وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا (21) يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا (22) وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا (23) أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا (24) وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا (25) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا (26) وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27)(9/297)
وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا (21)
فالمعنى لا يأملون لقاء ما وعدنا على الطاعة من الثواب ومعلوم أن من لا يرجو الثواب لا يخاف العقاب.
(لولا) هَلاَّ (أنزل علينا الملائكة) فيخبروننا أن محمداً - صلى الله عليه وسلم - صادق، أو هَلاّ أنزلوا علينا رسلاً يرسلهم الله (أو نرى ربنا)؟ عياناً فيخبرنا بأن محمداً - صلى الله عليه وسلم - رسول، ثم أجاب الله سبحانه عن شبهتهم هذه فقال:
(لقد استكبروا في أنفسهم وعتوا عتواً كبيراً) أي أضمروا الاستكبار عن الحق والعناد في قلوبهم كما في قوله تعالى (إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه) والعتو مجاوزة الحد في الطغيان والبلوغ إلى أقصى غاياته قال ابن عباس: عتوا أي شدة الكفر، ووصفه بالكبر لكون التكلم بما تكلموا به من هذه المقالة الشنيعة في غاية الكبر والعظم، فإنهم لم يكتفوا بإرسال البشر حتى طلبوا إرسال الملائكة إليهم بل جاوزوا ذلك إلى التخيير بينه وبين مخاطبة الله سبحانه ورؤيته في الدنيا من دون أن يكون بينهم وبينه ترجمان، ولقد بلغ هؤلاء الرذالة بأنفسهم مبلغاً، هي أحقر وأقل وأرذل من أن تكون من أهله أو تعد من المستعدين له، وهكذا من جهل قدر نفسه ولم يقف عند حده ومن جهلت نفسه قدره رأى غيره منه ما لا يرى.(9/297)
يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا (22)
(يوم) أي: اذكر يوم: (يرون الملائكة) أي ملائكة العذاب رؤية(9/297)
ليست على الوجه الذي طلبوه والصورة التي اقترحوها، بل على وجه آخر وهو يوم ظهورهم لهم عند الموت أو عند الحشر، قال مجاهد: يوم القيامة، وعن عطية العوفي نحوه.
(لا بشرى يومئذ للمجرمين) أي يمنعون البشرى يوم يرون، أو لا توجد لهم بشرى فيه، فأعلم سبحانه بأن الوقت الذي يرون فيه الملائكة وهو وقت الموت أو يوم القيامة قد حرمهم الله البشرى، بخلاف المؤمنين فلهم البشرى بالجنة، قال الزجاج: المجرمون في هذا الموضع الذين اجترموا الكفر بالله، وهو ظاهر في موضع مضمر، أو عام يتناولهم بعمومه، وهم الذين اجترموا الذنوب والمراد: الكفار، لأن مطلق الأسماء يتناول أكمل المسميات.
(ويقولون) عند مشاهدتهم للملائكة: (حجراً) حراماً (محجوراً) هذه كلمة كانوا يتكلمون بها عند لقاء عدو، وهجوم نازلة هائلة، يضعونها موضع الاستعاذة يقال للرجل: أتفعل كذا؟ فيقول: حجراً محجوراً أي حراماً عليك التعرض لي.
والمعنى يطلبون من الله أن يمنع المكروه فلا يلحقهم أي: يسأله أن يمنع ذلك منعاً، ويحجره حجراً. وقيل إن هذا من الملائكة أي يقولون للكفار: حراماً محرماً أن يدخل أحد منكم الجنة. وأن تكون البشرى اليوم إلا للمؤمنين وقال أبو سعيد الخدري: حراماً محرماً أن نبشركم مما نبشر به المتقين، وعن الحسن. وقتادة قالا: هي كلمة كانت العرب تقولها عند الشدائد، وقال مجاهد: أي عوذاً معاذ الملائكة تقوله والحجر مصدر بمعنى الاستعاذة، والكسر والفتح لغتان وقرئ بهما، وقرئ الضم وهو لغة فيه وهو من حجره إذا منعه وقد ذكر سيبويه في باب المصادر المنصوبة بأفعال متروك إظهارها، هذه الكلمة، وجعلها من جملتها، وبه قال السمين، والبيضاوي. والحجر: العقل، لأنه يمنع صاحبه، ومحجوراً صفة مؤكدة للمعنى، كقولهم ذيل ذائل وموت مائت.(9/298)
وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا (23)
(وقدمنا إلى ما عملوا من عمل) هذا وعيد آخر، وذلك أنهم كانوا يعملون أعمالاً لها صور الخير، من صلة الرحم، وإغاثة الملهوف، وإطعام الطعام، وأمثالها ولم يمنع من الأثابة عليها إلا الكفر، الذي هم عليه فمثلت حالهم وأعمالهم، بحال قوم خالفوا سلطانهم، واستعصوا عليه، فقدم إلى ما معهم من المتاع فأفسده، ولم يترك منه شيئاً، وإلا فلا قدوم هاهنا أو هو من الصفات، كالمجيء والنزول، فيجب الإيمان به من غير تأويل، ولا تعطيل، ولا تكييف ولا تشبيه، ولا تمثيل، كما هو مذهب السلف الصلحاء، وهو الحق.
قال الواحدي: معنى قدمنا عمدنا، وقصدنا، يقال: قدم فلان إلى أمر كذا إذا قصده، أو عمده، وقيل هو قدوم الملائكة أخبر به عن نفسه تعالى والقصد في حق الله يرجع لمعنى الإرادة.
(فجعلناه هباء منثوراً) أي باطلاً، لا ثواب له، لأنهم لم يعملوا لله عز وجل ومنه الحديث الصحيح " كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد " (1) والهباء واحده هباءة، والجمع أهباء. قال النضر بن شميل: الهباء التراب الذي تطيره الريح، كأنه دخان. وقال الزجاج: هو ما يدخل من الكوة مع ضوء الشمس شبه الغبار. وكذا قال الخليل، والأزهري. وقال ابن عرفة: الهباء، والهبوة التراب الدقيق. وقيل هو ما يسطع من حوافر الدواب، عند السير من الغبار، وعن علي قال: الهباء شعاع الشمس، الذي يخرج من الكوة، وعنه الهباء وهج الغبار، يسطع، ثم يذهب، فلا يبقى منه شيء.
