باليمانية وكانوا إذا سمعوا القرآن تغنوا ولعبوا، وقال أبو عبيدة: السمود الغناء بلغة حمير يقولون: يا جارية أسمدي لنا أي غني، وقال: كانوا يمرون على النبي صلى الله عليه وسلم شامخين، ألم تر إلى البعير كيف يخطر شامخاً، وعن أبي خالد الوالبي قال: خرج علي بن أبي طالب علينا، وقد أقيمت الصلاة ونحن قيام ننتظره ليتقدم فقال: ما لكم سامدون؟ لا أنتم في صلاة ولا أنتم في جلوس تنظرون.(13/279)
فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا (62)
(فاسجدوا لله) لما وبخ سبحانه المشركين على الاستهزاء بالقرآن والضحك منه والسخرية، وعدم الانتفاع بمواعظه وزواجره، أمر عباده المؤمنين بالسجود لله، والعبادة له، أي إذا كان الأمر كذلك فاسجدوا لله (واعبدوا) فإنه المستحق لذلك منكم، وهو من عطف العام على الخاص، أي ولا تسجدوا للأصنام، ولا تعبدوها، وهذا مأخوذ من لام الاختصاص، ومن السياق، وقد تقدم في فاتحة السورة أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد عند تلاوته هذه الآية، وسجد معه الكفار فيكون المراد بها سجود التلاوة، وقيل سجود الفرض.(13/280)
سورة القمر
ويقال سورة اقتربت
وقد تقدم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ يقاف واقتربت الساعة في الأضحى والفطر وقال ابن عباس: اقتربت تدعى في التوراة المبيضة تبيض وجه صاحبها يوم تبيض الوجوه، قال البيهقي: منكر.
و" عن إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة رفعه من قرأ اقتربت الساعة في كل ليلة بعثه الله يوم القيامة ووجهه كالقمر ليلة البدر " أخرجه ابن الضريس وهي خمس وخمسون آية وهي مكية كلها في قول الجمهور وقال مقاتل: إلا ثلاث آيات من قوله: (أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ) إلى قوله: (وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ) قال القرطبي: ولا يصح وقيل: إلا (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ) الآية وعن ابن عباس: أنها نزلت بمكة وعن ابن الزبير مثله، وجميع آيات السورة فواصلها على الراء الساكنة.(13/281)
بسم الله الرحمن الرحيم
اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1) وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (2) وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ (3) وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ (4) حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ (5) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ (6) خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ (7) مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ (8) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (9) فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (10) فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ (11) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (12)(13/283)
اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1)
(اقتربت الساعة) أي قربت ولا شك أنها قد صارت باعتبار نسبة ما بقي بعد قيام النبوة المحمدية إلى ما مضى من الدنيا قريبة، ويمكن أن يقال أنها لما كانت متحققة الوقوع لا محالة كانت قريبة، فكل آت قريب (وانشق القمر) أي: وقد انشق القمر وانفلق، وكذا قرأ حذيفة بزيادة قد والمراد الانشقاق الواقع في أيام النبوة معجزة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى هذا ذهب الجمهور من السلف والخلف، قال الواحدي: وجماعة المفسرين على هذا إلا ما روى عثمان بن عطاء عن أبيه أنه قال: المعنى سينشق القمر، والعلماء كلهم على خلافه.
قال: وإنما ذكر اقتراب الساعة مع انشقاق القمر لأن انشقاقه من علامات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ونبوته وزمانه من أشراط اقتراب الساعة، قال ابن كيسان: في الكلام تقديم وتأخير، أي: انشق القمر واقتربت الساعة، وحكى القرطبي عن الحسن مثل قول عطاء أنه الانشقاق الكائن يوم القيامة، وهذا قول باطل لا يصح وشاذ لا يثبت لإجماع المفسرين على خلافه، ولأن الله سبحانه ذكره بلفظ الماضي وحمل الماضي على المستقبل بعيد يفتقر إلى(13/283)
قرينة تنقله أو دليل يدل عليه، وأتى ذلك.
قال الرازي: قال بعض المفسرين: المراد سينشق، وهذا بعيد لا معنى له لأن من منع ذلك وهو الفلسفي خذله الله يمنعه في الماضي والمستقبل ومن يجوزه لا يحتاج إلى التأويل، ثم رد على المانع وقال: والقرآن أدل دليل وأقوى مثبت له وامكانه لا يشك فيه، وقد أخبر عنه الصادق فيجب اعتقاد وقوعه وحديث امتناع الخرق والإلتئام حديث اللئام، وقد ثبت جواز الخرق والتخريب على السموات وذكرناه مراراً، وقيل: معنى انشق وضح الأمر وظهر والعرب تضرب بالقمر المثل فيما وضح، وقيل: انشقاق القمر هو انشقاق الظلمة عنه وطلوعه في أثنائها كما يسمى الصبح فلقاً لانفلاق الظلمة عنه.
قال ابن كثير: قد كان الإنشقاق في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم: كما ثبت ذلك في الأحاديث المتواترة بالأسانيد الصحيحة قال: وهذا أمر متفق عليه بين العلماء أن انشقاق القمر قد وقع في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وأنه كان إحدى المعجزات الباهرات.
قال الزجاج: زعم قوم عندوا عن القصد وما عليه أهل العلم أن تأويله أن القمر ينشق يوم القيامة والأمر بين في اللفظ، وإجماع أهل العلم، لأن قوله الآتي:(13/284)
وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (2)
(وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر) يدل على أن هذا كان في الدنيا لا في القيامة انتهى، ولم يأت من خالف الجمهور وقال إن الانشقاق سيكون يوم القيامة إلا بمجرد استبعاد فقال: إنه لو انشق في زمن النبوة لم يبق أحد إلا رآه لأنه آية والناس في الآيات سواء، ويجاب عنه بأنه لا يلزم أن يراه كل أحد لا عقلاً ولا شرعاً ولا عادة، وأن هذا الانشقاق حصل في الليل ومعظم الناس نيام غافلون، والأبواب مغلقة وهم مغطون بثيابهم فَقَلَّ من يتفكر في السماء أو ينظر إليها.
ومما هو مشاهد معتاد أن كسوف القمر وغيره مما يحدث في السماء، في الليل من العجائب والأنوار الطوالع والشهب العظام ونحو ذلك يقع ولا(13/284)
يتحدث به إلا أحاد الناس، ولا علم عند غيرهم بذلك لما ذكرنا من غفلة الناس عنه وكان هذا الانشقاق آية عظيمة حصلت في الليل لقوم سألوها واقترحوا رؤيتها فلم يتأهب غيرهم لها.
قال بعض أهل العلم: وقد يكون القمر حينئذ في بعض المجاري والمنازل التي تظهر لبعض أهل الآفاق دون بعض كما يكون ظاهراً لقوم غائباً عن قوم وكما يجد الكسوف أهل بلد دون بلد والله أعلم.
ومع هذا فقد نقل إلينا بطريق التواتر، وهذا بمجرده يدفع الاستبعاد ويضرب به في وجه قائله، والحاصل إنا إذا نظرنا إلى كتاب الله فقد أخبرنا بأنه انشق ولم يخبرنا بأنه سينشق، وإن نظرنا إلى سنة رسوله صلى الله عليه وسلم فقد ثبت في الصحيح وغيره من طرق متواترة أنه قد كان ذلك في أيام النبوة، وإن نظرنا إلى أقوال أهل العلم فقد اتفقوا على هذا ولا يلتفت إلى شذوذ من شذ، واستبعاد من استبعد، وفي الباب رسائل شتى للشيخ رفيع الدين الدهلوي رحمه الله وغيره.
وقد أخرج البخاري ومسلم وغيرهما. عن " أنس أن أهل مكة سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يريهم آية فأراهم القمر شقتين حتى رأوا حراء بينهما " (1)، وروي عنه من طرق أخرى عند مسلم والترمذي وغيرهما وقال فنزلت (اقتربت الساعة وانشق القمر).
وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن " ابن مسعود قال انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فرقتين فرقة فوق الجبل وفرقة دونه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اشهدوا " (2).
_________
(1) مسلم والبخاري.
(2) مسلم والبخاري.(13/285)
وعنه قال رأيت القمر منشقاً شقتين مرتين، مرة بمكة قبل أن يخرج النبي صلى الله عليه وسلم، شقة على أبي قبيس، وشقة على السويدا، وذكر أن هذا سبب نزول الآية أخرجه عبد بن حميد والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الدلائل.
وعنه أيضاًً قال: " رأيت القمر وقد انشق وأبصرت الجبل بين فرجتي القمر "، أخرجه أحمد وأبو نعيم وابن جرير وغيرهم، وله طرق عنه.
وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما. عن " ابن عباس قال انشق القمر في زمن النبي صلى الله عليه وسلم " وله طرق عنه، وأخرج مسلم والترمذي وغيرهما.
" عن ابن عمر في الآية قال كان ذلك على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم انشق القمر فرقتين فرقة من دون الجبل، وفرقة خلفه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اللهم أشهد ".
" وعن جبير بن مطعم عن أبيه في الآية قال: انشق القمر ونحن بمكة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى صار فرقة على هذا الجبل، وفرقة على هذا الجبل، فقال الناس: سحرنا محمد فقال رجل: إن كان سحركم فإنه لا يستطيع أن يسحر الناس كلهم "، أخرجه أحمد والترمذي والحاكم وصححه وعبد بن حميد وغيرهم.
وعن عبد الرحمن السلمي قال: خطبنا حذيفة بن اليمان بالمدائن فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: (اقتربت الساعة وانشق القمر)، ألا وإن الساعة قد اقتربت ألا وإن القمر قد انشق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ألا وإن الدنيا قد آذنت بفراق، اليوم المضمار، وغداً السباق "، أخرجه ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وعبد الله بن أحمد في زوائد الزهد وابن جرير وابن مردويه وأبو نعيم، ونقل في المواهب عن الحافظ ابن حجر أن الانشقاق لم يقع إلا مرة(13/286)
واحدة وأن رواية مرتين مؤولة مصروفة عن ظاهرها وكان أي الانشقاق قبل الهجرة بنحو خمس سنين.
(وإن يروا) أي كفار قريش (آية) تدل على صدق الرسول والمراد بها هنا انشقاق القمر (يعرضوا) عن تأملها والإيمان بها (ويقولوا) هذا (سحر مستمر) أي: دائم مطرد قوي، وكل شيء دام حاله قيل فيه مستمر وذلك لما رأوا تتابع المعجزات وترادف الآيات أعرضوا عن التصديق بها وقالوا هذا سحر مستمر.
قال الواحدي: قال المفسرون: لما انشق القمر قال المشركون: سحرنا محمد فقال الله (وإن يروا) آية يعني: انشقاق القمر يعرضوا عن التصديق بها والإيمان بها، ويقولوا سحر قوي شديد يعلو كل سحر، من قولهم استمر الشيء إذا قوي واستحكم، وقد قال بأن معنى مستمر قوي شديد جماعة من أهل العلم، قال الأخفش: هو مأخوذ من إمرار الحبل وهو شدة فتله وبه قال أبو العالية والضحاك واختاره النحاس.
وقال الفراء والكسائي وأبو عبيدة (سحر مستمر) أي ذاهب مار سوف يذهب ولا يبقى، من قولهم مر الشيء واستمر أي ذهب وبطل وبه قال قتادة ومجاهد وغيرهما واختاره النحاس، وقيل: يشبه بعضه بعضاً وقيل: قد مر من الأرض إلى السماء، وقيل: هو من المرارة، يقال مر الشيء صار مراً أي مستبشع عندهم مر على أهوائهم لا يقدرون أن يسيغوه كما لا يساغ المر، وبه قال الزمخشري.
وفي هذه الآية أعظم دليل على أن الانشقاق قد كان في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قررناه سابقاً، وفي التفهيمات للشيخ ولي الله المحدث الدهلوي رحمه الله: وأما شق القمر فعندنا ليس من المعجزات، إنما هو من آيات القيامة كما قال تعالى: (اقتربت الساعة وانشق القمر) ولكنه صلى الله(13/287)
عليه وسلم أخبر عنه قبل وجوده فكان معجزة من هذا السبيل انتهى. واعترضه بعض من لا يسمن قوله ولا يغني من جوع، ودفعه جماعة من علماء الهند وغيرهم، وليس في هذه العبارة إنكار تلك المعجزة كما فهمه بعض القاصرين عن بلوغ رتبة الكمال بل هي أدل دليل على إثباتها عند من يفهم كلام العلماء بالله تعالى، تأمل.
ثم ذكر سبحانه تكذيبهم فقال:(13/288)
وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ (3)
(وكذبوا) رسول الله صلى الله عليه وسلم وما عاينوا من قدرة الله (واتبعوا أهواءهم) ما زينه لهم الشيطان الرجيم من دفع الحق بعد ظهوره ذكر هذين بصيغه الماضي، للإشعار بأنهما من عادتهم القديمة، مع أن الظاهر المضارع لكونهما معطوفين على يعرضوا (وكل أمر مستقر) مستأنفة لتقرير بطلان ما قالوه من التكذيب واتباع الهوى ولإقناطهم مما علقوا به أمانيهم الفارغة من عدم استقرار أمره صلى الله عليه وسلم حيث قالوا سحر مستمر، ببيان ثباته ورسوخه أي وكل أمر من الأمور منتهي إلى غاية يستقر عليها لا محالة، فالخير يستقر بأهل الخير، والشر يستقر بأهل الشر.
قال الفراء: تقول يستقر قرار تكذيبهم وقرار قول المصدقين حتى يعرفوا حقيقته بالثواب والعقاب، وقيل: كل ما قدر فهو كائن لا محالة وقال الكلبي: المعنى لكل أمر حقيقة، ما كان منه في الدنيا فسيظهر، وما كان منه في الآخرة فسيعرف، وقيل: هو جواب قولهم: (سحر مستمر)، أي ليس أمره بذاهب كما زعمتم، بل أمر محمد صلى الله عليه وسلم سيظهر إلى غاية يتبين فيها أنه حق، وقيل: كل أمر من أمرهم، وأمره صلى الله عليه وسلم مستقر على حالة خذلان أو نصرة في الدنيا أو شقاوة أو سعادة في الآخرة، ذكره أبو السعود والظاهر هو الأول.
وإبهام المستقر عليه، للتنبيه على كمال ظهور الحال وعدم الحاجة إلى التصريح به. قرأ الجمهور مستقر بكسر القاف، وهو مرتفع على أنه خبر(13/288)
والمبتدأ وهو كل وقرىء بالجر على أنه صفة لأمر، وقرىء بفتح القاف قال أبو حاتم: ولا وجه لها، وقيل: وجهه كل أمر ذو استقرار، أو زمان استقرار، أو مكانه على أنه مصدر أو ظرف زمان أو ظرف مكان.(13/289)
وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ (4)
(ولقد جاءهم) أي كفار مكة أو الكفار على العموم (من الأنباء) أي من بعض أخبار الأمم المكذبة المقصوصة علينا في القرآن (ما فيه مزدجر) أي: ازدجار عن الكفر على أنه مصدر ميمي، يقال: إزدجرته وزجرته إذا نهيته عن السوء ووعظته بغلظة، أو إسم مكان والمعنى جاءهم ما فيه موضع ازدجار، أي: أنه في نفسه موضع لذلك وأصله مزتجر. وتاء الافتعال تقلب دالاً بعد الزاي والدال والذال، كما تقرر في موضعه وهذا في آخر كتاب سيبويه، وقرىء مزجر بإبدال التاء زاياً وإدغامها، وقرىء مزجر إسم فاعل من أزجر أي صار ذا زجر، وما موصولة أو موصوفة.(13/289)
حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ (5)
(حكمة) خبر مبتدأ محذوف، أو بدل من (ما) بدل كل من كل، أو بدل اشتمال، أو من مزدجر (بالغة) تامة أي إن القرآن حكمة قد بلغت الغاية، ليس فيها نقص، ولا خلل، وقرىء حكمة بالنصب على أنها حال من ما، أي: حال كون ما فيه مزدجر حكمة بالغة نهاية الصواب (فما تغن النذر) ما استفهامية أي أيُّ شيء أو أيُّ إغناء تغني النذر؟ وتحصله وتكسبه؟ أو نافية، أي: لم تغن النذر شيئاًً ولم تنفع فيهم والفاء لترتيب عدم الإغناء على مجيء الحكمة البالغة، ولا ترسم الياء هنا بعد النون اتباعاً لرسم المصحف، والنذر جمع نذير بمعنى النذر، أي الأمور المنذرة لهم كأحوال الأمم السابقة وما بلغ إليهم من العذاب الذي بلغ قريشاً وتسامعوا به أو بمعنى الإنذار على أنه مصدر.
ثم أمره الله سبحانه بالإعراض عنهم فقال:(13/289)
فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ (6)
(فتول عنهم) أي أعرض عنهم حيث لم يؤثر فيهم الإنذار، وهي منسوخة بآية السيف، قاله(13/289)
أكثر المفسرين وقال الرازي: إن قولهم بالنسخ ليس بشيء بل المراد منها لا تناظرهم بالكلام، ذكره الخطيب.
(يوم) اذكر يوم (يدع الداع) وإليه ذهب الرماني والزمخشري وفيه وجوه هذا أقربها، وسقطت الواو من يدع إتباعاً للفظ، وقد وقعت في الرسم هكذا وحذفت الياء من الداع مبالغة في التخفيف واكتفاء بالكسرة، والداعي هو إسرافيل، وقيل: جبريل والأول أولى (إلى شيء نكر) أي: أمر فظيع ينكرونه استعظاماً له، لعدم تقدم العهد لهم بمثله وهو هول يوم القيامة، وقيل: هو الحساب، قرأ الجمهور نكر بضم الكاف، وقرىء بسكونها تخفيفاً، وقرىء بكسر الكاف، وفتح الراء على صيغة الفعل المجهول.(13/290)
خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ (7)
(خشعاً أبصارهم) قرأ الجمهور: خشعاً، جمع خاشع، وقرىء خاشعاً على الإفراد، وقرأ ابن مسعود: خاشعة، قال الفراء: الصفة إذا تقدمت على الجماعة جاز فيها التذكير والتأنيث، والجمع، يعني جمع التكسير لا جمع السلامة لأنه يكون من الجمع بين الفاعلين، والخشوع في البصر الخضوع والذلة وأضاف الخشوع إلى الأبصار لأن العز والذل يتبين فيها، ويظهر أكثر من ظهوره على بقية البدن.
(يخرجون) أي الناس مطلقاً مؤمنهم وكافرهم (من الأجداث) واحدها جدث وهو القبر (كأنهم) لكثرتهم وتموجهم واختلاط بعضهم ببعض (جراد منتشر) أي منبث: في الأقطار، مختلط بعضه ببعض في الأماكن لا يدرون أين يذهبون من الخوف والحيرة(13/290)
مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ (8)
(مهطعين إلى الداع) الإهطاع الإسراع في المشي، أي حال كونهم مسرعين إلى الداعي، وهو إسرافيل وقال الضحاك: مقبلين، وقال قتادة: عامدين، وقال عكرمة: فاتحين آذانهم إلى الصوت، والأول أولى، وبه قال أبو عبيدة وغيره، وقال ابن عباس: ناظرين إليه بأبصارهم لا يقلعون، وقيل: مادي أعناقهم إليه.
(يقول الكافرون هذا يوم عسر) أي صعب شديد على الكافرين كما(13/290)
في المدثر: (يوم عسير على الكافرين غير يسير) وفي إسناد هذا القول إلى الكفار دليل على أن اليوم ليس بشديد على المؤمنين، ثم ذكر سبحانه تفصيل بعض ما تقدم من الأنباء المجملة فقال:(13/291)
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (9)
(كذبت قبلهم) أي: قبل قريش (قوم نوح) أي كذبوا نبيهم وفي هذا تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
(فكذبوا عبدنا) تفصيل بعد إجمال، وتفسير لما قبله من التكذيب المبهم، وفيه مزيد تقرير وتأكيد أي فكذبوا نوحاً والفاء على هذا تفصيلية فإن التفصيل يكون عقب الإجمال، وقيل معناه كذبوه تكذيباً بعد تكذيب كلما مضى منهم قرن مكذب، تبعه قرن مكذب والفاء حينئذ للتعقيب، والمكذب الثاني غير الأول، وإن اتحد المكذب أو كذبوه بعد ما كذبوا جميع الرسل والفاء على هذا للتسبب، وإنما لم يرتض القاضي هذين الوجهين، وإن جرى في الكشاف عليهما، لأن الظاهر هو الاتحاد في كليهما.
ثم بين سبحانه أنهم لم يقتصروا على مجرد التكذيب فقال: (وقالوا مجنون) أي نسبوا نوحاً إلى الجنون (وازدجر) معطوف على قالوا، أي وزجر عن دعوى النبوة، وعن تبليغ ما أرسل به بأنواع الزجر، وقيل: إنه معطوف على مجنون، أي: وقالوا: إنه ازدجرته الجن وتخبطته، وذهبت بلبه، والأول أولى، قال مجاهد: هو من كلام الله سبحانه أخبر عنه بأنه انتهر وزجر بالسب، وأنواع الأذى، قال الرازي: وهذا أصح لأن المقصود تقوية قلب النبي صلى الله عليه وسلم بذكر من تقدمه.(13/291)
فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (10)
(فدعا) نوح (ربه) على قومه: (أني) أي بأني، وقرىء بكسر الهمزة إما على إضمار القول، أي فقال: إني، وإما إجراء للدعاء مجرى القول، وهو مذهب الكوفيين (مغلوب) من جهة قومي، لتمردهم عن الطاعة، وزجرهم لي عن تبليغ الرسالة، وذلك بعد صبره عليهم غاية الصبر حيث مكث ألف سنة إلا خمسين عاماً يعالجهم، فلم يفد فيهم شيئاًً ولما يئس(13/291)
عن إجابتهم وعلم تمردهم وعتوهم، وإصرارهم على ضلالتهم، طلب من ربه سبحانه النصرة عليهم فقال: (فَانْتَصِرْ) أي: انتقم لي منهم ثم ذكر سبحانه ما عاقبهم به فقال:(13/292)
فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ (11)
(ففتحنا) مخففاً ومشدداً، وهما سبعيتان (أبواب السماء) أي كلها في جميع الأقطار، وهو على ظاهره، وللسماء أبواب تفتح وتغلق، ولا يستبعد ذلك لأنه قد صح في الحديث أن للسماء أبواباً، وقيل هو على الاستعارة فإن الظاهر أن يكون المطر من السحاب، والأول أولى (بماء) الباء للتعدية على المبالغة، حيث جعل الماء كالآلة التي يفتح بها، كما تقول: فتحت بالمفتاح (منهمر) غزير، نازل بقوة، أي منصباً انصباباً شديداً في كثرة وتتابع، لم ينقطع أربعين يوماً، والهمر: الصب بكثرة يقال: همر الماء والدمع يهمر همراً وهموراً إذا كثر.(13/292)
وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (12)
(وفجرنا الأرض عيوناً) أي جعلنا الأرض كلها عيوناً متفجرة، وهو أبلغ من قولك: فجرنا عيون الأرض، قرأ الجمهور: فجرنا بالتشديد، وقرىء بالتخفيف، قال عبيد بن عمير: أوحى الله إلى الأرض أن تخرج ماءها فتفجرت بالعيون وسالت بالمياه (فالتقى الماء على أمر قد قدر) وقرىء الماءآن وقرأ علي ومحمد بن كعب: الماوان أي التقى ماء السماء وماء الأرض على أمر قد قضى عليهم، أي كائناً على حال قدرها الله، وقضى بها في اللوح المحفوظ أنه يكون، وهو هلاك قوم نوح بالطوفان، قيل: كان ماء السماء أكثر وقيل: بالعكس.
وحكى ابن قتيبة أن المعنى على مقدار لم يزد أحدهما على الآخر بل كان ماء السماء وماء الأرض على سواء، قال قتادة: قدر لهم إذ كفروا أن يغرقوا قال ابن عباس: لم تمطر السماء قبل ذلك اليوم، ولا بعده إلا من السحاب، وفتحت أبواب السماء بالماء من غير سحاب ذلك اليوم، فالتقى الماءآن.(13/292)
وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ (13) تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ (14) وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (15) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (16) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (17) كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (18) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (19) تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (20) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (21) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (22) كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ (23) فَقَالُوا أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (24) أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ (25) سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ (26) إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ (27)(13/293)
وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ (13)
(وحملناه) أي: نوحاً (على) سفينة (ذات ألواح) وهي الأخشاب العريضة (ودسر) قال الزجاج: هي المسامير التي تشد بها الألواح واحدها دسار، وكل شيء أدخل في شيء يشده فهو دسر، وكذا قال قتادة ومحمد ابن كعب وابن زيد وسعيد بن جبير وغيرهم، وقال الحسن وشهر بن حوشب وعكرمة: الدسر ظهر السفينة التي يضربها الموج، سميت بذلك لأنها تدسر الماء، أي تدفعه، والدسر الدفع، وقال الليث: الدسار خيط يشد به ألواح السفينة.
قال في الصحاح: الدسار واحد الدسر، وهي خيوط تشد بها ألواح السفينة ويقال: هي المسامير وقيل: صدر السفينة وقيل: عوارضها وأضلاعها وقيل: الألواح جانبا السفينة، والدسر أصلها، وقيل أصلها وطرفاها قال ابن عباس: الألواح ألواح السفينة، والدسر معاريضها التي تشد بها السفينة وقال أيضاًً: المسامير وقال أيضاًً: الدسر كلكل السفينة، وقال مجاهد: نطق السفينة وعنه أيضاًً أضلاع السفينة.(13/293)
تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ (14)
(تجري بأعيننا) أي بمنظر ومرأى منا، وحفظ مالها، كما في قوله:(13/293)
واصنع الفلك بأعيننا، وقيل: بأمرنا، وقيل: بوحينا، وقيل: بالأعين النابعة من الأرض، وقيل: بأعين أوليائنا من الملائكة الموكلين بحفظها والأول أولى (جزاء) قال الفراء: فعلنا به وبهم ما فعلنا من إنجائه وإغراقهم: ثواباً، فالنصب على العلة، وقيل: أي أغرقوا انتصاراً، وهو تفسير للمعنى، وقيل: جازيناهم جزاء.
(لمن كان كفر) به، وجحد أمره، وهو نوح عليه السلام، فإنه كان لهم نعمة كفروها، إذ كل نبي نعمة على أمته، قرأ الجمهور كفر مبنياً للمفعول والمراد به نوح، وقيل: هو الله سبحانه، فإنهم كفروا به، وجحدوا نعمته وقرىء كفر بفتح الكاف والفاء مبنياً للفاعل، أي جزاء وعقاباً لمن كفر بالله.(13/294)
وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (15)
(ولقد تركناها) أي السفينة (آية) عبرة للمعتبرين قال قتادة: أبقاها الله بأرض الجزيرة، وقيل على الجودي زماناً مديداً، ودهراً طويلاً حتى نظر إليها ورآها أوائل هذه الأمة، أو أبقينا خبرها، أو أبقينا جنس السفن أو تركنا بمعنى جعلنا، وقيل: المعنى تركنا هذه الفعلة التي فعلناها بهم عبرة وموعظة لمن يعتبر ويتعظ بها.
(فهل من مدكر)؟ أصله مذتكر، فأبدلت التاء ذالاً ثم أبدلت المعجمة مهملة لتقاربهما، وأدغمت الدال في الدال، والمعنى هل من متعظ ومعتبر؟ يتعظ بهذه الآية ويعتبر بها؟ فيترك المعصية، ويختار الطاعة، ثم إنه تعالى لما أجاب دعوة نوح بأن أغرقهم أجمعين، قال: استعظاماً لذلك العقاب وإبعاداً لمشركي مكة:(13/294)
فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (16)
(فكيف كان عذابي)؟ الذي عذبتهم به (و) كيف كان عاقبة (نذر)؟ أي: إنذاري قال الفراء: الإنذار والنذر مصدران، والإستفهام للتهويل والتعجيب، أي كانا على كيفية هائلة عجيبة لا يحيط بها الوصف، وقيل: نذر جمع نذير ونذير بمعنى الإنذار كنكير بمعنى الإنكار.(13/294)
وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (17)
(ولقد يسرنا القرآن للذكر) أي سهلناه للإدكار والإتعاظ، بأن وشحناه بأنواع المواعظ والعبر الشافية، وصرفنا فيه من الوعد والوعيد، يحفظه الصغير والكبير، والعربي والعجمي وغيرهم، قال ابن عباس: لولا أن الله يسره على لسان الآدميين ما استطاع أحد من الخلق أن يتكلموا بكلام الله.
وأخرج الديلمي. عن أنس مرفوعاً مثله، وقال سعيد بن جبير: يسرناه للحفظ والقراءة، وليس شيء من كتب الله يقرأ كله ظاهراً إلا القرآن، والجملة قسمية وردت في آخر القصص الأربع، تقريراً لمضمون ما سبق، وتنبيهاً على أن كل قصة منها مستقلة بإيجاب الإدكار فيها، كافية في الازدحار، ومع ذلك لم تقع واحدة في حيز الاعتبار، أي: وتالله لقد سهلنا القرآن لقومك، بأن أنزلناه على لغتهم.
(فهل من مدكر)؟ أي متعظ بمواعظه، ومعتبر لعبره، وطالب لحفظه، فيعان عليه، وقارىء يقرأه، وطالب علم وخير، وقال ابن عباس: هل من متذكر؟ كرر هذا في هذه السورة للتنبيه والإفهام، وقيل: إن الله تعالى اقتص في هذه السورة على هذه الأمة أنباء الأمم، وقصص المرسلين، وما عاملتهم به الأمم، وما كان من عقبى أمورهم وأمور المرسلين، فكان في كل قصة ونبأ ذكر للمستمع أن لو تذكر، وإنما كرر هذه الآية عند كل قصة بقوله: فهل من مذكر؟ لأن هل كلمة استفهام تستدعي أفهامهم التي ركبت في أجوافهم، وجعلها حجة عليهم، فاللام من هل للإستعراض، والهاء للإستخراج، وفي الآية الحث على درس القرآن، والإستكثار من تلاوته، والمسارعة في تعلمه.(13/295)
كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (18)
(كذبت عاد) هم قوم هود، ولم يتعرض لكيفية تكذيبهم له مسارعة إلى بيان ما نزل بهم من العذاب، ولم يقل: فكذبوا هوداً كما قال في قصة نوح، فكذبوا عبدنا، لأن تكذيب قوم نوح أبلغ لطول مقامه فيهم، وكثرة(13/295)
عنادهم، وإما لأن قصة عاد ذكرت مختصرة (فكيف كان عذابي ونذر)؟ أي فهل سمعتم أو فاسمعوا كيف كان عذابي لهم؟ وإنذاري إياهم؟ ونذر مصدر بمعنى إنذار كما تقدم، والاستفهام للتهويل والتعظيم، والغرض بهذا توجيه قلوب السامعين نحو الإصغاء إلى ما يلقى إليهم قبل ذكره.(13/296)
إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (19)
(إنا أرسلنا عليهم ريحاً صرصراً) هذه الجملة مستأنفة مبينة لما أجمله سابقاً من العذاب، والصرصر شدة البرد، أي: ريح شديدة البرد، وقيل: الصرصر شدة الصوت، وقد تقدم بيانه في حم السجدة. قال ابن عباس: ريحاً صرصراً أي باردة (في يوم نحس مستمر) أي: دائم الشؤم إلى الأبد، استمر عليهم بنحوسة، واستمر فيه العذاب إلى الهلاك، وقد كانوا يتشاءمون بذلك اليوم، قال الزجاج: أي بيوم الأربعاء في آخر الشهر، أي شهر شوال لثمان بقين منه، واستمر إلى غروب الشمس، قال الخطيب: وقد قال في سورة الحاقة: سبع ليال وثمانية أيام حسوماً، وفي حم السجدة في أيام نحسات، فالمراد باليوم هنا الوقت والزمان انتهى.
قال الضحاك: كان ذلك اليوم مراً عليهم، وكذا حكى الكسائي عن قوم أنهم قالوا: هو من المرارة كالشيء المر، تكرهه النفوس، وقيل: هو من المرة بمعنى القوة، أي في يوم قوي الشؤم مستحكمه. كالشيء المحكم الفتل الذي لا يطاق نقضه، والظاهر أنه من الاستمرار لا من المرارة: ولا من المرة أي دام عليهم العذاب فيه حتى أهلكهم، وشمل إهلاكه كبيرهم وصغيرهم، وقيل: استمر بهم إلى نار جهنم، قال ابن عباس: في أيام شداد، " عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الأربعاء يوم نحس مستمر "، أخرجه ابن المنذر وابن مردويه، وأخرجه هو عنه من وجه آخر (1) مرفوعاً.
_________
(1) قلت: قال شيخ الإسلام الشوكاني: قال الصنعاني: موضوع، وكذا قال ابن الجوزي، ورواه الخطيب وفي إسناده كذاب، ورواه ابن مردويه، وفي إسناده متروك وأما حديث ابن عباس فقد قال الحافظ ابن حجر: هذا كذب على ابن عباس، لا تحل روايته؟. المطيعي.(13/296)
" وعن علي أيضاًً مرفوعاً وعن أنس أيضاًً مرفوعاً وفيه قيل: وكيف ذاك يا رسول الله؟ قال: أغرق الله فيه فرعون وقومه، وأهلك فيه عاداً وثمود "، وأخرج ابن مردويه والخطيب بسند قال السيوطي: ضعيف.
" عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم آخر أربعاء في الشهر يوم نحس مستمر ". قرأ الجمهور بإضافة يوم إلى نحس مع سكون الحاء وهو من إضافة الموصوف إلى الصفة أو على تقدير مضاف، أي في يوم عذاب نحس، وقرىء بتنوين يوم على أن نحس صفة له، وقرىء بكسر الحاء.(13/297)
تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (20)
(تنزع الناس) أوقع الظاهر موضع المضمر ليعم ذكورهم وإناثهم وإلا فالأصل: تنزعهم أي تقلعهم من الأرض من تحت أقدامهم اقتلاع النخلة من أصلها. قال مجاهد: كانت تقلعهم من الأرض فترمي بهم على رؤوسهم فتدق أعناقهم، وتبين رؤوسهم من أجسادهم، وقيل: تنزع الناس من البيوت، وقيل: من قبورهم، لأنهم حفروا حفائر، ودخلوها. روي أنهم دخلوا في الشعاب والحفر، وتمسك بعضهم ببعض، فنزعتهم الريح منها، وصرعتهم موتى.
(كأنهم) وحالهم ما ذكر (أعجاز نخل منقعر) الأعجاز جمع عجز، وهو مؤخر كل شيء، وعن ابن عباس قال: أصول النخل، وعنه أعجاز سواد النخل، والمنقعر المنقطع المنقلع من أصله، يقال: قعرت النخلة إذا قطعتها من أصلها حتى تسقط، شبههم في طول قاماتهم حين صرعتهم الريح وطرحتهم على وجوههم بالنخل الساقط على الأرض التي ليس لها رؤوس وذلك أن الريح قلعت رؤوسهم أولاً ثم كبتهم على وجوههم، وهذا ما جرى عليه الزجاج وغيره، وفيه إشارة إلى قوتهم وثباتهم في الأرض بأجسامهم، فكأنهم لعظم أجسامهم وكمال قوتهم، يقصدون مقاومة الريح لما صرعتهم وألقتهم على الأرض، فكأنها أقلعت أعجاز نخل منقعر، وتذكير منقعر مع(13/297)
أنه صفة لأعجاز نخل وهي مؤنثة اعتباراً باللفظ، ويجوز تأنيثه اعتباراً بالمعنى، كما قال: (أعجاز نخل خاوية) قال المبرد: كل ما ورد عليك من هذا الباب إن شئت رددته إلى اللفظ تذكيراً أو إلى المعنى تأنيثاً، وقيل: إن النخل والنخيل يذكر ويؤنث.(13/298)
فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (21)
(فكيف كان عذابي ونذر)؟ أي إنذاري لهم بالعذاب قبل نزوله، أو إنذاراتي في تعذيبهم لمن بعدهم، كرر للتهويل، وقال أبو السعود: تهويل لهما وتعجيب من أمرهما، بعد بيانهما، فليس فيه شائبة تكرار كما قيل: وما قيل من أن الأول لما حاق بهم في الدنيا والثاني لما يحيق بهم في الآخرة يرده ترتيب الثاني على العذاب الدنيوي.(13/298)
وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (22)
(ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر)؟ إنكار ونفي للمتعظ على أبلغ وجه وآكده، حيث يدل على أنه لا يقدر أحد أن يجيب المستفهم بنعم، لما ذكر سبحانه تكذيب عاد أتبعه ببيان تكذيب ثمود فقال:(13/298)
كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ (23)
(كذبت ثمود بالنذر) جمع نذير، أي كذبت بالرسل المرسلين، أو مصدر بمعنى الإنذار أي كذبت بالإنذار الذي أنذروا به، وإنما كان تكذيبهم لرسولهم وهو صالح تكذيباً للرسل، لأن من كذب واحداً من الأنبياء فقد كذب سائرهم لاتفاقهم في الدعوة إلى كليات الشرائع.(13/298)
فَقَالُوا أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (24)
(فَقَالُوا أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ)؟ الإستفهام للإنكار، أي كيف نتبع بشراً كائناً من جنسنا منفرداً وحده؟ لا متابع له على ما يدعو إليه؟ قرأ الجمهور بنصب بشراً على الاشتغال، أي أنتبع بشراً واحداً منا؟ وهو الراجح لتقدم أداة، هي بالفعل أولى، وقرىء بالرفع على الابتداء، وواحد صفته، ونتبعه خبره؛ وقرىء برفع بشر، ونصب واحد على الحال (إنا إذاً لفي ضلال) أي إنا إذا اتبعناه لفي خطأ وذهاب عن الحق والصواب (وسعر) أي عذاب وعناء وشدة، كذا قال الفراء وغيره، وقال أبو عبيدة: وهو جمع(13/298)
سعير، وهو لهب النار، والسعر الجنون يذهب كذا وكذا لما يتلهب به من الحدة، وقال مجاهد: سعر بعد عن الحق، وقال السدي في احتراق، وقيل: المراد به هنا الجنون من قولهم: ناقة مسعورة أي كأنها من شدة نشاطها مجنونة، وقال ابن عباس: في شقاء ثم كرروا الإنكار والاستبعاد فقالوا:(13/299)
أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ (25)
(أألقي الذكر عليه من بيننا)؟ أي كيف خص من بيننا بالوحي والنبوة؟ وفينا من هو أحق بذلك منه، ثم اضربوا عن الإنكار، وانتقلوا إلى الجزم بكونه كذاباً أشراً فقالوا: (بل هو كذاب أشر) الأشر المرح والنشاط، أو البطر والتكبر، وتفسيره بالبطر والتكبر أنسب بالمقام، قرأ الجمهور أشر كفرح، صفة مشبهة وعلى أنه أفعل التفضيل، وقرىء بضم الشين وفتح الهمزة، ثم أجاب سبحانه عليهم بقوله:(13/299)
سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ (26)
(سيعلمون غداً) السين لتقريب مضمون الجملة وتأكيده، والمراد بقوله غداً وقت نزول العذاب الذي حل بهم في الدنيا، أو في يوم القيامة، جرياً على عادة الناس في التعبير بالغد عن المستقبل من الأمر، وإن بعدكما في قولهم إن مع اليوم غداً، والأول أولى، قرأ الجمهور بالتحتية على أنه إخبار من الله سبحانه لصالح عن وقوع العذاب عليهم بعد مدة على سبيل الالتفات، وقرىء بالتاء على أنه خطاب من صالح لقومه.
(من الكذاب الأشر)؟ من استفهامية أي أيّ فريق هو الكذاب الأشر المتكبر البطر، أهو هم؟ أم صالح عليه السلام.(13/299)
إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ (27)
(إنا مرسلو الناقة) مستأنفة لبيان ما تقدم إجماله من الوعيد، ومبادي الموعود به حتماً أي إنا مخرجوها من الصخرة على حسب ما اقترحوه، وموجدوها لهم (فتنة لهم) أي ابتلاء وامتحاناً واختباراً (فارتقبهم) أي انتظر ما يصنعون، وما يصنع بهم (واصطبر) أي اصبر على ما يصيبك من الأذى منهم، ولا تعجل حتى يأتيك أمرنا.(13/299)
وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ (28) فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ (29) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (30) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ (31) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (32) كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ (33) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ (34) نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ (35) وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ (36) وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ (37) وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ (38) فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ (39) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (40) وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (41) كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ (42)(13/300)
وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ (28)
(وَنَبِّئْهُمْ) أي أخبرهم إخباراً عظيماً عن أمر عظيم وهو (أن الماء قسمة بينهم) أي بين ثمود وبين الناقة لها يوم لا تدع في البئر قطرة يأخذها أحد منهم، ولهم يوم لا تشاركهم فيه، كما في قوله: (لها شرب ولكم شرب يوم معلوم)، وقال بينهم بضمير العقلاء تغليباً، قرأ الجمهور قسمة بكسر القاف بمعنى مقسوم، وقرىء بفتحها.
(كل شرب) هو بكسر الشين؛ الحظ من الماء والنصيب (محتضر) أي أنه يحضره من هو له، فالناقة تحضره يوماً، وهم يحضرونه يوماً، قال مجاهد: إن ثمود يحضرون الماء يوم نوبتهم فيشربون، ويحضرون يوم نوبتها فيحتلبون(13/300)
فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ (29)
(فنادوا صاحبهم) أي: فتمادوا على ذلك أو فبقوا على ذلك مدة ثم ملوا من ضيق الماء والمرعى عليهم وعلى مواشيهم، فأجمعوا على قتلها، والفاء فصيحة تفصح أن في الكلام محذوفاً وهو ما تقدم، والمعنى نادى ثمود صاحبهم وهو قدار بن سالف عاقر الناقة يحضونه على عقرها.
(فتعاطى) التعاطي تناول الشيء بتكلف، أي: تناول الناقة بسيفه (فعقر) أو اجترأ على تعاطي أسباب العقر فعقرها غير مكترث، قال محمد(13/300)
ابن اسحق: كمن لها في أصل شجرة على طريقها فرماها بسهم، فانتظم به عضلة ساقها ثم شد عليها بالسيف فكسر عرقوبها، ثم نحرها موافقة لهم(13/301)
فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (30)
(فكيف كان عذابي ونذر)؟ أي: إنذاري لهم بالعذاب قبل نزوله، أي: وقع موقعه وبينه بقوله:(13/301)
إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ (31)
(إنا أرسلنا عليهم صيحة واحدة) قال عطاء: يريد صيحة جبريل صاح بهم في اليوم الرابع من عقر الناقة، لأنه كان في يوم الثلاثاء ونزول العذاب بهم كان في يوم السبت وقد مضى بيان هذا في سورة هود والأعراف.
(فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ) قرأ الجمهور بكسر الظاء، والهشيم حطام الشجر ويابسه، والمحتظر صاحب الحظيرة، وهو الذي يتخذ لغنمه حظيرة تمنعها عن برد الريح، يقال: إحتظر على غنمه إذا جمع الشجر ووضع بعضه فوق بعض وقال في الصحاح: المحتظر الذي يعمل الحظيرة، أي: من يابس الشجر والشوك، يحفظ الغنم من السباع والذئاب، والحظيرة زريبة الغنم ونحوها، قاله الشهاب، وقرىء بفتح الظاء أي: كهشيم الحظيرة فمن قرأ بالكسر أراد الفاعل للاحتظار، ومن قرأ بالفتح أراد الحظيرة، وهي فعيلة بمعنى مفعولة، ومعنى الآية: أنهم صاروا كالشجر إذا يبس في الحظيرة، وداسته الغنم بعد سقوطه.
وقال قتادة: هو العظام النخرة المحترقة، وقال سعيد بن جبير: هو التراب المتناثر من الحيطان في يوم ريح، وقال سفيان الثوري: هو ما يتناثر من الحظيرة إذا ضربتها بالعصى، قال ابن زيد: العرب تسمي كل شيء كان رطباً فيبس هشيماً، والمتهشم المتكسر، والمحتظر الذي يعمل الحظيرة وما يحتظر به ييبس بطول الزمان، وتتوطأه البهائم فيحتطم وينهشم، وقال ابن عباس: كحظائر من الشجر محترقة، وكالعظام المحترقة، وكالحشيش تأكله الغنم.(13/301)
وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (32)
(وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) فائدة تكرير هذه الآية أن يجددوا عند استماع كل نبأ من أنباء الأولين إذكاراً واتعاظاً وأن يستأنفوا تيقظاً وانتباهاً، إذا سمعوا، والحث على ذلك والبعث إليه، وكذلك تكرير الأنباء والقصص في أنفسها، لتكون تلك العبرة حاضرة للقلوب، مصورة للأذهان، مذكورة غير منسية في كل أوان، ثم أخبر سبحانه عن قوم لوط بأنهم كذبوا رسل الله كما كذبهم غيرهم فقال:(13/302)
كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ (33)
(كذبت قوم لوط بالنذر) أي بالأمور المنذرة لهم على لسانه، ثم بين سبحانه ما عذبهم به فقال:(13/302)
إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ (34)
(إنا أرسلنا عليهم حاصباً) أي ريحاً ترميهم بالحصباء، بالمد وهي الحصى ومنه المحصب وهو موضع بالحجاز، قال أبو عبيدة: والنضر بن شميل: الحاصب الحجارة في الريح، قال في الصحاح: الحاصب الريح الشديدة التي تثير الحصباء والحصب بفتحتين ما تحصب به النار، أي ترمي، وكل ما ألقيته في النار فقد حصبتها به، وبابه ضرب، وتذكيره مع كونه مسنداً إلى ضمير الريح -وهي مؤنث- سماعي، لكونها في تأويل العذاب، وقوله تعالى: (وأمطرنا عليهم حجارة)، وكذا قوله: (لنرسل عليهم حجارة)، يدلان على أن الذي أرسل عليهم نفس الحجارة لا الريح التي تحصبها إلا أنه قيل ههنا: (أرسلنا عليهم حاصباً) للدلالة على أن إمطار الحجارة وإرسالها عليهم كان بواسطة إرسال الريح لها.
(إلا آل لوط) يعني لوطاً وابنتيه ومن تبعه، وفي الإستثناء وجهان:
أحدهما: أنه متصل، أي أرسل الحاصب على الجميع، إلا أهله فإنه لم يرسل عليهم.
والثاني: أنه منقطع، وبه قال أبو البقاء، ولا أدري ما وجهه، فإن الانقطاع وعدمه عبارة عن عدم دخول المستثنى في المستثنى منه، ودخوله فيه،(13/302)
وهذا داخل ليس إلا، وهو كلام مشكل.
