إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا (64)
(إن الله لعن الكافرين) أي طردهم وأبعدهم من رحمته (وأعد(11/148)
لهم) في الآخرة مع ذلك اللعن منه لهم في الدنيا (سعيراً) أي ناراً شديدة التسعّر(11/149)
خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (65)
(خالدين فيها) أي في السعير لأنها مؤنثة أو لأنه في معنى جهنم (أبداً) بلا انقطاع وهذا تأكيد لما استفيد من خالدين (لا يجدون ولياً) يواليهم ويحفظهم من عذابها (ولا نصيراً) ينصرهم ويخلصهم منها.(11/149)
يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا (66)
(يوم تقلب وجوههم في النار) أي اذكر قرىء تقلب بضم التاء وفتح اللام على البناء للمفعول وقرىء بالنون وكسر اللام على البناء للفاعل، وهو الله سبحانه وبضم التاء وكسر اللام على معنى تقلب السعير وجوههم وقرىء بفتح التاء واللام على معنى تتقلب، ومعنى هذا التقلب المذكور في الآية هو تقلبها تارة على جهة منها وتارة على جهة أخرى ظهراً لبطن أو تغير ألوانهم بلفح النار فتسود تارة وتخضر أخرى أو تبديل جلودهم بجلود أخرى وخصت الوجوه لأن الوجه أكرم موضع على الإنسان من جسده أو يكون الوجه عبارة عن الجملة فحينئذ.
(يقولون يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسولا) الجملة مستأنفة كأنه قيل فما حالهم؟ فقيل يقولون: متحسرين على ما فاتهم أو حال من ضمير وجوههم أو من نفس الوجوه تمنوا أنهم أطاعوا الله والرسول وآمنوا بما جاء به لينجوا مما هم فيه من العذاب كما نجا المؤمنون وهذه الألف في (الرسولا) والتي تأتي في (السبيلا) هي الألف التي تقع في الفواصل، وتسميها النحاة ألف الإطلاق، لإطلاق الصوت كقوافي الشعر، وفائدتها الوقوف والدلالة على أن الكلام قد انقطع وأن ما بعده مستأنف، وقد سبق بيان هذا في أول هذه السورة.(11/149)
وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا (67)
(وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا) وقرىء ساداتنا بكسر التاء جمع سادة فهو جمع الجمع وسادة جمع على غير قياس سواء جعل جمعاً لسيد أو سائد والجملة معطوفة على الجملة الأولى، والعدول إلى الماضي للإشعار بأن قولهم هذا ليس مستمراً كقولهم السابق، بل هو ضرب اعتذار أرادوا به ضرباً من التشفي بمضاعفة عذاب الذين ألقوهم في تلك الورطة، والمراد بالسادة(11/149)
والكبراء هم الرؤساء والقادة الذين كانوا يمتثلون أمرهم في الدنيا، ويقتدون بهم. وقال مقاتل: هم المطعمون في غزوة بدر والأول أولى. ولا وجه للتخصيص بطائفة معينة، والتعبير عنهم بعنوان السيادة والكبر لتقوية الاعتذار، وإلا فهم في مقام التحقير والإهانة.
وفي هذا زجر عن التقليد شديد، وكم في الكتاب العزيز من التنبيه على هذا والتحذير منه والتنفير عنه ولكن لمن يفهم معنى كلام الله ويقتدي به وينصف من نفسه لا لمن هو من جنس الأنعام في سوء الفهم، ومزيد البلادة، وشدة التعصب.
(فأضلونا السبيلا) أي عن السبيل بما زينوا لنا من الكفر بالله وبرسله والسبيل هو التوحيد، ثم دعوا عليهم في ذلك الموقف فقالوا:(11/150)
رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا (68)
(ربنا آتهم ضعفين من العذاب) أي مثل عذابنا مرتين للضلال والإضلال وقال قتادة عذاب الدنيا والآخرة، وقيل: عذاب الكفر وعذاب الإضلال (والعنهم لعناً كبيراً) أي كبيراً في نفسه شديداً عليهم وقرىء بالمثلثة أي كثيراً لعدد عظيم القدر شديد الموقع.(11/150)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا (69)
(يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى) بقولهم إن به أدرة أو برصا أو عيبا، وسيأتي بيان ذلك، وفيه تأديب للمؤمنين وزجر لهم من أن يدخلوا في شىء من الأمور التي تؤذي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قال مقاتل: وعظ الله المؤمنين أن لا يؤذوا محمداً - صلى الله عليه وسلم - كما آذى بنو إسرائيل موسى، وقد وقع الخلاف فيما أوذي به نبينا - صلى الله عليه وسلم - حتى نزلت هذه الآية فحكى النقاش: أن أذيتهم محمداً صلى الله عليه وسلم قولهم: زيد بن محمد، وقال أبو وائل: إنه صلى الله عليه وسلم قسم قسماً فقال رجل من الأنصار: إن هذه قسمة ما أريد بها وجه الله.
وعن ابن مسعود مثله، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فاحمر وجهه، ثم قال: [رحم الله موسى فقد أوذي بأكثر من هذا فصبر]. أخرجه(11/150)
البخاري ومسلم وغيرهما، وقيل: نزلت في زيد بن ثابت، وزينب بنت جحش وما سمع فيها من قالة الناس.
(فبرأه) أي طهره (الله مما قالوا) وأظهر براءته لهم وما مصدرية أو موصولة وأيهما كان، فالمراد البراءة عن مضمون القول ومؤداه، وهو الأمر المعيب وأذى موسى هو حديث المومسة التي أرادها قارون على قذفه بنفسها.
وقد أخرج البخاري وغيره من حديث أبي هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إن موسى كان رجلاً حيياً ستيراً لا يرى من جلده شىء استحياء منه، فآذاه من آذاه من بني إسرائيل فقالوا: ما يستتر هذا الستر إلا من عيب بجلده إما برص وإما أُدْرَةٌ، وإما آفة وإن الله عز وجل أراد أن يبرىء موسى مما قالوا فخلا يوماً وحده، فخلع ثيابه على الحجر ثم اغتسل فلما فرغ أقبل إلى ثيابه ليأخذها وإن الحجر عدا بثوبه فأخذ موسى عصاه فطلب الحجر فجعل يقول: ثوبي حجر ثوبي حجر حتى انتهى إلى ملأ من بني إسرائيل فرأوه عرياناً أحسن ما خلق الله، وأبرأه مما يقولون، وقام الحجر فأخذ ثوبه فلبسه، وطفق بالحجر ضرباً بعصاه فوالله إن بالحجر لندباً من أثر ضربه ثلاثاً أو أربعاً أو خمساً].
وأخرج نحوه البزار وابن الأنباري وابن مردويه من حديث أنس وقال ابن عباس: قال له قومه إنه آدر فخرج ذات يوم يغتسل فوضع ثيابه على حجر فخرجت الصخرة تشتد بثيابه فخرج موسى يتبعها عرياناً حتى انتهت به إلى مجالس بني إسرائيل فرأوه وليس بآدر فذلك قوله: (فبرأه الله مما قالوا) الآية.
وأخرج الحاكم وصححه، عن ابن مسعود وناس من الصحابة أن الله أوحى إلى موسى أني متوف هارون فأت به جبل كذا وكذا فانطلقا نحو الجبل فإذا هم بشجرة وبيت فيه سرير عليه فرش وريح طيب، فلما نظر هارون إلى ذلك الجبل والبيت وما فيه أعجبه، قال موسى: إني أحب أن أنام على هذا السرير، قال: نم عليه، قال نم معي فلما ناما أخذ هارون الموت فلما قبض(11/151)
رفع ذلك البيت وذهبت الشجرة ورفع السرير إلى السماء.
فلما رجع موسى إلى بني إسرائيل قالوا: قتل هارون وحسده حب بني إسرائيل، وكان هارون أَأْلَف بهم وألين لهم، وكان في موسى بعض الغلظة عليهم، فلما بلغه ذلك قال: ويحكم إنه كان أخي أفتروني أقتله؟ فلما أكثروا عليه قام فصلى ركعتين ثم دعا الله فنزل بالسرير حتى نظروا إليه بين السماء والأرض فصدقوه (وكان عند الله وجيهاً) أي عظيماً ذا وجاهة، والوجيه العظيم القدر الرفيع المنزلة، يقال: وجه الرجل يوجه وجاهة فهو وجيه، وقيل: مستجاب الدعوة، وقيل: الوجاهة أنه كلمه تكليماً، وقرأ عبد الله بالموحدة من العبودية، وهي حسنة، قاله الكرخي.(11/152)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70)
(يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله) في كل أمر من الأمور (وقولوا قولاً سديداً) أي صواباً وحقاً قال قتادة ومقاتل: يعني في شأن زيد وزينب، ولا تنسبوا النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى ما لا يحل، وقال عكرمة: إن القول السديد: لا إله إلا الله، وقيل: هو الذي يوافق ظاهره باطنه، وقيل: هو ما أريد به وجه الله دون غيره، وقيل: هو الإصلاح بين الناس، والسديد مأخوذ من تسديد السهم ليصاب به الغرض، والظاهر من الآية أنه أمرهم بأن يقولوا قولاً سديداً في جميع ما يأتونه ويذرونه فلا يخص ذلك نوعاً دون نوع، وإن لم يكن في اللفظ ما يقتضي العموم، فالمقام يفيد هذا المعنى لأنه أرشد سبحانه عباده إلى أن يقولوا قولاً يخالف قول أهل الأذى.
وأخرج أحمد وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه عن أبي موسى الأشعري قال: [صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة الظهر ثم قال: على مكانكم اثبتوا ثم أتى الرجال فقال: إن الله أمرني أن آمركم أن تتقوا الله وأن تقولوا قولاً سديداً، ثم أتى النساء فقال: إن الله أمرني أن آمركن أن تتقين الله، وأن تقلن قولاً سديداً]، ثم ذكر الله سبحانه ما لهؤلاء الذين امتثلوا الأمر بالتقوى والقول السديد من الأجر فقال:(11/152)
يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71) إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72) لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (73)(11/153)
يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71)
(يصلح لكم أعمالكم) أي يجعلها صالحة لا فاسدة بما يهديكم إليه، ويوفقكم فيه، أو يتقبلها (ويغفر لكم ذنوبكم) أي يجعلها مكفرة مغفورة (ومن يطع الله ورسوله) في فعل ما هو طاعة واجتناب ما هو معصية.
(فقد فاز فوزاً عظيماً) أي ظفر بالخير ظفراً عظيماً ونال خير الدنيا والآخرة وهذه الجملة مستأنفة مقررة لمضمون ما قبلها، ثم لا فرغ سبحانه من بيان ما هو لأهل الطاعة من الخير بعد بيان ما لأهل المعصية من العذاب بين عظم شأن التكاليف الشرعية وصعوبة أمرها فقال:(11/153)
إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72)
(إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا) أي خفن من الأمانة أن يؤدينها فيلحقهن العقاب، أو خفن من الخيانة فيها، واختلف في تفسير الأمانة المذكورة هنا، فقال الواحدي: معنى الأمانة ههنا في قول جميع المفسرين: الطاعة والفرائض التي يتعلق بأدائها الثواب وبتضييعها العقاب، قال القرطبي: الأمانة تعم جميع وظائف الدين على الصحيح من الأقوال وهو قول الجمهور، وقد اختلف في تفاصيل بعضها فقال ابن مسعود: هي في أمانة الأموال كالودائع وغيرها، وروي عنه أنها في كل الفرائض وأشدها أمانة المال.(11/153)
وقال أبيّ ابن كعب: من الأمانة أن ائتمنت المرأة على فرجها، وقال أبو الدرداء: غسل الجنابة أمانة، وإن الله لم يأمن ابن آدم على شىء من دينه غيرها، وقال ابن عمر: أول ما خلق الله من الإنسان فرجة، وقال هذه أمانة أستودعكها فلا تلبسها إلا بحق فإن حفظتها حفظتك فالفرج أمانة، والأذن أمانة، والعين أمانة، واللسان أمانة، والبطن أمانة، واليد أمانة، والرجل أمانة، ولا إيمان لمن لا أمانة له.
وقال السدي: هي ائتمان آدم ابنه قابيل على ولده هابيل وخيانته إياه في قتله وما أبعد هذا القول، وليت شعري ما هو الذي سوغ للسدي تفسير هذه الآية بهذا؟ فإن كان ذلك لدليل دله على ذلك فلا دليل، وليست هذه الآية حكاية عن الماضين من العباد حتى يكون له في ذلك متمسك أبعد من كل بعيد، وأوهن من بيت العنكبوت، وإن كان تفسير هذا عملاً بما تقتضيه اللغة العربية فليس في لغة العرب ما يقتضي هذا ويوجب حمل هذه الأمانة المطلقة على شىء كان في أول هذا العالم.
وإن كان هذا تفسيراً منه بمحض الرأى فليس الكتاب العزيز عرضة لتلاعب آراء الرجال به، ولهذا ورد الوعيد على من فسر القرآن برأيه فاحذر أيها الطالب للحق عن قبول مثل هذه التفاسير، واشدد يديك في تفسير كتاب الله على ما تقتضيه اللغة العربية فهو قرآن عربي كما وصفه الله، فإن جاءك تفسير عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فلا تلتفت إلى غيره. وإذا جاء نهر الله بطل نهر معقل، وكذلك ما جاء عن الصحابة رضي الله تعالى عنهم فإنهم من جملة العرب ومن أهل اللغة وممن جمع إلى اللغة العربية العلم بالاصطلاحات الشرعية، ولكن إذا كان معنى اللفظ أوسع مما فسروه به في لغة العرب، فعليك أن تضم إلى ما ذكره الصحابي ما تقتضيه لغة العرب وأسرارها، فخذ هذه كلية تنتفع بها، وقد ذكرنا في خطبة هذا التفسير ما يرشدك إلى هذا.
قال الحسن: إن الأمانة عرضت على السموات والأرض والجبال فقالت:(11/154)
وما فيها؟ فقال لها إن أحسنت آجرتك، وإن أسأت عذبتك، فقالت لا. قال مجاهد فلما خلق الله آدم عرضها عليه، وقيل له ذلك، فقال قد تحملتها. وروي نحو هذا عن غير الحسن ومجاهد قال النحاس: وهذا القول هو الذي عليه أهل التفسير.
وقيل: هذه الأمانة هي ما أودعه الله في السموات والأرض والجبال وسائر المخلوقات من الدلائل على ربوبيته أن يظهروها فأظهروها إلا الإنسان فإنه كتمها وجحدها كذا قال بعض المتكلمين مفسراً للقرآن برأيه الزائف، فيكون على هذا معنى عرضنا أظهرنا، قال جماعة من العلماء: ومن المعلوم أن الجماد لا يفهم ولا يجيب فلا بد من تقدير الحياة فيها، وهذا العرض في الآية هو عرض تخيير لا عرض إلزام، ولو ألزمهن لم يمتنعن من حملها، والجمادات كلها خاضعة لله عز وجل مطيعة لأمره ساجدة له، وقيل: المراد بالعرض هو العرض على أهلها من الملائكة دون أعيانها، وقال القفال وغيره: العرض في هذه الآية ضرب مثل أي أن السموات والأرض والجبال على كبر أجرامها لو كانت بحيث يجوز تكليفها لثقل عليها تقلد الشرائع لما فيها من الثواب والعقاب أي أن التكليف أمر عظيم حقه أن تعجز عنه السموات والأرض والجبال، وقد كلفه الإنسان وهو ظلوم جهول لو عقل وهذا كقوله (لو أنزلنا هذا القرآن على جبل).
وقيل: إنا عرضنا بمعنى عارضنا أي عارضنا الأمانة بالسموات والأرض والجبال فضعفت هذه الأشياء عن الأمانة ورجحت الأمانة بثقلها عليها، وقيل: إن عرض الأمانة على السموات والأرض والجبال، إنما كان من آدم عليه السلام وإن أمره أن يعرض ذلك عليها وهذا أيضاً تحريف لا تفسير، وقد قيل: إن المراد بالأمانة العقل، والراجح ما قدمناه عن الجمهور وما عداه فلا يخلو عن ضعف لعدم وروده على المعنى العربي، ولا انطباقه على ما يقتضيه الشرع، ولا موافقته لما تقتضيه التعريف بالأمانة.(11/155)
عن ابن عباس في الآية قال: لأمانة الفرائض عرضها الله على السموات والأرض والجبال إن أدوها أثابهم، وإن ضيعوها عذبهم، فكرهوا ذلك وأشفقوا من غير معصية، ولكن تعظيماً لدين الله أن لا يقوموا بها، ثم عرضها على آدم فقبلها بما فيها.
وعنه في الآية قال: عرضت على آدم فقيل خذها بما فيها فإن أطعت غفرت لك، وإن عصيت عذبتك، قال: قبلتها بما فيها فما كان إلا ما بين العصر إلى الليل من ذلك اليوم حتى أصاب الذنب، وعنه: هي أمانات الناس، والوفاء بالعهود، فحق على كل مؤمن أن لا يغش مؤمناً، ولا معاهداً في شيء لا في قليل ولا في كثير، فعرض الله هذه الأمانة على أعيان السموات والأرض والجبال، وهذا قول جماعة من التابعين وأكثر السلف.
وإنما أتى في قوله فأبين إلخ بضمير كضمير الإناث لأن جمع تكسير غير العاقل يجوز فيه ذلك، وإن كان مذكراً وإنما ذكرنا ذلك لئلا يتوهم أنه قد غلب المؤنث وهو السموات على المذكر وهو الجبال.
(وحملها الإنسان) أي التزم بحقها وهو آدم بعد عرضها عليه؛ قيل إن ما كلف الإنسان حمله بلغ من عظمه وثقل محمله أنه عرض على أعظم ما خلق الله تعالى من الأجرام وأقواه وأشده أن يحتمله ويشتغل به فأبى حمله وأشفق منه، وحمله الإنسان على ضعفه وضعف قوته.
قال الزجاج: معنى حملها خان فيها وجعل الآية في الكفار والفساق والعصاة. وقيل: معنى حملها كُلِّفْها وألْزِمْها أو صار مستعداً لها بالفطرة أو حملها عند عرضها عليه في عالم الذر، عند خروج ذرية آدم من ظهره وأخذ الميثاق عليهم.
(إنه كان ظلوماً جهولاً) أي وهو في ذلك الحمل ظلوم لنفسه جهول لما يلزمه، أو جهول لقدر ما دخل فيه كما قال سعيد بن جبير أو جهول بأمر ربه كما قال الحسن، وقيل ظلوماً حين عصى ربه، جهولاً لا يدري ما العقاب(11/156)
في ترك الأمانة. وقيل: ظلوماً جهولاً حيث حمل الأمانة ولم يف بها، وضمنها ولم يف بضمانها، ونحو هذا من الكلام كثير في لسان العرب، وما جاء القرآن إلا على أساليبهم وفي تفسير الآية أقوال أخر والأول أولى وهو قول السلف.(11/157)
لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (73)
(ليعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات) متعلق بحملها أي حملها الإنسان ليعذب الله العاصي ويثيب المطيع وعلى هذا فجملة (إنه كان ظلوماً جهولاً) معترضة بين الجملة، وغايتها الإيذان بعدم وفائه بما تحمله، قال مقاتل بن سليمان ومقاتل بن حيان: ليعذبهم بما خانوا من الأمانة وكذبوا من الرسل ونقضوا من الميثاق الذي أقروا به حين أخرجوا من ظهور آدم وقال الحسن وقتادة: هؤلاء المعذبون هم الذين خانوها، وهؤلاء الذين يتوب الله عليهم هم الذين أدوها والالتفات إلى الاسم الجليل أولاً لتهويل الخطب وتربية المهابة والإظهار في موضع الإضمار ثانياً في قوله:
(ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات) لإبراز مزيد الاعتناء بأمر المؤمنين توفية لكلٍ من مقامي الوعيد والوعد حقه والله أعلم. أي يهديهم ويرحمهم بما أدوا من الأمانة. قال ابن قتيبة: أي عرضنا ذلك ليظهر نفاق المنافق وشرك المشرك. فيعذبهما الله ويظهر إيمان المؤمن فيعود عليه بالمغفرة والرحمة إن حصل منه تقصير في بعض الطاعات، ولذلك ذكر بلفظ التوبة فدل على أن المؤمن العاصي خارج من العذاب.
(وكان الله غفوراً) أي كثير المغفرة للمؤمنين التائبين من عباده إذا قصروا في شيء مما يجب عليهم من الأمانة وغيرها حيث عفا عن فرطانهم.
(رحيماً) بهم حيث أثابهم بالعفو على طاعتهم، مكرماً لهم بأنواع الكرم وقد وردت أحاديث كثيرة في الحث على الأمانة وذكر رفعها عن القلوب عند قرب الساعة فلا نطول بذكرها.(11/157)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
سورة سبأ
قال القرطبي: في قول الجميع إلا آية واحدة اختلف فيها وهي قوله: (وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ)، فقالت فرقة: هي مكيّة. وقالت فرقة: هي مدنية، وسيأتي الخلاف في معنى هذه الآية إن شاء الله تعالى، وفيمن نزلت. وعن ابن عباس قال: نزلت سورة سبأ بمكة.(11/159)
بسم الله الرحمن الرحيم
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (1) يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (2) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (3)(11/161)
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (1)
(الحمد لله) التعريف إن أجري على المعهود فهو بما حمد به نفسه محمود، وإن أجري على الاستغراق فالتعريف مشعر باستحقاق جميع أفراد الحمد لله سبحانه على ما تقدم تحقيقه في فاتحة الكتاب. وقيل: معناه أن كل نعمة من الله فهو الحقيق بأن يحمد ويثنى عليه واللام لام التمليك لأنه خالق ناطق الحمد أصلاً فكان بملكه مالك الحمد للتحميد أهلاً، وقيل هي لام التخصيص والمعنى متقارب أي وله بكل المحامد الاختصاص.
(الذي له ما في السموات وما في الأرض) معناه أن جميع ما هو فيهما في ملكه وتحت تصرفه يفعل به ما يشاء ويحكم فيه بما يريد، فكل نعمة واصلة إلى العبد فهي مما خلقه له ومَنّ به عليه، فحمده على ما في السموات والأرض هو حمد له على النعم التي أنعم بها على خلقه مما خلقه لهم، ولما بين أن الحمد الدنيوي من عباده الحامدين له مختص به، بين أن الحمد الأخروي مختص به كذلك أيضاًً فقال:(11/161)
(وله الحمد في الآخرة) كما له في الدنيا لأن النعم في الدارين كلها منه، وقيل المعنى أن له على الاختصاص حمد عباده الذي يحمدونه في الدار الآخرة إذا دخلوا الجنة كما في قوله (وقالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده) وقوله (الحمد لله الذي هدانا لهذا) وقوله (الحمد لله الذي اذهب عنا الحزن) وقوله (الحمد لله الذي أحلنا دار المقامة من فضله) وقوله (وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين) فهو سبحانه المحمود في الآخرة كما أنه المحمود في الدنيا، وهو المالك للآخرة كما أنه المالك للدنيا، غير أن الحمد هنا واجب لأن الدنيا دار تكليف وثم لا، لعدم التكليف وإنما يحمد أهل الجنة سروراً بالنعيم وتلذذاً بما نالوا من الأجر العظيم، كما ورد: يلهمون التسبيح والحمد كما يلهمون النفس.
(وهو الحكيم) الذي أحكم أمر الدارين (الخبير) بأمر خلقه فيهما، وبضمير من يحمده ليوم الجزاء والعرض، ثم ذكر سبحانه بعض ما يحيط به علمه من أمور السموات والأرض التي نيطت بها مصالحهم الدينية والدنيوية فقال:(11/162)
يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (2)
(يعلم ما يلج في الأرض) أي ما يدخل ويوضع فيها من مطر أو كنز أو دفين أو أموات (وما يخرج منها) من زرع ونبات وحيوان وشجر وعيون ومعادن وأموات إذا بعثوا (وما ينزل من السماء) من الأمطار والسروج والثلوج والبرد والصواعق وأنواع البركات ومن ذلك ما ينزل منها من ملائكته وكتبه إلى أنبيائه قُرىء: ينزِل مسنداً إلى ما وينزّل مشدداً مسنداً إلى الله سبحانه.
(وما يعرج فيها) أي في السماء من الملائكة، وأعمال العباد والدعوات وضمن العروج معنى الاستقرار فعداه بفي دون إلى، والسماء جهة العلو مطلقاً (وهو الرحيم) بعباده (الغفور) لذنوبهم وتفريطهم في أداء ما وجب عليهم من شكر نعمه.(11/162)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (3)
(وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة) المراد بهؤلاء القائلين جنس الكفرة على الإطلاق أو كفار مكة على الخصوص والأول أولى، والمعنى لا تأتي بحال من الأحوال إنكار منهم لوجودها بالكلية لا بمجرد إتيانها في حال تكلمهم، أو في حال حياتهم مع تحقق وجودها فيما بعد، وإنما عبروا عنها بذلك لأنهم كانوا يوعدون بإتيانها فرد الله عليهم كلامهم وأثبت ما نفوه وأمر رسوله أن يقول لهم:
(قل بلى) على معنى ليس الأمر إلا إتيانها (وربي لتأتينكم) وهذا القسم لتأكيد الإتيان على أتم الوجوه وأكملها. قرىء: لتأتينكم بالفوقية أي الساعة، وبالتحتية على تأويل الساعة باليوم أو الوقت، كأنه قال: ليأتينكم البعث أو أمره كما قال (هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي أمر ربك).
(عالم الغيب) تقوية للتأكيد لأن تعقيب القسم بحلائل نعوت المقسم به يؤذن بفخامة شأن المقسم عليه وقوة إثباته وصحته، لما أن ذلك في حكم الاستشهاد على الأمر (لا يعزب) أي لا يغيب (عنه) ولا يستر عليه ولا يبعد عنه من عزب يعزب -بكسر الزاي- إذا غاب وبعد. وخفي وقرىء بضم الزاي، قال الفراء: والكسر أحب إليّ وهما لغتان (مثقال ذرة) أي مقدار أصغر نملة ووزن ذرة.
(في السموات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك) أي من مثقال ذرة وفيه إشارة إلى أن مثقال لم يذكر للتحديد بل الأصغر منه لا يعزب أيضاًً، ولو اقتصر على الأصغر لتوهم متوهم أنه يثبت الصغائر لكونها محل النسيان، وأما الأكبر فلا ينسى فلا حاجة إلى إثباته فقال (ولا أكبر) منه (إلا في كتاب مبين) أي إلا وهو مثبت في اللوح المحفوظ الذي اشتمل على معلومات الله سبحانه ومكتوب فيه فهو مؤكد لنفي العزوب.(11/163)
لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (5) وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (6) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (7) أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ (8)(11/164)
لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4)
(ليجزى الذين آمنوا وعملوا الصالحات) اللام للتعليل لقوله لتأتينكم أي إتيان الساعة فائدته جزاء المؤمنين بالثواب (أولئك) أي الذين آمنوا وعملوا الصالحات (لهم مغفرة) لذنوبهم (ورزق كريم) أي حسن وهو الجنة بسبب إيمانهم وعملهم الصالح مع التفضل عليهم من الله سبحانه، ثم ذكر فريق الكافرين الذين يعاقبون عند إتيان الساعة فقال:(11/164)
وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (5)
(والذين سعوا في) إبطال (آياتنا) المنزلة على الرسل وقدحوا فيها وصدّوا الناس عنها وجاهدوا في ردها بالطعن فيها ونسبتها إلى السحر والشعر وغير ذلك لأن المكذب آت بإخفاء آيات بينات؛ فيحتاج إلى السعي العظيم والجد البليغ ليروج كذبه لعله يعجز المتمسك به.
(معاجزين) مقدرين عجزنا أو مسابقين لنا يحسبون أنهم يفوتوننا ولا يدركون، وذلك باعتقادهم أنهم لا يبعثون، يقال: أعجزه وعاجزه إذا غالبه وسبقه. قرىء: معاجزين ومعجزين أي مثبطين للناس عن الإيمان بالآيات (أولئك) الذين سعوا (لهم عذاب من رجز) الرجز هو العذاب فمن للبيان وقيل الرِّجز هو أسوأ العذاب وأشده والأول أولى.(11/164)
ومن ذلك قوله فأنزلنا على الذين ظلموا رجزاً من السماء (أليم) أي الشديد الألم، ولما ذكر الذين سعوا في إبطال آيات الله ذكر الذين يؤمنون بها فقال:(11/165)
وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (6)
(ويرى) أي يعلم (الذين أوتوا العلم) وهم الصحابة قاله قتادة وقال مقاتل: هم مؤمنو أهل الكتاب.
وقيل: جميع المسلمين، والأولى أنه كلام مستأنف لدفع ما يقوله الذين سعوا في الآيات، أي أن ذلك السعي منهم يدل على جهلهم، لأنهم مخالفون لما يعلمه أهل العلم في شأن الكتاب.
(الذي أنزل إليك من ربك هو الحق) أي الصدق يعني أنه من عند الله (ويهدي إلى صراط) معطوف على الحق عطف فعل على اسم لأنه في تأويله كما في قوله: (صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ) أي: وقابضات كأنه قيل وهادياً وقيل إنه مستأنف وفاعله ضمير يرجع إلى فاعل أنزل، وهو القرآن، والصراط: الطريق أي: ويهدي إلى طريق.
(العزيز) في ملكه (الحميد) عند خلقه والمراد أن يهدي إلى دين الله الإسلام وهو التوحيد، ثم ذكر سبحانه نوعاً آخر من كلام منكري البعث فقال:(11/165)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (7)
(وقال الذين كفروا) بعضهم لبعض: (هل ندلكم على رجل)؟ أي هل نرشدكم إلى رجل يعنون محمداً - صلى الله عليه وسلم -، والتعبير برجل المنكر من باب التجاهل، كأنهم لم يعرفوا منه إلا أنه رجل وهو عندهم أشهر من الشمس قاله الشهاب، وقال القرطبي: كانوا يقصدون بذلك السخرية والهزأة.
(ينبئكم) يخبركم بأمر عجيب ونبأ غريب هو أنكم (إذا مزقتم كل ممزق) أي فرقتم كل تفريق وقطعتم كل تقطيع وصرتم بعد موتكم رفاتاً وتراباً، وقال الكرخي: أي كل مكان تمزيق من القبور، وبطون الوحش والطير.
(إنكم لفي خلق جديد) أي تخلقون وتنشأون خلقاً جديداً، وتبعثون(11/165)
من قبوركم أحياء، وتعودون إلى الصور التي كنتم عليها بعد أن تمزقت أجسادكم كل تمزيق، قال هذا القول بعضهم لبعض استهزاء بما وعدهم الله على لسان رسوله من البعث، وأخرجوا الكلام مخرج التلهي به والتضاحك مما يقوله من ذلك، قال الزجاج: التقدير إذا مزقتم كل ممزق بعثتم أو ينبئكم بأنكم تبعثون إذا مزقتم، وأصل المزق: خرق الأشياء يقال ثوب مزيق وممزق ومتمزق وممزوق.
وعن قتادة في الآية قال: قال ذلك مشركو قريش، إذا أكلتكم الأرض وصرتم رفاتاً وعظاماً وتقطعتكم السباع والطير، أنكم ستحيون وتبعثون، قالوا ذلك تكذيباً له، وجديد عند البصريين بمعنى فاعل، يقال جد الشيء فهو جاد، وعند الكوفيين بمعنى مفعول من جددته أي قطعته، ثم حكى سبحانه عن هؤلاء الكفار أنهم رددوا ما وعدهم به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من البعث بين أمرين فقالوا:(11/166)
أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ (8)
(أفترى على الله كذباً أم به جنة)؟ أي أهو كاذب فيما قاله، أم به جنون بحيث لا يعقل ما يقوله. قال قتادة: إما أن يكون يكذب على الله وإما أن يكون مجنوناً والهمزة في أفترى همزة الاستفهام وحذفت لأجلها همزة الوصل كما تقدم في قوله (أطلع الغيب) ثم رد عليهم سبحانه ما قالوه في رسوله فقال:
(بل الذين لا يؤمنون بالآخرة) أي ليس الأمر كما زعموا بل هم الذين ضلوا عن الفهم وإدراك الحقائق فكفروا بالآخرة، ولم يؤمنوا بما جاءهم به فصاروا بسبب ذلك (في العذاب) الدائم في الآخرة وهم اليوم.
(والضلال البعيد) عن الحق غاية البعد، ثم وبخهم سبحانه بما اجترأوا عليه من التكذيب مبيناً لهم أن ذلك لم يصدر منهم إلا لعدم التفكر والتدبر في خلق السماء والأرض، وأن من قدر على هذا الخلق العظيم لا يعجزه أن يبعث من مخلوقاته ما هو دون ذلك ويعيده إلى ما كان عليه من الذات والصفات فقال:(11/166)
أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (9) وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (10) أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (11)(11/167)
أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (9)
(أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ) والفاء للعطف على مقدر يقتضيه المقام، والمعنى أَعَموا فلم يروا ومن المعلوم أن ما بين يدي الإنسان هو كل ما يقع نظره عليه من غير أن يحول وجهه إليه وخلفه هو كل ما لا يقع نظره عليه حتى يحول نظره إليه فيعم الجهات كلها أي أنهم إذا نظروا رأوا السماء قدامهم وخلفهم، وكذلك إذا نظروا إلى الأرض رأوها خلفهم وقدامهم، فالسماء والأرض محيطتان بهم فهو القادر على أن ينزل بهم ما شاء من العذاب بسبب كفرهم وتكذيبهم لرسوله. وإنكارهم للبعث.
فهذه الآية اشتملت على أمرين:
أحدهما: أن هذا الخلق الذي خلقه الله من السماء والأرض يدل على كمال القدرة على ما هو دونه من البعث كما في قوله (أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ).
والأمر الآخر: التهديد لهم بأن من خلق السموات والأرض على هذه الهيئة التي قد أحاطت بجميع المخلوقات فيهما قادر على تعجيل العذاب لهم كما قال:
(إن نشأ نخسف بهم الأرض) كما خسفنا بمن كان قبلهم كقارون (أو نسقط عليهم كسفاً) أي قطعاً (من السماء) كما أسقطها على أصحاب الأيكة فكيف يأمنون ذلك، وقال قتادة: إن يشأ أن يعذب بسمائه فعل،(11/167)
وإن يشأ أن يعذب بأرضه فعل، وكل خلقه له جند، قرىء بالنون وبالتحتية في الأفعال الثلاثة.
(إن في ذلك) المذكور المرئي من خلق السماء والأرض من حيث إحاطتهما بالناظرين من جميع الجوانب (لآية) واضحة ودلالة بينة.
(لكل عبد منيب) أي راجع إلى ربه بالتوبة والإخلاص، وخص النيب لأنه المنتفع بالتفكر، وقال قتادة: منيب أي تائب مقبل إلى الله، وقال هنا: لآية بالتوحيد، وفيما بعد ذلك لآيات يجمعها لأن -ما- هنا إشارة إلى إحياء الموتى فناسب التوحيد. وما بعد إشارة إلى سبأ قبيلة تفرقت في البلاد فصاروا فرقاً فناسب الجمع، ثم ذكر سبحانه من عباده المنيبين إليه داود وسليمان كما قال في داود: (فاستغفر ربه وخرّ راكعاً وأناب). وقال في سليمان: (وألقينا على كرسيه جسداً ثم أناب) فقال:(11/168)
وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (10)
(ولقد آتينا داود منا فضلاً) أي آتيناه بسبب إنابته فضلاً منا على سائر الأنبياء، واختلف في هذا الفضل على أقوال فقيل النبوة وقيل الزبور وقيل العلم، وقيل القوة كما في قوله (واذكر عبدنا داود ذا الأيد) وقيل تسخير الجبال كما في قوله (يا جبال أوّبي معه)، وقيل التوبة، وقيل الحكم بالعدل، كما في قوله (يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق)، وقيل هو إلانة الحديد كما في قوله: (وألنا له الحديد)، وقيل حسن الصوت والأولى أن يقال: إن هذا الفضل المذكور هو ما ذكره الله بعده من قوله.
(يا جبال) إلى آخر الآية أي قلنا له يا جبال (أوبي معه) التأويب التسبيح كما في قوله: (إنا سخرنا الجبال معه يسبحن)، قال أبو ميسرة: هو التسبيح بلسان الحبشة، وقال ابن عباس: أوّبي سبحي.
وروي مثله عن مجاهد وعكرمة وابن زيد وكان إذا سبح داود سبحت(11/168)
الجبال معه، ومعنى تسبيحها أن الله يجعلها قادرة على ذلك أو يخلق فيها التسبيح معجزة لداود، وقيل معنى أوبي سيري معه من التأويب الذي هو سير النهار، أجمع قراء العامة أوبي على صيغة الأمر من التأويب وهو الترجيع والتسبيح أو السير أو النوح، وقرىء أوبي بضم الهمزة أمراً من آب يؤوب إذا رجع أي ارجعي معه.
(والطير) بالنصب عطفاً على (فضلاً) على معنى وسخرنا له الطير، لأن إيتاءه إياها تسخيرها له أو نادينا الجبال والطير، وقال سيبويه وأبو عمرو ابن العلاء: انتصابه بفعل مضمر على معنى وسخرنا له الطير وقال الزجاج والنحاس: يجوز أن يكون مفعولاً معه، كما تقول: استوى الماء والخشية، وقال الكسائي أي آتيناه فضلا وتسبيح الطير، وفي هذا النظم من الفخامة ما لا يخفى.
(وألنا له الحديد) أي جعلناه ليناً له ليعمل به ما شاء.
قال ابن عباس: كالعجين وقال الحسن: كالشمع يعمله من غير نار، وقال السدي: كان الحديد في يده كالطين المبلول والعجين والشمع يصرفه كيف يشاء من غير نار ولا ضرب بمطرقة، وكذا قال مقاتل، وكان يفرغ من عمل الدرع في بعض يوم.(11/169)
أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (11)
(أن اعمل سابغات) أي بأن اعمل أو لأن اعمل أو (أن) مفسرة لقوله ألنا قاله الحوفي وفيه نظر، لأنها لا تكون إلا بعد القول أو ما هو في معناه، وقيل: التقدير أمرناه أن اعمل ولا ضرورة تدعو إلى ذلك، والمعنى دروعاً سابغات والسوابغ الكوامل الواسعات، يقال: سبغ الدرع والثوب وغيرهما إذا غطى كل ما هو عليه، وفضل منه فضلة، وقرىء صابغات بالصاد لأجل الغين.
(وقدر في السرد) السرد نسج الدروع، ويقال: السرد والزرد كما يقال: السراد والزراد لصانع الدروع والسرد أيضاًً الخرز، يقال: سرد يسرد إذا خرز(11/169)
ومنه سرد الكلام إذا جاء به متوالياً، ومنه حديث عائشة: [لم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - يسرد الحديث كسردكم] قال سيبويه: ومنه سريد أي جرى، ومعنى سرْد الدروع إحكامها وأن يكون نظام حلقها ولاء غير مختلف.
قال قتادة: كانت الدروع قبل داود ثقالاً. فلذلك أمر هو بالتقدير فيما يجمع الخفة والحصانة، أي قدر ما تأخذ من هذين المعنيين بقسطه، فلا تقصد الحصانة فتثقل، ولا الخفة فتزيل المنعة. وقال ابن زيد: التقدير الذي أمر به في قدر الحلقة أي لا تعملها صغيرة فتضعف، ولا يقوى الدرع على الدفاع، ولا تعملها كبيرة فتثقل على لابسها.
وقيل: إن التقدير في المسمار أي لا تجعل مسمار الدرع دقيقاً فيقلق ولا غليظاً فيفصم الحلق، وقال ابن عباس: قدر في السرد أي في حلق الحديد وعنه لا تدق المسامير وتوسع الحلق فتسلس، ولا تغلظ المسامير وتضيق الحلق فتفصم، واجعله قدراً.
وقال البقاعي: إنه لم تكن في حلقها مسامير لعدم الحاجة إليها بسبب إلانة الحديد، وإلا لم يكن بينه وبين غيره فرق، ولا كان للإلانة كبير فائدة وقد أخبر بعض من رأى ما نسب إليه بغير مسامير.
وقال الرازي: معناه إنك غير مأمور به أمر إيجاب وإنما هو اكتساب والكسب يكون بقدر الحاجة. وباقي الأيام والليالي للعبادة فقدر في ذلك العمل ولا تشغل جميع أوقاتك بالكسب بل حصل فيه القوت فحسب، ثم خاطب داود وأهله فقال:
(واعملوا) عملاً (صالحاً) كما في قوله (اعملوا آل داود شكراً) ثم علل الأمر بالعمل الصالح بقوله (إني بما تعلمون بصير) أي لا يخفى على شيء من ذلك فأجازيكم به.(11/170)
وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ (12) يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ (13) فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ (14)(11/171)
وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ (12)
(ولسليمان الريح) أي سخرنا له الريح كما قال الزجاج قرأ عاصم بالرفع على الابتداء والخبر أي ولسليمان الريح ثابتة أو مسخرة وقرىء: الريح والرياح بالإفراد والجمع.
(غدوها) أي سيرها من الغدوة بمعنى الصباح إلى الزوال أي جريها من أول النهار إلى الزوال (شهر ورواحها) أي سيرها من الزوال إلى الغروب (شهر) والجملة مستأنفة لبيان تسخير الريح أو حالية من الريح والمعنى: أنها كانت تسير في اليوم الواحد مسيرة شهرين قال الحسن: كان يغدو من دمشق فيقبل باصطخر وبينهما مسيرة شهر للمسرع ثم يروح من اصطخر فيبيت بكابل أو ببابل وبينهما مسيرة شهر. وقيل: إنه كان يتغدى بالري ويتعشى بسمرقند.
(وأسلنا) أي أذبنا (له عين القطر) أي النحاس الذائب قال الواحدي قال المفسرون: أجريت له عين الصفر ثلاثة أيام بلياليهن كجري الماء وكان بأرض اليمن، وإنما يعمل الناس اليوم بما أعطى سليمان ولولاها ما لان النحاس أصلاً، لأنه قبل سليمان لم يكن يلين أصلاً لا بنار ولا بغيرها والمعنى أسلنا له عين النحاس كما ألنا الحديد لداود.
وقال قتادة أسأل الله له عيناً يستعملها فيما يريد. قال ابن عباس:(11/171)
القطر النحاس لم يقدر عليها أحد بعد سليمان، وإنما يعمل الناس بعده فيما كان أعطي: سليمان، وقال مجاهد القطر الصفر والمعنى: جعلنا النحاس لسليمان في معدنه عيناً تسيل كعيون المياه دلالة على نبوته أي كالعين النابعة من الأرض.
(ومن الجن من يعمل بين يديه بإذن ربه) الإذن مصدر مضاف إلى فاعله أي مسخراً أو ميسراً بأمر ربه (ومن يزغ منهم) أي ومن يعدل من الجن (عن أمرنا) الذي أمرناه به وهو طاعة سليمان.
(نذقه من عذاب السعير) قال أكثر المفسرين: وذلك في الآخرة، وقيل في الدنيا قال السدي، وكل الله بالجن ملكاً بيده سوط من نار فمن زاغ عن أمر سليمان ضربه بذلك السوط ضربة فتحرقه، ثم ذكر سبحانه ما يعمله الجن لسليمان فقال:(11/172)
يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ (13)
(يعملون له ما يشاء من محاريب) من للبيان والمحاريب كل موضع مرتفع وهي الأبنية الرفيعة، والقصور العالية، والمجالس الشريفة المصونة عن الابتذال والمساكن.
قال المبرد: لا يكون المحراب إلا أن يرتقي إليه بدرج ومنه قيل للذي يصلي فيه محراب لأنه يرفع ويعظم، وقال مجاهد: المحاريب دون القصور، وقال أبو عبيدة: المحراب أشرف بيوت الدار وقال الضحاك وقتادة: المراد بالمحاريب هنا المساجد وكان مما عملوا له بيت المقدس.
(وتماثيل) جمع تمثال وهو كل شيء مثلته بشيء أي صورته بصورته من نحاس أو زجاج أو رخام أو غير ذلك قيل: كانت هذه التماثيل صور الأنبياء والملائكة والعلماء والصلحاء كانوا يصورونها في المساجد ليراها الناس فيزدادوا عبادة واجتهاداً، وفي الحديث " إن أولئك كان إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجداً وصوروا فيه تلك الصورة ليذكروا عبادتهم فيجتهدوا في العبادة " وقيل: هي تماثيل أشياء ليست من الحيوان، وقيل: صور السباع والطيور.(11/172)
وقد استدل بهذا على أن التصوير كان مباحاً في شرع سليمان ونسخ ذلك بشرع نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -، وعن ابن عباس قال: اتخذ سليمان تماثيل من نحاس فقال: يا رب انفخ فيها الروح فإنها أقوى على الخدمة فنفخ الله فيها الروح فكانت تخدمه؛ وكان أسفنديار من بقاياهم فقيل لداود وسليمان (اعملوا آل داود شكراً وقليل من عبادي الشكور)!!
(وجفان) جمع جفنة وهي القصعة الكبيرة (كالجواب) جمع جابية وهي حفيرة كالحوض، وقيل: هي الحوض الكبير يجبي الماء أي يجمعه. قال الواحدي: قال المفسرون يعني قصاعاً في العظم كحياض الإبل يجتمع على القصعة الواحدة ألف رجل يأكلون منها.
قال النحاس: الأولى إثبات الياء في الجوابي ومن حذف الياء قال: سبيل الألف واللام أن يدخل على النكرة فلا يغيرها عن حالها فلما كان يقال: جواب، ودخلت الألف واللام أقر على حاله فحذف الياء، قال الكسائي يقال جبوت الماء وجبيته في الحوض أي جمعته، والجابية الحوض الذي يجبى فيه الماء للإبل وقال النحاس: والجابية القدر العظيمة، والحوض العظيم الكبير الذي يجبى فيه الشيء أي يجمع، ومنه جبيت الخراج وجبيت الجراد جمعته في الكساء، وقال ابن عباس كالجوبة من الأرض.
(وقدور راسيات) قال ابن عباس: اثافيها منها، وقال قتادة: هي قدور النحاس تكون بفارس، وقال النحاس: هي قدور تنحت من الجبال الصم عملتها له الشياطين، ومعنى راسيات ثابتات لا تحمل ولا تحرك لعظمها، وكان يصعد إليها بالسلالم، وكانت باليمن قيل: إنها باقية بها إلى الآن ثم أمرهم سبحانه بالعمل الصالح على العموم سليمان وأهله فقال:
(اعملوا آل داود شكراً) أي: وقلنا لهم: اعملوا بطاعة الله يا آل داود شكراً له على ما آتاكم واعملوا عملاً شكراً على أنه صفة مصدر(11/173)
محذوف، أو اعملوا للشكر على أنه مفعول له أو حال أي شاكرين أو مفعول به وسميت الطاعة شكراً لأنها من جملة أنواعه، أو منصوب على المصدرية بفعل مقدر من جنسه، أي اشكروا شكراً قيل: المراد بآل داود نفسه، وقيل: داود وسليمان وأهل بيته، وقيل: المعنى ارحموا أهل البلاء واسألوا ربكم العافية وسئل الجنيد عن الشكر فقال: بذل المجهود بين يدي المعبود، ثم بين بعد أمرهم بالشكر أن الشاكرين له من عباده ليسوا بكثير فقال:
(وقليل من عبادي الشكور) أي العامل بطاعتي الشاكر لنعمتي قليل وقال ابن عباس: يقول قليل من عبادي الموحدين توحيدهم والشكور المتوفر على أداء الشكر الباذل وسعه فيه، قد شغل به قلبه ولسانه وجوارحه اعتقاداً واعترافاً وكدحاً.
وعن ابن عباس: من يشكر على أحواله كلها، وقيل من يشكر على الشكر ومن يرى عجزه عن الشكر وعن داود عليه السلام أنه جزّأ ساعات الليل والنهار على أهله فلم تكن تأتي ساعة من الساعات إلا وإنسان من آل داود قائم يصلي.(11/174)
فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ (14)
(فلما قضينا عليه الموت) أي حكمنا على سليمان به وألزمناه إياه (ما دلهم) أي الجن (على موته إلا دابة الأرض) يعني حتى أكلت الأرضة عصاه فخر ميتاً، وهي دويبة يقال لها: سرفة وقرىء: الأرض بفتح الراء أي الأكل يقال: أرضة الخشبة أرضاً إذا أكلتها الأرض.
(تأكل منسأته) قال البخاري: يعني عصاه أي عصاته التي كان متكأ عليها والمنسأة العصا بلغة الحبشة أو هي مأخوذة من نسأت الغنم أي زجرتها.
قال الزجاج: المنسأة التي ينسأ بها أي يطرد، قرأ الجمهور منسأته بهمزة مفتوحة وقرىء بهمزة ساكنة وبألف محضة قال المبرد: بعض العرب تبدل من همزتها ألفاً فلما أكلتها الأرضة شكرتها الجن وأحبوها فهم يأتونها بالماء(11/174)
والطين في خروق الخشب وزاد السدي، وقالوا لها: لو كنت تأكلين الطعام والشراب لأتيناك بهما.
(فلما خر) أي سقط سليمان (تبينت الجن) أي ظهر لهم وانكشف من تبينت الشيء إذا علمته أي علمت الجن (أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين) أي لو صح ما يزعمونه من أنهم يعلمون الغيب لعلموا بموته ولم يلبثوا بعد موته مدة طويلة في العذاب، أي العمل الذي أموهم به والطاعة له، وهو إذ ذاك ميت.
قال مقاتل العذاب المهين: الشقاء والنصب في العمل. قال الواحدي قال المفسرون: كانت الناس في زمان سليمان يقولون: إن الجن تعلم الغيب فلما مكث سليمان قائماً على عصاه حولاً ميتاً والجن تعمل تلك الأعمال الشاقة التي كانت تعمل في حياة سليمان لا يشعرون بموته حتى أكلت الأرضة عصاه فخر ميتاً، فعلموا بموته علم الناس أن الجن لا تعلم الغيب. ويجوز أن يكون تبينت من تبين الشيء لا من تبينت الشيء أي ظهر وتجلى وإن وما في حيزها بدل اشتمال مع تقدير محذوف أي ظهر أمر الجن للناس أنهم لو كانوا يعلمون الغيب. ما لبثوا في العذاب المهين قرأ الجمهور: تبينت على البناء للفاعل مسنداً إلى الجن وقرأ ابن عباس وغيره: على البناء للمفعول ومعنى القراءتين يعرف مما قدمنا.
قال ابن عباس: لبث سليمان على عصاه حولاً بعد ما مات، ثم خر على رأس الحول فأخذت الجن عصى مثل عصاه ودابة مثل دابته. فأرسلوها عليها فأكلتها في سنة، وكان ابن عباس يقرأ: فلما خر تبينت الإنس، قال سفيان: وفي قراءة ابن مسعود: وهم يدأبون له حولاً، وأخرج البزار وابن جرير وابن المنذر والطبراني وابن السني وغيرهم عن ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " كان سليمان إذا صلى رأى شجرة نابتة بين يديه فتقول: لها ما اسمك فتقول كذا وكذا فيقول لم أنت؟ فتقول لكذا وكذا، فإن كانت لغرس غرست وإن كانت لدواء(11/175)
كتبت فصلى ذات يوم فإذا شجرة نابتة بين يديه فقال لها ما اسمك؟ قالت: الخروب. قال: لأي شيء أنت؟ قالت لخراب هذا البيت. قال لها سليمان: ما كان الله ليخربه، وأنا حي، أنت التي على وجهك هلاكي وخراب بيت المقدس ثم نزعها وغرسها في حائط له، ثم قال سليمان اللهم عمِّ عن الجن موتي حتى يعلم الإنس أن الجن لا يعلمون الغيب فهيأ عصى فتوكأ عليها وقبضه الله وهو متكىء عليها، فمكث حولاً ميتاً والجن تعمل فأكلتها الأرضة فسقطت فعلموا عند ذلك بموته فتبينت الإنس أن الجن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين ".
وكان ابن عباس يقرأها كذلك فشكرت الجن للأرضة فأينما كانت يأتونها بالماء، وأخرجه الحاكم وصححه عن ابن عباس موقوفاً.
وأخرج الديلمي عن زيد بن أرقم مرفوعاً يقول الله: إني تفضلت على عبادي بثلاث: ألقيت الدابة على الحبة، ولولا ذلك لكنزها الملوك كما يكنزون الذهب والفضة، وألقيت النتن على الجسد ولولا ذلك لم يدفن حبيب حبيبه واستلبت الحزن ولولا ذلك لذهب النسل.
ذكر أهل التاريخ أن سليمان ملك وهو ابن ثلاث عشرة سنة، وبقي في الملك مدة أربعين سنة وشرع في بناء بيت المقدس لأربع سنين مضين من ملكه وتوفي وهو ابن ثلاث وخمسين سنة وقيل: إن داود أسس بناء بيت المقدس في موضع فسطاط موسى فمات قبل أن يتمه فوصىّ به إلى سليمان فأمر الشياطين بإتمامه فلما بقي من عمره سنة سأل ربه أن يعمّيَ عليهم موته حتى يفرغوا عنه ولتبطل دعواهم على الغيب، روي أن أفريدون جاء ليصعد كرسيه فلما دنا ضرب الأسدان ساقه فكسراها، فلم يجسر أحد بعده أن يدنو منه.
ولما ذكر سبحانه حال بعض الشاكرين لنعمه عقّبه بحال بعض الجاحدين لها، والمقصود من ذكر هذه القصة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يذكرها لقومه لعلهم يتعظون وينزجرون ويعتبرون بها فقال:(11/176)
لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (16)(11/177)
لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15)
(لقد كان لسبأ) المراد بها القبيلة التي هي من أولاد سبأ هو سبأ ابن يشجب بضم الجيم بن يعرب بن قحطان بن هود، قرأ الجمهور: لسبأ بالتنوين على أنه اسم حي أي الحي الذين هم أولاد سبأ وقرىء: لسبأ ممنوع الصرف بتأويل القبيلة ويقوي القراءة الأولى قوله في مسكنهم ولو كان على تأويل القبيلة لقال في مسكنها، وقرأ الجمهور على الجمع واختار هذه القراءة أبو عبيد، وأبو حاتم، ووجه الاختيار أنها كانت لهم منازل كثيرة ومساكن متعددة، وقرىء بالإفراد ووجه الإفراد أنه مصدر يشمل القليل والكثير، أو اسم مكان وأريد به معنى الجمع، وهذه المساكن التي كانت لهم هي التي يقال لها الآن مأرب وبينها وبين صنعاء مسيرة ثلاث ليال، وكانت أخصب البلاد.
وقد أخرج أحمد والبخاري والترمذي وحسنه والحاكم وصححه وغيرهم عن فروة بن مسيك المرادي قال: أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقلت: يا رسول الله ألا أقاتل من أدبر من قومي بمن أقبل منهم، فأذن لي في قتالهم، وأمرني، فلما خرجت من عنده أرسل في إثري فردني فقال: ادع القوم فمن أسلم منهم فاقبل منه ومن لم يسلم فلا تعجل حتى أحدث إليك، وأنزل في سبأ ما أنزل فقال رجل: يا رسول الله وما سبأ أرض أم امرأة؟ قال: ليس بأرض ولا امرأة ولكنه رجل ولد عشرة من العرب فتيامن منهم ستة. وتشاءم منهم أربعة، فأما الذين تشاءموا: فلخم وجذام وغسان وعاملة، وأما الذين تيامنوا فالأزد(11/177)
والأشعريون وحمير وكندة ومذحج وأنمار، فقال رجل: يا رسول الله وما أنمار؟ قال: الذي منهم خثعم وبجيلة.
وأخرج أحمد وعبد بن حميد والطبراني وابن عدي والحاكم وصححه، وابن مردويه عن ابن عباس نحوه بأخصر منه.
(آية) أي علامة دالة على كمال قدرة الله وبديع صنعه بملاحظة أحوالها السابقة وهي نضارتها وخصبها وثمارها، واللاحقة كتبديلها وعدم ثمرها ثم بين هذه الآية فقال: (جنتان) أي جماعتان من البساتين.
(عن يمين وشمال) أي وهاتان الجنتان كانتا عن يمين واديهم وشماله قد أحاطتا به من جهتيه وقيل: عن يمين من أتاهما وشماله، وكانت مساكنهم في الوادي، وكل طائفة من تلك الجماعتين في تقاربها وتضامها كأنها جنة واحدة، والآية هي الجنتان كانت المرأة تمشي فيهما وعلى رأسها المكتل فيمتلىء من أنواع الفواكه التي يتساقط من غير أن تمسها بيدها.
وقال عبد الرحمن بن زيد: إن الآية التي كانت لأهل سبأ في مساكنهم أنهم لم يروا فيها بعوضة ولا ذباباً ولا برغوثاً ولا قملة ولا عقرباً ولا حية ولا غير ذلك من الهوام، وإذا جاءهم الركب في ثيابهم القمل ماتت عند رؤيتهم لبيوتهم، قال القشيري: ولم يرد جنتين اثنتين بل أراد من الجهتين يمنة وشرة في كل جهة بساتين كثيرة وأشجار وثمار تستر الناس بظلالها.
(كلوا من رزق ربكم) أي قيل لهم ذلك وهذا الأمر للإذن والإباحة، وقيل: لم يكن ثم أمر ولكن المراد تمكينهم من تلك النعم والأول أظهر، وقيل: إنها قالت لهم الملائكة، وقيل: إنهم خوطبوا بذلك على لسان نبيهم، والمراد بالرزق هو ثمار الجنتين.(11/178)
(واشكروا له) على ما رزقكم من هذه النعم. واعملوا بطاعته واجتنبوا معاصيه.
(بلدة طيبة) مستأنفة لبيان موجب الشكر والمعنى: هذه بلدة طيبة فكثيرة أشجارها وطيبة ثمارها وقيل: معنى كونها طيبة أنها غير سبخة وقيل: ليس فيها هوام لطيب هوائها، قال مجاهد: هي صنعاء، وقيل: كانت على ثلاثة فراسخ من صنعاء وفي المصباح: يطلق البلد والبلدة على كل موضع من الأرض عامراً كان أو خلاء.
(ورب غفور) أي المنعم بها عليهم رب غفور لذنوبهم، فجمع لهم بين المغفرة وطيب البلدة، ولم يجمع ذلك لجميع خلقه، وقال مقاتل: المعنى: وربكم إن شكرتم فيما رزقكم رب غفور للذنوب، وقيل: إنما جمع لهم بين طيب البلدة والمغفرة للإشارة إلى أن الرزق قد يكون فيه حرام، قرىء بنصب بلدة ورباً على تقدير اسكنوا بلدة واشكروا رباً، ثم ذكر سبحانه ما كان منهم بعد هذه النعمة التي أنعم بها عليهم فقال:(11/179)
فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (16)
(فأعرضوا) عن الشكر وكفروا بالله وكذبوا أنبياءهم قال السدي: بعث الله إلى أهل سبأ ثلاثة عشر نبياً فكذبوهم وكذا قال وهب وزاد وقالوا: ما نعرف لله علينا نعمة فقولوا لربكم فليحبس هذه النعمة عنا إن استطاع فذلك إعراضهم؛ ثم لما وقع منهم الإعراض عن شكر النعمة أرسل الله عليهم نقمة سلب بها ما أنعم به عليهم كما قال:
(فأرسلنا عليهم سيل العرم) وذلك أن الماء كان يأتي أرض سبأ من أودية اليمن فردموا ردماً بين جبلين وحبسوا الماء وجعلوا في ذلك الردم ثلاثة أبواب بعضها فوق بعض وكانوا يسقون من الباب الأعلى، ثم من الثاني، ثم من الثالث فأخصبوا وكثرت أموالهم فلما كذبوا رسلهم بعث الله جرذاً ففتقت ذلك الردم حتى انتقض، فدخل الماء جنتهم فغرقها ودفن السيل بيوتهم،(11/179)
فهذا هو سيل العرم، وهو جمع عرمة وهي السكر التي تحبس الماء، وكذا قال قتادة وغيره.
وقال السدي: العرم اسم للسد والمعنى أرسلنا عليهم سيل السد العرم، وقال عطاء: العرم اسم الوادي، وقال الزجاج: العرم اسم الجرذ الذي نقب السد عليهم، وهو الذي يقال له: الخلد فنسب السيل إليه لكونه سبي جريانه. قال ابن الأعرابي: العرم من اسماء الفأر، وقال مجاهد وابن نجيح العرم: ماء أحمر أرسله الله في السد فشقه وهدمه، وقيل: إن العرم اسم المطر الشديد، وقيل: اسم للسيل الشديد والعرامة في الأصل الشدة والشراسة والصعوبة، ويقال: عرم فلان إذا تشدد وتصعب، وروي عن ابن الأعرابي أنه قال: العرم السيل الذي لا يطاق. وقال المبرد: العرم كل شيء حاجز بين شيئين وعن ابن عباس قال: العرم الشديد، وعنه قال: وادٍ كان باليمن كان يسيل إلى مكة.
(وبدلناهم بجنتيهم جنتين) أي أهلكنا جنتيهم اللتين كانتا مشتملتين على تلك الفواكه الطيبة، والأنواع الحسنة، وأعطيناهم بدلهما جنتين لا خير فيهما، ولا فائدة لهم فيما هو نابت فيهما، وتسميتهما جنتين تهكم بهم على طريق الشاكلة، ولهذا قال:
(ذواتي) تثنية ذوات مفرد على الأصل لأن أصله ذويه قالوا: وعين الكلمة والياء لامها لأنه مؤنث ذو، وذو أصله ذوي فتحركت الياء وانفتح ما قبلها فقلبت الياء فصار ذوات ثم حذفت الواو تخفيفاً وفي تثنيته وجهان تارة ينظر للفظه الآن، فيقال: ذاتان، وتارة ينظر له قبل حذف الواو فيقال: ذواتان وقال السمين في تثنية ذات لغتان: أحدهما الرد إلى الأصل فإن أصله ذوية فالعين واو واللام ياء لأنها مؤنثة ذو، والثانية تثنيته على اللفط فيقال ذاتان.
(أكل خمط) قرىء: بتنوين أكل وعدم إضافته إلى خمط وقرىء:(11/180)
بالإضافة والأولى أولى، قال الخليل: الخمط ضرب من الأراك وله حمل يؤكل، وبه قال ابن عباس وكذا قال كثير من المفسرين وقال أبو عبيدة: الخمط كل شجرة مرة ذات شوك، وقيل هو ثمر شجر يقال له: فسوة الضبع على صورة الخشخاش يتفرك ولا ينتفع به، وقال الزجاج: كل نبت فيه مرارة لا يمكن أكله، وقال المبرد: كل شيء يغير إلى ما لا يشتهى يقال له: خمط، ومنه اللبن إذا تغير والخمط: اسم للمر والحامض من كل شيء والخمط: نعت لأكل أو بدل منه، لأن الأكل هو الخمط بعينه، وقال الأخفش: الإضافة أحسن في كلام العرب مثل ثوب خز ودار آجر والأولى تفسير الخمط بما ذكره الخليل، ومن معه. قال الجوهري: الخمط ضرب من الآراك له حمل يؤكل.
(وأثل) هو الشجر المعروف الشبيه بالطرفاء كذا قال الفراء وغيره، قال: إلا أنه أعظم من الطرفاء طولاً وورقه كورق الطرفاء، ومنه اتخذ منبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، الواحدة أثلة، والجمع أثلاث، وقال الحسن: الأثل الخشب، وقال أبو عبيدة: هو شجر النظار والأول أولى ولا ثمر للأثل.
(وشيء من سدر قليل) السدر شجر معروف، قال الفراء هو السمر وقال الأزهري السدر من الشجر سدران: بري لا ينتفع به ولا يصلح للغسول وله ثمر عفص لا يؤكل، وهو الذي يسمى الضال، والثاني سدر ينبت على الماء وثمرة النبق وورقه غسول يشبه شجر العناب، قيل ووُصف السدر بالقلة لأن منه نوعاً يطيب أكله وهو النوع الثاني الذي ذكره الأزهري، ولذا يغرس في البساتين، قال قتادة بينما شجرهم من خير شجر إذ صيره الله من شرّ الشجر بأعمالهم فأهلك أشجارهم المثمرة وأنبت بدلها الأراك والطرفاء والسدر ويحتمل أن يرجع قوله (قليل) إلى جميع ما ذكر من الخمط والأثل والسدر والإشارة بقوله (ذلك) إلى ما تقدم من التبديل أو إلى المصدر.(11/181)
ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ (17) وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ (18)(11/182)
ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ (17)
(جزيناهم بما كفروا) أي ذلك التبديل أو ذلك الجزاء بسبب كفرهم للنعمة بإعراضهم عن شكرها.
(وهل نجازي إلا الكفور) أي وما نجازي هذا الجزاء بسلب النعمة ونزول النقمة إلا الشديد الكفر المتبالغ، قرأ الجمهور: بضم التحتية وفتح الزاي على البناء للمفعول وقرىء: بالنون وكسر الزاي مبنياً للفاعل، وهو الله سبحانه، والكفور على الأولى مرفوع وعلى الثانية منصوب وظاهر الآية أنه لا يجازي إلا الكفور، مع كون أهل المعاصي يجازون، وقد قال قوم إن معنى الآية أنها لا يجازي هذا الجزاء وهو الاصطلام والإهلاك إلا من كفر وقال مجاهد: إن المؤمن تكفَّر عنه سيآته والكافر يجازى بكل عمل عمله، وقال طاووس: هو المناقشة في الحساب، وأما المؤمن فلا يناقش. وقال الحسن: إن المعنى أنه يجازي الكافر مثلاً بمثل ورجح هذا الجواب النحاس.(11/182)
وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ (18)
(وجعلنا بينهم) أي وكان من قصتهم أنا جعلنا بين مساكنهم قبل إرسال السيل عليهم (وبين القرى التي باركنا فيها) بالماء والشجر وهي قرى الشام يعني الأرض المقدسة قاله ابن عباس.
(قرى ظاهرة) أي متواصلة عامرة مخصبة وكان مُتَّجرهم من أرضهم التي هي مأرب إلى الشام وكانوا يبيتون بقرية ويقيلون بأخرى حتى يرجعوا، وكانوا لا يحتاجون إلى زاد يحملونه من أرضهم إلى الشام فهذا من جملة الحكاية لما أنعم الله به عليهم، قال الحسن: إن هذه القرى هي بين اليمن(11/182)
والشام قيل: إنها كانت أربعة آلاف وسبعمائة قرية متصلة من سبأ إلى الشام وقيل هي بين المدينة والشام قال المبرد القرى الظاهرة هي المعروفة وإنما قيل لها ظاهرة لظهورها إذا خرجت من هذه ظهرت لك الأخرى فكانت قرى ظاهرة، أي معروفة يقال: هذا أمر ظاهر أي معروف وقيل ظاهرة لأعين الناظرين أو ظاهرة للسابلة لم تبعد عن مسالكهم حتى تخفى عليهم.
(وقدرنا فيها السير) أي جعلنا السير من القرية إلى القرية ومن المنزل إلى المنزل مقدراً معيناً واحداً، وذلك نصف يوم في الغدو والرواح، فإذا صاروا نصف يوم وصلوا إلى قرية ذات مياه وأشجار فكان ما بين اليمن والشام كذلك كما قال المفسرون، قال الفراء: أي جعلنا بين كل قريتين نصف يوم حتى يكون المقيل في قرية والمبيت في أخرى إلى أن يصل إلى الشام وإنما يبالغ الإنسان في السير لعدم الزاد والماء، ولخوف الطريق فإذا وجد الزاد والأمن لم يحمل نفسه المشقة، بل ينزل أينما أراد، والحاصل أن الله سبحانه عدد عليهم النعم ثم ذكر ما نزل بهم من النقم، ثم عاد لتعديد بقية ما أنعم به عليهم مما هو خارج عن بلدهم من اتصال القرى بينهم وبين ما يريدون السفر إليه، ثم ذكر بعد ذلك تبديله بالمفاوز والبراري كما سيأتي.
(سيروا فيها) أي قلنا لهم سيروا في تلك القرى المتصلة فهو أمر تمكين أي ومكناهم من السير فيها متى شاءوا وفي لفظ: (في) إشعار بشدة القرب حتى كأنهم لم يخرجوا من نفس القرى قال ابن عباس: أي إذا ظعنوا من منازلهم إلى أرض الشام المقدسة.
(ليالي وأياماً آمنين) مما تخافونه، وقال قتادة: كانوا يسيرون غير خائفين ولا جياع ولا ظماء كانوا يسيرون مسيرة أربعة أشهر في أمان لا يحرك بعضهم بعضاً ولو لقي الرجل قاتل أبيه لم يحركه، قيل: وأتى بلفظ النكرة تنبيهاً على قصر أسفارهم أي كانوا لا يحتاجون إلى طول السفر لوجود ما يحتاجون إليه. ثم ذكر سبحانه أنهم لم يشكروا النعمة بل طلبوا التعب والكد.(11/183)
فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (19)
فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (19)
(فقالوا ربنا باعد بين أسفارنا) وكان هذا القول منهم بطراً وطغياناً لما سئموا النعمة ولم يصبروا على العاقبة فتمنوا طول الأسفار والتباعد بين الديار، وسألوا الله تعالى أن يجعل بينهم وبين الشام مكان تلك القرى المتواصلة الكثيرة الماء والشجر والأمن من المفاوز والقفار، والبراري المتباعدة الأقطار، فأجابهم الله إلى ذلك وخرب تلك القرى المتواصلة، وذهب بما فيها من الخير والماء والشجر.
فكانت دعوتهم هذه كدعوة بني إسرائيل حيث قالوا: (ادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها) الآية مكان المن والسلوى وكقول النضر ابن الحرث: (اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء) الآية قرأ الجمهور: ربنا بالنصب على أنه منادى مضاف وقرأوا أيضاًً باعد وقرىء: بعد بتشديد العين، وقرأ ابن السميفع بضم العين فعلاً ماضياً فيكون معنى هذه القراءة الشكوى من بعد الأسفار، وقرىء: ربنا بالرفع وباعد بفتح العين على أنه فعل ماض على الابتداء والخبر، والمعنى: لقد باعد ربنا بين أسفارنا، ورويت هذه القراءة عن ابن عباس، واختارها أبو حاتم، وقال: لأنهم ما طلبوا التبعيد إنما طلبوا أقرب من ذلك القرب الذي كان بينهم وبين الشام بالقرى المتواصلة بطراً وأشراً، وكفراً للنعمة، وقرىء: ربنا بالرفع وبعد بفتح العين مشدّدة والمعنى على هذه القراءة الشكوى بأن ربهم بعّد بين أسفارهم مع كونها قريبة متصلة بالقرى والشجر والماء.
فيكون هذا من جملة بطرهم وقرأ أخو الحسن البصري كقراءة ابن السميفع السابقة مع رفع بين على أنه الفاعل كما قيل في قوله: لقد تقطع بينكم(11/184)
وروى الفراء والزجاج قراءة مثل هذه القراءة لكن مع نصب بين على أنه ظرف، والتقدير بعد سيرنا بين أسفارنا، قال النحاس: وهذه القراءات إذا اختلفت معانيها لم يجز أن يقال إحداهما أجود من الأخرى كما لا يقال ذلك في أخبار الآحاد إذا اختلفت معانيها، ولكن أخبر عنهم بأنهم: دعوا ربهم أن يبعد بين أسفارهم فلما فعل ذلك شكوا وتضرروا ولهذا قال سبحانه:
(وظلموا أنفسهم) حيث كفروا بالله وطغوا وبطروا نعمته وتعرضوا لنقمته (فجعلناهم أحاديث) يتحدث الناس بأخبارهم وعبرة لمن بعدهم، والأحاديث جمع حديث بمعنى الخبر كما في القاموس. والمعنى جعلناهم ذوي أحاديث يتحدث بها من بعدهم تعجباً من فعلهم، وأمرهم وشأنهم واعتباراً بحالهم وعاقبتهم.
(ومزقناهم كل ممزق) أي فرقناهم في كل وجه من البلاد كل التفريق بحيث لا يتوقع بعده عود اتصال، وهذه الجملة مبينة لجعلهم أحاديث وذلك إن الله سبحانه لما أغرق مكانهم وأذهب جنتهم تفرقوا في البلاد فصارت العرب تضرب بهم الأمثال فتقول: تفرقوا أيدي سبأ، وذهبو أيادي سبأ، والأيدي ههنا بمعنى الأولاد لأنهم يعتضد بهم، وفي المفصل الأيدي الأنفس كناية أو مجاز، قال في الكشف: وهو أحسن. قال الشعبي: فلحقت الأنصار يعني الأوس والخزرج بيثرب، وغسان بالشام، والأزد بعمان، وخراعة بتهامة، وكان الذي قدم منهم المدينة عمر بن عامر وهو جد الأنصار، ولحق آل خزيمة بالعراق.
(إن في ذلك) أي فيما ذكر من قصتهم وما فعل الله بهم (لآيات) بينات وعبراً ظاهرات ودلالات واضحات (لكل صبار شكور) أي لكل من هو كثير الصبر عن المعاصي، والشكر لله على نعمه وخص الصبار والشكور لأنهما المنتفعان بالمواعظ والآيات.(11/185)
وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (20) وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (21) قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22) وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (23)(11/186)
وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (20)
(ولقد صدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه) قرىء بتخفيف صدق ونصب ظنه. قال الزجاج: وهو على المصدر أي صدق وظن ظنه أو صدق في ظنه أو على الظرفية، والمعنى أنه ظن بهم أنه إذا أغواهم اتبعوه فوجدهم كذلك، وقرىء: صدّق بالتشديد وظنه بالنصب على أنه مفعول به، وقال أبو علي الفارسي: أي صدق الظن الذي ظنه قال مجاهد: ظن ظناً فصدق ظنه فكان كما ظن وقرىء صدق بالتخفيف، وإبليس بالنصب وظنه بالرفع وقد أجاز هذه القراءة الفراء، وذكرها الزجاج وجعل الظن فاعل صدق وإبليس مفعوله، والمعنى أن إبليس سوّل له ظنه شيئاًً فيهم فصدق ظنه فكأنه قال: ولقد صدق عليهم ظن إبليس، قيل: وهذه الآية خاصة بأهل سبأ والمعنى أنهم غيروا وبدلوا بعد أن كانوا قد آمنوا بما جاءت به رسلهم.
وقيل هي عامة أي صدق إبليس ظنه على الناس كلهم إلا من أطاع الله قاله مجاهد والحسن. قال الكلبي: إنه ظن أنه إن أغواهم أجابوه، وإن أضلهم أطاعوه فصدق ظنه فاتبعوه. قال الحسن: ما ضربهم بسوط ولا بعصى وإنما ظن ظناً فكان كمن ظن بوسوسته، وعن ابن عباس في الآية قال: قال إبليس: إن آدم خلق من تراب ومن طين ومن حمأ مسنون خلقاً ضعيفاً وإني خلقت من(11/186)
نار، والنار تحرق كل شيء لأحتنكن ذريته إلا قليلاً، قال: فصدق ظنه عليهم.
وانتصاب (إلا فريقاً من المؤمنين) على الاستثناء، وفيه وجهان أحدهما أن يراد به بعض المؤمنين لأن كثيراً من المؤمنين يذنب وينقاد لإبليس في بعض المعاصي ولم يسلم منه إلا فريق وهم الذين قال الله فيهم: (إن عبادي ليس لك عليهم سلطان)، وقيل: المراد به المؤمنون كلهم لأنهم لم يتبعوه في أصل الدين على أن تكون من بيانية.(11/187)
وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (21)
(وما كان له عليهم من سلطان) أي من تسلط عليهم أي لم يكرههم على الكفر وإنما كان منه الدعاء والوسوسة والتزيين، وقيل: الضمير في عليهم يعود على من صدق عليهم ظن إبليس وعلى الفريق المؤمنين، وقيل السلطان القوة، وقيل الحجة، والاستثناء في قوله:
(إلا لنعلم) منقطع والمعنى لا سلطان له عليهم، ولكن ابتليناهم بوسوسته لنعلم، وقال الفراء: المعنى إلا لنعلم ذلك عندكم، وقيل: إلا لتعلموا أنتم، وقيل: ليعلم أولياؤنا والملائكة وقرىء، ليعلم على البناء للمفعول والأولى حمل العلم هنا على التمييز والإظهار كما ذكرنا، وقيل: إلا لنعلم موجوداً ما علمناه معدوماً، والتغير على المعلوم لا على العلم، وقيل: هو متصل مفرغ من أعم الأحوال أي ما كان له تسلط عليهم بحال من الأحوال ولا لعلة من العلل إلا ليتميز.
(من يؤمن بالآخرة ممن هو منها في شك) لأنه سبحانه قد علم ذلك علماً أزلياً (وربك على كل شيء حفيظ) أي محافظ عليه فالحفظ يدخل في مفهومه العلم والقدرة إذ الجاهل بالشيء لا يمكنه حفظه ولا العاجز، قال مقاتل: علم كل شيء من الإيمان والشك.(11/187)
قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22)
(قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله) قرىء: قلِ بكسر اللام على أصل التخلص من التقاء الساكنين وبضمها اتباعاً لضمة العين، والدال بينهما(11/187)
حاجز غير حصين لسكونها، وهما قراءتان سبعيتان وهذا أمر للنبي - صلى الله عليه وسلم - بأن يقول لكفار قريش أو للكفار على الإطلاق هذا القول، ومفعولا زعمتم محذوفان. أي: زعمتوهم آلهة لدلالة السياق عليهما، قال مقاتل يقول: ادعوهم ليكشفوا عنكم الضر الذي نزل بكم في سِني الجوع، ثم أجاب سبحانه عنهم فقال: (لا يملكون مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض) أي ليس لهم قدرة على خير ولا شر، ولا على جلب نفع ولا دفع ضر في أمر من الأمور، وذكر السموات والأرض لقصد التعميم لكونهما ظرف الموجودات الخارجية.
(وما لهم فيهما من شرك) أي ليس للآلهة في السموات والأرض مشاركة لا بالخلق ولا بالملك ولا بالتصرف (وما له منهم من ظهير) أي وما لله سبحانه من تلك الآلهة من معين يعينه على شيء من أمور السموات والأرض ومن فيهما، بل هو المتفرد بالإيجاد فهو الذي يعبد، وعبادة غيره محال.(11/188)
وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (23)
(ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له) استثناء مفرغ من أعم الأحوال أي لا تنفع الشفاعة في حال من الأحوال إلا كائنة لمن أذن له أن يشفع من الملائكة والنبيين ونحوهم من أهل العلم والعمل ومعلوم أن هؤلاء لا يشفعون إلا لمن يستحق الشفاعة لا للكافرين، ويجوز أن يكون المعنى: لا تنفع الشفاعة من الشفعاء المتأهلين لها في حال من الأحوال إلا كائنة لمن أذن له أي لأجله وفي شأنه من المستحقين للشفاعة لهم لا من عداهم من غير المستحقين لها.
قيل: والمراد بقوله لا تنفع الشفاعة أنها لا توجد أصلاً إلا لمن أذن له، وإنما علق النفي بنفعها لا بوقوعها تصريحاً بنفي ما هو غرضهم من وقوعها، قرأ الجمهور: أذن بفتح الهمزة أي أذن له الله سبحانه لأن اسمه سبحانه مذكور قبل هذا، وقرىء على البناء للمفعول، والآذن هو الله سبحانه، ومثل هذه الآية قوله تعالى (من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه) وقوله تعالى (ولا يشفعون إلا لمن ارتضى)، وهذا تكذيب لقولهم (هؤلاء شفعاؤنا عند الله)، ثم أخبر الله سبحانه عن خوف هؤلاء الشفعاء والمشفوع لهم فقال:(11/188)
(حتى إذا فزّع عن قلوبهم) قرىء مبنياً للمفعول، والفاعل هو الله سبحانه، وقرىء مبنياً للفاعل وفاعله ضمير يرجع إلى الله سبحانه، وكلتا القراءتين بتشديد، الزاي، وفعل معناه السلب، فالتفريغ إزالة الفزع وقرىء مخففاً وقرىء: فرغ بالراء المهملة والغين المعجمة من الفراغ، والمعنى فرغ الله قلوبكم أي كشف عنها الخوف، وقرأ ابن مسعود رضي الله عنه أفر نقع من الأفر نقاع وهو التفرق قال قطرب معنى فزع أخرج ما فيها من الفزع وهو الخوف وقال مجاهد كشف عن قلوبهم الغطاء يوم القيامة وقال ابن عباس فزع جلى وهو التفرق والمعنى أن الشفاعة لا تكون من أحد من هؤلاء المعبودين من دون الله من الملائكة والأنبياء والأصنام كائناً من كان إلا أن يأذن الله سبحانه للملائكة والأنبياء ونحوهم في الشفاعة لمن يستحقها وهم على غاية الفزع من الله كما قال تعالى: وهم من خشيته مشفقون، فإذا أذن لهم في الشفاعة فزعوا لما يقترن بتلك الحالة من الأمر الهائل والخوف الشديد من أن يقع في تنفيذ ما أذن لهم فيه تقصيراً ويحدث شيء من أقدار الله. فإذا سرى عنهم.
(قالوا) للملائكة فوقهم وهم الذين يوردون عليهم الوحي بالإذن (ماذا قال ربكم) أي ماذا أمر الله به (قالوا) أي ليقولون لهم قال القول (الحق) وهو قبول شفاعتكم للمستحقين لها دون غيرهم (وهو العلي الكبير) فله أن يحكم في عباده بما يشاء، ويفعل ما يريد، ليس لملك ولا نبي أن يتكلم ذلك اليوم إلا بإذنه، وأن يشفع إلا لمن ارتضى، وقيل: هذا الفزع يكون للملائكة في كل أمر يأمر به الرب والمعنى لا تنفع الشفاعة إلا من الملائكة الذين هم فزعون اليوم مطيعون لله دون الجمادات والشياطين، وقيل إن الذين يقولون ماذا قال ربكم هم المشفوع لهم والذين أجابوهم هم الشفعاء من الملائكة والأنبياء وقال الحسن وابن زيد ومجاهد معنى الآية حتى إذا كشف الفزع عن قلوب المشركين في الآخرة قالت لهم الملائكة: ماذا قال ربكم في الدنيا؟ قالوا الحق فأقروا حين لا ينفعهم الإقرار؛ وقيل إنما يفزعون حذراً من قيام الساعة، وقيل: كشف الفزع عن قلوبهم عند نزول الموت، أخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه(11/189)
عن ابن عباس قال: لما أوحى الجبار إلى محمد - صلى الله عليه وسلم - دعا الرسول من الملائكة
ليبعثه بالوحي فسمعت الملائكة صوت الجبار يتكلم بالوحي فلما كشف عن قلوبهم سألوا عما قال الله، فقالوا الحق، وقد علموا أن الله لا يقول إلا حقاً.
قال ابن عباس: وصوت الوحي كصوت الحديد على الصفا، فلما سمعوا خروا سجداً، فلما رفعوا رؤوسهم. قالوا: ماذا قال ربكم؟ قالوا الحق وهو العلي الكبير.
وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم أيضاًً عنه قال: ينزل الأمر إلى السماء الدنيا له وقعه كوقعة السلسلة على الصخرة فيفزع له جميع أهل السموات، فيقولون: ماذا قال ربكم؟ ثم يرجعون إلى أنفسهم، فيقولون: الحق وهو العلي الكبير.
وأخرج البخاري وأبو داود والترمذي وابن ماجة وغيرهم من حديث أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: [إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعاناً لقوله، كأنه سلسلة على صفوان ينفذهم ذلك فإذا فزع عن قلوبهم قالوا: ماذا قال ربكم؟ قالوا للذي قال: الحق، وهو العلي الكبير، الحديث]، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
وعن ابن مسعود قال: [إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السموات صلصلة كجرس السلسلة على الصفاة فيصعقون فلا يزالون كذلك حتى يأتيهم جبريل فإذا جاء فزع عن قلوبهم فيقولون: يا جبريل ماذا قال ربك؟ فيقول: الحق] أخرجه أبو داود، والصلصلة صوت الأجراس الصلبة بعضها على بعض وفي معناه أحاديث، ثم أمر الله سبحانه رسوله أن يبكت المشركين ويوبخهم فقال:(11/190)
قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24) قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (25)(11/191)
قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24)
(قل من يرزقكم من السموات والأرض) أي من ينعم عليكم بهذه الأرزاق التي تتمتعون بها فإن آلهتكم لا يملكون مثقال ذرة، والرزق من السماء هو المطر وما ينتفع به من الشمس والقمر والنجوم، والرزق من الأرض هو النبات والمعادن ونحو ذلك، ولما كان الكفار لا يقدرون على جواب هذا الاستفهام، ولا تقبل عقولهم نسبة هذا الرزق إلى آلهتهم وربما يتوقفون في نسبته إلى الله مخافة أن تقوم عليهم الحجة أمر الله رسوله بأن يجيب عن ذلك فقال:
(قل الله) أي هو الذي يرزقكم من السموات والأرض ثم أمره الله سبحانه أن يخبرهم بأنهم على ضلالة لكن على وجه الإنصاف في الحجة بعد ما سبق تقرير من هو على الهدى ومن هو على الضلالة فقال:
(وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) والمعنى أن أحد الفريقين من الذين يوحدون الله الخالق الرازق ويخصونه بالعبادة والذين يعبدون الجمادات التي لا تقدر على خلق ولا رزق ولا نفع ولا ضرر لعلى أحد الأمرين من الهدى والضلالة، ومعلوم لكل عاقل أن من عبد الذي يخلق ويرزق وينفع ويضر هو الذي على الهدى، ومن عبد الذي لا يقدر على خلق ولا رزق ولا نفع ولا ضر هو الذي على الضلالة، فقد تضمن هذا الكلام بيان فريق الهدى وهم المسلمون وفريق الضلالة وهم المشركون على وجه أبلغ من التصريح وهذا من الكلام المنصف الذي كل من سمعه من موال أو مناف قال لمن خوطب(11/191)
به: قد أنصفك صاحبك.
قال المبرد: ومعنى هذا الكلام معنى قول المتبصر في الحجة لصاحبه: أحدنا كاذب وقد عرف أنه الصادق المصيب، وصاحبه الكاذب المخطىء انتهي. وخولف بين حرفي الجر الداخلين على الهدى والضلال لأن صاحب الهدى كأنه مستعل على فرس جواد يركضه حيث شاء، والضال كأنه ينغمس في ظلام لا يرى أين يتوجه.
قال المبرد: (أو) عند البصريين على بابها وليست للشك لكنها على ما تستعمله العرب في مثل هذا إذا لم يرد المخبر أن يبين وهو عالم بالمعنى وقال أبو عبيدة والفراء: هي بمعنى الواو، وتقديره وإنا على هدى وإياكم لفي ضلال مبين. قيل: أو إياكم معطوف على اسم إن وخبرها هو المذكور وحذف خبر الثاني للدلالة عليه أي إنا لعلى هدى أو في ضلال مبين، أو أنكم لعلى هدى أو في ضلال مبين، ويجوز العكس، وهو كون المذكور خبر الثاني، وخبر الأول محذوفاً كما في قوله: (والله ورسوله أحق أن يرضوه)، ثم أردف سبحانه هذا الكلام المنصف بكلام أبلغ منه في الإنصاف وأدخل فيه وأبعد من الجدل والمشاغبة فقال:(11/192)
قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (25)
(قل لا تسألون عما أجرمنا ولا نسأل عما تعملون) أي: إنما أدعوكم إلى ما فيه خير لكم ونفع، ولا ينالني من كفركم وترككم لإجابتي ضرر، وهذا كقوله سبحانه: (لكم دينكم ولي دين)، وفي إسناد الجرم إلى المسلمين ونسبة مطلق العمل إلى المخاطبين مع كون أعمال المسلمين من البر الخالص والطاعة المحضة وأعمال الكفار من المعصية البينة والإثم الواضح، من الإنصاف ما لا يقادر قدره، والمقصود المهادنة والمتاركة، وقد قيل: نسخت هذه الآية وأمثالها بآية السيف، ثم أمره سبحانه بأن يهددهم بعذاب الآخرة لكن على وجه لا تصريح فيه فقال:(11/192)
قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (26) قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ كَلَّا بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (28)(11/193)
قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (26)
(قل يجمع بيننا ربنا) أي يوم القيامة (ثم يفتح بيننا بالحق) أي يحكم ويقضي بيننا فيثيب المطيع ويعاقب العاصي (وهو الفتاح) أي الحاكم بالحق القاضي بالصواب (العليم) بما يتعلق بحكمه وقضائه من المصالح. قيل وهذه أيضاًً منسوخة بآية السيف، ثم أمره الله سبحانه أن يورد عليهم حجة أخرى ليظهر بها ما هم عليه من الخطأ فقال:(11/193)
قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ كَلَّا بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27)
(قل أروني الذين ألحقتم به شركاء) أي ألحقتموهم بالله شركاء له، وهذه الرؤية هي القلبية فيكون شركاء هو المفعول الثالث، ويجوز أن تكون هي البصرية ويكون شركاء منتصباً على الحال، وأريد بأمرهم بإراءته الأصنام مع كونها بمرأى منه - صلى الله عليه وسلم - إظهار خطأهم وإطلاعهم على بطلان رأيهم، أي أرونيها لأنظر أي صفة فيها اقتضت إلحاقها بالله تعالى في استحقاق العبادة، وفيه مزيد تبكيت لهم بعد إلزامهم الحجة، ثم رد عليهم ما يدعونه من الشركاء وأبطل ذلك فقال:
(كلا بل) أي ارتدعوا عن دعوى المشاركة بل المنفرد بالإلهية (هو الله العزيز) بالقهر والغلبة (الحكيم) بالحكمة الباهرة.(11/193)
وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (28)
(وما أرسلناك إلا كافة للناس) في انتصاب كافة وجوه: فقيل: إنه منتصب على الحال من الكاف في أرسلناك قال الزجاج: أي وما أرسلناك إلا جامعاً للناس بالإنذار والإبلاغ والكافة بمعنى الجامع، والهاء فيه للمبالغة،(11/193)
كعلامة. قال أبو حيان: إن اللغة لا تساعد عليه لأن كف ليس معناه جمع بل معناه منع، يقال كف يكف أي منع يمنع والمعنى إلا مانعاً لهم من الكفر، ومنه الكف لأنه يمنع من خروج ما فيه، وقيل إنه منتصب على المصدرية، والهاء للمبالغة كالعاقبة والعافية، والمراد أنها صفة مصدر محذوف أي إلا رسالة كافة، وقيل إنه حال من الناس، والتقدير: (وما أرسلناك إلا للناس كافة)، ورد بأنه لا يتقدم الحال من المجرور عليه كما هو مقرر في علم الإعراب، ويجاب عنه بأنه قد جوز ذلك أبو علي الفارسي وابن كيسان وابن برهان وابن ملكون، وممن رجح كونها حالاً من المجرور بعدها ابن عطية وقال: قدمت للاهتمام والتقوى ورده الزمخشري وقال خطأ، وقال المحلي: بل هو الصحيح، وقيل المعنى إلا ذا كافة أي ذا منع فحذف المضاف، قيل: اللام في للناس بمعنى إلى أي ما أرسلناك إلى الناس إلا جامعاً لهم بالإنذار والإبلاع أو مانعاً لهم من الكفر والمعاصي.
عن قتادة قال: أرسل الله محمداً إلى العرب والعجم فأكرمهم على الله أطوعهم له وعن جابر بن عبد الله قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " أعطيت خمساً لم يعطهن أحد قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة " أخرجه البخاري ومسلم. وفيه اختصاصه بالرسالة العامة لكافة الخلق الإنس والجن وهذه درجة خص بها دون سائر الأنبياء عليه وعليهم أفضل الصلاة والسلام.
(بشيراً ونذيراً) حال أي مبشراً لهم بالجنة أو بالفضل لمن أقر ومنذراً لهم من النار أو بالعدل لمن أصر (ولكن أكثر الناس لا يعلمون) ما عند الله وما لهم من النفع في إرسال الرسل فيحملهم جهلهم على مخالفتك.(11/194)
وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (29) قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ لَا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلَا تَسْتَقْدِمُونَ (30) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (31) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (32)(11/195)
وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (29)
(ويقولون متى) يكون (هذا الوعد) الذي تعدوننا به وهو قيام الساعة أخبرونا به (إن كنتم صادقين) قالوا: هذا على طريقة الاستهزاء برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأمر الله رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يجيب عنهم فقال:(11/195)
قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ لَا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلَا تَسْتَقْدِمُونَ (30)
(قل لكم ميعاد يوم) أي ميقات يوم، وهو يوم البعث، وقيل وقت حضور الموت وقيل: أراد يوم بدر لأنه كان يوم عذابهم في الدنيا وعلى كل تقدير فهذه الإضافة للبيان، وميعاد مصدر بمعنى الوعد، أو اسم زمان قال أبو عبيدة: الوعد والوعيد والميعاد بمعنى.
(لا تستأخرون عنه ساعة ولا تستقدمون) أي هذا الميعاد المضروب لكم لا تتأخرون عنه بالاستمهال ولا تتقدمون عليه بالاستعجال، بل يكون لا محالة في الوقت الذي قد قدر الله وقوعه فيه، وهذا جواب تهديد جاء مطابقاً لما قصدوا بسؤالهم من التعنت والإنكار، ثم ذكر سبحانه طرفاً من قبائح الكفار ونوعاً من أنواع كفرهم فقال:(11/195)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (31)
(وقال الذين كفروا) يعني مشركي العرب (لن نؤمن بهذا القرآن، ولا بالذي بين يديه) أي بما أنزل قبل القرآن من كتب الله تعالى كالتوراة والإنجيل أو القيامة أو الجنة والنار، يعني أنهم جحدوا أن يكون القرآن من الله، وأن يكون لما دل عليه من الإعادة للجزاء حقيقة، ثم أخبر سبحانه عن حالهم في الآخرة فقال:
(ولو ترى إذ الظالمون موقوفون عند ربهم) الخطاب لمحمد - صلى الله عليه وسلم - أو لكل من يصلح له، والمعنى محبوسون في موقف الحساب، وجواب لو محذوف أي لرأيت أمراً عجيباً وحالاً فظيعاً (يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ) أي فيما بينهم باللوم والعتاب بعد أن كانوا في الدنيا متعاضدين متناصرين متحابين، ثم بين سبحانه تلك المراجعة فقال:
(يقول الذين استضعفوا) وهم الأتباع (للذين استكبروا) وهم الرؤساء المتبوعون (لولا أنتم) صددتمونا عن الإيمان بالله والاتباع لرسوله (لكنا مؤمنين) بالله مصدقين لرسوله وكتابه.(11/196)
قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (32)
(وقال الذين استكبروا للذين استضعفوا) مجيبين عليهم مستنكرين لما قالوه (أنحن صددناكم عن الهدى)؟ أي أمنعناكم عن الإيمان (بعد إذ جاءكم) الهدى قالوا: هذا منكرين لما ادعوه عليهم من الصدّ لهم، وجاحدين لما نسبوه إليهم من ذلك، ثم بينوا لهم أنهم الصادون لأنفسهم الممتنعون من الهدى بعد إذ جاءهم فقالوا:
(بل كنتم مجرمين) أي مصرين على الكفر كثيري الإجرام عظيمي الآثام.(11/196)
وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (33)
وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (33)
(وقال الذين استضعفوا للذين استكبروا) رداً لما أجابوا به عليهم، ودفعاً لما نسبوه إليهم من صدهم لأنفسهم (بل مكر الليل والنهار) أي أبطلوا إضرابهم بإضرابهم كأنهم قالوا: بل من جهة مكركم بنا ليلاً ونهاراً، وأصل المكر في كلام العرب الخديعة والحيلة، يقال: مكر به إذا خدعه واحتال عليه. قيل: هو طول السلامة في الدنيا وطول الأمل فيها، وقال الأخفش: هذا مكر الليل والنهار.
قال النحاس: والمعنى والله أعلم: بل مكركم في الليل والنهار ودعاؤكم لنا إلى الكفر هو الذي حملنا على هذا، وقال سفيان الثوري: بل عملكم في الليل والنهار ويجوز أن يجعل الليل والنهار ماكرين على الإسناد المجازي كما تقرر في علم المعاني، قال المبرد: كما تقول العرب: نهاره صائم وليله قائم.
وفي السمين: وإضافة المكر إلى الليل والنهار إما على الإسناد المجازي كقولهم: ليل ماكر فيكون مصدراً مضافاً لمرفوعه. وإما على الاتساع في الظرف فجعل كالمفعول به فيكون مضافاً لمنصوبه، وهذان أحسن من قول من قال: إن الإضافة بمعنى في أي في الليل؛ لأن ذلك لم يثبت في غير محل النزاع وقرىء: برفع مكر ونصب الليل، والتقدير: بل مكر كائن في الليل والنهار، وقرىء: مكر بفتح الكاف وتشديد الراء مضافاً بمعنى الكرور من كَرَّيكرُّ إذا جاء وذهب أي مكر الليل والنهار صدنا أو صدنا مكرهما، وقرىء: مكر بفتح(11/197)
الكاف وتشديد الراء لكنه ينصب على المصدرية أي بل يكون الإغواء مكراً دائماً لا يفترون عنه.
(إذ تأمروننا) أي بل مكركم بنا وقت أمركم لنا (أن نكفر بالله ونجعل له أنداداً) أي أشباهاً وأمثالاً، قال المبرد يقال: ند فلان فلان أي مثله، وهذا قول القادة للأتباع: إن ديننا الحق، وإن محمداً كذاب ساحر، وهذا تنبيه للكفار أن تصير طاعة بعضهم لبعض في الدنيا سبب عداوتهم في الآخرة.
(وأسروا الندامة لما رأوا العذاب) الضمير راجع إلى الفريقين أي أضمر الفريقان الندامة على ما فعلوا من الكفر وأخفوها عن غيرهم، وأخفاها كل منهم عن الآخر مخافة الشماتة، وقيل: المراد بأسرّوا هنا أظهروا لأنه من الأضداد يكون تارة بمعنى الإخفاء وتارة بمعنى الإظهار، وقيل: المعنى تبينت الندامة في أسرة وجوههم، والجملة مستأنفة أو حال من الذين استضعفوا والذين استكبروا.
(وجعلنا الأغلال في أعناق الذين كفروا) الأغلال جمع غل يقال في رقبته غل من حديد أي جعلت الأغلال من الحديد في أعناق هؤلاء في النار والمراد بالذين كفروا هم المذكورون سابقاً، والإظهار لمزيد الذم، أو للكفار على العموم فيدخل هؤلاء فيهم دخولاً أولياً.
(هل) أي ما (يجزون إلا) جزاء (ما كانوا يعملون) في الدنيا من الشرك والكفر بالله والمعاصي، أو إلا بما كانوا يعملون على حذف الخافض، ولما قصّ سبحانه حال من تقدم من الكفار أتبعه بما فيه التسلية لرسوله صلى الله عليه وآله وسلم وبيان أن كفر الأمم السابقة بمن أرسل إليهم من الرسل هو كائن مستمر في الأعصر الأول فقال:(11/198)
وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (34) وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (35) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (36) وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ (37) وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (38)(11/199)
وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (34)
(وما أرسلنا في قرية) من القرى (من نذير) ينذرهم ويحذرهم عقاب الله (إلا قال مترفوها) حال من قرية وإن كانت نكرة لوقوعها في سياق النفي، والمعنى: قال متنعموها ورؤساؤها وأغنياؤها وجبابرتها وقادة الشر لرسلهم.
(إنا بما) أي بالذي (أرسلتم به) من الإيمان والتوحيد (كافرون).
عن أبي رزين قال: كان رجلان شريكين خرج أحدهما إلى الساحل وبقي الآخر فلما بعث الله النبي صلى الله عليه وآله وسلم كتب إلى صاحبه يسأله ما فعل، فكتب إليه إنه لم يتبعه أحد من قريش إلا رذالة الناس ومساكينهم فترك تجارته ثم أتى صاحبه، فقال: دلني عليه وكان يقرأ الكتب فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: إلام تدعو؟ قال إلى كذا وكذا قال: أشهد أنك رسول الله. قال: وما علمك بذلك؟ قال: إنه لم يبعث نبي إلا اتبعه رذالة الناس ومساكينهم فنزلت هذه الآية فأرسل إليه النبي - صلى الله عليه وسلم -. أن الله قد أنزل تصديق ما قلت، ثم ذكر سبحانه ما افتخروا به من الأموال والأولاد وما قاسوا حالهم في الدار الآخرة على حالهم في هذه الدار على تقدير صحة ما أنذرهم به الرسل، فقال:(11/199)
وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (35)
(وقالوا نحن أكثر أموالاً وأولاداً) والمعنى أن الله فضلنا عليكم(11/199)
بالأموال والأولاد في الدنيا وذلك يدل على أنه قد رضي ما نحن عليه من الدين (وما نحن بمعذبين) في الآخرة بعد إحسانه إلينا في الدنيا ورضاه عنا أرادوا أنهم أكرم على الله من أن يعذبهم نظراً إلى أحوالهم في الدنيا، وظنوا أنهم لو لم يكرموا على الله لا رزقهم الله، ولولا أن المؤمنين هانوا عليه لما حرمهم، فأبطل الله ظنهم وأمر نبيه - صلى الله عليه وسلم - بأن يجيب عنهم رداً عليهم، وحسماً لمادة طمعهم وتحقيقاً للحق الذي عليه يدور أمر التكوين، وقال:(11/200)
قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (36)
(قل إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء) أن يبسطه له (ويقدر) أي يضيق على من يشاء أن يضيقه عليه، فهو سبحانه قد يرزق الكافر والعاصي استدراجاً له، وقد يمتحن المؤمن المطيع بالتقتير توفيراً لأجره، وليس مجرد بسط الرزق لمن يبسط له يدل على أنه قد رضي عنه ورضي عمله، ولا قبضه عمن قبضه عنه يدل على أنه لم يرضه، ولا رضي عمله، بل كل ذلك حسبما تقتضيه مشيئته المبنية على الحكم البالغة، فقياس الدار الآخرة على الدار الأولى في مثل هذا من الغلط البين أو المغالطة الواضحة.
(ولكن أكثر الناس لا يعلمون) ذلك ومن جملة هذا الأكثر من قاس أمر الآخرة على الأولى.(11/200)
وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ (37)
(وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى) كلام مستأنف من جهته تعالى خوطب به الناس بطريق التلوين والالتفات مبالغة في تحقيق الحق وتقرير ما سبق، والمعنى: ليسوا بالخصلة التي تقربكم عندنا قربى قال مجاهد: الزلفى: القربى، والزلفة القربة، قال الأخفش: زلفى اسم مصدر كأنه قال: بالتي تقربكم عندنا تقريباً، قال الفراء: إن التي تكون للأموال والأولاد جميعاً وهو الصحيح، وقيل: المعنى وما جماعة أموالكم ولا جماعة أولادكم بالتي الخ وذلك أن الجمع المكسر عقلاؤه وغير عقلائه سواء في حكم التأنيث، وقال الزجاج: إن العنى وما أموالكم بالتي تقربكم عندنا زلفى ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى، ثم حذف الخبر الأول لدلالة الثاني عليه، ويجوز في غير(11/200)
القرآن باللتين وباللاتي وباللواتي وبالذي للأولاد خاصة أي لا تزيدكم الأموال والأولاد عندنا درجة ورفعة، ولا تقربكم تقريباً.
(إلا من آمن) استثناء منقطع أي لكن من آمن (وعمل) عملاً (صالحاً) وقيل: إنه متصل على أن يجعل الخطاب عاماً للكفرة والمؤمنين على أنه ابتداء كلام لا مقول لهم.
(فأولئك) إشارة إلى من والجمع باعتبار معناها كما أن الإفراد في الفعلين باعتبار لفظها (لهم جزاء الضعف) أي جزاء الزيادة وهي المرادة بقوله (من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها)، وهو من إضافة المصدر إلى المفعول أي جزاء التضعيف للحسنات، وقيل: لهم جزاء الأضعاف لأن الضعف في معنى الجمع أو من إضافة الموصوف إلى صفته. أي لهم الجزاء المضاعف قال مجاهد: أي تضعيف الحسنة، وعن محمد بن كعب قال: إذا كان الرجل غنياً تقياً آتاه الله أجره مرتين وتلا هذه الآية إلى قوله (فأولئك لهم جزاء الضعف)، وقال تضعيف الحسنة.
(بما عملوا) الباء للسببية (وهم في الغرفات) أي غرفات الجنة، قرىء: بالجمع لقوله: (لنبوئنهم من الجنة غرفاً) وفي قراءة سبعية بالإفراد، بمعنى الجمع حملاً لأل على أنها جنسية لقوله: (أولئك يجزون الغرفة).
(آمنون) من كل هائل وشاغل وسائر المكاره، ومن جميع ما يكرهون، ثم لما ذكر سبحانه حال المؤمنين ذكر حال الكافرين فقال:(11/201)
وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (38)
(والذين يسعون في آياتنا) بالرد لها وإبطالها والطعن فيها حال كونهم (معاجزين) مسابقين لنا زاعمين أنهم يفوتوننا بأنفسهم أو معاندين لنا بكفرهم.
(أولئك في العذاب) أي عذاب جهنم (محضرون) تحضرهم الزبانية إليها لا يجدون عنها محيصاً، ثم كرر سبحانه ما تقدم لقصد التأكيد للحجة والدفع لما قاله الكفرة فقال:(11/201)
قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (39) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ (40) قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (41) فَالْيَوْمَ لَا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (42)(11/202)
قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (39)
(قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ) أي يوسعه لمن يشاء ويضيقه على من يشاء ليس في ذلك دلالة على سعادة ولا شقاوة، وفي القاري: هذا في شخص واحد باعتبار وقتين أو في المؤمن، وما سبق في شخصين أو في الكافر فلا تكرار ونحوه في البيضاوي، قال الشهاب: بل فيه تقرير لأن التوسيع والتقتير ليسا لكرامة ولا هوان فإنه لو كان كذلك لم يتصف بهما شخص واحد.
(وما أنفقتم من شيء) على أنفسكم وعيالكم وقيل: ما تصدقتم (فهو يخلفه) عليكم أي يعطي خلفه إذا كان في غير إسراف. يقال: أخلف له وأخلف عليه إذا أعطاه عوضه وبدله، وذلك البدل إما في الدنيا وإما في الآخرة أو فيهما معاً إما عاجلاً بالمال أو بالقناعة التي هي كنز لا ينفد، وإما آجلاً بالثواب في الآخرة الذي كل خلف دونه، وقال مجاهد: هذا في الآخرة.
وعن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " ما نقصت صدقة من مال، وما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله "، أخرجه مسلم، وقال ابن عباس في الآية: يعني في غير إسراف ولا تقتير.(11/202)
وعن مجاهد والحسن مثله، وعن جابر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " كلما أنفق العبد من نفقة فعلى الله خلفها ضامناً إلا نفقة في بنيان أو معصية " أخرجه الدارقطني والبيهقي. وأخرج نحوه ابن عدي في الكامل والبيهقي من وجه آخر عنه مرفوعاً بأطول منه.
وقد ثبت في الصحيح من حديث أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: قال الله عز وجل: " أنفق يا ابن آدم أنفق عليك "، وثبت في الصحيح من حديثه أيضاًً قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " ما من يوم يصبح العباد فيه إلا وملكان ينزلان فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقاً خلفاً، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكاً تلفاً ".
وعن علي ابن أبي طالب سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " إن لكل يوم نحساً فادفعوا نحس ذلك اليوم بالصدقة "، ثم قال: اقرأوا مواضع الخلف فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه، إذا لم ينفقوا كيف يخلف ". أخرجه ابن مردويه.
وعن أبي هريرة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " إن المعونة تنزل من السماء على قدر المؤنة ".
(وهو خير الرازقين) فإن رزق العباد لبعضهم البعض إنما هو بتيسير الله وتقديره وليسوا برازقين على الحقيقة، بل على طريق المجاز كما يقال في الرجل إنه يرزق عياله وفي الأمير إنه يرزق جنده والرازق للأمير والمأمور والكبير والصغير هو الخالق لهم، ومن أخرج من العباد إلى غيره شيئاًً فهو مما رزقه الله وأجراه على يده، قال بعضهم: الحمد لله الذي أوجدني وجعلني ممن يشتهي، فكم من مشته لا يجد، وكم من واجد لا يشتهي.(11/203)
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ (40)
(و) اذكر (يوم يحشرهم جميعاً) هو متصل بقوله: (ولو ترى إذ الظالمون موقوفون) أي ولو تراهم أيضاً يوم يحشرهم الله جميعاً للحساب العابد والمعبود والمستكبر والمستضعف.(11/203)
(ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ) أي يقول تقريعاً للمشركين وتوبيخاً لمن عبد غير الله عز وجل كما في قوله لعيسى: (أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله)؟ وإنما خصص الملائكة بالذكر مع أن بعض الكفار قد عبد غيرهم من الشياطين والأصنام لأنهم أشرف معبودات المشركين، قال النحاس: والمعنى أن الملائكة إذا كذبتهم كان في ذلك تبكيت للمشركين وتقريع للكافرين وارداً على المثل السائر إياك أعني فاسمعي يا جارة.(11/204)
قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (41)
(قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم) مستأنفة أي تنزيهاً لك أنت الذي نتولاه ونطيعه ونعبده من دونهم ما اتخذناهم عابدين، ولا توليناهم، وليس لنا غيرك ولياً، ثم صرحوا بما كان المشركون يعبدونه فقالوا: (بل كانوا يعبدون الجن) أي الشياطين وهم إبليس وجنوده ويزعمون أنهم يرونهم وأنهم ملائكة وأنهم بنات الله. وقيل: كانوا يدخلون أجواف الأصنام ويخاطبونهم منها.
(أكثرهم بهم مؤمنون) أي أكثر المشركين بالجن مؤمنون مصدقون لهم فيما يقولون لهم، قيل: والأكثر في معنى الكل.(11/204)
فَالْيَوْمَ لَا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (42)
(فاليوم لا يملك بعضكم) وهم المعبودون (لبعض) وهم العابدون (نفعاً) أي شفاعة ونجاة (ولا ضراً) أي عذاباً وهلاكاً وإنما قيل لهم هذا القول إظهاراً لعجزهم وقصورهم وتبكيتاً لعابديهم، وقوله: ولا ضراً هو على حذف مضاف أي لا يملكون لهم دفع ضر والفاء ليست لترتيب ما بعدها من الحكم على جواب الملائكة فإنه محقق أجابوا بذلك أم لا، بل لترتيب الإخبار به عليه.
(ونقول للذين ظلموا) أنفسهم بعبادة غير الله (ذوقوا عذاب النار التي كنتم بها تكذبون) في الدنيا ثم ذكر سبحانه نوعاً آخر من أنواع كفرهم فقال:(11/204)
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ وَقَالُوا مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرًى وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (43) وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (44) وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (45) قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (46) قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (47) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (48)(11/205)
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ وَقَالُوا مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرًى وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (43)
(وإذا تتلى عليهم آياتنا) القرآنية حال كونها (بينات) واضحات الدلالات ظاهرات المعاني على التوحيد (قالوا ما هذا) يعنون التالي لها وهو النبي - صلى الله عليه وسلم - (إلا رجل يريد أن يصدكم عما كان يعبد آباؤكم) أي أسلافكم من الأصنام التي كانوا يعبدونها.
(وقالوا) ثانياً: (ما هذا) يعنون القرآن الكريم (إلا إفك مفترى) أي كذب في حد ذاته غير مطابق للواقع مختلق على الله من حيث نسبته إليه فمفترى تأسيس لا تأكيد.
(وقال الذين كفروا) ثالثاً: (للحق لما جاءهم) أي لأمر الدين الذي جاءهم به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (إن هذا إلا سحر مبين) وفي تكرير الفعل والتصريح بالفاعل إنكار عظيم له وتعجيب بليغ منه، وهذا الإنكار منهم خاص بالتوحيد، وأما إنكار القرآن والمعجزة فكان متفقاً عليه بين أهل الكتاب
والمشركين، وقيل: أريد بالأول وهو قولهم (إلا إفك مفترى) معناه وبالثاني وهو قولهم (إن هذا إلا سحر مبين) نظمه المعجز. وقيل: إن طائفة منهم قالوا: إنه(11/205)
إفك وطائفة قالوا إنه سحر، وقيل: إنهم جميعاً قالوا: تارة إنه إفك وتارة إنه سحر والأول أولى.(11/206)
وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (44)
(وما آتيناهم من كتب يدرسونها) أي ما أنزلنا على العرب كتباً سماويه دالة على صحة الإشراك يدرسون فيها ويقرأونها.
(وما أرسلنا إليهم قبلك من نذير) يدعوهم إلى الإشراك أو إلى الحق وينذرهم بالعذاب فليس لتكذيبهم بالقرآن وبالرسول وجه ولا شبهة يتشبثون بها، قال قتادة: ما أنزل الله على العرب كتاباً قبل القرآن ولا بعث إليهم نبياً قبل محمد صلى الله عليه وآله وسلم، قال الفراء: أي من أين كذبوك؟ ولم يأتهم كتاب ولا نذير بهذا الذي فعلوه، ثم خوفهم سبحانه وأخبر عن عاقبتهم وعاقبة من كان قبلهم، فقال:(11/206)
وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (45)
(وكذب الذين من قبلهم) أي من كفار القرون الخالية (وما بلغوا معشار ما آتيناهم) أي ما بلغ أهل مكة من مشركي قريش وغيرهم من العرب عشر ما آتينا من قبلهم من القوة والنعمة وكثرة المال والأولاد وطول الأعمار فأهلكهم الله كعاد وثمود وأمثالهم، ولم تنفعهم قوتهم شيئاًً في دفع الهلاك عنهم حين كذّبوا رسلهم فهؤلاء أولى بأن يحل بهم العذاب لتكذيبهم رسولهم والمعشار لغة في العشر قال الجوهري: معشار الشيء عشره وفي البحر المعشار: مفعال من العشر ولم يبن على هذا الوزن من ألفاظ العدد غيره وغير المرباع.
ومعناهما العشر والربع وقيل: المعشار عشر العشر والأول أولى. وقيل: إن المعنى: ما بلغ من قبلهم معشار ما آتينا هؤلاء من البينات والهدى.
وقيل: ما بلغ من قبلهم معشار شكر ما أعطيناهم، وقيل: ما أعطى الله من قبلهم معشار ما أعطاهم من العلم والبيان والحجة والبرهان، والأول أولى، وقيل: المعشار عشر العشير، والعشير هو عشر العشر، فيكون جزءاً من ألف جزء، قال الماوردي: وهو الأظهر لأن المراد به المبالغة في التقليل.
قلت: مراعاة المبالغة في التقليل لا يسوغ لأجلها الخروج عن المعنى العربي(11/206)
وقال ابن عباس في الآية: يقول من القوة في الدنيا، وعن ابن جريج نحوه.
(فكذبوا رسلي) عطف على: (كذب الذين من قبلهم) على طريقة التفسير كقوله: (كذبت قوم نوح فكذبوا عبدنا) الآية والأولى أن يكون من عطف الخاص على العام لأن التكذيب الأول لما حذف منه المتعلق للتكذيب أفاد العموم فمعناه: كذبوا الكتب المنزلة والرسل المرسلة والمعجزات الواضحة وتكذيب الرسل أخص منه وإن كان مستلزماً له فقد روعيت الدلالة اللفظية لا الدلالة الالتزامية، وما بينهما حال أو اعتراض، وقال البيضاوي: لا تكرير لأن الأول للتكثير، والثاني للتكذيب، ونحوه في الكشاف، وبمثله قال الكرخي.
(فكيف كان نكير)؟ أي فكيف كان إنكاري لهم بالعذاب والعقوبة؟ فليحذر هؤلاء من مثل ذلك، قيل والتقدير فأهلكناهم فكيف نكيري، والنكير اسم بمعنى الإنكار ثم أمر الله سبحانه رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يقيم عليهم حجة ينقطعون عندها فقال:(11/207)
قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (46)
(قل إنما أعظكم بواحدة) أي أحذركم وأنذركم سوء عاقبة ما أنتم فيه وأوصيكم بخصلة واحدة وهي:
(أن تقوموا لله مثنى وفرادى) فهذا تفسير للخصلة الواحدة أو بدل منها أي هي قيامكم وتشميركم في طلب الحق بالفكرة الصادقة، متفرقين اثنين اثنين، وواحداً واحداً لأن الاجتماع يشوش الفكر ويعمي البصر، ويمنع من الرؤية ويقل الإنصاف فيه، ويكثر الاعتساف، ويثور عجاج التعصب، ولا يسمع إلا نصرة المذهب، وليس المراد القيام على الرجلين والنهوض والانتصاب على القدمين، بل المراد القيام بطلب الحق والاعتناء والاشتغال بالتدبر، وإصداق الفكر فيه كما يقال: قام فلان بأمر كذا، وقيل: المراد بواحدة هي لا إله إلا الله، كذا قال مجاهد، والسدي. وقيل: القرآن لأنه يجمع المواعظ كلها والأولى ما ذكرناه، وقال الزجاج: المعنى لأن تقوموا، وقال السدي. معنى مثنى وفرادى منفرداً برأيه ومشاوراً لغيره.(11/207)
وقال القتيبي: مناظراً مع عشيرته، ومتفكراً في نفسه، وقيل: المثنى عمل النهار، والفرادى عمل الليل، قاله الماوردي. وما أبرد هذا القول، وأقل جداوه ونصبهما على الحال، وقدم المثنى لأن طلب الحقائق من متعاضدين في النظر أجدى من فكرة واحدة، فإن انقدح الحق بين الاثنين فكر كل واحد منهما بعد ذلك فيزداد بصيرة قال الشاعر:
إذا اجتمعوا جاءوا بكل غريبة ... فيزداد بعض القوم من بعضهم علماً
(ثم تتفكروا) في أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - وما جاء به من الكتاب فإنكم عند ذلك تعلمون أن (ما بصاحبكم من جنة) وذلك لأنهم كانوا يقولون: إن محمداً مجنون فقال الله سبحانه: قل لهم: اعتبروا أمري بواحدة وهي أن تقوموا لله، وفي ذاته مجتمعين، فيقول الرجل لصاحبه: هلم فلنصادق هل رأينا بهذا الرجل من جنة؟ أي جنون وجربنا عليه كذباً، ثم ينفرد كل واحد عن صاحبه فيتفكر، وينظر فإن في ذلك ما يدل على أن محمداً - صلى الله عليه وسلم - صادق وأنه رسول من
عند الله، وأنه ليس بكاذب ولا ساحر ولا مجنون.
قال محمد بن كعب في الآية: يقوم الرجل مع الرجل أو وحده فيفكر ما بصاحبه من جنة، وقال قتادة: يقول: إنه ليس مجنون، وقيل مستأنفة من جهة الله سبحانه مسوقة على طريقة النظر والتأمل بأن هذا الأمر عظيم والدعوى الكبيرة لا يعرض نفسه له إلا مجنون لا يبالي بما يقال فيه وما ينسب إليه من الكذب، وقد علموا أنه أرجح الناس عقلاً، وأوزنهم حلماً وأحدَّهم ذهناً، وأرضاهم رأياً وأصدقهم قولاً، وأزكاهم نفساً، وأجمعهم لما يحمد عليه الرجال، ويمدحون به فوجب أن يصدقوه في دعواه، لا سيما مع انضمام المعجزة الواضحة، وإجماعهم على أنه لم يكن ممن يفتري الكذب، ولا قد جربوا عليه كذباً مدة عمره، وعمرهم. وقيل: ثم تتفكروا أي شيء به من آثار الجنون واختار أبو حاتم وابن الأنباري الوقف على قوله (ثم تتفكروا) وعلى هذا تكون جملة ما بصاحبكم من جنة مستأنفة كما قدمنا. وقيل ليس بوقف لأن المعنى ثم تتفكروا(11/208)
هل جربتم عليه كذباً؟ أو رأيتم منه جنة؟ أو في أحواله من فساد.
(إن هو إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد) أي ما هو إلا نذير لكم بين يدي الساعة أي قدامها وهو عذاب الآخرة وهو كقوله - صلى الله عليه وسلم - بعثت بين يدي الساعة ثم أمره سبحانه أن يخبرهم أنه لم يكن له غرض في الدنيا ولا رغبة فيها، حتى تنقطع عندهم الشكوك ويرتفع الريب فقال:(11/209)
قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (47)
(قل ما سألتكم من أجر) أي من جعل (فهو لكم) يقول لم أسألكم على الإسلام جعلاً أي ما طلبت منكم من جعل تجعلونه لي إلى مقابل الرسالة فهو لكم إن سألتموه، والمراد نفي السؤال بالكلية كما يقول القائل ما أملكه في هذا فقد وهبته لك يريد أنه لا ملك له فيه أصلاً، ومثل هذه الآية قوله قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى، وقوله ما أسألكم عليه من أجر إلا من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلاً ثم بين لهم أن أجره عند الله سبحانه فقال (إن أجري إلا على الله) لا على غيره (وهو على كل شيء شهيد) أي مطلع لا يغيب عنه منه شيء فيعلم أني لا أطلب الأجر على نصيحتكم ودعائكم إليه إلا منه.(11/209)
قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (48)
(قل إن ربي يقذف) القذف في الأصل الرمي بالسهم والحصى والكلام.
قال الكلبي: يرمي على معنى يأتي به، وقال مقاتل: يتكلم (بالحق) وهو القرآن والوحي أي يلقيه إلى أنبيائه، وقال قتادة: بالحق أي بالوحي والمعنى أنه يبين الحجة ويظهرها للناس على ألسن رسله وقيل: يرمي الباطل بالحق فيدمغه.
(علام الغيوب) قرىء برفع علام وبنصبه قال الفراء: والرفع في مثل هذا أكثر كقوله: (إن ذلك لحق تخاصم أهل النار)، وقرىء: الغيوب بالحركات الثلاث في الغين وهو جمع غيب، والغيب هو الأمر الذي غاب وخفي جداً(11/209)
قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ (49) قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (50) وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ (51) وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (52) وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (53) وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ (54)(11/210)
قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ (49)
(قل جاء الحق) أي الإسلام والتوحيد، وقال قتادة القرآن وقال النحاس التقدير صاحب الحق أي الكتاب الذي فيه البراهين والحجج، وأقول لا وجه لتقدير المضاف فإن القرآن قد جاء كما جاء صاحبه.
(وما يبدىء الباطل وما يعيد) أي ذهب الباطل ذهاباً لم يبق له إقبال ولا إدبار ولا إبداء ولا إعادة فجعل مثلاً في الهلاك بالمرة والإبداء فعل الشىء ابتداء والإعادة فعله على طريق الإعادة، ولما كان الإنسان ما دام حياً لا يخلو عن ذلك كنى به عن حياته وبنفيه عن هلاكه، ثم شاع ذلك في كل مذهب، ولم يبق له أثر، وإن لم يكن ذا روح فهو كناية أيضاًً أو مجاز متفرع على الكناية، وقيل: يجوز أن تكون ما استفهامية أي: أيُّ شىء يبدئه وأي شيء يعيده، وعن قتادة قال: الشيطان لا يبدىء ولا يعيد إذا هلك، وعنه قال: ما يخلق إبليس شيئاً ابتداء ولا يبعثه وبه قال مقاتل والكلبي. وقيل: الباطل الأصنام والأول أولى.(11/210)
قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (50)
(قل إن ضللت) عن الطريق الحقة الواضحة وقرىء بفتح اللام وهذه لغة نجد، وهي الفصيحة وبكسرها وهي لغة أهل العالية (فإنما أضل) أي إثم ضلالتي يكون (على نفسي) وقال عمر بن سعد: أي إنما أوخذ بجنايتي وذلك أن الكفار قالوا له: تركت دين آبائك فضللت، فأمره الله أن يقول لهم(11/210)
هذا القول.
(وإن اهتديت فبما يوحي إليّ ربي) من الحكمة والموعظة والبيان بالقرآن و (ما) مصدرية أو موصولة والتقابل هنا من جهة المعنى دون اللفظ (إنه سميع قريب) مني ومنكم يعلم الهدى والضلالة وإن بولغ في إخفائهما، وهذا حكم عام لكل مكلف وإنما أمر رسوله أن يسنده إلى نفسه لأن الرسول إذا دخل تحته مع جلالة محله وسداد طريقته كان غيره أولى به، ثم ذكر سبحانه حالاً من أحوال الكفار فقال:(11/211)
وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ (51)
(ولو ترى إذ فزعوا) الخطاب لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو لكل من يصلح له، قيل: المراد فزعهم عند نزول الموت بهم أو غيره من بأس الله تعالى وقال الحسن: هو فزعهم في القبور من الصيحة، وقال قتادة: هو فزعهم إذا خرجوا من قبورهم.
وقال السدي: هو فزعهم يوم بدر حين ضربت أعناقهم بسيوف الملائكة فلم يستطيعوا فراراً ولا رجوعاً إلى التوبة، وقال ابن معقل: هو فزعهم إذا عاينوا عقاب الله يوم القيامة، وقال سعيد بن جبير: هو الخسف الذي يخسف بهم في البيداء فيبقى رجل منهم فيخبر الناس بما لقي أصحابه فيفزعون، وجواب لو محذوف أي لرأيت أمراً عظيماً وحالاً هائلة (فلا فوت) أي فلا يفوتني أحد منهم ولا ينجو منهم ناج، قال مجاهد: فلا مهرب وقال ابن عباس: فلا نجاة.
(وأخذوا من مكان قريب) من ظهر الأرض أو من القبور وهي قريبة من مساكنهم في الدنيا كما قاله أبو حيان، أو قريب من موقف الحساب، وقيل: أي قبضت أرواحهم في أماكنها فلم يمكنهم الفرار من الموت، وهذا على قول من يقول: هذا الفزع عند النزع، وقيل: أخذوا من جهنم فألقوا فيها. وقيل: من حيث كانوا فهم من الله قريب لا يبعدون عنه ولا يفوتونه.
وقال ابن عباس من تحت أقدامهم، وعنه قال: نزلت في ثمانين ألفاً(11/211)
يغزون في آخر الزمان الكعبة ليخربوها فلما يدخلون البيداء يخسف بهم، فهو الأخذ من مكان قريب، ذكره القرطبي.
وقد ثبت في الصحيح أنه يخسف بجيش في البيداء من حديث حفصة وعائشة، وخارج الصحيح من حديث أم سلمة وصفية وأبي هريرة وابن مسعود، وليس في شيء منها أن ذلك سبب نزول هذه الآية، ولكنه أخرج ابن جرير من حديث حذيفة بن اليمان قصة الخسف هذه مرفوعة، وقال في آخرها: فذلك قوله عز وجل في سورة سبأ: (ولو ترى إذ فزعوا فلا فوت) الآية، وقيل: يجوز أن يكون هذا الفزع هو الفرع الذي بمعنى الإجابة. يقال فزع الرجل: إذا أجاب الصارخ الذي يستغيث به كفزعهم إلى الحرب يوم بدر.(11/212)
وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (52)
(وقالوا) وقت النزع وهو وقت نزول العذاب بهم عند الموت كقوله تعالى: (فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده)، أو عند البعث فإن الكفار كلهم يؤمنون حينئذ (آمنا به) أي بمحمد - صلى الله عليه وسلم - قاله قتادة أو بالقرآن، وقال مجاهد: بالله عز وجل، وقال الحسن: بالبعث ثم نفى الله عنهم نفع الإيمان بقوله:
(وأنى) أي من أين (لهم التناوش) أي التناول، وهو تقابل من النوش الذي هو التناول، والمعنى: كيف لهم أن يتناولوا الإِيمان من بعد يعني في الآخرة، وقد تركوه في الدنيا وهو معنى قوله:
(من مكان بعيد) وهو تمثيل لحالهم في طلب الخلاص بعد ما فات عنهم بحال من يريد أن يتناول الشيء من غلوة تناوله من ذراع في الاستحالة، قال ابن السكيت: يقال للرجل إذا تناول رجلاً ليأخذ برأسه أو بلحيته ناشه ينوشه نوشاً، ومنه المناوشة في القتال، وذلك إذا تدانى الفريقان. وقيل التناوش: الرجعة أي وأنى لهم الرجعة إلى الدنيا ليؤمنوا، وقال ابن عباس: قال يسألون الرد إلى الدنيا وليس بحين رد، وقال التناوش: تناول الشيء وليس بحين ذلك وقال السدي: هو التوبة أي طلبوها، وقد بعدت لأنها إنما تقبل(11/212)
في الدنيا وقرىء: التناوش بالواو وبالهمز واستبعد الثانية أبو عبيد والنحاس ولا وجه للاستبعاد فقد ثبت ذلك في لغة العرب وأشعارها، قال الفراء: الهمزة وتركها متقارب.(11/213)
وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (53)
(وقد كفروا به من قبل) أي والحال أن قد كفروا بما آمنوا به من قبل هذا الوقت وذلك حال كونهم في الدنيا. قيل: بالقرآن، وقيل: بمحمد - صلى الله عليه وسلم - من قبل أن يعاينوا العذاب وأهوال القيامة.
(ويقذفون بالغيب) أي يؤمنون بالظن ويتكلمون بما لم يظهر لهم في الرسول من المطاعن أو في العذاب من البت على نفيه، فيقولون: لا بعث ولا نشور ولا جنة ولا نار (من مكان بعيد) أي من جهة بعيدة ليس فيها مستند لظنهم الباطل، وهو الشبه التي تمحلوها في أمر الآخرة كما حكاه من قبل.
وقيل: المعنى يقولون في القرآن أقوالاً باطلة: إنه سحر وشعر وأساطير الأولين، وقيل: يقولون في محمد - صلى الله عليه وسلم -: إنه ساحر شاعر كاهن مجنون، قرىء: يقذفون مبنياً للمفعول أي يرجمون بما يسوؤهم من جزاء أعمالهم من حيث لا يحتسبون، وفيه تمثيل لحالهم بحال من يرمي شيئاًً لا يراه من مكان بعيد لا مجال للوهم في لحوقه وهذا استعارة تمثيلية والجملة إما معطوفة على (وقد كفروا به) على أنها حكاية للحال الماضية، واستحضار لصورتها، أو مستأنفة لبيان تمثيل حالهم.(11/213)
وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ (54)
(وحيل بينهم) فعل مبني للمفعول وإذا بني للفاعل يقال فيه: حال وهو فعل لا يتعدى ونائب الفاعل ضمير المصدر المفهوم من الفعل كأنه قيل: وحيل هو أي الحول، وجعل بعضهم نائب الفاعل الظرف، وهو بينهم، واعترض بأنه ينبغي حينئذ أن يرفع.
(وبين ما يشتهون) من النجاة من العذاب ومنعوا من ذلك، وقيل: حيل بينهم وبين ما يشتهون في الدنيا من أموالهم وأهليهم، أو حيل بينهم وبين ما يشتهون من الرجوع إلى الدنيا.(11/213)
(كما فعل بأشياعهم من قبل) أي بأمثالهم ونظرائهم من كفار الأمم الماضية الذين كانوا قبلهم في الدنيا سابقين عليهم في الزمان، والأشياع جمع شيع، وشيع: جمع شيعة، وشيعة الرجل أتباعه وأنصاره، وكل قوم أمرهم واحد يتبع بعضهم رأي بعض، فهم شيع فالأشياع جمع الجمع.
(إنهم كانوا في شك مريب) تعليل لما قبله أي في شك موقع في الريبة أو ذي ريبة من أمر الرسل والبعث والجنة والنار، أو في التوحيد وما جاءتهم به الرسل من الدين، يقال: أراب الرجل إذا صار ذا ريبة فهو مريب، وقيل هو من الريب الذي هو الشك والتهمة، فهو كما يقال: عجب عجيب وشعر شاعر وهذا رد على من زعم أن الله لا يعذب على الشك والله أعلم.(11/214)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
سورة فاطر
(وتسمى سورة الملائكة، وهي خمس أو ست وأربعون آية وهي مكية).
قال القرطبي: في قول الجميع، وأخرج البخاري وغيره عن ابن عباس: أنزلت سورة فاطر بمكة، وهذه السورة ختام السورة المفتتحة بالحمد التي فصلت فيها النعم الأربع التي هي أمهات النعم المجموعة في الفاتحة، وهي الإيجاد الأول، ثم الإبقاء الأول، ثم الإيجاد الثاني المشار إليه بسورة سبأ، ثم الإبقاء الثاني الذي هو أنهاها وأحكمها، وهو الختام المشار إليه بهذه السورة المفتتحة بالابتداء، قاله الخطيب.(11/215)
بسم الله الرحمن الرحيم
الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2) يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (3)(11/217)
الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1)
(الحمد لله فاطر السموات والأرض) أي خالقهما ومبدعهما على غير مثال سبق، وعلى غير مادة كذا قال المفسرون، والظاهر أن هذا ليس من معنى الفطر لغة، وإنما أخذوه من المعنى وسياق الكلام، وأصل الفطر في اللغة الشق عن الشيء مطلقاً، يقال: فطرته فانفطر ومنه فطر ناب البعير إذا طلع فهو بعير فاطر، وتفطر الشيء تشقق، وقيل: الشق طولاً فكأنه شق العدم بإخراجهما منه، وبابه نصر كما في المختار، والفطر أيضاًً الابتداء والاختراع، وهو المراد هنا.
عن ابن عباس قال: كنت لا أدري ما فاطر حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر فقال أحدهما: أنا فطرتها، يقول ابتدأتها وعنه الفاطر البديع، والمعنى: الحمد لله مبدع السموات والأرض ومخترعهما، والمقصود من هذا إن من قدر على ابتداء هذا الخلق العظيم فهو قادر على الإِعادة وإنما حمد سبحانه وتعالى نفسه بذلك تعظيماً له وتعليماً لعباده كيفية الثناء عليه تعالى، قرىء فاطر على صيغة اسم الفاعل، وفطر على صيغة الفعل الماضي.
(جاعل الملائكة رسلاً) إلى عبادة يجوز فيه الوجهان كما تقدم والرسل من الملائكة هم: جبريل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل (1) فالمراد
_________
(1) سبق الإشارة أنه لم يرو في الأحاديث تسمية عزرائيل.(11/217)
بالملائكة بعضهم إذ ليس كلهم رسلاً كما هو معلوم، صرح الطيبي بأن جاعل هنا للاستمرار فباعتبار أنه يدل على المضي يصلح كونه صفة للمعرفة، وباعتبار أنه يدل على الحال والاستقبال يصلح للعمل. وقرىء: رسْلاً بسكون السين، هي لغة تميم، قال يحيى بن سلام: يرسلهم الله إلى الأنبياء يبلغون إليهم رسالاته بالوحي والإلهام والرؤيا الصادقة، وقال السدي: إلى العباد بنعمة أو نقمة أو يوصلون إليهم آثار صنعته.
(أولي) أي ذوي اسم جمع لذو (أجنحة) جمع جناح نعت لرسلاً وهو جيد لفظاً لتوافقهما تنكيراً، أو للملائكة وهو جيد معنى إذ كل الملائكة لها أجنحة، فهي صفة كاشفة، والمسوغ للتخلف في التعريف جعل أل جنسية.
(مثنى وثلاث ورباع) صفات لأجنحة والقصد بها التكثير واختلافهم في عدد الأجنحة لا الحصر، وإلا فبعضهم له ستمائة وغير ذلك، وإنما لم تنصرف لتكرر العدل فيها، وذلك أنها عدلت عن ألفاظ الأعداد عن صيغ إلى صيغ أُخر كما عدل عمر عن عامر وعن تكرير إلى غير تكرير، وقيل للعدل والوصف والتعويل عليه، وقد تقدم الكلام عليها في النساء. قال قتادة: بعضهم له جناحان وبعضهم له ثلاثة، ولعل الثالث يكون في وسط الظهر بين الجناحين يمدهما بقوة وبعضهم له أربعة ينزلون بها من السماء إلى الأرض، ويعرجون بها من الأرض إلى السماء. أقول: الأصل جناحان لأنهما بمنزلة اليدين، ثم الثالث والرابع زيادة على الأصل، وذلك أقوى للطيران وأعون عليه (1).
(يزيد في الخلق ما يشاء) مستأنفة مقررة لما قبلها من تفاوت أحوال الملائكة والمعنى أنه يزيد في خلق الملائكة والأجنحة ما يشاء، وهو قول أكثر المفسرين، واختاره الفراء والزجاج قال ابن مسعود: رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - جبريل في صورته له ستمائة جناح، وقيل إن هذه الزيادة في الخلق غير خاصة بالملائكة، فقال الزهري وابن جريج: إنها حسن الصوت، وقال قتادة:
_________
(1) لا نملك إلا الوقوف عند وصف القرآن الكريم للملائكة دون تصور معين له، فكل تصور قد يخطىء، والاجتهاد في هذا نوع من الرجم بالغيب بدون دليل.(11/218)
الملاحة في العينين، والحسن في الأنف والحلاوة في الفم، وقيل الوجه الحسن وقيل الخط الحسن، وقيل الشعر الجعد، وقيل العقل والتمييز، وقيل العلوم والصنائع، وقيل الصوت الحسن وجودة العقل ومتانته.
ولا وجه لقصر ذلك على نوع خاص، بل يتناول كل زيادة في الخلق من طول قامة، واعتدال صورة، وتمام في الأعضاء، وقوة في البطش، وحصافة في العقل، وجزالة في الرأي، وجراءة في القلب، وسماحة في النفس، ولباقة في التكلم وحسن تأن في مزاولة الأمور، وذلاقة في اللسان، ومحبة في قلوب المؤمنين وما أشبه ذلك مما لا يحيط به الوصف، وبه قال الزمخشري (إن الله على كل شيء قدير) تعليل لما قبله من أنه يزيد في الخلق ما يشاء.(11/219)
مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2)
(ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها) أي ليس لك من الأمر شيء فما يأتيهم الله به من مطر ورزق ونعمة وصحة وأمن وعلم وحكمة إلى غير ذلك مما لا يحاط به لا يقدر أحد أن يمسكه.
قال ابن عباس: ما يفتح الله للناس من باب توبة فلا ممسك لها، هم يتوبون إن شاءوا وإن أبوا، وما أمسك من باب توبة فلا مرسل له من بعده، وهم لا يتوبون، واستعير الفتح للإِطلاق والإِرسال إيذاناً بأنها أنفس الخزائن التي يتنافس فيها المتنافسون، وأعزها منالاً، وتنكير الرحمة للإشاعة والإِبهام كأنه قيل: أي رحمة كانت سماوية أو أرضية والعموم مفهوم من اسم الشرط ومن رحمة بيان لذلك العام من أي صنف هو وهو مما اجتزي فيه بالنكرة المفردة عن الجمع المعرف المطابق في العموم لاسم الشرط وتقديره من الرحمات، ومن في موضع الحال، وقيل: المعنى إن الرسل بعثوا رحمة للناس، فلا يقدر على إرسالهم غير الله، وقيل: هو الدعاء وقيل التوبة وقيل التوفيق والهداية ولا وجه لهذا التخصيص بل المعنى كل ما يفتحه الله للناس من خزائن رحمته فيشمل كل نعمة ينعم الله بها على خلقه.
(وما يمسك) من ذلك (فلا مرسل له من بعده) أي لا يقدر أحد(11/219)
أن يرسله من بعد إمساكه والإمساك يتناول كل شيء يمنعه الله من نعمه فهو سبحانه المعطي المانع القابض الباسط لا معطي سواه، ولا منعم غيره (وهو العزيز الحكيم) فيما أمسك وفيما أرسل على مقتضى حكمته، ثم أمر الله سبحانه عباده أن يتذكروا نعمه الفائضة عليهم التي لا تعد ولا تحصى، كما قال: (وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها) فقال:(11/220)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (3)
(يا أيها الناس اذكروا نعمة الله عليكم) قيل: الخطاب لأهل مكة ونعمة الله عليهم إسكانهم الحرم ومنع الغارات عنهم، وقيل: لجميع الناس، ونعمة الله عليهم هي التي تقدمت من بسط الأرض كالمهاد، ورفع السماء بلا عماد، وإرسال الرسل لبيان السبيل دعوة إليه، وزلفة لديه، والزيادة في الخلق، وفتح أبواب الرزق، ومعنى هذا الذكر هو إرشادهم إلى الشكر لاستدامتها وطلب المزيد منها، ليس المراد ذكرها باللسان فقط، ولكن المراد ذكرها به وبالقلب، أي لا تنسوها، والنعمة هنا بمعنى الإنعام، وعليه درج الجلال. وقيل: إنها بمعنى النعم به، ثم نبه على رأس النعم وهو اتحاد المنعم بقوله:
(هل من خالق غير الله) من زائدة مؤكدة أي لا خالق إلا الله سبحانه وهو استفهام تقرير وإنكار وتوبيخ (يرزقكم من السماء والأرض) خبر المبتدأ أو جملة مستأنفة أو صفة أخرى لخالق وخبره محذوف، والرزق من السماء بالمطر، ومن الأرض بالنبات وغير ذلك.
(لا إله إلا هو) مستأنفة مسوقة لتقرير النفي المستفاد من الاستفهام (فأنى تؤفكون) أي فكيف تصرفون وهو مأخوذ من الإفك بالفتح وهو الصرف يقال: ما أفكك عن كذا أي ما صرفك عنه.
وقيل: هو مأخوذ من الإفك بالكسر وهو الكذب، لأنه مصروف عن الصدق، قال الزجاج: أي من أين يقع لكم الإفك والتكذيب بتوحيد الله والبعث وأنتم مقرون بأن الله خلقكم ورزقكم؟ ثم عزى الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - فقال:(11/220)
وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (4) يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (5) إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ (6) الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (7) أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (8)(11/221)
وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (4)
(وإن يكذبوك فقد كذبت رسل من قبلك) ليتأسىّ بمن قبله من الأنبياء ويتسلى عن تكذيب كفار العرب له، ولهذا نكّر " رسلاً " أي: رسل ذوو عدد كثير، وأولو آيات ونذر، وأهل أعمار طوال، وأصحاب صبر وعزم، لأنه أسلى له، وجواب الشرط محذوف أي فاصبر كما صبر وأدل عليه قوله: فقد كذبت الخ.
(وإلى الله) لا إلى غيره (ترجع الأمور) فيجازي كُلاَّ بما يستحقه قرىء: ترجع بفتح التاء على البناء للفاعل وبضمها على البناء للمفعول.(11/221)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (5)
(يا أيها الناس إن وعد الله) بالبعث والنشور والحساب والعقاب والجنة والنار (حق) كما أشير إليه بقوله: وإلى الله ترجع الأمور (فلا تغرنكم الحياة الدنيا) بزخرفها ونعيمها، والمراد نهيهم عن الاغترار بها وإن توجه النهي صورة إليها كما في قولهم: بعين ما لا أرينك ههنا. قال سعيد بن جبير: غرور الحياة الدنيا أن يشتغل الإنسان بنعيمها ولذاتها عن عمل الآخرة حتى يقول: يا ليتني قدمت لحياتي والمعنى لا تخدعنكم الدنيا، ولا يذهلنكم التمتع بها، والتلذذ بمنافعها عن العمل للآخرة، وطلب ما عند الله تعالى.(11/221)
(ولا يغرنكم بالله) في حلمه وإمهاله (الغرور) بفتح الغين أي المبالغ في الغرور وهو الشيطان قاله ابن السكيت وأبو حاتم.
ويجوز أن يكون مصدراً واستبعده الزجاج لأن غررته متعد ومصدر المتعدي إنما هو على فعل نحو ضربته ضرباً، إلا في أشياء يسيرة معروفة لا يقاس عليها، ومعنى الآية: لا يغرنكم الشيطان بالله فيقول لكم إن الله يتجاوز عنكم ويغفر لكم بفضله عليكم، أو لسعة رحمته لكم، وقرىء بضم الغين وهو الباطل، قال ابن السكيت: والغرور بالضم ما يغر من متاع الدنيا وقال الزجاج: يجوز أن يكون الغرور بالضم جمع غار مثل قاعد وقعود، قيل: ويجوز أن يكون مصدر غره كاللزوم والنهوك، وفيه ما تقدم عن الزجاج من الاستبعاد، ثم حذر سبحانه عباده من الشيطان فقال:(11/222)
إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ (6)
(إن الشيطان لكم عدو) ظاهر العداوة فعل بأبيكم ما فعل، وأنتم تعاملونه معاملة من لا علم له بأحواله والتنكير للتعظيم أي عدو عظيم لأن عداوته عامة قديمة، والعموم يفهم من قوله: لكم حيث لم يخص ببعض دون بعض، والقدم من الجملة الاسمية الدالة على الاستمرار.
(فاتخذوه عدواً) أي فعادوه بطاعة الله ولا تطيعوه في معاصي الله، وكونوا على حذر منه في جميع أحوالكم وأفعالكم وعقائدكم عن صميم قلوبكم وإذا فعلتم فعلاً فتفطنوا له فإنه ربما يدخل عليكم فيه الرياء ويزين لكم القبائح قال القشيري: ولا يتعزى على عداوته إلا بدوام الاستعانة بالرب، فإنه لا يغفل عن عداوتكم فلا تغفلوا أنتم عن مولاكم لحظة. ذكره الخطيب، ثم بين الله سبحانه لعباده كيفية عداوة الشيطان لهم وحذرهم عن طاعته فقال:
(إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير) أي إنما يدعو أشياعه وأتباعه والمطيعين له إلى معاصي الله سبحانه لأجل أن يكونوا من أهل النار(11/222)
واللام للتعليل ومحل الموصول في قوله(11/223)
الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (7)
(الذين كفروا) الرفع على الابتداء وقوله:
(لهم عذاب شديد) خبره أو الرفع على البدل من فاعل يكونوا أو النصب على البدل من حزبه أو الجر على البدل من أصحاب، والرفع على الابتداء أقوى الوجوه لأنه سبحانه بعد ذكر عداوة الشيطان ودعائه لحزبه ذكر حال الفريقين من المطيعين له والعاصين عليه، فالفريق الأول قال: لهم عذاب شديد، والفريق الثاني قال فيه:
(والذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة وأجر كبير) أي يغفر الله لهم بسبب الإيمان والعمل الصالح ويعطيهم أجراً كبيراً وهو الجنة، قال ابن جريج: كل شيء في القرآن لهم مغفرة وأجر كبير ورزق كريم فهو الجنة.(11/223)
أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (8)
(أفمن زين له سوء عمله فرآه حسناً) هذه الجملة مستأنفة لتقرير ما سبق من ذكر التفاوت بين عاقبتي الفريقين ومن في موضع رفع بالابتداء وخبره محذوف. قال الكسائي: والتقدير ذهبت نفسك عليهم حسرات. قال: ويدل عليه قوله فلا تذهب الخ. قال: وهذا كلام عربي ظريف لا يعرفه إلا القليل وقال الزجاج: تقديره كمن هداه، وقدره غيرهما كمن لم يزين له، وهذا أولى لموافقته لفظاً ومعنى، وقد وهم صاحب الكشاف فحكى عن الزجاج ما قاله الكسائي. قال النحاس: والذي قاله الكسائي أحسن ما قيل في الآية لما ذكره من الدلالة على المحذوف، والمعنى أن الله عز وجل نهى نبيه صلى الله عليه وآله وسلم عن شدة الاغتمام بهم والحزن عليهم كما قال: فلعلك باخع نفسك قبل التقدير: أفمن زين الخ تريد أن تهديه إنما ذلك إلى الله لا إليك والذي إليك هو التبليغ.
وقال قتادة والحسن: الشيطان زين لهم هي والله الضلالات وقيل نفسه الأمارة وهواه القبيح، وهو من إضافة الصفة للموصوف أي عمله السىء قال(11/223)
ابن عباس: نزلت في أبي جهل ومشركي مكة، وقيل: نزلت في أصحاب الأهواء والبدع ومنهم الخوارج الذين يستحلون دماء المسلمين وأموالهم، وليس أصحاب الكبائر من الذنوب منهم لأنهم يعتقدون تحريمها مع ارتكابهم إياها.
(فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء) مقررة لما قبلها ومحققة للحق ببيان أن الكل بمشيئته أي يضل من يشاء أن يضله ويهدي من يشاء أن يهديه وهذه الآية ترد على القدرية قولهم.
(فلا تذهب نفسك عليهم حسرات) أي لا تحزن عليهم. قرىء: بفتح الفوقية والهاء مسنداً إلى النفس فيكون من باب لا أرينك ههنا أي لا تتعاط أسباب ذلك، وقرىء بضم التاء وكسر الهاء ونصب نفسك أي فلا تهلكها عليهم أي على عدم إيمانهم.
وقوله حسرات مفعول لأجله والجمع للدلالة على تضاعف اغتمامه على كثرة قبائحهم الموجبة للتأسف والتحسر عليهم، ويجوز أن ينتصب حسرات على الحال كأنها صارت كلها حسرات لفرط التحسر، كما روي عن سيبويه، وقال المبرد: إنها تمييز، وعليهم صلة لتذهب كما يقال: هلك عليه حباً، ومات عليه حزناً والحسرة شدة الحزن وهم النفس على ما فات من الأمر وأشد التلهف على الشيء الفائت، تقول: حسر على الشيء من باب طرب وحسره أيضاًً فهو حسير.