وعن ابن عباس قال: الهباء الذي يطير من النار إذا اضطرمت يطير منها الشرر، فإذا وقع لم يكن شيئاًً، وعنه قال: هو ما تسفي الريح، وتبثه من
_________
(1) مسلم 1718 - البخاري 1303.(9/299)
التراب وحطام الشجر. وعنه هو الماء المهراق. والمعنى الأول هو الذي ثبت في لغة العرب، ونقله العارفون بها، والمنثور المفرق، والمعنى أن الله سبحانه أحبط أعمالهم حتى صارت بمنزلة الهباء المنثور، لم يكتف سبحانه بتشبيه عملهم بالهباء حتى وصفه بأنه متفرق متبدد، وبالجملة هو استعارة عن جعله بحيث لا يقبل الاجتماع ولا يقع به الانتفاع. إذ لا ثواب فيه، لعدم شرطه ويجازون عليه في الدنيا. ثم ميز سبحانه حال الأبرار من حال الفجار فقال:(9/300)
أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا (24)
(أصحاب الجنة يومئذ) أي يوم القيامة (خير مستقراً) أي أفضل منزلاً في الجنة، من الكافرين في الدنيا (وأحسن مقيلاً) أي موضع قائلة فيها، أو هم خير منهم في الآخرة لو فرض أن يكون لهم ذلك، أو أفعل لمجرد الوصف من غير مفاضلة. عن ابن عباس قال: في الغرف من الجنة. قال النحاس: والكوفيون يجيزون " العسل أحلى من الخل ". قال ابن مسعود: لا ينتصف النهار من يوم القيامة حتى يقيل أهل الجنة في الجنة، وأهل النار في النار. وقال الأزهري: القيلولة عند العرب الاستراحة نصف النهار إذا اشتد الحر، وإن لم يكن مع ذلك نوم لأن الله تعالى قال: (وأحسن مقيلاً) والجنة لا نوم فيها.
وقال ابن عباس: الحساب في ذلك اليوم في أوله، ويروى أن يوم القيامة يقصر على المؤمنين حتى يكون كما بين العصر إلى الغروب. والآية أشارت إلى أن كُلاًّ من أهل الجنة وأهل النار قد قالوا، أي: استقروا في وقت القيلولة، وإن كان استقرار المؤمنين في راحة، واستقرار الكافرين في عذاب فيكون الحساب لجميع الخلق قد انقضى في هذا الوقت.(9/300)
وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا (25)
(ويوم تشقق السماء بالغمام) وصف سبحانه هاهنا بعض حوادث يوم القيامة، والتشقق التفتح، قرئ بتخفيف الشين وأصله تشقق، وقرئ مشدداً على الإدغام، والمعنى أنها تتشقق عن الغمام لأن الباء وعن، تتعاقبان كما تقول رميت بالقوس. قال أبو علي الفارسي: تشقق السماء وعليها غمام كما تقول: ركب الأمير بسلاحه. أي: وعليه سلاحه، وخرج بثيابه، أي: وعليه ثيابه، وروي أن السماء تتشقق عن سحاب رقيق، أبيض، مثل(9/300)
الضبابة. ولم يكن إلا لبني إسرائيل في تيههم، وقيل: إن السماء تتشقق بالغمام الذي بينها وبين الناس، والمعنى: أنه يتشقق السحاب بتشقق السماء. وقيل: إنها تشقق لنزول الملائكة، كما قال سبحانه.
(ونزل الملائكة تنزيلاً) وقيل: الباء للسببية يعني بسبب طلوع الغمام منها، كأنه الذي يتشقق به السماء، وقيل: أي متلبسة بالغمام، وقرئ ننزل مخففاً من الإنزال، مضارع أنزل، وقرئ نزل مشدداً ماضياً مبنياً للمفعول، وقرئ مبنياً للفاعل، وفاعله الله سبحانه، والملائكة منصوبة على المفعولية. وقرئ أنزل، وقرئ تنزلت الملائكة، وتأكيد هذا الفعل بقوله تنزيلاً، يدل على أن هذا التنزيل على نوع غريب، ونمط عجيب. قال أهل العلم: هذا تنزيل رضا ورحمة، لا تنزيل سخط وعذاب.
وعن ابن عباس (1) قال في الآية: يجمع الله الخلق يوم القيامة، في صعيد واحد، الجن والإنس والبهائم والسباع والطير، وجميع الخلق فتنشق السماء الدنيا، فينزل أهلها، وهم أكثر ممن في الأرض، من الجن والإنس، وجميع الخلق، فيحيطون بالإنس والجن وجميع الخلق. فيقول أهل الأرض أفيكم ربنا؟ فيقولون لا، ثم تنشق السماء الثانية، وذكر مثل ذلك، ثم كذلك في كل سماء، إلى السماء السابعة، وفي كل سماء أكثر من السماء التي قبلها، ثم ينزل ربنا في ظل من الغمام وحوله الكروبيون، وهم أكثر من أهل السماوات السبع والإنس والجن، وجميع الخلق، لهم قرون ككعوب القثاء، وهم تحت العرش، لهم زجل بالتسبيح والتهليل والتقديس لله تعالى، ما بين أخمص قدم أحدهم إلى كعبه مسيرة خمسمائة عام، ومن ركبته إلى فخذه مسيرة خمسمائة عام، ومن فخذه إلى ترقوته مسيرة خمسمائة عام، وما فوق ذلك مسيرة خمسمائة عام. أخرجه الحاكم وابن أبي الدنيا وابن جرير وغيرهم.