(نجيناهم بسحر) أي آخر الليل، وهو في كلام العرب اختلاط سواد الليل ببياض أول النهار، فيكون فيه مخائل الليل ومخائل النهار، وقيل: هما سحران الأعلى قبل انصداع الفجر، والآخر عند انصداعه، وانصرف سحر لأنه نكرة لم يقصد به سحر ليلة معينة، ويوم معين، ولو قصد معيناً لامتنع كذا قال الزجاج والأخفش وغيرهما، والباء بمعنى في، أو هي للملابسة أي حال كونهم متلبسين بسحر.(13/303)
نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ (35)
(نعمة من عندنا) النصب على العلة، أو على المصدرية، أي: إنعاماً منا على لوط ومن تبعه (كذلك) أي مثل ذلك الجزاء (نجزي من شكر) نعمتنا ولم يكفرها مع أصل الإيمان، أو من ضم إلى الإيمان عمل الطاعات.(13/303)
وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ (36)
(ولقد أنذرهم بطشتنا) أي: أنذر لوط قومه بطشة الله بهم، وهي عذابه الشديد وعقوبته البالغة (فتماروا بالنذر) أي شكوا في الإنذار، ولم يصدقوه، وهو تفاعلوا من المرية وهي الشك، أو تجادلوا وكذبوا بإنذاره.(13/303)
وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ (37)
(ولقد راودوه عن ضيفه) أي أرادوا منه تمكينهم ممن أتاه من الملائكة، ليفجروا بهم، كما هو دأبهم، يقال: راودته عن كذا مراودة، ورواداً أي: أردته، وراد الكلام يروده رواداً أي: طلبه المرة بعد المرة، فالمعنى طلبوه المرة بعد المرة أن يخلي بينهم وبينهم، وقد تقدم تفسير المراودة في سورة هود (فطمسنا أعينهم) الطموس الدرس والانمحاء، قاله في المختار: أي صيرناها ممسوحة، لا يرى لها شق، كما تطمس الريح الأعلام بما تسفي عليها من التراب، وقيل: أذهب الله نور أبصارهم مع بقاء الأعين على صورتها، قال الضحاك: طمس الله على أبصارهم فلم يروا الرسل فرجعوا.(13/303)
(فذوقوا) أي فقلنا لهم: ذوقوا على ألسنة الملائكة، أو ظاهر الحال والمراد بهذا الأمر الخبر، أي أذقتهم (عذابي ونذر) يعني ما أنذركم به لوط من العذاب(13/304)
وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ (38)
(لقد صبحهم بكرة) أي أتاهم صباحاً من يوم غير معين (عذاب) نازل عليهم (مستقر) دائم لا يفارقهم، ولا ينفك عنهم إلى أن يفضي بهم إلى عذاب الآخرة.(13/304)
فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ (39) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (40)
(فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ (39) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ)؟ ولعل وجه تكرير تيسير القرآن بالذكر في هذه السورة الإشعار بأنه منّة عظيمة لا ينبغي لأحد أن يغفل عن شكرها، ولأن في كل قصة إشهاراً بأن تكذيب كل رسول مقتض لنزول العذاب، واستماع كل قصة مستدع للإدكار والإتعاظ، وهذا حكم التكرير في قوله: (فبأي آلاء ربكما تكذبان) عند كل نعمة عدها، وقوله: (ويل يومئذ للمكذبين) عند كل آية أوردها، وكذلك تكرير الأنباء والقصص في أنفسها لتكون تلك العبرة حاضرة للقلوب مصورة للأذهان، مذكورة غير منسية في كل أوان.(13/304)
وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (41)
(ولقد جاء آل فرعون النذر) جمع نذير أو مصدر بمعنى الإنذار كما تقدم، وهي الآيات التسع التي أنذرهم بها موسى، وهذا أولى، لقوله:(13/304)
كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ (42)
(كذبوا بآياتنا كلها) فإنه بيان لذلك، والمراد بها الآيات التسع التي تقدم ذكرها، وقيل: النذر موسى وهرون وغيرهما من الأنبياء (فأخذناهم) بالعذاب (أخذ عزيز مقتدر) أي أخذ غالب في انتقامه قادر على إهلاكهم لا يعجزه شيء، ثم خوف سبحانه كفار مكة فقال:(13/304)
أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ (43) أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (44) سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45) بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ (46) إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (47) يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48) إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49) وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (50) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (51) وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (52) وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (53) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55)(13/305)
أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ (43)
(أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ)؟ الإستفهام للإنكار، والمعنى النفي، أي ليس كفاركم يا أهل مكة، أو يا معشر العرب، خير من كفار من تقدمكم من الأمم الذين أهلكوا بسبب الكفر، فكيف تطمعون في السلامة من العذاب، وأنتم شر منهم؟ قال ابن عباس: يقول: ليس كفاركم خيراً من قوم نوح، وقوم لوط، وقيل: من قوم عاد وثمود، وفرعون وقومه، ثم أضرب سبحانه عن ذلك، وانتقل إلى تبكيتهم بوجه آخر، هو أشد من التبكيت بالوجه الأول فقال:
(أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ)؟ هي الكتب المنزلة على الأنبياء، والمعنى إنكار أن تكون لهم براءة من عذاب الله، في شيء من كتب الأنبياء، ثم أضرب عن هذا التبكيت، وانتقل إلى التبكيت لهم بوجه آخر فقال:(13/305)
أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (44)
(أم يقولون نحن جميع منتصر)؟ أي: جماعة لا نطاق لكثرة عددنا وقوتنا، أو أمرنا مجتمع لا نغلب، وأفرد منتصر اعتباراً بلفظ جميع وموافقة لرؤوس الآي، أو المعنى نحن كل واحد منا منتصر قال الكلبي: المعنى نحن جميع أمرنا ننتصر من أعدائنا، ولا نرام ولا نضام، فرد الله سبحانه عليهم بقوله:(13/305)
سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45)
(سيهزم الجمع) أي: جمع كفار مكة أو كفار العرب على العموم؛ قرأ(13/305)
الجمهور بالتحتية مبنياً للمفعول؛ وقرىء بالنون وكسر الزاي ونصب الجمع، وقرىء بالتحتية مبنياً للفاعل، وبالفوقية على الخطاب مبنياً للفاعل (ويولون الدبر) قرأ الجمهور بالتحتية، وقرىء بالفوقية على الخطاب، والمراد بالدبر الجنس، وهو في معنى الإدبار، وقيل: وحد لأجل رؤوس الآي، وقيل: في الإفراد إشارة إلى أنهم في التولية والهزيمة كنفس واحدة فلا يتخلف أحد عن الهزيمة، ولا يثبت أحد للزحف، فهم في ذلك كرجل واحد وقد هزمهم الله يوم بدر وولوا الأدبار وقتل رؤوساء الشرك، وأساطين الكفر فلله الحمد وهذه من علامات النبوة، قال ابن عباس: كان ذلك يوم بدر، قالوا: نحن جميع منتصر، فنزلت هذه الآية.(13/306)
بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ (46)
(بل الساعة موعدهم) أي موعد عذابهم الأخروي بعد بدر، وليس هذا العذاب الكائن في الدنيا بالقتل والأسر والقهر هو تمام ما وعدوا به من العذاب وإنما هو مقدمة من مقدماته، وطليعة من طلائعه. ولهذا قال:
(والساعة أدهى) أي وعذاب الساعة أعظم في الضر، وأفظع وأشد من موقف بدر، يقال: دهاه أمر كذا أي أصابه دهواً ودهياً؛ والداهية الأمر المنكر الذي لا يهتدي لدوائه، مأخوذ من الدهاء وهو النكر والفظاعة وإظهار الساعة في مقام إضمارها لزيادة تهويلها.
(وأمر) أي أشد مرارة من عذاب الدنيا.
في البخاري وغيره. عن " ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: وهو في قبة له يوم بدر: أنشدك عهدك ووعدك، اللهم إن شئت لم تعبد بعد اليوم أبداً فأخذ أبو بكر بيده وقال: حسبك يا رسول الله ألححت على ربك؛ فخرج وهو يثب في الدرع ويقول: (سيهزم) إلى قوله: (أدهى وأمر) ".(13/306)
إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (47)
(إن المجرمين) أي المشركين (في ضلال وسعر) أي: في ذهاب عن الحق وبعد عنه، وفي نار تسعر عليهم، وقيل؛ في ضلال في الدنيا، وفي نار مسعرة في الآخرة، وقيل: في ضلال عن طريق الجنة، وسعر أي عذاب(13/306)
الآخرة، أو في هلاك ونيران في الآخرة، وقد تقدم في هذه السورة تفسير سعر فلا نعيده.(13/307)
يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48)
(يوم يسحبون في النار على وجوههم) أي كائنون في ضلال وسعر يوم يسحبون أو يوم يسحبون يقال لهم: (ذوقوا مس سقر) أي: قاسوا حرّها، وشدة عذابها كقولهم: وجد مس الحمى، وذاق طعم الضرب، قال الكرخي: إن مس سقر مجاز عن إصابتها بعلاقة السببية والظاهر من تقرير الكشاف أنه من الاستعارة بالكناية، وسقر علم لجهنم غير منصرف للتأنيث والتعريف من سقرته النار إذا لوحته، أخرج أحمد وعبد بن حميد ومسلم والترمذي وابن ماجة وغيرهم.
عن " أبي هريرة قال: جاء مشركو قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم يخاصمونه في القدر فنزلت (يوم يسحبون) الخ ".(13/307)
إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49)
(إنا كل شيء خلقناه بقدر) أي: كل شيء من الأشياء خلقه الله سبحانه متلبساً بقدر قدره، وقضاء قضاه، سبق في علمه مكتوب في اللوح المحفوظ قبل وقوعه، والقدر التقدير، والعامة على نصب كل بالاشتغال، وقرىء بالرفع وقد رجح الناس النصب بل أوجبه بعضهم، قال: لأن الرفع يوهم ما لا يجوز على قواعد أهل السنة، وقال أبو البقاء: وإنما كان النصب أولى لدلالته على عموم الخلق، والرفع لا يدل على عمومه. بل يفيد أن كل شيء مخلوق فهو بقدر، وإنما دل نصب كل على العموم، لأن التقدير: إنا خلقنا كل شيء بقدر، فخلقناه تأكيد، وتفسير لخلقنا المضمر الناصب لكل شيء فهذا لفظ عام يعم جميع المخلوقات، وللسمين هنا كلام مبسوط لا نطول بذكره.
أخرج مسلم:
عن " ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كل شيء بقدر حتى العجز والكيس "، وعن " عبد الله بن عمرو بن العاص قال:(13/307)
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: كتب الله مقادير الخلائق كلها قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة " (1). أخرجه مسلم.
وعن " جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يؤمر أحدكم حتى يؤمن بالقدر "، أخرجه الترمذي واستغربه وفي الباب أحاديث بين صحيح منها وضعيف، قال الخطابي: وقد يحسب كثير من الناس أن معنى القضاء والقدر إجبار الله العبد، وقهره على ما قدره وقضاه، وليس الأمر كما يتوهمونه وإنما معناه الإخبار عن تقدم علم الله تعالى بما يكون من أكساب العباد، وصدورها عن تقدير منه، وخلق لها خيرها وشرها؛ والقدر اسم لما صدر مقدراً عن فعل القادر، يقال قدرت الشيء وقدرته بالتخفيف والتثقيل بمعنى واحد والقضاء في هذا معناه الخلق كقوله: (فقضاهن سبع سموات) أي خلقهن.
قال النووي: إن مذهب أهل الحق إثبات القدر، ومعناه أن الله تعالى قدر الأشياء في القدم، وعلم سبحانه أنها ستقع في أوقات معلومة عنده سبحانه على صفات مخصوصة، فهي تقع على حسب ما قدرها الله، وأنكرت القدرية هذا، وزعمت أنه سبحانه لم يقدرها، ولم يتقدم علمه بها، وأنها مستأنفة العلم، أي إنما يعلمها سبحانه بعد وقوعها، وكذبوا على الله سبحانه وتعالى عن أقوالهم الباطلة علواً كبيراً انتهى.
وقد تظاهرت الأدلة القطعية من الكتاب والسنة وإجماع الصحابة، وأهل العقد والحل من السلف والخلف، على إثبات قدر الله سبحانه وتعالى، وقد قرر ذلك أئمة السنة أحسن تقرير، بدلائله القطعية، السمعية والعقلية، ليس هذا موضع بسطه، والله تعالى أعلم.
_________
(1) رواه مسلم.(13/308)
وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (50)
(وما أمرنا) لشيء نريد وجوده (إلا واحدة) أي إلا مرة واحدة،(13/308)
أو فعلة واحدة، وهو الإيجاد بلا معالجة ومعاناة، أو كلمة واحدة، وهي قوله: (كن فيكون)، فهنا بان الفرق بين الإرادة والقول، فالإرادة قدر والقول قضاء، وقيل: المراد بالأمر القيامة (كلمح بالبصر) في سرعته، واللمح النظر على العجلة والسرعة، وفي الصحاح: لمحه وألمحه إذا أبصره بنظر خفيف، والإسم اللمحة، أي فكما أن لمح أحدكم ببصره لا كلفة عليه فيه، فكذلك الأفعال كلها عندنا، بل أيسر، قال الكلبي: وما أمرنا بمجيىء الساعة في السرعة إلا كطرف البصر.(13/309)
وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (51)
(ولقد أهلكنا أشياعكم) أي أشباهكم ونظراءكم في الكفر من الأمم، وقيل أتباعكم وأعوانكم، والقدرة عليكم كالقدرة عليهم، فأحذروا أن يصيبكم ما أصابهم، ولذلك تسبب عنه قوله: (فهل من مدكر) يتذكر ويتعظ بالمواعظ ويعلم أن ذلك حق فيخاف العقوبة، وأن يحل به ما حل بالأمم السالفة.(13/309)
وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (52)
(وكل شيء فعلوه في الزبر) أي جميع ما فعلته الأمم من خير أو شر مكتوب في اللوح المحفوظ، وقيل: في كتب الحفظة ودواوينهم(13/309)
وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (53)
(وكل صغير وكبير مستطر) يقال: سطر يسطر سطراً كتب، وأسطر مثله، أي كل شيء من أعمال الخلق، أقوالهم وأفعالهم وما هو كائن، مسطور في اللوح المحفوظ صغيره وكبيره، وجليله وحقيره، قال ابن عمر: مسطور في الكتاب، ثم لما فرغ سبحانه من ذكر حال الأشقياء، ذكر حال السعداء فقال:(13/309)
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54)
(إن المتقين في جنات ونهر) أريد به الجنس، لمناسبة جمع الجنات، وإنما أفرد في اللفظ لموافقة رؤوس الآي، وبه قرأ الجمهور، وهو يشمل أنهار الجنة من الماء والخمر واللبن والعسل. وقرىء بسكون الهاء، وهما لغتان وقرىء بضم النون والهاء على الجمع شاذاً والمعنى أنهم في بساتين مختلفة وجنان متنوعة، وأنهار متدفقة، وقيل: النهر السعة والضياء، ومنه النهار. والمعنى لا ليل عندهم، والأول أولى.(13/309)
فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55)
(في مقعد صدق) من إضافة الموصوف إلى الصفة، أي في مجلس حق، ومكان مرضي لا لغو فيه ولا كذب ولا تأثيم وهو الجنة، وأريد به الجنس، وقرىء مقاعد شاذاً (عند مليك) أي عزيز الملك واسعه (مقتدر) أي قادر على ما يشاء لا يعجزه شيء، وعند ههنا كناية عن الكرامة، وشرف المنزلة، وتقريب الرتبة، بحيث أبهم على ذوي الأفهام، وفائدة التنكير فيهما أن يعلم أن لا شيء إلا وهو تحت ملكه وقدرته، وهو على كل شيء قدير.(13/310)
سورة الرحمن
هي ست أو ثمان وسبعون آية وهي مكية
قال القرطبي: كلها في قول الحسن وعروة بن الزبير وعكرمة وعطاء وجابر، قال ابن عباس: إلا آية منها، وهي قوله: (يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) الآية وصوابه إلا آيتين كما صرح به الكازروني، والآيتان هما: (يَسْأَلُهُ) إلى قوله: (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ)، هذه واحدة، (فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) هذه أخرى، وقال ابن مسعود ومقاتل: هي مدنية كلها، والأول أصح، قال ابن الزبير: أنزلت بمكة، وعن عائشة نزلت بمكة وعن ابن عباس مثله، " وعن أسماء بنت أبي بكر قالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ وهو يصلي نحو الركن، قبل أن يصدع بما يؤمر، والمشركون يسمعون: (فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) (1)، أخرجه أحمد وابن مردويه، قال السيوطي: بسند حسن، وعن ابن عباس: نزلت سورة الرحمن بالمدينة، ويمكن الجمع بين القولين بأنه نزل بعضها بمكة، وبعضها بالمدينة.
" وعن جابر بن عبد الله قال: خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أصحابه فقرأ عليهم سورة الرحمن من أولها إلى آخرها فسكتوا، فقال: مالي أراكم سكوتاً؟ لقد قرأتها على الجن ليلة الجن،
_________
(1) رواه أحمد.(13/311)
فكانوا أحسن مردوداً منكم، كلما أتيت على قوله: (فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ)؟ قالوا: لا بشيء من نعمك ربنا نكذب، فلك الحمد "، رواه الترمذي وابن المنذر والحاكم، وصححه البيهقي، قال الترمذي هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث الوليد بن مسلم عن زهير بن محمد وحكي عن الإمام أحمد أنه كان يستنكر روايته عن زهير، وقال البزار: لا نعرفه يروي إلا من هذا الوجه، أخرجه البزار وابن جرير والدراقطني في الإفراد وغيرهم من حديث ابن عمر، وصحح السيوطي إسناده، وقال البزار: لا نعلمه يروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا من هذا الوجه بهذا الإسناد.
وعن علي: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " لكل شيء عروس وعروس القرآن الرحمن ".(13/312)
بسم الله الرحمن الرحيم
الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4) الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ (5) وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ (6) وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (7) أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (8) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ (9) وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ (10) فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ (11) وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ (12) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (13) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ (14) وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ (15) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (16) رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (17)(13/313)
الرَّحْمَنُ (1)
(الرَّحْمَنُ) مبتدأ وما بعده من الأفعال خبر له، ويجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف؛ أي: الله الرحمن، أو مبتدأ: خبره محذوف، أي: الرحمن ربنا: وهذان الوجهان عند من يرى أن الرحمن آية مع هذا المضمر وعلى الوجه الأول ليس بآية:(13/313)
عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2)
(علم القرآن) أي: يسره للذكر، ليحفظ ويتلى، قاله الزجاج قال الكلبي: علم القرآن محمد صلى الله عليه وسلم، وعلمه محمد صلى الله عليه وسلم أمته، وقيل: علم جبريل القرآن، وقيل: علم الإنسان، وهذا أولى لعمومه، ولأن قوله: خلق الإنسان دال عليه، وقيل: جعله علامة لما يعبد الناس به، وآية يعتبر بها، قيل: نزلت هذه الآية جواباً لأهل مكة حين قالوا: إنما يعلمه بشر. وقيل: جواباً لقولهم، وما الرحمن؟ ولما كانت هذه السورة لتعديد نعمه التي أنعم بها على عباده، قدم النعمة التي هي أجلها قدراً، وأكثرها نفعاً، وأعلاها رتبة، وأتمها فائدة وأعظمها عائدة، وهي نعمة تعليم القرآن العزيز، فإنها مدار سعادة الدارين، وقطب رحى الخيرين، وعماد الأمرين، وسنام الكتب السماوية. المنزل على أفضل البرية.(13/313)
ثم امتن بعد هذه النعمة، بنعمة الخلق التي هي مناط كل الأمور، ومرجع جميع الأشياء فقال:(13/314)
خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3)
(خلق الإنسان) أي آدم قاله قتادة والحسن، وقال ابن كيسان: المراد هنا محمد صلى الله عليه وسلم، والأولى حمل الإنسان على الجنس، وقدم تعليم القرآن للإنسان على خلقه، وهو متأخر عنه في الوجود، لأن التعليم هو السبب في إيجاده وخلقه. أفاده السمين، ثم امتن ثالثاً بتعليمه البيان الذي يكون به التفاهم، ويدور عليه التخاطب، وتتوقف عليه مصالح المعاش والمعاد، لأنه لا يمكن إبراز ما في الضمائر، ولا إظهار ما يدور في الخلد إلا به، فقال:(13/314)
عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4)
(علمه البيان) قال قتادة والحسن: المراد بالبيان أسماء كل شيء، وقيل المراد به اللغات كلها، فكان آدم يتكلم بسبعمائة لغة أفضلها العربية، وقيل: الإنسان اسم جنس، وأراد به جميع الناس، أي: علمه النطق الذي يتميز به عن سائر الحيوان، وقيل: أراد بالإنسان محمداً صلى الله عليه وسلم، علمه بيان ما يكون وما كان لأنه صلى الله عليه وسلم ينبىء عن خير الأولين والآخرين، وعن يوم الدين، وقال ابن كيسان: المراد به بيان الحلال من الحرام والهدى من الضلال وهو بعيد، وقال الضحاك: البيان الخير والشر والحدود والأحكام، وقال الربيع ابن أنس: هو ما ينفعه مما يضره، وقيل: البيان الكتابة بالقلم، والأولى حمل البيان على تعليم كل قوم لسانهم الذي يتكلمون به:(13/314)
الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ (5)
(الشمس والقمر بحسبان) أي يجزيان بحساب معلوم، مقدر في بروج ومنازل، لا يعدوانها ولا يحيدان عنها، ويدلان بذلك على عدد الشهور والسنين ويتسق بذلك أمور الكائنات السفلية، وتختلف الفصول والأوقات، وقال ابن زيد وابن كيسان: يعني أن بهما تحسب الأوقات والآجال والأعمار، ولولا الليل والنهار والشمس والقمر لم يدر أحد كيف يحسب لأن الدهر يكون كله ليلاً أو نهاراً، قال الضحاك: معنى بحسبان بقدر، وقال مجاهد:(13/314)
بحسبان كحسبان الرحى يعني قطبهما الذي يدوران عليه قال الأخفش: ألحسبان جماعة الحساب، مثل شهب وشهبان، أو مصدر مفرد بمعنى الحساب كالغفران والكفران، وأما الحسبان بالضم في سورة الكهف فهو العذاب كما مضى، وقال ابن عباس: بحساب ومنازل يرسلان:(13/315)
وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ (6)
(والنجم والشجر يسجدان) النجم ما لا ساق له من النبات، والشجر ما له ساق، والمراد بسجودهما انقيادهما لأمر الله تعالى إنقياد الساجدين من المكلفين طوعاً، وقال الفراء: سجودهما أنهما يستقبلان الشمس إذا طلعت ثم يميلان معها حتى ينكسر الفيء، وقال الزجاج: سجودهما دوران الظل معهما كما في قوله: يتفيأ ظلاله، وقال الحسن ومجاهد: المراد بالنجم نجم السماء، وسجوده طلوعه، ورجح هذا ابن جرير وقيل: سجوده أفوله وسجود الشجر تمكينه من الاجتناء لثماره، قال النحاس: أصل السجود الاستسلام والانقياد لله، وهذه الجملة والتي قبلها خبران آخران للرحمن وترك الرابط فيهما لظهوره، كأنه قيل: والشمس والقمر بحسبانه، والنجم والشجر يسجدان له.(13/315)
وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (7)
(والسماء رفعها) أي جعلها مرفوعة مسموكة فوق الأرض (ووضع الميزان) المراد به العدل. أي وضع وأثبت في الأرض العدل الذي شرعه وأمر به، كذا قال مجاهد وقتادة والسدي وغيرهم، قال الزجاج: المعنى أنه أمرنا بالعدل، ويدل عليه قوله:(13/315)
أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (8)
(ألا تطغوا في الميزان) أي لا تجاوزوا العدل وقال الحسن والضحاك: المراد به آلة الوزن ليتوصل بها إلى الإنصاف والإنتصاف: أي لا تجوروا فيما يوزن به، وقيل: الميزان القرآن، لأن فيه بيان ما يحتاج إليه، وبه قال الحسين ابن الفضل والأول أولى، ومعنى (أن لا تطغوا) لئلا تطغوا فلا نافية، وتطغوا منصوب بأن وقبلها لام العلة مقدرة، وهذا أولى.
وقيل: أن هي مفسرة، لأن في الوضع معنى القول، ولا للنهي والطغيان مجاوزة الحد، فمن قال: الميزان العدل قال: طغيانه الجور، ومن قال الميزان الآلة التي يوزن بها قال: طغيانه البخس، وقيل: الميزان كل ما(13/315)
توزن به الأشياء، وتعرف مقاديرها؛ من ميزان وقرسطون ومكيال ومقياس، أي خلقه موضوعاً على الأرض، حيث علق به أحكام عباده من التسوية والتعديل، في أخذهم وإعطائهم، وقيل: المعنى أنه وضع الميزان في الآخرة لوزن الأعمال.
ثم أمر سبحانه بإقامة العدل بعد إخباره للعباد بأنه وضعه لهم فقال:(13/316)
وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ (9)
(وأقيموا الوزن بالقسط) أي قوموا وزنكم بالعدل، وقيل: المعنى أقيموا لسان الميزان بالعدل، وقيل: الإقامة باليد: والقسط بالقلب، وقال مجاهد: القسط العدل بالرومية، قلت: ومنه القسطاس بمعنى الميزان. وقيل: معناه لا تدعوا التعامل بالوزن بالعدل.
(ولا تخسروا الميزان) أي لا تنقصوه. ولا تبخسوا الكيل والوزن وهذا كقوله: ولا تنقصوا المكيال والميزان، وقيل: معناه لا تخسروا ميزان حسناتكم يوم القيامة، فيكون ذلك حسرة عليكم، والأول أولى، وقال قتادة في هذه الآية: أعدل ابن آدم كما تحب أن يعدل لك، وأوف كما تحب أن يوفى لك، فإن العدل صلاح الناس، أمر سبحانه أولاً بالتسوية، ثم نهى عن الطغيان الذي هو المجاوزة للحد بالزيادة، ثم نهى عن الخسران الذي هو النقص والبخس، وكرر لفظ الميزان تشديداً للتوصية به، وتقوية للأمر باستعماله، والحث عليه، قرأ الجمهور: تخسروا من أخسر وقرىء بفتح التاء والسين من خسر، وهما لغتان، ويقال: أخسرت الميزان وخسرته. ثم لما ذكر سبحانه أنه رفع السماء ذكر أنه وضع الأرض فقال:(13/316)
وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ (10)
(والأرض وضعها للأنام) أي: خفضها مدحوة، وبسطها على الماء لجميع الخلق، مما له روح وحياة، ولا وجه لتخصيص الأنام بالإنس والجن، قال ابن عباس: للأنام للناس، أي لأجل انتفاعهم بها، وعنه قال: كل شيء فيه روح.(13/316)
فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ (11)
(فيها فاكهة) أي: كل ما يتفكه به الإنسان من أنواع الثمار والجملة(13/316)
حال مقدرة، والأحسن أن يكون الجار والمجرور هو الحال، وفاكهة رفعت بالفاعلية، ونكرت، لأن الإنتفاع بها دون الإنتفاع بما ذكر بعدها، فهو من باب الترقي من الأدنى إلى الأعلى، ثم أفرد النخل بالذكر لشرفه، ومزيد فائدته على سائر الفواكه، فقال:
(والنخل) المعهود (ذات الأكمام) جمع كم بالكسر، وهو وعاء الثمر قال الجوهري: والكم بالكسر والكمامة وعاء الطلع، وغطاء النور والجمع كمام، وأكمة وأكمام وأكاميم، والكم ما ستر شيئاًً، ومنه كم القميص بالضم والجمع كمام وكمة والكمة القلنسوة المدورة لأنها تغطي الرأس، قال الحسن: ذات الأكمام أي: ذات الليف، فإن النخلة تكم بالليف، وكمامها ليفها الذي في أعناقها وسعفها وكفرها، وكله منتفع به كما ينتفع بالمكموم من تمره وجماره وجذوعه، وقال ابن زيد: ذات الطلع قبل أن يتفتق، وقال عكرمة: ذات الأحمال، وقال ابن عباس: أوعية الطلع.(13/317)
وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ (12)
(والحب ذو العصف والريحان) الحب هو جميع ما يقتات من الحبوب، كالحنطة والشعير والذرة والأرز والعصف. قال السدي والفراء: هو بقل الزرع، وهو أول ما ينبت منه. قال ابن كيسان: يبدو أولاً ورقاً، وهو العصف، ثم يبدو له ساق، ثم يحدث الله فيه أكماماً، ثم يحدث في الأكمام الحب، قال الفراء: والعرب تقول: خرجنا نعصف الزرع، إذا قطعوا منه قبل أن يدرك، وكذا قال في الصحاح، وقال الحسن: العصف التبن، وقال مجاهد: هو ورق الشجر والزرع. وقيل هو ورق الزرع الأخضر إذا قطع رأسه ويبس، ومنه قوله: كعصف مأكول، وقيل: هو الزرع الكثير، يقال: قد أعصف الزرع، ومكان معصف، أي كثير الزرع. قال ابن عباس: العصف التبن، والريحان خضرة الزرع، وقال: العصف ورق الزرع إذا يبس والريحان ما أنبتت الأرض من الريحان الذي يشم، وعنه قال: ألعصف الزرع أول ما يخرج بقلاً، والريحان حين يستوي على سوقه ولم يسنبل والريحان الرزق في قول الأكثر وفي لغة حمير.(13/317)
وقال الحسن وقتادة والضحاك وابن زيد: إنه الريحان الذي يشم وقال سعيد بن جبير، هو ما قام على ساق، وقال الكلبي: إن العصف هو الورق الذي لا يؤكل، والريحان هو الحب المأكول. وقال الفراء أيضاًً: العصف المأكول من الزرع، والريحان ما لا يؤكل، وقيل: الريحان كل بقلة طيبة الريح، قال ابن الأعرابي: يقال شيء ريحاني وروحاني أي له روح وقال في الصحاح الريحان نبت معروف، والريحان الرزق، تقول: خرجت أبتغي ريحان الله، وقيل: العصف رزق البهائم، والريحان رزق الناس. قال ابن عباس: كل ريحان في القرآن فهو رزق، قرأ الجمهور: والحب ذو العصف والريحان برفع الثلاثة عطفاً على فاكهة، وقرىء بالنصب عطفاً على الأرض، أو على إضمار فعل، أي وخلق الحب ذا العصف وقرىء الريحان بالجر عطفاً على العصف.(13/318)
فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (13)
(فَبِأَيِّ آلَاءِ) أي فباي فرد من أفراد نعم (رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ)؟ أبتلك النعم المذكورة هنا؟ أم بغيرها؟ والمراد بالتكذيب الإنكار والخطاب للجن والإنس، لأن لفظ الأنام يعمهما وغيرهما، ثم خصص بهذا الخطاب من يعقل، وبهذا قال الجمهور من المفسرين، ويدل عليه قوله فيما سيأتي: (سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلَانِ)، ويدل على هذا ما قدمناه أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأها على الجن والإنس، وقيل: الخطاب للإنس، وثناه على قاعدة العرب في خطاب الواحد بلفظ التثنية، كما قدمنا في قوله: ألقيا في جهنم، والآلاء النعم. قال القرطبي: وهو قول جميع المفسرين، واحدها إلى وألى مثل معى وعصا وإلى " وألى " أربع لغات حكاها النحاس، وزاد في القاموس ألو، وقال ابن زيد: إنها القدرة، أي: فبأي قدرة، وبه قال الكلبي، وقال ابن عباس: فبأي نعمة الله وقال: يعني الجن والإنس.
وكرر سبحانه هذه الآية في هذه السورة في أحد وثلاثين موضعاً تقريراً للنعمة وتأكيداً للتذكير بها، على عادة العرب في الإتساع ثمانية منها ذكرت عقب آيات فيها تعداد عجائب خلق الله، وبدائع صنعه، ومبدأ الخلق(13/318)
ومعادهم ثم سبعة منها عقب آيات فيها ذكر النار وشدائدها، بعدد أبواب جهنم، وحسن ذكر الآلاء عقبها لأن من جملة الآلاء رفع البلاء، وتأخير العقاب، وبعد هذه السبعة ثمانية في وصف الجنتين وأهلهما بعدد أبواب الجنة وثمانية أخرى بعدها في الجنتين اللتين هما دون الجنتين الأولين، أخذاً من قوله: ومن دونهما جنتان، فمن اعتقد الثمانية الأولى وعمل بموجبها إستحق هاتين الثمانيتين من الله ووقاه السبعة السابقة، أفاده شيخ الإسلام في متشابه القرآن.
قال القتيبي: إن الله عدد في هذه السورة نعماءه، وذكر خلقه آلاءه، ثم أتبع كل خلة وضعها بهذه الآية، وجعلها فاصلة بين كل نعمتين، لينبههم على النعم، ويقررهم بها، كما تقول لمن تتابع له إحسانك وهو يكفره: ألم تكن فقيراً فأغنيتك؟ أفتنكر هذا؟ ألم تكن خاملاً فعززتك؟ أفتنكر هذا؟ ألم تكن راجلاً فحملتك؟ أفتنكر هذا؟ ألم تكن عرياناً فكسوتك؟ أفتنكر هذا؟ والتكرير حسن في مثل هذا ومنه قول الشاعر:
لا تقتلي رجلاً إن كنت مسلمة ... إياك من دمه إياك إياك
ومثل هذا الكلام شائع في كلام العرب، وذلك لأن الله تعالى ذكر في هذه السورة ما يدل على وحدانيته من خلق الإنسان وتعليمه البيان وخلق الشمس والقمر، والسماء والأرض، إلى غير ذلك مما أنعم به على خلقه، وخاطب الجن والإنس بالأشياء المذكورة، لأنها كلها منعم بها عليهم، قال الحسين بن الفضل: التكرير طرد للغفلة، وتأكيد للحجة، وذهب جماعة منهم ابن قتيبة إلى أن التكرير لإختلاف النعم، فلذلك كرر التوقيف مع كل واحدة.
وقال الرازي: وذكره بلفظ الخطاب على سبيل الإلتفات والمراد به التقرير والزجر، وذكر لفظ الرب لأنه يشعر بالرحمة. وكررت هذه اللفظة في هذه السورة إما للتأكيد، ولا يعقل لخصوص العدد معنى، قال الجلال المحلي: والإستفهام فيها للتقرير، لما روي الحاكم. عن جابر قال: قرأ علينا(13/319)
رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة الرحمن حتى ختمها، ثم قال: ما لي أراكم سكوتاً، للجن كانوا أحسن منكم رداً، ما قرأت عليهم هذه الآية إلا قالوا: ولا بشيء من نعمك ربنا نكذب، فلك الحمد " (1)، قلت: ويؤخذ من هذا أنه يسن لسامع القارىء لهذه السورة أن يجيبه بالجواب المذكور؛ كلما قرأ الآية المذكورة، كما فعلت الجن وأقرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك، ولام على الصحابة في سكوتهم، وصرح بالسنية الكازروني في تفسيره، وصنيع أبي السعود يقتضي أن الإستفهام للتوبيخ والإنكار، ولفظه الفاء لترتيب الإنكار والتوبيخ على ما فضل من فنون النعم، وصنوف الآلاء الموجبة للشكر والإيمان حتماً والتعرض لعنوان الربوبية المنبئة عن المالكية الكلية، والتربية مع الإضافة إلى ضميرهم لتأكيد النكير، وتشديد التوبيخ، وقرىء آلاء على أصله بالمد والتوسط والقصر في جميع هذه السورة.
ولما ذكر سبحانه خلق العالم الكبير، وهو السماء والأرض وما فيهما، ذكر خلق العالم الصغير وقال:
_________
(1) رواه الحاكم.(13/320)
خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ (14)
(خلق الإنسان) وهذا تمهيد للتوبيخ على إخلالهم بواجب شكر النعم، المتعلقة بذات كل واحد من الثقلين، والمراد بالإنسان هنا آدم. قال القرطبي بالاتفاق من أهل التأويل، ولا يبعد أن يراد به الجنس لأن بني آدم مخلوقون في ضمن خلق أبيهم آدم (من صلصال) أي: من طين يابس يسمع له صلصلة أي: صوت إذا نقر أي ليختبر هل فيه عيب أو لا؟ وقيل هو طين خلط برمل وقيل: هو الطين المنتن يقال: صل اللحم وأصل، إذا أنتن، وقد تقدم بيانه في سورة الحجر.
(كالفخار) أي الخزف الذي طبخ بالنار، والمعنى: أنه خلق الإنسان من طين يشبه من يبسه الخزف، فإن قلت: قد اختلفت العبارات في صفة خلق الإنسان الذي هو آدم، فقال تعالى في آل عمران: (من تراب) وقال في الحجر: (مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ)، وقال في الصافات: (من طين لازب)،(13/320)
وزاد الخازن: (من ماء مهين)، وقال: هنا (من صلصال كالفخار)، قلت: ليس فيها اختلاف بل المعنى متفق، وذلك أن الله تعالى خلقه أولاً من تراب ثم جعله طيناً لازباً لما اختلط بالماء، ثم حمأً مسنوناً، وهو الطين الأسود المنتن، فلما يبس صار صلصالاً كالفخار، قال الخطيب: المذكور هنا آخر تخليقه وهو أنسب بالرحمانية وفي غيرها تارة مبدأه، وتارة إثناؤه، فالأرض أمه والماء أبوه ممزوجان بالهواء الحامل للحر، الذي هو من فيح جهنم فمن التراب جسده ونفسه ومن الماء روحه وعقله، ومن النار مطلب غوايته وحدته ومن الهواء حركته وتقلبه في محامده ومذامه.
والغالب في جبلته التراب فلذا نسب إليه وإن كان خلقه من العناصر الأربع كما أن الجان في العناصر الأربع، لكن الغالب في جبلته النار فنسب إليها كما قال تعالى:(13/321)
وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ (15)
(وخلق الجان من مارج) يعني خلق أبا الجن وقيل: هو إبليس أو جنس الجن، ومن لإبتداء الغاية والمارج اللهب الصافي من النار وقيل: الخالص منها وقيل لسانها الذي يكون في طرفها إذا التهبت، وقال الليث: المارج الشعلة الصادعة ذات اللهب الشديد قال المبرد: المارج النار المرسلة التي لا تمنع، وقال أبو عبادة: المارج خلط النار من مرج إذا اختلط واضطرب، قال الجوهري: مارج من نار، نار لا دخان لها، خلق منها الجان، وقال ابن عباس: من لهب النار وخالصها، وقيل: هو ما اختلط بعضه ببعض من اللهب الأحمر والأصفر والأخضر الذي يعلو النار إذا أوقدت.
(من نار) هو بيان للمارج، أو من للتبعيض، أو أراد من نار مخصوصة كقوله: (فأنذرتكم ناراً تلظى)، أو من صاف من نار، أو مختلط من النار كما تقدم(13/321)
فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (16)
(فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) فإنه أنعم عليكما في تضاعيف خلقكما من ذلك بنعم لا تحصى، فهلا اعتبرتم بهذه الأصول؟ فصدقتم بالآخرة، لعلكم تنجون من عذاب الله تعالى.(13/321)
رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (17)
(رب المشرقين ورب المغربين) قرأ الجمهور بالرفع على أنه خبر مبتدأ(13/321)
فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (18) مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ (19) بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ (20) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (21) يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ (22) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (23) وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (24) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (25) كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (27) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (28) يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (29) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (30) سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلَانِ (31) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (32) يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ (33)
محذوف، أي: هو ربهما، وقيل: مبتدأ، وخبره مرج البحرين، بينهما اعتراض، والأول أولى، والمراد بالمشرقين مشرق الشتاء والصيف، وبالمغربين مغرباهما، قال ابن عباس: للشمس مطلع في الشتاء ومغرب في الشتاء، ومطلع في الصيف ومغرب في الصيف، غير مطلعها في الشتاء وغير مغربها في الشتاء، وعنه قال مشرق الفجر ومشرق الشفق، ومغرب الشمس ومغرب الشفق(13/322)
فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (18)
(فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) فإن في ذلك من النعم ما لا يحصى، كاعتدال الهواء واختلاف الفصول، وحدوث ما يناسب كل فصل فيه، أو بغير ذلك، ولا يتيسر لمن أنصف من نفسه تكذيب فرد من أفراده.(13/322)
مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ (19)
(مرج البحرين يلتقيان) المرج التخلية والإرسال، يقال: مرجت الدابة إذا أرسلتها، وأصله الإهمال كما تمرج الدابة في المرعى، قال الحسن وقتادة: هما بحرا فارس والروم، وقال ابن جريج: هما البحر المالح والأنهار العذبة، وقيل: بحر المشرق والمغرب، وقيل: بحر اللؤلؤ والمرجان، وقيل بحر السماء وبحر الأرض، وقيل: بحر الروم وبحر الهند، وأنتم الحاجر بينهما والمعنى خلى وأهمل وأنه أرسل كل واحد منهما يتجاوران ويتماسان على وجه(13/322)
الأرض، لا فصل بينهما في مرأى العين، قال سعيد بن جبير: يلتقيان في كل عام وقيل يلتقي طرفاهما ومع ذلك فلم يختلطا فلهذا قال:(13/323)
بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ (20)
(بينهما برزخ) أي حاجز يحجز بينهما وقيل البرزخ الجزائر.
(لا يبغيان) أي لا يبغي أحدهما على الآخر، بأن يدخل فيه ويختلط به، وقيل: لا يتغيران، وقيل: لا يطغيان على الناس بالغرق قال ابن عباس: أرسل البحرين بينهما حاجز لا يختلطان بينهما من البعد ما لا يبغي كل واحد منهما على صاحبه، وفي الخطيب لا يتجاوز كل واحد منهما ما حده له خالقه، لا في الظاهر ولا في الباطن حتى إن العذب الداخل في الملح باق على حاله، لم يمتزج بالملح فمتى حفرت في جنب الملح في بعض الأماكن وجدت الماء العذب، قال البقاعي: بل كلما قربت الحفرة من الملح كان الماء الخارج منها أحلى، فخلطهما الله تعالى في رأي العين وحجز بينهما في غيب القدرة، هذا وهما جمادان لا نطق لهما ولا إدراك فكيف يبغي بعضكم على بعض أيها العقلاء؟(13/323)
فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (21)
(فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) فإن هذه الآية وأمثالها لا يتيسر تكذيبها بحال.(13/323)
يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ (22)
(يخرج) قرأ الجمهور على البناء للفاعل، وقرىء على البناء للمفعول، وهما سبعيتان (منهما اللؤلؤ) أي: الدر (والمرجان) الخرز الأحمر المعروف، وقال الفراء: اللؤلؤ العظام والمرجان ما صغر، قال الواحدي: وهو قول جميع أهل اللغة، وقال مقاتل والسدي ومجاهد: اللؤلؤ صغار الدر والمرجان كباره، وقال ابن عباس: إذا مطرت السماء فتحت الأصداف في البحر أفواهها فما وقع فيها من قطر السماء فهو اللؤلؤ، وعن علي قال: المرجان عظام اللؤلؤ، وقال ابن عباس: اللؤلؤ ما عظم منه، والمرجان: اللؤلؤ الصغار قال ابن مسعود: المرجان الخرز الأحمر.
وقال: منهما وإنما يخرج ذلك من المالح لا من العذب، لأنه إذا خرج من أحدهما فقد خرج منهما، كذا قال الزجاج وغيره وقال أبو علي الفارسي: هو من باب حذف المضاف أي من أحدهما كقوله: على رجل من القريتين(13/323)
عظيم، وتقول: خرجت من البلد وإنما خرجت من محلة من محله، وقال الأخفش: زعم قوم أنه يخرج اللؤلؤ، من العذب وقيل: هما بحران يخرج من أحدهما اللؤلؤ ومن الآخر المرجان، وقيل: لا يخرجان إلا من ملتقى الملح والعذب، وقيل: هما بحر السماء وبحر الأرض، فإذا وقع ماء السماء في صدف البحر انعقد لؤلؤ فصار خارجاً عنهما، وقال بعضهم: كلام الله أولى بالاعتبار من كلام بعض الناس، فمن الجائز أن يسوقهما من البحر العذب إلى الملح، واتفق أنهم لم يخرجوهما إلا من الملح، وإذا كان في البر أشياء تخفى على التجار المترددين القاطعين المفاوز فكيف بما في قعر البحر؟.
وأجاب عنه ابن عادل بأن الله لا يخاطب الناس ولا يمتن عليهم إلا بما يألفون ويشاهدون، ولا يخلو هذا الجواب عن التعسف(13/324)
فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (23)
(فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ)؟ فإن في ذلك الخروج من الآيات ما لا يستطيع أحد تكذيبه ولا يقدر على إنكاره.(13/324)
وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (24)
(وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ) المراد بالجوار السفن الجارية في البحر، وسميت السفينة جارية لأن شأنها ذلك وإن كانت واقفة في الساحل كما سماها في موضع آخر بالجارية، كما قال تعالى: (إنا لما طغى الماء حملناكم في الجارية)، وسماها بالفلك قبل أن لم تكن كذلك، فقال تعالى لنوح، (واصنع الفلك بأعيننا)، ثم بعد ما عملها سماها سفينة فقال تعالى: (فأنجيناه وأصحاب السفينة)، قال الرازي: الفلك أولاً، ثم السفينة، ثم الجارية، والمرأة المملوكة تسمى أيضاًً جارية، لأن شأنها الجري والسعي في حوائج سيدها، بخلاف الزوجة، فهي من الصفات الغالبة.
والعامة على كسر الراء من الجوار، لأنه منقوص على فواعل، والياء محذوفة لفظاً، وقرىء برفع الراء تناسباً للمحذوف، وقرىء بإثبات الياء في الوقف، ولا تثبت في الرسم، لأنها من ياآت الزوائد، والمنشئآت المرفوعات التي رفع بعض خشبها على بعض، وركب حتى ارتفعت وطالت حتى صارت في البحر كالأعلام، وهي الجبال، والعلم الجبل الطويل، شبه السفن في(13/324)
البحر بالجبل في البر، وقال قتادة: المنشئآت المخلوقات للجري، وقال الأخفش: المنشئآت المجريات، وقيل: المحدثات المسخرات، وقيل: الرافعات الشرع، أو اللاتي ينشئن الأمواج بجريهن، وقد مضى الكلام على هذا في سورة الشورى، وإفراد البحر وجمع الأعلام إشارة إلى عظمة البحر، قرأ الجمهور المنشئآت بفتح الشين، وقرىء بكسرها.(13/325)
فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (25)
(فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ)؟ فإن ذلك من الوضوح والظهور بحيث لا يمكن تكذيبه ولا إنكاره.(13/325)
كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26)
(كل من عليها فان) أي كل من على الأرض من الحيوانات هالك، وعلى هذا لا يحتاج لتخصيص الآية بغير الجنة والنار، والحور والولدان، والحجب والعرش والأرواح، وغلب العقلاء على غيرهم فعبر عن الجميع بلفظ (من) وقيل: أراد من عليها من الجن والإنس، ولا يقال: إن هذه الآية إلى قوله: (يطوفون بينها وبين حميم آن)، ليست نعماً فكيف قال عقب كل منهما (فَبِأَيِّ آلَاءِ)، الآية؟ والجواب أن ما وصف من هول يوم القيامة وعقاب المجرمين فيه زجر عن المعاصي. وترغيب في الطاعات، وهذا من أعظم المنن، وقيل: وجه النعمة في فناء الخلق أن الموت سبب النقلة إلى دار الجزاء والثواب، قال يحيى بن معاذ: حبذا الموت، فهو الذي يقرب الحبيب إلى الحبيب، وقيل: جسر يوصل الحبيب إلى الحبيب، وقال مقاتل: وجه النعمة في فناء الخلق التسوية بينهم في الموت، ومع الموت تستوي الأقدام.(13/325)
وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (27)
(ويبقى وجه ربك) الوجه عبارة عن ذاته سبحانه ووجوده، وقد تقدم في سورة البقرة بيان معنى هذا، وقيل: المعنى وتبقى حجته التي يتقرب بها إليه والأول أولى، والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، أو لكل من يصلح له، وخاطب الاثنين في قوله:(13/325)
فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (28)
(فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا)، وخاطب هنا الواحد لأن الإشارة ههنا وقعت إلى كل أحد، فقال: ويبقى وجه ربك أيها السامع، ليعلم كل أحد أن غيره فان، فلو قال: ويبقى وجه ربكما لكان كل(13/325)
أحد يخرج نفسه ورفيقه المخاطب عن الفناء، ولم يقل ويبقى وجه الرب من غير خطاب مع أنه أدل على فناء الكل، لأن كاف الخطاب في الرب إشارة إلى اللطف، والإبقاء إشارة إلى القهر، والموضوع موضع بيان اللطف وتعديد النعم، فلهذا قال: بلفظ الرب وكاف الخطاب.
(ذو الجلال) أي ذو العظمة والكبرياء، واستحقاق صفات المدح، يقال: جل الشيء أي عظم، وأجللته أي أعظمته وهو اسم من جل، قرأ الجمهور ذو على أنه صفة لوجه وقرىء ذي على أنه صفة لرب.
(والإكرام) معناه أنه يكرم عن كل شيء لا يليق به وقيل: إنه ذو الإكرام لأوليائه، ففي وصفه بذلك بعد ذكر فناء الخلق، وبقائه تعالى إيذان بأنه تعالى يفيض عليهم بعد فنائهم آثار لطفه وكرمه حسبما ينبىء عنه قوله: (فَبِأَيِّ آلَاءِ)، فإن إحياءهم بالحياة الأبدية وإثابتهم بالنعيم المقيم من أجل النعم وأعظم الآلاء.