(إن الله عليم بما يصنعون) لا تخفى عليه من أفعالهم وأقوالهم خافية؛ والجملة تعليل لما قبلها مع ما تضمنته من الوعيد الشديد، ثم أخبر سبحانه عن نوع من أنواع بديع صنعه وعظيم قدرته ليتفكروا في ذلك وليعتبروا به فقال:(11/224)
وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ (9) مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ (10) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (11)(11/225)
وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ (9)
(والله الذي أرسل الرياح) قرأ الجمهور بالجمع وقرىء: الريح بالأفراد وهي سبعية عن ابن مسعود قال: يقوم ملك بالصور بين السماء والأرض فينفخ فيه فلا يبقى خلق الله في السموات والأرض إلا من شاء الله إلا مات ثم يرسل الله من تحت العرش منياً كمني الرجال فتنبت أجسامهم ولحومهم من ذلك الماء كما تنبت الأرض من الثرى، ثم قرأ هذه الآية:
(فتثير سحاباً (1)) جاء بالمضارع بعد الماضي استحضاراً لتلك الصورة البديعة الدالة على كمال القدرة والحكمة لأن ذلك أدخل في اعتبار المعتبرين. والمعنى: أنها تزعجه وتحركه من حيث هو.
(فسقناه) فيه التفات عن الغيبة، وقال أبو عبيدة: سبيله فتسوقه لأنه قال: فتثير سحاباً. قيل: النكتة في التعبير بالماضيين بعد المضارع الدلالة على التحقق
_________
(1) هذه الآية قطعية في أن المطر من السحاب وأن الرياح هي التي تسوقه بأمره تعالى إلى إحياء الموات من الأرض والآية معجزة كونية لأن ما ثبت بها في عصر كان أهله يظنون المطر ينزل من سقف السماء من غرابيل إلى غير ذلك من خرافات وأساطير أدخلها وهب بن منبه وكعب الأحبار ومن إليهما فبيانها الواضح يرد خبث المغترين. المطيعي.(11/225)
(إلى بلد) هو يذكر ويؤنث والبلدة البلد (ميت) أي أرض ليس بها نبات ولا مرعى. قال المبرد: ميت وميت واحد، وقال: هذا قول البصريين.
(فأحيينا به الأرض) أي أحيينا بالمطر النازل منه الأرض بإنبات النبات فيها، وإن لم يتقدم ذكر المطر فالسحاب يدل عليه، أو أحيينا بالسحاب لأنه سبب المطر (بعد موتها) أي بعد يبسها استعار الأحياء للنبات والموت لليبس.
(كذلك النشور) أي كذلك يحيي الله العباد بعد موتهم كما أحيا الأرض بعد موتها والنشور والبعث من نشر الإنسان نشوراً أي مثل إحياء موات الأرض في صحة المقدور به وسهولة التأتي إحياء الأموات إذ ليس بينهما إلا احتمال اختلاف المادة في المقيس عليه، وذلك لا مدخل له فيها فكيف تنكرونه؟، وقد شاهدتم غير مرة ما هو مثله وشبيه به.
عن أبي رزين العقيلي قال: قلت: " يا رسول الله كيف يحيي الله الموتى؟ قال أما مررت بأرض مجدبة ثم مررت بها مخصبة تهتز خضراء؟ قلت: بلى، قال: كذلك يحيي الله الموتى، وكذلك النشور ". أخرجه أحمد والبيهقي والطيالسي وغيرهم.(11/226)
مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ (10)
(مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا) فليطلبها منه لا من غيره قال الفراء: معناه من كان يريد أن يعلم لمن العزة فإنها لله جميعاً، وقال قتادة: من كان يريد العزة فليتعزز بطاعة الله، فجعل معنى لله العزة الدعاء إلى طاعة من له العزة كما يقال: من أراد المال فالمال لفلان، أي فليطلبه من عنده، وقال الزجاج: تقديره من كان يريد بعبادة الله العزة فالعزة له سبحانه، فإن الله عز وجل يعزه في الدنيا والآخرة.
وقيل: المراد به المشركون فإنهم كانوا يتعززون بعبادة الأصنام كقوله: (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا)، وقيل: المراد الذين كانوا(11/226)
يتعززون بهم من الذين آمنوا بألسنتهم الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين أيبتغون عندهم العزة؟ والظاهر في معنى الآية: أن من كان يريد العزة ويطلبها فليطلبها من الله عز وجل فلله العزة جميعاً ليس لغيره منها شيء، فتشمل الآية كل من طلب العزة، ويكون المقصود بها التنبيه لذوي الأقدار والهمم من أين تنال العزة وتستحق، ومن أي جهة تطلب فتكون الألف واللام للاستغراق، وهو المفهوم من آيات هذه السورة.
(إليه) تعالى لا إلى غيره (يصعد الكلم الطيب) الصعود هو الحركة إلى فوق وهو العروج أيضاًً وموضع الثواب فوق، وموضع العذاب أسفل، ومعنى صعوده إليه قبوله له، أو صعود الكتبة من الملائكة بما يكتبونه من الصحف، وخص الكلم الطيب بالذكر لبناء الثواب عليه، وهو يتناول كل كلام يتصف بكونه طيباً من ذكر الله وأمر بمعروف ونهي عن منكر وتلاوة وغير ذلك، فلا وجه لتخصيصه بكلمة التوحيد أو بالتحميد والتمجيد، وقيل: المراد بصعوده صعوده إلى سماء الدنيا، وقيل: يصعد إلى سمائه والمحل الذي لا يجري فيه لأحد غيره حكم، وفيه دليل على علوّه تعالى فوق الخلق وكونه بائناً عنه بذاته الكريمة، كما تدل له الآيات الأخرى الصريحة والأحاديث المستفيضة الصحيحة، وقيل: المراد بصعوده علم الله به والأولى ما ذكرناه آنفاً.
(والعمل الصالح يرفعه) أي يرفع الكلم الطيب كما قال الحسن وشهر ابن حوشب وسعيد بن جبير ومجاهد وقتادة وأبو العالية والضحاك، ووجهه: أنه لا يقبل الكلم الطيب إلا مع العمل الصالح. وقيل: إن فاعل يرفعه هو الكلم الطيب، ومفعوله العمل الصالح، ووجهه أن العمل الصالح لا يقبل إلا مع التوحيد والإيمان، وقيل: إن فاعل يرفعه ضمير يعود إلى الله عز وجل، والمعنى أن الله يرفع العمل الصالح على الكلم الطيب، لأن العمل(11/227)
يحقق الكلام، وقيل: العمل الصالح يرفع صاحبه وهو الذي أراد العزة، وقال قتادة: المعنى أن الله يرفع العمل الصالح لصاحبه أي يقبله فيكون قوله والعمل الصالح مبتدأ وخبره يرفع، وكذا على قول من قال يرفع صاحبه، قرأ الجمهور يصعد من صعد الثلاثي، والكلم بالرفع على الفاعلية، وقرأ علي وابن مسعود يصعد بضم حرف المضارعة من أصعد، والكلم بالنصب على المفعولية، وقرأ الضحاك على البناء للمفعول وقرأ الجمهور الكلم وقرأ أبو عبد الرحمن الكلام وقرأوا العمل بالرفع على العطف أو على الابتداء وقرأ ابن أبي عبلة وعيسى بن عمر بالنصب على الاشتغال.
وعن ابن مسعود في الآية قال: " إذا حدثناكم بحديث أتيناكم بتصديق ذلك من كتاب الله سبحانه إن العبد المسلم إذا قال: سبحان الله وبحمده والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر وتبارك الله قبض عليهن ملك فضمهن تحت جناحه، ثم يصعد بهن إلى السماء فلا يمر بهن على جمع من الملائكة إلا استغفر لقائلهن حتى يحيي بهن وجه الرحمن، ثم قرأ: إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه، قال: أداء الفرائض فمن ذكر الله في أداء فرائضه حمل عمله ذكر الله فصعد به إلى الله، ومن ذكر الله ولم يؤد فرائضه رد كلامه على عمله، وكان عمله أولى به ". أخرجه الطبراني والبيهقي والحاكم وصححه وغيرهم.
(والذين يمكرون السيئات) ليس مفعولاً به لأن مكر لازم فانتصابه على أنه صفة لمصدر محذوف أي يمكرون المكرات السيئات ويجوز أن يضمن يمكرون معنى يكسبون فيكون السيئات مفعولاً به. قال مجاهد وقتادة: هم أهل الربا.
وقال أبو العالية: هم الذين مكروا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - لما اجتمعوا في دار الندوة. وقال الكلبي: هم الذين يعملون السيئات في الدنيا. وقال مقاتل: هم المشركون (لهم عذاب شديد) أي بالغ الغاية في الشدة.(11/228)
(ومكر أولئك هو يبور) أي يهلك ويفسد ويبطل ومنه: وكنتم قوماً بوراً، وقد أبارهم الله إبارة بسبب مكرانهم، حيث أخرجهم من مكة وقتلهم وأثبتهم في قليب، فجمع عليهم مكراتهم الثلاث التي اكتفوا في حقه بواحدة منها، والمكر في الأصل الخديعة والاحتيال والإشارة بقوله " أولئك " إلى الذين مكروا السيئات على اختلاف الأقوال في تفسير مكرهم وجملة هو يبور خبر مكر أولئك ووضع اسم الإشارة موضع ضميرهم للإيذان بكمال تميزهم بما هم عليه من الشر والفساد عن سائر المفسدين. واشتهارهم بذلك، ثم ذكر سبحانه دليلاً آخر على صحة البعث والنشور فقال:(11/229)
وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (11)
(والله خلقكم) ابتداء في ضمن خلق أبيكم آدم (من تراب) وقال قتادة: يعني آدم والتقدير على هذا خلق أباكم الأول وأصلكم الذي ترجعون إليه من تراب.
(ثم من نطفة) أخرجها من ظهر أبيكم (ثم جعلكم أزواجاً) أي زوج بعضكم ببعض فالذكر زوج الأنثى أو جعلكم أصنافاً ذكراناً وإناثاً (وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه) أي لا يكون حمل ولا وضع إلا والله عالم به فلا يخرج شيء من علمه وتدبيره، ومن زائدة.
(وما يعمّر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب) قرىء ينقص مبنياً للمفعول وللفاعل ومن عمره بضم الميم وبسكونها والمعنى ما يطول عمر أحد ولا ينقص من عمره إلا في اللوح المحفوظ، قال الفراء: يريد آخر غير الأول فكنى عنه بالضمير، كأنه الأول لأن لفظ الثاني لو ظهر كان كالأول كأنه قال: ولا ينقص من عمر معمر فالكناية في عمره ترجع إلى آخر غير الأول، ومثله قولك: عندي درهم ونصفه، أي نصف آخر، قيل: إنما سمى معمراً باعتبار مصيره إليه والمعنى ما يمد في عمر أحد ولا ينقص من عمر أحد لكن لا على معنى: ولا ينقص من عمره بعد كونه زائداً، بل على معنى أنه لا يجعل من الابتداء ناقصاً إلا وهو في كتاب. قال سعيد بن(11/229)
جبير وما يعمر من معمر إلا كتب عمره كم هو سنة؟ كم هو شهراً؟ كم هو يوماً؟ كم هو ساعة؟ ثم يكتب في كتاب آخر نقص من عمره ساعة، نقص من عمره يوم، نقص من عمره شهر، نقص من عمره سنة، حتى يستوفي أجله فما مضى من أجله فهو النقصان، وما يستقبل فهو الذي يعمره.
قال النسفي: هذا من الكلام المتسامح فيه ثقة في تأويله بأفهام السامعين واتكالاً على تسديدهم معناه بعقولهم، وأنه لا يلتبس عليهم إحالة الطول والقصر في عمر واحد، وعليه كلام الناس يقولون: لا يثيب الله عبداً ولا يعاقبه إلا بحق، أو تأويل الآية أنه يكتب في الصحيفة عمره كذا كذا سنة، ثم يكتب في أسفل ذلك ذهب يوم، ذهب يومان، حتى يأتي على آخره، فذلك نقصان عمره انتهى. وقال قتادة: المعمر من بلغ ستين سنة والمنقوص من عمره من يموت قبل ستين، وقيل المعنى: أن الله كتب عمر الإنسان كذا إن أطاع ودونه إن عصى، فأيهما بلغ فهو في كتاب، والضمير على هذا يرجع إلى معمر، وقيل المعنى: وما يعمر من معمر إلى الهرم ولا ينقص آخر من عمر الهرم إلا في كتاب الله، أي بقضاء الله قاله الضحاك، واختاره النحاس قال وهو أشبهها بظاهر التنزل، والأولى أن يقال: ظاهر النظم القرآني أن تطويل العمر وتقصيره هما بقضاء الله وقدره لأسباب تقتضي التطويل، وأسباب تقتضي التقصير فمن أسباب التطويل ما ورد في صلة الرحم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثل قوله " من أحب أن يبسط له في رزقه، وينسأ له في أثره، أي يؤخر في عمره فليصل رحمه ". ونحو ذلك.
ومن أسباب التقصير: الاستكثار من معاصي الله سبحانه فإذا كان العمر المضروب للرجل مثلاً سبعين سنة فقد يزيد الله له عليها إذا فعل أسباب الزيادة وقد ينقصه منها إذا فعل أسباب النقصان والكل في كتاب مبين، فلا تخالف بين هذه الآية وبين قوله سبحانه: (فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون(11/230)
ساعة ولا يستقدمون) ويؤيد هذا قوله سبحانه: (يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب)، وقد قدمنا في تفسيرها ما يزيد ما ذكرنا هنا وضوحاً وبياناً.
قال ابن عباس في الآية يقول: ليس أحد قضيت له طول العمر والحياة إلا وهو بالغ ما قدرت له من العمر وقد قضيت له ذلك فإنما ينتهي إلى الكتاب الذي قدرت له لا يزاد عليه، وليس أحد قضيت عليه أنه قصير العمر والحياة ببالغ العمر، ولكن ينتهي إلى الكتاب الذي كتب له فذلك قوله: ولا ينقص من عمره إلا في كتاب، يقول: كل ذلك في كتاب عنده.
وأخرج أحمد ومسلم وأبو عوانة وابن حبان والطبراني وابن المنذر وابن أبي حاتم عن حذيفة بن أسيد الغفاري قال: " قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدخل الملك على النطفة بعد ما تستقر في الرحم بأربعين أو بخمس وأربعين ليلة، فيقول: أي رب أشقي أم سعيد؟ أذكر أم أنثى؟ فيقول الله ويكتبان، ثم يكتب عمله ورزقه وأجله وأثره ومصيبته، ثم تطوى الصحيفة فلا يزاد فيها ولا ينقص منها ".
وأخرج ابن أبيِ شيبة ومسلم والنسائي أبو الشيخ عن ابن مسعود قال قالت أم حبيبة: اللهم امتعني بزوجي النبي، وبأبي سفيان، وبأخي معاوية، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - " إنك سألت الله لآجال مضروبة، وأيام معدودة، وأرزاق مقسومة، ولن يعجل الله شيئاًً قبل حله أو يؤخر شيئاًً ولو كنت سألت الله أن يعيذك من عذاب في النار أو عذاب في القبر كان خيراً وأفضل ". وهذه الأحاديث مخصصة بما ورد من قبول الدعاء، وأنه يعتلج هو والقضاء، وبما ورد في صلة الرحم أنها تزيد في العمر فلا معارضة بين الأدلة كما قدمنا.
(إن ذلك) أي ما سبق من الخلق وما بعده (على الله يسير) لا يصعب عليه منه شيء، ولا يعزب عنه كثير ولا قليل، ولا كبير ولا صغير، ثم ذكر سبحانه نوعاً آخر من بديع صنعه، وعجيب قدرته، فقال:(11/231)
وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13)(11/232)
وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12)
(وما يستوي البحران هذا) أي أحدهما (عذب فرات) شديد العذوبة (سائغ شرابه) مريء يسهل انحداره في الحلق لعذوبته (وهذا ملح أجاج) شديد الملوحة، وقيل هو الذي يحرق الحلق بملوحته فالمراد بالبحرين: العذب والمالح، فالعذب الفرات: الحلو، والأجاج: المر، وقرىء سيغ مشدداً وقرىء ملح بفتح الميم، وقيل: المقصود من الآية ضرب مثل ضربه الله تعالى للمؤمن والكافر.
(ومن كل) منهما (تأكلون لحماً طرياً) وهو ما يصاد منهما من حيواناتهما التي تؤكل، وهذا وما بعد ذلك إما استطراداً في صفة البحرين وما فيهما من النعم والمنافع، وإما تكملة للتمثيل، والمعنى كما أنهما وإن اشتركا في بعض الفوائد لا يتساويان من حيث إنهما متفاوتان فيما هو المقصود بالذات من الماء، لما خالط أحدهما ما أفسده، وغيره عن كمال فطرته، كذلك لا يساوي الكافر المؤمن، وإن شاركه في بعض الصفات كالشجاعة والسخاوة ونحوهما لتباينهما فيما هو الخاصية العظمى لبقاء أحدهما على فطرته الأصيلة وحيازته لكماله اللائق دون الآخر، أو تفضيل للأجاج على الكافر من حيث إنه يشارك العذب في منافع كثيرة، والكافر(11/232)
خلو من المنافع بالكلية على طريقة قوله تعالى: (ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة) الخ. قاله أبو السعود.
(وتستخرجون حلية) وهي اللؤلؤ والمرجان، وهو صغار اللؤلؤ، وقال الطرطوشي: هو عروق حمر تطلع من البحر كأصابع الكف وهكذا شاهدناه بمغارب الأرض كثيراً انتهى. والظاهر أن المعنى وتستخرجون منهما حلية، وقال المبرد: إنما تستخرج الحلية من المالح، وروي عن الزجاج أنه قال: إنما تستخرج الحلية منهما إذا اختلطا لا من كل واحد منهما على انفراده ورجح النحاس قول المبرد، ومعنى.
(تلبسونها) تلبسون كل شيء منها بحسبه، كالخاتم في الأصبع، والسوار في الذراع، والقلادة في العنق والخلخال في الرجل، ومما يلبس حلية السلاح الذي يحمل كالسيف والدرع ونحوهما.
(وترى الفلك فيه) أي في كل واحد من البحرين، وقال النحاس: الضمير يعود إلى المالح خاصة ولولا ذلك لقال: فيهما (مواخر) يقال: مخرت السفينة تمخر إذا شقت الماء بجريها فيه فالمعنى: وترى السفن في البحرين شواق للماء. بعضها مقبلة وبعضها مدبرة، بريح واحدة، وقد تقدم الكلام على هذا في سورة النحل (لتبتغوا من فضله) أي فعل ذلك لتبتغوا، قال مجاهد ابتغاء الفضل هو التجارة في البحر إلى البلدان البعيدة في المدة القريبة كما تقدم في البقرة.
(ولعلكم تشكرون) الله على ما أنعم به عليكم من ذلك.(11/233)
يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13)
(يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل) أي يضيف بعض أجزائهما إلى الآخر فيزيد في أحدهما بالنقص في الآخر وقد تقدم تفسيره في آل عمران وفي مواضع من الكتاب العزيز.(11/233)
(وسخر الشمس والقمر) عطف على يولج واختلاف الصيغة لما أن إيلاج أحد الملوين في الآخر متجدد حيناً فحيناً وأما تسخير النيرين فأمر لا تجدد ولا تعدد فيه، وإنما المتعدد المتجدد آثاره.
(كل) منهما (يجري) في فلكه (لأجل مسمى) قدره الله لجريانهما وهو يوم القيامة، وقيل: هو المدة التي يقطعان في مثلها الفلك وهو سنة للشمس وشهر للقمر، وقيل: المراد به جري الشمس في اليوم والقمر في الليلة، وقد تقدم تفسير هذا مستوفى في سورة لقمان.
(ذلكم) أي الفاعل لهذه الأفعال المتقدمة من أول السورة إلى هنا وهو مبتدأ وخبره.
(الله ربكم له الملك) أي هذا الذي من صنعته ما تقدم هو الخالق المقدر والقادر والمقتدر المالك للعالم والمتصرف فيه، ويجوز أن يكون قوله: له الملك جملة مستقلة في مقابلة قوله:
(والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير) أي لا يقدرون عليه ولا على خلقه، والقطمير: القشرة الرقيقة التي تكون بين التمرة والنواة، وتصير على النواة كاللفافة لها، وقال المبرد: هو شق النواة، وقال قتادة هو القمع الذي على رأس النواة. قال الجوهري: ويقال هي النكتة البيضاء التي في ظهر النواة تنبت منها النخلة، وقال ابن عباس: القطمير القشر. وفي لفظ الجلد الذي يكون على ظهر النواة ومعلوم أن في النواة أربعة أشياء يضرب بها المثل في القلة: الفتيل وهو ما في شق النواة، والقطمير: وهو اللفافة، والثفروق: وهو ما بين القمع والنواة، والنقير: وهو ما في ظهرها. ثم بين سبحانه حال هؤلاء الذين يدعونهم من دون الله بأنهم لا ينفعون ولا يضرون فقال:(11/234)
إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14) يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (16) وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (17)(11/235)
إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14)
(إن تدعوهم) أي إن تستغيثوا بهم في النوائب (لا يسمعوا دعاءكم) لكونها جمادات لا تدرك شيئاًً من المدركات.
(ولو سمعوا) فرضاً وتقديراً (ما استجابوا لكم) لعجزهم عن ذلك. قال قتادة: المعنى ولو سمعوا لم ينفعوكم، وقيل المعنى لو جعلنا لهم سماعاً وحياة فسمعوا دعاءكم لكانوا أطوع لله منكم ولم يستجيبوا لكم إلى ما دعوتهم إليه من الكفر.
(ويوم القيامة يكفرون بشرككم) أي يتبرأون من عبادتكم لهم، ويقولون: ما كنتم إيانا تعبدون، ويجوز أن يرجع: والذين تدعون من دونه وما بعده إلى من يعقل ممن عبدهم الكفار، وهم الملائكة والجن والشياطين والمعنى: أنهم يجحدون أن يكون ما فعلتموه حقاً وينكرون أنهم أمروكم بعبادتهم كما أخبر الله عن عيسى بقوله: (ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق)، قال القرطبي: ويجوز أن يندرج فيه الأصنام أيضاًً أي: يحييها الله حتى تخبر بأنها ليست أهلاً للعبادة.
(ولا ينبئك مثل خبير) أي لا يخبرك أيها المفتون بأسباب الغرور مثل(11/235)
من هو خبير بالأشياء، عالم بخبايا الأمور، وهو الله سبحانه فإنه لا أحد أخبر بخلقه وأقوالهم وأفعالهم منه سبحانه، وهو الخبير بكنه الأمور وحقائقها ثم ذكر سبحانه افتقار خلقه إليه ومزيد حاجتهم إلى فضله فقال:(11/236)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15)
(يا أيها الناس أنتم الفقراء) المحتاجون (إلى الله) في جميع أمور الدين والدنيا فهم الفقراء إليه على الإطلاق في أنفسهم وفيما يعرض لهم من سائر الأمور وتعريف الفقراء للمبالغة في فقرهم، كأنهم لشدة افتقارهم وكثرة احتياجهم هم الفقراء، وأن افتقار سائر الخلائق بالإضافة إلى فقرهم غير معتدّ به ولذلك قال: (وخلق الإنسان ضعيفاً)، ولم يسمهم بالفقراء للتحقير بك للتعريض على الاستغناء، ولهذا وصف نفسه بالغنى الذي هو مطمع الأغنياء فقال:
(والله هو الغني) على الإطلاق (الحميد) المستحق للحمد من عباده بإحسانه إليهم ثم ذكر سبحانه نوعاً آخر من الأنواع التي يتحقق عندها افتقارهم إليه واستغناؤهم عنهم فقال:(11/236)
إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (16)
(إن يشأ يذهبكم) كلكم إلى العدم ويفنيكم وفيه بلاغة كاملة أي ليس إذهابكم موقوفاً إلا على مشيئته ثم زاد على بيان الاستغناء بقوله: (ويأت) بدلكم (بخلق جديد) يطيعونه ولا يعصونه أو يأت بنوع من أنواع الخلق، وعالم من العوالم غير ما تعرفون.(11/236)
وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (17)
(وما ذلك) الإذهاب بكم والإتيان بآخرين (على الله بعزيز) أي بممتنع ولا متعسر، وقد مضى تفسير هذا في سورة إبراهيم.(11/236)
وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (18) وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ (19) وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ (20) وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ (21) وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (22)(11/237)
وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (18)
(ولا تزر) أي ولا تحمل نفس (وازرة) آثمة (وزر) إثم نفس (أخرى) فحذف الموصوف للعلم به بل كل نفس تحمل وزرها ولا تخالف هذه الآية قوله: (وليحملن أثقالهم وأثقالاً مع أثقالهم)، لأنهم إنما حملوا أثقال إضلالهم مع أثقال ضلالهم، والكل من أوزارهم لا من أوزار غيرهم، ومثل هذا: حديث " من سنَّ سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة "، فإن الذي سن السنة السيئة إنما حمل وزر سنته السيئة، وقد تقدم الكلام على هذه الآية مستوفى وقد أخرج أحمد والترمذي وصححه والنسائي وابن ماجة عن عمرو بن الأحوص أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال في حجة الوداع: " ألا لا يجني جان إلا على نفسه، لا يجني والد على ولده، ولا مولود على والده ".
وأخرج أبو داود والترمذي والنسائي والبيهقي وغيرهم عن أبي رمثة قال: " انطلقت مع أبي نحو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلما رأيته قال لأبي: ابنك هذا؟ قال أي ورب الكعبة. قال: أما إنه لا يجني عليك ولا تجني عليه ". ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هذه الآية. قال ابن عباس: يلقى الأب والأم الابن فيقولان له: يا بني احمل عنا بعض ذنوبنا فيقول: لا أستطيع حسبي ما علي.
(وإن تدع مثقلة إلى حملها) قال الفراء: أي نفس مثقلة بالذنوب(11/237)
قال: وهذا يقع للمذكر والمؤنث. قال الأخفش: أي وإن تدع مثقلة إنساناً إلى حملها وهو ذنوبها. والحمل بالكسر ما يحمل على الظهر ونحوه، والجمع أحمال وحمول وحملت المتاع حملاً من باب ضرب فأنا حامل والأنثى حاملة بالتاء لأنها صفة مشتركة. قال ابن السكيت: الحمل بالفتح ما كان في البطن أو على رأس شجرة، والحمل بالكسر ما كان على ظهر أو رأس، قال الأزهري: وهذا هو الصواب وهو قول الأصمعي. وقال: امرأة حامل وحاملة إذا كانت حبلى.
(لا يحمل منه) أي من حملها (شيء) قال ابن عباس: لكونه عليه وزر لا يجد أحداً يحمل عنه من وزره شيئاًً (ولو كان ذا قربى) أي، ولو كان الذي تدعوه ذا قرابة لها لم يحمل من حملها شيئاًً، ومعنى الآية وإن تدع نفس مثقلة بالذنوب نفساً أخرى إلى حمل شيء من ذنوبها معها لم تحمل تلك المدعوة من تلك الذنوب شيئاًً، ولو كانت قريبة لها من النسب كالأب والأم والابن والأخ فكيف بغيرها ممن لا قرابة بينها وبين الداعية لها.
وقرىء: ذو قربى على أن كان تامة. كقوله: (وإن كان ذو عسرة)، قال الزمخشري: ونظم الكلام أحسن ملاءمة للناقصة لأن المعنى على أن المثقلة إذا دعت أحداً إلى حملها لا يحمل منه ولو كان مدعوها ذا قربى، وهو ملتئم. ولو قلت: ولو وجد ذو قربى لخرج عن التئامه اهـ.
(إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب) مستأنفة مسوقة لبيان من يتعظ بالإنذار، أي أنهم يخشونه حال كونهم غائبين عن عذابه، أو يخشون عذابه وهو غائب عنهم، ويخشونه في الخلوات عن الناس. قال الزجاج: تأويله أن إنذارك إنما ينفع الذين يخشون ربهم فكأنك تنذرهم دون غيرهم ممن لا ينفعهم الإنذار كقوله: (إنما أنت منذر من يخشاها)، وقوله: (إنما تنذر من اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب).
(وأقاموا الصلاة) أي احتفلوا بأمرها، ولم يشتغلوا عنها بشيء مما(11/238)
يلهيهم وأداموها (ومن تزكى فإنما يتزكى لنفسه) وقرىء من أزكى فإنما يزكى لنفسه، والتزكي: التطهر من أدناس الشرك والفواحش والمعنى أن من تطهر بترك المعاصي واستكثر من العمل الصالح فإنما يتطهر لنفسه لأن نفع ذلك مختص به كما أن وزر من تدنس لا يكون إلا عليه لا على غيره.
(وإلى الله المصير) لا إلى غيره، ذكر سبحانه أولاً: أنه لا يحمل أحد ذنب أحد، ثم ذكر ثانياً: أن المذنب إن دعا غيره وإن كان من قرابته إلى حمل شيء من ذنوبه لا يحمله، ثم ذكر ثالثاً: أن ثواب الطاعة مختص بفاعلها ليس لغيره منه شيء، ثم ضرب مثلاً للمؤمن والكافي وقد قرر ببيان التنامي أولاً بين ذاتيهما، وثانياً بين وصفيهما، وثالثاً بين مستقريهما، ودار بهما في الآخرة فقال:(11/239)
وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ (19)
(وما يستوي الأعمى) أي المسلوب حاسة البصر واستوى من الأفعال التي لا يكفي فيها واحد، فلو قلت استوى زيد لم يصح، فمن ثم لزم العطف على الفاعل، أو تعدده (والبصير) الذي له ملكة البصر فشبه الكافر بالأعمى وشبه المؤمن بالبصير، وقيل: مثل للجاهل والعالم.(11/239)
وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ (20)
(ولا) تستوي (الظلمات ولا النور) فشبه الباطل بالظلمات وشبه الحق بالنور، وقيل: إنما جمع الظلمات وأفرد النور لتعدد فنون الباطل، واتحاد الحق.(11/239)
وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ (21)
(ولا الظل ولا الحرور) بالفتح شدة حر الشمس وهو خلاف البرد يقال: حر اليوم والطعام يحر من باب تعب وحر حراً وحروراً من بابي ضرب وقعد لغة، والاسم: الحرارة، فهو حار وحرت النار تحر من باب تعب توقّدت واستعرت، والحرة بالفتح: أرض ذات حجارة سود والجمع حرار مثل كلبة وكلاب، والحرور على وزن رسول: الريح الحارة. قال الأخفش: لا يكون الحرور إلا مع شمس النهار، والسموم يكون بالليل، وقيل: عكسه. وقال رؤبة بن العجاج: الحرور يكون بالليل خاصة والسموم يكون بالنهار خاصة(11/239)
وقال الفراء: السموم لا يكون إلا بالنهار والحرور يكون فيهما. قال النحاس: وهذا أصح، وقال قطرب: الحرور: الحر، والظل: البرد، والمعنى أنه لا يستوي الظل الذي لا حر فيه ولا أذى، والحر الذي يؤذي قيل: أراد الثواب والعقاب، وسمي الحر حروراً مبالغة في شدة الحر، لأن زيادة البناء تدل على زيادة المعنى. وقال الكلبي: أراد بالظل الجنة، وبالحرور النار. وقال عطاء: يعني ظل الليل وشمس النهار ثم ذكر سبحانه تمثيلاً آخر للمؤمن والكافر، وهو أبلغ من الأول فقال:(11/240)
وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (22)
(وما يستوي الأحياء ولا الأموات) فشبه المؤمنين بالأحياء وشبه الكافرين بالأموات وهو أبلغ من الأول لكمال التنافي بين الحي والميت، ولذلك أعيد الفعل، وأما التنافي بين الأعمى والبصير فليس تاماً لإمكان اشتراكهما في كثير من الإدراكات.
وقال ابن قتيبة: الأحياء العقلاء والأموات الجهال. قال قتادة هذه كلها أمثال أي: كما لا تستوي هذه الأشياء كذلك لا يستوي الكافر والمؤمن، وقد زيدت (لا) في المواضع الثلاثة خمس مرات اثنتين في الأولى واثنتين في الثانية وواحدة في الثالثة. والكل لتأكيد نفي الاستواء فالزيادة شاملة لأصل زيادتهما كالأولى من الجملة الأولى ولتكريرها كالثانية منها.
(إن الله يسمع من يشاء) أن يسمعه من أوليائه الذين خلقهم لجنته، ووفقهم لطاعته، وهذا شروع في تسلية النبي صلى الله عليه وسلم. وتنتهي بقوله: فكيف كان نكير. والمراد من قوله: يسمع بها ويوصل من شاء وصوله وهدايته فيحييه بالإيمان.
(وما أنت بمسمع من في القبور) يعني الكفار الذين أمات الكفر قلوبهم، أي كما لا يسمع من مات كذلك لا يسمع من مات قلبه. قرىء: بتنوين مسمع وقطعه عن الإضافة وبإضافته.(11/240)
إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ (23) إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ (24) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (25) ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (26)(11/241)
إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ (23)
(إن أنت إلا نذير) أي ما أنت إلا رسول منذر ليس عليك إلا الإنذار والتبليغ وليس لك من الهدى شيء إنما الهدى والضلالة بيد الله عز وجل.(11/241)
إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ (24)
(إنا أرسلناك بالحق) أي محقين أو محقاً أو إرسالاً متلبساً بالحق أي بالهدى (بشيراً) بالوعد الحق (ونذيراً) بالوعيد الحق أو بشيراً لأهل الطاعة ونذيراً لأهل المعصية.
(وإن من أمة إلا خلا فيها نذير) أي ما من أمة من الأمم الماضية إلا مضى فيها نذير من الأنبياء ينذرها، والأمة الجماعة الكثيرة، وتقال لكل أهل عصر، والمراد هنا أهل العصر، واقتصر على ذكر النذير دون البشير لأنه ألصق بالمقام.
فإن قلت: كم من أمة في الفترة بين عيسى ومحمد - صلى الله عليه وسلم - لم يخل فيها نذير؟ قلت: إذا كانت آثار النذارة باقية لم تخل من نذير إلا أن تندرس وحين اندرست آثار نذارة عيسى عليه السلام بعث الله محمداً - صلى الله عليه وسلم -، وآثار نذارته باقية إلى يوم القيامة لأنه لا نبي بعده، فهل من مدّكر، وهذا يقتضي أن أهل الفترة مكلفون لبقاء آثار الرسل المتقدمة فيهم، وهو خلاف ما في شرح ابن حجر على الهمزية أن أهل الفترة من أهل الجنة وإن غيروا وبدلوا وعبدوا غير الله، لأنه لم يرسل إليهم رسولاً لأن من قبلهم من الرسل انتهت رسالته بموته إذ لم يعلم لأحد من الرسل استمرار رسالته بعد الموت إلا نبينا - صلى الله عليه وسلم -، فهم غير مكلفين بما يفعلونه ولو كان صورة معصية.(11/241)
لكن ورد النص بتعذيب بعض أهل الفترة كعمرو ابن لحي فيتلقى، ويعتقد فيمن ورد فيهم بخصوصهم، لا لأن ما فعلوه كفر بل لحكمة يعلمها الله تعالى لم نطلع عليها. انتهى ملخصاً. وحينئذ فالظاهر أنه لا يحصل الاتصال بين الآية وبين ما تقرر إلا بأن يلزم أن جملة العرب أمة ويصدق تقدم النذير فيها بتقدم إسماعيل وإن بني إسرائيل أمة، ويصدق تقدم النذير فيهم بتقدم عيسى ومن قبله فتأمل ثم سلى سبحانه نبيه - صلى الله عليه وسلم - وعزاه فقال:(11/242)
وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (25)
(وإن يكذبوك فقد كذب الذين من قبلهم) من الأمم الماضية أنبياءهم (جاءتهم رسلهم بالبينات) أي بالمعجزات الواضحة والدلالات الظاهرة (وبالزبر) أي الكتب المكتوبة كصحف إبراهيم وهي ثلاثون، وكصحف موسى قبل التوراة وهي عشرة. وكصحف شيت وهي ستون فجملة الصحف مائة تضم لها الكتب الأربعة فجملة الكتب المنزلة على الأنبياء مائة وأربعة. قاله الحفناوي.
(وبالكتاب المنير) كالتوراة والإنجيل، قيل: الكتاب المنير داخل تحت الزبر، وتحت البينات، والعطف لتغاير المفهومات وإن كانت متحدة في الصدق، والأولى تخصيص البينات بالمعجزات، والزبر بالكتب التي فيها مواعظ، والكتاب بما فيه شرائع وأحكام، وجواب الشرط محذوف، أي فاصبر كما صبروا، وأن المذكور دليل له.(11/242)
ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (26)
(ثم أخذت الذين كفروا) وضع الظاهر موضع المضمر يفيد التصريح بذمهم بما في حيز الصلة ويشعر بعلة الأخذ (فكيف كان نكير) الاستفهام تقريري كما قاله الكرخي، وينبغي أن يتأمل فيه، أي فكيف كان نكيري عليهم؟ وعقوبتي لهم؟ والنكير بمعنى الإنكار، وهو تغيير المنكر وقد مضى بيان هذا قريباً، ثم ذكر سبحانه نوعاً من أنواع قدرته الباهرة وخلقاً من مخلوفاته البديعة فقال:(11/242)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ (27) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28)(11/243)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ (27)
(ألم تر) والخطاب لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو لكل من يصلح له، وهذه الرؤية هي القلبية أي: ألم تعلم (أن الله أنزل من السماء ماء فأخرجنا به) أي بالماء يعني المطر، والنكتة في هذا الالتفات إظهار كمال العناية بالفعل، لما فيه من الصنع البديع، ولأن المنة بالإخراج أبلغ من إنزال الماء.
(ثمرات مختلفاً ألوانها) المراد بالألوان الأجناس والأصناف من الرمان والتفاح والتين والعنب وغيرها مما لا يحصر، أو هيئاتها أي بعضها أبيض، وبعضها أحمر، وبعضها أصفر، وبعضها أخضر وبعضها أسود، قال ابن عباس: أي الأبيض والأحمر والأسود.
(ومن الجبال جدد) الجدد جمع جدة بالضم وهي الطريق. قال: الأخفش ولو كان جمع جديد لقال: جدد بضم الجيم والدال نحو: سرير وسرر، وقرأ الزهري: جدد بضم الجيم والدال: جمع جديدة يقال جديدة وجدد وجدائد، وقال أبو الفضل: معناها آثار جديدة واضحة الألوان، وقرىء بفتحهما.
وقد رد أبو حاتم هذه القراءة من حيث النقل والمعنى وقد صححها غيره وقال الجدد: الطريق الواضح البين، وقيل الجدد: القطع مأخوذ من جددت الشيء إذا قطعته، حكاه ابن بحر. قال الجوهري: الجدة الخطة التي في ظهر الحمار تخالف لونه، والجدة الطريق، والجمع جدد وجدائد. قال(11/243)
المبرد: جدد طرائق وخطوط، قال الواحدي: ونحو هذا قال المفسرون في تفسير الجدد. وقال الفراء: هي الطرق تكون في الجبال كالعروق بيض وسود وحمر واحدها جدة.
(بيض وحمر) وصفر (مختلف ألوانها) بالشدة والضعف، والمعنى أن الله سبحانه أخبر عن جدد الجبال وهي طرائقها أو الخطوط التي فيها بأن لون بعضها البياض ولون بعضها الحمرة.
(وغرابيب سود) الغربيب الشديد السواد الذي يشبه لونه لون الغراب قال الجوهري: تقول هذا أسود غربيب، أي شديد السواد، وإذا قلت: غرابيب سود جعلت السود بدلاً من غرابيب، قال الفراء: في الكلام تقديم وتأخير، تقديره: وسود غرابيب لأنه يقال أسود غربيب، وقلما يقال: غربيب أسود، وقيل الغربيب تأكيد للأسود كالقاني للأحمر، ومن حق التوكيد أن يتبع المؤكد وإنما قدم للمبالغة والمعنى من الجبال جدد بيض وحمر ومن الجبال غرابيب على لون واحد وهو السواد، أو من الجبال جدد بيض وحمر وسود وقيل التقدير: ومن الجبال ذو جدد لأن الجدد إنما هي في ألوان بعضها.(11/244)
وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28)
(ومن الناس والدواب) وقرىء بتخفيف الباء (والأنعام) أي ومنهم نف أو نوع أو بعض.
(مختلف ألوانه) بالحمرة والسواد والبياض والخضرة والصفرة قال الفراء أي: خلق مختلف ألوانه كاختلاف الثمرات والجبال، وإنما ذكر سبحانه اختلاف الألوان في هذه الأشياء لأن هذا الاختلاف من أعظم الأدلة على قدرة الله وبديع صنعه.
(كذلك) أي مختلفاً مثل ذلك الاختلاف، والتقدير مختلف ألوانه اختلافاً كائناً كذلك أي كاختلاف الجبال والثمار، وقال ابن عطية: متعلق بما بعده أي مثل ذلك النظر والاعتبار في مخلوقات الله، واختلاف ألوانها (إنما يخشى(11/244)
الله من عباده العلماء)، وهو مردود بأن ما بعد إنما لا يعمل فيما قبلها، والراجح الوجه الأول والوقف على كذلك تام، ثم استأنف الكلام وأخبر سبحانه بقوله:
(إنما يخشى الله من عباده العلماء) وهو من تتمة قوله: (إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب) على معنى إنما يخشاه سبحانه بالغيب العالمون به، وبما يليق به من صفاته الجليلة وأفعاله الجميلة، وعلى كل تقدير فهو سبحانه قد عين في هذه الآية أهل خشيته، وهم العلماء به، وبعظيم قدرته قال مجاهد: إنما العالم من خشي الله عز وجل، ومثله عن الشعبي.
وقال مسروق: كفى بخشية الله علماً وكفى بالاغترار جهلاً، وعن ابن مسعود نحوه فمن كان أعلم بالله كان أخشاهم له. قال الربيع بن أنس: من لم يخش الله فليس بعالم، ووجه تقديم المفعول أن المقام مقام حصر الفاعلية ولو أخر لانعكس الأمر، وقرىء: برفع الاسم الشريف ونصب العلماء ورويت هذه القراءة عن أبي حنيفة. قال في الكشاف: الخشية في هذه القراءة استعارة، والمعنى أنه يجلهم ويعظهم كما يجل المهيب المخشي من الرجال بين الناس.
قال ابن عباس: العلماء بالله الذين يخافونه، وعنه قال: الذين يعلمون أن الله على كل شيء قدير، وعن ابن مسعود قال: ليس العلم من كثرة الحديث، لكن العلم من الخشية، وفي لفظ بكثرة الرواية وعن حذيفة بحسب المؤمن من العلم أن يخشى الله.
وعن عائشة قالت: صنع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئاًً فرخص فيه فتنزه عنه قوم فبلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - فخطب فحمد الله، ثم قال: " ما بال أقوام يتنزهون عن الشيء أصنعه فوالله إني لأعلمهم بالله وأشدهم له خشية " أخرجه البخاري ومسلم.
(إن الله عزيز غفور) تعليل لوجوب الخشية لدلالته على أنه معاقب لى معصيته غافر لمن تاب من عباده.(11/245)
إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ (29) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (30)(11/246)
إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ (29)
(إن الذين يتلون كتاب الله) أي يستمرون على تلاوته ويداومونها، الكتاب هو القرآن العظيم ولا وجه لما قيل: إن المراد به جنس كتب الله.
(وأقاموا الصلاة) أي فعلوها في أوقاتها مع كمال أركانها، وأذكارها، عن ابن عباس قال: نزلت في حصين بن الحرث بن عبد المطلب بن عبد مناف.
(وأنفقوا مما رزقناهم سراً وعلانية) فيه حث على الإنفاق كيفما تهيأ فإن تهيأ سراً فهو أفضل، وإلا فعلانية ولا يمنعه ظنه أن يكون رياء، فإن ترك الخير مخافة ذلك هو عين الرياء ويمكن أن يكون المراد بالسر الصدقة المطلقة. وبالعلانية الزكاة، وإليه أشار في التقرير قاله الكرخي. وقيل: السر في المسنونة والعلانية في المفروضة.
(يرجون تجارة) أي ثواب الطاعة (لن تبور) أي لن تكسد ولن تهلك والأخبار برجائهم لثواب ما عملوا بمنزلة الوعد بحصول مرجوهم واللام في قوله:(11/246)
لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (30)
(ليوفيهم أجورهم) متعلقة بلن تبور على معنى أنها لن تكسد لأجل أن نوفيهم أجور أعمالهم الصالحة ومثل هذه الآية قوله سبحانه: (فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله) وقيل إن اللام متعلقة بمحذوف دل عليه السياق أي فعلوا ذلك ليوفيهم ومعنى:
(ويزيدهم من فضله) أنه يتفضل عليهم بزيادة على أجورهم التي هي جزاء أعمالهم، قيل بتفسيح القبور أو بتشفيعهم فيمن أحسن إليهم، أو بتضعيف حسناتهم، أو بتحقيق وعد لقائه (إنه غفور شكور) تعليل لما ذكر من التوفية والزيادة، أي غفور لذنوبهم شكور لطاعاتهم.(11/246)
وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (31) ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32)(11/247)
وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (31)
(والذي أوحينا إليك من الكتاب) يعني القرآن وقيل اللوح المحفوظ على أن من تبعيضية أو ابتدائية (هو الحق مصدقاً لما بين يديه) أي موافقاً لما تقدمه من الكتب (إن الله بعباده لخبير بصير) أي محيط بجميع أمورهم الباطنة والظاهرة.(11/247)
ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32)
(ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا) إنما قدم المفعول الثاني لقصد التشريف والتعظيم للكتاب والمعنى ثم أورثنا الذين اصطفيناهم من عبادنا الكتاب، وهو القرآن، أي قضينا وقدرنا أن نورث العلماء من أمتك يا محمد هذا الكتاب الذي نزلناه عليك، فأورثنا استعارة تبعية سمى إعطاء الكتاب إياهم من غير كد وتعب في وصوله إليهم بتوريث الوارث.
و (من) للبيان أو للتبعيض، والمراد بعبادنا أمة الإجابة سواء حفظوه أو لا فهو عطية لجميعهم حتى من لم يحفظه لأنه قدوته، وفيه هدايته وبركته، ومعنى اصطفائهم: اختيارهم واستخلاصهم. ولا شك أن علماء هذه الأمة من الصحابة فمن بعدهم إلى يوم القيامة قد شرفهم الله على سائر العباد، وجعلهم أمة وسطاً ليكونوا شهداء على الناس، وأكرمهم بكونهم أمة خير الأنبياء وسيد ولد آدم عليه وعليهم الصلاة والسلام، وخصهم بحمل أفضل الكتب، قال مقاتل: يعني قرآن محمد جعلناه ينتهي إلى الذين اصطفيناهم من عبادنا، وقيل: إن المعنى أورثناه من الأمم السالفة أي أخرناه عنهم، وأعطيناه الذين اصطفينا، والأول أولى.(11/247)
ثم قسم سبحانه هؤلاء الذين أورثهم كتابه واصطفاهم من عباده إلى لاثة أقسام فقال:
(فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات) وفي قوله: (بإذن الله) تنبيه على عزة منال هذه الرتبة، وصعوبة مأخذها أي بأمره أو بعلمه، أو بتوفيقه (ذلك) أي توريث الكتاب والاصطفاء وقيل السبق إلى الخيرات، والأول أولى، وهو مبتدأ وخبره.
(هو الفضل الكبير) أي الفضل الذي لا يقادر قدره، وقد استشكل كثير من أهل العلم معنى هذه الآية لأنه سبحانه جعل هذا القسم الظالم لنفسه من ذلك المقسم، وهو من اصطفاهم من العباد فكيف يكون من اصطفاه الله ظالماً لنفسه، فقيل: إن التقسيم هو راجع إلى العباد أي فمن عبادنا ظالم لنفسه، وهو الكافر ويكون ضمير يدخلونها عائداً إلى المقتصد والسابق، وقيل: المراد بالظالم لنفسه هو المقصر في العمل به، وهو المرجى لأمر الله، وليس من ضرورة وراثة الكتاب مراعاته حق رعايته لقوله: فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب وهذا فيه نظر، لأن ظلم النفس لا يناسب الاصطفاء.
وقيل الظالم لنفسه هو الذي عمل الصغائر، وقد روي هذا القول عن عمر وعثمان وابن مسعود وأبي الدرداء وعائشة، وهذا هو الراجح لأن عمل الصغائر لا ينافي الاصطفاء، ولا يمنع من دخول صاحبه مع الذين يدخلون الجنة ووجه كونه ظالاً لنفسه أنه نقصها من الثواب بما فعل من الصغائر المغفورة له فإنه لو عمل مكان تلك الصغائر طاعات لكان لنفسه فيها من الثواب حظ عظيم وقيل الظالم هو صاحب الكبائر، قلت: ومنشأ الإشكال هو من جعل الوارثين هم العلماء من أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -، إذ لو جعلت الوراثة لجميع الأمة زال الإشكال للقطع بأن منهم ظالماً لنفسه، ولا ينافي الاصطفاء لكونهم فضلوا الأمم الآخرة، وقد ورد في ذلك شيء كثير كما لا يخفى ويؤيده ما سيأتي آخر البحث والله أعلم.(11/248)
وقد اختلف السلف في تفسير السابق والمقتصد فقال عكرمة وقتادة والضحاك: إن المقتصد المؤمن العاصي، والسابق التقي على الإطلاق وبه قال الفراء. وقال مجاهد في تفسير الآية: فمنهم ظالم لنفسه أصحاب المشأمة ومنهم مقتصد أصحاب الميمنة ومنهم سابق بالخيرات السابقون من الناس كلهم، وقال المبرد: إن المقتصد هو الذي يعطي الدنيا حقها والآخرة حقها.
وقال الحسن الظالم الذي ترجح سيئاته على حسناته، والمقتصد الذي استوت حسناته وسيئاته والسابق من رجحت حسناته على سيئاته، وقال مقاتل: الظالم لنفسه أصحاب الكبائر من أهل التوحيد، والمقتصد الذي لم يصب كبيرة والسابق الذي سبق إلى الأعمال الصالحة. وحكى النحاس: أن الظالم صاحب الكبائر، والمقتصد لم يستحق الجنة بزيادة حسناته على سيئاته فيكون قوله الآتي:(11/249)
جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (33)
(جنات عدن يدخلونها) للذين سبقوا بالخيرات لا غير. قال: وهذا قول جماعة من أهل النظر لأن الضمير في حقيقة النظر لما يليه أولى.
وقال الضحاك: فمنهم ظالم لنفسه أي من ذريتهم ظالم لنفسه وقال سهل بن عبد الله: السابق العالم والمقتصد المتعلم، والظالم لنفسه الجاهل. وقال ذو النون المصري: الظالم لنفسه الذاكر لله بلسانه فقط، والمقتصد الذاكر بقلبه والسابق الذي لا ينساه. وقال الأنطاكي: الظالم صاحب الأقوال والمقتصد صاحب الأفعال والسابق صاحب الأحوال. وقال ابن عطاء: الظالم الذي يحب الله من أجل الدنيا والمقتصد الذي يحب الله من أجل العقبى والسابق الذي أسقط مراده بمراد الحق.
وقيل: الظالم الذي يعبد الله خوفاً من النار والمقتصد الذي يعبده طمعاً في الجنة والسابق الذي يعبده لا لسبب. وقيل: الظالم الذي يحب نفسه، والمقتصد الذي يحب دينه، والسابق: الذي يحب ربه، وقيل: الظالم الذي ينتصف ولا ينصف، والمقتصد: الذي ينصف وينتصف، والسابق: الذي ينصف ولا ينتصف وقيل: الظالم هو المرجىء لأمر الله، والمقتصد هو الذي خلط عملاً صالحاً وآخر(11/249)
سيئاً.
قال النسفي: وهنا التأويل يوافق التنزيل فإنه تعالى قال: (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ) الآية، وقال بعده: (وآخرون اعترفوا بذنوبهم) الآية وقال بعده: وآخرون مرجون لأمر الله) انتهى.
وقال الربيع بن أنس: الظالم صاحب الكبائر، والمقتصد صاحب الصغائر، والسابق المجتنب لهما، وسئل أبو يوسف عن هذه الآية فقال كلهم مؤمنون وأما صفة الكفار فبعد هذا. وهو قوله: (والذين كفروا لهم نار جهنم)، وأما الطبقات الثلاث فهم الذين اصطفى من عباده وهم أهل الإيمان وعليه الجمهور، وقيل الظالم من كان ظاهره خيراً من باطنه والمقتصد الذي استوى ظاهره وباطنه، والسابق الذي باطنه خير من ظاهره. وقيل: الظالم التالي للقرآن ولم يعمل به، والمقتصد: التالي له العالم به والسابق القارىء له العالم به لعامل بما فيه.
وقد ذكر الثعلبي وغيره أقوالاً كثيرة ولا شك أن المعاني اللغوية للظالم والمقتصد والسابق معروفة، وهو يصدق الظلم للنفس بمجرد إحرامها للحظ وتفويت ما هو خير لها، فتارك الاستكثار من الطاعات قد ظلم نفسه باعتبار ما فوقها من الثواب وإن كان قائماً بما أوجب الله عليه تاركاً لما نهاه عنه.
فهو من هذه الحيثية ممن اصطفاه الله ومن أهل الجنة فلا إشكال في الآية، ومن هذا قول آدم عليه السلام (ربنا ظلمنا أنفسنا) وقول يونس (إني كنت من الظالمين) ومعنى المقتصد: هو من يتوسط في أمر الدين، ولا يميل إلى جانب الإفراط ولا إلى جانب التفريط، وهذا من أهل الجنة، وأما السابق: فهو الذي سبق غيره في أمور الدين وهو خير الثلاثة، وقد استشكل تقديم الظالم على المقتصد وتقديمهما على السابق مع كون المقتصد أفضل من الظالم لنفسه، والسابق أفضل منهما فقيل: إن التقديم لا يقتضي التشريف كما في قوله: (لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة)، ونحوها من الآيات القرآنية التي فيها تقديم أهل الشر على أهل الخير وتقديم المفضولين على الفاضلين.(11/250)
وقيل: وجه التقديم هنا أن الظالمين كثير وأن المقتصدين بالنسبة إلى أهل المعاصي قليل والسابقين بالنسبة إلى الفريقين أقل قليل، فقدم الأكثر على الأقل والأول أولى، فإن الكثرة بمجردها لا تقتضي تقديم الذكر.
وقال ابن عطاء: إنما قدم الظالم لئلا ييأس من فضله، وقيل: إنما قدمه ليعرفه أن ذنبه لا يبعده من ربه، وقيل: إن أول الأحوال معصية ثم توبة ثم استقامة. وقال جعفر الصادق: بدأ بالظالمين إخبار بأنه لا يتقرب إليه إلا بكرمه، وأن الظلم لا يؤثر في الاصطفاء، ثم ثنى بالمقتصدين لأنهم بين الخوف والرجاء، ثم ختم بالسابقين لئلا يأمن أحد مكره وكلهم في الجنة، وقد قيل في وجه التقديم غير ما ذكرناه مما لا حاجة إلى التطويل به.
وعن ابن عباس في الآية قال: هم أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -، ورثهم الله كل كتاب أنزل، فظالمهم مغفور له، ومقتصدهم يحاسب حساباً يسيراً، وسابقهم يدخل الجنة بغير حساب.
وأخرج أحمد والترمذي وحسنه وغيرهما عن أبي سعيد الخدري عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال في هذه الآية: " هؤلاء كلهم بمنزلة واحدة وكلهم يدخلون الجنة "، وفي إسناده رجلان مجهولان.
وأخرج أحمد وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم وغيرهم عن أبي الدرداء قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: قال الله: (ثم أورثنا الكتاب) الآية فأما الذين سبقوا وأولئك الذين يدخلون الجنة بغير حساب، وأما الذين اقتصدوا فأولئك يحاسبون حساباً يسيراً، وأما الذين ظلموا أنفسهم فأولئك الذين يحبسون في طول المحشر، ثم هم الذين تلافاهم الله برحمته، فهم الذين يقولون: (الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن). الآية. قال البيهقي: إذا كثرت روايات في حديث ظهر أن للحديث أصلاً انتهى. وفي إسناد أحمد: محمد بن(11/251)
إسحق وفي إسناد ابن أبي حاتم رجل مجهول.
وأخرج الطبراني وابن أبي حاتم عن عوف بن مالك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " قال: أمتي ثلاثة أثلاث فثلث يدخلون الجنة بغير حساب، وثلث يحاسبون حساباً يسيراً، ثم يدخلون الجنة، وثلث يمحصون ويكشفون، ثم تأتي الملائكة فيقولون: وجدناهم يقولون: لا إله إلا الله وحده فيقول الله: أدخلوهم الجنة بقولهم لا إله إلا الله وحده، واحملوا خطاياهم على أهل التكذيب وهي التي قال الله: (وليحملن أثقالهم وأثقالاً مع أثقالهم) وتصديقها في التي ذكر في الملائكة قال الله تعالى: (ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا) فجعلهم ثلاثة أفواج فمنهم ظالم لنفسه فهذا الذي يكشف ويمحص ومنهم مقتصد وهو الذي يحاسب حساباً يسيراً ومنهم سابق بالخيرات فهو الذي يلج الجنة بغير حساب ولا عذاب بإذن الله يدخلون الجنة جميعاً ". قال ابن كثير بعد ذكر هذا الحديث: غريب جداً انتهى.
وهذه الأحاديث يقوي بعضها بعضاً، ويجب المصير إليها ويدفع بها قول ن حمل الظالم لنفسه على الكافر.
ويؤيدها ما أخرجه الطبراني وابن مردويه والبيهقي في البعث، عن أسامة بن زيد: فمنهم ظالم لنفسه الآية قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " كلهم من هذه الأمة وكلهم في الجنة ". وما أخرجه الطيالسي وعبد ابن حميد والطبراني وغيرهم عن عقبة بن صهبان قال: قلت لعائشة أرأيت قول الله: ثم أورثنا الكتاب الآية؟ قالت: أما السابق فمن مضى في حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فشهد له بالجنة، أما المقتصد فمن تبع أثارهم، فعمل بمثل عملهم حتى لحق بهم، وأما الظالم لنفسه فمثلي ومثلك، ومن اتبعنا، وكل في الجنة. وعن ابن مسعود قال: هذه ثلاثة أثلاث يوم القيامة. ثلث يدخلون الجنة جميعاً بغير حساب، وثلث يحاسبون حساباً يسيراً، وثلث يجيئون بذنوب عظام إلا أنهم لم يشركوا فيقول الرب: أدخلوا هؤلاء في سعة رحمتي. ثم قرأ: (ثم أورثنا الكتاب) الآية.(11/252)
وأخرج سعيد ابن منصور وابن أبي شيبة وابن المنذر والبيهقي في البعث عن عمر بن الخطاب أنه كان إذا مر بهذه الآية (ثم أورثنا الكتاب) قال: ألا. إن سابقنا سابق. ومقتصدنا، ناج وظالمنا مغفور له، وأخرجه البيهقي وغيره عنه من وجه آخر مرفوعاً، وأخرجه ابن النجار من حديث أنس مرفوعاً.
وأخرج الطبراني عن ابن عباس قال: السابق بالخيرات يدخل الجنة بغير حساب والمقتصد يدخل الجنة برحمة الله. والظالم لنفسه أصحاب الأعراف يدخلون الجنة بشفاعة محمد - صلى الله عليه وسلم -.
وأخرج سعيد بن منصور وغيره عن عثمان بن عفان أنه نزع بهذه الآية ثم قال: ألا إن سابقنا أهل جهادنا. ألا وإن مقتصدنا أهل حضرنا. ألا وإن ظالمنا أهل بدونا.
وأخرج البيهقي في البعث عن البراء بن عازب قال: أشهد على الله أنه يدخلهم الجنة جميعاً، وأخرج الفريابي وابن جرير وابن مردويه عنه قال قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذه الآية قال: [أكلهم ناج وهي هذه الأمة].
وأخرج الفريابي وعبد بن حميد عن ابن عباس في الآية قال هي مثل التي في الواقعة أصحاب الميمنة، وأصحاب المشأمة والسابقون، صنفان ناجيان، وصنف هالك، وعنه قال: هو الكافر، والمقتصد أصحاب اليمين، وهذا المروى عنه رضي الله عنه لا يطابق ما هو الظاهر من النظم القرآني، ولا يوافق ما قدمنا من الروايات عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وعن جماعة من الصحابة، وعن عبد الله بن الحارث أن ابن عباس سأل كعباً عن هذه الآية فقال: نجوا كلهم، ثم قال تحاكت مناكبهم ورب الكعبة، ثم أعطوا الفضل بأعمالهم. أخرجه ابن أبي شيبة وغيره وقد قدمنا عن ابن عباس ما يفيد أن الظالم لنفسه من الناجين فتعارضت الأقوال عنه.(11/253)
جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (33) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34) الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ (35) وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (36)
وقوله (جنات عدن) مبتدأ وخبره (يدخلونها) والضمير يعود إلى الأصناف الثلاثة فلا وجه لقصره على الصنف الأخير وقرىء: جنة بالإفراد وقرىء: جنات بالنصب على الاشتغال، وقرىء: يدخلونها على البناء للمفعول (يحلون فيها) هو من حليت المرأة فهي حال، وفيه إشارة إلى سرعة الدخول فإن في تحليتهم خارج الجنة تأخيراً للدخول، فلما قال: يحلون فيها أشار إلى أن دخولهم على وجه السرعة.
(من أساور من ذهب) من الأولى تبعيضية، والثانية بيانية أي يحلون بعض أساور كائنة من ذهب. والأساور جمع أسورة جمع سوار (ولؤلؤاً) منصوب بالعطف على محل من أساور، وقرىء بالجر عطفاً على ذهب أي مرصعاً بلؤلؤ أو يحلون أساوراً ولؤلؤاً وهو الأولى.
أخرج الترمذي والحاكم وصححه والبيهقي في البعث عن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم تلا قول الله: (جنات عدن يدخلونها) الآية فقال: " إن عليهم التيجان إن أدنى لؤلؤة لتضيء ما بين المشرق والمغرب ". (ولباسهم فيها حرير) لما فيه من اللذة والزينة، وقد تقدم تفسير هذه الآية مستوفى في سورة الحج.(11/254)
وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34)
(وقالوا الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن) بفتحتين وقرىء بضم الحاء وسكون الزاي والمعنى أنهم يقولون هذه المقالة إذا دخلوا الجنة، وصيغة الماضي للدلالة على التحقق. قال قتادة: حزن الموت، وقال عكرمة: حزن السيئات والذنوب وخوف رد الطاعات، وقال ابن عباس: حزن النار وقال القاسم حزن زوال النعم وخوف العاقبة. وقيل: حزن أهوال يوم القيامة. وقال الكلبي: ما كان يحزنهم في الدنيا من أمر يوم القيامة، وقال سعيد بن جبير: همّ الخبز في الدنيا، وقيل: همّ المعيشة. وقال الزجاج: أذهب الله عن أهل الجنة كل الأحزان ما كان منها لمعاش أو لمعاد وهذا أرجح الأقوال فإن الدنيا وإن بلغ نعيمها أي مبلغ لا يخلو من شوائب ونوائب تكثر لأجلها الأحزان وخصوصاً أهل الإيمان فإنهم لا يزالون وجلين من عذاب الله خائفين من عقابه مضطربين القلوب في كل حين، هل تقبل أعمالهم؟ أو ترد؟ حذرين من عاقبة السوء وخاتمة الشر، ثم لا تزال همومهم وأحزانهم حتى يدخلوا الجنة، وأما أهل العصيان فهم وإن نفس عن خناقهم قليلاً في الحياة الدنيا التي هي دار الغرور، وتناسوا دار القرار يوماً من دهرهم، فلا بد أن يشتد وجلهم وتعظم مصيبتهم، وتغلي مراجل أحزانهم إذا شارفوا الموت، وقربوا من منازل الآخرة، ثم إذا قبضت أرواحهم ولاح لهم ما يسوؤهم من جزاء أعمالهم ازدادوا غماً وحزناً. فإن تفضل الله عليهم بالمغفرة وأدخلهم الجنة فقد أذهب عنهم أحزانهم وأزال غمومهم وهمومهم.
أخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في الآية قال: هم قوم في الدنيا يخافون الله ويجتهدون له في العبادة سراً وعلانية وفي قلوبهم حزن من ذنوب قد سلفت منهم فهم خائفون أن لا يتقبل منهم هذا الاجتهاد من الذنوب التي سلفت فعندها قالوا: (الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن).(11/255)
وروى البغوي بسنده عن ابن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليس على أهل لا إله إلا الله وحشة في قبورهم، ولا في نشورهم، وكأني بأهل لا إله إلا الله ينفضون التراب عن رؤوسهم يقولون (الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن).
(إن ربنا لغفور شكور) غفر لنا العظيم وشكر لنا القليل من أعمالنا أو يغفر الجنايات ويقبل الطاعات، وقيل: غفور لمن عصاه شكور لمن أطاعه(11/256)
الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ (35)
(الذي أحلنا) أي أنزلنا (دار المقامة) أي التي يقام فيها أبداً ولا ينتقل عنها (من فضله) أي تفضلاً منه ورحمة.
(لا يمسنا فيها نصب) أي لا يصيبنا في الجنة عناء ولا تعب ولا مشقة (ولا يمسنا فيها لغوب) أي إعياء من التعب، وكلال من النصب، ثم لما فرغ سبحانه من ذكر جزاء عباده الصالحين ذكر جزاء عباده الظالمين فقال:(11/256)
وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (36)
(والذين كفروا لهم نار جهنم لا يقضى عليهم) بالموت (فيموتوا) ويستريحوا من العذاب. قرىء: فيموتوا بالنصب جواباً للنفي وقرىء: بإثبات النون. قال ابن عطية: هي ضعيفة ولا وجه لهذا التضعيف، بل هي كقوله: (ولا يؤذن لهم فيعتذرون).
(ولا يخفف عنهم من عذابها) بل كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلوداً غيرها ليذوقوا العذاب وكلما خبت النار زيد إسعارها وهذه الآية هي مثل قوله سبحانه: (لا يموت فيها ولا يحيى).
(كذلك نجزي كل كفور) أي مثل ذلك الجزاء الفظيع نجزي كل من هو مبالغ في الكفر لا جزاء أخف وأدنى منه، وقرىء: يجزي على البناء للمفعول.(11/256)
وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (37) إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (38)(11/257)
وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (37)
(وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا) من الصراخ وهو الصياخ، أي وهم يستغيثون في النار رافعين أصواتهم والصارخ المستغيث: (ربنا) أي يقولون ربنا، أو قائلين ربنا وقال مقاتل: إنهم ينادون ربنا.
(أخرجنا نعمل) عملاً (صالحاً غير الذي كنا نعمل) من الشرك والمعاصي فنجعل الإيمان منا بدل ما كنا عليه من الكفر، والطاعة بدل المعصية، قيل وزيادة قوله غير الذي كنا نعمل للتحسر على ما عملوه من غير الأعمال الصالحة مع الاعتراف منهم بأن أعمالهم في الدنيا كانت غير صالحة فأجاب الله عليهم بقوله:
(أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ) الاستفهام للتقريع والتوبيخ، والواو للعطف على مقدر كما في نظائره وما نكرة موصوفه أي أولم نعمركم عمراً يتمكن من التذكر فيه من تذكر، فقيل: هو ستون سنة وقيل: أربعون وقيل: ثماني عشرة سنة، قال بالأول: جماعة من الصحابة. ومنهم ابن عباس وبالثاني: الحسن ومسروق وغيرهما، وبالثالث: عطاء وقتادة.
أخرج ابن أبي حاتم والطبراني والبيهقي عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا كان يوم القيامة قيل: أين أبناء الستين؟ وهو العمر الذي قال الله: (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ)، وفي إسناده إبراهيم بن الفضل المخزومي. وفيه مقال.
وأخرج أحمد والبخاري والنسائي وغيرهم عن أبي هريرة قال: قال سول الله - صلى الله عليه وسلم -: " أعذر الله إلى امرىء أَخّر عمره حتى بلغ ستين سنة "، وعن سهل بن سعيد مرفوعاً نحوه أخرجه عبد بن حميد والطبراني والحاكم، وعن علي بن أبي طالب قال: العمر الذي غيرهم الله به ستون سنة.(11/257)
وأخرج الترمذي وابن ماجة والحاكم وابن المنذر والبيهقي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين، وأقلهم من يجوز ذلك ". قال الترمذي بعد إخراجه: حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وعن ابن عباس في هذه الآية: هو ست وأربعون سنة، وعنه قال: العمر الذي أعذر الله إلى ابن آدم فيه بقوله: أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر؟ أربعون سنة.
(وجاءكم النذير) قال الواحدي قال جمهور المفسرين: هو النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقال عكرمة وسفيان بن عيينة ووكيع والحسن بن الفضل والفراء وابن جرير: هو الشيب ويكون معناه على هذا القول: أولم نعمركم حتى شبتم وقيل هو القرآن، وقيل الحمى قال الأزهري معناه أن الحمى رسول الموت أي كأنها تشعر بقدومه وتنذر بمجيئه والشيب نذير أيضاًً، لأنه يأتي في سن الاكتهال، وهو علامة لمفارقة سن الصبا الذي هو سن اللهو واللعب، وقيل: هو موت الأهل والأقارب، وقيل: هو كمال العقل، وقيل: البلوغ.
(فذوقوا فما للظالمين من نصير) الفاء لترتيب الأمر بالذوق على ما بلها من التعمير، ومجىء النذير، وفي " فما " للتعليل أي فذوقوا عذاب جهنم لأنكم لم تعتبروا ولم تتعظوا فما لكم ناصر يمنعكم من عذاب الله، ويحول بينكم وبينه قال مقاتل: فذوقوا فما للمشركين من مانع يمنعهم.(11/258)
إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (38)
(إن الله عالم غيب السموات والأرض) قرأ الجمهور بالإضافة وقرىء التنوين ونصب غيب والمعنى: أنه عالم بكل شىء. ومن ذلك أعمالكم لا تخفى عليه منها خافية لو ردكم إلى الدنيا لم تعملوا صالحاً كما قال: (ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه).
(إنه عليم بذات الصدور) تعليل لما قبله لأنه إذا علم مضمرات الصدور وهي أخفى من كل شيء علم ما فوقها بالأولى، وقيل: هذه الجملة مفسرة للجملة الأولى، (وذات) تأنيث (ذو) بمعنى صاحب أي بالأمور صاحبة الصدور، ومصاحبتها لها من حيث اختباؤها فيها.(11/258)
هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتًا وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَسَارًا (39) قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَتٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَّا غُرُورًا (40)(11/259)
هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتًا وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَسَارًا (39)
(هو الذي جعلكم خلائف في الأرض) جمع خليفة، ويقال للمستخلف: خليفة وخليف، ويجمع الأول على خلائف والثاني على خلفاء أي جعلكم أمة خالفة لمن قبلها. قال قتادة: خلفاً بعد خلف وقرناً بعد قرن، والخلف هو التالي للمتقدم، وقيل: جعلكم خلفاء في أرضه.
(فمن كفر) منكم هذه النعمة (فعليه كفره) أي عليه ضرر كفره لا يتعداه إلى غيره (ولا يزيد الكافرين كفرهم عند ربهم إلا مقتاً) أي غضباً وبغضاً.
(ولا يزيد الكافرين كفرهم إلا خساراً) أي نقصاً وهلاكاً، والمعنى أن الكفر لا ينفع عند الله حيث لا يزيدهم إلا المقت ولا ينفعهم في أنفسهم حيث لا يزيدهم إلا خساراً والتكرير لزيادة التكرير، والتنبيه على أن اقتضاء الكفر لكل واحد من الأمرين الهائلين القبيحين بطريق الاستقلال والأصالة. ثم أمره سبحانه أن يوبخهم ويبكتهم فقال:(11/259)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَتٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَّا غُرُورًا (40)
(قل أرأيتم شركاءكم الذين تدعون) أي أخبروني عن الشركاء الذين تخذتموهم آلهة وعبدتموهم (من دون الله) أي غيره وهم الأصنام وغيرها(11/259)
(أروني ماذا خلقوا من الأرض) بدل اشتمال من أرأيتم والمعنى: أخبروني عن شركائكم أروني أي شيء خلقوا من الأرض، وقيل: إن الفعلين وهما أرأيتم وأروني من باب التنازع، وقد أعمل الثاني على ما هو اختيار البصريين.
(أم لهم شرك في السموات) أي أم لهم شركة مع الله في خلقها أو لكها أو التصرف فيها؟ حتى يستحقوا بذلك الشركة في الإلهية.
(أم آتيناهم) الضمير فيه وفي قوله لهم: الأحسن أن يعود إلى الشركاء لتناسق الضمائر، وقيل: يعود على المشركين فيكوت التفاتاً من الخطاب إلى الغيبة أي: أم أنزلنا عليهم.
(كتاباً) بالشركة وأم في الموضعين منقطعة بمعنى: بل والهمزة فيكون قد أضرب عن الاستفهام الأول، وشرع في استفهام آخر، والاستفهام إنكاري.
(فهم على بينة منه) أي على حجة ظاهرة واضحة من ذلك الكتاب قرىء: بينة بالتوحيد وبالجمع، قال مقاتل: يقول هل أعطينا كفار مكة كتاباً فهم على بيان بأن مع الله شريكاً، ثم أضرب سبحانه عن هذا إلى غيره فقال:
(بل إذ يعد الظالمون بعضهم بعضاً إلا غروراً) أي ما يعد الظالمون عضهم بعضاً -كما يفعله الرؤساء والقادة من المواعيد لأتباعهم- إلا غروراً يغرونهم به، ويزينونه لهم، وهو الأباطيل التي تغر ولا حقيقة لها، وذلك قولهم: إن هذه الآلهة تنفعهم وتقربهم إلى الله وتشفع لهم عنده، وقيل: إن الشياطين تعد المشركين بذلك: وقيل: المراد بالوعد الذي يعد بعضهم بعضاً هو أنهم ينصرون على المسلمين ويغلبونهم.(11/260)
إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (41) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا (42) اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا (43)(11/261)
إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (41)
(إن الله يمسك السموات والأرض أن تزولا) أي يمنعهما من الزوال قاله الزجاج أو كراهة أن تزولا وقيل لئلا تزولا، والجملة مستأنفة لبيان قدرة الله سبحانه وبديع صنعه بعد بيان ضعف الأصنام وعدم قدرتها على شىء، وقيل: المعنى أن شركهم يقتضي زوال السموات والأرض كقوله: (تكاد السموات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدّاً أن دعوا للرحمن ولداً).
وعن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول على المنبر: " قال وقع في قلب موسى هل ينام الله عز وجل؟ فأرسل الله إليه ملكاً فأرّقه ثلاثاً وأعطاه قارورتين في كل يد قارورة وأمره أن يحتفظ بهما فجعل ينام وتكاد يداه تلقيان، ثم يستيقظ فيحبس إحداهما على الأخرى حتى نام نومة فاصطفقت يداه وانكسرت القارورتان. قال ضرب الله له مثلاً: إن الله تبارك وتعالى لو كان ينام لم تستمسك السماء والأرض " أخرجه أبو يعلى وابن جرير وابن أبي حاتم والدارقطني والبيهقي في الأسماء والصفات وغيرهم وروي من طرق عن ابن سلام وابن أبي بردة.
(ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده) أي ما أمسكهما أحد من(11/261)
بعد إمساكه أو من بعد زوالهما، والجملة سادة مسد جواب القسم والشرط ومن الأولى زائدة والثانية ابتدائية. قال الفراء أي ولو زالتا ما أمسكهما من أحد، قال وهو مثل قوله: (وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ)، وقيل: المراد زوالهما يوم القيامة (إنه كان حليماً غفوراً) تعليل لما قبله من إمساكه تعالى السموات والأرض.(11/262)
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا (42)
(وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى الأمم) المراد قريش أقسموا قبل أن يبعث الله محمداً - صلى الله عليه وسلم - بهذا القسم حين بلغهم أن أهل الكتاب كذبوا رسلهم، قالوا: لعن الله اليهود والنصارى أتتهم الرسل فكذبوهم وأقسموا بالله لو جاءنا نذير لنكونن أهدى ديناً منهم فلما بعث محمد - صلى الله عليه وسلم - كذبوه فأنزل الله هذه الآية والمعنى من إحدى الأمم المكذبة للرسل، والنذير: النبي. والهدى: الاستقامة، وكانت تتمنى أن يكون منهم رسول كما كان الرسل في بني إسرائيل، وأنث إحدى لكون أمة مؤنثة كما قال الأخفش، وقيل: المعنى من إحدى الأمم على العموم، وقيل: من الأمة التي يقال لها إحدى الأمم تفضيلاً لها.
(فلما جاءهم نذير) أي ما تمنوه وهو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي هو أشرف نذير وأكرم رسول وكان من أنفسهم (ما زادهم) مجيئه (إلا نفوراً) منهم عنه وتباعداً عن إجابته.(11/262)
اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا (43)
(استكباراً في الأرض) أي لأجل الاستكبار والعتو، أو بدل من نفور أو حال، قاله الأخفش، وهذا جواب لما، وفيه دليل على أنها حرف لا ظرف، إذ لا يعمل ما بعد (ما) النافية فيما قبلها وتقدمت له نظائر، وإسناد الزيادة إلى النذير مجاز لأنه سبي في ذلك كقوله: (فزادتهم رجساً إلى رجسهم).(11/262)
(وَمَكْرَ السَّيِّئِ) أي ولأجل مكر العمل السيء، أو منكروا المكر السيىء والمكر هو الحيلة والخداع والعمل القبيح، وأضيف إلا صفته كقولهم: مسجد الجامع وصلاة الأولى قرأ الجمهور: ومكر السيء بخفض همزة السيء، وقرأ الأعمش وحمزة: بسكونها وصلاً، وقد غلط كثير من النحاة هذه القراءة ونزهوا الأعمش على جلالته أن يقرأ بها. قالوا: وإنما كان يقف بالسكون فغلط من روى عنه أنه كان يقرأ بالسكون وصلاً، وتوجيه هذه القراءة ممكن بأن من قرأ بها أجرى الوصل مجرى الوقف، ومثله قراءة من قرأ: (ما يشعرْكم) بسكون الراء ومثل ذلك قراءة أبي عمر: (وإلى بارئْكم) بسكون الهمزة. وغير ذلك كثير قال أبو علي الفارسي: هذا على إجراء الوصل مجرى الوقف وقرأ ابن مسعود ومكراً سيئاً.
(ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله) أي لا تنزل عاقبة السوء إلا بمن أساء. قال الكلبي: يحيق بمعنى يحيط، والحوق الإحاطة. يقال: حاق به كذا أي أحاط به، وهذا هو الظاهر من معنى يحيق في لغة العرب ولكن قطرب فسره هنا بينزل.
(فهل ينظرون) أي ما ينتظرون (إلا سنة الأولين) أي سنة الله فيهم بأن ينزل بهؤلاء العذاب كما نزل بأولئك (فلن تجد لسنة الله تبديلاً) أي لا يقدر أحد أن يبدل سنة الله التي سنها بالأمم المكذبة من إنزال عذابه بهم، بأن يضع موضعه غيره بدلاً عنه، والفاء لتعليل ما يفيده الحكم بانتظارهم العذاب.
(ولن تجد لسنة الله تحويلاً) بأن يحول أحد ما جرت به سنة الله من العذاب فيدفعه عنهم ويضعه على غيرهم ونفي وجدان التبديل والتحويل كناية عن نفي وجودهما بالطريق البرهاني، وتخصيص كل منهما بنفي مستقل لتأكيد انتفائهما.(11/263)
أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا (44) وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا (45)(11/264)
أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا (44)
(أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) هذه الجملة مسوقة لتقرير ما قبلها وتأكيده أي: ألم يسيروا في أرض الشام واليمن والعراق فينظروا ما أنزلنا بعاد وثمود ومدين وأمثالهم من العذاب لما كذبوا الرسل فإن ذلك هو من سنة الله في المكذبين التي لا تبدل ولا تحول وآثار عذابهم وما أنزل الله بهم موجودة في مساكنهم ظاهرة في منازلهم، والهمزة للإنكار أو النفي، والواو للعطف على مقدر يليق بالمقام.
(وكانوا) أي والحال أنهم كانوا (أشد منهم قوة) وأطول أعماراً وأكثر أموالاً وأقوى أبداناً فما نفعهم طول المدى، وما أغنت عنهم شدة القوة.
(وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ) أي ما كان ليسبقه ويفوته شيء من الأشياء كائناً ما كان فيهما، وهذا تقرير لما يفهم مما قبله من استئصال الأمم السابقة.
(إنه كان عليماً قديراً) أي كثير العلم كثير القدرة لا يخفى عليه شيء ولا يصعب عليه أمر، وهذا تعليل لذلك التقرير.(11/264)
وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا (45)
(ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا) من الذنوب وعملوا من الخطايا (ما ترك على ظهرها) أي الأرض (من دابة) من الدواب التي تدب كائنة ما كانت، أما بنو آدم فلذنوبهم، وأما غيرهم فلشؤم معاصي بني آدم وقيل المراد: ما ترك على ظهر الأرض من دابة تدب من بني آدم، والجن. وقال(11/264)
بالأول ابن مسعود وقتادة، وقال بالثاني الكلبي، وقال ابن جريج والأخفش والحسين بن الفضل: أراد بالدابة هنا: الناس وحدهم دون غيرهم.
أخرج الفريابي وغيره عن ابن مسعود قال: إنه كاد الجعل ليعذب في حجره بذنب ابن آدم، ثم قرأ هذه الآية قيل: وجه الملاءمة بين الشرط والجزاء أنه تعالى إذا كان يؤاخذ الناس بما كسبوا كان ينقطع عنهم النعم التي من جملتها المطر، فإذا انقطع عنهم المطر انقطع النبات فيموت جميع الحيوانات فهذا كناية أريد بها الملزوم وقوله: على ظهرها فيه استعارة مكنية قال قتادة: وقد فعل ذلك في زمن نوح، وقال يحيى بن سلام. يحبس الله المطر فيهلك كل شيء (ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى) وهو يوم القيامة.
(فإذا جاء أجلهم فإن الله كان بعباده بصيراً) أي بمن يستحق منهم الثواب ومن يستحق منهم العقاب وفي هذا تسلية للمؤمنين ووعيد للكافرين والعامل في (إذا) هو: جاء لا (بصيراً).(11/265)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
سورة يس
(هي ثلاث أو ثنتان وثمانون آية)
والأول أولى:
وهي مكيّة. قال القرطبي بالإجماع إلا أن فرقة قالت: (وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ) نزلت في بني سلمة من الأنصار حين أرادوا أن يتركوا ديارهم وينتقلوا إلى جوار مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسيأتي بيان ذلك (1).
وعن ابن عباس قال: نزلت بمكة وعن عائشة مثله.
وأخرج الدارمي والترمذي ومحمد بن نصر والبيهقي في الشعب عن أنس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، " إن لكل شيء قلباً وقلب القرآن يس ". من قرأ يس كتب له بقراءتها قراءة القرآن عشر مرات " (2) قال
_________
(1) قد ذكر أبو سليمان الدمشقي أنها مدنية وقال: ليس بالمشهور.
(2) اتفق المحدثون على أن من علامات وضع الحديث أن يكون فيه أجر كبير جداً على عمل قليل، فكيف يصح أن من قرأ يس كان له أجر من قرأ القرآن عشر مرات. وهو حديث موضوع أخرجه الترمذي 4/ 46 والدارمي 2/ 456 وابن كثير في تفسير 3/ 563.(11/267)
الترمذي: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث حميد بن عبد الرحمن، وفي إسناده هارون أبو محمد، وهو شيخ مجهول.
وفي الباب عن أبي بكر، ولا يصح لضعف إسناده، وأخرج الدارمي وأبو يعلى والطبراني والبيهقي وغيرهم عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: " من قرأ يس في ليلة ابتغاء وجه الله غفر له في تلك الليلة " (1) قال ابن كثير إسناده جيد.
وأخرج أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجة والطبراني وابن حبان والحاكم والبيهقي عن معقل بن يسار أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " يس قلب القرآن لا يقرؤها عبد يريد الله والدار والآخرة إلا غفر له ما تقدم من ذنبه، فاقرؤوها على موتاكم " (2)، وقد ذكر له أحمد إسنادين أحدهما فيه مجهول والآخر ذكر فيه عن أبي عثمان، وقال ليس بالنهدي عن أبيه عن معقل.
وأخرج الطبراني وابن مردويه قال السيوطي: بسند ضعيف عن أنس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " من داوم على قراءة يس كل ليلة ثم مات مات شهيداً ".
_________
(1) ضعيف الجامع 5797 و5798 و5766 و5800 و5801.
(2) قال العلماء: معنى (على موتاكم) أي من حضره الموت، وذلك لكي يسمع ما فيها من آيات التوحيد والبعث والجزاء - عند مفارقته للدنيا.
أما من مات فعلاً فلا يقرأ عليه يس ولا غيرها.
وفي النية أن ننشر في آخر تفسير هذه السورة ملحق به أبحاث طويلة للمنار وغيره يظهر به الحق في هذه المسألة وموقف ابن تيمية وابن القيم منها فليراجع. وقد نقل عن أحمد قوله: " كانت المشيخة يقولون: إذا قرئت عند الميت خفف الله عنه بها.(11/268)
بسم الله الرحمن الرحيم
يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (4) تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (5)(11/269)
يس (1)
(يس) قرأ الجمهور بسكون النون وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة وحفص وقالون وورش بإدغام النون في الواو التي بعدها، وقرىء بفتح النون وبكسرها، فالفتح على البناء أو على أنه مفعول فعل مقدر تقديره: اتل يس والكسر على البناء أيضاًً كجير، وقيل الفتح والكسر للفرار من التقاء الساكنين، وأما وجه قراءة الجمهور فلكونها مسرودة على نمط التعديد فلا حظ لها من الإعراب، وقرىء بضم النون على البناء كمذ وحيث، وقط.
وقيل على أنها خبر مبتدأ محذوف أي هذه يس، ومنعت من الصرف للعلمية والتأنيث، واختلف في معنى هذه اللفظة فقيل: معناها يا رجل، أو يا إنسان. قال ابن الأنباري: الوقف على يس حسن لمن قال: هو افتتاح السورة.
ومن قال: معناه يا رجل لم يقف عليه، وقال سعيد بن جبير وغيره: هو اسم من أسماء محمد صلى الله عليه وسلم دليله إنك لمن المرسلين، ومنه قوله تعالى: (سلام على آل ياسين) أي آل محمد ومنه قول الشاعر:
يا نفس لا تمحضي بالنصح جاحدة ... على المودة إلا آل ياسينا
وسيأتي في الصافات ما المراد بآل ياسين، قال الواحدي قال ابن عباس والمفسرون: يريد يا إنسان يعني: محمداً صلى الله عليه وسلم، وقال أبو بكر الوراق: معناه يا سيد البشر، وقال مالك: هو اسم من أسماء الله تعالى. روي ذلك عنه أشهب، وحكى أبو عبد الرحمن السلمي عن جعفر الصادق أن معناه يا سيد وقال كعب: هو قسم أقسم الله به ورجح الزجاج أن معناه يا محمد.(11/269)
واختلفوا هل هو عربي أو غير عربي؟ فقال سعيد بن جبير وعكرمة حبشي، وقال الكلبي: سرياني، تكلمت به العرب فصار من لغتهم، وقال الشعبي: هو بلغة طي، وقال الحسن: هو بلغة كلب وقد تقدم في طه وفي مفتتح سورة البقرة ما يغني عن التطويل ههنا، والأولى أن يقال: الله أعلم بمراده به.(11/270)
وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2)
(والقرآن الحكيم) بالجر على أنه مقسم به ابتداء، وقيل هو معطوف على يس على تقدير كونه مجروراً بإضمار القسم، قال النقاش لم يقسم الله لأحد من أنبيائه بالرسالة في كتابه إلا لمحمد صلى الله عليه وسلم تعظيماً له وتمجيداً. والحكيم المحكم الذي لا يتناقض ولا يتخالف، أو الحكيم قائله أو ذي الحكمة، أو لأنه دليل ناطق بالحكمة بطريق الاستعارة أو متصف بها، والمتصف على الإسناد المجازي، وجواب القسم.(11/270)
إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3)
(إنك لمن المرسلين) الذين أرسلوا على طريقه مستقيمة، وهذا رد على من أنكر رسالته من الكفار بقولهم: (لست مرسلاً)، وقوله:(11/270)
عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (4)
(على صراط مستقيم) خبر آخر لإن، أي: إنك على الطريق القيم الموصل إلى المطلوب. قال الزجاج: على طريقة الأنبياء الذين تقدموك ويجوز أن يكون في محل نصب على الحال.(11/270)
تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (5)
(تنزيل العزيز الرحيم) قرأ نافع وغيره برفع تنزيل على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي هو تنزيل، ويجوز أن يكون خبراً لقوله " يس " إن جعل اسماً للسورة، وقرىء بالنصب على المصدرية أي نزل الله ذلك تنزيل العزيز، والمعنى: أن القرآن تنزيل العزيز الرحيم، وقيل: المعنى إنك يا محمد تنزيل العزيز والأول أولى، وقيل: هو منصوب على المدح على قراءة النصب، وعبر سبحانه عن المنزل بالمصدر مبالغة، حتى كأنه نفس التنزيل، وقرىء بالجر على المنعت للقرآن أو البدل منه واللام في قوله:(11/270)
لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ (6) لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (7) إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (8) وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (9) وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (10)(11/271)
لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ (6)
(لتنذر) يجوز أن يتعلق بتنزيل أو بفعل مضمر يدل عليه لمن المرسلين أي أرسلناك لتنذر (قوماً) أي العرب وغيرهم.
(ما أنذر) ما: هي النافية أي لم تنذر (آباؤهم) ويجوز أن تكون ما موصولة أو موصوفة أي: لتنذر قوماً الذي أنذر آباؤهم، أو لتنذرهم عذاباً أنذره آباؤهم، أو مصدرية أي إنذار آبائهم، وعلى القول بأنها نافية المعنى ما أنذر آباؤهم برسول من أنفسهم، ويجوز أن يراد ما أنذر آباؤهم الأقربون لتطاول مدة الفترة، وإلا فآباؤهم الأبعدون قد أنذروا بإسماعيل وبعيسى ومن قبلهما.
(فهم غافلون) أي فهم بسبب ذلك غافلون أو فهم غافلون عما أنذرنا به آباءهم، قال أبو السعود: الضمير للفريقين أي فهم جميعاً غافلون وقد ذهب أكثر أهل التفسير إلى أن المعنى على النفي، وهو الظاهر من النظم القرآني لترتيب فهم غافلون على ما قبله.(11/271)
لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (7)
(لقد حق القول) اللام هي الموطئة للقسم، أي والله لقد ثبت وتحقق ووجب القول أي: الحكم والقضاء الأزلي أو العذاب (على أكثرهم) أي أكثر أهل مكة أو أكثر الكفار على الإطلاق أو أكثر كفار العرب، وهم من مات على الكفر وأصر عليه طول حياته، فيتفرع قوله:
(فهم لا يؤمنون) على ما قبله بهذا الاعتبار، أي لأن الله سبحانه قد علم منهم الإصرار على ما هم فيه من الكفر والموت عليه، وقيل: المراد(11/271)
بالقول المذكور هنا قوله سبحانه: (فالحق والحق أقول لأملأن جهنم منك وممن تبعك)، وقيل نزلت هذه الآية في أبي جهل وصاحبيه المخزوميين وجملة(11/272)
إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (8)
(إنا جعلنا في أعناقهم أغلالاً) تقرير لما قبلها مثلت حالهم بحال الذين غلت أعناقهم.
(فهي) أي الأغلال منتهية (إلى الأذقان) جمع ذقن. وهو أسفل اللحيين لأن الغل يجمع اليد إلى العنق فلا يقدرون عند ذلك على الالتفات، ولا يتمكنون من عطفها لأن طوق الغل الذي في عنق المغلول يكون في ملتقى طرفيه تحت الذقن، حلقة فيها رأس العمود، خارجاً من الحلقة إلى الذقن، فلا يخليه يطأطىء رأسه فلا يزال مقمحاً وهو معنى قوله:
(فهم مقمحون) أي رافعون رؤوسهم غاضون أبصارهم، قال الفراء والزجاج: المقمح الغاض بصره بعد رفع رأسه ومعنى الإقماح: رفع الرأس وغض البصر، يقال: أقمح البعير رأسه وقمح: إذا رفع رأسه ولم يشرب الماء.
قال الأزهري: أراد الله أن أيديهم لما غلت عند أعناقهم رفعت الأغلال إلى أذقانهم ورؤوسهم صعداء فهم مرفوعو الرؤوس برفع الأغلال إياها، وقال قتادة: معنى مقمحون مغلولون والأول أولى.
وقال أبو عبيدة: قمح البعير إذا رفع رأسه عن الحوض ولم يشرب، وعنه أيضاًً: هو مثل ضربه الله لهم في امتناعهم عن الهدى كامتناع المغلول، كما يقال: فلان حمار أي لا يبصر الهدى، قال الفراء: هذا ضرب مثل أي حبسناهم عن الإنفاق في سبيل الله، وهو كقوله: (ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك) وبه قال الضحاك.
وقيل: الآية إشارة إلى ما يفعل بقوم في النار من وضع الأغلال في أعناقهم كما قال تعالى: (إذ الأغلال في أعناقهم) وقرأ ابن عباس: (إنا جعلنا في أيمانهم أغلالاً) قال الزجاج أي في أيديهم، قال النحاس: وهذه القراءة تفسير، ولا يقرأ بما خالف المصحف، قال: وفي الكلام حذف على(11/272)
قراءة الجماعة أي: إنا جعلنا في أعناقهم وفي أيديهم أغلالاً فهي إلى الأذقان.
فلفظ (هي) كناية عن الأيدي لا عن الأعناق والعرب تحذف مثل هذا ونظير (سرابيل تقيكم الحر) أي وسرابيل تقيكم البرد لأن ما وقى من الحر وقى من البرد لأن الغل إذا كان في العنق فلا بد أن يكون في اليد، ولا سيما وقد قال الله: (فهي إلى الأذقان) فقد علم أنه يراد به الأيدي فهم مقمحون، أي رافعو رؤوسهم لا يستطيعون الإطراق لأن من غلت يداه إلى ذقنه ارتفع رأسه.
وروي عن ابن عباس أنه قرأ (إنا جعلنا في أيديهم أغلالاً) وعن ابن مسعود أنه قرأ (إنا جعلنا في أيمانهم أغلالاً) كما روي سابقاً عن ابن عباس، وعنه قال: الأغلال ما بين الصدر إلى الذقن فهم مقمحون كما تقمح الدابة باللجام (1).
_________
(1) زاد المسير 7/ 6.(11/273)
وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (9)
(وجعلنا من بين أيديهم سداً ومن خلفهم سداً) أي منعناهم عن الإيمان بموانع فهم لا يستطيعون الخروج من الكفر إلى الإيمان كالمضروب أمامه وخلفه بالأسداد، والسد: بضم السين وفتحها لغتان. قال الضحاك: سداً أي الدنيا وسداً أي الآخرة، قيل: بالعكس (فأغشيناهم) بالغين المعجمة أي غطينا أبصارهم على حذف مضاف، وقرىء: بالعين المهملة من العشا، وهو ضعف البصر، ومنه: (ومن يعش عن ذكر الرحمن) فهم بسبب ذلك.
(لا يبصرون) أي لا يقدرون على إبصار شيء، قال الفراء: فألبسنا أبصارهم غشاوة أي عمى، فهم لا يبصرون سبيل الهدى، وكذا قال قتادة إن المعنى لا يبصرون الهدى، وقال السدي: لا يبصرون محمداً صلى الله عليه وآله وسلم حين ائتمروا على قتله.
وعن ابن عباس قال: في السد كانوا يمرون على النبي صلى الله عليه وآله وسلم فلا يرونه، وعنه أيضاًً قال: " اجتمعت قريش بباب النبي صلى(11/273)
الله عليه وسلم ينتظرون خروجه ليؤذوه فشق ذلك عليه، فأتاه جبريل بسورة يس وأمره بالخروج عليهم، فأخذ كفاً من تراب وخرج وهو يقرؤها ويذر التراب على رؤوسهم، فما رأوه حتى جاز فجعل أحدهم يلمس رأسه فيجد التراب، وجاء بعضهم فقال: ما يجلسكم؟ قالوا ننتظر محمداً فقال: لقد رأيته داخل المسجد، قال: قوموا فقد سحركم " (1).
قال الضحاك في الآية أي عموا عن البعث، وعموا عن قبول الشرائع في الدنيا، قال تعالى: (وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ)، قال البيضاوي، هذا تمثيل آخر بمن أحاط بهم سدان فغطيا أبصارهم بحيث لا يبصرون قدامهم ووراءهم في أنهم محبوسون في مطمورة الجهالة، ممنوعون عن النظر في الآيات والدلائل.
_________
(1) وتمام القصة في سيرة ابن هشام 1/ 484.(11/274)
وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (10)
(وسواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم) أي إنذارك إياهم وعدمه سواء، وهذا بيان لشأنهم بطريق التوبيخ بعد بيانه بطريق التمثيل، وجملة: (لا يؤمنون) مستأنفة مبينة لما قبلها من الاستواء أو حال مؤكدة أو بدل منه.
وروي أن عمر بن عبد العزيز قرأ هذه الآية على غيلان القدري. فقال: كأني لم أقرأها أشهدك أني تائب عن قولي في القدر. فقال عمر: " اللهم إن صدق فتب عليه، وإن كذب فسلط عليه من لا يرحمه "، فأخذه هشام ابن عبد الملك من عنده فقطع يديه ورجليه وصلبه على باب دمشق.
وعن ابن عباس في الآية قال: " كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في المسجد فجهر بالقراءة حتى تأذى به ناس من قريش حتى قاموا ليأخذوه وإذا أيديهم مجموعة بأعناقهم، وإذا هم عمي لا يبصرون، فجاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: ننشدك الله والرحم يا محمد، قال: ولم يكن بطن من بطون قريش إلا وللنبي صلى الله عليه وسلم فيهم قرابة، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم حتى ذهب ذلك عنهم، فنزلت: " يس إلى قوله: لا يؤمنون "، قال: فلم يؤمن من ذلك النفر أحد وفي الباب روايات في سبب نزول ذلك هذه الرواية أحسنها وأقربها إلى الصحة.(11/274)
إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (11) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ (12) وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (13) إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (14)
وقال الزجاج في الآية: أي من أضله الله هذا الإضلال لم ينفعه الإنذار، وإنما ينفع الإنذار من ذكر في قوله:(11/275)
إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (11)
(إنما تنذر من اتبع الذكر) أي القرآن (وخشى الرحمن بالغيب) أي في الدنيا.
(فبشره) الفاء لترتيب البشارة أو الأمر بها على ما قبلها من اتباع الذكر والخشية أي بشر هذا الذي اتبع الذكر (بمغفرة) عظيمة (وأجر كريم) أي حسن، وهو الجنة، ثم أخبر سبحانه بإحيائه الموتى فقال:(11/275)
إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ (12)
(إنا نحن نحيي الموتى) أي نبعثهم بعد الموت، وقال الحسن والضحاك: أي نحييهم بالإيمان بعد الجهل، والأول أولى، وهو بيان لشأن عظيم، ينطوي على الإنذار والتبشير انطواء إجمالياً ثم توعدهم بكتب آثارهم فقال: (ونكتب) في صحف الملائكة.
(ما قدموا) أي أسلفوا من الأعمال الصالحة والطالحة (وآثارهم) أي ما أبقوه من الحسنات التي لا ينقطع نفعها بعد الموت كمن سن سنة حسنة كعلم علموه أو كتاب صنفوه، أو حبس حبسوه، أو بناء بنوه من مسجد أو رباط، أو قنطرة، أو نحو ذلك، أو السيئات التي تبقى بعد موت فاعلها، كمن سن سُنة سيئة كوظيفة وظفها بعض الظلام على المسلمين وسكة أحدثها فيها تخسيرهم، وشيء أحدث فيه صد عن ذكر الله من ألحان وملاهٍ ونحو ذلك (1). قال مجاهد وابن
_________
(1) من قال معنى آثارهم، خطاهم بأرجلهم استدلوا بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: عليكم منازلكم فإنما تكتب آثاركم " رواه الترمذي 2/ 155 ومن قال إنه الخطا إلى الجمعة ومن قال: إنه من سنه سنة حسنة أو سيئة.(11/275)
زيد: نظيره قوله: (علمت نفس ما قدمت وأخرت)، وقوله (يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ)، وقيل: المراد بالآية آثار المشائين إلى المساجد، وبه قال جماعة من الصحابة والتابعين، قال النحاس: وهو أولى ما قيل في الآية لأنها نزلت في ذلك، ويجاب عنه بأن الاعتبار بعموم الآية لا بخصوص سببها، وعمومها يقتضي كتب جميع آثار الخير والشر، والإحياء هو المعتبر والكتابة مؤكدة معظمة لأمره، فلهذا قدم الإحياء.
وقرى: نكتب على البناء للفاعل وللمفعول.
عن أبي سعيد الخدري قال: " كان بنو سلمة في ناحية من المدينة فأرادوا أن ينتقلوا إلى قرب المسجد فأنزل الله (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ) فدعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " إنه يكتب آثارهم ثم قرأ عليهم الآية فتركوا " أخرجه الترمذي وحسنه، والبزار والحاكم وصححه، وغيرهم.
وفي صحيح مسلم وغيره من حديث جابر قال: " إن بني سلمة أرادوا أن يبيعوا ديارهم ويتحولوا قريباً من المسجد فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يا بني سلمة دياركم تكتب آثاركم " (1).
(وكل شيء) من أعمال العباد وغيرها كائناً ما كان، وقرأ الجمهور بنصب كل على الاشتغال، وقرىء بالرفع على الابتداء (أحصيناه في إمام) أي كتاب مقتدى به (مبين) موضح لكل شيء، قال مجاهد وقتادة وابن زيد: أراد اللوح المحفوظ، وقالت فرقه: أراد صحائف الأعمال.
_________
(1) رواه الطبري 22/ 154 والحاكم 2/ 428 والواحدي/209 ومسلم 1/ 462.(11/276)
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (13)
(واضرب لهم مثلاً أصحاب القرية) قد تقدم الكلام على نظير هذا في البقرة والنمل، والمعنى اضرب لأجلهم مثلاً أو اضرب لأجل نفسك أصحاب القرية مثلاً، أي مثلهم عند نفسك بأصحاب القرية؛ فعلى الأول: لما قال(11/276)
تعالى: (إنك لمن المرسلين) وقال: (لتنذر قوماً) قال قل لهم: ما أنا بدعاً من الرسل، فإن قبلي بقليل جاء أصحاب القرية المرسلون وأنذروهم بما أنذرتكم وذكروا التوحيد وخوفوا بالقيامة وبشروا بنعيم دار المقامة، وعلى الثاني لما قال: إن الإنذار لا ينفع من أضله الله: وكتب عليه أنه لا يؤمن قال للنبي صلى الله عليه وسلم: اضرب لنفسك ولقومك مثلاً، أي مثل لهم عند نفسك مثلاً بأصحاب القرية، حيث جاءهم ثلاثة رسل ولم يؤمنوا وصبر الرسل على الإيذاء وأنت جئت إليهم واحداً، وقومك أكثر من قوم الثلاثة فإنهم جاؤوا إلى أهل قرية وأنت بعثتك إلى الناس كافة:
والمعنى: واضرب لهم مثلاً مثل أصحاب القرية، أي اذكر لهم قصة عجيبة قصة أصحاب القرية فترك المثل وأقيم أصحاب القرية مقامه في الإعراب. وقيل لا حاجة إلى الإضمار، بل العنى اجعل أصحاب القرية لهم مثلاً على أن يكون مثلاً.
وأصحاب القرية مفعولين لـ (اضرب) أو يكون أصحاب القرية بدلاً من (مثلاً) وقد قدمنا الكلام على المفعول الأول من هذين المفعولين؛ هل هو (مثلاً) و (أصحاب القرية) وقد قيل: إن ضرب المثل يستعمل تارة في تطبيق حالة غريبة بحالة أخرى مثلها، كما في قوله: (ضرب الله مثلاً للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط) ويستعمل أخرى في ذكر حالة غريبة وبيانها للناس من غير قصد إلى تطبيقها بنظيرة لها كما في قوله: (وضربنا لكم الأمثال) أي بينا لكم أحوالاً بديعة غريبة هي في الغرابة كالأمثال.
فقوله سبحانه هنا (واضرب لهم مثلاً) يصح اعتبار الأمرين فيه. قال القرطبي: هذه القرية هي انطاكية في قول جميع المفسرين، وبه قال ابن عباس وبريدة، وهي ذات أعين وسور عظيم من صخر داخله خمسة أجبل، دورها اثني عشر ميلاً، والعواصم بلاد قصبتها انطاكية، وهي بأرض الروم.
(إذ جاءها المرسلون) بدل اشتمال من أصحاب القرية، والمرسلون(11/277)
هم أصحاب عيسى بعثهم إلى أهل انطاكية للدعاء إلى الله وكانوا عبدة أوثان، وإنما أضاف سبحانه الإرسال إلى نفسه في قوله:(11/278)
إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (14)
(إذ أرسلنا إليهم اثنين) لأن عيسى أرسلهم بأمر الله سبحانه ويجوز أن يكون أرسلهم الله بعد رفع عيسى إلى السماء من غير واسطة (فكذبوهما) في الرسالة، وقيل ضربوهما وسجنوهما، وقيل: واسم الاثنين: يوحنا وشمعون، وقيل: أسماء الثلاثة صادق ومصدوق وشلوم، قاله ابن جرير وغيره. وقيل: شمعان ويوحنا وبولس، وقال وهب: اسمهما يحيى وبولس، وقال كعب: صادق وصدوق.
(فعززنا بثالث) قرىء بتشديد الزاي وتخفيفها. قال الجوهري: فعززنا يخفف ويشدد أي قوينا وشددنا فالقراءتان على هذا بمعنى، وقيل: التخفيف بمعنى غلبنا وقهرنا، ومنه (وعزني في الخطاب)، والتشديد بمعنى قوَّينا وكثرنا، قيل: وهذا الثالث هو شمعون، وقيل غيره - وعن ابن عباس قال: " كان بين موسى بن عمران وبين عيسى بن مريم ألف سنة وتسعمائة سنة، ولم تكن بينهما فترة وإنه أرسل بينهما ألف نبي من بني إسرائيل سوى من أرسل من غيرهم، وكان بين ميلاد عيسى والنبي صلى الله عليه وسلم خمسمائة سنة وتسع وستون سنة، بعث في أولها ثلاثة أنبياء.
وهو قوله: (إذ أرسلنا إليهم اثنين فكذبوهما فعززنا بثالث) والذي عزز به شمعون، وكان من الحواريين وكانت الفترة التي لم يبعث الله فيها رسولاً أربعمائة سنة وأربعاً وثلاثين سنة (1) أخرجه ابن سعد وابن عساكر.
(فقالوا إنا إليكم مرسلون) أي قال الثلاثة جميعاً؛ وجاؤوا بكلامهم هذا مؤكداً لسبق التكذيب للاثنين والتكذيب بهما تكذيب للثالث لأنهم أرسلوا جميعاً بشيء واحد وهو الدعاء إلى الله عز وجل، وهذه الجملة مستأنفة جواب سؤال مقدر كأنه قيل: ما قال هؤلاء الرسل بعد التعزيز لهم بثالث؟ وكذلك جملة:
_________
(1) زاد المسير 7/ 11.(11/278)
قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ (15) قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (16) وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (17) قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (18) قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (19)(11/279)
قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ (15)
(قالوا ما أنتم إلا بشر مثلنا) فإنها مستأنفة، كأنه قيل: فما قال لهم أهل أنطاكية؟ فقيل: (قالوا ما أنتم إلا بشر مثلنا) أي مشاركون لنا في البشرية فليس لكم مزية علينا تختصون بها، والخطاب للثلاثة، ثم صرحوا بجحود إنزال الكتب السماوية فقالوا: (وما أنزل الرحمن من شيء) مما تدعونه أنتم ويدعيه غيركم ممن قبلكم من الرسل وأتباعهم (إن أنتم إلا تكذبون) في دعوى ما تدعون من ذلك.(11/279)
قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (16)
(قالوا) أي فأجابوهم بإثبات رسالتهم بكلام مؤكد تأكيداً بليغاً لتكرر الإنكار من أهل أنطاكية، وهو قولهم: (ربنا يعلم إنا إليكم لمرسلون) فأكدوا الجواب بالقسم الذي يفهم من قولهم ربنا يعلم وبإن وباللام.
قال الزمخشري: ووجه التكرار أن الأول ابتداء إخبار، والثاني جواب عن إنكار انتهى، وهذا مخالف لما في المفتاح من أنهم أكدوا في المرة الأولى لأن تكذيب الاثنين تكذيب للثالث لاتحاد المقالة، فلما بالغوا في تكذيبهم زادوا التأكيد، وما ذهب إليه الزمخشري نظراً إلى أن مجموع الثلاثة لم يسبق منهم إخبار ولا تكذيب لهم في المرة الأولى، فالتأكيد فيها للاعتناء والاهتمام بالخبر. انتهى، قاله الشهاب.(11/279)
وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (17)
(وما علينا إلا البلاغ المبين) أي ما يجب علينا من جهة ربنا إلا تبليغ رسالته على وجه الظهور والوضوح بالأدلة الواضحة. وهي إبراء الأكمه والأبرص والمريض، وإحياء الميت، وليس علينا غير ذلك، وهذه جملة(11/279)
مستأنفة كالتي قبلها، وكذلك جملة:(11/280)
قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (18)
(قالوا إنا تطيرنا بكم) فإنها مستأنفة جواباً عن سؤال مقدر، أي إنا تشاءمنا بكم لانقطاع المطر عنا بسببكم. لم يجدوا جواباً يجيبون به على الرسل إلا هذا الجواب، المبني على الجهل، المنبىء عن الغباوة العظيمة وعدم وجود حجة يدفعون الرسل بها، وعادة الجهال أن يتيمنوا بكل شيء مالوا إليه وقبلته طباعهم، ويتشاءموا بما نفروا عنه وكرهوه، فإن أصابهم بلاء أو نعمة قالوا بشؤم هذا وبركة هذا.
قال مقاتل: حبس عنهم المطر ثلاث سنين فقالوا: هذا بشؤمكم. قيل: إنهم أقاموا ينذرونهم عشر سنين، وقيل: إنما تطيروا لما بلغهم من أن كل نبي إذا دعا قومه فلم يجيبوه كان عاقبتهم الهلاك، وأصل التطير التفاؤل بالطير، فإنهم كانوا يزعمون أن الطائر السانح سبب للخير، والبارح سبب للشر، ثم استعمل في كل ما يتشاءم به.
وفي المختار: وطائر الإنسان عمله الذي قلده، والطير أيضاًً الاسم من التطير ومنه قولهم: لا طير إلا طير الله وتطير من الشيء وبالشيء والاسم الطيرة بوزن عنبة، وهو ما يتشاءم به من الفأل الرديء.
وفي الحديث: " أنه كان يحب الفأل ويكره الطيرة "، وقوله تعالى: (قالوا اطيرنا بك) أصله تطيرنا فأدغم، ثم رجعوا إلى التجبر والتكبر لما ضاقت صدورهم، وأعيتهم العلل فقالوا:
(لئن لم تنتهوا) اللام للقسم، أي والله لئن لم تتركوا هذه الدعوى وتعرضوا عن هذه المقالة: (لنرجمنكم) بالحجارة، قال الفراء: عامة ما في القرآن من الرجم المراد به القتل، وقال قتادة: هو على بابه من الرجم بالحجارة.
(وليمسنَّكم منا عذاب أليم) أي شديد فظيع، وقيل: معناه التحريق بالنار أو القتل، وقيل: الشتم، وقيل: هو التعذيب المؤلم من غير تقييد بنوع(11/280)
خاص، وهذا هو الظاهر لكنهم حنثوا في هذا القسم لأنهم لم يتمكنوا من بره لإهلاك الله لهم.
ثم أجاب عليهم الرسل دفعاً لما زعموه من التطير بهم و(11/281)
قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (19)
(قالوا طائركم معكم) أي شؤمكم معكم من جهة أنفسكم لازم في أعناقكم، وليس هو من شؤمنا. قال الفراء: طائركم أي رزقكم وقدركم وعملكم، وبه قال قتادة، وقرأ الجمهور: طائركم اسم فاعل. أي ما طار لكم من الخير والشر، وقرأ الحسن: اطيركم أي تطيركم.
(أئن ذكرتم) قرىء بهمزة استفهام بعدها إن الشرطية على الخلاف بينهم في التسهيل والتخفيف وإدخال ألف بين الهمزتين وعدمه، وقرىء بهمزتين مفتوحتين وقرىء أين على صيغة الظرف.
واختلف سيبويه ويونس إذا اجتمع استفهام وشرط أيهما يجاب؟ فذهب سيبويه إلى أنه يجاب بالاستفهام، وذهب يونس إلى أنه يجاب بالشرط، وعلى القولين فالجواب هنا محذوف، أي أئن ذكرتم ووعظتم وخوفتم فتطيرتم لدلالة ما تقدم عليه وقرىء: أن ذكرتم بهمزة مفتوحة أي لأن ذكرتم، والقراآت كلها سبعية، ثم أضربوا عما يقتضيه الاستفهام والشرط من كون التذكير سبباً للشؤم أو مصححاً للتوعد فقالوا:
(بل أنتم قوم مسرفون) أي ليس الأمر كذلك، بل أنتم قوم عادتكم الإسراف في المعصية، فمن ثم أتاكم الشؤم من قبلكم. لا من قبل رسل الله وتذكيرهم، أو بل أنتم مسرفون في تطيركم، قاله قتادة. وقال يحيى بن سلام مسرفون في كفركم، وقال ابن بحر: السرف هنا الفساد، والإسراف في الأصل مجاوزة الحد في مخالفة الحق، أي متجاوزون الحد بشرككم، وهذا لا ينافي كون أهل أنطاكية أول المؤمنين برسل عيسى، فإن الملك وقومه آمنوا وهلاك قاتلي حبيب لا يستلزم هلاك أهل أنطاكية.(11/281)
وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ (21) وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22) أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ (23) إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24)(11/282)
وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20)
(وجاء من أقصى المدينة) وهي القرية السابق ذكرها وعبر عنها هنا بالمدينة إشارة لكبرها واتساعها (رجل يسعى) هو حبيب بن مري وكان نجاراً، وقيل: إسكافاً، وقيل قصاراً، وقال مجاهد ومقاتل: هو حبيب بن إسرائيل النجار، وكان ينحت الأصنام، وقال وهب: كان يعمل الحرير.
وقال قتادة: كان يعبد الله في غار فلما سمع بخبر الرسل جاء يسعى، أي يشتد عدواً.
وقال ابن عباس: اسم صاحب يس حبيب وكان الجذام قد أسرع فيه قال القرطبي: وهو ممن آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم وبينهما ستمائة سنة كما آمن به تبع الأكبر وورقة بن نوفل وغيرهما، ولم يؤمن أحد بنبي غير نبينا، صلى الله عليه وسلم إلا بعد ظهوره وأما نبينا فآمن به قبل ظهوره كثير، انتهى. وفيه من البعد والضعف ما لا يخفى ويدفعه قوله سبحانه:
(قال يا قوم اتبعوا المرسلين) أي رسل عيسى عليه السلام، ولم يذكر نبينا صلى الله عليه وسلم ولا دلت الآية عليه والجملة مستأنفة كأنه قيل فماذا قال لهم عند مجيئه؟ فقيل: قال إلخ، أي اتبعوا هؤلاء الذين أرسلوا إليكم فإنهم جاؤوا بحق، ثم أكد ذلك وكرره فقال:(11/282)
اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ (21)
(اتبعوا من لا يسألكم) بدل من المرسلين بإعادة العامل أو تابع له (أجراً) على ما جاؤوكم به من الهدى (وهم) أي الرسل (مهتدون) ولو(11/282)
كانوا متهمين بعدم الصدق لسألوكم المال، فاهتدوا أنتم أيضاًً تبعاً لهم، ثم أبرز الكلام في معرض النصيحة لنفسه، وهو يريد مناصحة قومه فقال:(11/283)
وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22)
(وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي) أي أَيُّ مانع من جانبي يمنعني من عبادة الذي خلقني، ثم رجع إلى خطابهم لبيان أنه ما أراد نفسه بل أرادهم بكلامه فقال:
(وإليه ترجعون) أضاف الفطرة إلى نفسه، والرجوع إليهم لأن الفطرة أثر النعمة وكانت عليه أظهر والرجوع فيه معنى الزجر، فكان بهم أليق، ولذلك لم يقل: إليه أرجع، وفيه مبالغة في التهديد وهذه الطريقة أحسن من ادعاء الالتفات ثم عاد إلى المساق الأول وهو التلطف في الإرشاد والنصيحة لقصد التأكيد ومزيد الإيضاح فقال:(11/283)
أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ (23)
(أأتخذ من دونه) أي غيره (آلهة) فجعل الإنكار متوجهاً إلى نفسه، وهم المرادون به أي لا أتخذ من دون الله آلهة وأعبدها، وأترك عبادة من يستحقها وهو الذي فطرني. ثم بين حال هذه الأصنام التي يعبدونها من دون الله سبحانه إنكاراً عليهم وبياناً لضلال عقولهم وقصور إدراكهم فقال:
(إن يردن الرحمن بضر) أي بسوء ومكروه شرط وجوابه (لا تغن عني شفاعتهم شيئاًً) من النفع كائناً ما كان أي لا شفاعة لها فتغني عني (ولا ينقذون) من ذلك الضر الذي أرادني الرحمن به وهذه الجملة صفة لآلهة أو مستأنفة لبيان حالها في عدم النفع والدفع.(11/283)
إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24)
(إني إذاً) أي إني إذاً اتخذت من دونه آلهة وعبدت غير الله (لفي ضلال مبين) ظاهر واضح لأن إيثار ما لا ينفع ولا يدفع ضراً بوجه ما على الخالق المقتدر على النفع والضر وإشراكه به ضلال بيِّن لا يخفى على عاقل، وهذا تعريض بهم كما سبق، والضلال الخسران.(11/283)
إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (25) قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (27) وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ (28) إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ (29)
ثم صرح بإيمانه تصريحاً لا يبقى بعده شك فقال:(11/284)
إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (25)
(إني آمنت بربكم فاسمعون) وكسر النون، وهي نون الوقاية، وهي اللغة العالية وقرىء بفتحها، وهي غلط. قال المفسرون: أراد القوم قتله فأقبل هو على المرسلين فقال: إني آمنت بربكم أيها الرسل فاسمعوا إيماني، واشهدوا لي به.
وقيل: إنه خاطب بهذا الكلام قومه لما أرادوا قتله تصلباً في الدين، وتشدداً في الحق وعدم المبالاة بالقتل، فلما قال هذا القول وصرح بالإيمان وثبوا عليه فقتلوه، وقيل وطؤوه بأرجلهم.
وقال الحسن: حرقوه حرقاً وعلقوه في سور المدينة، وقبره في سور أنطاكية حكاه الثعلبي. وقيل: حفروا له حفيرة وألقوه فيها، وقيل: إنهم لم يقتلوه بل رفعه الله إلى السماء وهو في الجنة، وبه قال الحسن. وقال السدي: رموه بالحجارة وهو يقول: اللهم اهد قومي، حتى قتلوه. وقيل نشروه بالمنشار حتى خرج من بين رجليه، فوالله ما خرجت روحه إلا في الجنة فدخلها فذلك قوله تعالى:(11/284)
قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26)
(قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ) أي قيل له ذلك عند موته تكريماً له بدخولها بعد قتله كما هي سنة الله في شهداء عباده ولم يذكر لفظ (له) في نظم الآية لأن الغرض بيان القول دون المقول له فإنه معلوم، وعلى قول من قال إنه رفع إلى السماء ولم يقتل يكون المعنى: إنهم أرادوا قتله فنجاه الله من القتل وقيل له: ادخل الجنة وفيه دليل على أن الجنة مخلوقة الآن، وعليه فالأمر أمر تكوين لا أمر امتثال على حد قوله: أن يقول له كن فيكون، فالمعنى أدخله الله الجنة سريعاً(11/284)
فلما دخلها ورأى نعيمها وشاهدها.
(قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ) الجملة مستأنفة جواب سؤال مقدر، أي فماذا قال بعد أن قيل له: ادخل الجنة فدخلها؟ فقال يا ليت قومي .. الخ. وهم الذين قتلوه فنصحهم حياً وميتاً.
قال ابن أبي ليلى: سباق الأمم ثلاثة لم يكفروا بالله طرفة عين علي بن أبي طالب، وهو أفضلهم، ومؤمن آل فرعون، وصاحب يس وهم الصديقون. ذكره الزمخشري و (ما) في(11/285)
بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (27)
(بما) هي المصدرية، وقيل موصولة أي بالذي غفر لي ربي، والباء صلة يعلمون، والعائد محذوف، أي غفره لي ربي، واستضعف هذا لأنه لا معنى لتمنيه أن يعلم قومه بذنوبه المغفورة وليس المراد إلا التمني منه بأن يعلم قومه بغفران ربه له، وإليه أشار في التقرير، وقال الفراء: إنها استفهامية جاءت على الأصل بمعنى التعجب.
والباء صلة غفر كأنه قال بأي شيء غفر لي ربي يريد به المهاجرة عن دينهم، والمصابرة على أذيتهم، قال الكسائي: لو صح هذا لقال: بم من غير ألف، ويجاب عنه بأنه قد ورد في لغة العرب إثباتها وإن كان مكثوراً بالنسبة إلى حذفها وفي معنى تمنيه قولان: أحدهما أنه تمنى أن يعلموا بحاله ليعلموا حسن مآله وحميد عاقبته إرغاماً لهم، وقيل: إنه تمنى أن يعلموا بذلك ليؤمنوا مثل إيمانه فيصيروا إلى مثل حاله، ولما وقع ما وقع منهم مع حبيب النجار غضب الله له وعجل لهم النقمة، وأهلكهم بالصيحة فقال:(11/285)
وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ (28)
(وما أنزلنا على قومه من بعده) أي على قوم حبيب النجار من بعد قتلهم له أو من بعد رفع الله له إلى السموات على الاختلاف السابق.
(من جند من السماء) لإهلاكهم وللانتقام منهم، أي لم نحتج إلى إرسال جنود من السماء لإهلاكهم كما وقع ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم: " يوم بدر من إرسال الملائكة لنصرته وحرب أعدائه " (1)، وذلك لأن الله
_________
(1) راجع ما ذكرناه في سورة الأنفال حول نزول الملائكة.(11/285)
أجرى هلاك كل قوم على بعض الوجوه دون بعض لحكمة اقتضت ذلك، وعن ابن مسعود في الآية قال: يقول ما كابدناهم بالجموع، أي الأمر أيسر علينا من ذلك.
(وما كنا منزلين) أي وما صح في قضائنا وحكمتنا أن ننزل لإهلاكهم جنداً لسبق قضائنا وقدرنا بأن إهلاكهم بالصيحة لا بإنزال الجند، وقال قتادة ومجاهد والحسن: أي ما أنزلنا عليهم من رسالة من السمماء ولا نبي بعد قتله، وروي عن الحسن أنه قال: هم الملائكة النازلون بالوحي على الأنبياء والظاهر أن معنى النظم القرآني تحقير شأنهم، وتصغير أمرهم، أي ليسوا بأحقاء بأن ننزل لإهلاكهم جنداً من السماء، بل أهلكناهم بصيحة واحدة كما يفيده قوله:(11/286)
إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ (29)
(إن كانت) أي العقوبة أو النقمة أو الأخذة.
(إلا صيحة واحدة) صاح بها جبريل فأهلكهم قرىء: صيحة بالنصب على أن كان ناقصة، واسمها ضمير يعود إلى ما يفهم من السياق كما قدمنا، وقرىء برفعها على أن كان تامة، أي وقع وحدث، وأنكرها أبو حاتم وكثير من النحويين بسبب التأنيث في قوله: إن كانت، وقيل: غير ذلك.
وقرأ ابن مسعود إن كانت إلا زقية واحدة والزقية الصيحة، قال النحاس: وهذا مخالف للمصحف، وأيضاًً فإن اللغة المعروفة زقا يزقو إذا صاح ومنه المثل: أثقل من الزواقي فكان يجب على هذا أن يكون زقوة، ويجاب عنه بما ذكره الجوهري. قال: الزقو والزقى مصدر، وقد زقا الصدى يزق زقاً أي صاح، وكل صائح زاق، والزقية الصيحة.
قال المفسرون: أخذ جبريل بعضادتي باب المدينة ثم صاح بهم صيحة فإذا هم ميتون لا يسمع لهم حس كالنار إذا طفئت، وهو معنى قوله: (فإذا هم خامدون) ميتون شبههم بالنار إذا طفئت لأن الحياة كالنار الساطعة في الحركة، والالتهاب. والموت: كخمودها.(11/286)
يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (30) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ (31) وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (32) وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (33) وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ (34)(11/287)
يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (30)
(يا حسرة على العباد) النصب على أنها منادى منكر، كأنه نادى الحسرة وقال لها: هذا أوانك فاحضري، وقيل: إنها منصوبة على المصدرية، والمنادى محذوف والتقدير: يا هؤلاء تحسروا حسرة، وقرىء: بالضم على النداء، قال الفراء في توجيه هذه القراءة: إن الاختيار النصب، وأنها لو رفعت النكرة لكان صواباً. واستشهد بأشياء نقلها عن العرب منها أنه سمع منهم: يا مهتم، بأمرنا لا تهتم.
قال النحاس: وفي هذا إبطال باب النداء أو أكثره، قال: وتقدير ما ذكره: يا أيها المهتم لا تهتم بأمرنا وحقيقة الحسرة أن يلحق الإنسان من الندم ما يصير به حسيراً، قال ابن جرير: المعنى يا حسرة من العباد على أنفسهم وتندماً وتلهفاً في استهزائهم برسل الله، وقرىء: يا حسرة العباد على الإضافة، ورويت هذه القراءة عن أبيّ. وقال الضحاك: إنها حسرة الملائكة على الكفار حين كذبوا الرسل، وقيل: هي من قول الرجل الذي جاء من أقصى المدينة.
وقيل: إن القائل يا (حسرة على العباد) هم الكفار المكذبون، والعباد الرسل، وذلك أنهم لما رأوا العذاب تحسروا على قتلهم وتمنوا الإيمان قاله أبو العالية ومجاهد. وقيل: إن التحسر عليهم هو من الله عز وجل بطريق الاستعارة لتعظيم ما جنوه، وقرىء: يا حسره بسكون الهاء إجراء للوصل مجرى الوقف، وقرىء يا حسرتا كما قرىء بذلك في سورة الزمر، قال(11/287)
ابن عباس: أي يا ويلاً للعباد، وعنه قال: الندامة على العباد يوم القيامة وأل في العباد للجنس.
(ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون) مستأنفة مسوقة لبيان ما كانوا عليه من تكذيب الرسل والاستهزاء بهم، وأن ذلك هو سبب التحسر عليهم، ثم عجب سبحانه من حالهم حيث لم يعتبروا بأمثالهم من الأمم الخالية فقال:(11/288)
أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ (31)
(ألم يروا كم أهلكنا) أي ألم يعلموا كثرة من أهلكنا (قبلهم من القرون) التي أهلكناها من الأمم الخالية، والاستفهام للتقرير على حد قوله: (ألم نشرح لك صدرك).
(أنهم إليهم لا يرجعون) بدل من أهلكنا على المعنى، قال سيبويه: إنه بدل من كم وهي الخبرية فلذلك جاز أن يبدل منها ما ليس باستفهام، والمعنى: ألم يروا أن القرون الذين أهلكناهم أنهم إليهم لا يرجعون.
وقال الفراء: كم في موضع نصب من وجهين أحدهما بـ (يروا) والوجه الآخر (بأهلكنا) قال النحاس: القول الأول محال لأن كم لا يعمل فيها ما قبلها لأنها استفهام ومحال أن يدخل الاستفهام في حيز ما قبله، وكذا حكمها إذا كانت خبراً وإن كان سيبويه قد أومأ إلى بعض هذا فجعل أنهم بدلاً من كم، وقد رد ذلك المبرّد أشد رد، ثم بين سبحانه رجوع الكل إلى الحشر بعد بيان عدم الرجوع إلى الدنيا فقال:(11/288)
وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (32)
(وإن كل لما جميع لدينا محضرون) قرىء لما مشدداً ومخففاً، قال: الفراء من شدد جعل لما بمعنى إلا وإن بمعنى ما أي ما كل إلا جميع، ومعنى جميع مجموعون، فهو فعيل بمعنى مفعول، ولدينا ظرف له وأما على قراءة التخفيف فإن هي المخففة من الثقيلة، وما بعدها مرفوع بالابتداء، واللام هي الفارقة بين المخففة والنافية.
قال أبو عبيدة: وما على هذه القراءة زائدة، والتقدير عنده: وإن كل لجميع، والحاصل أن (كل) أشير بها لاستغراق الأفراد وشمولهم، (وجميع) أشير(11/288)
بها لاجتماع الكل في مكان واحد وهو المحشر (1)، وقيل: معنى محضرون معذبون، والأولى أنه على معناه الحقيقي من الإحضار للحساب والجزاء ثم ذكر سبحانه البرهان على التوحيد والحشر مع تعداد النعم وتذكيرها فقال:
_________
(1) قال ابن كثير: وإن جميع الأمم الماضية والآتية ستحضر للحساب يوم القيامة بين يدي الله عز وجل فيجازيهم بأعمالهم كلها خيرها وشرها.(11/289)
وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (33)
(وآية لهم) على البعث والتوحيد (الأرض الميتة) فآية خبر مقدم وتنكيرها للتفخيم، ولهم صفتها أو متعلقة بآية، لأنها بمعنى علامة، والأرض مبتدأ ويجوز أن يكون آية مبتدأ لكونها قد تخصصت بالصفة، وما بعدها الخبر. قرىء ميتة بالتشديد والتخفيف.
(أحييناها) مستأنفة مبينة لكيفية كونها آية، وقيل: هي صفة للأرض فنبههم الله بهذا على إحياء الموتى، وذكرهم نعمه، وكمال قدرته فإنه سبحانه أحيى الأرض بالنبات، وأخرج منها الحبوب التي يأكلونها ويتغذون بها، وهو معنى قوله:
(وأخرجنا منها حباً فمنه يأكلون) وهو ما يقتاتونه من الحبوب وتقديم منه للدلالة على أن الحب معظم ما يؤكل وأكثر ما يقوم به المعاش.(11/289)
وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ (34)
(وجعلنا فيها جنات من نخيل وأعناب) أي جعلنا في الأرض جنات من أنواع النخل والعقب وخصهما بالذكر لأنهما أعلى الثمار وأنفعها للعباد والنخل والنخيل بمعنى، والواحدة نخلة، وفي المصباح: النخل اسم جمع، والواحدة نخلة وكل جمع يفرق بينه وبين واحده بالتاء، فأهل الحجاز يؤنثونه وأهل نجد وتميم يذكرونه، وأما النخيل بالياء فمؤنثة. قال ابن أبي حاتم: لا اختلاف في ذلك، والأعناب جمع عنب. والعنب: الواحدة من العنب.
(وفجرنا فيها من العيون) أي فجرنا في الأرض بعضاً من العيون فحذف الموصوف وأقيمت الصفة مقامه، أو المفعول العيون، ومن مزيدة على رأي من جوز زيادتها في الإثبات والمراد بالعيون عيون الماء وقرأ الجمهور بالتشديد، وقرىء: بالتخفيف، والفجر والتفجير كالفتح والتفتيح لفظاً ومعنى واللام في قوله:(11/289)
لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ (35) سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ (36) وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ (37)(11/290)
لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ (35)
(ليأكلوا من ثمره) متعلقة بجعلنا والضمير المجرور يعود إلى المذكور من الجنات والنخيل، وقيل هو راجع إلى ماء العيون لأن الثمر منه، قاله الجرجاني، وقرىء ثمره بضمتين وبفتحتين وهما سبعيتان وقرأ الأعمش بضم الثاء وإسكان الميم، وقد تقدم الكلام على هذا في الأنعام.
(وما عملته أيديهم) أي ليأكلوا من ثمره ويأكلوا مما عملته أيديهم كالعصير والدبس ونحوهما وكذلك ما غرسوه وحفروه وعالجوه على أن (ما) موصولة. وفيه تجوز على هذا. وصل: هي نافية، والمعنى لم يعملوه بل العامل له هو الله عز وجل أي وجدوها معمولة ولا صنع لهم فيها وهو قول الضحاك ومقاتل. وقيل: إنها نكرة موصوفة والكلام فيها كالذي في الموصولة، وقيل إنها مصدرية أي ومن عمل أيديهم والمصدر واقع موقع المفعول به فيعود المعنى إلى معنى الموصولة أو الموصوفة.
وعن ابن عباس في الآية قال: " وجدوها معمولة لم تعملها أيديهم " يعني الفرات ودجلة ونهر بلخ وأشباهها (أفلا يشكرون) الاستفهام للتقريع والتوبيخ لهم بعدم شكرهم للنعم المعدودة والفاء للعطف على مقدر يقتضيه المقام أي: أيرون هذه النعم؟ أو أيتنعمون بها فلا يشكرونها؟.(11/290)
سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ (36)
(سبحان الذي خلق الأزواج كلها) مستأنفة مسوقة لتنزيهه سبحانه عما وقع منهم من ترك الشكر لنعمه المذكورة والتعجب من إخلالهم بذلك وقد تقدم الكلام مستوفى في معنى سبحان؛ وهو في تقدير الأمر للعباد بأن ينزهوه عما لا يليق به؛ والأزواج الأنواع والأصناف فكل زوج صنف لأنه مختلف في(11/290)
الألوان والطعوم والأشكال والصغر والكبر فاختلافها هو ازدواجها قال قتادة يعني الذكر والأنثى (مما تنبت الأرض) بيان للأزواج والمراد كل ما نبت فيها من الأشياء المذكورة وغيرها لأنه أصناف.
(ومن أنفسهم) أي خلق الأزواج من أنفسهم وهم الذكور والإناث (ومما لا يعلمون) من أصناف خلقه في البر والبحر والسماء والأرض ففي الأودية والبحار أشياء لا يعلمها الناس؛ ولم يطلعهم الله عليها، ولا توصلوا إلى معرفتها ووجه الاستدلال في هذه الآية أنه إذا انفرد بالخلق فلا ينبغي أن يشرك به.(11/291)
وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ (37)
(وآية لهم الليل نسلخ منه النهار) الكلام في هذا كما قدمنا في قوله (وآية لهم الأرض) الخ والمعنى أن ذلك علامة دالة على توحيد الله وقدرته، ووجوب إلهيته. والسلخ الكشط والنزع، يقال: سلخه الله من بدنه، ثم يستعمل بمعنى الإخراج فجعل سبحانه ذهاب الضوء ومجيء الظلمة كالسلخ من الشيء وهو استعارة بليغة.
(فإذا هم مظلمون) أي داخلون في الظلام مفاجأة وبغتة. يقال: أظلمنا أي دخلنا في ظلام الليل، وأظهرنا دخلنا في وقت الظهر، وكذلك أصبحنا وأمسينا، وقيل منه بمعنى عنه. والمعنى نسلخ عنه ضوء النهار فإذا هم في ظلمة لأن ضوء النهار يتداخل في الهواء فيضيء، فإذا خرج منه أظلم.
قال الفراء: يرمي بالنهار على الليل فيأتي بالظلمة، وذلك أن الأصل هي الظلمة والنهار داخل عليه، فإذا غربت الشمس سلخ النهار من الليل أي كشط وأزيل فتظهر الظلمة، وظاهره يشعر بأن النهار طارىء على الليل، قال المرزوقي في الآية: دلت على أن الليل قبل النهار لأن المسلوخ منه يكون قبل المسلوخ كما أن المغطى قبل الغطاء، لكن كلامه في سورة الرعد مؤذن بأن بين الليل والنهار توالجاً وتداخلاً، قال تعالى: (يكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل).(11/291)
وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38) وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39)(11/292)
وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38)
(والشمس تجري لمستقر لها) يحتمل أن تكون الواو للعطف على الليل والتقدير: وآية لهم الشمس، ويجوز أن تكون ابتدائية، والشمس مبتدأ وما بعدها الخبر، ويكون الكلام مستأنفاً مشتملاً على ذكر آية مستقلة. قيل: وفي الكلام حذف، والتقدير تجري لمجرى مستقرٍ لها أي تنتهي في سيرها لأجل مستقر لها.
وقيل: اللام بمعنى إلى، قيل: والمراد بالمستقر يوم القيامة فعنده تستقر فلا تبقى لها حركة، وقيل: مستقرها هو أبعد ما تنتهي إليه ولا تجاوزه، وقيل: نهاية ارتفاعها في الصيف، ونهاية هبوطها في الشتاء، وقيل: مستقرها تحت العرش لأنها تذهب إلى هنالك فتسجد فتستأذن في الرجوع فيؤذن لها، وهذا هو الراجح.
وقال الحسن: إن للشمس في السنة ثلثمائة وستين مطلعاً تنزل في كل يوم مطلعاً، ثم لا تنزل إلى الحول، فهي تجري في تلك المنازل وهو مستقرها.
وقيل: إن الشمس في الليل تسير وتشرق على عالم آخر من أهل الأرض، وإن كنا لا نعرفه (1)، ويؤيد هذا القول ما قاله الفقهاء في باب المواقيت.
كالشمس الرملي من أن الأوقات الخمسة تختلف باختلاف الجهات والنواحي فقد يكون المغرب عندنا عصراً عند آخرين، ويكون الظهر صبحاً عند آخرين، وهكذا، وقيل غير ذلك، وقرىء لا مستقر لها بلا التي لنفي الجنس، وبناء مستقر على الفتح وقرىء لا مستقر، بلا التي بمعنى ليس،
_________
(1) ينبغي التعليق على قوله: وقيل: إن الشمس في الليل تسير وتشرق على عالم آخر من أهل الأرض وإن كنا لا نعرفه .. الخ .. بالقول: إن الشمس تشرق على عالم آخر حينما تغيب عنا، ولكن لا تسير الشمس بل بسير ودوران الأرض نفسها، كما أثبت العلم حديثاً.(11/292)
ومستقر اسمها ولها خبرها.
(ذلك) أي ذلك الجري على ذلك الحساب الذي يكل النظر عن استخراجه وتتحير الأفهام عن استنباطه (تقدير العزيز) أي الغالب القاهر بقدرته على كل مقدور (العليم) أي المحيط علمه بكل شيء، ويحتمل أن تكون الإشارة راجعة إلى المستقر أي ذلك المستقر تقدير الله.
أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي ذر قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله: (والشمس تجري لمستقر لها) قال: مستقرها تحت العرش (1).
وفي لفظ للبخاري وغيره من حديثه قال: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد عند غروب الشمس فقال: يا أبا ذر أتدري أين تغرب الشمس؟ قلت الله ورسوله أعلم. قال: إنها تذهب حتى تسجد تحت العرش فذلك قوله: والشمس تجري لمستقر لها.
وفي لفظ من حديثه أيضاًً عند أحمد والترمذي والنسائي وغيرهم، قال: " يا أبا ذر أتدري أين تذهب هذه؟ قلت الله ورسوله أعلم قال: فإنها تذهب حتى تسجد بين يدي ربها فتستأذن في الرجوع فيأذن لها، وكأنها قد قيل لها: اطلعي من حيث جئت فتطلع من مغربها، ثم قرأ ذلك مستقر لها، وذلك قراءة عبد الله وأخرج الترمذي والنسائي وغيرهما من قول ابن عمر نحوه.
قال النووي: اختلف المفسرون فيه، فقال جماعة بظاهر الحديث، قال الواحدي: فعلى هذا القول إذا غربت الشمس كل يوم استقرت تحت العرش إلى أن تطلع، وقيل: تجري إلى مستقر لها وأصل لا تتعداه وعلى هذا فمستقرها انتهاء سيرها عند انقضاء الدنيا، وأما سجود الشمس فهو تمييز
_________
(1) رواه البخاري في صحيحه 6/ 214 و8/ 416 و13/ 350 ومسلم 1/ 139 والترمذي 2/ 155 وقال: هذا حديث حسن صحيح والسيوطي في الدر 5/ 263 وللنووي في شرح مسلم 2/ 195 كلام فليراجع هناك.(11/293)
وإدراك يخلقه الله تعالى فيها والله أعلم (1).
_________
(1) زاد المسير 7/ 18.(11/294)
وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39)
(والقمر قدرناه منازل) قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو برفع القمر على الابتداء، وقرأ الباقون بالنصب على الاشتغال، وانتصاب منازل على أنه مفعول لأن قدرنا بمعنى صيرنا، ويجوز أن يكون منتصباً على الحال. أي قدرنا سيره حال كونه ذا منازل، ويجوز أن يكون منتصباً على الظرفية أي في منازل، واختار أبو عبيد النصب في القمر، قال: لأن قبله فعلاً وهو، نسلخ وبعده فعلاً وهو: قدرنا.
قال النحاس: أهل العربية جميعاً فيما علمت على خلاف ما قال، منهم الفراء قال الرفع أعجب إليّ. قال: وإنما كان الرفع عندهم أولى لأنه معطوف على ما قبله، ومعناه: وآية لهم القمر، قال أبو حاتم: الرفع أولى لأنك شغلت الفعل عنه بالضمير فرفعته بالابتداء.
والمنازل هي الثمانية والعشرون التي ينزل القمر كل ليلة في واحد منها لا يتخطاه ولا يتقاصر عنه على تقدير مستو يسير فيها من ليلة المستهل إلى الثامنة والعشرين، ثم يستتر ليلتين أو ليلة إذا نقص الشهر وهي معروفة، وسيأتي ذكرها، فإذا صار القمر في آخرها عاد إلى أولها فيقطع الفلك في ثمان وعشرين ليلة ثم يستتر ليلتين ثم يطلع هلالاً فيعود في قطع تلك المنازل في الفلك كالعرجون.
أخرج الخطيب عن ابن عباس في الآية قال: " هي ثمانية وعشرون منزلاً ينزلها القمر في كل شهر، أربعة عشر منها شامية وأربعة عشر منها يمانية، فأولها الشرطين والبطين والثريا والدبران والهقعة والهنعة والذراع والنثرة والطرف والجبهة والزبرة والصرفة والعواء والسماك. وهو آخر الشامية،(11/294)
والغفر والزباني والإكليل والقلب والشولة والنعائم والبلدة وسعد الذابح وسعد بلع وسعد السعود وسعد الأخبية ومقدم الدلو ومؤخر الدلو والحوت وهو آخر اليمانية ".
سئل الرملي: هل القمر الموجود في كل شهر هو الموجود في الآخر أو غيره؟ فأجاب بأن في كل شهر قمراً جديداً (1)، انتهى، وهذا يدل على صحة تجدد الأمثال إن ثبت بالنص من الشارع. ويمكن بمثله القول في الشمس لكن لا دليل على ذلك كله.
(حتى عاد) في آخر منازله في رأى العين (كالعرجون القديم) هو عود الشمراخ بالضم إذا يبس واعوج والقديم الذي أتى عليه الحول فإذا قدم عتق ويبس وتقوس واصفر فشبه القمر به من ثلاثة أوجه. فإذا سار هذه الثمانية وعشرين منزلاً عاد كالعرجون القديم كما كان في أول الشهر، وهذا يدفع ما ذكره الرملي فليتأمل.
وقال ابن عباس: العرجون القديم أصل العذق العتيق، قال الزجاج العرجون هو عود العذق الذي فيه الشماريخ، وهو فعلون من الانعراج وهو الانعطاف، أي سار في منازله حتى إذا كان في آخرها دق واستقوس وصغر حتى صار كالعرجون القديم، وعلى هذا فالنون زائدة.
قال قتادة: هو العذق اليابس المنحني من النخلة، قال ثعلب: العرجون الذي يبقى في النخلة إذا قطعت، والقديم البالي. وقال الخليل: العرجون أصل العذق، وهو أصفر عريض يشبه به الهلال إذا انحنى، وكذا قال الجوهري: إنه أصل العذق الذي يعوج ويقطع منه الشماريخ فيبقى على النخل يابساً، وعرجنه ضربه بالعرجون وعلى هذا فالنون أصلية قرأ الجمهور:
بضم العين والجيم وقرىء: بكسر العين وفتح الجيم وهما لغتان.
_________
(1) لا صحة لما قاله الرملي. فقد ثبت بالدليل العلمي أن القمر واحد.(11/295)
لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (40) وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (41) وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ (42)(11/296)
لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (40)
(لا الشمس ينبغي لها) مرفوعة بالابتداء أي لا يصح ولا يمكن للشمس ولا يستقيم ولا يتسهل (أن تدرك القمر) في سرعة السير وتنزل في المنزل الذي فيه القمر وتجتمع معه في وقت واحد وتداخله في سلطانه فتطمس نوره لأن ذلك يخل بتكوين النبات وتعييش الحيوان، ولأن لكل واحد منهما سلطاناً على انفراده فلا يتمكن أحدهما من الدخول على الآخر فيذهب سلطانه إلى أن يأذن الله بالقيامة فتطلع الشمس من مغربها، ويفهم من الآية أن حركتها بالتسخير لا بإرادتها.
ونفى الله تعالى الإدراك عن الشمس دون عكسه، لأن مسير القمر أسرع، لأنه يقطع فلكه في شهر، والشمس لا تقطع فلكها إلا في سنة، فكانت جديرة بأن توصف بنفي الإدراك لبطء سيرها، وكان القمر خليقاً بأن يوصف بنفي السبق لسرعة سيره كما سيأتي (1)، وقال الضحاك: معناه إذا طلعت الشمس لم يكن للقمر ضوء، وإذا طلع القمر لم يكن للشمس ضوء، وقال مجاهد: أي لا يشبه ضوء أحدهما ضوء الآخر، وقال الحسن إنهما لا يجتمعان في السماء ليلة الهلال خاصة، وكذا قال يحيى بن سلام.
وقيل: معناه إذا اجتمعا في السماء كان أحدهما بين يدي الآخر في منزل لا يشتركان فيه، وقيل: القمر في سماء الدنيا والشمس في السماء الرابعة ذكره النحاس والمهدوي، قال النحاس وأحسن ما قيل في معناه وأبينه أن سير القمر سريع والشمس لا تدركه في السير (2)، وأما قوله تعالى: وجمع الشمس والقمر
_________
(1) للقمر مداره، كما أن للأرض مدارها، والقمر كما هو معروف يدور حول الأرض والأرض تدور حول الشمس، والقمر يتبع الأرض بدورانها أيضاًً، كما ثبت علمياً. فالكلام المذكور غير صحيح.
(2) للقمر مداره، كما أن للأرض مدارها، والقمر كما هو معروف يدور حول الأرض والأرض تدور حول الشمس، والقمر يتبع الأرض بدورانها أيضاًً، كما ثبت علمياً. فالكلام المذكور غير صحيح.(11/296)
فذلك حين حبس الشمس عن الطلوع على ما تقدم بيانه في الأنعام، ويأتي في سورة القيامة أيضاًً، وجمعهما علامة لانقضاء الدنيا وقيام الساعة.
(ولا الليل سابق النهار) أي لا يسبقه فيفوته، ولكن يعاقبه ويجيء كل واحد منهما في وقته، ولا يسبق صاحبه. وقيل: المراد من الليل والنهار آيتاهما وهما الشمس والقمر، فيكون عكس قوله: لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر أي ولا القمر سابق الشمس، وإيراد السبق مكان الإدراك لسرعة سير القمر وهما نيران لا يزال أمرهما على هذا الترتيب إلى أن تقوم الساعة، فيجمع الله بين الشمس والقمر، وتطلع الشمس من مغربها. وهذا لا ينافي أن الليل برمته سابق في الوجود على النهار برمته، وهو أحد قولين.
واستدل بعضهم بهذه الآية على أن النهار مخلوق قبل الليل وأن الليل لم يسبقه بالخلق ووجه الاستدلال: أن المعنى ليس الليل سابق النهار، يعني بل النهار هو السابق وهذا ينظر إلى مقابلة جملة الليل بجملة النهار، والآية محتملة لكل من القولين.
(وكل في فلك يسبحون) التنوين في كل عوض من المضاف إليه أي وكل واحد منهما والفلك هو الجسم المستدير أو السطح المستدير أو الدائرة، قال العماد بن كثير في البداية والنهاية: حكى ابن حزم وابن الجوزي وغير واحد الإجماع على أن السموات كرية مستديرة واستدل عليه بهذه الآية. قال الحسن: يدورون.
وقال ابن عباس في فلكة مثل فلكة المغزل قالوا: ويدل على ذلك أن الشمس تغرب كل ليلة من المغرب ثم تطلع في آخرها من الشرق. قال: ابن حجر حكى الإجماع على أن السموات مستديرة جمع وأقاموا عليه الأدلة وخالف في ذلك فرق يسيرة من أهل الجدل وقال ابن العربي: السموات(11/297)
ساكنة لا حركة فيها جعلها الله ثابتة مستقرة هي لنا كالسقف للبيت، ولهذا سماها السقف المرفوع.