_________
(1) حديث موقوف على ابن عباس ولا يعد حجة في مشاهد القيامة، وفي الأسانيد التي رواها ابن جرير وغيره مجاهيل وكذابون
" المطيعي ".(9/301)
الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا (26)
(الملك يومئذ الحق للرحمن) أي الملك الثابت الذي لا يزول ولا يشركه فيه أحد، للرحمن يومئذ، لأن الملك الذي يزول وينقطع، ليس بملك في الحقيقة. ولأن السلطان الظاهر والاستيلاء الكلي العام الثابت صورة ومعنى ظاهراً وباطناً بحيث لا زوال له أصلاً، لا يكون إلا الله تعالى. فالملك مبتدأ، والحق صفته، وللرحمن خبره، ويومئذ متعلق بالملك، وفائدة التقييد بالظرف. أن ثبوت الملك المذكور له سبحانه خاصة في هذا اليوم، وأما فيما عداه من أيام الدنيا فلغيره أيضاً ملك في الصورة، وإن لم يكن حقيقياً. وقيل إن خبر المبتدأ هو الظرف، والحق نعت للملك. والمعنى الملك الثابت للرحمن خاصة في هذا اليوم، وقيل الملك مبتدأ، والحق خبره، وللرحمن متعلق بالحق.
(وكان يوماً على الكافرين عسيراً) أي وكان هذا اليوم مع كون الملك فيه لله وحده، شديداً على الكفار لما يصابون به فيه وينالهم من العقاب، بعد تحقيق الحساب. وأما على المؤمنين فهو يسير غير عسير لما ينالهم فيه من الكرامة والبشرى العظيمة. وجاء في الحديث " أنه يهون يوم القيامة على المؤمن، حتى يكون أخف عليه من صلاة مكتوبة صلاها في الدنيا ".(9/302)
وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27)
(و) اذكر (يوم يعض الظالم على يديه) الظاهر أن العض هنا حقيقة ولا مانع من ذلك، ولا موجب لتأويله، قال عطاء: يأكل الظالم يديه، حتى يأكل مرفقيه، ثم ينبتان، ثم يأكلهما، وهكذا كلما نبتت يداه أكلهما تحسّراً على ما فعل، ذكره الخازن. وقيل هو كناية عن الغيظ والحسرة والأول أولى. والمراد بالظالم كل ظالم يرد ذلك المكان وينزل ذلك المنزل، ولا ينافيه ورود الآية على سبب خاص، فالاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. وعن ابن عباس قال في الآية: هو أبيّ بن خلف، وعقب: بن أبي معيط وهما الخليلان في جهنم.
(يقول يا) قوم (ليتني اتخذت مع الرسول سبيلاً) أي طريقاً. وهو طريق الحق ومشيت فيه، حتى أخلص من هذه الأمور المضلة. والمراد اتباع النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيما جاء به، يعني ليتني اتبعت محمداً صلى الله(9/302)
يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا (29) وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا (30) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا (31) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا (32)
عليه وآله وسلم واتخذت في الدنيا معه طريقاً. إلى الهداية(9/303)
يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا (28)
(يا ويلتى) وقرئ يا ويلي، بالياء الصريحة. وقرئ بالإمالة، وتركها أحسن.
(ليتني لم أتخذ فلاناً خليلاً) دعا على نفسه بالويل والثبور وعلى مخاللة الكافر، الذي أضلّه في الدنيا، وفلان كناية عن الأعلام. قال النيسابوري: زعم بعض أئمة اللغة أنه لم يثبت استعمال فلان في الفصيح إلا حكاية. لا يقال جاءني فلان، ولكن يقال: قال زيد جاءني فلان، لأنه اسم اللفظ الذي هو علم الاسم، وكذلك جاء في كلام الله وقيل فلان كناية عن علم ذكور من يعقل، وفلانة عن علم إناثهم، وهو منصرف.
وقيل كناية عن نكرة من يعقل من المذكور، وفلانة عمن يعقل من الإناث، وأما الفلان، والفلانة بالألف واللام فكناية عن غير العقلاء. وفل يختص بالنداء إلا في ضرورة الشعر، وليس فل مرخماً من فلان خلافاً للفراء، وزعم أبو حيان أن ابن عصفور وابن مالك، وهما في جعل فلان كناية علم من يعقل، وفي لامه وجهان؛ أحدهما: أنها واو. والثاني: أنها ياء، وحكم الآية عام في كل خليلين ومتحابين، اجتمعا على معصية الله عز وجل.
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:(9/303)
" يحشر المرء على دين خليله؛ فلينظر أحدكم من يخالل " أخرجه أبو داود والترمذي (1) ولهما عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " لا تصاحب إلا مؤمناً. ولا يأكل طعامك إلا تقي " وروى الشيخان عن أبي (2) موسى الأشعري عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: " مثل الجليس الصالح، وجليس السوء، كحامل المسك، ونافخ الكير، فحامل المسك إما أن يحذيك، وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحاً طيبة، ونافخ الكير إما يحرق ثيابك، وإما أن تجد منه ريحاً خبيثة " (3)
_________
(1) الترمذي كتاب الزهد باب 25.
(2) الإمام أحمد 3/ 38 - الدارمي كتاب الأطعمة باب 23.
(3) مسلم 2628 - البخاري 1064.(9/304)
لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا (29)
(لقد) أي: والله لقد (أضلني) هذا الذي اتخذته خليلاً، تعليل لتنمية المذكور، وتوضيح لتعلله، وتصديره باللام القسمية للمبالغة في بيان خطئه وإظهار ندمه وحسرته. (عن الذكر) أي: القرآن أو كتاب الله، أو ذكره أو الموعظة أو كلمة الشهادة أو مجموع ذلك.