وعن " أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألظوا بياذا الجلال والإكرام " أخرجه الترمذي، وقال الحاكم: حديث صحيح الإسناد ومعنى ألظوا ألزموا هذه الدعوة وأكثروا منها.
(فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) أبتلك النعم؟ من بقاء الرب. وفناء الكل والحياة الدائمة؛ والنعيم المقيم أم بغيرها؟ ومما قلت في معنى الآية:
تفنى السقاة وتفنى الكأس والنادي ... ومن تلاقيه من خل ومن عادي
لا تركنن إلى الدنيا وزهرتها ... يفنى الجميع ويبقى ربنا الهادي(13/326)
يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (29)
(يسأله من في السموات والأرض) مستأنف، أو حال من وجه، والعامل فيه يبقى أي يبقى مسؤولاً ممن فيهما أي يسألونه جميعاً لأنهم محتاجون إليه. قال أبو صالح: يسأله أهل السموات المغفرة. ولا يسألونه الرزق وأهل(13/326)
الأرض يسألونه الأمرين جميعاً وقال مقاتل: يسأله أهل الأرض المغفرة والرزق وتسأل لهم الملائكة أيضاًً الرزق والمغفرة فكانت المسألتان جميعاً من أهل السماء وأهل الأرض لأهل الأرض. وكذا قال ابن جريج وقيل: يسألونه الرحمة قال قتادة: لا يستغني عنه أهل السماء ولا أهل الأرض أي في ذواتهم وصفاتهم وسائر ما يهمهم ويعن لهم والحاصل أنه يسأله كل مخلوق من مخلوقاته بلسان المقال، أو لسان الحال، ما يطلبونه من خيري الدارين، أو من خير أحدهما، وقال ابن عباس: مسألة عباده إياه الرزق والموت والحياة.
(كل يوم هو في شأن) أي: استقر سبحانه في شأن كل وقت من الأوقات واليوم عبارة عن الوقت والشأن هو الأمر، ومن جملة شؤونه سبحانه إعطاء أهل السموات والأرض ما يطلبونه منه، على اختلاف حاجاتهم، وتباين أغراضهم، قال المفسرون: من شأنه أنه يحيي ويميت، ويرزق ويفقر ويعز ويذل، ويمرض ويشفي، ويعطي ويمنع، ويغفر ويعاقب، ويرحم ويغضب إلى غير ذلك مما لا يحصى، وقيل: كل وقت وحين يحدث أموراً ويجدد أحوالاً، وقيل: نزلت في اليهود حين قالوا: إن الله لا يقضي يوم السبت شأناً وشيئاًً وقيل: المراد سوق المقادير إلى المواقيت، وقال الحسين ابن الفضل: أنها شؤون له يبديها لا شؤون يبتديها، وقال أبو سليمان الداراني: في كل يوم إلى العبيد بر جديد وقيل: يخرج في كل يوم وليلة ثلاثة عساكر عسكراً من أصلاب الآباء إلى أرحام الأمهات، وعسكراً من الأرحام إلى الدنيا وعسكراً من الدنيا إلى القبور؛ ثم يرتحلون جميعاً إلى الله تعالى.
ولا وجه لتخصيص شأن دون شأن، بل الآية تدل على أنه سبحانه كل يوم في شأن من الشؤون له، أي شأن كان من غير تعيين وشؤونه سبحانه لا تحصى، ولا يعلمها إلا هو، فالعموم أولى وأنسب بمقام القدرة وكمالها، وقيل: المراد باليوم المذكور هو يوم الدنيا ويوم الآخرة. وشأنه في الدنيا الإختبار بالأمر والنهي، والإحياء والإماتة، والإعطاء والمنع، وغير ذلك، وشأنه في الآخرة(13/327)
الجزاء والحساب والثواب والعقاب وغير ذلك، قال ابن بحر وسفيان ابن عيينة: الدهر كله عند الله يومان أحدهما مدة أيام الدنيا والآخر يوم القيامة وقيل: المراد كل يوم من أيام الدنيا.
" عن عبد الله بن منيب قال: تلا علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية فقلنا: يا رسول الله وما ذلك الشأن؟ قال: أن يغفر ذنباً، ويفرج كرباً، ويرفع قوماً ويضع آخرين "، أخرجه الحسن بن سفيان في مسنده والبزار وابن جرير والطبراني وأبو الشيخ في العظمة وابن منده وابن مردويه وأبو نعيم وابن عساكر.
" وعن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم في الآية مثله " أخرجه البخاري في تاريخه وابن ماجة وابن أبي عاصم وغيرهم، وزاد البزار: ويجيب داعياً، وقد رواه البخاري تعليقاً وجعله من كلام أبي الدرداء.
" وعن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال يغفر ذنباً ويفرج كرباً " أخرجه البزار(13/328)
فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (30)
(فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) فإن اختلاف شؤونه سبحانه في تدبير أمر عباده نعمة لا يمكن جحدها، ولا يتيسر لمكذب تكذيبها.(13/328)
سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلَانِ (31)
(سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلَانِ) هذا وعيد شديد من الله سبحانه، للجن والإنس، قال القرطبي: يقال: فرغت من الشغل أفرغ فراغاً وفروغاً وتفرغت لكذا، واستفرغت مجهودي في كذا أي بذلته، قال الزجاج والكسائي وابن الأعرابي وأبو علي الفارسي: إن الفراغ ههنا ليس هو الفراغ من شغل، لأن الله تعالى ليس له شغل يفرغ منه، ولا يشغله شأن عن شأن، ولكن تأويله القصد، أي سنقصد لحسابكم أو مجازاتكم أو محاسبتكم.
قال الواحدي حاكياً عن المفسرين ومنهم ابن عباس: إن هذا تهديد من الله سبحانه لعباده ومن هذا قول القائل لمن يريد تهديده: إذن أتفرغ لك،(13/328)
أي أقصد قصدك، وفرغ يجيىء بمعنى قصد، قال الزجاج: إن الفراغ في اللغة على ضربين أحدهما الفراغ من الشغل والآخر القصد للشيء والإقبال عليه كما هنا، ويكون الكلام على طريق التمثيل والاستعارة وقد ألم به صاحب المفتاح ونحا إليه الزمخشري وقيل: إن الله سبحانه وعد على التقوى، وأوعد على المعصية، ثم قال: سنفرغ لكم مما وعدناكم، ونوصل كُلاً إلى ما وعدناه، وبه قال الحسن ومقاتل وابن زيد.
قرأ الجمهور: سنفرغ بالنون وضم الراء وقرىء بالنون مع فتح الراء، قال الكسائي: هي لغة تميم، وقرىء بكسر النون وفتح الراء، وقرىء بالياء التحتية مفتوحة مع ضم الراء، أي سيفرغ الله، وقرىء بضم الياء؛ وفتح الراء، وترسم أيُّه بغير ألف، وأما في النطق فقرأ أبو عمرو والكسائي أيها بالألف في الوقف، ووقف الباقون على الرسم أيه بتسكين الهاء، وفي الوصل قرأ ابن عامر أيه بضم الهاء، والباقون بفتحها، وسمي الجن والإنس الثقلين لعظم شأنهما بالنسبة إلى غيرهما من حيوانات الأرض، وقيل: سموا بذلك لأنهم ثقل على الأرض أحياء وأمواتاً كما في قوله: (وأخرجت الأرض أثقالها) وقال جعفر الصادق: سميا ثقلين لأنهما مثقلان بالذنوب، وقيل: لأنهما أثقلا وأتعبا بالتكاليف، وجمع في قوله: (لَكُمْ)، ثم قال: (أَيُّهَ الثَّقَلَانِ) لأنهما فريقان، وكل فريق جمع.(13/329)
فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (32)
(فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) ومن جملتها ما في هذا التهديد من النعم، فمن ذلك أنه ينزجر به المسىء عن إساءته، ويزداد به المحسن إحساناً فيكون ذلك سبباً للفوز بنعيم الدار الآخرة، الذي هو النعيم في الحقيقة.(13/329)
يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ (33)
(يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) هو كالترجمة لقوله: (أَيُّهَ الثَّقَلَانِ)، قدم الجن هنا لكون خلق أبيهم متقدماً على خلق آدم، ولوجود جنسهم قبل جنس الإنس، وهذا الخطاب يقال لهما في الآخرة، وقيل: في الدنيا، ويرجح كونه(13/329)
في الآخرة قوله:(13/330)
يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنْتَصِرَانِ (35)
(يرسل عليكما) الخ فإن هذا الإرسال إنما هو في القيامة، كما سيأتي، وكذا قوله: فإذا انشقت السماء.
(إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) أي إن قدرتم أن تخرجوا من جوانبهما ونواحيهما وأطرافهما هرباً من قضاء الله وقدره (فانفذوا) منها وخلصوا أنفسكم واهربوا واخرجوا، فحيثما كنتم يدرككم الموت، يقال: نفذ الشيء من الشيء إذا خلص منه كما يخلص السهم، والأمر بالنفوذ أمر تعجيز.
(لا تنفذون إلا بسلطان) أي لا تقدرون على النفوذ إلا بقوة وقهر، ولا قهر ولا قوة لكم على ذلك ولا قدرة، والسلطان القوة التي يتسلط بها صاحبها على الأمر، قال الضحاك: بينما الناس في أسواقهم إذا انفتحت السماء ونزلت الملائكة، فهرب الجن والأنس، فتحدق بهم الملائكة، فذلك قوله (لا تنفذون إلا بسلطان) ذكره النحاس وعلى هذا يكون في الدنيا قال ابن المبارك: إن ذلك يكون في الآخرة وقال الضحاك أيضاًً: معنى الآية إن استطعتم أن تهربوا من الموت فاهربوا، وقيل: إن استطعتم أن تعلموا ما في السموات والأرض فاعلموه، ولن تعلموه إلا بسلطان أي ببينة من الله وقال قتادة: معناها لا تنفذون إلا بملك وليس لكم ملك وقيل: الباء بمعنى إلى أي، لا تنفذون إلا إلى سلطان، وقال ابن عباس: لا تخرجون من سلطاني.(13/330)
فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (34) يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنْتَصِرَانِ (35) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (36) فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ (37) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (38) فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ (39) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (40) يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ (41) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (42) هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (43) يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (44) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (45) وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (46) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (47) ذَوَاتَا أَفْنَانٍ (48) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (49) فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ (50) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (51)(13/331)
فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (36)
(فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) ومن جملتها هذه النعمة الحاصلة بالتحذير والتهديد فإنها تزيد المحسن إحساناً وتكف المسيىء عن إساءته مع أن من حذركم وأنذركم قادر على الإيقاع بكم من دون مهلة (يرسل عليكما شواظ من نار) وقرأ الجمهور يرسل بضم التحتية مبنياً للمفعول، وقرىء بالنون، ونصب شواظ، وقرأ الجمهور شواظ بضم الشين وقرىء بكسرها وهما لغتان بمعنى واحد والشواظ اللهب الذي لا دخان معه قال مجاهد: الشواظ اللهب الأخضر المنقطع من النار، وقال الضحاك: هو الدخان الذي يخرج من اللهب، ليس بدخان الحطب، وقال الأخفش وأبو عمرو: هو النار، والدخان جميعاً وقال ابن عباس: هو لهب النار وقيل هو اللهب الخالص.
(ونحاس) قرأ الجمهور بضم النون، وقرىء بكسرها، وقرىء نحس والنحاس الصفر المذاب، يصب على رؤوسهم، قاله مجاهد وقتادة وغيرهما وقال سعيد بن جبير: وهو الدخان الذي لا لهب له، وبه قال الخليل.
وقال الضحاك: هو دردي الزيت المغلي، وقال الكسائي: هو النار التي(13/331)
لها ريج شديدة، وقال ابن عباس: هو دخان النار، وعنه قال: الصفر يعذبون به، قيل: يرسل عليهما هذا مرة وهذا مرة، ويجوز أن يرسلا معاً من غير أن يمتزج أحدهما بالآخر، قرىء نحاس بالرفع عطفاً على شواظ وبالجر عطفاً على نار سبعيتان، لكن قراءة الجر لا بد فيها من كسر شين شواظ. أو إمالة نار، فمن قرأ بالجر بدون أحد الأمرين فقد وقع في التلفيق، لأن هذا الوجه لم يقرأ به أحد، قال المهدوي: من قال إن الشواظ النار والدخان جميعاً فالجر في نحاس على هذا بين، فأما الجر على قول من جعل الشواظ اللهب الذي لا دخان فيه فبعيد لا يسوغ إلا على تقدير حذف موصوف فكأنه قال: يرسل عليكما شواظ من نار وشيء من نحاس.
(فلا تنتصران) أي لا تقدران على الإمتناع من عذاب الله بل يسوقكم إلى المحشر (فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) فإن من جملتها هذا الوعيد الذي يكون به الانزجار عن الشر، والرغب في الخير.(13/332)
فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ (37)
(فإذا انشقت السماء) أي انصدعت بنزول الملائكة يوم القيامة، أو انفك بعضها من بعض لقيام الساعة، وقيل: انفجرت فصارت أبواباً لنزول الملائكة لتحيط بالعالم من سائر جهات الأرض لئلا يهرب بعضهم من المحشر وقيل: المراد منه خراب السماء وفيه تهويل وتعظيم للأمر.
(فكانت وردة) أي كوردة حمراء أو محمرة مثلها، قال سعيد بن جبير وقتادة: المعنى فكانت حمراء وقيل: فكانت كلون الفرس الورد، قاله ابن عباس وهو الأبيض الذي يضرب إلى الحمرة والصفرة (كالدهان) قال الفراء وأبو عبيدة: تصير السماء كالأديم لشدة حر النار، وقال ابن عباس: كالأديم الأحمر، أي على خلاف العهد بها وهو الزرقة، وقال الفراء أيضاًً: شبه تلون السماء بتلون الورد من الخيل وشبه الورد في ألوانها بالدهن واختلاف ألوانه والدهان جمع دهن، نحو قرط وقراط، ورمح ورماح، وقيل: إنه إسم مفرد(13/332)
أي اسم لما يدهن به، كالحزام والادام، قاله الزمخشري، وقيل المعنى تصير السماء مثل الدهن لذوبانها. وقال الحسن: (كالدهان) أي كصبيب الدهن فإنك إذا صببته ترى فيه ألواناً، وقال زيد بن أسلم: إنها تصير كعصير الزيت، قال الزجاج وقتادة: إنها اليوم خضراء، وسيكون لها لون أحمر، حكاه الثعلبي قال الماوردي: زعم المتقدمون أن أصل لون السماء الحمرة وأنها لكثرة الحوائل والحواجز وبعد المسافة واعتراض الهواء بيننا وبينها ترى بهذا اللون الأزرق، كما يرى الدم في العروق أزرق، ولا هواء هناك يمنع من اللون الأصلي ذكره الكرخي والعمادي والكازروني(13/333)
فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (38)
(فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) فإن من جملتها ما في هذا التهديد والتخويف من حسن العاقبة بالإقبال على الخير والإعراض عن الشر.(13/333)
فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ (39)
(فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان) أي يوم تنشق السماء لا يسأل أحد من الإنس ولا من الجن عن ذنبه لأنهم يعرفون بسيماهم عند خروجهم من قبورهم، فالتنوين عوض عن الجملة، والفاء جواب الشرط، وقيل هو محذوف، أي فإذا انشقت السماء رأيت أمراً مهولاً، والهاء في ذنبه تعود على أحد المذكورين، وضمير الآخر مقدر، أي ولا يسأل عن ذنبه جان أيضاًً، وناصب الظرف لا يسأل، و (لا) غير مانعة، والجمع بين مثل هذه الآية وبين مثل قوله: (فوربك لنسألنهم أجمعين) أن ما هنا يكون في موقف والسؤال في موقف آخر من مواقف القيامة، وقيل: قد كانت مسألة ثم ختم على أفواه القوم. وتكلمت أيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون. وقيل: إنهم لا يسألون هنا سؤال استفهام عن ذنوبهم لأن الله سبحانه قد أحصى الأعمال وحفظها على العباد ولكن يسألون سؤال توبيخ وتقريع، ومثل هذه الآية قوله: (ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون).
قال أبو العالية: المعنى لا يسأل غير المجرم عن ذنب المجرم، وقيل إن(13/333)
عدم السؤال هو عند البعث، والسؤال هو في موقف الحساب، وقال ابن عباس: لا يسألهم هل عملتم كذا وكذا؟ لأنه أعلم بذلك منهم؛ ولكن يقول لهم: لم عملتم كذا وكذا؟ والجان والإنس كل منهما إسم جنس، يفرق بينه وبين واحدة بالياء كزنج وزنجي(13/334)
فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (40)
(فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) فإن من جملتها هذا الوعيد الشديد، لكثرة ما يترتب عليه من الفوائد.(13/334)
يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ (41)
(يعرف المجرمون بسيماهم) هذه الجملة جارية مجرى التعليل لعدم السؤال والسيما العلامة، قال الحسن: سيماهم سواد الوجوه، وزرقة الأعين، كما في قوله: (ونحشر المجرمين يومئذ زرقاً)، وقال: (يوم تبيض وجوه وتسود وجوه) وقيل سيماهم ما يعلوهم من الحزن والكآبة.
(فيؤخذ بالنواصي والأقدام) قال أبو حيان: يؤخذ متعد ومع ذلك تعدى بالباء لأنه ضمن معنى يسحب، قلت: يسحب إنما يتعدى بعلى قال تعالى: (يوم يسحبون في النار على وجوههم) فكان ينبغي أن يقال ضمن معنى يدفع أي يدفعون، وقال مكي: إنما يقال؛ أخذت الناصية وأخذت بها ولو قلت أخذت الدابة بالناصية لم يجز، وحكي عن العرب أخذت الخطام، وأخذت بالخطام بمعنى قاله الكرخي، والنواصي شعور مقدم الرأس والمعنى أنها تجعل الأقدام مضمومة إلى النواصي وتلقيهم الملائكة في النار، وقال الضحاك: يجمع بين ناصيته وقدمه في سلسلة من وراء ظهره، وقيل: تسحبهم الملائكة إلى النار تارة تأخذ بنواصيهم، وتجرهم على وجوههم، وتارة تأخذ بأقدامهم وتجرهم على رؤوسهم.
قال ابن عباس: تأخذ الزبانية بناصيته وقدميه، ويجمع فيكسر كما يكسر الحطب في التنور(13/334)
فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (42)
(فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) فإن من جملتها هذا الترهيب الشديد، والوعيد البالغ الذي ترجف له القلوب، وتضطرب لهوله الأحشاء.(13/334)
هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (43)
(هذه جهنم التي يكذب بها المجرمون) الجملة مستأنفة جواب سؤال مقدر كأنه قيل: فماذا يقال لهم عند الأخذ بالنواصي والأقدام؟ فقيل: يقال لهم تقريعاً وتوبيخاً هذه جهنم التي تشاهدونها، وتنظرون إليها مع أنكم كنتم تكذبون بها وتقولون إنها لا تكون.(13/335)
يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (44)
(يطوفون) أي يترددون ويسمعون (بينها) أي بين جهنم فتحرقهم (وبين حميم آن) فيصيب وجوههم فيحرقون بها، فيستغيثون منها فيسعى بهم إلى الحميم والحميم الماء الحار، والآن الذي قد انتهى حره، وبلغ غايته، كذا قال الفراء وقال الزجاج: أنى يأنى أنى فهو آن إذا انتهى في النضج والحرارة وقال ابن عباس: هو الذي انتهى حره وقيل: هو واد من أودية جهنم يجمع فيه صديد أهل النار فيغمسون فيه بأغلالهم حتى تنخلع أوصالهم قال قتادة: يطوفون مرة بين الحميم ومرة بين الجحيم.(13/335)
فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (45)
(فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) فإن من جملتها النعمة الحاصلة بهذا التخويف وما يحصل به من الترغيب في الخير، والترهيب عن الشر، ولما فرغ سبحانه من تعداد النعم الدنيوية على الثقلين، ذكر نعمه الأخروية التي أنعم بها عليهم فقال:(13/335)
وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (46)
(ولمن خاف) أي لكل فرد من أفراد الخائفين أو لمجموعهم والأول هو المعتمد (مقام ربه) مقامه سبحانه هو الموقف الذي يقف فيه العباد للحساب كما في قوله: (يوم يقوم الناس لرب العالمين) وقيل: المعنى خاف قيام ربه عليه وهو إشرافه على أحواله واطلاعه على أفعاله وأقواله، كما في قوله: أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت، أو قيام الخائف عند ربه للحساب، ومحصله احتمالات ثلاثة في تفسير المقام، أولها أنه أسم مكان، والثاني أنه مصدر تحته احتمالان، إما بمعنى قيام الله على الخلائق، أو بمعنى قيام الخلائق بين يديه، قال مجاهد والنخعي: هو الرجل الذي يهم بالمعصية فيذكر الله(13/335)
فيدعها من خوفه وفيه إشارة إلى سبب استحقاق الجنتين في نفس الأمر وهو أنه ليس مجرد الخوف بل الخوف الناشىء عنه ترك المعاصي.
(جنتان) إختلف فيهما فقال مقاتل: يعني جنة عدن وجنة النعيم، وقيل: إحداهما التي خلقت له، والأخرى ورثها، وقيل: إحداهما منزله والأخرى منزل أزواجه، وقيل: إحداهما أسافل القصور. والأخرى أعاليها، وقيل: جنة لفعل الطاعة، وأخرى لترك المعصية، وقيل: جنة للعقيدة التي يعتقدها وجنة للعمل الذي يعمله، وقيل: جنة بالعمل وجنة بالتفضل، وقيل: جنة روحانية، وجنة جسمانية. وقيل: جنة لخوفه من ربه وجنة لتركه شهوته وقال الفراء: إنما هي جنة واحدة والتثنية لأجل موافقة رؤوس الآي، قال النحاس: وهذا من أعظم الغلط على كتاب الله، فإن الله يقول جنتان ويصفهما بقوله فيهما فيهما إلخ وقيل إنما كانتا اثنتين ليتضاعف له السرور بالتنقل من جهة إلى جهة.
قال ابن عباس: وعد الله المؤمنين الذين خافوا مقامه فأدوا فرائضه الجنتين، وعنه أيضاًً يقول: خاف ثم اتقى، والخائف من ركب طاعة الله وترك معصيته، وعن عطاء أنها نزلت في أبي بكر، وعن ابن شوذب مثله وقال ابن مسعود في الآية: لمن خافه في الدنيا.
" وعن أبي الدرداء أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية: ولمن خاف مقام ربه جنتان فقلت: وإن زنى وإن سرق يا رسول الله؟ فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم الثانية: ولمن خاف مقام ربه جنتان، فقلت: وإن زنى وإن سرق؟ فقال الثالثة: ولمن خاف مقام ربه جنتان، فقلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال: نعم وإن، رغم أنف أبي الدرداء (1) " أخرجه أحمد والترمذي والنسائي والبزار وأبو يعلي والطبراني وغيرهما.
" وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ولمن
_________
(1) رواه أحمد.(13/336)
خاف مقام ربه جنتان فقال أبو الدرداء: وإن زنى وإن سرق يا رسول الله قال: وإن زنى وإن سرق، وإن رغم أنف أبي الدرداء " أخرجه ابن مردويه وعن يسار مولى لآل معاوية عن أبي الدرداء في الآية قال: قيل لأبي الدرداء: وإن زنى وإن سرق، قال: من خاف مقام ربه لم يزن ولم يسرق.
" وعن ابن شهاب قال: كنت عند هشام بن عبد الملك فقال: قال أبو هريرة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ولمن خاف مقام ربه جنتان، قال أبو هريرة: وإن زنى وإن سرق؟ فقلت: إنما كان ذلك قبل أن تنزل الفرائض، فلما نزلت الفرائض ذهب هذا "، أخرجه ابن مردويه.
" وعن أبي موسى الأشعري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: جنان الفردوس أربع جنات، جنتان من ذهب حليتهما وآنيتهما وما فيهما. وجنتان من فضة حليتهما وآنيتهما وما فيهما وما بين القوم وبين أن ينظروا ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن (1) " أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما، وعنه في الآية قال: جنتان من ذهب للسابقين، وجنتان من فضة للتابعين، قال القرطبي: في هذه الآية دليل على أن من قال لزوجته: إن لم أكن من أهل الجنة فأنت طالق أنه لا يحنث إن كان هم بالمعصية وتركها خوفاً من الله، وحياء منه وهو قول سفيان الثوري وبه أفتى، ومذهب الشافعي أنه لا يحنث إذا كان مسلماً ومات على الإسلام
_________
(1) رواه البخاري ومسلم.(13/337)
فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (47)
(فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) فإن من جملتها هذه النعمة العظيمة وهي إعطاء الخائف من مقام ربه جنتين متصفتين بالصفات الجميلة العظيمة.(13/337)
ذَوَاتَا أَفْنَانٍ (48)
(ذواتا أفنان) أي: صاحبتا أفنان هذه صفة للجنتين وما بينهما اعتراض أو خبر مبتدأ محذوف، أي: هما ذواتا قال الخطيب: وفي تثنية ذات لغتان الأولى الرد إلى الأصل فإن أصلها ذوية فالعين واو واللام ياء، لأنها مؤنثة ذوي، والثانية التثنيه على اللفظ، فيقال: ذاتان انتهى، ومثله قال السمين وعبارة(13/337)
الجلال المحلي: تثنية ذوات على الأصل ولامها ياء انتهى. والأفنان الأغصان وهي الدقيقة التي تتفرع من فروع الشجر، واحدها فنن كطلل، وهو الغصن المستقيم طولاً، وبهذا قال مجاهد وعكرمة وعطية وغيرهم.
وخص الأفنان لأنها هي التي تورق وتثمر، فمنها تمتد الظلال، ومنها تجتنى الأثمار، وقال الزجاج: الأفنان الألوان واحدها فن، كدن، وهو الضرب، والنوع من كل شيء، وبه قال عطاء وسعيد بن جبير وجمع عطاء بين القولين فقال: في كل غصن فنون من الفاكهة وقيل: معناها ذواتا فضل وسعة على ما سواهما قاله قتادة وقيل: ذواتا أنواع وأشكال من الثمار وقيل: الأفنان ظل الأغصان على الحيطان.
روي عن مجاهد وعكرمة قال ابن عباس: ذواتا ألوان وقال: فن غصونها يمس بعضها بعضاً وقال: الفن الغصن والمعنى: أن له فيها ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين قال قائلهم:
ومن كل أفنان اللذاذة والصبا ... لهوت به والعيش أخضر ناضر(13/338)
فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (49)
(فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) فإن كل واحد منها ليس بمحل للتكذيب ولا بموضع للإنكار(13/338)
فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ (50)
(فيهما) أي في كل واحدة منهما (عينان تجريان) حيث شاؤوا في الأعالي والأسافل، وهذا أيضاًً صفة أخرى للجنتين قال الحسن: إحداهما السلسبيل والأخرى التسنيم، وقال عطية: إحداهما من ماء غير آسن، والأخرى من خمر لذة للشاربين، قيل: كل واحدة منهما مثل الدنيا أضعافاً مضاعفة، حصاهما الياقوت الأحمر، والزبرجد الأخضر، وترابهما الكافور وحمأتهما المسك الأذفر وحافتاهما الزعفران.
وقال أبو بكر الوراق: تجريان لمن كانت عيناه في الدنيا تجريان من مخافة الله عز وجل، فتجريان في كل مكان شاء صاحبهما، وإن علا مكانه، كما تصعد المياه في الأشجار في كل غصن منها، وإن زاد علوها(13/338)
فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (51)
(فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) فإن من جملتها هذه النعمة الكائنة في الجنة لأهل السعادة.(13/338)
فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ (52) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (53) مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ (54) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (55) فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ (56) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (57) كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ (58) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (59) هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ (60) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (61) وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ (62) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (63)(13/339)
فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ (52)
(فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ) هذا صفة ثالثة لـ (جنتان) والزوجان الصنفان والنوعان، والمعنى أن في الجنتين من كل نوع يتفكه به في الدنيا ضربين، يستلذ بكل نوع من أنواعه، قيل: أحد الصنفين رطب، والآخر يابس، لا يقصر أحدهما عن الآخر في الفضل والطيب، وقيل: صنفان صنف معروف، وصنف غريب، قيل: ما في الدنيا شجرة حلوة ولا مرة إلا وهي في الجنة حتى الحنظل إلا أنه حلو.(13/339)
فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (53)
(فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ)؟ فإن في مجرد تعداد هذه النعم ووصفها في هذا الكتاب العزيز من الترغيب إلى فعل الخير، والترهيب عن فعل الشر ما لا يخفى على من يفهم، وذلك نعمة عظمى، ومنه كبرى، فكيف بالتنعم به عند الوصول إليه؟(13/339)
مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ (54)
(متكئين) قال في القاموس. توكأ عليه تحامل واعتمد، واتكأ جعل له متكأً.
" وقوله صلى الله عليه وسلم: أما أنا فلا آكل متكأ "، أي جالساً جلوس المتمكن المتربع ونحوه من الهيئات المستدعية لكثرة الأكل، بل كان جلوسه للأكل مستوفزاً مقعياً غير متربع، ولا متمكن، وليس المراد الميل على شق كما(13/339)
يظنه عوام الطلبة، وذكر الاتكاء لأنه حال الصحيح الفارغ القلب، المتنعم البدن، بخلاف المريض والمهموم، وانتصابه على الحال من فاعل قوله: (ولمن خاف)، وإنما جمع حملاً على معنى من، وقيل: منصوب على المدح، وقيل: عاملها محذوف والتقدير يتنعمون متكئين أي مضطجعين أو متربعين.
(عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ) والفرش جمع فراش، والبطائن هي التي تحت الظهائر، وهي جمع بطانة، قال الزجاج: هي ما يلي الأرض، والإستبرق ما غلظ من الديباج، وإذا كانت البطائن من إستبرق فكيف تكون الظهائر؟ قيل لسعيد بن جبير البطائن من استبرق فما الظواهر؟ قال: هذا مما قال الله فيه فلا تعلم نفس ما أخفى لهم من قرة أعين، وبه قال ابن عباس قيل: إنما اقتصر على ذكر البطائن لأنه لم يكن أحد في الأرض يعرف ما في الظهائر، وقال الحسن: بطائنها من إستبرق، وظواهرها من نور جامد وقال الحسن أيضاًً البطائن هي الظهائر، وبه قال الفراء؛ وقال: قد تكون البطانة الظهارة، والظهارة البطانة، لأن كل واحد منهما يكون وجهاً، والعرب تقول: هذا ظهر السماء وهذا بطن السماء لظاهرها الذي نراه، وأنكر ابن قتيبة هذا وقال: لا يكون هذا إلا في الوجهين المتساويين.
وقال ابن مسعود رضي الله عنه في الآية: أخبرتم بالبطائن فكيف بالظهائر؟ وقيل: ظهائرها من سندس وهو الديباج الرقيق الناعم وهذا يدل على نهابة شرف هذه الفرش لأنه ذكر أن بطائنها من الإستبرق، ولا بد أن تكون الظهائر خيراً من البطائن فهو مما لا يعلمه البشر.
(وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ) مبتدأ وخبر و (دَانٍ) أصله دانوا، مثل غاز فأعل إعلاله وجنى فعل بمعنى مفعول كالقبض بمعنى المقبوض، والجني ما يجتنى من الثمار، قيل: إن الشجرة تدنو حتى يجتنيها من يريد جناها، قال ابن عباس: جناها ثمرها، والداني القريب منك أي يناله القائم والقاعد والمتكىء والنائم(13/340)
وهذا بخلاف ثمر الدنيا، فإنها لا تنال إلا بكد وتعب، وقيل: لا يرد أيديهم عنها بعد ولا شوك، قال الرازي: جنة الآخرة مخالفة لجنة الدنيا من ثلاثة أوجه:
أحدها: أن الثمرة على رؤوس الشجر في الدنيا بعيدة عن الإنسان المتكىء: وفي الجنة يتكىء والثمرة تتدلى إليه.
وثانيهما: أن الإنسان في الدنيا يسعى إلى الثمرة ويتحرك إليها، وفي الآخرة تدنو منه؛ وتدور عليه.
وثالثها: أن الإنسان في الدنيا إذا قرب من ثمرة شجرة بعد عن غيرها، وثمار الجنة كلها تدنو إليه في وقت واحد، ومكان واحد.(13/341)
فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (55)
(فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) فإنها كلها بموضع لا يتيسر لمكذب؛ أن يكذب بشيء منها، لما يشتمل عليه من الفوائد العاجلة والآجلة.(13/341)
فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ (56)
(فيهن) أي في الجنتين المذكورتين، لأن أقل الجمع اثنان أو لاشتمالهما على أماكن وعلالي وقصور ومجالس، قال الزجاج: وإنما قال (فيهن) لأنه عنى الجنتين وما أعد لصاحبهما فيهما من النعيم، أو في هذه الآلاء المعدودة من الجنتين والعينين والفاكهة والفرش والجني وقيل: (فيهن) أي في الفراش التي بطائنها من إستبرق قال أبو حيان: وفيه بعد، لأن الاستعمال أن يقال على الفراش كذا ولا يقال في الفراش كذا إلا بتكلف. ولذلك جمع الزمخشري مع الفرش غيرها حتى صح له أن يقول ذلك، وقال الفراء: كل موضع في الجنة جنة فلذلك صح أن يقال فيهن.
(قاصرات الطرف) من إضافة اسم الفاعل لمنصوبه تخفيفاً إذ يقال قصر طرفه على كذا، وحذف متعلق القصر للعلم به، أي: إنهن يقصرن أبصارهن على أزواجهن المتكئين من الإنس والجن لا ينظرن إلى غيرهم ولا يرين سواهم(13/341)
والآية دلت على الحياء لأن الطرف حركة الجفن، والحبيبة لا تحرك جفنها ولا ترفع رأسها وقد تقدم هذا في سورة الصافات قال ابن عباس: قاصرات الطرف عن غير أزواجهن قال الرازي: وانظر إلى حسن هذا الترتيب فإنه بين أولاً المسكن وهو الجنة، ثم بين ما يتنزه به وهو البستان والعيون الجارية، ثم ذكر المأكول، ثم ذكر موضع الراحة بعد الأكل، وهو الفراش، ثم ذكر ما يكون في الفراش معه، ولما كان الإختصاص بالشيء من أعظم الملذذات قال:
(لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان) الضمير راجع إلى الأزواج المدلول عليهم بقاصرات الطرف، وقيل: يعود إلى المتكئين، والجملة نعت لقاصرات لأن إضافتها لفظية، كقوله: (هذا عارض ممطرنا) أو حال لتخصص النكرة بالإضافة قال الفراء: الطمث الإفتضاض، وهو النكاح بالتدمية، يقال: طمث الجارية إذا افترعها، وقيل: الطمث المس، أي: لم يمسسهن، قاله أبو عمرو وقال المبرد: أي لم يذللهن، والطمث التدليل، ومن استعمال الطمث فيما ذكره الفراء قول الفرزدق:
دفعن إليّ ولم يطمثن قبلي ... وهن أصح من بيض النعام
وفي السمين: أصل الطمث الجماع المؤدي إلى خروج دم البكر، ثم أطلق على كل جماع طمث وإن لم يكن معه دم، وقيل: الطمث دم الحيض، أو دم الجماع، قال الواحدي: قال المفسرون: لم يطأهن ولم يغشهن ولم يجامعهن قبلهم أحد، ولم يتسلط عليهن، قال مقاتل: لأنهن خلقن في الجنة، وقيل: إنهن من نساء الدنيا أنشئن خلقاً آخر، أبكاراً، وقيل: هن الآدميات اللاتي متن أبكاراً، والأول أولى. قرأ الجمهور: يطمثهن بكسر الميم، وقرىء بضمها وبفتحها، وفي هذه الآية، بل في كثير من آيات هذه السورة، دليل على أن الجن يدخلون الجنة إذا آمنوا بالله سبحانه، وعملوا بفرائضه، وانتهوا عن مناهيه.(13/342)
قال ابن عباس في الآية: لم يطمثهن لم يدن منهن، أو لم يدمهن، وفي الآية دليل على أن الجن يطمثون كما يطمث الإنس، فإن مقام الامتنان يقتضي ذلك إذ لو يطمثوا لم يحصل لهم الامتنان(13/343)
فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (57)
(فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) فإن في مجرد هذا الترغيب في هذه النعم نعمة جليلة، ومنة عظيمة، لأن به يحصل الحرص على الأعمال الصالحة، والفرار من الأعمال الطالحة، فكيف بالوصول إلى هذه النعم والتنعم بها؟ في جنات النعيم بلا انقطاع ولا زوال.(13/343)
كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ (58)
(كأنهن الياقوت والمرجان) هذا صفة لقاصرات، أو حال منهن، ولم يذكر مكي غيره، والياقوت جوهر نفيس، يقال إن النار لا تؤثر فيه، ومن المعلوم أن الياقوت أحمر اللون، فهذا التشبيه يقتضي أن لون أهل الجنة البياض المشرب بحمرة، فينافي المقرر المعلوم من أنه البياض المشرب بصفرة، فالجواب أن التشبيه بالياقوت من حيث الصفاء لا من حيث الحمرة، وهذا لا ينافي أن البياض مشرب بصفرة كما قال الحسن: هن في صفاء الياقوت وبياض المرجان، وإنما خص المرجان على القول بأنه صغار الدر لأن صفاءها أشد من صفاء كبار الدر.
" عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم في الآية قال: ينظر إلى وجهها في خدرها أصفى من المرآة، وإن أدنى لؤلؤة عليها لتضيء ما بين المشرق والمغرب، وإنه يكون عليها سبعون ثوباً وينفذها بصره حتى يرى مخ ساقها من وراء ذلك (1) "، أخرجه أحمد وابن حبان. والحاكم وصححه، والبيهقي في البعث " وعن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن المرأة من نساء الجنة ليرى بياض ساقها من وراء سبعين حلة، حتى يرى مخها، وذلك أن الله يقول: (كأنهن الياقوت والمرجان)، فأما الياقوت فحجر لو أدخلت فيه سلكاً ثم استصغيته لرأيته من ورائه "، أخرجه ابن أبي شيبة، وهناد بن السرى، وابن أبي الدنيا، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن
_________
(1) رواه أحمد.(13/343)
حبان، وأبو الشيخ وغيرهم، وقد رواه الترمذي موقوفاً وقال: هو أصح(13/344)
فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (59)
(فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) فإن نعمه كلها لا يتيسر تكذيب شيء منها كائنة ما كانت، فكيف بهذه النعم الجليلة والمنن الجزيلة؟(13/344)
هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ (60)
(هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ)؟ هل ترد في الكلام على أربعة أوجه تكون بمعنى قد كقوله: (هل أتى على الإنسان حين من الدهر)؟ وبمعنى الاستفهام كقوله: (فهل وجدتم ما وعد ربكم حقاً)؟ وبمعنى الأمر كقوله: (فهل أنتم منتهون)؟ وبمعنى الجحد كقوله: (فهل على الرسل إلا البلاغ)؛ وكما في هذه الآية، والجملة مقررة لمضمون ما قبلها، والمعنى ما جزاء من أحسن العمل في الدنيا إلا الإحسان إليه في الآخرة، كذا قال ابن زيد وغيره، وقال الصادق: هل جزاء من أحسنت إليه في الأزل إلا حفظ الإحسان عليه في الأبد، قال الرازي: في هذه الآية وجوه كثيرة، حتى قيل إن في القرآن ثلاث آيات في كل واحدة منها مائة قول، إحداها قوله تعالى فاذكروني أذكركم، وثانيها وإن عدتم عدنا، وثاللها هل جزاء الإحسان إلا الإحسان.
قال محمد بن الحنفية هي للبر والفاجر، البر في الآخرة، والفاجر في الدنيا.
" عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الآية: ما جزاء من أنعمت عليه بالتوحيد إلا الجنة " أخرجه ابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي وضعفه وأخرج البغوي في تفسيره وغيره في غيره عن أنس مرفوعاً مثله، وعن جابر مرفوعاً في الآية قال: هل جزاء من أنعمنا عليه بالإسلام، إلا أن أدخله الجنة وأخرج ابن النجار عن علي مرفوعاً مثل حديث ابن عمر.
وقال ابن عباس: هل جزاء من قال لا إله إلا الله في الدنيا إلا الجنة في الآخرة " وعنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنزل الله على هذه الآية في سورة الرحمن للكافر والمسلم، (هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ)(13/344)
أخرجه ابن عدي وأبو الشيخ وابن مردويه والديلمي والبيهقي، وأخرجه ابن مردويه موقوفاً على ابن عباس، وقال إبراهيم الخواص في الآية: هل جزاء الإسلام إلا دار الإسلام؟ وفي الآية إشارة إلى رفع التكليف في الآخرة لأن الله وعد المؤمن بالإحسان وهو الجنة، فلو بقي التكليف في الآخرة وتركه العبد لاستحق العقاب على ترك العمل، والعقاب ترك الإحسان إليه، فلا تكليف.(13/345)
فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (61)
(فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ)؟ فإن من جملتها الإحسان إليكم في الدنيا والآخرة، بالخلق والرزق والإرشاد إلى العمل الصالح، والزجر عن العمل الذي لا يرضاه.(13/345)
وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ (62)
(ومن دونهما جنتان) أي من دون تينك الجنتين الموصوفتين بالصفات المتقدمة، جنتان أخريان لمن دون أصحاب الجنتين السابقتين من أهل الجنة، ومعنى من دونهما أي أمامهما، ومن قبلهما أي هما أقرب منهما وأدنى إلى العرش فهما أفضل من الأوليين، وإلى هذا ذهب الحكيم الترمذي في نوادر الأصول، وقيل: دونهما في الدرج، وقيل: بالفضل وقيل الجنتان الأوليان جنة عدن وجنة النعيم، والأخريان جنة الفردوس وجنة المأوى، قال ابن جريج: هي أربع جنات جنتان منها للسابقين المقربين فيهما من كل فاكهة زوجان وعينان تجريان؛ وجنتان لأصحاب اليمين فيهما فاكهة ونخل ورمان وفيهما عينان نضاختان.
قال ابن زيد: إن الأوليين من ذهب للمقربين، والأخريين من ورق لأصحاب اليمين.
وأخرج ابن جرير وابن حاتم وابن مردويه. " عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم في الآية قال: جنتان من ذهب للمقربين، وجنتان من ورق لأصحاب اليمين "(13/345)
فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (63)
(فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ)؟ فإن كلها حق ونعم لا يمكن جحدها، ثم وصف سبحانه هاتين الجنتين الأخريين فقال:(13/345)
مُدْهَامَّتَانِ (64) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (65) فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ (66) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (67) فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (68) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (69) فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ (70) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (71) حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ (72) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (73) لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ (74) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (75) مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ (76) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (77) تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (78)(13/346)
مُدْهَامَّتَانِ (64)
(مُدْهَامَّتَانِ) وما بينهما اعتراض قال أبو عبيد والزجاج: من خضرتهما قد اسودتا من الري: وكل ما علاه السواد رياً فهو مدهم عند العرب، قال مجاهد: مسودتان، والدهمة في اللغة السواد، يقال: فرس أدهم وبعير أدهم إذا اشتدت ورقته حتى ذهب البياض الذي فيه، وناقة دهماء وادهام أدهيماماً أي اسواد وسميت قرى العراق سواداً لكثرة خضرتها، والشاة الدهماء: الحمراء الخالصة الحمرة، ويقال للقيد: أدهم، وفي المختار: دهمهم الأمر غشيهم، وبابه فهم، وكذا دهمتهم الخيل ودهمهم بفتح الهاء لغة وقال ابن عباس: هما خضراوان قد اسودتا من الخضرة من الري من الماء وعن ابن الزبير نحوه.
" وعن أبي أيوب الأنصاري قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن قوله: (مُدْهَامَّتَانِ) قال خضروان " أخرجه الطبراني. وابن مردويه(13/346)
فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (65)
(فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) فإن جميعها نعم ظاهرة واضحة لا تجحد ولا تنكر.(13/346)
فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ (66)
(فيهما عينان نضاختان) ألنضخ فوران الماء من العين، والمعنى أن في الجنتين المذكورتين عينين فوارتين، قال أهل اللغة: والنضخ بالخاء المعجمة أكثر من النضح بالحاء المهملة، لأن بالحاء الرش، وبالخاء المعجمة فوران الماء، قاله السمين، قال الحسن ومجاهد: تنضخ على أولياء الله بالمسك والعنبر والكافور في دور أهل الجنة، كما ينضخ رش المطر، وقال سعيد بن جبير:(13/346)
تنضخ بأنواع الفواكه والماء، قال ابن عباس: فائضتان تنضخان بالماء، وقيل: بالخير والبركة على أهل الجنة(13/347)
فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (67)
(فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) فإنها ليست بموضع للتكذيب ولا بمكان للجحد.(13/347)
فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (68)
(فيهما فاكهة ونخل ورمان) هذا من صفات الجنتين المذكورتين قريباً والنخل والرمان -وإن كانا من الفاكهة- لكنهما خصصا بالذكر لمزيد حسنهما، وكثرة نفعهما بالنسبة إلى سائر الفواكه كما حكاه الزجاج والأزهري وغيرهما، وقيل: إنما خصهما لكثرتهما في أرض العرب، قال الخطيب، كانا عندهم في ذلك الوقت بمنزلة البر عندنا، لأن النخل عامة قوتهم، والرمان كالشراب، فكان يكثر غرسهما عندهم لحاجتهم إليهما، وكانت الفواكه عندهم الثمار التي يعجبون بها وقيل: خصهما لأن النخل فاكهة وطعام، والرمان فاكهة ودواء، وقد ذهب إلى أنهما من جملة الفاكهة جمهور أهل العلم، وبه قال الشافعي فيحنث بأكل أحدهما من حلف لا يأكل فاكهة، وحينئذ فعطفهما عليها من عطف الخاص على العام تفصيلاً ولم يخالف في ذلك إلا أبو حنيفة رحمه الله وقد خالفه صاحباه أبو يوسف ومحمد، وهو قول خلاف قول أهل اللغة ولا حجة له في الآية.(13/347)
فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (69)
(فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) فإن من جملها هذه النعم التي في جنات النعيم ومجرد الحكاية لها تؤثر في نفوس السامعين وتجذبهم إلى طاعة رب العالمين.(13/347)
فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ (70)
(فيهن خيرات حسان) قرأ الجمهور خيرات بالتخفيف وقرىء بالتشديد، فعلى الأولى هي جمع خيرة بزنة فعلة بسكون العين يقال: امرأة خيرة وأخرى شرة، أو جمع خيرة مخفف خيرة، وعلى الثانية جمع بالتشديد. قال الواحدي قال المفسرون: الخيرات النساء خيرات الأخلاق، حسان الوجوه قيل: وهذه الصفة عائدة إلى الجهات الأربع، ولا وجه لهذا، فإنه قد وصف نساء الجنتين الأوليين بأنهن قاصرات الطرف، كأنهن الياقوت والمرجان وبين الصفتين بون بعيد.(13/347)
" عن ابن مسعود في الآية قال: لكل مسلم خيرة ولكل خيرة خيمة، ولكل خيمة أربعة أبواب يدخل عليها من الله كل يوم تحفة وكرامة وهدية، لم يكن قبل ذلك لا مراحات ولا طماحات، ولا بخرات ولا دفرات، حور عين كأنهن بيض مكنون، وأخرجه ابن مردويه من وجه آخر عنه مرفوعاً.
واختلف أيهما أكثر حسناً؟ وأبهى جمالاً؟ هل الحور أو الآدميات؟ فقيل: الحور، لما ذكر من وصفهن في القرآن والسنة.