واستخرج أهل البديع من لفظ كل في فلك صنعة القلب، ونحوه قوله تعالى: (وربك فكبر) والسبح السير بانبساط وسهولة، والجمع باعتبار اختلاف مطالعهما فكأنهما متعددان بتعددها أو المراد الشمس والقمر والكواكب، ثم ذكر سبحانه وتعالى نوعاً آخر مما امتن به على عباده من النعم فقال:(11/298)
وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (41)
(وآية لهم) ارتفاع آية على أنها خبر مقدم والمبتدأ أنا حملنا أو العكس، أي علامة ودلالة، وقيل: معنى آية هنا العبرة، وقيل: النعمة، وقيل: النذارة، وقد اختلف في معنى.
(أنا حملنا ذريتهم) وإلى من يرجع الضمير لأن الضمير الأول وهو قوله: وآية لهم لأهل مكة أو لكفار العرب أو للكفار على الإطلاق الكائنين في عصر محمد صلى الله عليه وسلم، فقيل: الضمير يرجع إلى القرون الماضية، والمعنى: أن الله حمل ذرية القرون الماضية.
(في الفلك المشحون) فالضميران مختلفان، وهذا حكاه النحاس عن الأخفش، وقيل: الضميران لكفار مكة ونحوهم، والمعنى: أن الله حمل ذرياتهم من أولادهم وضعفائهم على الفلك فامتن الله عليهم بذلك، أي أنهم يحملونهم معهم في السفن إذا سافروا أو يبعثون أولادهم للتجارة لهم فيها، وإنما ذكر ذريتهم دونهم لأنه أبلغ في الامتنان عليه، وأبلغ في التعجب من قدرته، وقيل: الذرية الآباء والأجداد، والفلك: هو سفينة نوح أي أن الله حمل آباء هؤلاء وأجدادهم في سفينة نوح.
قال الواحدي: والذرية تقع على الآباء كما تقع على الأولاد، قال أبو(11/298)
عثمان: وسمى الآباء ذرية لأن منهم ذرء الأبناء وقيل الذرية النطف الكائنة في بطون النساء، وشبه البطون بالفلك المشحون. قاله علي بن أبي طالب ذكره الماوردي والراجح القول الثاني ثم الأول ثم الثالث، وأما الرابع: ففي غاية البعد والنكارة وقد تقدم الكلام في الذرية واشتقاقها في سورة البقرة مستوفى.
وقيل: إن الضمير في قوله (لهم) يرجع إلى العباد المذكورين في قوله يا حسرة على العباد، لأنه قال بعد ذلك: (وآية لهم الأرض الميتة)، وقال: (وآية لهم الليل)، ثم قال: (وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ)، فكأنه قال: وآية للعباد أنا حملنا ذريات العباد، ولا يلزم أن يكون المراد بأحد الضميرين البعض منهم، وبالضمير الآخر البعض الآخر وهذا قول حسن. والمشحون: المملوء الموقر، والفلك يطلق على الواحد والجمع كما تقدم في يونس.
عن أبي مالك في الآية قال في سفينة نوح: حمل فيها من كل زوجين اثنين، وعن أبي صالح نحوه، وعنه في الآية قال: يعني الإبل خلقها الله كما رأيت فهي سفن البر يحملون عليها ويركبونها، ومثله عن الحسن وعكرمة وعبد الله بن شداد ومجاهد.(11/299)
وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ (42)
(وخلقنا لهم من مثله ما يركبون) أي وخلقنا لهم مما يماثل الفلك ما يركبونه على أن (ما) هي الموصولة ومن زائدة وقال مجاهد وقتادة وجماعة من أهل العلم من المفسرين وهي الإبل خلقها لهم للركوب في البر مثل السفن المركوبة في البحر، والعرب تسمي الإبل سفائن البر، وقيل: المعنى وخلقنا لهم سفناً أمثال تلك السفن يركبونها، قاله الحسن والضحاك وأبو مالك، وقال النحاس: وهذا أصح لأنه متصل الإسناد عن ابن عباس، وقيل: هي السفن المتخذة بعد سفينة نوح. قلت: والعموم أولى ولا وجه للتخصيص، فيشمل كل ما يركب حيواناً كان أو جماداً دخاناً كان أو ريحاً، كالعجلات الحادثة في هذا الزمان، وما سيحدث في المستقبل بتلاحق الأفكار وتعامل الأيدي والأنظار.(11/299)
وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ وَلَا هُمْ يُنْقَذُونَ (43) إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (44) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (45) وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (46) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (47)(11/300)
وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ وَلَا هُمْ يُنْقَذُونَ (43)
(وإن نشأ نغرقهم) هذا من تمام الآية التي امتن الله بها عليهم ووجه الامتنان أنه لم يغرقهم في لجج البحار مع قدرته على ذلك، أولم يحرقهم بنار العجلات الدخانية الحادثة الآن، والضمير يرجع إلى أصحاب الذرية أو إلى الذرية أو إلى الجميع على اختلاف الأقوال.
(فلا صريخ لهم) الصريخ: بمعنى المصرخ والمصرخ هو المغيث أي فلا مغيث لهم يغيثهم إن شئنا إغراقهم أو إحراقهم، وقيل هو المنعة وكما يطلق الصريخ على المغيث يطلق على الصارخ وهو المستغيث، فهو من الأضداد كما صرح به أهل اللغة، ويكون مصدراً بمعنى الإغاثة لأنه في الأصل بمعنى الصراخ، وهو صوت مخصوص وكل منهما صحيح هنا قاله الشهاب.
(ولا هم ينقذون) أي لا يخلصون ولا ينجون. يقال: أنقذه واستنقذه إذا خلصه من مكروه(11/300)
إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (44)
(إلا رحمة منا) استثناء مفرغ من أعم العلل، أي لا صريخ لهم ولا ينقذون لشيء من الأشياء إلا لرحمة منا، كذا قال الكسائي والزجاج وغيرهما، وقيل: هو استثناء منقطع أي لكن لرحمة منا.
(ومتاعاً) أي نمتعهم بالحياة الدنيا (إلى حين) وهو الموت، قاله قتادة، وقال يحيى بن سلام إلى القيامة.(11/300)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (45)
(وإذا قيل لهم) بيان لإعراضهم عن الآيات التنزيلية بعد بيان إعراضهم عن الآيات الآفاقية التي كانوا يشاهدونها وعدم تأملهم فيها (اتقوا ما بين أيديكم) من الآفات والنوازل فإنها محيطة بكم.(11/300)
(وما خلفكم) منها قال قتادة: أي اتقوا ما بين أيديكم من الوقائع فيمن كان قبلكم من الأمم، وما خلفكم في الآخرة. وقال سعيد بن جبير ومجاهد: ما بين أيديكم ما مضى من الذنوب وما خلفكم ما بقي منها، وقيل: ما بين أيديكم الدنيا وما خلفكم الآخرة، قاله سفيان وحكى عكس هذا القول الثعلبي عن ابن عباس، وقيل: ما بين أيديكم ما ظهر لكم وما خلفكم ما خفي عنكم وجواب إذا محذوف، والتقدير إذا قيل لهم ذلك أعرضوا كما يدل عليه إلا كانوا عنها معرضين.
(لعلكم ترحمون) أي رجاء أن ترحموا أو كي ترحموا أو راجين أن ترحموا.(11/301)
وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (46)
(وما تأتيهم من آية من آيات ربهم) ما هي النافية وصيغة المضارع للدلالة على التجدد ومن الأولى مزيدة للتوكيد والثانية للتبعيض والمعنى: ما تأتيهم من آية دالة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وعلى صحة ما دعا إليه من التوحيد في حال من الأحوال.
(إلا كانوا عنها معرضين) وظاهره يشمل الآيات التنزيلية والتكوينية، والمراد بالإعراض عدم الالتفات إليها وترك النظر الصحيح فيها، وهذه الآية متعلقة بقوله: يا حسرة على العباد ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون إذا جاءتهم الرسل كذبوا، وإذا أتوا بالآيات أعرضوا عنها.(11/301)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (47)
(وإذا قيل لهم) إشارة إلى أنهم أخلوا بجميع التكاليف لأن جملتها ترجع إلى أمرين: التعظيم لجانب الله والشفقة على خلق الله.
(أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ) أي تصدقوا على الفقراء مما أعطاكم الله وأنعم به عليكم من الأموال، قال الحسن: يعني اليهود أمروا بإطعام الفقراء، وقال مقاتل: إن المؤمنين قالوا لكفار قريش: أنفقوا على المساكين مما زعمتم أنه لله من أموالكم من الحرث والأنعام كما في قوله سبحانه: (وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيباً) فكان جوابهم ما حكاه الله عنهم بقوله:(11/301)
(قال الذين كفروا للذين آمنوا) استهزاء بهم وتهكماً بقولهم.
(أنطعم من لو يشاء الله أطعمه)؟ أي من لو يشاء الله رزقه؟ وقد كانوا سمعوا المسلمين يقولون: إن الرازق هو الله، وإنه يغني من يشاء ويفقر من يشاء، فكأنهم حاولوا بهذا القول الإلزام للمسلمين، وقالوا: نحن نوافق مشيئة الله فلا نطعم من لم يطعمه الله وهذا غلط منهم ومكابرة ومجادلة بالباطل فإن الله سبحانه أغنى بعض خلقه وأفقر بعضاً ابتلاء، فمنع الدنيا من الفقير لا بخلاً، وأعطى الدنيا للغني لا استحقاقاً وأمر الغني أن يطعم الفقير وابتلاه به فيما فرض له من ماله من الصدقة ولا اعتراض لأحد في مشيئة الله وحكمته في خلقه. والمؤمن يوافق أمر الله.
وقولهم: من لو يشاء الله أطعمه هو وإن كان كلاماً صحيحاً في نفسه ولكنهم لما قصدوا به الإنكار لقدرة الله وإنكار جواز الأمر بالإنفاق مع قدرة الله كان احتجاجهم من هذه الحيثية باطلاً.
(إن أنتم) في قولكم لنا ذلك مع معتقدكم هذا (إلا في ضلال مبين) أي بين وهذا من تمام كلام الكفار، والمعنى أنكم أيها المسلمون في سؤال المال وأمرنا بإطعام الفقراء لفي ضلال في غاية الوضوح والظهور، وقيل: هو من كلام الله سبحانه جواباً على هذه المقالة التي قالها الكفار، وقيل: هو من قول أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لهم:
وقال القشيري والماوردي: إن الآية نزلت في قوم من الزنادقة وقد كان في كفار قريش وغيرهم من سائر العرب قوم يتزندقون فلا يؤمنون بالصانع فقالوا هذه المقالة استهزاء بالمسلمين ومناقضة لهم، وحكى نحو هذا القرطبي عن ابن عباس ولهذا أظهر في مقام الإضمار قيل: كان العاص بن وائل السهمي إذا سأله المسكين قال له: اذهب إلى ربك فهو أولى مني بك، ويقول: قد منعه الله أفأطعمه أنا (1).
_________
(1) ذكر هذا المعنى الخازن في تفسيره.(11/302)
وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (48) مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (49) فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (50) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (51) قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (52) إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (53) فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (54)(11/303)
وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (48)
(ويقولون متى هذا الوعد) الذي تعدوننا به من البعث والعذاب والقيامة والمصير إلى الجنة والنار، وهذا رجوع للكلام مع الكفار من قريش المعترفين بوجود الله تعالى.
(إن كنتم صادقين) فيما تقولونه وتعدوننا به. قالوا ذلك استهزاء منهم، وسخرية بالمؤمنين، ومقصودهم إنكار ذلك بالمرة ونفي تحققه وجحد وقوعه، فأجاب الله سبحانه عنهم بقوله:(11/303)
مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (49)
(ما ينظرون) أي ما ينتظرون.
(إلا صيحة واحدة) وهي نفخة إسرافيل في الصور، وهذه النفخة هي الأولى وهي نفخة الصعق التي يموت بها من كان موجوداً على وجه الأرض، وجعلوا منتظرين نظراً إلى قولهم متى تقع لأن من قال: متى يقع الشيء الفلاني يفهم من كلامه أنه ينتظر وقوعه.
(تأخذهم وهم يخصمون) أي يختصمون في ذات بينهم في البيع والشراء ونحوهما من أمور الدنيا، ويتكلمون في الأسواق والمجالس وفي متصرفاتهم فتأتيهم الساعة أغفل ما كانوا عنها، وقد صح هذا في الأحاديث الصحيحة وهي معروفة في كتب السنة (1)، وقرىء يخصمون بسكون الخاء وتخفيف الصاد من خصم يخصم والمعنى يخصم بعضهم بعضاً وقرىء بإخفاء فتحة
_________
(1) مسلم/2954.(11/303)
الخاء وتشديد الصاد وبإظهار فتحة الخاء وتشديد الصاد وبكسر الخاء وتشديد الصاد والأصل في القراآت الثلاث يختصمون وقرأ أبي على الأصل والقراآت كلها سبعية.(11/304)
فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (50)
(فلا يستطيعون توصية) أي لا يستطيع بعضهم أن يوصي إلى بعض بما له وما عليه، أو لا يستطيع أن يوصيه بالتوبة والإقلاع عن المعاصي، بل يموتون في أسواقهم ومواضعهم. قال أبو هريرة: " تقوم الساعة والناس في أسواقهم يتبايعون ويذرعون الثياب ويحلبون اللقاح، وفي حوائجهم فلا يستطيعون توصية " الآية.
وعن الزبير بن العوام قال: " إن الساعة تقوم والرجل يذرع الثوب، والرجل يحلب الناقة " ثم قرأ الآية.
وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لتقومن الساعة وقد نشر الرجلان ثوبهما فلا يتبايعانه ولا يطويانه ولتقومن الساعة وهو يليط حوضه فلا يسقي فيه. ولتقومن الساعة وقد انصرف الرجل بلبن لقحته ولا يطعمه ولتقومن الساعة وقد رفع أكلته إلى فيه فلا يطعمها ".
(ولا إلى أهلهم يرجعون) أي إلى منازلهم التي ماتوا خارجين عنها بل يموتون حيث يسمعون الصيحة لأن الساعة لا تمهلهم بشيء، وقيل: المعنى لا يرجعون إلى أهلهم قولاً، وهذا إخبار عما ينزل بهم عند النفخة الأولى ثم أخبر سبحانه عما ينزل بهم عند النفخة الثانية فقال:(11/304)
وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (51)
(ونفخ في الصور) وهي النفخة التي يبعثون بها من قبورهم وما بين النفختين أربعون سنة.
أخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما بين النفختين أربعون. قالوا: يا أبا هريرة أربعين يوماً قال أبيت قالوا: أربعين شهراً؟ قال: أبيت. قالوا: أربعين سنة. قال: أبيت، ثم ينزل من السماء ماء فينبتون كما ينبت البقل وليس من الإنسان شيء لا يبلى إلا(11/304)
عظماً واحداً وهو عجب الذنب، ومنه يركب الخلق يوم القيامة " (1). وعبر عن المستقبل بلفظ الماضي حيث قال:
(ونفخ) تنبيهاً على تحقق وقوعه كما ذكره أهل البيان، وجعلوا هذه الآية مثالاً له، والصور بإسكان الواو: هو القرن الذي ينفخ فيه إسرافيل كما وردت بذلك السنة وإطلاق هذه الاسم على القرن معروف في لغة العرب وقد مضى هذا مستوفى في سورة الأنعام، وقال قتادة: الصور جمع صورة أي نفخ في الصور الأرواح.
(فإذا هم من الأجداث) أي القبور جمع جدث وهو القبر وقرىء الأجداف بالفاء وهي لغة واللغة الفصيحة بالثاء المثلثة.
(إلى ربهم ينسلون) أي يسرعون ويعدون ويخرجون منها أحياء بسرعة بطريق الجبر والقهر، لا بطريق الاختيار، فالنسل والنسلان الإسراع في السير يقال: نسل الذئب ينسل كضرب يضرب، ويقال: ينسل بالضم أيضاًً وهو الإسراع في المشي.
_________
(1) وهذا اللفظ لمسلم.(11/305)
قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (52)
(قالوا) عند بعثهم من القبور بالنفخة.
(يا ويلنا) نادوا ويلهم كأنهم قالوا له: احضر فهذا أوان حضورك، وهو مصدر لا فعل له من لفظه، بل من معناه وهو هلك، وهؤلاء القائلون هم الكفار. قال ابن الأنباري: الوقف على يا ويلنا وقف حسن، ثم يبتدىء الكلام بقوله:
(من بعثنا من مرقدنا) أي مضجعنا ظنوا لاختلاط عقولهم بما شاهدوا من الهول وما داخلهم من الفزع أنهم كانوا نياماً. قرىء: من بعثنا على الاستفهام وبكسر الميم على أنها حرف جر وفي قراءة أبيّ: من أهبنا من هب من نومه إذا انتبه، وقيل: إنهم يقولون ذلك إذا عاينوا جهنم.
وقال أبو صالح: إذا نفخ النفخة الأولى رفع العذاب عن أهل القبور وهجعوا هجعة إلى النفخة الثانية وعن أبيّ بن كعب في الآية قال: " ينامون(11/305)
قبل البعث نومة "، وعن مجاهد: أنهم يستريحون من العذاب قبيل النفخة الثانية ويذوقون طعم النوم، انتهى. فعليه يكون قولهم من مرقدنا حقيقة لأن المرقد حقيقة هو مكان النوم وقيل: إن الله يرفع عنهم العذاب بين النفختين فيرقدون. فإذا بعثوا في الثانية عاينوا أهوال القيامة ودعوا بالويل.
(هذا ما وعد الرحمن) جواب عليهم من جهة الملائكة أو من جهة المؤمنين المتقين وقيل: هو من كلام الكفرة يجيب به بعضهم على بعض. قال بالأول الفراء وبالثاني مجاهد، وقال قتادة: هي من قول الله سبحانه و (ما) في (ما وعد) موصولة وعائدها محذوف، أي هذا الذي وعده الرحمن.
(وصدق) فيه (المرسلون) قد حق عليكم ونزل بكم، ومفعولا الوعد والصدق محذوفان، أي وعدكموه الرحمن وصدقكموه المرسلون، والأصل وعدكم به وصدقكم فيه أو وعدناه الرحمن وصدقناه المرسلون، على أن هذا من قول المؤمنين أو من قول الكفار أقروا حين لا ينفعهم الإقرار.(11/306)
إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (53)
(إن) أي ما (كانت) تلك النفخة الثانية التي حكيت عنهم آنفاً (إلا صيحة واحدة) صاحها إسرافيل بنفخه في الصور (فإذا هم جميع لدينا محضرون) أي فإذا هم مجموعون محضرون لدينا بسرعة للحساب والعقاب.(11/306)
فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (54)
(فاليوم لا تظلم نفس) من النفوس (شيئاًً) مما تستحقه أي لا ينقص من ثواب عملها شيئاًً من النقص، ولا تظلم فيه بنوع من أنواع الظلم، وهذا حكاية لما سيقال لهم حين يرون العذاب المعد لهم تحقيقاً للحق وتقريعاً لهم.
(ولا تجزون إلا) جزاء (ما كنتم تعملون) في الدنيا أو إلا بما كنتم تعملونه أي بسببه أو في مقابلته، ولما ذكر الله سبحانه حال الكافرين أتبعه بحكاية حال عباده الصالحين، وجعله من جملة ما يقال للكفار يومئذ زيادة لحسرتهم، وتكميلاً لجزعهم، وتتميماً لما نزل بهم من البلاء. وما شاهدوه من الشقاء، فإذا رأوا ما أعد الله لهم من العذاب وما أعده لأوليائه من أنواع النعيم بلغ ذلك من قلوبهم مبلغاً عظيماً، وزاد في ضيق صدورهم زيادة لا يقادر قدرها فقال:(11/306)
إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ (55) هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ (56)(11/307)
إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ (55)
(إن أصحاب الجنة اليوم في شغل) لما هم فيه من اللذات التي هي ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، عن الاهتمام بأمر الكفار ومصيرهم إلى النار، وإن كانوا من قراباتهم، والأولى عدم تخصيص الشغل بشيء معين والشغل هو الشأن الذي يصد المرء ويشغله عما سواه من شؤونه، لكونه أهم عنده من الكل، إما لإيجابه كمال المسرة والبهجة، أو كمال المساءة والغم، والمراد هنا هو الأول وما فيه من التنكير والإبهام للإيذان بارتفاعه عن رتبة البيان.
وقال قتادة ومجاهد: شغلهم ذلك اليوم بافتضاض العذارى وبه قال ابن عباس وابن مسعود وعكرمة، وعن ابن عمر: " أن المؤمن كلما أراد زوجة وجدها عذراء " وقد روي نحوه مرفوعاً (1)، وعن ابن عباس أيضاًً قال في ضرب الأوتار، وقال أبو حاتم: هذا لعله خطأ من المستمع، وإنما هو افتضاض الأبكار على شط الأنهار تحت الأشجار.
ْوقال وكيع: شغلهم بالسماع، وقال ابن كيسان بزيارة بعضهم بعضاً، وقيل: شغلهم كونهم ذلك اليوم في ضيافة الله الجبار، وقيل: شغلهم عما فيه أهل النار على الإطلاق أو عن أهاليهم في النار، لا يهمهم أمرهم، ولا يبالون بهم كيلا يدخل عليهم تنغيص في نعيمهم، والمراد به ما هم فيه من فنون الملاذ التي تلهيهم عما عداها بالكلية.
وأما أن المراد به افتضاض الأبكار أو السماع أو ضرب الأوتار أو
_________
(1) رواه ابن الجوزي في تفسيره 7/ 27.(11/307)
التزاور أو ضيافة الجبار كما روي كل واحد منها عن واحد من أكابر السلف فليس مرادهم بذلك حصر شغلهم فيما ذكروه فقط، بل بيان أنه من جملة أشغالهم وتخصيص كل منهم من تلك الأمور بالذكر محمول على اقتضاء مقام البيان إياه. قرىء: شغل بضمتين وبضم الشين وسكون الغين وهما لغتان كما قال الفراء، وقرىء: بفتحتين وبفتح الشين وسكون الغين.
(فاكهون) وقرىء فاكهين وفكهون قال الفراء: هما لغتان كالفارة والفرة والحاذر والحذر، وقال الكسائي وأبو عبيدة: الفاكه والفاكهة مثل تامر، ولابن، والفكه والمتفكه المتنعم.
وقال قتادة: الفكهون المعجبون، وقال أبو زيد: يقال: رجل فكه إذا كان طيب النفس ضحوكاً، وقال مجاهد والضحاك كما قال قتادة، وقال السدي كما قال الكسائي، وقال ابن عباس: فاكهون فرحون. وقيل: ناعمون متلذذون في النعمة من الفكاهة وهي التمتع والتلذذ مأخوذ من الفاكهة وفسرها زاده بطيب العيش والنشاط.(11/308)
هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ (56)
(هم وأزواجهم في ظلال على الأرائك متكئون) مستأنفة مسوقة لبيان كيفية شغلهم وتفكههم وتكميلها بما يزيدهم سروراً وبهجة من كون أزواجهم معهم على هذه الصفة من الاتكاء على الأرائك تحت تلك الظلال والظلال جمع ظل وقرىء ظل بضم الظاء جمع ظلة والظل هو الموضع الذي لا تقع عليه الشمس، والظلة ما سترك عن الشمس، وعلى القراءتين: فالمراد الفرش والستور التي تظللهم كالخيام والحجال، والأرائك جمع أريكة، كسفائن جمع سفينة، والمراد بها السرر التي في الحجال. قال أحمد بن يحيى: ثعلب الأريكة لا تكون إلا سريراً في قبة، وقال مقاتل: إن المراد بالظلال أكنان القصور. وجملة:(11/308)
لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ (57) سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (58) وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (59) أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61)(11/309)
لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ (57)
(لهم فيها فاكهة) مبينة لما يتمتعون به في الجنة من المآكل والمشارب ونحوها ويتلذذون به من الملاذ الجسمانية والروحانية بعد بيان ما لهم فيها من مجالس الأنس ومحافل القدس. أي ولهم فيها فاكهة كثيرة من كل نوع من أنواع الفواكه.
(ولهم ما يدعون) ما هذه هي الموصولة، والعائد محذوف أو موصوفة أو مصدرية، ويدعون مضارع ادعى. قال أبو عبيد: يدعون يتمنون والعرب تقول ادع على ما شئت أي تمن وفلان في خير ما يدعى أي يتمنى. قال الزجاج: هو من الدعاء أي ما يدعونه أهل الجنة يأتيهم من دعوت غلامي فيكون الافتعال بمعنى الفعل كالاحتمال بمعنى الحمل، والارتحال بمعنى الرحل. قيل: افتعل بمعنى تفاعل أي ما يتداعونه كقولهم: ارتموا وتراموا.
وقيل: المعنى أن من ادعى منهم شيئاًً فهو له لأن الله قد طبعهم على أن لا يدعي أحد منهم شيئاًً إلا وهو يحسن ويجمل به أن يدعيه، وقرىء يدعون بالتخفيف ومعناه واضح، قال ابن الأنباري: والوقف على (يدعون) وقف حسن، ثم يبتدىء.(11/309)
سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (58)
(سلام) على معنى لهم سلام: وقيل: إن سلام هو خبر (ما) أي: مسلم خالص أو ذو سلامة، وقال الزجاج: سلام بدل من (ما) أي: ولهم أن يسلم الله عليهم وهذا مُنى أهل الجنة، والأولى أن يحمل قوله: (ولهم ما يدعون) على العموم وهذا السلام يدخل تحته دخولاً أولياً، ولا وجه لقصره على نوع خاص، وإن كان أشرف أنواعه تحقيقاً لمعنى العموم، ورعاية لما يقتضيه النظم(11/309)
القرآني.
وقيل: إن سلام مبتدأ وخبره الناصب لـ (قولاً) أي سلام يقال لهم (قولاً) وقيل: التقدير سلام عليكم، وقرىء سلاماً على المصدرية أو على الحالية بمعنى خالصاً، والسلام إما من التحية أو من السلامة، وقرىء: يسلم كأنه قال: يسلم لهم لا يتنازعون فيه وانتصاب (قولاً) على أنه مصدر لفعل محذوف أي قال الله لهم ذلك قولاً أو يقوله لهم قولاً.
(من رب رحيم) أي من جهته قيل: يرسل الله سبحانه إليهم بالسلام وقال مقاتل: إن الملائكة تدخل على أهل الجنة من كل باب يقولون: سلام عليكم يا أهل الجنة من رب رحيم.
وأخرج ابن ماجة وابن أبي الدنيا في صفة الجنة، والبزار وابن أبي حاتم والآجري في الرؤية، وابن مردويه عن جابر قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: " بينا أهل الجنة في نعيمهم إذ سطع لهم نور فرفعوا رؤوسهم فإذا الرب قد أشرف عليهم من فوقهم فقال: السلام عليكم يا أهل الجنة، وذلك قول الله (سلام قولاً من رب رحيم) قال فينظر إليهم وينظرون إليه فلا يلتفتون إلى شيء من النعيم ما داموا ينظرون إليه حتى يحتجب عنهم، ويبقى نوره وبركته عليهم في ديارهم ". قال ابن كثير في إسناده نظر.
وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في الآية قال: إن الله هو يسلم عليهم.(11/310)
وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (59)
(وامتازوا اليوم أيها المجرمون) هو على إضمار القول مقابل ما قيل للمؤمنين، أي ويقال للمجرمين: امتازوا أي اعتزلوا من مازه يميزه، يقال مزت الشيء من الشيء إذا عزلته عنه ونحيته، قال مقاتل: معناه اعتزلوا اليوم يعني في الآخرة من الصالحين، وقال السدي: كونوا على حدة، وقال الزجاج: انفردوا عن المؤمنين، وذلك حين يحشر المؤمنون ويسار بهم إلى الجنة، وقيل: إن لكل كافر في النار بيتاً فيدخل ذلك البيت ويردم بابه فيكون فيه أبد الآبدين لا يرى(11/310)
ولا يرى، فعلى هذا القول يمتاز بعضهم عن بعض. وقال قتادة: عزلوا عن كل خير.
وقال الضحاك: يمتاز المجرمون بعضهم من بعض فيمتاز اليهود فرقة، والنصارى فرقة. والمجوس فرقة، والصابئون فرقة، وعبدة الأوثان فرقة.
وقال داود بن الجراح: يمتاز المسلمون من المجرمين إلا أصحاب الأهواء فإنهم يكونون مع المجرمين. ثم وبخهم سبحانه وقرعهم بقوله:(11/311)
أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60)
(ألم أعهد إليكم يا بني آدم ألا تعبدوا الشيطان)؟ وهذا من جملة ما يقال لهم، والعهد الوصية والتقدم بأمر فيه خير ومنفعة، والمراد هنا: ما كلفهم الله به على ألسنة الرسل من الأوامر والنواهي، أي ألم أوصكم وأبلغكم على ألسن رسلي أن لا تطيعوا الشيطان.
قال الزجاج: المعنى ألم أتقدم إليكم على لسان الرسل يا بني آدم، وقال مقاتل: يعني الذين أمروا بالاعتزال، وقيل: المراد بالعهد هنا الميثاق المأخوذ عليهم حين أخرجوا من ظهر آدم، وقيل: هو ما نصبه الله لهم وركزه فيهم من الدلائل العقلية التي في سمواته وأرضه وما أنزل عليهم من أدلة السمع.
وعبادة الشيطان طاعته فيما يوسوس به إليهم ويزينه لهم وإنما عبر عنها بالعبادة لزيادة التحذير والتنفير عنها ولوقوعها في مقابلة عبادة الله.
وجملة: (إنه لكم عدو مبين) تعليل لما قبلها من النهي عن طاعة الشيطان وقبول وسوسته(11/311)
وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61)
(وأن اعبدوني) أن في الموضعين هي المفسرة للعهد، الذي فيه معنى القول، ويجوز أن تكون مصدرية فيهما أي: ألم أعهد إليكم بأن لا تعبدوا الشيطان وبأن اعبدوني، أو ألم أعهد إليكم في ترك عبادة الشيطان وفي عبادتي؟ وتقديم النهي على الأمر لما أن حق التخلية التقديم على التحلية كما في كلمة التوحيد وليتصف به قوله:
(هذا) أي عبادة الله وتوحيده أو دين الإسلام (صراط مستقيم) بليغ في الاستقامة ولا صراط أقوم منه.(11/311)
وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (62) هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (63) اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (64) الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (65) وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (66) وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلَا يَرْجِعُونَ (67)
ثم ذكر سبحانه عداوة الشيطان لبني آدم فقال:(11/312)
وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (62)
(ولقد أضل منكم جبلاً كثيراً) اللام هي الموطئة للقسم، والجملة مستأنفة لتشديد التقريع وتأكيد التوبيخ، أي والله لقد أضل، قرىء: جبلاً بكسر الجيم والباء وتشديد اللام، وبضم الجيم وسكون الباء وبضمتين مع تخفيف اللام، وبضمتين مع تشديد اللام، وقرىء بكسر الجيم وإسكان الباء وتخفيف اللام.
قال النحاس: وأبينها القراءة الأولى، والدليل على ذلك أنهم قد قرأوا جميعاً: والجبلة الأولين بكسر الجيم والباء وتشديد اللام فيكون جبلاً جمع جبلة واشتقاق الكل من جبل الله الخلق أي خلقهم ومعنى الآية: أن الشيطان قد أغوى خلقاً كثيراً، كما قال مجاهد، وقال قتادة جموعاً كثيرة وقال الكلبي أمماً كثيرة، قال الثعلبي: والقراآت كلها بمعنى الخلق، وقرىء جيلاً بالجيم والياء التحتية، وقال الضحاك: الجيل الواحد عشرة آلاف، والكثير ما يحصيه إلا الله عز وجل.
(أفلم تكونوا تعقلون)؟ الهمزة للتوبيخ والتقريع والفاء للعطف على مقدر يقتضيه المقام كما تقدم في نظائره، أي أتشاهدون آثار العقوبات؟ فلم تكونوا تعقلون أو أفلم تكونوا تعقلون عداوة الشيطان لكم؟ أو أفلم تكونوا تعقلون شيئاًً أصلاً؟ قرىء الفعلان بالخطاب وبالغيبة.(11/312)
هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (63)
(هذه جهنم التي كنتم توعدون) بها في الدنيا على ألسنة الرسل،(11/312)
والقائل لهم الملائكة، وهو استئناف خوطبوا به بعد تمام التوبيخ عند إشرافهم على شفير جهنم، ثم يقولون لهم:(11/313)
اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (64)
(اصلوها) أمر تبكيت وإهانة كقوله: (ذق إنك أنت العزيز الكريم) أي قاسوا حرها وادخلوها (اليوم) وذوقوا أنواع العذاب فيها (بما كنتم تكفرون) أي بسبب كفركم بالله في الدنيا وطاعتكم للشيطان وعبادتكم للأوثان.(11/313)
الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (65)
(اليوم نختم على أفواههم) قال المفسرون إنهم ينكرون الشرك وتكذيب الرسل كما في قولهم: (والله ربنا ما كنا مشركين) فيختم الله على أفواههم ختماً لا يقدرون معه على الكلام وفي هذا ألتفات من الخطاب إلى الغيبة للإيذان بأن أفعالهم القبيحة مستدعية للإعراض عن خطابهم ثم قال:
(وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون) أي تكلمت أيديهم بما كانوا يفعلونه وشهدت أرجلهم عليهم بما كانوا يعملون باختيارها بعد إقدار الله تعالى لها على الكلام ليكون أدل على صدور الذنب منهم. وقرى: لتكلمنا ولتشهد بلام.
كما قيل: سبب الختم على أفواههم ليعرفهم أهل الموقف، وقيل: ختم على أفواههم لأجل أن يكون الإقرار من جوارحهم لأن شهادة غير الناطق أبلغ في الحجة من شهادة الناطق لخروجه مخرج الإعجاز، وقيل: ليعلموا أن أعضاءهم التي كانت أعواناً لهم في معاصي الله صارت شهوداً عليهم.
وجعل ما تنطق به الأيدي كلاماً وإقراراً لأنها كانت المباشرة لغالب المعاصي وجعل نطق الأرجل شهادة لأنها حاضرة عند كل معصية، وكلام الفاعل إقرار وكلام الحاضر شهادة، وهذا اعتبار الغالب وإلا فالأرجل قد تكون مباشرة للمعصية كما تكون الأيدي مباشرة لها.(11/313)
وأخرج أحمد ومسلم والنسائي والبزار وغيرهم عن أنس في الآية قال: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فضحك حتى بدت نواجذه قال: " أتدرون مم ضحكت؟ قلنا لا يا رسول الله قال: من مخاطبة العبد ربه يقول: يا رب ألم تجرني من الظلم. فيقول: بلى. فيقول: إني لا أجيز عليّ إلا شاهداً مني فيقول: (كفى بنفسك اليوم عليك شهيداً) بالكرام الكاتبين شهوداً فيختم على فيه، ويقال لأركانه: أنطقي فتنطق بأعماله، ثم يخلى بينه وبين الكلام فيقول: بعداً لكن وسحقاً فعنكن كنت أناضل " (1).
وأخرج مسلم والترمذي وابن مردويه والبيهقي عن أبي سعيد وأبي هريرة قالا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يلقى العبد ربه فيقول الله له ألم أكرمك وأسودك وأزوجك وأسخر لك الخيل والإبل وأذرك ترأس وتربع؟ فيقول: بلى أي رب، فيقول: أفظننت أنك ملاقي؟ فيقول: لا، فيقول: إني أنساك كما نسيتني، ثم يلقى الثاني فيقول مثل ذلك، ثم يلقى الثالث فيقول له مثل ذلك فيقول: آمنت بك وبكتابك وبرسولك وصليت وصمت وتصدقت ويثني بخير ما استطاع فيقول: ألا نبعث شاهدنا عليك فيفكر في نفسه من الذي يشهد علي؟ فيختم على فيه. ويقال لفخذه: انطقي فتنطق فخذه وفمه وعظامه بعمله ما كان، وذلك ليعذر من نفسه، وذلك المنافق وذلك الذي يسخط عليه "، وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم من حديث أبي موسى نحوه (2).
_________
(1) أحمد 2/ 48.
(2) أخرجه ابن أبي حاتم ورواه مسلم والنسائي بنحوه.(11/314)
وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (66)
(ولو نشاء) أن نطمس (لطمسنا على أعينهم) أي أذهبنا أعينهم وجعلناها بحيث لا يبدو لها شق ولا جفن، قال الكسائي: طمس يطمس ويطمس والطميس والمطموس عند أهل اللغة الذي ليس في عينيه شق كما في(11/314)
قوله: (ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم)، قال السدي والحسن: المعنى لتركناهم عمياً يترددون لا يبصرون طريق الهدى، واختار هذا ابن جرير، قال ابن عباس في الآية: أعميناهم وأضللناهم عن الهدى، وقال عطاء ومقاتل وقتادة: المعنى لو نشاء لفقأنا أعينهم وأعميناهم عن غيهم، وحولنا أبصارهم من الضلالة إلى الهدى فأبصروا رشدهم واهتدوا، وتبادروا إلى طريق الآخرة.
(فاستبقوا الصراط) معطوف على لطمسنا أي تبادروا إلى الطريق ليجوزوه ويمضوا فيه والصراط منصوب بنزع الخافض أي فاستبقوا إليه وقرىء: فاستبقوا على صيغة الأمر. أي فيقال لهم: استبقوا وفي هذا تهديد لهم.
(فأنى) أي فكيف (يبصرون) الطريق ويحسنون سلوكه ولا أبصار لهم ثم كرر التهديد لهم فقال:(11/315)
وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلَا يَرْجِعُونَ (67)
(ولو نشاء لمسخناهم على مكانتهم) المسخ تبديل الخلقة أي تغيير الصورة وإبطال القوى إلى حجر أو غيره من الجماد أو بهيمة والمكانة المكان أي: لو شئنا لبدلنا خلقهم على المكان الذي هم فيه، قيل: والمكانة أخص من المكان كالمقامة والمقام، قال الحسن: أي لأقعدناهم، وقيل: لمسخناهم في المكان الذي فعلوا فيه المعصية، وقيل: المعنى لو نشاء لأهلكناهم في مساكنهم قاله ابن عباس، وقال يحيى بن سلام: هذا كله يوم القيامة قرأ الجمهور: على مكانتهم بالإفراد وقرىء: على مكاناتهم بالجمع.
(فما استطاعوا مضياً ولا يرجعون) أي لا يقدرون على ذهاب ولا مجيء. قال الحسن: فلا يستطيعون أن يمضوا أمامهم ولا يرجعوا وراءهم، وكذلك الجماد لا يتقدم ولا يتأخر، وقرىء: مضياً بضم الميم وبفتحها وبكسرها، قيل: والمعنى لا يستطيعون رجوعا، يقال: مضى يمضي مضياً إذا ذهب في الأرض ورجع يرجع رجوعاً إذا عاد من حيث جاء.(11/315)
وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلَا يَعْقِلُونَ (68) وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (69)(11/316)
وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلَا يَعْقِلُونَ (68)
(ومن نعمره ننكسه في الخلق) قرأ الجمهور: ننكسه بفتح النون الأولى وسكون الثانية وضم الكاف مخففة، وقرىء: بضم النون الأولى وفتح الثانية وكسر الكاف مشددة والتنكيس جعل الشيء أعلاه أسفله، والمعنى: من نطل عمره نغير خلقه، ونجعله على عكس ما كان عليه أولاً من القوة والطراوة قال الزجاج المعنى من أطلنا عمره نكسنا خلقه فصار بدل القوة الضعف، وبدل الشباب الهرم، ومثل هذه الآية قوله سبحانه (ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئاًً). وقوله: (ثم رددناه أسفل سافلين.
(أفلا يعقلون)؟ قرأ الجمهور بالتحتية وقرىء بالفوقية على الخطاب أي أفلا يعلمون بعقولهم أن من قدر على ذلك قدر على البعث والنشور؟ ولما قال كفار مكة إن القرآن شعر، وإن محمداً شاعر، رد الله عليهم بقوله:(11/316)
وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (69)
(وما علمناه الشعر) والمعنى نفي كون القرآن شعراً، لأن الشعر كلام متكلف موضوع، ومقال مزخرف مصنوع، منسوج على منوال الوزن والقافية، مبني على خيالات وأوهام واهية، فأين ذلك من التنزيل الجليل المنزه عن مماثلة كلام البشر؟ المشحون بفنون الحكم والأحكام الباهرة. الموصل إلى سعادة الدنيا والآخرة، ثم نفى أن يكون النبي شاعراً فقال:
(وما ينبغي له) أي لا يصح له الشعر ولا يتأتى منه، ولا يتسهل عليه لو طلبه، وأراد أن يقوله بالطبع والسجية، كما جعلناه أمياً لا يهتدي إلى الخط لتكون الحجة أثبت، والشبهة أدحض، بل كان صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن ينشد بيتاً قد قاله شاعر متمثلاً به كسر وزنه، فإنه لما أنشد بيت طرفة بن العبد المشهور وهو قوله.
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلاً ... ويأتيك بالأخبار من لم تزود(11/316)
قال ويأتيك من لم تزود بالأخبار، وأنشد مرة أخرى قول العباس ابن مرداس السلمي:
أتجعل نهبي ونهب العبيد بين عيينة والأقرع
فقال: بين الأقرع وعيينة، وأنشد أيضاًً:
كفى بالإسلام والشيب ناهياً
فقال أبو بكر: يا رسول الله إنما قال الشاعر:
كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا
فقال: أشهد أنك رسول الله، يقول الله عز وجل: (وما علمناه الشعر وما ينبغي له).
وقد وقع منه صلى الله عليه وسلم كثير من مثل هذا، قال الخليل: كان الشعر أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من كثير من الكلام، ولكن لا يتأتى منه. انتهى ووجه عدم تعليمه الشعر وعدم قدرته عليه التكميل للحجة، والدحض للشبهة كما جعله الله أمياً لا يقرأ، ولا يكتب وأما ما روي عنه من قوله صلى الله عليه وسلم.
" هل أنت إلا أصبع دميت ... وفي سبيل الله ما لقيت "
وقوله:
" أنا النبي لا كذب ... أنا ابن عبد المطلب " (1)
ونحو ذلك فمن الاتفاق الوارد من غير قصد كما يأتي ذلك في بعض آيات القرآن وليس بشعر ولا مراد به الشعر، بل اتفق ذلك اتفاقاً كما يقع في كثير من كلام الناس فإنهم قد يتكلمون بما لو اعتبره معتبر لكان على وزن الشعر، ولا يعدونه شعراً، وذلك كقوله تعالى: (لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون) وقوله (وجفان كالجواب وقدور راسيات) على أنه قد قال الأخفش: إن قوله: أنا النبي لا كذب ليس بشعر.
_________
(1) ولابن كثير كلام طويل حول هذه النقطة فليراجع هناك.(11/317)
وقال الخليل في كتاب العين: إن ما جاء من السجع على جزأين لا يكون شعراً، قال ابن العربي: والأظهر من حاله أنه قال: لا كذب برفع الباء من كذب وبخفضها من عبد المطلب، قال النحاس قال بعضهم: إنما الرواية بالإعراب وإذا كانت بالإعراب لم يكن شعراً لأنه إذا فتح الباء من الأول أو ضمها أو نونها وكسر الباء من الثاني خرج عن وزن الشعر، وقيل: إن الضمير في (له) عائد إلى القرآن أي: وما ينبغي للقرآن أن يكون شعراً.
أخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم قال: " بلغني أنه قيل لعائشة هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتمثل بشيء من الشعر؟ قالت: كان أبغض الحديث إليه غير أنه كان يتمثل ببيت أخي بني قيس، فيجعل أوله آخره، يقول ويأتيك من لم تزود بالأخبار، فقال أبو بكر ليس هكذا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إني والله ما أنا بشاعر ولا ينبغي لي " (1)، وهذا يرد ما نقلناه عن الخليل سابقاً أن الشعر كان أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من كثير من الكلام.
وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استراث الخبر تمثل ببيت طرفة.
ويأتيك بالأخبار من لم تزود (1)
وأخرج ابن أبي شيبة عن ابن عباس قال: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتمثل من الأشعار. ويأتيك الخ "، وأخرج البيهقي في سننه عن عائشة: " قالت ما جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت شعر قط إلا بيتاً واحداً.
تفاءل بما تهوى يكن فلقلما ... يقال لشيء كان إلا تحقق
قالت عائشة: ولم يقل تحققا لئلا يعربه فيصير شعراً، وإسناده هكذا. قال أخبرنا أبو عبد الله الحافظ يعني الحاكم حدثنا أبو حفص عمر بن أحمد بن نعيم
_________
(1) رواه أحمد في المسند وذكره السيوطي في الدر 5/ 268 والطبري في التفسير 23/ 27.(11/318)
حدثنا أبو محمد عبد الله بن هلال النحوي الضرير حدثنا علي بن عمرو الأنصاري حدثنا سفيان بن عيينة عن الزهري عن عروة عن عائشة فذكره وقد سئل المزي عن هذا الحديث فقال: هو منكر ولم يعرف شيخ الحاكم ولا الضرير في إسناده.
قال البيضاوي والخازن قال العلماء: ما كان يتزن له بيت شعر وإن تمثل ببيت شعر جرى على لسانه الشريف مكسراً، ولو كان ممن يقول الشعر لتطرقت التهمة عقلاً في أن ما جاء به من عند نفسه، ولهذا قال: ويحق القول الخ كما يأتي لأنه لم يبق إلا العناد الموجب للهلاك وقال القرطبي: إصابة الوزن منه صلى الله عليه وسلم في بعض الأحيان لا توجب أنه يعلم الشعر كقوله: أنا النبي لا كذب الخ والمعول عليه في الانفصال على تسليم أن هذا شعر، إذ التمثل بالبيت لا يوجب أن يكون قائله عالماً بالشعر ولا أن يسمى شاعراً باتفاق العلماء كما أن من خاط خيطاً على سبيل الاتفاق لا يكون خياطاً.
قال الزجاج: أي ما جعلناه شاعراً وهذا لا ينافي أن ينشىء شيئاًً من الشعر من غير قصد كونه شعراً. قال النحاس: وهذا أحسن ما قيل في هذا، وقد قيل: إنما أخبر الله عز وجل أنه ما علمه الشعر، وإن لم يخبر أنه لا ينشىء الشعر، وقد قالوا: كل من قال قولاً موزوناً لا يقصد به إلى شعر فليس بشاعر، وإنما وافق الشعر، فما يجري على اللسان من موزون الكلام لا يعد شعراً وإنما يعد منه ما يجري على وزن الشعر مع القصد إليه، ولما نفى أن يكون القرآن من جنس الشعر قال:
(إن هو) أي ما القرآن (إلا ذكر) من الأذكار وموعظة من المواعظ يوعظ بها الإنس والجن.
(وقرآن مبين) أي كتاب من كتب الله السماوية مشتمل على الأحكام الشرعية يقرأ في المحاريب، ويتلى في المتعبدات، وينال بتلاوته والعمل به فوز الدارين والدرجات، فكم بينه وبين الشعر الذي هو من همزات الشياطين، وأقاويل الشعراء الكاذبين.(11/319)
لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ (70) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ (71) وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ (72) وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلَا يَشْكُرُونَ (73) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (74) لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ (75) فَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (76)(11/320)
لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ (70)
(لينذر) قرىء بالتحتية وبالفوقية وعلى الأولى: المراد القرآن وعلى الثانية: المراد النبي صلى الله عليه وسلم (من كان حياً) يعقل ما يخاطب به أي مؤمناً قلبه صحيح يقبل الحق ويأبى الباطل لأن الكافر كالميت لا يتدبر ولا يتفكر.
(ويحق القول على الكافرين) أي وتجب كلمة العذاب على المصرين على الكفر، الممتنعين من الإيمان بالله وبرسوله، وإيرادهم في مقابلة من كان حياً فيه إشعار بأنهم لخلوهم عن آثار الحياة التي هي المعرفة أموات في الحقيقة ثم ذكر سبحانه قدرته العظيمة وإنعامه على عبيده. وجحْدَ الكفار لنعمة فقال:(11/320)
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ (71)
(أولم يروا) الهمزة للإنكار والتعجيب من حالهم، والواو للعطف على مقدر كما في نظائره، والرؤية هي القلبية أي: أولم يعلموا بالتفكر والاعتبار (أنا خلقنا لهم) أي لأجلهم. انتفاعهم (مما عملت أيدينا) أي مما أبدعناه وعملناه من غير واسطة ولا شركة.
وإسناد العمل إلى الأيدي مبالغة في الاختصاص والتفرد بالخلق، كما يقول الواحد منا: عملته بيدي للدلالة على تفرده بعمله، وما: بمعنى الذي وحذف العائد لطول الصلة ويجوز أن تكون مصدرية وأتى بهذه الجملة بعد(11/320)
قوله: خلقنا للإشارة إلى حصر الخلق لهذه النعم فيه تعالى، واستقلاله بها، فهو كناية عرفية، وقيل: تمثيلية، أي مما تولينا إحداثه، ولم يقدر على إحداثه غيرنا وقوله:
(أنعاماً) مفعول خلقنا، وهي جمع نعم، وهي: البقر والغنم والإبل وإنما خصها بالذكر -وإن كانت الأشياء كلها من خلق الله وإيجاده- لأن النعم أكثر أموال العرب والنفع بها أعم، وقد سبق تحقيق الكلام فيها، ثم ذكر سبحانه المنافع المترتبة على خلق الأنعام فقال:
(فهم لها مالكون) أي ضابطون قاهرون، يتصرفون بها كيف شاؤوا، ولو خلقناها وحشية لنفرت عنهم ولم يقدروا على ضبطها، أو المراد أنها صارت في أملاكهم ومعدودة في جملة أموالهم المنسوبة إليهم نسبة الملك، وهذا أظهر ليكون قوله:(11/321)
وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ (72)
(وذللناها لهم) تأسيساً لنعمه على حيالها لا تتمة لما قبلها. أي: جعلناها لهم مسخرة لا تمتنع مما يريدون منها من منافعهم حتى الذبح، ويقودها الصبي فتنقاد له، ويزجرها فتنزجر.
(فمنها ركوبهم) الفاء لتفريع أحكام التذليل عليه. أي: فمنها مركوبهم الذي يركبونه كما يقال: ناقة حلوب أي محلوبة يعني: معظم منافعها الركوب، وعدم التعرض للحمل لكونه من تتمة الركوب. قرأ الجمهور: ركوبهم بفتح الراء وقرىء: بضمها على المصدر، وقرأ أبي وعائشة: ركوبتهم. والركوب والركوبة واحد مثل الحلوب والحلوبة والحمول والحمولة. وقال أبو عبيدة: الركوبة تكون للواحدة والجماعة، والركوب لا يكون إلا للجماعة، وزعم أبو حاتم أنه لا يجوز فمنها ركوبهم بضم الراء لأنه مصدر، والركوب ما يركب وأجاز ذلك الفراء. كما يقال: فمنها أكلهم ومنها شربهم.
(ومنها يأكلون) أي يأكلونه من لحمها ومن للتبعيض، وإنما غير الأسلوب هنا لأن الأكل يعم الأنعام كلها بخلاف الركوب فهو خاص بالإبل(11/321)
منها.(11/322)
وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلَا يَشْكُرُونَ (73)
(ولهم فيها) أي لهم في الأنعام بقسميها (منافع) غير الركوب لها والأكل منها، وهي ما ينتفعون به من أصوافها وأوبارها وأشعارها وما يتخذونه من الأدهان من شحومها، وكذلك الحمل عليها والحراثة بها وجلودها ونسلها.
(و) لهم فيها (مشارب) مما يحصل من ألبانها جمع مشرب وهو موضع الشرب أو الشراب والظاهر أن المراد به ضروعها.
(أفلا يشكرون) الله على هذه النعم ويوحدونه ويخصونه بالعبادة، ثم ذكر سبحانه: جهلهم واغترارهم ووضعهم كفران النعم موضع شكرها فقال:(11/322)
وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (74)
(واتخذوا من دون الله آلهة) من الأصنام ونحوها يعبدونها ولا قدرة لها على شيء، ولم يحصل لهم منها فائدة، ولا عاد عليهم من عبادتها عائدة.
(لعلهم ينصرون) أي رجاء أن ينصروا من جهتهم إن نزل بهم عذاب، أو دهمهم أمر من الأمور.(11/322)
لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ (75)
(لا يستطيعون نصرهم) مستأنفة لبيان بطلان ما رجوه منها وأملوه من نفعها، وانعكاس تدبيرهم وجمعهم بالواو والنون جمع العقلاء بناء على زعم المشركين أنهم ينفعون ويضرون ويعقلون.
(وهم لهم جند محضرون) أي والكفار جند للأصنام يحضرونهم في الدنيا، قال الحسن: يمنعون منهم، ويدفعون عنهم، وقال قتادة: أي يغضبون لهم في الدنيا، قال الزجاج: ينتصرون للأصنام وهي لا تستطيع نصرهم، وقيل: المعنى يعبدون الآلهة ويقومون بها فهم لهم بمنزلة الجند، هذه الأقوال على جعل ضمير (هم) للمشركين وضمير (لهم) للآلهة.
وقيل: (وهم) أي الآلهة (لهم) أي للمشركين جند معدون ومحضرون معهم في النار، فلا يدفع بعضهم عن بعض، وقيل: معناه، وهذه الأصنام لهؤلاء(11/322)
الكفار جند الله عليهم في جهنم، لأنهم يلعنونهم ويتبرأون منهم، وقيل: المعنى إن الكفار يعتقدون أن الأصنام جند لهم يحضرون يوم القيامة لإعانتهم، ثم سلى سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم فقال:(11/323)
فَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (76)
(فلا يحزنك قولهم) الفاء لترتيب النهي على ما قبله فلا بد أن يكون عبارة عن خسرانهم وحرمانهم عما علقوا به أطماعهم الفارغة، وانعكاس الأمر عليهم بترتيب الشر على ما رتبوه لرجاء الخير، فإن ذلك مما يهون الخطر، ويورث السلوة، والنهي وإن توجه بحسب الظاهر إلى قولهم لكنه في الحقيقة متوجه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا القول هو ما يفيده قوله: (واتخذوا من دون الله آلهة) فإنهم لا بد أن يقولوا: هؤلاء آلهتنا وإنها شركاء لله في المعبودية، ونحو ذلك.
وهو نهي للرسول صلى الله عليه وسلم عن التأثر لذلك بطريق الكناية على أبلغ وجه وآكده، وقيل: إنه نهي لهم عن الأسباب التي تحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن النهي لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن التأثر لما يصدر منهم هو من باب: لا أرينك ههنا، فإنه يراد به نهي من خاطبه عن الحضور لديه لا نهي نفسه عن الرؤية، وهذا بعيد، والأول أولى، والكلام من باب التسلية كما ذكرنا، ويجوز أن يكون المراد بالقول المذكور هو قولهم: إنه ساحر وشاعر ومجنون.
(إنا نعلم ما يسرون وما يعلنون) تعليل لما تقدم من النهي، فإن علمه سبحانه بما يظهرون وما يضمرون مستلزم للمجازاة لهم بذلك، وإن جميع ما صدر منهم لا يعزب عنه سواء كان خافياً أو بادياً سراً أو جهراً مظهراً أو مضمراً، وتقديم السر على الجهر للمبالغة في شمول علمه بجميع المعلومات، وقرىء: إنا بالكسر وبالفتح على حذف لام التعليل وهو كثير في القرآن والشعر، وفي كل كلام؛ وكسرها أبو حنيفة وفتح الشافعي وكلاهما تعليل كما تقدم.(11/323)
أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (77) وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (80) أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (81) إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82) فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (83)(11/324)
أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (77)
(أولم ير الإنسان) مستأنفة مسوقة لبيان إقامة الحجة على من أنكر البعث وللتعجيب من جهله، فإن مشاهدة خلقهم في أنفسهم على هذه الصفة من البداية إلى النهاية مستلزمة للاعتراف بقدرة القادر الحكيم، على ما هو دون ذلك من بعث الأجسام وردها، كما كانت، والإنسان المذكور في الآية المراد به جنس الإنسان كما في قوله (أو لا يذكر الإنسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئاًً).
ولا وجه لتخصيصه بإنسان معين؛ كما قيل: إنه عبد الله بن أبيّ وإنه قيل له ذلك لما أنكر البعث. وقال الحسن: هو أمية بن خلف، وقال سعيد بن جبير: هو العاص بن وائل السهمي، وقال قتادة ومجاهد: هو أبيّ بن خلف الجمحي، فإن أحد هؤلاء وإن كان سبباً للنزول فمعنى الآية خطاب للإنسان من حيث هو، لا إنسان معين، ويدخل من كان سبباً للنزول تحت جنس الإنسان دخولاً أولياً.
(إنا خلقناه من نطفة) قذرة خسيسة مدرة خارجة من الإحليل الذي هو قناة النجاسة، والنطفة هي اليسير من الماء، وقد تقدم تحقيق معناها.(11/324)
(فإذا هو خصيم مبين) هذه الجملة معطوفة على الجملة المنفية قبلها داخلة معها في حيز الإنكار، المفهوم من الاستفهام؛ وإذا هي الفجائية أي. ألم ير الإنسان أنا خلقناه من أضعف الأشياء وأخسها وأمهنها ففاجأ خصومتنا في أمر قد قامت فيه عليه حجج الله وبراهينه؛ وشهدت بصحته وتحققه مبدأ فطرته شهادة بينة. والمعنى: العجب من جهل هذا المخاصم -مع مهانة أصله ودناءة أوله- كيف يتصدى. لمخاصمة الجبار؟ ويبرز لمجادلته في إنكار البعث؟ ولا يتفكر في بدء خلقه وأنه من نطفة قذرة وهو غاية المكابرة، والخصيم الشديد الخصومة الكثير الجدال، ومعنى المبين: المظهر لما يقوله الموضح له بقوة عارضته وطلاقة لسانه.
قال ابن عباس: " جاء العاص بن وائل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعظم حائل ففتّه بيده فقال: يا محمد أيحيى الله هذا بعد ما أرى؟ قال: نعم يبعث الله هذا ثم يميتك ثم يحييك ثم يدخلك نار جهنم فنزلت الآيات من آخر يس: أولم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة الخ (1) " أخرجه ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم في معجمه.
وعنه قال: جاء عبد الله بن أبيّ في يده عظم حائل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وذكر مثل ما تقدم. قال ابن كثير: وهذا منكر لأن السورة مكية وابن أبيّ إنما كان بالمدينة، وعنه قال: جاء أبيّ بن خلف الجمحي وذكر نحو ما تقدم؛ وعنه أيضاًً قال: نزلت في أبي جهل وذكر نحو ما تقدم.
_________
(1) رواه الطبري 23/ 30 والسيوطي في الدرر 5/ 269.(11/325)
وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78)
(وضرب لنا مثلاً) بفته العظم والجملة معطوفة على الجملة المنفية داخلة في حيز الإنكار المفهوم من الاستفهام، فهي تكميل للتعجيب من حال الإنسان، وبيان جهله بالحقائق، وإهماله للتفكر في نفسه فضلاً عن التفكر في سائر مخلوقات الله.
ويجوز أن تكون جملة: (فإذا هو خصيم مبين) معطوفة على خلقنا،(11/325)
وهذه معطوفة عليها، أي أورد في شأننا قصة عجيبة في نفس الأمر كالمثل في الغرابة، وهي إنكاره إحياءنا للعظام، أو قصة عجيبة في زعمه واستبعدها وعدها من قبيل المثل، وأنكرها أشد الإنكار، وهي إحياؤنا إياها، أو جعل لنا مثلاً ونظيراً من الخلق، وقاس قدرتنا على قدرتهم، ونفى الكل على العموم فالمثل على الأول هو إنكار إحيائه للعظام، وعلى الثاني هو إحياؤه لها، وأما على الثالث فلا فرق بين أن يكون المثل هو الإنكار أو المنكر.
(ونسي خلقة) أي خلقنا إياه من المني الدال على بطلان ما ضربه من المثل وذهل عنه، وترك ذكره على طريقة اللداد والمكابرة، فهو أغرب من إحياء العظم.
(قال من يحيي العظام وهي رميم) بالية استئناف جواباً عن سؤال مقدر كأنه قيل: ما هذا المثل الذي ضربه؟ فقيل: قال من يحيي العظام وهي رميم؟ وهذا الاستفهام للإنكار لأنه قاس قدرة الله على قدرة العبد فأنكر أن الله يحيي العظام البالية حيث لم يكن ذلك في مقدور البشر. يقال: رم العظم يرم رماً إذا بلي، فهو رميم ورمام، وإنما قال: رميم ولم يقل: رميمة مع كونه خبراً للمؤنث لأنه اسم لما بلي من العظام غير صفة، كالرمة والرفات، وقيل: لكونه معدولاً عن فاعله، وكل معدول عن وجهه يكون مصروفاً عن إعرابه كما في قوله: (وما كانت أمك بغياً) لأنه مصروف عن باغية. كذا قال البغوي والقرطبي، وقال بالأول صاحب الكشاف.
والأولى أن يقال: إنه فعيل بمعنى فاعل. من رم الشيء صار اسماً بالغلبة أو مفعول، وهو يستوي فيه المذكر والمؤنث كما قيل في جريح وصبور.
ومن يثبت الحياة في العظام ويقول: إن عظام الميتة نجسة لأن الموت يؤثر فيها من قبل أن الحياة تحلها يتشبت بهذه الآية، وهي عند الحنفية طاهرة، وكذا الشعر والعصب لأن الحياة لا تحلها فلا يؤثر فيها الموت.(11/326)
والمراد بإحياء العظام في الآية ردها إلى ما كانت عليه غضة رطبة في بدن حي حساس، وقد استدل أبو حنيفة وبعض أصحاب الشافعي بهذه الآية على أن العظام مما تحله الحياة، وقال الشافعي: لا تحلها الحياة، وأن المراد بقوله: من يحيي العظام؟ من يحيي أصحاب العظام على تقدير مضاف محذوف، ورد بأن هذا التقدير خلاف الظاهر، ثم أجاب سبحانه عن الضارب لهذا المثل فقال(11/327)
قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79)
(قل) أي على سبيل تبكيته وتذكيره بما نسيه من فطرته الدالة على حقيقة الحال.
(يحييها الذي أنشأها) أي ابتدأها وخلقها (أول مرة) من غير شيء ومن قدر على النشأة الأولى قدر على النشأة الثانية.
(وهو بكل خلق عليم) لا تخفى عليه خافية ولا يخرج عن علمه خارج كائناً ما كان، أي يعلم تفاصيل المخلوقات بعلمه وكيفية خلقها فيعلم أجزاء الأشخاص المتفتتة المتبددة أصولها وفصولها، ومواقعها وطريق تمييزها، وضم بعضها إلى بعض على النمط السابق وإعادة الأعراض والقوى التي كانت فيها أو إحداث مثلها.
وقال الكرخي: يعلمه مجملاً ومفصلاً، أي قبل خلقه وبعد خلقه، والآية حجة على من ينكر علمه سبحانه بالجزئيات ونظيره قوله سبحانه: (إن الله قد أحاط بكل شيء علماً).(11/327)
الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (80)
(الذي جعل لكم من الشجر الأخضر ناراً) هذا رجوع منه سبحانه إلى تقرير ما تقدم من دفع استبعادهم فنبه سبحانه على وحدانيته، ودل على قدرته على إحياء الموات بما يشاهدونه من إخراج النار المحرقة من العود الندي الرطب.
وذلك أن الشجر المعروف بالمرخ والشجر المعروف بالعفار إذا قطع منهما عودان مثل السِواكين وضرب أحدهما على الآخر انقدحت منهما النار وهما أخضران، قيل المرخ هو الذكر والعفار هو الأنثى ويسمى الأول الزند والثاني(11/327)
الزندة، تقول العرب: في كل شجر نار، واستمجد المرخ والعفار، أي استكثر منهما وذلك أن هاتين الشجرتين من أكثر الشجر ناراً، وقال الحكماء: في كل شجر نار إلا العناب لمصلحة الدق للثياب، ولذلك تتخذ منه مطارق القصارين.
وبالجملة فمن بدائع خلقه انقداح النار من الشجر الأخضر مع مضادة النار الماء وانطفائها به، فمن قدر على جمع الماء والنار في الشجر قدر على المعاقبة بين الموت والحياة في البشر، وإجراء أحد الضدين على الآخر بالتعقيب أسهل في العقل من الجمع معاً بلا ترتيب، وقال الأخضر، ولم يقل الخضر اعتباراً باللفظ، وقرىء الخضر اعتباراً بالمعنى.
وقد تقرر: أنه يجوز تذكير اسم الجنس وتأنيثه، كما في قوله: (نخل منقعر) وقوله: (نخل خاوية) فبنو تميم ونجد يذكرونه، وأهل الحجاز يؤنثونه إلا نادراً، والموصول بدل من الموصول الأول.
(فإذا أنتم منه توقدون) أي تقدحون منه النار وتوقدونها من ذلك الشجر الأخضر ثم ذكر سبحانه ما هو أعظم من الإنسان خلقاً فقال:(11/328)
أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (81)
(أوليس الذي خلق السموات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم)؟
والهمزة للإنكار والواو للعطف على مقدر كنظائره، ومعنى الآية: أن من قدر على خلق السموات والأرض وهما في غاية العظم وكبر الأجزاء يقدر على إعادة خلق البشر الذي هو صغير الشكل ضعيف القوة، كما قال سبحانه: (لخلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس) قال الشهاب: أي مثل هؤلاء الأناس الذين ماتوا، والمراد هم وأمثالهم على سبيل التقديم والتأخير، أو المراد هم على طريق الكناية في نحو مثلك يفعل كذا، قرأ الجمهور: بقادر بصيغة اسم الفاعل، وقرىء: يقدر بصيغة المضارع، ثم أجاب سبحانه عما أفاده الاستفهام من الإنكار التقريري بقوله:(11/328)
(بلى وهو الخلاق العليم) أي بلى هو قادر على ذلك، وهو المبالغ في الخلق والعلم على أكمل وجه وأتمه، وقرى: وهو الخالق، ثم ذكر سبحانه ما يدل على كمال قدرته وتيسير المبدأ والإعادة عليها فقال:(11/329)
إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82)
(إنما أمره إذا أراد شيئاًً أن يقول له كن فيكون) أي إنما شأنه سبحانه إذا تعلقت إرادته بشيء من الأشياء أن يقول له: احدث فيحدث من غير توقف على شيء آخر أصلاً، وقد تقدم تفسير هذا في سورة النحل، وفي البقرة، قرأ الجمهور: فيكون بالرفع على الاستئناف، وقرأ الكسائي: بالنصب عطفاً على يقول، ثم نزه سبحانه نفسه عن أن يوصف بغير القدرة فقال:(11/329)
فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (83)
(فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء) هذا تنزيه له تعالى عما وصفوه به وتعجيب مما قالوا في شأنه، والملكوت في كلام العرب لفظ مبالغة في الملك كالجبروت والرحموت كأنه قال: فسبحان من بيده مالكية الأشياء الكلية. قال قتادة: ملكوت كل شيء مفاتح كل شيء. وقرىء: ملكة بزنة شجرة، وقرىء: مملكة بزنة مفعلة. والملك والملكوت أبلغ من الجميع.
(وإليه ترجعون) قرأ الجهور بالفوقية على الخطاب مبنياً للمفعول وقرىء: بالتحتية على الغيبة مبنياً للمفعول أيضاًً، وقرأ زيد بن علي: على البناء للفاعل أي ترجعون إليه لا إلى غيره، وتردون وتعادون بعد الموت بلا فوت.
وذلك في الدار الآخرة بعد البعث.(11/329)
ملحق لتفسير سورة يس
ذكر المؤلف في صدر تفسيره لهذه السورة حديث: " اقرأوا يس عند موتاكم " وقلنا: في التعليق على ذلك إننا سننشر في آخر تفسير السورة ملحق يفصل موضوع القراءة على الأموات ننقله من المنار وغيره، وبناء عليه نقول: قال ابن القيم: وهذا يحتمل أن يراد به قراءتها على المحتضر عند موته مثل قوله: لقنوا موتاكم لا إله إلا الله ويحتمل أن يراد به القراءة عند القبر، والأول أظهر لوجوه:
أحدها: أنه نظير قوله: لقنوا موتاكم لا إله إلا الله.
الثاني: انتفاع المحتضر بهذه السورة لما فيها من التوحيد والمعاد والبشرى بالجنة لأهل التوحيد وغبطة من مات عليه بقوله: (يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ) فيستبشر الروح بذلك فيحب لقاء الله فيحب الله لقاءه.
الثالث: إن هذا عمل الناس وعادتهم قديماً وحديثاً يقرأون يس عند المحتضر.
الرابع: أن الصحابة لم يكونوا يقرأونها عند القبور ولو فهموا من قوله صلى الله عليه وسلم اقرأوا يس عند موتاكم قراءتها عند القبر لما أخلوا به، وكان ذلك أمراً معتاداً مشهوراً بينهم.
الخامس: إن انتفاعه باستماعها وحضور قلبه وذهنه عند قراءتها في آخر عهده بالدنيا هو المقصود، وأما قراءتها عند قبره لا يثاب على ذلك لأن الثواب إما بالقراءة أو بالاستماع وهو عمل، وقد انقطع عمل الميت .. أهـ.
وكتب صاحب المنار رحمه الله في آخر سورة الأنعام استدراكاً على تفسير قوله تعالى (ولا تزر وازرة وزر أخرى) بدأه بتمهيد مهم ثم قال:(11/330)
أقول هذا تمهيداً لتذكيرك بعدم الاغترار بما لعلك اطلعت أو تطلع عليه من الوجوه التي حمل عليها بعض المتفقهة والمصنفين في تفسير قوله تعالى في سورة النجم: (أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى (38) وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى) فحرفوا الكلم عن مواضعه تارة بالتأويلات السخيفة، وتارة بدعوى النسخ الباطلة، وتارة بدعوى أن هاتين الآيتين من شريعة إبراهيم وموسى لا من شرعنا، وتارة بتخصيصها بالكفار دون المسلمين.
وقد غفل هؤلاء عن كون مضمون الآيتين من قواعد الدين وأصول الإسلام، الثابتة على ألسنة جميع الرسل ومؤيداً بآيات كثيرة بلفظها ومعناها كآية: (ومن تزكى فإنما يتزكى لنفسه) وغيرها مما يعلق الفلاح والخسر بالأعمال.
أما هؤلاء المقلدون من المتأخرين فسبب غفلهم وتأويلهم أنهم يحاولون تصحيح كل ما فشا من البدع بين أقوالهم والمنسوبين إلى مذاهبهم وليسوا من أهل الدليل، ولكنهم لا يتركون ضلالة التأويل، وأما أهل النظر في أدلة المذاهب منهم فلا هم من النظر في الكتاب والسنة إلا أخذ ما يرونه مؤيداً لمذاهبهم وترك ما سواه بضرب من التأويل، أو دعوى النسخ أو احتماله بغير دليل.
ولو كان هؤلاء المقلدون العميان هم الذين جوزوا وحدهم للناس إهداء عباداتهم للموتى لهان الخطب ولكن تابعهم على ذلك بعض علماء السنة من أهل الأثر والنظر (كابن تيمية وابن القيم) إذ ظنوا أن الأحاديث الواردة في الدعاء للموتى والإذن للأولاد بأن يقضوا ما على والديهم من صيام أو صدقة أو حج، تدل على انتفاع الموتى بعبادات الأحياء مطلقاً، غافلين عن حصر ما صح من ذلك في الأولاد فقط، وحديث " صام عنه وليه " يتعين أن يراد بالولي هنا الولد ليوافق سائر النصوص، وولد المرء من عمله، فانتفاع الميت بعمل ولده الحي يدخل في القاعدة ولا يناقضها.(11/331)
كلام ابن القيم ورد المنار عليه
قال ابن القيم فإن قيل: فهذا لم يكن معروفاً في السلف ولا يمكن نقله عن واحد منهم مع شدة حرصهم على الخير ولا أرشدهم النبي صلى الله عليه وسلم إليه وقد أرشدهم إلى الدعاء والاستغفار بالصدقة والحج والصيام، فلو كان ثواب القراءة يصل لأرشدهم ولكانوا يفعلونه:
وأجاب ابن القيم عن هذا الاعتراض فقال:
إن مورد هذا السؤال إن كان معترفاً بوصول ثواب الحج والصيام و .. و .. قيل له: ما هذه الخاصية التي منعت وصول ثواب القرآن واقتضت وصول ثواب هذه الأعمال؟ وهل هذا إلا تفريق بين المتماثلات، وإن لم يعترف بوصول تلك الأعمال إلى الميت فهو محجوج بالكتاب والسنة والإجماع.
رد المنار على ابن القيم
أقول وبالله التوفيق: عفا الله عن شيخنا وأستاذنا أما قوله لمورد السؤال إذا كان معترفاً بوصول ثواب الحج والصيام: ما هذه الخاصية التي منعت وصول ثواب القرآن .. الخ فنجيب عنه بأن المانع لذلك نصوص القرآن التي جاءت في أن عمل كل عامل له دون غيره والسائل يعترف بأن النبي صلى الله عليه وسلم أذن للأولاد أن يقضوا عن والديهم حقوقاً ثبتت عليهم كما يقضون ديون الناس عنهم، فهي ليست كقراءة القرآن التي ليست مفروضة على الأعيان في غير الصلاة.
وبهذا كان أداء الحقوق غير معارض للآيات الواردة، وبهذا بطل قوله وهل هذا إلا تفريق بين المتماثلات.
كلام ابن القيم
فإن قيل: فرسول الله صلى الله عليه وسلم أرشدهم إلى الصوم و ..(11/332)
و .. دون القراءة.
ثم أجاب ابن القيم: هو رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يبتدئهم بذلك بل خرج ذلك منه مخرج الجواب لهم، فهذا سأله عن الحج عن ميته فأذن له، وهذا سأله عن الصدقة فأذن له، ولم يمنعهم مما سوى ذلك.
رد المنار عليه
إن عدم ابتداء الرسول صلى الله عليه وسلم إياهم بذلك على إطلاقه دليل على أنه ليس من دينه، وإلا لم يكن مبينا لما أُنزل إليه كما أمر به وهذا محال.
وسؤال أولئك الأفراد إياه دليل على أنهم لم يكونوا يعلمون من نصوص الدين ولا من السنة العملية ما يدل على شرعيته، فلذلك استفتوه فيه، ولم يستفتوه في العمل عن غير الوالدين لنص القرآن في منعه ... اهـ.
...
وقد يستدل بعضهم على انتفاع الموتى بعمل الأحياء بحديث: " وضع النبي صلى الله عليه وسلم الجريدتين على القبرين "، (1) والجواب على ذلك أن هذا واقعة حال في أمر غيبي غير معقول المعنى والظاهر أنه من خصائصه صلى الله عليه وسلم.
وكذلك حديث شبرمة وفيه أنه أخ لي أو قريب أحج عنه، والجواب: أنه حديث موقوف كما هو الراجح عند أحمد، وقال ابن المنذر لا يثبت رفعه.
...
وجاء في كتابنا مشكلات القرآن ما نصه:
_________
(1) انظر مسند أحمد 4/ 172 وقد روي نحوه.(11/333)
المشكلة العاشرة
هل ينتفع الأموات بعمل الأحياء؟
قال الله تعالى (وأن ليس للإنسان إلا ما سعى) وقال (يوم ينظر المرء ما قدمت يداه).
القرآن الكريم مملوء بالآيات في هذا المعنى، وتقرير هذه القاعدة، وهي أن الإنسان في الآخرة مجزى بعمله لا بعمل غيره (كل نفس بما كسبت رهينة) (فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره).
غير أن المسلمين اليوم وقبل اليوم درجوا على الانصراف عن هذه القاعدة فتراهم يقرأون القرآن على الموتى ويتصدقون عنهم ويدعون لهم سواء في ذلك الولد على الوالد أو الوالد على الولد، أو الزوجة على زوجها: أو الزوج على زوجته أو الأقارب والأصهار. وإذا صارحناهم بأن هذا خطأ لا يقره دين ولا شريعة قالوا: كيف هذا والناس عليه من قديم، والشيوخ في هذا العصر لا ينكرون.
فإذا قلنا لهم إن الحجة في كلام الله ورسوله فقط لا في عمل الجماهير وسكوت الشيوخ قالوا: إن شيخ الإسلام ابن تيمية قد جوز هذا في بعض كتبه وهو عالم كبير وله شهرة واسعة في الدفاع عن السنة ومحاربة البدع.
ونحن نورد هنا ما قاله ابن تيمية وما رد به عليه أستاذ جليل محقق يحب ابن تيمية ولكن حبه للحق أكبر، قال الأستاذ (1):
قال ابن تيمية: من اعتقد أن الإنسان لا ينتفع إلا بما عمله فقوله باطل من وجوه:
أحدها أن الإنسان ينتفع بدعاء غيره، وهذا انتفاع بعمل الغير.
_________
(1) هو الأستاذ الكبير الشيخ أبو الوفا محمد درويش رحمه الله.(11/334)
والجواب إن الداعي للإنسان إما أن يكون ولده وإما أن يكون غير ولده أما الولد فقد بينت السنة أن عمله استمرار لعمل الوالد: " إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث .. أو ولد صالح يدعو له " فدعوة الولد من سعي الوالد وعمله.
وأما إذا كان الداعي غير ولده فقد أثبت الواقع المشاهد الذي لا ينكره إلا معاند أن أحداً لا يدعو لأحد إلا لإحسان أو بر نال الداعي من المدعو له وما رأينا أحداً يدعو لأحد اعتباطاً أو مجاناً.
ولا شك أن البر والإحسان إلى المسلمين من الطاعات. وهي من كسب الشخص وسعيه وعمله، فإذا استجاب الله دعاء الداعي للبار المحسن، كان ذلك ثواباً لإحسانه وبره، وبذلك يكون الشخص قد انتفع بكسبه وسعيه وعمله، إذ لولا الإحسان والبر ما دعا الداعي.
فقد انتفع الشخص بكسبه وسعيه وعمله لا بعمل غيره.
وإذا فرضنا أن الداعي لم ينله من المدعو له إحسان ولا بر، أفلا يدعو له بالخير لأنه من إخوانه المسلمين المؤمنين، والإيمان رحم بين المؤمنين؛ ولولا إسلامه وإيمانه ما دعا له، لأن المسلم يعتبر المسلمين إخوة ويعتبر الدعاء لهم من البر بهم، والإسلام والإيمان من كسب العبد وسعيه وعمله، فإذا انتفع المسلم باستجابة الله تعالى لدعاء مسلم من إخوانه، كان انتفاعه بسبب إسلامه وإيمانه، أي بسبب كسبه وعمله قبل كل شيء.
والله تعالى جعل الدعاء للمؤمن من ثواب إيمانه، قال تعالى: (وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23) سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ).
فلولا صبرهم ما سلمت عليهم الملائكة، وتسليم الملائكة دعاء بالسلامة وهو ثواب صبرهم، وصبرهم من كسبهم وسعيهم وعملهم، وهذا شيء من الوضوح والجلاء بحيث لا يحتاج إلى إقامة دليل ولا برهان، فهو في حكم البدهيات التي لا تفتقر إلى نظر ولا استدلال.(11/335)
فثبت بذلك أن انتفاع المؤمن بدعاء المؤمنين، سواء عليه، أكانوا من ولده أم من غيرهم: إنما هو انتفاع بكسبه وسعيه وعمله لا بكسب غيره ولا بسعي سواه ولا بعمل الناس.
قال ابن تيمية:
ثانيها: أن النبي صلى الله عليه وسلم يشفع لأهل الموقف في الحساب، ثم لأهل الجنة في دخولها، ثم لأهل الكبائر في الخروج من النار، وهذا انتفاع بعمل الغير.
ونقول وبالله نعتصم وبقوله الحق نتأيد: أما في الموقف فالشفاعة لا تنفع الكفار، ولا هي بمغنية عنهم شيئاًً، فهم منتقلون من كربة إلى كربات، ومن شدة إلى شدات وحسبنا دليل على ذلك قول الله تعالى في سورة البقرة: (وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (48)).
والآيات في معناها كثير.
فكيف يقال مع هذه النصوص الصريحة: إنهم انتفعوا بشفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم أو إنهم انتفعوا بعمل غيرهم؟ وهم أعداء الله وأعداء رسوله الذين حبطت أعمالهم، وضل سعيهم، ولا يقام لهم يوم القيامة وزن، ولا تنالهم من الرسول صلى الله عليه وسلم شفاعة ولا من الله تعالى رحمة.
وأما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله واليوم الآخر فتكون شفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم ثواباً لإيمانهم. ولولا إيمانهم لم ينالوا هذه الشفاعة، فهم في واقع الأمر وحقيقته قد انتفعوا بكسبهم واستفادوا بسعيهم، وقطفوا ثمرة عملهم فكيف يقال إنهم انتفعوا بعمل غيرهم، وما انتفاعهم بعد فضل الله ورحمته إلا بمحض عملهم.
وأما شفاعته صلى الله عليه وسلم لأهل الجنة في دخولها فهي كذلك ثواب أعمالهم لقوله تعالى (ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون) فلولا إنهم آمنوا(11/336)
وعملوا الصالحات ما دخلوا الجنة ولا وجدوا ريحها ولا نالتهم شفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، فهم في حقيقة الأمر وواقعه ينتفعون بسعيهم وكسبهم وعملهم، ولولا أعمالهم ما استحقوا شفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم.
فكيف يقال إنهم انتفعوا بعمل غيرهم؟
وأما شفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم لأهل الكبائر في الخروج من النار؛ فإنها لن تكون إلا بعد أن تمسهم النار بذنوبهم ويصيروا حمماً أو فحماً كما جاء في حديث مسلم ولولا أنهم مؤمنون ما أذن الله في الشفاعة لهم، فالشفاعة لهم وخروجهم من النار من ثواب إيمانهم، وإيمانهم من كسبهم وسعيهم وعملهم فكيف يقال: إنهم انتفعوا بعمل غيرهم.
ثم قال ابن تيمية:
ثالثها: إن كل نبي وصالح له شفاعة وذلك انتفاع بعمل الغير.
ونقول: إن هذه الشفاعات لا تنفع (إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولاً) لقوله تعالى (وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى) [النجم: 26]. والآيات في معناها كثيرة.
فالشفاعة مشروط فيها بحسب نصوص القرآن الكريم الإذن والرضا، والله لا يرضى عن القوم الفاسقين، ولا يأذن في الشفاعة لهم، ولا يأذن للنبي صلى الله عليه وسلم في الشفاعة لأهل الكبائر لخروجهم من النار إلا بعد أن تمسهم النار بذنوبهم وتطهرهم من أوزارهم ويبقى إيمانهم وهو موضع رضا الكريم سبحانه.
فشفاعة الأنبياء والصالحين لا تكون إلا بعد الإذن والرضا وإذاً فتكون للمؤمنين لا لغيرهم، والله تعالى قد جعل هذه الشفاعات ثواباً للإيمان وصالح العمل فهؤلاء الذين يشفع لهم الأنبياء والصالحون في حقيقة الأمر وواقعه منتفعون بإيمانهم وأعمالهم وسعيهم وكسبهم، ولولا ذلك ما شفع لهم شافع(11/337)
ولا نفعتهم شفاعة الشافعين.
فكيف يقال: إنهم انتفعوا بعمل غيرهم؟
ثم قال ابن تيمية:
رابعها: إن الملائكة يدعون ويستغفرون لمن في الأرض وذلك منفعة بعمل الغير.
ونقول: إن الله تعالى بين لنا في كتابه العزيز دعاء الملائكة واستغفارهم وبين لنا كذلك من مِن أهل الأرض تستغفر لهم الملائكة، فقال تعالى في سورة غافر: (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (7) رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (8) وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9)).
ألم تر كيف وقف الملائكة عند حدهم ولم يطلبوا من ربهم إلا ما يقتضيه عدله وحكمته؟
ليس هذا الدعاء والاستغفار إلا تسبيحاً لله وتنزيهاً له بذكر صفات فضله وعدله ورحمته، فحين أخبر الله تعالى عن ملائكته الكرام أنهم يستغفرون لم يذكر أنهم يستغفرون لكل من دب ودرج على وجه الأرض ولكن ذكر أنهم يستغفرون للذين آمنوا، فدل على أن استغفار الملائكة للمؤمنين من ثواب إيمانهم.
وحين حكى سبحانه قوله بين أنهم لم يقولوا: اغفر لكل مصر على ذنبه، أو مجاهر بمعصية ربه. بل بين أنهم يقولون: (رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ).
فقد أثنوا على الله تعالى بسعة الرحمة والعلم، وسألوه أن يغفر للذين تابوا واتبعوا سبيله: أي سلكوا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم الله(11/338)
عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين:
ولا جرم أن الله تعالى وعد أن يغفر لهؤلاء جميعاً.
فالملائكة الكرام لا يسألون ربهم إلا تصديق وعده، بدليل قوله تعالى: (ربنا وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم)
وحين طلبوا ذلك لمن يتصل بهم من أولي قرباهم، لم يطلبوه لكل قريب ولو خب في الإثم ووضع، ولو تمرغ في حمأة الفساد بل طلبوه لمن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم. فهم لم يطلبوا المغفرة إلا لأهل الصلاح.
فلولا أنهم مؤمنون، وأنهم تابوا واتبعوا سبيل الله، ولولا أن آباءهم وأزواجهم وذرياتهم صالحون ما استغفرت لهم الملائكة.
إذاً لا يكون استغفار الملائكة إلا ثواباً لإيمانهم وتوبتهم واتباعهم سبيل الله.
وإذاً فهم ينتفعون بإيمانهم وتوبتهم واتباعهم سبيل الله أي أنهم منتفعون بسعيهم وكسبهم وعملهم.
فكيف يقال: إن هؤلاء منتفعون بعمل غيرهم؟
ثم قال رحمه الله:
ثامنها: أن الميت ينتفع بالصدقة عنه والحج والصوم وبالعتق بنص السنة والإجماع، وهو من عمل الغير.
ونقول: إن الصدقة التي وردت السنة بانتفاع الميت بها هي ما يقوم بأدائها ولده من بعده ومثلها العتق والحج والصوم، وقد أسلفنا أن ولد الميت من كسبه بنص الحديث الشريف وقد بينا أن كل ما يعمله الولد نيابة عن والديه من الصدقة والحج فإنه لهما وينتفعان به، وذلك من فضل الله ورحمته فليس للوالدين إلا ما سعيا بنفسهما أو بولدهما الذي ينوب عنهما وهو كسبهما.(11/339)
قال ابن تيمية: إن المدين الذي امتنع الرسول صلى الله عليه وسلم من الصلاة عليه حتى قضى دينه أبو قتادة وقضى دين الآخر علي بن أبي طالب، وانتفع بصلاة النبي صلى الله عليه وسلم وبردت جلدته بقضاء دينه وهو من عمل الغير.
ونقول: إن المدين الذي مات وعليه دين يقضي دينه مما ترك، إذ لا تركة إلا بعد وفاء الديون، فإن لم يكن له مال أصبح دينه في ذمة ورثته يجب عليهم أداؤه وهذا المدين إن كان قد استدان وفي نيته أداء الدين ولكن الموت أعجله عن الوفاء فلم يتح له الوفاء حتى مات، فلا إثم عليه. إذ لم يكن عدم الوفاء بتقصير منه، ولا بسبق نية وإصرار.
وإن كان قد استدان وهو عازم على ألا يوفي، فإن نية السوء هذه تلازمه منذ وصل مال الدائن إلى يده حتى لقي حتفه، وهو مؤاخذ بها ومسؤول عنها ولا يخليه من تبعتها أن الدين قد أداه عنه غيره، لأنه ليس مسؤولاً عن الدين فقط، بل عن نية الغدر والإتلاف أيضاًً، فلا يغني عنه أن غيره أدى عنه الدين.
ولكن الله تعالى لا يرضى أن تضيع الحقوق، فجعل الدين في ذمة الورثة يدفعونها إلى الدائن إن كانوا موسرين، فإن كانوا معسرين (فنظرة إلى ميسرة) وقد شدد الرسول الأمين صلى الله عليه وسلم في أداء الدين، حتى لقد كان لا يصلي على المدين إذا مات ولم يخلف ما يقضي به دينه ليحمل جماعة المسلمين على أن يتضامنوا في أداء دينه حتى يظفر بصلاة النبي صلى الله عليه وسلم على جنازته.
والشريعة الإسلامية سنت مبدأ التضامن الاجتماعي، والتكافل القومي وجعلت مال الشخص في يده يتصرف فيه بالمعروف كيف يشاء، ما لم تكن بجماعة المسلمين حاجة ماسة إليه فإذا مست إليه حاجتهم فهو مالهم جميعاً قال تعالى: (ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل) أي لا يأكل بعضكم مال بعض(11/340)
بالباطل.
ولكنه أضاف الأموال إليهم جميعاً ليعلم كل فرد أن المال الذي في يده هو مال الأمة، وأن أموال الأفراد تكون الثروة العامة للأمة، فأبو قتادة حين دفع دين الميت المدين لم يزد على أن تصدق على ورثته بما يؤدي دينه، فإن كان هناك ثواب يرجى، وأجر يمنح، فهو لهذا المتصدق ولا شيء منه للميت إذ لا سعي له ولا عمل، وإن كان الميت سيء القصد، فاسد النية مات وهو مصر على عدم الوفاء، فإنّ وفاء أبي قتادة لا يغني عنه شيئاًً.
فبطل القول بأن في هذا انتفاع الميت بعمل غيره وثبت أن ليس للإنسان إلا ما سعى ولا يظلم ربك أحداً.
قال ابن تيمية: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمن صلى وحده؛ ألا رجل يتصدق على هذا فيصلي معه؟ قد حصل له فضل الجماعة بفعل الغير.
نقول: بل حصل له فضل الجماعة بنيته إذ لو بقي على نية الصلاة فإذاً لم يحصل له فضل الجماعة، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: " إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرىء ما نوى " ولو خرج من بيته يريد أن يصلي في المسجد في جماعة، فلم يجد أحداً واضطر أن يصلي منفرداً لكان له أجر نيته، ولو اكتظ المسجد بالمسلمين وصلوا كلهم أفذاذاً لم يكن لأحد منهم فضل الجماعة.
وإذاً لا يكسب فضل الجماعة إلا بالنية، ونية الرجل من كسبه وسعيه وعمله فلا يصح أن يقال: أن هذا حصل له فضل الجماعة بعمل غيره (والله يقول الحق وهو يهدي السبيل).
ثم قال ابن تيمية: الصلاة على الميت والدعاء له في الصلاة انتفاع للميت بصلاة الحي عليه، وهو عمل غيره.
ونقول: كلا بل انتفاعه بعمل نفسه، فلولا أنه من زمرة المسلمين ما(11/341)
فرض الله على المسلمين الصلاة عليه، فصلاة المسلمين عليه ودعاؤهم له من ثواب إيمانه، وإيمانه من كسبه كما تقدم، فلو لم يكن مؤمناً ما صلى عليه المؤمنون، ولا دعوا له.
...
ويظهر أن الإمام ابن تيمية قد رجع عن كل ما قاله هنا، فقد قال في بعض فتاويه (فلم يكن من عادة السلف إذا صلوا أو صاموا أو حجوا تطوعاً أو قرأوا القرآن أن يهدوا ثواب ذلك للموتى) انظر مختصر الفتاوى لابن تيمية ص (171).
ويقول: لم يكن من عادة السلف إهداء ذلك إلى موتى المسلمين بل كانوا يدعون لهم فلا ينبغي الخروج عنهم - انظر تفسير المنار (ص 26 جـ 8).(11/342)
فصل
في قراءة القرآن على الموتى
إذا كان العلامة (أبو الوفاء محمد درويش) قد قوم الخطأ الذي سقط فيه الإمام ابن تيمية في البحث السابق فقد سبقه المرحوم صاحب المنار إلى تقويم الخطأ الذي تورط فيه العلامة ابن القيم، فقد أطال ابن القيم في جواز قراءة القرآن للموتى قياساً على الصدقة والدعاء .. الخ.
وكان هذا التقويم من هذين الشيخين آية جديدة على ما أوتيا من شجاعة أدبية؛ وأن حبهما للإمام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم لم يمنعهما من الرد عليهما وآية جديدة على أن العصمة لله وحده.
وقد أطال صاحب المنار في تفنيد أدلة جواز قراءة القرآن للموتى (وقد تقدم هنا) وختم هذا البحث القيم بقوله:
وإذ قد علمت أن حديث قراءة سورة يس على الموتى غير صحيح وإن أريد به من حضرهم الموت، وأنه لم يصح في هذا الباب حديث قط، كما قال المحقق الدارقطني فاعلم أن ما اشتهر وعم البدو والحضر من قراءة الفاتحة للموتى لم يرد فيه حديث صحيح ولا ضعيف فهو من البدع المخالفة لما تقدم من النصوص القطعية، ولكنه صار بسكوت اللابسين لباس العلماء وبإقرارهم له ثم بمجاراة العامة عليه من قبيل السنن المؤكدة أو الفرائض المحتمة.
وخلاصة القول: أن المسألة من الأمور التعبدية التي يجب فيها الوقوف عند نصوص الكتاب والسنة وعمل الصدر الأول من السلف الصالح؛ وقد علمنا أن القاعدة المقررة في نصوص القرآن الصريحة والأحاديث الصحيحة أن الناس لا يجزون في الآخرة إلا بأعمالهم (82: 19) (يوم لا تملك نفس لنفس شيئاًً) (31 - 22) (واخشوا يوماً لا يجزى والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئاًً) وأن النبي صلى الله عليه وسلم بلغ أقرب أهل(11/343)
عشيرته إليه بأمر ربه أن: " اعملوا لا أغنى عنكم من الله شيئاًً " فقال ذلك لعمه وعمته ولابنته سيدة النساء وأن مدار النجاة في الآخرة على تزكية النفس بالإيمان والعمل الصالح.
والثواب ما يثوب ويرجع إلى العامل من تأثير عمله في نفسه - الخ ما تقدم شرحه مع التذكير بالآيات الكثيرة والأحاديث فيه، وكل ذلك من الأخبار وقواعد العقائد فلا يدخلها النسخ.
وورد مع ذلك الأمر بالدعاء لأحياء المؤمنين وأمواتهم في صلاة الجنازة وفي غيرها، فالدعاء عبادة ثوابها لفاعلها سواء أستجيب أم لا، ويستحيل شرعاً وعقلاً استجابة كل دعاء لتناقض الأدعية ولاقتضاء الاستجابة ألا يعاقب فاسق ولا مجرم إلا إذا اتفق وجود أحد لا يدعو له أحد برحمة ولا مغفرة في صلاة ولا غيرها، ولا يترتب على ذلك من تعطيل كثير من النصوص أو عدم صدقها.
وورد في الأخبار جواز صدقة الأولاد عن الوالدين ودعائهم لهما وقضاء ما وجب عليهما من صيام أو صدقة أو نسك، وقد بينا حكمته مع النصوص فيه، والظاهر من هذا أن الوالدين ينتفعان ببعض عمل أولادهما لأن الشارع ألحقهم بهما، فيسقط عنهما ما ينوبان عنهما فيه من أداء دين الله تعالى كديون الناس.
فمن أراد أن يتبع الهدى، ويتقي جعل الدين تابعاً للهوى، فليقف عند النصوص الصحيحة؛ ويتبع فيها سيرة السلف الصالح ويعرض عن أقيسة بعض الخلف المروجة للبدع؛ وإذا زين لك الشيطان أنه يمكنك أن تكون أهدى وأكمل عملاً بالدين من الصحابة والتابعين فحاسب نفسك على الفرائض والفضائل المجمع عليها والصحيحة التي يضعف الخلاف فيها.
وانظر أين مكانك منها فإن رأيت ولو بعين العجب والغرور أنك بلغت مد أحدهم أو نصيفه من الكمال فيها، فعند ذلك تعذر في الزيادة عليها،(11/344)
وهيهات هيهات لا يدعي ذلك إلا جهول مفتون، أو من به مس من الجنون وأن أكثر المتعبدين بالبدع؛ مقصرون في أداء الفرائض أو في المواظبة على السنن، ومنهم المصرون على الفواحش والمنكرات؛ كإصرارهم على ما التزموا في المقابر من العادات، كاتخاذها أعياداً تشد إليها الرحال، ويجتمع لديها النساء والرجال والأطفال؛ ولا سيما في ليلتي العيدين وأول جمعة من رجب، وتذبح عندها الذبائح؛ وتطبخ أنواع المآكل؛ فيأكلون ثم يشربون، ويبولون ويغوطون ويلغون ويصخبون ويقرأ لهم القرآن من يستأجرون لذلك من العميان، ولهم أعمال من دون ذلك هم لها عاملون. (1)
_________
(1) والحمد لله فقد تم بفضل الله ثم بجهود المخلصين بمنع بعض البدع في بعض الأقطار الإسلامية ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يكلل هذه الخطوات لإنهاء هذه الشواذات إنه سميع مجيب.(11/345)
فصل
هل يتأذى الأموات بعمل الأحياء
قدمنا لك الأدلة الكافية في عدم انتفاع الأموات بعمل الخير من الأحياء، فما القول في الموضوع إذا انعكس الأمر؟ هل يتأذى الميت إذا صدر من الحي ما حرمه الله ورسوله؟ ليس في هذا إلا قوله صلى الله عليه وسلم: " إن الميت يعذب ببكاء أهله عليه " رواه الشيخان وغيرهما عن ابن عمر والمراد به النياحة كما صرح به في بعض الروايات عنه وعن أبيه وورد التصريح بعدم المؤاخذة بالبكاء المجرد وقد أوله بعضهم بأنه يعذب بما نيح عليه إذا أوصى أهله به وكان ممن يرضى به، ويحتمل أن يكون المراد بتعذيب الميت بنواح الحي عليه أنه يشعر ببكائه فيؤلمه ذلك لا أن الله تعالى يعذبه به ويؤاخذه عليه والله أعلم.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن أبي مليكة قال: توفيت أم عمرو بنت أبان بن عثمان فحضرت الجنازة فسمع ابن عمر بكاء فقال: ألا تنهى هؤلاء عن البكاء فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن الميت يعذب ببكاء الحي عليه " فأتيت عائشة فذكرت لها ذلك. فقالت: " والله إنك لتخبرني عن غير كاذب ولا متهم ولكن السمع يخطىء وفي القرآن ما يكفيكم: (ولا تزر وازرة وزر أخرى).
وقال الشيخ محمد عبد السلام في رسالته: (القراءة للأموات) ما نصه:
وبعد فقد سألنا أخ لنا في الله تعالى عن قراءة القرآن: هل يصل ثوابها للموتى؟ فأجبناه بما يأتي:
أخرج أبو داود في سننه: أنه صلى الله عليه وسلم إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه فقال: " استغفروا لأخيكم، وسلوا له التثبيت فإنه الآن(11/346)
يسأل " (1) حديث حسن وأخرج أيضاًً أبو داود وغيره بإسناد حسن: أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا وضع الميت في لحده قال: " بسم الله وبالله وفي سبيل الله وعلى ملة رسول الله ".
فليس في هذه الأحاديث أنه قرأ سورة لا هو ولا أحد أصحابه على القبر كما يفعل ذلك القراء الآن.
وكذا رواية مسلم عن أبي هريرة قال زار النبي صلى الله عليه وسلم قبر أمه فبكى وأبكى من حوله فقال: " استأذنت ربي في أن استغفر لها فلم يأذن لي واستأذنته في أن أزور قبرها فأذن لي فزوروا القبور، فإنها تذكر الموت -وفي رواية- فإن فيها عبرة، فإنها تزهد في الدنيا وتذكر الآخرة " (2).
فظهر أن المعروف عنه صلى الله عليه وسلم إنما هو الاستغفار لا تلاوة القرآن. وهذا هو المنقول والمعقول أما تلاوة القرآن التي هي أحكام الدين وآدابه وحلاله وحرامه، فلا يمكن أن يفيد الميت شيئاًً قط. والقرآن والسنة الثابتة معنا على ذلك.
وأخرج أحمد ومسلم والنسائي أن بريدة الأسلمي قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمهم إذا خرجوا إلى المقابر فكان قائلهم يقول: السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، إنا إن شاء الله بكم لاحقون أنتم فرطنا (3) ونحن لكم تبع، ونسأل الله لنا ولكم العافية " (4) وليس في هذا الحديث أيضاًً سوى التسليم على أهل المقابر وطلب العافية لهم من الله، وليس فيه ما يشم منه رائحة إباحة تلاوة القرآن للأموات.
وأخرج مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله
_________
(1) صحيح الجامع/956.
(2) أحمد 2/ 441.
(3) فرطنا أي سبقتمونا.
(4) صحيح الجامع/3592 بطولة.(11/347)
عليه وسلم كلما كانت ليلتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج من آخر الليل إلى البقع فيقول: " السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وأتاكم ما توعدون اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد " (1) وهذا ليس فيه سوى طلب المغفرة لأهل الجبانة فلم يقرأ قرآنا.
_________
(1) مقبرة بالمدينة.(11/348)
فصل
(فيما ينتفع به الإنسان بعد موته)
نعم ينتفع الميت بكل ما قررته شريعة الإسلام في كتاب الله وهدي رسوله فقد ورد في الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال: " إذ مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاثة: صدقة جارية، أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له (1) ".
وينتفع الميت بما ورد في حديث: " إن مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته: علماً نشره، وولداً صالحاً تركه، ومصحفاً ورثه أو مسجداً بناه أو بيتاً لابن السبيل بناه أو نهراً أجراه أو صدقة أخرجها من ماله في صحته وحياته، تلحقه بعد موته " رواه ابن ماجة وابن خزيمة.
وينتفع الميت بعد موته بسنة حسنة سنها فعمل بها من بعده كما روى مسلم في صحيحه أنه صلى الله عليه وسلم قال: " من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء -وفي رواية- من سن سنة حسنة فله أجرها ما عمل بها في حياته وبعد مماته حتى تترك " (2).
وينتفع الميت بالصدقة عنه كما روى البخاري: " أن رجلاً قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم إن أمي توفيت أينفعها إن تصدقت عنها؟ قال نعم " (3).
وفي المسند والسنن عن سعد بن عبادة (رض) أنه قال: " يا رسول الله إن أم سعد ماتت فأي الصدقة أفضل؟ قال " الماء " فحفر بئرا وقال: هذا لأم سعد؛ فسقي الماء من الصدقات التي ينتفع بها الميت من ولده ".
_________
(1) صحيح الجامع/6181 و6182.
(2) صحيح الجامع/805.
(3) صحيح الجامع/682.(11/349)
وأخرج مسلم أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: " إن أبي ترك مالاً ولم يوص فهل يكفي أن أتصدق عنه؟ قال نعم ".
وينتفع الميت بدعاء المسلمين واستغفارهم له لقوله تعالى: (وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ) وفي السنن مرفوعاً: " إذا صليتم على الميت فأخلصوا له الدعاء ".
هذا هو الوارد في هذا الباب مما ينفع الأموات بسعي الأحياء وليس فيها دليل واحد يستأنس به أو يشم منه رائحة جواز قراءة القرآن للموتى أو سورة مخصوصة كسورة (يس) أو غيرها أو عمل عتاقة بسورة الإخلاص مائة ألف مرة أو سبحه بلا إله إلا الله ألف مرة وسنسرد عليك هنا إن شاء الله أقوال المفسرين والمحدثين والأصوليين وأئمة المذاهب المعروفة مما يدلك دلالة واضحة على أن كل ما عليه الناس في مآتمهم وعلى قبورهم لا يتفق وشرائع الإسلام وهدي الرسول عليه السلام.(11/350)
أقوال المفسرين
تفسير الإمام ابن كثير:
قال رحمه الله عند قوله تعالى: (أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى (36) وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37) أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى (38) وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى (40) ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى) أي كل نفس ظلمت نفسها بكفر أو شيء من الذنوب فإنما عليها وزرها لا يحمله عنها أحد كما قال: (وإن تدع مثقلة إلى حملها لا يحمل منه شيء ولو كان ذا قربى) (وأن ليس للإنسان إلا ما سعى) أي كما لا يحمل عليه وزر غيره كذلك لا يحصل له من الأجر إلا ما كسب هو لنفسه.
قال: ومن هذه الآية الكريمة استنبط الشافعي رحمه الله ومن اتبعه أن القراءة لا يصل ثوابها إلى الموتى لأنه ليس من عملهم ولا كسبهم، ولهذا لم يندب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته ولا حثهم عليه ولا أرشدهم إليه بنص ولا إيماء ولم ينقل ذلك عن أحد من الصحابة رضي الله عنهم ولو كان خيراً لسبقوا إليه وباب القربات يقتصر فيه على النصوص ولا يتصرف فيه بأنواع الأقيسة والآراء: فأما الدعاء والصدقة فذلك مجمع على وصولهما ومنصوص من الشارع عليهما.
وأما الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: ولد صالح يدعو له أو صدقة جارية من بعده أو علم ينتفع به ". فهذه الثلاثة في الحقيقة من سعيه وكده وعمله كما جاء في الحديث: " أن أطيب ما أكل الرجل من كسبه، وأن ولده من كسبه " (1) والصدقة الجارية كالوقف ونحوه هي من آثار عمله ووقفه، وقد قال تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ) والعلم الذي نشره في الناس فاقتدى به الناس هو أيضاًً من سعيه
_________
(1) أحمد 1/ 36.(11/351)
وعمله. وثبت في الصحيح: " من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه من غير أن ينقص من أجورهم شيئاًً " (1). أهـ.
تفسير الإمام الشوكاني:
قال رحمه الله عند قوله تعالى: (وأن ليس للإنسان إلا ما سعى) والمعنى ليس له إلا أجر سعيه وجزاء عمله ولا ينفع أحداً عمل أحد وهذا العموم مخصص بمثل قوله سبحانه (ألحقنا بهم ذرياتهم) وبمثل ما ورد في شفاعة الأنبياء والملائكة للعباد ومشروعية دعاء الأحياء للأموات ونحو ذلك.
ولم يصب من قال: أن هذه الآية منسوخة بمثل هذه الأمور، فإن الخاص لا ينسخ العام بل يخصصه فكل ما قام الدليل على أن الإنسان ينتفع به وهو من غير سعيه كان مخصصاً لما في هذه الآية من العموم أهـ.
تفسير الإمام الخازن:
قال رحمه الله عند هذه الآية: (وأن ليس للإنسان إلا ما سعى) بعد أن قدم النصوص الدالة على جواز الدعاء والصدقة والحج عن الميت: والمشهور من مذهب الشافعي أن قراءة القرآن لا يصله ثوابها، وقال جماعة من أصحابه: يصله ثوابها، وبه قال أحمد. وأما الصلوات فلا يصله عند الشافعي والجمهور أهـ.
تفسير المنار:
قال رحمه الله في تفسيره عند آية: (ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى) في آخر سورة الأنعام بعد بحث طويل قال ما حاصله: إن كل ما جرت به العادة من قراءة القرآن والأذكار وإهداء ثوابها إلى الأموات واستئجار القُراء وحبس الأوقاف على ذلك بدع غير مشروعة، ومثلها ما يسمونه إسقاط الصلاة ولو كان لها أصل في الدين لما جهلها السلف ولو
_________
(1) صحيح الجامع/6110.(11/352)
علموها لما أهملوا العمل بها.
وقال أيضاًً: وإن حديث قراءة سورة يس على الموتى غير صحيح وإن أريد به من حضرهم الموت. وأنه لم يصح في هذا الباب حديث قط كما قال بذلك المحدث الدارقطني.
واعلم أن ما اشتهر وعم البدو والحضر من قراءة الفاتحة للموتى لم يرد فيه حديث صحيح ولا ضعيف، فهو من البدع المخالفة لما تقدم من النصوص القطعية ولكنه صار بسكوت اللابسين لباس العلماء وبإقرارهم له، ثم بمجاراة العامة عليه من قبيل السنن المؤكدة أو الفرائض المحتمة.
قال: وخلاصة القول أن المسألة من الأمور التعبدية التي يجب فيها الوقوف عند نصوص الكتاب والسنة وعمل الصدر الأول من السلف الصالح.
قد علمنا أن القاعدة المقررة في نصوص القرآن الصريحة والأحاديث الصحيحة أن الناس لا يجزون في الآخرة إلا بأعمالهم: (يوم لا تملك نفس لنفس شيئاًً) وقال تعالى: (واخشوا يوماً لا يجزي والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئاًً) وإن النبي صلى الله عليه وسلم بلغ أقرب أهل عشيرته إليه بأمر ربه: " أن اعملوا لا أغني عنكم من الله شيئاًً " وإن مدار النجاة في الآخرة على تزكية النفس بالإيمان والعمل الصالح أهـ.
ونقل السيد رشيد رضا عن الحافظ بن حجر أنه سئل عمن قرأ شيئاًً من القرآن وقال في دعائه: اللهم اجعل ثواب ما قرأته، زيادة في شرف سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال فأجاب بقوله: هذا مخترع من متأخري القراء لا أعرف لهم سلفاً أهـ.
" نقول " إن كثيراً من المتمشيخين الذين لم يفهموا معنى آية من الكتاب العزيز ولم يفهموا معنى الآية (وما آتاكم الرسول فخذوه) ولا معنى الحديث(11/353)
الصحيح: " من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد " (1) وحديث: " وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة " (2) هؤلاء هم الذين يتأكلون بالقرآن فحسابهم على الله.
_________
(1) أحمد 6/ 146.
(2) أحمد 4/ 126.(11/354)
أقوال أئمة الحديث
قال الإمام النووي في شرح مسلم في باب وصول ثواب الصدقة عن الميت إليه: عند حديث عائشة أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: " يا رسول الله إن أمي افتلتت نفسها ولم توص، وأظنها لو تكلمت تصدقت أفلها أجر إن تصدقت عنها؟ قال نعم " وفي هذا الحديث أن الصدقة عن الميت تنفع الميت ويصل ثوابها. وهو كذلك بإجماع العلماء وكذا أجمعوا على وصول الدعاء وقضاء الدين بالنصوص الواردة في الجميع، ويصح الحج عن الميت والصوم للأحاديث الصحيحة فيه والمشهور من مذهبنا أن قراءة القرآن لا يصله ثوابها أهـ.
وقال الإمام الصنعاني في كتاب سبل السلام عند حديث ابن عباس قال: " مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقبور المدينة فأقبل عليهم بوجهه فقال: " السلام عليكم يا أهل القبور، يغفر الله لنا ولكم أنتم سلفنا ونحن بالأثر " (1) رواه الترمذي بإسناد حسن.
قال: في الحديث دليل على أن الإنسان إذا دعا لأحد أو استغفر يبدأ بالدعاء لنفسه والاستغفار لها، وعليه وردت الأدعية القرآنية (ربنا اغفر لنا ولإخواننا) (فاستغفر لذنبك وللمؤمنين) وفيه أن هذه الأدعية ونحوها نافعة للميت بلا خلاف. وأما غيرها من قراءة القرآن له: فالشافعي يقول: لا يصل ذلك إليه.
وقال الإمام الشوكاني رحمه الله في شرح المنتقى:
والمشهور من مذهب الشافعي وجماعة من أصحابه أنه لا يصل إلى الميت ثواب قراءة القرآن.
ونقول: أن مما يدل دلالة واضحة على أن القرآن لا ينفع الموتى ولا يتلى
_________
(1) ضعيف الجامع/1167.(11/355)
على قبورهم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه البيهقي بلفظ: " اقرؤا سورة البقرة في بيوتكم ولا تجعلوها قبوراً " وأيضاًً " صلوا في بيوتكم ولا تتخذوها قبوراً " (1) رواه الترمذي والنسائي وأبو يعلي والضياء المقدسي، وصححه السيوطي في الصغير فلو كان القرآن يتلى لنفع الأموات ويقرأ على قبورهم لما قال النبي -الذي هو (بالمؤمنين رؤوف رحيم) - اقرأوا وصلوا في بيوتكم ولا تجعلوها قبوراً. وإنما قال هذا لأن القبور ليست محلاً لقراءة القرآن ولا للصلاة، ولهذا لم يرد حديث واحد بسند صحيح ولا ضعيف مقبول أنه صلى الله عليه وسلم قرأ القرآن ولا شيئاًً منه مرة واحدة في حياته كلها مع كثرة زيارته للقبور وتعليمه للناس كيفية زيارتها.
_________
(1) صحيح الجامع/3678.(11/356)
أقوال أئمة المذاهب الأربعة
مذهب أبي حنيفة:
قال في كتاب الفقه الأكبر للإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان للإمام ملا على القارىء الحنفي (ص 110): ثم القراءة عند القبور مكروهة عند أبي حنيفة ومالك وأحمد رحمهم الله في رواية لأنه محدث لم ترد به السنة. أهـ.
وكذلك قال شارح الإحياء (ج 3 ص 280).
مذهب الشافعي:
استدل الإمام الشافعي على عدم وصول ثواب القراءة بآية: (وأن ليس للإنسان إلا ما سعى) وبحديث: " إذا مات ابن آدم انقطع عمله، الخ " وقال النووي في شرح هذا الحديث: وأما قراءة القرآن وجعل ثوابها للميت والصلاة عنه ونحوها فذهب الشافعي والجمهور أنها لا تلحق الميت. أهـ، وكرر ذلك في عدة مواضع من شرح مسلم.
وقال: وفي شرح المنهاج لابن النحوي: لا يصل إلى الميت عندنا ثواب القراءة على المشهور أهـ.
وسئل العز بن عبد السلام عن ثواب القراءة المهدى للميت هل يصل أو لا؟ فأجاب بقوله: ثواب القراءة مقصور على القارىء ولا يصل إلى غيره قال: والعجب من الناس من يثبت ذلك بالمنامات وليست المنامات من الحجج.
مذهب المالكية:
قال الشيخ ابن أبي جمرة: إن القراءة عند المقابر بدعة وليست بسنة.
كذا في المدخل وقال الشيخ الدردير في كتابه الشرح الصغير (ج 1 ص 180) وكره قراءة شيء من القرآن عند الموت وبعده وعلى القبور لأنه ليس من عمل(11/357)
السلف وإنما كان من شأنهم الدعاء بالمغفرة والرحمة والاتعاظ أهـ. وكذلك في حاشية العلامة العدوي على شرح أبي الحسن.
مذهب الحنابلة:
قال الإمام أحمد لمن يراه يقرأ على القبر: يا هذا إن قراءة القرآن على القبر بدعة. وقال الإمام ابن تيمية. ونقل الجماعة عن أحمد كراهة القرآن على القبور، وهو قول جمهور السلف وعليه قدماء أصحابه وقال أيضاًً: والقراءة على الميت بعد موته بدعة بخلاف قراءة (يس) على المحتضر فإنها تستحب.
وقال: ولم يكن من عادة السلف إذا صلوا تطوعاً أو صاموا تطوعاً أو حجوا تطوعاً أو قرأوا القرآن يهدون ثواب ذلك إلى موتى المسلمين، فلا ينبغي العدول عن طريق السلف.
وقال الإمام ابن القيم في زاد المعاد (ج 1 ص 146): ولم يكن من هديه صلى الله عليه وسلم أن يجتمع للعزاء ويقرأ له القرآن لا عند قبره ولا غيره. وكل هذا بدعة حادثة مكروهة.
وأما حديث: (اقرأوا على موتاكم يس) فهو حديث معلول مضطرب الإسناد مجهول السند. وعلى فرض صحته فلا دلالة فيه قطعاً، فإن المراد من قوله (موتاكم) أي من حضره مقدمات الموت حيث يكون ضعيف البنية ساقط الأعضاء، قد أقبل على الله بكلية فيقرأ عليه ما يزداد به قوة قلب، فهذا قطعاً من عمله في حياته. وخصت (يس) بهذه الحالة لما فيها من ذكر الله وتوحيده وتبشيره بما أعده لعباده الصالحين. فهذه المعاني كلها تجدها في سورة يس. وهذا ملخص ما قاله الفخر الرازي. والعلامة العزيزي على الجامع الصغير في شرحه لهذا الحديث.
وقال الفيروزبادي: قراءة القرآن بدعة ومكروه.(11/358)
كلام علماء الأصول:
قال صاحب كتاب طريق الوصول إلى إبطال البدع بعلم الأصول بعد ما ذكر قاعدة أصولية نفيسة ما نصه: من هذه القاعدة الجليلة تعلم أن أكثر ما تفعله العامة من البدع المذمومة ولنذكر لك أمثلة:
الأول: قراءة القرآن على القبور رحمة بالميت، تركه النبي صلى الله عليه وسلم وتركه الصحابة مع قيام المقتضى للفعل، والشفقة للميت وعدم المانع منه، فبمقتضى القاعدة المذكورة يكون تركه هو السنة وفعله بدعة مذمومة، وكيف يعقل أن يترك الرسول صلى الله عليه وسلم شيئاًً نافعاً لأمته يعود عليها بالرحمة ويتركه الرسول صلى الله عليه وسلم طول حياته ولا يقرأه على ميت مرة واحدة؟
الثاني: قراءة الصمدية بعدد معلوم أو الجلالة بعدد معلوم. القرآن في ذاته عبادة لقارئه يتقرب بقراءته وبسماعه إلى الله تعالى ولا ينازع في ذلك أحد، إنما النزاع في قراءته للميت ليكون عتقاً لرقبته من النار.
مع العلم بأن القرآن ما نزل للأموات وإنما نزل للأحياء نزل ليكون تبشيراً للمطيع وإنذاراً للعاصي، نزل لنهذب به نفوسنا ونصلح به شؤوننا، أنزل الله القرآن كغيره من الكتب السماوية ليعمل على طريقه العاملون، ويهتدي بهديه المهتدون، قال جل شأنه: (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا (9) وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا).
فهل سمعتم أن كتاباً من الكتب السماوية قرىء على الأموات أو أخذت عليه الأجور والصدقات؟ ويقول الله خطابا لنبيه (قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين) (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (87) وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ).
أكان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ على أصحابه عدداً معلوماً من(11/359)
الصمدية أو عدداً معلوماً من الجلالة ليكون ذلك عتقاً لرقبتهم، وإنقاذاً لهم من النار؟ مع العلم بأن من ليس بمعصوم في حاجة إلى تكفير السيئات ورفع الدرجات، أم كانت سنته أن يدفن الرجل من أصحابه ويذهب كل إلى عمله ليس له إلا ما قدم؟ هذه كانت سنته وهذه طريقته والله تعالى يقول: (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر) فلنتأس به في الفعل، كما نتأسى به في الترك أهـ. كلام صاحب طريق الوصول.(11/360)
فصل في أشياء تتعلق بذلك
وأما ما يروى عن ابن عمر أنه أوصى بقراءة الفاتحة وخواتيم البقرة على قبره، فهو أثر شاذ لم يصح سنده، ولم يوافقه عليه أحد من الصحابة، وكذلك ما يروى من قراءة الفاتحة والصمدية والمعوذتين وألهاكم والكافرون وإهدائها لأهل المقابر فباطل لمخالفتها لأقوال النبي وأفعاله وأقوال وأفعال أصحابه.
- ومن البدع: قراءة القرآن في الشوارع والطرقات وعلى أبواب الأضرحة للتعيش والارتزاق، إذ في ذلك تسول فاحش بالقرآن فهو امتهان للقرآن، والتسول يحرمه الدين الإسلامي تحريماً باتاً، وهو بالقرآن أشد تحريماً ولكن يجب على العلماء أن يفهموا الحكومة والأغنياء أنه فرض عليهم أن ينفقوا على هؤلاء العميان وأن يستخدموهم في أي عمل كصناعة الزنابيل وخيزران الكراسي وما يليق بهم من الصناعات.
- ومن البدع: نصب السرادقات (الصواوين) يوم وفاة الميت وعمل السبحة التي هي عبارة عن التهليل ألف مرة من المعزين، ويهبون ثوابها للميت وأصلها منام رآه بعض المتمشيخين فأذاعه بين إخوانه الجهلاء فاتخذوها سنة ثم حديث من قرأ: قل هو الله أحد ألف مرة فقد اشترى نفسه من النار، موضوع وفيه مجاشع الكذاب.
- ومن البدع: والمنكر أنهم يجددون الحزن كل خميس بعد وفاة الميت إلى يوم الأربعين أو إلى أول عيد له، ويعملون السرادقات ويحضرون القراء وينتظرون مجيء الناس إليهم للتعزية، وقد روى الإمام أحمد وابن ماجة بإسناد صحيح عن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال: " كنا نعد الاجتماع إلى أهل الميت وصنعة الطعام بعد دفنه من النياحة " وقال الشافعي: يكره الجلوس للتعزية. وقال الأوزاعي مثله. وقال الإمام أحمد: وهو من فعل الجاهلية وأنكره.(11/361)
- ومن البدع: ذهاب النساء والرجال إلى المقابر في الأعياد والجمع ومعهم القرص والبلح لتوزيعها على القراء وغيرهم، ومن عيوب القراء أنهم يقولون للجالسات على القبر: أقرأ سورة هنا يا ست ثم يتشاجر معها بعد القراءة لقلة ما تعطيه، وهذا قبيح جداً يحط من كرامة القراء ورجولتهم.
وعلاج ذلك أن تمنع الحكومة في شدة وحزم هذه المهازل قبل وقوعها فلا تسمح للنساء بالخروج إلى المقابر وتجري على هؤلاء القراء ما يغنيهم عن ذلك، كما يجب على العلماء أن يذكروا وينكروا ذلك العمل عند كل مناسبة.
- ومن البدع: تسهير القراء في شهر رمضان إذ لم يكن هذا من فعل السلف الصالح ولا هو من تعليم الرسول صلى الله عليه وسلم وليس في الكتب الصحيحة بل ولا غيرها ما يدل على جواز ذلك. وإنما المطلوب شرعاً أن نتدارس القرآن كما ورد أنه صلى الله عليه وسلم: " كان إذا دخل العشر الأخير من رمضان شد مئزره وأحيا ليله وأيقظ أهله " (1) رواه البخاري ومسلم وغيرهما.
- ومن البدع: قراءة سورة ياسين 40 مرة بقصد إهلاك شخص أو إضرار طائفة وغاب عن هؤلاء أن الله أنزل القرآن شفاء ورحمة وأرسل الرسول رحمة للعالمين، وما أنزل الله علينا القرآن لنشقى، وهذا من الجهلاء شنيع، لكنه من أهل العلم أشنع وأفظع، ولكن ضللهم هؤلاء بقولهم خذ من القرآن ما شئت لما شئت " ويس " لما قرأت له. وكلاهما باطل لا أصل له.
- ومن البدع: قراءة سورة الكهف بالمساجد على الهيئة المعروفة، والسنة أن يقرأها يوم الجمعة كل مسلم ومسلمة لحديث: " من قرأ سورة الكهف في يوم الجمعة أضاء له من النور ما بين الجمعتين " وفي رواية: " أضاء له من النور ما بينه وبين البيت العتيق " وهذان الحديثان ضعيفان وهما يفيدان أن الكل مطلوب منه قراءة سورة الكهف ولكن التشويش بها من
_________
(1) صحيح الجامع 6346 و6347.(11/362)
قارىء واحد ممنوع شرعاً وعقلاً وفي الحديث: " لا يجهر بعضكم على بعض بالقرآن " رواه مالك في الموطأ وأبو داود في سننه.
وروى الإمام أحمد ومسلم والنسائي مرفوعاً: " من قرأ العشر الأواخر من سورة الكهف عصم من فتنة الدجال ".
- ومن البدع: قراءة سورة تبارك جماعة على صوت واحد كما يفعل ذلك جماعة الخلوتية وغيرهم، أما السورة نفسها فقراءتها سنة: " إن سورة من القرآن ما هي إلا ثلاثون آية شفعت لرجل حتى غفر له، وهي تبارك الذي بيده الملك " (1) رواه أحمد وأصحاب السنن وابن حبان.
- ومن البدع: قراءة سورة الفاتحة لروح النبي صلى الله عليه وسلم بعد صلاة الظهر وقراءتها بعد صلاة العصر لروح عمر وبعد صلاة المغرب لروح عثمان وبعد صلاة العشاء لروح علي ويعتقدون أنهم بهذا يحضرونهم عند تغسيلهم بعد الموت أو عند سؤال القبر، وتلك بدع وخرافات ما أنزل الله بها من سلطان.
- ومن البدع: قول بعض المصلين عقب التسليم من صلاة الجمعة فوراً (الفاتحة لسيدي الحسين) أو يقول: (للسيد البدوي) أو (الفاتحة على هذه النية) وهذا جهل قبيح، ولكن لماذا يقره العلماء ويسكتون عليه؟ الحق أن الكل أجمع على ترك أوامر الدين ولا قوة إلا بالله.
- ومن البدع: تعليق المصحف على الصغير أو الكبير كحجاب أو للنظرة. وكذا من البدع كتابة شيء من القرآن لهذا الغرض والمشروع قراءة آية الكرسي عند النوم أو المعوذتين أو قراءة الأدعية الواردة في السنة لهذا فليعلم.
- ومن البدع: تعليق سورة (ألم نشرح) في ورقة على الدكاكين لجلب
_________
(1) صحيح الجامع 6277.(11/363)
الزبون، والمطلوب حسن المعاملة وحسن الخلق والصدق وعدم رفع الأسعار فإن هذا حقاً يجلب الزبون، وقد نهى الإسلام عن التعليق حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من علق فقد أشرك " (1).
- ومن البدع: أنهم عندما يمرون بقبر أو تابوت أو قبة يتجهون إلى القبلة رافعين أيديهم إلى السماء قائلين: الفاتحة لصاحب هذا المقام ويكثرون من الدعاء ثم يمسحون وجوههم بأيديهم قائلين: راعنا يا سيدي راعنا سقت عليك النبي، وهذا منهم بدعة وجهل وضلال، وهذه كبدعة زائري القبور فإنهم أيضاًً يقولون: الفاتحة لروح أمواتنا وأموات المسلمين كافة عامة، ثم يقول يا حي يا قيوم ويقرأ الفاتحة.
(تم الملحق)
_________
(1) روى بمعناه ضعيف الجامع 5715 وصحيح الجامع 6570.(11/364)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
سورة الصافات
(هي مائة واثنتان وثمانون آية وهي مكية)
قال القرطبي: في قول الجميع، قال ابن عباس: نزلت بمكة وعن ابن عمر قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " يأمرنا بالتخفيف ويؤمنا بالصافات " أخرجه النسائي والبيهقي في سننه.
وعن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " من قرأ يس والصافات يوم الجمعة ثم سأل الله أعطاه سؤاله "، أخرجه ابن أبي داود في فضائل القرآن وابن النجار في تاريخه.
وعنه: " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما سأله ملوك حضرموت عند قدومهم عليه أن يقرأ عليهم شيئاً مما أنزل إليه قرأ: والصافات صفاً، حتى بلغ رب المشارق والمغارب " الحديث أخرجه أبو نعيم في الدلائل والسلفي في الطيوريات.(11/365)
بسم الله الرحمن الرحيم
وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (1) فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا (2) فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا (3) إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ (4) رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ (5) إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ (6) وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ (7)(11/367)
وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (1)
(والصافات صفاً) الواو للقسم، والمقسم به الملائكة، والمراد بالصافات التي تصف في السماء من الملائكة كصفوف الخلق في الدنيا قاله ابن مسعود وابن عباس وعكرمة وسعيد بن جبير ومجاهد وقتادة.
وعن جابر بن سمرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربهم؟ قالوا وكيف تصف الملائكة عند ربهم؟ قال: يتمون الصفوف المتقدمة ويتراصون في الصف (1) "، أخرجه أبو داود.
وقيل: إنها تصف أجنحتها في الهواء واقفة فيه حتى يأمرها الله بما يريد، وقال الحسن: صفاً كصفوفهم عند ربهم في صلاتهم، وقيل: المراد بالصافات هنا الطير كما في قوله: (أولم يروا إلى الطير فوقهم صافات) والأولى، هو الأول والصف ترتيب الجمع على خط كما يصف في الصلاة، وقيل: الصافات جماعة الناس المؤمنين إذا قاموا صفاً في الصلاة وفي الجهاد ذكره القشيري:
_________
(1) صحيح الجامع/2645.(11/367)
فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا (2)
(فالزاجرات زجراً) أي الفاعلات للزجر من الملائكة إما لأنها تزجر السحاب كما قال السدي، وإما لأنها تزجر عن المعاصي بالمواعظ والنصائح، وقال قتادة: المراد بالزاجرات الزواجر من القرآن، وهي كل ما ينهي ويزجر(11/367)
عن القبيح والأول أولى، وانتصاب صفاً وزجراً على المصدرية لتأكيد ما قبلهما وقيل: المراد بالزاجرات العلماء لأنهم هم الذين يزجرون أهل العاصي عن المعاصي والزجر في الأصل الدفع بقوة، وهو هنا قوة التصويت ومنه زجرت الإبل والغنم إذا أفزعتها بصوتك.(11/368)
فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا (3)
(فالتاليات ذكراً) أي الملائكة التي تتلو القرآن كما قال ابن مسعود وابن عباس والحسن ومجاهد وابن جبير والسدي، وقيل: المراد جبريل وحده فذكر بلفظ الجمع تعظيماً له مع أنه لا يخلو من أتباع له من الملائكة، وقال قتادة: المراد كل من تلا ذكر الله وكتبه، وقيل: المراد آيات القرآن ووصفها بالتلاوة وإن كانت متلوة، كما في قوله: (إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل). وقيل: لأن بعضها يتلو بعضاً ويتبعه.
وذكر الماوردي: أن التاليات هم الأنبياء يتلون الذكر على أممهم؛ وانتصاب ذكراً على أنه مفعول به، ويجوز أن يكون مصدراً كما قبله، قيل: وهذه الفاء في قوله: فالزاجرات فالتاليات إما لترتيب الصفات أنفسها في الوجود، أو لترتيب موصوفاتها في الفضل؛ وفي الكل نظر.(11/368)
إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ (4)
(إن إلهكم لواحد) جواب القسم أي: أقسم الله بهذه الأقسام أنه واحد ليس له شريك وأجاز الكسائي: فتح إن الواقعة في جواب القسم وإنما أقسم بهذه الأشياء للتنبيه على شرف ذواتها وكمال مراتبها، والرد على عبدة الأصنام في قولهم، وللتأكيد لما تقدم لا سيما والقرآن أنزل بلغة العرب، وإثبات المطالب بالحلف واليمين طريقة مألوفة عندهم، قال ابن الأنباري: الوقف على (لواحد) وقف حسن ثم يبتدىء.(11/368)
رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ (5)
(رب السموات والأرض) على معنى هو ربهما، وقيل: غير ذلك، والمعنى في الآية: إن وجود هذه المخلوقات على هذا الشكل البديع من أوضح الدلائل على وجود الصانع وقدرته وأنه رب ذلك كله، أي خالقه ومالكه (وما بينهما) أي من المخلوقات والكائنات.(11/368)
(ورب المشارق) أعاد الرب فيها لما فيها من غاية ظهور آثار الربوبية وتجددها كل يوم، قيل: أراد مشارق الكواكب، والظاهر أنها مشارق الشمس، قيل: إن الله خلق للشمس كل يوم مشرقاً ومغرباً بعدد أيام السنة تطلع كل يوم من واحد منها، وتغرب في واحد، كذا قال ابن الأنباري وابن عبد البر، وأما قوله في سورة الرحمن (رب المشرقين ورب المغربين) فالمراد بالمشرقين أقصى مطلع تطلع منه الشمس في الأيام الطوال، وأقصر يوم في الأيام القصار، وكذلك في المغربين.
وأما ذكر المشرق والمغرب بالإفراد فالمراد بهما الجهة التي تشرق منها الشمس والجهة التي تغرب فيها، واقتصر على المشارق اكتفاء على حد: (سرابيل تقيكم الحر) أي والمغارب للشمس، ولم يعكس لأن شروق الشمس سابق على غروبها، وأيضاًً فالشروق أبلغ في النعمة وأكثر نفعاً من الغروب، فذكر المشرق تنبيهاً على كثرة إحسان الله تعالى على عباده، ولهذه الدقيقة استدل إبراهيم عليه السلام بالمشرق فقال: (إن الله يأتي بالشمس من المشرق).
قال الكرخي: وجمع هنا المشرق وحذف مقابله وثناه في الرحمن وجمعه في المعارج وأفرده في المزمل مع ذكر مقابله في الثلاثة لأن القرآن نزل على المعهود من أساليب كلام العرب وفنونه، ومنها الإجمال والتفصيل والذكر والحذف والتثنية والجمع، والإفراد باعتبارات مختلفة، فأفرد وأجمل في المزمل أراد مشرق الصيف والشتاء ومغربهما، وجمع وفصل في المعارج، أراد جميع مشارق السنة ومغاربها، وهي تزيد على سبعمائة، وثنى وفصل في الرحمن أراد مشرقي الصيف والشتاء ومغربيهما، وجمع وحذف هنا أراد جميع مشارق السنة، واقتصر عليه لدلالته على المحذوف كما مرت الإشارة إليه، وخص ما هنا بالجمع موافقة للجموع أول السورة، وبالحذف مناسبة للزينة إذ هي إنما تكون غالباً بالضياء والنور، وهما ينشآن من المشرق لا من المغرب وما في الرحمن بالتثنيه موافقة للتثنيه في (يسجدان) وفي: (فبأي آلاء ربكما(11/369)
تكذبان).
وبذكر المقابلين موافقة لبسط صفاته تعالى وإنعاماته ثم، وما في المعارج بالجمع موافقة للجمع قبله وبعده، وبذكر المقابلين موافقة لكثرة التأكيد في القسم وجوابه، وما في المزمل بالإفراد موافقة لما قبله من إفراد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم وما بعده، من إفراد ذكر الله تعالى، وبذكر المقابلين موافقة للحصر في قوله: لا إله إلا هو، ولبسط أوامر الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم ثمة.(11/370)
إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ (6)
(إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب) المراد بالسماء الدنيا التي تلي الأرض من الدنو وهو القرب، فهي أقرب السموات إلى الأرض، قرأ الجمهور بإضافة زينة إلى الكواكب والمعنى زيناها بتزيين الكواكب، أي بحسنها وقرىء: بتنوين زينة وخفض الكواكب علي أنها بدل من الزينة علي أن المراد بالزينة الاسم لا المصدر، والتقدير بعد طرح المبدل منه: إنا زينا السماء بالكواكب فإن الكواكب في أنفسها زينة عظيمة فإنها في الليلة المظلمة في أعين الناظرين لها كالجواهر المتلألئة علي سطح أزرق.
وقرأ عاصم في رواية أبي بكر عنه بتنوين زينة ونصب الكواكب، على أن الزينة مصدر، وفاعله محذوف، والتقدير بأن الله زين الكواكب بكونها مضيئة حسنة في أنفسها، أو تكون الكواكب منصوبة بإضمار أعني، أو بدلاً من السماء بدل اشتمال، وقيل: المعنى بضوء الكواكب لأن الضوء والنور من أحسن الصفات وأكملها، ولو لم تحصل هذه الكواكب في السماء لكانت شديدة الظلمة عند غروب الشمس، وقيل: زينتها أشكالها المتناسبة والمختلفة في الشكل، كشكل الجوزاء وبنات نعش، وغيرها وقيل: غير ذلك.(11/370)
وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ (7)
(وحفظاً) أي حفظناها حفظاً، وقيل: زيناها بالكواكب للحفظ، وقيل: إنا خلقنا الكواكب زينة للسماء وحفظاً (من كل شيطان مارد) أي عات متمرد خارج عن الطاعة، يرمي بالكواكب والشهب، كقوله: (إنا زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوماً للشياطين).(11/370)
لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ (8) دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ (9) إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ (10) فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ (11)(11/371)
لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ (8)
(لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى) مستأنفة لبيان حالهم بعد حفظ السماء منهم، وقال أبو حاتم: أي لئلا يسمعوا ثم حذف أن فرفع الفعل وكذا قال الكلبي، قال النسفي: وفيه تعسف يجب صون القرآن عن مثله، فإن كل واحد من الحرفين غير مردود على انفراده، ولكن اجتماعهما منكر، والفرق بين سمعت فلاناً يتحدث، وسمعت إليه يتحدث، وسمعت حديثه، وإلى حديثه، أن المعدى بنفسه يفيد الإدراك والمعدى بإلى يفيد الإصغاء مع الإدراك انتهى. والملأ الأعلى أهل السماء الدنيا فما فوقها، وسمى الكل منهم أعلى بإضافته إلى ملأ الأرض لأنهم سكان السماء، والضمير في يسمعون للشياطين، وقيل: إن جملة (لا يسمعون) صفة لكل شيطان.
وقيل: جواب عن سؤال مقدر كأنه قيل: فما حالهم بعد حفظ السماء عنهم؟ فقال: (لا يسمعون إلى الملأ الأعلى) قرأ الجمهور: بسكون السين وتخفيف الميم، وقرىء بتشديدهما والأصل يتسمعون فالأولى تدل على انتفاء سماعهم دون استماعهم، والثانية تدل على انتفائهما وفي معنى الأولى قوله تعالى: (إنهم عن السمع لمعزولون) قال مجاهد: كانوا يتسمعون ولكن لا يسمعون، واختار الثانية أبو عبيدة قال لأن العرب لا تكاد تقول سمعت إليه، وتقول تسمعت إليه، وكان ابن عباس يقرأ مخففة وقال: إنهم كانوا يتسمعون ولكن لا يسمعون.
(ويقذفون من كل جانب(11/371)
دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ (9)
دحوراً) أي يرمون من كل جانب من جوانب السماء ونواحيها وجهاتها بالشهب إذا أرادوا الصعود لاستراق السمع،(11/371)
والدحور الطرد، تقول: دحرته دحراً ودحوراً طردته، قرىء يقذفون مبنياً للمفعول وللفاعل، وهي غير مطابقة لما هو المراد من النظم القرآني، وقيل: دحوراً أي مدحورين، وقيل: هو جمع داحر نحو قاعد وقعود فيكون حالاً، وقيل: إنه مصدر لمقدر أي يدحرون دحوراً.
وقال الفراء: إن المعنى يقذفون بما يدحرهم أي بدحور ثم حذفت الباء فانتصب بنزع الخافض، قرأ الجمهور دحوراً بضم الدال، وقرىء بفتحها، واختلف هل كان هذا الرمي لهم بالشهب قبل المبعث أو بعده، فقال بالأول طائفة وبالآخر آخرون، وقالت طائفة بالجمع بين القولين إن الشياطين لم تكن ترمى قبل المبعث رمياً يقطعها عن السمع، ولكن كانت ترمى وقتاً ولا ترمى وقتاً آخر وترمى من جانب ولا ترمى من جانب آخر ثم بعد المبعث رميت في كل وقت ومن كل جانب حتى صارت لا تقدر على استماع شيء.
(ولهم عذاب واصب) أي دائم لا ينقطع والمراد به العذاب في الآخرة غير العذاب الذي لهم في الدنيا من الرمي بالشهب، وقال مقاتل: يعني دائماً إلى النفخة الأولى، والأول أولى.
وقد ذهب جمهور المفسرين إلى أن الواصب الدائم وقال السدي وأبو صالح والكلبي هو الموجع الذي يصل وجعه إلى القلب، مأخوذ من الوصب أو الوصوب وهو المرض، وقيل هو الشديد.(11/372)
إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ (10)
(إلا من خطف الخطفة) الاستثناء هو من قوله (لا يسمعون) أو من قوله (ويقذفون) وقيل الاستثناء راجع إلى غير الوحي لقوله: (إنهم عن السمع لمعزولون) بل يخطف الواحد منهم خطفة مما يتفاوض فيه الملائكة، ويدور بينهم مما سيكون في العالم قبل أن يعلمه أهل الأرض، والخطف الاختلاس مسارقة وأخذ الشيء بسرعة، قرأ الجمهور: خطف بفتح الخاء وكسر الطاء مخففة وقرىء بكسرهما وتشديد الطاء وهي لغة تميم بن مر وبكر بن وائل وقرىء بفتح الخاء وكسر الطاء مشددة: وقرأ ابن عباس بكسرهما مع تخفيف(11/372)
الطاء، وقيل إن الاستثناء منقطع.
(فأتبعه) أي لحقه وتبعه (شهاب ثاقب) أي نجم مضيء أو مستوقد فيحرقه أو يقتله ويخبله، وربما لا يحرقه، فيلقي إلى إخوانه ما خطفه وليست الشهب التي ترجم بها هي من الكواكب الثوابت، بل من غير الثوابت وأصل الثقوب الإضاءة. قال الكسائي: ثقبت النار تثقب ثقابة إذا اتقدت وهذه الآية هي كقوله:
(إلا من استرق السمع فأتبعه شهاب مبين)، قال ابن عباس: إذا رمى الشهاب لم يخطىء، من رمي به، وتلا: فأتبعه شهاب ثاقب وقال: لا يقتلون بالشهاب ولا يموتون، ولكنها تحرق وتخبل وتجرح في غير قتل.
قال سليمان الجمل قالوا: إنه ليس المراد أنهم يرمون بأجرام الكواكب بل يجوز أن تنفصل منها شعلة يرمي بها الشيطان والكواكب باقية بحالها، وهذا كمثل القبس الذي يؤخذ من النار وهي على حالها ويعود الشيطان مرة أخرى مع أنه يعلم أنه يصاب ولا يصل إلى مقصوده رجاء نيل المطلوب. وطمعاً في السلامة، كراكب البحر فإنه يشاهد الغرق أحياناً لكن يعود إلى ركوبه رجاء السلامة ونيل المقصود.(11/373)
فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ (11)
(فاستفتهم) أي اسأل الكفار المنكرين للبعث (أهم أشد خلقاً)؟ وأقوى أجساماً وأعظم أعضاء وأمتن بنية وأشق إيجاداً وأصعب خلقاً (أم من خلقنا) من السموات والأرض والجبال والملائكة؟ قال الزجاج: المعنى فاسألهم سؤال تقرير أهم أحكم صنعة؟ أم من خلقنا قبلهم ممن قبلهم من الأمم السالفة؟ يريد أنهم ليسوا بأحكم خلقاً من غيرهم من الأمم وقد أهلكناهم بالتكذيب فما الذي يؤمنهم من العذاب. قرىء: أم من خلقنا بتشديد الميم وهي أم المتصلة عطفت من على هم وقرىء بتخفيفها وهو استفهام ثان فالهمزة للاستفهام أيضاًً، ومن مبتدأ وخبره محذوف أي الذين خلقناهم أشد فهماً جملتان مستقلتان، وغلب من يعقل على غيره فلذلك أتى بـ (من) قاله(11/373)
السمين وتكتب (أم) مفصولة من (من) في هذا الموضع ثم ذكر خلق الإنسان فقال:
(إنا خلقناهم) أي في ضمن خلق أبيهم آدم (من طين لازب) أي لاصق. يقال: لزب يلزب لزوبا إذا لصق من باب دخل، وقال قتادة وابن زيد: اللازب اللاصق، وقال عكرمة: اللازب اللزج، وقال سعيد ابن جبير: اللازب الجيد الذي يلصق باليد، وقال مجاهد: هو اللازم والعرب تقول: طين لازب ولازم تبدل الباء من الميم واللازم الثابت كما يقال: صار الشيء ضربة لازب ومنه قول النابغة:
لا تحسبون الخير لا شر بعده ... ولا تحسبون الشر ضربة لازب
وحكى الفراء عن العرب طين لاتب بمعنى لازم؛ واللاتب الثابت، قال الأصمعي: واللاتب اللاصق مثل اللازب، والمعنى في الآية أن هؤلاء كيف يستبعدون المعاد وهم مخلوقون من هذا الخلق الضعيف، ولم ينكره من هو مخلوق خلقاً أقوى منهم وأعظم وأكمل وأتم، وقيل: إن اللازب هو المنتن قاله مجاهد والضحاك.
قيل وقد قرىء لازم ولاتب ولا أدري من قرأ بذلك، قال ابن عباس: لازب ملتصق، وقال: اللزج الجيد، وقال اللازب والحمأ والطين واحد، كان أوله تراباً، ثم صار حمأ منتناً، ثم صار طيناً لازباً فخلق الله منه آدم.
وعن ابن مسعود: اللازب الذي يلصق بعضه إلى بعض. والآية تشهد عليهم بالضعف لأن ما يصنع من الطين غير موصوف بالصلابة والقوة، أو احتجاج عليهم بأن الطين اللازب -الذي خلقوا منه- تراب فمن أين استنكروا أن يخلقوا من تراب مثله؟ حيث قالوا: أئذا كنا تراباً، وهذا المعنى يعضده ما يتلوه من ذكر إنكارهم البعث، والغرض من هذا السياق إثبات المعاد والرد عليهم في دعوى استحالته، ثم أضرب سبحانه عن الكلام السابق فقال:(11/374)
بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (12) وَإِذَا ذُكِّرُوا لَا يَذْكُرُونَ (13) وَإِذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (14) وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (15) أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (16) أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (17) قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ (18) فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنْظُرُونَ (19) وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ (20) هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (21) احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ (23) وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ (24)(11/375)
بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (12)
(بل عجبت) يا محمد من قدرة الله سبحانه أو من تكذيبهم إياك، قرأ الجمهور بفتح التاء من عجبت على الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، وقرىء بضمها، وقال الفراء: قرأها الناس بنصب التاء ورفعها والرفع أحب إليّ لأنها عن علي وعبد الله وابن عباس، قال: والعجب إن أسند إلى الله فليس معناه من الله كمعناه من العباد.
قال الهروي: قال بعض الأئمة معنى بل عجبت بل جازيتهم على عجبهم لأن الله أخبر عنهم في غير موضع بالتعجب من الخلق، كما قال: (وعجبوا أن جاءهم منذر منهم) وقالوا: (إن هذا لشيء عجاب) (أكان للناس عجباً أن أوحينا إلى رجل منهم)؟ وقال علي بن سليمان: معنى القراءتين واحد، والتقدير: قل يا محمد: بل عجبت لأن النبي صلى الله عليه وسلم مخاطب بالقرآن، قال النحاس: وهذا قول حسن، وإضمار القول كثير، وقيل: إن معنى الإخبار من الله سبحانه عن نفسه بالعجب أنه ظهر من أمره وسخطه على من كفر به ما يقوم مقام العجب من المخلوقين، قال الهروي: ويقال معنى عجب ربكم أي رضى ربكم وأثاب، فسماه عجباً، وليس بحجب في الحقيقة فيكون معنى عجبت هنا عظم فعلهم عندي. وحكى النقاش: أن معنى بل عجبت بل أنكرت.(11/375)
قال الحسن بن الفضل: التعجب من الله إنكار الشيء وتعظيمه، وهو لغة العرب، وقيل: معناه الإنكار والذم، وسئل الجنيد رحمه الله عن هذه الآية فقال: إن الله لا يعجب من شيء ولكن وافق رسوله ولما عجب رسوله قال: (وإن تعجب فعجب قولهم)، أي هو كما تقوله، وقيل: معناه أنه بلغ في كمال قدرته وكثرة مخلوقاته إلى حيث عجب منها (1).
(و) هؤلاء لجهلهم (يسخرون) منها والواو للحال، أي والحال، أنهم يسخرون أو للاستئناف والمعنى: ويسخرون منك بسبب تعجبك؛ أو بما تقوله من إثبات المعاد
_________
(1) روى أحمد في مسنده 4/ 151: إن الله عز وجل ليعجب من الشاب ليس له صبوه.(11/376)
وَإِذَا ذُكِّرُوا لَا يَذْكُرُونَ (13)
(وإذا ذكروا لا يذكرون) أي وإذ وعظوا بموعظة من مواعظ الله أو مواعظ رسوله لا يتعظون بها ولا ينتفعون بما فيها. قال سعيد ابن المسيب: أي إذا ذكر لهم ما حل بالمكذبين ممن كان قبلهم أعرضوا عنه ولم يتدبروا.(11/376)
وَإِذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (14)
(وإذا رأوا آية) أي معجزة من معجزات رسول الله صلى الله عليه وسلم كانشقاق القمر (يَسْتَسْخِرُونَ) أي يبالغون في السخرية. قال قتادة: يسخرون ويقولون: إنها سخرية، يقال: سخر واستسخر بمعنى مثل: قر واستقر، وعجب واستعجب، والأول أولى، لأن زيادة البناء تدل على زيادة المعنى، وقيل: المعنى يستدعون السخرى من غيرهم، وقال مجاهد: يستهزئون(11/376)
وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (15)
(وقالوا إن هذا إلا سحر مبين) أي ما هذا الذي تأتينا به إلا سحر واضح ظاهر.(11/376)
أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (16)
(أئذا متنا وكنا تراباً وعظاماً أئنا لمبعوثون) الاستفهام للإنكار أي أنبعث إذا متنا، فالعامل في إذا هو ما دل عليه أئنا لمبعوثون، وهو أنبعث؟ لا نفس مبعوثون لتوسط ما يمنع من عمله فيه، فبدلوا الفعلية بالاسمية، وقدموا الظرف وكرروا الهمزة مبالغة في الإنكار، وإشعاراً بأن البعث مستنكر في نفسه، وفي هذه الحالة أشد استنكاراً وهذا الإنكار للبعث منهم هو السبب(11/376)
الذي لأجله كذبوا الرسل وما نزل عليهم، واستهزأوا بما جاؤوا به من المعجزات، وقد تقدم تفسير معنى هذه الآية في مواضع.(11/377)
أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (17)
(أو آباؤنا الأولون) هو مبتدأ وخبره محذوف أي آباؤنا الأولون مبعوثون يعنون أنهم أقدم فبعثهم أبعد وأبطل، وقيل: معطوف على إن واسمها، وقيل: على الضمير في مبعوثون لوقوع الفصل بينهما والهمزة للإنكار داخلة على حرف العطف ولهذا قرأ الجمهور بفتح الواو وقرىء: بسكونها على أن أو هي العاطفة، وليست الهمزة للاستفهام، ثم أمر الله سبحانه رسوله بأن يجيب عنهم تبكيتاً لهم فقال:(11/377)
قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ (18)
(قل نعم) كلكم مبعوثون (وأنتم داخرون) أي صاغرون ذليلون والخطاب لهم ولآبائهم بطريق التغليب، والجملة حال من فاعل ما دل عليه نعم، قال الواحدي: والدخور أشد الصغار، ثم ذكر سبحانه أن بعثهم يقع بزجرة واحدة فقال:(11/377)
فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنْظُرُونَ (19)
(فإنما) أي إذا كان الأمر كذلك فإنما.