(بعد إذ جاءني) وتمكنت منه، وقدرت عليه بأن ردني عن الإيمان به (وكان الشيطان للإنسان خذولاً) بأن يتركه، ويتبرأ منه عند البلاء، والخذل: ترك الإغاثة، ومنه خذلان إبليس للمشركين، حيث يوالونه، ثم يتركهم عند استغاثتهم به، وهذه الجملة مقررة لمضمون ما قبلها، ويحتمل أن تكون من كلام الله تعالى، أو من تمام كلام الظالم، وأنه سمى خليله شيطاناً بعد أن جعله مضلاً، أو أراد بالشيطان إبليس، لكونه الذي حمله على مخاللة المضلين.(9/304)
وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا (30)
(وقال الرسول) أي: يقول في يوم القيامة بثاً وشكاية لله مما صنع(9/304)
قومه، أو هو حكاية لقوله صلى الله عليه وآله وسلم في الدنيا: (يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن) الذي جئت به إليهم وأمرتني بإبلاغه وأرسلتني به (مهجوراً) أي: متروكاً، لم يؤمنوا به، ولا قبلوه بوجه من الوجوه أو لم يعملوا به. وقيل من هجر إذا هذي، والمعنى أنهم اتخذوه هجراً وهذياناً. وقيل: المعنى مهجوراً فيه، وهجرهم فيه قولهم: إنه سحر، وشعر،
وأساطير الأولين.(9/305)
وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا (31)
(وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً من المجرمين) هذا تسلية لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والمعنى: أن الله جعل لكل نبي من الأنبياء الداعين إلى الله عدواً يعاديه من مجرمي قومه فلا تجزع يا محمد، فإن هذا دأب الأنبياء قبلك، واصبر كما صبروا. قال ابن عباس في الآية: كان عدو النبي صلى الله عليه وآله وسلم أبو جهل، وعدو موسى قارون، وكان قارون ابن عم موسى (وكفى بربك) الباء زائدة (هادياً) يهدي عباده إلى مصالح الدين والدنيا (ونصيراً) ينصرهم على الأعداء.(9/305)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا (32)
(وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة)؟ هذا من جملة اقتراحاتهم وتعنتاتهم، أي: هَلاَّ أنزل الله عليه الكتاب دفعة واحدة غير منجم، كما أنزلت التوراة على موسى، والإنجيل على عيسى، والزبور على داود عليهم السلام. واختلف في قائل هذه المقالة، فقيل كفار قريش، وقيل اليهود قالوا: هَلاَّ أتيتنا بالقرآن جملة واحدة؟ وهذا زعم باطل، ودعوى داحضة، فإن هذه الكتب نزلت مفرقة كما نزل القرآن، ولكنهم معاندون، أو جاهلون لا يدرون بكيفية نزول كتب الله سبحانه على أنبيائه، واعتراض منهم لا طائل تحته، لأن الإعجاز لا يختلف بنزوله جملة أو متفرقاً، مع أن للتفريق فوائد، منها أن نزوله بحسب الوقائع، يوجب مزيد بصيرة وغوص على المعنى ولأنه إذا نزل منجماً وهو يتحدى بكل نجم فيعجزون عن معارضته زاد ذلك في قوة(9/305)
قلبه، ومنها انضمام القرائن الحالية إلى الدلالات اللفظية فإنه يعين على البلاغة ثم رد الله سبحانه عليهم فقال:
(كذلك) إشارة إلى ما يفهم من كلامهم أي مثل ذلك التنزيل المفرّق، الذي قدحوا فيه واقترحوا خلافه نزلناه (لنثبت) لنقوي (به) أي بهذا التنزيل على هذه الصفة (فؤادك) فإن إنزاله مفرقاً منجماً، على حسب الحوادث، أقرب إلى حفظك له وفهمك لمعانيه، وذلك من أعظم أسباب التثبيت، وقرأ ليثبت بالتحتية أي الله سبحانه.
وقيل قوله: (كذلك) هي من تمام كلام المشركين، والمعنى كذلك أي كالتوراة والإنجيل والزبور فيوقف على قوله: (كذلك) ثم يبتدأ بقوله: (لنثبت به فؤادك) على معنى أنزلناه عليك متفرقاً لهذا الغرض. قال ابن الأنباري: وهذا أجود وأحسن قال النحاس: وكان ذلك أي إنزال القرآن منجماً من إعلام النبوة لأنهم لا يسألونه عن شيء إلا أجيبوا عنه، وهذا لا يكون إلا من نبي، فكان ذلك تثبيتاً لفؤاده وأفئدتهم. قال ابن عباس: أي لنشدد به فؤادك، ونربط على قلبك، والمعنى أنزلناه مفرقاً لتعيه وتحفظه. فإن الكتب المتقدمة نزلت على أنبياء يكتبون ويقرؤون، وأنزل القرآن على نبي إمي لا يكتب ولا يقرأ، ولأن من القرآن الناسخ والنسوخ، ومنه ما هو جواب سؤال عن أمور تحدث في الأوقات المختلفة، ففرقناه ليكون أدعى لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأيسر على العامل به.
(ورتلناه ترتيلاً) بديعاً، لا يقادر قدره ومعنى الترتيل أن تكون آية بعد آية، قاله النخعي والحسن وقتادة. وقيل إن المعنى بيناه تبييناً، وقال السدي: فصلناه تفصيلاً، وقال ابن عباس: رسلناه ترسيلاً يقول شيئاًً بعد شيء وقال مجاهد: بعضه في إثر بعض قال ابن الأعرابي: ما أعلم الترتيل إلا التحقيق والتبيين، وقيل قرأناه عليك بلسان جبريل شيئاًً بعد شيء في عشرين أو ثلاث وعشرين سنة على تؤدة وتمهل لتيسر فهمه وحفظه، ثم ذكر سبحانه أنهم محجوجون في كل أوان مدفوع قولهم بكل وجه وعلى كل حالة فقال:(9/306)
وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا (33) الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلًا (34) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا (35) فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا (36) وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (37) وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا (38)(9/307)
وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا (33)
(ولا يأتونك) أي لا يأتيك يا محمد المشركون (بمثل) من أمثالهم التي من جملتها اقتراحاتهم المتعنتة في إبطال أمرك (إلا جئناك) في مقابلة مثلهم (بالحق) أي بالجواب الحق الثابت الذي يبطل ما جاؤوا به من المثل، ويدمغه ويدفعه. فالمراد بالمثل هنا السؤال، والاقتراح، وبالحق جوابه الذي يقطع ذريعته، ويبطل شهيته، ويحسم مادته، والاستثناء مفرغ من أعم الأحوال والجملة في محل الحال. أي لا يأتونك بمثل في حال من الأحوال إلا في حال إيتائنا إياك ذلك.