" كقوله عليه السلام في دعائه على الميت في الجنازة: وأبدله زوجاً خيراً من زوجه " وقيل الآدميات أفضل من الحور العين بسبعين ألف ضعف وروي مرفوعاً وقيل: إن الحور العين المذكورات في القرآن هن المؤمنات من أزواج الأنبياء والمؤمنين يخلقن في الآخرة على أحسن صورة، قاله الحسن، وفيه بعد بعيد، والمشهور أن الحور العين لسن من نساء أهل الدنيا، وإنما هن مخلوقات في الجنة، لأن الله قال: (لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان)، وأكثر نساء أهل الدنيا مطموثات " ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن أقل ساكني الجنة النساء فلا يصيب كل واحد منهم امرأة "، ووعد الحور العين لجماعتهم، فثبت أنهن من غير نساء الدنيا ذكره القرطبي.(13/348)
فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (71)
(فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) فإن شيئاًً منها كائناً ما كان لا يقبل التكذيب.(13/348)
حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ (72)
(حور مقصورات في الخيام) أي محبوسات فيها، ومنه القصر، لأنه يحبس من فيه، وقيل: مخدرات مستورات لا يخرجن، لكرامتهن وشرفهن، يقال: امرأة قصيرة وقصورة ومقصورة، أي: مخدرة، والحور جمع حوراء وهي شديدة بياض العين شديدة سوادها، وقد تقدم بيان معنى الحوراء والخلاف فيه وقيل: معنى مقصورات أنهن قصرن على أزواجهن فلا يردن غيرهم، وحكاه الواحدي عن المفسرين، والأول أولى، وبه قال أبو عبيدة ومقاتل وغيرهما قال في الصحاح: قصرت الشيء أقصره قصراً حبسته، والمعنى أنهن خدرن في الخيام(13/348)
والخيام جمع خيمة، وقيل: جمع خيم والخيم جمع خيمة، وهي أعواد تنصب وتظلل بالثياب فتكون أبرد من الأخبية، قيل الخيمة من خيام الجنة درة مجوفة، فرسخ في فرسخ.
قال ابن عباس: مقصورات محبوسات في الخيام، قال: في بيوت اللؤلؤ، وقال: الحور سود الحدق.
" وعن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم: قال الخيام در مجوف "، أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم.
وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما. " عن أبي موسى الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسدم قال: الخيمة درة مجوفة طولها في السماء ستون ميلاً، في كل زاوية منها للمؤمن أهل لا يراهم الآخرون يطوف عليهم المؤمن ".(13/349)
فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (73)
(فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا) الذي صوركم فأحسن صوركم، وجعل لكم في الجنة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر (تُكَذِّبَانِ)؟ أبهذه النعم؟ أم بغيرها.(13/349)
لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ (74)
(لم يطمثهن إنس قبلهم) أي: قبل أصحاب الجنتين، ودل عليهم ذكر الجنتين (ولا جان) وقد تقدم تفسيره في صفة الجنتين الأوليين(13/349)
فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (75)
(فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) فإنها كلها نعم لا تكفر ومنن لا تجحد.(13/349)
مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ (76)
(متكئين على رفرف خضر) قرأ الجمهور رفرف على الإفراد، وقرىء رفارف على الجمع، وقرىء خضر بضم الخاء وسكون الضاد المعجمة وبضمها وهي لغة قليلة، قال أبو عبيدة: الرفارف البسط، وبه قال الحسن ومقاتل والضحاك وغيرهم. وقال ابن عيينة: هي الزرابي. وقال ابن كيسان: هي المرافق، وروي عن أبي عبيدة أنه قال: هي حاشية الثوب، وقال الليث: ضرب من الثياب الخضر، وقيل: الفرش المرتفعة، وقيل: كل ثوب عريض قال في الصحاح: والرفرف ثياب خضر يتخذ منهما المحابس الواحدة رفرفة(13/349)
اسم جمع، أو اسم جنس جمعي، نقلهما مكي. وقال الزجاج: قالوا: الرفرف هنا رياض الجنة، وقالوا الرفرف: الوسائد، وقيل: المحابس انتهى. وقيل: الطنافس، ومن القائلين بأنها رياض الجنة خضر مخصبة سعيد بن جبير، واشتقاق الرفرف من رف يرف إذا ارتفع، ومنه رفرفة الطائر، وهي تحريك جناحيه في الهواء، وقال ابن عباس: رفرف فضول المحابس والفرش والبسط، وعن علي قال: هي فضول المحابس.
(وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ) أي الزرابي والطنافس الموشية، قال ابن عباس العبقري الزرابي، والرفرف الرياض، قال أبو عبيدة: كل وشي من البسط عبقري، وهو منسوب إلى أرض يعمل فيها الوشي، قال الفراء: العبقري الطنافس الثخان وقيل: الرقيق، وقيل: البسط، وقيل: الديباج، قال ابن الأنباري: الأصل فيه أن عبقر قرية تسكن فيها الجن ينسب إليها كل فائق، قال الخليل: العبقري عند العرب كل جليل فاضل، فاخر من الرجال والنساء. قال الجوهري: العبقري موضع تزعم العرب أنه من أرض الجن، ثم نسبوا إليه كل شيء تعجبوا من حذقه وجودة صنعته وقوته، فقالوا عبقري وهو واحد وجمع، قرأ الجمهور عبقري وقرىء عباقري وعباقر، وهما نسبة إلى عباقر اسم بلد، وقال قطرب: ليس بمنسوب، وهو مثل كرسي وكراسي وبختي وبخاتي.(13/350)
فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (77)
(فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ)؟ فإن كل واحد منها أجل من أن يتطرق إليه التكذيب، وأعظم من أن يجحده جاحد، أو ينكره منكر، وقد قدمنا في أوائل هذه السورة وجه تكرير هذه الآية فلا نعيده.(13/350)
تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (78)
(تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ) قرأ الجمهور بالجر على أنه صفة للرب سبحانه، وقرىء بالرفع على أنه صفة للاسم، وتبارك تفاعل من البركة، قال الرازي: وأصل التبارك من التبرك، وهو الدوام والثبات ومنه برك البعير وبركة الماء، فإن الماء يكون دائماً، والمعنى دام اسمه، وثبت أو دام(13/350)
الخير عنده، لأن البركة وإن كانت من الثبات لكنها تستعمل في الخير، أو يكون معناه علا، وارتفع شأنه، وقيل: معناه تنزيه الله سبحانه وتقديسه.
وإذا كان هذا التبارك منسوباً إلى اسمه عز وجل فما ظنك بذاته سبحانه.
وقيل: الاسم بمعنى الصفة، وقيل: هو مقحم.
" عن عائشة قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا سلم من الصلاة لم يقعد إلا مقدار ما يقول اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإِكرام " (1)، أخرجه أبو داود والنسائي غير قولها: إلا مقدار ما يقول.
" وعن ثوبان قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا انصرف من صلاته استغفر ثلاثاً وقال اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام " أخرجه مسلم وقد تقدم تفسير ذي الجلال والإِكرام في هذه السورة، وذكر سليمان الجمل هنا كلاماً طويلاً يتعلق بشرح هذه الآيات من تذكرة القرطبي وغالبه في تفسيره لا نطول بذكره لقلة الفائدة.
_________
(1) رواه النسائي.(13/351)
سورة الواقعة
(هي ست أو سبع أو تسع وتسعون آية)
وهي مكية في قول الحسن وعكرمة وجابر وعطاء، وقال ابن عباس وقتادة: إلا آية منها نزلت بالمدينة، وهي قوله تعالى: (وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ) وقال الكلبي: إنها مكيّة إلا أربع آيات منها، وهي: (أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ)؟ (وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ)، نزلتا في سفره إلى مكة، وقوله: (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ) نزلتا في سفره إلى المدينة قال ابن عباس: نزلت الواقعة بمكة، عن ابن الزبير مثله.
وعن ابن مسعود: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، يقول: " من قرأ سورة الواقعة كل ليلة لم تصبه الفاقة أبداً " (1)، أخرجه البيهقي في الشعب، والحرث بن أبي أسلمة، وأبو يعلى، وابن مردويه وعن ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " سورة الواقعة سورة الغنى فاقرأوها وعلموا أولادكم " أخرجه ابن عساكر.
وعن أنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال " علموا نساءكم سورة الواقعة فإنها سورة الغنى " أخرجه الديلمي.
وقد تقدم قوله - صلى الله عليه وسلم -: شيبتني هود والواقعة قال مسروق من أراد أن يعلم نبأ الأولين والآخرين، ونبأ أهل الجنة ونبأ أهل النار، ونبأ أهل الدنيا ونبأ أهل الآخرة فليقرأ سورة الواقعة.
_________
(1) هذا الحديث والذي بعده غير صحيح. المطيعي.(13/353)
بسم الله الرحمن الرحيم
إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (1) لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ (2) خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ (3) إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (4) وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا (5) فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا (6) وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً (7) فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (8) وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (9) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (12) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (14) عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (15) مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ (16) يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ (17) بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (18) لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ (19) وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (20) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (21)
(بسم الله الرحمن الرحيم(13/355)
إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (1)
إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ) أي قامت القيامة، وقيل: إذا نزلت صيحة القيامة، قال المفسرون: وهي النفخة الأخيرة الثانية وقيل: هي اسم للقيامة كالآزفة وغيرها، وسميت الواقعة لأنها كائنة لا محالة أو لقرب وقوعها أو لكثرة ما يقع فيها من الشدائد، أي اذكر وقت وقوع الواقعة أو إذا وقعت كان كيت وكيت قاله مكي، وقيل: غير ذلك.(13/355)
لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ (2)
(ليس لوقعتها كاذبة) الكاذبة مصدر كالعاقبة أي ليس لمجيئها وظهورها كذب أصلاً، والمعنى أنها إذا وقعت النفخة الآخرة عند البعث لم يكن هناك تكذيب لها أصلاً أو لا تكون هناك نفس تكذب على الله وتكذب بما أخبر عنه من أمور الآخرة، ووقوع القيامة لأن كل نفس تكذب حينئذ مؤمنة صادقة مصدقة، وأكثر النفوس اليوم كواذب مكذبات واللام كقوله تعالى (يا ليتني قدمت لحياتي)، وقال الزجاج: معناه لا يردها شيء، وبه قال الحسن وقتادة وقال الثوري: ليس لوقعتها أحد يكذب بها، وقال الكسائي: ليس لها تكذيب، أي لا ينبغي أن يكذب بها أحد وقال ابن عباس: ليس لها مرد يرد.(13/355)
خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ (3)
(خافضة رافعة) قرأ الجمهور برفعهما على إضمار مبتدأ أي هي خافضة، وقرىء بنصبهما على الحال، والجملة تقرير لعظمتها، وتهويل لأمرها، فإن الوقائع العظام شأنها كذلك، أو بيان لما يكون يومئذ من حط الأشقياء إلى الدركات ورفع السعداء إلى الدرجات، ومن زلزلة الأشياء وإزالة الأجرام عن مقارها لنثر الكواكب وإسقاط السماء كسفاً، وغير ذلك، قال عكرمة والسدي ومقاتل: خفضت الصوت فأسمعت من دنا، ورفعت الصوت فأسمعت من نأى وقال قتادة: خفضت أقواماً في عذاب الله، ورفعت أقواماً إلى طاعة الله.
وقال محمد بن كعب: خفضت أقواماً كانوا في الدنيا مرفوعين، ورفعت أقواماً كانوا في الدنيا مخفوضين، والعرب تستعمل الخفض والرفع في المكان والمكانة، والعز والإهانة، ونسبة الخفض والرفع إليها على طريق المجاز، والخافض والرافع في الحقيقة هو الله سبحانه، قال ابن عباس: (خافضة رافعة) تخفض ناساً وترفع آخرين، وعنه قال: أسمعت القريب والبعيد، وعن عمر بن الخطاب قال: الساعة خفضت أعداء الله إلى النار، ورفعت أولياء الله إلى الجنة.(13/356)
إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (4)
(إذا رجت الأرض رجاً) أي إذا حركت حركة شديدة، يقال: رجه يرجه رجاً إذا حركه، والرجة الاضطراب. وارتج البحر وغيره اضطرب، قال المفسرون: ترتج كما يرتج الصبي في المهد حتى ينهدم كل ما عليها، وينكسر كل شيء من الجبال وغيرها(13/356)
وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا (5)
(وبست الجبال بساً) البس الفت، يقال: بس الشيء إذا فته حتى يصير فتاتاً، ويقال: بس السويق إذا لَتَّهُ بالسمن أو بالزيت، قال مجاهد ومقاتل: المعنى أن الجبال فتت فتاً، وبه قال ابن عباس، وقال السدي: كسرت كسراً، وقال الحسن: قلعت من أصلها، وقال مجاهد أيضاً: بست كما يبس الدقيق بالسمن أو بالزيت، والمعنى أنها خلطت فصارت كالدقيق الملتوت.(13/356)
وقال أبو زيد: البس السوق، والمعنى على هذا سيقت " جبال سوقاً قال أبو عبيد: بس الإبل وابتسها لغتان إذا زجرها، وقال عكرمة: المعنى هدت هداً، وقيل: صارت كثيباً مهيلاً بعد أن كانت شامخة، وقال قتادة ومقاتل وابن عباس ومجاهد: معنى رجت زلزلت، أي تخفض وترفع وقت رج الأرض وبس الجبال لأنه عند ذلك يرتفع ما هو منخفض وينخفض ما هو مرتفع وقيل المعنى وقوع الواقعة هو رج الأرض وبس الجبال.(13/357)
فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا (6)
(فكانت هباء منبثاً) أي غباراً متفرقاً منتشراً بنفسه، من غير حاجة إلى هواء يفرقه، وقال مجاهد: الهباء الشعاع الذي يكون في الكوة كهيئة الغبار، وقيل: هو الرهج الذي يسطع من حوافر الدواب ثم يذهب، وقيل ما تطاير من النار إذا اضطرمت يطير منها على صورة الشرر، فإذا وقع لم يكن شيئاًً، قاله ابن عباس وعطية، وقد تقدم بيانه في الفرقان عند تفسير قوله: (فجعلناه هباء منثوراً)، قرأ الجمهور منبثاً بالمثلثة، وقرىء بالمثناة الفوقية، أي: منقطعاً من قولهم: بته الله أي قطعه.
وقال ابن عباس: شعاع الشمس، وعنه الهباء ما يثور مع شعاع الشمس وانبثاثه تفرقه، وقال علي: الهباء المنبث رهج الدواب والهباء المنثور غبار الشمس الذي تراه في شعاع الكوة، ثم ذكر سبحانه أحوال الناس واختلافهم فقال:(13/357)
وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً (7)
(وكنتم أزواجاً ثلاثة) الخطاب للأمة الحاضرة والأمم السالفة تغليباً أو للحاضرة فقط، والمعنى وكنتم في ذلك اليوم أصنافاً ثلاثة، اثنان في الجنة واحد في النار، صنف يشاكل ما هو منه كما يشاكل الزوج الزوجة وكل صنف يكون أو يذكر مع صنف آخر فهو زوج، قال ابن عباس: الأزواج الأصناف وهي التي في سورة الملائكة (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ)، ثم فسر سبحانه هذه الأصناف فقال:(13/357)
فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (8)
(فأصحاب الميمنة) وهي ناحية اليمين، أي أصحاب اليمين وهم الذين يأخذون كتبهم بأيمانهم أو الذين تؤخذ بهم ذات اليمين إلى الجنة، وأصحاب الميمنة مبتدأ خبره (ما أصحاب الميمنة)؟ أي أيُّ شيء هم في حالهم وصفتهم وسعادتهم؟ وتكرير المبتدأ هنا بلفظة مغن عن الضمير الرابط كما في قوله (الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ)، و (الْقَارِعَةُ (1) مَا الْقَارِعَةُ) ولا يجوز مثل هذا إلا في مواضع التعظيم والتفخيم.
والكلام في قوله:(13/358)
وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (9)
(وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ)؟ كالكلام فيما تقدم، والمراد بهم الذين يؤخذ بهم ذات الشمال إلى النار، أو يأخذون صحائف أعمالهم بشمائلهم، والمراد تعجيب السامع من حال الفريقين في الفخامة والفظاعة، كأنه قيل فأصحاب الميمنة في نهاية السعادة وغاية حسن الحال، وأصحاب المشأمة في نهاية الشقاوة وغاية سوء الحال، فالاستفهام في كلا الموضعين للتعجيب، وقال السدي: أصحاب المشأمة هم الذين كانوا عن شماله، وقال زيد بن أسلم: أصحاب الميمنة هم الذين أخذوا من شق آدم الأيمن، وأصحاب المشأمة هم الذين أخذوا من شقه الأيسر، وقال ابن جريج: أصحاب الميمنة هم أهل الحسنات، وأصحاب المشأمة هم أهل السيئات.
وقال الحسن والربيع: أصحاب الميمنة هم الميامين على أنفسهم بالأعمال الحسنة، وأصحاب المشأمة هم المشائيم على أنفسهم بالأعمال القبيحة، وقال المبرد: أصحاب الميمنة أصحاب التقدم، وأصحاب المشأمة أصحاب التأخر، والعرب تقول: اجعلني في يمينك ولا تجعلني في شمالك، أي اجعلني من المتقدمين ولا تجعلني من المتأخرين، وقيل: المراد أصحاب المنزلة السنية الرفيعة، وأصحاب المنزلة الدنية الخسيسة، أخذاً من تيامنهم بالميامن، وتشاؤمهم بالشمائل.
أخرج أحمد عن معاذ بن جبل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، تلا(13/358)
هذه الآية: (وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ) (وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ)، فقبض بيديه قبضتين فقال: هذه في الجنة ولا أبالي، وهذه في النار ولا أبالي.(13/359)
وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10)
(وَالسَّابِقُونَ) مبتدأ وخبره قوله: (السَّابِقُونَ) والتكرير فيه للتفخيم والتعظيم كما مر في القسمين الأولين، كما نقول: أنت أنت وزيد زيد، وفيه تأويلان.
أحدهما بمعنى السابقون، هم الذين اشتهرت حالهم بذلك، وعرفت محاسنهم.
والثاني أن متعلق السبقين مختلف، والتقدير: السابقون إلى الإِيمان السابقون إلى الجنة، والأول أولى، لما فيه من الدلالة على التفخيم والتعظيم، وقال الحسن وقتادة: هم السابقون إلى الإيمان من كل أمة عند ظهور الحق من غير تلعثم وتوان، وقال محمد بن كعب: إنهم الأنبياء وقال ابن سيرين: هم الذين صلوا إلى القبلتين، وقيل: هم الذين سبقوا في حيازة الفضائل والكمالات، وقيل: هم السابقون إلى الصلوات الخمس، وقيل: المسارعون في الخيرات، وقال مجاهد: هم الذين سبقوا إلى الجهاد وبه قال الضحاك.
وقال سعيد بن جبير: هم السابقون إلى التوبة وأعمال البر، وقال الزجاج: المعنى والسابقون إلى طاعة الله هم السابقون إلى رحمة الله، قال ابن عباس: السابقون يوشع بن نون سبق إلى موسى، ومؤمن آل ياسين سبق إلى عيسى، وعلي بن أبي طالب كرم الله وجهه سبق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعنه قال: نزلت في حزقيل مؤمن آل فرعون، وحبيب النجار الذي ذكر في يس، وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه، وكل رجل منهم سابق أمة، وعلي أفضلهم سبقاً.
" وعن عائشة رضي الله عنها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه قال: أتدرون من السابقون إلى ظل الله يوم القيامة؟ قالوا: الله ورسوله أعلم(13/359)
قال: الذين إذا أعطوا الحق قبلوه، وإذا سئِلوا بذلوا، وحكموا للناس كحكمهم لأنفسهم " (1) أخرجه أحمد،
_________
(1) رواه أحمد.(13/360)
أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (12)
قيل ووجه تأخير هذا الصنف الثالث، مع كونه أشرف من الصنفين الأولين، وأسبق الأقسام وأقدمهم في الفضل، هو أن يقترن به ما بعده وهو قوله: (أولئك المقربون في جنات النعيم) فالإشارة هي إليهم، أي: المقربون إلى جزيل ثواب الله، وعظيم كرامته، أو الذين قربت إلى العرش العظيم درجاتهم، وأعليت مراتبهم، ورقت إلى حظائر القدس نفوسهم الزكية.
وما في أولئك من معنى البعد مع قرب العهد بالمشار إليه للإيذان ببعد منزلتهم في الفضل، ومحله الرفع على الإبتداء، وخبره ما بعده، هذا أظهر ما ذكر في إعراب هذه الجملة، وأشهره وهو الذي يقتضيه جزالة التنزيل، وجنات النعيم، خبر ثان، أو حال من الضمير في المقربون، أو متعلق به؛ أي: قربوا إلى رحمة الله فيها، قرأ الجمهور جنات بالجمع، وقرىء جنة بالإفراد وإضافة الجنات إلى النعيم من إضافة المكان إلى ما يكون فيه، كما يقال: دار الضيافة، ودار الدعوة، ودار العدل.(13/360)
ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13)
(ثلة من الأولين) أي هم ثلة، وهي الجماعة التي لا يحصر عددها، قال الزجاج: معنى ثلة فرقة من ثللت الشيء إذا قطعته، والمراد بالأولين هم الأمم السابقة من لدن آدم إلى نبينا صلى الله عليه وسلم، من بينهما من الأنبياء العظام(13/360)
وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (14)
(وقليل من الآخرين) أي من هذه الأمة وسموا قليلاً بالنسبة إلى من كان قبلهم، وهم كثيرون لكثرة الأنبياء فيهم، وكثرة من أجابهم قال الحسن: سابقو من مضى أكثر من سابقينا، قال الزجاج: الذين عاينوا جميع الأنبياء وصدقوا بهم أكثر ممن عاين النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يخالف هذا ما ثبت في الصحيح.
" من قوله صلى الله عليه وسلم، إني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة،(13/360)
ثم قال: ثلث أهل الجنة، ثم قال: نصف أهل الجنة " (1)، لأن قوله (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ) إنما هو تفصيل للسابقين فقط كما سيأتي في ذكر أصحاب اليمين أنهم ثلة من الأولين وثلة من الآخرين فلا يمتنع أن يكون في أصحاب اليمين من هذه الأمة من هو أكثر من أصحاب اليمين من غيرهم فيجتمع من قليل سابقي هذه الأمة ومن ثلة أصحاب اليمين منها من يكون نصف أهل الجنة.
والمقابلة بين الثلتين في أصحاب اليمين لا تستلزم استواءهما، لجواز أن يقال: هذه الثلة أكثر من هذه الثلة. كما يقال؛ هذه الجماعة أكثر من هذه الجماعة وهذه الفرقة أكثر من هذه الفرقة وهذه القطعة أكثر من هذه القطعة وبهذا تعرف أنه لم يصب من قال: إن هذه الآية منسوخة بالحديث المذكور عن أبي هريرة قال: لما نزلت (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ) شق ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلت: (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (39) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ) فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " إني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة، ثلث أهل الجنة، بل أنتم نصف أهل الجنة، أو شطر أهل الجنة، وتقاسمونهم النصف الثاني " أخرجه أحمد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه.
ثم ذكر سبحانه حالة أخرى للسابقين المقربين فقال:
_________
(1) رواه مسلم.(13/361)
عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (15)
(عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ) قرأ الجمهور بضم السين والراء الأولى، وقرىء بفتح الراء، وهي لغة كما تقدم، جمع سرير، وهو ما يجعل للإنسان من المقاعد العليا، الموضوعة للراحة والكرامة، والموضونة المنسوجة، والوضن النسج المضاعف، يقال: وضن الشيء يضنه فهو موضون ووضين، ثنى بعضه على بعض وضاعفه، والغزل نسجه، والموضونة الدرع المنسوجة أو المتقاربة النسج، أو المنسوجة حلقتين حلقتين، أو بالجواهر، كذا في القاموس. قال الواحدي: قال المفسرون: منسوجة بقضبان الذهب، وقيل:(13/361)
مشبكة بالدر والياقوت والزبرجد، وقيل: إن الموضونة المصفوفة، قاله ابن عباس، وقال مجاهد: هي المرمولة بالذهب، والمعنى مستقرين على سرر.(13/362)
مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ (16)
(متكئين عليها) أي على السرر على الجنب أو غيره، كحال من يكون على كرسي فيوضع تحته شيء آخر للإتكاء عليه، قال الكلبي: طول كل سرير ثلثمائة ذراع فإذا أراد العبد، أن يجلس عليه تواضع وانخفض له، فإذا جلس ارتفع (متقابلين) لا ينظر بعضهم إلى قفا بعض، وصفوا بحسن العشرة، وتهذيب الأخلاق، وصفاء المودة، وقال مجاهد وغيره: هذا في المؤمن وزوجته وأهله.(13/362)
يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ (17)
(يطوف عليهم ولدان مخلدون) أي يدور حولهم للخدمة غلمان شكلهم شكل الولدان دائماً، والجملة حالية أو مستأنفة لبيان بعض ما أعد الله لهم من النعيم، قال مجاهد: المعنى لا يموتون، وقال الحسن والكلبي: لا يهرمون ولا يتغيرون ولا ينتقلون من حالة إلى حالة، مبقون أبداً، قال الفراء: والعرب تقول للرجل إذا كبر ولم يشمط: إنه لمخلد، وقال سعيد بن جبير: مخلدون مقرطون، قال الفراء: يقال: خلد جاريته إذا حلاها بالخلدة، وهي القرطة، وهي الحلقة تعلق في الأذن. وقال عكرمة: مخلدون منعمون، وقيل: مستورون بالحلية، وروي نحوه عن الفراء، وقيل: مخلدون ممنطقون قيل: وهم ولدان المسلمين الذين يموتون صغاراً لا حسنة لهم ولا سيئة، وهو ضعيف، وقيل: هم أطفال المشركين ماتوا قبل التكليف ولا يبعد أن يكونوا مخلوقين في الجنة ابتداء، كالحور العين من غير ولادة، للقيام بهذه الخدمة، ليسوا من أولاد الدنيا وهذا هو الصحيح. وأطلق عليهم اسم الولدان لأن العرب تسمي الغلام وليداً ما لم يحتلم، والأمة وليدة وإن أسنت.(13/362)
بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (18)
(بأكواب وأباريق) الأكواب هي الأقداح المستديرة الأفواه، التي لا آذان لها ولا عرى، وقد مضى بيان معناها في سورة الزخرف، والأباريق هي ذوات العرى والخراطيم، واحدها ابريق وهو الذي يبرق لونه من صفائه، ويرى باطنها كما يرى ظاهرها.(13/362)
(وكأس) إناء (من معين) أي من خمر جارية، أو من ماء جار، والمراد به هنا الخمر الجارية من منبع لا ينقطع أبداً، وقد تقدم بيان معنى الكأس في سورة الصافات.(13/363)
لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ (19)
(لا يصدعون عنها) أي لا تتصدع رؤوسهم من شربها كما تتصدع من شرب خمر الدنيا، وعنها كناية عن الكأس أي بسببها، والصداع هو الداء المعروف الذي يلحق الإنسان في رأسه، والخمر تؤثر فيه، وقيل: المعنى لا يتفرقون كما يتفرق الشراب، ويقوي هذا المعنى قراءة مجاهد: يصدعون بفتح الياء وتشديد الصاد، والأصل يتصدعون أي يتفرقون، والجملة مستأنفة لبيان ما أعد الله لهم من النعيم.
(ولا ينزفون) أي لا يسكرون فتذهب عقولهم، قرىء بكسر الزاي وبفتحها، وهما سبعيتان، من أنزف الشارب ونزف إذا نفد عقله أو شرابه، أي لا يحصل لهم منها ذهاب عقل، بخلاف خمر الدنيا(13/363)
وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (20)
(وفاكهة مما يتخيرون) أي يختارونه، يقال: تخيرت الشيء إذا أخذت خيره.(13/363)
وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (21)
(ولحم طير مما يشتهون) أي ما يتمنون وتشتهيه أنفسهم، والمعنى يطوفون عليهم بهذه الأشياء المأكول والمشروب والمنفكه به، قرأ الجمهور فاكهة ولحم طير بالجر، وقرىء بالرفع على الابتداء، والخبر مقدر، أي ولهم فاكهة ولحم طير، وفي تخصيص الفاكهة بالتخير واللحم بالاشتهاء بلاغة، لأن الجائع مشته والشبعان غير مشته، بل هو مختار، ولذا قدم الفاكهة على اللحم.
" عن ابن مسعود قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنك لتنظر إلى الطير في الجنة فتشتهيه، فيخر بين يديك مشوياً " أخرجه ابن أبي ائدنيا والبزار والبيهقي.
وأخرج أحمد والترمذي والضياء " عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، إن طير الجنة كأمثال البخت ترعى في شجر الجنة، فقال أبو بكر: يا رسول الله إن هذه الطير لناعمة. قال: آكلها أنعم منها، وإني لأرجو أن تكون ممن يأكل منها "، وفي الباب أحاديث.(13/363)
وَحُورٌ عِينٌ (22) كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (23) جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا (25) إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا (26) وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ (27) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (28) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (29) وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (30) وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ (31) وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (32) لَا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ (33) وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (34) إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً (35) فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا (36) عُرُبًا أَتْرَابًا (37) لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ (38) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (39) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (40) وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ (41) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (42) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (43)(13/364)
وَحُورٌ عِينٌ (22)
(وَحُورٌ عِينٌ) قرأ الجمهور برفعهما عطفاً على الولدان، أو على تقدير مبتدأ أي ونساؤهم حور عين، أو على تقدير خبر، أي: ولهم حور عين، وقرىء بجرهما عطفاً على أكواب، قال الزجاج: وجائز أن يكون معطوفاً على جنات، أي هم في جنات وفي حور، على تقدير مضاف، أي وفي معاشره حور، قال قطرب: هو معطوف على الأكواب من غير حمل على المعنى، قال: ولا ينكر أن يطاف عليهم بالحور، وتكون لهم في ذلك لذة وقرىء بنصبهما على تقدير إضمار فعل، كأنه قيل ويزوجون حوراً عيناً أو ويعطون، والحور شديدات بياض أجسادهن، قال أبو عمرو: ليس في بني آدم حور، وإنما قيل للنساء حور العيون تشبيها بالظباء والبقر، والعين شديدات سواد العيون مع سعتها، وقد تقدم تفسير الحور العين في سورة الطور وغيرها.(13/364)
كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (23)
(كأمثال اللؤلؤ المكنون) المصون في الصفاء والنقاء، شبهن باللؤلؤ المكنون وهو الذي لم تمسه الأيدي، ولا وقع عليه الغبار، والشمس والهواء فهو أشد ما يكون صفاء، قال ابن عباس: المكنون المخزون الذي في الصدف قال الزجاج: كأمثال الدرحين يخرج من صدفه لم يغيره الزمان، واختلاف أحوال الاستعمال، روي أن نوراً سطع في الجنة فقيل: ما هذا؟(13/364)
قيل ثغر حوراء ضحكت(13/365)
جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24)
(جزاء بما كانوا يعملون) أي يفعل بهم ذلك كله للجزاء بأعمالهم أي يجزون جزاء.(13/365)
لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا (25)
(لا يسمعون فيها لغواً ولا تأثيماً) اللغو الباطل من الكلام، والتأثيم النسبة إلى الإثم، قال محمد بن كعب: لا يؤثم بعضهم بعضاً، وقال مجاهد: لا يسمعون شتماً ولا مأثماً، والمعنى: إنه لا يقول بعضهم لبعض، أثمت، لأنهم لا يتكلمون بما فيه إثم، قال ابن عباس: لغواً باطلاً، ولا تأثيماً كذباً.(13/365)
إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا (26)
(إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا) القيل القول، والاستثناء منقطع، لأن السلام لم يندرج تحت اللغو التأثيم، أي لكن يقولون قيلاً، أو يسمعون قيلاً، أو إلا أن يقولوا: سلاماً سلاماً، واختار هذا الزجاج، أو إلا قيلاً سلموا سلاماً سلاماً، والمعنى: إنهم لا يسمعون إلا تحية بعضهم البعض، قال عطاء: يحيي بعضهم بعضاً بالسلام، وقيل: إنهم يفشون سلاماً بينهم فيسلمون سلاماً بعد سلام، وقيل: تسلم الملائكة عليهم، أو يرسل الرب بالسلام إليهم، وقيل إن قولهم يسلم من اللغو والأول أولى، وقيل: إن الاستثناء متصل، وهو بعيد جداً، وقرىء سلام سلام بالرفع، وقيل: يجوز الرفع على معنى سلام عليكم، ولما فرغ سبحانه من ذكر أحوال السابقين وما أعده لهم من النعيم المقيم ذكر أحوال أصحاب اليمين فقال:(13/365)
وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ (27)
(وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ)؟ قد قدمنا ما في هذه الجملة الاستفهامية من التفخيم والتعظيم(13/365)
فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (28)
(في سدر مخضود) أي هم في سدر، والظرفية للمبالغة في التنعم، والانتفاع به، والسدر نوع من الشجر، قيل: ثمرها أعظم من القلال، وهو النبق، والمخضود الذي خضد شوكه، أي قطع فلا شوك فيه، وقال الضحاك ومجاهد ومقاتل بن حيان: إن السدر المخضود الموقر حملاً.(13/365)
وقد أخرج الحاكم وصححه والبيهقي. " عن أبي أمامة قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقولون: إن الله ينفعنا بالأعراب ومسائلهم، أقبل أعرابي يوماً فقال: يا رسول الله ذكر في القرآن شجرة مؤذية، وما كنت أرى في الجنة شجرة تؤذي صاحبها، قال وما هي؟ قال السدر: فإن لها شوكاً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أليس الله يقول في سدر مخضود؟ يخضد الله شوكه فيجعل مكان كل شوكة ثمرة، فإنها تنبت ثمراً يتفتق الثمر منها عن اثنين وسبعين لوناً من الطعام ما منها لون يشبه الآخر ". قال ابن عباس: خضده وقره من الحمل، وعنه قال المخضود الذي لا شوك فيه، وقال أيضاًً الموقر الذي لا شوك فيه.(13/366)
وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (29)
(وطلح منضود) قال أكثر المفسرين: إن الطلح في الآية هو شجر الموز، وقال جماعة ليس هو شجر الموز ولكنه الطلح المعروف وهو أعظم أشجار العرب. وقال الفراء وأبو عبيدة: هو شجر عظام لها شوك، وقيل: هو شجر له ظل بارد طيب، قال الزجاج: الطلح هو أم غيلان ولها نور طيب، فخوطبوا ووعدوا بمثل ما يحبون، إلا أن فضله على ما في الدنيا كفضل سائر ما في الجنة على ما في الدنيا، قال: ويجوز أن يكون في الجنة وقد أزيل شوكه، قال السدي: طلح الجنة يشبه طلح الدنيا، لكن له ثمر أحلى من العسل، والمنضود المتراكب الذي قد نضد أوله وآخره وأسفله وأعلاه بالحمل ليس له سوق بارزة، قال مسروق: أشجار الجنة من عروقها إلى أفنانها نضيد ثمر كله كلما أخذت ثمرة عاد مكانها أحسن منها، وليس شيء من ثمر الجنة في غلاف كثمر الدنيا، مثل الباقلاء والجوز ونحوهما بل كلها مأكول ومشروب ومشموم ومنظور إليه.
" عن عتبة بن عبد السلمي قال: كنت جالساً مع النبي صلى الله عليه وسلم، فجاء أعرابي فقال: يا رسول الله أسمعك تذكر في الجنة شجرة لا أعلم شجرة أكثر منها شوكاً يعني الطلح، فقال رسول الله صلى الله عليه(13/366)
وسلم: إن الله يجعل مكان كل شوكة منها ثمرة مثل خصية التيس الملبود، يعني الخصي منها، فيها سبعون لوناً من الطعام، لا يشبه لون آخر " أخرجه ابن أبي داود والطبراني وأبو نعيم وابن مردويه، وعن علي في قوله طلح قال: هو الموز، وعن ابن عباس مثله؛ وعن أبي هريرة مثله، وعن أبي سعيد الخدري مثله، وقرأ علي طلع، وقال ابن عباس: منضود بعضه على بعض.(13/367)
وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (30)
(وظل ممدود) أي دائم باق لا يزول، ولا تنسخه الشمس كظل أهل الدنيا، ممتد منبسط، كظل ما بين طلوع الفجر وطلوع الشمس، قال أبو عبيدة والعرب تقول لكل شيء طويل لا ينقطع ممدود، ومنه قوله (ألم تر إلى ربك كيف مد الظل)، والجنة كلها ظل لا شمس معه، قال الربيع بن أنس يعني ظل العرش.
وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما " من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها، اقرأوا إن شئتم (وظل ممدود)، وأخرج البخاري وغيره نحوه من حديث أنس وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما نحوه من حديث أبي سعيد.(13/367)
وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ (31)
(وماء مسكوب) أي: منصب جار يجري بالليل والنهار أينما شاؤوا، لا ينقطع عنهم، فهو مسكوب، يسكبه الله في مجاريه، وأصل السكب الصب يقال: سكبه سكباً أي: صبه، والمعنى جار بلا حد ولا خد، أي في غير أخدود.(13/367)
وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (32)
(وفاكهة كثيرة) أي ألوان متنوعة، وأجناس متكثرة(13/367)
لَا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ (33)
(لا مقطوعة) في وقت من الأوقات كما تنقطع فواكه الدنيا في بعض الأوقات، وهذا نعت لفاكهة، ولا للنفي كقولك: مررت برجل لا طويل ولا قصير، ولذلك لزم تكرارها (ولا ممنوعة) أي لا تمتنع على من أرادها في أي وقت، على أي صفة شاء، بل هي معدة لمن أرادها، لا يحول بينه وبينها حائل من ثمن أو حائط أو باب أو سلم أو بعد، قال تعالى: (وذللت قطوفها تذليلاً) قال ابن قتيبة: يعني أنها غير محظورة عليها، كما يحظر على البساتين في الدنيا.(13/367)
وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (34)
(وفرش مرفوعة) أي مرفوع بعضها فوق بعض، أو مرفوعة على الأسرة، وقيل: إن الفرش هنا كناية عن النساء اللواتي في الجنة وارتفاعها كونها على الأرائك، أو كونها مرتفعات الأقدار في الحسن والكمال، قال تعالى: (هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ).
" عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم، في قوله: (وفرش مرفوعة) قال: ارتفاعها كما بين السماء والأرض ومسيرة ما بينهما خمسمائة عام "، أخرجه أحمد والنسائي والترمذي وحسنه، وغيرهم، وقال الترمذي: غريب لا نعرفه إلا من حديث رشدين بن سعد، انتهى. وهو ضعيف.(13/368)
إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً (35)
(إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً) قيل: هن الحور العين، أنشأهن الله لم تقع عليهن الولادة، ولم يسبقن بخلق، وإنهن لسن من نسل آدم عليه السلام، بل مخترعات: وهو ما جرى عليه أبو عبيدة وغيره، وقيل: المراد نساء بني آدم والمعنى أن الله سبحانه أعادهن بعد الموت إلى حال الشباب، والنساء -وإن لم يتقدم لهن ذكر- لكنهن قد دخلن في أصحاب اليمين فتلخص أن نساء الدنيا يخلقهن الله في القيامة خلقاً جديداً، من غير توسط ولادة، خلقاً يناسب البقاء والدوام، وذلك يستلزم كمال الخلق، وتوفر القوى الجسمية، وانتفاء سمات النقص، كما أنه خلق الحور العين على ذلك الوجه، وأما على قول من قال: إن الفرش المرفوعة كناية عن النساء فمرجع الضمير ظاهر.
" عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، في الآية: إن المنشئآت التي كن في الدنيا عجائز عمشاً رمصا " أخرجه ابن جرير وابن المنذر والبيهقي والترمذي وعبد بن حميد، قال الترمذي: غريب وموسى ويزيد ضعيفان.
" وعن سلمة ابن مريد الجعفي قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم، يقول الثيب والأبكار اللاتي كن في الدنيا " أخرجه الطبراني وابن قانع والبيهقي وابن أبي حاتم. قال ابن عباس: خلقهن غير خلقهن الأول، وقيل: إنهن فضلن على الحور العين بصلاتهن في الدنيا.(13/368)
فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا (36)
(فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا) أي لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان قال ابن عباس: أبكاراً عذارى، أي كلما أتاهن أزواجهن وجدوهن عذارى، ولا يحصل لهن وجع في إزالة البكارة(13/369)
عُرُبًا أَتْرَابًا (37)
(عُرُبًا أَتْرَابًا) العرب جمع عروب وهي المتحببة إلى زوجها الحسنة البعل، قال المبرد: هي العاشقة لزوجها، وقال زيد بن أسلم: هي الحسنة الكلام، قرأ الجمهور بضم العين والراء وقرىء بإسكان الراء وهما لغتان في جمع فعول، وقراءتان سبعيتان، قال ابن عباس: عرباً عواشق لأزواجهن، وأزواجهن لهن عاشقون، أتراباً في سن واحد ثلاثاً وثلاثين سنة.
وعنه قال: العروب الملقة لزوجها، وقال مجاهد: أتراباً أمثالاً وأشكالاً، وقال السدي: أتراباً في الأخلاق لا تباغض بينهن، ولا تحاسد.
" وعن معاذ بن جبل عن النبي صلى الله عليه وسلم قال يدخل أهل الجنة الجنة جرداً مرداً مكحلين أبناء ثلاثين، أو قيل: ثلاث وثلاثين سنة "، أخرجه الترمذي، وقال: حديث حسن غريب، والأتراب جمع ترب وهو المساوي لك في سنك، لأنه يمس جلدهما التراب في وقت واحد، وهو آكد في الائتلاف، وهو من الأسماء التي لا تنعرف بالإضافة لأنه في معنى الصفة، إذ معناه مساويك، ومثله خدنك لأنه في معنى صاحبك، يقال في النساء أتراب وفي الرجال أقران.(13/369)
لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ (38)
(لأصحاب اليمين) يعني أن الله أنشأهن لأجلهم، أو خلقهن لأجلهم أو هن مساويات لأصحاب اليمين في السن، أو هن لأصحاب اليمين، أو هذا الذي ذكرنا لهم(13/369)
ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (39) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (40)
(ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (39) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ) هذا راجع إلى قوله (وأصحاب اليمين) أي هم ثلة الخ، وقد تقدم تفسير الثلة عند ذكر السابقين، والمعنى أنهم جماعة أو أمة أو فرقة أو قطعة من الأولين، وهم من لدن آدم إلى نبينا صلى الله عليه وسلم وجماعة أو أمة أو فرقة أو قطعة من الآخرين، وهم أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وقال أبو العالية ومجاهد وعطاء بن أبي رباح والضحاك: (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ) بمعنى من سابقي هذه(13/369)
الأمة (وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ) من هذه الأمة من آخرها.
أخرج مسدد وابن المنذر والطبراني بسند حسن. " عن أبي بكرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، في الآية قال: جميعها من هذه الأمة " وعنه قال: هما جميعاً من هذه الأمة " وعن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: هما جميعاً من أمتي "، أخرجه عبد بن حميد وابن عدي والفريابي وغيرهم، قال السيوطي: بسند ضعيف، وعنه قال الثلتان جميعاً من هذه الأمة، وبه قال أبو العالية ومجاهد وعطاء بن أبي رباح والضحاك، وهو اختيار الزجاج، فإن قلت: كيف قال قبل هذا وقليل من الآخرين؟ ثم قال هنا وثلة من الآخرين؟ قلت ذاك في السابقين الأولين، وقليل من يلحق بهم من الآخرين، وهذا في أصحاب اليمين، وأنهم يتكاثرون من الأولين والآخرين جميعاً.
ثم لما فرغ سبحانه مما أعده لأصحاب اليمين شرع في ذكر أصحاب الشمال وما أعده لهم فقال:(13/370)
وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ (41)
(وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ)؟ الكلام في هذا وما فيه من التفخيم كما سبق في أصحاب اليمين. والشمال والمشأمة واحدة(13/370)
فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (42)
(في سموم وحميم) السموم حر النار، والحميم الماء الحار الشديد الحرارة، وقيل السموم الريح الحارة التي تدخل في مسام البدن، وقد سبق بيان معناهما.(13/370)
وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (43)
(وظل من يحموم) اليحموم يفعول من الأحم، أو الحميم وهو الأسود تقول أسود يحموم إذا كان شديد السواد، والمعنى: إنهم يفزعون إلى الظل فيجدونه ظلاً من دخان جهنم، شديد السواد، وقيل هو مأخوذ من الحم وهو الشحم المسود باحتراق النار، وقيل مأخوذ من الحمم وهو الفحم والرماد، وقال الضحاك: النار سوداء وأهلها سود وكل ما فيها أسود، قال ابن عباس: يحموم دخان أسود، وفي لفظ دخان جهنم، وقيل: واد في جهنم، وقيل: اسم من أسمائها، والأول أظهر، ثم وصف الله سبحانه هذا الظل بقوله:(13/370)
لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ (44) إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ (45) وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (46) وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (47) أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (48) قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (49) لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (50) ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (51) لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (52) فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (53) فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (54) فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (55) هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (56) نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ (57)(13/371)
لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ (44)
(لَا بَارِدٍ) أي ليس كغيره من الظلال التي تكون باردة بل هو حار ضار لأنه من دخان نار جهنم (وَلَا كَرِيمٍ) قال سعيد ابن المسيب: أي ليس فيه حسن منظر، وكل ما لا خير فيه فليس بكريم، وقال الضحاك: ولا كريم ولا عذب، قال الفراء: العرب يجعل الكريم تابعاً لكل شيء نفت عنه وصفاً تنوي به الدم، تقول ما هو بسمين ولا كريم، وما هذه الدار بواسعة ولا كريمة، والنعتان المذكوران لقوله: ظل لا ليحموم وما قيل من أنه يلزم على ذلك تقديم غير الصريحة على الصريحة فلا يرد، لأن الترتيب غير واجب نص عليه الرضى مع أنه هنا يفضي إلى عدم توازن الفاصلتين، وجعلهما نعتين ليحموم لا يلائم البلاغة القرآنية، وكان من حق الظاهر أن يقال: وظل حار ضار، فعدل إلى قوله (وظل من يحموم) ليتبادر منه إلى الذهن أولاً الظل المتعارف، فيطمع السامع، فإذا نفى عنه ما هو المطلوب من الظل، وهو البرد والاسترواح جاءت السخرية والتهكم والتعريض بأن الذين يستأهلون الظل الذي فيه برد وإكرام غير هؤلاء، فيكون أشجى لحلوقهم، وأشد لتحسرهم.
قال الرازي: وفي الأمور الثلاثة إشارة إلى كونهم في العذاب دائماً ثم ذكر سبحانه أعمالهم التي استحقوا بها هذا العذاب فقال:(13/371)
إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ (45)
(إنهم كانوا قبل ذلك) أي قبل هذا العذاب النازل بهم (مترفين) في الدنيا أي منعمين بما لا يحل لهم(13/371)
فمنعهم ذلك من الإنزجار، وشغلهم عن الإعتبار، وإنما كان الترفة هنا ذماً من حيث إنهم جعلوا من جملته القعود عن الطاعات وتركها، فصح ذمهم بهذا الإعتبار مع أنه في الواقع ليس ذماً في حد ذاته، والمترف المتنعم، وقال السدي: مشركين، وقيل: متكبرين والأول أولى والجملة تعليل لإستحقاقهم هذه العقوبة.
قال الرازي: والحكمة في ذكره سبب عذابهم ولم يذكر في أصحاب اليمين سبب ثوابهم، فلم يقل: إنهم كانوا قبل ذلك شاكرين مذعنين، وذلك للتنبيه على أن الثواب منه تعالى فضل والعقاب منه عدل والفضل سواء ذكر سببه أو لم يذكر لا يوهم بالمتفضل نقصاً ولا ظلماً، وأما العدل فإنه إن لم يذكر سبب العقاب يظن أنه ظالم، ويدل على ذلك أنه تعالى لم يقل في حق أصحاب اليمين (جزاء بما كانوا يعملون) كما قال في السابقين، لأن أصحاب اليمين نجوا بالفضل العظيم لا بالعمل بخلاف من كثرت حسناته فإنه يحسن إطلاق الجزاء في حقه.(13/372)
وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (46)
(وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ) الحنث الذنب، أي: يصرون على الذنب العظيم، قال الواحدي: قال أهل التفسير: عنى به الشرك لأنه نقض عهد الميثاق، والحنث نقض العهد المؤكد باليمين. أي كانوا لا يتوبون عن الشرك، وبه قال الحسن والضحاك وابن زيد، وقال قتادة ومجاهد: هو الذنب العظيم الذي لا يتوبون عنه، وقال الشعبي: هو اليمين الغموس، وذلك أنهم كانوا يحلفون أنهم لا يبعثون، وكذبوا في ذلك، يدل عليه قوله:(13/372)
وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (47)
(وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ) الإستفهام في الموضعين للإنكار، والإستبعاد وقد تقدم الكلام على هذا في الصافات وفي سورة الرعد.