(هي زجرة واحدة) أو لا تستصعبوه، فإنما هي زجرة واحدة، والضمير للقصة أو البعثة المفهومة مما قبلها أي إنما قصة البعث أو البعثة صيحة واحدة من إسرافيل بنفخة في الصور عند البعث، وقال الحسن: هي النفخة الثانية، وسميت الصيحة زجرة لأن المقصود منها الزجر من قولك: زجر الراعي الإبل أو الغنم إذا صاح عليها.
(فإذا هم) أحياء بصراء (ينظرون) أي يبصرون سوء أعمالهم أو ينتظرون ما يفعل الله بهم من العذاب والأول أولى.(11/377)
وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ (20)
(وقالوا) أي قال أولئك المبعوثون لما عاينوا البعث الذي كانوا يكذبون به في الدنيا (يا ويلنا) دعوا بالويل على أنفسهم، قال الزجاج: الويل كلمة يقولها القائل وقت الهلكة، وقال الفراء: إن أصله يا وي لنا ووي بمعنى الحزن، كأنه قال: يا حزن لنا، قال النحاس: ولو كان كما قال لكان منفصلاً، وهو في المصحف متصل، ولا نعلم أحداً يكتبه إلا متصلاً والوقف هنا تام لأن ما بعده كلام مستقل وجملة.(11/377)
(هذا يوم الدين) تعليل لدعائهم بالويل على أنفسهم، والدين الجزاء، فكأنهم قالوا: هذا اليوم الذي نجازى فيه بأعمالنا من الكفر والتكذيب للرسل فأجابتهم الملائكة بقولهم:(11/378)
هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (21)
(هذا يوم الفصل الذي كنتم به تكذبون) ويجوز أن يكون هذا من قول بعضهم لبعض، والفصل الحكم والقضاء لأنه يفصل فيه بين المحسن والمسيء.(11/378)
احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ (22)
(احشروا الذين ظلموا) هو أمر من الله سبحانه للملائكة بأن يحشروا المشركين (وأزواجهم) وهم أشباههم في الشرك والتابعون لهم في الكفر والمشايعون لهم في تكذيب الرسل، كذا قال قتادة وأبو العالية، وقال الحسن ومجاهد: والمراد بأزواجهم نساؤهم المشركات الموافقات لهم على الكفر والظلم، وقال الضحاك أزواجهم قرناؤهم من الشياطين يحشر كل كافر مع شيطانه، وبه قال مقاتل.
قال ابن عباس: تقول الملائكة للزبانية هذا القول أو خطاب من بعضهم لبعض بحشر الظلمة من مقامهم إلى الموقف، وقيل: من الموقف إلى الجحيم، وعن عمر بن الخطاب قال: أمثالهم الذين هم مثلهم يجيء أصحاب الربا مع أصحاب الربا وأصحاب الزنا مع أصحاب الزنا وأصحاب الخمر مع أصحاب الخمر، أزواج في الجنة وأزواج في النار، وعن ابن عباس أيضاًً قال: أشباههم، وفي لفظ نظراؤهم، أي من العصاة عابد الصنم مع عبدة الأصنام وعابد الكوكب مع عبدة الكواكب، كقوله:
(وكنتم أزواجاً ثلاثة) ولا مانع من حمل الآية على الجميع.
(وما كانوا يعبدون(11/378)
مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ (23)
من دون الله) من الأصنام والشياطين ونحوها، وهذا العموم المستفاد من ما الموصولة، فإنها عبارة عن المعبودين لا عن العابدين كما قيل: مخصوص، لأن من طوائف الكفار من عبد المسيح، ومنهم من عبد الملائكة، فيخرجون بقوله: (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ) ووجه حشر الأصنام مع كونها جمادات لا تعقل هو زيادة التبكيت لعابديها، وتخجيلهم وإظهار أنها لا تنفع ولا تضر، وقيل: الموصول عبارة عن المشركين خاصة جيء به لتعليل الحكم بما في حيز صلته، فلا عموم(11/378)
ولا تخصيص.
(فاهدوهم إلى صراط الجحيم) أي عرفوا هؤلاء المحشورين طريق النار وسوقوهم إليها، يقال: هديته الطريق وهديته إليها أي دللته عليها، وفي هذا تهكم بهم وقال ابن عباس: وجهوهم ودلوهم إلى طريق النار.(11/379)
وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ (24)
(وقفوهم) أي احبسوهم في الموقف، يقال: وقفت الدابة أقفها وقفاً فوقفت هي وقوفاً يتعدى ولا يتعدى، وهذا الحبس لهم يكون قبل السوق إلى جهنم أي وقفوهم للحساب، ثم سوقوهم إلى النار بعد ذلك، كأن الملائكة سارعوا إلى ما أمروا به من حشرهم إلى الجحيم فأمروا بذلك.
(إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ) تعليل للجملة الأولى أي ذلك ليس للعفو عنهم، ولا ليستريحوا بتأخير العذاب في الجملة، بل ليسألوا لكن لا عن عقائدهم، وأعمالهم، كما قيل، فإن ذلك قد وقع قبل الأمر بهم إلى الجحيم، بل عما ينطق به قوله الآتي: ما لكم بطريق التهكم والتوبيخ. قال الكلبي: أي مسؤولون عن أعمالهم وأقوالهم وأفعالهم أي جميعها، وقال الضحاك: عن خطاياهم، وقيل: عن لا إله إلا الله. وقيل: عن ظلم العباد، وقال ابن عباس: احبسوهم إنهم محبوسون.
وأخرج البخاري في تاريخه والدارمي والترمذي وابن جرير والحاكم وغيرهم عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما من داع دعا إلى شيء إلا كان موقوفاً معه يوم القيامة لازماً به لا يفارقه، وإن دعا رجل رجلاً، ثم قرأ: وقفوهم إنهم مسؤولون (1) ".
وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيم أفناه وعن علمه ماذا عمل به، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه وعن جسمه فيم أبلاه وفي رواية عن شبابه فيم أبلاه "، (2) وأخرجه الترمذي.
_________
(1) رواه ابن أبي حاتم وابن جرير والترمذي عن أنس بن مالك مرفوعاً.
(2) صحيح الجامع 7176/ 7177.(11/379)
مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ (25) بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ (26) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (27) قَالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ (28) قَالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (29) وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ (30) فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ (31) فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ (32) فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (33) إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (34) إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ (35)(11/380)
مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ (25)
(مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ) أي أيُّ شيء لكم لا ينصر بعضكم بعضاً كما كنتم في الدنيا، وتأخير هذا السؤال إلى ذلك الوقت لأنه وقت تنجيز العذاب وشدة الحاجة إلى النصرة، وحالة انقطاع الرجاء عنها بالكلية، فالتوبيخ حينئذ أشد وقعاً وتأثيراً وأصل تناصرون تتناصرون فطرحت إحدى التاءين تخفيفاً، وقيل: الإشارة بقوله: (ما لكم) إلى قول أبي جهل يوم بدر نحن جميع منتصر، ثم أضرب سبحانه عما تقدم إلى بيان الحالة التي هم عليها هنالك فقال:(11/380)
بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ (26)
(بل هم اليوم مستسلمون) أي منقادون لعجزهم عن الحيلة، قال قتادة: مستسلمون خاضعون في عذاب الله، وقال الأخفش: ملقون بأيديهم، يقال استسلم للشيء إذا انقاد له وخضع.(11/380)
وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (27)
(وأقبل بعضهم) أي بعض الكفار (على بعض يتساءلون) أي يتلاومون ويتخاصمون، قيل: هم الأتباع والرؤساء يسأل بعضهم بعضاً سؤال توبيخ وتقريع ومخاصمة، قال ابن عباس: ذلك إذا بعثوا في النفخة الثانية وقال مجاهد: هو قول الكفار للشياطين، وقال قتادة: هو قول الإنس للجن، والأول أولى لقوله:(11/380)
قَالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ (28)
(قالوا إنكم تأتوننا) في الدنيا.
(عن اليمين) أي من جهة الحق والدين والطاعة وتصدوننا عنها قال(11/380)
الزجاج: كنتم تأتوننا من قبل الدين فتروننا أن الدين والحق ما تضلوننا به، واليمين عبارة عن الحق، وهذا كقوله تعالى إخبارا عن إبليس:
(ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم).
قال الواحدي: قال أهل المعاني: إن الرؤساء كانوا قد حلفوا لهؤلاء الاتباع أن ما يدعونهم إليه هو الحق فوثقوا بإيمانهم فمعنى تأتوننا عن اليمين أي من ناحية الأيمان التي كنتم تحلفونها فوثقنا بها، قال: والمفسرون على القول الأول. وقيل: المعنى تأتوننا عن اليمين التي نحبها ونتفاءل بها لتغرونا بذلك عن جهة النصح، والعرب تتفاءل بما جاء عن اليمين وتسميه السانح، وقيل: اليمين بمعنى القوة أي تمنعوننا بقوة وغلبة وقهر، كما في قوله: (فراغ عليهم ضرباً باليمين) أي بالقوة، وهذه الجملة مستأنفة جواب سؤال مقدر وكذلك جملة:(11/381)
قَالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (29)
(قالوا بل لم تكونوا مؤمنين) أي قال الرؤساء أو الشياطين لهؤلاء القائلين: كنتم تأتوننا عن اليمين، بل لم تكونوا مؤمنين ولم نمنعكم من الإيمان والمعنى أنكم لم تكونوا مؤمنين قط حتى ننقلكم عن الإيمان إلى الكفر، بل كنتم من الأصل على الكفر فأقمتم عليه، أجابوا بأجوبة خمسة الأول (بل لم تكونوا) الخ.
والثاني قوله:(11/381)
وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ (30)
(وما كان لنا عليكم من سلطان) أي قوة وقدرة وتسلط بقهر وغلبة حتى ندخلكم في الكفر ونخرجكم من الإيمان.
والثالث قوله: (بل كنتم قوماً طاغين) أي متجاوزين الحد في الكفر والضلال.
والرابع قوله:(11/381)
فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ (31)
(فحق علينا) أي وجب علينا وعليكم ولزمنا (قول ربنا) يعنون قوله تعالى: (لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين) (إنا) جميعاً (لذائقون) العذاب الذي ورد به الوعيد، قال الزجاج: أي إن المضل والضال في النار.(11/381)
الخامس:(11/382)
فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ (32)
(فأغويناكم) أي أضللناكم عن الهدى ودعوناكم إلى ما كنا فيه من الغي وزينا لكم ما كنتم عليه من الكفر، فاستجبتم لنا باختياركم، واستحبابكم الغي على الرشد.
(إنا كنا غاوين) فلا عتب علينا في تعرضنا لإغوائكم بتلك الدعوة لأنا أردنا أن تكونوا أمثالنا في الغواية، ومعنى الآية: أقدمنا على إغوائكم لأنا كنا موصوفين في أنفسنا بالغواية، فأقروا ههنا بأنهم تسببوا لإغوائهم لكن لا بطريق القهر والغلبة، ونفوا عن أنفسهم فيما سبق أنهم قهروهم وغلبوهم فقالوا: (وما كان لنا عليكم من سلطان) ثم أخبر الله سبحانه عن الاتباع والمتبوعين بقوله:(11/382)
فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (33)
(فإنهم يومئذ) أي يوم إذ يتساءلون ويتحاورون ويتخاصمون بما سبق (في العذاب مشتركون) كما كانوا مشتركين في الغواية(11/382)
إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (34)
(إنا كذلك نفعل بالمجرمين) أي بأهل الإجرام، وهم المشركون كما يفيده قوله سبحانه:(11/382)
إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ (35)
(إنهم كانوا إذا قيل لهم) قولوا (لا إله إلا الله يستكبرون) عن القبول.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فمن قال لا إله إلا الله فقد عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه وحسابه على الله " (1).
وأنزل الله في كتابه.
وذكر قوماً استكبروا فقال: (إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون) وقال: (إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا) وهي لا إله إلا الله محمد رسول الله استكبر عنها المشركون يوم الحديبية يوم كاتبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على قضية المدة، وعن ابن عباس قال: كانوا إذا لم يشرك بالله يستنكفون.
_________
(1) أخرجه ابن أبي حاتم عن أبي هريرة مرفوعاً.(11/382)
وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ (36) بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ (37) إِنَّكُمْ لَذَائِقُو الْعَذَابِ الْأَلِيمِ (38) وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (39) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (40) أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (41) فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ (42) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (43) عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (44) يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (45) بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (46) لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ (47)(11/383)
وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ (36)
(وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ) أي لقول شاعر (مجنون) لا يعقل: يعنون النبي صلى الله عليه وسلم، فحكى الله سبحانه صدقه ورد عليهم بقوله:(11/383)
بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ (37)
(بل جاء بالحق) يعني القرآن المشتمل على التوحيد والوعد والوعيد (وصدق المرسلين) أي صدقهم فيما جاؤوا به من التوحيد والوعيد وإثبات الدار الآخرة، ولم يخالفهم ولا جاء بشيء لم تأت به الرسل قبله.(11/383)
إِنَّكُمْ لَذَائِقُو الْعَذَابِ الْأَلِيمِ (38)
(إِنَّكُمْ) بسبب شرككم وتكذيبكم (لذائقو العذاب الأليم) أي الشديد، وفيه التفات من الغيبة إلى الخطاب لإظهار كمال الغضب عليهم، قرأ الجمهور: لذائقو بحذف النون وخفض العذاب، وقرىء بحذفها ونصب العذاب، وأجاز سيبويه أيضاًً (والمقيمي الصلاة) بنصب الصلاة على هذا التوجيه، وقد قرىء بإثبات النون ونصب العذاب على الأصل، ثم بين سبحانه إن ما ذاقوه من العذاب ليس إلا بسبب أعمالهم فقال:(11/383)
وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (39)
(وما تجزون إلا) جزاء (ما) أو بما (كنتم تعملون) من الكفر والمعاصي، ثم استثنى المؤمنين فقال:(11/383)
إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (40)
(إلا عباد الله المخلصين) قرأ أهل المدينة والكوفة بفتح اللام، أي الذين أخلصهم الله لطاعته وتوحيده وقرىء بكسرها أي الذين أخلصوا لله العبادة والتوحيد، والاستثناء إما متصل على تقدير تعميم الخطاب في تجزون لجميع المكلفين؛ أو منقطع، أي لكن عباد الله المخلصين لا يذوقون العذاب.(11/383)
أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (41)
(أولئك) المخلصون (لهم رزق) يرزقهم الله إياه (معلوم) في(11/383)
حسن منظره وطيبه ولذته ورائحته وطعمه وعدم انقطاعه، قال قتادة: يعني الجنة وقيل: معلوم الوقت وهو أن يعطوا منه بكرة وعشياً كما في قوله: (ولهم رزقهم فيها بكرة وعشياً) والنفس إليه أسكن.
وقيل: معلوم خصائصه من الدوام، وتمحض اللذة، وقيل: معلوم القدر الذي يستحقونه بأعمالهم من ثواب الله تعالى، وقيل: هو المذكور في قوله بعده(11/384)
فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ (42)
(فواكه) فإنه بدل من رزق أو هو فواكه، وهذا هو الظاهر؛ والفواكه جمع فاكهة وهي الثمار كلها رطبها ويابسها وخصص الفواكه بالذكر لأن أرزاق أهل الجنة كلها فواكه كذا قيل والأولى أن يقال: إن تخصيصها بالذكر لأنها أطيب ما يأكلونه وألذ ما تشتهيه أنفسهم، وقيل: إن الفواكه من أتباع سائر الأطعمة فذكرها يغني عن ذكر غيرها.
(وهم مكرمون) في محل نصب على الحال أي: ولهم من الله عز وجل إكرام عظيم برفع درجاتهم عنده وسماع كلامه ولقائه في الجنة أو مكرمون في نيل ثواب يصل إليهم من غير تعب وسؤال، كما عليه رزق الدنيا. قرىء: مكرمون بتخفيف الراء وبتشديدها.(11/384)
فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (43)
(في جنات النعيم على سرر متقابلين) قال عكرمة ومجاهد معنى التقابل أنه لا ينظر بعضهم في قفا بعضهم تواصلاً وتحابباً، وقيل: إنها تدور بهم الأسرة كيف شاءوا فلا يرى بعضهم قفا بعض، قرأ الجمهور: سرر بضم الراء وقرىء بفتحها، وهي لغة بعض تميم قيل: على سرر مكللة بالدر والياقوت والزبرجد، والسرير ما بين صنعاء إلى الجابية وما بين عدن إلى أيلة وقيل: تدور بأهل المنزل الواحد والله أعلم. ذكره القرطبي.
ثم ذكر سبحانه صفة أخرى لهم فقال:(11/384)
يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (45)
(يطاف عليهم بكأس) مستأنفة جواب سؤال مقدر، أو في محل نصب على الحال، والكأس عند أهل اللغة ما كان من الزجاج، وهو اسم شامل لكل إناء فيه الشراب، فإن كان فارغاً فليس بكأس، وقد تسمى الخمر كأساً تسمية للشيء باسم محله، قال الشاعر:(11/384)
وكأساً شربت على لذة ... وأخرى تداويت منها بها
وقال الضحاك والسدي: كل كأس في القرآن فهي الخمر، قال النحاس وحكى من يوثق به من أهل اللغة: أن العرب تقول للقدح إذا كان فيه خمر كأساً، فإذا لم يكن فيه خمر فهو قدح كما يقال للخوان إذا كان فيه طعام مائدة فإذا لم يكن عليه طعام لم يقل له مائدة.
(من معين) صفة لكأس، قال الزجاج: أي من خمر تجري كما تجري العيون على وجه الأرض ظاهرة تراها العيون، والمعين: الماء الجاري وقوله(11/385)
بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (46)
(بيضاء لذة للشاربين) صفتان لكأس قال الزجاج: أي ذات لذة، فحذف المضاف ويجوز أن يكون الوصف بالمصدر لقصد المبالغة في كونها لذة، ولا يحتاج إلى تقدير المضاف، قال الحسن: خمر الجنة أشد بياضاً من اللبن، له لذة لذيذة. يقال: شراب لذ ولذيذ، كما يقال: نبات غض وغضيض، واللذيذ كل شيء مستطاب، وقيل: البيضاء هي التي لم تعتصرها الرجال ثم وصف هذه الكأس من الخمر بغير ما يتصف به خمر الدنيا فقال:(11/385)
لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ (47)
(لا فيها غول) أي لا تغتال عقولهم فتذهب بها، ولا يصيبهم منها مرض ولا صداع، قال الفراء: العرب تقول ليس فيها غيلة وغائلة وغول سواء، وقال أبو عبيدة: الغول أن تغتال عقولهم، وقال الواحدي: الغول حقيقته الإهلاك، يقال: غاله غولاً واغتاله أي أهلكه، والغول: كل ما اغتالك أي أهلكك، ومنه الغول بالضم شيء توهمته العرب، ولها فيه أشعار كالعنقاء.
(ولا هم عنها ينزفون) أي يسكرون. يقال: نزف الشارب فهو منزوف ونزيف إذا سكر قرأ الجمهور: ينزفون مبنياً للمفعول. وقرىء: بضم الياء وكسر الزاي من أنزف الرجل إذا ذهب عقله من السكر فهو نزيف ومنزوف ومنزف، يقال: أحصد الزرع إذا آن حصاده وأقطف الكرم إذا حان قطافه.
قال الفراء: من كسر الزاي فله معنيان يقال: أنزف الرجل إذا فنيت خمره، وأنزف إذا ذهب عقله من السكر، وتحمل هذه القراءة على معنى لا ينفد شرابهم لزيادة الفائدة، قال النحاس: والقراءة الأولى أبين وأصح في المعنى(11/385)
لأن معنى ينزفون عند جمهور المفسرين لا تذهب عقولهم فنفى الله سبحانه عن خمر الجنة الآفات التي تلحق في الدنيا من خمرها، من الصداع والسكر.
وقال الزجاج وأبو علي الفارسي معنى لا ينزفون بكسر الزاي: لا يسكرون، قال المهدوي: لا يكون معنى ينزفون يسكرون. لأن قبله لا فيها غول أي لا تغتال عقولهم، فيكون تكريراً، وهذا يقوي ما قاله قتادة: إن الغول وجع البطن وكذا روى ابن أبي نجيح عن مجاهد، وقال الحسن: إن الغول الصداع، وبه قال ابن عباس.
وقال ابن كيسان هو المغص فيكون معنى الآية لا يكون فيها نوع من أنواع الفساد المصاحبة لشرب الخمر في الدنيا من مغص أو وجع بطن أو صداع أو عربدة أو لغو أو تأثيم، ولا هم يسكرون منها، ويؤيد هذا أن أصل الغول الفساد الذي يلحق في خفاء يقال: اغتاله اغتيالاً إذا أفسد عليه أمره في خفية، ومنه الغول والغيلة: القتل خفية، وقرىء: ينزفون بفتح الياء وكسر الزاي، وقرىء: بفتح الياء وضم الزاي.
عن ابن عباس قال: في الخمر أربع خصال السكر والصداع والقيء والبول فنزه الله خمر الجنة عنها، فقال: (لا فيها غول) أي لا تغول عقلهم من السكر، (ولا هم عنها ينزفون) قال: لا يقيئون عنها كما يقيء صاحب خمر الدنيا عنها.
وعنه قال: هي الخمر ليس فيها وجع بطن، قال في النهر: ذكر أولاً الرزق وهو ما تتلذذ به الأجسام، وثانياً الإكرام وهو ما تتلذذ به النفوس، ثم ذكر المحل الذي هم فيه وهو جنات النعيم، ثم أشرف المحل وهو السرر. ثم لذة التأنس بأن بعضهم مقابل بعضاً وهو أتم السرور وآنسه ثم المشروب وأنهم لا يتناولون ذلك بأنفسهم بل يطاف عليهم بالكؤوس، ثم وصف ما يطاف عليهم به من الطيب وانتفاء المفاسد، ثم ذكر تمام النعمة الجسمانية وختم بها كما بدأ باللذة الجسمانية من الرزق وهي أبلغ الملاذ وهي التأنس بالنساء فقال:(11/386)
وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ (48) كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (49) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (50) قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ (51) يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (52) أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَدِينُونَ (53) قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (54) فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ (55)(11/387)
وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ (48)
(وعندهم قاصرات الطرف) أي نساء حابسات الأعين غاضات العيون قصرن طرفهن على أزواجهن فلا يردن غيرهم، والقصر: معناه الحبس، وقيل: القاصرات المحبوسات على أزواجهن والأول أولى، لأنه قال قاصرات الطرف ولم يقل مقصورات.
(عين) أي عظام العيون جمع عيناء وهي الواسعة العين، والذكر أعين قال الزجاج: معنى عين كبار الأعين حسانها، وقال مجاهد العين حسان العيون عظام المقلة، وقيل: نجل العيون بضم النون جمع نجلاء وهي التي اتسع شقها سعة غير مفرطة، وقال الحسن: هن الشديدات بياض العين الشديدات سوادها والأول أولى.(11/387)
كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (49)
(كأنهن بيض) جمع بيضة وهو معروف (مكنون) أي مصون مستور من كننته إذا جعلته في كن، قال الحسن وابن زيد: شبهن ببيض النعام تكنها النعامة بالريش من الريح والغبار، فلونه أبيض في صفرة، وهو أحسن ألوان النساء عند العرب، وإلا فأحسنها عند العجم والروم: الأبيض المشرب بحمرة وقال سعيد بن جبير والسدي: شبههن ببطن البيض قبل أن يقشر وتمسه الأيدي، وبه قال ابن جرير قال المبرد: وتقول العرب إذا وصفت الشيء بالحسن والنظافة: كأنه بيض النعام المغطى بالريش.
وقيل: المكنون المصون عن الكسر أي إنهن عذارى وقيل: المراد بالبيض اللؤلؤ كما في قوله وحور عين كأمثال اللؤلؤ المكنون والأول أولى، وإنما قال مكنون ولم يقل مكنونات لأنه وصف البيض باعتبار اللفظ، وعن ابن عباس في قوله: (كأنهن بيض مكنون) قال اللؤلؤ المكنون: وعنه قال بياض البيضة(11/387)
ينزع عنها فوفها وغشاؤها.(11/388)
فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (50)
(فأقبل بعضهم على بعض) يعني أهل الجنة في الجنة (يتساءلون) أي يسأل هذا ذاك، وذاك هذا حال شربهم عن أحوالهم التي كانت في الدنيا، وما جرى لهم، وما عملوه، وذلك من تمام نعيم الجنة، والتقدير فيقبل بعضهم على بعض وإنما عبر عنهم بالماضي للتأكيد والدلالة على تحقق وقوعه، قيل: المعنى يشربون ويتحادثون على الشراب كعادة الشراب، قال الشاعر:
فما بقيت من اللذات إلا ... أحاديث الكرام على المدام(11/388)
قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ (51)
(قال قائل منهم) أي من أهل الجنة في حال إقبال بعضهم على بعض بالحديث وسؤال بعضهم لبعض: (إني كان لي قرين) أي صاحب ملازم لي في الدنيا كافر بالبعث منكر له. قيل: كان قرينه شيطاناً، وقيل: كان من الإنس وقيل: كانا أخوين، وقيل: كانا شريكين أحدهما كافر اسمه قطروس والآخر مؤمن اسمه يهوذا وهما اللذان قص الله خبرهما في سورة الكهف في قوله: واضرب لهم مثلاً رجلين، والأول أولى.(11/388)
يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (52)
(يقول) لي (أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ) بالبعث والجزاء وهذا الاستفهام من القرين لتوبيخ ذلك المؤمن وتبكيته بإيمانه، وتصديقه بما وعد الله به من البعث، وكان هذا القول منه في الدنيا، قرأ الجمهور: مصدقين بتخفيف الصاد من التصديق أي لمن المصدقين بالبعث وقرىء: بتشديدها ولا أدري من قرأ بها ومعناها بعيد لأنها من التصدق لا من التصديق، وممكن تأويلها بأنه أنكر عليه التصدق بماله لطلب الثواب، وعلل ذلك باستبعاد البعث ثم ذكر ما يدل على الاستبعاد للبعث عنده وفي زعمه فقال:(11/388)
أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَدِينُونَ (53)
(أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَدِينُونَ)؟ أي لمجزيون بأعمالها ومحاسبون بها بعد أن صرنا تراباً وعظاماً، وقيل: معنى مدينون مسوسون يقال: دانه إذا ساسه، وقد اختلف القراء في هذه الاستفهامات الثلاثة فقرأ نافع الأولى والثانية بالاستفهام بهمزة والثالثة بكسر الألف من غير الاستفهام ووافقه الكسائي إلا أنه يستفهم الثالثة بهمزتين، وابن عامر الأولى والثالثة(11/388)
بهمزتين، والثانية بكسر الألف من غير استفهام والباقون بالاستفهام في جميعها ثم اختلفوا، فابن كثير يستفهم بهمزة واحدة غير مطولة وبعده ساكنة خفيفة، وأبو عمرو مطولة وعاصم وحمزة بهمزتين.(11/389)
قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (54)
(قال هل أنتم مطلعون)؟ القائل هو المؤمن الذي في الجنة بعد ما حكى لجلسائه فيها ما قاله له قرينه في الدنيا، أي هل أنتم يا إخواني مطلعون إلى أهل النار لأريكم ذلك القرين الذي قال لي تلك المقالة؟ كيف منزلته في النار فيقول أهل الجنة أنت أعرف به منا.
قال ابن الأعرابي: والاستفهام هو بمعنى الأمر، أي اطلعوا، وقيل القائل هو الله سبحانه، وقيل: الملائكة والأول أولى، قرأ الجمهور: مطلعون بتشديد الطاء مفتوحة، وبفتح النون فاطلع ماضياً مبنياً للفاعل من الطلوع، وقرأ ابن عباس ورويت هذه القراءة عن أبي عمرو: بسكون الطاء وفتح النون فاطلع بقطع الهمزة مضمومة وكسر اللام ماضياً مبنياً للمفعول، وقرىء: مطلعون بتخفيف الطاء وكسر النون: فاطلع مبنياً للمفعول، وأنكرها أبو حاتم وغيره، قال النحاس: هي لحن، لأنه لا يجوز الجمع بين النون والإضافة، ولو كان مضافاً لقال: هل أنتم مطلعي، وإن كان سيبويه والفراء قد حكيا مثله، ولكنه شاذ خارج عن كلام العرب.(11/389)
فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ (55)
(فاطلع فرآه في سواء الجحيم) أي فاطلع ذلك المؤمن على النار؛ الذي صار يحدث أصحابه في الجنة بما قال له قرينه في الدنيا، فرأى قرينه في وسط الجحيم، وقال الزجاج: سواء كل شيء وسطه، قال النحاس: فاطلع فيه قولان: أحدهما أن يكون فعلاً مستقبلاً أي فاطلع أي أنا، والثاني أن يكون فعلاً ماضياً أي المؤمن، قال ابن مسعود في الآية: اطلع ثم التفت إلى أصحابه فقال: لقد رأيت جماجم القوم تغلي، قال ابن عباس: " إن في الجنة كوى ينظر منها أهلها إلى النار "، جمع كوة وهي الثقب في الحائط وهي بفتح الكاف وضمها وفي الجمع وجهان كسرها وضمها لكن مع الكسر يصبح المد والقصر، ومع الضم يتعين القصر.(11/389)
قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (56) وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (57) أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (58) إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (59) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (60) لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ (61) أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (62) إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (63) إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (64) طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ (65) فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (66)(11/390)
قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (56)
(قَالَ) ذلك الذي من أهل الجنة لما اطلع على قرينه ورآه في النار (تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ) أي لتهلكني بالإغواء، وفيه معنى التعجب، قال الكسائي: الردى الهلاك. قال المبرد: لو قيل (لتردين) لتوقعني في النار لكان جائزاً قال مقاتل: المعنى والله لقد كدت أن تغويني، فأنزل منزلتك والمعنى متقارب فمن أغوى إنساناً فقد أهلكه.(11/390)
وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (57)
(ولولا نعمة ربي) أي رحمته وإنعامه علي بالإسلام وهدايتي إلى الحق وعصمتي عن الضلال (لكنت) معك في النار (من المحضرين) قال الماوردي: ولا يستعمل أحضر إلا في الشر. ولما تمم كلامه مع ذلك القرين الذي هو في النار عاد إلى مخاطبة جلسائه من أهل الجنة فقال:(11/390)
أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (58)
(أفما نحن بميتين) الهمزة للاستفهام التقريري وفيها معنى التعجب، والفاء للعطف على محذوف كما في نظائره أي: أنحن مخلدون منعمون؟ فما نحن بميتين، وقرأ زيد بن علي بمائتين.
قال ابن عباس: في الآية قول الله لأهل الجنة (كلوا واشربوا هنيئاً بما كنتم تعملون) قال: هنيئاً أي لا تموتون فيها، فعند ذلك قالوا: أفما نحن بميتين إلى قوله الفوز العظيم، وقيل: هذا السؤال من أهل الجنة للملائكة حين يذبح الموت، وقيل: من قولهم توبيخاً للكفار لما كانوا ينكرونه من البعث وإنه ليس(11/390)
إلا الموت في الدنيا والأول أولى.(11/391)
إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (59)
(إلا موتتنا الأولى) التي كانت في الدنيا، وقوله: هذا كان على طريقة الابتهاج والسرور بما أنعم الله عليهم من نعيم الجنة الذي لا ينقطع، وأنهم مخلدون لا يموتون أبداً، والاستثناء مفرغ، وقيل: منقطع بمعنى لكن (وما نحن بمعذبين) كما يعذب الكفار ثم قال: مشيراً إلى ما هم فيه من النعيم(11/391)
إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (60)
(إن هذا) الأمر العظيم والنعيم المقيم والخلود الدائم الذي نحن فيه (لهو الفوز العظيم) الذي لا يقادر قدره، ولا يمكن الإحاطة بوصفه.(11/391)
لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ (61)
(لمثل) أي لنيل مثل (هذا) العطاء والفضل العظيم (فليعمل العاملون) فإن هذه هي التجارة الرابحة لا العمل للدنيا الزائلة، وحظوظها المشوبة بالآلام السريعة الانصرام، فإنها صفقة خاسرة، نعيمها منقطع، وخيرها زائل، وصاحبها عن قريب منها راحل، وهذا من تمام كلامه وقيل: إن هذا من قول الله سبحانه قاله ابن عباس وقيل من قول الملائكة والأول أولى.
وأخرج ابن مردويه عن البراء بن عازب قال: " كنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يده في يدي، فرأى جنازة فأسرع المشي حتى أتى القبر، ثم جثا على ركبتيه فجعل يبكي حتى بل الثرى ثم قال: لمثل هذا فليعمل العاملون " وأخرج ابن مردويه عن أنس قال: " دخلت مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم على مريض يجود بنفسه فقال: لمثل هذا فليعمل العاملون ".(11/391)
أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (62)
(أذلك)؟ الذي ذكره من نعيم الجنة وهو مبتدأ وخبره (خير) و (نزلاً) تمييز والنزل في أصل اللغة الفضل والريع فاستعير للحاصل من الشيء والرزق الذي يصلح أن ينزلوا معه ويقيموا فيه، والخيرية بالنسبة إلى ما اختاره الكفار على غيره، والمعنى: قل يا محمد لقومك على سبيل التوبيخ والتبكيت والتهكم: أذلك الرزق المعلوم الذي حاصله اللذة والسرور خير نزلاً.(11/391)
(أم شجرة الزقوم)؟ أي التي حاصلها الألم والغم، قال الزجاج: المعنى أذلك خير في باب الإنزال التي يبقون بها نزلاً أم نزل أهل النار؟ وهو الزقوم وهو ما يكره تناوله، قال الواحدي: وهو شيء مر كريه يكره أهل النار على تناوله فهم يتزقمونه فهي على هذا مشتقة من التزقم؛ وهو البلع على جهد لكراهتها ونتنها؛ واختلف فيها: هل هي من شجر الدنيا التي تعرفها العرب؟ أم لا؟ على قولين أحدهما: أنها معروفة من شجر الدنيا، فقال قطرب: إنها شجرة مرة كريهة الرائحة تكون بتهامة من أخبث الشجر، وقال غيره: بل هو كل نبات قاتل، وقيل: شجرة مسمومة متى مست جسد أحد تورم فمات والإضافة من إضافة المسمى إلى الاسم.
القول الثاني: أنها غير معروفة في شجر الدنيا، وقيل: إنه قال ابن الزبعري لصناديد قريش: إن محمداً يخوفنا بالزقوم وهي بلسان بربر الزبد والتمر، وقيل: هي بلغة أهل اليمن، قال قتادة: لما ذكر الله هذه الشجرة افتتن بها الظلمة فقالوا كيف تكون في النار شجرة؟ فأنزل الله تعالى:(11/392)
إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (63)
(إنا جعلناها فتنة للظالمين) قال الزجاج: أي حين افتتنوا بها وكذبوا بوجودها، ولم يعلموا أن من يقدر على خلق حيوان وهو السمندل يعيش في النار؛ ويتلذذ بها يقدر على خلق الشجر في النار وحفظه منها، وقيل: معنى جعلها فتنة لهم أنها محنة لهم لكونهم يعذبون بها؛ والمراد بالظالمين هنا الكفار أو أهل المعاصي الموجبة للنار، ثم بين سبحانه أوصاف هذه الشجرة رداً على منكريها فقال:(11/392)
إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (64)
(إنها شجرة تخرج) أي تنبت (في أصل الجحيم) أي في قعرها وأسفلها قال الحسن: أصلها في قعر جهنم وأغصانها ترفع إلى دركاتها.
أخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: مر أبو جهل برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو جالس فلما بعد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (34) ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى)؛ فلما سمع أبو جهل قال: من(11/392)
توعد يا محمد؟ قال إياك، قال بم توعدني، قال أوعدك بالعزيز الكريم فقال: أبو جهل أليس أنا العزيز الكريم؟ فأنزل الله: (إن شجرة الزقوم طعام الأثيم إلى قوله ذق إنك أنت العزيز الكريم) فلما بلغ أبا جهل ما نزل فيه جمع أصحابه فأخرج إليهم زبداً وتمراً فقال: تزقموا من هذا فوالله ما يتوعدكم محمد إلا بهذا فأنزل الله: (إنها شجرة تخرج في أصل الجحيم) الآية؛ وعنه قال: لو أن قطرة من زقوم جهنم أنزلت إلى الأرض لأفسدت على الناس معايشهم، ثم قال الله تعالى:(11/393)
طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ (65)
(طلعها) الطلع حقيقة اسم لثمر النخل أول بروزه، فإطلاقه على ثمر هذه الشجرة مجاز بالاستعارة، والمعنى ثمرها وما تحمله (كأنه) في تناهي قبحه وهوله وشناعة منظره (رؤوس الشياطين) فشبه المحسوس بالمتخيل؛ وإن كان غير مرئي للدلالة على أنه غاية في القبح كما يقولون في تشبيه من يستقبحونه كأنه شيطان، وفي تشبيه من يستحسنونه كأنه ملك كما في قوله تعالى: (ما هذا بشراً إن هذا إلا ملك كريم).
قال الزجاج والفراء: الشياطين حيات هائلة لها رؤوس وأطراف، وهي من أقبح الحيات وأخبثها وأخفها جسماً، وقيل: إن رؤوس الشياطين اسم لنبت قبيح معروف باليمن يقال له الأستن، ويقال له الشيطان، قال النحاس: وليس ذلك معروفاً عند العرب، وقيل: هو شجر خشن منتن مر منكر الصورة يسمى ثمره رؤوس الشياطين، وقيل: هو شجر يقال له الصرم فعلى هذا قد خوطب العرب بما تعرفه وهذه الشجرة موجودة، فالكلام حقيقة وقيل: إنه خاطبهم بما ألفوه من الاستعارات.(11/393)
فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (66)
(فإنهم لآكلون) لشدة جوعهم أو لقهرهم على الأكل (منها) أي من الشجرة أو من طلعها، والتأنيث لاكتساب الطلع والتأنيث من إضافته إلى الشجرة (فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ) وذلك أنهم يكرهون على أكلها حتى تمتلىء بطونهم فهذا طعامهم وفاكهتهم بدل رزق أهل الجنة.(11/393)
ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ (67) ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ (68) إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ (69) فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ (70) وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ (71) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ (72) فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (74)(11/394)
ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ (67)
(ثم إن لهم عليها) أي على الشجرة بعد الأكل منها (لشوباً من حميم) الشوب الخلط، قال الفراء: يقال شاب طعامه وشرابه إذا خلطهما بشيء يشوبها شوباً وشيابة، وقال ابن عباس: شوباً مزجاً أي يخالط طعامهم ويشاب بالحميم وهو الماء الحار، فأخبر الله سبحانه أنه يشاب لهم طعامهم من تلك الشجرة بالماء الحار ليكون أفظع لعذابهم وأشنع لحالهم كما في قوله: (وسقوا ماء حميماً فقطع أمعاءهم) (1) قرأ الجمهور: بفتح الشين وهو مصدر وقرأ شيبان النحوي بالضم، قال الزجاج: المفتوح مصدر والمضموم اسم بمعنى المشوب كالنقض بمعنى المنقوض.
_________
(1) عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنه كان يقول: " يقرب -إلى أهل النار- ماء فيتكرهه فإذا أدني منه شوي وجهه ووقعت فروة رأسه فيه، فإذا شربه قطع أمعاءه حتى تخرج من دبره " (رواه ابن أبي حاتم).(11/394)
ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ (68)
(ثم إن مرجعهم) بعد شرب الحميم وأكل الزقوم (لإلى الجحيم) وذلك أنهم يوردون الحميم لشربه وهو خارج الجحيم كما تورد الإبل ثم يردون إلى الجحيم كما في قوله سبحانه: (يطوفون بينها وبين حميم آن) وهذا قول الأقل والجمهور على أنه داخلها وأنهم لا يخرجون أصلاً، وقيل: إن الزقوم والحميم نزل يقدم إليهم قبل دخولها. قال أبو عبيدة: ثم بمعنى الواو، وقرأ ابن مسعود. ثم إن مقيلهم لإلى الجحيم وعنه قال: لا ينتصف النهار يوم القيامة حتى يقيل هؤلاء ويقيل هؤلاء أهل الجنة وأهل النار، وقرأ: أن مقيلهم لإلى الجحيم.(11/394)
إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ (69)
(إنهم ألفوا) أي وجدوا (آباءهم ضالين) تعليل لاستحقاقهم ما تقدم ذكره، أي صادفوهم كذلك فاقتدوا بهم تقليداً وضلالة، لا لحجة أصلاً قال أبو السعود: أي بتقليد آبائهم في الدين من غير أن يكون لهم أو لآبائهم شيء يتمسك به أصلاً.(11/395)
فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ (70)
(فهم على آثارهم يهرعون) أي من غير أن يتدبروا أنهم على الحق أو لا، مع ظهور كونهم على الباطل بأدنى تأمل والإهراع الإسراع الشديد، وقال الفراء: الإسراع برعدة، وقال أبو عبيدة: يهرعون يستحثون من خلفهم، يقال: جاء فلان يهرع إلى النار إذا استحثه البرد إليها، وقال المفضل: يزعجون من شدة الإسراع، قال الزجاج: هرع وأهرع إذا استحث وأزعج، والمعنى يتبعون آباءهم في سرعة كأنهم يزعجون إلى اتباع آبائهم وذلك في الدنيا.(11/395)
وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ (71)
(ولقد ضل قبلهم) أي قبل هؤلاء المذكورين (أكثر الأولين) من الأمم الماضية بالتقليد، ورفض الدليل وترك النظر وإيثار التأويل(11/395)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ (72)
(ولقد أرسلنا فيهم منذرين) أي أرسلنا في هؤلاء الأولين رسلاً أنذروهم العذاب وحذروهم عواقب التقليد، وبينوا لهم الحق فلم ينجع ذلك فيهم، وكذلك لا ينجع في مقلدة هذا الزمان فما أشبه الليلة بالبارحة.(11/395)
فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73)
(فانظر كيف كان عاقبة المنذرين) أي الذين أنذرتهم الرسل فإنهم صاروا إلى النار، قال مقاتل: يقول كان عاقبتهم العذاب، يحذر كفار مكة، والخطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم أو لكل من يتأتى منه التمكن من مشاهدة آثارهم، ثم استثنى عباده المؤمنين فقال:(11/395)
إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (74)
(إلا عباد الله المخلصين) أي إلا من أخلصهم الله بتوفيقهم إلى الإيمان والتوحيد، وإيثار الدليل، وترك التقليد، وقرىء: المخلصين بكسر اللام أي الذين أخلصوا لله طاعتهم ولم يشوبوها بشيء يغيرها.
ولما ذكر سبحانه أنه أرسل في الأمم الماضية منذرين ذكر تفصيل بعض ما أجمله فيما سبق فقال:(11/395)
وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (75) وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ (77) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (78) سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ (79) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (80) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (81) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (82) وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ (83) إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (84) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ (85) أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (86)(11/396)
وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (75)
(ولقد نادانا نوح) اللام هي الموطئة للقسم، والمراد أن نوحاً دعا ربه على قومه لما عصوه فأجاب الله دعاءه وأهلك قومه بالطوفان، فالنداء هنا هو نداء الدعاء لله، والاستغاثة به، كقوله: (رب لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً) وقوله: (إني مغلوب فانتصر)، وحاصل ما يأتي من القصص سبع: قصة نوح، وقصة إبراهيم، وقصة إسماعيل، وقصة موسى وهارون، وقصة إلياس، ولوط ويونس (فلنعم المجيبون) له نحن أي دعانا فأجبناه وأهلكنا قومه، والواو للتعظيم.(11/396)
وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76)
(ونجيناه وأهله) المراد بأهله أهل دينه، وهم من آمن معه وكانوا ثمانين أو زوجته وأولاده الثلاثة وزوجاتهم الثلاث (من الكرب العظيم) هو الغرق وقيل تكذيب قومه له وما يصدر إليه منهم من أنواع الأذى.(11/396)
وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ (77)
(وجعلنا ذريته هم الباقين) وحدهم دون غيرهم كما يشعر به ضمير الفصل وذلك لأن الله أهلك الكفرة بدعائه، ولم يبق منهم باقية، ومن كان معه في السفينة من المؤمنين ماتوا كما قيل ولم يبق إلا أولاده قال سعيد بن المسيب: كان ولد نوح ثلاثة والناس كلهم من ولد نوح فسام أبو العرب وفارس والروم واليهود والنصارى، وحام أبو السودان من المشرق إلى المغرب السند(11/396)
والهند والنوب والزنج والحبشة والقبط والبربر وغيرهم ويافث أبو الصقالب والترك والخزر ويأجوج ومأجوج وغيرهم وقيل: إنه كان لمن مع نوح ذرية كما يدل عليه قوله: (ذرية من حملنا مع نوح) وقوله: (قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ) فيكون على هذا معنى الآية: ذريته وذرية من معه دون ذرية من كفر، فإن الله أغرقهم فلم يبق لهم ذرية والأول أولى.
وأخرج الترمذي وحسنه وابن جرير وابن أبي حاتم عن سمرة بن جندب عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الآية قال: " حام وسام ويافث " (1) وأخرج أحمد والترمذي وحسنه وأبو يعلى وابن المنذر والطبراني والحاكم وصححه عن سمرة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: " سام أبو العرب وحام أبو الحبش ويافث أبو الروم " والحديثان هما من سماع الحسن عن سمرة، وفي سماعه منه مقال معروف وقد قيل: إنه لم يسمع منه إلا حديث العقيقة فقط، وما عداه فبواسطة قال ابن عبد البر.
وقد روي عن عمران بن حصين عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مثله.
وأخرج البزار وابن أبي حاتم والخطيب في تالي التلخيص عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " ولد نوح ثلاثة سام وحام ويافث، فولد سام العرب وفارس والروم والخير فيهم، وولد يافث يأجوج ومأجوج والترك والصقالبة ولا خير فيهم، وولد حام القبط والبربر والسودان " وهو من حديث إسماعيل بن عياش عن يحيى بن سعيد عن سعيد ابن المسيب عنه.
قلت: في الآية دليل على أن الطوفان عم كل البلاد، وشمل جميع العباد، ولم يبق أحد من الناس سوى من كان معه في السفينة، والفرس
_________
(1) أخرجه أحمد والترمذي وصحيح الجامع/6145.(11/397)
وسائر المجوس والكلدانيون أهل بابل والهند وأهل الصين وأصناف الأمم المشرقية ينكرون الطوفان، وأقر به بعض الفرس لكنهم قالوا لم يسكن الطوفان بسوى الشام والمغرب، ولم يعم العمران كله، ولا أغرق إلا بعض الناس، ولم يتجاوز عقبة حلوان، ولا بلغ إلى ممالك المشرق، قالوا: ووقع في زمان طهمورث، وأن أهل المغرب لما أنذر حكماؤهم بالطوفان اتخذوا المباني العظيمة كالهرمين بمصر ونحوهما ليدخلوا فيها عند حدوثه، ولما بلغ طهمورث الإنذار بالطوفان قبل كونه بمائة وإحدى وثلاثين سنة أمر باختيار مواضع في مملكته صحيحة الهواء والتربة، فوجد ذلك بأصبهان فأمر بتجليد العلوم ودفنها فيها في أسلم المواضع، ويشهد لهذا ما وجد بعد الثلثمائة من سني الهجرة في حي من مدينة أصفهان من التلال التي انشقت عن بيوت مملوءة أعدالاً عدة كثيرة قد ملئت من لحاء الشجر التي تلبس بها القسي، وتسمى التور مكتوبة بكتابة لم يدر أحد ما هي، ذكره المقريزي في الخطط، وقال بعض محققي الهنود: إن سري كشن الهندي قد أخبر قبل وفاته بسبعة أيام أن بلدة دواركا ستغرق عن قريب وأشار إلى حصول الطوفان بأرض الهند، والحق ما دلت عليه هذه الآية وغيرها من عموم الغرق للعمران، وشمول الطوفان لجميع الأرض ونوع الإنسان، ولا يلتفت إلى قول من أنكره أو أوله أو خصه ببعض الأمكنة دون بعضها فإنه إذا جاء نهر الله بطل نهر معقل (والله يعلم وأنتم لا تعلمون).(11/398)
وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (78)
(وتركنا عليه في الآخرين) يعني في الذين يأتون بعده إلى يوم القيامة من أمم وقال ابن عباس: يقول، يذكر بخير، والمتروك هذا هو قوله:(11/398)
سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ (79)
(سلام على نوح) أي تركنا هذا الكلام بعينه، والسلام هو الثناء الحسن، أي يثنون عليه ثناء حسناً، ويدعون له ويترحمون عليه. قال الزجاج: تركنا عليه الذكر الجميل إلى يوم القيامة، وذلك الذكر هو قوله: (سلام على نوح) قال الكسائي في ارتفاع سلام وجهان: أحدهما: وتركنا عليه في الآخرين يقال سلام.
والثاني: أن يكون المعنى وأبقينا عليه، وتمّ الكلام، ثم ابتدأ فقال:(11/398)
سلام على نوح أي سلامة له من أن يذكر بسوء في الآخرين، قال المبرد: أي تركنا عليه هذه الكلمة باقية يعني يسلمون عليه تسليماً، ويدعون له، وهو من الكلام المحكي كقوله (سورة أنزلناها)، وقيل: إنه ضمن تركنا معنى قلنا. قال الكسائي: وفي قراءة ابن مسعود سلاماً منصوب بتركنا أي تركنا عليه ثناء حسنا وقيل: المراد بالآخرين أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
(في العالمين) أي سلام ثابت أو مستمر أو مستقر على نوح في العالمين من الملائكة، والجن والإنس، وهذا يدل على عدم اختصاص ذلك بأمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم كما قيل:(11/399)
إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (80)
(إنا كذلك نجزي المحسنين) هذه الجملة تعليل لما قبلها من التكرمة لنوح بإجابة دعائه وبقاء الثناء من الله عليه، وبقاء ذريته أي إنا كذلك نجزي من كان محسناً في أقواله وأفعاله، راسخاً في الإحسان معروفاً به، والكاف في كذلك نعت مصدر محذوف أي جزاء كذلك الجزاء.(11/399)
إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (81)
(إنه من عبادنا المؤمنين) هذا بيان لكونه من المحسنين وتعليل له بأنه كان عبداً مؤمناً مخلصاً لله وذلك إجلال لشأن الإيمان وشرفه وترغيب في تحصيله والثبات عليه، والازدياد منه. كما قال في مدح إبراهيم: (وإنه في الآخرة لمن الصالحين) وفيه من الدلالة على جلالة قدرهما ما لا يخفى، فلا يقال: كيف مدح الرسول بذلك؟ مع أن مرتبتهم فوق مرتبة المؤمنين.(11/399)
ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (82)
(ثم أغرقنا الآخرين) أي الكفرة الذين لم يؤمنوا بالله ولا صدقوا نوحاً معطوف على نجيناه، والترتيب حقيقي لأن نجاتهم بركوب السفينة حصلت قبل غرق الباقين، والشهاب فهم أنه معطوف على قوله: (وجعلنا ذريته) فجعل الترتيب إخبارياً لأن إغراق الآخرين كان قبل جعل ذريته باقين، ثم ذكر سبحانه قصة إبراهيم وبين أنه ممن شايع نوحاً فقال:(11/399)
وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ (83)
(وإن من شيعته لإبراهيم) أي من أهل دينه وممن شايعه ووافقه على الدعاء إلى الله، وإلى توحيده والإيمان به، قال مجاهد وابن عباس أي على(11/399)
منهاجه وسنته، قال الأصمعي: الشيعة الأعوان، وهو مأخوذ من الشياع وهو الحطب الصغار التي توقد مع الكبار حتى تستوقد، وكان بين نوح وإبراهيم ألفان وستمائة وأربعون سنة، وما كان بينهما إلا نبيان هود وصالح والذين قبل نوح ثلاثة إدريس وشيث وآدم، فجملة من قبل إبراهيم من الأنبياء ستة، والمعنى كان من أتباعه في أصل الدين وإن اختلفت فروع شرائعهما أو كان بين شريعتهما اتفاق كلي أو أكثري، وإن طال الزمان، وقال الفراء: المعنى وإن من شيعة محمد لإبراهيم، فالهاء على هذا في شيعته لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم وكذا قال الكلبي، ولا يخفى ما في هذا من الضعف والمخالفة للسياق.(11/400)
إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (84)
(إذ جاء ربه بقلب سليم) أي مخلص من الشرك والشك أو من آفات القلوب وقيل: هو الناصح لله في خلقه، وقيل: الذي يعلم أن الله حق وأن الساعة قائمة وأن الله يبعث من في القبور، ومعنى مجيئه إلى ربه يحتمل وجهين أحدهما عند دعائه إلى توحيده وطاعته، والثاني عند إلقائه في النار، وجاء استعارة تصريحية تبعية. شبه إخلاصه قلبه بمجيئه بتحفة كأنه جاء به تحفة من عنده في أنه فاز بما يستجلب به رضاه، والظرف في قوله إذا جاء منصوب بفعل محذوف، أي أذكر، وقيل: بما في الشيعة من معنى المتابعة، قال أبو حيان: لا يجوز لأن فيه الفصل بين العامل والمعمول بأجنبي وهو إبراهيم، والأولى أن يقال إن لام الابتداء تمنع ما قبلها عن العمل فيما بعدها.(11/400)
إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ (85)
(إذ) أو وقت إذ (قال لأبيه) آزر (وقومه) من الكفار (ماذا) أي أيُّ شيء (تَعْبُدُونَ (85)(11/400)
أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (86)
أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ) انتصاب (إفكاً) على أنه مفعول لأجله أي أتريدون آلهة من دون الله للإفك، وتقديم هذه المعمولات للفعل عليه للاهتمام، وقيل: انتصاب (إفكاً) على أنه مفعول به لتريدون والآلهة بدل منه جعلها نفس الإفك مبالغة، وهذا أولى من الوجه الأول، وقيل. أتريدون آلهة آفكين أو ذوي إفك. قال المبرد: الإفك أسوأ الكذب وهو الذي لا يثبت ويضطرب، ومنه ائتفكت بهم الأرض.(11/400)
فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (87) فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (88) فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ (89) فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (90) فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (91) مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ (92) فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ (93) فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (94) قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ (95)(11/401)
فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (87)
(فما ظنكم برب العالمين) إذا لقيتموه وقد عبدتم غيره وما ترونه يصنع بكم وهو تحذير مثل قوله: (ما غرك بربك الكريم)؟ وقيل: المعنى أي شيء توهمتموه بالله حتى أشركتم به غيره؟.(11/401)
فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (88)
(فنظر نظرة في النجوم) أي إليها(11/401)
فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ (89)
(فقال إني سقيم) قال الواحدي: قال المفسرون: كانوا يتعاطون علم النجوم فعاملهم بذلك لئلا ينكروا عليه، وذلك أنه أراد أن يكايدهم في أصنامهم لتلزمهم الحجة في أنها غير معبودة، وكان لهم في الغد يوم عيد يخرجون إليه، وأراد أن يتخلف عنهم فاعتل بالسقم، وذلك أنهم كلفوه أن يخرج معهم إلى عيدهم فنظر إلى النجوم أي في علمها أو في كتبها يريهم أنه مستدل بها على حاله: فلما نظر إليها قال: إني سقيم أي مشارف للسقم.
وقال الحسن: إنهم لما كلفوه أن يخرج معهم تفكر فيما يعمل فالمعنى على هذا أنه نظر فيما نجم له من الرأي أي فيما طلع له منه فعلم أن كل شيء يسقم فقال: إني سقيم، قال الخليل والمبرد: يقال للرجل إذا فكر في الشيء يدبره نظر في النجوم، وقيل: كانت الساعة التي دعوه إلى الخروج معهم فيها ساعة تعتاده فيها الحمى، وقال الضحاك: معنى إني سقيم سأسقم سقم الموت لأن من كتب عليه الموت يسقم في الغالب، ثم يموت، وهذا تورية وتعريض كما قال للملك لما سأله عن سارة: هي أختي يعني أخوة الدين.(11/401)
وقال سعيد بن جبير: أشار لهم إلى مرض يسقم ويعدي وهو الطاعون، وكانوا يهربون من ذلك.
قال ابن عباس: سقيم أي مريض، وقال أيضاًً: مطعمون ولهذا قال:(11/402)
فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (90)
(فتولوا عنه مدبرين) أي تركوه وذهبوا مخافة العدوى.(11/402)
فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (91)
(فراغ إلى آلهتهم) يقال: راغ يروغ روغاً وروغاناً إذا مال، ومنه طريق رائغ أي مائل، وقال السدي: ذهب إليهم، وقال أبو مالك: جاء إليهم، وقال الكلبي: أقبل عليهم، والمعنى متقارب. وكانت اثنين وسبعين صنماً من حجر وخشب وذهب وفضة ونحاس وحديد ورصاص، وكان كبيرها من ذهب مكللاً بالجواهر (فقال) إبراهيم للأصنام التي راغ إليها استهزاء وسخرية (ألا تأكلون)؟ من الطعام الذي كانوا يصنعونه لها وخاطبها كما يخاطب من يعقل لأنهم أنزلوها بتلك المنزلة وكذا قوله:(11/402)
مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ (92)
(ما لكم لا تنطقون)؟ فإنه خاطبهم خطاب من يعقل والاستفهام للتهكم بهم، لأنه قد علم أنها جمادات لا تنطق، قيل: إنهم تركوا عند أصنامهم طعامهم للتبرك بها وليأكلوه إذا رجعوا من عيدهم، وقيل: تركوه للسدنة، وقيل: إن إبراهيم هو الذي قرب إليها الطعام مستهزئاً بها.(11/402)
فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ (93)
(فراغ عليهم ضرباً باليمين) أي فمال عليهم ضربهم ضرباً، مصدر مؤكد لفعل محذوف، أو هو مصدر لراغ لأنه بمعنى ضرب، قال الواحدي: قال المفسرون يعني بيده اليمنى يضربهم بها: وقال السدي: بالقوة والقدرة لأن اليمين أقوى اليدين، قال الفراء وثعلب: ضرباً بالقوة واليمين القوة، وقال الضحاك والربيع ابن أنس: المراد باليمين اليمين التي حلفها حين قال: (وتالله لأكيدن أصنامكم) وقيل: المراد باليمين هنا العدل كما في قوله: (ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين) أي بالعدل، واليمين كناية عن العدل كما أن الشمال كناية عن الجور وأولى هذه الأقوال أُولاها.(11/402)
فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (94)
(فأقبلوا إليه يزفون) أي أقبل إليه عبدة تلك الأصنام يسرعون لما(11/402)
علموا بما صنعه بها فقالوا نحن نعبدها وأنت تكسرها، ويزفون في محل نصب على الحال حال من فاعل أقبلوا، قرأ الجمهور بفتح الياء من زف الظليم يزف إذا عدا بسرعة، وقرىء: بضم الياء من أزف يزف أي دخل في الزفيف، أو يحملون غيرهم على الزفيف.
قال الأصمعي: أزففت الإبل أي حملتها على أن تزف، وقيل: هما لغتان يقال: زف القوم وأزفوا وزفت العروس وأزففتها حكي ذلك عن الخليل، قال النحاس: زعم أبو حاتم أنه لا يعرف هذه اللغة، يعني يزفون بضم الياء، وقد عرفها جماعة من العلماء منهم الفراء وشبهها بقولهم: اطردت الرجل أي صيرته إلى ذلك، وقال المبرد: الزفيف الإسراع.
قال الزجاج: الزفيف أول عدو النعام وقال قتادة والسدي معنى يزفون يمشون وقال الضحاك يسعون، وقال يحيى بن سلام: يرعدون غضباً، وقال مجاهد: يختالون أي يمشون مشي الخيلاء، وقيل: يتسللون تسللاً بين المشي والعدو والأولى تفسيره بيسرعون، وقال ابن عباس: يزفون يخرجون وقرىء: يزفون على البناء للمفعول؛ وقرىء: على زنة يرمون، وحكى الثعلبي عن الحسن ومجاهد وابن السميفع أنهم قرأوا يرفون بالراء المهملة وهي ركض بين المشي والعدو ولما أنكروا على إبراهيم ما فعله بالأصنام ذكر لهم الدليل الدال على فساد عبادتها و(11/403)
قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ (95)
(قال) مبكتاً لهم ومنكراً عليهم:
(أتعبدون ما تنحتون) أي أتعبدون أصناماً أنتم تنحتونها، والنحت النجر والبري؛ نحته ينحته بالكسر نحتاً أي براه والنحاتة البراية، ووجه التوبيخ ظاهر وهو أن الخشب والحجر قبل النحت والإصلاح ما كان معبوداً البتة فإذا نحته وشكله على الوجه المخصوص لم يحدث فيه إلا آثار تصرفه عن هيئته، فلو صار معبوداً لهم عند ذلك لزم أن الشيء الذي لم يكن معبوداً إذا حصل فيه آثار صار معبوداً وفساده واضح.(11/403)
وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (96) قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (97) فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ (98) وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ (99) رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100)(11/404)
وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (96)
(والله خلقكم وما تعلمون) أي وخلق الذي تصنعونه على العموم ويدخل فيها الأصنام التي تنحتونها دخولاً أولياً ويكون معنى العمل هنا التصوير والنحت ونحوهما نحو عمل الصائغ السوار، أي صاغه ويرجحه ما قبله، أي أتعبدون الذي تنحتون، أو خلقكم وخلق عملكم، وجعلها الأشعرية دليلاً على خلق أفعال العباد لله تعالى وهو الحق، فإن فعلهم كان بخلق الله فيهم فكان مفعولهم المتوقف على فعلهم أولى بذلك، ويرجح على الأول بعدم الحذف، ويجوز أن تكون (ما) استفهامية أي أيُّ شيء تعملون، ومعنى الاستفهام التوبيخ والتقريع، ويجوز أن تكون نافية، أي أن العمل في الحقيقة ليس لكم فأنتم لا تعملون شيئاًً وقد طول صاحب الكشاف الكلام في رد قول من قال إنها مصدرية، ولكن بما لا طائل تحته، وجعلها موصولة أولى بالمقام وأوفق بسياق الكلام، والجملة إما حالية أو مستأنفة.(11/404)
قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (97)
(قالوا ابنوا له بنياناً فألقوه في الجحيم) مستأنفة جواب سؤال مقدر كالجملة التي قبلها، قالوا هذه المقالة لما عجزوا عن جواب ما أورده عليهم من الحجة الواضحة فتشاوروا فيما بينهم أن يبنوا له حائطاً من حجارة ويملأوه حطباً ويضرموه، ثم يلقوه فيه، والجحيم النار الشديد الاتقاد. قال الزجاج: وكل نار بعضها فوق بعض فهي جحيم، والألف واللام في جحيم عوض عن المضاف إليه أي في جحيم ذلك البنيان، ثم لما ألقوه فيها نجاه الله منها وجعلها عليه برداً وسلاماً وهو معنى قوله:(11/404)
فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ (98)
(فأرادوا به كيداً) مكراً وحيلة أي احتالوا لإهلاكه.
(فجعلناهم الأسفلين) أي المقهورين المغلوبين بإبطال كيدهم وجعله(11/404)
برهاناً نيراً على علو شأنه، لأنها قامت له بذلك عليهم الحجة التي لا يقدرون على دفعها ولا يمكنهم جحدها، فإن النار الشديدة الاتقاد، العظيمة الاضطرام، المتراكمة الجمار، إذا صارت بعد إلقائه فيها برداً وسلاماً ولم تؤثر فيه أقل تأثير كان ذلك من الحجة بمكان يفهمه كل من له عقل. وصار المنكر له سافلاً ساقط الحجة، ظاهر التعصب، واضح التعسف، وسبحان من يجعل المحن لمن يدعو إلى دينه منحاً، ويسوق إليهم الخير بما هو من صور الضير.(11/405)
وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ (99)
(و) لما انقضت هذه الواقعة وأسفر الصبح لذي عينين، وظهرت حجة الله لإبراهيم، وقامت براهين نبوته وسطعت أنوار معجزته.
(قال إني ذاهب إلى ربي) أي مهاجر من مولدي وبلد قومي الذين فعلوا ما فعلوا تعصباً للأصنام وكفراً بالله وتكذيباً لرسله إلى حيث أمرني بالمهاجرة إليه أو إلى حيث أتمكن من عبادته، وهذه الآية أصل في الهجرة والعزلة وأول من فعل ذلك إبراهيم عليه السلام وذلك حين خلصه الله من النار.
(سيهدين) فيما نويت إلى المكان الذي أمرني بالذهاب إليه أو إلى مقصدي، وقيل: ذاهب بعملي وعبادتي وقلبي ونيتي، فعلى هذا ذهابه بالعمل لا بالبدن والأول أظهر، قيل: إن الله سبحانه أمره بالمصير إلى الشام وقد سبق بيان هذا في سورة الكهف مستوفى قال ابن عباس: قال هذا حين هاجر قال مقاتل فلما قدم الأرض المقدسة سأل ربه الولد فقال:(11/405)
رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100)
(رب هب لي) ولداً صالحاً (من الصالحين) يعينني على طاعتك ويؤنسني في الغربة. هكذا قال المفسرون، وعللوا ذلك بأن الهبة قد غلب معناها في الولد، فتحمل عند الإطلاق عليه، وإذا وردت مقيدة حملت على ما قيدت به، كما في قوله: (ووهبنا له من رحمتنا أخاه هارون نبياً) وعلى فرض أنها لم تغلب في طلب الولد فقوله:(11/405)
فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ (101) فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102)(11/406)
فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ (101)
(فبشرناه بغلام حليم) يدل على أنه ما أراد بقوله: (رب هب لي من الصالحين) إلا الولد، والمعنى: بشرناه به على لسان الملائكة الذين جاؤوا له في صورة الأضياف، ثم انتقلوا من قريته إلى قرية لوط كما تقدم في هود، ويأتي في الذاريات، ومعنى حليم أن يكون حليماً عند كبره فكأنه بشر ببقاء ذلك الغلام حتى يكبر ويصير حليماً لأن الصغير لا يوصف بالحلم، قال الزجاج: هذه البشارة تدل على أنه مبشر بابن ذكر وأنه يبقى حتى ينتهي في السن ويوصف بالحلم.(11/406)
فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102)
(فلما بلغ معه السعي) في الكلام حذف كما تشعر به هذه الفاء الفصيحة النقد فوهبنا له الغلام فنشأ حتى صار إلى السن التي يسعى فيها مع أبيه في أمور دنياه معيناً له على أعماله. قال مجاهد: أي لما شب وأدرك سعيه سعي إبراهيم، قال ابن عباس: شب حتى بلغ سعيه سعي أبيه في العمل، وقال مقاتل: لما مشى معه، قال الفراء: كان يومئذ ابن ثلاث عشرة سنة، وقال الحسن: هو سعي العقل الذي تقوم به الحجة، وقال ابن زيد: هو السعي في العبادة، وقيل: هو الاحتلام.
(قال) إبراهيم لابنه لما بلغ ذلك المبلغ: (يا بني) بفتح الياء وكسرها سبعيتان (إني أرى في المنام أني أذبحك) أي أفعل الذبح، أو أومر به فهما احتمالان ويشير للثاني قوله: افعل ما تؤمر، ويشير للأول: قد صدقت الرؤيا، والمعنى إني رأيت في المنام هذه الرؤيا.(11/406)
قال مقاتل: رأى إبراهيم ذلك ثلاث ليال متتابعات، قال قتادة: رؤيا الأنبياء حق إذا رأوا شيئاًً فعلوه وقد اختلف أهل العلم في الذبيح هل هو إسحق أو إسماعيل عليهما السلام، قال القرطبي: فقال أكثرهم: الذبيح إسحق وممن قال بذلك العباس بن عبد المطلب، وابنه عبد الله وهو الصحيح عن ابن مسعود ورواه أيضاًً عن جابر وعلي وابن عمر وعمر بن الخطاب قال: فهؤلاء سبعة من الصحابة. قال: ومن التابعين وغيرهم علقمة والشعبي ومجاهد وسعيد بن جبير وكعب الأحبار، وقتادة ومسروق وعكرمة والقاسم بن أبي برزة وعطاء ومقاتل وعبد الرحمن بن سابط والزهري والسدي وعبد الله بن أبي الهذيل ومالك بن أنس كلهم قالوا: الذبيح إسحق، وعليه أهل الكتابين اليهود والنصارى، واختاره غير واحد منهم النحاس وابن جرير الطبري وغيرهما.
قال: وقال آخرون هو إسماعيل وممن قال بذلك أبو هريرة وأبو الطفيل عامر بن وائلة، وروي ذلك عن ابن عمر وابن عباس أيضاًً كما سيجيء ومن التابعين سعيد بن المسيب والشعبي ويوسف بن مهران ومجاهد والربيع بن أنس ومحمد بن كعب القرظي والكلبي وعلقمة.
وعن الأصمعي قال: سألت أبا عمرو بن العلاء عن الذبيح فقال: يا أصمعي أين عزب عنك عقلك ومتى كان إسحق بمكة، وإنما كان إسماعيل بمكة، قال ابن كثير في تفسيره: وقد ذهب جماعة من أهل العلم إلى أن الذبيح هو إسحق وحكي ذلك عن طائفة من السلف حتى يقال: عن بعض الصحابة وليس في ذلك كتاب ولا سنة، وما أظن ذلك تلقى إلا عن أخبار أهل الكتاب، وأخذ مسلماً من غير حجة، وكتاب الله شاهد ومرشد إلى أنه إسماعيل فإنه ذكر البشارة بالغلام الحليم، وذكر أنه الذبيح، وقال بعد ذلك (وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ) انتهى.(11/407)
واحتج القائلون بأنه إسحق بأن الله عز وجل قد أخبرهم عن إبراهيم حين فارق قومه وهاجر إلى الشام مع امرأته سارة وابن أخيه لوط فقال: (إني ذاهب إلى ربي سيهدين) أنه دعا فقال: (رب هب لي من الصالحين) وقال تعالى: (فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ) ولأن الله قال: (وفديناه بذبح عظيم) فذكر أنه في الغلام الحليم الذي بشر به إبراهيم، وإنما بشر بإسحق لأنه قال: وبشرناه بإسحق وقال هنا: بغلام حليم، وذلك قبل أن يعرف هاجر، وقبل أن يصير له إسماعيل، وليس في القرآن أنه بشر بولد إلا إسحق، قال الزجاج: الله أعلم أيهما الذبيح انتهى، وهذا مذهب ثالث وهو الوقف عن الجزم بأحد القولين وتفويض علم ذلك إلى الله تعالى، وما استدل به الفريقان يمكن الجواب عنه، والمناقشة له.
ومن جملة ما احتج به القائلون بأنه إسماعيل أن الله وصفه بالصبر دون إسحاق، كما في قوله: (وإسماعيل واليسع وذا الكفل كل من الصابرين) وهو صبره على الذبح ووصفه بصدق الوعد في قوله: (إنه كان صادق الوعد) لأنه وعد أباه من نفسه الصبر على الذبح فوفى به، ولأن الله سبحانه قال: (وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا) فكيف يأمره بذبحه، وقد وعده أن يكون نبياً، وأيضاًً فإن الله قال: (فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ) فكيف يؤمر بذبح إسحق قبل إنجاز الوعد في يعقوب. وأيضاًً ورد في الأخبار تعليق قرن الكبش في الكعبة فدل على أن الذبيح إسماعيل.
ولو كان إسحق لكان الذبح واقعاً ببيت المقدس وكل هذا أيضاً يحتمل المناقشة والمسألة ليست من العقائد التي كلفنا بمعرفتها فلا نسأل عنها في القيامة فهي مما لا ينفع علمه، ولا يضر جهله. وزعم ابن عباس أن الذبيح إسماعيل، وعنه قال: المفدي إسماعيل وهو الأظهر، وعنه قال: فدي إسماعيل بكبشين أملحين أقرنين أعينين، وعن ابن عمر قال: " إسماعيل ذبح عنه(11/408)
إبراهيم الكبش ".
وعن الفرزدق الشاعر قال: " رأيت أبا هريرة يخطب على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول: إن الذي أمر بذبحه إسماعيل "، وعن العباس بن عبد المطلب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " قال نبي الله داود يا رب أسمع الناس يقولون رب إبراهيم وإسحق ويعقوب فاجعلني رابعاً، قال: إن إبراهيم ألقي في النار فصبر من أجلي، وإن إسحق جاد لي بنفسه، وإن يعقوب غاب عنه يوسف، وتلك بلية لم تنلك ".
أخرجه البزار وابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم وابن مردويه وفي إسناده الحسن بن دينار البصري وهو متروك.
عن علي بن زيد بن جدعان وهو ضعيف، وأخرج الديلمي عن أبي سعيد الخدري مرفوعاً نحوه، وعن ابن مسعود قال " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الذبيح إسحق " (1) أخرجه الدارقطني في الأفراد والديلمي.
وأخرج ابن مردويه عن أبي هريرة مرفوعاً مثله، وعن ابن مسعود قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم " من أكرم الناس؟ قال يوسف بن يعقوب بن إسحق ذبيح الله "، أخرجه الطبراني وابن مردويه.
وعن ابن مسعود موقوفاً مثله وعن العباس مثله أخرجه البخاري في تاريخه وغيره في غيره، وعن علي قال كبش أعين أبيض أقرن قد ربط بسمرة في أصل ثبير، وعن ابن عباس قال فدي إسماعيل بكبشين أملحين أقرنين أعينين.
وبما سقناه من الاختلاف في الذبيح هل هو إسحق أو إسماعيل؟ وما استدل به المختلفون في ذلك تعلم أنه لم يكن في المقام ما يوجب القطع أو يتعين رجحانه تعيناً ظاهراً وقد رجح كل قول طائفة من المحققين النصفين
_________
(1) وانظر ما كتبه ابن الجوزي في زاد المسير ص 7/ 72.(11/409)
كابن جرير فإنه رجح أنه إسحق، ولكنه لم يستدل على ذلك إلا ببعض ما سقناه ههنا وكابن كثير فإنه رجح أنه إسماعيل وجعل الأدلة على ذلك أقوى وأصح وليس الأمر كما ذكره فإنها إن لم تكن دون أدلة القائلين بأن الذبيح إسحق لم تكن فوقها ولا أرجح منها، ولم يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك شيء، وما روي عنه فهو إما موضوع أو ضعيف جداً ولم يبق إلا مجرد استنباطات من القرآن كما أشرنا إلى ذلك فيما سبق، وهي محتملة ولا تقوم حجة بمحتمل، فالوقف هو الذي لا ينبغي مجاوزته، وفيه السلامة من الترجيح بلا مرجح ومن الاستدلال بالمحتمل.
(فانظر ماذا ترى) قرىء: بضم التاء الفوقية وكسر الراء والمفعولان محذوفان أي انظر ماذا تريني إياه من صبرك واحتمالك، وقرىء: بفتح التاء والراء من الرأي، وهو مضارع رأيت وقرىء ترى بضم التاء وفتح الراء مبنياً للمفعول، أي ماذا يخيل إليك ويسنح لخاطرك؟ قال الفراء: في بيان معنى القراءة: الأولى انظر ماذا ترى من صبرك وجزعك.
وقال الزجاج: لم يقل هذا أحد غيره وإنما قال العلماء: ماذا تشير أي ما تريك نفسك من الرأي؟ وقال أبو عبيد: إنما يكون هذا من رؤية العين خاصة، وكذا قال أبو حاتم، وغلطهما النحاس. وقال: هذا يكون من رؤية العين وغيرها، ومعنى القراءة الثانية ظاهر واضح وإنما شاوره ليعلم صبره لأمر الله وإلا فرؤيا الأنبياء وحي وامتثالها لازم لهم متحتم عليهم.
(قال يا أبت افعل ما تؤمر) به مما أوحي إليك من ذبحي و (ما) موصولة. وقيل: مصدرية على معنى افعل أمرك، والمصدر مضاف إلى المفعول وتسمية المأمور به أمراً والأول أولى (ستجدني إن شاء الله من الصابرين) على ما ابتلاني به من الذبح، والتعليق بمشيئة الله سبحانه تبرك بها منه.(11/410)
فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (106)(11/411)
فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103)
(فلما أسلما) أي استسلما لأمر الله وأطاعاه، وانقادا له وخضعا، قرأ الجمهور: أسلما، وقرأ علي وابن مسعود وابن عباس: فلما سلما أي فوضا أمرهما إلى أمر الله، وروي عن ابن عباس أنه قرأ: استسلما، قال قتادة: أسلم أحدهما نفسه لله، وأسلم الآخر ابنه، يقال: سلم لأمر الله وأسلم واستسلم بمعنى واحد، وقد اختلف في جواب (لما) ماذا هو؟ فقيل محذوف تقديره: ظهر صبرهما أو أجزلنا لهما أجرهما، أو فديناه بكبش، هكذا قال البصريون، وقال الكوفيون: الجواب هو ناديناه، والواو زائدة مقحمة، واعترض عليهم النحاس بأن الواو من حروف المعاني ولا يجوز أن تزاد، وقال الأخفش: الجواب وتله للجبين والواو زائدة، وروي هذا أيضاًً عن الكوفيين، ويرد عليه اعتراض النحاس كما ورد على الأول.
(وتله للجبين) أي صرعه وأسقطه على شقه، وقيل: هو الرمي بقوة وأصله من رماه على التل، وهو المكان المرتفع، أو من التليل وهو العنق، أي رماه على عنقه، ثم قيل: لكل إسقاط وإن لم يكن على تل ولا على عنق، وفي القاموس: تله تلا من باب قتل فهو متلول وتليل صرعه وألقاه على عنقه وخده، يقال: تللت الرجل إذا ألقيته، والتل الصرع والدفع، والمراد أنه أضجعه على جبينه على الأرض، والجبين ما انكشف من الجبهة قاله السمين.
وفي المصباح: الجبين ناحية الجبهة من محاذاة النزعة إلى الصدغ، وهما جبينان عن يمين الجهة وشمالها، قاله الأزهري وابن فارس وغيرهما فتكون الجبهة بين جبينين، وجمعه جبن بضمتين مثل بريد وبرد، وأجبنة مثل أسلمة، وقيل: المعنى كبه على وجهه كيلا يرى منه ما يؤثر الرقة لقلبه، واختلف في(11/411)
الموضع الذي أراد ذبحه فيه فقيل: هو مكة في المقام، وقيل في المنحر بمنى عند الجمار، وقيل: على الصخرة التي بأصل جبل ثبير، وقيل بالشام.(11/412)
وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (104)
(وناديناه أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا) أي عزمت على الإتيان بما رأيته، قال المفسرون: لما أضجعه للذبح نودي من الجبل يا إبراهيم الخ وجعله مصدقاً بمجرد العزم، وإن لم يذبحه لأنه قد أتى بما أمكنه، والمطلوب استسلامهما لأمر الله، وقد فعلا. قال القرطبي: قال أهل السنة: إن نفس الذبح لم يقع ولو وقع لم يتصور رفعه، فكان هذا من باب النسخ قبل الفعل، لأنه لو حصل الفراغ من امتثال الأمر بالذبح ما تحقق الفداء، قال: ومعنى صدقت الرؤيا فعلمت ما أمكنك، ثم امتنعت لما منعناك، هذا أصح ما قيل في هذا الباب، وقالت طائفة: ليس هذا مما ينسخ بوجه لأن معنى ذبحت الشيء قطعته، وقد كان إبراهيم يأخذ السكين فيمر بها على حلقه فتنقلب كما قال مجاهد.
وقال بعضهم: كان كلما قطع جزءاً التأم وقالت طائفة منهم السدي: ضرب الله على عنقه صفحة نحاس فجعل إبراهيم يحز ولا يقطع شيئاً وهذا كله جائز في القدرة الإلهية، لكنه يفتقر إلى نقل صحيح فإنه أمر لا يدرك بالنظر وإنما طريقه الخبر، ولو كان قد جرى ذلك لبينه الله تعظيماً لرتبة إسماعيل وإبراهيم وكان أولى بالبيان من الفداء.
وقال بعضهم: إن إبراهيم ما أمر بالذبح الحقيقي الذي هو فري الأوداج وإنهار الدم، وإنما رأى أنه أضجعه للذبح فتوهم أنه أمر بالذبح الحقيقي فلما أتى بما أمر به من الاضجاع قيل له: قد صدقت الرؤيا وهذا كله خارج عن المفهوم. ولا يظن بالخليل والذبيح أن يفهما من هذا الأمر ما ليس له حقيقة، حتى يكون منهما التوهم، وأيضاًً لو صحت هذه الأشياء لما احتيج إلى الفداء.
أخرج الطبراني عن ابن عباس قال: " لما أراد إبراهيم أن يذبح إسحق(11/412)
قال لأبيه: إذا ذبحتني فاعتزل لا أضطرب فينتضخ عليك دمي، فشده فلما أخذ الشفرة وأراد أن يذبحه نودي من خلفه أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا "، وأخرج أحمد عنه مرفوعاً مثله مع زيادة، وأخرجه عنه موقوفاً.
وأخرج ابن المنذر والحاكم وصححه من طريق مجاهد عنه قال: " فلما أسلما سلما ما أمرا به وتله وضع وجهه إلى الأرض فقال: لا تذبحني وأنت تنظر، عسى أن ترحمني فلا تجهز علي، وأن أجزع فأنكص فأمتنع منك، ولكن اربط يدي إلى رقبتي ثم ضع وجهي إلى الأرض فلما أدخل يده ليذبحه فلم تحل المدية حتى نودي أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا فأمسك يده.
وعنه أيضاًً قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " رؤيا الأنبياء وحي "، أخرجه ابن أبي حاتم وأخرجه البخاري وغيره من قول عبيد بن عمير، واستدل بهذه الآية. (1)
(إنا كذلك) أي كما جزيناك (نجزي المحسنين) أي نجزيهم بامتثال الأمر بالخلاص من الشدائد والسلامة من المحن. فالجملة كالتعليل لما قبلها قال مقاتل: جزاه الله سبحانه بإحسانه في طاعته العفو عن ذبح ابنه.
_________
(1) زاد المسير 7/ 73.(11/413)
إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (106)
(إن هذا لهو البلاء المبين) الابتلاء والبلاء الاختبار والمعنى إن هذا هو الاختبار الظاهر حيث اختبره الله في طاعته بذبح ابنه وقيل: إن هذا لهو النعمة الظاهرة حيث سلم الله ولده من الذبح وفداه بالكبش. يقال: أبلاه الله إبلاء وبلاء إذا أنعم عليه والأول أولى وإن كان الابتلاء يستعمل في الاختبار بالخير والشر ومنه: (ونبلوكم بالشر والخير فتنة) ولكن المناسب للمقام المعنى الأول قال أبو زيد: هذا في البلاء الذي نزل به في أن يذبح ولده، قال: وهذا من البلاء المكروه.(11/413)
وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (108) سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ (109) كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (110) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (111) وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (112) وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ (113) وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ (114) وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (115) وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ (116) وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ (117)(11/414)
وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107)
(وفديناه بذبح عظيم) الذبح اسم المذبوح، وجمعه ذبوح كالطحن اسم للمطحون، وبالفتح المصدر، ومعنى عظيم عظيم القدر، ولم يرد عظيم الجثة وإنما عظم قدره لأنه فدى به الذبيح أو لأنه متقبل، قال النحاس: العظيم في اللغة يكون للكبير وللشريف، وأهل التفسير على أنه ههنا للشريف، أي المتقبل، قال الواحدي: قال أكثر المفسرين ومنهم ابن عباس: " أنزل عليه كبش قد رعى في الجنة أربعين خريفاً "، وقال الحسن ما فدي إلا بتيس من الأروى أهبط عليه من ثبير فذبحه إبراهيم فداء عن ابنه، قال الزجاج: قد قيل إنه فدي بوعل والوعل التيس الجبلي، ومعنى الآية جعلنا الذبح فداء له وخلصناه به من الذبح، قال ابن عباس: بكبش عظيم متقبل، قيل: قد بقي قرناه معلقين على الكعبة إلى أن احترق البيت في زمن ابن الزبير، قال الشعبي: رأيت قرني الكبش منوطين بالكعبة.
وقال ابن عباس: والذي نفسي بيده لقد كان أول الإسلام وإن رأس الكبش لمعلق بقرنيه في ميزاب الكعبة وقد يبس. انتهى. ومن المعلوم المقرر أن كل ما هو من الجنة لا تؤثر فيه النار فلم يطبخ لحم الكبش بل أكلته السباع والطيور تأمل.
قال أبو السعود: لما ذبحه السيد إبراهيم قال جبريل: الله أكبر الله أكبر الله أكبر فقال الذبيح: لا إله إلا الله والله أكبر، فقال إبراهيم: الله أكبر ولله الحمد، فبقي هذا سنة انتهى. عن ابن عباس: " أن رجلاً قال: نذرت لأذبح نفسي فقال ابن عباس: (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة) ثم(11/414)
تلا: (وفديناه بذبح عظيم) فأمره بكبش فذبحه " وقد استشهد أبو حنيفة بهذه الآية فيمن نذر بذبح ولده أنه يلزمه ذبح شاة.(11/415)
وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (108)
(وتركنا عليه في الآخرين) أي في الأمم الآخرة التي تأتي بعده ولا وقف عليه لأن قوله:(11/415)
سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ (109)
(سلام على إبراهيم) مفعول وتركنا، والسلام الثناء الجميل وقال عكرمة: سلام منا، وقيل: سلامة من الآفات، والكلام في هذا كالكلام في قوله: سلام على نوح في العالمين وقد تقدم في هذه السورة بيان معناه.(11/415)
كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (110)
(كذلك نجزي المحسنين) أي مثل ذلك الجزاء العظيم نجزي من انقاد لأمر الله، ولم يقل: إنا كذلك هنا، كما في غيره لأنه قد سبق في هذه القصة فاستخف بتركه اكتفاء بذكره مرة عن ذكره ثانية(11/415)
إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (111)
(إنه من عبادنا المؤمنين) أي الذين أعطوا العبودية حقها ورسخوا في الإيمان بالله وتوحيده.(11/415)
وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (112)
(وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ) أي بشرنا إبراهيم بولد يولد له ويصير نبياً بعد أن يبلغ السن التي يتأهل فيها لذلك، ونبياً منصوب على الحال، وهي حال مقدرة. وقال ابن عباس: إنما بشر نبياً حين فداه الله من الذبح، ولم تكن البشارة بالنبوة عند مولده.
قال الزجاج: إن كان الذبيح إسحق فيظهر كونها مقدرة والأولى أن يقال: إن من فسر الذبيح بإسحق جعل البشارة هنا خاصة بنبوته. وفي ذكر الصلاح بعد النبوة تعظيم لشأنه، ولا حاجة إلى وجود المبشر به وقت البشارة، فإن وجود ذي الحال ليس بشرط وإنما الشرط المقارنة للفعل وقوله: (من الصالحين) كما يجوز أن يكون صفة (لنبياً) يجوز أن يكون حالاً من الضمير المستتر فيه فتكون أحوالاً متداخلة.(11/415)
وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ (113)
(وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ) أي على إبراهيم (وَعَلَى إِسْحَاقَ) بمرادفة نعم الله عليهما وقيل: كثرنا أولادهما وقيل: إن الضمير في عليه يعود إلى إسماعيل وهو بعيد. وقيل: المراد بالمباركة هنا هي الثناء الحسن عليهما إلى يوم القيامة. وقيل: أخرجنا من صلبه ألف نبي أولهم يعقوب وآخرهم عيسى.(11/415)
(وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ) أي محسن في عمله بالإيمان والتوحيد، وظالم لها بالكفر والمعاصي، لما ذكر الله سبحانه البركة في الذرية بين أن كون الذرية من هذا العنصر الشريف والمحتد المبارك، ليس بنافع لهم ولا يجري أمر الخبث والطيب على العرق والعنصر.
فقد يلد البر الفاجر والفاجر البر، وهذا مما يهدم أمر الطبائع والعناصر، بل إنما ينتفعون بأعمالهم لا بآبائهم فإن اليهود والنصارى وإن كانوا من ولد إسحق فقد صاروا إلى ما صاروا إليه من الضلال المبين، وإن العرب وإن كانوا من ولد إسماعيل فقد ماتوا على الشرك إلا من أنقذه الله بالإسلام، وفيه تنبيه على أن الظلم في أعقابهما لم يعد عليهما بعيب ولا نقيصة، وأن المرء إنما يعاب بسوء فعله ويعاقب على ما اجترحت يداه لا على ما وجد من أصله وفرعه، ولما فرغ سبحانه من ذكر إنجاء الذبيح من الذبح وما من عليه بعد ذلك من النبوة ذكر ما منّ به على موسى وهرون فقال:(11/416)
وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ (114)
(وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ) يعني بالنبوة وغيرها من النعم العظيمة التي أنعم الله بها عليهما(11/416)
وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (115)
(ونجيناهما وقومهما) المراد بقومهما هم المؤمنون من بني إسرائيل (من الكرب العظيم) هو ما كانوا فيه من استعباد فرعون إياهم، وما كان يصيبهم من جهته من البلاء، وقيل: هو الغرق الذي أهلك فرعون وقومه، والأول أولى.(11/416)
وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ (116)
(ونصرناهم) جاء بضمير الجمع. قال الفراء: الضمير لموسى وهرون وقومهما لأن قبله: (ونجيناهما وقومهما) وقيل: الضمير عائد على الاثنين موسى وهارون تعظيماً لهما. والأول أولى (فكانوا) بسبب نصرنا وتأييدنا (هم الغالبين)، على عدوهم من القبط بعد أن كانوا تحت أسرهم وقهرهم وهم تأكيد أو بدل أو فصل وهو الأظهر.(11/416)
وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ (117)
(وآتيناهما الكتاب) أي التوراة (المستبين) البين الظاهر فيما أتى به من الحدود. والأحكام. يقال: استبان كذا أي صار بيناً.(11/416)
وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (118) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الْآخِرِينَ (119) سَلَامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ (120) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (121) إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (122) وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلَا تَتَّقُونَ (124) أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ (125) اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (126) فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (127) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (128) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (129) سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ (130) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (131) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (132) وَإِنَّ لُوطًا لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (133) إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (134)(11/417)
وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (118)
(وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) أي القيم الذي لا اعوجاج فيه وهو دين الإسلام فإنه الطريق الموصلة إلى الحق والصواب عقلاً وسمعاً أو إلى المطلوب وهو الجنة(11/417)
وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الْآخِرِينَ (119)
(وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الْآخِرِينَ (119) سَلَامٌ) منا (عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ) أي أبقينا عليهما في الأمم المتأخرة الثناء الجميل وقد قدمنا الكلام في السلام وكذلك تقدم في هذه السورة تفسير قوله(11/417)
إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (121)
(إنا كذلك) أي كما جزيناهما (نجزي المحسنين(11/417)
إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (122)
إنهما من عبادنا المؤمنين) تعليل لإحسانهما بالإيمان وإظهار لجلالة قدره وأصالة أمره.(11/417)
وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (123)
(وإن إلياس لمن المرسلين) قال المفسرون هو نبي من أنبياء بني إسرائيل وقصته مشهورة مع قومه، قيل: وهو إلياس بن ياسين من سبط هرون أخي موسى، قال ابن إسحق وغيره: كان إلياس هو القيم بأمر بني إسرائيل بعد يوشع، وقال قتادة: هو إدريس، وقيل: هو ابن عم اليسع والأول أولى.
وعن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " الخضر هو إلياس " (1)
_________
(1) ضعيف الجامع 2940.(11/417)
أخرجه ابن مردويه، قرىء: إلياس بهمزة مكسورة مقطوعة ويوصلها وهما سبعيتان وتوجيههما أنه اسم أعجمي تلاعبت به العرب فقطعوا همزته تارة ووصلوها أخرى. وقرأ ابن مسعود والأعمش ويحيى بن وثاب: وإن إدريس لمن المرسلين، وقرىء: إبليس وقالوا فيه: إلياسين كإسرافيل قيل: في الإلياس والخضر: إنهما حيان وقيل: إلياس وكّل بالفيافي كما وكّل الخضر بالبحار، قال السيوطي في الاتقان قال وهب: إن إلياس عمر كما عمر الخضر وأنه يبقى إلى آخر الدنيا أهـ.
وقال الحسن البصري: قد هلكا ولا نقول كما يقول الناس إنهما حيان وهو الراجح نظراً في الأدلة والله أعلم، وعلمه أتم وأحكم.
ثم اختلف في كون الخضر نبياً مرسلاً أو نبياً فقط أو هو من الأولياء، وأما إلياس فهو نبي مرسل باتفاق، وذكر الثعلبي أنه كان إلياس على صفة موسى في الغضب والقوة، نشأ نشأة حسنة يعبد الله، جعله الله نبياً رسولاً وآتاه آيات وسخر له الجبال والأسود وغيرهما، وتوهم قوم أن اليسع هو إلياس وليس كذلك لأن الله تعالى أفرد كل واحد بالذكر وقال وهب: اليسع صاحب إلياس وكانا قبل زكريا ويحيى وعيسى وقيل: إلياس هو إدريس وهذا غير صحيح لأن إدريس جد نوح وإلياس من ذريته، وقيل: إلياس هو الخضر وقيل: لا بل الخضر هو اليسع.(11/418)
إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلَا تَتَّقُونَ (124)
(إذ) ظرف لقوله لمن المرسلين أو متعلق بمحذوف أي: اذكر يا محمد إذ (قال لقومه ألا تتقون) عذاب الله، ثم أنكر عليهم بقوله:(11/418)
أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ (125)
(أَتَدْعُونَ بَعْلًا) هو اسم لصنم كانوا يعبدونه أي: أتعبدون صنماً وتطلبون الخير منه؟ قال ثعلب: اختلف الناس في قوله سبحانه (بَعْلًا) فقالت طائفة: البعل هنا الصنم وكان الشيطان يدخل في جوفه ويتكلم بالضلال والخدمة يحفظونه ويعلمونه الناس، وكان طوله عشرين ذراعاً وله أربعة أوجه فاعتنوا به وعظموه حتى أخدموه بأربعمائة خادم، وجعلوهم أبناءه.(11/418)
وقالت طائفة: البعل هناك ملك، وقال إسحق امرأة كانوا يعبدونها، قال الواحدي والمفسرون يقولون: رباً وهو بلغة اليمن يقولون للسيد والرب البعل قال النحاس: القولان صحيحان أي أتدعون صنماً عملتموه رباً، وكان موضعه يقال له: بك فركب وصار: بعلبك وهو من بلاد الشام.
(وتذرون أحسن الخالقين) أي تتركون عبادة أحسن من يقال له: خالق بأي معنى كان كما قاله الآمدي، وانتصاب الاسم الشريف في قوله:(11/419)
اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (126)
(الله ربكم ورب آبائكم الأولين) على أنه بدل من أحسن هذا على قراءة حمزة والكسائي والربيع بن خيثم وابن أبي إسحق وغيرهم منهم قرأوا بنصب الثلاثة الأسماء، وقيل: النصب على المدح. وقيل: على عطف البيان، وحكى أبو عبيد: أن النصب على النعت. قال النحاس: وهو غلط، وإنما هو بدل ولا يجوز النعت لأنه ليس بتحلية، واختار هذه القراءة أبو عبيد وأبو حاتم وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وغيرهما بالرفع. قال أبو حاتم: بمعنى هو الله ربكم، قال النحاس وأولى ما قيل أنه مبتدأ وخبر بغير إضمار ولا حذف، وحكي عن الأخفش: أن الرفع أولى وأحسن. قال ابن الأنباري: من رفع أو نصب لم يقف على أحسن الخالقين على جهة التمام لأن الله مترجم عن أحسن الخالقين على الوجهين جميعاً، والمعنى أنه خالقكم وخالق من قبلكم فهو الذي تحق له العبادة.(11/419)
فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (127)
(فكذبوه فإنهم) بسبب تكذيبه (لمحضرون) في العذاب أو في النار، وقد تقدم أن الإحضار المطلق مخصوص. بالشر(11/419)
إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (128)
(إلا عباد الله المخلصين) أي من كان مؤمناً به من قومه، قرىء بكسر اللام وفتحها كما تفم، والمعنى: على الكسر أنهم أخلصوا لله وعلى الفتح أن الله استخلصهم من عباده، والاستثناء متصل، وفيه دلالة على أن في قومه من لم يكذبه فلذلك استثنوا،(11/419)
وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (129)
وقد تقدم تفسير قوله: (وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (129) سَلَامٌ عَلَى آل يَاسِينَ) قرأ نافع وابن عامر: بإضافة آل بمعنى آل ياسين، وقرأ الباقون(11/419)
بكسر الهمزة وسكون اللام موصولة بياسين إلا الحسن فإنه قرأ: الياسين بإدخال آلة التعريف على ياسين، قيل: المراد على هذه القراءة كلها إلياس، وعليه وقع التسليم، ولكنه اسم أعجمي، والعرب تضطرب في هذه الأسماء الأعجمية ويكثر تغييرهم لها.
قال ابن جني: العرب تتلاعب بالأسماء الأعجمية تلاعباً؛ فياسين وإلياس وإلياسين شيء واحد، قال الأخفش: العرب تسمي قوم الرجل باسم الرجل الجليل منهم، فيقولون المهالبة على أنهم سموا كل رجل منهم بالمهلب، قال: فعلى هذا أنه سمي كل رجل منهم بالياسين. قال الفراء: نذهب بالياسين إلى أن نجعله جمعاً فنجعل أصحابه داخلين معه في اسمه، قال أبو علي الفارسي: تقديره الياسيين إلا أن اليائين للنسبة حذفتا كما حذفتا في الأشعرين والأعجمين ورجح الفراء وأبو عبيدة قراءة الجمهور، قالا: لأنه لم يقل في شيء من السور على آل فلان، إنما جاء بالاسم كذلك الياسين، لأنه إنما هو بمعنى إلياس أو بمعنى إلياس وأتباعه.
وقال الكلبي: المراد بآل ياسين آل محمد صلى الله عليه وسلم، قال الواحدي: وهذا بعيد لأن ما بعده من الكلام وما قبله لا يدل عليه، قال ابن عباس: نحن آل محمد آل ياسين. وقيل: آله القرآن لأن ياسين من أسماء القرآن، وفيه بعد بعيد.
وقد تقدم تفسير قوله:(11/420)
إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (131)
(إنا كذلك نجزي المحسنين) أي كما جزيناه ببقاء سيرته الحسنة في الآخرين وتقدم أيضاًً تفسير قوله:(11/420)
إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (132)
(إنه من عبادنا المؤمنين) مستوفى.(11/420)
وَإِنَّ لُوطًا لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (133)
(وإن لوطاً لمن المرسلين) قد تقدم ذكر قصة لوط عليه السلام مستوفى(11/420)
إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (134)
(إذ نجيناه وأهله أجمعين) الظرف متعلق بمحذوف هو اذكر، ولا يصح تعلقه بالمرسلين لأنه لم يرسل وقت تنجيته.(11/420)
إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ (135) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (136) وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (137) وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (138) وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (139) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (140) فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (141) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (142) فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144)(11/421)
إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ (135)
(إلا عجوزاً في الغابرين) قد تقدم أن الغابر يكون بمعنى الماضي ويكون بمعنى الباقي. فالمعنى: إلا عجوزاً في الباقين في العذاب أو الماضين الذين قد هلكوا(11/421)
ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (136)
(ثم دمرنا الآخرين) أي أهلكناهم بالعقوبة والمعنى: أن في نجاته وأهله جميعاً إلا العجوز وتدمير الباقين من قومه الذين لم يؤمنوا به دلالة بينة على ثبوت كونه من المرسلين.(11/421)
وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (137)
(وإنكم لتمرون عليهم) خاطب بهذا العرب أو كفار مكة على الخصوص أي تمرون على منازلهم التي فيها آثار العذاب (مصبحين) أي داخلين في وقت الصباح وهو من أصبح التامة(11/421)
وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (138)
(وبالليل) المعنى تمرون على منازلهم في ذهابكم إلى الشام ورجوعكم منه نهاراً وليلاً، والوقف عليه مطلق والياء للملابسة.
(أفلا تعقلون)؟ ما تشاهدونه في ديارهم من آثار عقوبة الله النازلة بهم، فإن في ذلك عبرة للمعتبرين وموعظة للمتدبرين. وإنما لم يختم قصة لوط ويونس بالسلام كما ختم قصة من قبلهما لأن الله تعالى قد سلم على جميع المرسلين في آخر السورة فاكتفى بذلك عن ذكر كل واحد منفرداً بالسلام.(11/421)
وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (139)
(وإن يونس لمن المرسلين) يونس هو ذو النون وهو ابن متى، قال(11/421)
المفسرون: وكان يونس قد وعد قومه العذاب فلما تأخر عنهم العذاب خرج عنهم وقصد البحر وركب السفينة، فكان بذهابه إلى البحر كالفار من مولاه فوصف بالإباق وهو معنى قوله:(11/422)
إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (140)
(إذ أبق إلى الفلك المشحون) أي المملوء وأصل الإباق الهرب من السيد، لكن لما كان هربه من قومه بغير إذن ربه وصف به فهو استعارة تصريحيية أو مجاز مرسل من استعمال المقيد في المطلق وقال المبرد: تأويل ابق تباعد أي ذهب إليه. ومن ذلك قولهم عبد أبق. وقد اختلف أهل العلم: هل كانت رسالته قبل التقام الحوت إياه أو بعده؟.(11/422)
فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (141)
(فساهم فكان من المدحضين) المساهمة: أصلها المغالبة وهي الاقتراع، وهو أن يخرج السهم على من غلب، قال المبرد: أي فقارع أهل السفينة، قال: وأصله من السهام التي تجال، والمعنى: فصار من المغلوبين. قال: يقال دحضت حجته وأدحضها الله وأصله من الزلق عن مقام الظفر، قال ابن عباس اقترع فكان من المقروعين.
وعنه قال بعث الله يونس إلى أهل قريته فردوا عليه ما جاءهم به فامتنعوا منه، فلما فعلوا ذلك أوحى الله إليه أني مرسل إليهم العذاب في يوم كذا وكذا فأخرج من بين أظهرهم فأعلم قومه الذي وعد الله من عذابه إياهم فقالوا: ارمقوه فإن خرج من بين أظهركم فهو والله كائن ما وعدكم، فلما كانت الليلة التي وعدوا بالعذاب في صبيحتها أدلج فرآه القوم فحذروا فخرجوا من القرية إلى براز من أرضهم وفرقوا بين كل دابة وولدها ثم عجوا إلى الله وأنابوا واستقالوا فأقالهم الله وانتظر يونس الخبر عن القرية وأهلها حتى مر به مار، فقال: ما فعل أهل القرية؟ قال: إن نبيهم لما خرج من بين أظهرهم عرفوا أنه قد صدقهم ما وعدهم من العذاب فخرجوا من القرية إلى براز من الأرض ثم فرقوا بين كل ذات ولد وولدها، ثم عجوا إلى الله وتابوا فتقبل منهم، وأخر عنهم العذاب، فقال يونس عند ذلك: لا أرجع إليهم كذاباً(11/422)
أبداً، ومضى على وجهه. أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم.
ومعنى هذه المساهمة أن يونس لما ركب السفينة احتبست. فقال الملاحون ههنا عبد أبق من سيده وهذا رسم السفينة إذا كان فيه آبق لا تجري، فاقترعوا فوقعت القرعة على يونس. فقال: أنا الآبق وزج نفسه في الماء وقد قدمنا الكلام على قصته وما روي فيها في سورة يونس فلا نكرره.(11/423)
فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (142)
(فالتقمه الحوت) يقال: لقمت اللقمة والتقمتها إذا ابتلعتها أي فابتلعه الحوت ومعنى (وهو مليم) هو مستحق للوم، يقال رجل مليم إذا أتى بما يلام عليه. وأما الملوم فهو الذي يلام سواء أتى بما يستحق أن يلام عليه أم لا، وقيل: المليم المعيب يقال: ألام الرجل إذا عمل شيئاًً صار به معيباً، وقيل: داخل في الملامة، وقال ابن عباس: المليم المسيىء، قال سعيد بن جبير لما استهموا جاء حوت إلى السفينة فاغراً فاه ينتظر أمر ربه حتى إذا ألقى نفسه في الماء أخذه الحوت.(11/423)
فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143)
(فلولا أنه كان من المسبحين) أي الذاكرين لله أو المصلين له أو من القائلين (لا إله إلا أنت) الآية، وقيل: من العابدين، وقال ابن عباس: كل تسبيح في القرآن فهو صلاة، وقال الحسن: ما كانت له صلاة في بطن الحوت ولكنه قدم عملاً صالحاً فشكر الله تعالى له طاعته القديمة.(11/423)
لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144)
(للبث في بطنه إلى يوم يبعثون) أي لصار بطن الحوت له قبراً إلى يوم البعث وقيل للبث في بطنه حياً، واختلف المفسرون كم أقام في بطن الحوت؟ فقال السدي والكلبي ومقاتل بن سليمان: أربعين يوماً، وقال الضحاك: عشرين يوماً، وقال عطاء: سبعة أيام، وقال مقاتل بن حيان: ثلاثة أيام، وقيل: ساعة واحدة؛ وقيل: التقمه ضحى ولفظه عشية وفي هذه الآية ترغيب في ذكر الله وتنشيط للذاكرين له.(11/423)
فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (145) وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (146) وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147) فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (148) فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (149) أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ (150) أَلَا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (151) وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (152)(11/424)
فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (145)
(فنبذناه بالعراء) النبذ الطرح، والعراء قال ابن الأعرابي هو الصحراء وقال الأخفش: الفضاء وقال أبو عبيدة: الواسع من الأرض، وقال الفراء: المكان الخالي وروي عن أبي عبيدة أيضاًً أنه قال: هو وجه الأرض، وقيل: الأرض الخالية عن الشجر والنبات، وقيل: بالساحل، قاله ابن عباس؛ والمعنى أن الله طرحه من بطن الحوت في الصحراء الواسعة التي لا نبات فيها، أو أمرنا الحوت بنبذه وإنما أضاف النبذ إلى نفسه وإن كان الحوت هو النابذ لأن أعمال العباد مخلوقة لله.
(وهو) عند إلقائه (سقيم) لما ناله في بطن الحوت من الضرر، قيل: صار بدنه كبدن الطفل حين يولد، وقيل: كالفرخ الممعط أي المنتوف شعره وقيل كان قد بلي لحمه ورق عظمه ولم تبق له قوة، وقد استشكل بعض المفسرين الجمع بين ما وقع هنا من قوله (فنبذناه بالعراء) وقوله في موضع آخر (لولا أن تداركه نعمة من ربه لنبذ بالعراء وهو مذموم) فإن هذه الآية تدل على أنه لم ينبذ بالعراء، وأجاب النحاس وغيره بأن الله سبحانه أخبر ههنا أنه نبذ بالعراء وهو غير مذموم، ولولا رحمته عز وجل لنبذ بالعراء وهو مذموم.(11/424)
وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (146)
(وأنبتنا عليه شجرة) فوقه تظلل عليه، وقيل: معنى عليه عنده، وقيل:(11/424)
معنى عليه له أي مظلة له (من يقطين) هو شجرة الدباء وقال المبرد: اليقطين يقال لكل شجرة ليس لها ساق، بل يمتد على وجه الأرض نحو الدباء والبطيخ والحنظل، فإن كان لها ساق تقلها فيقال لها شجرة فقط، وهذا قول الحسن ومقاتل وغيرهما، وقال سعيد بن جبير. هو كل شيء ينبت ثم يموت من عامه قال الجوهري: اليقطين ما لا ساق له من الشجر كشجر القرع ونحوه. قال الزجاج: اشتقاق اليقطين من قطن بالمكان أي أقام به؛ فهو يفعيل. وقيل: هو اسم أعجمي.
قال المفسرون: كان يستظل بظلها من الشمس وقيض الله له أروية من الوحش تروح عديه بكرة وعشية فكان يشرب من لبنها حتى اشتد لحمه ونبت شعره ثم أرسله الله بعد ذلك، قال ابن عباس: يقطين القرع. وعليه الجمهور وفائدته أن الذباب لا يجتمع عنده. وأنه أسرع الأشجار نباتاً وامتداداً وارتفاعاً.
قال ابن جزي: وخص الله القرع لأنه يجمع برد الظل، ولين الملمس، وكبر الورق، وأن الذباب لا يقربه فإن جسد يونس حين ألقي لم يكن يتحمل الذباب، وقيل: اليقطين شجرة التين، وقيل: الموز، وقال سعيد بن جبير: اليقطين كل شيء يذهب على وجه الأرض، وعنه قال: إنما كانت رسالة يونس بعد ما نبذه الحوت وهو معنى قوله:(11/425)
وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147)
(وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون) هم قومه الذين هرب منهم إلى البحر وجرى له ما جرى بعد هربه، كما قصه الله علينا في هذه السورة: وهم أهل نينوى.
قال قتادة: أرسل إلى أهل نينوى من أرض الموصل قبل أن يصيبه ما أصابه و (أو) في قوله أو يزيدون، قيل بمعنى الواو، والمعنى ويزيدون، وقال الفراء: أو ههنا بمعنى بل وهو قول مقاتل والكلبي وأبي عبيدة، وقال المبرد والزجاج والأخفش: أو ههنا على أصله والمعنى أو يزيدون في تقديركم إذا رآهم الرائي، قال هؤلاء: مائة ألف أو يزيدون، فالشك إنما دخك على حكاية قول المخلوقين وقرأ جعفر بن محمد: ويزيدون بدون ألف الشك.(11/425)
قال السمين الشك بالنسبة إلى المخاطبين، والإبهام بالنسبة إلى أن الله أبهم أمرهم. والإباحة بالنسبة إلى الناظر، وكذلك التخيير أي هو مخير بين أن يحزرهم كذا أو كذا.
وقد وقع الخلاف بين المفسرين هل هذا الإرسال هو الذي كان قبل التقام الحوت له وتكون الواو وأرسلناه لمجرد الجمع بين ما وقع له مع الحوت وبين إرساله إلى قومه من غير اعتبار تقديم ما تقدم في السياق، وتأخير ما تأخر، أو هو إرسال له بعد ما وقع له من الحوت ما وقع، على قولين وقد قدمنا الإشارة إلى الاختلاف بين أهل العلم: هل كان قد أرسل قبل أن يهرب من قومه إلى البحر؟ أو لم يرسل إلا بعد ذلك؟.
والراجح أنه كان رسولاً قبل أن يذهب إلى البحر كما يدل عليه ما قدمنا في سورة يونس، وبقي مستمراً على الرسالة.
وهذا الإرسال المذكور هنا هو بعد تقدم نبوته ورسالته. قال سعيد ابن جبير: إنما كانت رسالة يونس بعد ما نبذه الحوت، ثم تلا: (فنبذناه بالعراء) إلى قوله (إلى مائة ألف أو يزيدون)، وقد تقدم ما يدل على أن رسالته كانت من قبل ذلك، وليس في الآية ما يدل على ما ذكره كما قدمنا.
وقيل: يجوز أن يكون إرساله إلى قوم آخرين غير القوم الأولين وفيه بعد وأخرج الترمذي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي بن كعب قال: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن قول الله هذا قال: " يزيدون عشرين ألفاً " قال الترمذي غريب.
وكذا روي عن الكلبي ومقاتل وعن ابن عباس قال: يزيدون ثلاثين ألفاً، وروي عنه أنهم يزيدون بضعة وثلاثين ألفاً، وكذا روي عن الحسن وروي عن ابن عباس: أنهم يزيدون بضعة وأربعين ألفاً وقال سعيد بن جبير: سبعين ألفاً ولا يتعلق بالخلاف في هذا كثير فائدة.(11/426)
فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (148)
(فآمنوا فمتعناهم إلى حين) أي وقع منهم الإيمان بعدما شاهدوا أعلام نبوته فمتعهم الله في الدنيا إلى حين انقضاء آجالهم، ومنتهى أعمارهم. ولما كانت قريش وقبائل من العرب يزعمون أن الملائكة بنات الله أمر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم باستفتائهم على طريقة التقريع والتوبيخ فقال:(11/427)
فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (149)
(فاستفتهم) أي استخبرهم يا محمد.
(ألربك البنات ولهم البنون)؟ أي كيف يجعلون لله على تقدير صدق ما زعموه من الكذب أدنى الجنسين؟ وأوضعهما وهو الإناث ولهم أعلاهما وأرفعهما وهم الذكور، وهل هذا إلا حيف في القسمة لضعف عقولهم وسوء إدراكهم؟ ومثله قوله: (أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى (21) تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى) ثم زاد في توبيخهم وتقريعهم فقال:(11/427)
أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ (150)
(أم خلقنا الملائكة إناثاً وهم شاهدون) فأضرب عن الكلام الأول إلى ما هو أشد منه في التبكيت والتهكم بهم، أي كيف جعلوهم إناثاً وهم لم يحضروا عند خلقنا لهم، وهذا كقوله: (وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ)؟ فبين سبحانه أن مثل ذلك لا يعلم إلا بالمشاهدة، ولم يشهدوا ولا دل دليل على قولهم من السمع، ولا هو مما يدرك بالعقل حتى ينسبوا إدراكه إلى عقولهم(11/427)
أَلَا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (151)
ثم أخبر سبحانه عن كذبهم فقال:
(أَلَا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (151) وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ) استئناف من جهته تعالى غير داخل تحت الأمر بالاستفتاء مسوق لإبطال مذهبهم الفاسد ببيان أنه ليس مبناه إلا الإفك الصريح، والافتراء القبيح من دون دليل ولا شبهة دليل؛ فإنه لم يلد ولم يولد، قرأ الجمهور: ولد الله فعلاً ماضياً مسنداً إلى الله وقرىء: بإضافة ولد إلى الله على أنه خبر مبتدأ محذوف؛ أي يقولون: الملائكة ولد الله، والولد بمعنى مفعول يستوي فيه المفرد والمثنى والمجموع والمذكر والمؤنث، ثم كرر سبحانه تقريعهم وتوبيخهم فقال:(11/427)
أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ (153) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (154) أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (155) أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ (156) فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (157) وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (158) سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (159) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (160) فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ (161) مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ (162) إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ (163) وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ (164) وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (165)(11/428)
أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ (153)
(أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ)؟ قرأ الجمهور: بفتح الهمزة على أنها للاستفهام الإنكاري وقد حذف معها همزة الوصل استغناء بها عنها، وقرىء بهمزة وصل تثبت ابتداء وتسقط درجاً، ويكون الاستفهام منوباً قاله الفراء وحذف حرفه للعلم به من المقام، أو على أن اصطفى وما بعده بدل من الجملة المحكية بالقول، وعلى تقدير عدم الاستفهام والبدل فقد حكى جماعة من المحققين منهم الفراء أن التوبيخ يكون باستفهام وبغير استفهام كما في قوله: (أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا) وقيل: هو على إضمار القول والاصطفاء أخذ صفوة الشيء.(11/428)
مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (154)
(ما لكم كيف تحكمون)؟ جملتان استفهاميتان ليس لإحداهما تعلق بالأخرى من حيث الإعراب استفهمهم أولاً عما استقر لهم، وثبت استفهام إنكار، وثانياً استفهام تعجب من هذا الحكم الذي حكموا به، والمعنى أي شيء ثبت لكم كيف تحكمون لله بالبنات؟ وهو القسم الذي تكرهونه ولكم بالبنين وهو القسم الذي تحبونه(11/428)
أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (155)
(أفلا تذكرون)؟ أي تتذكرون والمعنى ألا تعتبرون وتتفكرون فتتذكرون بطلان قولكم.(11/428)
أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ (156)
(أم لكم سلطان مبين) أي حجة واضحة ظاهرة على هذا الذي تقولونه ضرورة أن الحكم بذلك لا بد له من مسند حسي أو عقلي، وحيث انتفى كلاهما فلا بد من مستند نقلي، وهو إضراب عن توبيخ إلى توبيخ،(11/428)
وانتقال من تقريع إلى تقريع(11/429)
فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (157)
(فأتوا بكتابكم) أي فأتوا بحجتكم الواضحة على هذا أو فأتوا بالكتاب الذي ينطق لكم بالحجة ويشتمل عليها (إن كنتم صادقين) فيما تقولونه.(11/429)
وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (158)
(وجعلوا بينه وبين الجنة نسباً) التفات للغيبة للإيذان بانقاطعهم عن درجة الخطاب، واقتضاء حالهم أن يعرض عنهم، وتحكى جناياتهم للآخرين قال أكثر المفسرين: إن المراد بالجنة هنا الملائكة، قيل لهم: جنة لأنهم لا يرون، وقال مجاهد: هم بطن من بطون الملائكة يقال هم: الجنة، وقال أبو مالك: إنما قيل لهم الجنة لأنهم خزان على الجنان، والنسب الصهر قال قتادة والكلبي: قالوا لعنهم الله إن الله صاهر الجن. فكانت الملائكة من أولادهم قالا: والقائل بهذه المقالة اليهود، وقال مجاهد والسدي ومقاتل: إن القائل بذلك كنانة وخزاعة، قالوا: إن الله خطب إلى سادات الجن فزوجوه من سروات بناتهم فالملائكة بنات الله من سروات بنات الجن، وقال الحسن: أشركوا الشيطان في عبادة الله فهو النسب الذي جعلوه. وقال ابن عباس: زعم أعداء الله أنه تبارك وتعالى هو وإبليس أخوان، ثم رد الله سبحانه عليهم بقوله:
(ولقد علمت الجنة إنهم لمحضرون) أي علموا أن هؤلاء الكفار الذين قالوا هذا القول يحضرون النار. ويعذبون فيها لكذبهم في قولهم ذلك، والمراد به المبالغة في التكذيب ببيان أن الذين ادعى هؤلاء لهم تلك النسبة، ويعلمون أنهم أعلم منهم بحقيقة الحال يكذبونهم في ذلك، ويحكمون بأنهم معذبون لأجله حكماً مؤبداً وقيل: علمت الجنة أنهم أنفسهم يحضرون للحساب والأول أولى لأن الإحضار إذا أطلق فالمراد به العذاب، وقيل: المعنى ولقد علمت الجنة إنهم لمحضرون إلى الجنة، ثم نزه سبحانه وتعالى نفسه الكريمة فقال:(11/429)
سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (159)
(سبحان الله عما يصفون) أو هو حكاية لتنزيه الملك لله عز وجل عما وصفه به المشركون ذكره العمادي، وأشار له أبو السعود. والاستثناء في قوله(11/429)
إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (160)
(إلا عباد الله المخلصين) منقطع، والتقدير: لكن عباد الله المخلصين بريئون(11/429)
عن أن يصفوا الله بشيء من ذلك، وقد قرىء: بفتح اللام وكسرها ومعناهما ما بيناه قريباً، وقيل هو استثناء من المحضرين أي إنهم يحضرون النار إلا من أخلص فيكون متصلاً لا منقطعاً، قاله أبو البقاء. وعلى هذا تكون جملة التسبيح معترضة، ثم خاطب الكفار على العموم أو كفار مكة على الخصوص فقال:(11/430)
فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ (161)
(فإنكم وما تعبدون ما أنتم عليه بفاتنين) أي فإنكم وآلهتكم التي تعبدون من دون الله لستم بفاتنين على الله بإفساد عباده، وإضلالهم، وعلى متعلقة بفاتنين والواو في وما تعبدون إما للعطف على اسم إن أو هو بمعنى مع وما موصولة أو مصدرية أي فإنكم والذي تعبدون أو وعبادتكم ومعنى فاتنين مضلين، يقال: فتنت الرجل وأفتنته ويقال فتنه على الشيء وبالشيء كما يقال: أضله على الشيء، وأضله به، قال الفراء: أهل الحجاز يقولون فتنته، وأهل نجد يقولون: أفتنته، ويقال: فتن فلان على فلان امرأته، أي أفسدها عليه، فالفتنة هنا بمعنى الإضلال والإفساد، قال مقاتل: يقول ما أنتم بمضلين أحداً بآلهتكم إلا من قدر الله له أن يصلى الجحيم.
و (ما) في(11/430)
مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ (162)
(ما أنتم) نافية. (وأنتم) خطاب لهم ولمن يعبدونه على التغليب، قال الزجاج: أهل التفسير مجمعون فيما علمت أن المعنى ما أنتم بمضلين أحداً إلا من قدر الله عز وجل عليه أن يضل، والجملة تعليل وتحقيق لبراءة المخلصين ببيان عجزهم عن إغوائهم وإضلالهم، والالتفات إلى الخطاب لإظهار كمال الاعتناء بتحقيق مضمون الكلام.(11/430)
إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ (163)
(إلا من هو صال الجحيم) أي إلا من سبق له في علم الله الشقاوة وأنه سيدخل النار، والاستثناء مفرغ قاله السمين. وهذا من حيث اللفظ، وأما من حيث المعنى فهو استثناء من المفعول المقدر، وقال ابن عباس: في الآية إنكم يا معشر المشركين وما تعبدون يعني الآلهة ما أنتم عليه بمضلين إلا من سبق في علمه أنه سيصلى الجحيم، وعنه قال: يقول إنكم لا تضلون أنتم ولا أضل منكم إلا من قضيت عليه أنه صال الحجيم وعنه قال: لا تفتنون إلا من(11/430)
هو صال الجحيم، قرأ الجمهور: صال بكسر اللام لأنه منقوص مضاف حذفت الياء لالتقاء الساكنين وحمل على لفظ من فأفرد كما أفرد هو.
وقرأ الحسن وابن أبي عبلة: بضم اللام مع واو بعدها، وروي عنهما أنهما قرآ: بضم اللام بدون الواو، فأما مع الواو فعلى أنه جمع سلامة بالواو حملاً على معنى من، وحذفت نون الجمع للإضافة، وأما بدون الواو فيحتمل أن يكون جمعاً، وإنما حذفت الواو خطأ كما حذفت لفظاً، ويحتمل أن يكون مفرداً وحقه على هذا كسر اللام.
قال النحاس وجماعة أهل التفسير يقولون: إنه لحن لأنه لا يجوز هذا قاضي المدينة، والمعنى أن الكفار وما يعبدونه لا يقدرون على إضلال أحد من عباد الله إلا من هو من أهل النار وهم المصرون وإنما يصر على الكفر من سبق القضاء عليه بالشقاوة، وأنه ممن يصلى النار أي يدخلها. ثم قال الملائكة مخبرين للنبي صلى الله عليه وسلم كما حكاه الله سبحانه عنهم(11/431)
وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ (164)
(وما منا) في الكلام حذف والتقدير وما منا أحد أو وما منا ملك.
(إلا له مقام معلوم) في عبادة الله، وقيل: التقدير وما منا إلا من له مقام معلوم، رجح البصريون التقدير الأول، ورجح الكوفيون الثاني. قال الزجاح هذا قول الملائكة وفيه مضمر، والمعنى وما منا ملك إلا له مقام معلوم يعبد ربه فيه لا يتجاوزه، وقيل: مقام معلوم في القربة والمشاهدة، وقيل: يعبد الله على مقامات مختلفة كالخوف والرجاء والمحبة والرضاء، والأول أولى، وقيل: هو من كلام النبي والمؤمنين، أي وما منا إلا له مقام معلوم في الجنة أو بين يدي الله في القيامة، وفيه بعد ثم قالوا:(11/431)
وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (165)
(وإنا لنحن الصافون) أي في مواقف الطاعة أو حول العرش، داعين للمؤمنين، قال قتادة: هم الملائكة صفوا أقدامهم، وقال الكلبي: صفوف الملائكة في السماء كصفوف أهل الدنيا في الأرض، أو نحن الصافون له في الصلاة، وهذا على القول الثاني أنهم المؤمنون، والأول أظهر.(11/431)
وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (166) وَإِنْ كَانُوا لَيَقُولُونَ (167) لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْرًا مِنَ الْأَوَّلِينَ (168) لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (169) فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (170)(11/432)
وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (166)
(وإنا لنحن المسبحون) أي المنزهون لله المقدسون له عما أضافه إليه المشركون، وقيل: المصلون، وقيل: المراد بقولهم (المسبحون) مجموع التسبيح باللسان وبالصلاة، والمقصود: أن هذه الصفات هي صفات الملائكة، وليسوا كما وصفهم به الكفار من أنهم بنات الله.
وعن ابن عباس قال: هذه الملائكة وعن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما في السماء موضع قدم إلا عليه ملك ساجد أو قائم " وذلك قول الملائكة (وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ (164) وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ) أخرجه ابن جرير وأبو الشيخ وابن مردويه وغيرهم.
وعن العلاء ابن سعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوماً لأصحابه: " أطت السماء وحق لها أن تئط، ليس فيها موضع قدم إلا عليه ملك راكع أو ساجد، ثم قرأ: وإنا لنحن الصافون، وإنا لنحن المسبحون " أخرجه محمد بن نصر وابن عساكر.
وعن ابن مسعود قال: " إن من السموات لسماء ما فيها موضع شبر إلا وعليه جبهة ملك أو قدماه قائماً أو ساجداً، ثم قرأ: وإنا لنحن الصافون وإنا لنحن المسبحون.
وأخرج الترمذي وحسنه وابن جرير وابن مردويه عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إني أرى ما لا ترون، وأسمع ما لا تسمعون، إن السماء أطت وحق لها أن تئط ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملك واضع جبهته ساجداً لله "، (1) قيل: الأطيط أصوات الأقتاب، وقيل:
_________
(1) روى مسلم في صحيحه 1/ 371 عن حذيفة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فضلنا على الناس بثلاث: جعلت صفوفنا بصفوف الملائكة ....(11/432)
أصوات الإبل وحنينها.
وقد ثبت في الصحيح وغيره: " أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه بأن يصفوا كما تصف الملائكة عند ربهم، فقالوا: وكيف تصف الملائكة عند ربهم؟ قال: يقيمون الصفوف المقدمة ويتراصون في الصف ". قال القرطبي: قال مقاتل: هذه الآيات الثلاث نزلت ورسول الله صلى الله عليه وسلم عند سدرة المنتهى، فتأخر جبريل فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " أهنا تفارقني؟ فقال جبريل: ما أستطيع أن أتقدم عن مكاني هذا.
وأنزل الله حكاية عن قول الملائكة: (وما منا إلا له مقام معلوم) إلى آخرها ".(11/433)
وَإِنْ كَانُوا لَيَقُولُونَ (167)
(وإن كانوا ليقولون) إن مخففة من الثقيلة، وفيها ضمير شأن محذوف، واللام هي الفارقة بينها وبين النافية، أي وإن الشأن كان كفار العرب ليقولون الخ، وهذا رجوع إلى الإخبار عن المشركين. أي كانوا قبل المبعث المحمدي إذا عيروا بالجهل قالوا:(11/433)
لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْرًا مِنَ الْأَوَّلِينَ (168)
(لو أن عندنا ذكراً من الأولين) أي كتاباً من كتبهم كالتوراة والإنجيل(11/433)
لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (169)
(لكنا عباد الله المخلصين) أي لأخلصنا العبادة له، ولم نكفر به كما كفروا فجاءهم الذكر الذي هو سيد الأذكار، والكتاب الذي هو معجز من بين الكتب.(11/433)
فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (170)
(فكفروا به) قال ابن عباس: لما جاء المشركين من أهل مكة ذكر الأولين، وعلم الآخرين؛ كفروا بالكتاب والفاء هي الفصيحة الدالة على محذوف مقدر في الكلام، قال الفراء: تقديره فجاءهم محمد بالذكر، فكفروا به، وهذا على طريق التعجب منهم، ونظير ذلك قوله: في سورة فاطر: (وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا) والمراد بالنذير الرسول، وقد قيل هنا: إن الذكر هو الرسول (فسوف يعلمون) عاقبة كفرهم ومغبة تكذيبهم، وما يحل بهم من الانتقام، وفي هذا تهديد لهم شديد.(11/433)
وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ (173) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (174) وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (175) أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ (176) فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ (177) وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (178) وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (179) سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (182)(11/434)
وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171)
(ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين) مستأنفة مقررة للوعيد وتصديرها بالقسم لغاية الاعتناء بتحقيق مضمونها أي وبالله والمراد بالكلمة ما وعدهم الله به من النصر والغلبة والظفر على الكفار. قال مقاتل: عنى بالكلمة قوله سبحانه: (كتب الله لأغلبن أنا ورسلي) وقال الفراء: سبقت كلمتنا بالسعادة لهم، والأولى تفسير هذه الكلمة بما هو مذكور هنا فإنه قال:(11/434)
إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172)
(إنهم لهم المنصورون) فهذه هي الكلمة المذكورة سابقاً وهذا تفسير لها وإنما سماها كلمة وهي كلمات لأنها لما انتظمت في معنى واحد كانت في حكم كلمة مفردة فهو مجاز من إطلاق الجزء على الكل.(11/434)
وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ (173)
(وإن جندنا) المراد بجند الله حزبه وهم الرسل وأتباعهم، والجند الأنصار والأعوان والجمع أجناد وجنود، والواحد جندي، فالياء للوحدة مثل روم ورومي وجند بفتحتين بلد باليمن. قال الشيباني: جاء هنا على الجمع يعني قوله:
(لهم الغالبون) من أجل أنه رأس آية، وهذا الوعد لهم بالنصر والغلبة لا ينافيه انهزامهم في بعض المواطن، وغلبة الكفار لهم، فإن الغالب في كل موطن هو انتصارهم على الأعداء وغلبتهم لهم فخرج الكلام مخرج الغالب على أن العاقبة المحمودة لهم على كل حال، وفي كل موطن كما قال سبحانه: (والعاقبة للمتقين) والمراد الوعد بعلوهم على عدوهم، في مقادم(11/434)
الحجاج وملاحم القتال في الدنيا. وعلوهم عليهم في الآخرة، وعن ابن عباس: إن لم ينصروا في الدنيا نصروا في العقبى، والحاصل أن قاعدة أمرهم وأساسه الظفر والنصرة، وإن وقع في تضاعيف ذلك شوب من الابتلاء والمحنة فالعبرة للغالب، ويعطي الأكثر حكم الكل ويلحق القليل بالعدم أو الغلبة باعتبار عاقبة الحال، وملاحظة المآل، ثم أمر سبحانه رسوله بالإعراض عنهم والإغماض عما يصدر منهم من الجهالات والضلالات فقال:(11/435)
فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (174)
(فتول عنهم حتى حين) أي أعرض عنهم إلى مدة معلومة عند الله سبحانه وهي مدة الكف عن القتال، قال السدي ومجاهد: حتى نأمرك بالقتال وقال قتادة: إلى الموت. وقيل: إلى يوم بدر، وقيل: إلى يوم فتح مكة. قيل هذه الآية منسوخة بآية السيف والأول أولى؛ وكان صلى الله عليه وسلم أول الأمر مأموراً بالتبليغ والإنذار والصبر على أذى الكفار تأليفاً لهم. ثم أمر بالجهاد في السنة الثانية من الهجرة. قال ابن حجر رحمه الله: وغزواته صلى الله عليه وسلم سبع وعشرون غزوة، قاتل في ثمان منها بنفسه: بدر وأحد والمصطلق والخندق وقريظة؛ وخيبر، وحنين، والطائف أهـ.(11/435)
وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (175)
(وأبصرهم) إذا نزل بهم العذاب بالقتل والأسر؛ وما هيأنا لهم (فسوف يبصرون) ذلك عن قريب حين لا ينفعهم الإبصار؛ وسوف هنا للوعيد لا للتبعيد؛ إذ ليس المقام مقامه، كما تقول: سوف أنتقم منك؛ وأنت متهيء للانتقام؛ قاله الكرخي ولذا عبر بالإبصار عن قرب الأمر كأنه حاضر قدامه. مشاهد له. خصوصاً إذا قيل: إن الأمر للفور، وقيل: يبصرون العذاب يوم القيامة؛ ثم هددهم سبحانه بقوله: ((11/435)
أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ (176)
أفبعذابنا يستعجلون)؟ كانوا يقولون من فرط تكذيبهم: متى هذا العذاب؟.(11/435)
فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ (177)
(فإذا نزل بساحتهم) إذا نزل عذاب الله لهم بفنائهم والساحة في اللغة فناء الدار الواسع الخالي من الأبنية وجمعها سوح، قال الفراء: نزل بهم، نزل بساحتهم سواء؛ قال الزجاج: وكان عذاب هؤلاء بالقتل، قيل: المراد به(11/435)
نزول رسول الله صلى الله عليه وسلم بساحتهم يوم فتح مكة شبه العذاب بجيش هجم عليهم؛ فأناخ بفنائهم بغتة وهم في ديارهم. ففي الضمير المستتر في نزل استعارة بالكناية والنزول تخييل. قرأ الجمهور: نزل مبنياً للفاعل.
وقرىء: مبنياً للمفعول والجار والمجرور قائم مقام الفاعل.
(فساء صباح المنذرين) أي بئس صباح الذين أنذروا بالعذاب، والمخصوص بالذم محذوف، أي صباحهم وخص الصباح بالذكر لأن العذاب كان يأتيهم فيه وإن وقع في وقت آخر، وفي التعبير بالمنذرين إقامة الظاهر مقام المضمر واللام للجنس لا للعهد فإن أفعال الذم والمدح تقتضي الشيوع للإبهام والتفصيل فلا يجوز أن تقول: بئس الرجل هذا ونعم الرجل هذا إذا أردت رجلاً بعينه.
أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أنس قال: " صبح رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر وقد خرجوا بالمساحي فلما نظروا إليه قالوا: محمد والخميس، فقال: الله أكبر خربت خيبر إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين " الحديث.(11/436)
وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (178)
ثم كرر سبحانه ما سبق تأكيداً للوعد بالعذاب وتسلية على تسلية: فقال:
(وتول عنهم حتى حين وأبصر فسوف يبصرون) حذف مفعول أبصر هنا وذكره أولاً إما لدلالة الأول عليه. فتركه هنا اختصاراً أو قصداً إلى التعميم للإيذان بأن ما يبصره من أنواع عذابهم لا يحيط به الوصف، وقيل: هذه الجملة المراد بها أحوال القيامة والجملة الأولى: المراد بها عذابهم في الدنيا وعلى هذا فلا يكون من باب التأكيد، بل من باب التأسيس، ثم نزه سبحانه نفسه عن قبيح ما يصدر منهم فقال:(11/436)
سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180)
(سبحان ربك رب العزة عما يصفون) العزة الغلبة والقوة والمراد تنزيهه عن كل ما يصفونه، مما لا يليق بجنابه الشريف ورب العزة بدل من(11/436)
ربك، وأضيف الرب إلى العزة لاختصاصه بها كأنه قيل: ذي العزة كما تقول صاحب صدق لاختصاصه به، وقيل: المراد العزة المخلوقة الكائنة بين خلقه ويترتب على القولين مسألة اليمين، فعلى الأول ينعقد بها اليمين لأنها صفة من صفاته بخلاف الثاني، فإنه لا ينعقد بها اليمين قاله السمين، ثم ذكر ما يدل على تشريف رسله وتكريمهم فقال:(11/437)
وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181)
(وسلام على المرسلين) أي الذين أرسلهم إلى عباده، وبلغوا رسالاته وهو من السلام الذي هو التحية، وقيل معناه: أمن لهم وسلامة من المكاره.
أخرج ابن سعد وابن مردويه عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إذا سلمتم على المرسلين فسلموا عليّ فإنما أنا بشر من المرسلين ".
وعن أنس مرفوعاً نحوه بأطول منه عند ابن مردويه وعمم الرسل بالسلام بعد ما خص البعض في السورة لأن في تخصيص كل بالذكر تطويلاً.(11/437)
وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (182)
(والحمد لله رب العالمين) إرشاد لعباده إلى حمده على إرسال رسله إليهم مبشرين ومنذرين، وتعليم لهم. كيف يصنعون عند إنعامه عليهم وما يثنون به عليه، وقيل: إنه الحمد على هلاك المشركين، ونصر الرسل عليهم، والأولى: أنه حمد لله سبحانه على كل ما أنعم به على خلقه أجمعين، كما يفيده حذف المحمود عليه، فإن حذفه مشعر بالتعميم كما تقرر في علم المعاني، والحمد هو الثناء الجميل لقصد التعظيم.
عن أبي سعيد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا أراد أن يسلم من صلاته قال: " سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين " أخرجه سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وأبو يعلى وابن مردويه.
وأخرج الطبراني عن ابن عباس قال: كنا نعرف انصراف رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصلاة بقوله: سبحان ربك إلى آخرها.(11/437)
وأخرج الخطيب نحوه من حديث أبي سعيد، وأخرج الطبراني عن زيد ابن أرقم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من قال: " دبر كل صلاة سبحان ربك الآيات ثلاث مرات فقد اكتال بالمكيال الأوفى من الأجر "، وأخرج حميد بن زنجويه في ترغيبه عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه نحوه.
وعن علي رضي الله تعالى عنه: " من أحب أن يكتال بالمكيال الأوفى من الأجر يوم القيامة فليكن آخر كلامه إذا قام من مجلسه سبحان ربك إلى آخرها " ذكره النسفي والخازن، قال النسفي اشتملت السورة على ذكر ما قاله المشركون في الله ونسبوه إليه مما هو منزه عنه وما عاناه المرسلون من جهتهم وما خولوه في العاقبة من النصرة عليهم، فختمها بجوامع ذلك من تنزيه ذاته عما وصفه به المشركون والتسليم على المرسلين والحمد لله رب العالمين على ما قيض لهم من حسن العواقب.(11/438)
خاتمة الجزء الحادي عشر
تم بعون الله الجزء الحادي عشر من كتاب فتح البيان في مقاصد القرآن ويليه الجزء الثاني عشر وأوله تفسير سورة ص.(11/439)
فتحُ البيان في مقاصد القرآن
تفسِير سَلفي أثري خالٍ منَ الإِسرَائيليّاتِ والجَدليَّاتِ المذهبية والكلامية يغني عَن جميع التفاسِير وَلا تغني جميعُهَا عَنه
تأليف: السيد الإمام العلامة الملك المؤيد من الله الباري آبي الطيب صديق بن حسن بن علي الحسين القنوجي النجاري 1248 - 1307 هـ
عني بطبعهِ وقدّم له وراجعه: خادم العلم عَبد الله بن إبراهيم الأنصَاري
الجزء الثاني عشر
المَكتبة العصريَّة
صَيدَا - بَيروت(12/1)
جَمِيع الحُقُوق محفُوظَة
1412 هـ - 1992 م
شركة أبناء شريف الأنصاري للطباعة والنشر والتوزيع
المَكتبة العصريَّة للطبَاعة والنّشْر
الدار النموذجية ــ المكتبة العصرية
بَيروت - صَ. ب 8355 - تلكس LE 20437 SCS
صَيدَا - صَ. ب 221 - تلكس LE 29198(12/2)
فتح البيان في مقاصد القرآن(12/3)
الجزء الثاني عشر
بسم الله الرحمن الرحيم
ويشتمل على:
- سورة ص
- سورة الزمر
- سورة غافر
- سورة فصلت
- سورة الشورى
- سورة الزخرف
- سورة الدخان
- سورة الجاثية(12/5)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
سورة ص
وهي مكيّة، قال القرطبي: في قول الجميع، قال ابن عباس: نزلت بمكة وعنه قال: لما مرض أبو طالب دخل عليه رهط من قريش فيهم أبو جهل فقال: " إن ابن أخيك يشتم آلهتنا ويفعل ويفعل ويقول ويقول: فلو بعثت إليه فنهيته فبعث إليه، فجاء النبي - صلى الله عليه وسلم - فدخل البيت، وبينهم وبين أبي طالب قدر مجلس رجل، فخشي أبو جهل أن يجلس إلى أبي طالب ويكون أرقى عليه فوثب فجلس في ذلك المجلس. فلم يجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مجلساً قرب عمه فجلس عند الباب فقال له أبو طالب: " أي ابن أخي ما بال قومك يشكونك يزعمون أنك تشتم آلهتهم وتقول وتقول " قال: وأكثروا عليه من القول وتكلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: " يا عم إني أريدهم على كلمة واحدة يقولونها تدين لهم بها العرب وتؤدي إليهم بها العجم الجزية "، ففزعوا لكلمته ولقوله، فقال القوم: " كلمة واحدة نعم وأبيك عشراً " قالوا " فما هي؟ قال: " لا إله إلا الله " فقاموا فزعين ينفضون ثيابهم وهو يقولون " (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ) (1) فنزل فيهم (ص * والقرآن ذي الذكر) إلى قوله (بل لما يذوقوا عذاب) " أخرجه الترمذي وصححه والنسائي وأحمد وابن أبي شيبة وعبد بن حميد والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الدلائل وابن جرير وابن المنذر.
_________
(1) رواه أحمد والترمذي 2/ 155 عن ابن عباس رضي الله عنهما وقال الترمذي هذا حديث حسن صحيح ورواه الحاكم 2/ 432. الطبري 23/ 125 والواحدي 209 والسيوطي 5/ 295.(12/7)
بسم الله الرحمن الرحيم
ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (1) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ (2) كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ (3) وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (4) أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ (5)(12/9)
ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (1)
(ص) قرأ الجمهور صاد بسكون الدال كسائر حروف التهجي في أوائل السور فإنها ساكنة الأواخر على الوقف، وقرىء بكسرها من غير تنوين لالتقاء الساكنين، وهذا أقرب وقيل وجه الكسر أنه من صادى يصادي إذا عارض، والمعنى صاد القرآن بعملك أي عارضه وقابله، فاعمل به وهذا حكاه النحاس عن الحسن البصري، وقال إنه فسر قراءته هذه بهذا، وعنه أن المعنى اتله وتعرض لقراءته، وقرىء صاد بفتح الدال والفتح لالتقاء الساكنين وقيل نصب على الإغراء وقيل معناه صاد محمد صلى الله عليه وسلم قلوب الخلق واستمالها حتى آمنوا به، ورويت هذه القراءة عن أبي عمرو وروي عن أبي إسحق أيضاًً أنه قرىء، صاد بالكسر والتنوين تشبيهاً لهذا الحرف بما هو غير متمكن من الأصوات وقرىء صاد بالضم من غير تنوين على البناء نحو منذ وحيث، كما قرىء به في ق ون.
وقد بسط السمين الكلام على توجيهه الكل وقال الحفناوي يجوز السكون على الحكاية والفتح لمنع الصرف للعلمية والتأنيث باعتبار أن هذا الاسم علم على السورة، والجر مع التنوين نظراً إلى كون السورة قرآنا ويقال لها سورة داود وقد اختلف في معنى ص فقال الضحاك معناه صدق الله وقال عطاء صدق محمد صلى الله عليه وسلم وقال سعيد بن جبير هو بحر يحيي الله به الموتى بين النفختين وقال محمد بن كعب هو مفتاح اسم الله وقال قتادة هو اسم من أسماء الله وعنه هو اسم من أسماء الرحمن وقال محمد هو فاتحة السورة(12/9)
وقال ابن عباس ص محمد صلى الله عليه وسلم وقيل هو مما استأثر الله بعلمه وهو أعلم بمراده به وهذا هو الحق كما قدمنا في فاتحة سورة البقرة قيل وهو اسم للحروف مسروداً على نمط التعديد أو اسم للسورة أو خبر مبتدأ محذوف أو منصوب بإضمار أذكر أو إقرأ.
(والقرآن) هي واو القسم، والإقسام بالقرآن فيه تنبيه على شرف قدره وعلو محله، ومعنى (ذي الذكر) أنه مشتمل على الذكر الذي فيه بيان كل شي، وقال مقاتل؛ معنى ذي الذكر ذي البيان، وقال الضحاك وابن عباس ذي الشرف والعظمة، كما في قوله (لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ) أي شرفكم أو الشهرة، وقيل ذي الموعظة، وقيل فيه ذكر ما يحتاج إليه في أمر الدين، وقيل فيه ذكر أسماء الله تعالى وتمجيده، وقيل فيه ذكر العقائد والشرائع والمواعيد، وجواب القسم قوله (إن ذلك لحق) قاله الزجاج والكسائي والكوفيون. وقال الفراء لا نجده مستقيماً لتأخره جداً عن قوله والقرآن. ورجح هو وثعلب أن الجواب قوله (كم أهلكنا) وقال الأخفش الجواب هو (إن كل إلا كذَّب الرسل) وقيل هو صاد لأن معناه حق فهو جواب لقوله والقرآن كما تقول حقاً والله وجب والله ذكره ابن الأنباري وروي أيضاًً عن ثعلب والفراء، وهو مبني على أن جواب القسم يجوز تقدمه وهو ضعيف، وقيل الجواب محذوف والتقدير لتبعثن ونحو ذلك، وقال الحوفي تقديره لقد جاءكم الحق ونحوه، وقال الزمخشري إنه لمعجز والمحلي (إنك لمن المرسلين) (1).
وقال ابن عطية تقديره ما الأمر كما يزعم الكفار من تعدد الآلهة، والقول بالحذف أولى، وقيل إن قوله ص مقسم به وعلى هذا القول تكون الواو في والقرآن للعطف عليه، ولما كان الإقسام بالقرآن دالاً على صدقه،
_________
(1) وقد رجح الطبري في تفسيره: قول قتادة وجماعة من المفسرين: إن الجواب محذوف تقديره أو القرآن ذي الذكر لا كما يقول الكفار - والله أعلم.(12/10)
وأنه حق وأنه ليس بمحل للريب قال سبحانه(12/11)
بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ (2)
(بل الذين كفروا في عزة وشقاق) فأضرب عن ذلك وكأنه قال لا ريب فيه قطعاً، ولم يكن عدم قبول المشركين له لريب فيه، بل هم في عزة عن قبول الحق أي تكبر وتجبر وشقاق، أي امتناع عن قبول الحق، يعني ليس الحامل لهم عليه الدليل، بل مجرد الحمية والخصام، والتقليد، والعزة عند العرب الغلبة والقهر، يقال: من عَزَّ بَزَّ أي من غلب أخذ السلب، ومنه (وعزني في الخطاب)، أي غلبني، والشقاق مأخوذ من الشق وهو الخلاف والعداوة، وقد تقدم بيانه، والتنكير فيهما للدلالة على شدتهما وتفاقمهما، وقرىء في غرة أي في غفله عما يجب عليهم من النظر، واتباع الحق، والأول أولى، ثم خوفهم سبحانه وهددهم بما فعله من قبلهم من الكفار فقال:(12/11)
كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ (3)
(كم أهلكنا من قبلهم من قرن) يعني الأمم الخالية المهلكة بتكذيب الرسل، أي كم أهلكنا الذين كانوا أمنع من هؤلاء، وأشد قوة، وأكثر أموالاً و (كم) هي الخبرية الدالة على التكثير، وهي في محل نصب بأهلكنا على أنها مفعول به، ومن قرن تمييز، و (من) في (من قبلهم) هي لابتداء الغاية.
(فَنَادَوْا وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ) النداء هنا هو نداء الاستغاثة منهم عند نزول العذاب بهم، وليس الحين حين مناص، قال الحسن نادوا بالتوبة، وليس حين التوبة، ولا حين ينفع العمل، والمناص مصدر ناص ينوص، وهو الفوت والتأخر، ولات بمعنى ليس، بلغة أهل اليمن، وقال النحاة هي لا التي بمعنى ليس زيدت عليها التاء كما في قولهم رب وربت وثم وثمت قال الفراء النوص التأخر، وأنشد قول امرىء القيس:
أمن ذكر ليلى إذ نأتك تنوص ... فتقصر عنها خطوة وتبوص (1)
_________
(1) غريب القرآن 376 والطبري 23/ 120 ومختار الشعر الجاهلي 1/ 127 وديوان امرؤ القيس 177.(12/11)
قال يقال ناص عن قرنه ينوص نوصاً ومناصاً أي فر وراغ قال الفراء ويقال ناص ينوص إذا تقدم، وقيل المعنى أنه قال بعضهم لبعض مناص أي عليكم بالفرار والهزيمة، فلما أتاهم العذاب قالوا مناص فقال الله ولات حين مناص قال سيبويه والخليل لات مشبهة بليس، والاسم فيها مضمر، أي ليس حيننا حين مناص، وقال الزجاج التقدير وليس أواننا، قال ابن كيسان والقول قول سيبويه، والوقف عليها عند الكسائي بالهاء، وبه قال المبرد والأخفش. وقال الأخفش إنها لا النافية للجنس زيدت عليها التاء، وخصت بنفي الأحيان وقال الكسائي والفراء والخليل وسيبويه والأخفش التاء تكتب منقطعة عن حين، وكذلك هي في المصاحف، وقال أبو عبيدة: تكتب متصلة بحين فقال: ولا تحين، وقد يستغنى بحين عن المضاف إليه، قال أبو عبيدة: لم نجد العرب تزيد هذه التاء إلا في حين وأوان، الآن.