(وأحسن تفسيراً) أي جئناك بأحسن تفسير بياناً وتفصيلاً. وبما هو معنى ومؤدى من مثلهم، أي من سؤالهم، وإنما حذف من مثلهم لأن في الكلام دليلاً عليه، ثم أوعد هؤلاء الجهلة وذمهم فقال(9/307)
الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلًا (34)
(الذين يحشرون) كائنين (على وجوههم) ومعنى الحشر على الوجوه أنهم يسحبون عليها ويطؤون الأرض على رؤوسهم، مع ارتفاع أقدامهم، بقدرة الله، ويساقون ويجرون عليها.
(إلى جهنم أولئك شر مكاناً) أي منزلاً، ومصيراً، ومسكناً وهو جهنم (وأضل سبيلاً) وأخطأ طريقاً من غيرهم، وهو كفرهم، وذلك لأنهم قد صلوا في النار. وهو من الإسناد المجازي. وقد تقدم تفسير مثل هذه الآية في سوره سبحان، وقد قيل: إن هذا متصل بقوله أصحاب الجنة يومئذ خيراً مستقراً وأحسن مقيلاً.(9/307)
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا (35)
(ولقد) أي والله لقد (آتينا موسى الكتاب) أي التوراة كما آتيناك القرآن ذكر سبحانه طرفاً من قصص الأولين تسلية له - صلى الله عليه وسلم - بأن تكذيب قوم أنبياء الله لهم عادة للمشركين بالله، وليس ذلك بخاص بمحمد - صلى الله عليه وسلم - (وجعلنا معه أخاه هارون وزيراً) أي عوناً وعضداً في الدعوة، وإعلاء الكلمة قاله قتادة، وقال الزجاج: الوزير في اللغة الذي يرجع إليه، ويعمل برأيه، والوزر ما يعتصم به، ومنه: كلا ولا وزر، وقد تقدم تفسير الوزير في طه، والوزارة لا تنافي النبوة، فقد كان يبعث في الزمن الواحد أنبياء، ويؤمرون بأن يوازر بعضهم بعضاً، وقد كان هارون في أول الأمر وزيراً لموسى عليهما السلام، أو لاشتراكهما في النوبة لأن المتشاركين في الأمر متوازران عليه.(9/308)
فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا (36)
(فقلنا اذهبا إلى القوم الذين كذبوا) وهم فرعون وقومه، يعني القبط (بآياتنا) هي التسع المذكورة التي تقدم ذكرها، وإن لم يكونوا قد كذبوا بها عند أمر الله لموسى وهارون، بالذهاب فيحمل الماضي على معنى الاستقبال أي سيكذبون بها. وقيل إنما وصفوا بالتكذيب عند الحكاية لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - بياناً لعلة استحقاقهم للعذاب. وقيل يجوز أن يراد إلى القوم الذين آلـ حالهم إلى أن كذبوا، وقيل إن المراد بوصفهم بالتكذيب عند الإرسال أنهم كانوا مكذبين للآيات الإلهية، وليس المراد آيات الرسالة. قال القشيري: وقوله تعالى في موضع آخر: (اذهب إلى فرعون إنه طغى). لا ينافي هذا لأنهما إذا كانا مأمورين، فكل واحد مأمور، ويمكن أن يقال: إن تخصيص موسى بالخطاب في بعض المواطن لكونه الأصل في الرسالة، والجمع بينهما في الخطاب لكونهما مرسلين جميعاً.
(فدمرناهم تدميراً) في الكلام حذف، أي فذهبا إليهم فكذبوهما فأهلكناهم إثر ذلك التكذيب إهلاكاً عظيماً، فاقتصر على حاشيتي القصة اكتفاء بما هو المقصود منها، وهو إلزام الحجة ببعثة الرسل. واستحقاق التدمير بتكذيبهم، وقيل إن المراد هنا الحكم به، لأنه لم يحصل عقب بعث موسى وهارون إليهم، بل بعده بمدة.(9/308)
وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (37)
(و) اذكر (قوم نوح لما كذبوا الرسل) أي كذبوا نوحاً وإنما جمع لطول لبثه فيهم، فكأنه رسل في المعنى، أو كذبوه. وكذبوا من قبله من رسل الله، لاشتراكهم في المجيء بالتوحيد: قال الزجاج: من كذب نبياً فقد كذب جميع الأنبياء.
(أغرقناهم) بالطوفان، كما تقدم في هود (وجعلناهم) أي جعلنا إغراقهم، أو قصتهم (للناس) كلهم بعدهم (آية) أي عبرة يتعظ بها كل مشاهد لها، وسامع لخبرها (واعتدنا) في الآخرة (للظالمين) الكافرين أي قوم نوح خاصة، فيكون وضعاً للظاهر موضع الضمير تسجيلاً عليهم بوصف الظلم: ويجوز أن يكون المراد كل من سلك مسلكهم في التكذيب (عذاباً أليماً) هو عذاب الآخرة، سوى ما حل بهم من عاجل العذاب في الدنيا.(9/309)
وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا (38)
(و) اذكر (عاداً) قوم هود (وثمود) قوم صالح، وقصتهما قد ذكرت فيما سبق، وثمود بالصرف على معنى الحي، وتركه على تأويله بالقبيلة قراءتان سبعيتان (وأصحاب الرسّ) هو في كلام العرب البئر التي تكون غير مطوية أي لم نبن بالحجارة والجمع رساس، كذا قال أبو عبيدة، وقيدها أهل اللغة، كصاحب القاموس، بأنها التي طويت، أي بنيت بالحجارة، فيؤخذ من مجموع النقلين أن الرسّ ابتداء الشيء، ومنه رسّ الحمى ورسيسها، والبئر المطوية بالحجارة انتهى قال السدي: هي بئر بأنطاكية قتلوا فيها حبيب النجار، فنسبوا إليها، وهو صاحب يس الذي قال (يا قوم اتبعوا المرسلين)، وكذا قال مقاتل وعكرمة وغيرهما وقيل هم قوم بأذربيجان قتلوا أنبياءهم، فجفت أشجارهم، وزروعهم، فماتوا جوعاً وعطشاً.