والمعنى أنهم أنكروا واستبعدوا أن يبعثوا بعد الموت وقد صاروا عظاماً وتراباً، والمراد أنه صار لحمهم وجلودهم تراباً. وصارت عظامهم نخرة بالية والعامل في الظرف ما يدل عليه: مبعوثون، لأن ما بعد الإستفهام لا يعمل فيما قبله، أي أنبعث إذا متنا؟(13/372)
أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (48)
(أو آباؤنا الأولون)؟ معطوف على الضمير في (لمبعوثون) لوقوع الفصل بينهما بالهمزة، والمعنى أن بعث آبائهم الأولين أبعد لتقدم موتهم، ثم أمر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم أن يجيب عليهم ويرد استبعادهم فقال:(13/373)
قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (49)
(قل) لهم يا محمد صلى الله عليه وسلم رداً لإنكارهم، وتحقيقاً للحق:
(إن الأولين) من الأمم (والآخرين) منهم الذين أنتم من جملتهم(13/373)
لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (50)
(لمجموعون) بعد الموت (إلى ميقات) أي لوقت (يوم معلوم) معين عند الله، وهو يوم القيامة، والميقات ما وقت به الشيء، أي: حد، ومنه مواقيت الإحرام، والإضافة بمعنى من كخاتم فضة، والمعنى أنهم يحشرون إلى ما وقَّتَّ به الدنيا من يوم الحساب.(13/373)
ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (51)
(ثم إنكم أيها الضالون المكذبون) هذا وما بعده من جملة ما هو داخل تحت القول، وهو معطوف على: (إن الأولين) والمراد أهل مكة ومن في مثل حالهم، ووصفهم سبحانه بوصفين قبيحين. وهما الضلال عن الحق والتكذيب للبعث وثم للتراخي زماناً أو رتبة.(13/373)
لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (52)
(لآكلون) في الآخرة (من شجر من زقوم) أي من شجر كريه المنظر كريه الطعم، وهو من أخبث الشجر المر، ينبت في الدنيا بتهامة، وفي الآخرة ينبته الله في الجحيم، وهو في غاية الكراهة وبشاعة المنظر ونتن الريح وقد تقدم تفسيره في سورة الصافات، ومن الأولى لابتداء الغاية، والثانية: بيانية، أو الأولى: مزيدة والثانية بيانية، أو الثانية: مزيدة، والأولى للإبتداء(13/373)
فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (53)
(فمالئون منها) أي: من شجر الزقوم، وتأنيث الضمير لكون الشجر إسم جنس، وإسم الجنس يجوز تذكيره وتأنيثه لغتان (البطون) أي: بطونكم لما يلحقكم من شدة الجوع.(13/373)
فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (54)
(فشاربون عليه من الحميم) الضمير عائد إلى الزقوم المأكول، والحميم الماء الحار الذي قد بلغ حره إلى الغاية، والمعنى فشاربون عقب أكله من الماء الحار، أو يعود الضمير إلى شجر، لأنه يذكر ويؤنث، أو يعود إلى الأكل المدلول عليه بقوله: (لآكلون) وقرىء من شجرة بالإفراد(13/373)
فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (55)
(فشاربون شرب الهيم) قرأ(13/373)
الجمهور (شرب الهيم) بفتح الشين وقرىء بضمها وبكسرها وهي لغات.
قال: أبو زيد: سمعت العرب تقول بضم الشين وفتحها وكسرها، قال المبرد: الفتح أصل المصدر، والضم إسم المصدر، والهيم الإبل العطاش التي لا تروى لداء يصيبها وهذه الجملة بيان لما قبلها، أي لا يكون شربكم شرباً معتاداً، بل يكون مثل شرب الهيم، التي تعطش ولا تروى بشرب الماء، ومفرد الهيم أهيم والأنثى هيماء.
وقال الضحاك وابن عيينة والأخفش وابن كيسان: الهيم الأرض السهلة ذات الرمل. والمعنى أنهم يشربون كما تشرب هذه الأرض الماء، ولا يظهر له فيها أثر. قال في الصحاح: ألهيام بالضم أشد العطش. والهيام كالجنون من العشق، والهيام داء يأخذ الإبل فتهيم في الأرض لا ترعى، يقال: ناقة هيماء، والهيماء أيضاًً المفازة لا ماء بها، والهيام بالفتح الرمل الذي لا يتماسك في اليد للينه، والجمع هيم مثل قذال وقذل، والهيام بالكسر الإبل العطاش، قال النسفي: وإنما صح عطف الشاربين على الشاربين وهما لذوات متفقة، وصفتين متفقتين لأن كونهم شاربين للحميم على ما هو عليه من تناهي الحرارة، وقطع الأمعاء أمر عجيب.
وشربهم له على ذلك كما يشرب الهيم الماء أمر عجيب أيضاًً فكانتا صفتين مختلفتين.(13/374)
هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (56)
(هذا) أي ما ذكر من الزقوم المأكول، والحميم المشروب (نزلهم) أي رزقهم وغذاؤهم، قرأ الجمهور (نزل) بضمتين، وقرىء بضمة وسكون (يوم الدين) أي يوم الجزاء وهو يوم القيامة، والمعنى: أن ما ذكر من شجر الزقوم وشراب الحميم هو الذي يعد لهم ويأكلونه يوم القيامة، وفي هذا تهكم بهم، لأن النزل هو ما يعد للأضياف تكرمة لهم، ومثل هذا قوله: (فبشرهم بعذاب أليم)، والجملة مسوقة من جهته تعالى بطريق الفذلكة مقررة لمضمون الكلام غير داخلة تحت القول، ثم التفت سبحانه إلى خطاب الكفر تبكيتاً لهم وإلزاماً للحجة فقال:(13/374)
أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ (58) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ (59) نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ (61) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ (62) أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64) لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (65) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (66) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (67) أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (69) لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ (70) أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71)(13/375)
نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ (57)
(نحن خلقناكم فلولاً) فهلا (تصدقون)؟ بالخلق أو بالبعث إذ القادر على الإنشاء قادر على الإعادة، قاله المحلي، وقال مقاتل: خلقناكم ولم تكونوا شيئاًً وأنتم تعلمون ذلك فهلا تصدقون بالبعث؟(13/375)
أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ (58)
(أفرأيتم) أي: أخبروني هل رأيتم بالبصر أو البصيرة (ما تمنون) أي ما تقذفون وتصبون في أرحام النساء من النطف، قرأ الجمهور تمنون بضم الفوقية من أمنى يمني، وقرىء، بفتحها من منى يمني وهما لغتان، وقيل: معناهما مختلف يقال: أمنى إذا أنزل عن جماع، ومنى إذا أنزل من احتلام، وسمي المني منياً لأنه يمني أي يراق.(13/375)
أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ (59)
(أأنتم تخلقونه) أي أتقدرون المني وتصورونه أنتم بشراً سوياً، وهذا من باب الإشتغال، أو أنتم مبتدأ والجملة بعده خبره، والأول أرجح لأجل أداة الاستفهام (أم نحن الخالقون) أي المقدرون المصورون له، وأم هي المتصلة وقيل: هي المنقطعة والأول أولى.(13/375)
نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60)
(نحن قدرنا بينكم الموت) قرأ الجمهور (قدرنا) بالتشديد، وقرىء بالتخفيف، وهما لغتان وقراءتان سبعيتان، يقال: قدرت الشيء وقدرته أي قسمناه عليكم ووقتناه لكل فرد من أفرادكم، وقيل: قضينا، وقيل: كتبنا، وقيل: أوجبنا، والمعنى متقارب، قال مقاتل: فمنكم من يموت كبيراً ومنكم من(13/375)
يموت صغيراً. وقال الضحاك: معناه أنه جعل أهل السماء وأهل الأرض فيه سواء.
(وما نحن بمسبوقين) أي بمغلوبين وعاجزين بل قادرين(13/376)
عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ (61)
(على أن نبدل أمثالكم) أي نأتي بخلق مثلكم، قال الزجاج: إن أردنا أن نخلق خلقاً غيركم لم يسبقنا سابق ولا يفوتنا وقال السمين: الأمثال جمع مثل بكسر الميم وسكون الثاء، أي نحن قادرون على أن نعدمكم ونخلق قوماً آخرين أمثالكم، ويؤيده: (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ)، أو جمع مثل بفتحتين وهو الصفة، أي نغير صفاتكم التي أنتم عليها خلقاً وخلقاً، قلت: والأول أولى، وقال ابن جرير: المعنى نحن قدرنا بينكم الموت على أن نبدل أمثالكم بعد موتكم، بآخرين من جنسكم، وما نحن بمسبوقين في آجالكم، أي لا يتقدم متأخر، ولا يتأخر متقدم.
(وننشئكم فيما لا تعلمون) من الصور والهيئات، قال الحسن أي نجعلكم قردة وخنازير، كما فعلنا بأقوام قبلكم، وقيل: المعنى ننشئكم في البعث على غير صوركم في الدنيا، وقال سعيد بن المسيب: يعني في حواصل طيور سود تكون ببرهوت كأنها الخطاطيف وبرهوت واد باليمن، وقال مجاهد: يعني في أي خلق شئنا، ومن كان قادراً على هذا فهو قادر على البعث.(13/376)
وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ (62)
(ولقد علمتم النشأة الأولى) وهي ابتداء الخلق من نطفة، ثم من علقة، ثم من مضغة، ولم تكونوا قبل ذلك شيئاًً، أو الترابية لأبيكم آدم، واللحمية لأمكم حواء، والنطفية لكم، وكل منها تحويل من شيء إلى غيره، وقال قتادة والضحاك: يعني خلق آدم من تراب (فلولا تذكرون) أي فهلا تذكرون قدرة الله سبحانه على النشأة الأخرى وتقيسونها على النشأة الأولى؟ فإن من قدر على الأولى يقدر على الثانية، فإنها أقل كلفة من الأولى في العادة، قرأ الجمهور النشأة بالقصر وقرىء بالمد، وقد مضى تفسير هذا في سورة العنكبوت، وفيه دليل(13/376)
على صحة القياس حيث جهلهم في ترك قياس النشأة الأخرى على الأولى.(13/377)
أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (63)
(أفرأيتم) أي أخبروني (ما تحرثون) من أرضكم وتثيرون فتطرحون، وتلقون فيها البذر، والمعنى أفرأيتم البذر الذي تلقونه في الطين(13/377)
أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64)
(أأنتم تزرعونه)؟ أي تنبتونه وتجعلونه زرعاً، فيكون فيه السنبل والحب والزرع طرح البذر، والزرع أيضاًً الإنبات، يقال: زرعه الله أي أنبته.
(أم نحن الزارعون)؟ أي المنبتون له الجاعلون له زرعاً لا أنتم، قال المبرد: زرعه الله أي أنماه، فإذا أقررتم بهذا فكيف تنكرون البعث؟ " عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يقولن أحدكم زرعت ولكن يقول حرثت، قال أبو هريرة: ألم تسمعوا الله يقول: أفرأيتم ما تحرثون؟ " الآية أخرجه البزار وابن جرير وابن مردويه وأبو نعيم والبيهقي في الشعب وضعفه(13/377)
لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (65)
(لو نشاء لجعلناه) أي: لجعلنا ما تحرثون (حطاماً) أي متحطماً مفتتاً متكسراً أي نباتاً يابساً لا حب فيه، والحطام الهشيم الذي لا ينتفع به ولا يحصل منه حب ولا شيء مما يطلب من الحرث، وقيل: تبناً لا قمح فيه.
(فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ) أي فصرتم تعجبون، قاله ابن عباس، قال الفراء: تفكهون تتعجبون فيما نزل بكم في زرعكم، قال في الصحاح: وتفكه تعجب ويقال تندم، وقال الحسن وقتادة وغيرهما: معنى الآية تعجبون من ذهابه وتندمون مما حل بكم، وقال عكرمة: تلاومون وتندمون على ما سلف منكم من معصية الله، وقال أبو عمرو والكسائي: هو التلهف على ما فات، قرأ الجمهور: (فَظَلْتُمْ) بفتح الظاء مع لام واحدة، وقرىء بكسرها معها، وقرىء ظللتم بلامين أولاهما مكسورة على الأصل، وروي فتحها وهي لغة، وقرأ الجمهور (تَفَكَّهُونَ) بالهاء، وقرىء تفكنون بالنون مكان الهاء أي تندمون، قال ابن خالويه: تفكه تعجب، وتفكن تندم، وفي الصحاح: التفكن التندم، والتفكه التنقل بصنوف الفاكهة، وقد استعير للتنقل في الحديث.(13/377)
إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (66)
(إنا لمغرمون) قرأ الجمهور بهمزة واحدة على الخبر، وقرىء بهمزتين على الاستفهام، أي أتقولون: إنا لملزمون غرماً بما هلك من زرعنا؟ والمغرم الذي ذهب ماله بغير عوض، قاله الضحاك وابن كيسان والكرخي، وقال الزمخشري: أي لملزمون غرامة ما أنفقنا، وقيل: المعنى إنا لمعذبون: قاله قتادة وغيره، وقال مجاهد وعكرمة: لمولع بنا يقال: أغرم فلان لفلان أي أولع به، وقال مقاتل: مهلكون أي لهلاك رزقنا، قال النحاس: مأخوذ من الغرام وهو الهلاك؛ والظاهر من السياق المعنى الأول أي إنا لمغرمون بذهاب ما حرثنا ومصيره حطاماً، ثم أضربوا عن قولهم هذا وانتقلوا فقالوا:(13/378)
بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (67)
(بل نحن محرومون) أي حرمنا رزقنا بهلاك زرعنا، والمحروم الممنوع من الرزق الذي لا حظ له فيه، وهو المحارف، وقيل: محارفون محدودون لا مجدودون.(13/378)
أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68)
(أفرأيتم الماء الذي تشربون) فتسكنون به ما يلحقكم من العطش وتدفعون به ما ينزل بكم من الظمأ، واقتصر سبحانه على ذكر الشرب مع كثر فوائد الماء ومنافعه، لأنه أعظم فوائده وأجل منافعه(13/378)
أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (69)
(أأنتم أنزلتموه من المزن)؟ أي السحاب قاله ابن عباس، وقال أبو زيد: المزنة السحاب البيضاء، والجمع مزن والمزنة المطر قاله في الصحاح (أم نحن المنزلون) دون غيرنا، فإذا عرفتم ذلك فكيف لا تقرون بالتوحيد وتصدقون بالبعث ثم بين لهم سبحانه أنه لو يشاء لسلبهم هذه النعمة فقال:(13/378)
لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ (70)
(لو نشاء جعلناه أجاجاً) الأجاج الماء الشديد الملوحة، الذي لا يمكن شربه، وقال الحسن هو الماء المر الذي لا ينتفعون به في شرب ولا زرع ولا غيرهما.
(فلولا) أي فهلا (تشكرون) نعمة الله الذي خلق لكم ماء عذباً تشربون منه وتنتفعون به(13/378)
أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71)
(أفرأيتم النار التي تورون) أي أخبروني عنها، ومعنى تورون تستخرجونها بالقدح من الشجر الرطب، يقال: أوريت النار إذا قدحتها، والعرب تقدح بعودين تحك أحدهما على الآخر، ويسمون الأعلى الزند والسفلى الزندة شبهوهما بالفحل والطروقة.(13/378)
أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ (72) نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ (73) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (74) فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78) لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (80) أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (81) وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (82) فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83)(13/379)
أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ (72)
(أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا)؟ التي تكون منها الزنود وهي المرخ والعفار، تقول العرب: في كل شجر نار، واستمجد المرخ والعفار، وزاد الجلال المحلي الكلخ، نقل سليمان الجمل عن شيخه أنه قال: ولم نجدد في القاموس ولا في المختار، غير أنه أخبر بعض أهل المغرب والشام بأنه موجود معروف عندهم شبيه بالقصب تؤخذ منه قطعتان وتضرب إحداهما بالأخرى فتخرج النار (أم نحن المنشئون) لها بقدرتنا دونكم، ومعنى الإنشاء الخلق، وعبر عنه بالإنشاء للدلالة على ما في ذلك من بديع الصنعة وعجيب القدرة.(13/379)
نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ (73)
(نحن جعلناها) أي النار التي في الدنيا. (تذكرة) لنار جهنم الكبرى حيث علقنا بها أسباب المعاش، وعممنا بالحاجة إليها البلوى، لتكون حاضرة للناس ينظرون إليها ويذكرون ما أوعدوا به، قال مجاهد وقتادة: تبصرة للناس في الظلام، وقال عطاء: موعظة ليتعظ بها المؤمن وقال ابن عباس: تذكرة للنار الكبرى.
عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ناركم هذه التي توقدون جزء من سبعين جزءاً من نار جهنم، قالوا والله إن كانت لكافية يا رسول الله؛ قال: فإنها فضلت عليها بتسعة وستين جزءاً كلها مثل حرها " (1) أخرجه البخاري ومسلم.
_________
(1) رواه البخاري ومسلم.(13/379)
(وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ) أي للمسافرين، قاله ابن عباس، يعني منفعة للذين ينزلون بالقواء وهي الأرض القفر، كالمسافرين وأهل البوادي النازلين في الأراضي المقفرة، يقال أرض قراء بالمد والقصر؛ أي مقفرة، ويقال أقوى إذا سافر أي نزل القوى، وخصوا بالذكر لأن منفعتهم بها أكثر من المقيمين، فإنهم يوقدونها بالليل لتهرب السباع ويهتدي الضال إلى غير ذلك من المنافع، وقال مجاهد: المقوين المستمتعين بها من الناس أجمعين في الطبخ والخبز والإصطلاء والإستضاءة، وتذكر نار جهنم، وقال ابن زيد: للجائعين في إصلاح طعامهم، يقال: أقويت منذ كذا وكذا أي ما أكلت شيئاًً وبات فلان القوى أي جائعاً.
وقال قطرب: القوى من الأضداد، يكون بمعنى الفقر ويكون بمعنى الغنى يقال: أقوى الرجل إذا لم يكن معه زاد، وأقوى إذا قويت دوابه وكثر ماله والمعنى جعلناها متاعاً ومنفعة للأغنياء والفقراء لا غنى لأحد عنها، وقال المهدوي: الآية تصلح للجميع؛ لأن النار يحتاج إليها المسافر والمقيم والغني والفقير وحكى الثعلبي عن أكثر المفسرين القول الأول وهو الظاهر.(13/380)
فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (74)
(فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) الفاء لترتيب ما بعدها من ذكر الله سبحانه وتنزيهه على ما قبلها مما عدده من النعم التي أنعم بها على عباده، وجحود المشركين لها، وتكذيبهم بها، وقيل: قل سبحان ربي العظيم.
" وجاء مرفوعاً أنه لما نزلت هذه الآية قال اجعلوها في ركوعكم "، وسبح متعدّي بنفسه وبحرف الجر، فالباء زائد والإسم باق على معناه، أو بمعنى الذات أو بمعنى الذكر، قال الكرخي قالوا: كما يجب تنزيه ذاته وصفاته عن النقائص يجب تنزيه الألفاظ الموضوعة لها عن سوء الأدب، وقيل: لفظة باسم زائدة، والمعنى: فسبح ربك وهذا أبلغ لما يلزم ذلك بالطريق الأولى على سبيل الكناية الرمزية، وأثبتوا ألف الوصل هنا في إسم ربك لأنه لم يكثر دوره كثرته في البسملة.(13/380)
فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75)
(فلا أقسم) ذهب الجمهور إلى أن (لا) مزيدة للتوكيد، والمعنى فأقسم ويؤيد هذا قوله بعد:(13/381)
وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76)
(وإنه لقسم)، وقال جماعة من أهل التفسير: إنها للنفي والمنفي بها محذوف، وهو كلام الكفار الجاحدين، قال الفراء هي نفي والمعنى ليس الأمر كذلك، ثم قال مستأنفاً: قسم وضعف هذا بأن حذف اسم لا وخبرها غير جائز، كما قال أبو حيان وغيره، وقيل: إنها لام الإبتداء، والأصل فلأقسم فأشبعت الفتحة فتولد منها الألف. وقد قرىء هكذا بدون ألف، وعلى هذا التقدير: فلا، أنا أقسم بذلك، وقيل: إن لا ههنا بمعنى: ألا التي للتنبيه، وهو بعيد، وقيل: إن لا هنا على ظاهرها، وأنها لنفي القسم، أي: فلا أقسم على هذا لأن الأمر أوضح من ذلك، وهذا مدفوع بقوله: (وإنه لقسم) مع تعيين المقسم والمقسم عليه.
(بمواقع النجوم) أي مساقطها وهي مغاربها، كذا قال قتادة وغيره: ولعل لله في آخر الليل إذا انحطت النجوم إلى المغرب أفعالاً مخصوصة عظيمة أو للملائكة عبادات موصوفة، أو لأنه وقت قيام المتهجدين ونزول الرحمة والرضوان عليهم، فلذلك أقسم بمواقعها، وقال عطاء بن أبي رباح: منازلها وقال الحسن: انكدارها وانتثارها يوم القيامة، وقال الضحاك: هي الأنواء التي كان أهل الجاهلية يقولون؛ مطرنا بنوء كذا وكذا، قال الماوردي: ويكون قوله: (فلا أقسم) مستعملاً في حقيقته من نفي القسم، وقال القشيري: هو قسم ولله أن يقسم بما يريد وليس لنا أن نقسم بغير الله وصفاته القديمة، وقيل المراد نزول القرآن نجوماً من اللوح المحفوظ وبه قال السدي وغيره.
وحكى الفراء عن ابن مسعود بأن مواقع النجوم هو محكم القرآن، قال ابن عباس: أنزل القرآن في ليلة القدر من السماء العليا إلى السماء الدنيا جملة واحدة ثم فرق بين السنين، وفي لفظ نزل من السماء الدنيا إلى الأرض نجوماً ثم قرأ هذه الآية، وعنه قال نجوم القرآن حين ينزل، قرأ الجمهور (مواقع) على الجمع وقرىء موقع على الإفراد: قال المبرد موقع ههنا مصدر(13/381)
فهو يصلح للواحد والجمع ثم أخبر الله سبحانه عن تعظيم هذا القسم وتفخيمه فقال:
(وإنه لقسم) هذه الجملة معترضة بين المقسم به والمقسم عليه وقوله: (لو تعلمون) جملة معترضة بين جزئي الجملة المعترضة، فهو إعتراض في اعتراض، قال الفراء والزجاج: هذا يدل على أن المراد بمواقع النجوم نزول القرآن، والضمير في أنه يعود على القسم الذي يدل عليه قسم والمعنى أن القسم بمواقع النجوم لقسم (عظيم) لو تعلمون لما في المقسم به من الدلالة على عظم القدرة، وكمال الحكمة، وفرط الرحمة ومن مقتضيات رحمته أن لا يترك عباده سدى ثم ذكر سبحانه المقسم عليه فقال:(13/382)
إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77)
(إنه لقرآن كريم) أي كرمه الله وأعزه، ورفع قدره على جميع الكتب وكرمه عن أن يكون سحراً وكهانة أو كذباً، وقيل: إنه كريم لما فيه من كرم الأخلاق، ومعالي الأمور وقيل لأنه يكرم حافظه، ويعظم قارئه، وحكى الواحدي عن أهل المعاني: أنه وصف القرآن بالكريم لأن من شأنه أن يعطي الخير الكثير بالدلائل التي تؤدي إلى الحق في الدين، قال الأزهري: الكريم اسم جامع لما يحمد، والقرآن كريم يحمد لما فيه من الهدى، والبيان والعلم والحكمة، فالفقيه يستدل به ويأخذ منه، والحكيم يستمد منه ويحتج به، والأديب يستفيد منه ويتقوى به، فكل عالم يطلب أصل علمه منه، وقيل: حسن مرضي أو نفاع جم المنافع، أو عزيز مكرم، لا يهون بكثرة التلاوة، ولا يخلق بكثرة الرد، ولا يمله السامعون، ولا يثقل على الألسنة، بل غض طري يبقى أبد الدهر.(13/382)
فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78)
(في كتاب مكنون) أي مستور مصون من التغيير والتبديل، على حد قوله: (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) وقيل: محفوظ عن الباطل وهو اللوح المحفوظ، قاله جماعة، وقيل: هو كتاب مصون من غير المقربين(13/382)
من الملائكة، لا يطلع عليه من سواهم وقال عكرمة: هو التوراة والإنجيل فيهما ذكر القرآن ومن ينزل عليه، وقال السدي: هو الزبور، وقال مجاهد وقتادة هو المصحف الذي في أيدينا.(13/383)
لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79)
(لا يمسه إلا المطهرون) من جميع الأدناس، قال المحلي خبر بمعنى النهي أي لا يمسوه، أي: يحرم عليهم مسه بدون الطهارة ولم يبق صريحاً على خبريته لئلا يلزم الخلف في خبره تعالى، لأنه كثيراً ما يمس بدون طهارة، والخلف في خبره تعالى محال، وقيل إن لا ناهية والفعل بعدها مجزوم لأنه لو فك عن الإدغام لظهر ذلك فيه كقوله تعالى (لم يمسسهم سوء) ولكنه أدغم ولما أدغم حرك آخره بالضم لأجل هاء ضمير المذكر الغائب، وضعف ابن عطية النهي، قال الواحدي: أكثر المفسرين على أن الضمير عائد إلى الكتاب المكنون، أي لا يمس الكتاب المكنون إلا المطهرون وهم الملائكة، وقيل هم الملائكة والرسل من بني آدم، والمعنى لا يمسه المس الحقيقي، وقيل: المعنى لا ينزل به إلا المطهرون.
وعلى كون المراد بالكتاب المكنون هو القرآن، فقيل: لا يمسه إلا المطهرون من الأحداث والأنجاس، كذا قال قتادة وغيره.
وقال الكلبي: المطهرون من الشرك، وقال الربيع بن أنس: المطهرون من الذنوب والخطايا، وقال محمد بن الفضل وغيره: المعنى لا يقرأه إلا الموحدون وقال الفراء: لا يجد نفعه وبركته إلا المؤمنون، وقال الحسين بن الفضل: لا يعرف تفسيره وتأويله إلا من طهره الله من الشرك والنفاق، وقد ذهب الجمهور إلى منع المحدث من مس المصحف، وبه قال علي وابن مسعود وسعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد وعطاء والزهري والنخعي والحكم وحماد، وجماعة من الفقهاء منهم مالك والشافعي، وروي عن ابن عباس والشعبي وجماعة منهم أبو حنيفة أنه يجوز للمحدث مسه، وقد أوضح الشوكاني ما هو الحق في هذا في شرحه للمنتقى فليرجع إليه قرأ الجمهور المطهرون(13/383)
اسم مفعول من التطهير، وقرىء بكسر الهاء على أنه اسم فاعل أي المطهرون أنفسهم وقرىء على أنه اسم مفعول من أطهر، وقرىء بتشديد الطاء وكسر الهاء أصله المتطهرون، قال ابن عباس في الآية الكتاب المنزل من السماء لا يمسه إلا الملائكة.
وعن أنس قال: المطهرون الملائكة.
وعن " علقمة قال: أتينا سلمان الفارسي فخرج علينا من كنيف فقلنا له: لو توضأت يا أبا عبد الله ثم قرأت علينا سورة كذا وكذا قال: إنما قال الله (فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78) لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ) وهو الذي في السماء لا يمسه إلا الملائكة، ثم قرأ علينا من القرآن ما شئنا "، أخرجه عبد الرزاق وابن المنذر.
" وعن عبد الله ابن أبي بكر بن عمرو بن حزم عن أبيه قال: في كتاب النبي صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم: لا يمس القرآن إلا على طهر " أخرجه مالك في الموطأ عن عبد الله بن أبي بكر. وأخرجه أبو داود في المراسيل.
من حديث الزهري قال: قرأت في صحيفة عبد الله المذكور أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ولا يمس القرآن إلا طاهر "، وقد أسنده الدارقطني عن عمرو بن حزم وغيره، وفي أسانيده نظر، وعن ابن عمر أنه كان لا يمس المصحف إلا متوضئاً و " عن عبد الرحمن بن زيد قال: كنا مع سلمان فانطلق إلى حاجته فتوارى عنا ثم خرج علينا فقلنا: لو توضأت فسألناك عن أشياء من القرآن؟ فقال سلوني فإني لست أمسه إنما يمسه المطهرون، ثم تلا هذه الآية " أخرجه سعيد بن منصور وابن أبي شيبة في المصنف، وابن المنذر وغيرهم.
و" عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يمس(13/384)
القرآن إلا طاهر "، أخرجه الطبراني وابن مردويه.
و" عن معاذ بن جبل أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بعثه إلى اليمن كتب له في عهده أن لا يمس القرآن إلا طاهر "، أخرجه ابن مردويه.(13/385)
تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (80)
(تنزيل) أي منزل وسمي المنزل تنزيلاً على اتساع اللغة، يقال للمقدور: قدر، وللمخلوق خلق، قرأ الجمهور بالرفع، وقرىء بالنصب على الحال (من رب العالمين) صفة رابعة لقرآن، أو خبر مبتدأ محذوف، وفيه رد على من قال، إن القرآن شعر أو سحر أو كهانة.(13/385)
أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (81)
(أفبهذا الحديث أنتم مدهنون)؟ الإشارة إلى القرآن المنعوت بالنعوت السابقة، والمدهن والمداهن المنافق، كذا قال الزجاج وغيره وقال عطاء وغيره: هو الكذاب، وقال مقاتل بن سليمان وقتادة: مدهنون كافرون كما في قوله (ودوا لو تدهن فيدهنون) وقال ابن عباس: مدهنون مكذبون، وقال الضحاك: مدهنون معرضون وقال مجاهد: ممالئون الكفار على الكفر وقال ابن كيسان: المدهن الذي لا يعقل حق الله عليه، ويدفعه بالعلل والأول أولى، لأن أصل المدهن الذي ظاهره خلاف باطنه، كأنه يشبه الدهن في سهولته، قال المؤرج: المدهن المنافق الذي يلين جانبه ليخفي كفره، والإدهان والمداهنة التكذيب والكفر والنفاق، وأصله اللين، وأن يسر خلاف ما يظهر وقال في الكشاف: مدهنون متهاونون به كمن يدهن في الأمر أي يلين جانبه ولا يتصلب فيه، تهاوناً به انتهى.
قال الراغب: والادهان في الأصل مثل التدهين، لكن جعل عبارة عن المداراة والملاينة وترك الجد كما جعل التقريد، وهو نزع القراد عبارة عن ذلك، قلت: سميت المداراة والملاينة مداهنة، وهذا استعارة ومجاز معروف ولشهرته صار حقيقة عوفية لذا جُوِّزَ به هنا من التهاون أيضاً لأن المتهاون بالأمر لا يتصلب فيه، وقال بعض اللغويين تاركون للحزم في قبول القرآن.(13/385)
وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (82)
(وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون) في الكلام مضاف محذوف، كما(13/385)
حكاه الواحدي عن المفسرين، أي تجعلون شكر رزقكم أنكم تكذبون بنعمة الله فتضعون التكذيب موضع الشكر، وقال الهيثم: إن أزد شنوءة يقولون: ما رزق فلان، أي ما شكر وعلى هذه اللغة لا يكون في الآية مضاف محذوف بل معنى الرزق الشكر ووجه التعبير بالرزق عن الشكر، أن الشكر يقتضي زيادة الرزق فكون الشكر رزقاً تعبيراً بالسبب عن المسبب، ومما يدخل تحت هذه الآية قول الكفار إذا سقاهم الله وأنزل عليهم المطر: سقينا بنوء كذا، ومطرنا بنوء كذا قال الأزهري: معنى الآية وتجعلون بدل شكركم رزقكم الذي رزقكم الله التكذيب بأنه من عند الله الرزاق قرأ علي بن أبي طالب وابن عباس تجعلون شكركم وقرأ الجمهور تكذبون بالتشديد من التكذيب وقرأ بالتخفيف من الكذب.
أخرج مسلم وابن المنذر وابن مردويه. " عن ابن عباس قال مطر الناس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أصبح من الناس شاكر ومنهم كافر، قالوا هذه رحمة وضعها الله، وقال بعضهم: لقد صدق نوء كذا وكذا، فنزلت هذه الآية (فلا أقسم -إلى قوله- تكذبون)، وأصل الحديث بدون ذكر أنه سبب نزول الآية ثابت في الصحيحين من حديث زيد بن خالد الجهني.
" ومن حديث أبي سعيد الخدري، وعن علي عنه صلى الله عليه وسلم في الآية قال: شكركم تقولون مطرنا بنوء كذا وكذا، وبنجم كذا وكذا "، أخرجه أحمد والترمذي والضياء في المختارة، وغيرهم وفي الباب أحاديث.
" وعن عائشة قالت: ما فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم من القرآن إلا آيات يسيرة تجعلون رزقكم قال: شكركم " رواه ابن عساكر.
" وعن علي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ وتجعلون شكركم " أخرجه ابن مردويه.(13/386)
وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ (85) فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86) تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (87) فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ (89) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (90) فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (91) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (93) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (94) إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (95) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (96)(13/387)
فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83)
(فلولا إذا بلغت الحلقوم) أي فهلا إذا بلغت الروح أو النفس الحلقوم عند الموت، ولم يتقدم لها ذكر لأن المعنى عندهم إذا جاؤوا بمثل هذه العبارة والحلقوم ممر الطعام والشراب(13/387)
وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84)
(وأنتم حينئذ) التنوين عوض من الجملة المضافة إليها إذ أي إذ بلغت الحلقوم، خلافاً للأخفش حيث زعم أن التنوين للصرف والكسر للإعراب (تنظرون) أي إلى ما هو فيه ذلك الذي بلغت نفسه أو روحه الحلقوم، قال الزجاج: وأنتم يا أهل الميت في تلك الحال ترون الميت قد صار إلى أن تخرج نفسه، والمعنى أنهم في تلك الحال لا يمكنهم الدفع عنه، ولا يستطيعون شيئاًً ينفعه، أو يخفف عنه ما هو فيه.(13/387)
وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ (85)
(ونحن أقرب إليه منكم) أي بالعلم والقدرة والرؤية، وقيل: أراد ورسلنا الذين يتولون قبضه أقرب إليه منكم (ولكن لا تبصرون) أي لا تدركون ذلك لجهلكم بأن الله أقرب إلى عبده من حبل الوريد، أو لا تبصرون ملائكة الموت الذين يحضرون الميت ويتولون قبضه أو لا تعلمون ما هو فيه من المشقة والكرب.(13/387)
فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86)
(فلولا إن كنتم غير مدينين) يقال دان السلطان رعيته، إذا ساسهم واستعبدهم، قال الفراء: دنته ملكته، ويقال: دانه إذا أذله واستعبده. وقيل: معنى مدينين محاسبين قاله ابن عباس، وقيل: مجزيين والمعنى الأول(13/387)
ألصق بمعنى الآية، أي: فهلا إن كنتم غير مربوبين ومملوكين؟(13/388)
تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (87)
(ترجعونها) أي النفس التي قد بلغت الحلقوم إلى مقرها الذي كانت فيه والعامل في إذا بلغت قسوله ترجعونها (ولولا) الثانية تأكيد لفظي للأولى، وقال الفراء: وربما أعادت العرب الحرفين ومعناهما واحد.
(إن كنتم صادقين) ولن ترجعوها، فبطل زعمكم أنكم غير مربوبين ولا مملوكين، وقيل: معناه إن صدقتم في نفي البعث فردوا روح المحتضر إلى جسده، لينتفي عنه الموت فينتفي البعث، ثم ذكر سبحانه طبقات الخلق عند الموت وبعده فقال:(13/388)
فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88)
(فأما إن كان) الذي بين حاله (من المقربين) أي: السابقين من الثلاثة الأصناف التقدم تفصيل حالهم(13/388)
فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ (89)
(فروح وريحان) قرأ الجمهور (روح) بفتح الراء ومعناه الراحة من الدنيا والإستراحة من أحوالها، وقال مجاهد: الروح الفرح، وقرىء بضم الراء ومعناه الرحمة، لأنها كالحياة للمرحوم وبه قال الحسن، وفي القاموس: الروح بالفتح الراحة والرحمة ونسيم الريح، والريحان الرزق في الجنة، قاله مجاهد وسعيد بن جبير ومقاتل، وقال: هو الرزق بلغة حمير، يقال: خرجت أطلب ريحان الله أي رزقه، وقال قتادة: إنه الجنة.
وقال الضحاك: هو الرحمة، وقال الحسن: هو الريحان المعروف الذي يشم قال قتادة والربيع ابن خيثم: هذا عند الموت، والجنة مخبوءة له إلى أن يبعث، وكذا قال أبو الجوزاء وأبو العالية.
(وَجَنَّتُ نَعِيمٍ) يعني: أنها ذات تنعم، قال ابن عباس: أي مغفرة ورحمة وترسم جنة هنا مجرورة التاء ووقف عليها بالهاء ابن كثير والكسائي وغيرهما، والباقون بالتاء على الرسم وهل الجواب لـ (أما) أو لـ (إن) أو لهما أقوال ومعنى (أما) عند أبي إسحق الخروج من شيء إلى شيء، أي: دع ما كنا فيه وخذ في غيره، وعلى هذا الجواب لإن فقط، لأن أما ليست شرطاً، ورجح بعضهم أن جواب لأما، لأن (إن) كثر حذف جوابها منفردة، فادعاء(13/388)
ذلك مع شرط الجر أولى.(13/389)
وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (90)
(وأما إن كان) ذلك المتوفى (من أصحاب اليمين) الذين يأخذون كتبهم بأيمانهم، وقد تقدم ذكرهم، وتفصيل أحوالهم، وما أعده الله لهم من الجزاء(13/389)
فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (91)
(فسلام لك من أصحاب اليمين) أي لست ترى فيهم إلا ما تحب من السلامة فلا تهتم بذلك فإنهم يسلمون من عذاب الله، وقيل: المعنى سلام لك منهم أي أنت سالم من الإغتمام بهم، وقيل المعنى أنهم يدعون لك ويسلمون عليك.
وقيل: إنه صلى الله عليه وسلم يحيي بالسلام إكراماً، وقيل: هو إخبار من الله سبحانه بتسليم بعضهم على بعض، وقيل: المعنى وسلام لك يا صاحب اليمين من إخوانك أصحاب اليمين، يعني: أنه إلتفات بتقدير القول و (من) للإبتداء، كما يقال سلام من فلان على فلان، وفسر المحلي السلام بمعنى السلامة، قال القاري: وهذا تفسير غريب، قال ابن عباس: تأتيه الملائكة بالسلام من قبل الله يسلم عليه ويخبره أنه من أصحاب اليمين.(13/389)
وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92)
(وأما إن كان من المكذبين) بالبعث (الضالين) عن الهدى وهم أصحاب الشمال المتقدم ذكرهم وتفصيل أحوالهم، وإنما وصفهم بأفعالهم زجراً عنها وإشعاراً بما أوجب لهم هذا العذاب، وإلا فمقتضى الظاهر أن يقال. وأما إن كان من أصحاب الشمال لكن عدل عنه لما ذكر، تأمل.(13/389)
فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (93)
(فنزل) أي: فله نزل يعد لنزوله (من حميم) وهو الماء الذي قد تناهت حرارته وذلك بعد أن يأكل من الزقوم كما تقدم بيانه، قال الربيع ابن خيثم: هذا عند الموت وهذا تهكم بهم(13/389)
وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (94)
(وتصلية جحيم) يقال أصلاه النار وصلاه إذا جعله في النار، وهو من إضافة المصدر إلى المفعول، أو إلى المكان، قال المبرد: وجواب الشرط في هذه الثلاثة المواضع محذوف، والتقدير مهما يكن من شيء فروح الخ وفي هذه الآيات إشارة إلى أن الكفر كله ملة واحدة وأن أصحاب الكبائر من أصحاب اليمين لأنهم غير مكذبين.(13/389)
إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (95)
(إنَّ هذا) أي إن ما ذكر في هذه السورة من أولها إلى آخرها، أو إن المذكور قريباً من أحوال المحتضرين وقصتهم (لهو حق اليقين) أي: محضه وخالصه، وإضافة حق إلى اليقين من باب إضافة الشيء إلى نفسه، قال البرد: هو كقولك عين اليقين، ومحض اليقين، هذا عند الكوفيين وجوزوا ذلك، أي: إضافة الموصوف إلى الصفة لاختلاف اللفظ، وأما البصريون فيجعلون المضاف إليه محذوفاً والتقدير حق الأمر اليقين، أو الخبر اليقين، قال ابن عباس: لهو حق اليقين ما قصصنا عليك في هذه السورة.(13/390)
فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (96)
(فسبح باسم ربك العظيم) الفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها، أي نزهه عما لا يليق بشأنه فسبح متلبساً باسم ربك للتبرك به، وقيل: المعنى فصل بذكر ربك. وقيل: الباء زائدة، وادعاء زيادتها خلاف الأصل، والإسم بمعنى الذات، وقيل: هي للتعدية لأن سبح يتعدى بنفسه تارة ويتعدى بالحرف أخرى، والأول أولى.
" عن عقبة بن عامر الجهني قال: لما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فسبح باسم ربك العظيم قال: اجعلوها في ركوعكم، فلما نزلت: سبح اسم ربك الأعلى قال: اجعلوها في سجودكم "، أخرجه أحمد وأبو داود وابن حبان والحاكم، وصححه البيهقي.(13/390)
سورة الحديد
هي تسع وعشرون آية، وهي مدنية
قال القرطبي: في قول الجميع قال ابن عباس: نزلت بالمدينة، وعن ابن الزبير مثله، وعليه الجمهور، وقال الزمخشري: إنها مكية، ويؤيده ما نقل في سبب إسلام عمر بن الخطاب أنه لما قرأ هذه الآيات إلى قوله: (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) وكانت مكتوبة في صحيفة عند أخته أسلم، فهذا يقتضي أن هذه الآيات مكيّة، فعلى هذا تستثنى على القول بأن السورة مدنية، تأمل.
وعن ابن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " نزلت سورة الحديد يوم الثلاثاء وخلق الحديد يوم الثلاثاء، وقتل ابن آدم أخاه الثلاثاء " أخرجه الطبراني وابن مردويه قال السيوطي بسند ضعيف.
وعن جابر مرفوعاً " لا تحتجموا يوم الثلاثاء فإن سورة الحديد أنزلت عليّ يوم الثلاثاء " أخرجه الديلمي.
وعن العرباض بن سارية أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ المسبحات قبل أن يرقد وقال: " إن فيهن آية أفضل من ألف آية " أخرجه أحمد والترمذي وحسنه والنسائي وغيرهم، وفي إسناده بقية ابن الوليد وفيه مقال معروف.(13/391)
وأخرجه النسائي عن خالد بن معدان قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يذكر العرباض بن سارية فهو مرسل وأخرجه ابن الضريس.
عن يحيى بن أبي كثير قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا ينام حتى يقرأ المسبحات وكان يقول: " إن فيهن آية أفضل من ألف آية " قال يحيى فنراها الآية التي في آخر الحشر، وقال ابن كثير في تفسيره والآية المشار إليها والله أعلم هي قوله: (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ) الآية والمسبحات هي الحديد والحشر والصف والجمعة والتغابن.(13/392)
بسم الله الرحمن الرحيم
سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (2) هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (3) هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4) لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (5) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (6) آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (7)(13/393)
سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1)
(سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) أي نزهه ومجده قال المقاتلان: يعني كل شيء من ذي روح وغيره، وقد تقدم الكلام في تسبيح الجمادات، عند تفسير قوله: وإن من شيء إلا يسبح بحمده، ولكن لا تفقهون تسبيحهم. والمراد بالتسبيح المسند إلى ما في السموات والأرض من العقلاء وغيرهم، والحيوانات والجمادات هو ما يعم التسبيح بلسان المقال، كتسبيح الملائكة والإنس والجن، وبلسان الحال كتسبيح غيرهم، فإن كل موجود يدل على الصانع، وقد أنكر الزجاج أن يكون تسبيح غير العقلاء هو تسبيح الدلالة وقال: لو كان هذا تسبيح الدلالة وظهور آثار الصنعة لكانت مفهومة، فلم قال: ولكن لا تفقهون تسبيحهم؟ وإنما هو تسبيح مقال، واستدل بقوله: وسخرنا مع داود الجبال يسبحن، فلو كان هذا التسبيح من الجبال تسبيح دلالة لم تكن لتخصيص داود فائدة.
وفعل التسبيح قد يتعدى بنفسه تارة كما في قوله: وسبحوه، وباللام أخرى كهذه الآية، وأصله أن يكون متعدياً بنفسه، لأن معنى سبحته بعدته عن السوء فإذا استعمل باللام فهي إما زائدة للتأكيد كما في شكرته وشكرت(13/393)
له، أو هي للتعليل، أي أفعل التسبيح لأجل الله سبحانه خالصاً له.
وجاء هذا الفعل في بعض هذه الفواتح، كالحشر والصف ماضياً كهذه الفاتحة. وفي بعضها كالجمعة والتغابن مضارعاً، وفي بعضها كالأعلى أمراً، وفي بني إسرائيل بلفظ المصدر، استيعاباً واستيفاءً لهذه الكلمة من جميع جهاتها المشهورة، وللإشارة إلى أن هذه الأشياء مسبحة في كل الأوقات، لا يختص تسبيحها بوقت دون وقت بل هي مسبحة أبداً في الماضي، وستكون مسبحة في المستقبل أبداً، وبدأ بالمصدر في الإسراء لأنه الأصل، وأبلغ من حيث إنه مشعر بإطلاقه عن التعرض للفاعل والزمان، ثم بالماضي لسبق زمنه. ثم بالمضارع لشموله الحال والإستقبال، ثم بالأمر لخصوصه بالإستقبال مع تأخره في النطق به في قولهم: فعل يفعل أفعل.
(وهو العزيز) أي القادر الغالب الذي لا ينازعه منازع ولا يمانعه ممانع كائناً ما كان، قرأ قالون وأبو عمرو بسكون الهاء والباقون بضمها (الحكيم) الذي يفعل أفعال الحكمة والصواب.(13/394)
لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (2)
(له ملك السموات والأرض) يتصرف فيه وحده ولا ينفذ فيهما غير تصرفه وأمره، وقيل: المراد خزائن المطر والنبات وسائر الأرزاق ذكره مرتين، وليس بتكرار، لأن الأول في الدنيا كما أشار له في التقرير، والثاني في العقبى لقوله عقبة: (وإلى الله ترجع الأمور) والجملة مستأنفة لا محل لها من الإعراب (يحيي ويميت) الفعلان في محل رفع على أنهما خبران لمبتدأ محذوف، أو كلام مستأنف لبيان بعض أحكام الملك، أو حال من الضمير في له والعامل الاستقرار، والمعنى أنه يحيي بالإنشاء في الدنيا ويميت بعده، وقيل: يحيي النطف وهي أموات ويميت الأحياء، وقيل: يحيي الأموات للبعث (وهو على كل شيء قدير) لا يعجزه شيء كائناً ما كان.(13/394)
هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (3)
(هو الأول) قبل كل شيء بلا بداية، أو السابق على جميع الموجودات(13/394)
من حيث إنه موجدها ومحدثها (والآخر) بعد كل شيء بلا نهاية، أو الباقي بعد فنائها، ولو بالنظر إلى ذاتها مع قطع النظر عن غيرها، أو الأول خارجاً والآخر ذهناً، أو الأول الذي تبتدأ منه الأسباب وتنتهي إليه المسببات (والظاهر) العالي الغالب على كل شيء، أو الظاهر وجوده بالأدلة الواضحة.
(والباطن) أي العالم بما بطن، من قولهم: فلان يبطن أمر فلان، أي يعلم داخلة أمره، أو المعنى المحتجب حقيقة ذاته عن إدراك الأبصار والحواس والعقول، فلا تكتنهها الألباب والأحلام لا في الدنيا ولا في الآخرة فاضمحل ما في الكشاف من أن فيه حجة على من جوز إدراكه في الآخرة بالحاسة، وقد فسر هذه الأسماء الأربعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتعين المصير إلى ذلك كما أخرج ابن أبي شيبة ومسلم والترمذي والبيهقي.