قلت قد يزيدونها في غير ذلك أيضاًً، وقال ابن عباس ليس بحين نزو ولا فرار، وأخرج ابن أبيّ من طريق عكرمة عنه قال: نادوا النداء حين لا ينفعهم وأنشد:
تذكرت ليلى حين لات تذكر ... وقد بنت منها والمناص بعيد
وعنه قال: ليس هذا حين زوال، وعنه قال: لا حين فرار وقرأ الجمهور لات بفتح التاء وقرىء بكسرها كجير وجملة لات حين مناص في محل نصب على الحال من ضمير نادوا.(12/12)
وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (4)
(وعجبوا أن جاءهم منذر منهم) أي عجب الكفار الذين وصفهم الله سبحانه بأنهم في عزة وشقاق أن جاءهم رسول من أنفسهم ينذرهم بالعذاب إن استمروا على الكفر وأن وما في حيزها محل نصب بنزع الخافض، أي من أن جاءهم، وهو كلام مستأنف مشتمل على ذكر نوع من أنواع كفرهم.(12/12)
(وقال الكافرون هذا ساحر كذاب) قالوا هذا القول لما شاهدوا ما جاء به من المعجزات الخارجة عن قدرة البشر، أي هذا المدعي للرسالة ساحر فيما يظهره من المعجزات، كذاب فيما يدعيه من أن الله أرسله، قيل ووضع الظاهر موضع المضمر لإظهار الغضب عليهم وأن ما قالوه لا يتجاسر على مثله إلا المتوغلون في الكفر، المنهمكون في الغي، إذ لا كفر أغلظ من أن يسموا من صدقه الله: كاذباً ساحراً، ويتعجبوا من التوحيد، وهو الحق الأبلج، ولا يتعجبوا من الشرك، وهو باطل لجلج، ثم أنكروا ما جاء به صلى الله عليه وسلم من التوحيد وما نفاه من الشركاء لله فقالوا:(12/13)
أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ (5)
(أجعل الآلهة) أي صيرها (إلهاً واحداً) وقصرها على الله سبحانه (إن هذا لشيء عجاب) أي الأمر بالغ في العجب إلى الغاية تعجبوا من هذا القصر والحصر وقالوا: كيف يسع الخلق كلهم إله واحد، ومنشؤه أن القوم ما كانوا أصحاب نظر واستدلال بل كانت أوهامهم تابعة للمحسوسات فلما وجدوا في الشاهد أن الفاعل الواحد لا تفي قدرته وعلمه بحفظ الخلائق قاسوا الغائب على الشاهد، وأن أسلافهم لكثرتهم وقوة عقولهم كانوا مطبقين على الشرك توهموا أن كونهم على هذه الحال محال أن يكونوا مبطلين فيه، ويكون الإنسان الواحد محقاً، فلعمري لو كان التقليد حقاً كانت هذه الشبهة لازمة، قاله الكرخي.
قال الجوهري: العجيب الأمر الذي يتعجب منه وكذلك العجاب بالضم، والعجاب بالتشديد أكثر منه، قرأ الجمهور عجاب بالتخفيف وقرىء بتشديد الجيم، قال مقاتل: بالتخفيف لغة أزد شنوءة، قيل: والعجاب بالتخفيف والتشديد يدل على أنه قد يجاوز الحد في العجب كما يقال: الطويل للذي فيه طول والطوال للذي قد تجاوز حد الطول وكلام الجوهري يفيد اختصاص المبالغة بعجاب مشدد الجيم لا بالمخفف وقد قدمنا في صدر هذه السورة سبب نزول هذه الآيات.(12/13)
وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ (6) مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ (7) أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ (8) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ (9) أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ (10)(12/14)
وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ (6)
(وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ) المراد بالملأ الأشراف كما هو مقرر في غير موضع من تفسير الكتاب العزيز، عن ابن عباس قال: نزلت حين انطلق أشراف قريش إلى أبي طالب فكلموه في النبي صلى الله عليه وسلم قائلين، بعضهم للبعض: (أن امشوا) أي امضوا على ما كنتم عليه ولا تدخلوا في دينه.
(واصبروا على آلهتكم) أي اثبتوا على عبادتها وقيل: المعنى وانطلق الأشراف منهم فقالوا للعوام: امشوا واصبروا على آلهتكم، وأن هي المفسرة للأقول المقدر، أو لقوله: (وانطلق) لآنه مضمن معنى القول ويجوز أن تكون مصدرية معمولة للمقدر، أو للمذكور، أي بأن امشوا وقيل: المراد بالانطلاق الاندفاع في القول، وامشوا من مشت المرأة إذا كثرت ولادتها أي اجتمعوا وأكثروا وهو بعيد جداً، وخلاف ما يدل عليه الانطلاق والمشي بحقيقتهما، وخلاف ما تقدم في سبب النزول.
وجملة (إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ) تعليل لما تقدمه من الأمر بالصبر، أي يريده محمد بنا وآلهتنا ويود تمامه من غير صارف يلويه ولا عاطف يثنيه ليعلو علينا، ونكون له أتباعاً فيتحكم فينا بما يريد فيكون هذا الكلام خارجاً مخرج التحذير منه والتنفير عنه.
وقيل: إن هذا الأمر يريده الله سبحانه، وما أراده ويحكم بإمضائه فهو كائن لا محالة، ولا ينفع فيه إلا الصبر فاصبروا على عبادة آلهتكم. وقيل المعنى إن دينكم لشيء يراد أي يطلب ليؤخذ منكم، وتغلبوا عليه أو أن هذا(12/14)
الأمر شيء من نوائب الدهر يراد بنا فلا انفكاك لنا منه، أو أمر يراد بأهل الأرض والأول أولى.(12/15)
مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ (7)
(ما سمعنا بهذا) الذي يقوله محمد من التوحيد (في الملة الآخرة) وهي ملة النصرانية فإنها آخر الملل قبل ملة الإسلام كذا قال محمد بن كعب القرظي وقتادة ومقاتل والكلبي والسدي، وبه قال ابن عباس، وقال مجاهد: يعنون به ملة قريش، أي التي أدركنا عليها آباءنا وعن قتادة مثله وقال الحسن المعنى ما سمعنا أن هذا يكون في آخر الزمان، وقيل إن المعنى ما سمعنا من اليهود والنصارى أن محمداً رسول الله.
(إن هذا إلا اختلاق) أي ما هذا إلا كذب اختلقه محمد وافتراه من تلقاء نفسه وافتعله، ثم استنكروا أن يخص الله رسوله بمزية النبوة دونهم فقالوا:(12/15)
أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ (8)
(أأنزل عليه الذكر من بيننا) والاستفهام للإنكار، أي كيف يكون ذلك ونحن الرؤساء والأشراف، قال الزجاج: قالوا: كيف أنزل على محمد القرآن من بيننا؟ ونحن أكبر سناً وأعظم شرفاً منه، وهذا مثل قولهم (لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم) فأنكروا أن يتفضل الله سبحانه على من يشاء من عباده بما شاء. ولما ذكر استنكارهم لنزول القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم دونهم، بين السبب الذي لأجله تركوا التصديق برسول الله صلى الله عليه وسلم فيما جاء به فقال:
(بل هم في شك من ذكري) أي من القرآن أو الوحي، لإعراضهم عن النظر الموجب لتصديقه، وإهمالهم للأدلة الدالة على أنه حق منزل من عند الله (بل لما يذوقوا عذاب) أي بل السبب أنهم لم يذوقوا عذابي فاغتروا بطول المهلة. ولو ذاقوا عذابي على ما هم عليه من الشرك والشك لصدقوا ما جئت به من القرآن، ولم يشكوا فيه، وذوقهم له متوقع فإذا ذاقوه زال عنهم الشك، وصدقوا، وتصديقهم لا ينفعهم حينئذ لأنهم صدقوا مضطرين فقوله: بل لما يذوقوا إضراب عن الإضراب الأول خلاف ما يفهم من(12/15)
الكشاف من تعلقه بالكلامين قبله.(12/16)
أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ (9)
(أم) أي بل أ (عندهم خزائن رحمة ربك العزيز الوهاب)؟ أي مفاتيح نعم ربك وهي النبوة وما هو دونها من النعم، حتى يعطوها من شاءوا فما لهم ولإنكار ما تفضل الله به على هذا النبي واختاره له واصطفاه لرسالته والمعنى أن النبوة عطية من الله يتفضل بها على من يشاء من عباده لا مانع له فإنه العزيز الغالب القاهر الذي لا يغلب الوهاب المعطي بغير حساب، الذي له أن يهب كل ما يشاء لمن يشاء ثم رشح ذلك فقال:(12/16)
أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ (10)
(أم لهم ملك السموات والأرض وما بينهما) أي: بل ألهم ملك هذه الأشياء حتى يعطوا من شاءوا ويمنعوا من شاءوا ويعترضوا على إعطاء الله سبحانه ما شاء لمن شاءوا المعنى أنه ليس لهم مدخل في أمر هذا العالم الجسماني الذي هو جزء يسير من خزائنه، فمن أين لهم أن يتصرفوا فيها.
وقوله (فليرتقوا في الأسباب) جواب شرط محذوف أي إن كان لهم ذلك فليصعدوا في الأسباب أي المعارج والمناهج، والطرق التي توصلهم إلى السماء أو إلى العرش حتى يستووا عليه ويحكموا بما يريدون من عطاء ومنع ويدبروا أمر العالم بما يشتهون أو فليصعدوا وليمنعوا الملائكة من نزولهم بالوحي على محمد صلى الله عليه وسلم.
والأسباب أبواب السموات التي تنزل الملائكة منها، قاله مجاهد وقتادة، قال الربيع بن أنس: الأسباب أدق من الشعر وأشد من الحديد ولكن لا ترى، وقال السدي في الأسباب في الفضل والدين، وقيل: فليعملوا في أسباب القوة إن ظنوا أنها مانعة، وهو قول أبي عبيدة وقيل: الأسباب الحبال أي إن وجدوا حبالا يصعدون فيها إلى السماء فعلوا والأسباب عند أهل اللغة كل شيء يتوصل به إلى المطلوب كائناً ما كان وفي هذا الكلام تهكم بهم وتعجيز لهم، قال ابن عباس الأسباب السماء أي لأنها أسباب الحوادث السفلية.(12/16)
جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزَابِ (11) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ (12) وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ أُولَئِكَ الْأَحْزَابُ (13) إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ (14) وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلَاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ (15) وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ (16)(12/17)
جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزَابِ (11)
(جند ما هنالك مهزوم من الأحزاب) هذا وعد من الله سبحانه لنبيه صلى الله عليه وسلم بالنصر عليهم، والظفر، و (جند) مرتفع على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي هم جند حقير، يعني الكفار مهزوم مكسور عما قريب، فلا تبال بهم، ولا تظن أنهم يصلون إلى شيء مما يضمرونه بك من الكيد، و (ما) في قوله: ما هنالك هي صفة لجند، لإفادة التعظيم أو التحقير، أي جند أي جند، وقيل هي زائدة، يقال: هزمت الجيش كسرته، وتهزمت القرية إذا تكسرت، وهذا الكلام متصل بما تقدم، وهو قوله: (بل الذين كفروا في عزة وشقاق) وهم جند من الأحزاب مهزومون فلا تحزن لعزتهم وشقاقهم، فإني أسلب عزهم وأهزم جمعهم، وقد وقع ذلك ولله الحمد في يوم بدر، وفيما بعده من مواطن الله، وهو إخبار بالغيب، وقيل: مشار به إلى نصرة الإسلام، وقيل: إلى حفر الخندق، يعني إلى مكان ذلك، قال الرازي: والأصح عندي حمله على يوم فتح مكة، لأن المعنى إنهم جند سيصيرون مهزومين في الموضع الذي ذكروا فيه هذه الكلمات، وذلك الموضع هو مكة وما ذاك إلا في يوم الفتح.(12/17)
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ (12)
(كذبت قبلهم) استئناف مقرر لمضمون ما قبله ببيان أحوال العتاة الطغاة الذين هؤلاء جند من جنسهم بما فعلوا من الكفر والتكذيب، وفعل بهم من العقاب والعذاب (قوم نوح) أي كذبوا رسولهم نوحاً، وكذا يقدر(12/17)
فيما بعده، وتأنيث قوم باعتبار المعنى. وهو أنهم أمة وطائفة وجماعة.
(وعاد وفرعون ذو الأوتاد) قال المفسرون كانت له أوتاد يعذب بها الناس وذلك أنه كان إذا غضب على أحد وتد يديه ورجليه ورأسه على الأرض، وقيل: كانت له أوتاد وحبال يلعب بها بين يديه، وما أبرد هذا القول، وقيل ذو القوة والبطش، وقيل: المراد بالأوتاد الجموع والجنود الكثيرة، يعني أنهم كانوا يقوون أمره ويشدون سلطانه، كما تقوى الأوتاد ما ضربت عليه فالكلام خارج مخرج الاستعارة على هذا قال ابن قتيبة، العرب تقول: هم في عز أو في ملك ثابت الأوتاد ويريدون ملكاً دائماً شديداً، وأصل هذا أن البيت من بيوت الشعر إنما يثبت ويقوم بالأوتاد، وقيل: المراد بالأوتاد هنا البناء المحكم، أي وفرعون ذو الأبنية المحكمة، قال الضحاك: والبنيان يسمى أوتاداً والأوتاد جمع وتد، وفيه لغات أفصحها فتح الواو وكسر التاء ويقال: وتد بفتحهما. وود بإدغام التاء في الدال بوزن وج، وودت وهي لغة أهل نجد قال الأصمعي: ويقال وتد واتد مثل شغل شاغل.(12/18)
وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ أُولَئِكَ الْأَحْزَابُ (13)
(وثمود وقوم لوط وأصحاب الأيكة) أي الغيضة، وهي الأشجار الملتفة المجتمعة، وقد تقدم تفسيرها في سورة الشعراء ومعنى: (أولئك الأحزاب) أنهم الموصوفون بالقوة والكثرة كقولهم فلان هو الرجل، وقريش - وإن كانوا حزباً كما قال الله تعالى فيما تقدم: (جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزَابِ) ولكن هؤلاء الذين قصهم الله علينا من الأمم السالفة هم أكثر منهم عدداً، وأقوى أبداناً، وأوسع أموالاً وأعماراً. وقيل، إن المعنى أن مشركي قريش من أولئك الأحزاب، وهم هم، ومنهم وجد التكذيب، وهذه الجملة مستأنفة أو خبر، والمبتدأ قوله. وعاد كذا قال أبو البقاء وهو ضعيف، بل الظاهر أن (عاد) وما بعده معطوفات على قوم نوح، والأولى أن تكون هذه الجملة خبراً لمبتدأ محذوف أو بدلاً من الأمم المذكورة.(12/18)
إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ (14)
(إن كل) أي ما كل حزب من هذه الأحزاب (إلا كذب الرسل)(12/18)
لأن تكذيب الحزب لرسوله المرسل إليه تكذيب لجميع الرسل لأن دعوتهم واحدة، وهي التوحيد، أو هو من مقابلة الجمع بالجمع، والمراد تكذيب كل حزب لرسوله، والاستثناء مفرغ من أعم الأحوال، أي ما كان أحد من الأحزاب في جميع أحواله إلا وقع منه تكذيب الرسل، وفي تكرير التكذيب وإيضاحه بعد إبهامه، والتنويع في تكريره بالجملة الخبرية، أولا، وبالاستثنائية ثانياً، وما في الاستثنائية من الوضع على وجه التوكيد، أنواع من المبالغة المسجلة عليهم باستحقاق أشد العقاب وأبلغه؛ ثم قال:
(فحق عقاب) أي فحق عليهم عقابي بتكذيبهم. ومعنى حق ثبت ووجب وإن تأخر فكأنه واقع بهم. وكل ما هو آت قريب. وقرىء عقاب بإثبات الياء وحذفها مطابقة لرؤوس الآي. وفي الآية زجر وتخويف للسامعين.(12/19)
وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلَاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ (15)
(وما ينظر) أي ما ينتظر (هؤلاء) أي كفار مكة (إلا صيحة واحدة) وهي النفخة الكائنة عند قيام الساعة (1). وقيل: هي النفخة الثانية. وعلى الأول المراد من عاصر نبينا صلى الله عليه وسلم من الكفار.
وعلى الثاني المراد كفار الأمم المذكورة أي ليس بينهم وبين ما أعد الله لهم من عذاب النار إلا أن ينفخ في الصور النفخة الثانية. وقيل: المراد بالصيحة عذاب يفجأهم في الدنيا وجملة:
(ما لها من فواق) في محل نصب صفة لصيحة، قال الزجاج. فواق بفتح الفاء وضمها لغتان بمعنى واحد (2)، وهو الزمان الذي بين حلبتي الحالب، ورضعتي الراضع، وهو مشتق من الرجوع أيضاًً، لأنه يعود اللبن إلى الضرع بين الحلبتين، ويقال. أفاق من مرضه أي رجع إلى الصحة، ولهذا قال مجاهد ومقاتل. إن الفواق الرجوع، وقال قتادة: ما لها من مثنوية
_________
(1) قال ابن كثير: وهذه الصيحة هي نفخة الفزع التي يأمر الله تعالى إسرافيل أن يطولها فلا يبقى أحد.
(2) عن أنس بن مالك قال رسول الله عليه وسلم: العيادة فواق الناقة " رواه السيوطي في الجامع الصغير ".(12/19)
وقال السدي: ما لها من إفاقة، وقيل: ما لها من مرد قال الجوهري: ما لها من نظرة وراحة وإفاقة.
وقال ابن عباس: ما لها من رجعة. والفيقة اسم اللبن الذي يجتمع بين الحلبتين وجمعها فيق وفواق وأما أفاويق فجمع الجمع قال الفراء والسدوسي وأبو عبيدة وابن زيد والسدي الفواق بفتح الفاء الراحة والإفاقة أي لا يفيقون فيها كما يفيق المريض والمغشى عليه. وبالضم الانتظار، ومعنى الآية أن تلك الصيحة هي ميعاد عذابهم. فإذا جاءت لم ترجع ولا ترد عنهم، ولا تصرف منهم، ولا تتوقف مقدار فواق ناقة، وهي ما بين حلبتي الحالب لها، وهذا في المعنى كقوله تعالى (فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون).(12/20)
وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ (16)
(و) لما سمعوا ما توعدهم الله به من العذاب (قالوا) استهزاء وسخرية (رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ) والقط في اللغة النصيب من القط، وهو القطع؛ وبهذا قال قتادة وسعيد بن جبير، قال الفراء: القط في كلام العرب الحظ والنصيب، ومنه قيل للصك قط. قال أبو عبيدة والكسائي. القط الكتاب بالجوائز، والجمع القطوط، وأصله من قط الشيء أي قطعه، ومنه قط القلم ومعنى الآية سؤالهم لربهم أن يعجل لهم نصيبهم وحظهم من العذاب، وهو مثل قوله (ويستعجلونك بالعذاب) وقال السدي: سألوا ربهم أن يمثل لهم منازلهم من الجنة ليعلموا حقيقة ما يوعدون به.
وقال إسمعيل بن أبي خالد: المعنى عجل لنا أرزاقنا، وبه قال سعيد بن جبير والسدي. وقال أبو العالية والكلبي ومقاتل لما نزل قوله: (وأما من أوتي كتابه بشماله) قالت قريش: زعمت يا محمد أنا نؤتي كتابنا بشمالنا فعجل لنا قطنا يوم الحساب، قال ابن عباس: سألوا الله أن يجعل لهم، وقال: قطنا نصيبنا من الجنة، ثم أمر الله سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم أن يصبر على ما يسمعه من أقوالهم فقال:(12/20)
اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (17) إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ (18) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (19) وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ (20)(12/21)
اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (17)
(اصبر على ما يقولون) من أقوالهم الباطلة التي هذا القول المحكي عنهم من جملتها، وصن نفسك أن تزل فيما كلفت من مصابرتهم، وتحمل أذاهم، قيل: وهذه الآية منسوخة بآية السيف، وقيل محكمة وهو الصحيح. ولما فرغ من ذكر قرون الضلالة وأمم الكفر والتكذيب وأمر نبيه صلى الله عليه وسلم بالصبر على ما يسمعه، زاد في تسليته وتأسيته بذكر قصة داود وما بعدها فقال:
(واذكر عبدنا داود الأيد) أي أذكر قصته فإنك تجد فيها ما تتسلى به، والأيد: القوة، قاله ابن عباس، ومنه رجل أيد أي قوي، وتأيد الشيء تقوى، والأيد مفرد بوزن البيع، وهو مصدر، وليس جمع يد، يقال: آد الرجل يئيد أيداً وإياداً بالكسر إذا قوي واشتد، فهو أيد مثل سيد وهين، ومنه قولهم: أيدك الله تأييداً والمراد ما كان فيه عليه السلام من القوة على العبادة، قال الزجاج وكانت قوة داود على العبادة أتم قوة.
ومن قوته ما أخبرنا به نبينا صلى الله عليه وسلم " أنه كان يصوم يوماً ويفطر يوماً، وكان يصلي نصف الليل، وكان لا يفر إذا لاقى العدو " (1).
_________
(1) روى بمعناه البخاري 3/ 14 ومسلم 2/ 816 باختلاف يسير في ألفاظه وأبو داود والنسائي وابن ماجة وغيرهم.(12/21)
وجملة (إنه أواب) تعليل لكونه ذا الأيد، والأواب الرجاع عن كل ما يكرهه الله سبحانه إلى ما يحبه، ولا يستطيع ذلك إلا من كان قوياً في دينه وقيل: معناه كلما ذكر ذنبه استغفر منه وتاب عنه، وهذا داخل تحت المعنى الأول، يقال آب يؤوب إذا رجع. وقال ابن عباس الآواب المسبح بلغة الحبشة.
وأخرج الديلمي عن مجاهد قال: سألت ابن عمر عن الأواب فقال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه فقال " هو الذي يذكر ذنوبه في الخلا فيستغفر الله " وعن ابن عباس قال الأواب الموقن.(12/22)
إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ (18)
(إنا سخرنا الجبال معه) استئناف مسوق لتعليل قوته في الدين، وكونه رجاعاً إلى مرضاته تعالى، وإيثار مع على اللام لما أشير إليه في سورة الأنبياء من أن تسخير الجبال لم يكن بطريق التصرف الكلي فيها إليه كتسخير الريح وغيرها لسليمان بل بطريق التبعية له والاقتداء به، قيل كان تسخيرها أنها تسير معه إذا أراد سيرها إلى حيث يريد.
(يسبحن) ولم يقل مسبحات ليدل على حدوث التسبيح من الجبال شيئاًً فشيئاًً، وحالاً بعد حال، أي يقدسن الله سبحانه وينزهنه، عما لا يليق به. ويسبحن في محل نصب على الحال، وفي هذا بيان ما أعطاه الله من البرهان والمعجزة، وهو تسبيح الجبال معه، قال مقاتل كان داود إذا ذكر الله ذكرت الجبال معه، وكان يفقه تسبيح الجبال، وقال محمد بن إسحق أوتي داود من حسن الصوت ما يكون له في الجبال دوي حسن، فهذا معنى تسبيح الجبال، والأول أولى، ومعنى يسبحن يصلين، ومعه متعلق بسخرنا.
(بِالْعَشِيِّ) أي وقت صلاة العشاء (وَالْإِشْرَاقِ) أي وقت صلاة الضحى وهو أن تشرق الشمس ويتناهى ضوؤها، والمعنى كان داود يسبح إثر صلاته عند طلوع الشمس وغروبها، وقال الكلبي أي غدوة وعشية، يقال أشرقت الشمس إذا أضاءت، وذلك وقت الضحى، وأما شروقها فطلوعها،(12/22)
قال الزجاج شرقت الشمس إذا طلعت، وأشرقت إذا أضاءت.
عن عطاء الخراساني عن ابن عباس قال لم يزل في نفسي من صلاة الضحى حتى قرأت هذه الآية وعنه قال لقد أتى عليّ زمان وما أدري وجه هذه الآية حتى رأيت الناس يصلون الضحى، أخرجه ابن المنذر وابن مردويه.
وأخرج الطبراني في الأوسط وابن مردويه عنه قال كنت أمر بهذه الآية فما أدري ما هي، حتى حدثتني أم هانىء بنت أبي طالب " أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها يوم الفتح فدعا بوضوء فتوضأ ثم صلى الضحى، ثم قال يا أم هانىء هذه صلاة الإشراق " (1). والأحاديث في صلاة الضحى كثيرة جداً، قد ذكرها الشوكاني في شرحه للمنتقى.
_________
(1) راجع ما ذكرناه في سورة النور آية 36.(12/23)
وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (19)
(والطير محشورة) أي وسخرنا له الطير حال كونها محشورة أي مجموعة إليه من كل ناحية، تسبح الله معه، قيل كانت تجمعها إليه الملائكة، وقيل كانت تجمعها الريح (كل له أواب) أي كل واحد من داود والجبال والطير رجاع إلى طاعة الله وأمره والضمير في له راجع إلى الله عز وجل، وقيل إلى داود أي لأجل تسبيح داود مسبح، فوضع أواب موضع مسبح، والأول أولى، وقد قدمنا أن الأواب الكثير الرجوع إلى الله سبحانه.(12/23)
وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ (20)
(وشددنا ملكه) أي قويناه وثبتناه بالنصر في المواطن على أعدائه، وإلقاء الرعب منه في قلوبهم؛ وقيل بكثرة الجنود، كان يبيت حول محرابه كل ليلة ستة أو ثلاثة وثلاثون ألف رجل يحرسونه، وكان أشد ملوك الأرض سلطاناً.
وأخرج عبد بن حميد عن ابن عباس " قال استعدى رجل من بني إسرائيل عند داود على رجل من عظمائهم فقال إن هذا غصبني بقراً لي، فسأل داود الرجل عن ذلك، فجحده، فسأل الآخر البينة فلم تكن له بينة فقال لهما(12/23)
داود قوماً حتى أنظر في أمركما، فقاما من عنده؛ فأتى داود في منامه فقيل له اقتل الرجل الذي استعدى، فقال إن هذه رؤيا ولست أعجل حتى أتثبت: فأتى الليلة الثانية في منامه فأمر أن يقتل الرجل فلم يفعل ثم أتى الليلة الثالثة؛ فقيل له اقتل الرجل أو تأتيك العقوبة من الله فأرسل داود إلى الرجل فقال إن الله أمرني أن أقتلك قال تقتلني بغير بينة ولا تثبت قال نعم والله لأنفذن أمر الله فيك فقال الرجل لا تعجل عليّ حتى أخبرك أني والله ما أخذت بهذا الذنب ولكني كنت اغتلت والد هذا فقتلته فبذلك أخذت؛ فأمر به داود فقتل، فاشتدت هيبته في بني إسرائيل وشدد به ملكه فهو قول الله وشددنا ملكه ".
(وآتيناه الحكمة) المراد بها النبوة والمعرفة بكل ما يحكم به، وقال مقاتل: الفهم والعلم، وقيل الزبور وعلم الشرائع، وقيل الإصابة في الأمور وقيل كل كلام وافق الحق فهو الحكمة، وقال مجاهد: العدل وقال أبو العالية العلم بكتاب الله، وقال شريح: السنة، ولا مانع من حمل الآية على الكل.
(وفصل الخطاب) المراد به الفصل في القضاء، وبه قال الحسن والكلبي ومقاتل وحكى الواحدي عن الأكثر أن فصل الخطاب الشهود والأيمان لأنها إنما تنقطع الخصومة بهذه وبه قال أُبي ابن كعب، وقال علي ابن أبي طالب رضي الله تعالى عنه البينة على المدعي واليمين على من أنكر. وقيل: الفصل بين الحق والباطل، وقاله شريح والشعبي وقتادة أيضاًً، وقيل: هو الإيجاز يجعل المعنى الكثير في اللفظ القليل، وقيل: بيان الكلام، وقيل علم الحكم والتبصر بالقضاء والمعاني متقاربة.
وعن أبي موسى الأشعري قال: " أول من قال: أما بعد، داود عليه السلام، وهو فصل الخطاب "، أخرجه ابن أبي حاتم والديلمي، وعن الشعبي أنه سمع زياد بن أبيه يقول: فصل الخطاب الذي أوتيه داود: أما بعد أخرجه سعيد بن منصور، ولما مدحه الله سبحانه بما تقدم ذكره أردف ذلك بذكر هذه القصة الواقعة له، لما فيها من الأخبار العجيبة وقال:(12/24)
وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ (21) إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ (22) إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ (23) قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ (24)(12/25)
وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ (21)
(وهل أتاك نبأ الخصم) ومعنى الاستفهام هنا التعجب، والتشويق إلى استماع ما بعده لكونه أمراً غريباً، كما تقول لمخاطبك هل تعلم ما وقع اليوم؟ ثم تذكر له ما وقع قال مقاتل: بعث الله إلى داود ملكين جبريل وميكائيل لينبهه على التوبة فأتياه وهو في محرابه قال النحاس: ولا خلاف بين أهل التفسير أن المراد بالخصم هنا الملكان، والخصم مصدر يقع على الواحد والإثنين والجماعة، ومعنى قوله:
(إذ تسوروا المحراب) أتوه من أعلى سوره، ونزلوا إليه، والسور الحائط المرتفع، وجاء بلفظ الجمع في تسوروا مع كونهما اثنين نظراً إلى ما يحتمله لفظ الخصم من الجمع، والمحراب الغرفة لأنهم تسوروا عليه وهو فيها، كذا قال يحيى بن سلام.
وقال أبو عبيدة: إنه صدر المجلس، ومنه محراب المسجد، وقيل: إنهما كان إنسيين ولم يكونا ملكين، والعامل في إذ النبأ أي هل أتاك الخبر الواقع في وقت تسورهم؟ وبهذا قال ابن عطية ومكي وأبو البقاء، وقيل:(12/25)
العامل فيه. أتاك، وقيل: معمول للخصم، وقيل: معمول لمحذوف، أي وهل أتاك نبأ تحاكم الخصم.
عن ابن عباس أن داود حدث نفسه إذا ابتلى أنه يعتصم، فقيل له: إنك ستبتلى وستعلم الذي تبتلى فيه فخذ حذرك، فقيل له. هذا اليوم الذي تبتلى فيه فأخذ الزبور ودخل المحراب، وأغلق باب المحراب، وأخذ الزبور في حجره وأقعد منصفاً يعني خادماً على الباب، وقال: لا تأذن لأحد عليَّ اليوم فبينما هو يقرأ الزبور إذ جاء طائر مذهب كأحسن ما يكون للطير فيه من كل لون فجعل يدور بين يديه فدنا منه فأمكن أن يأخذه فتناوله بيده ليأخذه فاستوفز من خلفه فأطبق الزبور، وقام إليه ليأخذه فطار فوقع على كوة المحراب، فدنا منه ليأخذه فأفضى فوقع على خص فأشرف عليه لينظر أين وقع؟ فإذا هو بامرأة عند بركتها تغتسل من الحيض، فلما رأت ظله حركت رأسها فغطت جسدها أجمع بشعرها وكان زوجها غازياً في سبيل الله فكتب داود إلى رأس الغزاة انظر أوريا فاجعله في حملة التابوت، وكان حملة التابوت، إما أن يفتح عليهم، وإما أن يقتلوا، فقدمه في حملة التابوت فقتل، فلما انقضت عدتها خطبها داود، فاشترطت عليه إن ولدت غلاماً أن يكون الخليفة من بعده، وأشهدت عليه خمسين من بني إسرائيل، وكتبت عليه بذلك كتاباً فما شعر بفتنته أنه افتتن حتى ولدت سليمان، وشب فتسور عليه الملكان المحراب وكان شأنهما ما قص الله في كتابه، وخر داود ساجداً فغفر الله له، وتاب عليه. أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف وابن أبي حاتم (1).
وأخرج الحاكم وصححه والبيهقي في الشعب قال، ما أصاب داود ما
_________
(1) رواه الطبري من رواية الصوفي عن ابن عباس 23/ 146 والصوفي ضعيف ورواه عن السدي 23/ 147 وقال ابن كثير: ولم يثبت عن المعصوم فيها حديث يجب اتباعه وأكثرها مأخوذ من الإسرائيليات. وقال عياض في الشفا: فلا يجب أن يلتفت إلى ما سطره الإخباريون عن أهل الكتاب الذين بدّلوا وغيروا. والله أعلم.(12/26)
أصابه بعد القدر إلا من عجب بنفسه وذلك أنه قال، يا رب ما من ساعة من ليل ولا نهار إلا وعابد من آل داود يعبدك يصلي لك أو يسبح أو يكبر، وذكر أشياء فكره الله ذلك فقال، يا داود إن ذلك لم يكن إلا بي فلولا عوني ما قويت عليه، وعزتي وجلالي لأكلنك إلى نفسك يوماً، قال يا رب فأخبرني به فأخبر به فأصابته الفتنة ذلك اليوم.
وأخرج أصل القصة الحكيم الترمذي في نوادر الأصول وابن جرير وابن أبي حاتم عن أنسر مرفوعاً بإسناد ضعيف.
وأخرجها ابن جرير من وجه آخر عن ابن عباس مطولة وأخرجها جماعة عن جماعة من التابعين.
قال صاحب الكشاف بعد ذكر هذه القصة هذا ونحوه مما يقبح أن يحدث به عن بعض المتسمين بالصلاح من أفناء المسلمين فضلاً عن بعض أعلام الأنبياء اهـ ...
وقال القاضي عياض، لا يجوز أن يلتفت إلى ما سطره الإخباريون من أهل الكتاب الذين بدلوا وغيروا نقله بعض المفسرين، ولم ينص الله على شيء من ذلك، ولا ورد في حديث صحيح، والذي نص عليه الله في قصة داود (وظن داود أنما فتناه) وليس في قصة داود وأوريا خبر ثابت وهذا هو الذي ينبغي أن يعول عليه من أمر داود.
قال الرازي: حاصل القصة يرجع إلى السعي في قتل رجل مسلم بغير حق، وإلى الطمع في زوجته وكلاهما منكر عظيم، فلا يليق بعاقل أن يظن بداود عليه السلام هذا، وقال غيره: إن الله أثنى على داود قبل هذه القصة وبعدها وذلك يدل على استحالة ما نقلوه من القصة فكيف يتوهم عاقل أن يقع بين مدحين ذم ولو جرى ذلك من بعض الناس لاستهجنه العقلاء، ولقالوا أنت في مدح شخص كيف تجري ذمه أثناء مدحك والله تعالى منزه عن مثل هذا في كتابه القديم.(12/27)
وروى سعيد بن المسيب والحارث الأعور عن عليّ بن أبي طالب أنه قال من حدثكم بحديث داود على ما يرويه القصاص جلدته مائة وستين جلدة وهو حد الفرية على الأنبياء وروى أنه حُدِّث بذلك عمر بن عبد العزيز وعنده رجل من أهل الحق فكذب المحدث به، وقال إن كانت القصة على ما في كتاب الله فما ينبغي أن يلتمس خلافها، وأعظم بأن يقال غير ذلك وإن كان على ما ذكرت وكف الله عنها ستراً على نبيه فما ينبغي إظهارها عليه فقال عمر سماعي هذا الكلام أحب إليّ مما طلعت عليه الشمس.
قال النسفي: والذي يدل عليه المثل الذي ضربه الله بقصته عليه السلام ليس إلا طلبه إلى زوج المرأة أن ينزل له عنها فحسب، وإنما جاءت على طريق التمثيل والتعريض دون التصريح، لكونها أبلغ في التوبيخ من قبل أن التأمل إذا أداه إلى الشعور بالمعرض به كان أوقع في نفسه وأشد تمكناً من قلبه، وأعظم أثراً فيه، مع مراعاة حسن الأدب بترك المجاهرة انتهى قال أبو السعود: وأما ما يذكر من أنه عليه السلام تزوج امرأة أوريا فهو إفك مبتدع مكروه، ومكر مخترع تمجه الأسماع، وتنفر عنه الطباع، ويل لمن ابتدعه وأشاعه، وتباً لمن اخترعه وأذاعه، وسيأتي الكلام على ذنب داود عليه السلام في آخر هذه القصة.(12/28)
إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ (22)
(إذ) بدل من الأولى، وقيل هو معمول لتسوروا، وقال الفراء إن أحد الظرفين المذكورين بمعنى لما (دخلوا على داود ففزع منهم) لأنهما أتياه ليلاً في غير وقت دخول الخصوم، ودخلوا عليه بغير إذنه، ولم يدخلوا من الباب الذي يدخل منه الناس، قال ابن الأعرابي: وكان محراب داود من الامتناع بالإرتفاع بحيث لا يرتقي إليه آدمي بحيلة.
(قالوا لا تخف) جملة مستأنفة كأنه قيل: فماذا قالوا لداود لما فزع منهم (خصمان) أي نحن خصمان وجاء فيما سبق بلفظ الجمع، وهنا(12/28)
بلفظ التثنية لما ذكرنا من أن لفظ الخصم يحتمل المفرد والمثنى والمجموع، فالكل جائز قال الخليل: هو كما تقول: نحن فعلنا كذا إذا كنتما اثنين: وقال الكسائي جمع لما كان خبراً فلما انقضى الخبر وجاءت المخاطبة أخبر الإثنان عن أنفسهما فقالا: خصمان وقوله.
(بغى بعضنا على بعض) هو على سبيل الفرض والتقدير أو على سبيل التعريض، لأن من المعلوم أن الملكين لا يبغيان؛ ثم طلبا منه أن يحكم بينهما بالحق ونهياه عن الجور فقالا: (فاحكم بيننا بالحق ولا تشطط) أي لا تجر في حكمك يقال: شط الرجل وأشط شططاً وإشطاطاً إذا جار في حكمه وتجاوز الحد قال أبو عبيدة شططت عليه وأشططت فيه أي جرت فهو مما اتفق فيه فعل وأفعل وقال الأخفش معناه لا تسرف وقيل لا تفرط وقيل لا تمل والمعنى متقارب والأصل فيه البعد من شطت الدار إذا بعدت قال أبو عمر: والشطط مجاوزة القدر في كل شيء.
(وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ) أي وسطه ومحجته أي العدل والصواب، والمعنى أرشدنا إلى الحق واحملنا عليه ثم لما أخبراه عن الخصومة إجمالاً شرعا في تفصيلها وشرحها فقال:(12/29)
إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ (23)
(إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً) المراد بالأخوة هنا أخوة الدين، قاله ابن مسعود، أو الصحبة أو الألفة أو أخوة الشركة والخلطة، والنعجة هي الأنثى من الضأن، وقد يقال لبقر الوحش: نعجة ويعبر بها عن المرأة لما هي عليه من السكون والعجز وضعف الجانب وقد يكنّى عنها بالبقرة والحجر والناقة لأن الكل مركوب قال الواحدي النعجة البقرة الوحشية والعرب تكني عن المرأة بها وتشبه النساء بالنعاج من البقر، قرأ الجمهور تسع وتسعون بكسر التاء، وقرىء بفتحها، قال النحاس وهي لغة شاذة، وإنما عنى بهذا داود لأنه كان له تسع وتسعون امرأة وعنى بقوله:
(ولي نعجة واحدة) أوريا زوج المرأة التي أراد أن يتزوجها داود (1) كما تقدم بيان ذلك (فقال أكفلنيها) أي ضمها إليّ وانزل لي عنها حتى أكفلها
_________
(1) راجع تعليقات المطيعي رقم 1 في الاستدراك آخر الكتاب.(12/29)
وأصير بعلاً لها قال ابن كيسان اجعلها كفلي ونصيبي قال ابن مسعود ما زاد داود على أن قال اكفلنيها وعن ابن عباس قال ما زاد داود على أن قال تحول لي عنها وهذا يخالف ما سبق عنه (1).
(وعزني في الخطاب) أي غلبني يقال عزه يعزه عزاً إذا غلبه، وفي المثل من عزّ بزّ أي من غلب أخذ السلب، والإسم العزة، وهي القوة قال عطاء المعنى إن تكلم كان أفصح مني، وإن حارب كان أبطش مني لقوة ملكه فالغلبة كانت له عليّ لضعفي في يده، وإن كان الحق معي، وهذا كله تمثيل، وقرىء وعازني أي غالبني من المعازة وهي المغالبة.
_________
(1) قال المفسر (ص 160) " ولي نعجة واحدة " أوريا .. الخ. وجاء التعليق هكذا: كان على المصنف أن لا يقحم قصة أوريا الإسرائيلية في مفهوم الآيات، لا سيما وقد سبق له أنه نقل إن الصحابة رفضوا هذه القصة.(12/30)
قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ (24)
(قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ) أي بسؤاله نعجتك ليضمها إلى نعاجه التسع والتسعين إن كان الأمر على ما تقول واللام هي الموطئة للقسم، وهي وما بعدها جواب القسم المقدر، وجاء بالقسم في كلامه مبالغة في إنكار ما سمعه من طلب صاحب التسع والتسعين النعجة أن يضم إليه النعجة الواحدة التي مع صاحبه ولم يكن معه غيرها ويمكن أنه إنما قال بهذا بعد أن سمع الإعتراف من الآخر قال النحاس ويقال إن خطيئة داود هي قوله لقد ظلمك لأنه قال ذلك قبل أن يتثبت.
(وإن كثيراً من الخلطاء) وهم الشركاء واحدهم خليط، وهو المخالط في المال (ليبغي) اللام لام التوكيد وقعت في خبر إن أي يتعدى (بعضهم على بعض) ويظلمه غير مراع لحقه (إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات) فإنهم يتحامون ذلك، ولا يظلمون خليطاً ولا غيره والإستثناء متصل (وقليل ما هم) أي وقليل هم، وما زائدة لتوكيد القلة والتعجيب وقيل هي موصولة وهم مبتدأ وقليل خبره، عن ابن عباس قال يقول قليل الذي هم فيه.(12/30)
(وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ) قال أبو عمرو والفراء: ظن بمعنى أيقن، ومعنى فتناه إبتليناه، وقال ابن عباس. اختبرناه، والمعنى أنه عند أن تخاصما إليه، وقال ما قال، علم عند ذلك أنه المراد وأن مقصودهما التعريص به وبصاحبه الذي أراد أن ينزل له عن امرأته، قال الواحدي قال المفسرون، فلما قضى بينهما داود نظر أحدهما إلى صاحبه فضحك فعند ذلك علم داود بما أراداه قرأ الجمهور فتناه بالتخفيف للتاء وتشديد النون وقرىء بالتشديد للتاء والنون وهي مبالغة في الفتنة، وقرأ الضحاك أفتناه، وقرىء فتناه بتخفيفهما وإسناد الفعل إلى الملكين.
(فاستغفر ربه) لذنبه (وخر راكعاً) أي ساجداً، وعبر بالركوع عن السجود لأن كل واحد منهما فيه انحناء، وقيل: خر ساجداً بعد ما كان راكعاً، قال ابن العربي لا خلاف بين العلماء أن المراد بالركوع هنا السجود فإن السجود هو الميل والركوع هو الإنحناء وأحدهما يدخل في الآخر ولكنه قد يختص كل واحد منهما بهيئته ثم جاء هذا على تسمية أحدهما بالآخر وقيل المعنى للسجود راكعاً أي مصلياً وقيل: بل كان ركوعهم سجوداً، وقيل: بل كان سجودهم ركوعاً.
(وأناب) أي رجع إلى الله بالتوبة من ذنبه، قال المفسرون: سجد داود أربعين يوماً لا يرفع رأسه إلا لحاجة أو لوقت صلاة مكتوبة ثم يعود ساجداً إلى تمام أربعين لا يأكل ولا يشرب وهو يبكي حتى نبت العشب حول رأسه وهو ينادي ربه عز وجل ويسأله التوبة ثم أنزل الله له التوبة والمغفرة وقد اختلف المفسرون في ذنب داود الذي استغفر له وتاب عنه على أقوال.
الأول: أنه نظر إلى امرأة الرجل الذي أراد أن تكون زوجة له كذا قال سعيد بن جبير وغيره قال الزجاج ولم يتعمد داود النظر إلى المرأة لكنه عاود(12/31)
النظر إليها وصارت الأولى له والثانية عليه.
الثاني: أنه أرسل زوجها في جملة الغزاة.
الثالث: أنه نوى إن مات زوجها أن يتزوجها.
الرابع: أن أوريا بن حنان كان خطب تلك المرأة فلما غاب خطبها داود فزوجت منه لجلالته، فاغتم لذلك أوريا فعتب الله عليه حيث لم يتركها لخاطبها.
الخامس: أنه لم يجزع على قتل أوريا كما كان يجزع على من هلك من الجند، ثم تزوج امرأته فعاتبه الله على ذلك لأن ذنوب الأنبياء وإن صغرت فهي عظيمة.
السادس: أنه حكم لأحد الخصمين قبل أن يسمع من الآخر كما قدمنا، وأقول الظاهر من الخصومة التي وقعت بين الملكين تعريضاً لداود عليه السلام أنه طلب من زوج المرأة الواحدة أن ينزل له عنها ويضمها إلى نسائه، ولا ينافي هذا العصمة الكائنة للأنبياء فقد نبهه الله على ذلك وعرض له بإرسال ملائكته إليه ليتخاصموا في مثل قصته حتى يستغفر لذنبه ويتوب منه، فاستغفر وتاب عنه.
وقد قال تعالى: (وعصى آدم ربه فغوى) وهو أبو البشر، وأول الأنبياء ووقع لغيره من الأنبياء ما قصه الله علينا في كتابه، وفي الآية ما يدل على صدور الذنب منه، وهو قوله (وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ) وقوله (فاستغفر ربه) وقوله (وأناب) وقوله:(12/32)
فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ (25)
(فغفرنا له ذلك) والجواب عن هذا بأن حسنات الأبرار سيئات المقربين ليس كما ينبغي، والأولى ما ذكرناه، ثم أخبر سبحانه أنه قبل استغفاره وتوبته فقال:(12/32)
فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ (25) يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ (26) وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (27)
(فغفرنا له ذلك) الذنب الذي استغفر منه قال عطاء الخراساني وغيره إن داود بقي ساجداً أربعين يوماً حتى نبت الرعي حول وجهه، وغمر رأسه قال ابن الأنباري: الوقف على قوله: ذلك تام. ثم يبتدأ الكلام بقوله.
(وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ) والزلفى القربة والكرامة بعد المغفرة لذنبه، قال مجاهد الزلفى الدنو من الله عز وجل يوم القيامة والمراد بحسن المآب حسن المرجع وهو الجنة.
وأخرج ابن مردويه عن عمر بن الخطاب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم " أنه ذكر يوم القيامة فعظم شأنه وشدته قال: ويقول الرحمن عز وجل لداود عليه السلام: مر بين يدي، فيقول داود: يا رب أخاف أن تدحضني خطيئتي، خذ بقدمي، فيأخذ بقدمه عز وجل فيمر قال فتلك الزلفى التي قال الله (وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ).
وأخرج أحمد والبخاري وأبو داود والترمذي والنسائي وابن مردويه والبيهقي في سننه عن ابن عباس أنه قال في السجود في (ص) ليست من عزائم السجود وقد " رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسجد فيها " وأخرج النسائي وابن مردويه بسند جيد عنه أيضاًً " أن النبي صلى الله عليه(12/33)
وسلم سجد في (ص) وقال: سجدها داود توبة ونسجدها شكراً " (1).
وأخرج ابن مردويه عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد في (ص) وعن أنس مثله مرفوعاً، أخرجه ابن مردويه وأخرج الدارمي وأبو داود وابن خزيمة وابن حبان والدارقطني والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في سننه عن أبي سعيد قال " قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر (ص) فلما بلغ السجدة نزل فسجد وسجد الناس معه؛ فلما كان يوم آخر قرأها فلما بلغ السجدة تهيأ الناس للسجود فقال إنما هي توبة ولكني رأيتكم تهيأتم للسجود فنزل فسجد ".
_________
(1) النسائي 2/ 319 السنن الكبرى.(12/34)
يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ (26)
(يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض) لما تمم سبحانه قصة داود أردفها ببيان تفويض أمر خلافة الأرض إليه، والجملة مقولة لقول مقدر معطوف على غفرنا أي وقلنا له: يا داود إنا استخلفناك على الأرض، أو جعلناك خليفة لمن قبلك من الأنبياء لتأمر بالمعروف وتنهي عن المنكر وتدبر أمر الناس، وفيه دليل على أن حاله بعد التوبة بقيت على ما كانت عليه لم تتغير قط.
(فاحكم بين الناس بالحق) أي بالعدل الذي هو حكم الله بين عباده لأن الأحكام إذا كانت مطابقة للشريعة الحقة الإلهية انتظمت مصالح العالم واتسعت أبواب الخيرات، وإذا كانت الأحكام على وفق الأهوية وتحصيل مقاصد الأنفس أفضى إلى تخريب العالم ووقوع الهرج فيه؛ والمرج في الخلق وذلك يفضي إلى هلاك ذلك الحاكم.
(ولا تتبع الهوى). أي هوى النفس في الحكم بين العباد وفيه تنبيه لداود عليه السلام أن الذي عوتب عليه ليس بعدل، وأن فيه شائبة من اتباع هوى النفس.
(فيضلك عن سبيل الله) بالنصب على أنه جواب النهي، والفاعل(12/34)
هو الهوى، ويجوز أن يكون الفعل مجزوماً بالعطف على النهي، وإنما حرك لالتقاء الساكنين، فعلى الوجه الأول يكون المنهي عنه الجمع بينهما وعلى الثاني يكون النهي عن كل واحد منهما على حدة، وسبيل الله هو طريق الجنة أو دلائله التي نصبها على الحق تشريعاً وتكويناً.
(إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد) تعليل للنهي عن اتباع الهوى، والوقوع في الضلال (بما نسوا يوم الحساب) الباء للسببية، ومعنى النسيان الترك، قال الزجاج: أي بتركهم العمل لذلك اليوم صاروا بمنزلة الناسين، وإن كانوا ينظرون ويذكرون ولو أيقنوا بيوم الحساب لآمنوا في الدنيا.
وقال عكرمة والسدي: في الآية تقديم وتأخير، والتقدير، ولهم عذاب يوم الحساب بما نسوا أي تركوا القضاء بالعدل والأول أولى.(12/35)
وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (27)
(وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلاً) مستأنفة مقررة لمضمون ما قبلها من أمر البعث والحساب أي ما خلقنا هذه الأشياء خلقاً باطلاً خارجاً عن الحكمة الباهرة، بل خلقناها للدلالة على قدرتنا. فانتصاب باطلاً على المصدرية أو على الحالية أو على أنه مفعول لأجله، والإشارة بقوله (ذلك) إلى النفي قبله وهو مبتدأ وخبره: (ظن الذين كفروا) أي مظنونهم فإنهم يظنون أن هذه الأشياء خلقت لا لغرض ويقولون: إنه لا قيامة ولا بعث ولا حساب، وذلك يستلزم أن يكون خلق هذه المخلوقات باطلاً.
(فويل للذين كفروا من النار) الفاء لإفادة ترتب ثبوت الويل لهم على ظنهم الباطل أي فويل لهم بسبب النار المترتبة على ظنهم وكفرهم، كما أن وضع الموصول موضع ضميرهم للإشعار بعلية للصلة، لاستحقاقهم الويل، ثم وبخهم وبكتهم فقال:(12/35)
أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (28) كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (29) وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (30) إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ (31) فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ (32) رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ (33)(12/36)
أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (28)
(أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ) قال مقاتل: قال كفار قريش للمؤمنين: إنا نعطي في الآخرة كما تعطون فنزلت وأم هي المنقطعة المقدرة ببل، والهمزة للإضراب الانتقالي عن تقرير أمر البعث والحساب والجزاء، بما مر من نفي خلق العالم خالياً عن الحكم والمصالح إلى تقريره وتحقيقه بما في الهمزة من إنكار التسوية بين الفريقين، ونفيها على أبلغ وجه وآكده؛ أي بل أنجعل الذين آمنوا بالله وصدقوا رسله وعملوا بفرائضه كالكفرة المفسدين في أقطار الأرض بالمعاصي.
قال ابن عباس في الآية الذين آمنوا عليّ وحمزة وعبيدة بن الحارث والمفسدون في الأرض عتبة وشيبة والوليد ثم أضرب سبحانه إضراباً آخر وانتقل عن الأول إلى ما هو أظهر استحالة منه فقال:
(أم نجعل المتقين كالفجار) أي بل أنجعل أتقياء المؤمنين كأشقياء الكافرين والمنافقين؟ وحمل الفجار على المنهمكين في معاصي الله سبحانه من المسلمين، مما لا يساعده المقام، وقيل المراد بالمتقين الصحابة ولا وجه للتخصيص بغير مخصص والاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، ويجوز أن يراد بهذين الفريقين على الأولين ويكون التكرير باعتبار وصفين آخرين هما أدخل في إنكار التسوية من الوصفين الأولين.(12/36)
كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (29)
(كتاب) أي القرآن كتاب (أنزلناه إليك) يا محمد (مبارك). أي(12/36)
كثير الخير والبركة (ليدبروا آياته) أي التي من جملتها هذه الآيات المعربة عن أسرار التكوين والتشريع، وهو متعلق بأنزلناه؛ وفي الآية دليل على أن الله سبحانه إنما أنزل القرآن للتدبر والتفكر في معانيه لا لمجرد التلاوة بدون تدبر، قال الحسن قد قرأ هذا القرآن عبيد وصبيان لا علم لهم بتأويله حفظوا حروفه وضيعوا حدوده، قرأ الجمهور ليدبروا بالإدغام، وقرىء لتدبروا بالتاء الفوقية على الخطاب وهي قراءة عليّ رضي الله تعالى عنه والأصل لتتدبروا.
(وليتذكر أولو الألباب) أي ليتعظ أهل العقول والبصائر والألباب جمع لب وهو العقل.(12/37)
وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (30)
(ووهبنا لداود سليمان) أخبر سبحانه بأن من جملة نعمه على داود أنه وهب له سليمان ولداً ثم مدح سليمان فقال (نعم العبد) أي سليمان فالمخصوص بالمدح محذوف، وقيل: إن المدح هنا بقوله نعم العبد هو لداود، والأول أولى وجملة (إنه أواب) تعليل لما قبلها من المدح والأواب الرجاع إلى الله بالتوبة، كما تقدم بيانه.(12/37)
إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ (31)
(إذ عرض عليه بالعشي) أي اذكر ما صدر عنه وقت أن عرض عليه (الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ) وقيل: هو متعلق بنعم، وهو مع كونه غير متصرف لا وجه لتقييده بذلك الوقت، قيل: متعلق بأواب، ولا وجه لتقييد كونه أواباً بذلك الوقت، والعشي من الظهر أو العصر إلى آخر النهار. والصافنات جمع صافن.
وقد اختلف أهل اللغة في معناه، فقال القتيبي والفراء الصافن في كلام العرب الواقف من الخيل أو غيرها وبه قال قتادة ومنه الحديث " من أحب أن يتمثل له الناس صفونا فليتبوأ مقعده من النار (1) "، أي يديمون القيام له وقال
_________
(1) لم نره بهذا اللفظ ورواه الترمذي 2/ 100 من حديث معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه قال: " من سره أن يتمثل به الرجال قياماً فليتبؤوا مقعده من النار " ورواه أبو داود 5229. وأحمد 4/ 91 باختلاف في الرواية.(12/37)
الزجاج هو الذي يقف على إحدى اليدين ويرفع الأخرى، ويجعل على الأرض طرف الحافر منها، حتى كأنه يقوم على ثلاث وهي الرجلان وإحدى اليدين وقد يفعل ذلك بإحدى رجليه، وهي علامة الفراهة.
وقال أبو عبيدة الصافن الذي يجمع يديه ويسويهما وأما الذي يقف على سنبكه فاسمه المتخيم، والجياد جمع جواد يقال للفرس ذكراً كان أو أنثى إذا كان شديد العدو، وقيل: إنها الطوال الأعناق، مأخوذ من الجيد وهو العنق وقيل الذي يجود في الركض، قيل كانت مائة فرس. وقيل كانت عشرين ألفاً قيل كانت عشرين فرساً، وعن إبراهيم التيمي قال كانت عشرين ألف فرس ذات أجنحة فعقرها، وقيل إنها خرجت له من البحر وكانت لها أجنحة (1).
وعن أبي هريرة قال الصافنات الجياد خيل خلقت على ما شاء وعن مجاهد قال صفون الفرس رفع إحدى يديه حتى يكون على أطراف الحافر والجياد السراع لأنه يجود بالركض وصفها بالصفون لأنه لا يكون في الهجان، وإنما هو في العراب، وقيل: وصفها بالصفون والجودة ليجمع لها بين الوصفين المحمودين، واقفة وجارية يعني إذا وقفت كانت ساكنة مطمئنة في مواقفها، وإذا جرت كانت سراعاً خفافاً في جريها، قيل إن سليمان غزا أهل دمشق ونصيبين فأصاب ألف فرس، وقيل ورثها من أبيه وأصابها أبوه من العمالقة.
_________
(1) قد يكون في هذا القول غرابة لأننا لم نسمع بخيل لها أجنحة إلا أنه ليس بمستبعد لأن الله وهب لسليمان ملكاً لا ينبغي لأحد من بعد.(12/38)
فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ (32)
(فقال) اعترافاً بما صدر منه وندماً عليه وتمهيداً لما يعقبه من الأمر بردها وعقرها والتعقيب باعتبار آخر العرض الممتد دون ابتدائه (إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي) انتصاب حب على أنه مفعول أحببت بعد تضمينه معنى آثرت، قال الفراء يقول آثرت حب الخير، وكل من أحب شيئاًً فقد آثره وقيل انتصابه على المصدرية بحذف الزوائد، والناصب له أحببت، وقيل هو مصدر تشبيهي أي حباً مثل حب الخير، والأول أولى، والمراد بالخير هنا(12/38)
الخيل، قاله الزجاج، وقال الفراء الخير والخيل في كلام العرب واحد، وأنها تعاقب بين الراء واللام فتقول انهملت العين وانهمرت وختلت وخترت، قال النحاس وفي الحديث، الخيل معقود بنواصيها الخير فكأنها سميت خيراً لهذا وقيل لما فيها من المنافع وعن بمعنى على، أي آثرت حب الخيل على ذكر ربي يعني صلاة العصر، وبه قال علي، وقال ابن عباس الخير المال، وقيل أحببت بمعنى لزمت، وقيل بمعنى قعدت من أحب البعير إذا سقط وبرك من الإعياء، وفيل بمعنى أردت.
(حتى توارت بالحجاب) يعني الشمس ولم يتقدم لها ذكر ولكن المقام يدل على ذلك، قال الزجاج إنما يجوز الإضمار إذا جرى ذكر الشيء أو دليل الذكر، وقد جرى هنا الدليل. وهو قوله بالعشي، والتواري الاستتار عن الأبصار والحجاب ما يحجبها عن الأبصار، قال قتادة وكعب الحجاب جبل أخضر محيط بالخلائق وهو جبل قاف، وسمي الليل حجاباً لأنه يستر ما فيه ويقال إن الحجاب جبل دون قاف بمسيرة سنة تغرب الشمس من ورائه وفيه بعد وبرودة (1)، وعن ابن مسعود قال توارت من وراء ياقوتة خضراء فخضرة السماء منها، وعن ابن عباس قال كان سليمان لا يكلم إعظاماً له فلقد فاتته صلاة العصر وما استطاع أحد أن يكلمه، وقيل الضمير للخيل أي حتى توارت في المسابقة عن الأعين، والأول أولى.
وقوله:
_________
(1) قال المفسر (ص 168) " حتى توارت بالحجاب " قال قتادة وكعب: الحجاب جبل أخضر محيط بالخلائق، وهو جبل قاف الخ. وكان تعليق الأستاذ طويلاً وخلاصته أنه لا يوجد في الدنيا جبل اسمه جبل قاف، وقد حصرت جبال الدنيا الآن وعرف الإنسان جميع الجبال وأسماءها وأماكنها.(12/39)
رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ (33)
(ردوها عليّ) من تمام كلام سليمان أي أعيدوا عرضها عليّ مرة أخرى، قال الحسن إن سليمان لما شغله عرض الخيل حتى فاتته صلاة العصر(12/39)
غضب لله، وقال ردوها عليّ، أي أعيدوها، وقال ابن عباس ردوها أي الخيل وقيل الضمير يعود إلى الشمس، ويكون ذلك معجزة له، وإنما أمر بإرجاعها بعد مغيبها لأجل أن يصلي العصر، والأول أولى.
(فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ) الفاء هي الفصيحة التي تدل على محذوف في الكلام والتقدير هنا فردوها عليه قال أبو عبيدة طفق يفعل مثل ما زال يفعل، وهو مثل ظل وبات وانتصاب مسحاً على المصدرية بفعل مقدر، أي يمسح مسحاً لأن خبر طفق لا يكون إلا فعلاً مضارعاً، وقيل: هو مصدر في موضع الحال والأول أولى والسوق جمع ساق والأعناق جمع عنق والمراد أنه طفق يضرب أعناقها وسوقها بالسيف، يقال مسح علاوته أي ضرب عنقه قال الفراء المسح هنا القطع قال: والمعنى أنه أقبل يضرب سوقها وأعناقها لأنها كانت سبب فوت صلاته، وكذا قال أبو عبيدة قال الزجاج ولم يكن يفعل ذلك إلا وقد أباحه الله له، وجاز أن يباح ذلك لسليمان. ويحظر في هذا الوقت.
وقد اختلف المفسرون في تفسير هذه الآية فقال قوم المراد بالمسح ما تقدم وقال آخرون منهم الزهري وقتادة أن المراد به المسح على سوقها وأعناقها لكشف الغبار عنها حيالها، والقول الأول أولى بسياق الكلام فإنه ذكر أنه آثرها على ذكر ربه حتى فاتته صلاة العصر، ثم أمرهم بردها عليه ليعاقب نفسه بإفساد ما ألهاه عن ذلك. وما صده عن عبادة ربه، وشغله عن القيام بما فرضه الله عليه، ولا يناسب هذا أن يكون الغرض من ردها عليه هو كشف الغبار عن سوقها وأعناقها بالمسح عليها بيده، أو بثوبه، ولا متمسك لمن قال إن إفساد المال لا يصدر عن نبي فإن هذا مجرد استبعاد باعتبار ما هو المتقرر في شرعنا مع جواز أن يكون في شرع سليمان أن مثل هذا مباح.(12/40)
على أن إفساد المال المنهي عنه في شرعنا إنما هو مجرد إضاعته لغير غرض صحيح وأما لغرض صحيح فقد جاز مثله في شرعنا، كما وقع منه صلى الله عليه وسلم من إكفاء القدور التي طبخت من الغنيمة قبل القسمة، ولهذا نظائر كثيرة في الشريعة، ومن ذلك ما وقع من الصحابة من إحراق طعام المحتكر، قال ابن عباس مسحاً عقراً بالسيف، أي قطع سوقها وأعناقها بالسيف.
قال الرازي: التفسير الحق المطابق لألفاظ القرآن أن تقول: إن رباط الخيل كان مندوباً إليه في دينهم كما أنه كذلك في ديننا. ثم إن سليمان احتاج إلى غزو فجلس وأمر بإحضار الخيل وأمر بإجرائها وذكر أني لا أحبها لأجل الدنيا ونصيب النفس، وإنما أحبها لأمر الله تعالى، وتقوية دينه، وهو المراد بقوله عن ذكر ربي، ثم إنه أمر بإعدائها وإجرائها حتى توارت بالحجاب ثم أمر برد الخيل إليه فلما عادت إليه طفق يمسح والغرض من ذلك المسح أمور:
الأول: تشريفها لكونها من أعظم الأعوان في دفع العدو.
الثاني: أنه أراد أن يظهر أنه في ضبط السياسة والمملكة يبلغ إلى أنه يباشر الأمور بنفسه.
الثالث: أنه أعلم بأحوال الخيل وأمراضها وعيوبها من غيره فكان يمسح حتى يعلم ما فيها مما يدل على المرض، فهذا التفسير الذي ذكرناه ينطبق عليه لفظ القرآن ولا يلزمنا شيء من تلك المنكرات والمحظورات انتهى وما أبرد هذا التفسير من الرازي، وأبعده عن النظم القرآني والحق ما ذكرناه فإن اللغة تشهد بضرب السوق والأعناق، ولا وجه للعدول عنه إلى تأويل ركيك، وتوجيه بعيد، بناء على عصمة الأنبياء عليهم السلام.(12/41)
وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ (34) قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (35) فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ (36) وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (37) وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (38)(12/42)
وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ (34)
(ولقد فتنا سليمان) أي ابتليناه واختبرناه بسلب ملكه قال الواحدي قال أكثر المفسرين: تزوج سليمان امرأة من بنات الملوك فعبدت الصنم في داره، ولم يعلم بذلك سليمان، فامتحن بسبب غفلته عن ذلك وقيل: إن سبب الفتنة أنه تزوج سليمان امرأة يقال لها جرادة وكان يحبها حباً شديداً فاختصم إليه فريقان أحدهما من أهل جرادة فأحب أن يكون القضاء لهم، ثم قضى بينهم بالحق.
وقيل السبب أنه احتجب عن الناس ثلاثة أيام لا يقضي بين أحد، وقيل إنه تزوج جرادة هذه وهي مشركة لأنه عرض عليها الإسلام فقالت: اقتلني ولا أسلم.
وقال كعب الأحبار: إنه لما ظلم الخيل بالقتل سلب ملكه، وقال الحسن إنه قارب بعض نسائه في شيء من حيض أو غيره.
وقيل إنه أمر أن لا يتزوج امرأة إلا من بني إسرائيل فتزوج امرأة من غيرهم.
وقيل إن سبب فتنته ما ثبت في الحديث الصحيح " أنه قال: لأطوفن الليلة على تسعين امرأة تأتي كل واحدة بفارس يقاتل في سبيل الله، ولم يقل إن شاء الله " وقيل غير ذلك والمصير إلى الحديث متعين.(12/42)
قال النسفي وأما ما يروى من حديث الخاتم والشيطان وعبادة الوثن في بيت سليمان فمن أباطيل اليهود انتهى، أقول حديث الخاتم أخرجه النسائي وغيره وقواه السيوطي كما سيأتي فكونه من أباطيل اليهود ليس على ما ينبغي (1) ثم بين سبحانه ما عاقبه به فقال:
ْ (وألقينا على كرسيه جسداً) قال أكثر المفسرين هذا الجسد الذي ألقاه الله على كرسي سليمان هو شيطان اسمه صخر، وكان متمرداً عليه غير داخل في طاعته. ألقى الله شبه سليمان عليه، وما زال يحتال حتى ظفر بخاتم سليمان وذلك عند دخول سليمان الكنيف لأنه كان يلقيه إذا دخل الكنيف فجاء صخر في صورة سليمان فأخذ الخاتم من امرأة من نساء سليمان فقعد على سرير سليمان، وأقام أربعين يوماً على ملكه، وسليمان هارب كان ملكه مرتباً على لبسه، فإذا لبسه سخرت له الجن والإنس والرياح وغيرها وإذا نزعه زال عنه الملك.
قيل وكان خاتمه من الجنة نزل به آدم كما نزل بعصا موسى والحجر الأسود وبعود البخور وبأوراق التين وقد نظم الخمسة بعضهم في قوله:
وآدم معه أنزل العود والعصا ... لموسى من الآس النبات المكرم
وأوراق تين واليمين بمكة ... وختم سليمان النبي المعظم
ولكن يفتقر ذلك إلى دليل يدل له من الأخبار المرفوعة الصحيحة.
وقال مجاهد إن شيطاناً قال له سليمان كيف تفتنون الناس؟ قال أرني خاتمك أخبرك، فلما أعطاه إياه نبذه في البحر فذهب ملكه وقعد الشيطان على
_________
(1) حاول المفسر (170) أن يصحح حديث خاتم سليمان، وقد قال عنه النسفي إنه من أباطيل اليهود، والمفسر في محاولته احتج بتقوية السيوطي له، فجاء التعليق هكذا: لا يبعد أن يدس اليهود بعض الأباطيل على المسلمين ليفسدوا هذا الدين الذي قوض ملكهم، وأما تقوية السيوطي فلا وزن لها لما عرف عنه من تصحيح الضعيف. وأما ما نقله عن كعب الأخبار قبل ذلك بسطرين من ظلم سليمان فأرجو أن لا يقيم له القارىء وزناً.(12/43)
كرسيه ومنعه الله نساء سليمان، فلم يقربهن، وكان سليمان يستطعم فيقول أتعرفونني؟ أطعموني، فيكذبوه حتى أعطته امرأة يوما حوتاً فشق بطنه فوجد خاتمه في بطنه فرجع إليه ملكه وهو معنى قوله (1):
(ثم أناب) أي رجع إلى ملكه بعد أربعين، وقيل معنى أناب رجع إلى الله بالتوبة من ذنبه، وهذا هو الصواب، قيل فتن سليمان بعدما ملك عشرين سنة وملك بعد الفتنة عشرين سنة أخرج الحاكم وصححه والفريابي والحكيم الترمذي عن ابن عباس، قال الشيطان الذي كان على كرسيه يقضي بين الناس أربعين يوماً، وكان لسليمان امرأة يقال لها جرادة وكان بين بعض أهلها وبين قوم خصومة فقضى بينهم بالحق إلا أنه ود أن الحق كان لأهلها فأوحى الله إليه أن سيصيبك بلاء فكان لا يدري أيأتيه من السماء؟ أم من الأرض؟.
وأخرج النسائي وابن جرير وابن أبي حاتم بسند قال السيوطي قوي عن ابن عباس " قال أراد سليمان أن يدخل الخلاء فأعطى جرادة خاتمه وكانت جرادة امرأته، وكانت أحب نسائه إليه فجاء الشيطان في صورة سليمان فقال لها: هاتي خاتمي فأعطته فلما لبسه دانت له الإنس والجن والشياطين، فلما خرج سليمان من الخلاء قال هاتي خاتمي قالت قد أعطيته سليمان قال أنا سليمان قالت كذبت لست سليمان، فجعل لا يأتي أحداً يقول أنا سليمان إلا كذبه حتى جعل الصبيان يرمونه بالحجارة، فلما رأى ذلك عرف أنه من أمر الله وقام الشيطان يحكم بين الناس؛ فلما أراد الله أن يرد على سليمان سلطانه ألقى في قلوب الناس إنكار ذلك الشيطان فأرسلوا إلى نساء سليمان فقالوا لهن تنكرن
_________
(1) ذكر المؤلف (ص 171) عن مجاهد بضعة أسطر فجاء تعليق الأستاذ هكذا: هذا الكلام بأقاصيص ألف ليلة وليلة أشبه، وأبعد ما يكون عن سير المرسلين.(12/44)
من أمر سليمان شيئاًً؟ قلن نعم إنه يأتينا ونحن نحيض وما كان يأتينا قبل ذلك فلما رأى الشيطان أنه قد فطن له ظن أن أمره قد انقطع فكتبوا كتباً فيها سحر وكفر فدفنوها تحت كرسي سليمان، ثم أثاروها وقرأوها على الناس، وقالوا: بهذا كان يظهر سليمان على الناس ويغلبهم. فأكفر الناس سليمان، فلم يزالوا يكفرونه، وبعث ذلك الشيطان بالخاتم فطرحه في البحر فتلقته سمكة فأخذته وكان سليمان يعمل على شط البحر بالأجر فجاء رجل فاشترى سمكاً فيه تلك السمكة التي في بطنها الخاتم فدعا سليمان فقال: تحمل لي هذا السمك؟ قال نعم بكم؟ قال بسمكة من هذا السمك فحمل سليمان السمك ثم أنطلق به إلى منزله، فلما انتهى الرجل إلى باب داره أعطاه تلك السمكة التي في بطنها الخاتم فأخذها سليمان فشق بطنها فإذا الخاتم في جوفها فأخذه فلبسه فلما لبسه دانت له الجن والإنس والشياطين وعاد إلى حاله وهرب الشيطان حتى لحق بجزيرة من جزائر البحر فأرسل سليمان في طلبه وكان شيطاناً مريداً فجعلوا يطلبونه ولا يقدرون عليه حتى وجدوه يوماً نائماً فجاؤوا فبنوا عليه بنياناً من رصاص فاستيقظ فوثب، فجعل لا يثب في مكان من البيت إلا انباط معه الرصاص فأخذوه فأوثقوه وجاؤا به إلى سليمان فأمر به فنقر له تخت من رخام، ثم أدخله في جوفه ثم شد بالنحاس، ثم أمر به فطرح في البحر فذلك قوله (وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا) يعني الشيطان الذي كان سلط عليه (1).
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال صخر الجني تمثل على كرسيه على صورته.
_________
(1) ذكر المؤلف (ص 171) عن النسائي وابن جرير قصة طويلة عن خاتم سليمان، وهي قصة موضوعة؛ ومما يدل على وضعها أن الشيطان جاء في صورة سليمان، والشيطان لا يتصور بصورة الأنبياء ووغيرهم.(12/45)
قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (35)
(قال) سليمان (رب اغفر لي) ما صدر عني من الذنب الذي ابتليتني لأجله وطلب المغفرة دأب الأنبياء والصلحاء، هضماً للنفس وإظهاراً للذل والخشوع، وطلباً للترقي في المقامات ثم لما قدم التوبة والاستغفار جعلها وسيلة إلى إجابة طلبته فقال:
(وهب لي ملكاً لا ينبغي لأحد من بعدي) قال أبو عبيدة معناه لا يكون لأحد من بعدي، وقيل لا ينبغي لأحد أن يسلبه مني بعد هذه السلبة أو لا يصح لأحد من بعدي لعظمته، وليس هذا من سؤال نبي الله سليمان عليه السلام للدنيا وملكها، والشرف بين أهلها بل المراد بسؤاله الملك أن يتمكن به من إنقاذ حكم الله سبحانه والأخذ على يد المتمردين من عباده من الجن والإنس ولو لم يكن من المقتضيات لهذا السؤال منه إلا ما رآه عند قعود الشيطان على كرسيه من الأحكام الشيطانية الجارية في عباد الله لكفى.
وجملة (إنك أنت الوهاب) تعليل لما قبلها مما طلبه من مغفرة الله له وهبة الملك الذي لا ينبغي لأحد من بعده، لا بالأخيرة فقط، فإن المغفرة أيضاًً من أحكام وصف الوهابية قطعاً قاله أبو السعود.
وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن عفريتاً من الجن جعل يتفلت عليّ البارحة ليقطع عليّ صلاتي، وإن الله أمكنني منه فلقد هممت أن أربطه إلى سارية من سواري المسجد حتى تصبحوا فتنظروا إليه كلكم، فذكرت قول أخي سليمان: (وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي) فرده الله خاسئاً " (1) ثم ذكر سبحانه إجابته لدعوته وإعطاءه لمسألته فقال:
_________
(1) رواه البخاري 6/ 329 و8/ 420 ومسلم 1/ 384 والسيوطي في الدر 5/ 313.(12/46)
فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ (36)
(فسخرنا له الريح) أي ذللناها له، وجعلناها منقادة لأمره ثم بين(12/46)
كيفية التسخير لها بقوله: (تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً) أي لينة الهبوب ليست بالعاصف مأخوذ من الرخاوة والمعنى أنها ريح لينة لا تزعزع ولا تعصف مع قوة هبوبها وسرعة جريها ولا ينافي هذا قوله في آية أخرى ولسليمان الريح عاصفة تجري بأمره، لأن المراد أنها في قوة العاصفة ولا تعصف وقيل إنها كانت تارة رخاء وتارة عاصفة، على ما يريده سليمان ويشتهيه، وهذا أولى في الجمع بين الآيتين.
(حيث أصاب) قال الزجاج إجماع أهل اللغة والمفسرين على أن معنى حيث أصاب حيث أراد، وحقيقته حيث قصد، وقال الأصمعي وابن الأعرابي العرب تقول أصاب الصواب، وأخطأ الجواب. وقيل معنى أصاب بلغة حمير أراد، وليس من لغة العرب، وقيل هو بلسان هجر والأول أولى وهو مأخوذ من إصابة السهم للغرض.(12/47)
وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (37)
(و) سخرنا له (الشياطين) وقوله: (كل بناء وغواص) بدل من الشياطين أي كل بناء منهم، وغواص منهم، يبنون له ما يشاء من المباني، ويغوصون في البحر فيستخرجون له الدّر منه. وهو أول من استخرج اللؤلؤ من البحر.(12/47)
وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (38)
(وآخرين مقرنين في الأصفاد) معطوف على كل داخل في حكم البدل، وهم مردة الجن والشياطين، سخروا له حتى قرنهم في الأصفاد يقال: قرنهم في الحبال إذا كانوا جماعة كثيرة، والأصفاد الأغلال واحدها صفد، قال الزجاج: هي السلاسل فكل ما شددته شداً وثيقاً بالحديد وغيره فقد صفدته قال أبو عبيدة: صفدت الرجل فهو مصفود، وصفدته فهو مصفد، قال يحيى ابن سلام: ولم يكن يفعل ذلك إلا بكفارهم، فإذا آمنوا أطلقهم ولم يسخرهم.(12/47)
هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (39) وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ (40) وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ (41) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ (42)(12/48)
هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (39)
(هذا) أي ما تقدم من تسخير الريح والشياطين له أو من الملك والمال والبسطة، وهو بتقدير القول، أي وقلنا له: هذا (عطاؤنا) الذي أعطيناكه من الملك العظيم الذي طلبته.
(فامنن أو أمسك) أي فأعط من شئت وامنع من شئت، قاله الحسن والضحاك وغيرهما، وقال ابن عباس: أعتق من الجن من شئت، وأمسك منهم من شئت (بغير حساب) لا حساب عليك في ذلك الإعطاء والإمساك، أو عطاؤنا لك بغير حساب، لكثرته وعظمته، وقال قتادة: إن قوله هذا عطاؤنا إشارة إلى ما أعطيه من قوة الجماع، وهذا لا وجه لقصر الآية عليه، لو قدرنا أنه قد تقدم ذكره من جملة تلك المذكورات فكيف يدعي اختصاص الآية مع عدم ذكره؟(12/48)
وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ (40)
(وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى) أي قربة في الآخرة (وَحُسْنَ مَآبٍ) أي حسن مرجع وهو الجنة.
(واذكر عبدنا أيوب) أيوب عطف بيان، وعدم تصدير قصة سليمان بهذا العنوان لكمال الاتصال بينه وبين داود عليهما السلام حتى كأن قصتيهما قصة واحدة (وأيوب) هو ابن عيصو بن إسحق.(12/48)
وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ (41)
(إذ نادى ربه) بدل اشتمال من عبدنا (أني مسني الشيطان) قرأ الجمهور بفتح الهمزة على أنه حكاية لكلامه الذي نادى به ربه، ولو لم يحكه لقال: إنه مسه، وقرىء بكسرها على إضمار القول وفي ذكر قصة أيوب إرشاد لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الاقتداء به في الصبر على المكاره.(12/48)
(بنصب) قرأ الجمهور بضم النون وسكون الصاد فقيل: هو جمع نصب بفتحتين نحو أسد وأسد، وقيل هو لغة في النصب نحو رشد ورشد وقرىء بضمتين، وبفتحتين وبفتح وسكون وهذه القراءات باختلاف اللغات. وقال أبو عبيدة: إن النصب بفتحتين التعب والإعياء، وعلى بقية القراءات الشر والبلاء.
(وعذاب) أي ألم، قال قتادة ومقاتل: النصب في الجسد والعذاب في المال، قال النحاس: وفيه بعد، كذا قال، والأولى تفسير النصب بالمعنى اللغوي وهو التعب والإعياء وتفسير العذاب بما يصدق عليه مسمى العذاب، وهو الألم وكلاهما راجع إلى البدن.
وقد أخرج أحمد في الزهد وابن أبي حاتم وابن عساكر عن ابن عباس خبراً طويلاً في قصة أيوب " أوله أن الشيطان عرج إلى السماء فقال: يا رب سلطني على أيوب، قال الله تعالى: لقد سلطتك على ماله وولده ولم أسلطك على جسده الحديث بطوله " (1)، وفيه نكارة شديدة فإن الله سبحانه لا يمكن الشيطان من نبي من أنبيائه ويسلطه عليه، هذا التسليط العظيم، وأسند المس إلى الشيطان مع أن الله سبحانه هو الذي مسه بذلك إما لكونه لما عمل بوسوسته عوقب على ذلك بذلك النصب والعذاب، فقد قيل إنه أعجب بكثرة ماله، وقيل استغاثه مظلوم فلم يغثه، وقيل إنه قال ذلك على طريقة الأدب وقيل إنه قال ذلك لأن الشيطان وسوس إلى أتباعه فرفضوه وأخرجوه من ديارهم وقيل المراد به ما كان يوسوسه الشيطان إليه حال مرضه وابتلائه من
_________
(1) ذكر المؤلف (ص 175) بضعة تفاسير لقول أيوب (أني مسني الشيطان) فجاء التعليق هكذا: لماذا لا يكون مس الشيطان متصلاً بعمل أيوب كنبي ورسول إلى قومه حيث كان يوسوس لقومه فيكابرون وينقضون ما عقدوه مع أيوب من المواثيق، فكان عمل الشيطان له صلة مباشرة بإرهاق أيوب ومسه بالتعب.(12/49)
تحسين الجزع، وعدم الصبر على المصيبة، وقيل غير ذلك.(12/50)
ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ (42)
(اركض برجلك) أي قلنا له اركض كذا قال الكسائي والركض الدفع بالرجل، يقال: ركض الدابة إذا ضربها بها وقال المبرد الركض التحريك، قال الأصمعي يقال ركضت الدابة، ولا يقال ركضت هي لأن الركض إنما هو تحريك راكبها رجليه، ولا فعل لها في ذلك، وحكى سيبويه ركضت الدابة فركضت مثل جبرت العظم فجبر.
(هذا مغتسل بارد وشراب) هذا أيضاًً من مقول القول المقدر، وفي الكلام حذف والتقدير فركض برجله فنبعت عين فقلنا له هذا مغتسل الخ وظاهر النظم الكريم أن الاغتسال والشرب كانا من عين واحدة والمغتسل هو الماء الذي يغتسل به والشراب الذي يشرب منه، وقيل إن المغتسل هو المكان الذي يغتسل فيه، قال قتادة: هما عينان بأرض الشام في أرض يقال لها الجابية فاغتسل من إحداهما فأذهب الله ظاهر دائه وشرب من الأخرى فأذهب الله باطن دائه، وكذا قال الحسن، وقال مقاتل نبعت عين جارية فاغتسل فيها فخرج صحيحاً، ثم نبعت عين أخرى فشرب منها ماء عذباً بارداً.(12/50)
وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (43)
(ووهبنا له أهله) معطوف على مقدر كأنه قيل فاغتسل وشرب فكشفنا عنه بذلك ما به من ضر ووهبنا له أهله قيل أحياهم الله بعد أن أماتهم وقيل جمعهم بعد تفرقهم، وقيل غيرهم مثلهم، ثم زاده مثلهم معهم، وهو معنى قوله:
(ومثلهم معهم) فكانوا مثلى ما كانوا من قبل ابتلائه (رحمة منا وذكرى لأولي الألباب) أي وهبناهم له لأجل رحمتنا إياه وليتذكر بحاله أولو الألباب، فيصبروا على الشدائد كما صبر، ويلجأوا إلى الله كما لجأ ليفعل بهم ما فعل به من حسن العاقبة: وقد تقدم في سورة الأنبياء تفسير هذه الآية مستوفى فلا نعيده.(12/50)
وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (43) وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (44) وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ (45)(12/51)
وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (44)
(وخذ) معطوف على اركض، أو على وهبنا، أو التقدير وقلنا له خذ (بيدك ضغثاً) هو عثكال النخل بشماريخه، وقيل هو قبضة من حشيش مختلط رطبها بيابسها، وقيل الحزمة الكبيرة من القضبان، وأصل المادة تدل على جمع المختلطات، قال الواحدي الضغث ملء الكف من الشجر والحشيش والشماريخ، وعن ابن عباس قال: الضغث هو الأسل، وقال أيضاًً الضغث القبضة من المرعى الرطب، وقال أيضاًً الحزمة.
(فاضرب به) أي بذلك الضغث (ولا تحنث) في يمينك والحنث الإثم ويطلق على فعل ما حلف على تركه، أو ترك ما حلف على فعله، لأنهما سببان فيه، وكان أيوب قد حلف في مرضه أن يضرب امرأته مائة جلدة، واختلف في سبب ذلك فقال سعيد بن المسيب إنها جاءته بزيادة على ما كانت تأتيه به من الخبز فخاف خيانتها فحلف ليضربها.
وقال يحيى بن سلام وغيره، إن الشيطان أغواها أن تحمل أيوب على أن يذبح سخلةً تقرباً إليه فإنه إذا فعل ذلك بريء. فحلف ليضربنها إذا عوفي مائة جلدة، وقيل باعت ذؤابتها برغيفين إذ لم تجد شيئاًً وكان أيوب يتعلق بها إذا أراد القيام، فلهذا حلف ليضربنها وأخرج أحمد في الزهد عن ابن عباس قال: إن إبليس قعد على الطريق وأخذ تابوتاً يداوي الناس فقالت امرأة أيوب: يا عبد الله إن ههنا مبتلى من أمره كذا وكذا فهل لك أن تداويه،(12/51)
قال: نعم بشرط إن أنا شفيته أن يقول أنت شفيتني لا أريد منه أجراً غيره فأتت أيوب فذكرت له ذلك، فقال: ويحك ذاك الشيطان، لله عليَّ إن شفاني الله أن أجلدك مائة جلدة، فلما شفاه الله أمره أن يأخذ ضغثاً فيضربها به، فأخذ عذقاً فيه مائة شمراخ فضربها به ضربة واحدة (1).
وأخرج أحمد والطبراني عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف قال " حملت وليدة في بني ساعدة من زنا فقيل لها: ممن حملك؟ قالت من فلان المقعد، فسئل المقعد فقال: صدقت فرفع ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: خذوا عثكولاً فيه مائة شمراخ فاضربوه ضربة واحدة. وله طرق أخرى.
وقد اختلف العلماء هل هذا خاص بأيوب أو عام للناس كلهم؟ وأن من حلف خرج من يمينه بمثل ذلك؟ قال الشافعي: إذا حلف ليضربن فلاناً مائة جلدة أو ضرباً ولم يقل ضرباً شديداً ولم ينو بقلبه فيكفيه مثل هذا الضرب المذكور في الآية حكاه ابن المنذر عنه، وعن أبي ثور وأصحاب الرأي، وقال عطاء هو خاص بأيوب، ورواه ابن القاسم عن مالك، ثم أثنى الله سبحانه على أيوب فقال:
(إنا وجدناه) أي علمناه (صابراً) على البلاء الذي ابتليناه به فإنه ابتلي بالداء العظيم في جسده وذهاب ماله وولده وأهله فصبر وليس في شكواه إلى الله إخلال بذلك فإنه ليس جزعاً تمني العافية وطلب الشفاء، والشكاية المذمومة إنما هي إذا كانت للمخلوقين، قال ابن مسعود أيوب رأس الصابرين يوم القيامة.
(نعم العبد) أي أيوب (إنه أواب) أي رجاع إلى الله تعالى بالاستغفار والتوبة.
_________
(1) انظر ما كتبه ابن الجوزي في كتابه زاد السير 7/ 143.(12/52)
وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ (45)
(وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ) أي أذكر صبرهم على ما أصابهم تتأس بهم، قرأ الجمهور عبادنا بالجمع، وقرىء بالإفراد؛ فعلى قراءة الجمهور يكون إسحق وإبراهيم ويعقوب عطف بيان، وعلى القراءة الأخرى يكون إبراهيم عطف بيان، وما بعده عطف على عبدنا لا على إبراهيم، وقد يقال لما كان المراد بعبدنا الجنس جاز إبدال الجماعة منه، وقيل إن إبراهيم وما بعده بدل، أو النصب بإضمار أعني، وعطف البيان أظهر وقراءة الجمهور أبين، وقد اختارها أبو حاتم وأبو عبيدة.
(أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ) الأيدي جمع اليد أي الجارحة فكني بذلك عن الأعمال لأن أكثر الأعمال إنما يزاول باليد، وقيل جمع اليد التي بمعنى القوة والقدرة، قال قتادة أعطوا قوة في العباد ونصراً في الدين قال الواحدي وبه قال مجاهد وسعيد بن جبير والمفسرون قال النحاس أما الأبصار فمتفق على أنها البصائر في الدين والعلم وأما الأيدي فمختلف في تأويلها فأهل التفسير يقولون إنها القوة في الدين، وقوم يقولون الأيدي جمع يد، وهي النعمة أي هم أصحاب النعم الذين أنعم الله عز وجل عليهم وقيل هم أصحاب النعم على الناس والإحسان إليهم لأنهم قد أحسنوا وقدموا خيراً واختار هذا ابن جرير، قرأ الجمهور الأيدي بإثبات الياء وقرىء بغير ياء فقيل معناها معنى الأولى وإنما حذفت الياء لدلالة كسرة الدال عليها وقيل الأيد القوة إلا أن الزمخشري قال وتفسيره بالأيد من التأييد قلق غير متمكن انتهى وكأنه إنما قلق عنده لعطف الابصار عليه. فهو غير مناسب للأيد من التأييد وقد يقال إنه لا يراد حقيقة الجوارح إذ كل أحد كذلك إنما المراد الكناية عن العمل الصالح والتفكر ببصيرته فلم يقلق حينئذ إذ لم يرد حقيقة الابصار وكأنه قيل أولي القوة والتفكر بالبصيرة، وقد نحا الزمخشري إلى شيء من هذا قبل ذلك، قاله السمين، قال ابن عباس القوة في العبادة والأبصار، الفقه في الدين؛ وعنه قال الأيدي النعمة وقيل أولى الأعمال الجليلة، والعلوم الشريفة فعبر بالأيدي عن الأعمال وبالابصار عن المعارف لأنها أقوى مباديها.(12/53)
إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (46) وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ (47) وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيَارِ (48) هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ (49) جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ (50) مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ (51) وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ (52) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ (53) إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ (54)(12/54)
إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (46)
(إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ) تعليل لما وصفوا به من شرف العبودية، وعلو الرتبة في العلم والعمل، قرأ الجمهور بخالصة بالتنوين وعدم الإضافة على أنها مصدر بمعنى الإخلاص، فيكون ذكرى منصوباً به أو بمعنى الخلوص، فيكون ذكرى مرفوعاً به أو يكون خالصة اسم فاعل على بابه، وذكرى بدل منها، أو بيان لها أو منصوبة بإضمار أعني أو مرفوعة على إضمار مبتدأ، والدار مفعول به بذكرى أو ظرف إما على الاتساع أو على إسقاط الخافض، وعلى كل تقدير فخالصة صفة لموصوف محذوف، والباء للسببية، أي بسبب خصلة خالصة لا شوب فيها، وقرىء بإضافة خالصة إلى ذكرى، على أن الإضافة للبيان، لأن الخالصة قد تكون ذكرى وغير ذكرى، كما في قوله (شهاب قبس) لأن الشهاب يكون قبساً وغيره، أو على أن خالصة مصدر مضاف إلى مفعوله، والفاعل محذوف، أي بأن أخلصوا ذكر الدار وتناسوا عند ذكرها ذكر الدنيا، أو مصدر بمعنى الخلوص مضاف إلى فاعله، قال مجاهد معنى الآية استصفيناهم بذكر الآخرة فأخلصناهم بذكرها، وقال قتادة كانوا يدعون إلى الآخرة وإلى الله، وقال السدي: أخلصوا بخوف الآخرة.
قال الواحدي: فمن قرأ بالتنوين في خالصة كان المعنى جعلناهم لنا(12/54)
خالصين بأن خلصت لهم ذكرى الدار، والخالصة مصدر بمعنى الخلوص، والذكرى بمعنى التذكر، أي خلص لهم تذكر الدار، وهو أنهم يذكرون التأهب لها ويزهدون في الدنيا، وذلك من شأن الأنبياء وأما من أضاف فالمعنى أخلصناهم بأن خلصت لهم ذكرى الدار، والخالصة مصدر مضاف إلى الفاعل والذكرى على هذا المعنى الذكر.
قال ابن عباس أخلصوا بذكر دار الآخرة أن يعلموا لها وقيل: ذكرى الدار الثناء الجميل في الدنيا. وهذا شيء قد أخلصهم به، فليس يذكر غيرهم في الدنيا بمثل ما يذكرون به يقويه قوله (وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا) قاله النسفي، وفيه بعد. وقال ابن جزي: معناه إنا جعلناهم خالصين لنا أو خصصناهم دون غيرهم، وأما الباء على الأول فهي للتعليل.
وعلى الثاني هي لتعدية الفعل انتهى.(12/55)
وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ (47)
(وإنهم عندنا لمن المصطفين الأخيار) فهو الاصطفاء الاختيار، والأخيار، جمع خير بالتشديد والتخفيف كأموات في جمع ميت مشدداً ومخففاً، والمعنى إنهم عندنا لمن المختارين من أبناء جنسهم من الأخيار.(12/55)
وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيَارِ (48)
(وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ) قيل وجه ذكره مفرداً بعد ذكر أبيه وأخيه وابن أخيه للإشعار بأنه عريق في الصبر الذي هو المقصود بالتذكير هنا.
(وَالْيَسَعَ) هو ابن أخطوب بن العجوز استخلفه إلياس على بني إسرائيل ثم استنبىء.
(وَذَا الْكِفْلِ) اختلف في نبوته ولقبه، وهو ابن عم اليسع أو هو بشر بن أيوب بعثه الله بعد أبيه، وسماه ذا الكفل وكان مقيماً بالشام حتى مات، وعمره خمس وسبعون سنة، وقد تقدم ذكر اليسع. والكلام فيه في الأنعام، وتقدم ذكر ذي الكفل والكلام فيه في سورة الأنبياء، والمراد من ذكر هؤلاء أنهم من جملة من صبر من الأنبياء وتحمل الشدائد في دين الله، أمر الله(12/55)
رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يذكرهم ليسلك مسلكهم في الصبر.
(وكل) أي كل المتقدمين من داود إلى هنا (من الأخيار) الذين اختارهم الله سبحانه لنبوته واصطفاهم من خلقه(12/56)
هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ (49)
(هذا ذكر) إشارة إلى ما تقدم من ذكر أوصافهم الناطقة بمحاسنهم، أي هذا ذكر جميل في الدنيا، وشرف يذكرون به أبداً، جملة جيء بها إيذاناً بأن القصة قد تمت، وأخذ في أخرى.
(وإن للمتقين) مع هذا الذكر الجميل (لحسن مآب) في الآخرة والمآب المرجع، وهذا شروع في بيان أجرهم الجزيل الآجل، بعد بيان ذكرهم الجميل في العاجل وهو باب آخر من أبواب التنزيل، والمعنى إنهم يرجعون في الآخرة إلى مغفرة الله ورضوانه، ونعيم جنته. ثم بين حسن المرجع فقال:(12/56)
جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ (50)
(جنات عدن) قرىء بالنصب بدلاً أو عطف بيان لحسن مآب وعدن وهو في الأصل الإقامة، يقال عدن بالمكان إذا أقام فيه، وقيل هو اسم لقصر في الجنة، وقرىء برفع جنات على أنها خبر مبتدأ محذوف، أي هي جنات عدن.
(مفتحة لهم الأبواب) حال من جنات، والعامل فيها ما في المتقين من معنى الفعل، والأبواب مرتفعة باسم المفعول، كقوله: وفتحت أبوابها، والرابط بين الحال وصاحبها ضمير مقدر، أي منها أو الألف واللام لقيامه مقام الضمير، إذ الأصل أبوابها، وقيل ارتفاع الأبواب على البدل من الضمير في مفتحة العائد على جنات، وبه قال أبو علي الفارسي، أي مفتحة هي الأبواب، قال الفراء: المعنى مفتحة لهم أبوابها، والعرب تجعل الألف واللام خلفاً من الإضافة، وقال الزجاج المعنى مفتحة لهم الأبواب منها، قال الحسن إن الأبواب يقال لها: انفتحي فتنفتح انغلقي فتنغلق، وقيل: تفتح لهم الملائكة الأبواب حال كونهم(12/56)
مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ (51)
(متكئين فيها) أي في الجنات.(12/56)
(يدعون فيها بفاكهة كثيرة) أي بألوان متنوعة متكثرة من الفواكه (وشراب) كثير فحذف كثير لدلالة الأول عليه، والاقتصار على دعاء الفاكهة للإيذان بأن مطاعمهم لمحض التفكه والتلذذ دون التغذي، قيل: الجملة مستأنفة لبيان حالهم فيها أو حال مما ذكر.(12/57)
وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ (52)
(وعندهم قاصرات الطرف) أي قاصرات طرفهن على أزواجهن، وحابسات العين لا ينظرن إلى غيرهم، وقد مضى بيانه في سورة الصافات.
(أتراب) أي متحدات في السن والشباب، أو متساويات في الحسن والجمال وقال مجاهد المعنى أنهن متواخيات لا يتباغضن ولا يتغايرن ولا يتحاسدن، بنات ثلاث وثلاثين سنة، وقيل لدات آي متقاربات في الولادة، لأن التحاب بين الأقران أثبت أو بعضهن لبعض أو نصف لا عجوز فيهن ولا صبية، قال الشهاب: لدات جمع لدة كعدة أصلها ولد، وهو كالترب من يولد معك في وقت واحد، كأنهما وقعا على التراب في زمن واحد، والأتراب جمع ترب، واشتقاقه من التراب، لأنه يمسهن في وقت واحد، لاتحاد مولدهن والمعاني متقاربة.(12/57)
هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ (53)
(هذا ما توعدون ليوم الحساب) أي هذا الجزاء الذي وعدتم به لأجل يوم الحساب، فإن الحساب علة للوصول إلى الجزاء، والمعنى في يوم الحساب، قرأ الجمهور توعدون على الخطاب التفاتاً، وقرىء بالتحتية على الخبر، واختار هذه القراءة أبو عبيدة وأبو حاتم لقوله: وإن للمتقين، فإنه خبر.(12/57)
إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ (54)
(إن هذا) المذكور من النعم والكرامات والجنات وأوصافها (لرزقنا) الذي أنعمنا به عليكم وأعطيناكموه (ما له من نفاد) أي لا ينقطع ولا يفنى أبداً، ومثله قوله (عطاءً غير مجذوذ) فنعم الجنة لا تنقطع عن أهلها.(12/57)
هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (55) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ (56) هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (57) وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ (58) هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لَا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُو النَّارِ (59) قَالُوا بَلْ أَنْتُمْ لَا مَرْحَبًا بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ (60) قَالُوا رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ (61)(12/58)
هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (55)
(هذا) أي الأمر هذا أو هذا كما ذكر أو هذا ذكر فيوقف على هذا، قال ابن الأنباري: وهذا وقف حسن، قال ابن الأثير هذا في هذا المقام من الفصل الذي هو خير من الوصل وهي علاقة وكيدة بين الخروج من الكلام إلى كلام آخر، أي خذ هذا كيت وكيت، وفيه بحث إذ يلزم حينئذ عطف الإخبار على الإنشاء، ولذا لم يذكر الزمخشري هذا التقدير ثم ذكر سبحانه ما لأهل الشر بعد أن ذكر ما لأهل الخير فقال:
(وإن للطاغين) الذين طغوا على الله وكذبوا رسله (لشر مآب) أي لشر منقلب ينقلبون إليه ثم بين ذلك فقال:(12/58)
جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ (56)
(جهنم) بدل أو عطف بيان.
(يصلونها) أي يصلون جهنم، ويدخلونها (فبئس المهاد) أي بئس ما مهدوا لأنفسهم وهو الفراش، مأخوذ من مهد الصبي، أو المراد بالمهد الموضع: والمخصوص بالذم محذوف، أي بئس الهاد هي كما في قوله: (لهم من جهنم مهاد) شبه الله سبحانه ما تحتهم من نار جهنم بالهاد.(12/58)
هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (57)
(وهذا فليذوقوه حميم وغساق) أي هذا حميم وغساق ليذوقوه، قاله الفراء والزجاج، أي يقال لهم في ذلك اليوم هذه المقالة، والحميم الماء الحار الذي قد انتهى حره، والغساق ما سال من جلود أهل النار من القيح، ومن الصديد، من قولهم: غسقت عينه إذا انصبت، والغسقان الانصباب، قال(12/58)
النحاس: ويجوز أن يكون المعنى الأمر هذا، وارتفاع حميم وغساق على أنهما خبران لمبتدأ محذوف، أي هو حميم وغساق، ويجوز أن يكون هذا في موضع نصب بإضمار فعل يفسره ما بعده، أي ليذوقوا هذا فليذوقوه ويجوز أن يكون حميم مرتفعاً على الابتداء، وخبره مقدر قبله أي منه حميم ومنه غساق، وقيل: الغساق ما قتل برده، ومنه قيل الليل غاسق لأنه أبرد من النهار؛ وقيل: هو الزمهرير وقيل الغساق المنتن، وقيل هو عين في جهنم يسيل إليها كل ذوب حية وعقرب وقال قتادة هو ما يسيل من فروج النساء الزواني ومن نتن لحوم الكفرة وجلودهم.
وقال محمد بن كعب: هو عصارة أهل النار، وقال السدي: الغساق الذي يسيل من دموع أهل النار يسقونه مع الحميم، وكذا قال ابن زيد، وقال مجاهد ومقاتل. هو الثلج البارد الذي قد انتهى برده، وتفسير الغساق بالبارد أنسب بما تقتضيه لغة العرب وأنسب أيضاًً بمقابلة الحميم، قرأ أهل المدينة وأهل البصرة وبعض الكوفيين بتخفيف السين من غساق، وقرىء بالتشديد وهما لغتان بمعنى واحد، كما قال الأخفش، وقيل معناهما مختلف فمن خفف فهو اسم مثل عذاب وجواب وصواب، ومن شدد قال هو اسم فاعل للمبالغة نحو ضراب وقتال.
وقال ابن عباس غساق الزمهرير وأخرج أحمد والترمذي وابن جرير وابن أبي حاتم وابن حبان والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في البعث عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لو أن دلوا من غساق يهرق في الدنيا لأنتن أهل الدنيا " قال الترمذي بعد إخراجه لا نعرفه إلا من حديث رشدين بن سعد، قلت ورشدين فيه مقال معروف.(12/59)
وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ (58)
(وآخر من شكله) قرأ الجمهور وآخر مفرداً مذكراً، وقرىء آخر بضم الهمزة على أنه جمع وأنكر الأولى لقوله (أزواج) وأنكر عاصم(12/59)
والجحدري الثانية، وقال لو كانت أخر لقال من شكلها، وارتفاع آخر على أنه مبتدأ، وخبره أزواج، ويجوز أن يكون من شكله خبراً مقدماً، وأزواج مبتدأ مؤخراً، والجملة خبر آخر، ويجوز أن يكون خبر آخر مقدراً أي ولهم آخر ومن شكله أزواج جملة مستقلة، ومعنى الآية على الأولى وعذاب آخر، أو مذوق آخر أو نوع آخر من شكل ذلك العذاب، أو المذوق أو النوع الأول، والشكل المثل وعلى الثانية ومذوقات أخر وأنواع أخر من شكل ذلك الذوق أو النوع المتقدم، وإفراد الضمير في شكله على تأويل المذكور أي من شكل المذكور، ومعنى أزواج أجناس وأنواع وأشباه وحاصل معنى الآية أن لأهل النار حميماً وغساقاً وأنواعاً من العذاب من مثل الحميم والغساق، قال الواحدي: قال المفسرون: هو الزمهرير، ولا يتم هذا الذي حكاه عن المفسرين إلا على تقدير أن الزمهرير أنواع مختلفة، وأجناس متفاوتة ليطابق معنى أزواج أو على تقدير أن لكل فرد من أهل النار زمهريراً.
وجملة(12/60)
هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لَا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُو النَّارِ (59)
(هذا فوج) حكاية لقول الملائكة، هم خزنة النار، وذلك أن القادة والرؤساء إذا دخلوا النار ودخل بعدهم الأتباع قالت الخزنة للقادة: هذا فوج يعنون الأتباع (مقتحم معكم) أي داخل معكم إلى النار بشدة، والاقتحام الإلقاء في الشيء بشدة فإنهم يضربون بمقامع من حديد حتى يقتحموها بأنفسهم خوفاً من تلك المقامع، وقيل: الاقتحام ركوب الشدة والدخول فيها، وفي المختار قحم في الأمر رمى بنفسه فيه من غير روية، وبابه خضع، وأقحم فرسه النهر فانقحم، أي أدخله فدخل واقتحم الفرس النهر دخله.
وقوله (لا مرحباً بهم) من قول القادة والرؤساء لما قالت لهم الخزنة ذلك قالوا لا مرحباً بهم أي لا اتسعت منازلهم في النار، والرحب السعة، والمعنى لا كرامة لهم، وهذا إخبار من الله سبحانه بانقطاع المودة بين الكفار، وأن المودة التي كانت بينهم تصير عداوة. وجملة لا مرحباً بهم دعائية لا محل لها من الإعراب، وقال السمين في مرحباً وجهان أظهرهما أنه مفعول بفعل مقدر(12/60)
أي لا أتيتم مرحباً أو لا سمعتم مرحباً، والثاني أنه منصوب على المصدر، قال أبو البقاء أي لا رحبتكم داركم مرحباً. بل ضيقاً، والجملة المنفية إما مستأنفة سيقت للدعاء عليهم بضيق المكان، وقوله: بهم بيان للمدعو عليهم، وإما حالية، وقد يعترض عليه بأنه دعاء، والدعاء لا يقع حالاً، والجواب أنه على إضمار القول أي مقولاً في حقهم لا مرحباً بهم، وقيل إنها من تمام قوله الخزنة، والأول أولى، كما يدل عليه جواب الأتباع الآتي:
(إنهم صالوا النار) تعليل من جهة القائلين لا مرحباً بهم، أي إنهم صالوا النار كما صليناها ومستحقون لها كما استحققناها.(12/61)
قَالُوا بَلْ أَنْتُمْ لَا مَرْحَبًا بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ (60)
(قالوا بل أنتم لا مرحباً بكم) مستأنفة جواب سؤال مقدر أي قال الأتباع عند سماع ما قاله الرؤساء لهم: بل أنتم أحق بما قلتم لنا ثم عللوا ذلك بقولهم: (أنتم قدمتموه لنا) أي العذاب أو الصلي لنا وأوقعتمونا فيه، ودعوتمونا إليه بما كنتم تقولون لنا من أن الحق ما أنتم عليه، وأن الأنبياء غير صادقين فيما جاءوا به.
(فبئس القرار) أي بئس المقر جهنم لنا ولكم، ثم حكى عن الأتباع أيضاًً أنهم أردفوا هذا القول بقول آخر وهو:(12/61)
قَالُوا رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ (61)
(قالوا ربنا من قدم لنا هذا) أي من دعانا إليه وسوغه لنا، قال الفراء المعنى من سوغ لنا هذا وسنه، وقيل معناه من قدم لنا هذا العذاب بدعائه إيانا إلى الكفر.
(فزده عذاباً ضعفاً في النار) أي عذاباً بدعائه إيانا فصار ذلك ضعفاً، ومثله قوله سبحانه (ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم عذاباً ضعفاً من النار) وقوله: (ربنا آتهم ضعفين من العذاب)، والضعف أن يزيد عليه مثله، وقيل المراد بالضعف هنا الحيات والعقارب، قال ابن مسعود: أي أفاعي وحيات.(12/61)
وَقَالُوا مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرَارِ (62) أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ (63) إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ (64) قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (65) رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (66) قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ (67) أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ (68) مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ (69) إِنْ يُوحَى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (70)(12/62)
وَقَالُوا مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرَارِ (62)
(وَقَالُوا) أي كفار مكة كأبي جهل وأمية بن خلف وأصحاب القليب وهم في النار. (مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرَارِ) أي الأراذل الذين لا خير لهم ولا جدوى، وقيل: إنما سموهم أشراراً لأنهم كانوا على خلاف دينهم، قيل: هو من قول الرؤساء، وقيل من قول الطاغين المذكورين سابقاً قال الكلبي: ينظرون في النار فلا يرون من كان يخالفهم من المؤمنين معهم فيها، فعند ذلك قالوا هذا القول، وقيل يعنون فقراء المؤمنين كعمار وخباب وصهيب وبلال وسالم وسلمان، وقيل أرادوا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم على العموم.(12/62)
أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ (63)
(أتخذناهم سخرياً) في الدنيا فأخطأنا (أم زاغت عنهم الأبصار) فلم نعلم مكانهم، قاله مجاهد والإنكار المفهوم من الاستفهام متوجه إلى كل واحد من الأمرين، قال الحسن كل ذلك قد فعلوا اتخذوهم سخرياً وزاغت عنهم أبصارهم، قال الفراء والاستفهام هنا بمعنى التوبيخ والتعجب، قرىء بحذف همزة اتخذناهم في الوصل، وعلى هذا يحتمل أن يكون الكلام خبراً محضاً، وتكون الجملة في محل نصب صفة ثانية لرجالاً، وأن يكون المراد الاستفهام وحذفت أداته لدلالة أم عليها، فتكون أم على الوجه الأول منقطعة بمعنى بل والهمزة أي بل أزاغت عنهم الأبصار؟ على معنى توبيخ أنفسهم على الاستسخار ثم الإضراب والانتقال منه إلى التوبيخ على الازدراء والتحقير،(12/62)
وعلى الثاني أم هي المتصلة، وقرىء بهمزة استفهام سقطت لأجلها همزة الوصل ولا محل للجملة حينئذ، وفيه التوبيخ لأنفسهم على الأمرين جميعاً لأن أم على هذه القراءة هي للتسوية، وقرىء سخرياً بضم السين وبكسرها، قال أبو عبيدة من كسر جعله من الهزء، ومن ضم جعله من التسخر.(12/63)
إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ (64)
(إن ذلك) أي ما تقدم من حكاية حالهم (لحق) أي لواقع ثابت في الدار الآخرة لا يتخلف البتة (تخاصم أهل النار) خبر مبتدأ محذوف ويجوز أن يكون خبراً بعد خبر، وهذا على قراءة الجمهور برفع تخاصم والمعنى أن ذلك الذي حكاه الله عنهم لحق لا بد أن يتكلموا به. وهو تخاصم أهل النار فيها، وما قالته الرؤساء للأتباع. وما قالته الأتباع لهم والجملة بيان لاسم الإشارة وفي الإبهام أولاً والتبيين ثانياً مزيد تقرير له قرأ ابن أبيّ بنصب تخاصم على أنه بدل من ذلك أو بإضمار أعني وقرىء تخاصم بصيغة الماضي فتكون جملة مستأنفة وإنما سماه تخاصماً لأن قول القادة للأتباع: لا مرحباً بكم وقول الأتباع للقادة بل أنتم لا مرحباً بكم من باب الخصومة ثم أمر الله سبحانه رسوله الله صلى الله عليه وسلم أن يقول قولاً جامعاً بين التخويف والإرشاد إلى التوحيد فقال:(12/63)
قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (65)
(قل إنما أنا منذر) أي مخوف لكم من عذاب الله وعقابه لا ساحر ولا شاعر كما ادعيتم وإنما اقتصر على الإنذار لأنه إنما يناسبهم الإنذار (وما من إله) يستحق العبادة (إلا الله الواحد) الذي لا شريك له (القهار) لكل شيء سواه(12/63)
رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (66)
(رب السموات والأرض وما بينهما) من المخلوقات (العزيز) الذي لا يغالبه مغالب (الغفار) لمن أطاعه، وقيل معنى العزيز المنيع الذي لا مثل له، ومعنى الغفار الستار لذنوب خلقه، ثم أمره الله سبحانه أن يبالغ في إنذارهم، ويبين لهم عظم الأمر وجلالته فقال:(12/63)
قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ (67)
(قل هو نبأ عظيم) أي ما أنذرتكم به من العقاب، وما بينته لكم من التوحيد هو خبر عظيم ونبأ جليل، من شأنه العناية به والتعظيم له(12/63)
والاعتناء به أمراً وائتماراً، وعدم الاستخفاف به ومثل هذه الآية قوله (عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ (1) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ)؟ وقال مجاهد وقتادة ومقاتل هو القرآن. فإنه نبأ عظيم لأنه كلام الله، قال الزجاج قل النبأ الذي أنبأتكم به عن الله نبأ عظيم، يعني ما أنبأهم به من قصص الأولين، وذلك دليل على صدقه ونبوته، لأنه لم يعلم ذلك إلا بوحي من الله.(12/64)
أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ (68)
(أنتم عنه معرضون) صفة ثانية للنبأ أو جملة مستأنفة، وهذا توبيخ لهم وتقريع لكونهم أعرضوا عنه، ولم يتفكروا فيه، فيعلموا صدقه، ويستدلوا به على ما أنكروه من البعث.(12/64)
مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ (69)
(ما كان لي من علم بالملأ الأعلى) استئناف مسوق لتقرير أنه نبأ عظيم، وارد من جهته تعالى، يذكر نبأ من أنبائه على التفصيل من غير سابقة معرفة به، ولا مباشرة سبب من أسبابها المعتادة، فإن ذلك حجة بينة دالة على أن ذلك بطريق الوحي من عند الله تعالى، وإن سائر أنبائه أيضاًً كذلك، وأن الأنبياء لا يعلمون الغيب أصلاً، إلا ما يوحى إليهم من جهته سبحانه وتعالى، والملأ الأعلى هم الملائكة وزاد أبو السعود وآدم عليه السلام وإبليس عليه اللعنة.
(إذ يختصمون) أي ما كان لي فيما سبق علم بوجه من الوجوه بحال الملأ الأعلى، وقت اختصامهم والضمير راجع إلى الملإ الأعلى والخصومة الكائنة بينهم هي في أمر آدم، قال ابن عباس: قال الملائكة حين شوروا في خلق آدم فاختصموا فيه، وقالوا: لا تجعل في الأرض خليفة، وعنه قال هي الخصومة في شأن آدم حيث قالوا: (أتجعل فيها من يفسد فيها)؟
وأخرج عبد الرزاق وأحمد وعبد بن حميد والترمذي وحسنه وابن نصر في كتاب الصلاة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أتاني الليلة ربي في أحسن صورة أحسبه قال: في المنام.
قال يا محمد هل تدري فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت لا، فوضع يده(12/64)
بين كتفي حتى وجدت بردها بين ثديي، أو في نحري، فعلمت ما في السموات والأرض، ثم قال لي: يا محمد هل تدري فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت نعم في الكفارات والكفارات المكث في المساجد بعد الصلوات، والمشي على الأقدام إلى الجماعات، وإبلاغ الوضوء في المكاره " (1) الحديث.
وأخرج الترمذي وصححه ومحمد بن نصر والطبراني والحاكم وابن مردويه من حديث معاذ بن جبل نحوه بأطول منه وقال " وإسباغ الوضوء في السبرات " (2) وأخرج الطبراني وابن مردويه من حديث جابر بن سمرة نحوه بأخصر منه، وأخرجا أيضاً من حديث أبي هريرة نحوه، وفي الباب أحاديث، وقيل: الضمير لقريش أي يختصمون فيهم بعضهم يقول: بنات الله، وبعضهم يقول غير ذلك والأول أولى.
_________
(1) وتمام الحديث: راجع زاد المسير 1/ 155.
(2) السًبَرَات جمع سَبْرة، وهي الغداة الباردة.(12/65)
إِنْ يُوحَى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (70)
(إن يوحى إليّ إلا أنما أنا نذير مبين) جملة معترضة بين اختصامهم المجمل، وبين تفصيله بقوله(12/65)
إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ (71)
(إذ قال ربك للملائكة)، والمعنى ما يوحى إليّ إلا أنني نذير أبين لكم ما تأتون من الفرائض والسنن وما تدعون من الحرام والمعصية، قاله الفراء وقال: كأنك قلت ما أوحى إليّ إلا الإنذار قرأ الجمهور بفتح همزة أنما على أنها وما في حيزها في محل رفع، لقيامها مقام الفاعل أي ما يوحى إليّ إلا الإنذار، أو إلا كوني نذيراً مبيناً، أو في محل نصب أوحى بعد إسقاط لام العلة، والقائم مقام الفاعل على هذا الجار والمجرور، وقرأ أبو جعفر بكسر الهمزة لأن في الوحي معنى القول وهي القائمة مقام الفاعل على سبيل الحكاية كأنه قيل ما يوحي إليّ هذه الجملة المتضمنة لهذا الإخبار وهو أن أقول لكم إنما أنا نذير مبين والقصر هنا إضافي أي لا ساحر ولا كذاب كما زعمتم، وخصه بالذكر لأن الكلام مع المشركين وحاله معهم مقصور على الإنذار ولما ذكر سبحانه خصومة الملائكة إجمالاً فيما تقدم ذكر ههنا تفصيلاًْ فقال:(12/65)
إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ (71) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (72) فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (73) إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (74) قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ (75) قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (76) قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (77)
(إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ) إذ هذه بدل من (إذ يختصمون) لاشتمال ما في حيز هذه على الخصومة، وقيل هي منصوبة بإضمار اذكر، والأول أولى إذا كانت خصومة الملائكة في شأن من يستخلف في الأرض.
وأما إذا كانت في غير ذلك مما تقدم ذكره فالثاني أولى (إني خالق) أي فيما سيأتي من الزمن (بشراً) أي جسماً من جنس البشر وهو آدم عليه السلام مأخوذ من مباشرته للأرض أو من كونه بادي البشرة أي ظاهر الجلد ليس على جلده صوف ولا شعر ولا وبر ولا ريش ولا قشر.
وقوله (من طين) متعلق بمحذوف هو صفة لـ (بشراً) أو بـ (خالق) ومعنى(12/66)
فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (72)
(فإذا سويته) صورته على صورة البشر وصارت أجزاؤه مستوية وأتممته.
(ونفخت) أي أجريت (فيه من روحي) أي من الروح الذي أملكه، ولا يملكه غيري وقيل هو تمثيل ولا نفخ ولا منفوخ فيه، والمراد جعله حياً بعد أن كان جماداً لا حياة فيه، ويأباه ظاهر النظم الكريم فالأول أولى، وقد مر الكلام عليه في سورة النساء والنفخ إجراء الروح إلى تجويف تجسم صالح لإمساكها وإضافة الروح إليه تشريف لآدم عليه السلام والروح جسم لطيف يحيا به الإنسان بنفوذه فيه وبه قال جمهور المتكلمين قاله الكرخي؛ وقال النووي في شرح مسلم إنه الأصح عند أصحابنا، وهو مشتبك بالبدن اشتباك الماء بالعود الأخضر، وقال كثير منهم إنها عرض وهي الحياة التي صار البدن بوجودها حياً، وقال الفلاسفة وكثير من الصوفية إنها ليست بجسم ولا(12/66)
عرض، بل جوهر مجرد قائم بنفسه غير متحيز، متعلق للبدن للتدبير والتحريك غير داخل فيه ولا خارج عنه ووافقهم على ذلك الغزالي والراغب.
واحتج للأول بوصفها في الأخبار بالهبوط والعروج والتردد في البرزخ أهـ.
وقيل جوهر شريف قدسي يسري في بدن الإنسان سريان الضوء في الفضاء أو كسريان النار في الفحم، ذكره الخازن، وأقول علم الروح مما استأثر الله تعالى بعلمه، ولا يعلمه أحد من خلاقه كائناً من كان، والخوض في معرفته من فضول الأعمال ولغو الكلام، وقد قال الله عز وجل (قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً).
(فقعوا له ساجدين) هو أمر من وقع يقع، والسجود هنا هو سجود التحية لا سجود العبادة، وفيه دليل على أن المأمور به ليس مجرد الانحناء كما قيل، أي اسقطوا له ساجدين، وقد مضى تحقيقه في سورة البقرة.(12/67)
فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (73)
(فسجد الملائكة) في الكلام حذف تدل عليه الفاء والتقدير: فخلقه فسواه ونفخ فيه من روحه فسجد له الملائكة (كلهم) يفيد أنهم سجدوا جميعاً ولم يبق منهم أحد وقوله (أجمعون) يفيد أنهم أجتمعوا على السجود في وقت واحد فالأول لقصد الإحاطة والثاني لقصد الاجتماع، قال في الكشاف فأفادا معا أنهم سجدوا عن آخرهم ما بقي منهم ملك إلا سجد، أنهم سجدوا جميعاً في وقت واحد، غير متفرقين في أوقات وقيل إنه أكد بتأكيدين للمبالغة في التعميم، وكان هذا السجود قبل دخول آدم الجنة أو بعده قولان.(12/67)
إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (74)
(إلا إبليس) الاستثناء متصل على تقدير أنه كان متصفاً بصفات الملائكة داخلاً في عدادهم فغلبوا عليه، أو منقطع على ما هو الظاهر من عدم دخوله فيهم، أي لكن إبليس (استكبر) أي أنف من المسجود جهلاً منه بأنه طاعة لله (و) كان استكباره استكبار كفر فلذلك (كان من الكافرين) أي(12/67)
صار منهم لمخالفته لأمر الله، واستكباره عن طاعته، أو كان من الكافرين في علم الله سبحانه، وقد تقدم الكلام على هذا مستوفى في سورة البقرة والأعراف وبني إسرائيل والكهف وطه.
ثم إن الله سبحانه سأله عن سبب تركه للسجود الذي أمره به فـ(12/68)
قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ (75)
(قال يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي) وقرىء بالإفراد أي ما صرفك وصدك عن السجود لما توليت خلقه من غير واسطة أب وأم وأضاف خلقه إلى نفسه تكريماً له وتشريفاً، مع أنه سبحانه خالق كل شيء، كما أضاف إلى نفسه الروح والبيت والناقة والمساجد.
قال مجاهد: اليد هنا لمعنى التأكيد والصلة مجازاً، كقوله: (ويبقى وجه ربك) وقيل أراد باليد القدرة، يقال: ما لي بهذا الأمر يد، وما لي به يدان، أي قدرة، وقيل: التثنية في اليد للدلالة على أنها ليست بمعنى القوة والقدرة، بل للدلالة على أنهما صفتان من صفات ذاته سبحانه، وهو الأولى، وقيل: التثنية لإبراز كمال الاعتناء بخلقه عليه السلام المستدعي لإجلاله وتعظيمه قصداً إلى تأكيد الإنكار وتشديد التوبيخ، ما في قوله (لما خلقت) هي المصدرية أو الموصولة، وقرىء لما بالتشديد مع فتح اللام على أنها ظرف بمعنى حين، كما قال أبو علي الفارسي.
وعن عبد الله بن عمر قال: " خلق الله أربعاً بيده العرش وجنة عدن والقلم وآدم " أخرجه ابن جرير وأبو الشيخ في العظمة والبيهقي، وعن عبد الله بن الحارث قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " خلق الله ثلاثة أشياء بيده خلق آدم بيده وكتب التوراة بيده، وغرس الفردوس بيده "، أخرجه ابن أبي الدنيا في صفة الجنة، وأبو الشيخ في العظمة والبيهقي في الأسماء والصفات.
(أستكبرت) قرىء بهمزة الاستفهام وهو استفهام توبيخ وتقريع فتكون أم في قوله: (أم كنت) متصلة أي أتركت السجود لاستكبارك الحادث أم لاستكبارك القديم المستمر؟ وقرىء بألف الوصل فتكون أم منقطعة(12/68)
والمعنى أستكبرت عن السجود الذي أمرت به؟ بل أكنت (من العالين) أي المستحقين للترفع عن طاعة أمر الله المتعالين عن ذلك، وجملة:(12/69)
قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (76)
(قال أنا خير منه) مستأنفة جواب سؤال مقدر، ادعى اللعين لنفسه أنه خير من آدم، أي ولو كنت مساوياً له في الشرف لكان يقبح أن أسجد له، فكيف وأنا خير منه، وفي ضمن كلامه هذا أن سجود الفاضل للمفضول لا يحسن، ثم علل ما ادعاه من كونه خيراً منه بقوله:
(خلقتني من نار وخلقته من طين) وفي زعمه أن عنصر النار أشرف من عنصر الطين وأفضل منه، لأن الأجرام الفلكية أشرف من الأجرام العنصرية، والنار أقرب العناصر من الفلك، والأرض أبعدها منه، وأيضاً النار لطيفة نورانية والأرض كثيفة ظلمانية، وهما خير منهما، وذهب عنه أن النار إنما هي بمنزلة الخادم لعنصر الطين إن احتيج إليها استدعيت كما يستدعى الخادم، وإن استغنى عنها طردت، وأيضاًً فالطين يستولي على النار فيطفيها وأيضاً فهي لا توجد إلا بما أصله من عنصر الأرض وأن مآل النار إلى الرماد الذي لا ينتفع به، والطين أصل كل ما هو نام نابت كالإنسان والشجرة.
ومعلوم أن الإنسان والشجرة المثمرة خير من الرماد وأفضل، وعلى كل حال فقد شرف آدم بشرف وكرم بكرامة لا يوازيها شيء من شرف العناصر، وذلك أن الله تعالى خلقه بيديه ونفخ فيه من روحه، وأمر بالسجود له والجواهر في أنفسها متجانسة، وإنما تشرف بعارض من عوارضها.(12/69)
قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (77)
(قال فاخرج منها) مستأنفة كالتي قبلها أي فاخرج من الجنة أو من زمرة الملائكة، وقيل من الخلقة التي كنت عليها لأنه كان يفتخر بخلقته فغير الله خلقته واسود بعد ما كان أبيض، وقبح بعد ما كان حسناً، وأظلم بعد ما كان نورانياً، وهذا يدل على أنه لم يكن كافراً حين كان بين الملائكة، ولأن الله تعالى لم يحك عنه إلا الاستكبار عن السجود، فهذا دليل على أنه صار كافراً حين لم يسجد، ذكره الطيبي، ثم علل أمره بالخروج بقوله:
(فإنك رجيم) أي مرجوم بالكواكب، مطرود من كل خير، ملعون بترك أمره.(12/69)
وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (78) قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (79) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (80) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (81) قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83) قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (84) لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (85) قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (86) إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (87) وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (88)(12/70)
وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (78)
(وإن عليك لعنتي إلى يوم الدين) أي طردي لك عن الرحمة وإبعادي لك منها إلى يوم الجزاء فأخبر الله سبحانه وتعالى أن تلك اللعنة مستمرة له دائمة عليه ما دامت الدنيا، ثم في الآخرة يلقى من أنواع عذاب الله وعقوبته وسخطه ما هو به حقيق، وليس المراد أن اللعنة تزول عنه في الآخرة، بل هو ملعون أبداً ولكن لما كان له في الآخرة ما ينسى عنده اللعنة ويذهل عند الوقوع فيه منها صارت كأنها لم تكن بجنب ما يكون فيه.(12/70)
قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (79)
(قال رب فأنظرني) مستأنفة كما تقدم فيما قبلها أي أمهلني وأخرني ولا تعاجلني (إلى يوم يبعثون) يعني آدم وذريته للجزاء بعد فنائهم، وأراد بذلك أن يجد فسحة لإغوائهم، ويأخذ منهم ثأره(12/70)
قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (80)
(قال فإنك من المنظرين) أي الممهلين.(12/70)
إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (81)
(إلى يوم الوقت المعلوم) الذي قدره الله لفناء الخلائق وهو عند النفخة الآخرة، وقيل: هو النفخة الأولى قيل إنما طلب إبليس الإنظار إلى يوم البعث ليتخلص من الموت لأنه إذا أنظر إلى يوم البعث لم يمت قبل البعث وعند مجيء البعث لا يموت فحينئذ يتخلص من الموت، فأجيب بما يبطل مراده وينقض عليه مقصده وهو الإنظار إلى يوم الوقت المعلوم وهو الذي يعلمه الله ولا يعلمه غيره، فلما سمع اللعين إنظار الله له إلى ذلك الوقت.(12/70)
قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82)
(قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين) فأقسم بعزة الله أنه يضل بني آدم بتزيين الشهوات والمعاصي لهم، وإدخال الشُّبهَ عليهم حتى يصيروا غاوين جميعاً، ولا ينافيه قوله تعالى: (فيما أغويتني) فإن إغواءه تعالى إياه أثر من آثار قدرته تعالى وعزته، وحكم من أحكام قهره وسلطنته، فمآل الإقسام بهما واحد، ولعل اللعين أقسم بهما جميعاً فحكى تارة قسمه بإحداهما وأخرى بأخرى.
ثم لما علم أن كيده لا ينجع إلا في أتباعه وأحزابه من أهل الكفر والمعاصي استثنى من لا يقدر على إضلاله ولا يجد السبيل إلى إغوائه فقال(12/71)
إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83)
(إلا عبادك منهم المخلصين) أي الذين أخلصتهم لطاعتك، وعصمتهم مني، وقد تقدم تفسير هذه الآيات في سورة الحجر وغيرها.(12/71)
قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (84)
(قال فالحق والحق أقول) مستأنفة كالجمل التي قبلها قرأ الجمهور بنصب الحق في الموضعين، على أنه مقسم به حذف منه حرف القسم، فانتصب، أو هما منصوبان على الإغراء أي الزموا الحق أو مصدران مؤكدان لمضمون قوله:(12/71)
لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (85)
(لأملأن جهنم) وقرىء برفع الأول ونصب الثاني، فرفع الأول على أنه مبتدأ وخبره مقدر، أي فالحق مني أو فالحق أنا أو خبره لأملأن أو هو خبر مبتدأ محذوف، وأما نصب الثاني فبالفعل المذكور بعده، أي وأنا أقول الحق، وأجاز الفراء وأبو عبيدة أن يكون منصوباً بمعنى حقاً لأملأن جهنم واعترض عليهما بأن ما بعد اللام مقطوع عما قبلها، وروي عن الفراء وسيبويه أيضاًً أن المعنى فالحق أن أملأ جهنم وروي عن ابن عباس ومجاهد أنهما قرأ برفعهما فرفع الأول على ما تقدم؛ ورفع الثاني بالابتداء؛ وخبره الجملة المذكورة بعده والعائد محذوف.
وقرىء بخفضهما على تقدير حرف القسم، قال الفراء: كما يقول الله عز وجل لأفعلن كذا، وغلطه أبو العباس ثعلب، وقال: لا يجوز الخفض(12/71)
بحذف مضمر، وقيل: جملة لأملأن جواب القسم على قراءة الجمهور، وجملة والحق أقول معترضة بين القسم وجوابه.
(منك) أي من جنسك من الشياطين (وممن تبعك منهم) أي من ذرية آدم، فأطاعوك إذ دعوتهم إلى الضلالة والغواية، و (أجمعين) تأكيد للمعطوف والمعطوف عليه، وجوز الزمخشري أن يكون تأكيداً للضمير في منهم خاصة، أي لأملأن جهنم من الشياطين ومن تبعهم من جميع الناس، لا تفاوت في ذلك بين ناس وناس، ثم أمر الله سبحانه رسوله أن يخبرهم بأنه إنما يريد بالدعوة إلى الله امتثال أمره، لا عرض الدنيا الزائل فقال:(12/72)
قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (86)
(قل ما أسألكم عليه من أجر) الضمير في عليه راجع إلى تبليغ الوحي ولم يتقدم له ذكر ولكنه مفهوم من السياق، وقيل هو عائد إلى ما تقدم من قوله (أأنزل عليه الذكر من بيننا) وقيل: الضمير راجع إلى القرآن، وقيل إلى الدعاء إلى الله على العموم، فيشمل القرآن وغيره من الوحي، ومن قول الرسول الله صلى الله عليه وسلم، والمعنى ما أطلب منكم من جعل تعطونيه عليه قال ابن عباس قل يا محمد: ما أسألكم على ما أدعوكم إليه من أجر عرض دنيا.
(وما أنا من المتكلفين) أي المتصنعين بما ليسوا من أهله حتى انتحل النبوة وأتقول القرآن من تلقاء نفسي وأقول ما لا أعلم أو أدعوكم إلى غير ما أمرني الله بالدعوة إليه، والتكلف التصنع.
وفي البخاري ومسلم وغيرهما عن مسروق قال: بينما رجل يحدث في المسجد فقال فيما يقول (يوم تأتي السماء بدخان مبين) قال: دخان يكون يوم القيامة يأخذ بأسماع المنافقين وأبصارهم ويأخذ المؤمنين كهيئة الزكام، قال قمنا حتى دخلنا على عبد الله وهو في بيته وكان متكئاً فاستوى قاعداً فقال يا أيها الناس من علم منكم علماً فليقل به، ومن لم يعلم فليقل: الله أعلم فإن من العلم أن يقول العالم لما لا يعلم: الله أعلم قال الله تعالى لرسوله صلى الله(12/72)
عليه وسلم: (قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين).
وأخرج البخاري عن عمر قال: " نهينا عن التكلف "، وأخرج الطبراني والحاكم والبيهقي عن سلمان قال: " نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتكلف للضَيف " (1).
_________
(1) أخرجاه في الصحيحين الأعمش وانظر صحيح الجامع الصغير 6748 برواية " نهى عن التكلف
للضَّيْف ".(12/73)
إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (87)
(إن هو إلا ذكر للعالمين) أي ما هذا القرآن أو الوحي أو ما أدعوكم إليه إلا ذكر من الله عز وجل للجن والإنس العقلاء دون الملائكة، لأن المراد بالذكر الموعظة والتخويف، وتذكير العواقب، وهذا إنما يناسب المكلفين، وهم الثقلان فقط، تأمل.(12/73)
وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (88)
(ولتعلمن) أيها الكفار (نبأه) أي ما أنبأ به من الوعد والوعيد وغيرهما أو ما أخبر به من الدعاء إلى الله وتوحيده، والترغيب إلى الجنة، والتحذير من النار.
(بعد حين) قال قتادة والزجاج والفراء بعد الموت، وقال عكرمة وابن زيد: يوم القيامة، وقال الكلبي من بقي علم ذلك لما ظهر أمره وعلا، ومن مات علمه بعد الموت، وقال السدي وذلك يوم بدر وقيل عند ظهور الإسلام وفشوه، وكان الحسن يقول يا ابن آدم عند الموت يأتيك الخبر اليقين، وفيه من التهديد ما لا يخفى.(12/73)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
سورة الزمر
ويقال لها سورة الغرف
(وهي اثنتان وسبعون آية، وقيل خمس وسبعون آية وهي مكية)
في قول الحسن وعكرمة وجابر بن زيد، وأخرج النحاس في ناسخة عن ابن عباس قال: نزلت بمكة، سوى ثلاث آيات نزلن بالمدينة في وحشي، قاتل حمزة: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ) الثلاث الآيات، وقال آخرون إلا سبع آيات: من قوله: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ) إلى آخر السبع، وأخرج النسائي عن عائشة قالت: " كان يصوم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى نقول ما يريد أن يفطر، ويفطر حتى نقول ما يريد أن يصوم، وكان يقرأ في كل ليلة بني إسرائيل والزمر " (1)، وأخرجه الترمذي عنها بلفظ " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا ينام حتى يقرأ الزمر وبني إسرائيل ".
_________
(1) السنن الكبرى للنسائي 4/ 292 و4/ 299.(12/75)
بسم الله الرحمن الرحيم
تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (2) أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ (3)
(بسم الله الرحمن الرحيم(12/77)
تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1)
تنزيل الكتاب) ارتفاعه على أنه خبر مبتدأ محذوف هو اسم إشارة أي هذا تنزيل، وقال أبو حيان إن المبتدأ المقدر لفظ هو ليعود على قوله (إن هو إلا ذكر للعالمين) كأنه قيل وهذا الذكر ما هو؟ فقيل هو تنزيل الخ، وقيل ارتفاعه على أنه مبتدأ، وخبره الجار والمجرور بعده، أي تنزيل كائن من الله العزيز، وإلى هذا ذهب الزجاج والفراء، وأجاز الفراء والكسائي النصب على أنه مفعول به لفعل مقدر، أي اتبعوا أو اقرأوا تنزيل الكتاب، وقال الفراء يجوز نصبه على الإغراء أي الزموا والكتاب هو القرآن.
(من الله العزيز الحكيم) صلة للتنزيل، أو خبر بعد خبر، أو خبر مبتدأ محذوف، أو متعلق بمحذوف على أنه حال عمل فيه اسم الإشارة المقدر.(12/77)
إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (2)
(إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق) أي أنزلناه بسبب الحق، وإثباته وإظهاره، أو متلبسين بالحق، أو متلبساً أو بداعية الحق واقتضائه للإنزال، والمراد كل ما فيه من إثبات التوحيد والنبوة والمعاد وأنواع التكاليف.
قال مقاتل يقول لم ننزله باطلاً لغير شيء، وهذا ليس بتكرار، لأن(12/77)
الأول كالعنوان للكتاب، والثاني لبيان ما في الكتاب، أو المراد بالثاني هو الأول وإظهار لتعظيمه ومزيد الإعتناء بشأنه.
(فاعبد الله مخلصاً له الدين) الفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها أي ممحضاً له الدين من الشرك والرياء بالتوحيد، وتصفية السر. والإخلاص أن يقصد العبد بعمله وجه الله سبحانه، والدين العبادة والطاعة، ورأسها توحيد الله، وأنه لا شريك له.
وفي الآية دليل على وجوب النية وإخلاصها عن الشوائب لأن الإخلاص من الأمور القلبية التي لا تكون إلا بأعمال القلب وقد جاء في السنة الصحيحة أن ملاك الأمر في الأقوال والأفعال النية كما في حديث " إنما الأعمال بالنيات " (1) وحديث " لا قول ولا عمل إلا بالنية ".
_________
(1) سبق ذكره.(12/78)
أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ (3)
(ألا لله الدين الخالص) مستأنفة مقررة لما قبلها من الأمر بالإخلاص، أي إن الدين الخالص من شوائب الشرك وغيره هو لله وما سواه من الأديان فليس بدين الله الخالص، الذي أمر به. قال قتادة: الدين الخالص شهادة أن لا إله إلا الله.
وقد أخرج ابن مردويه عن يزيد الرقاشي أن رجلاً قال " يا رسول الله إنا نعطي أموالنا إلتماس الذكر فهل لنا في ذلك من أجر؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا، قال يا رسول الله إنما نعطي إلتماس الأجر والذكر فهل لنا أجر؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله لا يقبل إلا ما أخلص له " (1) ثم تلا هذه الآية، وقال الحسن الدين الإسلام.
ولما أمر سبحانه بعبادته على وجه الإخلاص، وأن الدين الخالص له لا لغيره، بين بطلان الشرك الذي هو مخالف للإخلاص فقال:
_________
(1) رواه النسائي (2/ 59) وإسناده حسن كما قال الحافظ الواقي في تخريج الإحياء 4/ 328.(12/78)
(والذين اتخذوا من دونه أولياء) الموصول عبارة من المشركين، ومحله الرفع على الابتداء، وخبره قوله (إن الله يحكم بينهم) وجملة (ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى) في محل نصب على الحال بتقدير القول والاستثناء مفرغ من أعم العلل، والمعنى والذين لم يخلصوا العبادة لله بل شابوها بعبادة غيره قائلين ما نعبدهم لشيء من الأشياء إلا ليقربونا إلى الله تقريباً، فالزلفى اسم أقيم مقام المصدر، والضمير في نعبدهم راجع إلى الأشياء التي كانوا يعبدونها من الملائكة وعيسى والأصنام، وهم المرادون بالأولياء، والمراد بالزلفى الشفاعة كما حكاه الواحدي عن المفسرين.
قال قتادة: كانوا إذا قيل لهم من ربكم وخالقكم؟ ومن خلق السموات والأرض؟ ومن أنزل من السماء ماء؟ قالوا الله. فيقال لهم: ما معنى عبادتكم للأصنام؟ قالوا (ليقربونا إلى الله زلفى) ويشفعوا لنا عنده. قال الكلبي: جواب هذا الكلام قوله في سورة الأحقاف: (فلولا نصرهم الذين اتخذوا من دون الله قرباناً آلهة).
(إن الله يحكم بينهم) أي بين أهل الأديان يوم القيامة فيجازي كُلاًّ بما يستحقه، فيدخل المؤمنين الجنة والكافرين النار وقيل بين المخلصين للدين وبين الذين لم يخلصوا وحذف الأول لدلالة الحال عليه، وقيل: بين المتنازعين من الفريقين (فيما هم فيه يختلفون) أي في الذي اختلفوا فيه من الدين بالتوحيد والشرك، فإن كل طائفة تدّعي أن الحق معها.
(إن الله لا يهدي) أي لا يرشد لدينه ولا يوفق للاهتداء إلى الحق (من هو كاذب) في زعمه أن الآلهة تقربه إلى الله (كفار) أي كفر باتخاذها آلهة، وجعلها شركاء لله لأنه فاقد للبصيرة غير قابل للاهتداء، لتغييره الفطرة بالتمرن في الضلال، والتمادي في الغي، والجملة تعليل لما ذكر من حكمه، والكفار صيغة المبالغة تدل على أن كفر هؤلاء قد بلغ إلى الغاية، وقرأ الحسن والأعرج كذاب على صيغة المبالغة ككفار، ورويت هذه عن أنس.(12/79)
لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (4) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (5) خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (6) إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7)(12/80)
لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (4)
(لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفَى) هذا مقرر لما سبق من إبطال قول المشركين بأن الملائكة بنات الله لتضمنه استحالة الولد في حقه سبحانه على الإطلاق، فلو أراد أن يتخذ ولداً لامتنع اتخاذ الولد حقيقة، ولم يتأت ذلك إلا بأن يصطفي (مما يخلق) أي يختار من جملة خلقه.
(ما يشاء) أن يصطفيه إذ لا موجود سواه إلا وهو مخلوق له ولا يصح أن يكون المخلوق ولداً للخالق لعدم المجانسة بينهما، فلم يبق إلا أن يصطفيه عبداً، كما يفيده التعبير بالاصطفاء، مكان الاتخاذ، فمعنى الآية لو أراد أن يتخذ ولداً لوقع منه شيء ليس هو من اتخاذ الولد، بل إنما هو الاصطفاء لبعض مخلوقاته، ولهذا نزه سبحانه نفسه عن اتخاذ الولد على الإطلاق فقال: (سبحانه) أي تنزيهاً له عن ذلك وجملة (هو الله الواحد) مبينة لتنزهه بحسب الصفات بعد تنزهه بحسب الذات، أي هو المستجمع لصفات الكمال المتوحد في ذاته فلا مماثل له.
(القهار) لكل مخلوقاته، ومن كان متصفاً بهذه الصفات استحال(12/80)
وجود الولد في حقه، لأن الولد مماثل لوالده، ولا مماثل له سبحانه، ومثل هذه الآية قوله سبحانه (لو أردنا أن نتخذ لهواً لاتخذناه من لدنا) والآية إشارة إلى قياس استثنائي حذفت صغراه، ونتيجته تقريرهما، لكنه لم يصطف أي لم يتخذ ولداً، وهذا النفي باعترافهم شامل لسائر الخلائق، فلم يرد اتخاذ الولد، تأمل.
ثم لما ذكر سبحانه كونه منزهاً عن الولد بكونه إلهاً واحداً قهاراً ذكر ما يدل على ذلك من صفاته فقال:(12/81)
خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (5)
(خلق السموات والأرض بالحق) أي لم يخلقهما باطلاً لغير شيء ومن كان هذا الخلق العظيم خلقه استحال أن يكون له شريك أو صاحبة أو ولد، ثم بين كيفية تصرفه في السموات والأرض فقال:
(يكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل) التكوير في اللغة طرح الشيء بعضه على بعض، يقال كور المتاع، إذا ألقى بعضه على بعض، ومنه كور العمامة، فمعنى تكوير الليل على النهار تغشيته إياه حتى يذهب ضوؤه، ومعنى تكوير النهار على الليل تغشيته إياه حتى تذهب ظلمته، وهو معنى قوله تعالى (يغشى الليل النهار يطلبه حثيثاً) هكذا قال قتادة وغيره قال الضحاك: أي يلقي هذا على هذا، وهذا على هذا، وهو مقارب للقول الأول.
وقيل معنى الآية أن ما نقص من الليل دخل في النهار، وما نقص من النهار دخل في الليل، وهو معنى قوله (يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل) ومنتهى النقصان تسع ساعات، ومنتهى الزيادة خمس عشرة ساعة، وقيل: المعنى أن هذا يكر على هذا، وهذا يكر على هذا كروراً متتابعاً، قال الراغب تكوير الشيء إدارته، وضم بعضه على بعض، ككور العمامة أهـ.
وقيل التكوير اللف واللي، وقال ابن عباس: يكور يحمل، والإشارة بهذا التكوير المذكور في الآية إلى جريان الشمس في مطالعها، وانتقاص الليل والنهار، وازديادهما. قال الرازي: إن النور والظلمة عسكران عظيمان وفي كل يوم يغلب هذا ذاك وذاك هذا.(12/81)
ثم ذكر تسخيره لسلطان النهار وسلطان الليل وهما الشمس والقمر فقال: (وسخر الشمس والقمر) أي جعلهما منقادين لأمره بالطلوع والغروب لمنافع العباد ثم بين كيفية هذا التسخير فقال: (كل يجري لأجل مسمى) أي يجري في فلكه إلى أن تنصرم الدنيا وذلك يوم القيامة: وقد تقدم الكلام على الأجل المسمى لجريهما مستوفى في سورة يس.
(ألا هو العزيز الغفار) ألا حرف تنبيه، وتصدير الجملة بها لإظهار كمال الاعتناء بمضمونها. والمعنى تنبهوا أيها العباد فالله هو الغالب الساتر لذنوب خلقه بالمغفرة، ثم بين سبحانه نوعاً آخر من قدرته وبديع صنعته فقال:(12/82)
خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (6)
(خلقكم من نفس واحدة) وهي نفس آدم (ثم جعل منها زوجها) جاء بثم للدلالة على ترتب خلق حواء على خلق آدم وتراخيه عنه لأنها خلقت منه، والعطف إما على مقدر وهو صفة لنفس قال الفراء والزجاج: التقدير خلقكم من نفس خلقها واحدة، ثم جعل منها زوجها، ويجوز أن يكون العطف على معنى واحدة. أي من نفس انفردت بالإيجاد ثم جعل الخ، والتعبير بالجعل دون الخلق مع العطف بثم للدلالة على أن خلق حواء من ضلع آدم أدخل في كونه آية باهرة، دالة على كمال القدرة، لأن خلق آدم هو على عادة الله المستمرة (1) في خلقه، وخلقها على الصفة المذكورة لم يجر به عادة لكونه لم يخلق سبحانه أنثى من ضلع رجل غيرها، وقد تقدم تفسير هذه الآية مستوفى في سورة الأعراف. ثم بين سبحانه نوعاً آخر من قدرته الباهرة وأفعاله الدالة على ما ذكر فقال: (وأنزل لكم من الأنعام) عبر بالإنزال لما يروي أنه خلقها في الجنة، ثم أنزلها فيكون الإنزال حقيقة كما قيل في قوله (وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد) فإن آدم لما أهبط إلى الأرض أنزل معه
_________
(1) إن خلق آدم لم يكن على عادة الله المستمرة في خلقه، لأنه خلق من تراب وعلى غير مثال سابق، فخلقه ربما يكون أدخل في كمال القدرة من خلق حواء.
أما بنوه فقد خلقوا على عادة الله المستمرة في خلقه، وهي التناسل. ولعل، هذا ما قصد إليه المؤلف من التعبير بكاف المخاطبين وميم الجمع في قوله تعالى: " خلقكم من نفس واحدة ".(12/82)
الحديد، ويحتمل أن يكون مجازاً؛ لأنها لما لم تعش إلا بالنبات والنبات إنما يعيش بالماء، والماء منزل من السماء، كانت الأنعام كأنها منزلة لأن سبب سببها منزل. وهذا يسمى التدريج، ومنه قوله تعالى (قد أنزلنا عليكم لباساً) وقيل: إن أنزل بمعنى أنشأ وجعل، أو بمعنى أعطى، وقيل: جعل الخلق إنزالاً لأن الخلق إنما يكون بأمر ينزل من السماء.