وقيل كانوا يعبدون الشجر وقيل كانوا يعبدون الأصنام فأرسل الله إليهم شعيباً عليه السلام فكذبوه وآذوه، وقيل بئر بفلج اليمامة قرية عظيمة بناحية اليمن. أو موضع باليمن من مساكن عاد، وهم قوم أرسل الله إليهم نبياً فقتلوه وقيل هم أصحاب الأخدود؛ وقيل إن الرس هي البئر المعطلة التي تقدم ذكرها أو(9/309)
صحابها أهلها، وقال في الصحاح: الرس إسم بئر كانت لبقية ثمود، وقيل الرس ماء ونخل لبني أسد وقيل هو الثلج المتراكم في الجبال، أو الرس اسم واد قريب من البصرة قاله ابن كثير والرس أيضاً الإصلاح بين الناس، والإفساد بينهم فهو من الأضداد.
وقيل الرس نهر بالشرق وقيل هم قوم كذبوا نبيهم ورسوه أي دسوه في بئر فبينما هم حول الرس -وهي البئر غير المطوية- فانهارت فخسف بهم وبمنازلهم وديارهم، وقيل هم أصحاب حنظلة بن صفوان وهم الذين ابتلاهم الله بالطائر المعروف العنقاء قال ابن عباس: الرس قرية من ثمود وعنه بئر بأذربيجان وعنه أنه سأل كعباً عن أصحاب الرس قال: صاحب يس، وورد عن محمد بن كعب القرظي في صاحب الرس خبر طويل مرفوع فيه نكارة وغرابة ولعل فيه إدراجاً كما قال ابن كثير في تفسيره والحديث أيضاً مرسل.
(وقروناً بين ذلك كثيراً) القرون جمع قرن أي أهل قرون يعني واذكر أقواماً، والقرن مائة سنة، قاله قتادة وقيل مائة وعشرون سنة قاله زرارة بن أوفى وقيل أربعون سنة وقيل سبعون سنة قاله قتادة أيضاً وقد روي مرفوعاً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال " القرن مائة سنة " وقال القرن خمسون سنة وقال القرن أربعون سنة، وما أظنه يصح شيء من ذلك وقد سمي الجماعة من الناس قرناً كما في الحديث الصحيح " خير القرون قرني " (1) وأخرج الحاكم في الكني عن ابن عباس قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا انتهى إلى معد بن عدنان أمسك ثم يقول: " كذب النسابون، قال الله وقروناً بين ذلك كثيراً والإشارة بقوله (بين ذلك) إلى ما تقدم ذكره من الأمم أي بين عاد وأصحاب الرس. وهم جماعات فلذلك حسن دخول (بين) عليه وقد يذكر الذاكر أشياء مختلفة ثم يشير إليها بذلك، ويحسب الحاسب أعداداً متكاثرة ثم يقول: فذلك كيت وكيت أي ذلك المحسوب، أو المعدود.
_________
(1) الترمذي كتاب الفتن باب 45 - البخاري كتاب الشهادات باب 9.(9/310)
وَكُلاًّ ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ وَكُلاًّ تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا (39) وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ نُشُورًا (40) وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا (41) إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلَا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا (42) أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا (43) أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا (44)(9/311)
وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا (39)
(وكُلاًّ) أي كل الأمم (ضربنا له الأمثال) أي القصص العجيبة من قصص الأولين التي تشبه الأمثال في الغرابة وبينا لهم الحجة فلم نهلكهم إلا بعد الإنذار، ولم نضرب لهم الأمثال الباطلة كما يفعله هؤلاء الكفرة (وكُلاًّ تبرنا تتبيراً) التتبير الإهلاك بالعذاب، قال الزجاج: كل شيء كسرته وفتته فقد تبرته، ومنه التبر لفتات الذهب والفضة وقال المؤرج والأخفش: معناه دمرنا تدميراً أبدلت التاء، الباء من الدال والميم.(9/311)
وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ نُشُورًا (40)
(ولقد أتوا على القرية) مستأنفة مبينة لمشاهدتهم لآثار هلاك بعض الأمم، وضمن أتى معنى مر لأنه يستعمل متعدياً بنفسه أو بإلى، والمعنى ولقد أتى مشركو مكة في أسفارهم إلى الشام، على قرية قوم لوط، وهي سدوم، وهي أعظم قرى قومه وكانت خمساً. أهلك الله أربعاً مع أهلها، وبقيت واحدة، وهي أصغرها، وكان أهلها لا يعمل الخبائث.
(التي أمطرت مطر السوء) وهو الحجارة، قاله ابن عباس، والأمطار معناه الرمي، أي: هلكت بالحجارة، التي أمطروا بها، ورميت رمي الحجارة، والمعنى أعطيتها وأوليتها، مطر السوء، أي أمطاراً مثل مطر السوء وقد تقدم، تفسير السوء في براءة (أفلم يكونوا يرونها) الاستفهام للتقريع والتوبيخ أي يرون القرية(9/311)
المذكورة عند سفرهم إلى الشام للتجارة. فإنهم يمرون بها مراراً أي: يرون آثارها، وآثار ما حل بأهلها، وقيل: للتقرير، أي: حمل المخاطب على الإقرار بما يعرفه، وهو ما بعد النفي، أي: ليقروا بأنهم رأوها حتى يعتبروا بها، والفاء للعطف على مقدر، أي لم يكونوا ينظرون إليها فلم يكونوا يرونها، أو كانوا ينظرون إليها فلم يكونوا يرونها في مرات مرورهم ليتعظوا بما كانوا يشاهدونه من آثار العذاب، فالمنكر في الأول: ترك النظر وعدم الرؤية معاً، والمنكر في الثاني: عدم الرؤية مع تحقق النظر، الوجب لها.