" عن أبي هريرة قال: جاءت فاطمة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تسأله خادماً، فقال: قولي اللهم رب السموات السبع، ورب العرش العظيم، وربنا ورب كل شيء، منزل التوراة والإنجيل والفرقان، فالق الحب والنوى، أعوذ بك من شر كل شيء أنت آخذ بناصيته أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء، اقض عنا الدين واغننا من الفقر ".
وأخرج أحمد ومسلم وغيرهما من حديث أبي هريرة من وجه آخر مرفوعاً مثل هذا في الأربعة الأسماء المذكورة، وتفسيرها، وأخرج أبو الشيخ في العظمة.
" عن عمر وأبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم: قال لا يزال الناس يسألون عن كل شيء حتى يقولوا هذا الله كان قبل كل شيء،(13/395)
فماذا كان قبل الله؟ فإن قالوا لكم ذلك فقولوا: هو الأول قبل كل شيء، والآخر فليس بعده شيء، وهو الظاهر فوق كل شيء، وهو الباطن دون كل شيء، وهو بكل شيء عليم ".
وأخرج أبو داود.
" عن أبي زميل قال: سألت ابن عباس فقلت: ما شيء أجده في صدري؟ قال: ما هو؟ قلت: والله لا أتكلم به، قال: فقال لي: أشيء من شك قال: وضحك قال: ما تجا من ذلك أحد، قال: حتى أنزل الله (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ) الآية قال: وقال لي: إذا وجدت في نفسك شيئاًً فقل: (هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم). لا يعزب عن علمه شيء من المعلومات ".
" عن أبي هريرة قال: بينما النبي صلى الله عليه وسلم جالس وأصحابه إذ أتى عليهم سحاب فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتدرون ما هذا قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: هذه العنان هذه روايا الأرض يسوقها الله تعالى إلى قوم لا يشكرونه ولا يدعونه ثم قال: هل تدرون ما فوقكم قالوا الله ورسوله أعلم، قال: فإنها الرقيع سقف محفوظ، وموج مكفوف، ثم قال: هل تدرون كم بينكم وبينها قالوا الله ورسوله أعلم، قال: بينكم وبينها خمسمائة سنة، ثم قال: هل تدرون ما فوق ذلك قالوا: الله ورسوله أعلم، قال سماآن بعد ما بينهما خمسمائة سنة، حتى عد سبع سموات ما بين كل سماء كما بين السماء والأرض، ثم قال: هل تدرون ما فوق ذلك قالوا الله ورسوله أعلم، قال: فإن فوق ذلك العرش، وبينه وبين السماء بعد ما بين السماءين ثم قال هل تدرون ما تحتكم قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: فإنها الأرض، ثم قال: هل تدرون ما الذي تحت ذلك قالوا الله ورسوله أعلم، قال فإن تحتها أرض أخرى، بينهما مسيرة خمسائة سنة، حتى عد سبع أرضين(13/396)
بين كل أرضين مسيرة خمسمائة سنة، ثم قال: والذي نفس محمد بيده لو أنكم دليتم بحبل إلى الأرض السابعة السفلى لهبط على الله ثم قرأ هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم " أخرجه (1) الترمذي وقال حديث غريب.
وقال بعض أهل العلم في تفسير هذا الحديث: إنما أراد لهبط على علم الله وقدرته وسلطانه، وعلم الله في كل مكان، وهو على العرش كما وصف نفسه في كتابه، والعنان اسم للسحاب، ومعنى روايا الأرض الحوافل، والرقيع اسم لسماء الدنيا.
_________
(1) رواه الترمذي.(13/397)
هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4)
(هو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام) من أيام الدنيا أولها الأحد وآخرها الجمعة، ولو أراد أن يجعلهما في طرفة عين لفعل، ولكن جعل الستة أصلاً ليكون عليها المدار، وهذا بيان لبعض ملكه للسموات والأرض وقد تقدم تفسيره في سورة الأعراف وفي غيرها مستوفى.
(ثم استوى على العرش) أي: الكرسي استواء يليق به، قاله المحلي، " وعن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه قال: كنت جالساً في البطحاء في عصابة ورسول الله صلى الله عليه وسلم إذ مرت سحابة فنظروا إليها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هل تدرون ما اسم هذه؟ قلنا: نعم، هذا السحاب، قال: والمزن، قالوا: والمزن، قال: والعنان، قالوا: والعنان، ثم قال لهم: هل تدرون كم ما بين السماء والأرض، قالوا لا والله ما ندري، قال فإن بعد ما بينهما إما قال واحدة وإما قال اثنتان، وإما ثلاث وسبعون سنة، وبعد التي فوقها كذلك، وكذلك حتى عدهن سبع سموات كذلك، ثم فوق السماء السابعة بحر أعلاه وأسفله كما بين سماء إلى سماء، وفوق ذلك ثمانية أوعال بين(13/397)
أظلافهن وركبهن كما بين سماء إلى سماء، ثم فوق ظهورهن العرش بين أسفله وأعلاه مثل ما بين السماء إلى السماء والله عز وجل فوق ذلك " أخرجه الترمذي وأبو داود وزاد في رواية، وليس يخفى عليه من أعمال بني آدم شيء وقد تقدم الكلام على الاستواء مراراً في غير موضع وفي هذا الباب كتب ورسائل مستقلة وهي معروفة عند أهل العلم.
(يعلم ما يلج في الأرض) أي يدخل فيها من المطر والقطر والبذر والكنوز والموتى وغيرها (وما يخرج منها) من نبات ومعادن وغيرها (وما ينزل من السماء) من الملائكة والرحمة والعذاب والمطر وغيرها (وما يعرج فيها) أي يصعد إليها من الملائكة وأعمال العباد والدعوات، وقال المحلي كالأعمال الصالحة والسيئة، واعترضه القاري بأن الذي يرفع من الأعمال هو الصالح كما في قوله تعالى (إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه) وقد تقدم تفسير هذا في سورة سبأ.
(وهو معكم أينما كنتم) بقدرته وسلطانه وعلمه عموماً، وبفضله ورحمته خصوصاً، فليس ينفك أحد من تعليق علم الله تعالى وقدرته به أينما كان من أرض أو سماء، بر أو بحر، وقيل هو معكم بالحفظ والحراسة، قال ابن عباس: عالم بكم، وهذا تمثيل للإحاطة بما يصدر منهم، أينما داروا في الأرض من بر وبحر (والله بما تعلمون بصير) لا يخفى عليه من أعمالكم شيء.(13/398)
لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (5)
(لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) هذا التكرير للتأكيد، وذكره مع الإعادة كما ذكره مع الإبداء، لأنه كالمقدمة لهما (وإلى الله) لا إلى غيره (ترجع الأمور) الأخوان وابن عامر يقرأون بفتح التاء وكسر الجيم مبنياً لنفاعل؟ والباقون مبنياً للمفعول في جميع القرآن ذكره السمين.(13/398)
يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (6)
(يولج الليل) أي يدخله (في النهار) بأن ينقص من الليل ويزيد في النهار (ويولج النهار في الليل) بعكس ذلك وقد تقدم تفسير هذا في سورة(13/398)
آل عمران، وفي مواضع (وهو عليم بذات الصدور) أي: بضمائرها ومعتقداتها ومكنوناتها، لا تخفى عليه من ذلك خافية.(13/399)
آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (7)
(آمنوا بالله ورسوله) أي صدقوا بالتوحيد، وصحة الرسالة، وهذا خطاب لكفار العرب أو للجميع، ويكون المراد بالأمر بالإيمان في حق المسلمين الإستمرار عليه أو الإزدياد عليه، ثم لما أمرهم بالإيمان أمرهم بالإنفاق في سبيل الله فقال: (وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه) أي جعلكم خلفاء في التصرف فيه، من غير أن تملكوه حقيقة، فإن المال مال الله، والعباد خلفاء الله في أمواله، فعليهم أن يصرفوها فيما يرضيه، وقيل: جعلكم خلفاء من كان قبلكم ممن ترثونه، وسينتقل إلى غيركم ممن يرثكم، فلا تبخلوا به، كذا قال الحسن وغيره، وفيه الترغيب إلى الإنفاق في سبل الخير وتهوين له على النفس قبل أن ينتقل عنهم، ويصير إلى غيرهم.
والظاهر أن معنى الآية الترغيب في الإنفاق في الخير وما يرضاه الله على العموم، وقيل هو خاص بالزكاة المفروضة، ولا وجه لهذا التخصيص، قال المحلي: نزل في غزوة العسرة، وهي غزوة تبوك، ويشكل هذا على القول بأن السورة مكية، وكذا على القول بأنها مدنية على استثناء هذه الآيات،
وكانت في السنة التاسعة بعد رجوعه صلى الله عليه وسلم من الطائف، وهي آخر غزواته، ولم يقع فيها قتال، بل وقع الصلح على دفع الجزية، وإيضاح هذه القصة مذكور في سورة براءة فراجعها إن شئت.
ثم ذكر سبحانه ثواب من أنفق في سبيل الله فقال: (فالذين آمنوا منكم وأنفقوا) أي: الذين جمعوا بين الإيمان بالله ورسوله، وبين الإنفاق في سبيل الله، وفيه إشارة إلى عثمان رضي الله تعالى عنه، فإنه جهز في غزوة العسرة ثلثمائة بعير، بأقتابها وأحلاسها وأحمالها، وجاء بألف دينار ووضعها بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم (لهم أجر كبير) وهو الجنة.(13/399)
وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (8) هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (9) وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (10) مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (11)(13/400)
وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (8)
(وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) هذا الإستفهام للتوبيخ والتقريع، والخطاب للكفار، أي: أيُّ عذر لكم؟ وأي مانع من الإيمان؟ وقد أزيحت عنكم العلل وقيل: المعنى: أي شيء لكم من الثواب في الآخرة إذا لم تؤمنوا (وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ) أي: يدعوكم للإيمان، والمعنى أي عذر لكم في ترك الإيمان، والحال أن الرسول يدعوكم إليه وينبهكم عليه، ويتلو عليكم الكتاب الناطق بالبرهان والحجج (و) الحال أن (قد أخذ) الله (ميثاقكم) حين أخرجكم من ظهر أبيكم آدم في عالم الذر، حين أشهدكم على أنفسكم كما في قوله تعالى: (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى) أو بما نصب لكم من الأدلة الدالة على التوحيد ووجوب الإيمان، وركب فيكم من العقول، ومكنكم من النظر في الأدلة، فإذا لم تبق لكم علة بعد أدلة العقول، وتنبيه الرسول، فما لكم لا تؤمنون؟ وهو اختيار القاضي، كالكشاف والأول أولى.
قرأ الجمهور قد أخذ مبنياً للفاعل، وهو الله سبحانه، لتقدم ذكره وقرىء على البناء للمفعول وهما سبعيتان (إن كنتم مؤمنين) بما أخذ عليكم من الميثاق أو بالحجج والدلائل، أو إن كنتم مؤمنين بسبب من الأسباب، فهذا من أعظم أسبابه وأوضح موجباته، لا مزيد عليه، وقيل: إن كنتم مؤمنين بموسى وعيسى، فإن شريعتهما تقتضي الإيمان بمحمد صلى الله عليه(13/400)
وسلم، وقيل: مريدين للإيمان به، فبادروا إليه، وقيل: إن بمعنى إذ.(13/401)
هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (9)
(هو الذي ينزل على عبده آيات بينات) أي واضحات ظاهرات، وهي الآيات القرآنية. وقيل: المعجزات، والقرآن أعظمها (ليخرجكم من الظلمات إلى النور) أي ليخرجكم الله بتلك الآيات من ظلمات الشرك إلى نور الإيمان، أو ليخرجكم الرسول بتلك الآيات أو بالدعوة منها إليه (وإن الله بكم) في إخراجكم من الكفر إلى الإيمان (لرؤوف رحيم) أي كثير الرأفة والرحمة بليغهما، حيث أنزل كتبه، وبعث رسله، لهداية عباده، ولم يقتصر على ما نصب لكم من الحجج العقلية، فلا رأفة ولا رحمة أبلغ من هذه.(13/401)
وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (10)
(وما لكم أن لا) والأصل في أن لا (تنفقوا)؟ فموضعه نصب أو جر، وليست أن زائدة كما يرى أبو الحسن زيادتها، بل هي مصدرية، والمعنى في عدم الإنفاق (في سبيل الله) أي: في طاعته وما يكون قربة إليه فسبيله كل خير يوصلهم إليه فهو استعارة تصريحية، والإستفهام للتوبيخ والتقريع، وفي هذه الآية دليل على أن الإنفاق المأمور به في قوله: (وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه) هو الإنفاق في سبيل الله، كما بينا ذلك، والمعنى أي عذر لكم؟ وأي شيء يمنعكم من ذلك؟.
(ولله ميراث السموات والأرض) أي والحال أن كل ما فيهما راجع إلى الله سبحانه بانقراض العالم كرجوع الميراث إلى الوارث، ولا يبقى لهم منه شيء، وهذا أدخل في التوبيخ، وأكمل في التقريع، فإن كون تلك الأمور تخرج عن أهلها وتصير لله سبحانه، ولا يبقى أحد من مالكيها أقوى في إيجاب الإنفاق عليهم من كونها لله في الحقيقة، وهم خلفاؤه في التصرف فيها.
ثم بين سبحانه فضل من سبق بالإنفاق في سبيل الله، وتفاوت درجات المنفقين فقال:
(لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل) أي فتح مكة، وبه قال أكثر المفسرين، قال قتادة: كان قتالان أحدهما أفضل من الآخر، ونفقتان إحداهما أفضل من الأخرى، كان القتال والنفقة من قبل فتح مكة أفضل من النفقة والقتال بعد ذلك، وكذا قال مقاتل وغيره، وقال الشعبي والزهري: فتح الحديبية، وهو الراجح قاله الكرخي، وذكر القتال للإستطراد، وفي(13/401)
الكلام حذف، والتقدير: لا يستوي من أنفق من قبل الفتح وقاتل، ومن أنفق من بعد الفتح وقاتل، فحذف لظهوره، ولدلالة ما سيأتي عليه، فإن الاستواء يكون بين الشيئين ولا يتم إلا بذكر اثنين، وإنما كانت النفقة والقتال قبل الفتح أفضل من النفقة والقتال بعده، لأن حاجة الناس كانت إذ ذاك أكثر، وهم أقل وأضعف.
وتقديم الإنفاق على القتال للإيذان بفضيلة الإنفاق لما كانوا عليه من الحاجة، فإنهم كانوا يجودون بأنفسهم ولا يجدون ما يجودون به من الأموال، وعطف القتال على الإنفاق للإيذان بأنه أهم مواد الإنفاق، مع كونه في نفسه من أفضل العبادات.
والجود بالنفس أقصى غاية الجود.
(أولئك) إشارة إلى (من) باعتبار معناه، وهو مبتدأ وخبره قوله: (أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا) أي أرفع منزلة، وأعلى رتبة، من الذين أنفقوا أموالهم في سبيل الله من بعد الفتح، وقاتلوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال عطاء: درجات الجنة تتفاضل، فالذين أنفقوا من قبل الفتح في أفضلها، قال الزجاج: لأن المتقدمين نالهم من المشقة أكثر مما نال من بعدهم، وكانت بصائرهم أيضاًً أنفذ.
" وقد أرشد صلى الله عليه وسلم إلى هذه الفضيلة بقوله فيما صح عنه: لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه " وهذا خطاب منه صلى الله عليه وسلم للمتأخرين صحبة، كما يرشد إلى ذلك السبب الذي ورد فيه هذا الحديث.
وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه وأبو نعيم.
" عن أبي سعيد الخدري قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية حتى إذا كنا بعسفان قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يوشك أن يأتي قوم تحقرون أعمالكم مع أعمالهم، قلنا: من هم يا رسول الله؟ أقريش؟ قال: لا، ولكنهم أهل اليمن، هم أرق أفئدة وألين قلوباً، فقلنا: أهم خير منا يا رسول الله؟ قال: لو كان لأحدهم جبل من ذهب ما أدرك مد أحدكم ولا نصيفه، ألا أن هذا فصل ما بيننا وبين الناس، (لا(13/402)
يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل) الآية وهذا الحديث قال ابن كثير: غريب بهذا الإسناد، وقد رواه ابن جرير ولم يذكر فيه الحديبية.
وأخرج أحمد.
" عن أنس قال: كان بين خالد بن الوليد وبين عبد الرحمن بن عوف كلام، فقال خالد لعبد الرحمن: تستطيلون علينا بأيام سبقتمونا بها فبلغ النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: دعوا لي أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أنفقتم مثل أحد أو مثل الجبال ذهباً ما بلغتم أعمالهم " والذي في الصحيح " عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بلفظ: لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفس محمد بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه (1) " وفي لفظ ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه، أخرج هذا الحديث البخاري ومسلم وغيرهما من حديث أبي سعيد الخدري.
" وعن ابن عمر قال: لا تسبوا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فلمقام أحدهم ساعة خير من عمل أحدكم عمره "، أخرجه ابن أبي شيبة.
(وَكُلًّا) أي كل واحد من الفريقين (وَعَدَ اللَّهُ) المثوبة (الْحُسْنَى) وهي الجنة، مع تفاوت درجاتهم فيها، قرأ الجمهور كُلاًّ على أنه مفعول مقدم وقرىء بالرفع على الابتداء أو على أنه خبر مبتدأ محذوف، ومثل هذا قول الشاعر:
قد أصبحت أم الخيار تدعى ... على ذنباً كله لم أصنع
قيل: نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه، لأنه أول من أسلم، وأول من أنفق في سبيل الله وفيه دليل على فضله وتقدمه (والله بما تعملون خبير) لا يخفى عليه من ذلك شيء ثم رغب سبحانه في الصدقة فقال:
_________
(1) رواه مسلم والبخاري.(13/403)
مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (11)
(من ذا الذي يقرض الله) أي ينفق ماله في سبيل الله فإنه كمن يقرضه والعرب تقول لكل من فعل فعلاً حسناً قد أقرض، من إستفهامية مرفوعة المحل بالابتداء وذا خبرة، والموصول صفة له، أو بدل منه، ويصح أن يكون من ذا مبتدأ، والموصل خبره، وهذا منه تعالى في غاية اللطف بنا(13/403)
والإحسان إلينا، حيث أعطانا الأموال من عنده وجعل رجوعها إليه منا قرضاً، مع أنه المالك الحقيقي، قال الكلبي: (قرضاً) أي صدقة (حسناً) أي محتسباً من قلبه بلا مَنٍّ ولا أذى وقال مقاتل: حسناً طيبة به نفسه.
واستعير لفظ القرض ليدل على التزام الجزاء، وفيه استعارة تصريحية تبعية حيث شبه الإنفاق بالإقراض، والجامع إعطاء شيء بعوض، من حيث إن الله وعد به الجنة تشببها بالقرض لأن القرض إخراج المال لاسترداد البدل.
وقيل: القرض الحسن هو النفقة على الأهل. قاله زيد بن أسلم، وقال الحسن: هو التطوع بالعبادات وقيل: أنه العمل الخير، والعرب تقول: لي عند فلان قرض صدق وقرض سوء، والأول أولى.
وقال بعض العلماء: القرض لا يكون حسناً حتى يجمع أوصافاً عشرة، وهي أن يكون المال من الحلال، وأن يكون من أجود المال، وأن تتصدق به وأنت محتاج إليه، وأن تصرف صدقتك إلى الأحوج إليها، وأن تكتم الصدقة ما أمكنك، وأن تتبعها بالمن والأذى، وأن تقصد بها وجه الله ولا ترائي به الناس، وأن تستحقر ما تعطي وإن كان كثيراً، وأن يكون من أحب أموالك إليك، وأن لا ترى عز نفسك وذل الفقير فهذه عشرة خصال إذا اجتمعت في الصدقة كانت قرضاً حسناً وقد تقدم تفسير الآية في سورة البقرة.
(فيضاعفه له) أي يعطيه أجره على إنفاقه أضعافاً مضاعفة من فضله، قرأ أهل الكوفة والبصرة بالألف وتخفيف العين، وقرىء فيضعفه وعلى كل من القراءتين فالفعل إما مرفوع أو منصوب فالقراآت أربعة وكلها سبعية قال ابن عطية: الرفع هنا على العطف أو الإستئناف والنصب بالفاء على جواب الإستفهام (وله) مع المضاعفة (أجر كريم) وهو الجنة، والمضاعفة هنا هي كون الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، على اختلاف الأحوال والأشخاص والأوقات.(13/404)
يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ (13) يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (14) فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (15) أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (16)(13/405)
يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12)
(يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ) أي: اذكر، أو يؤجرون يوم ترى، أو يسعى نور المؤمنين والمؤمنات يوم تراهم هذا أصله والعامل فيه فيضاعفه، قاله أبو البقاء والخطاب لكل من يصلح له (يسعى نورهم) أي نور التوحيد والطاعات، والنور هو الضياء الذي يرى، وقيل: هو القرآن (بين أيديهم) ظرف ليسعى، أو حال من نورهم (وبأيمانهم) وذلك على الصراط يوم القيامة وهو دليلهم إلى الجنة، قال قتادة: إن المؤمن يضيء له نور كما بين عدن إلى صنعاء، حتى إن من المؤمنين من لا يضيء له نوره إلا موضع قدميه وقال الضحاك ومقاتل: (وبأيمانهم) كتبهم التي أعطوها فكتبهم بأيمانهم ونورهم بين أيديهم وقال الضحاك أيضاًً: نورهم هداهم، وبأيمانهم كتبهم واختار هذا ابن جرير الطبري أي: ليسعى إيمانهم بين أيديهم وفي أيمانهم كتب أعمالهم.
قال ابن مسعود في الآية: يؤتون نورهم على قدر أعمالهم يمرون على الصراط منهم من نوره مثل الجبل، ومنهم من نوره مثل النخلة، وأدناهم نوراً(13/405)
من نوره على إبهامه يطفأ مرة ويقد أخرى، قال الفراء: الباء بمعنى في، أي في جهة أيمانهم، وهذا على قراءة العامة أعنى بفتح الهمزة جمع يمين، وقيل: الباء بمعنى عن، أي: عن جميع جهاتهم، وإنما خص الأيمان لأنها أشرف الجهات وقرىء بكسرها على أن المراد بالإيمان ضد الكفر، وهذا المصدر معطوف على الظرف قبله، والباء سببية، أي يسعى كائناً بين أيديهم وكائناً بإيمانهم، وقال أبو البقاء: تقديره وبإيمانهم استحقوه أو وبإيمانهم، يقال لهم، أي تقول لهم الملائكة الذين يتلقونهم، (بشراكم اليوم) أي بشارتكم العظيمة في جميع ما يستقبلكم من الزمان.
(جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها) أي دخول جنات، لأن البشارة تقع بالإحداث دون الجثث (ذلك هو الفوز العظيم) لا يقادر قدره، حتى كأنه لا فوز غيره، ولا اعتداد بما سواه والإشارة إلى ما تقدم من النور والبشرى بالجنات المخلدة، هذا إذا كان قوله: (ذلك هو الفوز العظيم) قول الله تعالى، لا من جملة مقول الملائكة، وإلا فالإشارة حينئذ إلى الجنة بتأويل ما ذكر، أو لكونها فوزاً ذكره الكرخي.(13/406)
يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ (13)
(يوم) أي اذكر يوم (يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا) واللام للتبليغ كنظائرها: (انظرونا) أي: انتظرونا يقولون ذلك لما رأوا المؤمنين يسرع بهم إلى الجنة، قرأ الجمهور انظرونا أمراً بوصل الهمزة وضم الظاء، مشتق من النظر، بمعنى الإنتظار وقرىء من الإنظار بقطع الهمزة أي: أمهولنا وأخرونا يقال: أنظرته واستنظرته أي: امهلته واستمهلته قال الفراء: تقول العرب انظرني أي: انتظرني.
وقيل: معناه انظروا إلينا لأنهم إذا نظروا إليهم استقبلوهم بوجوههم، فيستضيؤا بنورهم، وهذا أليق بقوله: (نقتبس من نوركم) أي نستضيء منه إلا أن الشيخ أبا حيان قال: إن النظر بمعنى الإبصار لا يتعدى بنفسه إلا(13/406)
في الشعر وإنما يتعدى بإلى، والقبس: الشعلة من النار، والسراج فلما قالوا ذلك (قيل) أي قال لهم المؤمنون أو الملائكة الموكلون بهم زجراً وتهكماً بهم (ارجعوا وراءكم) أي إلى الموضع الذي أخذنا منه النور.
(فالتمسوا) أي اطلبوا هنالك (نوراً) لأنفسكم فإنه من هنالك يقتبس وقيل: المعنى إرجعوا إلى الدنيا فالتمسوا النور بما التمسناه به من الإيمان والأعمال الصالحة، وقيل: أرادوا بالنور ما وراءهم من الظلمة تهكماً بهم وعن ابن عباس قال: بينما الناس في ظلمة إذ بعث الله نوراً، فلما رأى المؤمنون النور توجهوا نحوه وكان النور دليلهم من الله إلى الجنة، فلما رأى المنافقون المؤمنين قد انطلقوا إلى النور اتبعوهم فأظلم الله على المنافقين، فقالوا حينئذ انظرونا نقتبس من نوركم، فإنا كنا معكم في الدنيا قال المؤمنون ارجعوا وراءكم من حيث جئتم من الظلمة فالتمسوا هنالك النور.
وأخرج الطبراني وابن مردويه.
" عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله يدعو الناس يوم القيامة بأمهاتهم ستراً منه على عباده وأما عند الصراط فإن الله يعطي كل مؤمن نوراً، وكل منافق نوراً فإذا استووا على الصراط سلب الله نور المنافقين والمنافقات، فقال المنافقون: (انظرونا نقتبس من نوركم) وقال المؤمنون: (ربنا أتمم لنا نورنا) فلا يذكر عند ذلك أحد أحداً "، وفي الباب أحاديث وآثار.
(فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ) معطوف على ما قبله متفرع عليه. فإن المؤمنين أو الملائكة لما منعوا المنافقين عن اللحوق بهم والإستضاءة بأنوار معارفهم وأعمالهم، بقي المنافقون في ظلمة نفاقهم، فصاروا بذلك كأنه ضرب بينهم وبين النور الذي يؤديهم إلى الجنة سور، فعلى هذا يكون قوله (فضرب) الخ من قبيل الإستعارة التمثيلية، والسور هو الحاجز بين الشيئين والمراد به هنا الحاجز بين الجنة والنار، أو بين أهل الجنة وأهل النار وقيل: هو الحائط بينهما(13/407)
وقيل: هو الأعراف قال الكسائي: الباء في (سور) زائدة ثم وصف سبحانه السور المذكور فقال:
(له) أي: لذلك السور (باب باطنه) أي باطن ذلك السور وهو الجانب الذي يلي أهل الجنة (فيه الرحمة) وهي الجنة أو النور (وظاهره) وهو الجانب الذي يلي أهل النار (من قبله) أي من قبل ذلك الظاهر ومن عنده ومن جهته (العذاب) أي الظلمة أو نار جهنم: وقيل إن المؤمنين يسبقونهم فيدخلون الجنة، والمنافقون يحصلون في العذاب وبينهم السور.
وقيل: إن الرحمة التي في باطنه نور المؤمنين، والعذاب الذي في ظاهره ظلمة المنافقين.
عن عبادة بن الصامت أنه كان على سور بيت المقدس، فبكى فقيل ما يبكيك؟ فقال: ههنا أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه رأى جهنم، وعن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: إن السور الذي ذكره الله في القرآن (فضرب بينهم بسور) هو الذي ببيت المقدس الشرقي باطنه فيه الرحمة المسجد وظاهره من قبله العذاب يعني وادي جهنم وما يليه ولا يخفاك أن تفسير السور المذكور في هذه الآية بهذا السور الكائن ببيت المقدس فيه من الأشكال ما لا يدفعه مقال، ولا سيما بعد زيادة قوله (باطنه فيه الرحمة) المسجد، فإن هذا غير ما سيقت له الآية وغير ما دلت عليه، وأين يقع بيت المقدس أو سوره بالنسبة إلى السور الحاجز بين فريقي المؤمنين والمنافقين، وأي معنى لذكر مسجد بيت المقدس ههنا؟ فإن كان المراد أن الله سبحانه ينزع سور بيت المقدس ويجعله في الدار الآخرة سوراً مضروباً بين المؤمنين والمنافقين فما معنى تفسير باطن السور وما فيه من الرحمة بالمسجد؟ وإن كان المراد أن الله يسوق فريقي المؤمنين والمنافقين إلى بيت المقدس فيجعل المؤمنين داخل السور في المسجد ويجعل المنافقين خارجه فهم إذ ذاك على الصراط وفي طريق الجنة وليسوا ببيت المقدس.(13/408)
فإن كان مثل هذا التفسير ثابتاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبلناه وآمنا به وإلا فلا كرامة ولا قبول، ولعله أخذ ذلك من الإسرائيليات فقد قال شريح: كان كعب يقول: في الباب الذي يسمى باب الرحمة في بيت المقدس إنه الباب الذي قال الله تعالى (فضرب بينهم بسور له باب) وكعب وكذا وهب كثير الرواية عن بني إسرائيل، وليس عند أهل السنة إلى قبوله سبيل.
ولما ضرب بالسور بين المؤمنين والمنافقين أخبر الله سبحانه عما قاله المنافقون إذ ذاك فقال:(13/409)
يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (14)
(ينادونهم) أي ينادي المنافقون المؤمنين من وراء ذلك السور حين حجز بينهم، وبقوا في الظلمة، والجملة حالية من الضمير في بينهم أو إستئناف وهو الظاهر (ألم نكن معكم)؟ أي موافقين لكم في الظاهر، نصلي بصلاتكم في مساجدكم، ونعمل بأعمال الإسلام مثلكم، ثم أخبر الله سبحانه عما أجابهم به المؤمنون فقال (قالوا بلى) أي كنتم معنا في الظاهر (ولكنكم فتنتم أنفسكم) بالنفاق وإبطان الكفر قال مجاهد: أهلكتموها بالنفاق، وقيل: بالشهوات واللذات، قاله ابن عباس، وقيل: استعملتموها في الفتنة وقيل: بالمعاصي قاله أبو سنان.
(وتربصتم) بمحمد صلى الله عليه وسلم وبمن معه من المؤمنين حوادث الدهر والدوائر وقيل: تربصتم بالتوبة، قاله ابن عباس والأول أولى (وارتبتم) أي: شككتم في أمر الدين، ولم تصدقوا ما أنزل الله من القرآن في التوحيد ولا بالمعجزات الظاهرة (وغرتكم الأماني) الباطلة التي من جملتها ما كنتم فيه من التربص وقيل: هي طول الأمل، والطمع في امتداد الأعمار وقيل: ما كانوا يتمنونه من ضعف المؤمنين، وقال قتادة: الأماني هنا غرور الشيطان وقيل: الدنيا وقيل: هو طمعهم في المغفرة وكل هذه الأشياء تدخل في مسمى الأماني.(13/409)
(حتى جاء أمر الله) وهو الموت قاله ابن عباس، وقيل: نصره سبحانه لنبيه صلى الله عليه وسلم، وقال قتادة: هو إلقاؤهم في النار (وغركم بالله الغرور) بفتح الغين وهو صفة على فعول، والمراد به الشيطان، قاله ابن عباس. أي خدعكم بحكم الله وإمهاله الشيطان، وقرىء بضمها، وهو مصدر، وقيل: غركم بأن الله عفو كريم لا يعذبكم، وماذا عسى أن تكون ذنوبكم عنده؟ وهو عظيم ومحسن وحليم، وغفور رحيم، فلا يزال بالإنسان حتى يوقعه، أو بأنه لا بعث ولا حساب، قال قتادة: ما زالوا على خدعة من الشيطان حتى قذفهم الله النار.(13/410)
فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (15)
(فاليوم لا يؤخذ منكم) أيها المنافقون (فدية) تفدون بها أنفسكم من النار، وقيل: عوض وبدل، وقيل: إيمان وتوبة والأول أولى (ولا من الذين كفروا) بالله ظاهراً وباطناً، وإنما عطف الكافر على المنافق وإن كان المنافق كافراً في الحقيقة لأن المنافق أبطن الكفر والكافر أظهره فصار غير المنافق بهذا الإعتبار فحسن عطفه على المنافق (مأواكم) أي منزلكم الذي تأوون إليه.
(النار هي مولاكم) أي هي أولى بكم، والمولى في الأصل من يتولى مصالح الإنسان، ثم استعمل فيمن يلازمه، وقيل: مولاكم مكانكم عن قرب من الولاء، وهو القرب، أو المعنى ذات ولايتكم، وهذا على أن المولى مصدر، قيل إن الله يركب في النار الحياة والعقل فهي تتميز غيظاً على الكفارة وقيل: المعنى هي ناصركم، على طريقة قول الشاعر:
تحية بينهم ضرب وجيع
والمعنى لا ناصر لكم إلا النار كما أن معنى البيت لا تحية لهم إلا الضرب، على التهكم والمراد نفي الناصر ونفي التحية (وبئس المصير) الذي تصيرون إليه النار.(13/410)
أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (16)
(ألم يأن للذين آمنوا)؟ يقال أنى لك يأنى إذا حان، أي: جاء أناه أي:(13/410)
وقته، قرأ الجمهور: ألم يأن، وقرىء ألما يأن (أن تخشع قلوبهم لذكر الله) أي ألم يحضر خشوع قلوبهم؟ ولم يجيء وقته؟ هذه الآية نزلت في المؤمنين، قال الحسن: يستبطئهم وهم أحب خلقه إليه، وقيل: إن الخطاب لمن آمن بموسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام دون محمد صلى الله عليه وسلم، قال الزجاج: نزلت في طائفة من المؤمنين حثوا على الرقة والخشوع، فأما من وصفهم الله بالرقة والخشوع فطبقة فوق هؤلاء، وقال السدي وغيره: المعنى: ألم يأن للذين آمنوا في الظاهر، وأسروا الكفر، أن تخشع وتلين وتسكن وتخضع وتذل وتطمئن قلوبهم لذكر الله، وسيأتي ما يقوي قول من قال: إنها نزلت في المسلمين، والخشوع لين القلب ورقته.
والمعنى أنه ينبغي أن يورثهم الذكر خشوعاً ورقة، ولا يكونوا كمن لا يلين قلبه للذكر، ولا يخشع له.
" عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: استبطأ الله قلوب المهاجرين بعد سبع عشرة سنة من نزول القرآن، فأنزل الله: (ألم يأن) الآية " أخرجه ابن مردويه، وأخرج أيضاًً " عن عائشة قالت: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على نفر من أصحابه في المسجد وهم يضحكون فسحب رداءه محمراً وجهه فقال: أتضحكون ولم يأتكم أمان من ربكم بأنه قد غفر لكم؟ ولقد أنزل عليّ في ضحككم آية (ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله)؟ قالوا يا رسول الله فما كفارة ذلك؟ قال: تبكون بقدر ما ضحكتم ".
وأخرج مسلم والنسائي وابن ماجة وابن المنذر وغيرهم.
" عن ابن مسعود قال: ما كان بين إسلامنا وبين أن عاتبنا الله بهذه الآية (ألم يأن) الخ إلا أربع سنين ".
" وعنه قال: لما نزلت هذه الآية أقبل بعضنا على بعض، أي شيء أحدثنا أي شيء صنعنا ".(13/411)
" وعن ابن عباس قال إن الله استبطأ قلوب المهاجرين فعاتبهم على رأس ثلاث عشرة سنة من نزول القرآن (ألم يأن) الآية ".
" وعن عبد العزيز ابن أبي دواد أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ظهر فيهم المزاح والضحك فنزلت هذه الآية (ألم يأن) الخ ".
(وما نزل من الحق) والمراد به القرآن فيحمل الذكر المعطوف عليه على ما عداه مما فيه ذكر الله سبحانه باللسان أو خطور بالقلب وقيل: المراد بالذكر هو القرآن فيكون هذا العطف من باب عطف التفسير أو باعتبار تغاير المفهومين قرأ الجمهور نزل مشدداً مبنياً للفاعل، وقرىء على البناء للمفعول وقرىء مخففاً مبنياً للفاعل وقرىء أنزل مبنياً للفاعل (ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل) قرأ الجمهور بالتحتية على الغيبة جرياً على ما تقدم، وقرىء على الخطاب التفاتاً، والمعنى النهي لهم أن يسلكوا سبيل اليهود والنصارى، الذين أوتوا التوراة والإنجيل من قبل نزول القرآن.
(فطال عليهم الأمد) أي طال عليهم الزمان بينهم وبين أنبيائهم، قرأ الجمهور الأمد بتخفيف الدال، وقرىء بتشديدها، أي الزمن الطويل، وقيل: المراد به على الأولى الأجل والغاية، يقال أمد فلان كذا أي غايته (فقست قلوبهم) بذلك السبب فلذلك حرفوا وبدلوا فنهى الله سبحانه أمة محمد صلى الله عليه وسلم أن يكونوا مثلهم، وعن أبي بكر أن هذه الآية قرئت بين يديه، وعنده قوم من أهل اليمامة فبكوا بكاء شديداً، فنظر إليهم فقال: هكذا كنا حتى قست القلوب.
(وكثير منهم فاسقون) أي خارجون عن الطاعة الله، لأنهم تركوا العمل بما أنزل إليهم، وحرفوا وبدلوا، ولم يؤمنوا بما نزل على محمد صلى الله عليه وسلم: وقيل: هم الذين تركوا الإيمان بعيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام، وقيل: هم الذين ابتدعوا الرهبانية وهم أصحاب الصوامع.(13/412)
اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (17) إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ (18) وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (19) اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (20)(13/413)
اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (17)
(اعْلَمُوا) خطاب للمؤمنين المذكورين، وهم الصحابة الذين أكثروا المزاح فيكون في الكلام التفات من الغيبة إلى الخطاب (أن الله يحيي الأرض بعد موتها) وهذا تمثيل لإحياء القلوب القاسية بالذكر والتلاوة، أو لإحياء الأموات ترغيباً في الخشوع وزجراً عن القساوة، وهذه إستعارة تمثيلية والمعنى من قدر على ذلك فهو قادر على أن يبعث الأجسام بعد موتها، ويلين القلوب بعد قسوتها، وإنما حمل على التمثيل لترتبط هذه الآية بما قبلها (قد بينا لكم الآيات) التي من جملتها هذه الآيات (لعلكم تعقلون) أي كي تعقلوا ما تضمنته من المواعظ، وتعملوا بموجب ذلك، أو لكي تكمل عقولكم.(13/413)
إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ (18)
(إن المصدقين والمصدقات) قرأ الجمهور بتشديد الصاد في الموضعين من الصدقة، والأصل المتصدقين والمتصدقات، وقرىء على الأصل وقرىء بتخفيف الصاد في الموضعين من التصديق، أي صدقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما جاء به (وأقرضوا الله قرضاً حسناً) معطوف على اسم الفاعل في المصدقين والمصدقات، لأنه لما وقع صلة للألف واللام الموصولة حل محل(13/413)
الفعل، فكأنه قال: إن الذين تصدقوا وأقرضوا، كذا قال أبو علي الفارسي وغيره، وقيل: صلة الموصول محذوف أي والذين أقرضوا، وقيل: جملة معترضة بين أسم إن وخبرها، والقرض الحسن عبارة عن التصدق والإنفاق في سبيل الله مع خلوص نية، وصحة قصد، واحتساب أجر.
(يضاعف لهم) قرأ الجمهور بفتح العين على البناء للمفعول، والقائم مقام الفاعل إما الجار والمجرور، أو ضمير يرجع إلى المصدقين على حذف مضاف، أي ثوابهم، وقرىء يضاعفه بكسر العين وزيادة الهاء، وقرىء يضعف بتشديد العين وفتحها، والمضاعفة هنا إن الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف (ولهم أجر كريم) وهو الجنة.(13/414)
وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (19)
(والذين آمنوا بالله ورسله) جميعاً (أولئك هم الصديقون والشهداء عند ربهم) قال مجاهد: كل من آمن بالله ورسله فهو صديق، قال المقاتلان: هم الذين لم يشكوا في الرسل حين أخبروهم ولم يكذبوهم، وقال مجاهد: هذه الآية للشهداء خاصة وهم الأنبياء الذين يشهدون للأمم وعليهم، واختار هذا الفراء والزجاج، وقال مقاتل بن سليمان: هم الذين استشهدوا في سبيل الله، وكذا قال ابن جرير، وقيل: هم أمم الرسل يشهدون يوم القيامة لأنبيائهم بالتبليغ، والظاهر أن معنى الآية إن (الذين آمنوا بالله ورسله) جميعاً بمنزلة الصديقين، والشهداء المشهورين بعلو الدرجة عند الله وقيل: إن الصديقين هم المبالغون في الصدق حيث آمنوا بالله وصدقوا جميع رسله، والقائمون لله سبحانه بالتوحيد.
أخرج ابن جرير.
" عن البراء بن عازب قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول مؤمنو أمتي شهداء، ثم تلا هذه الآية "، وقال ابن مسعود: كل مؤمن صديق وشهيد، وعنه قال: إن الرجل ليموت على فراشه وهو شهيد، ثم تلا هذه الآية، وعن أبي هريرة نحوه، وقال ابن عباس في الآية. هذه مفصولة،(13/414)
والشهداء عند ربهم لهم أجرهم ونورهم، وأخرج ابن حبان: " عن عمرو بن مرة الجهني قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أرأيت إن شهدت أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله، وصليت الصلوات الخمس، وأديت الزكاة، وصمت رمضان وقمته، فمن أنا؟ قال: من الصديقين والشهداء ".
ثم بين سبحانه ما لهم من الخير بسبب ما اتصفوا به من الإيمان بالله ورسله فقال:
(لهم أجرهم ونورهم) الضمير الأول راجع إلى الموصول، والضميران الآخران راجعان إلى الصديقين والشهداء، أي لهم مثل أجرهم ونورهم، وأما على قول من قال إن الذين آمنوا بالله ورسله هم نفس الصديقين والشهداء، فالضمائر الثلاثة كلها راجعة إلى شيء واحد، والمعنى لهم الأجر والنور الموعودان لهم، ثم لما ذكر حال المؤمنين وثوابهم ذكر حال الكافرين وعقابهم فقال:
(والذين كفروا وكذبوا بآياتنا) أي جمعوا بين الكفر والتكذيب (أولئك أصحاب الجحيم) يعذبون بها، ولا أجر لهم ولا نور، بل عذاب مقيم، وظلمة دائمة، ولما ذكر سبحانه حال الفريق الثاني وما وقع منهم من الكفر والتكذيب، وذلك بسبب ميلهم إلى الدنيا وتأثيرهم بيّن لهم حقارتها وأنها أحقر من أن تؤثر على الدار الآخرة فقال:(13/415)
اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (20)
(اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب) كلعب الصبيان (ولهو) كلهو الفتيان واللعب هو الباطل واللهو كل شيء يتلهى به ثم يذهب، قال قتادة: لعب ولهو أكل وشرب. قال مجاهد: كل لعب لهو، وقيل: اللعب ما رغب في الدنيا واللهو ما ألهى جمن الآخرة وشعل عنها، وقيل: اللعب الإقتناء، واللهو النساء، وقد تقدم تحقيق هذا في سورة الأنعام (وزينة) كزينة النسوان، والزينة التزين بمتاع الدنيا من اللباس والحلي ونحوهما، من دون(13/415)
عمل للآخرة (وتفاخر بينكم) كتفاخر الأقران قرأ الجمهور بتنوين تفاخر، وقرىء بالإضافة أي يفتخر به بعضكم على بعض، وقيل: يتفاخرون بالخلقة والقوة، وقيل: بالأنساب والأحساب كما كانت عليه العرب.
(وتكاثر) كتكاثر الدهقان، والتكاثر إدعاء الاستكثار (في الأموال والأولاد) أي يتكاثرون بأموالهم وأولادهم ويتطاولون بذلك على الفقراء، والمعنى أن التشاغل، وشغل البال بالحياة الدنيا، دائر بين هذه الأمور الخمسة اجتمعت أم لا، قال القشيري: وهذه الدنيا المذمومة هي ما يشغل العبد عن الآخرة فكل ما يشغله عن الآخرة فهو الدنيا، وأما الطاعات وما يعين عليها فمن أمور الآخرة.
وقال علي كرم الله وجهه لعمار بن ياسر: لا تحزن على الدنيا فإن الدنيا ستة أشياء مأكول ومشروب وملبوس ومشموم ومركوب ومنكوح، فأحسن طعامها العسل وهو بزقة ذبابة، وأكثر شرابها الماء وهو يستوي فيه جميع الحيوان، وأفضل ملبوسها الديباج وهو نسيج دودة، وأفضل مشمومها المسك وهو دم فأرة، وأفضل المركوب الفرس، وعليها تقتل الرجال، وأما المنكوح فهو النساء وهن مبال في مبال.
ثم بين سبحانه لهذه الحياة شبهاً، وضرب لها مثلاً، فقال:
(كمثل غيث) أي مطر (أعجب الكفار) أي الزراع، لأنهم يكفرون البذر، أي يغطونه بالتراب كما يستر الكافر حقيقة أنوار الإيمان بما يحصل منه من الجحد والطغيان (نباته) الحاصل به (ثم يهيج) أي يجف بعد نضارته وخضرته، قاله أبو السعود، وقيل: ييبس وفيه تسامح فإن حقيقته أن يتحرك إلى أقصى ما يتأتى له، فالمعنى يطول جداً (فتراه مصفراً) أي متغيراً عما كان عليه من الخضرة والرونق إلى لون الصفرة والذبول، وقرىء مصفاراً.
(ثم يكون حطاماً) أي متفتتاً هشيماً متكسراً متحطماً بعد يبسه، شبه(13/416)
حال الدنيا وسرعة تقضيها مع قلة جدواها بنبات أنبته الغيث فاستوى وقوي، وأعجب به الناظرون إليه لخضرته، وكثرة نضارته، ثم لا يلبث أن يصير هشيماً تبناً كائن لم يكن، وقيل: المعنى إن الحياة الدنيا كزرع أنبته الغيث وأعجب به الكفار الجاحدون لنعمة الله فيما رزقهم من الغيث والنبات فبعث الله عليه العاهة فهاج واصفر، وصار حطاماً، عقوبة لهم على جحودهم كما فعل بأصحاب الجنة. وصاحب الجنتين وقد تقدم تفسير هذا المثل في سورة يونس والكهف. ثم لما ذكر سبحانه حقارة الدنيا وسرعة زوالها ذكر ما أعده للعصاة في الدار الآخرة وما أعده لأهل الطاعة فقال:
(وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ) أخبر بأن في الآخرة عذاباً شديداً، ومغفرة منه ورضواناً، وهذا معنى حسن، وهو أنه قابل العذاب بشيئين، بالمغفرة والرضوان، فهو من باب: لن يغلب عسر يسرين، والتنكير فيهما للتعظيم. قال قتادة: عذاب شديد لأعداء الله ومغفرة من الله ورضوان لأوليائه وأهل طاعته، قال الفراء: التقدير في الآية إما عذاب شديد وإما مغفرة، فلا يوقف على شديد، ثم ذكر سبحانه بعد الترهيب والترغيب حقارة الدنيا فقال:
(وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور) لمن اغتر بها وركن إليها، واعتمد عليها، وعمل لها، ولم يعمل للآخرة، أي هي في نفسها غرور لا حقيقة له، وهذا يقتضي أن الإضافة بيانية، والمعنى وما التمتع بالدنيا إلا متاع أي تمتع هو الغرور، أي الإغترار، قال سعيد بن جبير: متاع الغرور لمن لم يشتغل بطلب الآخرة ومن اشتغل بطلبها فله متاع، بلاغ إلى ما هو خير منه، وهذه الجملة مقررة للمثل المقدم، ومؤكدة له، قال ذو النون: يا معشر المريدين لا تطلبوا الدنيا وإن طلبتموها فلا تحبوها، فإن الزاد منها، والمعيل في غيرها ثم ندب عباده إلى المسابقة إلى ما يوجب المغفرة من التوبة والعمل الصالح، فإن ذلك سبب إلى الجنة فقال:(13/417)
سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (21) مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (23) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (24)(13/418)
سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (21)
(سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) أي سارعوا مسارعة السابقين بالأعمال الصالحة التي توجب لكم المغفرة من ربكم، وتوبوا مما وقع منكم من المعاصي وقيل: المراد بالآية التكبيرة الأولى مع الإمام، قاله مكحول، وقيل: المراد الصف الأول، ولا وجه لتخصيص ما في الآية بمثل هذا بل هو من جملة ما تصدق عليه صدقاً شمولياً أو بدلياً، وحاصل المعنى لتكن مفاخرتكم ومكاثرتكم في غير ما أنتم عليه من أمور الدنيا، بل احرصوا على أن تكون مسابقتكم في طلب الآخرة.