(ثمانية أزواج) هي ما في قوله (وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ)، (وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ) ويعني بالاثنين في الأربع المواضع الذكر والأنثى، والزوج ما معه آخر من جنسه يزاوجه، ويحصل منهما النسل، فيطلق لفظ الزوج على المفرد إذا كان معه آخر من جنسه لا ينفك عنه، ويحصل منهما النسل، وكذا يطلق على الإثنين فهو مشترك، والمراد هنا الإطلاق الأول، وقد تقدم تفسير هذه الآية في سورة الأنعام، ثم بين سبحانه نوعاً آخر من قدرته البديعة فقال:
(يخلقكم في بطون أمهاتكم) قرأ حمزة بكسر الهمزة والميم وقرأ الكسائي بكسر الهمزة وفتح الميم، وقرأ الباقون بضم الهمزة وفتح الميم، وإنما قال (في بطون أمهاتكم) مع أن الإنسان والحيوان مشترك في هذا الخلق لتغليب من يعقل، ولشرف الإنسان على سائر الخلق (خلقاً) كائناً (من بعد خلق) الجملة استئنافية لبيان ما تضمنته من الأطوار المختلفة في خلقهم، وخلقاً مصدر مؤكد للفعل المذكور، ومن بعد خلق صفة له. قال قتادة والسدي نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم عظماً ثم لحماً. وقال ابن زيد خلقكم خلقاً في بطون أمهاتكم من بعد خلقكم في ظهر آدم.
(في ظلمات ثلاث) هي ظلمة البطن وظلمة الرحم؛ وظلمة المشيمة؛ قاله مجاهد وقتادة والضحاك، وقال سعيد بن جبير ظلمة المشيمة، وظلمة الرحم وظلمة الليل وقال أبو عبيدة ظلمة صلب الرجل، وظلمة بطن المرأة؛ وظلمة الرحم والرحم داخل البدن والمشيمة داخل الرحم قال ابن الأعرابي يقال لما يكون فيه الولد المشيمة والكيس والغلاف؛ والجمع مشيم بحذف الهاء، ومشايم، ويقال لها من غيره السلى، والإشارة بقوله (ذلكم(12/83)
الله ربكم) إليه سبحانه باعتبار أفعاله السابقة والاسم الشريف خبره وربكم خبر آخر.
(له الملك) الحقيقي في الدنيا والآخرة لا شراكة لغيره فيه، وهو خبر ثالث وقوله: (لا إله إلا هو) خبر رابع (فأنى تصرفون) أي فكيف تنصرفون عن عبادته؟ وتتقلبون عنها إلى عبادة غيره؟ أو تصرفون عن طريق الحق بعد هذا البيان، ولما ذكر سبحانه النعم التي أنعم بها على عباده، وبين لهم من بديع صنعه، وعجيب فعله، ما يوجب على كل عاقل أن يؤمن به عقبه بقوله:(12/84)
إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7)
(إن تكفروا فإن الله غني عنكم) أي غير محتاج إليكم ولا إلى إيمانكم ولا عبادتكم له، فإنه الغني المطلق.
(و) مع كون كفر الكافر لا يضره كما أنه لا ينفعه إيمان المؤمن، فهو أيضاًً (لا يرضى لعباده الكفر) أي لا يرضى لأحد من عباده الكفر، ولا يحبه، ولا يأمر به، ولا يفعل فعل الراضي بأن يأذن فيه ويقر عليه، ويثيب فاعله ويمدحه، بل يفعل فعل الساخط بأن ينهي عنه ويذم عليه، ويعاقب مرتكبه، وإن كان بإرادته إذ لا يخرج شيء عنها.
قال أبو السعود: عدم رضاه بكفر عباده لأجل منفعتهم ودفع مضرتهم، رحمة عليهم لا لتضرره تعالى به انتهى. ومثل هذه الآية قوله (إن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعاً فإن الله لغني حميد) ومثلها ما ثبت في صحيح مسلم من قوله صلى الله عليه وسلم: " يا عبادي لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم كانوا على قلب أفجر رجل منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاًً " (1).
وقد اختلف المفسرون في هذه الآية هل هي على عمومها؟ وأن الكفر غير مرضي لله سبحانه على كل حال كما هو الظاهر، أو هي خاصة، والمعنى لا يرضى لعباده المؤمنين الكفر، وقد ذهب إلى التخصيص حبر الأمة ابن عباس رضي الله تعالى عنه، وتابعه على ذلك عكرمة والسدي وغيرهما، ثم اختلفوا في الآية اختلافاً آخر، فقال قوم: إنه يريد كفر الكافر ولا يرضاه
_________
(1) وتمام الحديث في مسلم 8/ 17.(12/84)
وقال الآخرون: إنه لا يريده ولا يرضاه، والكلام في تحقيق مثل هذا يطول جداً.
وقد استدل القائلون بتخصيص هذه الآية والمثبتون للإرادة مع عدم الرضا بما ثبت في آيات كثيرة من الكتاب العزيز أنه سبحانه (يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ) (وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ) ونحو هذا مما يؤدي معناه كثير في الكتاب العزيز.
قال ابن عباس في قوله: (إن تكفروا) إلخ يعني الكفار الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم، فيقولوا لا إله إلا الله، ثم قال: (ولا يرضى لعباده الكفر) وهم عباده المخلصون، الذين قال فيهم (إن عبادي ليس لك عليهم سلطان) فألزمهم شهادة أن لا إله إلا الله، وحببها إليهم أخرجه ابن جرير فيكون عاماً في اللفظ خاصاً في المعنى، كقوله (عيناً يشرب بها عباد الله) يريد بعض العباد وقال عكرمة لا يرضى لعباده المسلمين الكفر، وعن قتادة قال، والله ما رضي الله لعبد صلاته، ولا أمره بها، ولا دعاه إليها، ولكن رضي لكم طاعته، وأمركم بها، ونهاكم عن معصيته، ثم لما ذكر سبحانه أنه لا يرضى لعباده الكفر بين أنه يرضى لهم الشكر فقال:
(وإن تشكروا يرضه لكم) أي يرضى لكم الشكر، المدلول عليه بقوله: وإن تشكروا أي يثبكم عليه، وإنما رضي لهم سبحانه الشكر لأنه سبب سعادتهم في الدنيا والآخرة. كما قال سبحانه (لئن شكرتم لأزيدنكم) لا لانتفاعه به، قرىء بإسكان الهاء من يرضه، وبإشباع الضمة على الهاء. واختلف الباقون والقراءات كلها سبعية.
(ولا تزر وازرة وزر أخرى)، أي لا تحمل نفس حاملة للوزر حمل نفس أخرى، وهذا بيان لعدم سراية كفر الكافر لغيره أصلاً، وقد تقدم تفسير هذه الآية مستوفى (ثم إلى ربكم مرجعكم) يوم القيامة (فينبئكم بما كنتم تعملون) من خير وشر، وفيه تهديد شديد (إنه عليم بذات الصدور) أي بما تضمره القلوب وتستره، فكيف بما تظهره وتبديه، وهذا تعليل بالتنبيه بالأعمال.(12/85)
وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ (8) أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (9)(12/86)
وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ (8)
(وإذا مس الإنسان ضر) أي ضر كان في جسمه أو ماله أو أهله أو ولده من بلاء ومرض أو فقر أو خوف أو شدة لأن اللفظ مطلق فلا معنى لتقييده، والمس في الأعراض مجاز. وجواب إذا قوله (دعا ربه منيباً إليه) أي راجعاً إليه مستغيثاً به في دفع ما نزل به تاركاً لما كان يدعوه ويستغيث به من ميت أو حي، أو صنم أو غير ذلك في حال الرخاء لعلمه أنها بمعزل عن القدرة على كشف ضره.
(ثم إذا خوله نعمة منه) أي أعطاه وملكه، ويقال خوله الشيء أي ملكه إياه ولا يستعمل في الجزاء، بل في ابتداء العطية (نسي ما كان يدعو إليه من قبل) أي نسي الضر الذي كان يدعو الله إلى كشفه عنه من قبل أن يخوله ما خوله وقيل نسي الدعاء الذي كان يتضرع به وتركه أو نسي ربه الذي كان يدعوه، ويتضرع إليه، ثم جاوز ذلك إلى الشرك بالله وهو معنى قوله: (وجعل لله أنداداً) أي شركاء من الأصنام أو غيرها، يستغيث بها ويعبدها؛ وقال السدي: يعنى أنداداً من الرجال يعتمد عليهم في جميع أموره (ليضل عن سبيله) أي ليضل الناس عن طريق الله التي هي الإسلام والتوحيد قرأ الجمهور بضم الياء، وقرىء بفتحها، وهما سبعيتان، واللام للعاقبة، ثم أمر الله سبحانه وتعالى رسوله صلى الله عليه وآله وسلم أن يهدد من كان متصفاً بتلك الصفة فقال:
(قل تمتع بكفرك قليلاً) أي تمتعاً قليلاً أو زماناً قليلاً فمتاع الدنيا قليل قال الزجاج لفظه لفظ الأمر ومعناه التهديد والوعيد وفيه إشعار بأن الكفر(12/86)
نوع تشه لا سند له، وإقناط للكافرين من التمتع في الآخرة، ولذلك علله بقوله:
(إنك من أصحاب النار) على سبيل الاستئناف للمبالغة أي مصيرك إليها عن قريب، وإنك ملازمها ومعدود من أهلها على الدوام، وهو تعليل لقلة التمتع، وفيه من التهديد أمر عظيم، قيل: نزلت في عتبة بن ربيعة، وقيل: في أبي حذيفة المخزومي، وقيل: هو عام في كل كافر، وهو الأوفق بقواعد الشريعة.
ثم لما ذكر سبحانه صفات المشركين وتمسكهم بغير الله عند اندفاع المكروهات عنهم ذكر صفات المؤمنين فقال:(12/87)
أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (9)
(أمن هو قانت) هذا إلى آخره من تمام الكلام المأمور به رسول الله صلى الله عليه وسلم والمعنى أذلك الكافر أحسن حالاً ومآلاً أمن هو قائم بطاعات الله في السراء والضراء، في ساعات الليل، مستمر على ذلك، غير مقتصر على دعاء الله سبحانه عند نزول الضرر به؟ قرىء: أمن بالتشديد وبالتخفيف، فعلى القراءة الأولى (أ) داخلة على (من) الموصولة، وأدغمت الميم في الميم وأم هي المتصلة، ومعادلها محذوف، أي الكافر خير؟ أم الذي هو قانت؟ وقيل، هي المنقطعة مقدرة ببل والهمزة، أي بل أمن هو قانت كالكافر؟ وعلى الثانية الهمزة للإستفهام، والاستفهام للتقرير، ومقابله محذوف، أي أمن هو قانت كمن كفر؟ وقال الفراء إن الهمزة في هذه القراءة للنداء، ومن منادى، وهي عبارة عن النبي صلى الله عليه وسلم المأمور بقوله:
(قل تمتع بكفرك قليلاً) والتقدير: يا من هو قانت قل: كيت وكيت، وقيل: التقدير يا من هو قانت إنك من أصحاب الجنة، ومن القائلين بأن الهمزة للنداء الفراء، وضعف ذلك أبو حيان وقال هو أجنبي عما قبله وعما بعده، وقد سبقه إلا هذا التضعيف أبو علي الفارسي، واعترض على هذه القراءة من أصلها أبو حاتم والأخفش ولا وجه لذلك، فإنها إذا ثبتت(12/87)
الرواية بطلت الدراية.
وقد اختلف في تفسير القانت هنا فقيل المطيع، وقيل: الخاشع أو القائم في صلاته، وقيل: الداعي لربه، قال النحاس: أصل القنوت الطاعة فكل ما قيل فيه فهو داخل في الطاعة.
(آناء الليل) جمع إنى بكسر الهمزة والقصر كمعي وأمعاء، وقيل: واحدها أنو، يقال: مضى من الليل أنيان وأنوان والمراد بآناء الليل ساعاته وأوقاته، وقيل: جوفه، وقيل: ما بين المغرب والعشاء، وقيل: أوله وأوسطه وآخره.
(ساجداً وقائماً) منصوبان على الحال، أي جامعاً بين السجود والقيام في الصلاة، وقدم السجود على القيام لكونه أدخل في العبادة، والآية دلت على ترجيح قيام الليل على النهار، وأنه أفضل منه وذلك لأن الليل استر فيكون أبعد عن الرياء، ولأن ظلمة الليل تجمع الهم وتمنع البصر عن النظر إلى الأشياء، وإذا صار القلب فارغاً عن الاشتغال بالأحوال الخارجية رجع إلى المطلوب الأصلي، وهو الخشوع في الصلاة، ومعرفة من يصلي له.
وقيل لأن الليل وقت النوم ومظنة الراحة فيكون قيامه أشق على النفس، فيكون الثواب فيه أكثر قال ابن عباس: من أحب أن يهون الله عليه الوقوف يوم القيامة فليره الله في ظلمة الليل، ذكره القرطبي.
(يحذر الآخرة) أي يحذر عذاب الآخرة قاله سعيد بن جبير ومقاتل (ويرجو رحمة ربه) فيجمع بين الرجاء والخوف وما اجتمعا في قلب رجل إلا فاز قيل: وفي الكلام حذف تقديره كمن لا يفعل شيئاًً من ذلك، كما يدل عليه السياق، قيل: الرحمة هنا المغفرة، وقيل: الجنة، وهذا يدل على أن جانب الرجاء أكمل، وأولى أن ينسب إلى الله تعالى.
وعن ابن عمر أنه تلا هذه الآية وقال " ذاك عثمان بن عفان " (1). وفي
_________
(1) قاله السيوطي في الدر (5/ 323).(12/88)
لفظ نزلت في عثمان بن عفان وعن ابن عباس قال: نزلت في عمار بن ياسر.
وأخرج الترمذي والنسائي وابن ماجة عن أنس قال " دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على رجل وهو في الموت فقال كيف تجدك؟ قال أرجو الله وأخاف ذنوبي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يجتمعان في قلب عبد في مثل هذا الموطن إلا أعطاه الله الذي يرجو، وأمنه الذي يخاف " أخرجوه من طريق سيار بن حاتم عن جعفر بن سليمان عن ثابت عن أنس قال الترمذي: غريب، وقد رواه بعضهم عن ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً.
ثم أمر الله سبحانه رسوله أن يقول لهم قولاً آخر، يتبين به الحق من الباطل فقال:
(قل هل يستوي الذين يعلمون) إن ما وعد الله به من البعث والثواب والعقاب حق (والذين لا يعلمون) ذلك أو الذين يعلمون ما أنزل الله على رسله والذين لا يعلمون ذلك أو المراد العلماء والجهال، ومعلوم عند كل من له عقل أنه لا استواء بين العلم والجهل، ولا بين العالم والجاهل.
قال الزجاج أي كما لا يستوى الذين يعلمون والذين لا يعلمون كذلك لا يستوي المطيع والعاصي.
وقيل المراد بالذين يعلمون هم العاملون بعلمهم، فإنهم المنتفعون به لأن من لم يعمل بمنزلة من لم يعلم، وقيل: افتتح الله الآية بالعمل وختمها بالعلم، لأن العمل من باب المجاهدات والعلم من باب المكاشفات، وهو النهاية فإذا حصل للإنسان دل ذلك على كماله وفضله.
(إنما يتذكر أولو الألباب) أي إنما يتعظ بوعظ الله ويتدبر ويتفكر فيه أصحاب العقول الصافية، والقلوب النيرة، وهم المؤمنون لا الكفار، فإنهم وإن زعموا أن لهم عقولاً فهي كالعدم، وهذه الجملة ليست من جملة الكلام المأمور به، بل من جهة الله سبحانه بعد الأمر بما ذكر من القوارع الزاجرة عن الكفر والمعاصي، لبيان عدم تأثيرها في قلوب الكفرة لاختلال عقولهم.(12/89)
قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (10) قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (11)(12/90)
قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (10)
(قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ) لما نفى سبحانه المساواة بين من يعلم من لا يعلم، وبين أنه (إنما يتذكر أولو الألباب) أمر رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يأمر المؤمنين من عباده بالثبات على تقواه والإيمان به، والمعنى يأيها الذين صدقوا بتوحيد الله اتقوا ربكم بطاعته واجتناب معاصيه، وامتثال أوامره وإخلاص الإيمان له، ونفي الشركاء عنه، والمراد: قل لهم قولي هذا بعينه، ثم لما أمر الله سبحانه المؤمنين بالتقوى، بين لهم ما في هذه التقوى من الفوائد فقال:
(للذين أحسنوا) أي عملوا الأعمال الحسنة (في هذه الدنيا) على وجه الإخلاص (حسنة) عظيمة وهي الجنة، وقوله (في هذه الدنيا) متعلق بأحسنوا وقيل بحسنة على أنه بيان لمكانها، فيكون المعنى للذين أحسنوا في العمل حسنة في الدنيا بالصحة والعافية، والظفر والغنمية، والأول أولى، ثم لا كان بعض العباد قد يتعسر عليه فعل الطاعات، والإحسان في وطنه أرشد الله سبحانه من كان كذلك إلى الهجرة فقال:
(وأرض الله واسعة) وبلاده كثيرة، فليهاجر إلى حيث تمكنه طاعة الله والعمل بما أمر به، والترك لما نهى عنه، كما هو سنة الأنبياء والصالحين، فإنه لا عذر له في التفريط أصلاً؛ ومثل ذلك قوله سبحانه (ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها) وقد مضى الكلام في الهجرة مستوفى في سورة النساء.(12/90)
وقيل المراد بالأرض الواسعة هنا أرض الجنة، رغبهم في سعتها وسعة نعيمها كما في قوله (جنة عرضها السموات والأرض) والجنة قد تسمى أرضاً. قال تعالى (وقالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء) والأول أولى.
وقيل ارتحلوا من مكة وتحولوا إلى بلاد أخر؛ واقتدوا بالأنبياء والصالحين في مهاجرتهم إلى غير بلادهم، ليزدادوا إحساناً إلى إحسانهم وطاعة إلى طاعتهم؛ وفيه حث على الهجرة من البلد الذي يظهر فيه المعاصي وقيل من أمر بالمعاصي في بلد فليهرب منه ثم لما بين سبحانه ما للمحسنين إذا أحسنوا؛ وكان لا بد في ذلك من الصبر على فعل الطاعة؛ وعلى كف النفس عن الشهوات، أشار إلى فضيلة الصبر وعظيم مقداره فقال:
(إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ) على مفارقة أوطانهم وعشائرهم وعلى غيرها من تجرع الغصص، واحتمال البلايا في طاعة الله: بزيادة (أَجْرَهُمْ) في مقابلة صبرهم وما كابدوه من العسر (بِغَيْرِ حِسَابٍ) أي بما لا يقدر على حصره حاصر ولا يستطيع حسبانه حاسب وإن كان معلوماً محصياً عند الله.
قال عطاء: بما لا يهتدي إليه عقل ولا وصف. وقال مقاتل أجرهم الجنة وأرزاقهم فيها بغير حساب.
وقيل قوله إنما يوفى الصابرون ترغيب في التقوى الأمور بها. وإيثار الصابرين على المتقين للإيذان بأنهم حائزون لفضيلة الصبر، كحيازتهم لفضيلة الإحسان لما أشير إليه من استلزام التقوى لهما مع ما فيه من زيادة حث على المصابرة والمجاهدة في تحمل مشاق الهجرة.
والحاصل أن الآية تدل على أن ثواب الصابرين وأجرهم لا نهاية له لأن كل شيء يدخل تحت الحساب فهو متناه، وما كان لا يدخل تحت الحساب فهو(12/91)
غير متناه، وهذه فضيلة عظيمة، ومثوبة جليلة، تقتضي من كل راغب في ثواب الله، وطامع فيما عنده من الخير أن يتوفر على الصبر ويزم نفسه بزمامه، ويقيدها بقيده، فإن الجزع لا يرد قضاء قد نزل، ولا يجلب خيراً قد سلب، ولا يدفع مكروها قد وقع، وإذا تصور العاقل هذا حق تصور، وتعقله حق تعقله، علم أن الصابر على ما نزل به قد فاز بهذا الأجر العظيم، وظفر بهذا الخير الخطير، وغير الصابر قد نزل به القضاء شاء أم أبى. ومع ذلك فاته من الأجر ما لا يقادر قدره، ولا يبلغ مداه، فضم إلى مصيبته مصيبة أخرى ولم يظفر بغير الجزع، وما أحسن قول من قال:
أرى الصبر محموداً وعنه مذاهب ... فكيف إذا ما لم يكن عنه مذهب
هناك يحق الصبر والصبر واجب ... وما كان منه للضرورة أوجب
قال علي بن أبي طالب: كل مطيع يكال له كيلاً ويوزن له وزناً إلا الصابرين، فإنه يحثى لهم حثياً، وروي أنه يؤتى بأهل البلاء فلا ينصب لهم ميزان، ولا ينشر لهم ديوان، ويصب عليهم الأجر حتى يتمنى أهل العافية في الدنيا لو أن أجسادهم تقرض بالمقاريض، لما يذهب به أهل البلاء من الفضل، ثم أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يخبرهم أولاً بما أمر به من التوحيد والإخلاص فقال:(12/92)
قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (11)
(قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصاً له الدين) أي أعبده عبادة خالصة من الشرك والرياء وغير ذلك، قال مقاتل: " إن كفار قريش قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم ما يحملك على الذي أتيتنا به؟ ألا تنظر إلى ملة أبيك وجدك؟ وسادات قومك يعبدون اللات والعزى فتأخذ بها "، (1) فأنزل الله الآية، وقد تقدم بيان معنى الآية في أول هذه السورة، ثم أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يخبرهم ثانياً بأنه مأمور بأن يكون أول من أطاع وانقاد وأسلم فقال:
_________
(1) ذكره الخازن في تفسيره دون مسنده.(12/92)
وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (12) قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (13) قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي (14) فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (15) لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ (16)(12/93)
وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (12)
(وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ) من هذه الأمة وكذلك كان صلى الله عليه وسلم فإنه أول من خالف دين آبائه ودعا إلى التوحيد، ومعنى الأولية السبق بحسب الزمان، فالمراد بالسبق السبق بحسب الدعوة، فإن الأفضل أن من يدعو الغير إلى خلق كريم أن يدعو نفسه إليه أولاً، ويتخلق به حتى يؤثر في الغير كسنة الأنبياء والصالحين، لا الملوك والمتجبرين، واللام للتعليل، أي وأمرت بما أمرت به لأجل أن أكون، وقيل: أنها مزيدة للتوكيد، والأول أولى، ثم أمره ثالثاً أن يخبرهم بخوفه من العذاب على تقدير العصيان فقال:(12/93)
قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (13)
(قل إني أخاف إن عصيت ربي) بترك إخلاص العبادة له، وتوحيده والدعاء إلى ترك الشرك، وتضليل أهله (عذاب يوم عظيم) وهو يوم القيامة قال أكثر المفسرين: المعنى إني أخاف إن عصيت ربي بإجابة المشركين إلى ما دعوني إليه من عبادة غير الله.
قال أبو حمزة اليماني وابن المسيب: هذه الآية منسوخة بقوله: (ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر) وفي هذه الآية دليل على أن الأمر للوجوب لأن قبله (وإنما أمرت أن أعبد الله)، فالمراد عصيان هذا الأمر، وفيه زجر الغير عن المعاصي، لأنه مع جلالة قدره وشرف طهارته ونزاهته، ومنصب نبوته إذا كان خائفاً حذراً من المعاصي فغيره أولى بذلك، ثم أمره رابعاً أن(12/93)
يخبرهم بأنه امتثل الأمر وانقاد، وعبد الله وأخلص له الدين على أبلغ وجه، وآكده، إظهاراً لتصلبه في الدين، وحسماً لأطماعهم الفارغة، وتمهيداً لتهديدهم فقال:(12/94)
قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي (14)
(قل الله أعبد) التقديم مشعر بالاختصاص، أي لا أعبد غيره لا استقلالاً ولا على جهة الشركة، ومعنى (مخلصاً له ديني) أنه خالص لله غير مشوب بشرك ولا رياء ولا غيرهما، وقد تقدم تحقيقه في أول السورة، قال الرازي: فإن قيل ما معنى التكرير في قوله (إني أمرت أن أعبد الله مخلصاً له الدين)، وقوله (قل الله أعبد مخلصاً له ديني) قلنا ليس هذا بتكرير لأن الأول إخبار بأنه مأمور من جهة الله بالإيمان والعبادة والثاني إخبار بأنه أمر أن لا يعبد أحداً غير الله.(12/94)
فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (15)
(فاعبدوا ما شئتم) أن تعبدوه (من دونه) هذا الأمر للتهديد والتقريع والتوبيخ، كقوله (اعملوا ما شئتم) وفيه إيذان بأنهم لا يعبدون الله تعالى، وقيل إن الأمر على حقيقته، وهو منسوخ بآية السيف، والأول أولى.
(قل إن الخاسرين) الكاملين في الخسران هم (الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة) بتخليد الأنفس في النار وبعدم وصولهم إلى الحور المعدة لهم في الجنة لو آمنوا لأن من دخل النار فقد خسر نفسه وأهله، وأهلي جمع أهل وأصله أهلون أو أهلين والمراد بأهليهم أهل الآخرة، وقيل أزواجهم وخدمهم وقيل أهلهم في الدنيا لأنهم إن كانوا من أهل النار فقد خسروهم، كما خسروا أنفسهم، وإن كانوا من أهل الجنة فقد ذهبوا عنهم ذهاباً لا رجوع بعده.
قال الزجاج وهذا يعني به الكفار، فإنهم خسروا أنفسهم بالتخليد في النار، وخسروا أهليهم لأنهم لم يدخلوا مدخل المؤمنين الذين لهم أهل في الجنة، قال ابن عباس في الآية هم الكفار الذين خلقهم للنار، زالت عنهم الدنيا وحرمت عليهم الجنة، وعنه قال أهليهم من أهل الجنة، كانوا أعدوا(12/94)
لهم لو أطاعوا الله فغيبوهم.
(ألا ذلك هو الخسران المبين) مستأنفة لتأكيد ما قبلها وتصديرها بحرف التنبيه للإشعار بأن هذا الخسران الذي حل بهم قد بلغ من العظم إلى غاية ليس فوقها غاية، وكذلك تعريف الخسران ووصفه بكونه مبيناً، فإنه يدل على أنه الفرد الكامل من أفراد الخسران وأنه لا خسران يساويه ولا عقوبة تدانيه ثم بين سبحانه هذا الخسران الذي حل بهم والبلاء النازل عليهم بعد تهويله بطريق الإبهام فقال:(12/95)
لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ (16)
(لهم من فوقهم ظلل من النار) الظلل عبارة عن أطباق النار أي لهم من فوقهم أطباق وسرادقات وقطع كبار من النار تلتهب عليهم وإطلاق الظلل عليها تهكم وإلا فهي محرقة والظلة تقي من الحر.
(ومن تحتهم ظلل) أي أطباق من النار وفراش ومهاد وسمي ما تحتهم ظلالاً لأنها من إطلاق اسم أحد الضدين على الآخر، أو أن الظلة التحتانية لما كانت مشابهة للظلة الفوقانية في الإيذاء والحرارة سميت باسمها لأجل المماثلة والمشابهة أو لأنها تظل من تحتها من أهل النار لأن طبقات النار صارت في كل طبقة منها طائفة من طوائف الكفار، ومثل هذه الآية قوله (لهم في جهنم مهاد ومن فوقهم غواش) وقوله: (يوم يغشاهم العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم).
(ذلك) أي ما تقدم ذكره من وصف عذابهم في النار وهو مبتدأ وخبره قوله (يخوف الله به عباده) المؤمنين أي يحذرهم بما توعد به الكفار من العذاب ليخافوه فيتقوه وهو معنى (يا عباد فاتقون) أي اتقوا هذه المعاصي الموجبة لمثل هذا العذاب على الكفار، ووجه تخصيص العباد بالمؤمنين أن الغالب في القرآن إطلاق لفظ العباد عليهم وقيل هو للكفار، وأهل المعاصي وقيل هو عام للمسلمين والكفار.(12/95)
وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ (18) أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (19)(12/96)
وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ (17)
(والذين اجتنبوا الطاغوت) هو بناء مبالغة في المصدر كالرحموت والعظموت وهو الأوثان والشيطان، وقال مجاهد وابن زيد: هو الشيطان وقال الضحاك والسدي: هو الأوثان وقيل: إنه الكاهن، وقيل: هو اسم أعجمي مثل طالوت وجالوت، وقيل: إنه اسم عربي مشتق من الطغيان إلا أن فيها قلباً بتقديم اللام على العين، وفيها مبالغات، وهي التسمية بالمصدر كأن عين الشيطان طغيان، وإن البناء بناء مبالغة وهو للاختصاص إذ لا تطلق على غير الشيطان قال الأخفش: الطاغوت جمع، ويجوز أن يكون واحده مؤنثاً، والمعنى أعرضوا عن عبادته وخصوا عبادتهم بالله عز وجل، وقوله:
(أن يعبدوها) في محل نصب على البدل من الطاغوت، بدل اشتمال كأنه قال اجتنبوا عبادة الطاغوت، وقد تقدم الكلام على تفسير الطاغوت مستوفى في سورة البقرة.
(وأنابوا إلى الله) معطوف على اجتنبوا، والمعنى رجعوا إليه بالكلية، وأقبلوا على عبادته، معرضين عما سواه (لهم البشرى) بالثواب الجزيل وهو الجنة، وهذه البشرى إما على ألسنة الرسل، أو على ألسنة الملائكة عند حضور الموت أو عند البعث أو من الله تعالى لقوله (تحيتهم يوم يلقونه سلام) ولا مانع أن يكون من الله ومن الملائكة، فإن فضل الله واسع.
وقيل: لهم البشرى في الدنيا بالثناء عليهم بصالح أعمالهم، وعند الوضع في القبر، وفي الآخرة عند الخروج من القبر وعند الوقوف للحساب، وعند جواز الصراط وعند دخول الجنة، وفي الجنة، ففي كل موقف من هذه(12/96)
المواقف تحصل لهم البشارة، بنوع من الخير والراحة والروح والريحان.
(فبشر عباد) المراد بالعباد هنا العموم فيدخل الموصوفون بالاجتناب والإنابة إليه دخولاً أولياً وقيل: المراد بهم هم الموصوفون باجتناب الأوثان والإِنابة إلى الله فالمقام للضمير، وإنما أتى به ظاهراً توصلاً لوصفهم بما ذكر.(12/97)
الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ (18)
(الذين يستمعون القول) الحق من كتاب الله وسنة رسوله (فيتبعون أحسنه) أي محكمه، ويعملون به قال السدي: يتبعون أحسن ما يؤمرون به فيعملون بما فيه، وقيل: هو الرجل يسمع الحسن والقبيح فيتحدث بالحسن وينكف عن القبيح فلا يتحدث به، وقيل: يستمعون القرآن وغيره فيتبعون القرآن.
وقيل: يستمعون الرخص والعزائم فيتبعون العزائم ويتركون الرخص، وقيل: يأخذون بالعفو ويتركون العقوبة، وعن ابن عمر قال. كان سعيد بن زيد وأبو ذر وسلمان يتبعون في الجاهلية أحسن القول والكلام لا إله إلا الله قالوا بها، فأنزل الله على نبيه (يستمعون القول فيتبعون أحسنه) الآية ثم أثنى الله سبحانه على هؤلاء المذكورين فقال:
(أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب) أي هم الذين أوصلهم إلى الحق، وهم أصحاب العقول الصحيحة، لأنهم الذين انتفعوا بعقولهم، ولم ينتفع من عداهم بعقولهم، وأخرج ابن مردويه عن أبي سعيد قال: " لما نزلت فبشر عبادي الذين الآية أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم منادياً فنادى من مات لا يشرك بالله شيئاًً دخل الجنة فاستقبل عمر الرسول فرده، فقال يا رسول الله خشيت أن يتكل الناس فلا يعملون، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لو يعلم الناس قدر رحمة ربي لاتكلوا، ولو يعلمون قدر سخط ربي وعقابه لاستصغروا أعمالهم ". وهذا الحديث أصله في الصحيح من حديث أبي هريرة.(12/97)
وفي الآية إشارة إلى إيثار الاتباع، وترك التقليد، لأن الله قد أثنى على المتبعين بكونهم مهديين، وسماهم أولي الألباب، ولم يثن على التقليد ولا على أهله في موضع من القرآن الكريم، بل ذمه وذمهم في غير موضع كما تقدم مراراً ثم ذكر سبحانه من سبقت له الشقاوة وحرم السعادة فقال:(12/98)
أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (19)
(أفمن حق عليه كلمة العذاب) من هذه موصولة في محل رفع على الابتداء، وخبرها محذوف، أي كمن يخاف، أو فأنت تخلصه أو تتأسف عليه أو شرطية وجوابه قوله (أفأنت تنقذ من في النار) فالفاء فاء الجواب، دخلت على جملة الجزاء وأعيدت الهمزة الإنكارية لتأكيد معنى الإنكار، وقال سيبويه إنه كرر الاستفهام لطول الكلام، وقال الفراء المعنى أفأنت تنقذ من حقت عليه كلمة العذاب؟ والمراد بها قوله تعالى لإبليس: (لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين) وقوله (لمن تبعك منهم لأملأن جهنم منكم أجمعين) وقيل قوله هؤلاء في النار ولا أبالي.
ومعنى الآية التسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه كان حريصاً على إيمان قومه فأعلمه الله أن من سبق عليه القضاء وحقت عليه كلمة الله لا يقدر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينقذه من النار، بأن يجعله مؤمناً، قال عطاء يريد أبا لهب وولده ومن تخلف من عشيرة النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان.
وفي الآية مجاز بإطلاق المسبب وإرادة السبب، وتنبيه على أن المحكوم عليه بالعذاب بمنزلة الواقع في النار، وأن اجتهاده في دعائهم إلى الإيمان سعي في إنقاذهم من النار، وأصل الكلام: أفأنت تهدي من هو منغمس في الضلال؟ فوضع النار موضع الضلال، وضعاً للمسبب موضع السبي لقوة أمره، ثم عقب المجاز بما يناسبه من قوله تنقذ بدل تهدي فهو ترشيح، ولما ذكر سبحانه فيما سبق أن لأهل الشقاوة ظللاً من فوقهم من النار ومن تحتهم ظللاً استدرك عنهم من كان من أهل السعادة فقال:(12/98)
لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ (20) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (21)(12/99)
لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ (20)
(لكن الذين اتقوا ربهم) وهم الذين خوطبوا بقوله (يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ) ووصفوا بما عدد من الصفات الفاضلة، وهم المخاطبون أيضاً فيما سبق بقوله: (يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ) الآية، وقيل لكن ليست للاستدراك لأنه لم يأت قبله نفي، بل هو إضراب عن قصة إلى قصة مخالفة للأولى.
(لهم غرف من فوقها غرف) أي منازل في الجنة رفيعة، فوقها منازل هي أرفع منها، وذلك لأن الجنة درجات بعضها فوق بعض وقوله لهم غرف في معنى وعدهم الله بذلك، وعداً لا يخلفه وأنها (مبنية) بناء المنازل في إحكام أساسها وقوة بنائها، وإن كانت منازل الدنيا ليست بشيء بالنسبة إليها.
(تجري من تحتها الأنهار) أي من تحت تلك الغرف الفوقانية والتحتانية وفي ذلك كمال لبهجتها، وزيادة لرونقها وانتصاب (وعد الله) على المصدرية المؤكدة لمضمون الجملة لأن قوله لهم غرف في معنى وعدهم الله ذلك، وجملة:
(لا يخلف الله الميعاد) مقررة للوعد، أي لا يخلف الله ما وعد به الفريقين من الخير والشر، عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن أهل الجنة يتراؤون أهل الغرف من فوقهم كما يتراؤون الكوكب الدري الغابر في الأفق من المشرق، أو المغرب، لتفاضل ما بينهم، فقالوا يا رسول الله تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم،(12/99)
قال بلى والذي نفسي بيده، رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين " (1)، متفق عليه.
ولما ذكر سبحانه الجنة ووصفها بوصف يوجب الرغبة والشوق إليها أتبعه بذكر الدنيا ووصفها بوصف يوجب الرغبة عنها، والنفرة منها، فذكر تمثيلاً لها في سرعة زوالها وقرب اضمحلالها، مع ما في ذلك من ذكر نوع من أنواع قدرته الباهرة، وصنعه البديع فقال:
_________
(1) صحيح الجامع الصغير 2022 و2023.(12/100)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (21)
(ألم تر أن الله أنزل من السماء ماءً) أي من السحاب مطراً (فسلكه) أي فأدخله وأسكنه (ينابيع) أي عيونا ومسالك ومجاري وركايا (في الأرض) كالعروق في الجسد، والينابيع جمع ينبوع من نبع الماء ينبع، والينبوع عين الماء والأمكنة التي ينبع منها الماء من خلال الأرض أو نفس الماء الجاري والمعنى:
أدخل الماء النازل من السماء في الأرض، وجعله فيها عيوناً جارية أو جعله في ينابيع أي في أمكنة ينبع منها الماء فهو على الوجه الثاني منصوب بنزع الخافض، قال مقاتل: فجعله ركايا وعيوناً في الأرض، وقال ابن عباس ما في الأرض ماء إلا نزل من السماء، ولكن عروق في الأرض تغيره، فذلك قوله (فسلكه ينابيع في الأرض) فمن سره أن يعوده الملح عذباً فليصعده.
(ثم يخرج به) أي بذلك الماء من الأرض، وصيغة المضارع لاستحضار الصورة (زرعاً مختلفاً ألوانه) من أصفر وأخضر وأبيض وأحمر؛ أو من بر وشعير وغيرهما إذا كان المراد بالألوان الأصناف، وشمل لفظ الزرع جميع ما يستنبت حتى المقات.
(ثم يهيج) أي يجف وييبس يقال: هاج النبت يهيج هيجاً إذا تم جفافه وحان له أن ينتشر عن منبته، قال الجوهري: يقال: هاج النبت هياجاً(12/100)
إذا يبس، وأرض هايجة يبس بقلها، أو اصفر، وأهاجت الريح النبت أيبسته، قال المبرد قال الأصمعي يقال: هاجت الأرض تهيج إذا أدبر نبتها وولى قال وكذلك هاج النبت (فتراه) بعد خضرته ونضارته، وحسن رونقه (مصفراً) قد ذهبت خضرته وزالت نضارته.
(ثم يجعله حطاماً) أي متفتتاً متكسراً، من تحطم العود إذا تفتت من اليبس، ويقال للدابة إذا أسنت حطمة، ويتعدى بالحركة فيقال: حطمته حطماً من باب ضرب فانحطم، وحطمته بالتشديد مبالغة، قرأ الجمهور: ثم يجعله بالرفع عطفاً على ما قبله، وقرىء بالنصب بإضمار أن ولا وجه لذلك.
(إن في ذلك) المذكور من الأفعال الخمسة التي أولها أنزل (لذكرى لأولي الألباب) أي لتذكيراً لأهل العقول الصحيحة، فإنهم الذين يتعقلون الأشياء على حقيقتها، فيتفكرون ويعتبرون، ويعلمون بأن الحياة الدنيا حالها كحال هذا الزرع في سرعة التصرم، وقرب التقضي، وذهاب بهجتها، وزوال رونقها ونضارتها، فإذا أنتج لهم التفكر والاعتبار العلم بذلك لم يحصل منهم الاغترار بها، والميل إليها، وإيثارها على دار النعيم الدائم والحياة المستمرة، واللذة الخالصة، ولم يبق معهم شك في أن الله قادر على البعث والحشر، لأن من قدر على هذا قدر على ذلك.
وقيل: هو مثل ضربه الله للقرآن ولصدور من في الأرض، والمعنى أنزل من السماء قرآنا فسلكه في قلوب المؤمنين، ثم يخرج به ديناً بعضه أفضل من بعض، فأما المؤمن فيزداد إيماناً ويقيناً، وأما الذي في قلبه مرض فإنه يهيج كما يهيج الزرع، وهذا بالتغيير أشبه منه بالتفسير، ثم لما ذكر سبحانه (إن في ذلك لذكرى لأولي الألباب) ذكر شرح الصدر للإسلام لأن الانتفاع الكامل لا يحصل إلا به فقال:(12/101)
أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (22) اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (23)(12/102)
أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (22)
(أفمن شرح الله صدره للإسلام) أي وسعه لقبول الحق وفتحه للاهتداء إلى سبيل الخير، قال السدي: وسع صدره للإسلام للفرح به، والطمأنينة إليه. وشرح الصدر للإِسلام عبارة عن تكميل الاستعداد له، فإنه محل للقلب الذي هو منبع الروح التي تتعلق بها النفس القابلة للإسلام، فانشراحه مستدع لانشراح القلب، والكلام في الهمزة والفاء كما تقدم في (أفمن حق) ومن الخ مبتدأ وخبرها محذوف تقديره كمن قسا قلبه، وطبع الله عليه، وحرج صدره فلم يهتد.
ودل على هذا الخبر المحذوف قوله: (فويل للقاسية قلوبهم) والمعنى أفمن وسع الله صدره للإسلام فقبله واهتدى بهديه (فهو) بسبب ذلك الشرح (على نور) أي على بيان وبصيرة ويقين وهداية (من ربه) يفيض عليه كمن قسى قلبه لسوء اختياره؟ فصار في ظلمات الضلالة وبليات الجهالة.
قال قتادة: النور كتاب الله به يؤخذ وإليه ينتهي. قال الزجاج تقدير الآية أفمن شرح الله صدره كمن طبع على قلبه فلم يهتد لقسوته؟ قال ابن عباس(12/102)
من شرح الله صدره للإسلام أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه.
وأخرج ابن مردويه عن ابن مسعود قال: " تلا النبي صلى الله عليه وسلم هذه الآية قلنا: يا نبي الله كيف انشراح صدره؟ قال: إذا دخل النور القلب انشرح وانفسح، قلنا: فما علاقة ذلك يا رسول الله؟ قال الإنابة إلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور والتأهب للموت قبل نزول الموت ".
وأخرج ابن مردويه عن محمد بن كعب القرظي مرفوعاً مرسلاً.
وأخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول عن ابن عمر أن رجلاً قال: " يا نبي الله أي المؤمنين أكيس؟ قال أكثرهم ذكراً للموت وأحسنهم له استعداداً، وإذا دخل النور في القلب انفسح واستوسع، فقالوا ما آية ذلك يا نبي الله؟ قال الإنابة إلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور، والاستعداد للموت قبل نزول الموت "، وأخرجه عن أبي جعفر عبد الله بن المسور عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحوه، وزاد فيه ثم قرأ (أفمن شرح الله صدره للإسلام).
(فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله) قال الفراء والزجاج أي عن ذكر الله كما تقول اتخمت عن طعام أكلته ومن طعام أكلته والمعنى أنه غلظ قلبه وجفا عن قبول ذكر الله والقسوة جمود وصلابة تحصل في القلب، يقال قسى القلب إذا صلب، وقلب قاسٍ أي صلب لا يرق ولا يلين، وقيل المعنى من أجل ذكره الذي من حقه أن تنشرح له الصدور، وتطمئن به القلوب، والمعنى أنه إذا ذكر الله اشمأزوا، والأول أولى، ويؤيده قراءة من قرأ عن ذكر الله، أي إذا ذكر الله عندهم أو آياته ازدادت قلوبهم قساوة، كقوله: (فزادتهم رجساً إلى رجسهم).
وقيل إن النفس إذا كانت خبيثة الجوهر كدرة العنصر بعيدة عن قبول(12/103)
الحق فإن سماعها لذكر الله لا يزيدها إلا قسوة وكدورة كحر الشمس يلين الشمع ويعقد الملح، فكذلك القرآن يلين قلوب المؤمنين عند سماعه، ولا يزيد الكافرين إلا قسوة.
قال مالك بن دينار ما ضرب عبد بعقوبة أعظم من قسوة القلب، وما غضب الله تعالى على قوم إلا نزع منهم الرحمة، وأخرج الترمذي، وابن مردويه وابن شاهين في الترغيب في الذكر، والبيهقي في الشعب، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله فإن كثرة الكلام بغير ذكر الله قسوة للقلب، وإن أبعد الناس من الله القلب القاسي " (1).
والإشارة بقوله (أولئك) إلى القاسية قلوبهم (في ضلال مبين) أي غواية ظاهرة واضحة ثم ذكر سبحانه بعض أوصاف كتابه العزيز فقال:
_________
(1) روى ابن ماجه (4193) لا تكثروا الضحك فإن كثرة الضحك تميت القلب. وروى البوصيري في الزوائد (ق 258/ 1) والترمذي (2/ 50).(12/104)
اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (23)
(الله نزل أحسن الحديث) يعني القرآن الذي فيه مندوحة عن سائر الأحاديث، وسماه حديثاً لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحدث به قومه، ويخبرهم بما ينزل عليه منه، وفيه بيان أن أحسن القول المذكور سابقاً هو القرآن، وفي إيقاع الاسم الشريف مبتدأ؛ وبناء نزل عليه تفخيم لشأن أحسن الحديث والوصف بهذا لوجهين:
أحدهما من جهة اللفظ، لأن القرآن من أفصح الكلام وأجزله وأبلغه، وليس هو من جنس الشعر، ولا من جنس الخطب والرسائل، بل هو نوع يخالف الكل في أسلوبه، والثاني من جهة المعنى لأنه كتاب منزه عن التناقض والاختلاف، مشتمل على أخبار الماضين وقصص الأولين، وعلى أخبار الغيوب الكثيرة، وعلى الوعد والوعيد، والجنة والنار وغير ذلك.(12/104)
(كتاباً) بدل من أحسن الحديث أو حال منه (متشابهاً) صفة لكتاب أي يشبه بعضه بعضاً في الحسن والإحكام، وصحة المعاني وقوة المباني، وبلوغه إلى أعلى درجات البلاغة، والدلالة على المنافع العامة، وقال قتادة يشبه بعضه بعضاً في الآي والحروف، وقيل يشبه كتب الله المنزلة على أنبيائه، عن ابن عباس قال: قالوا يا رسول الله لو حدثتنا فنزل (الله نزل أحسن الحديث) الآية.
(مثاني) صفة أخرى لكتاب وهو جمع مثنى أو مثنى وأنه من التثنية بمعنى التكرير أي تثنى فيه القصص وتتكرر فيه المواعظ والأحكام وقيل يثني في التلاوة فلا يمل سماعه ولا يسأم قارئه قرأ الجمهور مثاني بفتح الياء وقرىء بسكونها تخفيفاً واستثقالاً لتحريكها أو على أنها خبر مبتدأ محذوف أي هو مثاني.
قال ابن عباس القرآن كله مثاني وعنه قال القرآن يشبه بعضه بعضاً ويرد بعضه إلى بعض، وعنه قال كتاب الله مثاني ثني فيه الأمر مراراً وصح وصف الواحد بالجمع لأن الكتاب جملة ذات تفاصيل وتفاصيل الشيء هي جملته لا غير ألا تراك تقول القرآن أسباع وأخماس وسور وآيات فكذلك تقول أحكام وأقاصيص ومواعظ مكررات، ونظيره قولك الإنسان عروق وعظام وأعصاب.
أو منصوب على التمييز من (متشابهاً) كما تقول رأيت رجلاً حسناً شمائل، والمعنى متشابهة مثانية.
قال الرازي في تبيين معنى مثاني إن أكثر الأشياء المذكورة في القرآن متكررة زوجين زوجين، مثل الأمر والنهي والعام والخاص والمجمل والمفصل، وأحوال السموات والأرض والجنة والنار، والنور والظلمة، واللوح والقلم والملائكة والشياطين والعرش والكرسي والوعد والوعيد والرجاء، والخوف، والمقصود في ذلك البيان أن كل شيء ما سوى الحق زوج، وأن الفرد الأحد الحق هو الله ولا يخفى ما في كلامه هذا من التكلف والبعد عن(12/105)
مقصود التنزيه.
(تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم) أي تضطرب وتتحرك وتشمئز صفة الكتاب أو حال منه، لأنه وإن كان نكرة فقد تخصص بالصفة، أو مستأنفة لبيان ما يحصل عند سماعه من التأثر لسامعيه، والاقشعرار التقبض. يقال اقشعر جلده إذا تقبض، وتجمع من الخوف، ووقف شعره ومنه القشعريرة، والمعنى أنها تأخذهم منه قشعريرة.
قال الزجاج: إذا ذكرت آيات العذاب اقشعرت جلود الخائفين لله، وهي تغير يحدث في جلد الإنسان عند ذكر الوعيد، والوجل والخوف. وقيل المراد بالجلود القلوب والأول أولى لذكرها فيما بعد. قال الواحدي: وهذا قول جميع المفسرين.
وقيل: المعنى إن القرآن لما كان في غاية الجزالة والبلاغة، فكانوا إذا رأوا عجزهم عن معارضته اقشعرت الجلود منه إعظاماً له، وتعجباً من حسنه وبلاغته. عن عبد الله بن عبد الله بن الزبير قال: قلت لجدتي أسماء كيف كان يصنع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا قرأوا القرآن؟ قالت: " كانوا كما نعتهم الله تدمع أعينهم، وتقشعر جلودهم، قلت: فإن ناساً ههنا إذا سمعوا ذلك تأخذهم عليه غشية، قالت: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ".
(ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله) عدى تلين بإلى لتضمينه فعلاً يتعدى بها، كأنه قيل: سكنت واطمأنت إلى ذكر الله لينة غير منقبضة، ومفعول ذكر الله محذوف، والتقدير إلى ذكر الله رحمته وثوابه وجنته وحذف للعلم به.
قال بعض العارفين: إذا نظروا إلى عالم الجلال طاشوا، وإذا لاح لهم(12/106)
عالم الجمال عاشوا. قال قتادة: هذا نعت أولياء الله نعتهم بأنهم تقشعر جلودهم وتطمئن قلوبهم إلى ذكر الله، ولم ينعتهم بذهاب عقولهم، والغشيان عليهم إنما ذلك في أهل البدع وهو من الشيطان.
وروي أن ابن عمر مر برجل من أهل العراق ساقط فقال: ما بال هذا. قالوا: إنه إذا قرىء عليه القرآن أو سمع ذكر الله سقط، فقال ابن عمر: إنا لنخشى الله وما نسقط، وعنه قال: إن الشيطان يدخل في جوف أحدهم، ما كان هذا صنيع أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وذكر عند ابن سيرين الذين يصرعون إذا قرىء عليهم القرآن فقال: بيننا وبينهم أن يقعد أحدهم على ظهر بيت باسطاً رجليه، ثم يقرأ عليه القرآن من أوله إلى آخره. فإن رمى بنفسه فهو صادق.
وذكرت الجلود وحدها أولاً ثم قرنت بها القلوب ثانياً لأن محل الخشية القلب فكان ذكرها يتضمن ذكر القلوب، وقيل: إن المكاشفة في مقام الرجاء أكمل منها في مقام الخوف، لأن الخير مطلوب بالذات، والخوف ليس بمطلوب، وإذا حصل الخوف اقشعر منه الجلد، وإذا حصل الرجاء اطمأن إليه القلب، ولان الجلد.
(ذلك) الكتاب الموصوف بتلك الصفات (هدى الله يهدي به من يشاء) أن يهديه من عباده، وقيل الإشارة إلى ما وهبه الله لهؤلاء من خشية عذابه ورجاء ثوابه (ومن يضلل الله) أي يجعل قلبه مظلماً قاسياً غير قابل للحق (فما له من هاد) يهديه إلى الحق، ويخلصه من الضلال، قرأ الجمهور من هاد بغير ياء وقرىء بالياء، ثم لما حكم على القاسية قلوبهم بحكم في الدنيا وهو الضلال، حكم عليهم في الآخرة بحكم آخر وهو العذاب فقال:(12/107)
أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (24) كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (25) فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (26) وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (27) قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (28) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (29) إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30)(12/108)
أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (24)
(أفمن يتقي بوجهه) الاستفهام للإنكار وقد تقدم الكلام فيه، وهذه الفاء الداخلة على من في قوله: أفمن حق عليه عاطفه ومن مبتدأ والخبر محذوف لدلالة المقام عليه، والمعنى أفمن شأنه أن يقي نفسه بوجهه الذي هو أشرف أعضائه (سوء العذاب يوم القيامة) لكون يده قد صارت مغلولة إلى عنقه كمن هو آمن لا يعتريه شيء من ذلك، ولا يحتاج إلى الاتقاء؟ قال الزجاج المعنى أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب كمن يدخل الجنة؟.
قال عطاء وابن زيد يرمي به مكتوفاً في النار، فأول شيء تمس النار منه وجهه. وقال ابن عباس: ينطلق به إلى النار مكتوفاً ثم يرمي به فيها، فأول ما يمس وجهه النار. وقال مجاهد يجر على وجهه في النار. قال الأخفش المعنى أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب أفضل؟ أم من سعد؟ مثل قوله تعالى (أفمن يلقى في النار خير أم من يأتي آمناً يوم القيامة) ثم أخبر سبحانه عما يقوله الخزنة للكفار فقال:
(وقيل للظالمين ذوقوا ما كنتم تكسبون) وهو معطوف على يتقي أي ويقال لهم، وجاء بصيغة الماضي للدلالة على التحقيق، ووضع الظاهر موضع المضمر للتسجيل عليهم بالظلم، والإشعار بعلة الأمر في قوله. ذوقوا قال عطاء أي جزاء ما كنتم تعلمون، ومثل هذه الآية قوله (هذا ما كنزتم(12/108)
لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون) وقد تقدم الكلام على معنى الذوق في غير موضع ثم أخبر سبحانه عن حال من قبلهم من الكفار فقال:(12/109)
كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (25)
(كذب الذين من قبلهم) أي من قبل الكفار المعاصرين لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم، والمعنى أنهم كذبوا رسلهم (فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ) أي من جهة لا يحتسبون إتيان العذاب منها، وذلك عند أمنهم وغفلتهم عن عقوبة الله لهم بتكذيبهم(12/109)
فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (26)
(فأذاقهم الله الخزي) أي الذل والهوان (في الحياة الدنيا) بالمسخ والخسف، والقتل والأسر والجلاء، وغير ذلك.
(ولعذاب الآخرة أكبر) لكونه في غاية الشدة مع دوامه (لو كانوا يعلمون) أي لو كانوا ممن يعلم الأشياء ويتفكر فيها ويعمل بمقتضى علمه لآمنوا وما كذبوا، قال المبرد: يقال لكل ما نال الجارحة من شيء قد ذاقته أي وصل إليها كما تصل الحلاوة والمرارة إلى الذائق لهما، قال: والخزي المكروه.(12/109)
وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (27)
(ولقد) اللام موطئة للقسم (ضربنا للناس في هذا القرآن) أي جعلنا وأوجدنا وبينا (من كل مثل) قد قدمنا تحقيق المثل وكيفية ضربه في غير موضع، ومعنى من كل مثل ما يحتاجون إليه في أمر دينهم، وليس المراد ما هو أعم من ذلك، فهو هنا كما في قوله (ما فرطنا في الكتاب من شيء) أي من شيء يحتاجون إليه في أمر دينهم، وقيل: المعنى ما ذكرنا من إهلاك الأمم السالفة مثل لهؤلاء (لعلهم يتذكرون) يتعظون فيعتبرون.(12/109)
قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (28)
(قرآناً عربياً) حال مؤكدة من هذا، وتسمى هذه حالاً موطئة لأن الحال في الحقيقة هو عربياً وقرآناً توطئة له، نحو جاءني زيد رجلاً صالحاً، كذا قال الأخفش، ويجوز أن ينتصب على المدح، قال الزجاج. عربياً منتصب على الحال، وقرآناً توكيد.
(غير ذي عوج) أي لا اختلاف فيه بوجه من الوجوه، قال الضحاك:(12/109)
أي غير مختلف، قال النحاس: أحسن ما قيل في معناه قول الضحاك، وقيل: غير متضاد، وقيل: غير ذي لبس، وقيل غير ذي لحن، وقيل: غير ذي شك؛ كما قال الشاعر:
وقد أتاك يمين غير ذي عوج ... من الإِله وقول غير مكذوب
وقال ابن عباس: غير مخلوق، وقيل: معناه صحيح مستقيم يفهم ولا يلتبس بخلافه من الباطل (لعلهم يتقون) علة أخرى بعد العلة الأولى وهي لعلهم يتذكرون، أي لكي يتاقوا الكفر والكذب، وقيل: علة لقوله: لعلهم يتذكرون فالأول سبب في الثاني، ثم ذكر سبحانه مثلاً من الأمثال القرآنية للتذكير والإيقاظ فقال:(12/110)
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (29)
(ضرب الله مثلاً) أي تمثيل حالة عجيبة بأخرى مثلها، ثم بين المثل فقال: (رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ) قال الكسائي: نصب رجلاً لأنه تفسير للمثل، وقيل منصوب ينزع الخافض، أي ضرب الله مثلاً برجل، وقيل إن رجلاً هو المفعول الأول، ومثلاً هو المفعول الثاني، وأخر المفعول الأول ليتصل بما هو من تمامه، وقد تقدم تحقيق هذا في سورة يس، وجملة. فيه شركاء في محل نصب صفة لرجل، والتشاكس التخالف، وأصله سوء الخلق وعسره، وهو سبب التخالف والتشاجر، ويقال التشاخس بالخاء المعجمة، قال الفراء؛ أي مختلفون، وقيل: متنازعون، وقال المبرد متعاسرون من شكس يشكس شكساً فهو شكس، مثل عسر يعسر عسراً فهو عسر، وشكس بكسر الكاف هو القياس قال الجوهري التشاكس الاختلاف، قال: ويقال رجل شكس بالتسكين أي صعب الخلق، وهذا مثل من أشرك بالله وعبد آلهة كثيرة، ثم قال:
(وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ) أي خالصاً له. وهذا مثل من يعبد الله وحده، قرأ الجمهور. سلماً بفتح السين واللام، وقرىء بكسر السين وسكون اللام، وقرأ ابن عباس ومجاهد والجحدري وابن كثير ويعقوب سالماً اسم فاعل من سلم له فهو(12/110)
سالم، واختارها أبو عبيد، قال لأن السالم الخالص ضد المشترك والسلم ضد الحرب، ولا موضع للحرب ههنا، وأجيب عنه بأن الحرف إذا كان له معنيان لم يحمل إلا على أولالهما، فالسلم وإن كان ضد الحرب فله معنى آخر بمعنى سالم من سلم له كذا إذا خلص له، وأيضاً يلزمه في سالم ما ألزم به لأنه يقال شيء سالم أي لا عاهة به، واختار أبو حاتم القراءة الأولى، والحاصل أن قراءة الجمهور هي على الوصف بالمصدر للمبالغة أو على حذف مضاف، أي ذا سلم، ومثلها قراءة سعيد بن جبير ومن معه، قال ابن عباس، رجلاً سلماً أي ليس لأحد فيه شيء، ثم جاء سبحانه بما يدل على التفاوت بين الرجلين فقال:
(هل يستويان مثلاً) وهذا الاستفهام للإنكار والاستبعاد، والمعنى هل يستوي هذا الذي يخدم جماعة شركاء؟ أخلاقهم مختلفة، ونياتهم متباينة، يستخدمه كل واحد منهم فيتعب وينصب، مع كون كل واحد منهم غير راض بخدمته، وهذا الذي يخدم واحداً لا ينازعه غيره إذا أطاعه رضي عنه، وإذا عصاه عفا عنه؟ فإن بين هذين من الاختلاف الظاهر الواضح ما لا يقدر عاقل أن يتفوه باستوائهما لأن أحدهما في أعلى المنازل، والآخر في أدناها، وانتصاب مثلاً على التمييز المحول عن الفاعل لأن الأصل هل يستوي مثلهما؟ أي حالهما وصفتهما؟ وأفرد التمييز ولم يثنه لأن الأصل في التمييز الإفراد لكونه مبنياً للجنس، وقال السمين وأفرد التمييز لأنه مقتصر عليه أولاً في قوله ضرب الله مثلاً، وقرىء مثلين فطابق حالي الرجلين.
وجملة (الحمد لله) مقررة لما قبلها من نفي الاستواء بطريق الاعتراض وللإيذان للموحدين بما في توحيدهم لله من النعمة العظيمة المستحقة لتخصيص الحمد به، أي الحمد لله على عدم استواء هذين الرجلين، وقيل: الجملة اعتراضية فإن قوله (بل أكثرهم لا يعلمون) إضراب انتقالي من بيان عدم الاستواء على الوجه المذكور إلى بيان أن أكثر الناس، وهم المشركون، فإنهم لا يعلمون ذلك مع كمال ظهوره ووضوحه،(12/111)
فيقعون في ورطة الشرك والضلال.
قال الواحدي والبغوي والمراد بالأكثر الكل، والظاهر خلاف ما قالاه، فإن المؤمنين بالله يعلمون ما في التوحيد من رفعة شأنه، وعلو مكانه، وأن الشرك لا يماثله بوجه من الوجوه، ولا يساويه في وصف من الأوصاف، ويعلمون أن الله سبحانه يستحق الحمد على هذه النعمة، وأن الحمد مختص به.
ثم أخبر سبحانه رسوله صلى الله عليه وآله وسلم بأن الموت يدركه ويدركهم لا محالة، فقال:(12/112)
إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30)
(إنك ميت وإنهم ميتون) وذلك إنهم كانوا يتربصون برسول الله صلى الله عليه وسلم الموت، فأخبر أن الموت يعمهم جميعاً، فلا معنى للتربص، وشماتة الفاني بالفاني وهذا تمهيد لما يعقبه من الخصام يوم القيامة، قرأ الجمهور ميت وميتون بالتشديد، وقرىء مائت ومائتون، وبها قرأ عبد الله بن الزبير، وقد استحسن هذه القراءة بعض المفسرين لكون موته وموتهم مستقبلاً، ولا وجه للاستحسان فإن قراءة الجمهور تفيد هذا المعنى، قال الفراء والكسائي: الميت بالتشديد من لم يمت وسيموت، والميت بالتخفيف من قد مات وفارقته الروح قال الخليل: أنشد أبو عمرو:
وتسألني تفسير ميت وميت ... فدونك قد فسرت إن كنت تعقل
فمن كان ذا روح فذلك ميت ... وما الميت إلا من إلى القبر يحمل
وقال السمين: ولا خلاف بين القراء في تثقيل مثل هذا؟ قال قتادة: نعيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، نفسه ونعيت إليهم أنفسهم، ووجه هذا الإخبار الإِعلام للصحابة بأنه يموت، فقد كان بعضهم يعتقد أنه لا يموت مع كونه توطئة وتمهيداً لما بعده أخرج النسائي وغيره عن ابن عمر قال: لقد لبثنا برهة من دهرنا ونحن نرى أن هذه الآية نزلت فينا وفي أهل الكتابين من قبلنا، حتى رأيت بعضنا يضرب وجوه بعض بالسيف، فعرفت أنها نزلت فينا.(12/112)
ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (31) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (32) وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (34) لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (35)(12/113)
ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (31)
(ثم إنكم) أيها الناس جميعاً مؤمنكم وكافركم (يوم القيامة عند ربكم تختصمون) فيما بينكم من المظالم، قيل: يعني المحق والمبطل، وقيل: تخاصمهم يا محمد وتحتج عليهم بأنك قد بلغتهم وأنذرتهم، وهم يخاصمونك، أو يخاصم المؤمن الكافر، والظالم المظلوم، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: " من كان عنده مظلمة لأخيه من عرض أو مال فليتحلله اليوم قبل أن لا يكون دينار ولا درهم، إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحملت عليه ". رواه البخاري.
وعنه قال: " إن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: أتدرون من المفلس؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم ولا متاع له فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن المفلس من يأتي يوم القيامة بصلاة وزكاة وصيام ويأتي قد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطي هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه، ثم طرح في النار " (1)، أخرجه
_________
(1) مسلم 8/ 18 والترمذي 3/ 291 وأحمد 2/ 303 والبخاري 8/ 35 (معلق).(12/113)
مسلم.
وعن ابن عمر قال: نزلت علينا هذه الآية وما ندري ما تفسيرها حتى وقعت الفتنة، فقلنا هذا الذي وعدنا ربنا أن نختصم فيه، أخرجه ابن جرير وأخرج النسائي وغيره عنه فال: لقد لبثنا برهة من دهرنا ونحن نرى أن هذه الآية نزلت فينا، وفي أهل الكتابين من قبلنا، حتى رأيت بعضنا يضرب وجوه بعض بالسيف، فعرفت أنها نزلت فينا.
وعن الزبير بن العوام قال: لما نزلت: إنك ميت إلى قوله: تختصمون قلت: " يا رسول الله أيكرر علينا ما يكون بيننا في الدنيا مع خواص الذنوب؟ قال: نعم ليكررن عليكم ذلك حتى يؤدى إلى كل ذي حق حقه، قال الزبير: فوالله إن الأمر لشديد "، أخرجه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح.
وعن أبي سعيد الخدري قال: لما نزلت هذه الآية كنا نقول: ربنا واحد، وديننا واحد، ونبينا واحد، فما هذه الخصومة؟ فلما كان يوم صفين وشد بعضنا على بعض بالسيوف قلنا: نعم هو هذا وعن إبراهيم لما نزلت هذه الآية قالوا: كيف نختصم ونحن إخوان؟ فلما قتل عثمان قالوا هذه خصومتنا ثم بين سبحانه حال كل فريق من المختصمين فقال:(12/114)
فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (32)
(فمن) أي لا أحد (أظلم ممن كذب على الله) فزعم أن له ولداً أو شريكاً أو صاحبة (وكذب بالصدق إذ جاءه) وهو ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من دعاء الناس إلى التوحيد، وأمرهم بالقيام بفرائض الشرع، ونهيهم عن محرماته، وإخبارهم بالبعث والنشور، وما أعد الله للمطيع والعاصي، وقوله: (إذ جاءه) ظرف لكذب بالصدق أي كذب بالقرآن في وقت مجيئه. أي فاجأه بالتكذيب لما سمعه من غير وقفة، ولا إعمال روية بتمييز بين حق وباطل كما يفعل أهل النُّصْفَة فيما يسمعون، ثم استفهم سبحانه استفهاماً تقريرياً فقال:(12/114)
(أليس في جهنم مثوى للكافرين) أي أليس لهؤلاء المفترين المكذبين بالصدق؟ والمثوى المقام وهو مشتق من ثوى بالمكان إذا أقام به، يثوى ثواء وثوياً، مثل مضى مضاء ومضياً، وحكى أبو عبيدة أنه يقال: أثوى، وأنكر ذلك الأصمعي وقال: لا نعرف أثوى ثم ذكر سبحانه فريق المؤمنين المصدقين فقال:(12/115)
وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33)
(والذي جاء بالصدق وصدق به) الموصول في موضع رفع بالابتداء وهو عبارة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن تابعه. وقيل الذي جاء بالصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذي صدق به أبو بكر، قاله علي بن أبي طالب، وعن أبي هريرة مثله، وقال مجاهد الذي جاء بالصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذي صدق به علي بن أبي طالب.
وقال السدي الذي جاء بالصدق جبريل، والذي صدق به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال قتادة ومقاتل وابن زيد الذي جاء بالصدق النبي صلى الله عليه وسلم والذي صدق به المؤمنون. وقال النخعي الذي جاء بالصدق وصدق به هم المؤمنون الذين يجيئون بالقرآن يوم القيامة.
وقيل إن ذلك عام في كل من دعا إلى توحيد الله وأرشد إلى ما شرعه لعباده، واختار هذا ابن جرير وهو الذي اختاره من هذه الأقوال، ويؤيده قراءة ابن مسعود، والذين جاؤوا بالصدق وصدقوا به، وقرىء صدق به بالتخفيف، أي صدق به الناس، قال ابن عباس الذي جاء بالصدق يعني بلا إله إلا الله وصدق به يعني برسول الله صلى الله عليه وسلم، وقيل الذي جاء بالصدق هو جبريل جاء بالقرآن وصدق به محمد صلى الله عليه وآله وسلم. وقيل الذي جاء بالصدق الأنبياء وصدق به الأتباع والكل صحيح.
قالوا والوجه في العربية أن يكون جاء وصدق لفاعل واحد، لأن التغاير يستدعي إضمار الذي وذا غير جائز وإضمار الفاعل من غير تقدم الذكر وذا بعيد. ولفظ الذي كما وقع في قراءة الجمهور وإن كان مفرداً فمعناه الجمع(12/115)
لأنه يراد به الجنس كما يفيده قوله (أولئك هم المتقون) أي المتصفون بالتقوى التي هي عنوان النجاة، قال ابن عباس: يعني اتقوا الشرك: ثم ذكر سبحانه ما لهؤلاء الصادقين المصدقين في الآخرة فقال:(12/116)
لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (34)
(لهم ما يشاؤون عند ربهم) أي لهم كل ما يشاؤونه من رفع الدرجات، ودفع المضرات، وتكفير السيئات، وجلب المنافع، وفي هذا ترغيب عظيم وتشويق بالغ (ذلك) أي ما تقدم ذكره من جزائهم، وهو مبتدأ وخبره (جزاء المحسنين) أي الذين أحسنوا في أعمالهم، وقد ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، " إن الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه، فإنه يراك " (1)، ثم بين سبحانه ما هو الغاية مما لهم عند ربهم فقال:
_________
(1) سبق ذكره.(12/116)
لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (35)
(ليكفر الله عنهم أسوأ الذي عملوا) فإن ذلك هو أعظم ما يرجونه من دفع الضرر عنهم، لأن الله سبحانه إذا غفر لهم ما هو الأسوأ من أعمالهم غفر لهم ما دونه بطريقة الأولى، واللام متعلقة بيشاؤون أو بالمحسنين أو بمحذوف قرأ الجمهور أسوأ على أنه أفعل تفضيل وقيل: ليست للتفضيل بل بمعنى سيىء الذي عملوا أو بهذا الاعتبار عم الأسوأ جميع معاصيهم وقرىء أسواء بألف بين الهمزة والواو بزنة أحمال جمع سوء.
ولما ذكر الله سبحانه ما يدل على دفع المضار عنهم، ذكر ما يدل على جلب أعظم المنافع إليهم فقال:
(ويجزيهم أجرهم بأحسن الذي كانوا يعملون) إضافة الأحسن إلى ما بعده ليست من إضافة المفضل إلى المفضل عليه بل من إضافة الشيء إلى بعضه قصداً إلى التوضيح من غير اعتبار تفضيل، قال مقاتل: يجزيهم بالمحاسن من أعمالهم ولا يجزيهم بالمساوىء، وعم الأحسن جميع حسناتهم، ولولا هذا التأويل لاقتضى النظم أنه يكفر عنهم أقبح السيئات فقط ويجزيهم على أفضل الحسنات فقط.(12/116)
أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (36) وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ (37)(12/117)
أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (36)
(أليس الله بكاف عبده) قرأ الجمهور بالإفراد، وقرىء بالجمع فعلى الأولى المراد النبي صلى الله عليه وسلم، أو الجنس ويدخل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، دخولاً أولياً وعلى الثانية المراد الأنبياء، أو المؤمنون أو الجميع، واختار أبو عبيدة الأولى لقوله عقبه: (ويخوفونك) والاستفهام للإنكار لعدم كفايته سبحانه على أبلغ وجه، كأنها بمكان من الظهور لا يتيسر لأحد أن ينكره، وقيل المراد بالعبد والعباد ما يعم المسلم والكافر قال الجرجاني: إن الله كاف عبده المؤمن وعبده الكافر، هذا بالثواب وهذا بالعقاب. وقرىء بكافي عباده بالإضافة ويكافي بصيغة المضارع.
وقوله (ويخوفونك) يجوز أن يكون في محل نصب على الحال إذ المعنى أليس كافيك حال تخويفهم إياك (بالذين من دونه) هي المعبودات التي يعبدونها، قالوا: لتكفن عن شتم آلهتنا أو ليصيبنك منهم خبل أو جنون كأن المعنى أنه كافيك في كل حال حتى في هذه الحال، ويجوز أن تكون مستأنفة (ومن يضلل الله) أي من حق عليه القضاء بضلاله حتى غفل عن كفاية الله لعبده محمد، وخوفه بما لا ينفع ولا يضر (فما له من هاد) يهديه إلى الرشد ويخلصه من الضلالة.(12/117)
وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ (37)
(ومن يهد الله فما له من مضل) يخرجه من الهداية ويوقعه في الضلالة (أليس الله بعزيز) أي غالب لكل شيء قاهر له (ذي انتقام) ينتقم من عصاته بما يصبه عليهم من عذابه، وما ينزله بهم من سوط عقابه، وإظهار الاسم الجليل في موضع الإضمار لتحقيق مضمون الكلام وتربية المهابة.(12/117)
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (38) قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (39) مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ (40)(12/118)
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (38)
(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ) ذكر سبحانه اعترافهم إذا سئلوا عن الخالق بأنه الله سبحانه لوضوح البرهان على تفرده بالخالقية، مع عبادتهم للأصنام والأوثان، واتخاذهم الآلهة من دون الله وفي هذا أعظم دليل على أنهم كانوا في غفلة شديدة، وجهالة عظيمة لأنهم إذا علموا أن الخالق لهم ولما يعبدون من دون الله هو الله سبحانه، فكيف استحسنت عقولهم عبادة غير خالق الكل، وتشريك مخلوق مع خالقه في العبادة وقد كانوا يذكرون بحسن العقول وكمال الإدراك والفطنة التامة، ولكنهم لما قلدوا أسلافهم وأحسنوا الظن بهم هجروا ما يقتضيه العقل، وعملوا بما هو محض الجهل، ثم أمر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم، أن يبكتهم بعد هذا الاعتراف ويوبخهم فقال:
(قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ) أي أخبروني عن آلهتكم هذه هل تقدر على كشف ما أراده الله بي من الضر؟ والضر هو الشدة والبلاء (أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ) عنّي بحيث لا تصل إليّ والرحمة النعمة والرخاء قرأ الجمهور: كاشفات وممسكات في الموضعين بالإضافة، وقرأهما أبو عمرو بالتنوين،(12/118)
واختار أبو عبيدة وأبو حاتم قراءة أبي عمرو لأن كاشفات اسم فاعل في معنى الاستقبال، وما كان كذلك فتنوينه أجود وبها قرأ الحسن وعاصم، قال مقاتل: لما نزلت هذه الآية سألهم النبي صلى الله عليه وسلم، فسكتوا وقال غيره قالوا لا تدفع شيئاًً من قدر الله، ولكنها تشفع فنزل:
(قل حسبي الله) في جميع أموري في جلب النفع ودفع الضر (عليه يتوكل المتوكلون) أي عليه لا على غيره يعتمد المعتمدون، ثم أمره الله سبحانه أن يهددهم ويتوعدهم فقال(12/119)
قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (39)
(قل يا قوم اعملوا على مكانتكم) أي على حالتكم التي أنتم عليها وتمكنتم منها، والمكانة بمعنى المكان فاستعيرت عن العين للمعنى كما يستعار هنا، وحيث للزمان وهما للمكان (إني عامل) على حالتي التي أنا عليها، وتمكنت منها، وحذف ذلك للعلم به مما قبله.
(فسوف تعلمون(12/119)
مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ (40)
من يأتيه عذاب يخزيه) أي يهينه ويذله في الدنيا، فيظهر عند ذلك أنه المبطل وخصمه المحق، والمراد بهذا العذاب عذاب الدنيا وما حل بهم من القتل والأسر والقهر والذلة، ثم ذكر عذاب الآخرة فقال:
(ويحل عليه عذاب مقيم) أي دائم مستمر في الدار الآخرة، وهو عذاب النار، وهو مجاز في الطرف أو في الإسناد، وأصله مقيم فيه صاحبه، ثم لما كان يعظم على رسول الله صلى الله عليه وسلم إصرارهم على الكفر أخبره بأنه لم يكلف إلا بالبيان، لا بأن يهدي من ضل فقال:(12/119)
إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (41) اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (42) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ (43)(12/120)
إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (41)
(إنا أنزلنا عليك الكتاب للناس) أي لأجلهم، ولبيان ما كلفوا به فإنه مناط مصالحهم في معاشهم ومعادهم، فهو للناس كافة، لأن رسالتك كذلك (بالحق) حال من الفاعل أو المفعول، أي محقين أو متلبساً بالحق (فمن اهتدى) طريق الحق وسلكها (فلنفسه ومن ضل) عنها (فإنما يضل عليها) أي على نفسه فضرر ذلك عليه لا يتعدى إلى غيره.
(وما أنت عليهم بوكيل) أي مكلف بهدايتهم مخاطب بها، بل ليس عليك إلا البلاغ وقد فعلت، وهذه الآيات منسوخة بآية السيف فقد أمر الله سبحانه رسوله بعد هذه أن يقاتلهم حتى يقولوا لا إله إلا الله ويعملوا بأحكام الإسلام، ثم ذكر سبحانه نوعاً من أنواع قدرته البالغة وصنعته العجيبة فقال:(12/120)
اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (42)
(الله يتوفى الأنفس حين موتها) أي يقبض الأرواح عند حضور آجالها ويخرجها من الأبدان (و) يتوفى الأنفس (التي لم تمت في منامها) أي لم يحضر أجلها في منامها، وقد اختلف في هذا فقيل: يقبضها عن التصرف مع بقاء الروح في الجسد، وقال الفراء: المعنى ويقبض التي لم تمت، عند انقضاء أجلها قال وقد يكون توفيها نومها فيكون التقدير على هذا، والتي لم تمت وفاتها نومها، قال الزجاج لكل إنسان نفسان إحداهما نفس التمييز وهي التي تفارقه إذا نام فلا يعقل، والأخرى نفس الحياة إذا زالت زال معها(12/120)
النفس، والنائم يتنفس قال القشيري في هذا بعد إذ المفهوم من الآية أن النفس المقبوضة في الحالين شيء واحد ولهذا قال: (فيمسك التي قضى عليها الموت) فلا يردها إلى البدن.
قرأ الجمهور قضى مبنياً للفاعل أي قضى الله عليها الموت، وقرىء على البناء للمفعول، واختار أبو عبيدة وأبو حاتم الأولى لموافقتها لقوله (الله يتوفى الأنفس).
(ويرسل الأخرى) أي النائمة إلى بدنها عند اليقظة (إلى أجل مسمى) وهو الوقت المضروب لموته، وهو غاية جنس الإرسال، وقد قال بمثل قول الزجاج ابن الأنباري، وقال سعيد بن جبير: إن الله يقبض أرواح الأموات إذا ماتوا وأرواح الأحياء إذا ناموا، فتتعارف ما شاء الله أن تتعارف، فيمسك التي قضي عليها الموت، ويرسل الأخرى فيعيدها، والأولى أن يقال: أن توفى الأنفس حال النوم بإزالة الإحساس، وحصول الآفة به في محل الحس، فيمسك التي قضى عليها الموت، ولا يردها إلى الجسد الذي كانت فيه، ويرسل الأخرى بأن يعيد عليها إحساسها.
قيل: ومعنى يتوفى الأنفس عند موتها هو على حذف مضاف، أي عند موت أجسادها، وعن ابن عباس قال: نفس وروح بينهما مثل شعاع الشمس، فيتوفى الله النفس في منامه، ويدع الروح في جوفه يتقلب ويعيش، فإن بدا له أن يقبضه قبض الروح فمات، وإن أخر أجله رد النفس إلى مكانها من جوفه، أخرجه ابن المنذر وابن أبي حاتم.
وعنه قال: تلتقي أرواح الأحياء وأرواح الأموات في المنام، فيتساءلون بينهم ما شاء الله، ثم يمسك الله أرواح الأموات ويرسل أرواح الأحياء إلى أجسادها إلى أجل مسمى، لا يغلط بشيء منها أخرجه عبد بن حميد وغيره، وعنه أيضاً في الآية قال: كل نفس لها سبب تجري فيه، فإذا قضى عليه الموت نامت حتى ينقطع السبب، والتي لم تمت في منامها تترك.(12/121)
وأخرج البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " إذا أوى أحدكم إلى فراشه فلينفضه بداخلة إزاره فإنه لا يدري ما خلفه عليه، ثم ليقل: باسمك ربي وضعت جنبي وباسمك أرفعه، إن أمسكت نفسي فارحمها وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين " (1).
وقد اختلف العقلاء في النفس والروح هل هما شيء واحد؟ أو شيئان والكلام في ذلك يطول جداً، وهو معروف في الكتب الموضوعة لهذا الشأن (2) والأظهر أنهما شيء واحد، وهو الذي تدل عليه الآثار الصحاح.
(إن في ذلك) أي فيما تقدم من التوفي والإمساك والارسال للنفوس (لآيات) عجيبة بديعة دالة على القدرة الباهرة، ولكن ليس كون ذلك آيات يفهمه كل أحد بل (لقوم يتفكرون) في ذلك ويتدبرونه ويستدلون به على توحيد الله، وكمال قدرته، فإن في هذا التوفي والإمساك والإرسال موعظة للمتعظين وتذكرة للمتذكرين.
_________
(1) صحيح الجامع/400.
(2) أهم هذه الكتب وأجمعها كتاب الروح لابن القيم طبعة مطبعة الإمام بتحقيق وتعليق المطيعي.(12/122)
أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ (43)
(أم) هي المنقطعة المقدرة ببل والهمزة أي بل أ (اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ) آلهة (شفعاء) تشفع لهم عند الله؟ (قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا) الهمزة للإنكار والتوبيخ، والواو للعطف على محذوف مقدر، أي أيشفعون؟ ولو كانوا الخ جواب لو محذوف، أي وإن كانوا بهذه الصفة تتخذونهم والمعنى أنهم غير مالكين لشيء من الأشياء، وتدخل الشفاعة في ذلك دخولاً أولياً (ولا يعقلون) شيئاًً من الأشياء لأنها جمادات لا عقل لها، وجمعهم بالواو والنون لاعتقاد الكفار فيهم أنهم يعقلون، ثم أمره سبحانه بأن يخبرهم أن الشفاعة لله وحده فقال:(12/122)
قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (44) وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (45) قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (46) وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (47) وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (48)(12/123)
قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (44)
(قل لله الشفاعة جميعاً) فليس لأحد منها شيء إلا أن تكون بإذنه لمن ارتضى، كما في قوله (من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه)، وقوله (ولا يشفعون إلا لمن ارتضى) وانتصاب (جميعاً) على الحال، وإنما أكد الشفاعة بما يؤكد به الاثنان فصاعداً لأنها مصدر يطلق على الواحد والاثنين والجماعة، ثم وصف نفسه بسعة الملك فقال (له ملك السموات والأرض) أي يملكهما ويملك ما فيهما، ويتصرف في ذلك كيف يشاء، ويفعل ما يريد، فهو مالك الملك كله، لا يملك أحد أن يتكلم دون إذنه ورضاه (ثم إليه) لا إلى غيره (ترجعون) بعد البعث.(12/123)
وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (45)
(وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) انتصاب وحده على الحال عند يونس، وعلى المصدر عند الخليل وسيبويه، والاشمئزاز في اللغة النفور، قال أبو عبيدة: اشمأزت نفرت، وقال المبرد: انقبضت، وبالأول قال قتادة، وبالثاني قال مجاهد، والمعنى متقارب، وقال(12/123)
المؤرج: أنكرت، وقال أبو زيد: اشمأز الرجل ذعر من الفزع. والمناسب للمقام تفسير اشمأزت بانقبضت، وهو في الأصل الازورار، وكان المشركون إذا قيل لهم: لا إله إلا الله انقبضوا، كما حكاه الله عنهم في قوله:
(وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده ولوا على أدبارهم نفوراً) قال ابن عباس في الآية: اشمأزت قست ونفرت قلوب هؤلاء الأربعة الذين لا يؤمنون بالآخرة أبو جهل ابن هشام، والوليد بن عقبة، وصفوان، وأبي بن خلف.
(وإذا ذكر الذين من دونه) اللات والعزى وغيرهما من الأصنام (إذا هم يستبشرون) أي يفرحون بذلك، ويبتهجون به، والعامل في (إذا) في قوله (وإذا ذكر الله) الفعل الذي بعدها وهو اشمأزت، والعامل في إذا في قوله (وإذا ذكر الذين) الخ الفعل العامل في إذا الفجائية، والتقدير فاجأوا الاستبشار وقت ذكر الذين من دونه، وذلك لفرط افتتانهم بها، ونسيانهم حق الله.
ولقد بالغ في الأمرين حتى بلغ الغاية فيهما، فإن الاستبشار أن يمتلىء قلبه سروراً حتى تنبسط له بشرة وجهه، والاشمئزاز أن يمتلىء غضباً وغماً حتى ينقبض أديم وجهه، ولما لم يقبل المتمردون من الكفار ما جاءهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الدعاء إلى الخير، وصمموا على كفرهم أمره الله سبحانه، أن يرد الأمر إلى الله سبحانه، ويلتجىء إليه تعالى بالدعاء لما تحير في أمرهم، وعجز في عنادهم وشدة شكيمتهم، فإنه القادر على الأشياء، العالم بالأحوال كلها فقال:(12/124)
قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (46)
(قل اللهم) أصله يا الله عوض عنها الميم لقربها من حروف العلة، وشددت لتكون على حرفين كالمعوض عنه، ولذا لم يجمع بينهما،(12/124)
فلا يقال: يا اللهم في فصيح الكلام، وما سمع من قوله:
إني إذا ما حدثٌ ألمَّا ... أقول: يا اللهم يا اللهما
فضرورة قاله الرخى (فاطر السموات والأرض) أي مبدعهما (عالم الغيب والشهادة) أي ما غاب وشوهد، وهما منصوبان على النداء:
(أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون) من الهدى والضلالة، والمعنى تجازي المحسن بإحسانه، وتعاقب المسيء بإساءته، فإنه بذلك يظهر من هو المحق، ومن هو المبطل، ويرتفع عنده خلاف المختلفين، وتخاصم المتخاصمين.
وقيل: هذه محاكمة من النبي للمشركين إلى الله تعالى.
وعن ابن المسيب لا أعرف آية قرئت فدعي عندها إلا أجيب سواها، وعن الربيع ابن خيثم -وكان قليل الكلام- أنه أخبر بقتل الحسين رضي الله عنه، وقالوا الآن يتكلم فما زاد أن قال آه أو قد فعلوا، وقرأ هذه الآية، وروي أنه قال على إثره. قتل من كان صلى الله عليه وآله وسلم يجلسه في حجره ويضع فاه على فيه.
وأخرج مسلم وأبو داود والبيهقي في الأسماء والصفات عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل افتتح صلاته:
" اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم " (1). ثم لما حكى عن الكفار ما حكاه من الاشمئزاز عند ذكر
_________
(1) الجزء الأول منه أخرجه النسائي 2/ 320 والحاكم 3/ 622.(12/125)
الله، والاستبشار عند ذكر الأصنام ذكر ما يدل على شدة عذابهم وعظم عقوبتهم فقال:(12/126)
وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (47)
(ولو أن للذين ظلموا ما في الأرض جميعاً) أي جميع ما في الدنيا من الأموال والذخائر (ومثله معه) أي منضماً إليه (لافتدوا به) أي بالمذكور من الأمرين أي لجعلوه فدية لأنفسهم (من سوء العذاب يوم القيامة) أي من سوء عذاب ذلك اليوم، وقد مضى تفسير هذا في آل عمران.
(وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون) أي ظهر لهم من فنون عقوبات الله وسخطه، وشدة عذابه، ما لم يكن في حسابهم ولا يحدثون به في نفوسهم وفي هذا وعيد لهم عظيم، وتهديد بالغ غاية لا غاية وراءها وقال مجاهد عملوا أعمالاً توهموا أنها حسنات فإذا هي سيئات وكذا قال السدي.
وقال سفيان الثوري: ويل لأهل الرياء، ويل لأهل الرياء، ويل لأهل الرياء، وهذه آيتهم وقصتهم. وقال عكرمة بن عمار، جزع محمد بن المنكدر عند موته جزعاً شديداً فقيل له ما هذا الجزع؟ قال: أخاف آية من كتاب الله، (وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون) فأنا أخشى أن يبدو لي ما لم أكن أحتسب.(12/126)
وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (48)
(وبدا لهم سيئات ما كسبوا) أي مساوىء أعمالهم من الشرك، وظلم أولياء الله، و (ما) تحتمل أن تكون مصدرية أي سيئات كسبهم، وأن تكون موصولة أي سيئات الذي كسبوه، حين تعرض صحائف أعمالهم، وكانت خافية عليهم، أو عقاب ذلك (وحاق بهم) أي أحاط بهم ونزل بهم (مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ) من الإنذار الذي كان ينذرهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم.(12/126)
فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (49) قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (50) فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلَاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (51) أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52) قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53)(12/127)
فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (49)
(فإذا مس الإنسان) المراد هنا بالإنسان الجنس باعتبار بعض أفراده أو غالبها، وقيل: المراد به الكفار فقط، والأول أولى، ولا يمنع من حمله على الجنس خصوص سببه، لأن الاعتبار بعموم اللفظ وفاء بحق النظم القرآني، ووفاء بمدلوله، والمعنى أن شأن غالب نوع الإنسان أنه إذا مسه (ضر) من مرض أو فقر أو غيرهما (دعانا) وتضرع إلينا في رفعه ودفعه.
(ثم إذا خولناه نعمة منا) أي أعطيناه نعمة كائنة من عندنا (قال إنما أوتيته على علم) مني بوجوه المكاسب، أو على خير عندي، أو على علم من الله بفضلي، وقيل إن كان ذلك سعادة في المال أو عافية في النفس يقول: إنما حصل ذلك بجدي واجتهادي، وإن كان صحة قال: إنما حصل ذلك بسبب العلاج الفلاني، وإن حصل مالاً، يقول: حصل بكسبي، وهذا تناقض أيضاًً لأنه لما كان عاجزاً محتاجاً أضاف الكل إلى الله تعالى، وفي حال السلامة والصحة قطعه عن الله تعالى وأسنده إلى كسب نفسه. وهذا تناقض قبيح.
وقال الحسن: على علم علمني الله إياه. وقيل: قد علمت أني إذا أوتيت هذا في الدنيا أن لي عند الله منزلة، وجاء في أوتيته بالضمير مذكراً مع كونه(12/127)
راجعاً إلى النعمة لأنها بمعنى الإنعام، وقيل: إن الضمير عائد إلى (ما) وهي موصولة والأول أولى.
(بل هي فتنة) هذا رد لما قاله، أي ليس ذلك الذي أعطيناك لما ذكرت بل هو محنة لك واختبار لحالك، أتشكر أم تكفر؟ قال الفراء: أنث الضمير في قوله: (هي) لتأنيث الفتنة، ولو قال: بل هو فتنة لجاز، وقيل: تأنيث الضمير باعتبار لفظ الفتنة، وتذكير الأول في قوله: أوتيته باعتبار معناها وقال النحاس: بل عطية فتنة (ولكن أكثرهم لا يعلمون) أن ذلك استدراج لهم من الله، وامتحان لما عندهم من الشكر أو الكفر.(12/128)
قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (50)
(قد قالها الذين من قبلهم) أي قال هذه الكلمة التي قالوها، وهي قوله (إنما أوتيته على علم) الذين من قبلهم كقارون وقومه، فإن قارون قال (إنما أوتيته على علم عندي) وإنما نسب إليهم قوله باعتبار رضاهم به (فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون) ما نافية أي لم يغن عنهم ما كسبوا من متاع الدنيا شيئاًً أو استفهامية أي أيُّ شيء أغنى عنهم ذلك.(12/128)
فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلَاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (51)
(فأصابهم سيئات ما كسبوا) أي جزاء سيئات كسبهم أو أصابهم سيئات هي جزاء كسبهم، وسمي الجزاء سيئات لوقوعه في مقابلة سيئاتهم، فيكون ذلك من باب الازدواج والمشاكلة. كقوله (وجزاء سيئة سيئة مثلها) وفيه رمز إلى أن جميع أعمالهم كذلك، ثم أوعد سبحانه الكفار في عصره فقال:
(والذين ظلموا من هؤلاء) الموجودين من الكفار (سيصيبهم سيئات ما كسبوا) كما أصاب من قبلهم، وقد أصابهم في الدنيا ما أصابهم من القحط والقتل والأسر والقهر، والسين للتأكيد (وما هم بمعجزين) أي بفائتين على الله بل مرجعهم إليه يصنع بهم ما شاء من العقوبة.(12/128)
أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52)
(أَوَلَمْ يَعْلَمُوا) الضمير للقائلين (إنما أوتيته على علم) فالمعنى أقالوها ولم يعلموا؟ أو أغفلوا ولم يعلموا؟ (إن الله يبسط) أي يوسع(12/128)
(الرزق لمن يشاء) أن يوسعه له، وإن كان لا حيلة له ولا قوة امتحاناً (ويقدر) أي يقبضه على من يشاء أن يقبضه، ويضيقه عليه، وإن كان قوياً شديد الحيلة ابتلاه، وقيل: يجعله على قدر قوت، قال مقاتل: وعظهم الله ليعتبروا في توحيده، وذلك حين مطروا بعد سبع سنين، فقال: أولم يعلموا أن الله يوسع الرزق لمن يشاء؟ ويقتر على من يشاء؟ فلا قابض ولا باسط إلا الله تعالى، ويدل على ذلك أنا نرى الناس مختلفين في سعة الرزق وضيقه، فلا بد لذلك من حكمة وسبب، وذلك السبب ليس هو عقل الرجل وجهله، فإنا نرى العاقل القادر في أشد الضيق، والجاهل الضعيف في أعظم السعة.
(إن في ذلك) المذكور من التوسيع والتضييق (لآيات) أي لدلالات عظيمة وعلامات جليلة (لقوم يؤمنون) بالله، وإنما خص المؤمنين لأنهم المنتفعون بالآيات، المتفكرون فيها، ثم لما ذكر سبحانه ما ذكره من الوعيد عقبة بذكر سعة رحمته، وعظيم معرفته، وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يبشرهم بذلك فقال:(12/129)
قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53)
(قل يا عبادي) قرىء بإثبات الياء وصلاً ووقفاً. وبغير الياء. وهما سبعيتان (الذين أسرفوا) أي أفرطوا (على أنفسهم) في الكفر أو المعاصي واستكثروا منها (لا تقنطوا) بفتح النون وبكسرها أي لا تيأسوا (من رحمة الله) أي من مغفرته، وفي هذه الآية من أنواع المعاني والبيان أشياء حسنة: منها إقباله تعالى عليهم، ونداؤهم ومنها إضافتهم إليه إضافة تشريف ومنها الالتفات من التكلم إلى الغيبة في قوله: (من رحمة الله) ومنها إضافة الرحمة لأجل أسمائه الحسنى، ومنها إعادة الظاهر بلفظه في قوله الآتي: (إن الله)، قاله السمين.
وقال عبد الله وغيره: هذه الآية أرجى آية في كتاب الله سبحانه لاشتمالها على أعظم بشارة فإنه أولاً أضاف العباد إلى نفسه لقصد تشريفهم ومزيد تبشيرهم، ثم وصفهم بالإسراف في المعاصي والاستكثار من(12/129)
الذنوب، ثم عقب ذلك بالنهي عن القنوط من الرحمة لهؤلاء المستكثرين من الذنوب، فالنهي عن القنوط للمذنبين غير المسرفين من باب الأولى، وبفحوى الخطاب قيل: وهذه عامة في كل كافر يتوب، ومؤمن عاص يتوب، فتمحو توبته ذنبه، والمراد منها التنبيه على أنه لا ينبغي للعاصي أن يظن أنه لا مخلص له من العذاب، فإن من أعتقد ذلك فهو قانط من رحمة الله تعالى إذ لا أحد من العصاة إلا وإنه متى تاب زال عقابه، وصار من أهل المغفرة والرحمة والحق أن الآية غير مقيدة بالتوبة بل هي على إطلاقها.
ولما نهاهم عن القنوط أخبرهم بما يدفع ذلك ويرفعه، ويجعل الرجاء مكان القنوط، وجاء بما لا يبقى بعده شك، ولا يتخالج القلب عند سماعه ظن، فقال:
(إن الله يغفر الذنوب) فالألف واللام قد صيرت الجمع الذي دخلت عليه للجنس، الذي يستلزم استغراق أفراده فهو في قوة إن الله يغفر كل ذنب كائناً ما كان، إلا ما أخرجه النص القرآني، وهو الشرك، ثم لم يكتف بما أخبر عباده به من مغفرة كل ذنب، بل أكد ذلك بقوله (جميعاً) فيالها من بشارة ترتاح لها قلوب المؤمنين المحسنين ظنهم بربهم، الصادقين في رجائه الخالعين لثياب القنوط الرافضين لسوء الظن بمن لا يتعاظمه ذنب، ولا يبخل بمغفرته ورحمته على عباده، المتوجهين إليه في طلب العفو، الملتجئين به في مغفرة ذنوبهم، وما أحسن ما علل به سبحانه هذا الكلام قائلاً:
(إنه هو الغفور الرحيم) أي كثير المغفرة والرحمة عظيمهما بليغهما واسعهما فأبرز الجملة مؤكدة بإن والفصل، وبإعادة الصفتين اللتين تضمنتهما الآية السابقة، فمن أبى هذا التفضل العظيم، والعطاء الجسيم، وظن أن تقنيط عباد الله وتأييسهم من رحمته أولى بهم مما بشرهم الله به فقد ركب أعظم الشطط وغلط أقبح الغلط، فإن التبشير وعدم التقنيط هو الذي جاءت به مواعيد الله في كتابه العزيز والمسلك الذي سلكه رسول الله صلى الله عليه(12/130)
وسلم كما صح عنه من قوله: " يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا " (1).
وإذا تقرر لك هذا فاعلم أن الجمع بين هذه الآية وبين قوله تعالى (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) هو أن كل ذنب كائناً ما كان ما عدا الشرك بالله مغفور لمن شاء الله أن يغفر له، على أنه يمكن أن يقال إن إخباره لنا بأنه يغفر الذنوب جميعاً يدل على أنه يشاء غفرانهما جميعاً، وذلك يستلزم أنه يشاء المغفرة لكل المذنبين من المسلمين فلم يبق بين الآيتين تعارض من هذه الحيثية.
وأما ما يزعمه جماعة من المفسرين من تقييد هذه الآية بالتوبة وأنها لا تغفر إلا ذنوب التائبين، وزعموا أنهم قالوا ذلك للجمع بين الآيات فهو جمع بين الضب والنون وبين الملاح والحادي، وعلى نفسها براقش تجني.
ولو كانت هذه البشارة العظيمة مقيدة بالتوبة لم يكن لها كثير موقع فإن التوبة من المشرك يغفر الله له بها ما فعله من الشرك بإجماع المسلمين، ولذا قال (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) فلو كانت التوبة قيداً في المغفرة لم يكن للتنصيص على الشرك فائدة، وقد قال سبحانه (وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم) قال الواقدي المفسرون كلهم قالوا إن هذه الآية في قوم خافوا إن أسلموا أن لا يغفر لهم ما جنوا من الذنوب العظام كالشرك وقتل النفس ومعاداة النبي صلى الله عليه وسلم.
قلت: هب أنها في هؤلاء القوم فكان ماذا؟ فإن الاعتبار بما اشتملت عليه من العموم، لا بخصوص السبب، كما هو متفق عليه بين أهل العلم، ولو كانت الآيات القرآنية والأحاديث النبوية مقيدة بأسبابها غير متجاوزة لها لارتفعت أكثر التكاليف عن الأمة، إن لم ترتفع كلها واللازم باطل بالإجماع فالملزوم مثله وفي السنة المطهرة من الأحاديث الثابتة في الصحيحين وغيرهما في هذا الباب ما لو عرفه المطلع عليه حق معرفته وقدره حق قدره علم صحة
_________
(1) البخاري 4/ 26 - 5/ 108 - 7/ 101 - 8/ 114 مسلم 5/ 141 - أحمد 4/ 412 - 4/ 417.(12/131)
ما ذكرناه، وعرف حقيقة ما حررناه، قاله الشوكاني.
وعن ابن عمر قال: " كنا نقول ليس لمفتتن توبة وما الله بقابل منه شيئاًً عرفوا الله وآمنوا به وصدقوا رسوله ثم رجعوا عن ذلك لبلاء أصابهم، وكانوا يقولونه لأنفسهم، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أنزل الله فيهم (قل يا عبادي الذين أسرفوا) الآيات، قال ابن عمر فكتبتها بيدي ثم بعثت بها إلى هشام بن العاصي ".
وعن أبي سعيد قال: " لما أسلم وحشي أنزل الله (والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق)، قال وحشي وأصحابه قد ارتكبنا هذا كله، فأنزل الله (قل يا عبادي الذين أسرفوا) " الآية.
وأخرج البخاري في الأدب المفرد عن أبي هريرة قال: " خرج النبي صلى الله عليه وسلم على رهط من أصحابه وهم يضحكون ويتحدثون، فقال: والذي نفسي بيده لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً ثم انصرف وأبكى القوم، وأوحى الله إليه يا محمد لم تقنط عبادي فرجع النبي صلى الله عليه وسلم فقال أبشروا وسددوا وقاربوا " (1).
وعن عمر بن الخطاب أنها نزلت فيمن افتتن وعن ابن عباس أنها نزلت في مشركي مكة لما قالوا إن الله لا يغفر لهم ما قد اقترفوه من الشرك، وقتل النفس وغير ذلك وأخرج أحمد وابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن ثوبان قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " ما أحب أن لي الدنيا وما فيها بهذه الآية: يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم الآية، فقال رجل: ومن أشرك؟ فسكت النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال: ألا ومن أشرك، ثلاث مرات ".
وأخرج أحمد وأبو داود والترمذي وحسنة وابن المنذر والحاكم وغيرهم
_________
(1) حديث قاربوا وسددوا وأبشروا صحيح الجامع الصغير 4173.(12/132)
عن أسماء بنت يزيد: " سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جمعاً -ولا يبالي- إنه هو الغفور الرحيم " وعن ابن مسعود أنه مر على قاص يذكر الناس فقال: يا مذكر الناس لا تقنط الناس، ثم قرأ يا عبادي الآية.
وعن ابن سيرين قال: قال علي: أي آية أوسع؟ فجعلوا يذكرون آيات من القرآن: (من يعمل سوءاً أو يظلم نفسه) الآية ونحوها، فقال علي: ما في القرآن أوسع من (يا عبادي) الآية، وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس في الآية قال: قد دعا الله إلى مغفرته من زعم أن المسيح ابن الله، ومن زعم أن عزير ابن الله ومن زعم أن الله فقير، ومن زعم أن يد الله مغلولة ومن زعم أن الله ثالث ثلاثة يقول لهؤلاء أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه والله غفور رحيم؟ ثم دعا إلى توبته من هو أعظم قولاً من هؤلاء، من قال (أنا ربكم الأعلى) وقال: (ما علمت لكم من إله غيري) قال ابن عباس: ومن آيس العباد من التوبة بعد هذا فقد جحد كتاب الله، ولكن لا يقدر العبد أن يتوب حتى يتوب الله عليه.
وحديث أبي سعيد الخدري " في رجل قتل تسعة وتسعين إنساناً " في الصحيحين بطوله، وكذا حديث رجل قال " وذروُّني في الريح؟ " فيهما بطوله، عن أبي هريرة، وعنه في سنن أبي داود حديث رجلين متحابين.
وعن أنس قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " قال الله عز وجل يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك، ولا أبالي، يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي يا ابن آدم لو أنك أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاًً لأتيتك بقرابها مغفرة " (1) أخرجه الترمذي والعنان السحاب، والقراب بضم القاف هو ما يقارب ملؤها.
_________
(1) رواه الترمذي 2/ 270 والدارمي 2/ 322 وأحمد 5/ 172 و5/ 154.(12/133)
وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (54) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (55) أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (57) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (58) بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (59)(12/134)
وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (54)
(وأنيبوا إلى ربكم) أي ارجعوا إليه بالطاعة لما بشرهم سبحانه بأنه يغفر الذنوب جميعاً أمرهم بالرجوع إليه، بفعل الطاعات، واجتناب المعاصي وليس في هذا ما يدل على تقييد الآية الأولى بالتوبة، لا بمطابقة، ولا تضمن، ولا التزام، بل غاية ما فيها أنه بشرهم بتلك البشارة العظمى. ثم دعاهم إلى الخير وخوفهم من الشر على أنه يمكن أن يقال إن هذه الجملة مستأنفة خطاباً للكفار الذين لم يسلموا بدليل قوله:
(وأسلموا له) جاء بها لتحذير الكفار وإنذارهم بعد ترغيب المسلمين بالآية الأولى، وتبشيرهم، وهذا وإن كان بعيداً ولكنه يمكن أن يقال به، والمعنى على ما هو الظاهر أن الله جمع لعباده بين التبشير العظيم، والأمر بالإِنابة إليه، والإخلاص له، والاستسلام لأمره، والخضوع لحكمه.
وقوله (من قبل أن يأتيكم العذاب) أي عذاب الدنيا كما يفيده النظم، فليس في ذلك ما يدل على ما زعمه الزاعمون، وتمسك به القانطون المقنطون والحمد لله رب العالمين (ثم لا تنصرون). أي لا تمنعون من العذاب إن لم تتوبوا قبل نزول العقاب.(12/134)
وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (55)
(واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم) يعني القرآن، يقول: أحلوا(12/134)
حلاله، وحرموا حرامه والقرآن كله حسن. قال الحسن: التزموا طاعته، واجتنبوا معاصيه. وقال السدي الأحسن ما أمر الله به في كتابه.
وقال ابن زيد: يعني المحكمات، وكلوا علم المتشابه إلى عالمه.
وقيل: الناسخ دون المنسوخ. وقيل العفو دون الانتقام بما يحق فيه الانتقام. وقيل أحسن ما أنزل إليكم من أخبار الأمم الماضية، ومثله قوله تعالى: (الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه) وقيل القرآن أو المأمور به دون المنهي عنه أو العزائم دون الرخص، ولعله ما هو أنجى وأسلم، كالإنابة والمواظبة على الطاعة.
(من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة وأنتم لا تشعرون) أي من قبل أن يفاجئكم العذاب وأنتم غافلون عنه لا تشعرون به، وقيل: أراد أنهم يموتون بغتة فيقعون في العذاب، والأول أولى، لأن الذي يأتيهم بغتة هو العذاب في الدنيا بالقتل والأسر، والخوف والقهر، والجدب لا عذاب الآخرة ولا الموت لأنه لم يسند الإتيان إليه.(12/135)
أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56)
(أن تقول نفس) قال البصريون: أي حذر أن تقول: وقال الكوفيون أي لئلا تقول، قال المبرد: بادروا خوف أن تقول أو حذراً من أن تقول، وقدره الزمخشري كراهة أن تقول، وابن عطية: وأنيبوا من أجل أن تقول وأبو البقاء والحوفي: أنذرناكم مخافة أن تقول قال الحلبي: عقب نقل بعض هذه التقادير: ولا حاجة إلى إضمار هذا العامل مع وجود أنيبوا ونكر (نفس) لأن المراد بها بعض الأنفس وهي النفس الكافرة المتميزة باللجاج الشديد في الكفر، أو بالعذاب الأليم.
وقيل: المراد به التكثير كما في قوله (علمت نفس ما أحضرت) أي نفوس كثيرة، وهم الكفار والعصاة المؤمنون. وقال الزجاج خوف أن تصيروا إلى حال تقولون فيها: (يا حسرتي) قرأ الجمهور يا حسرتا بالألف بدلاً من الياء المضاف إليها، وقرأ ابن كثير يا حسرتاه بهاء السكت. وقفاً، وقرأ أبو(12/135)
جعفر: يا حسرتي بالياء على الأصل، والحسرة الندامة، والاغتمام والحزن على ما فات (على ما فرطت) أي على تفريطي وتقصيري فما مصدرية (في جنب الله) أي طاعته قاله الحسن.
والجنب والجانب كلاهما بمعنى جهة الشيء المحسوسة، وإطلاق الجنب على الطاعة مجاز بالاستعارة حيث شبهت بالجهة بجامع تعلق كل بصاحبه، فالطاعة لها تعلق بالله، كما أن الجهة لها تعلق بصاحبها، وقال الضحاك: في ذكر الله ويعنى به القرآن والعمل به وقال أبو عبيدة، في ثواب الله، وقيل: في حق الله أو في أمر الله أو في ذات الله.
وقال الفراء: الجنب القرب والجوار أي في قرب الله وجواره، ومنه قوله (والصاحب بالجنب) والمعنى على هذا القول على ما فرطت في طلب جواره وقربه وهو الجنة، وبه قال ابن الأعرابي.
وقال الزجاج: أي في الطريق الذي هو طريق الله من توحيده والإقرار بنبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا فالجنب بمعنى الجانب، أي قصرت في الجانب الذي يؤدي إلى رضا الله، يقال أنا في جنب فلان وفلان لين الجانب والجنب ثم قالوا: فرط في جنبه وفي جانبه يريدون في حقه، وهذا من باب الكناية قال ابن عباس في الآية أخبر الله ما العباد قائلون قبل أن يقولوا وعلمهم قبل أن يعلموا.
(وإن كنت لمن الساخرين) أي وما كنت إلا من المستهزئين بدين الله في الدنيا، وبكتابه وبرسوله وبالمؤمنين قال قتادة: " لم يكفه أن ضيع طاعة الله حتى سخر من أهلها، والجملة حالية، أي فرطت وأنا ساخر.(12/136)
أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (57)
(أو تقول لو أن الله هداني لكنت من المتقين) أي لو أن الله أرشدني إلى دينه لكنت ممن يتقي الشرك والمعاصي وهذا من جملة ما يحتج به المشركون من الحجج الزائفة، ويتعللون به من العلل الباطلة كما في قوله: (سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا) فهي كلمة حق(12/136)
يريدون بها باطلاً.
قال أبو المنصور: هذا الكافر أعرف بهداية الله من المعتزلة، وكذا أولئك الكفرة الذين قالوا لأتباعهم (لو هدانا الله لهديناكم) ولكن علم منا اختيار الضلالة والغواية فخذلنا ولم يوفقنا، والمعتزلة يقولون: بل هداهم وأعطاهم التوفيق، لكنهم لم يهتدوا ثم ذكر سبحانه مقالة أخرى مما قالوه فقال:(12/137)
أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (58)
(أو تقول حين ترى العذاب) والتعبير بأو للدلالة على أن النفس لا تخلو عن هذه الأقوال تحسراً وتحيراً وتعللاً بما لا طائل تحته، فأو للتنويع لما تقوله النفس في ذلك اليوم، ويصح أن تكون مانعة خلو فتجوز الجمع (لو أن لي كرة) أي رجعة إلى الدنيا (فأكون من المحسنين) المؤمنين بالله الموحدين له، المحسنين في أعمالهم، ثم ذكر سبحانه جوابه على هذه النفس المتمنية المتعللة بغير علة فقال:(12/137)
بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (59)
(بلى) أي فيقال له من قبل الله: بلى الخ كأنه قال: ما هداني الله فيقال بلى (قد جاءتك آياتي) مرشدة لك، والمراد بالآيات هي الآيات التنزيلية وهو القرآن (فكذبت بها) وهو قوله: إنها ليست من عند الله (واستكبرت) أي تكبرت عن الإيمان بها (وكنت) مع ذلك التكذيب والاستكبار (من الكافرين) بالله.
وجاء سبحانه بخطاب المذكر في قوله جاءتك وكذبت، واستكبرت، وكنت لأن النفس تطلق على المذكر والمؤنث. قال المبرد: تقول العرب نفس واحد أي إنسان واحد، أو التذكير باعتبار كونها شخصاً كافراً قرأ الجمهور بفتح التاء في هذه المواضع، وقرىء بكسرها في جميعها وهي قراءة أمير المؤمنين أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه، وبنته عائشة، وأم سلمة، ورويت عن ابن كثير.(12/137)
وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ (60) وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (61) اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (62) لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (63) قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ (64) وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (65)(12/138)
وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ (60)
(ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله) بأن له شريكاً، وصاحبة، وولداً (وجوههم مسودة) لما أحاط بهم من العذاب، ولما شاهدوه من غضب الله ونقمته، والجملة في محل النصب على الحال، قال الأخفش (ترى) غير عامل في (وجوههم مسودة) إنما هو مبتدأ وخبره، والأولى أن (ترى) إن كانت من الرؤية البصرية فجملة (وجوههم مسودة) حالية وإن كانت قلبية فهي مفعول ثان لترى.
(أليس في جهنم مثوى للمتكبرين) الاستفهام لتقرير اسوداد وجههم، وتعليل له، كأنه قال: لأن لهم في جهنم مقراً ومقاماً، والكبر هو " بطر الحق وغمط الناس " (1)، كما ثبت في الحديث الصحيح.
_________
(1) جزء من حديث طويل رواه البخاري 548 وأحمد 2/ 169 والبيهقي في الاسماء بقوله: " إن نبي الله نوحاً لما حضرته الوفاة .... " وبطر الحق: إنكاره، وغمط الناس: ظلمهم.(12/138)
وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (61)
(وينجي الله الذين اتقوا) الشرك ومعاصي الله من جهنم متلبسين (بمفازتهم) أي بمكان فوزهم من الجنة بأن يجعلوا فيه، قرأ الجمهور بالإفراد على أنه مصدر ميمي والفوز الظفر بالخير، والنجاة من الشر، قال المبرد المفازة مفعلة من الفوز وهي السعادة، وإن جمع فحسن كقولك:(12/138)
السعادة والسعادات.
والمعنى ينجيهم الله بفوزهم، أي بنجاتهم من النار، وفوزهم بالجنة، وقرىء بمفازاتهم جمع مفازة وجمعها مع كونها مصدراً لاختلاف الأنواع وقيل ثَمِّ مضاف محذوف، والتقدير بدواعي مفازتهم أو أسبابها، والمفازة المنجاة، وقيل لا حاجة لذلك إذ المراد بالمفازة الفلاح.
وجملة (لا يمسهم السوء ولا هم يحزنون) مفسرة لمفازتهم كأنه قيل: وما مفازتهم؟ فقيل لا يمسهم الخ أو منصوبة رد علي الحال من الذين اتقوا، وقيل الباء للسببية أي بسبب فوزهم مع انتفاء مساس السوء لهم، وعدم وصول الحزن إلى قلوبهم، لأنهم رضوا بثواب الله وأمنوا من عقابه.(12/139)
اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (62)
(الله خالق كل شيء) من الأشياء الموجودة في الدنيا والآخرة، كائناً ما كان، من غير فرق بين شيء وشيء وفيه رد على المعتزلة والثنوية (وهو على كل شيء وكيل) أي الأشياء كلها موكولة إليه فهو القائم بحفظها وتدبيرها، من غير مشارك له.(12/139)
لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (63)
(لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) جملة مستأنفة والمقاليد واحدها مقليد ومقلاد، أو لا واحد له من لفظه كأساطير، ويقال أيضاً أقليد وأقاليد أو الكلمة أصلها فارسية على ما قيل إنه جمع إقليد معرب إكليد والكلام من باب الكناية لأن حافظ الخزائن ومدبرها هو الذي يملك مفاتيحها، فهو كناية عن شدة التمكن والتصرف في كل شيء مخزون في السموات أو في الأرض، والحمل على الظاهر أولى، وهي هنا مفاتيح الرزق والرحمة. قاله مقاتل وقتادة وغيرهما، قال ابن عباس أي مفاتيحها، وقال الليث المقلاد الخزانة.
ومعنى الآية له خزائن السموات والأرض، وبه قال الضحاك والسدي، وقيل: خزائن السموات المطر، وخزائن الأرض النبات وقيل: هي عبارة عن قدرته سبحانه وحفظة لها، والأول أولى: قال الجوهري: الإقليد المفتاح ثم قال: والجمع المقاليد، وقيل هي لا إله إلا الله والله آكبر، وسبحان الله(12/139)
وبحمده، واستغفر الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وأخرج أبو يعلى ويوسف القاضي في سننه وأبو الحسن القطان وابن السني وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن عثمان ابن عفان قال:
سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قول الله (لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) فقال لي: يا عثمان لقد سألتني عن مسألة لم يسألني عنها أحد قبلك، مقاليد السموات والأرض لا إله إلا الله، والله أكبر، وسبحان الله، والحمد لله، وأستغفر الله الذي لا إله إلا هو الأول والآخر والظاهر والباطن يحيي ويميت وهو حي لا يموت بيده الخير وهو على كل شيء قدير "، ثم ذكر فضل هذه الكلمات وله طرق عن عثمان. وقيل غير ذلك، والمعنى على هذا أن لله هذه الكلمات يوحد بها ويمجد، وهي مفاتيح خير السموات والأرض، من تكلم بها أصابه.
(والذين كفروا بآيات الله) أي بالقرآن وسائر الآيات الدالة على الله سبحانه وتوحيده (أولئك هم الخاسرون) أي الكاملون في الخسران لأنهم صاروا بهذا الكفر إلى النار متصل بقوله: (وينجي الله) الخ أي معطوف عليه وما بينهما اعتراض، وإن كان المعطوف جملة اسمية، والمعطوف عليه جملة فعلية فهذا لا يمنع صحة العطف، غايته أنه خال عن حسنه.(12/140)
قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ (64)
(قل أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون) الاستفهام للإِنكار التوبيخي، والفاء للعطف على مقدر كنظائره، والأصل أفتأمروني؟ أي بعد مشاهدة الآيات الدالة على انفراده وتوحيده أن أعبد غير الله، قاله الكسائي وغيره، وقيل: أفتلزموني عبادة غير الله؟ أو أعبد غير الله؟ أمره الله سبحانه أن يقول هذا للكفار لمَّا دعوه إلى ما هم عليه من عبادة الأصنام وقالوا: هو دين آبائك.
وعن ابن عباس أن قريشاً دعت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعطوه مالاً فيكون أغنى رجل بمكة، ويزوجوه ما أراد من النساء، ويطأون(12/140)
عقبه فقالوا له: هذا لك يا محمد وتكف عن شتم آلهتنا، ولا تذكرها بسوء، قال: حتى أنظر ما يأتيني من ربي، فجاء بالوحي: (قل يا أيها الكافرون) إلى آخر السورة، وأنزل الله عليه (قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي) إلى قوله: (مِنَ الْخَاسِرِينَ) (1).
_________
(1) سيأتي الكلام عنه عند تفسيرنا لسورة الكافرون.(12/141)
وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (65)
(ولقد) هذه اللام دالة على قسم مقدر أي والله لقد (أوحي إليك وإلى الذين من قبلك) من الرسل (لئن) جواب القسم وهذه اللام أيضاًً دالة على قسم مقدر أي والله لئن (أشركت) يا محمد فرضاً (ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين) وكل من هاتين اللامين واقعة في جواب القسم الثاني، والثاني وجوابه جواب الأول، وجواب الشرط محذوف لدلالة جواب القسم عليه، وهذا الكلام من باب التعريض لغير الرسل، لأن الله سبحانه قد عصمهم عن الشرك، ووجه إيراده على هذا الوجه التحذير والإنذار للعباد من الشرك، لأنه إذا كان موجباً لإِحباط عمل الأنبياء على الفرض والتقدير، فهو محبط لعمل غيرهم من أممهم بطريق الأولى.
قيل وفي الكلام تقديم وتأخير، والتقدير ولقد أوحي إليك لئن أشركت الخ وأوحى إلى الذين من قبلك كذلك، قال مقاتل أي أوحي إليك وإلى الأنبياء قبلك بالتوحيد، والتوحيد محذوف، ثم قال: لئن أشركت يا محمد ليحبطن عملك، وهو خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة.
وقيل إفراد الخطاب في لئن أشركت، باعتبار كل واحد من الأنبياء كأنه قيل أوحي إليك وإلى كل واحد من الأنبياء هذا الكلام، لئن أشركت، وهذه الآية مقيدة بالموت على الشرك كما في الآية الأخرى.
(ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم) وقيل هذا خاص بالأنبياء لأن الشرك منهم أعظم ذنباً من الشرك من غيرهم والأول أولى، ثم أمر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم بتوحيده فقال:(12/141)
بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (66) وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67)(12/142)
بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (66)
(بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ) وفي هذا رد على المشركين حيث أمروه بعبادة الأصنام ووجه الرد ما يفيده التقديم من القصر، قال الزجاج، لفظ اسم الله منصوب بأعبد قال ولا اختلاف في هذا بين البصريين والكوفيين، وقال الفراء هو منصوب بإضمار فعل، وعن الكسائي مثله، والأول أولى.
قال الزجاج: والفاء في فاعبد للمجازاة، وقال الأخفش زائدة قال عطاء ومقاتل. معنى فاعبد وَحِّد لأن عبادته لا تصح إلا بتوحيده (وكن من الشاكرين) لإنعامه عليك بما هداك إليه من التوحيد والدعاء إلى دينه، واختصك به من الرسالة.(12/142)
وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67)
(وما قدروا الله حق قدره) أي ما عرفوه حق معرفته، وقال المبرد أي ما عظموه حق عظمته حين أشركوا به غيره، من قولك فلان عظيم القدر. وإنما وصفهم بهذا لأنهم عبدوا غير الله، وأمروا رسوله بأن يكون مثلهم في الشرك، وقرىء قدروا بالتشديد.
(والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة) القبضة في اللغة ما قبضت عليه بجميع كفك فأخبر سبحانه عن عظيم قدرته بأن الأرض كلها مع عظمتها وكثافتها في مقدوره، كالشيء الذي يقبض عليه القابض بكفه كما يقولون هو في يد فلان وفي قبضته للشيء الذي يهون عليه التصرف فيه، وإن لم يقبض عليه.(12/142)
والمراد بالأرض الأرضون السبع، يشهد لذلك قوله (جميعاً) وقوله الآتي (وَالسَّمَاوَاتُ) لأن هذا التأكيد لا يحسن إدخاله إلا على الجمع، ولأن الموضع موضع تعظيم، فهو مقتض للمبالغة، والمعنى الأرضون جميعاً ذوات قبضته يقبضهن قبضة واحدة، وقدم الأرض على السموات لمباشرتهم بها ومعرفتهم بحقيقتها.
أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن مسعود قال: " جاء حبر من الأحبار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا محمد إنا نجد أن الله يحمل السموات يوم القيامة على إصبع، والشجر على إصبع، والماء والثرى على إصبع، وسائر الخلق على إصبع، ثم يهزهن فيقول أنا الملك فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه تصديقاً لقول الحبر، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) " وإنما خص يوم القيامة بالذكر -وإن كانت قدرته عامة وشاملة لدار الدنيا أيضاً- لأن الدعاوي تنقطع في ذلك اليوم، كما قال. (والأمر يومئذ لله) وقال (مالك يوم الدين) ولذلك قال في الحديث " ثم يقول أنا الملك أين ملوك الأرض؟ ".
(والسموات مطويات بيمينه) ذكر اليمين للمبالغة في كمال القدرة كما يطوي الواحد منا الشيء المقدور له طيه بيمينه، والطي ضد النشر واليمين في كلام العرب قد يكون بمعنى القدرة والملك. قال الأخفش بيمينه يقول في قدرته نحو قوله (أو ما ملكت أيمانكم) أي ما كانت لكم قدرة عليه، وليس الملك لليمين دون الشمال وسائر الجسد، ومنه قوله سبحانه (لأخذنا منه باليمين) أي بالقوة والقدرة، وليس يريد به طياً بعلاج وانتصاب، وإنما المراد بذلك الفناء والذهاب، يقال قد انطوى عنا ما كنا فيه، وجاءنا غيره،(12/143)
وانطوى عنا، وهو بمعنى المضي والذهاب قال الخازن اليمين ليس عندنا بمعنى الجارحة، وإنما هي صفة جاء بها التوقيف فنحن نطلقها على ما جاءت ولا نكيفها، وننتهي إلى حيث انتهى بنا الكتاب؛ والأخبار المأثورة الصحيحة؛ وهذا مذهب أهل السنة والجماعة، قال سفيان بن عيينة كل ما وصف الله به نفسه في كتابه فتفسيره تلاوته والسكوت عنه اهـ.
ومعنى الآية ما عظموه حق تعظيمه، والحال أنه متصف بهذه الصفة الدالة على كمال القدرة، والمقصود الإشارة إلى أن المتولي لإبقاء السموات والأرض في هذه الدار هو المتولي لتخريبهما يوم القيامة، وذلك يدل على قدرته التامة على الإِيجاد والإعدام، وأنه غني على الإطلاق فإنه إذا حاول تخريب الأرض يقبضها ويزيلها وتخريب السموات يجمعها كالسجل المطوي.
أخرج البخاري ومسلم وغيرهما من حديث أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " يقبض الله الأرض يوم القيامة ويطوي السماء بيمينه ثم يقول: أنا الملك أين ملوك الأرض " (1)؟
وعن ابن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " يطوي الله السموات يوم القيامة ثم يأخذهن بيده اليمنى ثم يقول: أنا الملك أين الجبارون أين المتكبرون أين ملوك الأرض "، أخرجه الشيخان وفي الباب أحاديث وآثار تقتضي حمل الآية على ظاهرها من دون تكلف لتأويل، ولا تعسف بقال وقيل، ثم نزه سبحانه نفسه فقال:
(سبحانه وتعالى عما يشركون) به من المعبودات التي يجعلونها شركاء له مع هذه القدرة العظيمة - والحكمة الباهرة.
_________
(1) صحيح الجامع/7981.(12/144)
وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ (68)(12/145)
وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ (68)
(وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ) هذه هي النفخة الأولى، والصور هو القرن الذي ينفخ فيه إسرافيل وقد تقدم غير مرة، وقد قيل: إنه يكون معه جبريل لحديث أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن صاحبي الصور بأيديهما أو في أيديهما قرنان يلاحظان النظر حتى يؤمران " أخرجه ابن ماجة، وفي أبي داود عنه قال: " ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم صاحب الصور وقال: عن يمينه جبريل، وعن يساره ميكائيل، ذكره القرطبي.
ومعنى صعق زالت عقولهم، فخروا مغشياً عليهم، وقيل: ماتوا: قال الواحدي: قال المفسرون: مات من الفزع وشدة الصوت أهل السموات والأرض، قرأ الجمهور الصور بسكون الواو وقرىء بفتحها جمع صورة:
(إلا من شاء الله) والاستثناء متصل والمستثنى جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت، وقيل: رضوان وحملة العرش وخزنة الجنة والحور العين والنار، وقياد: الباري تعالى وحده قاله الحسن وفيه نظر من حيث قوله من في السموات ومن في الأرض. فإنه لا يتحيزه فعلى هذا يتعين أن يكون منقطعاً وقيل الزبانية وقيل عقارب أهل النار وحياتها.
أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة قال: " قال رجل من اليهود بسوق المدينة: والذي اصطفى موسى على البشر، فرفع رجل من(12/145)
الأنصار يده فلطمه وقال أتقول هذا وفينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " قال الله ونفخ في الصور إلى قوله: ينظرون فأكون أول من يرفع رأسه فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش، فلا أدري أرفع رأسه قبلي! أو كان ممن استثنى الله ".
وعنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: " إلا من شاء الله " قال: " هم الشهداء متقلدون أسيافهم حول عرشه تتلقاهم الملائكة يوم القيامة " الحديث أخرجه أبو يعلى والدارقطني في الأفراد وابن المنذر والحاكم وصححه ابن مردويه والبيهقي في البعث وأخرجه سعيد بن منصور وعبد بن حميد من قول أبي هريرة.
وعن أنس أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله (إلا من شاء الله) " فقال جبريل وميكائيل وملك الموت وإسرافيل وحملة العرش " أخرجه الفريابي وابن جرير وأبو نصر السجزي في الابانة، وابن مردويه.
وأخرج ابن المنذر عن جابر قال هو موسى لأنه كان صعق قبل، وههنا إشكال أورده بعض السلف وهو أن نص القرآن يدل على أن هذا الاستثناء بعد نفخة الصعق وهي النفخة الأولى التي مات فيها من بقي على وجه الأرض والحديث المتقدم يدل على أنها نفخة البعث. وما قيل إنه يحتمل أن موسى ممن لم يمت من الأنبياء باطل لصحة موته، وقال القاضي عياض يحتمل أن تكون هذه صعقة فزع بعد النشر حين تنشق الأرض والسموات فتتوافق الآيات والأحاديث.
قال القرطبي: ويرده ما مر في الحديث من أخذ موسى بقائمة العرش، فإنه إنما هو عند نفخة البعث، وأيضاً تكون النفخات أربعاً ولم ينقله الثقات قال الشهاب: فمن حمل الصعق على غشى يكون من نفخة بعد نفخة البعث للإرهاب والإرعاب فكلامه مردود بما عرفت، ومن الغريب أن بعضهم جعلها(12/146)
بحديث أبي هريرة خمساً، وقد سمعنا بمن زاد في الطنبور نغمة، ولم نسمع بمن زاد في الصور نفخة.
قال القرطبي: والذي يزيح الإشكال ما قاله بعض مشايخنا أن الموت ليس بعدم محض بالنسبة إلى الأنبياء والشهداء فإنهم موجودون أحياء، وإن لم نرهم، فإذا نفخت نفخة الصعق صعق كل من في السموات والأرض وصعق غير الأنبياء موت وصعقهم غشي، فإذا كانت نفخة البعث حيى من مات، وأفاق من غشي عليه، ولذا وقع في الصحيحين فأكون أول من يفيق، والأحاديث الواردة في كيفية نفخ الصور كثيرة، وقد ذكر سليمان الجمل في هذا المقام عن ابن الوردي وغيره ما جاء في صورة الصور وهيئته وتعداد نفخاته، ولا تعلق له بالتفسير.
(ثم نفخ فيه) نفخة (أخرى فإذا هم) يعني الخلق كلهم (قيام) على أرجلهم (ينظرون) ما يقال لهم، أو ينتظرون ذلك، والاستثناء ملاحظ في هذا أيضاًً لأن من لم يمت كالحور فلا يقال له ذلك، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما بين النفختين أربعون: قالوا أربعون يوماً؟ قال أبو هريرة أبيت، قالوا أربعون شهراً؟ قال: أبيت، قالوا أربعون سنة؟ قال: أبيت، ثم ينزل الله عز وجل من السماء ماء فينبتون كما ينبت البقل وليس من الإنسان شيء إلا يبلى إلا عظم واحد، وهو عجب الذنب، ومنه يركب الخلق يوم القيامة " (1) أخرجه الشيخان.
ودلت الآية على أن النفخة اثنتان الأولى للموت، والثانية للبعث، والجمهور على أنها ثلاث، الأولى للفزع كما قال: ونفخ في الصور ففزع، والثانية للموت، والثالثة للإِعادة.
_________
(1) سبق ذكره.(12/147)
وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (69) وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ (70) وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ (71) قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (72)(12/148)
وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (69)
(وأشرقت الأرض) الإشراق الإِضاءة، يقال: أشرقت الشمس إذا أضاءت، وشرقت إذا طلعت، وأراد بالأرض عرصات القيامة، أي الأرض الجديدة التي يوجدها الله في ذلك الوقت، ليحشر الناس عليها، وليس المراد بها أرض الدنيا.
(بنور ربها) أي بعدل ربها قاله الحسن وغيره، وقال الضحاك: بحكم ربها. والمعنى أن الأرض أضاءت وأنارت بما أقامه الله من العدل بين أهلها، وما قضى به من الحق فيهم، فالعدل نور، والظلم ظلمات. وقيل: ذلك حين يتجلى الرب تبارك وتعالى لفصل القضاء بين خلقه، فما يضارون في نوره كما لا يضارون في الشمس في يوم الصحو.
وقيل: إن الله سبحانه يخلق نوراً يوم القيامة يلبسه وجه الأرض فتشرق به غير نور الشمس والقمر، ولا مانع من الحمل على المعنى الحقيقي، فإن الله سبحانه هو (نور السموات والأرض) قرأ الجمهور: أشرقت مبنياً للفاعل، وقرىء على البناء للمفعول.(12/148)
(ووضع الكتاب) قيل: هو اللوح المحفوظ، وقال قتادة يعني الكتب والصحف التي فيها أعمال بني آدم، فآخذ بيمينه وآخذ بشماله، وكذا قال مقاتل: وقيل هو من وضع المحاسب كتاب المحاسبة بين يديه، أي وضع الكتاب للحساب (وجىء بالنبيين) إلى الموقف فسئلوا عما أجابتهم به أممهم.
(والشهداء) الذين يشهدون على الأمم من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، كما في قوله (وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس) وقيل المراد بالشهداء الذين استشهدوا في سبيل الله، فيشهدون يوم القيامة لمن ذب عن دين الله. قاله السدي وقيل هم الحفظة كما قال تعالى: (وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد) قاله ابن زيد قال ابن عباس النبيون الرسل والشهداء الذين يشهدون لهم بالبلاغ ليس فيهم طعان ولا لعان يشهدون بتبليغ الرسالة وتكذيب الأمم إياهم.
ولما بين سبحانه أنه يوصل لكل ذي حق حقه عبر عن هذا المعنى بأربع عبارات أولاها قوله (وقضى بينهم بالحق) أي قضى بين العباد بالعدل والصدق، والثانية (وهم لا يظلمون) أي والحال أنهم لا ينقصون من ثوابهم ولا يزاد على ما يستحقونه من عقابهم ختم الآية بنفي الظلم كما افتتحها بإثبات العدل، والثالثة(12/149)
وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ (70)
(ووفيت كل نفس ما عملت)، من خير وشر أي جزاءه والرابعة (وهو أعلم بما يفعلون) في الدنيا لا يحتاج إلى كاتب ولا حاسب ولا شاهد، لأنه عالم بمقادير أفعالهم وبكيفياتها. فامتنع دخول الخطأ عليه، قاله الكرخي، وقال القرطبي ومع ذلك فتشهد الكتب والشهود وإلزاماً للحجة انتهى. يعني إنما وضع الكتاب وجيء بالنبيين والشهداء لتكميل الحجة وقطع المعذرة.
ثم ذكر سبحانه تفصيل ما ذكره من توفية كل نفس ما كسبت فقال:(12/149)
وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ (71)
(وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمراً) أي سيق الكافرون سوقاً عنيفاً إلى النار(12/149)
حال كونهم جماعات متفرقة بعضها يتلو بعضاً، قال أبو عبيدة والأخفش زمراً جماعات متفرقة بعضها إثر بعض، واحدتها زمرة واشتقاقه من الزمر، وهو الصوت، إذ الجماعة لا تخلو عنه غالباً (حتى) هي التي تحكي الجمل بعدها (إذا جاؤوها فتحت أبوابها) أي أبواب النار ليدخلوها، وهي سبعة أبواب. وكانت قبل ذلك مغلقة. وقد مضى بيان ذلك في سورة الحجر.
(وقال لهم خزنتها) جمع خازن نحو سدنة وسادن: (ألم يأتكم رسل منكم) أي من أنفسكم ومن جنسكم (يتلون عليكم آيات ربكم) التي أنزلها عليكم (وينذرونكم لقاء يومكم هذا)؟ أي يخوفونكم لقاء هذا اليوم الذي صرتم فيه، والمراد به وقت الشدة لا يوم القيامة جميعه، قال الزمخشري: وقد جاء استعمال اليوم والأيام مستفيضاً في أوقات الشدة، قالوا لهم هذا القول تقريعاً وتوبيخاً، فأجابوا بالاعتراف، ولم يقدروا على الجدل الذي كانوا يتعللون به في الدنيا، لانكشاف الأمر وظهوره ولهذا (قالوا بلى) أي قد أتتنا الرسل بآيات الله وأنذرونا بما سنلقاه.
(ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين) وهي (لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين) جيء بالظاهر مقام المضمر لبيان سبب استحقاقهم العذاب وهو كفرهم، فلما اعترفوا هذا الاعتراف(12/150)
قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (72)
(قيل) لهم من قبل الملائكة الموكلين لعذابهم.
(ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ) التي قد فتحت لكم لتدخلوها (خَالِدِينَ) أي مقدرين الخلود (فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ) جهنم، واللام فيه للجنس، وجيء بالظاهر لبيان سبب كفرهم الذي استحقوا به العذاب، وقد تقدم تحقيق المثوى في غير موضع، ولما ذكر فيما تقدم حال الذين كفروا وسوقهم إلى جهنم زمراً ذكر هنا حال المتقين، وسوقهم إلى الجنة فقال:(12/150)
وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ (73) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (74) وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (75)(12/151)
وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ (73)
(وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمراً) أي ساقتهم الملائكة سوق إعزاز وتشريف وتكريم، والمراد بذلك السوق إسراعهم إلى دار الكرامة والرضوان، كما يفعل بمن يكرم من الوافدين على بعض الملوك والمراد بالسوق المتقدم طردهم إلى العذاب بالهوان كما يفعل بالأسير إذا سيق إلى الحبس أو القتل، فشتان ما بين السوقين.
وهذا من بدائع أنواع البديع، وهو أن يأتي سبحانه وتعالى بكلمة في حق الكفار فتدل على هوانهم وعقابهم، ويأتى بتلك الكلمة بعينها وهيئتها في حق المؤمنين فتدل على إكرامهم بحسن ثوابهم، فسبحان من أنزله معجز المباني، متمكن المعاني، عذب الموارد والمثاني قيل الكلام على حذف مضاف، أي: سيقت مراكبهم إذ لا يذهب بهم إلا راكبين وقد سبق معنى الزمر أي جماعات أهل الصلاة على حدة، وأهل الصوم كذلك إلى غير ذلك.
(حتى إذا جاؤها وفتحت أبوابها) جواب إذا محذوف، قال المبرد: تقديره سعدوا وفتحت، وقال الزجاج: القول عندي أن الجواب محذوف على تقدير حتى إذا جاؤها كانت هذه الأشياء التي ذكرت دخلوها فالجواب دخلوها وحذف لأن في الكلام دليلاً عليه. وقال الأخفش والكوفيون: الجواب فتحت والواو زائدة وهو خطأ عند البصريين لأن الواو من حروف المعاني فلا تزاد.(12/151)
وقيل إن زيادة الواو دليل على أن الأبواب فتحت لهم قبل أن يأتوا لكرامتهم على الله والتقدير حتى إذا جاءوها وأبوابها مفتحة بدليل قوله (جنات عدن مفتحة لهم الأبواب) وحذفت الواو في قصة أهل النار لأنهم وقفوا على النار، وفتحت بعد وقوفهم إذلالاً وترويعاً. ذكر معناه النحاس منسوباً إلى بعض أهل العلم قال: ولا أعلم أنه سبقه إليه أحد، وعلى هذا القول تكون الواو واو الحال بتقدير قد، أي: جاؤوها وقد فتحت لهم الأبواب. وقيل: إنها واو الثمانية، وذلك أن من عادة العرب أنهم كانوا يقولون في العدد خمسة ستة سبعة وثمانية، وقد مضى القول في هذا في سورة براءة مستوفى، وفي سورة الكهف أيضاًً.
وقد أخرج البخاري ومسلم وغيرهما من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " أول زمرة يدخلون الجنة على صورة القمر ليلة البدر، والذين يلونهم على ضوء أشد كوكب دري في السماء إضاءة " (1) وأخرج الشيخان وغيرهما عن سهل بن سعد أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: " في الجنة ثمانية أبواب منها باب يسمى باب الريان، لا يدخله إلا الصائمون "، وقد ورد في كون أبواب الجنة ثمانية أحاديث في الصحيحين وغيرهما، وكتابنا (مثير ساكن الغرام، إلى روضات دار السلام) هو أحسن ما جمع في أحوال الجنة فليرجع إليه وليعول عليه، ثم أخبر سبحانه أن خزنة الجنة يسلمون على المؤمنين فقال:
(وقال لهم خزنتها سلام عليكم) أي سلامة لكم من كل آفة، لا يعتريكم بعده مكروه (طبتم) وطهرتم في الدنيا، فلم تتدنسوا بالشرك والمعاصي. قال مجاهد طبتم بطاعة الله، وقيل بالعمل الصالح، والمعنى واحد وقيل طاب لكم المقام وقيل طابت حالكم وحسنت وجعل دخول الجنة مسبباً عن الطيب والطهارة لأنها دار الطيبين، ومثوى الطاهرين، وقد طهرها الله من كل دنس وطيبها من كل قذر، فلا يدخلها إلا مناسب لها، موصوف
_________
(1) صحيح الجامع الصغير/2562.(12/152)
بصفتها.
قال مقاتل إذا قطعوا جسر جهنم حبسوا على قنطرة بين الجنة والنار، فتقتص لبعضهم من بعض مظالم كانت بينهم، حتى إذا هذبوا وطيبوا قال لهم رضوان وأصحابه سلام عليكم الآية، وقد أخرج البخاري حديث القنطرة هذا في جامعه من حديث أبي سعيد الخدري وهو طويل جداً (فادخلوها) أي الجنة (خالدين) أي مقدرين الخلود.(12/153)
وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (74)
(وقالوا) أي فعند ذلك قال أهل الجنة (الحمد لله الذي صدقنا وعده) بالبعث والثواب بالجنة في قوله: (تلك الجنة التي نورث من عبادنا من كان تقياً) (وأورثنا الأرض) أي أرض الجنة قاله قتادة وأبو العالية، كأنها صارت من غيرهم إليهم، فملكوها وتصرفوا فيها تصرف الوارث فيما يرثه، ففي الكلام تجوز. وقيل: إنهم ورثوا الأرض التي كانت لأهل النار لو كانوا مؤمنين، قاله أكثر المفسرين، وقيل: إنها أرض الدنيا وفي الكلام تقديم وتأخير.
(نتبوأ من الجنة حيث نشاء) أي نتخذ فيها من المنازل ما نشاء حيث نشاء فلا يختار أحد مكان غيره، وقيل: يتخير كل واحد من أمة محمد صلى الله عليه وسلم وأين ينزل تكرمة له، وإن كان لا يختار إلا ما قسم له، وأما بقية الأمم فيدخلون بعد أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فينزلون فيما فضل عنهم، وفي الكرخي الجنة نوعان: الجنات الجسمانية، وهي لا تحتمل المشاركة، والجنات الروحانية، وحصولها لواحد لا يمنع من حصولها لآخرين (فنعم أجر العاملين) في الدنيا أي الجنة وهذا من تمام قول أهل الجنة، وقيل هو من قول الله سبحانه.(12/153)
وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (75)
(وترى) يا محمد (الملائكة حافين) أي محيطين ومحدقين قائمين بجميع ما عليهم من الحقوق (من حول العرش) أي جوانبه التي يمكن الحفوف بها فيسمع لحفوفهم صوت التسبيح والتمجيد والتقديس، وإدخال(12/153)
(من) يفهم أنهم مع كثرتهم إلى حد لا يحصيه إلا الله لا يملأون حوله، وهذا أولى من قول البيضاوي: إن (من) مزيدة، وبه قال الأخفش: أو للابتداء أي ابتداء حفوفهم من حول العرش إلى حيث شاء الله.
والمعنى أن الرائي يراهم بهذه الصفة في ذلك اليوم، والحافين جمع حاف قاله الأخفش، وهو المحدق بالشيء من حففت بالشيء إذا أحطت به، وهو مأخوذ من الحفاف وهو الجانب، وقال الفراء وتبعه الزمخشري لا واحد له من لفظه إذ لا يقع لهم هذا الاسم إلا مجتمعين.
(يسبحون بحمد ربهم) أي حال كونهم مسبحين لله متلبسين بحمده أي يقولون سبحان الله وبحمده وقيل معنى يسبحون يصلون حول العرش شكراً لربهم، وهذا تسبيح تلذذ لا تسبيح تعبد، لأن التكليف يزول في ذلك اليوم وذلك يشعر بأن ثوابهم هو عين ذلك التسبيح، وأفهم أن منتهى درجات العليين ولذاتهم الاستغراق في صفاته تعالى، اللهم أرزقنا.
(وقضي بينهم) أي بين جميع العباد والخلائق (بالحق) أي بالعدل بإدخال بعضهم الجنة وبعضهم النار، وقيل بين النبيين الذين جيء بهم مع الشهداء، وبين أممهم، وقيل بين الملائكة بإقامتهم في منازلهم على حسب درجاتهم والأول أولى.
(وقيل الحمد لله رب العالمين) القائلون هم المؤمنون، حمدوا الله على قضائه بينهم وبين أهل النار بالحق كما قال: (وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين)، وقيل القائلون هم الملائكة حمدوا الله تعالى على عدله في الحكم وقضائه بين عباده بالحق، وبدأ سبحانه هذه الآية بالحمد، وختمها بالحمد، للتنبيه على تحميده في بداية كل أمر ونهايته، والحمد الأول على صدق الوعد وإيراث الجنة، وهذا على القضاء بالحق، فلا تكرار فيه، وروي من حديث ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ على المنبر آخر الزمر فتحرك المنبر مرتين.(12/154)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
سورة غافر
وهي سورة المؤمن وتسمى سورة الطول وهي خمس وثمانون آية
وقيل اثنتان وثمانون آية قاله القرطبي، وهي مكيّة في قول عطاء وجابر وعكرمة، قال الحسن إلا قوله: (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ) لأن الصلوات نزلت بالمدينة وقال ابن عباس وقتادة إلا آيتين نزلتا بالمدينة وهما (إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ) والتي بعدها، وكذا نص عليه السيوطي في الإتقان، وفي لب الأصول في أسباب النزول، قال ابن عباس أنزلت حم المؤمن بمكة، وعن سمرة بن جندب قال نزلت الحواميم جميعاً بمكة.
وأخرج محمد بن نصر وابن مردويه عن أنس بن مالك سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول " إن الله أعطاني السبع الحواميم مكان التوراة، وأعطاني الراءات إلى الطواسين مكان الإنجيل، وأعطاني ما بين الطواسين إلى الحواميم مكان الزبور، وفضلني بالحواميم والمفصل، ما قرأهن نبي قبلي، وقال ابن عباس إن لكل شيء لباباً، وإن لباب القرآن حم، قال ابن مسعود الحواميم ديباج القرآن، وعنه قال: " إذا وقعت في آل حم وقعت في روضات دمثات أتأنق فيهن " (1).
وعن سعد بن إبراهيم الحواميم تسمى العرائس، رواه الدارمي في مسنده، وقال الجوهري آل حم سور في القرآن، فأما قول العامة الحواميم فليس من كلام العرب، وبه قال الحريري في درة الغواص قال أبو عبيدة الحواميم على غير قياس، والأولى أن تجمع بذوات حم انتهى، فتلخص من مجموع هذه الأخبار أن هذه السور السبع تسمى الحواميم، وتسمى ال حم، وتسمى ذوات حم فلها جموع ثلاثة خلافاً لمن أنكر الأول منها.
وأخرج البيهقي في الشعب عن خليل بن مرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال " الحواميم سبع وأبواب النار سبع يجيء كل حم منا يقف على باب من هذه الأبواب، يقول اللهم لا تدخل من هذا الباب من كان يؤمن بي ويقرؤني ".
_________
(1) السيوطي في الدر 5/ 344.(12/155)
بسم الله الرحمن الرحيم
حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2) غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3)
(بسم الله الرحمن الرحيم(12/157)
حم (1)
حم) قرأ الجمهور بفتح الحاء مشبعاً (1)، وقرىء بإمالته إمالة محضة، وبإمالته بين بين وقرأ الجمهور بسكون الميم كسائر الحروف المقطعة وقرأ الزهري بضمها على أنها خبر مبتدأ مضمر أو مبتدأ والخبر ما بعده وقرأ عيسى بن عمر الثقفي بفتحها، وهي تحتمل وجهين أحدهما أنها منصوبة بفعل مقدر، أي اقرأ حم، وإنما منعت من الصرف للعلمية والتأنيث، أو للعلمية وشبه العجمة وذلك إنه ليس في الأوزان العربية وزن فاعيل بخلاف الأعجمية، نحو قابيل وهابيل والثاني أنها حركة بناء تخفيفاً كأين وكيف، وقرأ ابن أبي إسحق وأبو السماك بكسرها لالتقاء الساكنين. أو بتقدير القسم وقرأ الجمهور بوصل الحاء بالميم، وقرأ أبو جعفر بقطعها.
وقد اختلف في معناه فقيل: هو اسم من أسماء الله قاله أبو أمامة، وقيل اسم من أسماء القرآن قاله قتادة، وقال الضحاك والكسائي: معناه قضى، وجعلاه بمعنى حم أي وقع وقضى، وقيل: مفاتيح خزائنه، وقيل: اسم الله الأعظم، وقيل بدء أسماء الله تعالى كحميد وحليم وحكيم وحنان، وكمالك ومجيد ومنان ومتكبر ومصور ومؤمن ومهيمن، وقيل معناه حم أمر الله أي قرب نصره لأوليائه، وانتقامه من أعدائه؛ وهذا كله تكلف لا موجب له؛ وتعسف لا ملجىء إليه، والحق أن هذه الفاتحة لهذه السورة وأمثالها من المتشابه الذي استأثر الله بعلم معناه، كما قدمنا تحقيقه في فاتحة سورة البقرة.