(بل كانوا لا يرجون) أي: لا يأملون (نشوراً) أي بعثاً أضرب سبحانه عما سبق، من عدم رؤيتهم لتلك الآثار، إلى عدم رجاء البعث منهم، المستلزم لعدم رجائهم للجزاء، أو معنى يرجون يخافون، على اللغة التهامية(9/312)
وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا (41)
(وإذا رأوك إن) أي: ما (يتخذونك إلا هزواً) أي مهزواً بك، قصر معاملتهم له على اتخاذهم إياه هزواً، قيل نزلت في أبي جهل، كان إذا مر مع أصحابه قال مستهزياً (أهذا الذي بعث)؟ أي بعثه (الله رسولاً) أي مرسلاً في دعواه، وفي اسم الإشارة دلالة على استحقارهم له، وتهكمهم به آ(9/312)
إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلَا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا (42)
(إن كاد) أي قالوا إنه كاد هذا الرسول (ليضلنا) ليصرفنا (عن آلهتنا) فنترك عبادتها بفرط اجتهاده والدعاء إلى التوحيد، وكثرة ما يورده مما يسبق إلى الذهن أنه حجج ومعجزات.
(لولا أن صبرنا عليها) أي حبسنا أنفسنا على عبادتها ثم إنه سبحانه أجاب عليهم بقوله: (وسوف يعلمون حين يرون العذاب) عياناً، أي عذاب يوم القيامة الذي يستحقونه، ويستوجبونه، لسبب كفرهم (من أضل سبيلاً) أي أبعد طريقاً عن الحق والهدى، أهم؟ أم المؤمنون؟ ثم بين لهم سبحانه أنه لا تمسك لهم فيما ذهبوا إليه سوى التقليد، وإتباع الهوى، فقال معجباً لرسوله:(9/312)
أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا (43)
(أرأيت من اتخذ إلهه هواه) قدم المفعول الثاني للعناية به كما تقول علمت منطلقاً زيداً قاله الزمخشري، أي أطاع هواه طاعة. كطاعة الإله، أي انظر إليه يا(9/312)
محمد، وتعجب منه والوجه الآخر أنه لا تقديم، ولا تأخير، لاستوائهما في التعريف، قاله السمين فادعاء القلب ليس بجيد، لأنه من ضرورات الشعر وقال أبو السعود بالوجه الأول، ثم قال: ومن توهم أنهما على الترتيب بناء على تساويها في التعريف؛ فقد غاب عنه أن المفعول الثاني في هذا الباب هو المتلبس بالحالة الحادثة، أي أرأيت من جعل هواه إلهاً لنفسه، من غير أن يلاحظه، وبنى عليه أمر دينه، معرضاً عن استماع الحجة الباهرة، والبرهان النير بالكلية عن ابن عباس قال: كان الرجل يعبد الحجر الأبيض زماناً من الدهر في الجاهلية، فإذا وجد حجراً أحسن منه، رمى به، وعبد الآخر، فأنزل الله الآية، وعنه قال: ذلك الكافر لا يهوى شيئاًً إلا اتبعه، وعن الحسن مثله.
(أفأنت تكون عليه وكيلاً)؟ أي حفيظاً، وكفيلاً، حتى ترده إلى الإيمان وتخرجه من الكفر وتحفظه من اتباع الهوى، وعبادة ما يهواه من دون الله، والاستفهام للإنكار والاستبعاد، فالمعنى لست تقدر على ذلك، ولا تطيقه، فليست الهداية والضلالة موكولتين إلى مشيئتك، وإنما عليك البلاغ، وقد قيل أن هذه الآية منسوخة بآية القتال. قاله الكلبي، ثم انتقل سبحانه من الإنكار الأول إلى إنكار آخر فقال:(9/313)
أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا (44)
(أم تحسب أن أكثرهم يسمعون)؟ " ما تتلو عليهم من آيات القرآن، ومن المواعظ سماع تفهم، واعتبار " (أو يعقلون) معاني ذلك ويفهمونه، حتى تعتني بشأنهم، وتطمع في إيمانهم، وليسوا كذلك، بل هم بمنزلة من لا يسمع، ولا يعقل. وتخصيص الأكثر بالذكر، لأنه كان منهم من آمن، ومنهم من عقل الحق، وكابر استكباراً وخوفاً على الرياسة، ثم بين سبحانه حالهم، وقطع مادة الطمع فيهم فقال:
(إن هم) أي ما هم في الانتفاع بما يسمعون (إلا كالأنعام) التي هي(9/313)
مسلوبة العقل والفهم، فلا تطمع فيهم فإن فائدة السمع والعقل مفقودة، وإن كانوا يسمعون ما يقال لهم، ويعقلون ما يتلى عليهم، ولكنهم لما لم ينتفعوا بذلك، كانوا كالفاقد له. ثم أضرب سبحانه عن الحكم عليهم، بأنهم كالأنعام، إلى ما هو فوق ذلك؛ فقال:
(بل هم أضل) من الأنعام (سبيلاً) أي طريقاً قال مقاتل: البهائم تعرف ربها، وتهتدي إلى مراعيها ومشاربها، وتنقاد لأربابها، وهؤلاء لا ينقادون ولا يعرفون ربهم؛ الذي خلقهم؛ ورزقهم، والمعنى أنها تنقاد لمن يتعهدها وتميز من يحسن إليها ممن يسيء إليها وتطلب ما ينفعها، وتجتنب ما يضرها، وهؤلاء لا ينقادون لربهم، ولا يعرفون إحسانه من إساءة الشيطان، ولا يطلبون الثواب الذي هو أعظم المنافع ولا يتقون العقاب الذي هو أشد المضار ولأن جهالتها لا تضر بأحد وجهالة هؤلاء تؤدي إلى تهييج الفتن، وصد الناس عن الحق، ولأنها غير متمكنة من طلب الكمال، فلا تقصير منها، ولا ذم عليها، وهؤلاء مقصرون، ومستحقون أعظم العقاب على تقصيرهم.