(وجنة عرضها كعرض السماء والأرض) أي كعرضهما وإذا كان هذا قدر عرضها فما ظنك بطولها، قال الحسن يعني جميع السموات السبع والأرضين السبع مبسوطات، كل واحدة إلى صاحبتها، وقيل: المراد بالجنة التي عرضها هذا العرض هي جنة كل واحد من أهل الجنة، وقال ابن كيسان: عنى به جنة واحدة من الجنات، والعرض أقل من الطول، ومن عادة العرب أنها تعبر عن الشيء بعرضه دون طوله، وقيل: المراد بالعرض السعة لا ضد الطول كما في قوله تعالى: (فذو دعاء عريض) وقيل: إن هذا تمثيل للعباد بما يعقلونه، ويقع في نفوسهم وأفكارهم، والأول أولى، وقد مضى تفسير هذا في سورة آل عمران. ثم وصف سبحانه تلك الجنة بصفة أخرى فقال:(13/418)
(أعدت للذين آمنوا بالله ورسله) هذه الجملة مستأنفة، وفي هذا دليل على أنها مخلوقة، وعلى أن استحقاق الجنة يكون بمجرد الإيمان بالله ورسله ولكن هذا مقيد بالأدلة الدالة على أنه لا يستحقها إلا من عمل بما فرض الله عليه، واجتنب ما نهاه الله عنه، وهي أدلة كثيرة في الكتاب والسنة.
(ذلك) أي ما وعد به سبحانه من المغفرة والجنة (فضل الله يؤتيه) أي يعطيه (من يشاء) إعطاءه إياه تفضلاً وإحساناً، وفيه دليل على أنه لا يدخل أحد الجنة إلا بفضل الله لا بعمله (والله ذو الفضل العظيم) فهو يتفضل على من يشاء بما يشاء، ولا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع؛ والخير كله بيده، وهو الكريم المطلق، والجواد الذي لا يبخل، فلا يبعد منه التفضل بذلك، وإن عظم قدره، ثم بين سبحانه أن ما يصاب به العباد من المصائب قد سبق بذلك قضاؤه وقدره، وثبت في أم الكتاب، فقال:(13/419)
مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22)
(ما أصاب من مصيبة في الأرض) من زلزلة، وقحط مطر وجدب، وضعف نبات وقلته، ونقص ثمار وعاهة زرع، والمصيبة غلبت في الشر وقيل: المراد بها جميع الحوادث من خير وشر، وعلى الأول إنما خصت بالذكر دون الخير، لأنها أهم على البشر (ولا في أنفسكم) قال قتادة: بالأوصاب والأسقام، وقال مقاتل: إقامة الحدود، وقال ابن جريج: ضيق المعاش.
وقيل: موت الأولاد، واللفظ أوسع من ذلك (إلا في كتاب) أي إلا حال كونها مكتوبة في كتاب، وهو اللوح المحفوظ.
(من قبل أن نبرأها) أي نخلقها، والضمير عائد إلى المصيبة أو إلى الأنفس أو إلى الأرض أو إلى جميع ذلك، قاله المهدوي: وهو حسن، قال ابن عباس في الآية: هو شيء قد فرغ منه قبل أن تبرأ الأنفس (إن ذلك) أي إن إثباتها في الكتاب على كثرتها (على الله يسير) غير عسير.(13/419)
لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (23)
(لكيلا تأسوا) أي أخبرناكم بأنا قد فرغنا من التقدير لكيلا تحزنوا (على ما فاتكم) من الدنيا وسعتها أو من العافية وصحتها (ولا تفرحوا) أي لا تبطروا بطر المختال الفخور (بما آتاكم) منها أي أعطاكم، قرأ الجمهور بالمد. وقرىء بالقصر، أي جاءكم فإن ذلك يزول عن قريب لا يستحق أن يفرح بحصوله، ولا للحزن على فوته.
قيل: والفرح والحزن المنهى عنهما هما اللذان يتعدى فيهما إلى ما لا يجوز، وإلا(13/419)
فليس من أحد إلا وهو يحزن ويفرح، ولكن ينبغي أن يكون الفرح شكراً، والحزن صبراً، وإنما يلزم من الحزن الجزع المنافي للصبر، ومن الفرح الأشر المطغي الملهي عن الشكر، كما قال ابن عباس: ليس أحد إلا وهو يحزن ويفرح، ولكن من أصابته مصيبة جعلها صبراً، ومن أصابه خير جعله شكراً، وعنه قال: يريد مصائب المعاش، ولا يريد مصائب الدين، أمرهم أن يأسوا على السيئة ويفرحوا بالحسنة، قال جعفر بن الصادق رضي الله تعالى عنه: يا ابن آدم مالك تأسف على مفقود لا يرد إليك الفوت ومالك تفرح بموجود لا يتركه في يديك الموت.
(والله لا يحب كل مختال فخور) أي لا يحب من اتصف بهاتين الصفتين وهما الاختيال والافتخار، قيل: هو ذم للفرح الذي يختال فيه صاحبه ويبطر، وقيل: إن من فرح بالحظوظ الدنيوية وعظمت في نفسه اختال وافتخر بها، وقيل: المختال الذي ينظر إلى نفسه، والفخور الذي ينظر إلى الناس بعين الإستحقار، والأولى تفسير هاتين الصفتين بمعناهما الشرعي ثم اللغوي فمن حصلتا فيه فهو الذي لا يحبه الله.(13/420)
الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (24)
(الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل) قرأ الجمهور بضم الباء وسكون الخاء وقرىء بفتحتين وهي لغة الأنصار، وقرىء بفتح الباء وإسكان الخاء وضمهما، كلها لغات وهو كلام مستأنف لا تعلق له بما قبله، والخبر مقدر أي الذين يبخلون بما يجب عليهم من المال كزكاة وكفارة، ومن تعليم العلم ونشره وإذاعة أوصاف النبي صلى الله عليه وسلم، فالله غني عنهم، وقيل: الموصول في محل جر بدل من مختال، وهو بعيد، فإن هذا البخل بما في اليد وأمر الناس بالبخل ليس هو معنى المختال الفخور، لا لغة ولا شرعاً، وقيل: نعت له، وهو أيضاًً بعيد.
ويدل على الأول قوله: (ومن يتول فإن الله هو الغني الحميد) أي ومن يعرض عن الإنفاق فإن الله غني عنه، محمود عند خلقه، لا يضره ذلك، قرأ الجمهور بإثبات ضمير الفصل وقرىء بحذفه قال سعيد بن جبير الذين يبخلون بالعلم ويأمرون الناس بالبخل لئلا يعلموا الناس شيئاًً وقال زيد بن أسلم إنه البخل بأداء حق الله، وقيل: إنه البخل بالصدقة، وقال طاوس: إنه البخل بما في يديه، وقيل: أراد رؤساء اليهود الذين بخلوا ببيان صفة محمد صلى الله عليه وسلم في كتبهم، لئلا يؤمن به الناس فتذهب مآكلهم، قاله السدي والكلبي.(13/420)
لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (26)(13/421)
لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25)
(لقد) لام قسم (أرسلنا رسلنا) أي الملائكة، قاله الزمخشري والمحلي، وفيه بعد، وجمهور المفسرين على حمل الرسل على البشر (بالبينات) أي بالمعجزات البينة، والشرائع الظاهرة (وأنزلنا معهم الكتاب) المراد الجنس، فيدخل فيه كتاب كل رسول (والميزان ليقوم الناس بالقسط) قال قتادة ومقاتل بن حيان: الميزان العدل، والمعنى أمرناكم بالعدل كما في قوله: (والسماء رفعها ووضع الميزان)، وقوله: (الله الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان) وقال ابن زيد: هو ما يوزن به ويتعامل به، والمعنى ليتبعوا ما أمروا به من العدل فيتعاملوا فيما بينهم بالنصفة، والقسط العدل، وهو يدل على أن المراد بالميزان العدل، ومعنى إنزاله إنزال أسبابه وموجباته، وعلى القول بأن المراد به الآلة التي يوزن بها فيكون إنزاله بمعنى إرشاد الناس إليه، وإلهامهم الوزن به، ويكون الكلام من باب: (علفتها تبناً وماءاً بارداً).
(وأنزلنا الحديد) أي خلقناه كما في قوله: (وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج) وهذا قول الحسن، والمعنى أنه خلقه وأخرجه من المعادن، وعلم الناس صنعته، وقيل: إنه نزل مع آدم (فيه بأس شديد) لأنه تتخذ منه آلات الحرب، قال الزجاج: يمتنع به ويحارب، والمعنى أنه تتخذ منه آلة للدفع وآلة للضرب، قال مجاهد: فيه جنة وسلاح وقوة وشدة (ومنافع للناس) أي أنهم ينتفعون به في كثير مما يحتاجون إليه، مثل السكين والفأس والإبرة وآلات الزراعة والتجارة والعمارة، قال البيضاوي: ما من صنعة إلا والحديد آلتها أي له دخل في آلتها، وهذا الحصر كلي كما هو مشاهد.
(وليعلم الله من ينصره ورسله) معطوف على قوله: ليقوم أي لقد أرسلنا رسلنا، وفعلنا كيت وكيت، ليقوم الناس، وليعلم الله علم مشاهدة(13/421)
أو معطوف على علة مقدرة كأنه قيل: ليستعملوه وليعلم الله، والأول أولى، والمعنى أن الله أمر في الكتاب الذي أنزل بنصرة دينه ورسله فمن نصر دينه ورسله علمه ناصراً، ومن عصى علمه بخلاف ذلك، ومعنى (بالغيب) غائباً عنهم أو غائبين عنه.
(إن الله قوي عزيز) أي قادر على كل شيء غالب لكل شيء، وليس له حاجة في أن ينصره أحد من عباده وينصر رسله، بل كلفهم بذلك لينتفعوا به إذا امتثلوا، ويحصل لهم ما وعد به عباده المطيعين، قال أبو نصر العتبي: وقد كان يختلج في صدري معنى هذه الآية لجمعها بين الكتاب والميزان والحديد على تنافر ظاهرها في المناسبة، وبعدها قبل الروية والإستنباط، وسألت عدة من أعيان العلماء المذكورين بالتفسير، والمشهورين من بينهم بالتذكير فلم أحصل منهم على جواب، حتى أعملت التفكر، وأمعنت التدبر، فوجدت الكتاب قانون الشريعة، ودستور الأحكام الدينية يبين سبل المراشد، ويفصل جمل الفرائض، فيرتهن مصالح الأبدان والنفوس، ويتضمن جوامع الأحكام والحدود، قد حظر فيه التعادي والتظالم، ورفض التباغي والتخاصم، وأمر بالتناصف والتعادل في أقسام الأرزاق المخرجة لهم، بين رجع السماء وصدع الأرض، ليكون ما يصل منها إلى أهل الخطاب بحسب الاستحقاق بالتكسب، دون التغلب والتوثب، واحتاجوا في استدامة حياتهم بأقواتهم مع الصفة المندوب إليها إلى استعمال آلة للعدل، يقع بها التعامل، ويعم معها التساوي والتعادل فألهمهم الله تعالى اتخاذ الآلة التي هي الميزان، فيما يأخذونه ويعطونه، لئلا يتظالموا بمخالفته، فيهلكوا به إذ لم يكن ينتظم لهم العيش مع سوغ ظلم البعض منهم على البعض.
ويدل على هذا المعنى قوله تعالى (وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (7) أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (8) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ) وذلك أنه تعالى جعل السماء علة للأرزاق والأقوات من أنواع الحبوب والنبات، فكان ما يخرج منها من أغذية العباد، ومرافق حياتهم، مضطراً إلى أن يكون اقتسامه بينهم على الإنصاف دون الجزاف، ولم يكن يتم ذلك إلا بهذه الآلة المذكورة، فنبه(13/422)
الله تعالى على موقع الفائدة والعائدة بها، بتكرير ذكره، فكان ما تقدم ذكره معنى الكتاب والميزان.
ثم إنه من المعلوم أن الكتاب الجامع للأوامر الإلهية، والآلة الموضوعة للعامل بالسوية إنما يحفظ على إتباعهما ويضطر العالم إلى التزام أحكامهما بالسيف، الذي هو حجة الله تعالى على من جحد وعند، ونزع من صفة الجماعة اليد، وهو بارق سطوته، وشهاب نقمته، وجذوة عقابه، وعذبة عذابه، فهذا السيف هو الحديد، الذي وصفه الله تعالى بالبأس الشديد، فجمع بالقول الوجيز معاني كثيرة الشعوب، متدانية الجنوب، محكمة المطالع، مقومة المبادىء والمقاطع، فظهر بهذا التأويل معنى الآية، وبان أن السلطان خليفة الله على خلقه، وأمينه على رعاية حقه، بما قلده من سيفه، ومكن له في أرضه. انتهى المقصود منه.
ولما ذكر إرسال الرسل إجمالاً أشار هنا إلى نوع تفصيل، فذكر رسالته لنوح وإبراهيم فقال:(13/423)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (26)
(ولقد أرسلنا نوحاً وإبراهيم) كرر القسم للتوكيد، ولإظهار مزيد الإعتناء بالأمر، ونوح هو الأب الثاني لجميع البشر، وإبراهيم أبو العرب والروم وبني إسرائيل (وجعلنا في ذريتهما) أي نوح وإبراهيم (النبوة والكتاب) أي الكتب الأربعة المنزلة على الأنبياء منهم، وقيل: جعل بعضهم أنبياء وبعضهم يتلون الكتاب، وقيل: الكتاب الخط بالقلم، يقال كتب كتابة وكتاباً.
(فمنهم مهتد) أي: فمن الذرية من اهتدى بهدي نوح وإبراهيم وقيل: المعنى فمن المرسل إليهم من قوم الأنبياء مهتد بما جاء به الأنبياء من الهدى، والأول أولى، لتقدم ذكرهم لفظاً وأما الثاني فلدلالة أرسلنا والمرسلين عليه (وكثير منهم فاسقون) أي: خارجون عن الطاعة وقيل: المراد بالفاسق هنا الذي ارتكب الكبيرة سواء كان كافراً أو لم يكن لإطلاق هذا الإسم وهو يشمل الكافر وغيره، وقيل: المراد به هنا الكافر لأنه جعل الفساق ضد المهتدين.(13/423)
ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (27) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (28) لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29)(13/424)
ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (27)
(ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ) أي أتبعنا على آثار الذرية، أو على آثار نوح وإبراهيم ومن أرسلا إليهم، أو من عاصرهما من الرسل (برسلنا) الذين أرسلناهم إلى الأمم كموسى وإلياس وداود وسليمان وغيرهم (وقفينا بعيسى ابن مريم) أي أرسلنا رسولاً بعد رسول حتى انتهى إلى عيسى ابن مريم، وهو من ذرية إبراهيم من جهة أمه.
(وآتيناه الإنجيل) وهو الكتاب الذي أنزله الله عليه وقد تقدم ذكر إشتقاقه في سورة آل عمران قرأ الجمهور إنجيل بكسر الهمزة وقرىء بفتحها.
(وجعلنا في قلوب الذين أتبعوه) على دينه، وهم الحواريون وأتباعهم (رأفة) أي مودة، فكان يود بعضهم بعضاً (ورحمة) يتراحمون بها، وقيل: هذا إشارة إلى أنهم أمروا في الإنجيل بالصلح وترك إيذاء الناس، فألان الله قلوبهم لذلك، بخلاف اليهود الذين قست قلوبهم، وحرفوا الكلم عن مواضعه، وأصل الرأفة اللين، والرحمة الشفقة، وقيل: الرأفة أشد الرحمة.(13/424)
(ورهبانية ابتدعوها) أي وابتدعوا رهبانية ابتدعوها فالنصب على الاشغال وليس بمعطوفة على ما قبلها وقيل: معطوفة على ما قبلها أي وجعلنا في قلوبهم رأفة ورحمة ورهبانية مبتدعة من عند أنفسهم، والأول أولى ورجحه أبو علي الفارسي والزمخشري وأبو البقاء وجماعة إلا أن هؤلاء يقولون: إنه إعراب المعتزلة وذلك أنهم يقولون: ما كان من فعل الإنسان فهو مخلوق له فالرأفة والرحمة لما كانتا من فعل الله نسب خلقهما إليه، والرهبانية لما لم تكن من فعل الله تعالى، بل من فعل العبد يستقل بفعلها نسب ابتداعها إليه والرهبانية بفتح الراء وضمها وقد قرىء بهما وهي بالفتح الخوف من الرهب وبالضم منسوبة إلى الرهبان، وذلك لأنهم غلوا في العبادة وحملوا على أنفسهم المشقات في الامتناع من المطعم والمشرب والمنكح والملبس وتعلقوا بالكهوف والصوامع والغيران والديرة، لأن ملوكهم غيروا وبدلوا وبقي منهم نفر قليل فترهبوا وتبتلوا، ذكر معناه الضحاك وقتادة وغيرهما وإنما خصت بذكر الابتداع لأن الرأفة والرحمة في القلب أمر غريزي لا تكسب للإنسان فيه بخلاف الرهبانية فإنها من أفعال البدن وللإنسان فيها تكسب.
(ما كتبناها عليهم) صفة ثانية لرهبانية أو مستأنفة مقررة، لكونها مبتدعة من جهة أنفسهم، والمعنى: ما فرضناها عليهم (إلا ابتغاء رضوان الله) الإستثناء منقطع، أي ما كتبناها نحن عليهم رأساً، ولكن ابتدعوها ابتغاء رضوان الله، وإلى هذا ذهب قتادة وجماعة، وقيل: متصل، أي ما كتبناها عليهم لشيء من الأشياء إلا لابتغاء مرضاة الله، ويكون كتب بمعنى قضى، وهذا قول مجاهد، وقال الزجاج: معناه لم نكتب عليهم شيئاً البتة، قال: ويكون إلا ابتغاء رضوان الله بدلاً من الهاء والألف في كتبناها، والمعنى ما كتبنا عليهم إلا ابتغاء رضوان الله.
(فما رعوها حق رعايتها) أي لم يرعوا هذه الرهبانية التي ابتدعوها من جهة أنفسهم، وما قاموا بها حق القيام، بل ضيعوها، وكفروا بدين عيسى،(13/425)
وضموا إليها التثليث، ودخلوا في دين الملوك الذين غيروا وبدلوا، وتركوا الترهب ولم يبق على دين عيسى إلا قليل منهم، وهم المرادون بقوله: (فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ) الذي يستحقونه بالإيمان، وذلك لأنهم آمنوا بعيسى وثبتوا على دينه حتى آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم لما بعثه الله.
(وكثير منهم فاسقون) أي: خارجون عن الإيمان بما أمروا أن يؤمنوا به، ووجه الذم لهم على تقدير أن الإستثناء منقطع، أنهم قد كانوا ألزموا أنفسهم الرهبانية معتقدين أنها طاعة، وأن الله يرضاها، فكان تركها وعدم رعايتها حق الرعاية يدل على عدم مبالاتهم بما يعتقدونه ديناً، وأما على القول بأن الإستثناء متصل، وأن التقدير: ما كتبناها عليهم لشيء من الأشياء إلا ليبتغوا بها رضوان الله، بعد أن وفقناهم لإبتداعها، فوجه الذم ظاهر.
عن " ابن مسعود في الآية قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا عبد الله قلت لبيك يا رسول الله ثلاث مرات، قال: هل تدري أي عرى الإسلام أوثق؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: أفضل الناس أفضلهم عملاً إذا فقهوا في دينهم يا عبد الله هل تدري أي الناس أعلم؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: فإن أعلم الناس أبصرهم بالحق إذا اختلف الناس، وإن كان مقصراً بالعمل، وإن كان يزحف على استه، واختلف من كان قبلنا على اثنتين وسبعين فرقة، نجا منها ثلاث، وهلك سائرها، فرقة وازرت الملوك وقاتلتهم على دين الله وعيسى ابن مريم، وفرقة لم تكن لهم طاقة على موازرة الملوك فأقاموا بين ظهراني قومهم، فدعوهم إلى دين الله ودين عيسى، فقتلهم الملوك ونشرتهم المناشير، وفرقة لم تكن لهم طاقة بموازرة الملوك ولا بالمقام معهم، فساحوا في الجبال وترهبوا فيها، وهم الذين قال الله:
(ورهبانية ابتدعوها) إلى قوله: (فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ)، وهم الذين آمنوا بي وصدقوني، (وكثير منهم فاسقون)، هم الذين(13/426)
جحدوني وكفروا بي، أخرجه عبد بن حميد وأبو يعلى وابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه والبيهقي في الشعب وغيرهم.
" وعن ابن عباس قال: كانت ملوك بعد عيسى بدلت التوراة والإنجيل، فكان منهم مؤمنون يقرأون التوراة والإنجيل، فقيل لملوكهم: ما نجد شيئاًً أشد من شتم يشتمنا هؤلاء إنهم يقرأون: (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون)، (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون)، (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون)، مع ما يعيبوننا به من أعمالنا في قراءتهم، فادعوهم فليقرأوا كما نقرأ، وليؤمنوا كما آمنا فدعاهم فجمعهم، وعرض عليهم القتل أو ليتركوا قراءة التوراة والإنجيل إلا ما بدلوا منهما، فقالوا: ما تريدون إلى ذلك دعونا نحن نكفيكم أنفسنا، فقالت طائفة منهم: ابنوا لنا أسطوانة ثم ارفعونا إليها ثم اعطونا شيئاًً نرفع به طعامنا وشرابنا. ولا نرد عليكم، وقالت طائفة: دعونا نسبح في الأرض ونهيم ونأكل مما تأكل الوحوش، ونشرب مما تشرب، فإن قدرتم علينا في أرضكم فاقتلونا، وقالت طائفة منهم: ابنوا لنا دوراً في الفيافي ونحتفر الآبار ونحرث البقول فلا نرد عليكم، ولا نمر بكم، وليس أحد من القبائل إلا له حميم فيهم، ففعلوا ذلك فأنزل الله (رهبانية ابتدعوها) الآية.
وقال الآخرون ممن تعبد من أهل الشرك، وفني من فني منهم، قالوا: نتعبد كما تعبد فلان "، ونسيح كما ساح فلان، ونتخذ دوراً كما اتخذ فلان، وهم على شركهم لا علم لهم بإيمان الذين افتدوا بهم، فلما بعث الله النبي صلى الله عليه وسلم ولم يبق منهم إلا قليل، انحط صاحب الصومعة من صومعته، وجاء السياح من سياحته وصاحب الدير من ديره، فآمنوا به وصدقوه، فقال الله: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله) الآية " أخرجه النسائي وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه وغيرهم.
" وعن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن لكل أمة رهبانية،(13/427)
ورهبانية هذه الأمة الجهاد في سبيل الله " أخرجه أحمد وأبو يعلى والبيهقي في الشعب، ثم أمر الله سبحانه المؤمنين بالرسل المتقدمين، بالتقوى والإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم فقال:(13/428)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (28)
(يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله) بترك ما نهاكم عنه (وآمنوا برسوله) محمد صلى الله عليه وسلم (يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ) أي نصيبين ضخمين بسبب إيمانكم برسوله بعد إيمانكم بمن قبله من الرسل، قال ابن عباس: أي أجرين بإيمانهم بعيسى عليه السلام، ونصب أنفسهم والتوراة والإنجيل وبإيمانهم بمحمد صلى الله عليه وسلم وتصديقهم، ولا يبعد أن يثابوا على دينهم السابق، وإن كان منسوخاً ببركة الإسلام، وقيل: الخطاب للنصارى الذين كانوا في عصره صلى الله عليه وسلم، وأصل الكفل الحظ والنصيب؛ وقد تقدم الكلام على تفسيره في سورة النساء.
قال أبو موسى الأشعري رضي الله عنه: كفلين ضعفين؛ وهي بلسان الحبشة، وقال ابن عمر: الكفل ثلثمائة جزء وخمسون جزءاً من رحمة الله، " وعن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ثلاثة لهم أجران؛ رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وآمن بمحمد صلى الله عليه وسلم والعبد المملوك الذي أدى حق مواليه وحق الله ورجل كانت عنده أمة يطؤها فأدبها فأحسن تأديبها، وعلمها فأحسن تعليمها ثم أعتقها فتزوجها فله أجران " أخرجه الشيخان.
(ويجعل لكم نوراً تمشون به) يعني على الصراط، كما قال: (نورهم يسعى بين أيديهم)، وقيل: النور هو القرآن، وقيل: هو الهدى والبيان، أي يجعل لكم سبيلاً واضحاً في الدين تهتدون به (ويغفر لكم) ما سلف من ذنوبكم قبل الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم (والله غفور رحيم) أي بليغ المغفرة والرحمة.(13/428)
لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29)
(لئلا يعلم أهل الكتاب) أي التوراة، واللام متعلقة بما تقدم من الأمر بالإيمان والتقوى، أي اتقوا وآمنوا يؤتكم كذا وكذا ليعلم الذين لم يتقوا ولا آمنوا من أهل الكتاب، ولا في لئلا زائدة قاله الفراء والأخفش وغيرهما (ألا يقدرون على شيء) أي ليعلم أهل الكتاب أنهم لا يقدرون على أن ينالوا شيئاً (من فضل الله) الذي تفضل به على من آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم ولا يقدرون على دفع ذلك الفضل الذي تفضل الله به على المستحقين له، ولا يتمكنون من نيله لأنهم لم يؤمنوا برسوله، وهو مشروط بالإيمان به، وقيل: الضمير للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله تعالى عنهم؛ ولا غير مزيدة، والمعنى لئلا يعتقد أهل الكتاب أنه لا يقدر النبي والمؤمنون على شيء من فضل الله الذي هو عبارة عما أوتوه والأول أولى.
(و) جملة (أن الفضل بيد الله) معطوفة على الجملة التي قبلها أي ليعلموا أنهم لا يقدرون، وليعلموا أن الفضل الخ (يؤتيه من يشاء) من عباده والظاهر أنه مستأنف، وقيل: هو خبر ثان عن الفضل (والله ذو الفضل العظيم) جملة مقررة لمضمون ما قبلها، والمراد بالفضل هنا ما تفضل به على الذين اتقوا وآمنوا برسوله من الأجر المضاعف، وقال الكلبي: هو رزق الله وقيل: نعم الله التي لا تحصى، وقيل هو الإسلام.(13/429)
خاتمة الجزء الثالث عشر
تم بعون الله تعالى الجزء الثالث عشر ويليه الجزء الرابع عشر وأوله سورة المجادلة.(13/430)
فتحُ البيان في مقاصد القرآن
تفسِير سَلفي أثري خالٍ منَ الإِسرَائيليّاتِ والجَدليَّاتِ المذهبية والكلامية يغني عَن جميع التفاسِير وَلا تغني جميعُهَا عَنه
تأليف: السيد الإمام العلامة الملك المؤيد من الله الباري آبي الطيب صديق بن حسن بن علي الحسين القنوجي النجاري 1248 - 1307 هـ
عني بطبعهِ وقدّم له وراجعه: خادم العلم عَبد الله بن إبراهيم الأنصَاري
الجزء الرابع عشر
المَكتبة العصريَّة
صَيدَا - بَيروت(14/1)
جَمِيع الحُقُوق محفُوظَة
1412 هـ - 1992 م
شركة أبناء شريف الأنصاري للطباعة والنشر والتوزيع
المَكتبة العصريَّة للطبَاعة والنّشْر
الدار النموذجية ــ المكتبة العصرية
بَيروت - صَ. ب 8355 - تلكس LE 20437 SCS
صَيدَا - صَ. ب 221 - تلكس LE 29198(14/2)
فتح البيان في مقاصد القرآن(14/3)
الجزء الرابع عشر
بسم الله الرحمن الرحيم
ويحتوي على:
- سورة المجادلة
- سورة الحشر
- سورة الممتحنة
- سورة الصف
- سورة الجمعة
- سورة المنافقون
- سورة التغابن
- سورة الطلاق
- سورة التحريم
- سورة الملك
- سورة القلم
- سورة الحاقة
- سورة المعارج
- سورة نوح
- سورة الجن
- سورة المزمل
- سورة المدثر
- سورة القيامة
- سورة الإنسان(14/5)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
سورة المجادلة
(اثنتان وعشرون آية وهي مدنية)
قال القرطبي: في قول الجميع، إلا رواية عن عطاء أن العشر الأول منها مدني، وباقيها مكي، وقال الكلبي: نزلت جميعها بالمدينة غير قوله: (مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ) نزلت بمكة، وقال ابن عباس: نزلت بالمدينة وعن ابن الزبير مثله والمجادلة بكسر الدال كما ذكره السعد في حواشي الكشاف وفي الشهاب بفتح الدال وكسرها والثاني هو المعروف كما في الكشاف وهذه السورة أول النصف الثاني من القرآن، باعتبار عدد السور، فهي الثامنة والخمسون منها، وهي أول العشر الأخير من القرآن باعتبار عدد أجزائه، وليس فيها آية إلاَّ وفيها ذكر الجلالة مرة أو مرتين أو ثلاثاً وجملة ما فيها من الجلالات خمس وثلاثون.(14/7)
بسم الله الرحمن الرحيم
قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1) الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (2) وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (3) فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (4)(14/9)
قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1)
(قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا) أي تراجعك الكلام في شأنه أي أجاب قولها ومطلوبها بأن أنزل حكم الظهار على ما يوافق مطلوبها، وعلى هذا فقد للتحقيق، ومن قال إنها للتقريب والتوقع فلم يلاق المعنى، وقد سمع بإظهار الدال وإدغامها في السين قراءتان سبعيتان.
(وتشتكي إلى الله)، أي تظهر ما بها من المكروه والفاقة والوحدة، والمجادلة هذه الكائنة منها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنه كان كلما قال لها قد حرمت عليه، قالت والله ما ذكر طلاقاً، ثم تقول: أشكو إلى الله فاقتي ووحدتي، وأن لي صبية صغاراً إن ضممتهم إليه ضاعوا، وإن ضممتهم إلي جاعوا وجعلت ترفع رأسها إلى السماء وتقول: اللهم إني أشكو إليك، فهذا معنى قوله: (وتشتكي إلى الله) قال الواحدي: قال المفسرون: نزلت هذه الآية في خولة بنت ثعلبة، وزوجها أوس بن الصامت، وكان به لمم فاشتد به لممه ذات يوم فظاهر منها، ثم ندم على ذلك، وكان الظهار طلاقاً في الجاهلية، وقيل: هي خولة بنت حكيم، وقيل: اسمها جميلة، والأول أصح. وقيل: هي بنت خويلد قال الماوردي: إنها نسبت تارة إلى(14/9)
أبيها وتارة إلى جدها وأحدهما أبوها والآخر جدها فهي خولة بنت ثعلبة بن خويلد.
روي أن عمر بن الخطاب مر بها في زمن خلافته وهو على حمار والناس حوله فاستوقفته ووعظته، فقيل له: أتقف لهذه العجوز هذا الموقف؟ فقال أتدرون من هذه العجوز؟ هي خولة بنت ثعلبة سمع الله قولها من فوق سبع سموات، أيسمع رب العالمين قولها ولا يسمعه عمر؟
(والله يسمع تحاوركما) مستأنفة جارية مجرى التعليل لما قبلها، أي والله يعلم تراجعكما في الكلام من حاور إذا راجع، أو حور إذا رجع، أو جملة حالية وهو بعيد. وقد أخرج ابن ماجة والحاكم وصححه والبيهقي وغيرهم.
" عن عائشة قالت: تبارك الذي وسع سمعه كل شيء إني لأسمع كلام خولة بنت ثعلبة ويخفي علي بعضه وهي تشتكي زوجها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي تقول: يا رسول الله أكل شبابي، ونثرت له بطني، حتى إذا كبر سني وانقطع ولدي ظاهر مني اللهم إني أشكو إليك، قالت: فما برحت حتى نزل جبريل بهؤلاء الآيات: (قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها) وهو أوس بن الصامت ".
(إن الله سميع بصير) يسمع كل مسموع، ويبصر كل مبصر، ومن جملة ذلك ما جادلتك به هذه المرأة، أخرج أحمد وأبو داود وابن المنذر والطبراني والبيهقي.
" من طريق يوسف بن عبد الله قال: حدثتني خولة بنت ثعلبة قالت: فيّ والله وفي أوس بن الصامت أنزل الله صدر سورة المجادلة، قالت: كنت عنده وكان شيخاً كبيراً قد ساء خلقه، فدخل علي يوماً فراجعته بشيء فغضب فقال: أنت عليّ كظهر أمي، ثم رجع فجلس في نادي قومه ساعة، ثم دخل عليّ فإذا هو يريدني عن نفسي، قلت: كلا والذي نفس خولة بيده لا تصل(14/10)
إلي، وقد قلت ما قلت، حتى يحكم الله ورسوله فينا، ثم جئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكرت ذلك له، فما برحت حتى نزل القرآن، فتغشى رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما كان يتغشاه ثم سري عنه، فقال لي: يا خولة قد أنزل الله فيك وفي صاحبك، ثم قرأ عليّ (قد سمع) إلى قوله: (عذاب أليم) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مريه فليعتق رقبة، قلت: يا رسول الله ما عنده ما يعتق، قال: فليصم شهرين متتابعين، قلت: والله إنه لشيخ كبير ما به من صيام، قال: فليطعم ستين مسكيناً وسقاً من تمر، قلت: والله ما ذاك عنده، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فأنا سأعينه بعذق من تمر فقلت: وأنا يا رسول الله سأعينه بوسق آخر فقال قد أصبت وأحسنت فاذهبي وتصدقي به عنه، ثم استوصي بابن عمك خيراً قالت: ففعلت "، وفي الباب أحاديث.
ثم بين سبحانه شأن الظهار في نفسه وذكر حكمه بطريق الاستئناف فقال:(14/11)
الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (2)
(الذين يظاهرون) بضم الياء وتخفيف الظاء وكسر الهاء، وقرأ الجمهور يظهرون بالتشديد مع فتح حرف المضارعة، وقرىء يظاهرون بفتح الياء وتشديد الظاء وزيادة ألف، وقد تقدم مثل هذا في سورة الأحزاب وقرىء يتظاهرون وكلها سبعيات ومعنى الظهار شرعاً أن يقول لامرأته: أنت عليّ كظهر أمي، أنت مني أو معي أو عندي كظهر أمي ولا خلاف في كون هذا ظهاراً، واختلفوا إذا قال أنت علي كظهر ابنتي أو أختي أو غير ذلك من ذوات المحارم، فذهب جماعة منهم أبو حنيفة ومالك إلى أنه ظهار وبه قال الحسن والنخعي والزهري والأوزاعي والثوري، وقال جماعة منهم قتادة والشعبي: إنه لا يكون ظهاراً بل يختص الظهار بالأم وحدها واختلفت الرواية عن الشافعي فروي عنه كالقول الأول وكالقول الثاني.
وأصل الظهار مشتق من الظهر وهو لغة العلو وليس هو من ظهر الإنسان واختلفوا إذا قال لامرأته: أنت عليّ كرأس أمي أو يدها أو رجلها أو نحو ذلك، هل يكون ظهاراً أم لا؟ وهكذا إذا قال: أنت عليّ كأمي ولم يذكر(14/11)
الظهر، والظاهر أنه إذا قصد بذلك الظهار كان ظهاراً، وروي عن أبي حنيفة أنه إذا شبهها بعضو من أمه يحل له النظر إليه لم يكن ظهاراً، وروي عن الشافعي أنه لا يكون الظهار إلا في الظهر وحده، واختلفوا إذا شبه امرأته بأجنبية فقيل: يكون ظهاراً، وقيل: لا، والكلام في هذا مبسوط في كتب الفروع.
(منكم) أي حال كونهم منكم أيها العرب، وهذا توبيخ لهم، وتهجين لعادتهم، لأن الظهار كان خاصاً بالعرب ومن أيمان جاهليتهم دون سائر الأمم (من نسائهم) يعني يحرمون زوجاتهم كتحريم الله عليهم ظهور أمهاتهم، يقولون لهن: أنتن كظهور أمهاتنا (ما هن أمهاتهم) أي ما نساؤهم بأمهاتهم فذلك كذب بحت منهم، وإنه منكر وزور، وفي هذا توبيخ للمظاهرين وتبكيت لهم قرأ الجمهور أمهاتهم بالنصب على اللغة الحجازية في إعمال (ما) عمل ليس، وقرىء بالرفع على عدم الإعمال، وهي لغة نجد وبني أسد. ثم بيّن لهم سبحانه أمهاتهم على الحقيقة فقال:
(إن أمهاتهم إلا اللائي ولدنهم) أي ما أمهاتهم إلا النساء اللاتي ولدنهم، يريد أن الأمهات على الحقيقة الوالدات، والمرضعات ملحقات بالوالدات بواسطة الرضاع، وكذا أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم، لزيادة حرمتهن وأما الزوجات فأبعد شيء من الأمومة فلذا زاد سبحانه في توبيخهم وتقريعهم فقال:
(وإنهم ليقولون منكراً من القول وزوراً) أي وإن المظاهرين ليقولون بقولهم هذا فظيعاً من القول، ينكره الشرع، والزور: الكذب الباطل، المنحرف عن الحق (وإن الله لعفو غفور) أي بليغ العفو والمغفرة إذ جعل الكفارة عليهم، مخلصة لهم عن هذا القول المنكر ولما ذكر سبحانه الظهار إجمالاً، ووبخ فاعليه، شرع في تفصيل أحكامه فقال:(14/12)
وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (3)
(والذين يظاهرون من نسائهم) أي والذين يقولون ذلك القول المنكر(14/12)
الزور، ويمتنعون بهذا اللفظ من جماعهن (ثم يعودون لما قالوا) أي إلى ما قالوا بالتدارك والتلافي، كما في قوله (أن تعودوا لمثله)، أي إلى مثله، قال الأخفش: (لما قالوا) وإلى ما قالوا يتعاقبان، قال: (والحمد لله الذي هدانا لهذا) وقال: (فاهدوهم إلى صراط الجحيم) وقال: (بأن ربك أوحى لها) وقال (وأوحى إلى نوح) وقال الفراء: اللام بمعنى عن والمعنى ثم يرجعون عما قالوا ويريدون الوطء، وقال الزجاج: المعنى ثم يعودون إلى إرادة الجماع من أجل ما قالوا.
واختلف أهل العلم في تفسير العود المذكور على أقوال، الأول أنه العزم على الوطء، وبه قال العراقيون أبو حنيفة وأصحابه. وروي عن مالك: وقيل هو الوطء نفسه، وبه قال الحسن، وروي أيضاًً عن مالك، وقيل: هو أن يمسكها زوجة بعد الظهار مع القدرة على الطلاق، وبه قال الشافعي، وقيل: هو الكفارة، والمعنى أنه لا يستبيح وطأها إلا بكفارة، وبه قال الليث بن سعد، وروي عن أبي حنيفة، وقيل: هو تكرير الظهار بلفظه وبه قال أهل الظاهر وروي عن بكير بن الأشج وأبي العالية والفراء والمعنى ثم يعودون إلى قول ما قالوا وقيل: المعنى يعودون إليه بالنقض والرفع والإزالة وإلى هذا الاحتمال ذهب أكثر المجتهدين وقيل: معنى العود السكوت عن الطلاق بعد الظهار وقيل: العود الندم أي يندمون فيرجعون إلى الألفة.
قال ابن عباس في الآية: هو الرجل يقول لامرأته: أنت علي كظهر أمي فإذا قال ذلك فليس يحل له أن يقربها بنكاح ولا غيره، حتى يكفر بعتق رقبة فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا والمس النكاح فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكيناً وإن هو قال لها أنت علي كظهر أمي إن فعلت كذا فليس يقع في ذلك ظهار حتى يحنث فإن حنث فلا يقربها حتى يكفر: ولا يقع في الظهار طلاق.
(فتحرير رقبة) أي فالواجب عليهم إعتاق رقبة يقال: حررته أي(14/13)
جعلته حراً والظاهر أنها تجزىء أي رقبة كانت وقيل: يشترط أن تكون مؤمنة كالرقبة في كفارة القتل وبالأول قال أبو حنيفة وأصحابه وبالثاني قال مالك والشافعي واشترطا أيضاًً سلامتها من كل عيب ولم يجز المدبر وأم الولد والمكاتب الذي أدى شيئاًً، قال الأخفش: الآية فيها تقديم وتأخير والمعنى والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما كانوا عليه من الجماع، فتحرير رقبة لما قالوا أي فعليهم تحرير رقبة من أجل ما قالوا، فالجار في قوله: (لما قالوا) متعلق بالمحذوف الذي هو خبر المبتدأ وهو فعليهم.
(من قبل أن يتماسا) المراد بالتماس هنا الجماع وبه قال الجمهور فلا يجوز للمظاهر الوطء حتى يكفر، وقيل: إن المراد به الاستمتاع بالجماع أو اللمس أو النظر إلى الفرج بشهوة، وبه قال مالك، وهو أحد قولي الشافعي (ذلكم) أي الحكم المذكور (توعظون به) أي تؤمرون أو تزجرون به عن ارتكاب الظهار، فإن الغرامات مزاجر عن تعاطي الجنايات وفيه بيان ما هو المقصود من شرع الكفارة، قال الزجاج: معنى الآية ذلكم التغليظ في الكفارة توعظون به أي إن غلظ الكفارة وعظ لكم حتى تتركوا الظهار، لأن الحكم بالكفارة دليل على ارتكاب الجناية، فيجب أن تتعظوا بهذا الحكم، حتى لا تعودوا إلى الظهار وتخافوا عقاب الله عليه.
(والله بما تعملون خبير) لا يخفى عليه شيء من أعمالكم، فهو مجازيكم عليها.
" قال ابن عباس: أتى رجل النبي صلى الله عليه وسلم؛ فقال: إني ظاهرت من امرأتي فرأيت بياض خلخالها في ضوء القمر فوقعت عليها قبل أن أكفِّر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ألم يقل الله (من قبل أن يتماسا) قال: قد فعلت يا رسول الله، قال: أمسك عنها حتى تكفر " (1)، وأخرج أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة والحاكم والبيهقي.
" عن ابن عباس أن رجلاً قال: يا رسول الله إِني ظاهرت من امرأتي
_________
(1) رواه الحاكم.(14/14)
فوقعت عليها من قبل أن أكفِّر، فقال: وما حملك على ذلك؟ قال: رأيت خلخالها في ضوء القمر، قال: فلا تقربها حتى تفعل ما أمرك الله " ثم ذكر سبحانه حكم العاجز عن الكفارة فقال:(14/15)
فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (4)
(فمن لم يجد) لرقبة في ملكة، ولا تمكن من قيمتها (فصيام) أي فعليه صيام (شهرين متتابعين) متواليين لا يفطر فيهما، فإن أفطر استأنف إن كان الإفطار لغير عذر، وإن كان لعذر من مرض أو سفر فقال سعيد بن المسيب والحسن وعطاء بن أبي رباح وعمرو بن دينار والشعبي والشافعي ومالك: إنه يبني ولا يستأنف، وقال أبو حنيفة: إنه يستأنف، وهو مروي عن الشافعي ومعنى (من قبل أن يتماسا) ما تقدم قريباً فلو وطىء ليلاً أو نهاراً عمداً أو خطأً استأنف، وبه قال أبو حنيفة ومالك، وقال الشافعي: لا يستأنف إذا وطىء ليلاً، لأنه ليس محلاً للصوم والأول أولى.
(فمن لم يستطع) صيام شهرين متتابعين (فإطعام ستين مسكيناً) أي فعليه أن يطعم ستين مسكيناً لكل مسكين مدان، وهما نصف صاع، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه، وقال الشافعي وغيره لكل مسكين مد واحد من غالب قوت البلد، والظاهر من الآية أن يطعمهم حتى يشبعوا مرة واحدة أو يدفع إليهم ما يشبعهم ولا يلزمه أن يجمعهم مرة واحدة بل يجوز له أن يطعم بعض الستين في يوم، وبعضهم في يوم آخر عن أبي هريرة ثلاث فيه مد، كفارة اليمين، وكفارة الظهار، وكفارة الصيام.
(ذلك) أي ما تقدم من البيان وتعليم الأحكام والتنبيه عليها واقع أو فعلنا ذلك (لتؤمنوا بالله ورسوله) وتعملوا بشرائعه التي شرعها لكم وتصدقوا أن الله أمر بها، أو لتطيعوا الله ورسوله في الأوامر والنواهي، وتقفوا عند حدود الشرع ولا تتعدوها، ولا تعودوا إلى الظهار الذي هو منكر من القول وزور أخرج أحمد وأبو داود والترمذي وحسنه وابن ماجة والحاكم وصححه غيرهم " عن سلمة بن صخر الأنصاري فقال:(14/15)
كنت رجلاً قد أوتيت من جماع النساء ما لم يؤت غيري فلما دخل رمضان ظاهرت من امرأتي حتى ينسلخ رمضان، فرقاً من أن أصيب منها في ليلي، فأتتابع في ذلك، ولا أستطيع أن أنزع حتى يدركني الصبح، فبينما هي تخدمني ذات ليلة إذ انكشف لي منها شيء فوثبت عليها، فلما أصبحت غدوت على قومي فأخبرتهم خبري، فقلت: انطلقوا معي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبره بأمري فقالوا: لا والله، لا تفعل نتخوف أن ينزل فينا القرآن، أو يقول فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، مقالة يبقى علينا عارها، ولكن اذهب أنت فاصنع ما بدا لك، قال: فخرجت فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبرته خبري، فقال أنت بذاك، قلت: أنا بذاك. قال: أنت بذاك، قلت: أنا بذاك. قال أنت بذاك، قلت: أنا بذاك. وها أنا ذا فامض في حكم الله، فإني صابر لذلك، قال: أعتق رقبة، فضربت عنقي بيدي فقلت: لا والذي بعثك بالحق ما أصبحت أملك غيرها، قال: فصم شهرين متتابعين، فقلت: هل أصابني ما أصابني إلا في الصيام قال: فأطعم ستين مسكيناً، قلت: والذي بعثك بالحق لقد بتنا ليلتنا هذه وحشاً ما لنا عشاء، قال: اذهب إلى صاحب صدقة بني زريق، فقل له فليدفعها إليك، فأطعم عنك منها وسقاً ستين مسكيناً، ثم استعن بسائرها عليك وعلى عيالك، فرجعت إلى قومي فقلت: وجدت عندكم الضيق وسوء الرأي، ووجدت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، السعة والبركة أمر لي بصدقتكم فادفعوها إليّ فدفعوها إليه ".
(وتلك) أي الأحكام المذكورة في الظهار والكفارة (حدود الله) فلا تجاوزوا حدوده التي حدها لكم، فإنه قد بين لكم أن الظهار معصية، وأن كفارته المذكورة توجب العفو والمغفرة (وللكافرين) الذين لا يقفون عند حدود الله، ولا يعلمون بما حده الله لعباده، وسماه كفراً تغليظاً وتشديداً (عذاب أليم) وهو عذاب جهنم يوم القيامة، ولما ذكر سبحانه المؤمنين الواقفين عند حدوده ذكر المحادين فقال:(14/16)
إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (5) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (6) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (7)(14/17)
إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (5)
(إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) المحادة المشاقة والمعاداة والمخالفة ومثل قوله (إن الذين يشاقون الله ورسوله) قال الزجاج: المحادة أن تكون في حد يخالف صاحبك، فهي كناية عن المعاداة لكونها لازمة لها، وأصلها الممانعة، ومنه الحديد، ومنه الحداد للبواب، والمحادون هم أهل مكة، فإن هذه الآية وردت في غزوة الأحزاب وهي في السنة الرابعة وقيل: في الخامسة والمقصود منها البشارة لرسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بأن أعداءهم المتحزبين القادمين عليهم.