_________
(1) الحاء من حروف (حس طهر) وكلها تمد مداً طبيعياً.(12/157)
وأخرج الترمذي والحاكم وصححه، وأبو داود وغيرهم، عن المهلب ابن أبي صفرة قال: حدثني من سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول ليلة الخندق " إن أتيتم الليلة فقولوا حم لا ينصرون "، وعن البراء بن عازب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إنكم تلقون عدوكم فليكن شعاركم حم لا ينصرون " أخرجه النسائي والحاكم وابن أبي شيبة.(12/158)
تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2)
(تنزيل الكتاب) هو خبر لحم على تقدير أنه مبتدأ أو خبر لمبتدأ مضمر أي هذا تنزيل أو هو مبتدأ وخبره (من الله) قال الرازي: المراد بالتنزيل المنزل، والمعنى أن القرآن منزل من عند الله ليس بكذب عليه (العزيز) المنيع بسلطانه الغالب، القاهر في ملكه (العليم) الكثير العلم بخلقه، وما يقولونه ويفعلونه، فهو تهديد للمشركين وبشارة للمؤمنين.(12/158)
غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3)
(غافر الذنب) أي ذنب المؤمنين، وعن ابن عمر قال: ساتر الذنب لمن يقول: لا إله إلا الله (وقابل التوب) أي توبة الراجعين أو عمن يقول: لا إله إلا الله. والتوب والثوب والأوب أخوات في معنى الرجوع مصادر، وقال الأخفش: التوب جمع توبة، كدوم ودومة، وإدخال الواو في هذا الوصف لإفادة الجمع للمذنب التائب بين قبول توبته ومحو حوبته قاله العمادي أو لتغاير الوصفين إذ ربما يتوهم الاتحاد قاله البيضاوي.
(شديد العقاب) أي مشدودة لمن لا يقول: لا إله إلا الله، أو على المخالفين والكافرين، وقيل: قابل التوب لأوليائه، وشديد العقاب لأعدائه وقيل قابل التوب من الشرك وشديد العقاب لمن لا يوحده (ذي الطول) أي ذي الفضل على العارفين، أو الغني عن كل العالمين وأصل الطول الإنعام والتفضل أي ذي الإنعام على عباده والتفضل عليهم، وقال مجاهد وابن عباس: ذي الغنى والسعة، ومنه قوله:(12/158)
(ومن لم يستطع منكم طولاً) أي غنى وسعة، وقال عكرمة: ذي المن قال الجوهري والطول بالفتح لمن يقال: منه طال عليه ويطول عليه إذا امتن عليه. وقال محمد بن كعب: ذي التفضل قال الماوردي والفرق بين المن والتفضل أن المن عفو عن ذنب، والتفضل إحسان غير مستحق، والله سبحانه موصوف على الدوام بكل من هذه الصفات، فإضافة المشتق منها للتعريف كالأخيرة، وقال السمين: فيها ثلاثة أوجه أحدها أنها كلها صفات للجلالة، الثاني أن الكل أبدال، لأن اضافتها غير محضة الثالث أن غافر وقابل نعتان، وشديد العقاب بدل انتهى.
ثم ذكر ما يدل على توحيده، وأنه الحقيق بالعبادة فقال: (لا إله إلا هو) استئناف أو حال لازمة، وقال أبو البقاء: صفة قال ابن عادل: وهذا على ظاهره فاسد، لأن الجملة لا تكون صفة للمعارف، ويمكن أن يريد أنه صفة لشديد العقاب لأنه لم يتعرف عنده بالإضافة (إليه) لا إلى غير (المصير) أي مصير من يقول لا إله إلا الله فيدخل الجنة ومصير من لا يقول لا إله إلا الله فيدخل النار، وذلك في اليوم الآخر، قال الكرخي حال من الجملة قبله.
أخرج أبو عبيدة وابن سعد ومحمد بن نصر وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من قرأ حم المؤمن إلى: إليه المصير وآية الكرسي حين يصبح حفظ بهما حتى يمسي، ومن قرأهما حين يمسي حفظ بهما حتى يصبح " (1)
ثم لما ذكر الله سبحانه أن القرآن كتاب الله أنزله ليهتدى به في الدين. ذكر أحوال من يجادل فيه لقصد إبطاله فقال:
_________
(1) ضعيف الجامع الصغير 5781/مشكاة المصابيح 2144.(12/159)
مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ (4) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ (5) وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (6)(12/160)
مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ (4)
(مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا) أي ما يخاصم في دفع آيات الله وتكذيبها بالطعن فيها إلا الكفار، والمراد الجدال بالباطل، القصد إلى دحض الحق، كما في قوله وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق، فأما الجدال لاستيضاح الحق وإيضاح الملتبس، وحل المشكل وتكذيبها، وكشف المعضل، واستنباط المعاني، ورد أهل الزيغ بها، ورفع اللبس، والبحث عن الراجح والمرجوح، وعن المحكم والمتشابه، ودفع ما يتعلق به المبطلون من متشابهات القرآن، وردهم بالجدال إلى المحكم، فهو من أعظم ما يتقرب به المتقربون، وأفضل ما يجاهد في سبيله المجاهدون، وبذلك أخذ الله الميثاق على الذين أوتوا الكتاب فقال:
(وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه) وقال: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ) وقال: (ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن).
فتلخص أن الجدال نوعان، جدال في تقرير الحق؛ وجدال في تقرير الباطل؛ أما الأول فهو حرفة الأنبياء عليهم السلام، ومنه قوله تعالى حكاية عن قوم نوح (يا نوح قد جادلتنا) وأما الثاني فهو مذموم، وهو المراد بهذه الآية، فجدالهم في آيات الله هو قولهم مرة هذا سحر، ومرة شعر، ومرة هو قول الكهنة، ومرة (أساطير الأولين) ومرة (إنما يعلمه بشر) وأشباه هذا قاله الكرخي. وأخرج عبد بن حميد وأبو داود عن أبي(12/160)
هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن جدالاً في القرآن كفر "، وعنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " المراء في القرآن كفر " (1)، أخرجه أبو داود وغيره.
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص قال " هاجرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً فسمع أصوات رجلين اختلفا في آية، فخرج يعرف في وجهه الغضب فقال إنما هلك من كان قبلكم باختلافهم في الكتاب " (2)، أخرجه مسلم، قال أبو العالية آيتان ما أشدهما على الذين يجادلون في القرآن هذه الآية، وقوله (وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد).
ولما حكم سبحانه على المجادلين في آيات الله بالكفر نهى رسوله صلى الله عليه وسلم عن أن يغتر بشيء من حظوظهم الدنيوية فقال:
(فلا يغررك تقلبهم في البلاد) أي فلا يغررك ما يفعلونه من التجارة النافقة في البلاد، كالشام واليمن، وما يحصلونه من المكاسب والأرباح، وما يجمعونه من الأموال سالمين غانمين، فإنهم معاقبون عما قليل، وإن أمهلوا لا يهملون، قال الزجاج: لا يغررك سلامتهم بعد كفرهم، فإن عاقبتهم الهلاك وهذا تسلية له صلى الله عليه وسلم ووعيد لهم، والفاء لترتيب النهي، أو وجوب الانتهاء على ما قبلها، من التسجيل عليهم بالكفر، الذي لا شيء أمقت منه عند الله، ولا أجلب لخسران الدنيا والآخرة قرأ الجمهور: لا يغررك بفك الإدغام وقرىء بالإدغام، وهو جواب لشرط مقدر، أي إذا تقرر عندك أن المجادلين في آيات الله كفار فلا يغررك الخ، ثم بين حال من كان قبلهم، وأن هؤلاء سلكوا سبيل أولئك في التكذيب فقال:
_________
(1) صحيح الجامع 6563 - المشكاة/236.
(2) صحيح الجامع 2370.(12/161)
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ (5)
(كذبت قبلهم) أي قبل أهل مكة (قوم نوح والأحزاب من(12/161)
بعدهم) أي وكذبت الأحزاب الذين تحزبوا على الرسل من بعد قوم نوح، كعاد وثمود وغيرهما (وهمت كل أمة) من تلك الأمم المكذبة (برسولهم) الذي أرسل إليهم (ليأخذوه) أي ليتمكنوا منه فيحبسوه ويعذبوه، ويصيبوا منه ما أرادوا. وقال قتادة والسدى ليقتلوه، والأخذ قد يرد بمعنى الإهلاك كقوله: (فأخذتهم فكيف كان نكير) والعرب تسمي الأسير الأخيذ والأخذ بمعنى الأسر.
(وجادلوا) أي خاصموا رسولهم (بالباطل) من القول (ليدحضوا) أي ليزيلوا (به الحق) ومنه مكان دحض أي مزلقة، ومزلة أقدام، والباطل داحض لأنه يزلق ويزول فلا يستقر، قال يحيى بن سلام: جادلوا الأنبياء بالشرك ليبطلوا به الإيمان (فأخذتهم) أي فأخذت هؤلاء المجادلين بالباطل (فكيف كان عقاب) الذي عاقبتهم به وحذف ياء المتكلم اجتزاء بالكسرة عنها وصلاً ووقفاً لأنها رأس آية.(12/162)
وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (6)
(وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ) أي وجبت وثبتت ولزمت، يقال: حق الشيء إذا لزم وثبت، والمعنى وكما حقت على الأمم المكذبة لرسلهم كلمة العذاب حقت كلمة ربك أي وعيده (على الذين كفروا) بك، وجادلوك بالباطل، وتحزبوا عليك، وهموا بما لم ينالوا، كما ينبىء عنه إضافة اسم الرب إلى ضميره صلى الله عليه وسلم فإن ذلك للإشعار بأن وجوب كلمة العذاب عليهم من إحكام تربيته التي من جملتها نصرته على أعدائه وتعذيبهم، قاله أبو السعود، وقرأ الجمهور كلمة بالتوحيد، وقرىء كلمات بالجمع وجملة.
(أنهم أصحاب النار) للتعليل أي لأجل أنهم مستحقون للنار، قال الأخفش: أي لأنهم، أو بأنهم وقال المحلي بدل من كلمة أي بدل الكل أو الاشتمال على إرادة اللفظ أو المعنى ثم ذكر أحوال حملة العرش ومن حوله فقال:(12/162)
الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (7) رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (8) وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ (10)(12/163)
الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (7)
(الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ) الموصول مبتدأ وخبره قوله: (يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا) والجملة مستأنفة مسوقة لتسلية رسول الله صلى الله عليه وسلم، ببيان أن هذا الجنس من الملائكة الذين هم أعلى طبقاتهم، وأولهم وجوداً يضمون إلى تسبيحهم لله، والإيمان به الاستغفار للذين آمنوا بالله ورسوله وصدقوا. وفيه دليل على أن الاشتراك في الإيمان يجب أن يكون أدعى شيء إلى النصيحة والشفقة، وإن تباعدت الأجناس وشطت الأماكن، والمراد بمن حول العرش هم الملائكة الذين يطوفون به مهللين مكبرين، وهم الكروبيون، وهو في محل رفع عطفاً على الذين الخ وهذا هو الظاهر، وقيل: يجوز أن يكون في محل نصب عطفاً على العرش والأول أولى.
والمعنى أن الملائكة الذين يحملون العرش وكذلك الملائكة الذين هم حول العرش ينزهون الله متلبسين بحمده على نعمه، ويؤمنون بالله ببصائرهم، ويستغفرون الله لعباده المؤمين به، وأخبر عنهم بالإيمان(12/163)
إظهاراً لفضله، وتعظيماً لأهله، ومساق الآية لذلك وهم اليوم أربعة، فإذا كان يوم القيامة أردفهم الله تعالى بأربعة أخر، كما قال تعالى:
(ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية) وهم أشرف الملائكة وأفضلهم، لقربهم من الله عز وجل، " وهم على صورة الأوعال، والعرش فوق ظهورهم "، ذكره القشيري وأخرجه الترمذي من حديث ابن عباس، واستفيد منه أن حمل الملائكة للعرش على ظهورها.
وقد وردت في بيان مسافة أظلافهم إلى ركبهم وأرجلهم وأقدامهم وما بين شحمة أذنهم إلى عاتقهم وألفاظ تسبيحهم أخبار وآثار، وكذا في صفة العرش وبعد ما بين السماء السابعة وبين العرش، والمعول عليه منها ما ورد في الصحيح ثم بين سبحانه كيفية استغفارهم للمؤمنين فقال حاكياً عنهم.
(ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلماً) أي وسع رحمتك كل شيء، وعلمك كل شيء، وتقديم الرحمة على العلم لأنها المقصودة بالذات ههنا، قاله البيضاوي وأبو السعود، لأن المقام مقام الاستغفار، وإلا فالعلم متقدم ذاتاً (فاغفر للذين تابوا) أي أوقعوا التوبة عن الذنوب، أو عن الشرك وإن كان عليهم ذنوب.
(واتبعوا سبيلك) وهو دين الإسلام (وقهم عذاب الجحيم) أي احفظهم منه واجعل بينهم وبينه وقاية بأن تلزمهم الاستقامة، وتتم نعمتك فإنك وعدت من كان كذلك بذلك، ولا يبدل القول لديك، وإن كان يجوز أن تفعل ما تشاء، وأن الخلق عبيدك.(12/164)
رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (8)
(ربنا وأدخلهم جنات عدن) أي إقامة، معطوف على قوله قهم ووسط الجملة الندائية لقصد المبالغة بالتكرير، ووصف جنات عدن بأنها هي (التي وعدتهم) إياها (و) أدخل (من صلح من آبائهم(12/164)
وأزواجهم وذرياتهم) المراد بالصلاح هنا الإيمان بالله والعمل بما شرعه الله، فمن فعل ذلك فقد صلح لدخول الجنة، ويجوز عطف ومن صلح على الضمير في وعدتهم، أي ووعدت من صلح والأولى عطفه على الضمير الأول في وأدخلهم، لأن الدعاء لهم بالإدخال عليه صريح وعلى الثاني ضمني.
والمعنى ساو بينهم ليتم سرورهم، قرأ الجمهور بفتح اللام من صلح، وذرياتهم على الجمع، وقرأ ابن أبي عبلة بضم اللام، وقرأ عيسى بن عمر على الافراد (إنك أنت العزيز الحكيم) أي الغالب القاهر الكثير الحكمة الباهرة.(12/165)
وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9)
(وقهم السيئات) يقال: وقاه يقيه وقاية أي حفظه والمعنى احفظهم عن العقوبات أو جزاء السيئات على تقدير مضاف محذوف، قال قتادة: وقهم ما يسوؤهم من العذاب، وهذا دعاء يتناول عذاب الجحيم، وعذاب موقف القيامة، والحساب والسؤال، وقوله (وقهم عذاب الجحيم) مقصور على إزالة عذاب النار فيكون تعميماً بعد تخصيص، أو الأول دعاء للأصول، والثاني للفروع، والضمير راجع للمعطوف وهو الآباء والأزواج والذرية، أفاده أبو السعود.
(وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ) أي يوم القيامة، والتنوين عوض عن جملة غير موجودة في الكلام، بل متصيدة من السياق، وتقديرها يوم إذ تدخل من تشاء الجنة ومن تشاء النار، والمسببة عن السيئات، وهو يوم القيامة، وقيل: التقدير يوم إذ تؤاخذ بها، وجواب من (فقد رحمته) من عذابك وأدخلته جنتك (وذلك) أي ما تقدم من إدخالهم الجنات، ووقايتهم السيئات.
(هو الفوز العظيم) أي الظفر الذي لا ظفر مثله، والنجاة التي لا(12/165)
تساويها نجاة، حيث وجدوا بأعمال منقطعة نعيماً لا ينقطع، وبأفعال حقيرة ملكاً لا تصل العقول إلى كنه جلالته. قال مطرف أنصح عباد الله للمؤمنين الملائكة وأغش الخلق لهم هم الشياطين.
ثم لما ذكر سبحانه أصحاب النار وأنهم حقت عليهم كلمة العذاب، ذكر أحوالهم بعد دخول النار فقال:(12/166)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ (10)
(إن الذين كفروا ينادون) قال الواحدي. قال المفسرون إنهم لما رأوا أعمالهم ونظروا في كتابهم، وأدخلوا النار، ومقتوا أنفسهم بسوء صنيعهم، ناداهم حين عاينوا عذاب الله مناد: (لمقت الله) إياكم في الدنيا (أكبر من مقتكم أنفسكم) اليوم، أو من مقت بعضكم بعضاً اليوم قال الأخفش: هذه اللام هي لام الابتداء وقعت بعد ينادون، لأن معناه يقال لهم، والنداء قول، قال الكلبي: يقول كل إنسان من أهل النار لنفسه مقتك يا نفسي، فتقول الملائكة لهم وهم في النار: لمقت الله إياكم إذ أنتم في الدنيا أشد من مقتكم أنفسكم اليوم. وقال الحسن يعطون كتابهم فإذا نظروا إلى سيئاتهم مقتوا أنفسهم فينادون لمقت الله إياكم في الدنيا.
(إذ تدعون إلى الإيمان) فتكفرون أكبر من مقتكم إذ عاينتم النار والظرف منصوب بمقدر محذوف دل عليه المذكور، أي مقته تعالى إياكم وقت دعائكم، وقيل هو اذكروا، وقيل بالمقت المذكور أولاً، والمقت أشد البغض، والمراد به هنا لازمه وهو الغضب عليهم، وتعذيبهم، قاله أبو السعود وقال الكرخي المراد منه هنا أشد الإنكار والزجر (فتكفرون) أي فتصرون على الكفر اتباعاً لأنفكسم الأمارة، ومسارعة إلى هواها، واقتداء بأخلائكم المضلين، وتقليداً لأسلافكم المتقدمين، واستحباباً لآرائهم. ثم أخبر سبحانه عما يقولونه في النار فقال:(12/166)
قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ (11) ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ (12) هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ (13) فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (14)(12/167)
قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ (11)
(قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ) نعتان لمصدر محذوف، أي أمتنا إماتتين اثنتين، وأحيينا إحياءتين اثنتين، والمراد بالإماتتين أنهم كانوا نطفاً لا حياة لها في أصلاب آبائهم، ثم أماتهم بعد أن صاروا أحياء في الدنيا والمراد بالإحياءتين أنه أحياهم الحياة الأولى في الدنيا، ثم أحياهم عند البعث، ومثل هذه الآية قوله:
(وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) قاله ابن مسعود، أي كانوا أمواتاً في صلب آبائهم، ثم أخرجهم فأحياهم، ثم أماتهم، ثم يحييهم بعد الموت. وقيل: معنى الآية أنهم أميتوا في الدنيا عند انقضاء آجالهم ثم أحياهم الله في قبورهم للسؤال، ثم أميتوا ثم أحياهم الله في الآخرة.
ووجه هذا القول أن الموت سلب الحياة، ولا حياة للنطفة، ووجه القول الأول أن الموت قد يطلق على عادم الحياة من الأصل، وقد ذهب إلى التفسير الأول جمهور السلف، وقال ابن زيد: المراد بالآية أنه خلقهم في ظهر آدم واستخرجهم، وأحياهم، وأخذ عليهم الميثاق، ثم أماتهم، ثم أحياهم في الدنيا، ثم أماتهم.
وقال ابن عباس: قال كنتم تراباً قبل أن يخلقكم، فهذه ميتة، ثم(12/167)
أحياكم فخلقكم فهذه حياة ثم يميتكم فترجعون إلى القبور فهذه ميتة أخرى ثم يبعثكم يوم القيامة فهذه حياة أخرى، فهما موتتان وحياتان، كقوله (كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتاً فأحياكم) الآية.
ثم ذكر سبحانه اعترافهم بعد أن صاروا في النار بما كذبوا به في الدنيا فقال حاكياً عنهم: (فاعترفنا بذنوبنا) التي أسلفناها في الدنيا، من تكذيب الرسل، والإشراك بالله، وترك توحيده، فاعترفوا حيث لا ينفعهم الاعتراف وندموا حيث لا ينفعهم الندم، والمعنى لما رأوا الإماتة والإحياء قد تكررا عليهم، علموا أن الله قادر على الإعادة كما هو قادر على الإنشاء، فاعترفوا، وقد جعلوا اعترافهم هذا مقدمة لقولهم: (فهل إلى خروج) لنا عن النار ورجوع لنا إلى الدنيا لنطيع ربنا.
(من سبيل) أي من طريق لنتخلص منها أم اليأس واقع دون ذلك؟ فلا خروج ولا سبيل إليه وهذا كلام من غلب عليه اليأس، وإنما يقولون ذلك تحيراً، ولهذا جاء الجواب على حسب ذلك، ومثل هذا قولهم الذي حكاه الله عنهم (فهل إلى مرد من سبيل) وقوله (فأرجعنا نعمل صالحاً) وقوله (يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا) الآية؟ ثم أجاب الله سبحانه عن قولهم هذا بقوله:(12/168)
ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ (12)
(ذلكم) مرفوع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي الأمر ذلكم، أو مبتدأ خبره محذوف، أي ذلكم العذاب الذي أنتم فيه (بأنه) أي بسبب أنه (إذا دعى الله) في الدنيا (وحده) دون غيره (كفرتم به) وتركتم توحيده (وإن يشرك به) غيره من الأصنام أو غيرها (تؤمنوا) بالإشراك وتصدقوا به، وتجيبوا الداعي إليه فبين سبحانه لهم السبب الباعث على عدم إجابتهم إلى الخروج من النار، وهو ما كانوا فيه من إشراك غيره به في العبادة التي رأسها الدعاء، وترك توحيد الله.
(فالحكم لله) وحده دون غيره وهو الذي حكم عليكم بالخلود في(12/168)
النار، وعدم الخروج منها فتعذيبه لكم عدل نافذ (العلي) المتعالي سلطانه عن أن يكون له مماثل في ذاته وصفاته فلا يرد قضاؤه (الكبير) الذي كبر عن أن يكون له مثل أو صاحبة أو ولد أو شريك فلا يحد جزاؤه، وقيل: كأن الحرورية أخذوا قولهم: لا حكم إلا لله من هذا.
وقال قتادة: لما خرج أهل حروراء قال علي: من هؤلاء؟ قيل: المحكمون أي يقولون: لا حكم إلا لله، فقال علي كلمة حق أريد بها الباطل.(12/169)
هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ (13)
(وهو الذي يريكم آياته) أي دلائل توحيده، وعلامات قدرته، من الريح والسحاب والرعد والبرق ونحوها (وينزل لكم من السماء رزقاً) يعني مطراً فإنه سبب الأرزاق، جمع سبحانه بين إظهار الآيات، وإنزال الأرزاق لأن بإظهار الآيات قوام الأديان، وبالأرزاق قوام الأبدان، وهذه الآيات هي التكوينية التي جعلها الله سبحانه في سماواته وأرضه، وما فيهما وما بينهما قرأ الجمهور: ينزل بالتشديد، وقرىء بالتخفيف، وصيغة المضارعة في الفعلين للدلالة على تجدد الإرادة والتنزيل واستمرارهما.
(وما يتذكر إلا من ينيب) أي ما يتعظ بتلك الآيات الباهرة فيستدل بها على التوحيد وصدق الوعد والوعيد إلا من يرجع إلى طاعة الله بما يستفيده من النظر في آيات الله ويتوب من الشرك، ويرجع إليه في جميع أموره، فإن المعاند لا يتذكر ولا يتعظ، ثم لما ذكر سبحانه ما نصبه من الأدلة على التوحيد أمر عباده بدعائه وإخلاص الدين له فقال:(12/169)
فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (14)
(فادعوا الله مخلصين له الدين) أي إذا كان الأمر كما ذكر من اختصاص التذكير بمن ينيب فادعوا الله وحده مخلصين له العبادة التي أمركم بها (ولو كره الكافرون) ذلك فلا تلتفتوا إلى كراهتهم، ودعوهم يموتوا بغيظهم، ويهلكوا بحسرتهم.(12/169)
رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ (15) يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (16) الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (17) وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ (18)(12/170)
رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ (15)
(رفيع الدرجات) مرفوع على أنه خبر آخر عن المبتدأ المقدم، أي هو الذي يريكم آياته وهو رفيع الدرجات، وكذلك (ذو العرش) خبر ثالث ويجوز أن يكون رفيع مبتدأ، وخبره ذو العرش، ويجوز أن يكونا خبرين لمبتدأ محذوف ورفيع صفة مشبهة، والمعنى رفيع الصفات عظيمها أو رفيع درجات ملائكته، أي معارجهم، أو رفيع درجات أنبيائه وأوليائه في الجنة، وقال الكلبي وسعيد بن جبير: رفيع السموات السبع، وعلى هذا الوجه يكون رفيع بمعنى رافع، وقيل: هو المرتفع بعظمته في صفات جلاله وكماله ووحدانيته، المستغني عن كل ما سواه وكل الخلق فقراء إليه ومعنى ذو العرش مالكه وخالقه، والمتصرف فيه، خلقه مطافاً للملائكة، وجعله فوق سمواته وذلك يقتضي علو شأنه وعظم سلطانه، ومن كان كذلك فهو الذي تحق له العبادة، ويجب له الإخلاص.
وجملة (يلقي الروح) في محل رفع على أنها خبر آخر للمبتدأ المتقدم أو للمقدر أي ينزل الوحي وسمي الوحي روحاً لأن الناس يحيون به من موت الكفر، كما تحيا الأبدان بالأرواح، ومثل هذه الآية قوله تعالى (وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا) وقيل الروح جبريل كما في(12/170)
قوله (نزل به الروح الأمين على قلبك) وقوله (نزله روح القدس من ربك بالحق)، وقوله (من أمره) متعلق بيلقي، ومن لابتداء الغاية ويجوز أن يكون متعلقاً بمحذوف على أنه حال من الروح أو المعنى من أجل أمره، أو بأمره أو من قضائه.
(على من يشاء من عباده) وهم الأنبياء (لينذر يوم التلاق) قرأ الجمهور مبنياً للفاعل ونصب اليوم والفاعل هو الله سبحانه أو الرسول أو من يشاء والمنذر به محذوف أي لينذر العذاب يوم التلاق، وقرىء لتنذر بالفوقية على أن الفاعل ضمير المخاطب وهو الرسول، أو ضمير يرجع إلى الروح لأنه يجوز تأنيثها، وقرىء على البناء للمفعول، ورفع يوم على النيابة، والتلاق بحذف الياء وإثباتها وقفاً ووصلاً، وتوجيه ذلك ذكره الفاسي في شرح الشاطبية فليراجع.
والمعنى يوم يلتقي أهل السموات والأرض في المحشر، وبه قال قتادة، وقال أبو العالية ومقاتل: يوم يلتقي العابدون والمعبدون، وقيل الظالم والمظلوم، وقيل يلتقي الخلق والخالق، وقيل الأولون والآخرون، وقيل جزاء الأعمال والعاملون.
قال ابن عباس: يوم التلاق يوم القيامة يلتقي فيه آدم وآخر ولده، وعنه قال: هو يوم الآزفة ونحو هذا من أسماء يوم القيامة عظمه الله وحذر عباده منه.(12/171)
يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (16)
(يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ) أي خارجون من قبورهم لا يسترهم شيء من جبل أو أكمة أو بناء، لكون الأرض يومئذ قاعاً صفصفا، ولا ثياب عليهم وإنما هم عراة مكشوفون، كما في الحديث: " يحشرون عراة حفاة غرلاً "، وهو بدل من يوم التلاق، بدل كل من كل، ويوم ظرف مستقبل كإذا مضاف إلى الجملة الاسمية على طريقة الأخفش، وحركة يوم حركة إعراب على المشهور وقيل حركة بناء كما ذهب إليه الكوفيون، ويكتب(12/171)
هنا وفي الذاريات في قوله تعالى " يوم هم على النار يفتنون " منفصلاً وهو الأصل أفاده السمين، ونحوه في شرح الجزرية لشيخ الإسلام، لأن (هم) مرفوع بالابتداء فالمناسب القطع، وما عداهما نحو " من يومهم الذي يوعدون "، " حتى يلاقوا يومهم "، موصول لأن هم فيهما ضمير مبني في محل جر، فالمناسب الوصل.
وجملة: (لا يخفى على الله منهم شيء) مستأنفة مبينة لبروزهم، أي لا يخفى عليه سبحانه شيء من ذواتهم وأحوالهم وأعمالهم التي عملوها في الدنيا أو حال من ضمير بارزون، أو خبر ثان للمبتدأ وقوله (لمن) خبر مقدم، وقوله: (الملك اليوم) مبتدأ مؤخر، والجملة مستأنفة جواب سؤال مقدر، كأنه قيل فماذا يقال عند بروز الخلائق في ذلك اليوم؟ فقيل يقال لمن الملك اليوم.
قال المفسرون إذا هلك كل من في السموات والأرض، فيقول الرب تبارك وتعالى هذا القول، فلا يجيبه أحد فيجيب تعالى نفسه فيقول: (لله الواحد القهار) خبر مبتدأ محذوف قال الحسن: هو السائل وهو المجيب، حين لا أحد يجيبه فيجيب نفسه. وقيل: إنه سبحانه يأمر منادياً بذلك فيقول أهل المحشر مؤمنهم وكافرهم (لله الواحد القهار).
قال النحاس: وهذا أصح ما قيل فيه وقيل: الأول ظاهر جداً، وقيل إنه يجيب المنادي بهذا الجواب أهل الجنة دون أهل النار إفاده الزمخشري. وقيل: هو حكاية لما ينطق به لسان الحال في ذلك اليوم لانقطاع دعاوى المبطلين، كما في قوله: (وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (17) ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (18) يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ) وقال القرطبي: وذلك عند فناء الخلق، وقيل: بقوله تعالى بين النفختين، ويجيب نفسه بعد أربعين سنة.(12/172)
الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (17)
(اليوم تجزى كل نفس بما كسبت) هذا من تمام الجواب على(12/172)
القول بأن المجيب هو الله سبحانه، وأما على القول بأن المجيب هم العباد كلهم، أو بعضهم، فهو مستأنف لبيان ما يقوله الله سبحانه بعد جوابهم، أي اليوم تجزى كل نفس بما عملت في الدنيا من خير وشر (لا ظلم اليوم) على أحد منهم بنقص من ثوابه، أو بزيادة في عقابه.
(إن الله سريع الحساب) أي سريع حسابه، لأنه سبحانه لا يحتاج إلى تفكر في ذلك كما يحتاجه غيره لإحاطة علمه بكل شيء (فلا يعزب عنه مثقال ذرة) قيل: يحاسب جميع الخلق في قدر نصف نهار من أيام الدنيا لأنه تعالى لا يشغله حساب عن حساب، يحاسب الخلق في وقت واحد، الحديث ورد بذلك.
وأخرج عبد بن حميد عن ابن مسعود قال: " يجمع الله الخلق كلهم يوم القيامة بصعيد واحد بأرض بيضاء، كأنها سبيكة فضة لم يعص الله فيها قط، فأول ما يتكلم أن ينادي مناد: لمن الملك اليوم إلى قوله: " الحساب " أخرجه عبد بن حميد، قال: ما يبدأ به من الخصومات الدماء، وقال ابن عباس ينادي مناد بين يدي الساعة: يا أيها الناس أتتكم الساعة فيسمعها الأحياء والأموات وينزل الله إلى السماء الدنيا فيقول: لمن الملك اليوم لله الواحد القهار الآية.
وأخرج ابن أبي الدنيا في البعث والديلمي عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله ثم أمر الله سبحانه رسول بإنذار عباده فقال:(12/173)
وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ (18)
(وأنذرهم يوم الآزفة) أي يوم القيامة، سميت بذلك لقربها، يقال: أزف فلان أو الرحيل أي قرب، يأزف أزفاً من باب تعب، وأزوفاً دنا وقرب، ومنه قوله تعالى (أزفت الآزفة) أي قربت الساعة ودنت القيامة، وقيل: إن يوم الآزفة هو يوم حضور الموت، والأول أولى. قال(12/173)
الزجاج: وقيل لها آزفة لأنها قريبة، وإن استبعد الناس أمرها، وما هو كائن فهو قريب.
(إذ القلوب لدى الحناجر) وذلك أنها تزول عن مواضعها، وترتفع عن أماكنها من الخوف، حتى تصير إلى الحنجرة وتلصق بحلوقهم، فلا تعود فيستريحوا بالنفس ولا تخرج فيستريحوا بالموت كقوله (وبلغت القلوب الحناجر) وهي جمع حنجور كحلقوم وزناً ومعنى، أو جمع حنجرة وهي الحلقوم و (كاظمين) بمعنى مغمومين مكروبين ممتلئين غماً، قال الزجاج: المعنى إذ قلوب الناس لدى الحناجر في حال كظمهم، قال قتادة وقعت قلوبهم في الحناجر من المخافة فهي لا تخرج ولا تعود في أمكنتها.
وقيل: هو إخبار عن نهاية الجزع، وإنما قال: كاظمين باعتبار أهل القلوب، لأن المعنى إذ قلوب الناس لدى حناجرهم، فيكون حالاً منهم. وقيل: حالاً من القلوب، وجمع الحال منها جمع العقلاء، لأنه أسند إليها ما يسند إلى العقلاء، فجمعت جمعه.
ثم بين سبحانه أنه لا ينفع الكافرين في ذلك اليوم أحد فقال: (ما للظالمين من حميم) أي قريب ومحب ينفعهم وحميمك قريبك الذي تهتم لأمره (ولا شفيع يطاع) في شفاعته لهم، قال الكرخي: حقيقة الإطاعة لا تتأتى هنا لأن المطاع يكون فوق المطيع رتبة، فمقتضاه أن الشافع يكون فوق المشفوع عنده، وهذا محال هنا لأن الله تعالى لا شيء فوقه، فحينئذ هو مجاز، ومعناه ولا شفيع يشفع، أي يؤذن له في الشفاعة، أو تقبل شفاعته. وقال المحلي: لا مفهوم للوصف إذ لا شفيع لهم أصلاً، أي لا مطاع ولا غيره ثم وصف سبحانه شمول علمه بكل شيء وإن كان في غاية الخفاء فقال:(12/174)
يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ (19) وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (20) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ (21) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (22)(12/175)
يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ (19)
(يعلم خائنة الأعين) وهي مسارقة النظر إلى ما لا يحل له النظر إليه، والخائنة مصدر كالعافية والكاذبة، أي يعلم خيانة الأعين، والجملة خبر آخر لقوله: هو الذي يريكم، أو خبر رابع عن المبتدأ الذي أخبر برفيع وما بعده عنه، والأول هو الظاهر، وقيل غير ذلك، قال المؤرج: فيه تقديم وتأخير أي يعلم الأعين الخائنة. وقيل: الإضافة على معنى من، أي: الخائنة من الأعين، قال قتادة: خائنة الأعين الهمز بالعين فيما لا يحب الله، وقال الضحاك: هو قول الإنسان: ما رأيت، وقد رأى، ورأيت، وما رأى. وقال السدي: إنه الرمز بالعين، وقال سفيان: هي النظرة بعد النظرة، وبه قال الفراء والأول أولى، وبه قال مجاهد قال ابن عباس في الآية: " الرجل يكون في القوم فتمر بهم المرأة فيريهم أنه يغض بصره عنها، وإذا غضوا نظر إليها، وإذا نظروا غض بصره عنها، وقد اطلع الله من قلبه أنه ود أن ينظر إلى عورتها " أخرجه سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم.
وأخرج الطبراني في الأوسط وأبو نعيم في الحلية، والبيهقي في الشعب عنه في الآية قال: " إذا نظر إليها يريد الخيانة أم لا؟ وما تخفي(12/175)
الصدور، قال: إذا قدر عليها أيزني لها أم لا؟ ألا أخبركم بالتي تليها؟ والله يقضي بالحق، قادر على أن يجزي بالحسنة الحسنة، وبالسيئة السيئة.
وأخرج أبو داود والنسائي وابن مردويه عن سعد قال لما كان يوم فتح مكة أمن النبي صلى الله عليه وسلم الناس إلا أربعة نفر وامرأتين وقال: اقتلوهم، وإن وجدتموهم متعلقين بأستار الكعبة منهم عبد الله بن سعد بن أبي سرح، فاختبأ عند عثمان بن عفان، فلما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس إلى البيعة جاء به فقال: " يا رسول الله بايع عبد الله، فرفع رأسه فنظر إليه ثلاثاً كل ذلك يأبى بيعته ثم بايعه، ثم أقبل على أصحابه فقال أما كان فيكم رجل رشيد يقوم إلى هذا حين رآني كففت يدي عن بيعته فيقتله، فقالوا ما يدرينا يا رسول الله ما في نفسك؟ هلا أومأت إلينا بعينك فقال إنه لا ينبغي لنبي أن تكون له خائنة الأعين ".
(وما تخفي الصدور) أي القلوب من الضمائر، وتستره وتكنه، وتضمره عن معاصي الله أو من أمانة وخيانة أو النظرة الأولى، أو هل يزني بها لو خلا بها أو لا؟(12/176)
وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (20)
(والله يقضي بالحق) فيجازي كل أحد بما يستحقه من خير وشر.
(والذين يدعون من دونه) أي يعبدونهم من دون الله، قرأ الجمهور بالتحتية يعني الظالمين، وقرىء بالفوقية على الخطاب لهم، وهما سبعيتان (لا يقضون بشيء) لأنهم لا يعلمون شيئاًً ولا يقدرون على شيء. فكيف يكونون شركاء لله، وهذا تهكم بهم لأن ما لا يوصف بالقدرة كالجماد لا يقال فيه يقضي أو لا يقضي.
(إن الله هو السميع البصير) فلا يخفى عليه من المسموعات والمبصرات خافية؛ تقرير لقوله: (يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور) ولقضائه بالحق، ووعيد لهم بأنه يسمع ما يقولون، ويبصر ما يعملون، وأنه يعاقبهم عليه. وتعريض بما يدعون من دونه وأنها لا تسمع(12/176)
ولا تبصر.
ولما خوفهم سبحانه بأحوال الآخرة أردفه ببيان تخويفهم بأحوال الدنيا فقال:(12/177)
أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ (21)
(أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين كانوا من قبلهم) لأن العاقل من اعتبر بحال غيره، أي اغفلوا ولم يسيروا في الأرض فيعتبروا بمن قبلهم من الأمم المكذبة لرسلهم، كعاد وثمود وأضرابهم، أو العاقبة بمعنى الصفة أو بمعنى المآل أرشدهم الله سبحانه إلى الاعتبار بغيرهم، فإن الذين مضوا من الكفار (كانوا هم أشد منهم قوة) أي من هؤلاء الحاضرين من الكفار، وهذا بيان للتفاوت بين حال هؤلاء وأولئك، وفي قراءة منكم أي التفاتاً من الغيبة إلى الخطاب، وقع ضمير الفصل هنا بين معرفة ونكرة، مع أنه لا يقع إلا بين معرفتين لكون النكرة هنا مشابهة للمعرفة من حيث امتناع دخول أل عليها، لأن افعل التفضيل المقرون بمن لا تدخل عليه أل.
(وآثاراً في الأرض) بما عمروا فيها من الحصون المتينة، والمصانع الحصينة، والقصور المشيدة وبما لهم من العدد والعدة (فأخذهم الله بذنوبهم) أي عاقبهم، وأهلكهم بسبب ذنوبهم، وتكذيبهم رسلهم (وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ) أي دافع يدفع عنهم العذاب ويقيهم، وقد مر تفسير هذه الآية في مواضع.(12/177)
ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (22)
(ذلك) أي ما تقدم من الأخذ (بأنهم) أي بسبب أنهم (كانت تأتيهم رسلهم بالبينات) أي بالحجج الواضحة والمعجزات الظاهرة (فكفروا) بما جاؤوهم به (فأخذهم الله إنه قوي) يفعل كل ما يريده لا يعجزه شيء (شديد العقاب) لمن عصاه ولم يرجع إليه، ثم ذكر سبحانه قصة موسى ليعتبروا فقال:(12/177)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (23) إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (24) فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (25) وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ (26) وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ (27)(12/178)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (23)
(ولقد أرسلنا موسى بآياتنا) أي متلبساً بها وهي التسع التي تقدم ذكرها في غير موضع (وسلطان مبين) أي حجة بينة واضحة وهي التوراة، وقيل المراد به إما الآيات نفسها والعطف لتغاير العنوانين، وإما بعضها أي المشهورة منها كاليد والعصا. وأفردت بالذكر مع اندراجها تحت الآيات اعتناء بها.(12/178)
إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (24)
(إلى فرعون وهامان وقارون) خصهم بالذكر لأن مدار التدبير في عداوة موسى كان عليهم لأنهم رؤساء المكذبين بموسى، ففرعون الملك وهامان الوزير، وقارون صاحب الأموال والكنوز (فقالوا ساحر كذاب) فيما جاءهم به، والقائل فرعون وقومه، وأما قارون فلم يقل ذلك ففي الكلام تغليب، وكذا يقال في قوله قالوا اقتلوا، وقال الخطيب كان هذا قول قارون وإن لم يقل بالفعل. فإنه طبع على الكفر ففعله آخراً.(12/178)
فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (25)
(فلما جاءهم) موسى (بالحق من عندنا) وهي معجزاته الظاهرة(12/178)
الواضحة (قالوا اقتلوا أبناء الذين آمنوا معه) قال قتادة هذا قتل غير القتل الأول لأن فرعون قد كان أمسك وكف عن قتل الولدان وقت ولادة موسى فلما بعث الله موسى وأحس بأنه قد وقع ما وقع، أعاد القتل على بني إسرائيل غيظاً وحنقاً فكان يأمر بقتل المذكور وترك الإناث، ومثل هذا قول فرعون.
(سنقتل أبناءهم ونستحيي نساءهم) والمعنى أعيدوا عليهم ما كنتم تفعلونه أولاً، زعماً منه أنه يصدهم بذلك عن مظاهرته، ظناً منهم أنه المولود الذي حكم المنجمون والكهنة بذهاب ملكهم على يده، فشغلهم الله عن ذلك بما أنزل عليهم من أنواع العذاب كالضفادع والقمل والدم والطوفان إلى أن خرجوا من مصر فأغرقهم الله تعالى.
(واستحيوا) أي استبقوا (نساءهم) للخدمة (وما كيد الكافرين إلا في ضلال) أي في خسران وضياع ووبال، لأنه يذهب باطلاً ولا يغني عنهم شيئاًً، ويحييق بهم ما يريده الله عز وجل وإن الناس لا يمتنعون من الإيمان وإن فعل بهم مثل هذا، بل ينفذ عليهم لا محالة القدر المقدور، والقضاء المحتم واللام إما للعهد والإظهار في موضع الإضمار لذمهم بالكفر والإشعار بعلة الحكم، أو للجنس وهم داخلون فيه دخولاً أولياً، والجملة اعتراض جيء بها في تضاعيف ما حكي عنهم من الأباطيل، للمسارعة إلى بيان بطلان ما أظهروه، واضمحلالاً بالمرة.(12/179)
وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ (26)
(وقال فرعون ذروني أقتل موسى) أي اتركوني أن أقتله، والظاهر من حال اللعين أنه قد استيقن أنه نبي وأن ما جاء به حق، ولكن كان يخاف إن هم بقتله أن يعاجل بالهلاك، وإنما قال ذلك تمويهاً وإيهاماً(12/179)
أنهم هم المانعون له من قتله، ولولاهم لقتله، مع أنه ما منعه إلا ما في نفسه من الفزع الهائل.
وقوله (وليدع ربه) تجلد منه، وإظهار لعدم المبالاة ولكنه أخوف الناس منه، وفي منعه من قتله وجوه ذكرها الخطيب، أي ليدع الذي يزعم أنه أرسله إلينا، فليمنعه من القتل إن قدر على ذلك، أي لا يهولنكم ذلك فإنه لا رب له حقيقة، بل أنا ربكم الأعلى، ثم ذكر العلة التي لأجلها أراد أن يقتله فقال:
(إني أخاف) إن لم أقتله (أن يبدل دينكم) الذي أنتم عليه من عبادة غير الله ويدخلكم في دينه الذي هو عبادة الله وحده (أو أن يظهر في الأرض الفساد) أي يوقع بين الناس الخلاف والفتنة، جعل اللعين ظهور ما دعا إليه موسى وانتشاره في الأرض واهتداء الناس إليه فساد، وليس الفساد إلا ما هو عليه هو ومن تابعه، والمعنى أنه لا بد من وقوع أحد الأمرين أو وقوع الأمرين جميعاً.(12/180)
وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ (27)
(وقال موسى إني عذت بربي وربكم من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب) لما هدده فرعون بالقتل لم يأت في دفع شدة اللعين إلا بأن استعاذ بالله عز وجل من كل متعظم عن الإيمان بالله، غير مؤمن بالبعث والنشور، واعتمد عليه فلا جرم صانه الله من كل بلية ويدخل فرعون في هذا العموم دخولاً أولياً، ولم يسم فرعون بل ذكره بوصف يعمه وغيره من الجبابرة لتعميم الاستعاذة، والإشعار بعلة القساوة والجرأة على الله تعالى.(12/180)
وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (28) يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ (29) وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ (30) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ (31)(12/181)
وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (28)
(وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ) قال الحسن ومقاتل والسدي: كان قبطياً وهو ابن عم فرعون، وهو الذي نجا مع موسى، وهو المراد بقوله (وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى) وقيل: كان من بني إسرائيل ولم يكن من آل فرعون وهو خلاف ما في الآية وقد تمحل لذلك بأن في الآية تقديماً وتأخيراً، والتقدير وقال رجل من بني إسرائيل يكتم إيمانه من آل فرعون، قال القشيري: ومن جعله إسرائيلياً ففيه بعد لأنه يقال: كتمه أمر كذا ولا يقال كتم منه كما قال سبحانه:
(ولا يكتمون الله حديثاً) وأيضاًً ما كان فرعون يحتمل من بني إسرائيل مثل هذا القول وقد اختلف في اسم هذا الرجل فقيل: حبيب، وقيل: شمعون، وهو الأصح كما في مبهمات القرآن وقيل: حزقيل وبه قال ابن عباس وأكثر العلماء، وقال وهب كان اسمه جبريل، وقيل غير ذلك قال ابن عباس: لم يكن في آل فرعون مؤمن غيره وغير امرأة فرعون، وغير المؤمن الذي أنذر موسى، الذي قال: (إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك) قال ابن المنذر: أخبرت أنه حزقيل، وعن أبي(12/181)
إسحق قال: اسمه حبيب، قرأ الجمهور رجل بضم الجيم وقرىء بسكونها وهي لغة تميم ونجد، والأولى هي الفصيحة، وقرىء بكسر الجيم.
(أتقتلون رجلاً) الاستفهام للإنكار (أن يقول) أي لأن يقول أو كراهة أن يقول، وقال الزمخشري: أي وقت أن يقول، ورد ذلك لنص النحاة على خلافه، وقال الإمام تاج الدين ابن مكتوم: أجاز ابن جني ذلك والأول أولى (ربي الله) وهو ربكم أيضاًً لا ربه وحده، وهو إشارة إلى التوحيد، وهذا إنكار منه عظيم، كأنه قيل: أترتكبون الفعلة الشنعاء التي هي قتل نفس محرمة من غير روية وتأمل في أمره واطلاع على سبب يوجب قتله؟ وما لكم علة في ارتكابه إلا كلمة الحق وهو قوله ربي الله.
(وقد جاءكم بالبينات من ربكم) أي والحال أن قد جاءكم بالمعجزات الواضحات. والدلالات الظاهرات على نبوته، وصحة رسالته، والمعنى أنه لم يحضر لتصحيح قوله ببينة واحدة ولكن ببينات من عند من نسبت إليه الربوبية، وهو استدراج لهم إلى الاعتراف به.
أخرج البخاري وغيره من طريق عروة قال: قيل لعبد الله بن عمرو ابن العاص " أخبرنا بأشد شيء صنعه المشركون برسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بفناء الكعبة، إذ أقبل عقبة بن أبي معيط فأخذ بمنكب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولوى ثوبه في عنقه، فخنقه خناقاً شديداً فأقبل أبو بكر فأخذ بمنكبيه ودفعه عن النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال (أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ)؟
وأخرج البزار وأبو نعيم في فضائل الصحابة عن علي ابن أبي طالب أنه قال: يا أيها الناس أخبروني من أشجع الناس؟ قالوا: أنت، قال: أما إني ما بارزت أحداً إلا انتصفت منه ولكن أخبروني عن أشجع الناس؟ قالوا: لا نعلم فمن؟ قال: أبو بكر، رأيت رسول الله صلى الله عليه(12/182)
وسلم وأخذته قريش فهذا يجنبه وهذا يتلتله وهم يقولون: أنت الذي جعلت الآلهة إلهاً واحداً قال فوالله ما دنا منا أحد إلا أبو بكر يضرب هذا، يجىء هذا ويتلتل هذا، وهو يقول ويلكم أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله؟ ثم دفع بردة كانت عليه فبكى حتى اخضلت لحيته، ثم قال أنشدكم أمؤمن آل فرعون خير؟ أم أبو بكر؟ فسكت القوم فقال ألا تجيبون؟ فوالله لساعة من أبي بكر خير من مثل مؤمن من آل فرعون ذاك رجل يكتم إيمانه وهذا رجل أعلن إيمانه ".
ثم تلطف الرجل المؤمن لهم في الدفع عن موسى واحتج عليهم بطريق التقسيم فقال:
(وإن يك كاذباً فعليه كذبه) أي ضرر كذبه (وإن يك صادقاً يصبكم بعض الذي يعدكم) هذا كلام صادر عن غاية الإنصاف، وعدم التعصب ولذلك قدم من شقي الترديد كونه كاذباً، وإنما خوفهم به اقتصاراً على ما هو أظهر احتمالاً عندهم، ولم يكن قوله هذا لشك منه فإنه كان مؤمناً كما وصفه الله، ولا يشك المؤمن.
والمعنى إذا لم يصبكم كله فلا أقل من أن يصيبكم بعضه، لا سيما إن تعرضتم له بسوء. وقال أبو عبيدة وأبو الهيثم. بعض هنا بمعنى كل، أي يصيبكم كل الذي يعدكم، والبعض قد يستعمل في لغة العرب بمعنى الكل، قال النسفي: وتفسير البعض بالكل مزيف انتهى نعم ولا ضرورة تلجىء إلى حمل ما في الآية على ذلك لأنه أراد التنزل معهم وإيهامهم أنه لا يعتقد صحة نبوته كما يفيده قوله (يكتم إيمانه).
قال أهل المعاني وهذا على المظاهرة في الحجاج، كأنه قال لهم: أقل ما يكون في صدقه أن يصيبكم بعض الذي يعدكم، وفي بعض ذلك هلاككم، فكأن الحاصل بالبعض هو الحاصل بالكل. وقال الليث: بعض ههنا صلة يريد بصيبكم الذي يعدكم، وقيل يصيبكم هذا العذاب(12/183)
الذي يقوله في الدنيا، وهو بعض ما يتوعدكم به من العذاب. وقيل إنه وعدهم بالثواب والعقاب فإذا كفروا أصابهم العذاب، وهو بعض ما وعدهم به وحذفت النون من يكن في الموضعين تخفيفاً لكثرة الاستعمال كما قال سيبويه.
(إن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب) هذا من تمام كلام الرجل المؤمن، وهو احتجاج آخر ذو وجهين، أحدهما أنه لو كان موسى مسرفاً كذاباً لما هداه الله إلى البينات، ولا أيده بالمعجزات، وثانيهما أنه إذا كان كذلك خذله الله وأهلكه، فلا حاجة لكم إلى قتله، والمسرف المقيم على المعاصي المستكثر منها، والكذاب المفتري.(12/184)
يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ (29)
(يا قوم لكم الملك اليوم) ذكرهم ذلك الرجل المؤمن ما هم فيه من الملك ليشكروا الله ولا يتمادوا في كفرهم، ومعنى (ظاهرين) الظهور على الناس، والغلبة لهم، والاستعلاء عليهم (في الأرض) أي أرض مصر.
(فمن ينصرنا من بأس الله إن جاءنا) أي من يمنعنا من عذابه ويحول بيننا وبينه عند مجيئه، وفي هذا تحذير منه لهم من نقمة الله بهم، وإنزال عذابه عليهم، وإنما نسب ما يسرهم من الملك والظهور في الأرض لهم خاصة، ونظم نفسه في سلكهم فيما يهمهم من مجيء بأس الله تطييباً لقلوبهم، وإيذاناً بأنه مناصح ساع في تحصيل ما يجديهم، ودفع ما يرديهم، ليتأثروا بنصحه؛ فلما سمع فرعون ما قاله هذا الرجل من النصح الصحيح جاء بمراوغة يوهم بها قومه أنه لهم من النصيحة والرعاية بمكان مكين، وأنه لا يسلك بهم إلا مسلكاً يكون فيه جلب النفع لهم، ودفع الضر عنهم ولهذا.
(قال فرعون ما أريكم إلا ما أرى) أي ما أشير عليكم إلا بما أرى لنفسي، قاله ابن زيد، وهذا تفسير لمآل المعنى، والتفسير المطابق(12/184)
لجوهر اللفظ ما قال الضحاك ما أعلمكم إلا ما أعلم من الصواب، وهو قتل موسى والرؤية هنا هي القلبية الاعتقادية، لا البصرية العينية، فتعدى لمفعولين ثانيهما إلا ما أرى.
(وما أهديكم إلا سبيل الرشاد) أي ما أهديكم ولا أدعوكم بهذا الرأي إلا إلى طريق الحق والهدى، قرأ الجمهور بتخفيف الشين، وقرأ معاذ بن جبل - رضي الله تعالى عنه - بتشديدها على أنها صيغة مبالغة كضراب، قال النحاس: هي لحن ولا وجه لذلك. ثم كرر ذلك الرجل المؤمن تذكيرهم، وحذرهم أن ينزل بهم ما نزل بمن قبلهم فقال الله حاكياً عنه:(12/185)
وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ (30)
(وقال الذي آمن يا قوم إني أخاف عليكم مثل يوم الأحزاب) أي مثل يوم عذاب الأمم الماضية الذين تحزبوا على أنبيائهم، وأفرد اليوم لأن جمع الأحزاب قد أغنى عن جمعه، والأحزاب لم ينزل بها العذاب في يوم واحد، بل نزل بها في الدنيا في أيام مختلفة مترتبة ثم فسر الأحزاب فقال:(12/185)
مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ (31)
(مثل دأب قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم) أي مثل حالهم في العذاب، أو مثل عادتهم في الإقامة على التكذيب، أو مثل جزاء ما كانوا عليه من الكفر والتكذيب.
(وما الله يريد ظلماً للعباد) أي لا يعذبهم ولا يعاقبهم بغير ذنب، ولا يترك الظالم منهم بغير انتقام، أو لا يزيد على قدر ما يستحقون من العذاب أو لا يهلكهم إلا بعد إقامة الحجة عليهم، ونفي الإرادة للظلم يستلزم نفي الظلم بفحوى الخطاب وتفسير المعتزلة بأنه لا يريد لهم أن يظلموا بعبد، لأن أهل اللغة قالوا إذا قال الرجل لآخر لا أريد ظلماً لك، معناه لا أريد أن أظلمك ثم زاد الرجل المؤمن في الوعظ والتذكير فقال:(12/185)
وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ (32) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33) وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ (34) الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (35) وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36)(12/186)
وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ (32)
(وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ) قرأ الجمهور بتخفيف الدال وحذف الياء، والأصل التنادي، وهو التفاعل من النداء، يقال تنادى القوم أي نادى بعضهم بعضاً وقرىء بإثبات الياء على الأصل وقرأ ابن عباس والضحاك وعكرمة بتشديد الدال، قال بعض أهل اللغة: هو لحن لأنه من ند يند إذا مر على وجهه هارباً، قال النحاس: وهذا غلط والقراءة حسنة على معنى التنافي قال الضحاك: في معناه أنهم إذا سمعوا بزفير جهنم ندوا هرباً فلا يأتون قطراً من أقطار الأرض إلا وجدوا صفوفاً من
الملائكة، فيرجعون إلى المكان الذي كانوا فيه، فذلك قوله يوم التناد وعلى قراءة الجمهور المعنى يوم ينادي بعضهم بعضاً، أو ينادي أهل النار أهل الجنة، وأهل الجنة أهل النار أو يوم ينادي فيه (كل أناس بإمامهم) ولا مانع من الحمل على جميع هذه المعاني، وهو ما حكى الله تعالى في سورة الأعراف:
(ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار)، (ونادى أصحاب النار(12/186)
أصحاب الجنة) (ونادى أصحاب الأعراف) وقيل: ينادي مناد إلا إن فلاناً سعد سعادة لا يشقى بعدها أبداً، وألا إن فلاناً شقي شقاوة فلا يسعد بعدها أبداً وينادي حين يذبح الموت يا أهل الجنة خلود بلا موت، ويا أهل النار خلود بلا موت. وقيل ينادي المؤمن (هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ) وينادي الكافر: (يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ).(12/187)
يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33)
(يوم تولون مدبرين) أي منصرفين عن الموقف إلى النار أو فارين عنها غير معجزين، قال قتادة ومقاتل: المعنى إلى النار بعد الحساب (ما لكم من الله من عاصم)، يعصمكم من عذاب الله ويمنعكم منه (وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ) يهديه إلى طريق الرشاد، قرىء هاد بإثبات الياء وحذفها في الوقف، وبحذفها في الوصل مع حذفها خطاً.(12/187)
وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ (34)
(ولقد جاءكم يوسف) هذا من تمام وعظ مؤمن آل فرعون، ذكرهم قديم عتوهم على الأنبياء وقيل: إن هذا من قول موسى عليه السلام والأول أولى (من قبل) أي قبل موسى وهو يوسف بن يعقوب، في قول عمر إلى زمن موسى، قاله المحلي، أي عاش واستمر يوسف ابن يعقوب إلى زمن موسى الكليم، قال سليمان الجمل: وهذا القول لم يقله غيره من المفسرين وإنما غاية ما وجد بعد التفتيش ما نقله الشهاب بقوله وفي بعض التواريخ أن وفاة يوسف قبل مولد موسى بأربع وستين سنة، قال القاري: والصحيح أن المعمر هو فرعون موسى: أدرك يوسف وعاش إلى أن أرسل إليه موسى، وعمره أربعمائة سنة وأربعين سنة انتهى.
وقال السيوطي في التحبير: وعاش يوسف بن يعقوب مائة وعشرين سنة، وبين يوسف وموسى أربعمائة سنة انتهى وقيل: هو فرعون آخر.
(بالبينات) أي أنه جاءهم بالمعجرات الظاهرات، والآيات الواضحات من قبل مجيء موسى إليهم، أي جاء إلى آبائكم، فجعل(12/187)
المجيء إلى الآباء مجيئاً إلى الأبناء، وقال ابن جريج: المراد بالبينات رؤيا يوسف، وقيل: المراد بها قوله: (أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار)؟ وقيل: المراد بيوسف يوسف بن إفرائيم بن يوسف بن يعقوب، وكان أقام فيهم أي في القبط نبياً عشرين سنة، وحكى النقاش عن الضحاك أن الله بعثه إليهم رسولاً من الجن يقال له: يوسف قال الشوكاني رحمه الله: والأول أولى (فما زلتم) أي ما زال أسلافكم (في شك مما جاءكم به) من البينات ولم تؤمنوا به.
(حتى إذا هلك) يوسف (قلتم) أي قال أسلافكم: (لن يبعث الله من بعده رسولاً) فكفروا به في حياته وكفروا بمن بعده من الرسل بعد موته، وظنوا أن الله لا يجدد عليهم الحجة، وإنما قالوا ذلك على سبيل التشهي والتمني من غير حجة ولا برهان، ليكون لهم أساس في تكذيب الرسل الذين يأتون بعده، وهذا ليس إقراراً منهم برسالته، بل هو ضم منهم إلى الشك في رسالته، والتكذيب برسالة من بعده، أفاده الخطيب والخازن.
(كذلك) الضلال الواضح (يضل الله من هو مسرف) في معاصي الله مستكثر منها أو مشرك (مرتاب) في دين الله شاك في وحدانيته ووعده ووعيده، وقوله:(12/188)
الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (35)
(الذين يجادلون في آيات الله) بدل (مَنْ)، والجمع باعتبار معناها، وإفراد الضمير باعتبار اللفظ، أو بيان لها، أو صفة، أو في محل نصب بإضمار أعني، أو خبر مبتدأ محذوف، أي هم الذين، أو مبتدأ وخبره يطبع، والأول أولى. قال ابن جريج: الذين يجادلون يهود، قيل: هذا من كلام الرجل المؤمن أيضاًً، وقيل: إنه ابتداء كلام من الله سبحانه.
(بغير سلطان) أي بغير حجة واضحة، وبرهان ساطع (أتاهم) صفة لسلطان (كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا) يحتمل أن يراد به(12/188)
التعجب والاستعظام وأن يراد به الذم كبئس، وفاعل كبر ضمير يعود إلى الجدال المفهوم من: يجادلون، قال المحلي: كبر خبر المبتدأ انتهى، وهذا أولى وأحسن الأعاريب العشرة التي ذكرها السمين. وإليه نحا أبو حيان.
(كَذَلِكَ) الطبع المحكم البليغ (يطبع الله على كل قلب متكبر جبار) مستأنف قرأ الجمهور بإضافة قلب إلى متكبر واختارها أبو حاتم وأبو عبيدة وفي الكلام حذف والتقدير كذلك يطبع الله على كل قلب كل متكبر، فحذف كل الثانية لدلالة الأولى عليها، والمعنى أنه سبحانه يطبع على قلوب جميع المتكبرين الجبارين.
وقرىء بتنوين قلب على أن متكبراً صفة له فيكون القلب مراداً به الجملة، لأن القلب هو محل التكبر، وسائر الأعضاء تبع له في ذلك، وهما سبعيتان، وقرأ ابن مسعود على قلب كل متكبر، وتقديره عند الزمخشري على كل ذي قلب متكبر، قال الشيخ ولا ضرورة تدعو إلى اعتبار الحذف، قلت بل ثم ضرورة إلى ذلك، وهي توافق القراءتين.
ثم لما سمع فرعون هذا رجع إلى تكبره وتجبره، معرضاً عن الموعظة نافراً عن قبولها.(12/189)
وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36)
(وقال فرعون يا هامان ابن لي صرحاً) أي قصراً مشيداً كما تقدم بيان تفسيره في سورة القصص، وقيل صرحاً أي بناء ظاهراً لا يخفى على الناظرين وإن بعد، ومنه يقال صرح الشيء إذا ظهر، وفي المصباح الصرح بيت واحد يبنى مفرداً طولاً ضخماً، وفي السمين الصرح القصر، أو صحن الدار، أو بلاط يتخذ من زجاج، وأصله من التصريح وهو الكشف (لعلي أبلغ الأسباب) أي الطرق من السماء إلى السماء، قال قتادة والزهري والسدي والأخفش هي الأبواب أي أبوابها الموصلة إليها.(12/189)
أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ (37)
أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ (37)
(أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ) بيان للأسباب لأن الشيء إذا أبهم ثم فسر كان أوقع في النفوس، وأفخم للشأن، أو بدل منها، وأنشد الأخفش عند تفسير الآية بيت زهير:
ومن هاب أسباب المنايا ينلنه ... ولو رام أسباب السماء بسلم
وقيل أسباب السموات الأمور التي يستمسك بها وكل ما أواك إلى شيء فهو سبب إليه كالرشاء ونحوه (فأطلع إلى إله موسى) أي انظر إليه، وأطلع على حاله، قرأ الأعرج السلمي وعيسى بن عمر وحفص بالنصب على جواب الأمر في قوله ابن لي، وهذا رأى البصريين. أو على جواب الترجي كما قال أبو عبيدة وغيره وهذا رأى الكوفيين.
قال النحاس معنى النصب خلاف معنى الرفع لأن معنى النصب متى بلغت الأسباب اطلعت، وقرأ الجمهور بالرفع عطفاً على أبلغ فهو على هذا داخل في حيز الترجي، ومعناه لعلي أبلغ، ولعلي أطلع بعد ذلك، وقيل غير ذلك، وفي هذا دليل على أن فرعون كان بمكان من الجهل عظيم، وبمنزلة من فهم حقائق الأشياء سافلة جداً.
(وإني لأظنه) أي موسى (كاذباً) في ادعائه بأن له إلهاً غيري، مستوياً على العرش فوق السموات أو فيما يدعيه من الرسالة قيل: قال(12/190)
فرعون ذلك تمويهاً وتلبيساً، وتخليطاً على قومه، وإلا فهو يعرف ويعتقد حقيقة الإله، وأنه ليس في جهة العلو، ولكنه أراد التلبيس على قومه توصلاً لبقائهم على الكفر، فكأنه يقول. لو كان إله موسى موجوداً لكان له محل، ومحله إما الأرض وإما السماء، ولم نره في الأرض فيبقى أن يكون في السماء، والسماء لا توصل إليها إلا بسلم قاله الحفناوي.
(وكذلك) التزيين (زين لفرعون سوء عمله) من الشرك والتكذيب فتمادى في الغي واستمر على الطغيان، والمزين هو الشيطان (وصد عن السبيل) أي سبيل الرشاد والهدى، قرأ الجمهور وصد بفتح الصاد والدال، أي صد فرعون الناس عن السبيل، وقرأ الكوفيون وصد بضم الصاد مبنياً للمفعول، واختار هذه القراءة أبو عبيد وأبو حاتم.
ولعل وجه الاختيار لها منهما كونها مطابقة لما أجمعوا عليه في زين، من البناء للمفعول والقراءتان سبعيتان وقرأ يحيى بن وثاب وعلقمة.
صد بكسر الصاد وضم الدال منوناً وقرأ ابن أبي إسحق وعبد الرحمن بن أبي بكر بفتح الصاد وضم الدال منوناً، وكل من هاتين القراءتين على أنه مصدر معطوف على: (سوء عمله)، أي زين له الشيطان سوء العمل والصد.
(وما كيد فرعون) في إبطال آيات موسى (إلا في تباب) أي خسار وهلاك، قال ابن عباس: التباب الخسران، ومنه (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ) ثم إن ذلك الرجل المؤمن أعاد التذكير والتحذير كما حكى عنه بقوله:(12/191)
وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ (38) يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ (39) مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ (40) وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (41)(12/192)
وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ (38)
(وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ) بإثبات الياء وحذفها في الوصل والوقف، والقراءتان سبعيتان، وهذا بالنظر للفظ وأما في الرسم فهي محذوفة لا غير لأنها من ياآت الزوائد، أي اقتدوا بي في الدين، واعملوا بنصيحتي (أهدكم سبيل الرشاد) أي طريق الهدى والصواب، وهو الجنة، وهو ضد الغي، وفيه تعريض شبيه بالتصريح، أن ما عليه فرعون وقومه سبيل الغي، وقيل: هذا من قول موسى والأول أولى.(12/192)
يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ (39)
(يا قوم إنما هذه الحياة الدنيا متاع) يتمتع بها أياماً ثم تنقطع وتزول، لأن التنوين للتقليل، فالإخلاد إليها أصل الشر ومنبع الفتن، ورأس كل بلاء وآفة (وإن الآخرة هي دار القرار) أي الاستقرار والثبات، فلا انتقال ولا تحول عنها، لكونها دائمة لا تنقطع ومستمرة لا تزول، والباقي خير من الفاني. قال بعض العارفين: لو كانت الدنيا ذهباً فانياً، والآخرة خزفاً باقياً لكانت الآخرة خيراً من الدنيا، فكيف والدنيا خزف فان، والآخرة ذهب باق!
قال ابن عباس: " الدنيا جمعة من جمع الآخرة سبعة آلاف سنة "، وأخرج ابن مردويه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الحياة الدنيا متاع وليس من متاعها شيء أفضل من(12/192)
المرأة الصالحة التي إذا نظرت إليها سرتك، وإذا غبت عنها حفظتك في نفسها ومالها ".(12/193)
مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ (40)
(من عمل سيئة) من كلام الرجل المؤمن، والمعنى من عمل في دار الدنيا معصية من المعاصي كائنة ما كانت (فلا يجزى إلا مثلها) ولا يعذب إلا بقدرها والظاهر شمول الآية لكل ما يطلق عليه اسم السيئة، وقيل: هي خاصة بالشرك، ولا وجه لذلك.
(ومن عمل) عملاً (صالحاً) قيل: هو لا إله إلا الله (من ذكر أو أنثى وهو مؤمن) أي مع كونه مؤمناً بما جاءت به رسله (فأولئك) الذين جمعوا بين الإيمان والعمل الصالح (يدخلون الجنة) بفتح الياء وضم الخاء. وبالعكس سبعيتان (يرزقون فيها) رزقاً واسعاً (بغير حساب) أي بغير تقدير ومحاسبة قال مقاتل: يقول لا تبعة عليهم فيما يعطون في الجنة من الخير ثم كرر ذلك الرجل المؤمن دعاءهم إلى الله.
صرح بإيمانه ولم يسلك المسالك المتقدمة من إيهامه لهم أنه منهم، وأنه إنما تصدى لتذكيرهم كراهة أن يصيبهم بعض ما توعدهم به موسى، كما يقول الرجل المحب لقومه من التحذير عن الوقوع فيما يخاف عليهم الوقوع فيه، فقال:(12/193)
وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (41)
(و) ترك العطف في النداء الثاني لأنه تفصيل لإجمال الأول، وهنا عطف لأنه ليس بتلك المثابة لأنه كلام مباين للأول والثاني، فحسن إيراد الواو العاطفة فيه ونحوه.
قال الزمخشري: (يا قوم ما لي) تكرير النداء لزيادة التنبيه لهم، والإيقاظ عن سنة الغفلة، وفيه أنهم قومه وأنه من آل فرعون. والمعنى: أخبروني عنكم كيف هذه الحال؟ (أدعوكم إلى النجاة) من النار ودخول الجنة بالإيمان بالله وإجابة رسله (وتدعونني إلى النار) بما تريدونه مني من الشرك، وقيل: المعنى ما لكم أدعوكم؟ كما تقول ما لي أراك حزيناً؟ أي مالك؟ ثم فسر الدعوتين فقال:(12/193)
تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (42) لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (43) فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (44) فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ (45)(12/194)
تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (42)
(تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ) أي ما لا علم لي بكونه شريكاً لله، والمراد بنفي العلم نفي المعلوم بدل من تدعونني الأولى على جهة البيان لها، وأتى بجملة فعلية لتدل على أن دعوتهم باطلة لا ثبوت لها، وفي قوله (وأنا أدعوكم) بجملة اسمية لتدل على ثبوت دعوته وتقويتها (إلى العزيز) الغالب على أمره، وفي انتقامه ممن كفر (الغفار) لذنب من آمن به وتاب.(12/194)
لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (43)
(لا جرم) قد تقدم تفسير هذا في سورة هود وجرم فعل ماض بمعنى حق، ولا الداخلة عليه لنفي ما ادعوه، ورد ما زعموه، وفاعل هذا الفعل هو قوله: (أن ما تدعونني إليه) أي حق ووجب بطلان دعوته، وما بمعنى الذي؛ فكان حقها أن تكتب مفصولة من النون كما هو القاعدة، لكنها رسمت في المصحف الإمام موصولة بالنون كما أشار له ابن الجزري (ليس له دعوة) قال الزجاج: معناه ليس له استجابة دعوة تنفع؛ وقيل: ليس له دعوة توجب الألوهية (في الدنيا ولا في الآخرة) وقال الكلبي ليس له شفاعة (وأن مردنا إلى الله) أي مرجعنا ومصيرنا إليه بالموت أولاً وبالبعث آخراً فيجازي كل أحد بما يستحقه من خير(12/194)
وشر.
(وأن المسرفين) أي المستكثرين من معاصي الله: قال قتادة وابن سيرين: يعني المشركين، وقال مجاهد والشعبي هم السفهاء السفاكون للدماء بغير حقها؛ وبه قال ابن مسعود، وقال عكرمة الجبارون المتكبرون، وقيل: هم الذين تعدوا حدود الله، والمعنى حق أن المسرفين (هم أصحاب النار) أي أهل جهنم ولما بلغ ذلك المؤمن في باب النصيحة إلى هذا الكلام ختم كلامه بخاتمة لطيفة فقال(12/195)
فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (44)
(فستذكرون ما أقول لكم) إذا نزل بكم العذاب وتعلمون أني قد بالغت في نصحكم وتذكيركم، وهو كلام مجمل مبهم، وفي هذا الإبهام والإجمال من التخويف والتهديد ما لا يخفى.
(وأفوض أمري إلى الله) مستأنف، أي أتوكل عليه وأسلم أمري إليه قيل: إنه قال هذا لما أرادوا الإيقاع به، قال مقاتل: هرب هذا المؤمن إلى الجبل فطلبوه فلم يقدروا عليه وقيل: القائل هو موسى والأول أولى (إن الله بصير بالعباد) يعلم المحق من المبطل.(12/195)
فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ (45)
(فوقاه الله سيئات ما مكروا) أي ما أرادوا به من المكر السيء وما هموا به من إلحاق أنواع العذاب بمن خالفهم، قال قتادة نجاه الله مع بني إسرائيل من الغرق (وحاق بآل فرعون) أي أحاط بهم ونزل عليهم (سوء العذاب) قال الكسائي: يقال حاق يحيق حيقاً وحيوقاً إذا نزل ولزم قال الكلبي غرقوا في البحر ودخلوا النار، والمراد بآل فرعون فرعون وقومه، وترك التصريح به للاستغناء بذكرهم عن ذكره، لكونه أولى بذلك منهم، أو المراد بآل فرعون فرعون نفسه، والأول أولى لأنهم قد عذبوا في الدنيا جميعاً بالغرق وسيعذبون في الآخرة بالنار، ثم بين سبحانه ما أجمله من سوء العذاب فقال:(12/195)
النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ (46) وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ (47) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ (48) وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ (49)(12/196)
النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ (46)
(النار يعرضون) أي تعرض أرواحهم من حين موتهم إلى قيام الساعة (عليها غدواً وعشياً) أي صباحاً ومساء، فارتفاع النار على أنها بدل من سوء العذاب وقيل: على أنها خبر مبتدأ محذوف، أو مبتدأ وخبره يعرضون والأول أولى ورجحه الزجاج، وعلى الوجهين الأخيرين تكون الجملة مستأنفة جواب سؤال مقدر وقرىء بالنصب على تقدير فعل يفسره يعرضون من حيث المعنى، أي يصلون النار يعرضون عليها أو على الاختصاص وأجاز الفراء الخفض على البدل من العذاب.
وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار، يقال له: هذا مقعدك حين يبعثك الله إليه يوم القيامة " زاد ابن مردويه ثم قرأ (النار يعرضون عليها غدواً وعشياً)، وعرضهم عليها إحراقهم بها، يقال عرض الإمام الأساري على السيف إذا قتلهم به، أي في هذين الوقتين يعذبون بالنار، وفيما بين ذلك إما أن يعذبوا بجنس آخر أو ينفس عنهم، ويجوز أن يكون غدواً وعشياً عبارة عن الدوام (1).
_________
(1) البخاري 3/ 193/مسلم 4/ 2199.(12/196)
واحتج بعض أهل العلم على إثبات عذاب القبر بهذه الآية أعاذنا الله تعالى منه بمنه وكرمه، وبه قال مجاهد وعكرمة ومحمد بن كعب كلهم، قال القرطبي: إن أرواحهم في جوف طير سود تغدو على جهنم وتروح كل يوم مرتين، فذلك عرضها انتهى. وقد حققنا ذلك في كتابنا ثمار التنكيت في شرح أبيات التثبيت، بالفارسية فليعلم، ثم ذهب الجمهور إلى أن هذا العرض هو في البرزخ وقيل هو في الآخرة. قال الفراء: ويكون في الآية تقديم وتأخير، أي: أدخلوا آل فرعون أشد العذاب، النار يعرضون عليها غدواً وعشياً، ولا ملجىء إلى هذا التكلف فإن قوله: (ويوم تقوم الساعة) الخ يدل دلالة واضحة على أن ذلك العرض هو في البرزخ.
(أدخلوا) أي يقال للملائكة: أدخلوا (آل فرعون أشد العذاب) هو عذاب النار فإنه أشد مما كانوا فيه، وقيل: أنواع من العذاب بعضها أشد من بعض غير التي كانوا يعذبون بها منذ أغرقوا، قرأ حمزة والكسائي ونافع وحفص: أدخلوا بقطع الهمزة وكسر الخاء، وهو على تقدير القول كما ذكر وقرأ الباقون ادخلوا بهمزة وصل من دخل يدخل أمرآ لآل فرعون بالدخول بتقدير حرف النداء أي ادخلوا يا آل فرعون أشد العذاب، عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ما أحسن محسن مسلم أو كافر إلا أثابه الله، قلنا يا رسول الله ما إثابة الكافر؟ قال المال والولد والصحة وأشباه ذلك، قلنا وما إثابته في الآخرة؟ قال عذاباً دون العذاب، وقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم (أدخلوا آل فرعون أشد العذاب) أخرجه البزار وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في شعب الإيمان.(12/197)
وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ (47)
(وإذ يتحاجون في النار) أي اذكر لقومك وقت تخاصمهم في النار، ثم بين سبحانه هذا التخاصم فقال: (فيقول الضعفاء للذين(12/197)
استكبروا) عن الانقياد للأنبياء والأتباع لهم، وهم رؤساء الكفر (إنا كنا لكم تبعاً) فتكبرتم على الناس بنا، والتبع جمع تابع كخدم وخادم أو مصدر واقع موقع اسم الفاعل، أي تابعين أو ذوي تبع، قال البصريون التبع يكون واحداً ويكون جمعاً، وقال الكوفيون هو جمع لا واحد له.
(فهل أنتم مغنون عنا نصيباً من النار) أي هل تدفعون عنا نصيباً منها؟ أو تحملونه معنا، وجملة(12/198)
قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ (48)
(قال الذين استكبروا إنا كل فيها) مستأنفة جواب سؤال مقدر قرأ الجمهور (كل) بالرفع على الابتداء، وخبره (فيها) والجملة خبر إن قاله الأخفش، وقرأ ابن السميفع وعيسى ابن عمر (كُلاًّ) بالنصب، قال الكسائي والفراء على التأكيد لاسم إن بمعنى كلنا، وتنوينه عوض عن المضاف إليه؛ وقيل على الحال، ورجحه ابن مالك، والمعنى إنا نحن وأنتم جميعاً في جهنم، فكيف نغني عنكم؟ ولو قدرنا لأغنينا عن أنفسنا.
(إن الله قد حكم بين العباد) أي قضى بينهم بأن فريقاً في الجنة وفريقاً في السعير، فلا يغني أحد عن أحد شيئاً فعند ذلك يحصل اليأس للأتباع من المتبوعين، فيرجعون كلهم إلى خزنة جهنم يسألونهم، كما قال:(12/198)
وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ (49)
(وقال الذين في النار) من الأمم الكافرة، مستكبرهم وضعيفهم جميعاً (لخزنة جهنم) جمع خازن، وهم القوام بتعذيب أهل النار، وإنما لم يقل لخزنتها لأن في ذكر جهنم تهويلاً وتفظيعاً، أو لبيان محلهم فيها فإن جهنم هي أبعد النار قعراً من قولهم بئر جهنام، بعيدة القعر. وفيه أعتى الكفار وأطغاهم، فلعل الملائكة الموكلين لعذاب أولئك أجوب دعوة لزيادة قربهم من الله، فلهذا تعمدهم أهل النار بطلب الدعوة منهم.
(ادعوا ربكم يخفف عنا يوماً من العذاب) أي شيئاًً منه مقدار يوم من أيام الدنيا لأنه ليس في الآخرة ليل ولا نهار.(12/198)
قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (50) إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ (51) يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (52) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ (53) هُدًى وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (54) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (55)(12/199)
قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (50)
(قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ) مستأنفة جواب سؤال مقدر والاستفهام للتقريع والتوبيخ (قالوا بلى) أي أتونا بها فكذبناهم، ولم نؤمن بهم، ولا بما جاءوا به من الحجج الواضحة، فلما اعترفوا (قالوا) أي قال لهم الملائكة الذين هم خزنة جهنم تهكماً بهم: (فادعوا) أي إذا كان الأمر كذلك، فادعوا أنتم فإنا لا ندعو لمن كفر بالله وكذب رسله بعد مجيئهم بالحجج الواضحة، ثم أخبروهم بأن دعاءهم لا يفيد شيئاًً فقالوا:
(وما دعاء الكافرين إلا في ضلال) أي في ضياع وبطلان، وخسار وتبار وانعدام، وفيه إقناط لهم عن الإجابة، وقيل: هو من قول الله تعالى إخباراً لنبيه وهو أنسب بما بعده وعليه جرى المحلي والشهاب:
ْ(12/199)
إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ (51)
(إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا) مستأنفة من جهة الله سبحانه، أي نجعلهم الغالبين لأعدائهم، القاهرين لهم، والموصول في محل نصب عطفاً على رسلنا أي لننصر رسلنا وننصر الذين آمنوا معهم (في الحياة الدنيا) بما عودهم الله من الانتقام لهم بالقتل والسلب والأسر، وقيل بالغلبة والقهر، وقيل بالحجة، وقيل بالانتقام لهم من الأعداء بالاستئصال، وإن غلبوا في الدنيا في بعض الأحايين امتحاناً من الله عز(12/199)
وجل، والعاقبة لهم، كما نصر يحيى ابن زكريا لما قتل، فإنه قتل به سبعين ألفاً، وكما نصر الحسين بن علي الشهيد فإنه قتل به سبعين ألفاً أيضاًً.
أخرج أحمد والترمذي وحسنه، وابن أبي الدنيا والطبراني وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " من ردّ ... عن عرض أخيه رد الله عن وجهه نار جهنم يوم القيامة "، ثم تلا (إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا) وأخرج ابن مردويه من حديث أبي هريرة مثله.
(ويوم يقوم الأشهاد) هو يوم القيامة قال زيد بن أسلم الأشهاد هم الملائكة والنبيون والمؤمنون. وقال مجاهد والسدي الأشهاد الملائكة، يشهدون للأنبياء بالإبلاغ، وعلى الأمم بالتكذيب. وقيل الحفظة يشهدون على بني آدم بما عملوا من الأعمال، وكذا الجوارح تشهد عليهم بما فعلوا، قال الزجاج الأشهاد جمع شاهد مثل صاحب وأصحاب، قال النحاس ليس لباب فاعل أن يجمع على أفعال، ولا يقاس عليه ولكن ما جاء منه مسموعاً أدى على ما سمع فهو على هذا جمع شهيد، مثل شريف وأشراف، ومعنى نصرهم يوم القيامة أن الله يجازيهم بأعمالهم فيدخلهم الجنة، ويكرمهم بكراماته، ويجازي الكفار بأعمالهم، فيلعنهم ويدخلهم النار وهو معنى قوله:(12/200)
يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (52)
(يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم) قرأ نافع والكوفيون بالتحتية وقرأ الجمهور تنفع بالفوقية، والكل جائز في اللغة، وإنما لم تنفعهم المعذرة لأنها معذرة باطلة، وعلة داحضة. وشبهة زائغة (ولهم اللعنة) أي البعد عن الرحمة (ولهم سوء الدار) أي النار.(12/200)
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ (53)
(ولقد آتينا موسى الهدى) هذا من جملة ما قصه الله سبحانه قريباً من نصره لرسله، أي آتيناه التوراة والنبوة، كما في قوله سبحانه (إنا(12/200)
أنزلنا التوراة فيها هدى ونور) قال مقاتل: الهدى من الضلالة يعني التوراة (وأورثنا بني إسرائيل) أي بعد ما كانوا فيه من الذل (الكتاب) أي التوراة والمعنى أن الله سبحانه لما أنزل التوراة على موسى بقيت بعده فيهم وتوارثوها خلفاً عن سلف وقيل المراد بالكتاب سائر الكتب المنزلة على أنبياء بني إسرائيل بعد موت موسى(12/201)
هُدًى وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (54)
(هدى وذكرى) أي لأجلهما أو هادياً ومذكراً ومرشداً (لأولي الألباب) أي لأهل العقول السليمة.
ثم أمر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم بالصبر على الأذى فقال:(12/201)
فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (55)
(فاصبر) أي اصبر على أذى المشركين كما صبر من قبلك من الرسل، قال الكلبي: فنسخت آية القتال آية الصبر (إن وعد الله) الذي وعد رسله به (حق) لا خلف فيه، ولا شك في وقوعه، كما في قوله (إنا لننصر رسلنا) وقوله (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ) ثم أمره الله سبحانه يالاستغفار لذنبه فقال:
(واستغفر لذنبك) قيل: المراد ذنب أمتك فهو على حذف مضاف وقيل المراد الصغائر عند من يجوزها على الأنبياء، وقيل: هو مجرد تعبد له صلى الله عليه وسلم بالاستغفار لزيادة الثواب، وقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر.
(وسبح بحمد ربك بالعشي والإبكار) أي دم على تنزيه الله متلبساً بحمده وقيل المراد الصلوات الخمس، والعشي هو من بعد الزوال، وفيه أربع صلوات، والإبكار من الفجر إلى الزوال، وفيه صلاة واحدة.
وقيل: المراد صل في الوقتين صلاة العصر وصلاة الفجر، قاله الحسن وقتادة، وقيل هما صلاتان: ركعتان غدوة، وركعتان عشية، وذلك قبل أن تفرض الصلوات الخمس.(12/201)
إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (56) لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (57) وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلَا الْمُسِيءُ قَلِيلًا مَا تَتَذَكَّرُونَ (58)(12/202)
إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (56)
(إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ) عام في كل مجادل وإن نزل في مشركي مكة، قاله أبو السعود (في آيات الله) أي القرآن (بغير سلطان أتاهم) أي بغير حجة ظاهرة واضحة جاءتهم من جهة الله سبحانه تقييداً لمجادلة بذلك مع استحالة إتيانه للإيذان بأن المتكلم في أمر الدين لا بد من استناده إلى سلطان مبين.
(إن في صدورهم إلا كبر) أي ما في قلوبهم إلا تكبر عن الحق يحملهم على تكذيبك (ما هم ببالغيه) صفة لكبر: قال الزجاج: بالغي إرادتهم فيه فجعله على حذف المضاف، وقال غيره بالغي كبرهم. وقال ابن قتيبة: كبر أي تكبر على محمد صلى الله عليه وسلم وطمع أن يبلغوه وما هم ببالغي ذلك، وقيل: المراد بالكبر الأمر الكبير، أي يطلبون النبوة ويطلبون أمراً كبيراً يصلون به إليك من القتل ونحوه، ولا يبلغون ذلك. وقال مجاهد معناه في صدورهم عظمة ما هم ببالغيها، والمراد بهذه الآية المشركون، وقيل اليهود.
عن أبي العالية قال: " إن اليهود أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا إن الدجال يكون منا في آخر الزمان، ويكون من أمره فعظموا(12/202)
أمره، وقالوا يصنع كذا ويصنع كذا، فأنزل الله هذه الآية. قال: لا يبلغ الذي يقول، فاستعذ بالله، فأمر نبيه أن يتعوذ من فتنة الدجال، لخلق السموات والأرض أكبر من خلق الدجال، أخرجه عبد بن حميد، وابن أبي حاتم، قال السيوطي: بسند صحيح، وعن كعب الأحبار قال: هم اليهود نزلت فيهم، فيما ينتظرونه من أمر الدجال. وقال مجاهد (إلا كبر) أي عظمة قريش، ثم أمره الله سبحانه بأن يستعيذ بالله من شرورهم فقال:
(فاستعذ بالله) أي فالتجىء إليه من شرهم، وكيدهم، وبغيهم عليك (إنه هو السميع) لأقوالهم (البصير) بأفعالهم لا تخفى عليه من ذلك خافية ثم بين سبحانه عظيم قدرته فقال(12/203)
لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (57)
(لخلق السموات والأرض) ابتداء من غير سبق مادة (أكبر من خلق الناس) أي أعظم في النفوس، وأجل في الصدور، لعظم إجرامهما واستقرارهما من غير عمد، وجريان الأفلاك بالكواكب من غير سبب، وأشق بحسب عادة الناس في مزاولة الأفعال من أن علاج الشيء الكبير أشق من علاج الصغير، وإن كان بالنسبة إلى الله لا تفاوت بين الصغير والكبير، فكيف ينكرون البعث وإحياء ما هو دونهما من كل وجه؟ كما في قوله.
(أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ) قال أبو العالية المعنى لخلق السموات والأرض أعظم من خلق الدجال حين عظمته اليهود، وقال يحيى بن سلام هو احتجاج على منكري البعث أي هما أكبر من إعادة خلق الناس.
(ولكن أكثر الناس) أي كفار مكة (لا يعلمون) بعظم قدرة الله، وأنه لا يعجزه شيء فهم كالأعمى، ومن يعلمه كالبصير وقد وردت أحاديث صحيحة كثيرة في ذكر الدجال وصفته، وإنذار الرسل منه لأمتهم وخروجه في آخر الزمان، وما يقع منه، ومن يتبعه من اليهود، كما(12/203)
حققناه في حجج الكرامة في آثار القيامة، وليس هذا موضع ذكرها وبسطها، وإليه ذهب جميع أهل السنة والمحدثين والفقهاء خلافاً لمن أنكره، وأبطل أمره من الخوارج والجهمية وبعض المعتزلة، وخلافاً للجبائي وموافقيه في أنه صحيح الوجود: ولكن الأشياء التي يأتي بها زعموا أنها مخاريف وخيالات لا حقائق لها والأخبار الصحيحة المتواترة تدفعه وترده رداً مشبعاً.
ثم لما ذكر سبحانه الجدال بالباطل ذكر مثالاً للباطل والحق، وأنهما لا يستويان فقال:(12/204)
وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلَا الْمُسِيءُ قَلِيلًا مَا تَتَذَكَّرُونَ (58)
(وما يستوي الأعمى والبصير) أي الذي يجادل بالباطل الذي يجادل بالحق، أو الغافل والمستبصر (والذين آمنوا وعملوا الصالحات) أي ولا يستوي المحسن بالإيمان والعمل الصالح.
(ولا المسيء) بالكفر والمعاصي، وزيادة (لا) للتأكيد، والتقابل يجيء على ثلاث طرق إحداها أن يجاور المناسب ما يناسبه كهذه الآية، والثانية أن يتأخر المتقابلان كقوله تعالى (مثل الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع)، والثالثة أن يقدم مقابل الأول ويؤخر مقابل الآخر، كقوله تعالى (وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ (19) وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ) وكل ذلك تفنن في البلاغة، وقدم الأعمى في نفي التساوي لمجيئه بعد صفة الذم في قوله (ولكن أكثر الناس لا يعلمون).
(قليلاً ما يتذكرون) بالتحتية على الغيبة لأن قبلها وبعدها على الغيبة لا على الخطاب، واختارها أبو عبيد وأبو حاتم، وبالفوقية على الخطاب بطريقة الالتفاف وفائدته في مقام التوبيخ هي إظهار العنف الشديد، والإنكار البليغ أفاده الكرخي.(12/204)
إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (59) وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (60) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (61)(12/205)
إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (59)
(إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا) أي لا شك في مجيئها وحصولها وقيامها لوضوح شواهدها، وإجماع الرسل على الوعد بوقوعها، ولأنه لا بد من جزاء لئلا يكون خلق الخلق للفناء خاصة (ولكن أكثر الناس لا يؤمنون) بتلك ولا يصدقونه لقصور أفهامهم، وضعف عقولهم، عن إدراك الحجة، والمراد بأكثر الناس الكفار الذين ينكرون البعث، ثم لما بين سبحانه أن قيام الساعة حق وليس بمرتاب فيها. ولا شبهة في مجيئها، أرشد عباده إلى ما هو الوسيلة إلى السعادة في دار الخلود فأمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يحكي عنه ما أمره بإبلاغه وهو:(12/205)
وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (60)
(وقال ربكم ادعوني استجب لكم) قال أكثر المفسرين: المعنى وحدوني واعبدوني أتقبل عبادتكم، وأغفر لكم، وأجبكم وأثبكم. وقيل: هذا الوعد بالإجابة مقيد بالمشيئة، أي استجب لكم إن شئت، كقوله (فيكشف ما تدعون إليه إن شاء الله) وقيل: المراد بالدعاء السؤال بجلب النفع ودفع الضر، قيل: الأول أولى لأن الدعاء في أكثر استعمالات الكتاب العزيز هو العبادة.
قلت: بل الثاني أولى، لأن معنى الدعاء حقيقة وشرعاً هو الطلب، فإن استعمل في غير ذلك فهو مجاز، على أن الدعاء في نفسه باعتبار معناه الحقيقي هو عبادة، بل مخ العبادة، كما ورد بذلك الحديث الصحيح، فالله سبحانه قد أمر عباده بدعائه، ووعدهم بالإجابة، ووعده(12/205)
الحق، وما يبدل القول لديه، ولا يخلف الميعاد.
وعن ابن عباس قال: وحدوني أغفر لكم، وقال جرير بن عبد الله اعبدوني، وعن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " الدعاء الاستغفار " أخرجه ابن مردويه، وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من لم يدع الله يغضب عليه، أخرجه أحمد والحاكم وابن أبي شيبة. وعن معاذ بن جبل عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا ينفع حذر من قدر، ولكن الدعاء ينفع مما نزل، ومما لم ينزل، فعليكم بالدعاء "، أخرجه أحمد وأبو يعلى والطبراني.
وعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " الدعاء مخ العبادة " (1) أخرجه الترمذي والحكيم الترمذي في نوادر الأصول، وعن ابن عباس قال أفضل العبادة الدعاء، وقرأ هذه الآية، وأخرج البخاري في الأدب عن عائشة قالت: سئل النبي صلى الله عليه وسلم " أي العبادة أفضل؟ فقال دعاء المرء لنفسه ". ثم صرح سبحانه بأن هذا الدعاء باعتبار معناه الحقيقي وهو الطلب هو من عبادته فقال:
(إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ) قرأ الجمهور بفتح الياء وضم الخاء وقرىء بالعكس مبينا للمفعول (دَاخِرِينَ) أي ذليلين صاغرين، وهذا وعيد شديد لمن استكبر عن دعاء الله، وفيه لطف بعباده عظيم، وإحسان إليهم جليل حيث توعد من ترك طلب الخير منه واستدفاع الشر به بهذا الوعيد البالغ، وعاقبه بهذه العقوبة العظيمة، فيا عباد الله وجهوا رغباتكم، وعولوا في كل طلباتكم على من أمركم بتوجيهها إليه، وأرشدكم إلى التعويل عليه، وكفل لكم الإجابة باعطاء الطلبة فهو الكريم المطلق، الذي يجيب دعوة الداعي إذا دعاه، ويغضب على من لم يطلب من فضله العظيم، وملكه الواسع ما يحتاجه من أمور الدنيا
_________
(1) الدعاء وهو العبادة أخرجه أحمد 4/ 271 وغيره.(12/206)
والدين.
وعن النعمان بن بشير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " الدعاء هو العبادة " ثم قرأ: وقال ربكم أدعوني إلى قوله داخرين، أخرجه الترمذي وقال: حسن صحيح، والبخاري في الأدب، وأبو داود والنسائي وابن ماجة وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن حبان والحاكم وصححه، وابن مردويه وأبو نعيم في الحلية، والبيهقي في الشعب، وأحمد وابن أبي شيبه وعبد بن حميد وسعيد بن منصور والطبراني.
ثم ذكر سبحانه بعض ما أنعم به على عباده فقال:(12/207)
اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (61)
(الله الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه) من الحركات في طلب الكسب لكونه جعله مظلماً بارداً تناسبه الراحة الظاهرية، بالسكون والنوم الذي هو الموت الأصغر، والراحة الحقيقية بالعبادة التي هي الحياة الدائمة (والنهار مبصراً) أي مضيئاً لتبصروا فيه حوائجكم، وتنصرفوا في طلب معايشكم، وهو من الإسناد المجازي، أي مبصراً فيه لأن الإبصار في الحقيقة لأهل النهار.
(إن الله لذو فضل على الناس) يتفضل عليهم بنعمه التي لا تحصى، ولِم يقل لمفضل أو لمتفضل لأن المراد تنكير الفضل، وأن يجعل فضلاً لا يوازيه فضل، وذلك إنما يكون بالإضافة (ولكن أكثر الناس لا يشكرون) النعم ولا يعترفون بها إما لجحودهم لها ولكفرهم بها، كما هو شأن الكفار، أو لإغفالهم للنظر وإهمالهم لما يجب من شكر المنعم وهم الجاهلون، ولم يقل: ولكن أكثرهم حتى لا يتكرر ذكر الناس، لأن في هذا التكرير تخصيصاً لكفران النعمة بهم، وأنهم هم الذين يكفرون فضل الله ولا يشكرونه كقوله (إن الإنسان لكفور) وقوله: (إن الإنسان لظلوم كفار).(12/207)
ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (62) كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (63) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (64) هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (65) قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (66)(12/208)
ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (62)
(ذلكم) أي الفاعل المخصوص بالأفعال المقتضبة للألوهية والربوبية (الله ربكم خالق كل شيء لا إله إلا هو) بيّن سبحانه في هذا كمال قدرته، المقتضية لوجوب توحيده (فأنى تؤفكون) أي فكيف تنقلبون عن عبادته وتنصرفون عن توحيده؟ وتصرفون عن الإيمان مع قيام البرهان.(12/208)
كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (63)
(كذلك يؤفك الذين كانوا بآيات الله يجحدون) أي مثل ذلك الإفك يؤفك الجاحدون لآيات الله، المنكرون لتوحيده، ثم ذكر لهم سبحانه نوعاً آخر من نعمه التي أنعم بها عليهم، مع ما في ذلك من الدلالة على كمال قدرته، وتفرده بالإلهية فقال:(12/208)
اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (64)
(الله الذي جعل لكم الأرض قراراً) أي موضع قرار مع كونها في غاية الثقل ولا ممسك لها سوى قدرة الله وفيها تحيون وفيها تموتون (والسماء بناء) أي سقفاً قائماً ثابتاً مع كونها أفلاكاً دائرة بنجوم طول الزمان سائرة ينشأ عنها الليل والنهار، والإظلام والإضاءة، ثم بين بعض نعمه المتعلقة بأنفس العباد فقال:
(وصوركم فأحسن صوركم) أي خلقكم في أحسن صورة لم(12/208)
يخلق حيواناً أحسن منكم، وقيل: لم يخلقكم منكوسين كالبهائم قيل خلق ابن آدم قائماً معتدلاً يأكل ويتناول بيده، وغيره يتناول بفيه، وقال الزجاج خلقكم أحسن الحيوان كله، قرأ الجمهور صوركم بضم الصاد، وقرأ الأعمش وأبو رزين بكسرها قال الجوهري: والصور بكسر الصاد لغة في الصور بضمها (ورزقكم من الطيبات) أي المستلذات من المأكل والمشرب من غير رزق الدواب.
(ذلكم) المنعوت بهذه المنعوت الجليلة (الله ربكم فتبارك الله رب العالمين) أي كثر خيره وبركته(12/209)
هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (65)
(هو الحي لا إله إلا هو) أي الباقي الذي لا يفنى، المتفرد بالألوهية، وهذا التركيب يفيد الحصر، وفيه إشارة إلى العلم التام والقدرة التامة الكاملة (فادعوه) أي اعبدوه (مخلصين له الدين) أي الطاعة والعبادة من الشرك.
(الحمد لله رب العالمين) قال الفراء هو خبر وفيه إضمار أمر، أي أحمدوه عن ابن عباس قال: من قال لا إله إلا الله فليقل إثرها الحمد لله رب العالمين وذلك قوله (فادعوه مخلصين له الدين الحمد لله رب العالمين) وعلى هذا هو من كلام المأمورين بالعبادة، ويجوز أن يكون من كلامه تعالى على أنه استئناف لحمد ذاته بذاته.
ثم أمر الله سبحانه رسوله أن يخبر المشركين بأن الله نهاه عن عبادة غيره، وأمره بالتوحيد فقال:(12/209)
قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (66)
(قل) لهم رداً عليهم فيما طلبوه منك وهو عبادة آلهتهم: (إني نهيت) نهياً عاماً ببراهين العقول ونهياً خاصاً بأدلة النقول (أن أعبد الذين تدعون) أي تعبدون (من دون الله) وهي الأصنام ثم بين وجه النهي فقال (لما جاءني البينات من ربي) وهي الأدلة العقلية والنقلية فإنها توجب التوحيد (وأمرت أن أسلم لرب العالمين) أي استسلم له بالانقياد والخضوع، أو الإخلاص ثم أردف هذا بذكر دليل من الأدلة الدالة على التوحيد فقال:(12/209)
هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (67) هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (68) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ (69)(12/210)
هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (67)
(هو الذي خلقكم) أي خلق أباكم الأول وهو آدم، وخلقه (من تراب) يستلزم خلق ذريته منه (ثم من نطفة ثم من علقة) قد تقدم تفسير هذا في غير موضع (ثم يخرجكم طفلاً) أي أطفالاً، وأفرده لكونه اسم جنس، أو على معنى: ثم يخرج كل واحد منكم طفلاً.
(ثم لتبلغوا أشدكم) وهي الحالة التي تجتمع فيها القوة والعقل من الثلاثين سنة إلى الأربعين، وقد سبق بيان الأشد مستوفي في الأنعام والتقدير لتكبروا شيئاًً فشيئاًً ثم لتبلغوا غاية الكمال (ثم) يبقيكم.
(لتكونوا شيوخاً) بضم الشين وبكسرها سبعيتان وقرىء شيخاً على الإفراد كقوله طفلاً والشيخ من جاوز أربعين سنة، يعني أن مراتب الإنسان بعد خروجه من بطن أمه ثلاث: الطفولية، وهي حالة النمو والزيادة إلى أن يبلغ كمال الأشد من غير ضعف، ثم يتناقص بعد ذلك وهي الشيخوخة.
(ومنكم من يتوفى من قبل) أي من قبل الأشد، ومن قبل الشيخوخة (ولتبلغوا) جميعاً (أجلاً مسمى) أي وقت الموت أو يوم القيامة، واللام هي لام التعليل أو العاقبة (ولعلكم تعقلون) أي لكي تعقلوا توحيد ربكم وقدرته البالغة في خلقكم على هذه الأطوار المختلفة إلى الأجل المذكور.(12/210)
هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (68)
(هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ) أي يقدر على الإحياء والإماتة (فإذا قضى أمراً) من الأمور التي يريدها (فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) من غير توقف على شيء من الأشياء أصلاً وهذا تمثيل لتأثير قدرته في المقدورات عند تعلق إرادته بها، وتصوير لسرعة ترتب المكونات على تكوينه، من غير أن يكون هناك آمر ومأمور، والفاء الأولى للدلالة على أن ما بعدها من نتائج ما قبلها من اختصاص الإحياء والإماتة به سبحانه وتعالى، قاله أبو السعود وقد تقدم تحقيق معناه في البقرة وفيما بعدها.(12/211)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ (69)
(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ) تعجيب من أحوالهم الشنيعة وآرائهم الركيكة، وتمهيد لما يعقبه من بيان تكذيبهم بكل القرآن، وبسائر الكتب والشرائع، وترتيب الوعيد على ذلك، كما أن ما سبق من قوله تعالى (إن الذين يجادلون في آيات الله) إلخ بيان لابتناء جدالهم على مبنى فاسد لا يكاد يدخل تحت الوجود هو الأمنية الفارغة، فلا تكرار فيه أي انظر إلى هؤلاء المكابرين المجادلين في آياته تعالى الواضحة، الموجبة للإيمان بها الزاجرة عن الجدال فيها كيف يصرفون عنها مع تعاضد الدواعي إلى الإقبال عليها؟ وانتفاء الصوارف عنها بالكلية، وقيام الأدلة الدالة على صحتها، وأنها في أنفسها موجبة للتوحيد قاله أبو السعود.
وقال النسفي ذكر الجدال في هذه السورة في ثلاثة مواضع، فجاز أن يكون في ثلاثة أقوام، أو ثلاثة أصناف، وللتأكيد انتهى. قال ابن زيد هم المشركون بدليل قوله الآتي(12/211)
الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (70)
(الذين كذبوا بالكتاب وبما أرسلنا به رسلنا) قال القرطبي، وقال أكثر المفسرين نزلت في القدرية، قال ابن سيرين إن لم تكن هذه الآية نزلت في القدرية فلا أدري فيمن نزلت، ويجاب عن هذا بأن الله سبحانه قد وصف هؤلاء بصفة تدل على غير ما قالوه فقال:(12/211)
الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (70) إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ (71) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (72) ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ (73) مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ (74) ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ (75)
(الذين كذبوا بالكتاب) وهذا وصف لا يصح أن يطلق على فرقة من فرق الإسلام، والمراد بالكتاب إما القرآن، أو جنس الكتب المنزلة من عند الله، والموصول إما في محل جر على أنه نعت للموصول الأول أو بدل منه، ويجوز أن يكون في محل نصب على الذم.
(وبما أرسلنا به رسلنا) معطوف على قوله (بالكتاب) ويراد به ما يوحى إلى الرسل من غير كتاب إن كانت اللام في الكتاب للجنس، أو سائر الكتب إن كان المراد بالكتاب القرآن.
(فسوف يعلمون) عاقبة أمرهم، ووبال كفرهم، وفي هذا وعيد شديد والظرف في قوله(12/212)
إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ (71)
(إذ الأغلال في أعناقهم) متعلق بـ (يعلمون) أي فسوف يعلمون. وقت كون الأغلال في أعناقهم، أو اذكر لهم وقت الأغلال ليخافوا وينزجروا (والسلاسل) جمع سلسلة معروفة قال الراغب تسلسل الشيء اضطرب، كأنه تصور منه تسلسل متردد فتردد لفظه، تنبيه على تردد معناه، وماء سلسل متردد في مقره، معطوف على الأغلال، والتقدير إذ الأغلال والسلاسل في أعناقهم.(12/212)
ويجوز أن يرتفع السلاسل على أنه مبتدأ، وخبره محذوف لدلالة في أعناقهم عليه، ويجوز أن يكون خبره (يسحبون(12/213)
فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (72)
في الحميم) بحذف العائد أي يسحبون بها في الحميم، وهذا على قراءة الجمهور برفع السلاسل، وقرىء بنصبها، وقرأوا يسحبون بفتح الياء مبنياً للفاعل، فتكون السلاسل مفعولاً مقدماً، وقرىء بجر السلاسل، قال الفراء وهذه القراءة محمولة على المعنى، إذ المعنى أعناقهم في الأغلال والسلاسل وقال الزجاج المعنى على هذه القراءة وفي السلاسل يسحبون، واعترضه ابن الأنباري بأن ذلك لا يجوز في العربية والسحب الجر بعنف، والسحاب من ذلك لأن الريح تجره أو لأنه يجر الماء، والحميم هو المتناهى في الحر، وقيل الصديد، وقيل جهنم. وقيل الماء الحار الذي يكسب الوجوه سواداً والأعراض عاراً، والأرواح عذاباً، والأجسام ناراً، وقد تقدم تفسيره قال ابن عباس يسحبون في الحميم فينسلخ كل شيء عليهم، من جلد ولحم وعرق، حتى يصير في عقبه، حتى إن لحمه قدر طوله، وطوله ستون ذراعاً، ثم يكسى جلداً آخر ثم يسجر في الحميم.
(ثم في النار يسجرون) يقال سجرت التنور، أي أوقدته، وسجرته ملأته بالوقود، ومنه (البحر المسجور) أي المملوء، فالمعنى توقد بهم النار أو تملأ بهم، والمراد أنهم يعذبون بألوان العذاب، وينقلون من باب إلى باب قال مجاهد ومقاتل: توقد بهم النار فصاروا وقودها، عن عبد الله بن عمرو قال: تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذ الأغلال إلى قوله: يسجرون، فقال: لو أن رصاصة مثل هذه -وأشار إلى جمجمة- أرسلت من السماء إلى الأرض، وهي مسيرة خمسمائة سنة، لبلغت الأرض قبل الليل، ولو أنها أرسلت من رأس السلسلة لسارت أربعين خريفاً الليل والنهار قبل أن يبلغ أصلها. أو قال:(12/213)
قعرها "، أخرجه أحمد والترمذي وحسنه، والحاكم وصححه، وابن مردويه والبيهقي في البعث والنشور.(12/214)
ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ (73)
(ثم قيل لهم) أي يقال لهم، وصيغة الماضي للدلالة على التحقق (أين ما كنتم تشركون) من دون الله هذا توبيخ وتقريع لهم، أي أين الشركاء الذين كنتم تعبدونهم من دون الله؟ وهي الأصنام وغيرها، وترسم أين مفصولة من ما كما أشار إليه ابن الجزري(12/214)
مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ (74)
(قالوا ضلوا عنا) أي يقولون: ذهبوا وغابوا، وفقدناهم فلا نراهم، ثم أضربوا عن ذلك وانتقلوا إلى الإخبار بعدمهم، وأنه لا وجود لهم فقالوا:
(بل لم نكن ندعو من قبل شيئاًً) أي لم نكن نعبد شيئاًً، قالوا هذا بعد ما تبين لهم ما كانوا فيه من الضلالة والجهالة، وأنهم كانوا يعبدون ما لا يبصر ولا يسمع ولا يضر ولا ينفع، وليس هذا إنكاراً منهم لوجود الأصنام التي كانوا يعبدونها، بل اعتراف منهم بأن عبادتهم إياها كانت باطلة، كقولك: حسبته شيئاًً فلم يكن كذلك، وقال المحلي: أنكروا عبادتهم إياها انتهى. وهذا المعنى بعيد في مقام الحساب والعرض على رب العالمين (كذلك) الضلال الفظيع (يضل الله الكافرين) حيث عبدوا هذه الأصنام التي أوصلتهم إلى النار.(12/214)
ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ (75)
(ذلكم) أي ذلك الإضلال المدلول عليه بالفعل أو العذاب (بما كنتم تفرحون في الأرض بغير الحق) أي تظهرون في الدنيا. من الفرح بمعاصي الله، والسرور بمخالفة رسله وكتبه، وقيل: بما كنتم تفرحون به من المال والأتباع والصحة، وقيل: من إنكار البعث والعذاب، وقيل: المراد بالفرح هنا البطر والتكبر (وبما كنتم تمرحون) المراد بالمرح الزيادة في البطر، وقال مجاهد وغيره: تبطرون وتأشرون، وقال الضحاك: الفرح السرور. والمرح العدوان وقال مقاتل: المرح البطر والخيلاء وقيل المرح أشد من الفرح.(12/214)
ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (76) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (77) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ (78) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (79) وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (80) وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ (81)(12/215)
ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (76)
(ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ) السبعة المقسومة لكم، قال تعالى: لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم، حال كونكم (خالدين فيها) أي مقدرين الخلود فيها (فبئس مثوى) أي مأوى (المتكبرين) عن قبول الحق جهنم وكان الظاهر أن يقال: مدخل، وعبر عنه بالمثوى لكون دخولهم بطريق الخلود قاله أبو السعود، وقال السمين لم يقل مدخل لأن الدخول لا يدوم، وإنما يدوم الثواء فلذلك خصه بالذم، وإن كان الدخول أيضاًً مذموماً، ثم أمر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم بالصبر تسلية له فقال:(12/215)
فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (77)
(فاصبر إن وعد الله) أي وعده بالانتقام منهم (حق) كائن لا محالة، إما في الدنيا أو في الآخرة، ولهذا قال: (فإما نرينك بعض الذي نعدهم) من العذاب في الدنيا، بالقتل والأسر والقهر، وما زائدة عند المبرد والزجاج، والأصل نرك، ولحقت بالفعل نون التأكيد (أو نتوفينك) معطوف على نرينك أي قبل إنزال العذاب بهم (فإلينا(12/215)
يرجعون) يوم القيامة فنعذبهم أشد العذاب.(12/216)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ (78)
(ولقد أرسلنا رسلاً) وأنبياء (من قبلك) إلى أممهم (منهم من قصصنا عليك) أي أنبأناك بأخبارهم في القرآن، وما لقوه من قومهم، وهم خمسة وعشرون (ومنهم من لم نقصص عليك) فيه خبره ولا أوصلنا إليك علم ما كان بينه وبين قومه، وعن علي بن أبي طالب في الآية قال: بعث الله عبداً حبشياً فهو ممن لم يقصص على محمد صلى الله عليه وآله وسلم، عن أبي ذر قال: قلت: " يا رسول الله كم عدة الأنبياء؟ قال: مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً. الرسل من ذلك ثلثمائة وخمسة عشر جماً غفيراً "، أخرجه أحمد، وعبر عنه في الكشاف بقيل.
(وما كان) أي ما صح وما استقام (لرسول) منهم (أن يأتي بآية) أي معجزة دالة على نبوته (إلا بإذن الله) لا من قبل نفسه، فإن المعجزات عطايا قسمها الله تعالى بينهم، على ما اقتضته حكمته، كسائر القسم، ليس لهم اختيار في إيثار بعضها، والاستبداد بإتيان المقترح بها لأنهم عبيد مربوبون (فإذا جاء أمر الله) أي الوقت المعين لعذابهم في الدنيا وفي الآخرة (قضى بالحق) فيما بين الرسل ومكذبيها، فينجي الله بقضائه الحق عباده المحقين.
(وخسر هنالك) أي في ذلك الوقت (المبطلون) الذين يتبعون الباطل ويعملون به، وهم خاسرون في كل وقت قبل ذلك، وختمه بقوله: (المبطلون)، وختم السورة بقوله: (الكافرون)، لأن الأول متصل بقوله: قضى بالحق، ونقيض الحق هو الباطل، والثاني متصل بإيمان غير نافع ونقيض الإيمان الكفر أفاده الكرخي، ثم امتن الله سبحانه على عباده بنوع من أنواع نعمه التي لا تحصى فقال:(12/216)
اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (79)
(الله الذي جعل لكم الأنعام) أي خلقها لأجلكم، قال الزجاج: الأنعام هنا الإبل خاصة، وقيل: الأزواج الثمانية، والأول هو الظاهر لأنها(12/216)
هي التي توجد فيها المنافع الآتية كلها، وقوله: (لتركبوا منها) تفصيل لهذا الإجمال، ومن للتبعيض، وكذلك في قوله:
(ومنها تأكلون) أو لابتداء الغاية في الموضعين ومعناها ابتداء الركوب، وابتداء الأكل، والأول أولى. والمعنى لتركبوا بعضها وتأكلوا بعضها.(12/217)
وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (80)
(ولكم فيها منافع) أخر غير الركوب والأكل من الوبر والصوف والشعر، والزبد والسمن والجبن، والدر والنسل، وغير ذلك (ولتبلغوا عليها حاجة في صدوركم) قال مجاهد ومقاتل وقتادة: تحمل أثقالكم من بلد إلى بلد، وقد تقدم بيان هذا مستوفى في سورة النحل:
(وعليها وعلى الفلك تحملون) أي على الإبل في البر، وعلى السفن في البحر، وقيل: المراد بالحمل على الأنعام هنا حمل الولدان والنساء في الهوادج، وهو السر في فصله عن الركوب، وفي الجمع بينهما من المناسبة التامة حتى سميت سفائن البر، ونظير هذه الآية قوله تعالى في سورة النحل (والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع) الآية، لكن هذه أجمع منها.(12/217)
وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ (81)
(ويريكم آياته) أي دلالاته الدالة على كمال قدرته ووحدانيته (فأي) آية من (آيات الله تنكرون) فإنها كلها من الظهور، وعدم الخفاء، بحيث لا ينكرها منكر، ولا يجحدها جاحد، وفيه تقريع لهم وتوبيخ عظيم وتذكير أي أشهر من تأنيثه، فلذلك لم يقل فأية آيات الله لأن التفرقة بين المذكر والمؤنث في الأسماء الجامدة نحو حمار وحمارة غريب، وهي في أي أغرب لابهامها، ونصب أي بـ (تنكرون) وإنما قدم على العامل فيه لأن له صدر الكلام، ثم أرشدهم سبحانه إلى الاعتبار والتفكر في آيات الله فقال:(12/217)
أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82) فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (83) فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ (85)(12/218)
أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82)
(أفلم يسيروا في الأرض) أي في أطرافها ونواحيها (فينظروا) بأبصارهم وبصائرهم (كيف كان عاقبة الذين من قبلهم) من الأمم التي عصت الله وكذبت رسلها، فإن الآثار الموجودة في ديارهم تدل على ما نزل بهم من العقوبة، وما صاروا إليه من سوء العاقبة، ثم بين سبحانه أن تلك الأمم كانوا فوق هؤلاء في الكثرة والقوة فقال:
(كانوا أكثر منهم) عدداً (وأشد قوة) أي أقوى منهم أجساداً وأوسع منهم أموالاً (و) أظهر منهم (آثاراً في الأرض) بالعمائر والمصانع والحصون والصهاريج والحرث (فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون) يجوز أن تكون (ما) الأولى نافية أو استفهامية منصوبة بأغنى، والثانية موصولة أو مصدرية مرفوعة به، أي لم يغن عنهم أو أي شيء أغنى عنهم مكسوبهم أو كسبهم.(12/218)
فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (83)
(فلما جاءتهم رسلهم بالبينات) أي بالحجج الواضحات، والمعجزات الظاهرات (فرحوا بما عندهم من العلم) أي أظهر الكفار الفرح بما عندهم مما يدعون أنه من العلم، من الشبه الداحضة، والدعاوى الزائغة، والفنون الفاسدة، والعلوم الكاسدة، وسماه علماً تهكماً بهم، أو(12/218)
على ما يعتقدونه، وقال مجاهد: قالوا نحن أعلم منهم لن نعذب ولن نبعث، وقيل المراد من العلم علم أحوال الدنيا لا الدين كما في قوله:
(يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا) قال النسفي: أو علم الفلاسفة والدهريين، فإنهم كانوا إذا سمعوا بوحي الله دفعوه وصغروا علم الأنبياء إلى علمهم، وعن سقراط أنه سمع بموسى وقيل له لو هاجرت إليه؟ فقال: نحن قوم مهذبون فلا حاجة بنا إلى من يهذبنا، أو المراد فرحوا بما عند الرسل من العلم فرح ضحك واستهزاء به، كأنه قال: استهزأوا بالبينات وبما جاؤوا به من علم الوحي، فرحين مرحين، انتهى: وقيل: الذين فرحوا بما عندهم من العلم هم الرسل، وذلك أنهم لما كذبهم قومهم وأعلمهم الله بأنه مهلك الكافرين ومنجى المؤمنين، ففرحوا بذلك.
(وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ) أي أحاط بهم جزاء استهزائهم(12/219)
فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84)
(فلما رأوا باسنا) أي عاينوا عذابنا النازل بهم في الدنيا (قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين) وهي الأصنام التي كانوا يعبدونها.(12/219)
فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ (85)
(فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا) أي عند معاينة عذابنا لأن ذلك الإيمان ليس بالإيمان النافع لصاحبه، فإنه إنما ينفع الإِيمان الاختياري لا الإِيمان الاضطراري، والفاآت من قوله: فما أغنى إلى هنا أربع: الأولى لبيان عاقبة كثرتهم وشدة قوتهم، أي أن عاقبتها خلاف وضد ما كانوا يؤملونه منها، وهو نفعها، فلم يترتب عليها، بل ترتب عدمه، كقولك: وعظته فلم يتعظ، والثانية تشير لتفصيل ما أبهم وأجمل من عدم الإغناء، والثالثة لمجرد التعقيب، وجعل ما بعدها تابعاً لما قبلها واقعاً عقيبه، لأن مضمون قوله: فلما جاءتهم الخ أنهم كفروا فكأنه قيل فكفروا ثم لما رأوا بأسنا آمنوا والرابعة للعطف على آمنوا، كأنه قيل: فآمنوا فلم ينفعهم، لأن النافع هو الإيمان الاختياري (1).
(سنة الله التي قد خلت) أي مضت (في عباده) المعنى أن الله
_________
(1) زاد المسير/238.(12/219)
سبحانه سن هذه السنة في الأمم كلها أنه لا ينفعهم الإيمان إذا رأوا العذاب، وقد مضى بيان هذا مستوفى في سورة النساء وسورة التوبة، وانتصاب سنة على أنها مصدر مؤكد لفعل محذوف بمنزلة وعد الله، وما أشبهه من المصادر المؤكدة، وقيل منصوب على التحذير أي احذروا يأهل مكة سنة الله في الأمم الماضية، والأول أولى.
(و) قد (خسر هنالك الكافرون) أي وقت رؤيتهم بأس الله، ومعاينتهم لعذابه على أنه اسم مكان قد استعير للزمان كما سلف آنفا قاله أبو السعود وقال السمين: لا يحتاج لهذا، بل يصح إبقاؤه على أصله، قال الزجاج: الكافر خاسر في كل وقت، ولكنه يتبين لهم خسرانهم إذا رأوا العذاب.(12/220)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
سورة حم السجدة
تسمى سورة فصلت وسورة المصابيح وهي أربع وخمسون آية
وقيل: ثلاث وخمسون، قال القرطبي: وهي مكيّة في قول الجميع، قال ابن عباس: أنها نزلت بمكة، وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وأبو يعلى والحاكم وصححه، وابن مردويه وأبو نعيم والبيهقي كلاهما في الدلائل، وابن عساكر عن جابر بن عبد الله قال: اجتمع قريش يوماً فقالوا: انظروا أعلمكم بالسحر والكهانة والشعر، فليأت هذا الرجل الذي قد فرق جماعتنا، وشتت أمرنا. وعاب ديننا فليكلمه، ولينظر ماذا يرد عليه؟ فقالوا: ما نعلم أحداً غير عتبة بن ربيعة، فقالوا: ائت يا أبا الوليد، فأتاه فقال يا محمد أنت خير أم عبد الله؟ أنت خير أم عبد المطلب؟ فسكت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال فإن كنت تزعم أن هؤلاء خير منك فقد عبدوا الآلهة التي عبدت، وإن كنت تزعم أنك خير منهم فتكلم حتى نسمع قولك، أما والله ما رأينا سخلة قط أشأم على قومك منك، فرقت جماعتنا، وشتت أمرنا، وعبت ديننا، وفضحتنا في العرب حتى لقد طار فيهم أن في قريش ساحراً، وأن في قريش كاهناً، والله ما تنتظر إلا مثل صيحة الحبلي، أن يقوم بعضنا إلى بعض بالسيوف، يا رجل إن كان إنما بك الحاجة جمعنا لك حتى تكون أغنى قريش رجلاً، وإن كان إنما بك الباءة فاختر أي نساء قريش شئت فلنزوجك عشراً، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، " فرغت "؟ قال نعم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " بسم الله الرحمن الرحيم: (حم * تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ) حتى بلغ: (فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ): فقال عتبة حسبك حسبك ما عندك غير هذا؟ قال: " لا "، فرجع إلى قريش فقالوا: ما وراءك؟ قال: ما تركت شيئاً أرى أنكم تكلمونه به إلا كلمته، قالوا فهل أجابك؟ قال: والذي نصبها بنية ما فهمت شيئاً مما قال غير أنه أنذركم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود.(12/221)
قالوا ويلك، يكلمك الرجل بالعربية، وما تدري ما قال، قال: لا والله ما فهمت شيئاً مما قال غير ذكر الصاعقة.
وأخرج أبو نعيم والبيهقي كلاهما في الدلائل عن ابن عمر قال: " لما قرأ النبي - صلى الله عليه وسلم -، على عتبة بن ربيعة حم أتى أصحابه فقال: يا قوم أطيعوني في هذا اليوم واعصوني بعده، فوالله لقد سمعت من هذا الرجل كلاماً ما سمعت أذني قط كلاماً مثله: وما دريت ما أرد عليه، وفي هذا الباب روايات تدل على اجتماع قريش وإرسالهم عتبة بن ربيعة، وتلاوته - صلى الله عليه وسلم -، أو هذه السورة عليه:(12/222)
بسم الله الرحمن الرحيم
حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2) كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3) بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (4) وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ (5) قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (7)
(بسم الله الرحمن الرحيم(12/223)
حم (1)
حم) قد تقدم الكلام على إعرابه ومعناه في السورة التي قبل هذه السورة. فلا نعيده والله أعلم بمراده به، وكذلك تقدم الكلام على معنى قوله:(12/223)
تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2)
(تنزيل من الرحمن الرحيم) وإعرابه، وإنما خص هذين الوصفين بالذكر لأن الخلق في هذا العالم كالمرضى المحتاجين، والقرآن مشتمل على كل ما يحتاج إليه المرضى من الأدوية، وعلى ما يحتاج إليه الأصحاء من الأغذية، فكان أعظم النفع من الله على هذا العالم إنزال القرآن الناشىء عن رحمته ولطفه بخلقه.(12/223)
كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3)
(كتاب فصلت) أي بينت وميزت باعتبار اللفظ والمعنى، أو جعلت (آياته) أساليب وتفاصيل مختلفة، من أحكام وأمثال ومواعظ وعجائب أحوال النبات والحيوان والإنسان، وتهذيب الأخلاق، ورياضة النفس وتواريخ الماضين، وصفات التنزيه والتقديس، وشرح غرائب الملكوت والملك، وبالجملة فمن أنصف علم أنه ليس في بدء الخلق وغايته كتاب اجتمع فيه من العلوم المختلفة مثل ما في القرآن (فتبارك الله رب العالمين) وأحسن الخالقين.(12/223)
قال قتادة: فصلت ببيان حلاله من حرامه، وطاعته من معصيته وقال الحسن بالوعد والوعيد، وقال سفيان: بالثواب والعقاب، ولا مانع من الحمل على الكل، وقرىء فصلت بالتخفيف أي فرقت بين الحق والباطل، والجملة في محل رفع صفة للكتاب.
وانتصاب: (قُرْآنًا عَرَبِيًّا) على الاختصاص أو على المدح قاله الأخفش أي أريد بهذا الكتاب المفصل قرآناً من صفته كيت وكيت أو على الحال أي فصلت آياته حال كونه قرآناً وقيل على المصدرية أي يقرؤه قرآناً وقيل مفعول ثان لفصلت، وقيل: على إضمار فعل يدل عليه فصلت أي فصلناه قرآناً عربياً.
(لقوم يعلمون) معانيه ويفهمونها، وهم أهل اللسان العربي، وإنما خصوا بالذكر لأنهم يفهمونها بلا واسطة، لكون القرآن بلغتهم، وغيرهم لا يفهمها إلا بواسطتهم. قال الضحاك: أي يعلمون أن القرآن منزل من عند الله، وقال مجاهد أي يعلمون أنه إله واحد في التوراة والإنجيل واللام متعلقة بمحذوف صفة أخرى لقرآناً، أو متعلقة بفصلت، والأول أولى، وكذلك:(12/224)
بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (4)
(بشيراً ونذيراً) صفتان أخريان لقرآن، أو حالان من كتاب، والمعنى بشيراً لأولياء الله ونذيراً لأعدائه وقرئا بالرفع على أنهما صفة لكتاب أو خبر عن محذوف.
(فأعرض أكثرهم) أي الكفار عما اشتمل عليه من النذارة (فهم لا يسمعون) سماعاً ينتفعون به لإعراضهم عنه(12/224)
وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ (5)
(وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه) الأكنة جمع كنان، وهو الغطاء أي في أغطية مثل الكنانة التي فيها السهام، فهي لا تفقه ما تقول من التوحيد، ولا يصل إليها قولك، قال مجاهد: الكنان للقلب كالجنة للنبل، وقد تقدم بيان هذا في البقرة (وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ) أي صمم، يمنع من استماع قولك، وأصل الوقر الثقل، قرىء بكسر الواو وقرىء بفتح الواو والقاف.(12/224)
(ومن بيننا وبينك حجاب) أي ستر (ومن) لابتداء الغاية، والمعنى أن الحجاب ابتدىء منا وابتدىء منك، فالمسافة المتوسطة بين جهتنا وجهتك مستوعبة بالحجاب، لا فراغ فيها، ولو قيل: بيننا وبينك حجاب ولم تأت لفظة من لكان المعنى أن الحجاب حاصل وسط الجهتين، والمقصود المبالغة بالتباين المفرط، فلذلك جيء بمن وهذه تمثيلات لنبو قلوبهم عن إدراك الحق وتقبله واعتقاده، كأنها في غلف وأغطية تمنع من نفوذه فيها، ومج أسماعهم له كأن بها صمماً عنه، ولتباعد المذهبين والدينين، وامتناع المواصلة بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، كأن بينهم وما هم عليه، وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم وما هو عليه حجاباً ساتراً، وحاجزاً منيعاً، من جبل أو نحوه. فلا تلاقي ولا ترائي.
(فاعمل) أي استمر على دينك وهو التوحيد (إننا عاملون) أي مستمرون على ديننا، وهو الإشراك، وقال الكلبي: اعمل في هلاكنا فإنا عاملون في هلاكك، وقال مقاتل: إعمل لإلهك الذي أرسلك فإنا نعمل لآلهتنا التي نعبدها، وقيل: فاعمل لآخرتك فإنا عاملون لدنيانا، أو فاعمل في إبطال أمرنا فإنا نعمل في إبطال أمرك، ثم أمره الله سبحانه أن يجيب عن قولهم هذا فقال:(12/225)
قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6)
(قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد) أي إنما أنا كواحد منكم لولا الوحي، ولم أكن من جنس مغاير لكم حتى تكون قلوبكم في أكنة مما أدعوكم إليه، وفي آذانكم وقر، ومن بيني وبينكم حجاب، ولم أدعكم إلى ما يخالف العقل، وإنما أدعوكم إلى التوحيد.
قرأ الجمهور يوحي مبنياً للمفعول وقرأ الأعمش والنخعي مبنياً للفاعل، أي يوحي الله إليّ، قيل: ومعنى الآية أني لا أقدر على أن أحملكم على الإيمان قسراً فإني بشر مثلكم، ولا امتياز لي عنكم إلا أني أوحي إلي التوحيد، والأمر به، فعلى البلاغ وحده، فإن قبلتم رشدتم؛ وإن أبيتم(12/225)
هلكتم، وقيل؛ المعنى أني لست بملك لا يرى، وإنما أنا بشر مثلكم، وقد أوحي إلي دونكم فصرت بالوحي نبياً، ووجب عليكم اتباعي، وقال الحسن في معنى الآية إن الله سبحانه علم رسوله صلى الله عليه وسلم كيف يتواضع.
(فاستقيموا إليه) عداه بإلى لتضمنه معنى: توجهوا والمعنى وجهوا استقامتكم إليه بالطاعة، ولا تميلوا عن سبيله (واستغفروه) لما فرط منكم من الذنوب والشرك، وما أنتم عليه من سوء العقيدة والعمل ثم هدد المشركين وتوعدهم فقال:
(وويل للمشركين) ثم وصفهم بقوله:(12/226)
الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (7)
(الذين لا يؤتون الزكاة) أي يمنعونها ولا يخرجونها إلى الفقراء؛ وقال الحسن وقتادة: لا يقرون بوجوبها، وقال الضحاك ومقاتل: لا يتصدقون ولا ينفقون في الطاعة وقيل معنى الآية لا يشهدون أن لا إله إلا الله لأنها زكاة الأنفس وتطهيرها، قاله ابن عباس. وقال مجاهد: لا يزكون أعمالهم، وكان يقال: الزكاة قنطرة الإسلام فمن قطعها نجا، ومن تخلف عنها هلك.
وقال الفراء: كان المشركون ينفقون النفقات ويسقون الحجيج ويطعمونهم فحرموا ذلك على من آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم؛ فنزلت فيهم هذه الآية، وإنما جعل منع الزكاة مقروناً بالكفر بالآخرة لأن أحب الشيء إلى الإنسان ماله، وهو شقيق روحه، فإذا بذله في سبيل الله فذلك أقوى دليل على استقامته، وثباته وصدق نيته، ونصوح طويته، وما خدع المؤلفة قلوبهم إلا بلمظة من الدنيا ففرت عصبيتهم، ولانت شكيمتهم، وما ارتدت بنو حنيفة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا بمنع الزكاة (1)، وتخويف شديد من منعها، حيث جعل المنع من أوصاف المشركين وقرن الكفر بالآخرة.
(وهم بالآخرة هم كافرون) معطوف على: لا يؤتون الزكاة، داخل معه في حيز الصلة؛ أي منكرون للآخرة جاحدون لها، والمجيء بضمير
_________
(1) سقط من الأصل: فتعصبت لهم الحروب وجوهدوا، وفيه بعث للمؤمنين على أداء الزكاة.(12/226)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (8) قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ (10) ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11)
الفصل لقصد الحصر.(12/227)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (8)
(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) أي غير مقطوع عنهم، يقال: مننت الحبل إذا قطعته، وقيل: الممنون المنقوص قاله ابن عباس وقطرب، قال الجوهري: المن القطع، ويقال النقص ومنه قوله تعالى (لهم أجر غير ممنون) وقيل غير محسوب، وقيل معنى الآية لا يمن عليهم به لأنه إنما يمن بالتفضل، فأما الأجر فحق أداؤه، وقال السدي نزلت في المرضى والزمنى والهرمى إذا ضعفوا عن الطاعة، كتب لهم من الأجر مثل ما كانوا يعملون في الصحة.
ثم أمر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم، أن يوبخهم ويقرعهم فقال:(12/227)
قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9)
(قل أئنكم) قرأ الجمهور بهمزتين الثانية بين بين، وقرىء بهمزة بعدها ياء خفيفة، وإن واللام إما لتأكيد الإنكار، وقدمت الهمزة لاقتضائها الصدارة وإما للإشعار بأن كفرهم من البعد بحيث ينكر العقلاء وقوعه فيحتاج إلى التأكيد.
(لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين) والمعنى لتكفرون بمن شأنه هذا الشأن العظيم وقدرته هذه القدرة الباهرة، قيل: اليومان هما يوم الأحد ويوم الاثنين، وقيل: خلقهن في نوبتين كل نوبة أسرع مما يكون في يوم، وقيل: المراد مقدار يومين لأن اليوم الحقيقي إنما يتحقق بعد وجود الأرض والسماء ذكرهما تعليماً للأناة، ولو أراد أن يخلقهما في لحظة لفعل.(12/227)
(وتجعلون له أنداداً) أي أضداد وشركاء والجملة معطوفة على تكفرون داخلة تحت الاستفهام، ذكر عنهم شيئين منكرين، أحدهما الكفر بالله، والثاني إثبات الشركاء له (ذلك) المتصف بما ذكر (رب العالمين) جمع عالم، وهو ما سوى الله وجمع لاختلاف أنواعه بالياء والنون تغليباً للعقلاء من جملة العالمين ما تجعلونها أنداداً لله، فكيف تجعلون بعض مخلوقاته شركاء له في عبادته؟(12/228)
وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ (10)
(وجعل فيها رواسي) أي جبالاً ثوابت، معطوف على خلق وقيل مستأنفة لوقوع الفصل بينهما بالأجنبي، والأول أولى، لأن الجملة الفاصلة هي مقررة لمضمون ما قبلها، فكانت بمنزلة التأكيد، ومعنى: (من فوقها) أنها مرتفعة عليها لأنها من أجزاء الأرض، وإنما خالفتها باعتبار الارتفاع فكانت من هذه الحيثية كالمغايرة لها وإنما اختار إرساءها فوق الأرض لتكون منافع الجبال ظاهرة لطالبيها، وليبصر أن الأرض والجبال أثقال على أثقال كلها مفتقرة إلى ممسك، وهو الله العزيز المتعال، القادر المختار.
(وبارك فيها) أي جعلها مباركة كثيرة الخير بما خلق فيها من المنافع للعباد قال السدي: أنبت فيها شجرها (وقدر فيها أقواتها) قال الحسن وعكرمة والضحاك: قدر فيها أرزاق أهلها، وما يصلح لمعايشهم من التجارات والأشجار والمنافع، جعل في كل بلدة ما لم يجعله في الأخرى، ليعيش بعضهم من بعض بالتجارة والأسفار من بلد إلى بلد وقيل قدر البُر لأهل قطر من الأرض والتمر لأهل قطر آخر، وكذلك سائر الأقوات.
قيل: إن الزرع أكثر الحرف بركة لأن الله وضع الأوقات في الأرض، وقال ابن عباس أي شق الأنهار، وغرس الأشجار، ووضع الجبال، وأجرى البحار، وجعل في هذه ما ليس في هذه وفي هذه ما ليس في هذه، وقال قتادة ومجاهد: خلق فيها أنهارها وأشجارها ودوابها.
(في) تتمة (أربعة أيام) أي في يوم الثلاثاء والأربعاء باليومين(12/228)
المتقدمين، قاله الزجاج وغيره، قال ابن الأنباري: ومثاله قول القائل: خرجت من البصرة إلى بغداد في عشرة أيام وإلى الكوفة في خمسة عشر يوماً، أي في تتمة خمسة عشر يوماً، فيكون المعنى: إن حصول جميع ما تقدم من خلق الأرض وما بعدها في أربعة أيام كاملة مستوية بلا زيادة ولا نقصان ولولا هذا التقدير لكانت الأيام ثمانية يومان في الأول وهو قوله (خلق الأرض في يومين) ويومان في الأخير وهو قوله الآتي: (فقضاهن سبع سموات في يومين) وأربعة في الوسط.
وقال أبو البقاء: ولعل زيادة مدة الأرض على مدة السماء جرياً على ما يتعارف من أن بناء السقف أخف من بناء البيت، وقيل: للتنبيه على أن الأرض هي المقصودة بالذات لما فيها من الثقلين وكثرة المنافع، وقيل: لما فيها من الابتلاء بالمعاصي، والمجاهدات والمجادلات والمعالجات.
عن ابن عباس أن اليهود أتت النبي صلى الله عليه وسلم، فسألته عن خلق السموات والأرض، فقال " خلق الله الأرض في يومين الأحد والاثنين، وخلق الجبال وما فيهن من منافع يوم الثلاثاء وخلق يوم الأربعاء الشجر والحجر والماء والمدائن والعمران والخراب فهذه أربعة أيام فقال تعالى: قل أئنكم لتكفرون إلى قوله للسائلين، وخلق يوم الخميس السماء، وخلق يوم الجمعة النجوم، والشمس والقمر والملائكة إلى ثلات ساعات بقين منه، فخلق من أول ساعة من هذه الثلاث الآجال حين يموت من مات، وفي الثانية ألقى فيها من كل شي مما ينتفع به، وفي الثالثة خلق آدم وأسكنه الجنة، وأمر إبليس بالسجود له، وأخرجه منها في آخر ساعة قالت اليهود ثم ماذا يا محمد؟ قال: ثم استوى على العرش، قالوا قد أصبت لو أتممت. قالوا ثم استراح، فغضب النبي صلى الله عليه وسلم، غضباً شديداً فنزل: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ (38) فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ) أخرجه ابن جرير والنحاس في ناسخه وأبو الشيخ في العظمة(12/229)
والحاكم وصححه، وابن مردويه والبيهقي في الأسماء والصفات.
ولكن في حديث مسلم عن أبي هريرة قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم، بيدي فقال: " خلق الله التربة يوم السبت، وخلق فيها الجبال يوم الأحد وخلق الشجر يوم الاثنين وخلق المكروه يوم الثلاثاء، وخلق النور يوم الأربعاء وخلق الدواب يوم الخميس، وخلق آدم بعد العصر يوم الجمعة في آخر الخلق فيما بين العصر إلى الليل ". وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس أيضاًً قال: " إن الله خلق يوماً فسماه الأحد ثم خلق ثانياً فسماه الاثنين، ثم خلق ثالثاً فسماه الثلاثاء، ثم خلق رابعاً فسماه الأربعاء ثم خلق خامساً فسماه الخميس، وذكر نحو ما تقدم ". وأخرج أبو الشيخ عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: " إن الله فرغ من خلقه في ستة أيام " وذكر نحو ما تقدم.
وانتصاب (سواء) على أنه مصدر مؤكد لفعل محذوف هو صفة للأيام، أي استوت الأربعة سواء، بمعنى استواء، ويجوز أن يكون منتصباً على الحال من الأرض أو من الضمائر الراجعة إليها قرأ الجمهور بنصب سواء، وقرأ زيد بن علي والحسن وغيرهما بخفضه على أنه صفة للأيام وقرىء بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف، قال الحسن: المعنى في أربعة أيام مستوية تامة لا تزيد ولا تنقص، وقوله:
(للسائلين) متعلق بسواء أي مستويان للسائلين أو بمحذوف كأنه قيل هذا الحصر للسائلين في كم يوم خلقت الأرض وما فيها؟ أو متعلق بقدر أي قدر فيها أقواتها لأجل الطالبين المحتاجين إليها قال الفراء: في الكلام تقديم وتأخير، والمعنى وقدر فيها أقواتها سواء للمحتاجين في أربعة أيام، واختار هذا ابن جرير.
ثم لما ذكر سبحانه خلق الأرض وما فيها ذكر كيفية خلقه للسموات فقال(12/230)
ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11)
(ثم استوى إلى السماء) أي عمد وقصد نحوها قصداً سوياً، وتعلقت إرادته(12/230)
بخلقها، قال الرازي: هو من قولهم، استوى إلى مكان كذا إذا توجه إليه توجهاً لا يلتفت معه إلى عمل آخر، وهو من الاستواء الذي هو ضد الاعوجاج، ونظيره قولهم: استقام إليه، ومنه قوله تعالى: (فاستقيموا إليه) والمعنى ثم دعاه داعي الحكمة إلى خلق السموات بعد خلق الأرض وما فيها قال الحسن: المعنى صعد أمره إلى السماء، ويفهم من هذه الآية أن خلق السماء كان بعد خلق الأرض وبه قال ابن عباس، وقوله: (والأرض بعد ذلك دحاها) مشعر بأن خلق الأرض بعد خلق السماء.
والجواب أن الخلق ليس عبارة عن الإيجاد والتكوين فقط، بل هو عبارة عن التقدير أيضاًً، فالمعنى قضى أن يحدث الأرض في يومين بعد إحداث السماء وعلى هذا يزول الاشكال، وقال الشوكاني بعد ذكر هذا الاستشكال.
إن ثم ليست للتراخي الزماني (1) فالجمع ممكن بأن الأرض خلقها متقدم على خلق السماء، ودحوها بمعنى بسطها هو أمر زائد على مجرد خلقها، فهي متقدمة خلقاً متأخرة دحواً، وهذا ظاهر انتهى.
ولعله يأتي عند تفسيرنا لقوله: (والأرض بعد ذلك دحاها) زيادة إيضاح للمقام إن شاء الله تعالى، وقد تقدم هذا الجمع في سورة البقرة ولكن خلق ما في الأرض لا يكون إلا بعد دحوها فالإشكال باق، وعلى هذا لا يتفضى عن الإشكال إلا بما ذكر في ثم؛ أو أن بعد بمعنى قبل أو بمعنى مع.
(وَهِيَ دُخَانٌ) هو ما ارتفع من لهب النار ويستعار لما يرى من بخار الأرض، قال المفسرون هذا الدخان هو بخار الماء، وقياس جمعه في القلة أدخنة، وفي الكثرة دخيان، وهي من باب التشبيه الصوري لأن صورتها صورة الدخان في رأى العين، وخص سبحانه الاستواء إلى السماء مع كون الخطاب المترتب على ذلك متوجهاً إليها وإلى الأرض، كما يفيده قوله: (فَقَالَ لَهَا
_________
(1) سقط من الأصل: بل للتراخي الرتبى فيندفع الإشكال من أصله، وعلى تقدير ينها للتراخي الزماني.(12/231)
وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا) استغناء بما تقدم من ذكر تقديرها وتقدير ما فيها، ومعنى ائتيا إفعلا ما آمركما به، وجيئا به، كما يقال: ائت ما هو الأحسن أي افعله، وقيل: المعنى ائتيا على ما ينبغي أن تأتيا عليه من الشكل والوصف، ائتي يا أرض مدحورة قراراً ومهاداً لأهلك، وائتي يا سماء مقببة سقفاً لهم.
قال الواحدي: قال المفسرون: إن الله سبحانه قال: أما أنت يا سماء فأطلعي شمسك وقمرك ونجومك، وأما أنت يا أرض فشققي أنهارك وأخرجي ثمارك ونباتك، قاله ابن عباس، قرأ الجمهور ائتيا أمراً من الإتيان وقرىء آتيا قالتا آتينا، بالمد فيهما، وهو من المؤاتاة وهي الموافقة أي لتوافق كل منكما الأخرى لما يليق بها، وإليه ذهب الرازي والزمخشري، أو من الإيتاء وهو الإِعطاء قاله ابن عباس، فوزنه على الأول فاعلا كقاتلا، وعلى الثاني أفعلا كأكرما، وطوعاً وكرهاً مصدران في موضع الحال، أي طائعتين أو مكرهتين، وقرىء كرهاً بالضم.
قال الزجاج: أطيعا طاعة أو تكرهان كرهاً، قيل: ومعنى هذا الأمر لهما التسخير والحصول والوقوع أي كونا فكانتا، كما قال تعالى: (إنما أمرنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون) فالكلام من باب التمثيل لتأثير قدرته واستحالة امتناعهما أو من باب الاستعارة التخييلية.
(قالتا أتينا طائعين) أي أتينا أمرك منقادين وجمعهما جمع من يعقل لخطابهما بما يخاطب به العقلاء، وجمع الأمر لهما في الإخبار عنه لا يدل على جمعه في الزمان، بل قد يكون القول لهما متعاقباً، قال القرطبي: قال أكثر أهل العلم إن الله سبحانه خلق فيهما الكلام فتكلمتا كما أراد سبحانه، وقيل هو تمثيل لظهور الطاعة منهما وتأثير القدرة الربانية فيهما، والأول أولى، قال أبو نصر السكسي فنطق من الأرض موضع الكعبة، ونطق من السماء بحيالها، فوضع الله فيه حرمة.(12/232)
فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (12) فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ (13) إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (14)(12/233)
فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (12)
(فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ) تفسير وتفصيل لتكوين السماء المجمل، المعبر عنه بالأمر، وجوابه، لا أنه فعل مرتب على تكوينهما أي خلقهن خلقاً إبداعياً وأتقن أمرهن حسبما تقتضيه الحكمة، وأتمهن وفرغ منهن، والضمير إما راجع إلى السماء على المعنى لأنها سبع سموات، أو مبهم مفسر بسبع سموات، وانتصاب سبع على التفسير أو على البدل من الضمير، وقيل على أنه مفعول ثان لقضاهن لأنه مضمن معنى صيرهن، وقيل على الحال أي قضاهن حال كونهن معدودات بسبع، ويكون قضى بمعنى صنع، وقيل على التمييز.
(في يومين) الخميس والجمعة، وفرغ منها في آخر ساعة منه، وفيها خلق آدم. قال المحلي ولذلك لم يقل هنا سواء، ووافق ما هنا آيات خلق السموات والأرض في ستة أيام، والمعنى أنه مضى من المدة ما لو حصل هناك فلك وشمس لكان المقدار مقدراً بيومين، والمشهور أن الأيام الستة بقدر أيام الدنيا، وقيل بقدر ستة آلاف سنة حكاه القرطبي، قال مجاهد ويوم من الستة الأيام (كألف سنة مما تعدون).
(وأوحى في كل سماء أمرها) قال قتادة والسدي أي خلق فيها شمسها وقمرها ونجومها وأفلاكها، وما فيها من الملائكة والبحار والبرد والثلج. وقيل المعنى أوحى فيها ما أراده وما أمر به، والإيحاء قد يكون بمعنى الأمر كما في قوله (بأن ربك أوحى لها) وقوله (وإذ أوحيت إلى الحواريين) أي أمرتهم، وهو أمر تكوين، قال ابن عباس " ولله على كل سماء بيت نحج إليه(12/233)
وتطوف به الملائكة بحذاء الكعبة، والذي في السماء الدنيا هو البيت المعمور.
(وزينا السماء الدنيا) أي التي تلي الأرض (بمصابيح) أي بكواكب مضيئة متلألئة عليها كتلألؤ المصابيح، وفيه التفات إلى نون العظمة لإِبراز مزيد العناية بالتزيين المذكور.
(وحفظاً) أي وحفظناها حفظاً أو خلقنا المصابيح زينة وحفظاً والأول أولى. قال أبو حيان في الوجه الثاني هو تكلف عدول عن السهل البين، والمراد بالحفظ حفظها من الشياطين الذين يسترقون السمع (ذلك) أي ما وقع وتقدم ذكره (تقدير العزيز العليم) أي البليغ القدرة الكثير العلم.(12/234)
فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ (13)
(فإن أعرضوا) عن التدبر والتفكر في هذه المخلوقات، وعن الإيمان بعد هذا البيان -وفيه التفات من خطابهم بقوله أئنكم إلى الغيبة لفعلهم الإِعراض- فأعرض عن خطابهم، وهو تناسب حسن.
(فقل أنذرتكم) أي خوفتكم، وصيغة الماضي للدلالة على تحقق الإنذار المنبىء عن تحقق المنذر به (صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود) أي عذاباً مثل عذابهم، والمراد بالصاعقة العذاب المهلك من كل شيء، قال المبرد: الصاعقة المرة المهلكة لأي شيء كان، والصاعقة في الأصل هي الصيحة التي يحصل بها الهلاك أو قطعة نار تنزل من السماء معها رعد شديد، والمراد بها هنا مطلق العذاب. لكن بالنظر إلى الصاعقة الأولى، وأما الثانية فالمراد بها حقيقتها، قرأ الجمهور صاعقة بالألف في الموضعين، وقرىء صعقة فيهما، وقد تقدم بيان معنى الصاعقة والصعقة في البقرة.(12/234)
إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (14)
(إذ جاءتهم) أي إلى عاد وثمود، وإنما خص هاتين القبيلتين لأن قريشاً كانوا يمرون على بلادهم (الرسل) أي هود وصالح ومن قبلهما وكان هود وصالح بين نوح وإبراهيم، وليس بينهما غيرهما من الرسل، وأن الذين تقدموا عليهما من الرسل أربعة: نوح وإدريس وشيث وآدم.
(من بين أيديهم ومن خلفهم) أي أتوهم من كل جانب، وعملوا(12/234)
فيهم كل حيلة. فلم يروا منهم إلا الإعراض، وعن الحسن أنذروهم من وقائع الله فيمن قبلهم من الأمم وعذاب الآخرة والظرف متعلق بأنذرتكم أو بالصاعقة لأنها بمعنى العذاب أو حال من صاعقة عاد، وهذا أولى من الوجهين الأولين لأن الإِنذار لم يقع وقت مجيء الرسل فلا يصح أن يكون ظرفاً له، وكذلك الصاعقة لا يصح أن يكون الوقت ظرفاً لها، ومن في الموضعين متعلقة بجاءتهم أي من جميع جوانبهم أو من جهة الزمان الماضي بالإنذار عما جرى على الكفار أو من جهة المستقبل بالتحذير عما سيحيق بهم من عذاب الدنيا وعذاب الآخرة.
وقيل: المعنى جاءتهم الرسل المتقدمون والمتأخرون على تنزيل مجيء كلامهم ودعوتهم إلى الحق منزلة مجيء أنفسهم، فكأن الرسل قد جاؤوهم وخاطبوهم بقولهم:
(ألا تعبدوا إلا الله) أي بأن لا تعبدوا على أنها مصدرية أو تفسيرية أو مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير شأن محذوف، ثم ذكر سبحانه ما أجابوا به الرسل فقال: (قالوا) أي عاد وثمود مخاطبين لهود وصالح: (لو شاء ربنا لأنزل) أي لأرسل إلينا (ملائكة) ولم يرسل إلينا بشراً من جنسنا، ثم صرحوا بالكفر ولم يتلعثموا فقالوا: (فإنا بما أرسلتم به كافرون) أي كافرون بما تزعمونه من أن الله أرسلكم إلينا لأنكم بشر مثلنا لا فضل لكم علينا، فكيف اختصكم برسالته دوننا.
وقد تقدم دفع هذه الشبهة الدحضة التي جاؤوا بها في غير موضع، وفيه تغليب المخاطب على الغائب، فغلبوا هوداً وصالحاً على من قبلهما من الرسل، فكأنهم قالوا: فإنا كافرون بكما وَبِمَنْ دعوتمونا إلى الإيمان به ممن قبلكما من الرسل.
ولما ذكر عاد وثمود إجمالاً ذكر ما يختص بكل طائفة من الطائفتين تفصيلاً فقال:(12/235)
فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (15) فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ (16) وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (17) وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (18) وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (19) حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (20)(12/236)
فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (15)
(فأما عاد فاستكبروا في الأرض بغير الحق) أي بغير استحقاق ذلك الذي وقع منهم من التكبر والتجبر، ثم ذكر سبحانه بعض ما صدر عنهم من الأقوال الدالة على الاستكبار فقال: (وقالوا من أشد منا قوة) وكانوا ذوي أجسام طوال وخلق عظيم وقوة شديدة، فاغتروا بأجسامهم حين تهددهم هود بالعذاب، ومرادهم بهذا القول أنهم قادرون على دفع ما نزل بهم من العذاب، وبلغ من قوتهم أن الرجل كان يقتلع الصخرة من الجبل بيده، ويجعلها حيث يشاء، فرد الله عليهم بقوله:
(أولم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة) الاستفهام للاستنكار عليهم والتوبيخ، أي أولم يعلموا بأن الله أشد منهم قدرة وأوسع منهم قوة؟ فهو قادر على أن ينزل بهم من أنواع عقابه ما شاء، يقول كن فيكون، وقال (خلقهم)، ولم يقل خلق السموات، والأرض، لأن هذا أبلغ في تكذيبهم في ادعاء انفرادهم بالقوة، فإنهم حيث كانوا مخلوقين فبالضرورة أن خالقهم أشد قوة منهم.(12/236)
(وكانوا بآياتنا) أي بمعجزات الرسل التي خصهم الله بها وجعلها دليلاً على نبوتهم، أو بآياتنا التي أنزلناها على رسلنا أو بآياتنا التكوينية التي نصبناها لهم وجعلناها حجة عليهم، أو بجميع ذلك (يجحدون) ثم ذكر الله سبحانه ما أنزل عليهم من عذابه فقال:(12/237)
فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ (16)
(فأرسلنا عليهم ريحاً صرصراً) الصرصر الريح الشديدة الصوت من الصرة وهي الصيحة، قال أبو عبيدة: معنى صرصر شديدة عاصفة، وقال الفراء: هي الباردة تحرق كما تحرق النار، وقال عكرمة وسعيد بن جبير وقتادة: هي الباردة، وقال مجاهد: هي الشديدة السموم، والأولى تفسيرها بالبرد لأن الصر في كلام العرب البرد، قال ابن السكيت: صرصر يجوز أن يكون من الصر وهو البرد، ومن صرصر الباب، ومن الصرة وهي الصيحة، ومنه (وأقبلت امرأته في صرة).
ثم بين سبحانه وقت نزول ذلك العذاب عليهم فقال:
(فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ) أي نكدات مشئومات ذوات نحوس عليهم، قال مجاهد وقتادة: كن آخر شوال من يوم الأربعاء إلى يوم الأربعاء، وذلك (سبع ليال وثمانية أيام حسوماً) قيل: وما عذب قوم إلا في يوم الأربعاء، وقيل: نحسات باردات، حكاه الثعلبي، وقيل: متتابعات، وقيل: شداد، وقيل: ذوات غبار وتراب ثائر، لا يكاد يبصر فيه. قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو نحسات بإسكان الحاء على أنه جمع نحس، وقرأ الباقون بكسرها، واختار أبو حاتم الأولى لقوله (في يوم نحس مستمر)، واختار أبو عبيد الثاني (لنذيقهم) أي لكي نذيقهم.
(عذاب الخزي في الحياة الدنيا) والخزي هو الذل والهوان بسبب ذلك الاستكبار، وهو في الأصل صفة المعذب، وإنما وصف به العذاب على الإِسناد المجازي للمبالغة، فهو من إضافة الموصوف إلى صفته أي العذاب الخزي، ولهذا جاء:(12/237)
(ولعذاب الآخرة أخزى) أي أشد إهانة وذلاً، فلو لم يكن من إضافة الموصوف إلى صفته لم يأت بلفظ أخزى الذي يقتضي المشاركة (وهم لا ينصرون) أي لا يمنعون من العذاب النازل بهم ولا يدفعه عنهم دافع، ثم ذكر حال الطائفة الأخرى فقال:(12/238)
وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (17)
(وأما ثمود فهديناهم) أي بينا لهم سبيل النجاة، ودللناهم على طريق الحق بإرسال الرسل إليهم، ونصب الدلالات لهم من مخلوقات الله، وإنزال الآيات التشريعية، فإنها توجب على كل عاقل أن يؤمن بالله ويصدق رسله.
قال الفراء معنى الآية دللناهم على مذهب الخير بإرسال الرسل. قال الشيخ أبو منصور يحتمل ما ذكر من الهداية التبيين، وخلق الاهتداء فيهم، فصاروا مهتدين، ثم كفروا بعد ذلك وعقروا الناقة لأن الهدي المضاف إلى الخلق يكون بمعنى البيان والتوفيق، وخلق فعل الاهتداء، فأما الهدي المضاف إلى الخلق فيكون بمعنى البيان لا غير.
وقال صاحب الكشاف فيه فإن قلت أليس معنى قولك هديته جعلت فيه الهدي؟ والدليل عليه قولك هديته فاهتدى بمعنى تحصيل البغية وحصولها، كما تقول ردعته فارتدع فكيف ساغ استعماله في الدلالة المجردة؟ قلت للدلالة على أنه مكنهم فأزاح عللهم، ولم يبق لهم عذر فكأنه حصل البغية فيهم بتحصيل ما يوجبها ويقتضيها اهـ وإنما تمحل بهذا لأنه لا يتمكن من أن يفسره بخلق الاهتداء لأنه يخالف مذهبه الفاسد.
قرأ الجمهور ثمود بالرفع، ومنع الصرف، وقرىء بالرفع والصرف، وقرىء بالنصب والصرف، وقرىء بالنصب والمنع، فأما الرفع فعلى الابتداء وهو الفصيح وأما النصب فعلى الاشتغال، وأما الصرف فعلى تفسير الاسم بالأب أو الحي، وأما المنع فعلى تأويله بالقبيلة.
(فاستحبوا العمى على الهدى) أي اختاروا الكفر على الإيمان قال أبو العالية اختاروا العمى على البيان، وقال السدي اختاروا المعصية على الطاعة(12/238)
(فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ) قد تقدم أن الصاعقة اسم للشيء المهلك لأي شيء كان، والهون الهوان والإهانة، فكأنه قال أصابهم مهلك العذاب ذي الهوان أو الإِهانة، ويقال عذاب هون أي مهين كقوله (ما لبثوا في العذاب المهين) (بما كانوا يكسبون) الباء للسببية أي بسبب الذي كانوا يكسبونه، أو بسبب كسبهم وهو شركهم وتكذيبهم صالحاً.(12/239)
وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (18)
(ونجينا الذين آمنوا وكانوا يتقون) وهم صالح ومن معه من المؤمنين فإن الله نجاهم من ذلك العذاب وكانوا أربعة آلاف. ثم لما ذكر سبحانه ما عاقبهم به في الدنيا ذكر ما عاقبهم به في الآخرة فقال:(12/239)
وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (19)
(ويوم يحشر أعداء الله إلى النار) وصفهم بكونهم أعداء الله مبالغة في ذمهم، وقيل المراد بهم الكفار مطلقاً الأولين والآخرين، أي أذكر لقريش المعاندين لك حال الكفار يوم القيامة، لعلهم يرتدعوا وينزجروا، ومعنى حشرهم إلى النار سوقهم إليها أو إلى موقف الحساب، لأنه يتبين عنده فريق الجنة وفريق النار، قرأ الجمهور يحشر بالتحتية مضمومة ورفع أعداء على النيابة، وقرأ نافع بالنون ونصب أعداء.
(فهم يوزعون) أي يحبس أولهم على آخرهم ليتلاحقوا ويجتمعوا، كذا قال قتادة والسدي وغيرهما، وبه قال ابن عباس أي يستوقف سوابقهم حتى يلحق بهم تواليهم، وهي عبارة عن كثرة أهل النار، وأصله من وزعته أي كففته، وقد سبق تحقيق معناه في سورة النمل مستوفى، وعن ابن عباس قال: يدفعون، وقيل يساقون.(12/239)
حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (20)
(حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا) أي النار التي حشروا إليها وصاروا بحضرتها أو موقف الحساب و (ما) مزيدة للتوكيد (شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون) في الدنيا من المعاصي، وفي كيفية هذه الشهادة ثلاثة أقوال، أولها أن الله تعالى يخلق الفهم والقدرة والنطق فيها فتشهد كما يشهد الرجل على ما يعرفه، ثانيها أنه تعالى يخلق في تلك الأعضاء الأصوات(12/239)
والحروف الدالة على تلك المعاني، ثالثها أن يظهر في تلك الأعضاء أحوال تدل على صدور تلك الأعمال من ذلك الإنسان، وتلك الأمارات تسمى شهادات، كما يقال: العالم يشهد بتغيرات أحواله على حدوثه.
وقال الكرخي: ينطقها الله تعالى كإنطاق اللسان فتشهد. وليس نطقها بأغرب من نطق اللسان عقلاً، وإيضاحه أن البنية ليست شرطاً للحياة والعلم والقدرة فالله تعالى قادر على خلق العقل والقدرة والنطق في كل جزء من أجزاء هذه الأعضاء.
قال مقاتل تنطق جوارحهم بما كتمت ألسنهم من عملهم بالشرك.
والمراد بالجلود هي جلودهم المعروفة في قول أكثر المفسرين. وقيل: المراد بها الجوارح مطلقاً، فالعطف من قبيل عطف العام على الخاص. وقال السدي وعبيد الله بن أبي جعفر والفراء: أراد بالجلود الفروج وهو من باب الكنايات كما قال تعالى: (لا تواعدوهن سراً) أراد النكاح، وقال تعالى: (أو جاء أحد منكم من الغائط) والمراد قضاء الحاجة، وفي الحديث: " أول ما يتكلم من الآدمي فخذه وكفه "، وعلى هذا التقدير تكون الآية وعيداً شديداً في إتيان الزنا لأن مقدمة الزنا إنما تحصل بالفخذ والأول أولى.
ووجه تخصيص الثلاثة بالشهادة دون غيرها مع أن الحواس خمسة، وهي السمع والبصر والشم والذوق واللمس، وآلة اللمس هي الجلد، ما ذكره الرازي أن الذوق داخل في اللمس من بعض الوجوه، لأن إدراك الذوق إنما يتأتى بأن تصير جلدة اللسان مماسة لجرم الطعام، وكذلك الشم لا يتأتى حتى تصير جلدة الأنف مماسة لجرم المشموم فكانا داخلين في حس اللمس انتهى.
وإذا عرفت من كلامه هذا وجه تخصيص الثلاثة بالذكر عرفت منه وجه تخصيص الجلود بالسؤال كما قال:(12/240)
وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (21) وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ (22) وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23)(12/241)
وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (21)
(وقالوا لجلودهم) لأنها قد اشتملت على ثلاث حواس فكان تأتي المعصية من جهتها أكثر، وأما على قول من قال بالفروج فوجه تخصيصها بالسؤال ظاهر، لأن ما يشهد به الفرج من الزنا أعظم قبحاً وأجلب للخزي والعقوبة، قيل: والمراد بالجلود هنا المعنى الأعم، فليس في سؤالهم ترك سؤال السمع والبصر، بل هما داخلان في الجلود بالمعنى الذي علمته (لم شهدتم علينا) سؤال توبيخ وتعجب من هذا الأمر الغريب لكونها ليست مما ينطق ولكونها كانت في الدنيا مساعدة لهم على المعاصي فكيف تشهد الآن عليهم فلذلك استغربوا شهادتها وخاطبوها بصيغة خطاب العقلاء، لصدور ما يصدر من العقلاء عنها وهو الشهادة.
(قالوا) مجيبين لهم معتذرين: (أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء) مما ينطق من مخلوقاته، فشهدنا عليكم بما عملتم من القبائح، وقيل: المعنى ما نطقنا باختيارنا بل أنطقنا الله والأول أولى، والمعنى أن نطقنا ليس بعجيب من قدرة الله الذي قدر على إنطاق كل حيوان.
(وهو خلقكم أول مرة وإليه ترجعون) قيل: هذا من تمام كلام الجلود، وقيل إنه من كلام الملائكة، وقيل: مستأنف من كلام الله، والمعنى أن من قدر على خلقكم وإنشائكم ابتداء قدر على إعادتكم ورجعكم إليه، ولعل صيغة المضارع مع أن هذه المحاورة بعد البعث والرجوع لما أن(12/241)
المراد بالرجوع ليس مجرد الرد إلى الحياة بالبعث بل ما يعمه ويعم ما يترتب عليه من العذاب الخالد المترقب عند المخاطبة، فغلب المتوقع على الواقع.(12/242)
وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ (22)
(وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم) هذا تقريع لهم، وتوبيخ من جهة الله سبحانه أو من كلام الجلود، أي ما كنتم تستخفون عند الأعمال القبيحة وارتكاب الفواحش بالحيطان والحجب، حذراً من شهادة الجوارح عليكم، بل كنتم جاحدين بالبعث والجزاء أصلاً وهو قول أكثر العلماء. ولما كان الإنسان لا يقدر على أن يستخفي من جوارحه عند مباشرة المعصية كان معنى الاستخفاء هنا ترك المعصية، وقيل: معنى الاستتار الاتقاء أي ما كنتم تتقون في الدنيا أن تشهد عليكم جوارحكم في الآخرة، فتتركوا المعاصي خوفاً من هذه الشهادة، ومعنى أن تشهد لأجل أن تشهد، أو مخافة أن تشهد، وقيل إن الاستتار مضمن معنى الظن، أي وما كنتم تظنون أن تشهد وهو بعيد.
وأخرج عبد الرزاق وأحمد والنسائي وابن أبي حاتم والحاكم وصححه، والبيهقي في البعث عن معاوية ابن حيدة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " تحشرون ههنا وأوما بيده إلى الشام مشاة وركباناً وعلى وجوهكم، وتعرضون على الله وعلى أفواهكم الفدام وأول ما يعرب عن أحدكم فخذه وكفه وتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما كنتم تستترون " الخ.
وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن مسعود قال: " كنت مستتراً بأستار الكعبة فجاء ثلاثة نفر قرشي وثقفيان أو ثقفي وقرشيان، كثير لحم بطونهم قليل فقه قلوبهم، فتكلموا بكلام لم أسمعه فقال أحدهم: أترون أن الله يسمع كلامنا هذا؟ فقال الآخر: إن لنا آنا إذا رفعنا أصواتنا سمعه، وإنا إذا لم نرفعه لم يسمعه، فقال الآخر إنه إن سمع منه شيئاًً سمعه كله، قال: فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله: وما كنتم تستترون أن(12/242)
يشهد عليكم سمعكم إلى قوله من الخاسرين ".
(ولكن ظننتم) عند استتاركم من الناس مع عدم استتاركم من أعضائكم (أن الله لا يعلم كثيراً مما تعملون) من المعاصي فاجترأتم على فعلها قيل: كان الكفار يقولون: إن الله لا يعلم ما في أنفسنا، ولكن يعلم ما نظهر دون ما نسر، قال قتادة: الظن هنا بمعنى العلم، وقيل: أريد بالظن معنى مجازي يعم معناه الحقيقي، وما هو فوقه من العلم.(12/243)
وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23)
(وذلكم) أي ما ذكر من ظنكم مبتدأ (ظنكم) بدل منه (الذي ظننتم بربكم) نعت والخبر (أرداكم) أي أهلككم وطرحكم في النار، وقيل: ظنكم الخبر والموصول بدل أو بيان، وأرداكم حال، وقد مقدرة أو غير مقدرة، أي ذلكم ظنكم مردياً إياكم.
(فأصبحتم من الخاسرين) أي الكاملين في الخسران، قال المحققون الظن قسمان أحدهما حسن والآخر قبيح، فالحسن أن يظن بالله عز وجل: الرحمة والفضل والإحسان، قال صلى الله عليه وسلم، حكاية عن الله عز وجل: " أنا عند ظن عبدي بي " (1).
وأخرج أحمد وأبو داود والطيالسي وعبد بن حميد ومسلم وأبو داود وابن ماجة وابن حبان وابن مردويه عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله تعالى، فإن قوما قد أرداهم سوء ظنهم بالله، فقال الله وذلكم ظنكم " (2) الآية، والظن القبيح أن يظن أنه تعالى يعزب عن علمه بعض هذه الأفعال، وقال قتادة الظن نوعان مرد ومنج، فالمنجي قوله: (إني ظننت أني ملاق حسابيه)، وقوله: (الذين يظنون أنهم ملاقو ربهم)، والمردي هو قوله: (وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم) ثم أخبر عن حالهم فقال:
_________
(1) البخاري 8/ 431 - أحمد 3614/ 3875 والترمذي 2/ 152 والطبري 24/ 109.
(2) مسلم 4/ 2206.(12/243)
فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ (24) وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (25) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (26) فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (27) ذَلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (28)(12/244)
فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ (24)
(فإن يصبروا) على النار (فالنار مثوى لهم) أي محل استقرارهم وإقامتهم، لا خلاص ولا خروج لهم منها، صبروا أو لم يصبروا على كل حال؛ وقيل: المعنى فإن يصبروا في الدنيا على أعمال أهل النار فالنار مثوى لهم (وإن يستعتبوا فما هم من المعتبين) يقال أعتبني فلان أي أرضاني بعد إسخاطه إياي واستعتبته طلبت منه أن يرضى.
والمعنى أنهم إن يسألوا أن يرجع بهم إلى ما يحبون لم يرجع لأنهم لا يستحقون ذلك قال الخليل تقول استعتبته فاعتبني أي استرضيته فأرضاني ومعنى الآية إن يطلبوا الرضا لم يقع الرضا عنهم بل لا بد لهم من النار قرأ الجمهور يستعتبوا بفتح التحتية وكسر التاء الفوقية الثانية مبنياً للفاعل ومن المعتبين بفتح الفوقية اسم مفعول وقرىء يُستعتبوا مبنياً للمفعول وقرىء من المعتبين اسم فاعل أي أنهم إن أقالهم الله وردهم إلى الدنيا لم يعملوا بطاعته كما في قوله سبحانه (ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه).(12/244)
وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (25)
(وقيضنا) أصل التقييض التيسير والتهيئة أي هيأنا (لهم) أي لكفار قريش وغيرهم (قرناء) من الشياطين بمنزلة الإخلاء لهم جمع قرين بمعنى نظير كقوله (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ) وقال(12/244)
الزجاج سببنا لهم قرناء حتى أضلوهم وقيل سلطنا عليهم قرناء وقيل قدرنا والمعاني متقاربة أي يلازمونهم ويستولون عليهم استيلاء القيض على البيض والقيض قشر البيض الأعلى وقيل إن الله قيض لهم قرناء في النار والأولى أن ذلك في الدنيا لقوله:
(فزينوا لهم ما بين أيديهم وما خلفهم) فإن المعنى زينوا لهم ما بين أيديهم من أمور الدنيا وشهواتها وحملوهم على الوقوع في معاصي الله بانهماكهم فيها وزينوا لهم ما خلفهم من أمور الآخرة فقالوا لا بعث ولا حساب ولا جنة ولا نار وقال الزجاج ما بين أيديهم ما عملوه وما خلفهم ما عزموا على أن يعملوه وروي عنه أيضاًً أنه قال ما بين أيديهم من أمر الآخرة وما خلفهم من أمر الدنيا بأن الدنيا قديمة ولا صانع إلا الطبائع والأفلاك.
(وحق عليهم القول) أي وجب وثبت عليهم العذاب وتحقق مقتضاه وهو قوله سبحانه (لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين) (في أمم) أي كائنين في جملة أمم وقيل في بمعنى مع أي مع أمم من الأمم الكافرة ولا حاجة إلى بدل حرف من حرف مع إمكان بقائه على بابه والمعنى الأمم التي (قد خلت) ومضت (من قبلهم من الجن والإنس) على الكفر (إنهم كانوا خاسرين) تعليل لاستحقاقهم العذاب قاله الكرخي.(12/245)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (26)
(وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن) أي قال بعضهم لبعض لا تسمعوه ولا تنصتوا له وقيل المعنى لا تطيعوا يقال سمعت لك أي أطعتك (وَالْغَوْا فِيهِ) أي عارضوه باللغو والباطل أو ارفعوا أصواتكم ليتشوش القارىء له وقال مجاهد الغوا فيه بالمكاء والتصدية والتصفيق والتخليط في الكلام حتى يصير لغواً وقال الضحاك أكثروا الكلام ليختلط عليه ما يقول وقال أبو العالية قعوا فيه وعيبوه قرأ الجمهور ألغوا بفتح الغين من لغا إذا تكلم باللغو وهو ما لا فائدة فيه أو من لغى بالفتح يلغي بالفتح أيضاًً كما حكاه الأخفش وكان قياسه الضم كغزا يغزو ولكنه فتح لأجل حرف الحلق أو من لغا بكذا إذا رمى به فتكون في بمعنى الباء أي ارموا به وقرىء بضم الغين من لغا بالفتح يلغو كدعا(12/245)
يدعو وفي الحديث " فقد لغوت " وهذا موافق لقراءة غير الجمهور.
وقد تقدم الكلام في اللغو في سورة البقرة (لعلكم تغلبون) أي لكي تغلبوا فيسكتوا، عن ابن عباس قال " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو بمكة إذا قرأ القرآن يرفع صوته فكان المشركون يطردون الناس عنه ويقولون (لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون) وكان إذا أخفى قراءته لم يسمع من يحب أن يسمع القرآن فأنزل الله (ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها) " أخرجه ابن أبي حاتم.
ثم توعدهم سبحانه على ذلك فقال:(12/246)
فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (27)
(فلنذيقن الذين كفروا عذاباً شديداً) هذا وعيد لجميع الكفار ويدخل فيهم الذين السياق معهم دخولاً أولياً (ولنجزينهم أسوأ الذي كانوا يعملون) أي ولنجزينهم في الآخرة جزاء أقبح أعمالهم التي عملوها في الدنيا قال مقاتل وهو الشرك وقيل المعنى أنه يجازيهم بمساوىء أعمالهم لا بمحاسنها كما يقع منهم من صلة الأرحام وإكرام الضيف لأن ذلك باطل لا أجر له مع كفرهم.
وفي هذا تعريض بمن لا يكون عند كلام الله المجيد خاضعاً خاشعاً متفكرا متدبراً وتهديد ووعيد لمن يصدر عنه عند سماعه ما يشوش على القارىء ويخلط عليه القراءة فانظر إلى عظمة القرآن وتأمل في هذا التغليظ والتشديد وأشهد لمن عظمه وأجل قدره وألقى إليه السمع وهو شهيد بالفوز العظيم والأجر الكبير.(12/246)
ذَلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (28)
(ذلك) أي العذاب الشديد وأسوأ الجزاء (جزاء أعداء الله النار) بدل أو عطف بيان للجزاء المخبر به عن ذلك أو خبر مبتدأ مضمر أو مبتدأ خيره (لهم فيها دار الخلد) أي دار الإقامة المستمرة التي لا انقطاع لها ولا انتقال عنها (جزاء بما كانوا بآياتنا يجحدون) أي يجزون جزاء بسبب جحدهم بآيات الله.
قال مقاتل يعني القرآن يجحدون أنه من عند الله وعلى هذا يكون التعبير عن اللغو بالجحود لكونه سبباً له إقامة للسبب مقام المسبب.(12/246)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا اللَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ (29) إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31) نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (32)(12/247)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا اللَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ (29)
(وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا اللَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) قالوا هذا وهم في النار وذكره بلفظ الماضي تنبيهاً على تحقق وقوعه والمراد أنهم طلبوا من الله سبحانه أن يريهم من أضلهم من فريقي الجن والإنس من الرؤساء الذين كانوا يزينون لهم الكفر ومن الشياطين الذين كانوا يسولون لهم ويحملونهم على المعاصي لأن الشيطان على ضربين جني وإنسي.
قال تعالى: (وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً شياطين الإِنس والجن) وقال (الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ) قال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه وأرضاه - هو ابن آدم الذي قتل أخاه وإبليس أي لأنهما سنا المعصية لبني آدم، قرأ الجمهور: أرنا بكسر الراء وقرىء: بسكونها وهما لغتان بمعنى واحد.
وقال الخليل إذا قلت أرني ثوبك بالكسر فمعناه بصرنيه وبالسكون أعطنيه (نجعلهما تحت أقدامنا) في النار أي ندوسهما بأقدامنا لنشتفي منهما وليكونا وقاية بيننا وبينها فتخف عنا حرارتها نوع خفة و (ليكونا من الأسفلين) فيها مكاناً أو ليكونا من الأذلين المهانين وقيل ليكونا أشد عذاباً منا قال الزجاج ليكونا في الدرك الأسفل وممن هو دوننا ثم لما ذكر سوء عقاب الكافرين وما أعده لهم ذكر حسن حال المؤمنين وما أنعم به عليهم فقال:(12/247)
إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30)
(إن الذين قالوا ربنا الله) وحده لا شريك له.
(ثم استقاموا) أي داموا وثبتوا على التوحيد ولم يلتفتوا إلى إله غير الله وثم للتراخي في الزمان من حيث أن الاستقامة أمر يمتد زمانه أفاده أبو السعود وقال الخطيب ثم لتراخي الرتبة في الفضيلة فإن الثبات على التوحيد ومصححاته إلى الممات في علو رتبته أمر لا يرام إلا بتوفيق ذي الجلال والإكرام قال جماعة من الصحابة والتابعين معنى الاستقامة إخلاص العمل لله تعالى.
وقال قتادة وابن زيد ثم استقاموا على طاعة الله وقال الحسن استقاموا على أمر الله فعملوا بطاعته واجتنبوا معاصيه وقال ابن عباس ومجاهد وعكرمة استقاموا على شهادة أن لا إله إلا الله حتى ماتوا وقال الثوري عملوا على وفاق ما قالوا وقال الربيع أعرضوا عما سوى الله وقال الفضيل بن عياض زهدوا في الفانية ورغبوا في الباقية.
عن أنس قال: " قرأ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية قال: قد قالها ناس من الناس ثم كفر أكثرهم فمن قالها حين يموت فهو ممن استقام عليها " أخرجه الترمذي والنسائي والبزار وأبو يعلى وغيرهم وقال أبو بكر الصديق الاستقامة أن لا يشركوا بالله شيئاً وعنه قال لم يرجعوا إلى عبادة الأوثان قال أبو حيان قال ابن عباس نزلت هذه الآية في أبي بكر الصديق وعن بعض الصحابة قال ثم استقاموا على فرائض الله.
وعن عمر بن الخطاب قال: استقاموا بطاعة الله لم يروغوا روغان الثعلب وأخرج أحمد وعبد بن حميد والدارمي والبخاري في تاريخه ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجة وابن حبان عن سفيان بن عبد الله الثقفي أن رجلاً قال: " يا رسول الله مرني بأمر في الإسلام لا أسأل عنه أحداً بعدك. قال: قل(12/248)
آمنت بالله ثم استقم. قلت: فما أتقي؟ فأومأ إلى لسانه (1) " قال الترمذي: حسن صحيح.
(تتنزل عليهم الملائكة) من عند الله بالبشرى التي يريدونها من جلب نفع أو دفع ضر أو رفع حزن قال ابن زيد ومجاهد تتنزل عليهم عند الموت وقال مقاتل وقتادة إذا قاموا من قبورهم للبعث وقال وكيع البشرى في ثلاثة مواطن عند الموت وفي القبر وعند البعث قال البيضاوي أو في حياتهم فيما يعرض لهم من الأحوال تأتيهم بما يشرح صدورهم ويدفع عنهم الخوف والحزن.
(أن لا تخافوا ولا تحزنوا) أن هي المخففة أو المفسرة أو الناصبة ولا على الوجهين الأولين ناهية وعلى الثالث نافية والمعنى لا تخافون مما تقدمون عليه من أمور الآخرة ولا تحزنوا على ما فاتكم من أمور الدنيا من أهل وولد ومال.
قال مجاهد لا تخافوا الموت ولا تحزنوا على أولادكم فإن الله خليفتكم عليهم وقال عطاء لا تخافوا رد ثوابكم فإنه مقبول ولا تحزنوا على ذنوبكم فإني أغفرها لكم والظاهر عدم تخصيص تنزل الملائكة عليهم بوقت معين وعدم تقييد نفي الخوف والحزن بحالة مخصوصة كما يشعر به حذف المتعلق في الجميع والخوف غم يلحق النفس لتوقع مكروه في المستقبل والحزن غم يلحقها لفوات نفع في الماضي.
(وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون) بها على ألسنة الرسل في الدنيا فإنكم واصلون إليها مستقرون بها خالدون في نعيمها ثم بشرهم سبحانه بما هو أعظم من ذلك كله فقال
_________
(1) مسلم 1/ 65 - السيوطي في الدر 5/ 363.(12/249)
نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31)
(نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة) أي نحن المتولون لحفظكم ومعونتكم في أمور الدنيا وأمور الآخرة ومن كان الله وليه فاز بكل مطلب ونجا من كل مخافة وقيل إن هذا من قول الملائكة.(12/249)
قال مجاهد يقولون لهم نحن قرناؤكم الذين كنا معكم في الدنيا فإذا كان يوم القيامة قالوا لا نفارقكم حتى تدخلوا الجنة.
وقال السدي نحن الحفظة لأعمالكم في الدنيا وأنصاركم وأحباؤكم وأولياؤكم في الآخرة وقيل أنهم يشفعون لهم في الآخرة ويتلقونهم بالكرامة وقال النسفي رحمه الله كما أن الشياطين قرناء العصاة والكافرين فكذلك الملائكة أولياء المتقين وأحباؤهم في الدارين (ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم) من صنوف الكرامات واللذات وأنواع النعم (ولكم فيها ما تدعون) أي تتمنون افتعال من الدعاء بمعنى الطلب.
وقد تقدم بيان معنى هذا في قوله (ولهم ما يدعون) مستوفى، والفرق بين الجملتين أن الأولى باعتبار شهوات أنفسهم، والثانية باعتبار ما يطلبونه، أعم من أن يكون مما تشتهيه أنفسهم أولاً، إذ لا يلزم أن يكون كل مطلوب مشتهى، كالفضائل العلمية، وإن كان الأول أعم أيضاً من وجه بحسب حال الدنيا فالمريض لا يريد ما يشتهيه ويضر مرضه إلا أن يقال التمني أعم من الإرادة، وقال الرازي: الأقرب عندي أن قوله: (ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم) إشارة إلى الجنة الروحانية المذكورة في قوله (دعواهم فيها سبحانك اللهم) الآية.
وانتصاب(12/250)
نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (32)
(نزلاً من غفور رحيم) على الحال من الموصول، أو من عائده أو من فاعل تدعون أو هو مصدر مؤكد لفعل محذوف أي أنزلنا نزلاً والنزل ما يعد لهم حال نزولهم من الرزق والضيافة، قال النسفي: هو رزق النزيل وهو الضيف، وقد تقدم تحقيقه في سورة آل عمران قال أهل المعاني كل هذه الأشياء المذكورة في هذه الآية جارية مجرى النزل، والكريم إذا أعطى هذا النزل، فما ظنك بما بعده من الألطاف والكرامة.(12/250)
وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33) وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35)(12/251)
وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33)
(وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ) أي إلى توحيده وطاعته قال الحسن هو المؤمن أجاب الله في دعوته، ودعا الناس إلى ما أجاب الله فيه من طاعته (وعمل صالحاً) في إجابته (وقال إنني من المسلمين) لربي، وليس الغرض منه القول فقط بل يضم إليه إعتقاد القلب فيعتقد بقلبه دين الإسلام مع التلفظ، أي قال ذلك ابتهاجاً بالإسلام وفرحاً به واتخاذاً له ديناً ومذهباً وتفاخراً به، قال ابن سيرين والسدي وابن زيد: هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وروي هذا أيضاًً عن الحسن.
وقال عكرمة وقيس بن أبي حازم ومجاهد: نزلت في المؤذنين قالت عائشة الداعي إلى الله المؤذن والعمل الصالح ركعتان فيما بين الأذان والإقامة وعنها قالت: ما أرى هذه الآية نزلت إلا في المؤذنين، ويجاب عن هذا بأن الآية مكية والأذان إنما شرع بالمدينة والأولى حمل الآية على العموم كما يقتضيه اللفظ، ويدخل فيها من كان سبباً لنزولها دخولاً أولياً، فكل من جمع بين دعاء العباد إلى ما شرعه الله وعمل عملاً صالحاً، وهو تأدية ما فرضه الله عليه مع اجتناب ما حرمه عليه.
وكان من المسلمين ديناً لا من غيرهم، فلا شيء أحسن منه ولا أوضح من طريقته، ولا أكثر ثواباً من عمله، قيل: وللدعوة إلى الله مراتب الأولى(12/251)
دعوة الأنبياء إلى الله بالمعجزات، وبالحجج والبراهين، وبالسيف، وهذه المرتبة لم تتفق لغير الأنبياء. المرتبة الثانية: دعوة العلماء إلى الله بالحجج والبراهين فقط، والعلماء أقسام علماء بالله وعلماء بصفات الله وعلماء بأحكام الله. المرتبة الثالثة دعوة المجاهدين إلى الله بالسيف والسنان، فهم يجاهدون الكفار حتى يدخلوا في دين الله وطاعته. المرتبة الرابعة دعوة المؤذنين إلى الصلاة فهم أيضاًً دعاة إلى الله وإلى طاعته.
ثم بين سبحانه الفرق بين محاسن الأعمال ومساويها فقال:(12/252)
وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34)
(ولا تستوي الحسنة ولا السيئة) أي لا تستوي الحسنة التي يرضى بها الله ويثيب عليها، ولا السيئة التي كرهها الله ويعاقب عليها، ولا وجه لتخصيص الحسنة بنوع من أنواع الطاعات وتخصيص السيئة بنوع من أنواع المعاصي، فإن اللفظ أوسع من ذلك، وقيل الحسنة التوحيد والسيئة الشرك وقيل الحسنة المدارة، والسيئة الغلظة وقيل الحسنة العفو والسيئة الانتصار وقيل الحسنة العلم، والسيئة الفحش، وقيل غير ذلك. قال الفراء (لا) في (ولا السيئة) زائدة، والجملة مستأنفة سيقت لبيان محاسن الأعمال الجارية بين العباد، إثر بيان محاسن الأعمال الجارية بين العبد وبين الرب، ترغيباً لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الصبر على أذية المشركين، ومقابلة إساءتهم بالإحسان.
(ادفع بالتي هي أحسن) استئناف مبين لحسن عاقبة الحسنة، أي ادفع السيئة إذا جاءتك من المسيء بأحسن ما يمكن دفعها به من الحسنات، ومنه مقابلة الإساءة بالإحسان، والذنب بالعفو، والغضب بالصبر، والإغضاء عن الهفوات، والاحتمال للمكروهات، قال ابن عباس أمر المسلمين بالصبر عند الغضب، والحلم عند الجهل: والعفو عند الإساءة، فإذا فعلوا ذلك عصمهم الله من الشيطان وخضع لهم عدوهم كأنه ولي حميم وقال ابن عباس القه بالسلام وقال مجاهد وعطاء: بالتي هي أحسن يعني بالسلام إذا لقي من(12/252)
يعاديه، وقيل بالمصافحة عند التلاقي.
والمعنى أن الحسنة والسيئة متفاوتتان في أنفسهما، فخذ بالحسنة التي هي أحسن من أختها إذا اعترضتك حسنتان فادفع بها السيئة التي ترد عليك من بعض أعدائك، كما لو أساء إليك رجل إساءة فالحسنة أن تعفو عنه والتي هي أحسن أن تحسن إليه مكان إساءته إليك، مثل أن يذمك فتمدحه، أو يقتل ولدك فتفتدي ولده من يد عدوه، ووضع التي هي أحسن موضع الحسنة ليكون أبلغ في الدفع بالحسنة، لأن من دفع بالحسنى هان عليه الدفع بما دونها.
(فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم) هذه هي الفائدة الحاصلة من الدفع بالتي هي أحسن، والمعنى أنك إذا فعلت ذلك الدفع صار العدو كالصديق، والبعيد عنك كالقريب منك، وقال مقاتل: نزلت في أبي سفيان ابن حرب كان معادياً للنبي صلى الله عليه وسلم، فصار له ولياً بالمصاهرة التي وقعت بينه وبينه، ثم أسلم فصار ولياً في الإسلام، حميماً بالمصهارة، وقيل غير ذلك، والأولى حمل الآية على العموم.(12/253)
وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35)
(وما يلقاها) قال الزجاج: أي ما يلقى هذه الفعلة وهذه الحالة وهي دفع السيئة بالحسنة (إلا الذين صبروا) على كظم الغيظ، واحتمال المكروه، وتجرع الشدائد، وترك الانتقام. وقال أنس: الرجل يشتمه أخوه فيقول: إن كنت صادقاً غفر الله لي، وإن كنت كاذباً فغفر الله لك.
(وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم) في الثواب والخير، أو من الخلق الحسن وكمال النسب، وهذا أنسب. وقال قتادة: الحظ العظيم الجنة أي ما يلقاها إلا من وجبت له الجنة، وقيل الضمير في يلقاها عائد إلى الجنة، وقيل راجعة إلى كلمة التوحيد، قرأ الجمهور، يلقاها من التلقية، وقرىء تلاقاها من الملاقاة ثم أمر سبحانه بالاستعاذة من الشيطان فقال:(12/253)
وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (36) وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (37) فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ (38) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39) إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (40) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (41)(12/254)
وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (36)
(وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ) النزغ شبيه النخس، شبه به الوسوسة لأنها تبعث على الشر، وجعل النزغ نازغاً على سبيل المجاز العقلي، كقولهم جد جده، أو أريد: وإما ينزغنك نازغ وصفاً للشيطان بالمصدر، أو لتسويله، والمعنى: وإن صرفك الشيطان عن شيء مما شرعه الله لك أو عن الدفع بالتي هي أحسن (فاستعذ بالله) من شره وامض على حلمك ولا تطعه.
وجملة: (إنه هو السميع العليم) تعليل لما قبلها، أي السميع لكل ما يسمع، ومنه استعاذتك، والعليم بكل ما يعلم ومنه فعلك وأحوالك، ومن كان كذلك فهو يعيذ من استعاذ به، وقال هنا بزيادة هو وأل، وفي الأعراف بدونهما، لأن ما هنا متصل بمؤكد بالتكرار وبالحصر، فناسب التأكيد بما ذكر، وما في الأعراف خلي عن ذلك، فجرى على القياس من كون المسند إليه معرفة والمسند نكرة.
أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن سليمان بن صرد قال: استب(12/254)
رجلان عند النبي صلى الله عليه وسلم فاشتد غضب أحدهما، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه الغضب: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فقال الرجل: أمجنون تراني فتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم) ".
ثم شرع سبحانه في بيان بعض آياته البديعة، الدالة على كمال قدرته وقوة تصرفه للاستدلال بها على توحيده فقال:(12/255)
وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (37)
(ومن آياته الليل والنهار) في تعاقبهما على حد معلوم، وتناوبهما على قدر مقسوم (والشمس والقمر) في اختصاصهما بسير مقدر ونور مقرر، هذا رد على قوم عبدوا الشمس والقمر، وإنما تعرض للأربعة مع أنهم لم يعبدوا الليل والنهار للإيذان بكمال سقوط الشمس والقمر عن رتبة السجودية لهما، بنظمهما في المخلوقية في سلك الأعراض التي لا قيام لها بذاتها، وهذا هو السر في نظم الكل في سلك آياته، ثم لما بين أن ذلك من آياته نهاهم عن عبادة الشمس والقمر، وأمرهم أن يسجدوا لله عز وجل فقال: (لا تسجدوا للشمس ولا للقمر) لأنهما مخلوقان من مخلوقاته وإن كثرت منافعهما فلا يصح أن يكونا شريكين له في ربوبيته.
(واسجدوا لله الذي خلقهن) أي هذه الأربعة المذكورة، لأن جمع ما لا يعقل حكمه حكم جمع الإناث، أو الآيات، أو الشمس والقمر، لأن الاثنين جمع عند جماعة من الأئمة. قال السمين: وإنما عبر عن الأربع بضمير الإناث مع أن فيها ثلاثة مذكرة والعادة تغليب المذكر على المؤنث، لأنه لما قال: ومن آياته فنظم الأربعة في سلك الآيات صار كل واحد منها آية فعبر عنها بضمير الإناث في قوله: خلقهن.
(إن كنتم إياه تعبدون) قيل: كان ناس يسجدون للشمس والقمر كالصابئين في عبادتهم الكواكب، ويزعمون أنهم يقصدون بالسجود لهما السجود لله، فنهوا عن ذلك، فهذا وجه تخصيص ذكر السجود بالنهي عنه،(12/255)
وقيل: وجه تخصيصه أنه أقصى مراتب العبادة.
وهذه الآية من آيات السجود بلا خلاف، وإنما اختلفوا في موضع السجدة فقيل: موضعها عند قوله (إن كنتم إياه تعبدون)، لأنه متصل بالأمر، وقيل عند قوله (وهم لا يسأمون) لأنه تمام الكلام، وعن ابن عباس أنه كان يسجد بآخر الآيتين من حم السجدة، وكان ابن مسعود يسجد بالأولى منهما، وعن ابن عمر أنه كان يسجد بالأولى ويسجد بالآية الأخيرة.(12/256)
فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ (38)
(فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ) أي إن استكبر هؤلاء عن الامتثال فدعهم وشأنهم، فإن لله عباداً يعبدونه كالملائكة يديمون التسبيح لله سبحانه بالليل والنهار، أو يصلون له وهم لا يملون ولا يفترون، يعني أن الله لا يعدم عابداً أبداً، بل من خلقه من يعبده على الدوام، والعندية عندية مكانة وتشريف، وفي الحديث " أنا عند ظن عبدي بي " و " أنا عند المنكسرة قلوبهم ".(12/256)
وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39)
(ومن آياته) الدالة على قدرته ووحدانيته (أنك) الخطاب لكل من يصلح له، أو لرسول الله صلى الله عليه وسلم (ترى الأرض) أي بعضها بحاسة البصر، وبعضها بعين البصيرة، قياساً على ما أبصرت (خاشعة) يابسة لا نبات فيها، متطامنة، وهي أنسب بلفظ خاشعة، والخاشعة اليابسة الجدبة الجامدة، وقيل: الغبراء التي لا تنبت، قال الأزهري. إذا يبست الأرض ولم تمطر، قيل: قد خشعت والخشوع التذلل والتقاصر، فاستعير لحال الأرض إذا كانت قحطة لا نبات فيها، كما وصفها بالهمود في قوله تعالى (وترى الأرض هامدة) وهو خلاف وصفها بالاهتزاز والربو كما قال: (فإذا أنزلنا عليها الماء) أي ماء المطر أو غيره (اهتزت) تحركت بالنبات حركة عظيمة كثيرة سريعة فكان كمن يعالج ذلك بنفسه، يقال اهتز الإنسان إذا تحرك.
(وربت) انتفخت وعلت قبل أن تنبت، قاله مجاهد وغيره أي تصدعت عن النبات بعد موتها، وعلى هذا ففي الكلام تقديم وتأخير(12/256)
وتقديره: ربت واهتزت وقيل: الاهتزاز والربو قد يكونان قبل خروج النبات من الأرض وقد يكونان بعده، ومعنى الربو لغة الارتفاع. كما يقال للموضع المرتفع: ربوة ورابية فالنبات يتحرك للبروز ثم يزداد في جسمه بالكبر طولاً وعرضاً.
وقد تقدم تفسير هذه الآية مستوفى في سورة الحج، وقيل اهتزت استبشرت بالمطر وربت انتفخت بالنبات، وقيل تشققت فارتفع ترابها. وخرج منها النبات وسما في الجو مغطياً لوجهها، وتشعبت عروقه وغلظت سوقه، فصار يمنع سلوكها على ما كانت فيه من السهولة، وتزخرفت بذلك النبات كأنها بمنزلة المختال في زيه. لما كانت قبل ذلك كالذليل، وقرأ أبو جعفر وخالد ربأت (إن الذي أحياها لمحيي الموتى) بالبعث والنشور (إنه على كل شيء قدير) لا يعجزه شيء كائناً ما كان.(12/257)
إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (40)
(إن الذين يلحدون في آياتنا) أي يمليون عن الحق والاستقامة في آياتنا بالطعن والتحريف، والتأويل الباطل، واللغو فيها، والإلحاد الميل والعدول ومنه اللحد في القبر، لأنه أميل إلى ناحية منه، يقال: الحد في دين الله أي مال عنه وعدل، ويقال لحد وهو لغة فيه، وقد تقدم تفسير الإلحاد، ويقال: ألحد الحافر ولحد إذا مال عن الاستقامة فحفر في شق، فاستعير لحال الأرض إذا كانت ملحودة، فاستعير للانحراف في تأويل آيات القرآن عن جهة الصحة والاستقامة، قال مجاهد: معنى الآية يميلون عن الإيمان بالقرآن، وقال أيضاًً: يميلون عند تلاوة القرآن بالمكاء والتصدية، واللغو والغناء، وقال قتادة يكذبون في آياتنا، وقال السدي: يعاندون ويشاقون، وقال ابن زيد: يشركون، والمعاني متقاربة، وقال ابن عباس في الآية؛ هو أن يضع الكلام في غير موضعه.
(لا يخفون علينا) بل نحن نعلمهم فنجازيهم بما يعملون، قيل: نزلت في أبي جهل، ثم بين كيفية الجزاء والتفاوت بين المؤمن والكافر فقال: (أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ) الاستفهام(12/257)
للتقرير، والغرض منه التنبيه على أن الملحدين في الآيات يلقون في النار، وأن المؤمنين بها يأتون آمنين يوم القيامة.
وظاهر الآية العموم اعتباراً بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فهو تمثيل للكافر والمؤمن، وقيل: المراد بمن يلقى في النار أبو جهل، ومن يأتي آمناً النبي صلى الله عليه وسلم، وقيل حمزة وقيل عمر بن الخطاب وقيل: أبو سلمة بن عبد الأسود المخزومي، وقال ابن عباس: أبو جهل ابن هشام ومن يأتي آمناً يوم القيامة أبو بكر الصديق. وعن بشير بن تميم قال: نزلت في أبي جهل وعمار بن ياسر، وعن عكرمة مثله، وكان الظاهر أن يقال أم من يدخل الجنة؟ وعدل عنه للتصريح بأمنهم، وانتفاء الخوف عنهم، قاله الكرخي. وترسم (أم) مفصولة من (من) اتباعاً للمصحف الإمام.
(اعملوا) هذا أمر تهديد، أي اعملوا من أعمالكم التي تلقيكم في النار (ما شئتم) فهو مجازيكم على كل ما تعملون، قال الزجاج: لفظه لفظ الأمر، ومعناه الوعيد، وقال ابن عباس: هذا لأهل بدر خاصة (إنه بما تعملون بصير) لا تخفى عليه منه خافية فيجازيكم عليه.(12/258)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (41)
(إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم) الجملة مستأنفة مقررة لما قبلها، وخبر إن محذوف أي إن الذين كفروا بالقرآن لما جاءهم يجازون بكفرهم، أو هالكون. أو يعذبون. وقيل هو قوله: (ينادون من مكان بعيد) وهذا بعيد وإن رجحه أبو عمرو بن العلاء، وذكر السمين في خبر إن أعاريب ووجوهاً لا نطول بذكرها (وإنه) أي القرآن الذي كانوا يلحدون فيه (لكتاب عزيز) عن أن يعارض أو يطعن فيه الطاعنون منيع عن كل عيب محمي بحماية الله وقيل: عديم نظيره، وذلك أن الخلق عجزوا عن معارضته، وقيل: أعزه الله بمعنى منعه أي ممتنع عن قبول الإبطال والتحريف.
ثم وصفه بأنه حق لا سبيل للباطل إليه بوجه من الوجوه فقال:(12/258)
لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42) مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ (43) وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (44) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (45) مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (46)(12/259)
لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42)
(لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ) قال الزجاج: معناه أنه محفوظ من أن ينقص منه فيأتيه الباطل من بين يديه، أو يزاد فيه فيأتيه الباطل من خلفه. وبه قال قتادة والسدي ومعنى الباطل على هذه الزيادة والنقصان، وقال مقاتل لا يأتيه التكذيب من الكتب التي قبله، ولا يجيء من بعده كتاب فيبطله، وبه قال الكلبي وسعيد بن جبير، وقيل: الباطل هو الشيطان أي لا يستطيع أن يزيد فيه ولا ينقص منه. وقيل: لا يزاد فيه ولا ينقص منه، لا من جبريل ولا من محمد صلى الله عليه وسلم. وقيل لا يأتيه التبديل والتناقض بوجه من الوجوه، وقيل: لا يأتيه الباطل عما أخبر فيما تقدم من الزمان، ولا فيما تأخر، وقيل: إن الباطل لا يتطرق إليه ولا يجد إليه سبيلاً من جهة من الجهات، حتى يصل إليه والمعنى كل ما فيه حق وصدق، ليس فيه ما لا يطابق الواقع، والعموم أولى.
(تنزيل من حكيم حميد) خبر مبتدأ محذوف، أو صفة أخرى لكتاب ثم سلى سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم عما كان يتأثر له من أذية الكفار فقال(12/259)
مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ (43)
(ما يقال لك) من هؤلاء الكفار من وصفك بالسحر والكذب والجنون (إلا) مثل (ما قد قيل للرسل من قبلك) فإن قومهم كانوا يقولون لهم مثل(12/259)
ما يقول لك هؤلاء، وقيل: المعنى ما يقال لك من التوحيد وإخلاص العبادة لله إلا ما قد قيل للرسل من قبلك. فإن الشرائع كلها متفقة على ذلك وقيل هو استفهام أي أيُّ شيء يقال لك.
(إن ربك لذو مغفرة) لمن يستحق مغفرته من الموحدين الذين تابعوك وتابعوا من قبلك من الأنبياء (وذو عقاب أليم) للكفار المكذبين المعادين لرسل الله، وقيل: لذو مغفرة للأنبياء وذو عقاب لأعدائهم.(12/260)
وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (44)
(ولو جعلناه قرآناً أعجمياً) أي لو جعلنا هذا القرآن الذي تقرأه على الناس بغير لغة العرب، ولا حجة فيه لأبي حنيفة رحمه الله في جواز الصلاة إذا قرأ بالفارسية كما زعمه النسفي وغيره لأن التركيب خارج مخرج الفرض والتقدير دون الوقوع والتحقيق (لقالوا لولا فصلت آياته) أي بينت بلغتنا فإننا عرب لا نفهم لغة العجم والاستفهام في قوله (أأعجمي وعربي) للإنكار وهو من جملة قول المشركين، أي لقالوا: كلام أعجمي ورسول عربي، والأعجمي الذي لا يفصح سواء كان من العرب أو من العجم، والياء للمبالغة في الوصف كأحمري، وليس النسب فيه حقيقياً.
وقال الرازي في لوامحه. هي كياء كرسي ويختي، وفرق بينهما الشيخ، والأعجم ضد الفصيح وهو الذي لا يبين كلامه، ويقال للحيوان غير الناطق أعجم، وقيل المراد هلا فصلت آياته فجعل أعجمياً لإفهام العجم وبعضها عربياً لإفهام العرب، قال ابن عباس: يقول لو جعلنا القرآن أعجمياً ولسانك يا محمد عربي لقالوا أعجمي وعربي تأتينا به مختلفاً أو مختلطاً هَلاَّ بينت آياته فكان القرآن مثل اللسان يقول، فلم نفعل لئلا يقولوا فكانت حجة عليهم قرأ أبو بكر وحمزة والكسائي أأعجمي بهمزتين مخففتين وقرىء بهمزة واحدة وقرىء بتسهيل الثانية بين بين:
ثم أمر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم أن يجيبهم فقال:
(قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء) أي يهتدون به إلى الحق ويستشفون(12/260)
به من كل شك وشبهة، ومن الأسقام والآلام، قال الشهاب: رد عليهم بأنه هاد لهم، شاف لما في صدورهم، كاف في دفع الشبهة فلذا ورد بلسانهم معجزاً بيناً في نفسه مبيناً لغيره.
(والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر) أي صمم عن سماعه، وفهم معانيه ولهذا تواصوا باللغو فيه والموصول مبتدأ خبره في آذانهم وقر، والموصول الثاني عطف على الأول، ووقر عطف على هدى، عند من جوز العطف على معمولي عاملين مختلفين والتقدير هو للأولين هدى وشفاء وللآخرين وقر في آذانهم.
(وهو عليهم عمى) وذلك لتصامهم عن سماعه، وتعاميهم عما يريهم من الآيات، قال قتادة: عموا عن القرآن وصموا عنه. وقال السدي عميت قلوبهم عنه والمعنى وهم عليه ذو عمى، ووصف بالمصدر للمبالغة، وقيل: المعنى والوقر عليهم عمى، أي ظلمة وشبهة، قرأ الجمهور عمى بفتح الميم منونة على أنه مصدر.
وقرأ ابن عباس وعبد الله بن الزبير وعمرو بن العاص وابن عمر بكسر الميم منونة على أنه إسم منقوص على أنه وصف به مجازاً. وقرىء بكسر الميم وفتح الياء على أنه فعل ماض، واختار أبو عبيدة القراءة الأولى.
(أولئك) أي الذين لا يؤمنون (ينادون من مكان بعيد) مثل حالهم باعتبار عدم فهمهم للقرآن بحال من ينادي من مسافة بعيدة لا يسمع من يناديه منها، قال الفراء: تقول للرجل الذي لا يفهم كلامك أنت تنادي من مكان بعيد، ففيه استعارة تمثيلية، وقال الضحاك ينادون يوم القيامة بأقبح أسمائهم من مكان بعيد وقال مجاهد من مكان بعيد من قلوبهم.(12/261)
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (45)
(ولقد آتينا موسى الكتاب فاختلف فيه) كلام مستأنف يتضمن تسلية رسول الله صلى الله عليه وسلم عما كان يحصل له من الاغتمام بكفر قومه(12/261)
وطعنهم في القرآن فأخبره أن هذه عادة قديمة في أمم الرسل، غير مختصة بقومك، فإنهم يختلفون في الكتب المنزلة إليهم، والمراد بالكتاب التوراة وضمير فيه راجع إليه وقيل يرجع إلى موسى والأول أولى، يعني قال بعضهم هو حق، وقال بعضهم هو باطل، كما اختلف قومك في كتابك فمصدق به ومكذب.
(ولولا كلمة سبقت من ربك) في تأخير العذاب عن المكذبين بالقرآن من أمتك وإمهالهم كما في قوله: (ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى) (لقضى بينهم) بتعجيل العذاب لمن كذب منهم قال قتادة أي سبق لهم من الله حين وأجل هم بالغوه.
(وإنهم لفي شك منه مريب) أي من كتابك المنزل عليك وهو القرآن ومعنى الشك المريب الموقع في الريبة والشديد الريبة، وقيل: إن المراد اليهود، وأنهم في شك من التوراة مريب، والأولى أولى.(12/262)
مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (46)
(من عمل صالحاً فلنفسه) أي من أطاع الله وآمن برسله ولم يكذبهم فثواب ذلك راجع إليه، ونفعه خاص به (ومن أساء فعليها) أي عقاب إساءته عليه لا على غيره (وما ربك بظلام للعبيد) فلا يعذب أحداً إلا بذنبه، ولا يقع منه الظلم لأحد، كما في قوله سبحانه (إن الله لا يظلم الناس شيئاًً) وظلام صيغة نسب كتمّار، وبقال، وخباز، لا صيغة مبالغة، وهذا التقرير أحسن من غيره.
وقال الكرخي: ليس بذي ظلم أشار به إلى أن ظلام ليس على بابه، وقد تقدم الكلام على معنى هذه الآية في سورة آل عمران عند قوله: (وأن الله ليس بظلام للعبيد) وفي سورة الأنفال أيضاًً ثم أخبر سبحانه أن علم القيامة ووقت قيامها لا يعلمه غيره فقال:(12/262)
إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي قَالُوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ (47) وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (48)(12/263)
إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي قَالُوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ (47)
(إليه يرد علم الساعة) أي علم سؤال الساعة، أي السؤال عنها أي علم جواب هذا السؤال، فإذا وقع السؤال عنها وجب على المسؤول أن يرد علمها إليه لا إلى غيره، وأخذ الحصر من تقديم المعمول، وقد روي أن المشركين قالوا: يا محمد إن كنت نبياً فخبرنا متى تقوم الساعة، فنزلت هذه الآية (وما تخرج من ثمرات من أكمامها) ما نافية ومن الأولى للاستغراق؛ والثانية لابتداء الغاية وقيل ما موصولة في محل جر عطفاً على الساعة أي علم الساعة وعلم التي تخرج، والأولى أولى.
والأكمام جمع كم بكسر الكاف، وهو روي الثمرة، ويطلق على كل ظرف لمال أو غيره، قال أبو عبيدة أكمامها أوعيتها، وهي ما كانت فيه الثمرة واحدها: كم وكمة، قال الراغب: الكم ما يغطي اليد من القميص وما يغطي الثمرة وجمعه أكمام، وهذا يدل على أن الكم بضم الكاف لأنه جعله مشتركاً بين كم القميص وكم الثمرة، ولا خلاف في كم القميص أنه بالضم، ويمكن أن يقال: إن في الكم الذي هو وعاء الثمر لغتين، قرأ الجمهور من ثمرة بالإفراد على إرادة الجنس، وقرىء بالجمع للاختلاف في أنواع الثمار، قاد قتادة من أكمامها حين تطلع.
(وما تحمل من أنثى) حملاً في بطثها (ولا تضع) ذلك الحمل (إلا بعلمه) أي علم الله سبحانه والاستثناء مفرغ من أعم الأحوال، أي ما(12/263)
يحدث شيء من خروج ثمرة ولا حمل حامل ولا وضع واضع في حال من الأحوال ملابساً لشيء من الأشياء إلا كائناً بعلم الله، فإليه يرد علم الساعة كما يرد إليه علم هذه الأمور الحادثة، وفيه دليل على أن أصحاب الكشف والكهان وأهل النجوم لا يمكنهم القطع والجزم في شيء مما يقولونه البتة، وإنما غايته ادعاء ظن ضعيف، أو وهم خفيف، قد لا يصيب، وعلم الله هو العلم اليقين المقطوع به الذي لا يشركه فيه أحد.
(ويوم يناديهم) أي ينادي الله سبحانه المشركين، وذلك يوم القيامة فيقول لهم: (أين شركائي) الذين كنتم تزعمون أنهم شركائي في الدنيا، من الأصنام وغيرها، فادعوهم الآن فليشفعوا لكم، أو يدفعوا عنكم العذاب وهذا على طريقة التهكم بهم والتقريع لهم، وأضافهم إلى نفسه على زعمهم الباطل، والعامل في يوم محذوف أي اذكر.
(قالوا) أي يقولون، فالماضي بمعنى المضارع (آذناك) أي اعلمناك قال ابن عباس يقال: آذن يؤذن إذا أعلم أي أعلمناك وقيل: أخبرناك، قال النسفي: وهو الأظهر إذ الله تعالى كان عالماً بذلك، وإعلام العالم محال إنما الإخبار للعالم بالشيء يتحقق بما علم به إلا أن يكون المعنى إنك علمت من قلوبنا الآن أنا لا نشهد تلك الشهادة الباطلة لأنه إذا علمه من نفوسهم فكأنهم أعلموه انتهى.
(ما منا من شهيد) يشهد بأن لك شريكاً، وذلك أنهم لما عاينوا القيامة تبرأوا من الشركاء، وتبرأت منهم تلك الأصنام التي كانوا يعبدونها، وقيل: لهم بأنهم كانوا محقين، والأول أولى.(12/264)
وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (48)
(وضل عنهم) أي غاب وزال وبطل في الآخرة (ما كانوا يدعون من قبل) في الدنيا من الأصنام ونحوها (وظنوا ما لهم من محيص) أي أيقنوا وعلموا أنه لا مهرب لهم من العذاب، يقال: حاص يحيص حيصاً إذا هرب وقيل، الظن على معناه الحقيقي لأنه بقي لهم في تلك الحال ظن ورجاء، والأول أولى، ثم ذكر سبحانه بعض أحوال الإنسان فقال:(12/264)
لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ (49) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (50) وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ (51) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (52) سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53) أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ (54)(12/265)
لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ (49)
(لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ) أي لا يمل من دعاء الخير لنفسه وجلبه إليه، ولا يزال يسأل ربه المال والخير هنا المال والصحة والسلطان والرفعة. قال السدي: والإِنسان هنا يراد به الكافر، وقيل الوليد بن المغيرة، وقيل عتبة وشيبة ابنا ربيعة وأمية بن خلف والأولى حمل الآية على العموم باعتبار الغالب، فلا ينافيه خروج خلص العباد، وقرأ ابن مسعود من دعاء المال.
(وإن مسه الشر) أي البلاء والشدة والفقر والمرض (فيئوس) من روح الله (قنوط) من رحمته، واليأس من صفة القلب وهو قطع الرجاء، والقنوط إظهار آثاره على ظاهر البدن، والحال المحلي يقتضي ترادفهما، وبه قال بعضهم فالجمع بينهما للتأكيد، وقيل يؤوس من إجابة دعائه قنوط بسوء الظن بربه، وقيل يؤوس من زوال ما به من المكروه، قنوط بما يحصل له من ظن دوامه وهما صيغتا مبالغة تدلان على أنه شديد اليأس، عظيم القنوط وبولغ فيه من طريقين من طريق بناء فعول كما أشرنا ومن طريق التكرير مع ما في القنوط(12/265)
من ظهور أثر اليأس لأن القنوط أن يظهر عليه أثر اليأس فيتضاءل وينكسر أي يقطع الرجاء من فضل الله وروحه، وهذا صفة الكافر بدليل قوله تعالى (إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون).(12/266)
وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (50)
(ولئن) لام قسم (أذقناه رحمة منا من بعد ضراء مسته) أي ولئن آتيناه خيراً وعافية وغنى من بعد شدة ومرض وفقر (ليقولن) جواب القسم، وجواب الشرط محذوف لسد جواب القسم مسده (هذا لي) أي هذا شيء أستحقه على الله لرضاه بعملي، فظن أن تلك النعمة التي صار فيها وصلت إليه باستحقاقه لها، ولم يعلم أن الله يبتلي عباده بالخير والشر ليتبين له الشاكر من الجاحد، والصابر من الجزع.
قال مجاهد: معناه هذا بعملي وأنا محقوق به، أو هذا لي دائماً لا يزول (وما أظن الساعة قائمة) أي ما أظنها تقوم كما يخبرنا بها الأنبياء أو لست على يقين من البعث، وهذا خاص بالكافرين والمنافقين، فيكون المراد بالإنسان المذكور في صدر الآية الجنس باعتبار غالب أفراده، لأن اليأس من رحمة الله والقنوط من خيره والشك في البعث لا يكون إلا من الكافرين أو المتزلزلين في الدين المتظهرين بالإسلام المبطنين للكفر.
(ولئن) لام قسم (رجعت إلى ربي) على تقدير صدق ما يخبرنا به الأنبياء من قيام الساعة وحصول البعث والنشور (إن لي عنده للحسنى) جواب القسم لسبقه الشرط، أي للحالة الحسنى من النعمة والكرامة، فظن أنه استحق خير الدنيا بما فيه من الخير واستحق خير الآخرة بذلك الذي اعتقده في نفسه، وأثبته لها، وهو اعتقاد باطل، وظن فاسد، وقد تضمن الكلام مبالغات حيث أكد بالقسم، وإن، وتقديم الظرفين، والعدول إلى صيغة التفضيل إذ الحسنى تأنيث الأحسن.
(فلننبئن الذين كفروا بما عملوا) أي لنخبرنهم به يوم القيامة وهذا جواب لقول الكافر ولئن رجعت إلى آخره، أي ليس الأمر كما يزعم وإنما له(12/266)
العقاب الشديد كما قال (ولنذيقنهم من عذاب غليظ) بسبب ذنوبهم، واللام هذه والتي قبلها هي الموطئة للقسم.(12/267)
وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ (51)
(وإذا أنعمنا على الإنسان) أي على هذا الجنس من حيث هو، باعتبار غالب أفراده (أعرض) عن الشكر (ونأى بجانبه) أي ترفع عن الانقياد للحق، وتكبر وتجبر، وثنى عطفه متبختراً، كناية عن الإعراض. وقيل: انحرف عنه أو ذهب بنفسه وتباعد عنه بكليته تكبراً والجانب هنا مجاز عن النفس، ونأى بمعنى بعد، يقال: نأيت وتناءيت أي بعدت وتباعدت والمنتأى الموضع البعيد، وقرىء ناء بالألف قبل الهمزة.
(وإذا مسه الشر) أي البلاء والجهد والفقر والمرض (فذو) أي فهو ذو (دعاء عريض) أي كثير، والعرب تستعمل العرض والطول في الكثرة مجازاً يقال: أطال فلان في الكلام وأعرض في الدعاء إذا أكثر، فهو مستعار مما له عرض متسع، للإشعار بكثرته، فإن العريض يكون ذا أجزاء كثيرة، والاستعارة تخييلية، شبه الدعاء بأمر يوصف بالامتداد، ثم ثبت له العرض قاله الكرخي والطول أطول الامتدادين، فإذا كان عرضه كذلك فما ظنك بطوله، أفاده أبو السعود.
والمعنى أنه إذا مسه الشر تضرع إلى الله واستغاث به أن يكشف عنه ما نزل به، واستكثر من ذلك فذكره في الشدة ونسيه في الرخاء، واستغاث به عند نزول النقمة، وتركه عند حصول النعمة وهذا صنيع الكافرين، ومن كان غير ثابت القدم من المسلمين قال الشهاب فإن قلت: كونه يدعو دعاء طويلاً عريضاً ينافي وصفه قبل هذا بأنه يؤوس قنوط، لأن الدعاء فرع الطمع والرجاء، وقد اعتبر في القنوط ظهور أثر اليأس، فظهور ما يدل على الرجاء يأباه، قلت: يمكن دفع المنافاة بحمله على عدم اتحاد الأوقات والأحوال انتهى، أو لعل هذا شأن بعض غير البعض الذي حكى عنه اليأس والقنوط، أو شأن الكل في بعض الأوقات، ذكره أبو السعود.(12/267)
ثم رجع سبحانه إلى مخاطبة الكفار ومحاجتهم فقال:(12/268)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (52)
(قل أرأيتم) أي أخبروني عن حالتكم العجيبة، واستعمال أرأيتم بمعنى الإخبار مجاز، ووجه المجاز أنه لما كان العلم بالشيء سبباً للإخبار عنه أو الإبصار به طريقاً إلى الإحاطة به علماً، وإلى صحة الإخبار عنه استعملت الصيغة التي لطلب العلم أو لطلب الإبصار في طلب الخير لاشتراكهما في الطلب، ففيه مجازان: استعمال رأى التي بمعنى علم أو أبصر في الإخبار، واستعمال الهمزة التي هي لطلب الرؤية في طلب الإخبار قاله الشهاب.
(إن كان) القرآن (من عند الله) كما قلت (ثم كفرتم به) أي كذبتم به، ولم تقبلوه ولا عملتم بما فيه (من أضل ممن هو في شقاق) خلاف (بعيد) عن الحق أي لا أحد أضل منكم لفرط شقاوتكم، وشدة عداوتكم والأصل أي شيء أضل منكم فوضع من هو في شقاق موضع الضمير لبيان حالهم في المشاقة، وأنها السبب الأعظم في ضلالهم.(12/268)
سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53)
(سنريهم آياتنا) أي دلالات صدق القرآن وعلامات كونه من عند الله (في الآفاق) جمع أفق بضم الهمزة والفاء، كذا قال أهل اللغة، كأعناق وعنق، وهو الناحية، ونقل الراغب أنه يقال: أفق بفتحهما كجبل وأجبال، والمعنى سنريهم آياتنا في النواحي على ما أخبرهم به النبي صلى الله عليه وسلم من الحوادث الآتية وآثار النوازل الماضية، وما يسر الله له ولخلفائه من الفتوح والظهور على ممالك الشرق والغرب على وجه خارق للعادة، وقال القرطبي أي علامات وحدانيتنا وقدرتنا في الآفاق، يعني خراب منازل الأمم الماضية وربوع القرون الخالية.
(وفي أنفسهم) قال ابن زيد: في الآفاق آيات السماء وفي أنفسهم حوادث الأرض وقال مجاهد في الآفاق فتح القرى التي يسر الله فتحها لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللخلفاء من بعده وأنصار دينه في آفاق الدنيا، وبلاد المشرق والمغرب عموماً، وفي ناحية المغرب خصوصاً من الفتوح التي لم(12/268)
يتيسر مثلها لأحد من خلفاء الأرض قبلهم، أو من الظهور على الجبابرة والأكاسرة وتغليب قليلهم على كثيرهم، وتسليط ضعفائهم على أقويائهم، وإجرائه على أيديهم أموراً خارجة عن المعهود، خارقة للعادات، وفي أنفسهم فتح مكة ورجح هذا ابن جرير، واختاره المنهال بن عمرو والسدي.
وقال قتادة والضحاك في الآفاق يعني أقطار السموات والأرض من الشمس والقمر والنجوم والليل والنهار والرياح والأمطار والرعد والبرق والصواعق والنبات والأشجار والجبال والبحار وغير ذلك وفي أنفسهم من لطيف الصنعة وبديع الحكمة، حتى في سبيل الغائط والبول فإن الرجل يأكل ويشرب من مكان واحد، ويتميز ذلك خارجاً من مكانين، وحتى في عينيه اللتين ينظر بهما من الأرض إلى السماء مسيرة خمسمائة عام، وفي أذنيه اللتين يفرق بهما بين الأصوات المختلفة وغير ذلك من بديع حكمة الله تعالى فيه.
فإن قيل: قوله سنريهم الخ يقتضي أنه إلى الآن ما أطلعهم على تلك الآيات وسيطلعهم عليها بعد ذلك، مع أن الآيات المذكورة قد اطلعوا عليها وهي منهم نصب العين، والجواب أن المراد على هذا سنريهم أسرار آياتنا الخ فالآيات وإن اطلعوا عليها بالفعل لكن سرها وحكمها لم يطلعوا عليه قاله الكرخي.
وعن ابن جريج في الآية قال أمسك المطر عن الأرض كلها. وفي أنفسهم قال البلايا التي تكون في أجسامهم وقال ابن عباس كانوا يسافرون فيرون آثار عاد وثمود فيقولون والله لقد صدق محمد صلى الله عليه وسلم، وما أراهم في أنفسهم قال الأمراض وقيل في كونهم نطفاً إلى غير ذلك من انتقال أحوالهم، كما تقدم في سورة المؤمنين بيانه.
(حتى يتبين لهم أنه الحق) الضمير راجع إلى القرآن وقيل إلى الإسلام الذي جاءهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم وقيل إلى ما يريهم الله(12/269)
ويفعل من ذلك وقيل إلى محمد صلى الله عليه وسلم أنه الرسول الحق من عند الله، والأول أولى.
وقد حرف الوجودية هذه الآية الكريمة بحملها على اتحاد الخلق والخالق تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً (أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد) الجملة مستأنفة لتوبيخهم وتقريعهم على ترددهم في شأن القرآن، وعنادهم المحوج إلى إيراد وعدم اكتفائهم بإخباره تعالى، والمعنى أولم يغنهم، ولم يكفهم عن الآيات الموعودة، المبينة لحقية القرآن أنه سبحانه شهيد على جميع الأشياء وقيل المعنى أولم يكف بربك يا محمد أنه شاهد على أعمال الكفار، والباء زائدة، وهذا هو الراجح وقيل: أولم يكف بربك شاهداً على أن القرآن منزل من عنده؟ والشهيد بمعنى العالم أو هو بمعنى الشهادة التي هي الحضور، قال الزجاج: ومعنى الكفاية ههنا أن الله عز وجل قد بين لهم ما فيه كفاية في الدلالة والمعنى أولم يكف ربك أنه على كل شيء شهيد شاهد للأشياء لا يغيب عنه شيء ما.(12/270)
أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ (54)
(ألا إنهم في مرية من لقاء ربهم) أي في شك من البعث والحساب والثواب والعقاب (ألا إنه) تعالى (بكل شيء محيط) أحاط علمه بجميع المعلومات وأحاطت قدرته بجميع المقدورات يقال أحاط يحيط إحاطة وحيطة، وفي هذا وعيد شديد، لأن من أحاط بكل شيء لا يخفى عليه شيء جازى المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته (1).
_________
(1) زاد المسير 269.(12/270)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
سورة الشورى
وتسمى سورة حم عسق وسورة شورى من غير ألف ولام وسورة حم عسق وهي ثلاثة وخمسون آية.
وهي مكية كلها، قاله ابن عباس وابن الزبير، وكذا قال الحسن وعكرمة وعطاء وجابر، وروي عن ابن عباس وقتادة أنها مكية إلا أربع آيات منها نزلت بالمدينة (قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) إلى آخرها، وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم ونعيم ابن حماد والخطيب عن أرطأة ابن المنذر حديثاً طويلاً في تفسير حم عسق وهو حديث لا يصح ولا يثبت وما أظنه إلا من الموضوعات المكذوبات، والحامل لواضعه عليه ما يقع لكثير من الناس من عداوة الدول والحط من شأنهم والإزراء عليهم وكذا ما أخرجه أبو يعلى وابن عساكر عن أبي معاوية قال السيوطي بسند ضعيف وقلت بل بسند موضوع ومتن مكذوب.
وقد قال ابن كثير في الحدث الأول: إنه غريب عجيب منكر وفي الثاني إنه أغرب من الأول وعندي أنهما موضوعان مكذوبان.(12/271)
بسم الله الرحمن الرحيم
حم (1) عسق (2) كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3)(12/273)
حم (1)
قد تقدم الكلام في أمثال هذه الفواتح قال عبد المؤمن: سألت الحسن ابن الفضل لم قطع حم من عسق؟ ولم يقطع كهيعص؟ فقال: لأنها بين سور أولها حم، فجرت مجرى نظائرها قبلها وبعدها، فكان حم مبتدأ وعسق خبره ولأنهما عدتا آيتين وعدت أخواتهما مثل كهيعص، والمر والمص آية واحدة وقيل: إن الحروف المعجمة كلها في المعنى واحد من حيث إنها أس البيان وقاعدة الكلام، ذكره الجرجاني.
وقيل: لأن أهل التأويل لم يختلفوا في كهيعص وأخواتها أنها حروف التهجي لا غير، واختلفوا في حم فقيل: معناها حم أي قضى ما هو كائن ففصلوا بين ما يقدر فيه فعل وبين ما لا يقدر، وقيل إن ح حلمه، وم مجده وع علمه، وس سناؤه وق قدرته، أقسم الله بها، وقيل: هما اسمان للسورة وقيل: اسم واحد لها، وقيل غير ذلك مما هو متكلف ومتعسف لم يدل عليه دليل، ولا جاءت به حجة ولا شبهة، وقد ذكرنا قبل هذا ما روى في ذلك مما لا أصل له، والحق ما قدمناه لك في فاتحة سورة البقرة.(12/273)
كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3)
(كذلك) كلام، مستأنف غير متعلق بما قبله، أي مثل ذلك الإيحاء الذي أوحى إلى سائر الرسل من كتب الله المنزلة عليهم المشتملة على الدعوة إلى التوحيد، والنبوة والبعث، وهذا هو وجه المشابهة (يُوحِي إِلَيْكَ) يا محمد في هذه السورة وقيل: إن حم عسق أوحيت إلى من قبله من الأنبياء فتكون الإشارة بقوله: كذلك إليها والأول أولى.
(وإلى الذين من قبلك) أي إلى الرسل (الله) كأنه قيل من يوحى فقال الله (العزيز) في ملكه الغالب بقهره (الحكيم) بصنعه المصيب في قوله وفعله.(12/273)
لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (4) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (5) وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (6) وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (7)(12/274)
لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (4)
(لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ) ذكر سبحانه لنفسه هذا الوصف وهو ملك جميع ما فيهما لدلالته على كمال قدرته، ونفوذ تصرفه في جميع مخلوقاته (وهو العلي) ذاته وشأنه على خلقه (العظيم) الكبير مكانه وبرهانه.(12/274)
تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (5)
(تكاد السموات يتفطرن من فوقهن) قرأ الجمهور تكاد بالفوقية وكذلك تتفطرن قرؤوه بالفوقية مع تشديد الطاء وقرأ نافع والكسائي وابن وثاب يكاد يتفطرن بالتحتية فيهما، وقرأ أبو عمرو والمفضل وأبو بكر وأبو عبيد ينفطرن بالنون من الإنفطار كقوله تعالى (إذا السماء انفطرت) والتفطر التشقق، قال الضحاك والسدي: يتفطرن يتشققن من عظمة الله وجلاله، وقيل: المعنى يكاد كل واحدة منها ينفطر فوق التي تليها من قول المشركين اتخذ الله ولداً، وقيل: معنى من فوقهن من فوق الأرضين والأول أولى.
وقيل: يتشققن لكثرة ما على السموات من الملائكة، وقيل: يكدن يتفطرن من علو شأن الله وعظمته، ويدل عليه مجيئه بعد قوله (العلي العظيم) ومن لابتداء الغاية يبتدىء التفطر من جهة الفوق، وقال الأخفش الصغير إن(12/274)
الضمير يعود إلى جماعات الكفار، أي من فوقهم وهو بعيد جداً ووجه تخصيص جهة الفوق أنها أقرب إلى الآيات العظيمة، والمصنوعات الباهرة أو على طريق المبالغة كان كلمة الكفار مع كونها جاءت من جهة التحت أثرت في جهة الفوق، فتأثيرها في جهة التحت بالأولى.
(والملائكة يسبحون بحمد ربهم) كلام مستأنف أي ينزهونه عما لا يليق به ولا يجوز عليه متلبسين بحمده وقيل: إن التسبيح موضوع موضع التعجب، أي يتعجبون من جرأة المشركين على الله، وقيل؛ المعنى يصلون بأمر ربهم قاله السدي.
(ويستغفرون) أي يشفعون (لمن في الأرض) من عباد الله المؤمنين، كما في قوله: (ويستغفرون للذين آمنوا) ويطلبون هدايتهم، وقيل الاستغفار منهم بمعنى السعي فيما يستدعي المغفرة لهم وتأخير عقوبتهم طمعاً في إيمان الكافر، وتوبة الفاسق، فتكون الآية عامة كما هو ظاهر اللفظ غير خاصة بالمؤمنين، وإن كانوا داخلين فيها دخولاً أولياً، وإليه ذهب البيضاوي بل ولو فسر الاستغفار بالسعي فيما يدفع الخلل المتوقع لعم الحيوان بل الجماد.
قال الضحاك لمن في الأرض من المؤمنين. وقال السدي: بيانه في سورة المؤمن (ويستغفرون للذين آمنوا) وعلى هذا يكون المراد بالملائكة هنا حملة العرش، وقيل جميع الملائكة وهو الظاهر من قول الكلبي وقيل هو منسوخ بقوله (ويستغفرون للذين آمنوا) وقال المهدوي والصحيح أنه ليس بمنسوخ لأنه خبر وهو خاص بالمؤمنين.
وقال أبو الحسن بن الحصار إن حملة العرش مخصوصون بالاستغفار للمؤمنين ولله ملائكة أخر يستغفرون لمن في الأرض قال الماوردي وفي استغفارهم لهم قولان أحدهما من الذنوب والخطايا، وهو ظاهر قول مقاتل، والثاني أنه طلب الرزق لهم والسعة عليهم، قاله الكلبي وهو الأظهر، لأن(12/275)
من في الأرض يعم الكافر وغيره، وعلى قول مقاتل لا يدخل الكافر وقال مطرف وجدنا أنصح عباد الله لعباد الله الملائكة، ووجدنا أغش عباد الله لعباد الشياطين.
(ألا إن الله هو الغفور الرحيم) أي كثير المغفرة والرحمة لأهل طاعته وأوليائه أو الجميع عباده، فإن تأخير عقوبة الكفار والعصاة نوع من أنواع مغفرته ورحمته(12/276)
وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (6)
(والذين اتخذوا من دونه أولياء) أي أصناماً يعبدونها وجعلوا له شركاء وأنداداً.
(الله حفيظ عليهم) أي يحفظ أعمالهم لا يغيب عنه منها شيء ليجازيهم بها (وما أنت عليهم بوكيل) أي لم يوكلك بهم حتى تؤاخذ بهم، ولا وكل إليك هدايتهم، وإنما عليك البلاغ. قيل: وهذه الآية منسوخة بآية السيف.(12/276)
وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (7)
(وكذلك) الإيحاء البديع المبين المفهم (أوحينا إليك) أي أنزلنا عليك (قرآناً عربياً) بلسان قومك لا لبس فيه عليك ولا على قومك، كما أرسلنا كل رسول بلسان قومه (لتنذر أم القرى) أي مكة والمراد أهلها (ومن حولها) من الناس والمفعول الثاني محذوف، أي لتنذرهم العذاب.
(وتنذر يوم الجمع) أي بيوم الجمع وهو يوم القيامة لأنه مجمع الخلائق، وقيل: المراد جمع الأرواح بالأجساد، وقيل: جمع الظالم والمظلوم، وقيل جمع العامل والعمل.
(لا ريب فيه) أي لا شك فيه والجملة معترضة مقررة لما قبلها، أو حال من يوم الجمع (فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ) قرأ الجمهور برفع فريق في الموضعين إما على أنه مبتدأ وخبره الجار المجرور، وساغ الابتداء بالنكرة لأن المقام مقام تفضيل أو على أن الخبر مقدر قبله، أي منهم فريق في الجنة ومنهم فريق في السعير، أو أنه خبر مبتدأ محذوف وهو ضمير عائد إلى المجموعين، المدلول عليهم بذكر الجمع، أي هم فريق في الجنة وفريق في(12/276)
السعير وقرىء فريقاً بالنصب في الموضعين على الحال من جملة محذوفة، أي افترقوا حال كونهم كذلك، وأجاز الفراء والكسائي النصب على تقدير لتنذر فريقاً.
وقد أخرج الترمذي وصححه، وأحمد والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه عن عبد الله بن عمرو قال: " خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي يده كتابان فقال: أتدرون ما هذان الكتابان؟ قلنا لا إلا أن تخبرنا يا رسول الله قال للذي في يده اليمنى: هذا كتاب من رب العالمين بأسماء أهل الجنة وأسماء آبائهم وقبائلهم، ثم أجمل على آخرهم فلا يزاد فيهم ولا ينقص منهم، ثم قال للذي في شماله هذا كتاب من رب العالمين بأسماء أهل النار وأسماء آبائهم وقبائلهم، ثم أجمل على آخرهم فلا يزاد فيهم ولا ينقص منهم أبداً فقال أصحابه ففيم العمل يا رسول الله؟ إن كان أمر قد فرغ منه، فقال سددوا وقاربوا فإن صاحب الجنة يختم له بعمل أهل الجنة، وإن عمل أي عمل، وإن صاحب النار يختم له بعمل أهل النار، وإن عمل أي عمل.
قال رسول الله صلى عليه وآله وسلم بيديه فنبذهما، ثم قال: فرغ ربكم من العباد، فريق في الجنة وفريق في السعير ".
قال الترمذي بعد إخراجه: هذا حديث حسن صحيح غريب، وروى ابن جرير طرفاً منه عن ابن عمرو " موقوفاً عليه "، قال ابن جرير وهذا الموقوف أشبه بالصواب، قلت بل المرفوع أشبه بالصواب، فقد رفعه الثقة ورفعه زيادة ثابتة من وجه صحيح، ويقوي الرفع ما أخرجه ابن مردويه عن البراء قال. " خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي يده كتاب ينظر فيه قالوا انظروا إليه كيف هو أمي لا يقرأ؟ قال فعلمها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال هذا كتاب من رب العالمين بأسماء أهل الجنة، وأسماء قبائلهم لا يزاد فيهم ولا ينقص منهم، وقال (فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ) فرغ ربكم من أعمال العباد ".(12/277)
وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (8) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (9) وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (10) فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11) لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (12)(12/278)
وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (8)
(وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً) قال الضحاك أهل دين واحد إما على هدى وإما على ضلالة، ولكنهم افترقوا على أديان مختلفة بالمشيئة الأزلية، وهو معنى قوله (ولكن يدخل من يشاء في رحمته) أي في الدين الحق وهو الإسلام (والظالمون) أي المشركون (ما لهم من ولي) يدفع عنهم العذاب (ولا نصير) ينصرهم في ذلك المقام.
ومثل هذا قوله (ولو شاء الله لجمعهم على الهدى) وقوله (ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها) وهذا مقابل لقوله (يدخل من يشاء في رحمته)، فكان مقتضى الظاهر أن يقال ويدخل من يشاء في غضبه لكن عدل عنه إلى ما ذكر للمبالغة في الوعيد، فإن نفي من يتولاهم وينصرهم أدل على أن كونهم في العذاب أمر معلوم مفروغ منه، أفاده الكرخي.
وقال الشوكاني رحمه الله: وههنا مخاصمات بين المتمذهبين المحامين على(12/278)
ما درج عليه أسلافهم، فذبوا عليه من بعدهم. وليس بنا إلى ذكر شيء من ذلك فائدة، كما هو عادتنا في تفسيرنا هذا فهو تفسير سلفي يمشي مع الحق ويدور مع مدلولات النظم الشريف، وإنما يعرف ذلك من رسخ قدمه، وتبرأ من التعصب قلبه ولحمه ودمه.(12/279)
أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (9)
(أم اتخذوا من دونه أولياء) مستأنفة مقررة لما قبلها من انتفاء أن يكون للظالمين ولياً ونصيراً، وأم هذه هي المنقطعة المقدرة ببل المفيدة للانتقال وبالهمزة المفيدة للإنكار، أي بل اتخذ الكافرون من دون الله أولياء من الأصنام يعبدونها (فالله هو الولي) أي هو الحقيق بأن يتخذوه ولياً فإنه الخالق الرازق الضار النافع، والفاء لمجرد العطف، قاله الكرخي. وغرضه بهذا الرد على الزمخشري في قوله: إنها جواب شرط مقدر أي إن أرادوا أن يتخذوا ولياً في الحقيقة فالله هو الولي الحق، قال أبو حيان لا حاجة إلى هذا التقدير لتمام الكلام بدونه.
(وَهُوَ) أي ومن شأنه أنه (يُحْيِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) أي يقدر على كل مقدور فهو الحقيق بتخصيصه بالألوهية وإفراده بالعبادة.(12/279)
وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (10)
(وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ) هذا عام في كل ما اختلف فيه العباد من أمر الدين، فإن حكمه ومرجعه إلى الله يحكم فيه يوم القيامة بحكمه، ويفصل خصومة المختصمين فيه، وعند ذلك يظهر المحق من المبطل، ويتميز فريق الجنة وفريق النار، قال الكلبي وما اختلفتم فيه من شيء أي من أمر الدين فحكمه إلى الله يقضى فيه، وزاد البيضاوي أو أمر الدنيا، ولم يذكر الدنيا في الكشاف وذكره المحلي، وقال من الدين وغيره، والغير كالخصومات في الدنيا، والأول أولى إذ لا يلزم أن تكون بينهم وبين الكفرة: ولا يقال في مثله التحاكم إلى الله أفاده الشهاب.
وقال مقاتل إن أهل مكة كفر بعضهم بالقرآن وآمن به بعضهم، فنزلت(12/279)
هذه الآية، والاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وممكن أن يقال إن معنى حكمه إلى الله أنه مردود إلى كتابه، فإنه قد اشتمل على الحكم بين عباده فيما يختلفون فيه، فتكون الآية عامة في كل اختلاف يتعلق بأمر الدين أنه مردود إلى كتاب الله، ومثله قوله:
(فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول) وقد حكم سبحانه بأن الدين هو الإسلام، وأن القرآن حق، وأن المؤمنين في الجنة والكافرين في النار ولكن لما كان الكفار لا يذعنون لكون ذلك حقاً إلا في الدار الآخرة وعدهم الله بذلك يوم القيامة، وقيل: تحاكموا فيه إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأن حكمه حكم الله، ولا تؤثروا حكومة غيره على حكومته.
(ذلكم) مبتدأ أي الحاكم العظيم الشأن بهذا الحكم (الله) خبر أول (ربي) خبر ثان (عليه توكلت) خبر ثالث، أي اعتمدت عليه في جميع أموري لا على غيره، وفوضته في كل شؤوني (وإليه) لا إلى غيره (أنيب) أي أرجع في كل شيء يعرض لي، وهذا خبر رابع.(12/280)
فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)
(فاطر السموات والأرض) الفاطر الخالق المبدع، وقد تقدم تحقيقه وهذا خبر خامس أو مبتدأ وخبره ما بعده، أو نعت لربي لأن الإضافة محضة ويكون عليه توكلت وإليه أنيب معترضاً بين الصفة والموصوف، وقرأ زيد بن علي فاطر بالجر على أنه نعت للإسم الشريف في قوله إلى الله وما بينهما اعتراض أو بدل من الهاء في عليه أو إليه وأجاز الكسائي النصب على النداء وأجازه غيره على المدح.
(جعل لكم من أنفسكم أزواجاً) خبر سادس أي خلق لكم من جنسكم نساء، أو المراد حواء لكونها خلقت من ضلع آدم، وقال مجاهد نسلاً بعد نسل (ومن الأنعام أزواجاً) أي خلق لها من جنسها إناثاً أو وخلق لكم من الأنعام أصنافاً من المذكور والإناث، وهي الثمانية التي ذكرها في الأنعام.
(يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ) أي يبثكم من الذرء وهو البث أو يخلقكم وينشئكم(12/280)
والضمير في يذرؤكم للمخاطبين والأنعام إلا أنه غلب عليه العقلاء، قال الزمخشري وهي من الأحكام ذات العلتين، قال الشيخ وهو اصطلاح غريب، والمعنى أن الخطاب يغلب على الغيبة إذا اجتمعا، وضمير فيه راجع إلى الجعل المدلول عليه بالفعل، أو للمخلوق، وقيل راجع إلى ما ذكر من التدبير، وقال الفراء والزجاج وابن كيسان معنى يذرؤكم فيه يكثركم به أي يكثركم بجعلكم أزواجاً لأن ذلك سبب النسل، وقال ابن قتيبة: يذرؤكم فيه أي في الزوج وقيل في البطن وقيل في الرحم.
(ليس كمثله شيء) خبر سابع والمراد بذكر المثل هنا المبالغة في النفي بطريق الكناية فإنه إذا نفى عمن يناسبه كان نفيه عنه أولى، كقولهم: مثلك لا يبخل وغيرك لا يجود، وقيل: إن الكاف زائدة للتوكيد لأنه تعالى لا مثل له، وهو المشهور عند المعربين، وقيل: إن مثل زائدة قاله ثعلب وغيره، كما في قوله (فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به) أي بما آمنتم به، وهذا ليس بجيد، بل الأول أولى.
فإن الكناية باب مسلوك للعرب ومهيج مألوف لهم قال ابن قتيبة العرب تقيم المثل مقام النفس، فتقول: مثلي لا يقال له هذا، أي أنا لا يقال لي، وقيل: المراد بالمثل الصفة وذلك أن المثل بمعنى المثل والمثل الصفة كقوله مثل الجنة، فيكون المعنى ليس مثل صفته تعالى شيء من الصفات التي لغيره وهو محمل سهل.
قال الراغب: المثل أعم الألفاظ الموضوعة للمشابهة، وذلك أن الند يقال لما يشارك في الجوهر فقط، والشبه يقال فيما يشارك في الكيفية فقط، والمساوي يقال فيما يشاركه في الكمية فقط والشكل يقال فيما يشاركه في القدر والمساحة فقط، ولهذا لما أراد الله نفي الشبه من كل وجه خصه بالذكر قال تعالى.
(ليس كمثله شيء) وقال أبو البقاء مرجحاً لزيادة الكاف إنها لو لم(12/281)
تكن زائدة لأفضى ذلك إلى المحال، إذ يكون المعنى أن له مثلاً وليس لمثله مثل، وفي ذلك تناقض، لأنه إذا كان له مثل فلمثله مثل، وهو هو مع أن إثبات المثل لله سبحانه محال، وهذا تقرير حسن، ولكنه يندفع ما أورده بما ذكرناه من كون الكلام خارجاً مخرج الكناية.
ومن فهم هذه الآية الكريمة حق فهمها، وتدبرها حق تدبرها مشى بها عند اختلاف المختلفين في الصفات على طريقة بيضاء واضحة، ويزداد بصيرة إذا تأمل معنى قوله (وهو السميع البصير) فإن هذا الإثبات بعد ذلك النفي للمثل، قد اشتمل على برد اليقين، وشفاء الصدور، وانثلاج القلوب فاقدر يا طالب الحق قدر هذه الحجة النيرة، والبرهان القوي، فإنك تحطم بها كثيراً من البدع، وتهشم بها رؤوساً من الضلالة، وترغم بها آناف طوائف من القاصرين المتكلفين، والمتكلمين المتأولين، ولا سيما إذا ضممت إليه قول الله سبحانه (ولا يحيطون به علماً) فإنك حينئذ قد أخذت بطرفي حبل ما يسمونه علم الكلام وعلم أصول الدين.
ودع عنك نهياً صيح في حجراته ... ولكن حديث ما حديث الرواحل
وهو السميع الخ خبر ثامن وقوله:(12/282)
لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (12)
(له مقاليد السموات والأرض) خبر تاسع جمع مقلاد أو مقليد أو قليد، وهو المفتاح جمع على خلاف القياس أي مفاتيحهما أو خزائنهما، والمراد المطر والنبات وغيرهما كالجواهر المستخرجة من الأرض، قال النحاس: والذي يملك المفاتيح يملك الخزائن وقد تقدم تحقيقه في سورة الزمر.
ثم لما ذكر سبحانه أن بيده مقاليدهما ذكر بعده البسط والقبض فقال (يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر) خبر عاشر أي يوسعه لمن يشاء كالروم والفرس ويضيقه على من يشاء كالعرب (إنه بكل شيء) من الأشياء (عليم) فلا تخفي عليه خافية، وإحاطة علمه بكل شيء يندرج تحتها علمه بطاعة المطيع ومعصية العاصي فهو يجازي كُلاًّ بما يستحقه من خير وشر.(12/282)
شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (13) وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (14) فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (15)(12/283)
شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (13)
(شرع لكم) أي بين وأوضح وسن وأظهر طريقاً واضحاً، وهو خبر حادي عشر (من الدين) أي ديناً تطابقت على صحته الأنبياء، والخطاب لأمة محمد صلى الله عليه وسلم (ما وصى به نوحاً) من التوحيد ودين الإسلام، وأصول الشرائع التي لم يختلف فيها الرسل، وتوافقت عليها الكتب، وإنما خص نوحاً لأنه أول الأنبياء أصحاب الشرائع، والمعنى قد وصيناه وإياك يا محمد ديناً واحداً، وقد ثبت في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حديث الشفاعة المشهور الكبير:
" ولكن ائتوا نوحاً فإنه أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض " وهذا صحيح لا إشكال فيه كما أن آدم أول رسول نبىء بغير إشكال إلا أن آدم لم يكن معه إلا نبوة، ولم تفرض له الفرائض، ولا شرعت له المحارم، وإنما كان شرعه تنبيهاً على بعض الأمور واقتصاراً على ضرورات المعاش، وأخذاً بوظائف الحياة والبقاء واستمر إلى نوح فبعثه الله بتحريم الأمهات والبنات والأخوات، ووظف عليه الواجبات، وأوضح له الآداب والديانات، ولم يزل ذلك يتأكد بالرسل ويتناصر بالأنبياء عليهم السلام واحداً بعد واحد وشريعة(12/283)
اثر شريعة حتى ختمها بخير الملل ملتنا على لسان أكرم الرسل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
(والذي أوحينا إليك) من القرآن وشرائع الإسلام والبراءة من الشرك والتعبير عنه عند نسبته إلى النبي صلى الله عليه وسلم بالذي هو أصل الموصلات لتفخيم شأنه من تلك الحيثية، وخص ما شرعه لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم بالإيحاء مع كون ما قبله وما بعده مذكوراً بالتوصية، للتصريح برسالته، القامع لإنكار الكفرة، وفيه التفات من الغيبة إلى التكلم بنون العظمة لكمال الاعتناء بالإيحاء إليه، وهو السر في تقدمه على ما بعده مع تقدمه عليه زماناً وتقديم توصية نوح للمسارعة إلى بيان كون المشروع لهم ديناً قديماً وتوجبه الخطاب إليه صلى الله عليه وسلم بطريق التلوين للتشريف والتنبيه، على أنه تعالى شرعه لهم على لسانه عليه الصلاة والسلام.
(وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى) مما تطابقت عليه الشرائع وإنما خص هؤلاء الأنبياء الخمسة بالذكر لأنهم أكابر الأنبياء وأصحاب الشرائع المعظمة والأتباع الكثيرة؛ وأولو العزم، ولميل قلوب الكفرة إليهم لاتفاق الكل على نبوة بعضهم، وتفرد اليهود في موسى، والنصارى في عيسى، وكل من هؤلاء المذكورين له شرع جديد، ومن عداهم من الرسل إنما كان يبعث بتبليغ شرع من قبله فشيث وإدريس بعثا بتبليغ شرع آدم، ومن بين نوح وإبراهيم وهما هود وصالح بعثا بتبليغ شرع نوح، ومن بين إبراهيم وموسى بعثوا بتبليغ شرع إبراهيم وكذا من بين موسى وعيسى بعثوا بتبليغ شرع موسى فليتأمل، ثم بين ما وصى به هؤلاء فقال:
(أن أقيموا الدين) أي توحيد الله، والإيمان به وطاعة رسله، وقبول شرائعه والمراد بإقامته تعديل أركانه وحفظه من أن يقع فيه زيغ أو المواظبة عليه، والتشمير له، وقال السدي: أي اعملوا به وقيل: المراد سائر ما يكون المرء بإقامته مسلماً ولم ترد به الشرائع فإنها مختلفة، قال تعالى: (لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً) قال مجاهد: لم يبعث الله نبياً إلا وصاه بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والإقرار لله بالطاعة فذلك دينه الذي شرع لهم، وقال(12/284)
قتادة: يعني تحليل الحلال وتحريم الحرام.
قال القرطبي: الأصول التي لا تختلف فيها الشرائع هي التوحيد والصلاة والزكاة والصيام والحج، وأداء الأمانة وصلة الرحم، وتحريم الكفر والقتل والزنا والإذاية للخلق، كيفما تصورت، والإعتداء على الحيوان كيفما دار، واقتحام الدناءات، وما يعود بخرم المروءات فهذا كله مشروع ديناً واحداً، وملة واحدة لم تختلف على ألسنة الأنبياء وإن اختلفت أعذارهم، وذلك قوله تعالى: أن أقيموا الدين الخ.
ثم لما أمرهم سبحانه بإقامة الدين نهاهم عن الإختلاف فيه فقال: (ولا تتفرقوا فيه) أي لا تختلفوا في التوحيد والإيمان بالله، وطاعة رسوله، وقبول شرائعه فإن هذه الأمور قد تطابقت عليها الشرائع وتوافقت فيها الأديان، فلا ينبغي الخلاف في مثلها، وليس هذا من فروع المسائل التي تختلف فيها الأدلة وتتعارض فيها الأمارات، وتتباين فيها الأفهام، فإنها من مطارح الاجتهاد، ومواطن الخلاف.
قال القرطبي في الآية أي اجعلوه دائماً قائماً مستمراً محفوظاً مستقراً، من غير خلاف فيه ولا اضطراب، فمن الخلق من وفى بذلك ومنهم من نكث، (ومن نكث فإنما ينكث على نفسه).
واختلفت الشرائع وراء هذه في أحكامه حسبما أراد الله مما اقتضت المصلحة وأوجبت الحكمة وضعه في الأزمنة على الأمم والله أعلم.
قال قتادة في الآية: ألا تعلمون أن الفرقة هلكة، وأن الجماعة ثقة وقال على الجماعة رحمة والفرقة عذاب. ثم ذكر سبحانه أن ما شرعه من الدين شق على المشركين فقال:
(كبر) أي عظم وشق (على المشركين ما تدعوهم إليه) من التوحيد ورفض الأوثان، قال قتادة اشتد عليهم شهادة أن لا إله إلا الله وحده، وضاق بها إبليس وجنوده، فأبى الله إلا أن ينصرها ويعليها ويظهرها، ويظفرها كل من ناوأها، والأولى التعميم لدلالة السياق ولا يمنعه تخصيص(12/285)
المشركين بالذكر كما لا يخفي ثم خص أولياءه فقال:
(الله يجتبي إليه) استئناف وارد لتحقيق الحق وفيه إشعار بأن منهم من يجيب إلى الدعوة، والاجتباء الاختيار، والمعنى يختار لتوحيده والدخول في دينه، افتعال من الجباية وهي الجمع على طريق الاصطفاء، واجتباء الله العبد تخصيصه إياه بفيض إلهي لتحصل له أنواع النعم بلا سعي منه (من يشاء) من عباده، قال قتادة: يخلص لنفسه من يشاء.
(ويهدي إليه من ينيب) أي يوفق لدينه ويستخلص لعبادته من يرجع إلى طاعته، ويقبل إلى عبادته ثم لما ذكر سبحانه ما شرعه لهم من إقامة الدين وعدم التفرق فيه ذكر ما وقع من التفرق والاختلاف فقال:(12/286)
وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (14)
(وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم) أي ما تفرقوا إلا عن علم بأن الفرقة ضلالة متوعد عليها، أو العلم بمبعث الرسول أو أسباب العلم من الرسل والكتب وغيرهما، فلم يلتفتوا إليها، وفعلوا ذلك التفرق، قيل: المراد قريش وهم الذين تفرقوا من بعد ما جاءهم العلم، وهو محمد صلى الله عليه وسلم بغياً منهم عليه.
وقد كانوا يقولون ما حكاه الله عنهم بقوله (وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءهم نذير) الآية، وبقوله (فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به) وقيل المراد أمم الأنبياء المتقدمين، وأنهم فيما بينهم اختلفوا لما طال بهم المدى، فآمن قوم وكفر قوم. وقيل: اليهود والنصارى خاصة كما في قوله (وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة).
(بغياً بينهم) أي بغياً من بعضهم على بعض، طلباً للرياسة فليس تفرقهم لقصور في البيان والحجج، ولكن للبغي والظلم والاشتغال بالدنيا والجاه والحمية (ولولا كلمة سبقت من ربك) وهي تأخير العقوبة (إلى أجل مسمى) وهو يوم القيامة كما في قوله (بل الساعة موعدهم) وقيل: إلى الأجل الذي قضاه الله لعذابهم في الدنيا بالقتل والأسر والذل والقهر (لقضي(12/286)
بينهم) أي لوقع القضاء بينهم بإنزال العقوبة بهم معجلة، وقيل يقضي بين من آمن منهم ومن كفر بنزول العذاب بالكافرين ونجاة المؤمنين.
(وإن الذين أورثوا الكتاب) أي التوراة والإنجيل وهم اليهود والنصارى الذي كانوا في عهده صلى الله عليه وسلم (من بعدهم) أي من بعد من قبلهم من اليهود والنصارى المختلفين في الحق.
وقال مجاهد: معنى من بعدهم من قبل مشركي مكة، وهم اليهود والنصارى وقيل، المراد كفار المشركين من العرب الذين أورثوا القرآن من بعد ما أورث أهل الكتاب كتابهم ووصفهم بأنهم (لفي شك منه) أي من القرآن أو من محمد صلى الله عليه وسلم، وعلى كلا الوجهين فالشك هنا ليس على معناه المشهور من اعتدال النقيضين وتساويهما في الذهن، بل المراد به ما هو أعم أي مطلق التردد.
وقال القرطبي: لفي شك من الذي أوصى به الأنبياء (مريب) موقع في الريبة وهي قلق النفس واضطرابها ولذلك لم يؤمنوا.(12/287)
فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (15)
(فلذلك) أي فلأجل ما ذكر من التفرق والشك أو الكتاب، أو العلم الذي أوتيته، أو فلأجل أنه شرع من الدين ما شرع (فادع) إلى الله وإلى توحيده وإلى الاتفاق والائتلاف على الملة الحنيفية القوية أو الإتباع لما أوتيته، وعلى هذا اللام في موضع إلى لإفادة الصلة والتعليل، قال الفراء والزجاج: المعنى فإلى ذلك فادع، كما تقول: دعوت إلى فلان ولفلان وذلك إشارة إلى ما وصى به الأنبياء من التوحيد، وقيل: في الكلام تقديم وتأخير والمعنى (كبر على المشركين ما تدعوهم إليه) (فلذلك فادع).
(واستقم) على ما دعوت إليه فسر الراغب الإستقامة بلزوم المنهج المستقيم، فلا حاجة إلى تأويلها بالدوام على الإستقامة، قال قتادة: استقم على أمر الله، وقال سفيان: استقم على القرآن، وقال الضحاك: استقم على تبليغ الرسالة (كما أمرت) بذلك من جهة الله تعالى.(12/287)
(ولا تتبع أهواءهم) الباطلة وتعصباتهم الزائفة في ترك التوحيد، ولا تنظر إلى خلاف من خالفك في دين الله (وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب) أي بجميع الكتب التي أنزلها الله على رسله لا كالذين آمنوا ببعض منها وكفروا ببعض وفيه تحقيق للحق، وبيان لاتفاق الكتب في أصول الدين، وتأليف لقلوب أهل الكتابين وتعريض لهم.
(وأمرت لأعدل بينكم) في أحكام الله إذا ترافعتم إلي، ولا أحيف عليكم بزيادة على ما شرعه الله، أو بنقصان منه، وأبلغ إليكم ما أمرني الله بتبليغه كما هو واللام لام كي، أي أمرت بذلك الذي أمرت به لكي أعدل بينكم، وقيل: هي زائدة، والمعنى أمرت أن أعدل وقيل: بمعنى الباء وأن المصدرية مقدرة أي بأن أعدل والأول أولى.
قال أبو العالية: أمرت لأسوي بينكم في الدين فأومن بكل كتاب وبكل رسول، والظاهر أن الآية عامة في كل شيء، والمعنى أمرت لأعدل بينكم في كل شيء.
(الله ربنا وربكم) أي إلهنا وإلهكم، وخالقنا وخالقكم (لنا أعمالنا) أي ثوابها وعقابها خاص بنا (ولكم أعمالكم) أي ثوابها وعقابها خاص بكم، فكل يجازى بعمله (لا حجة) أي لا خصومة (بيننا وبينكم) لأن الحق قد ظهر ووضح، ولم يبق للمحاجة مجال، وليس في الآية إلا ما يدل على المتاركة في المقاولة، والمحاجة لا مطلقاً حتى تكون منسوخة، وإنما عبر عن أباطيلهم بالحجة مجاراة لهم على زعمهم الباطل، قال ابن عباس ومجاهد: الخطاب لليهود وقيل للكفار على العموم.
(الله يجمع بيننا) في المحشر لفصل القضاء (وإليه المصير) أي المرجع يوم القيامة، فيجازي كُلاًّ بعمله، وهذا منسوخ بآية السيف وقيل ليست بمنسوخة لأن البراهين قد ظهرت والحجج قد قامت فلم يبق إلا العناد وبعد العناد لا حجة ولا جدال.(12/288)
وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (16) اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (17) يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (18) اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (19)(12/289)
وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (16)
(والذين يحاجون في الله) أو يخاصمون في دين الله (من بعد ما استجيب) أي استجاب الناس (له) أي لدين الله ودخلوا فيه، وقيل: الضمير راجع إلى الله، وقيل: إلى محمد صلى الله عليه وسلم المعلوم من السياق الدال عليه الفعل، والأول أولى.
قال مجاهد؛ من بعد ما أسلم الناس، قال: وهؤلاء قوم توهموا أن الجاهلية تعود، وقال قتادة هم اليهود والنصارى، ومحاجتهم قولهم نبينا قبل نبيكم، وكتابنا قبل كتابكم، وكانوا يرون لأنفسهم الفضيلة بأنهم أهل كتاب وأنهم أولاد الأنبياء، وكان المشركون يقولون (أي الفريقين خير مقاماً وأحسن ندياً) فنزلت هذه الآية.
وفال ابن عباس: هم أهل الكتاب كانوا يجادلون المسلمين ويصدونهم عن الهدى، من بعد ما استجابوا لله، وقال: هم قوم من أهل الضلالة وكانوا يتربصون بأن تأتيهم الجاهلية، وعن عكرمة قال لما نزلت (إذا جاء نصر الله والفتح) قال المشركون لمن بين أظهرهم من المؤمنين: قد دخل الناس في دين الله أفواجاً فأخرجوا من بين أظهرنا فنزلت هذه الآية.(12/289)
والموصول مبتدأ وخبره الجملة بعده وهي (حجتهم داحضة عند ربهم) أي لإثبات لها كالشيء الذي يزول عن موضعه يقال دحضت حجته دحوضاً بطلت، وبابه خضع، والإدحاض الإزلاق، ومكان دحض أي زلق، ودحضت رجله أي زلقت وبابه قطع وسماها حجة وإن كانت شبهة لزعمهم أنها حجة.
(وعليهم غضب) عظيم من الله لمجادلتهم بالباطل (ولهم عذاب شديد) في الآخرة.(12/290)
اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (17)
(الله الذي أنزل الكتاب) المراد به الجنس فيشمل جميع الكتب المنزلة على الرسل، وقيل المراد به القرآن خاصة (بالحق) متعلق بمحذوف أي متلبساً بالحق وهو الصدق (والميزان) أي العدل كذا قال أكثر المفسرين قالوا وسمى العدل ميزاناً لأن الميزان آلة الإنصاف والتسوية بين الخلق، فالميزان متجوز به عنه إستعمالاً للسبب في السبب وقيل الميزان ما بين في الكتب المنزلة مما يجب على كل إنسان أن يعمل به، وقيل: هو الجزاء على الطاعة بالثواب وعلى المعصية بالعقاب.
وقال قتادة: الميزان العدل فيما أمر به ونهى عنه وإنزال العدل هو الأمر والتكليف به، وقيل: إنه الميزان على نفسه أنزله الله من السماء في زمن نوح عليه السلام، وعلم العباد الوزن به لئلا يكون بينهم تظالم وتباخس، كما في قوله (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ)، وقيل: هو محمد صلى الله عليه وسلم يقضي بينكم بكتاب الله وقال مجاهد: هو الذي يوزن به.
(وما يدريك لعل الساعة قريب) أي أَيُّ شيء يجعلك دارياً بها، عالماً بوقتها، لعلها شيء قريب، أو قريب مجيئها، أو ذات قرب أو إتيانها قريب وقال (قريب) ولم يقل قريبة لأن تأنيثها غير حقيقي.
قال الزجاج: المعنى لعل البعث أو لعل مجىء الساعة قريب وقال(12/290)
الكسائي قريب نعت ينعت به المؤنث والمذكر كما في قوله: إن رحمة الله قريب من المحسنين، وقال الكرخي: ولا يقال: إن (قريب) يستوي فيه المؤنث والمذكر لأن فعيلاً هنا بمعنى فاعل، ولا يستوي فيه ما ذكر والاستفهام إنكاري أي لا سبب يوصلك للعمل بقربها إلا الوحي الذي ينزل عليك قيل إن النبي صلى الله عليه وسلم " ذكر الساعة وعنده قوم من المشركين فقالوا متى تقوم تكذيباً لها فأنزل الله هذه الآية، " ويدل على هذا قوله:(12/291)
يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (18)
(يستعجل بها الذين لا يؤمنون) استعجال استهزاء منهم بها وتكذيباً بمجيئها، فلا يشفقون منها (والذين آمنوا مشفقون منها) أي خائفون وجلون من مجيئها، أي فلا يستعجلونها، ففي الآية احتباك حيث ذكر الاستعجال أولاً، وحذف الإشفاق، وذكر الإشفاق ثانياً وحذف الاستعجال. قال مقاتل لأنهم لا يدرون ما يهجمون عليه وقال الزجاج لأنهم يعلمون أنهم محاسبون ومجزيون.
(ويعلمون أنها الحق) أي أنها آتية لا ريب فيها، وكائنة لا محالة ومثل هذا قوله (والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون) ثم بين ضلال الممارين فيها فقال:
(ألا إن الذين يمارون في الساعة) أي يخاصمون فيها مخاصمة شك وريبة من المماراة، وهي المخاصمة والمجادلة أو من المرية وهي الشك والريبة (لفي ضلال بعيد) عن الحق لأنهم لم يتفكروا في الموجبات للإيمان بها من الدلائل التي هي مشاهدة لهم، منصوبة لأعينهم، مفهومة لعقولهم ولو تفكروا لعلموا أن الذي خلقهم ابتداء قادر على الإعادة، وقد دل الكتاب والسنة على وقوعها، والعقول تشهد على أنه لا بد من دار جزاء والبعث أشبه الغائبات بالمحسوسات فمن لم يهتد لتجويزه فهو أبعد عن الاهتداء إلى ما وراءه.(12/291)
اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (19)
(الله لطيف بعباده) أي كثير اللطف بهم، بالغ الرأفة لهم، قال مقاتل لطيف بالبر والفاجر حيث لم يقتلهم جوعاً بمعاصيهم، قال عكرمة:(12/291)
بار بهم وقال السدي: رفيق بهم وقيل: حفى بهم. وقال القرطبي: لطيف بهم في العرض والمحاسبة، وقيل: في إيصال المنافع وصرف البلاء، وقيل لطف بالغوامض علمه، وعظم عن الجرائم حلمه، وقيل اللطيف من ينشر المناقب ويستر المثالب، أو يعفو عمن يهفو، أو يعطي العبد فوق الكفاية، ويكلفه الطاعة دون الطاقة.
وقال الجنيد: لطف بأوليائه فعرفوه ولولا لطفه بأعدائه ما جحدوه وقال جعفر الصادق: يلطف بهم في الرزق من وجهين، أحدهما أنه جعل رزقك من الطيبات، الثاني أنه لم يدفع إليك مرة واحدة فتبذره.
وقال الحسين بن الفضل: لطيف بهم في القرآن وتفصيله وتفسيره. وقيل: اللطيف الذي لا يخاف إلا عدله ولا يرجى إلا فضله (1)، وقيل هو الذي يرحم من لا يرحم نفسه، وقيل هو الذي أوقد للعلماء من الكتاب والسنة سراجاً، وجعل لهم الصراط المستقيم والدين القيم منهاجاً، وأنزل لهم من سحائب بره ومَنهِ ولطفه وكرمه وإحسانه ماء ثجاجاً وقيل غير ذلك.
وحاصل المعنى أنه يجري لطفه على عباده في كل أمورهم ومن جملة ذلك الرزق الذي يعيشون به في الدنيا وهو معنى قوله (يرزق من يشاء) منهم كيف يشاء فيوسع على هذا ويضيق على هذا، وفي تفضيل قوم بالمال حكمة ليحتاج البعض إلى البعض، كما قال ليتخذ بعضهم بعضاً سخرياً، وكان هذا لطفاً بالعباد ليمتحن الغني بالفقير، والفقير بالغني. وقيل ما يشاء من أنواع الرزق فهو -وإن كان يرزق كل ذي روح- لكنه فاوت بين المرزوقين في الرزق، قلة وكثرة وجنساً ونوعاً لحكمة يعلمها هو.
(وهو القوي) العظيم القوة الباهر القدرة (العزيز) الذي يغلب كل شيء ولا يغلبه شيء.
_________
(1) سقط من الأصل: وقيل: هو الذي يعين على الخدمة ويكثر المدحة، وقيل: هو الذي لا يعاجل من عصاه ولا يخيب من رجاه، وقيل: هو الذي لا يرد سائله ولا يؤيس آمله.(12/292)
مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (20) أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (21) تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (22) ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (23)(12/293)
مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (20)
(من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه) الحرث في اللغة الكسب يقال: هو يحرث لعياله ويحترث، أي يكتسب، ومنه سمي الرجل حارثاً ومعنى أصل الحرث إلقاء البذر في الأرض، فأطلق على ثمرات الأعمال وفوائدها بطريق الاستعارة المبنية على تشبيهها بالغلال الحاصلة من البذر، المتضمن لتشبيه الأعمال بالبذور، والمعنى من كان يريد بأعماله وكسبه ثواب الآخرة يضاعف الله له تلك الحسنة بعشرة أمثالها، إلى سبعمائة ضعف، وقيل: معناه يزيد في توفيقه وإعانته وتسهيل سبل الخير له.
(ومن كان يريد حرث الدنيا) أي من كان يريد بأعماله وكسبه ثواب الدنيا وهو متاعها، وما يرزق الله به عباده منها، مؤثراً لها على الآخرة (نؤته منها) ما قضت به مشيئتنا، وقسم له في قضائنا، ولو تهاون به ولم يطلبه لأتاه.(12/293)
قال قتادة: المعنى نقدر له ما قسم له كما قال (عجلنا له فيها ما نشاء) وقال أيضاًً: إن الله يعطي على نية الآخرة ما شاء من أمر الدنيا، ولا يعطي على نية الدنيا إلا الدنيا. قال القشيري والظاهر أن الآية في الكافر، وهو تخصيص بغير مخصص، ثم بين سبحانه أن هذا الذي يريد بعمله الدنيا لا نصيب له في الآخرة فقال:
(وما له في الآخرة من نصيب) لأنه لم يعمل للآخرة فلا نصيب له فيها وقد تقدم تفسير هذه الآية في سورة الإسراء وقال وابن عباس في الآية حرث الآخرة عيش الآخرة، وقال من يؤثر دنياه على آخرته لم يجعل الله له نصيباً في الآخرة إلا النار، ولم يزد بذلك من الدنيا شيئاًً إلا رزقاً فرغ منه وقسم له وأخرج أحمد والحاكم وصححه وابن مردويه وابن حبان عن أبيّ بن كعب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم " قال بشر هذه الأمة بالسناء والرفعة والنصر والتمكين في الأرض ما لم يطلبوا الدنيا بعمل الآخرة، فمن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا لم يكن له في الآخرة من نصيب "، وأخرج الحاكم وصححه، والبيهقي في الشعب عن أبي هريرة قال: " تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم من كان يريد حرث الآخرة الآية ثم قال: يقول الله: ابن آدم تفرغ لعبادتي أملأ صدرك غنى، وأسد فقرك، وإن لا تفعل ملأت صدرك شغلاً، ولم أسد فقرك ". وعن علي قال: الحرث حرثان: فحرث الدنيا المال والبنون، وحرث الآخرة الباقيات الصالحات.
ولما بين سبحانه القانون في أمر الدنيا والآخرة، أردفه ببيان ما هو الذنب العظيم الموجب للنار فقال:(12/294)
أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (21)
(أم لهم شركاء) أم منقطعة وتقديره بل ألهم شركاء؟ وقيل هي المعادلة لألف الاستفهام وفي الكلام إضمار تقديره. أيقبلون ما شرع الله من الدين؛ أم لهم آلهة (شرعوا لهم من الدين) وقيل أم بمعنى بل التي للانتقال والهمزة التي للتوبيخ والتقريع، وضمير شرعوا عائد إلى الشركاء وضمير لهم(12/294)
إلى الكفار وقيل العكس والأول أولى.
(ما لم يأذن به الله) من الشرك والعاصي والشرائع المضلة، وإنكار البعث، والعمل للدنيا، والآية بعمومها تشمل كل شيء لم يأمر به الله سبحانه أو رسوله، فيدخل فيه التقليد لأنه مما لم يأذن به الله بل ذمه في كتابه في غير موضع، ولم يأذن به رسوله، ولا إمام من أئمة الدين، ولا أحد من سلف الأمة وسادتها وقادتها، بل نهى عنه المجتهدون الأربعة، ومن كان بعدهم من أهل الحق، رَكْب الإيمان وأتباع السنة المطهرة، وإنما أحلله من أحدث من الجهال والعوام، بعد القرون المشهود لها بالخير فرحم الله امرءاً سمع الحق فاتبعه وسمع الباطل فتركه وأدمغه وبالله التوفيق.
(ولولا كلمة الفصل) وهي تأخير عذابهم حيث قال: (بل الساعة موعدهم) (لقضى بينهم) في الدنيا فعوجلوا بالعقوبة، والضمير في بينهم راجع إلى المؤمنين والمشركين أو إلى المشركين وشركائهم (وإن الظالمين) أي المشركين الكافرين والمكذبين (لهم عذاب اليم) مؤلم في الدنيا والآخرة قرأ الجمهور بكسر إن على الإستئناف وقرىء بفتحها عطفاً على كلمة الفصل.(12/295)
تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (22)
(ترى الظالمين) خطاب لكل من تتأتى منه الرؤية (مشفقين) أي خائفين وجلين (مما كسبوا) من السيئات وذلك الخوف والوجل يوم القيامة (وهو) الضمير راجع إلى ما كسبوا بتقدير مضاف، قاله الزجاج، أي وجزاء ما كسبوا (واقع بهم) نازل عليهم لا محالة أشفقوا أو لم يشفقوا، والجملة حالية، ولما ذكر الله سبحانه حال الظالمين ذكر حال المؤمنين فقال:
(والذين آمنوا وعملوا الصالحات) مبتدأ وخبره (في روضات الجنات) جمع روضة قال أبو حيان: اللغة الكثيرة تسكين الواو، ولغة هذيل فتحها والروضة الموضع النزه الكثير الخضرة، وقد مضى بيان هذا في سورة الروم وروضة الجنة أطيب مساكنها كما أنها في الدنيا أحسن أمكنتها، وفيه تنبيه على أن عصاة المسلمين من أهل الجنة لأنه خص الذين آمنوا وعملوا الصالحات بأنهم في روضات الجنات وهي البقاع الشريفة من الجنة، والبقاع(12/295)
التي دون تلك الأوصاف لا بد وأن تكون مخصوصة بمن كان دون الذين آمنوا وعملوا الصالحات.
(لهم ما يشاؤون) (1) أو للاستقرار العامل في لهم، والعندية مجاز أو حقيقة (ذلك) أي ما ذكر للمؤمنين (هو الفضل الكبير) الذي لا يوصف ولا تهتدي العقول إلى كنه صفته، ومعرفة حقيقته، لأن الحق إذا قال كبير فمن ذا الذي يقدر قدره.
_________
(1) سقط من الأصل (لهم ما يشاؤون عند ربهم) من صنوف النعيم وأنواع المستلذات، وعند، ظرف ليشاؤون.(12/296)
ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (23)
(ذلك) أي الفضل الكبير (الذي يبشر الله عباده) قرىء يبشر مخففاً ومثقلاً، وهما سبعيتان، ثم وصف العباد بقوله: (الذين آمنوا وعملوا الصالحات) فهؤلاء الجامعون بين الإيمان والعمل بما أمر الله به وترك ما نهى عنه، هم المبشرون بتلك البشارة، ثم لما ذكر سبحانه ما أخبر به نبيه صلى الله عليه وسلم من هذه الأحكام الشريفة التي اشتمل عليها كتابه أمره بأن يخبرهم بأنه لا يطلب منهم بسبب هذا التبليغ ثواباً منهم فقال:
(قل لا أسألكم عليه أجراً) أي قل يا محمد: لا أطلب منكم الآن ولا في مستقبل الزمان على تبليغ الرسالة بشارة أو نذارة جعلاً ولا نفعاً وإن قَلَّ والخطاب إما لقريش وللأنصار لأنهم أخواله، أو لجميع العرب لأنهم أقاربه في الجملة (إلا المودة) العظيمة الواسعة (في القربى) أي مظروفة فيها، بحيث تكون القربى موضعاً للمودة وظرفاً لها، لا يخرج شيء من محبتكم عنها والاستثناء متصل، أي إلا أن تودوني لقرابتي بينكم أو تودوا أهل قرابتي، ويجوز أن يكون منقطعاً.
قال الزجاج: إلا المودة استثناء ليس من الأول أي إلا أن تودوني لقرابتي فتحفظوني، والخطاب لقريش وهذا قول عكرمة ومجاهد وأبي مالك والشعبي فيكون المعنى على الانقطاع: لا أسألكم أجراً قط، ولكن أسألكم المودة في القربى التي بيني وبينكم ارقبوني فيها ولا تعجلوا إليّ، ودعوني والناس وبه قال(12/296)
قتادة ومقاتل والسدي والضحاك وابن زيد وغيرهم، وهو الثابت عن ابن عباس كما سيأتي وقال سعيد بن جبير وغيره هم آل محمد، وسيأتي ما استدل به القائلون بهذا.
وقال الحسن وغيره: معنى الآية إلا التودد إلى الله عز وجل والتقرب بطاعته، وقال الحسين بن الفضل، ورواه ابن جرير عن الضحاك أن هذه الآية منسوخة، قال البغوي: وهذا قول غير مرضي، لأن مودة النبي صلى الله عليه وسلم وكف الأذى عنه، ومودة أقاربه والتقرب إلى الله بالطاعة والعمل الصالح، من فرائض الدين.
أقول: في الآية ثلاثة أقوال، الأول أن القربى بمعنى القرابة أي الرحم، والثاني بمعنى الأقارب، والثالث بمعنى القرب والتقرب والزلفى، وسيأتي ما يتضح به الصواب، ويظهر به معنى الآية. قال سعيد بن جبير قربى آل محمد صلى الله عليه وسلم. عن ابن عباس أنه سئل عن قوله (إلا المودة في القربى) قال ابن عباس: " عجلت أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن بطن من قريش إلا كان له فيهم قرابة، فقال إلا أن تصلوا ما بيني وبينكم من القرابة "، وعنه قال: قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم لا أسألكم عليه أجراً إلا أن تودوني في نفسي لقرابتي وتحفظوا القرابة التي بيني وبينكم " (1)، وعن الشعبي قال: أكْثَرَ الناس علينا في هذه الآية (قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى) فكتبنا إلى ابن عباس نسأله عن ذلك فقال: " إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان واسط النسب في قريش، ليس بطن من بطونهم إلا وله فيه قرابة، فقال الله: قل الخ أن تودوني لقرابتي منكم، وتحفظوني بها ".
وعن ابن عباس قال كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم قرابه من جمع قريش فلما كذبوه وأبوا أن يبايعوه قال: " يا قوم إذا أبيتم أن
_________
(1) السيوطي في الدر 6/ 6.(12/297)
تبايعوني فاحفظوا قرابتي فيكم، ولا يكون غيركم من العرب أولى بحفظي ونصرتي منكم "، وعنه قال: " قالت الأنصار: فعلنا وفعلنا وكأنهم فخروا فقال العباس: لنا الفضل عليكم، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتاهم في مجالسهم فقال: يا معشر الأنصار ألم تكونوا أذلة فأعزكم الله قالوا بلى يا رسول الله قال أفلا تجيبون؟ قالوا ما نقول يا رسول الله؟ قال ألا تقولون ألم يخرجك قومك فآويناك؟ ألم يكذبوك فصدقناك؟ ألم يخذلوك فنصرناك؟ فما زال يقول حتى جثوا على الركب وقالوا أموالنا وما في أيدينا لله ورسوله، فنزلت هذه الآية " (1) وفي إسناده يزيد ابن أبي زياد وهو ضعيف والأولى أن الآية مكية لا مدنية. وقد أشرنا فيما سبق أن هذه الآية مدنية وهذا متمسكهم.
وعن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الآية " تحفظوني في أهل بيتي وتودوهم بي " أخرجه الديلمي وأبو نعيم، وعنه قال لما نزلت هذه الآية قالوا: " يا رسول الله من قرابتك هؤلاء الذين وجبت علينا مودتهم؟ قال علي وفاطمة وولداهما " أخرجه ابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه قال السيوطي بسند ضعيف.
وعنه قال نزلت هذه الآية بمكة وكان المشركون يؤذون رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله قل لهم يا محمد لا أسألكم عليه -أي على ما أدعوكم إليه- أجراً عرضاً من الدنيا إلى المودة في القربى، إلا الحفظ في قرابتي فيكم، فلما هاجر إلى المدينة أحب أن يلحقه بإخوته من الأنبياء فقال (قل ما سألتكم من أجر فهو لكم إن أجري إلا على الله) يعني ثوابه وكرامته في الآخرة، كما قال نوح (وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين) وكما قال هود وصالح وشعيب لم يستثنوا أجراً كما استثنى النبي صلى الله عليه وسلم فرده عليهم، وهي منسوخة، وعنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في الآية " قل لا أسألكم على ما أتيتكم به من البينات والهدى أجراً إلا أن تودوا الله وأن تتقربوا إليه بطاعته هذا حاصل ما روي عن حبر الأمة ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في تفسير هذه الآية والمعنى الأول هو الذي صح
_________
(1) السيوطي في الدر 6/ 7.(12/298)
عنه ورواه عنه الجمع الجم من تلامذته فمن بعدهم ولا ينافيه ما روي عنه من النسخ فلا مانع من أن يكون قد نزل القرآن في مكة بأن يوده كفار قريش لما بينه وبين قريش من القربى ويحفظوه بها ثم ينسخ ذلك ويذهب هذا الاستثناء من أصله كما يدل عليه ما ذكرنا مما يدل على أنه لم يسأل على التبليغ أجراً على الإطلاق.
ولا يقوي ما روي من حملها على آل محمد صلى الله عليه وسلم على معارضته ما صح عن ابن عباس من تلك الطرق الكثيرة، وقد أغنى الله آل محمد عن هذا بما لهم من الفضائل الجليلة والمزايا الجميلة، وقد بينا ذلك عند تفسيرنا لقوله (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت) وكما لا يقوى هذا على المعارضة فكذلك لا يقوي ما روي عنه أن المراد بالمودة أن يودوا الله، وأن يتقربوا إليه بطاعته، ولكنه يشد من عضد هذا أنه تفسير مرفوع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(ومن يقترف) أي يكتسب وأصل القرف الكسب يقال فلان يقرف لعياله من باب ضرب أي يكسب والاقتراف الاكتساب مأخوذ من قولهم رجل قرفة إذا كان محتالا (حسنة) أي طاعة (نزد له فيها) أي في هذه الحسنة أو في الجنة (حسناً) بمضاعفة ثوابها، قال مقاتل المعنى من يكتسب حسنة واحدة نزد له فيها حسناً نضاعفها بالواحدة عشراً فصاعداً. وقيل المراد بهذه الحسنة هي المودة في القربى، والحمل على العموم أولى، ويدخل تحته المودة في القربى دخولاً أولياً لذكرها عقيب ذكر المودة في القربى وقال ابن عباس إنها المودة في آل رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال السدي إنها نزلت في أبي بكر ومودته فيهم والظاهر العموم.
(إن الله غفور شكور) أي كثير المغفرة للمذنبين كثير الشكر للمطيعين قال قتادة: غفور للذنوب شكور للحسنات. وقال السدي: غفور لذنوب آل محمد صلى الله عليه وسلم شكور للقليل فيضاعفه.(12/299)
أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (24) وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (25) وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (26) وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (27)(12/300)
أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (24)
(أم) منقطعة أي بل أ (يقولون افترى) أي اختلق (على الله كذباً) بدعوى النبوة ونسبة القرآن إلى الله تعالى، والإنكار للتوبيخ، ثم أجاب سبحانه عن قولهم هذا فقال: (فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ) أي لو افترى على الله الكذب لشاء عدم صدوره منه، وختم على قلبه بحيث لا يخطر بباله شيئاًً مما كذب فيه كما تزعمون، قال قتادة يختم على قلبك فينسيك القرآن فأخبرهم أنه لو افترى عليه لفعل به ما أخبرهم به في هذه الآية.
وقال مجاهد ومقاتل: إن يشأ يربط على قلبك بالصبر على أذيتهم حتى لا يدخل قلبك مشقة من قولهم وقيل: الخطاب له والمراد الكفار، أي إن يشأ يختم على قلوب الكفار ويعاجلهم بالعقوبة، ذكره القشيري وقيل: المعنى لو حدثتك نفسك أن تفتري على الله كذباً لطبع على قلبك: فإنه لا يجترىء على الكذب إلا من كان مطبوعاً على قلبه، والأول أولى، والمقصود، من هذا الكلام المبالغة في تقرير الاستبعاد.
(ويمحو الله الباطل) استئناف مقرر لما قبله من نفي الافتراء غير داخل في جزاء الشرط، قال ابن الأنباري: يختم على قلبك تام وما بعده مستأنف،(12/300)
وقال الكسائي: فيه تقديم وتأخير، أي والله يمحو الباطل، وقال الزجاج: ويمحو الله الباطل احتجاج على من أنكر ما أتى به النبي صلى الله عليه وسلم، أي لو كان ما أتى به باطلاً لمحاه كما جرت به عادته في المفترين؛ وسقطت الواو من يمحو في بعض المصاحف كما حكاه الكسائي.
(ويحق الحق) أي الإسلام فيبينه (بكلماته) أي بما أنزله من القرآن وقد فعل الله تعالى ذلك فمحا باطلهم. وأعلى كلمة الإسلام (إنه عليم بذات الصدور) أي عالم بما في قلوب العباد.(12/301)
وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (25)
(وهو الذي يقبل التوبة عن عباده) المذنبين أي يقبل توبتهم إليه مما عملوا من المعاصي، واقترفوا من السيئات والتوبة الندم على المعصية والقلع عنها والعزم على عدم المعاودة لها، وهذه ثلاثة شروط فيما بينه وبين الله تعالى فإذا حصلت هذه الشروط صحت التوبة، وإن فقد أحد الثلاثة لم تصح، وأما فيما يتعلق بحق آدمي فشروطها أربعة هذه الثلاثة، والرابع أن يبرأ من حق صاحبها، وقيل: يقبل التوبة عن أوليائه وأهل طاعته، والأول أولى، فإن التوبة مقبولة من جميع العباد مسلمهم وكافرهم إذا كانت صحيحة صادرة عن خلوص نية وعزيمة صحيحة والأحاديث في ذكر التوبة وحكمها كثيرة في الصحيحين وغيرها.
(ويعفو عن السيئات) على العموم لمن تاب عن سيئة، ويعفو لمن يشاء بلا توبة أيضاًً إذا كان ما دون الشرك (ويعلم ما تفعلون) من خير وشر فيجازي كُلاً بما يستحقه قرأ حمزة وغيره تفعلون بالفوقية على الخطاب وقرىء بالتحتية على الخبر، وهما سبعيتان، واختار الثانية أبو عبيد وأبو حاتم لأن هذا الفعل وقع بين خبرين.(12/301)
وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (26)
(ويستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات) أي يعطيهم ما طلبوه منه يقال أجاب واستجاب بمعنى وقيل المعنى تقبل عبادة المخلصين وقيل التقدير يستجيب لهم فحذف اللام كما حذف في قوله: (وإذا كالوهم) أي كالوا لهم وقيل إن(12/301)
الموصول في محل رفع أي يجيبون ربهم إذا دعاهم، كقوله (استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم) واستظهره السفاقسي، قال المبرد المعنى يستدعي الذين آمنوا الإجابة هكذا حقيقة معنى استفعل، فالذين في موضع رفع والأول أولى (ويزيدهم) على ما طلبوه (من فضله) أو على ما يستحقونه من الثواب تفضلاً منه، وقيل يشفعهم في إخوانهم (والكافرون لهم عذاب شديد) هذا للكافرين مقابلاً لما ذكره للمؤمنين فيما قبله.(12/302)
وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (27)
(ولو بسط الله الرزق لعباده) جميعهم، أي لو وسع الله لهم رزقهم (لبغوا) أي لعصوا وطغوا جميعهم (في الأرض) وبطروا النعمة وتكبروا وطلبوا ما ليس لهم طلبه، لأن الغنى مبطرة مأشرة، وكفى بحال قارون وفرعون عبرة وقيل المعنى لو جعلهم سواء في الرزق لما انقاد بعضهم لبعض ولتعطلت الصنائع، والأول أولى، والظاهر عموم أنواع الرزق وقيل هو المطر خاصة وذكروا في كون بسط الرزق موجباً للطغيان وجوهاً لا نطول بذكرها؛ وأصل البغي طلب تجاوز الاقتصاد فيما يتحرى كمية أو كيفية، وفي القرطبي بغيهم طلبهم منزلة بعد منزلة، ودابة بعد دابة، ومركباً بعد مركب، وملبساً بعد ملبس.
(ولكن ينزل) بالتشديد وضده سبعيتان (بقدر ما يشاء) أي ينزل من الرزق لعباده بتقدير على حسب مشيئته، وما تقتضيه حكمته البالغة (إنه بعباده) أي بأحوالهم (خبير بصير) بما يصلحهم من توسيع الرزق وتضييقه فيقدر لكل أحد منهم ما يصلحه ويكفيه عن الفساد بالبغي في الأرض ويقدر لهم ما تقتضيه حكمته، فيفقر ويغني، ويمنع ويعطي، ويبسط ويقبض، ولو أغناهم جميعاً لبغوا، ولو أفقرهم لهلكوا، وما ترى من البسط على من يبغي، ومن البغي بدون البسط فهو قليل، ولا شك أن البغي مع الفقر أقل ومع البسط أكثر وأغلب، عن أبي هانىء الخولاني قال: سمعت عمرو بن خريت وغيره يقولون: " إنما أنزلت هذه الآية في أصحاب الصفة وذلك أنهم قالوا لو أن لنا فتمنوا الدنيا " قال السيوطي سنده صحيح وعن علي " مثله ".(12/302)
وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (28) وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ (29) وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (30) وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (31)(12/303)
وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (28)
(وهو الذي ينزل) بالتشديد والتخفيف سبعيتان (الغيث) أي المطر الذي هو أرفع أنواع الرزق وأعمها فائدة، وأكثرها منفعة ومصلحة (من بعد ما قنطوا) أي أيسوا عن ذلك، فيعرفون بهذا الإنزال للمطر بعد القنوط مقدار رحمته لهم ويشكرون له ما يجب الشكر عليه، والعامة على فتح النون، وقرىء بكسرها وهي لغة، وعليها قرىء لا تقنطوا بفتح النون في المتواتر ولم يقرأ بالكسر في الماضي إلا شاذاً وما مصدرية أي من بعد قنوطهم.
(وينشر رحمته) أي بركات الغيث ومنافعه في كل شيء من السهل والجبل، والنبات والحيوان، وما يحصل به من الخصب أو رحمته الواسعة المنتظمة لما ذكر انتظاماً أولياً، والمراد بالرحمة المطر، فذكر المطر بإسمين الغيث لأنه يغيث من الشدائد، والرحمة لأنه رأفة وإحسان.
(وهو الولي) للصالحين من عباده بالإحسان وجلب المنافع لهم ودفع الشرور عنهم (الحميد) المستحق للحمد منهم على إنعامه خصوصاً وعموماً، ثم ذكر سبحانه بعض آياته الدالة على كمال قدرته الموجبة لتوحيده وصدق ما وعد به من البعث فقال:(12/303)
وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ (29)
(ومن آياته خلق السموات والأرض) أي خلقهما على هذه الكيفية العجيبة، والصنعة الغريبة، الدالة على وجود صانع حكيم قادر، وفيه إشارة إلى ما قرر في الكلام من المسالك الأربعة في الإستدلال على وجود الصانع تعالى، وهي حدوث الجواهر، وإمكانها، وحدوث الأعراض القائمة بها،(12/303)
وإمكانها أيضاًً، وفيه إشارة أيضاًً إلى أن خلق السموات والأرض من إضافة الصفة للموصوف، أي السموات المخلوقة والأرض المخلوقة.
(وما بث فيهما من دابة) يجوز عطفه على خلق بتقدير مضاف، ويجوز عطفه على السموات، وقدمه القاضي على الأول والدابة اسم لكل ما دبّ، قال الفراء أراد ما بث في الأرض دون السماء كقوله (يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان) وإنما يخرج من الملح دون العذب وقال أبو علي الفارسي: تقديره وما بث في أحدهما فحذف المضاف، قال مجاهد: يدخل في هذا الملائكة والناس، وقد قال تعالى (ويخلق ما لا تعلمون) قال الكرخي وما جَوّزه الزمخشري من أن يكون للملائكة مشي مع الطيران فيوصفون بالدبيب كما وصف به الأناسي أو يخلق الله تعالى في السموات حيوانات يمشون فيها مشي الأناسي على الأرض بعيد من الأفهام لكونه على خلاف العرف العام ولأن الشيء إنما يكون آية إذا كان معلوماً ظاهراً مكشوفاً ومن ثم أهمل القاضي ذكره.
(وهو على جمعهم) أي حشرهم يوم القيامة، في الضمير تغليب العاقل على غيره، لأنه راجع إلى الدابة، ولولاه لكان يقال: على جمعها (إذا) أي في وقت (يشاء قدير) والظرف متعلق بجمعهم لا بقدير، فإن المقيد بالمشيئة جمعه تعالى لا قدرته؛ قال أبو البقاء. لأن ذلك يؤدي إلى أن يصير المعنى: وهو على جمعهم قدير إذا يشاء فتتعلق القدرة بالمشيئة وهو محال، قال شهاب الدين والسمين ولا أدري ما وجه كونه محالاً على مذهب أهل السنة فإن كان يقول بقول المعتزلة وهو أن القدرة تتعلق بما لم يشأ الله تمشي كلامه ولكنه مذهب رديء لا يجوز اعتقاده.(12/304)
وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (30)
(وما أصابكم من مصيبة) من المصائب كائنة ما كانت (فبما) أي بسبب ما (كسبت أيديكم) من المعاصي، وما هي الشرطية، ولذا دخلت الفاء في جوابها على قراءة الجمهور، ولا يجوز حذفها عند سيبويه، وجوز الأخفش وبعض البغداديين الحذف كما في قوله (وإن أطعتموهم إنكم(12/304)
لمشركون) وبه قال أبو البقاء، وقيل: هي الموصولة فيكون الحذف والإثبات جائزين، والأول أولى.
قال الزجاج: إثبات الفاء أجود لأن الفاء مجازات جواب الشرط ومن حذف الفاء فعلى أن ما في معنى الذي، والمعنى الذي أصابكم وقع بما كسبت أيديكم، وعبر بالأيدي لأن أكثر الأفعال تزاول بها وتعالج وتحصل.
قال الحسن: المصيبة هنا الحدود على المعاصي، والأولى الحمل على العموم كما يفيده وقوع النكرة في سياق النفي، ودخول من الاستغراقية عليها قال الضحاك: ما تعلم الرجل القرآن ثم نسيه إلا بذنب، ثم قرأ هذه الآية وقال أي مصيبة أعظم من نسيان القرآن. قلت ويلحق بالقرآن نسيان السنة المطهرة. وترك العمل بها وإيثار الرأي عليها أيضاًً، عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه قال ألا أخبركم بأفضل آية في كتاب الله حدثنا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ " وما أصابكم من مصيبة الآية وسأفسرها لك يا علي ما أصابكم من مرض أو عقوبة أو بلاء في الدنيا فبما كسبت أيديكم، والله أكرم من أن يثني عليكم العقوبة في الآخرة، وما عفا الله عنه في الدنيا فالله أكرم من أن يعود بعد عفوه ".
أخرجه أحمد وابن راهويه وابن منيع وعبد بن حميد والحكيم الترمذي وأبو يعلى وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والحاكم، قيل: المراد بهذه المصائب الأحوال المكروهة، نحو الأوجاع والأسقام والقحط والبلاء والغرق والصواعق وغير ذلك، من الذنوب والمعاصي وتعلق بهذه الآية من يقول بالتناسخ، وقال: لو لم يكن للأطفال حالة كانوا عليها قبل هذه الحالة لما تألموا، والحق أن الآية مخصوصة بالمكلفين بالسياق والسباق.
(و) هو (يعفو عن كثير) أي من المعاصي التي يفعلها العباد، فلا يعاقب عليها أو عن كثير من الناس فلا يعاجلهم بالعقوبة فمعنى الآية أنه يكفر عن العبد بما يصيبه من المصائب ويعفو عن كثير من الذنوب وقد أثبت بالأدلة الصحيحة أن جميع ما يصاب به الإنسان في الدنيا يؤجر عليه أو يكفر عنه من(12/305)
ذنوبه وقيل هذه آية مختصة بالكافرين على معنى أن ما يصابون به بسبب ذنوبهم من غير أن يكون ذلك مكفراً عنهم لذنب ولا محصلاً لثواب ويترك عقوبتهم عن كثير من ذنوبهم فلا يعاجلهم في الدنيا بل يمهلهم إلى الدار الآخرة والأولى حمل الآية على العموم، والعفو يصدق على تأخير العقوبة، كما يصدق على محو الذنب ورفع الخطأ به.
وقال الواحدي وهذه أرجى آية في كتاب الله لأنه جعل ذنوب المؤمنين صنفين، صنف كفره عنهم بالمصائب، وصنف عفا عنه في الدنيا وهو كريم لا يرجع في عفوه، فهذه سنة الله مع المؤمنين، وأما الكافر فإنه لا يعجل له في الدنيا عقوبة ذنبه حتى يوافي به يوم القيامة، وعن أبي موسى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " لا تصيب عبداً نكبة فما فوقها أو دونها إلا بذنب وما يعفو الله عنه أكثر، وقرأ وما أصابكم الآية " أخرجه الترمذي وعبد بن حميد وعن عمران ابن حصين أنه دخل عليه بعض أصحابه وكان قد ابتلى في جسده فقال إنا لنبتئس لك لما نرى فيك، قال فلا تبتئس لما ترى، فإن ما ترى بذنب، وما يعفو الله عنه أكثر، ثم تلا هذه الآية إلى آخرها وعن معاوية بن أبي سفيان سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " ما من شيء يصيب المؤمن في جسده يؤذيه إلا كفر الله به عنه من سيئاته "، أخرجه أحمد وعن البراء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما عثرة قدم، ولا اختلاج عرق، ولا خدش عود، إلا بما قدمت أيديكم وما يعفو الله أكثر " أخرجه ابن مردويه.(12/306)
وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (31)
(وما أنتم بمعجزين في الأرض) أي بفائتين ما قضاه عليهم هرباً في الأرض ولا في السماء لو كانوا فيها، بل ما قضاه عليهم من المصائب واقع عليهم نازل بهم (وما لكم من دون الله من ولي) يواليكم فيمنع عنكم ما قضاه الله (ولا نصير) بنصركم من عذاب الله في الدنيا ولا في الآخرة، ثم ذكر سبحانه آية أخرى من آياته العظيمة الدالة على توحيده وصدق ما وعد به فقال:(12/306)
وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (32) إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (33) أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ (34) وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (35) فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (36)(12/307)
وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (32)
(ومن آياته الجوار) بحذف الياء من الخط لأنها من ياآت الزوائد وبإثباتها وحذفها في اللفظ في كل من الوصل والوقف قراءات سبعية؛ وهي السفن، واحدتها جارية أي سائرة (في البحر كالأعلام) أي الجبال جمع علم؛ وهو الجبل؛ قال الخليل: كل شيء مرتفع عند العرب فهو علم وقال مجاهد: الأعلام القصور واحدها علم.(12/307)