(كبتوا) أي يكبتوا ويذلوا ويتفرق جمعهم، وعبر عن المستقبل بلفظ الماضي، تنبيهاً على تحقيق وقوعه، وقيل: المعنى على الماضي وذلك ما وقع للمشركين يوم بدر، فإن الله كبتهم بالقتل والأسر والقهر (كما كبت الذين من قبلهم) أي أذلوا وأخزوا، يقال: كبت الله فلاناً إذا أذله، والمردود بالذل يقال له: مكبوت، قال المقاتلان: أخزوا كما أخزي الذين من قبلهم من أهل الشرك، وكذا قال قتادة وقال أبو عبيدة والأخفش: أهلكوا، وقال ابن زيد: عذبوا، وقال السدي: لعنوا وقال الفراء: أغيظوا يوم الخندق، والمراد بمن قبلهم كفار الأمم الماضية المعادين لرسل الله.
(وقد أنزلنا آيات بينات) أي والحال أنا قد أنزلنا آيات واضحات فيمن حاد الله ورسله من الأمم المتقدمة وقيل المراد الفرائض التي أنزلها الله سبحانه(14/17)
وقيل هي المعجزات الدالة على صدق الرسول (وللكافرين) بكل ما يجب الإيمان فتدخل الآيات المذكورة هنا دخولاً أولياً (عذاب مهين) يهين صاحبه ويذله ويذهب بعزه.(14/18)
يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (6)
(يوم يبعثهم الله جميعاً) أي يذكر يوم يبعثهم مجتمعين في حالة واحدة أو يبعثهم كلهم لا يبقى منهم أحد غير مبعوث (فينبئهم) أي فيخبرهم (بما عملوا) في الدنيا من الأعمال القبيحة إما ببيان صدورها عنهم توبيخاً لهم وتكميلاً للحجة عليهم أو بتصويرها في صورة قبيحة هائلة على رؤوس الأشهاد. تخجيلاً لهم وتشهيراً بحالهم وتشديداً لعذابهم.
(أحصاه الله) مستأنفة جواب سؤال مقدر كأنه قيل: كيف ينبئهم بذلك مع كثرته واختلاف أنواعه؟ فقيل: أحصاه الله جميعاً، ولم يفته منه شيء (و) الحال أنهم قد (نسوه) ولم يحفظوه (والله على كل شيء شهيد) تذييل مقرر لإحصائه تعالى، أي لا يخفى عليه شيء من الأشياء، بل هو مطلع وناظر، ثم أكد سبحانه بيان كونه عالماً بكل شيء فقال:(14/18)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (7)
(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ)؟ أي ألم تعلم أن علمه محيط بما فيهما، بحيث لا يخفى عليه شيء مما فيهما (ما يكون من نجوى ثلاثة) مستأنفة لتقرير شمول علمه، وسعته وإحاطته بكل المعلومات، قرأ الجمهور يكون بالتحية، وقرىء بالفوقية، وكان على القراءتين تامة، ومن مزيدة للتأكيد، والنجوى السرار، يقال: قوم نجوى أي ذوو نجوى، وهي مصدر، والمعنى ما يوجد من تناجي ثلاثة أو من ذوي نجوى، ويجوز أن تطلق النجوى على الأشخاص المتناجين، قال الفراء: ثلاثة نعت للنجوى، فانخفضت، وإن شئت أضفت نجوى إليها، ولو نصبت على إضمار فعل جاز.
(إلا هو رابعهم) أي بالعلم يعني يعلم نجواهم: كأنه حاضر معهم ومشاهدهم، كما تكون نجواهم معلومة عند الرابع الذي يكون معهم كذا في(14/18)
الخازن وأبي السعود. والجمل التي بعد إلا في موضع نصب على الحال يعني ما يوجد شيء من هذه الأشياء إلا في حال من هذه الأحوال فالاستثناء مفرغ من أعم الأحوال.
(ولا) نجوى (خمسة إلا هو سادسهم) أي جاعلهم ستة من حيث إنه يشاركهم في الاطلاع على تلك النجوى وتخصيص العددين بالذكر لأن أغلب عادات المتناجين أن يكونوا ثلاثة أو خمسة أو كانت الواقعة التي هي سبب النزول في متناجين كانوا ثلاثة في موضع وخمسة في موضع. أو لأن العدد الفرد أشرف من الزوج لأن الله تعالى وتر يحب الموتر فخصهما بالذكر تنبيهاً على أنه لا بد من رعاية الأمور الإلهية في جميع الأمور. قال الفراء: والعدد غير مقصود لأنه سبحانه مع كل عدد قل أو كثر، يعلم السر والجهر لا تخفى عليه خافية.
(ولا أدنى من ذلك) أي ولا أقل من العدد المذكور كالواحد والاثنين (ولا أكثر) منه كالستة والسبعة (إلا هو معهم) أي مصاحب لهم بعلمه، يعلم ما يتناجون به، لا يخفى عليه شيء منه، قرأ الجمهور أكثر بالثاء وبالجر بالفتحة عطفاً على لفظ نجوى، وقرىء بالياء الموحدة وبالرفع عطفاً على محل نجوى، قال الواحدي: قال المفسرون: إن المنافقين واليهود كانوا يتناجون فيما بينهم، ويوهمون المؤمنين أنهم يتناجون فيما يسوءهم فيحزنون لذلك، فلما طال ذلك وكثر، شكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمرهم أن لا يتناجوا دون المسلمين، فلم ينتهوا وعادوا إلى مناجاتهم، فأنزل الله هذه الآيات:
(أين كانوا) معناه إحاطة علمه بكل تناج يكون معهم في أي مكان من الأمكنة، ولو كانوا تحت الأرض، فإن علمه بالأشياء ليس لقرب مكان حتى يتفاوت بقرب الأمكنة وبعدها، (ثم ينبئهم) أي يخبرهم (بما عملوا يوم القيامة) توبيخاً لهم وتبكيتاً وإلزاماً للحجة (إن الله بكل شيء عليم) لا يخفى عليه شيء كائناً ما كان.(14/19)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (8) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (9) إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (10)(14/20)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (8)
(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ) هؤلاء هم من تقدم ذكرهم من المنافقين واليهود، وصيغة المضارع للدلالة على تمكن عودهم وتجدده، واستحضار صورته العجيبة، قال مقاتل: كان بين النبي صلى الله عليه وسلم، وبين اليهود مواعدة، فإذا مر بهم الرجل من المؤمنين تناجوا بينهم حتى يظن المؤمن شراً فنهاهم الله فلم ينتهوا، فنزلت وقال ابن زيد: كان الرجل يأتي النبي صلى الله عليه وسلم، فيسأله الحاجة ويناجيه، والأرض يومئذ حرب، فيتوهمون أنه يناجيه في حرب أو بلية أو أمر مهم، فيفزعون لذلك.
(ويتناجون بالإِثم والعدوان) قرأ الجمهور يتناجون بوزن يتفاعلون لقوله فيما بعد (إذا تناجيتم فلا تتناجوا)، وقرىء ينتجيون بوزن يفتعلون، وحكى سيبويه أن تفاعلوا وافتعلوا يأتيان بمعنى واحد، نحو تخاصموا واختصموا وتقاتلوا واقتتلوا، ومعنى الإثم ما هو إثم في نفسه، كالكذب والظلم، والعدوان ما فيه عدوان على المؤمنين.
(وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ) أي مخالفته، وقرىء معصيات بالجمع، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، نهاهم عن النجوى فعصوه وعادوا إليها،(14/20)
وقيل: المعنى يوصي بعضهم بعضاً بمعصية الرسول، رسمت معصية هذه والتي بعدها بالتاء المجرورة وإذا وقف عليها فأبو عمرو وابن كثير والكسائي يقفون بالهاء، غير أن الكسائي يقف بالإِمالة على أصله، والباقون يقفون بالتاء على الرسم، واتفقوا في الوصل على التاء.
(وإذا جاءوك حيوك بما لم يحيك به الله) قال القرطبي: إن المراد بها اليهود، كانوا يأتون النبي صلى الله عليه وسلم فيقولون: السام عليك يريدون بذلك السلام ظاهراً. وهم يعنون الموت باطناً، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: عليكم، وفي رواية وعليكم قال ابن عمر في الآية: يريدون بذلك شتمه فنزلت هذه الآية أخرج أحمد والبخاري والترمذي وصححه.
" عن أنس أن يهودياً أتى النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فقال: السام عليكم فرد عليه القوم، فقال: هل تدرون ما قال هذا؟ قالوا: الله أعلم، سلم يا نبي الله، قال: لا ولكنه قال: كذا وكذا، ردوه علي فردوه، قال: قلت السام عليكم؟ قال: نعم قال النبي صلى الله عليه وسلم عند ذلك: إذا سلم عليكم أحد من أهل الكتاب فقولوا: عليك، قال عليك ما قلت "، وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما:
" عن عائشة قالت: دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم يهود فقالوا: السام عليك يا أبا القاسم، فقالت عائشة: عليكم السام واللعنة، فقال: يا عائشة إن الله لا يحب الفحش ولا المفحش، قلت: ألا تسمعهم يقولون السام؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أو ما سمعتني أقول: وعليكم، فأنزل الله هذه الآية " (1) وعن ابن عباس قال: كان المنافقون
_________
(1) رواه مسلم.(14/21)
يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا حيوه سام عليك فنزلت.
(ويقولون في أنفسهم) أي فيما بينهم إذا خرجوا من عنده (لولا يعذبنا الله بما نقول) أي هلا يعذبنا بذلك؟ ولو كان محمد نبياً لعذبنا بما يتضمنه قولنا من الاستخفاف به. وقيل: المعنى لو كان نبياً لاستجيب له فينا، حيث يقول: وعليكم، ووقع علينا الموت عند ذلك (حسبهم جهنم) عذاباً (يصلونها) يدخلونها (فبئس المصير) أي المرجع وهو جهنم.(14/22)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (9)
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ) لما فرغ سبحانه عن نهي اليهود والمنافقين عن النجوى، أرشد المؤمنين إذا تناجوا فيما بينهم أن لا يتناجوا بما فيه إثم وعدوان ومعصية لرسول الله، كما يفعله اليهود والمنافقون، وقيل: الخطاب للمنافقين، والمعنى يا أيها الذين آمنوا ظاهراً أو بزعمهم واختار هذا الزجاج وقيل: الخطاب لليهود والمعنى يا أيها الذين آمنوا بموسى، والأول أولى، قال ابن عباس: كان النبي صلى الله عليه وسلم، إذا بعث سرية وأغزاها التقى المنافقون فأنغضوا رؤوسهم إلى المسلمين ويقولون قتل القوم، وإذا رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم تناجوا وأظهروا الحزن، فبلغ ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم ومن المسلمين، فأنزل الله هذه الآية: وأخرجه البخاري ومسلم وغيرهما:
" عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون الثالث فإن ذلك يحزنه " (1)، وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه:
_________
(1) رواه البخاري ومسلم.(14/22)
" عن أبي سعيد قال: كنا نتناوب رسول الله صلى الله عليه وسلم، يطرقه أمر أو يأمر بشيء، فكثر أهل النوب والمحتسبون ليلة، حتى إذا كنا أنداء نتحدث، فخرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، من الليل فقال: ما هذه النجوى؟ ألم تنهوا عن النجوى؟ قلنا: إنا كنا يا رسول الله في ذكر المسيح، فرقاً منه، فقال: ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم عندي منه؟ قلنا: بلى يا رسول الله قال: الشرك الخفي أن يقوم الرجل يعمل لمكان رجل ". قال ابن كثير: هذا إسناد غريب، وفيه بعض الضعفاء، ثم بين لهم ما يتناجون به في أنديتهم وخلواتهم فقال:
(وتناجوا بالبر والتقوى) أي بالطاعة وترك المعصية، ثم خوفهم سبحانه فقال (واتقوا الله الذي إليه تحشرون) فيجزيكم بأعمالكم ثم بين سبحانه أن ما يفعله اليهود والمنافقون من التناجي، هو من جهة الشيطان فقال:(14/23)
إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (10)
(إنما النجوى) يعني الإثم والعدوان ومعصية الرسول صلى الله عليه وسلم، (من الشيطان) لا من غيره أي من تزيينه وتسويله.
(ليحزن الذين آمنوا) أي لأجل أن يوقعهم في الحزن، بما يحصل لهم من التوهم أنها في مكيدة يكادون بها قرأ نافع بضم الياء وكسر الزاي من أحزانه والباقون بفتح الياء وضم الزاي من حزن يقال حزنه وأحزنه بمعنى، قال في القاموس: وأحزنه جعله حزيناً، والقراءة الأولى أشد في المعنى (وليس بضارهم شيئاًً) أي وليس الشيطان أو التناجي الذي يزينه الشيطان أو الحزن بضار المؤمنين شيئاًً من الضرر (إلا بإذن الله) أي بمشيئته وقيل: بعلمه.
(وعلى الله فليتوكل المتوكلون) أي يكلون أمرهم إليه ويفوضونه في جميع شئونهم ويستعيذون بالله من الشيطان، ولا يبالون بما يزينه من النجوى.(14/23)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (11) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12) أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (13) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (14) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (15) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (16)(14/24)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (11)
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا) وقرىء تفاسحوا (في المجالس) قرىء على الجمع لأن لكل واحد منهم مجلساً، وقرىء على الإِفراد، قال الواحدي: والوجه التوحيد في المجلس، لأنه يعني به مجلس النبي صلى الله عليه وسلم، والتفسح التوسع، يقال: فسح له يفسح فسحاً أي وسع له ومنه قولهم: بلد فسيح أمر الله سبحانه المؤمنين بحسن الأدب بعضهم مع بعض بالتوسعة في المجلس، وعدم التضايق فيه قال قتادة ومجاهد والضحاك: كانوا يتنافسون في مجلس النبي صلى الله عليه وسلم، فأمروا أن يفسح بعضهم لبعض، وقال ابن عباس والحسن ويزيد بن أبي حبيب: هو مجلس القتال إذا اصطفوا للحرب، كانوا يتشاحنون على الصف الأول، ولا يوسع بعضهم لبعض رغبة في القتال، لتحصيل الشهادة.
وقال القرطبي: الصحيح في الآية أنها عامة في كل مجلس، اجتمع فيه المسلمون للخير والأجر، سواء كان مجلس حرب أو ذكر أو يوم جمعة وأن(14/24)
كل واحد أحق بمكانه الذي يسبق إليه، ولكن يوسع لأخيه ما لم يتأذ بذلك فيخرجه الضيق عن موضعه.
ويؤيد هذا حديث " ابن عمر عند مسلم والبخاري وغيرهما عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال لا يقيم الرجل الرجل من مجلسه ثم يجلس فيه ولكن تفسحوا وتوسعوا ".
(فافسحوا يفسح الله لكم) أي فوسعوا يوسع الله لكم في الجنة أو في كل ما تريدون التفسيح فيه من المكان والرزق وغيرهما.
" عن مقاتل بن حيان قال أنزلت هذه الآية يوم جمعة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم، يومئذ في الصفة، وفي المكان ضيق، وكان يكرم أهل بدر من المهاجرين والأنصار فجاء ناس من أهل بدر وقد سبقوا إلى المجالس، فقاموا حيال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، فرد النبي صلى الله عليه وسلم عليهم، ثم سلموا على القوم بعد ذلك فردوا عليهم. فقاموا على أرجلهم ينتظرون أن يوسع لهم فعرف النبي صلى الله عليه وسلم ما يحملهم على القيام فلم يفسح لهم فشق ذلك عليه، فقال لمن حوله من المهاجرين والأنصار من غير أهل بدر قم أنت يا فلان وأنت فلم يزل يقيمهم بعدة النفر الذين هم قيام من أهل بدر، فشق ذلك على من أقيم من مجلسه، فنزلت هذه الآية.
(وإذا قيل انشزوا فانشزوا) قرأ الجمهور بكسر الشين فيهما، وقرىء بضمها فيهما، وهما لغتان بمعنى واحد، وقراءتان سبعيتان، يقال: نشز أي ارتفع ينشز وينشز كعكف يعكف ويعكف قال جمهور المفسرين: أي انهضوا إلى الصلاة والجهاد وعمل الخير، وبه قال ابن عباس، وقال عكرمة ومجاهد والضحاك: كان رجال يتثاقلون عن الصلاة فقيل لهم إذا نودي للصلاة فانهضوا وقال الحسن: انهضوا إلى الحرب، وقال ابن زيد: هذا في بيت النبي صلى الله عليه وسلم، كان كل رجل منهم يحب أن يكون آخر عهده بالنبي صلى(14/25)
الله عليه وسلم، فأمر الله تعالى أنه إذا قيل: انشزوا عن النبي فانشزوا، فإن له حوائج فلا تمكثوا، قال قتادة: المعنى أجيبوا إذا دعيتم إلى أمر بمعروف، والظاهر حمل الآية على العموم، والمعنى إذا قيل لكم انهضوا إلى أمر من الأمور الدينية فانهضوا ولا تتثاقلوا ولا يمنع من حملها على العموم كون السبب خاصاً، فإن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب كما هو الحق، ويندرج ما هو سبب النزول فيها إندراجاً أولياً وهكذا يندرج ما فيه السياق وهو التفسيح في المجلس اندراجاً أولياً.
وقد قدمنا أن معنى نشز ينشز ارتفع، وهكذا نشز ينشز إذا تنحى عن موضعه، ومنه امرأة ناشزة أي متنحية عن زوجها، وأصله مأخوذ من النشز وهو ما ارتفع من الأرض وتنحى، ذكر معناه النحاس.
(يرفع الله الذين آمنوا منكم) بطاعتهم لله ولرسوله وامتثال أوامره في قيامهم من مجالسهم وتوسعتهم لإخوانهم في الدنيا والآخرة بتوفير نصيبهم فيهما (والذين أوتوا العلم) أي ويرفع العالمين منهم خاصة (درجات) عالية في الكرامة في الدنيا والثواب في الآخرة، ومعنى الآية أنه يرفع الذين آمنوا على من لم يؤمن درجات، ويرفع الذين أوتوا العلم على الذين آمنوا ولم يؤتوا العلم درجات، فمن جمع بين الإيمان والعلم رفعه الله بإيمانه درجات ثم رفعه بعلمه درجات، وقيل: المراد بالذين آمنوا من الصحابة وكذلك بالذين أوتوا العلم، وقيل: المراد بالذين أوتوا العلم الذين قرأوا القرآن، والأولى حمل الآية على العموم في كل مؤمن، وكل صاحب علم من علوم الدين من جميع أهل هذه الملة، ولا دليل يدل على تخصيص الآية بالبعض دون البعض.
وقال ابن عباس في الآية: يرفع الله الذين أوتوا العلم من المؤمنين على الذين لم يؤمنوا، درجات وقال ابن مسعود: على الذين آمنوا ولم يؤتوا العلم درجات وعنه قال: ما خص الله العلماء في شيء من القرآن كما خصهم(14/26)
في هذه الآية، وعنه أنه كان إذا قرأها قال يا أيها الناس افهموا هذه الآية لترغبكم في العلم، والأحاديث والأخبار والآيات في فضيلة العلم والعلماء كثيرة جداً قد ذكرنا طرفاً منها في كتابنا الحطة في ذكر الصحاح الستة.
(والله بما تعملون خبير) لا يخفى عليه شيء من أعمالكم من خير وشر فهو مجازيكم بالخير خيراً وبالشر شراً.(14/27)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12)
(يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول) المناجاة المساررة، والمعنى إذا أردتم مساررة الرسول في أمر من أموركم (فقدموا بين يدي نجواكم) أي مساررتكم له (صدقة) في هذا الأمر تعظيم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وانتفاع الفقراء والنهي عن الإِفراط في السؤال، والميز بين المخلص والمنافق ومحب الدنيا والآخرة، واختلف في أنه للندب أو للوجوب، قال الحسن: نزلت بسبب أن قوماً من المسلمين كانوا يستخلون النبي صلى الله عليه وسلم، يناجونه فظن بهم قوم من المسلمين أنهم ينتقصونهم في النجوى، فشق عليهم ذلك فأمرهم الله بالصدقة عند النجوى ليقطعهم عن استخلائه.
وقال زيد بن أسلم: نزلت بسبب أن المنافقين واليهود كانوا يناجون النبي صلى الله عليه وسلم، ويقولون: إنه أذن يسمع كل ما قيل له، وكان لا يمنع أحداً من مناجاته، وكان ذلك يشق على المؤمنين، لأن الشيطان كان يلقي في أنفسهم أنهم ناجوه بأن جموعاً اجتمعت لقتاله، فأنزل الله الآية الأولى فلم ينتهوا، فأنزل الله هذه الآية فانتهى أهل الباطل، لأنهم لم يقدموا بين يدي نجواهم صدقة، وشق ذلك على أهل الإيمان، وامتنعوا عن النجوى لضعف كثير منهم عن الصدقة، فخفف الله عنهم بالآية التي بعد هذه.
وقال ابن عباس: إن المسلمين أكثروا المسائل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى شقوا عليه، فأراد الله أن يخفف عن نبيه صلى الله عليه(14/27)
وسلم، فلما قال ذلك: ضن كثير من الناس وكفوا عن المسألة. فأنزل الله بعد هذا (أأشفقتم) الآية فوسع الله عليهم ولم يضيق.
" وعن علي بن أبي طالب قال: لما نزلت هذه الآية قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: ما ترى ديناراً؟ قلت: لا يطيقونه، قال: فنصف دينار قلت: لا يطيقونه، قال: فكم؟ قلت: شعيرة قال إنك لزهيد، قال: فنزلت (أأشفقتم) الآية في خفف الله عن هذه الأمة " والمراد بالشعيرة هنا وزن شعيرة من ذهب، وليس المراد الواحدة من حب الشعير، أخرجه الترمذي وحسنه أبو يعلى وابن جرير وابن المنذر وغيرهم.
وعنه رضي الله تعالى عنه قال ما عمل بها أحد غيري حتى نسخت، وما كانت إلا ساعة يعنى آية النجوى، وعنه رضي الله عنه قال: إن في كتاب الله لآية ما عمل بها أحد قبلي، ولا يعمل بها أحد بعدى، آية النجوى كان عندي دينار فبعته بعشرة دراهم، فكنت كلما ناجيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قدمت بين يدي نجواي درهماً، ثم نسخت فلم يعمل بها أحد فنزلت (أأشفقتم) الآية، وعن سعد بن أبي وقاص قال: نزلت آية النجوى فقدمت شعيرة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنك لزهيد، فنزلت الآية الأخرى (أأشفقتم) الآية.
(ذلك) أي ما تقدم من تقديم الصدقة بين يدي النجوى (خير لكم) لما فيه من طاعة الله، وتقييد الأمر بكون امتثاله خيراً لهم من عدم الامتثال (وأطهر) لنفوسهم، يدل على أنه أمر ندب لا أمر وجوب قوله: (فإن لم تجدوا فإن الله غفور رحيم) يعني من كان منكم لا يجد تلك الصدقة المأمور بها بين يدي النجوى، فلا حرج عليه في النجوى بدون صدقة.(14/28)
أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (13)
(أأشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات) أي أخفتم الفقر(14/28)
والعيلة لأن تقدموا ذلك؟ والإشفاق الخوف من المكروه، والاستفهام للتقرير.
وقيل: المعنى أبخلتم، وجمع الصدقات هنا باعتبار المخاطبين، قال مقاتل بن حيان: إنما كان ذلك عشر ليال ثم نسخ، وقال الكلبي: ما كان ذلك إلا ليلة واحدة وقيل إنه لم يبق إلا يوماً واحداً وقال قتادة: ما كان إلا ساعة من نهار.
(فإذا لم تفعلوا) ما أمرتم به من الصدقة بين يدي النجوى، وهذا خطاب لمن وجد ما يتصدق به ولم يفعل، وأما من لم يجد فقد تقدم الترخيص له بقوله: (فإن لم تجدوا فإن الله غفور رحيم) وإذ على بابها في الدلالة على المضي وقيل: هي بمعنى إذا وقيل: بمعنى إن (وتاب الله عليكم) رجع بكم عنها بأن رخص لكم في الترك (فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطيعوا الله ورسوله) المعنى إذا وقع منكم التثاقل عن امتثال الأمر بتقديم الصدقة بين يدي النجوى فاثبتوا على إقامة الصلاة المفروضة وإيتاء الزكاة الواجبة وطاعة الله ورسوله فيما تؤمرون به وتنهون عنه.
(والله خبير بما تعملون) لا يخفى عليه من ذلك شيء، فهو مجازيكم وليس في الآية ما يدل على تقصير المؤمنين في الامتثال أما الفقراء منهم فالأمر واضح، وأما من عداهم من المؤمنين فإنهم لم يكلموا بالمناجاة حتى تجب عليهم الصدقة، بل أمروا بالصدقة إذا أرادوا المناجاة، فمن ترك المناجاة فلا يكون مقصراً في امتثال الأمر بالصدقة على أن الآية ما يدل على أن الأمر للندب كما قدمنا، وقد استدل بهذه الآية من قال بأنه يجوز النسخ قبل إمكان الفعل وليس هذا الاستدلال بصحيح، فإن النسخ لم يقع إلا بعد إمكان الفعل، وأيضاًً قد فعل ذلك البعض فتصدق بين يدي نجواه كما تقدم.(14/29)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (14)
(ألم تر إلى الذين تولوا قوماً) أي والوهم، قال قتادة: هم المنافقون(14/29)
تولوا اليهود، وقال السدي ومقاتل: هم اليهود تولوا المنافقين، ويدل على الأول قوله (غضب الله عليهم) فإن المغضوب عليهم هم اليهود ويدل على الثاني قوله (ما هو منكم ولا منهم) فإن هذا صفة المنافقين كما قال الله فيهم: (مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء) والجملة في محل نصب على الحال أو هي مستأنفة (ويحلفون على الكذب) أي أنهم مسلمون أو يحلفون أنهم ما نقلوا الأخبار إلى اليهود، والجملة عطف على تولوا، داخلة في حكم التعجيب من فعلهم (و) الحال أن (هم يعلمون) بطلان ما حلفوا عليه، وأنه كذب لا حقيقة له فيمينهم يمين غموس، لا عذر لهم فيها.(14/30)
أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (15)
(أعد الله لهم عذاباً شديداً) بسبب هذا التولي، والحلف على الباطل (إنهم ساء ما كانوا يعملون) من الأعمال القبيحة في الزمان الماضي أو هي حكاية ما يقال لهم في الآخرة(14/30)
اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (16)
(اتخذوا أيمانهم جنة) قرأ الجمهور أيمانهم جمع يمين وهي ما كانوا يحلفون عليه من الكذب بأنهم من المسلمين، توقياً من القتل، فجعلوا هذه الأيمان وقاية وسترة دون دمائهم، كما يجعل المقاتل الجنة وقاية له من أن يصاب بسهم أو رمح، وقرىء إيمانهم بكسر الهمزة أي جعلوا تصديقهم جنة من القتل، فآمنت ألسنتهم من خوف القتل ولم تؤمن قلوبهم.
(فصدوا عن سبيل الله) أي منعوا الناس عن الإسلام بسبب ما يصدر عنهم من التثبيط، وتهوين أمر المسلمين، وتضعيف شوكتهم، وقيل المعنى فصدوا المسلمين عن قتالهم بسبب إظهارهم الإسلام (فلهم عذاب مهين) أي يهينهم ويخزيهم، قيل هو تكرير لقوله (أعد الله لهم عذاباً شديداً) للتأكيد، وقيل الأول عذاب القبر، وهذا عذاب الآخرة، ولا وجه للقول بالتكرير فإن العذاب الموصوف بالشدة غير العذاب الموصوف بالإهانة.(14/30)
لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (17) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ (18) اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (19) إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ (20) كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (21) لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (22)(14/31)
لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (17)
(لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ) أي من عذابه (شيئاًً) من الإغناء، قال مقاتل: قال المنافقون: إن محمداً صلى الله عليه وسلم، يزعم أنه ينصر يوم القيامة لقد شقينا إذاً فوالله لننصرن يوم القيامة بأنفسنا وأموالنا وأولادنا إن كانت قيامة، فنزلت الآية (أولئك) الموصوفون بما ذكر (أصحاب النار) لا يفارقونها (هم فيها خالدون) لا يخرجون منها.(14/31)
يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ (18)
(يوم) أي اذكر يوم (يبعثهم الله جميعاً فيحلفون له) أي لله يوم القيامة على أنهم مؤمنون (كما يحلفون لكم) في الدنيا، وهذا من شدة شقاوتهم ومزيد الطبع على قلوبهم، فإن يوم القيامة قد انكشفت فيه الحقائق، وصارت الأمور معلومة بضرورة المشاهدة فكيف يجترئون، على أن يكذبوا في ذلك الموقف، ويحلفون على الكذب.
" عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، جالساً في ظل حجرة من حجره وعنده نفر من المسلمين فقال: إنه سيأتيكم إنسان فينظر(14/31)
إليكم بعين شيطان، فإذا جاءكم فلا تكلموه، فلم يلبثوا أن طلع عليهم رجل أزرق، فقال حين رآه: علام تشتمني أنت وأصحابك؟ فقال: ذرني آتيك بهم، فحلفوا واعتذروا "، فأنزل الله هذه الآية والتي بعدها.
(ويحسبون) في الآخرة (أنهم) بتلك الأيمان الكاذبة (على شيء) مما يجلب نفعاً أو يدفع ضرراً، كما كانوا يحسبون ذلك في الدنيا (ألا إنهم هم الكاذبون) أي الكاملون في الكذب المتهالكون عليه، البالغون إلى حد لم يبلغ إليه غيرهم بإقدامهم عليه وعلى الأيمان الفاجرة، في موقف القيامة بين يدى الرحمن.(14/32)
اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (19)
(استحوذ عليهم الشيطان) أي غلب عليهم واستعلى واستولى، قال المبرد: استحوذ على الشيء حواه وأحاط به، وقيل: قوي عليهم، وقيل: جمعهم، يقال: أحوذ الشيء أي جمعه وضم بعضه إلى بعض، والمعاني متقاربة لأنه إذا جمعهم فقد قوي عليهم وغلبهم، واستعلى عليهم واستولى وأحاط بهم (فأنساهم ذكر الله) أي أوامره والعمل بطاعاته، فلم يذكروا شيئاً من ذلك وقيل: زواجره في النهي عن معاصيه، وقيل: لم يذكروه بقلوبهم ولا بألسنتهم والإشارة بقوله (أولئك) إلى المذكورين الموصوفين بتلك الصفات (حزب الشيطان) أي جنوده وأتباعه ورهطه.
(ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون) أي الكاملون في الخسران، حتى كأن خسران غيرهم بالنسبة إلى خسرانهم ليس بخسران، لأنهم باعوا الجنة بالنار، والهدى بالضلال وكذبوا على الله وعلى نبيه وحلفوا الأيمان الفاجرة في الدنيا والآخرة، وفوتوا على أنفسهم النعيم المؤبد، وعرضوها للعذاب المخلد.(14/32)
إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ (20)
(إن الذين يحادون الله ورسوله) قد تقدم معنى المحادة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، في أول هذه السورة والجملة تعليل لما قبلها (أولئك في الأذلين) أي أولئك المحادون لله ولرسوله المتصفون بتلك الصفات(14/32)
المتقدمة من جملة من أذله الله من الأمم السابقة واللاحقة، لا ترى أحداً أذل منهم لأنهم لما حادوا الله ورسوله صاروا من الذل بهذا المكان، قال عطاء: يريد الذل في الدنيا والخزي في الآخرة.(14/33)
كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (21)
(كتب الله) مستأنفة لتقرير ما قبلها من كونهم في الأذلين، أي كتب في اللوح المحفوظ، وقضى في سابق علمه، وقال الفراء: كتب بمعنى قال (لأغلبن أنا ورسلي) بالحجة والسيف أو بأحدهما، قال الزجاج: معنى غلبة الرسل على نوعين، من بعث منهم بالحرب فهو غالب في الحرب، ومن بعث منهم بغير الحرب فهو غالب بالحجة (إن الله قوي) على نصر أوليائه (عزيز) غالب لأعدائه لا يغلبه أحد.(14/33)
لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (22)
(لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر) إيماناً صحيحاً، بحيث يتوافق فيه الظاهر مع الباطن (يوادون من حاد الله ورسوله) الخطاب لرسول الله صلي الله عليه وسلم، أو لكل من يصلح له، أي يحبون ويوالون من عادى الله ورسوله وشاقهما، أي من الممتنع أن تجد قوماً من المؤمنين يوالون المشركين، والمراد أنه لا ينبغي أن يكون ذلك وحقه أن يمتنع ولا يوجد بحال مبالغة في التوصية بالتصلب في مجانبة أعداء الله ومباعدتهم، والاحتراز عن مخالطتهم ومعاشرتهم " عن عبد الله بن شوذب قال: جعل والد أبي عبيدة بن الجراح يتقصد لأبي عبيدة يوم بدر، وجعل أبو عبيدة يحيد عنه، فلما أكثر قصده أبو عبيدة فقتله، فنزلت هذه الآية "، أخرجه البيهقي في سننه والحاكم والطبراني وغيرهم ثم زاد ذلك تأكيداً وتشديداً بقوله:
(وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ) أي ولو كان المحادون لله ورسوله آباء الموادين الخ، فإن الإيمان يزجر عن ذلك ويمنع منه ورعايته أقوى من رعاية الأبوة والنبوة والأخوة والعشيرة، وقدم أولاً الآباء لأنهم يجب طاعتهم، ثم ثنى بالأبناء لأنهم أعلق بالقلب، ثم ثلث بالإخوان لأنهم الناصرون بمنزلة العضد من الذراع، ثم ربع بالعشيرة لأن بها يستغاث وعليها يعتمد أفاده السمين، روي عن ابن مسعود في هذه الآية قال: ولو كانوا(14/33)
آباءهم يعني أبا عبيدة بن الجراح قتل أباه الجراح، أو أبناءهم يعني أبا بكر الصديق دعا ابنه يوم بدر للبراز، وقال: يا رسول الله دعني أكن في الرعلة الأولى، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: متعنا بنفسك يا أبا بكر أو إخوانهم يعني مصعب بن عمير، قتل أخاه عبيد بن عمير يوم أحد، أو عشيرتهم يعني عمر بن الخطاب قتل خاله العاصي بن هشام بن المغيرة يوم بدر وعلي بن أبي طالب وحمزة وأبو عبيدة قتلوا بني عمهم عتبة وشيبة ابني ربيعة والوليد بن عتبة يوم بدر.
(أُولَئِكَ) يعني الذين لا يوادون من حاد الله ورسوله (كَتَبَ) أي خلق، وقيل: أثبت وقيل: جعل، وقيل: حكم والمعاني متقاربة (في قلوبهم الإيمان) وإنما ذكر القلوب لأنها موضعه (وأيدهم بروح منه) أي قواهم بنصر منه على عدوهم في الدنيا، وسمى نصره لهم روحاً لأن به يحيي أمرهم، وقيل: هو نور القلب، وقال الربيع بن أنس: بالقرآن والحجة، وقيل: بجبريل، وقيل: بالإيمان، وقيل: برحمة، وقيل: بكتاب أنزله فيه حياة لهم، وقيل: بروح من الإيمان على أنه في نفسه روح لحياة القلوب، وعن الثوري أنه قال: كانوا يرون أنها نزلت فيمن يصحب السلطان، وعن عبد العزيز بن رواد أنه لقيه المنصور فلما عرفه هرب منه وتلاها، وقيل: هي في أهل البدع والأهواء.
(ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها) على الأبد (رضي الله عنهم) أي قبل أعمالهم، وأفاض عليهم آثار رحمته العاجلة والآجلة (ورضوا عنه) أي فرحوا بما أعطاهم عاجلاً وآجلاً (أولئك حزب الله) أي جنده الذين يمتثلون أوامره، ويقاتلون أعداءه، وينصرون أولياءه، وفي إضافتهم إلى الله سبحانه تشريف لهم وتعظيم، وتكريم فخيم (ألا إن حزب الله هم المفلحون) أي الفائزون بسعادة الدنيا والآخرة، الكاملون في الفلاح الذين صار فلاحهم هو الفرد الكامل حتى كأن فلاح غيرهم بالنسبة إلى فلاحهم كلا فلاح.(14/34)
سورة الحشر
أربع وعشرون آية
وهي مدنية، قال القرطبي: في قول الجميع، قال ابن عباس: نزلت بالمدينة وعن ابن الزبير مثله، وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما.
عن سعد بن جبير قال قلت لابن عباس: سورة الحشر قال: سورة النضير، يعني أنها نزلت في بني النضير، كما صرح بذلك في بعض الروايات.(14/35)
بسم الله الرحمن الرحيم
سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ (2) وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ (3) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (4)(14/37)
سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1)
(سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ) أي نزهه، فاللام مزيدة، وفي الإتيان بـ (ما) تغليب للأكثر (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) في ملكه وصنعه(14/37)
هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ (2)
(هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ) اللام متعلقة بأخرج، وهي لام التوقيت، كقوله (لدلوك الشمس)، أي عند أول الحشر، قال الزمخشري: وهي كاللام في قوله تعالى (يا ليتني قدمت لحياتي) وقولك جئت لوقت كذا، والمراد من أهل الكتاب هم بنو النضير، وهم رهط من اليهود من ذرية هرون نزلوا المدينة في فتن بني إسرائيل انتظارا منهم لمحمد صلى الله عليه وسلم، فغدروا بالنبي صلى الله عليه وسلم، بعد أن عاهدوه وصاروا عليه مع المشركين، فحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى رضوا بالجلاء قال الكلبي: كانوا أول من أجلي من أهل الذمة من جزيرة العرب، ثم أجلى آخرهم في زمن عمر بن الخطاب، وكان جلاؤهم أول حشر من المدينة، وآخر حشر إجلاء عمر لهم.
وقيل: إن أول الحشر إخراجهم من حصونهم إلى خيبر، وآخر الحشر إخراجهم من خيبر إلى الشام، وقيل: آخر الحشر هو حشر جميع الناس إلى أرض المحشر وهي الشام، قال عكرمة: من شك أن الحشر يوم القيامة في(14/37)
الشام فليقرأ هذه الآية، وأن النبي صلى الله عليه وسلم، قال لهم: أخرجوا، قالوا: إلى أين؟ قال: إلى أرض المحشر، وعن ابن عباس مثله، قال ابن العربي: للحشر أول وأوسط وآخر، فالأول إجلاء بني النضير، والأوسط إجلاء أهل خيبر، والآخر حشر يوم القيامة. وقد أجمع المفسرون على أن هؤلاء المذكورين في الآية هم بنو النضير، ولم يخالف في ذلك إلا الحسن البصري فقال: هم بنو قريظة وهو غلط؛ فإن بني قريظة ما حشروا، بل قتلوا بحكم سعد بن معاذ لما رضوا بحكمه، فحكم عليهم بأن يقتل مقاتلتهم، وتسبى ذراريهم، وتغنم أموالهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لسعد: لقد حكمت بحكم الله من فوق سبعة أرقعة.
وقد أخرج الحاكم وصححه، وابن مردويه والبيهقي في الدلائل.
" عن عائشة قالت كانت غزوة بني النضير، وهم طائفة من اليهود، على رأس ستة أشهر من وقعة بدر، وكان منزلهم ونخلهم في ناحية المدينة، فحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزلوا على الجلاء، وعلى أن لهم ما أقلت الإبل من الأمتعة والأموال إلا الحلقة، يعني السلاح، فأنزل الله فيهم: (سبح لله) إلى قوله (لأول الحشر)، فقاتلهم النبي صلى الله عليه وسلم حتى صالحهم على الإجلاء وأجلاهم إلى الشام، وكانوا من سبط لم يصبهم جلاء فيما خلا، وكان الله قد كتب عليهم ذلك، ولولا ذلك لعذبهم في الدنيا بالقتل والسبب " (1)، وأما قوله (لأول الحشر) فكان إجلاؤهم ذلك أول حشر في الدنيا إلى الشام.
وعن ابن عباس قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم قد حاصرهم حتى بلغ منهم كل مبلغ فأعطوه ما أراد منهم، فصالحهم على أن يحقن لهم
_________
(1) رواه الحاكم.(14/38)
دماءهم، وأن يخرجهم من أرضهم وأوطانهم، وأن يسيروا إلى أذرعات الشام، وجعل لكل ثلاثة منهم بعيراً وسقاء (ما ظننتم أن يخرجوا) هذا خطاب للمسلمين أي ما ظننتم أيها المسلمون أن بني النضير يخرجون من ديارهم لعزتهم ومنعتهم، وذلك أنهم كانوا أهل حصون مانعة، وعقار ونخيل واسعة، وأهل عدد وعدة.
(وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله) أي وظن بنو النضير أن حصونهم تمنعهم من بأس الله، والفرق بين هذا التركيب، وبين النظم الذي جاء عليه، أن في تقديم الخبر على المبتدأ دليلاً على فرط وثوقهم بحصانتها، ومنعها إياهم، وفي تصيير ضميرهم اسماً لأن وإسناد الجملة إليه دليل على اعتقادهم في أنفسهم أنهم في عزة ومنعة، لا يبالي معها بأحد يتعرض لهم أو يطمع في مغارتهم، وليس ذلك في قولك: وظنوا أن حصونهم تمنعهم.
(فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا) أي أتاهم أمر الله من حيث لم يخطر ببالهم أنه يأتيهم أمره من تلك الجهة، وهو أنه سبحانه أمر نبيه صلى الله عليه وسلم، بقتالهم وإجلائهم، وكانوا لا يظنون ذلك وقيل: هو قتل رئيسهم كعب بن الأشرف قاله ابن جريج والسدي وأبو صالح، فإن قتله أضعف شوكتهم، وقيل: إن الضمير في أتاهم ولم يحتسبوا للمؤمنين أي فأتاهم نصر الله من حيث لم يحتسبوا والأول أولى لقوله (وقذف في قلوبهم الرعب) فإن قذف الرعب كان في قلوب بني النضير، لا في قلوب المسلمين، قال أهل اللغة: الرعب الخوف الذي يرعب الصدر، أي يملأه، وقذفه إثباته فيه، قيل: وكان قذف الرعب في قلوبهم بقتل سيدهم كعب بن الأشرف والأولى عدم تقييده بذلك وتفسيره به (1)، بل المراد بالرعب الذي قذفه الله في قلوبهم هو الذي ثبت في الصحيح.
" من قوله صلى الله عليه وسلم: نصرت بالرعب مسيرة شهر ".
_________
(1) كلام الشوكاني بنصه.(14/39)
(يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين) وذلك أنهم لما أيقنوا بالجلاء حسدوا المسلمين أن يسكنوا منازلهم، فجعلوا يخربونها من داخل، والمسلمون من خارج، قال قتادة والضحاك: كان المؤمنون يخربون من خارج ليدخلوا، واليهود من داخل ليبنوا به ما خرب من حصنهم، قال الزجاج: معنى تخريبها بأيدي المؤمنين أنهم عرضوها لذلك، قرأ الجمهور يخربون بالتخفيف، وقرىء بالتشديد، قال أبو عمرو: وإنما اخترت القراءة بالتشديد لأن الإخراب ترك الشيء خراباً، وإنما خربوها بالهدم، وليس ما قاله بمسلم، فإن التخريب والإخراب عند أهل اللغة بمعنى واحد، قال سيبويه: إن معنى فعلت وأفعلت يتعاقبان نحو أخربته وخربته، وأفرحته وفرحته، واختار الأولى أبو عبيد وأبو حاتم.
قال الزهري وابن زيد وعروة بن الزبير: لما صالحهم النبي صلى الله عليه وسلم على أن لهم ما أقلت الإبل، كانوا يستحسنون الخشبة أو العمود، فيهدمون بيوتهم ويحملون ذلك على إبلهم، ويخرب المؤمنون بالمقاتلة، وقال أبو عمرو: بأيديهم في تركهم لها وبأيدي المؤمنين في إجلائهم عنها، والجملة مستأنفة لبيان ما فعلوه، أو في محل نصب على الحال.
(فاعتبروا يا أولي الأبصار) أي اتعظوا وتدبروا، وانظروا فيما نزل بهم يا أهل العقول والبصائر، قال الواحدي: ومعنى الاعتبار النظر في الأمور ليعرف بها شيء آخر من جنسها، قال النسفي: وهو دليل على جواز القياس انتهى. والاعتبار مأخوذ من العبور، والمجاوزة من شيء إلى شيء، ولهذا سميت العبرة عبرة لأنها تنتقل من العين إلى الخد، وسمي علم التعبير لأن صاحبه ينقل من المتخيل إلى المعقول، وسميت الألفاظ عبارات لأنها تنقل المعاني من لسان القائل إلى عقل المستمع، ويقال: السعيد من اعتبر بغيره، لأنه ينقل بواسطة عقله من حال ذلك الغير إلى حال نفسه ومن لم يعتبر بغيره(14/40)
اعتبر به غيره، ولهذا قال القشيري: الاعتبار هو النظر في حقائق الأشياء وجهات دلالتها ليعرف بالنظر فيها شيء آخر.(14/41)
وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ (3)
(ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء) أي الخروج من أوطانهم على ذلك الوجه مع الأهل والولد، وقضى به عليهم (لعذبهم) بالقتل والسبي (في الدنيا) كما فعل ببني قريظة، والجلاء مفارقة الوطن، يقال: جلا بنفسه جلاء، وأجلاه غيره إجلاء، والفرق بين الجلاء والإخراج -وإن كان معناهما في الإبعاد واحداً- من جهتين إحداهما أن الجلاء ما كان مع الأهل والولد، والإِخراج قد يكون مع بقاء الأهل والولد، الثاني أن الجلاء لا يكون إلا لجماعة والإِخراج يكون لجماعة ولواحد كذا قال الماوردي.
(ولهم في الآخرة عذاب النار) مستأنفة غير متعلقة بجواب لولا، متضمنة لبيان ما يحصل لهم في الآخرة من العذاب، وإن نجوا من عذاب الدنيا.(14/41)
ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (4)
(ذلك) أي ما تقدم ذكره من الجلاء في الدنيا والعذاب في الآخرة (بأنهم شاقوا الله ورسوله) أي بسبب المشاقة منهم لله ولرسوله لعدم الطاعة والميل مع الكفار ونقض العهد (ومن يشاق الله فإن الله شديد العقاب) اقتصر ههنا على مشاقة الله لأن مشاقته شاقة لرسوله قرأ الجمهور يشاق بالإدغام وقرىء يشاقق بالفك.(14/41)
مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ (5) وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (7)(14/42)
مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ (5)
(مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ) قال مجاهد: إن بعض المهاجرين وقعوا في قطع النخل، فنهاهم بعضهم وقالوا إنما هي مغانم المسلمين، وقال الذين قطعوا بل هو غيظ للعدو فنزل القرآن بتصديق من نهى عن قطع النخل وتحليل من قطعه من الإثم فقال (ما قطعتم من لينة) قال قتادة والضحاك: إنهم قطعوا من نخيلهم وأحرقوا ست نخلات، وقال محمد بن إسحق إنهم أحرقوا نخلة وقطعوا نخلة فقال بنو النضير وهم أهل الكتاب يا محمد ألست تزعم أنك نبي تريد الصلاح؟ أفمن الصلاح قطع النخل وحرق الشجر؟ وهل وجدت فيما أنزل عليك إباحة الفساد في الأرض؟ فشق ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووجد المسلمون في أنفسهم فنزلت الآية ومعنى الآية أي شيء قطعتم من ذلك أو تركتم فبإذن الله، والضمير في تركتموها عائد إلى (ما) لتفسيرها باللينة وكذا في قوله (قائمة على أصولها) ومعنى على أصولها أنها باقية على ما هي عليه. واختلف المفسرون في تفسير اللينة فقال الزهري ومالك وسعيد بن جبير وعكرمة والخليل: إنها النخل كله، إلا العجوة، وقال مجاهد: إنها النخل كله ولم يستثن عجوة ولا غيرها، وقال الثوري: هي كرام العجل وقال أبو(14/42)