وقيل إنما كانوا أضل من الأنعام لأنه لا حساب عليها ولا عقاب لها، وقيل إنما كانوا أضل لأن البهائم إذا لم تعقل صحة التوحيد والنبوة، لم تعتقد بطلان ذلك، بخلاف هؤلاء، فإنهم اعتقدوا البطلان عناداً ومكابرة، وتعصباً. وغمطاً للحق. وقيل إن الأنعام تسجد وتسبح، والكفار لا يفعلون ذلك، وقيل الملائكة روح، وعقل، والبهائم نفس، وهوى، والآدمي مجمع الكل ابتلاء، فإن غلبته النفس والهوى، فضلته الأنعام، وإن غلبته الروح وضلالتهم، أتبعه بذكر طرف من دلائل التوحيد مع ما فيها من عظيم الإنعام، وحاصل ما ذكر منها خمسة، فأولها الاستدلال بأحوال الظل فقال:(9/314)
أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا (45) ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا (46) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا (47) وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا (48) لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا (49) وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا (50)(9/315)
أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا (45)
(ألم تر إلى ربك كيف) أي: على أي وجه (مد الظل)؟ هذه الرؤية إما بصرية، والمراد بها ألم تبصر إلى صنع ربك؟ أو ألم تبصر إلى الظل؟ كيف مده ربك؟ وإما قلبية، بمعنى العلم، فإن الظل متغير وكل متغير حادث ولكل حادث موجد. قال الزجاج: (ألم تر): ألم تعلم؟ وهذا من رؤية القلب، قال: وهذا الكلام على القلب، والتقدير: ألم تر إلى الظل كيف مده ربك، يعني الظل من وقت الإسفار إلى وقت طلوع الشمس، وهو ظل لا شمس معه، وبه قال الحسن وقتادة. وقيل: هو من غيبوبة الشمس إلى طلوعها، قال القرطبي: والأول أصح، والدليل على ذلك أنه ليس من ساعة أطيب من تلك الساعة، فإن فيها يجد المريض راحة، والمسافر، وكل ذي علة، وفيها ترد نفوس الأموات والأرواح منهم إلى الأجساد، وتطيب نفوس الأحياء فيها، وهذه الصفة مفقودة بعد المغرب، وقال أبو العالية: نهار الجنة هكذا، وأشار إلى ساعة المصلين صلاة الفجر.
قال أبو عبيدة: الظل بالغداة، والفيء بالعشي، لأنه يرجع بعد زوال الشمس، سمي فيئاً لأنه فاء من المشرق إلى جانب المغرب، وقال ابن السكيت: الظل ما نسخته الشمس، والفيء ما نسخ الشمس، وعن رؤبة. قال: كل ما كانت عليه الشمس فزالت عنه فهو فيء، وظل، وما لم تكن(9/315)
عليه الشمس فهو ظل، انتهى. وحقيقة الظل أنه أمر متوسط بين الضوء الخالص والظلمة الخالصة، وهذا التوسط هو أعدل من الطرفين، وأطيب الأحوال، لأن الظلمة الخالصة يكرهها الطبع، وينفر عنها الحس، والضوء الكامل لقوته يبهر الحس البصري، ويؤذي بالتسخين، ولذلك وصفت به الجنة في قوله:
(وظل ممدود) قال أبو السعود، وأما ما قيل من أن المراد بالظل ما بين طلوع الفجر وطلوع الشمس فغير سديد، إذ لا ريب في أن المراد تنبيه الناس على عظم قدرة الله عز وجل، وبالغ حكمته فيما يشاهدونه، فلا بد أن يراد بالظل ما يتعارفونه من حالة مخصوصة يشاهدونها، في موضع يحول بينه وبين الشمس جسم كثيف، مخالفة لما في جوانبه من مواقع ضح الشمس وما ذكر؛ وإن كان في الحقيقة ظلاً للأفق الشرقي، لكنهم لا يعدونه ظلاً، ولا يصفونه بأوصافه المعهودة، انتهى.
وعن ابن عباس قال: كيف مد الظل أي: بعد الفجر، قبل أن تطلع
الشمس، وعنه قال: ألم تر أنك إذا صليت الفجر، كان ما بين مطلع
الشمس إلى مغربها ظلاً؟ ثم بعث الله عليه الشمس دليلاً فقبض الظل.
وعنه قال: ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، وبه قال الجمهور، واعترض عليه بأنه لا يسمى ظلاً لأنه من بقايا الليل واقع في غير النهار، ومعنى الآية كيف أنشأ ظلاً لأي مظل كان من جبل أو بناء أو شجر عند ابتداء طلوع الشمس ممتداً، وأنه تعالى مده، بعد أن لم يكن كذلك، كما بعد نصف النهار إلى غروبها، فإن ذلك مع خلوه عن التصريح يكون نفسه بإنشائه تعالى وإحداثه يأباه سياق النظم الكريم.
(ولو شاء) سكونه (لجعله ساكناً) ثابتاً دائماً لا يزول، ومستقراً لا تنسخه الشمس، ولا يذهب عن وجه الأرض، وقيل: المعنى ولو شاء لمنع(9/316)
الشمس الطلوع، فلا يزول، أو جعلها مسلوبة الضوء، والأول أولى، والتعبير بالسكون عن الإقامة والاستقرار شائع، ومنه قولهم: سكن فلان بلد كذا إذا أقام به، واستقر فيه (ثم جعلنا الشمس عليه) أي على الظل بنسخها إياه عند مجيئها (دليلاً) أي: حجة وبرهاناً. وعلامة يستدل بأحوالها على أحواله، وذلك لأن الظل يتبعها، كما يتبع الدليل في الطريق من جهة أنه يزيد بها وينقص، ويمتد ويتقلص والمعنى أنه لو لم تكن الشمس لما عرف الظل، ولولا النور لما عرفت الظلمة، فالأشياء تعرف بأضدادها، ولم يؤنث الدليل، وهو صفة للشمس لأنه في معنى الاسم، كما يقال: الشمس برهان، والشمس حق.(9/317)
ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا (46)
(ثم قبضناه) أي: ذلك الظل الممدود، ومحوناه عند إيقاع شعاع الشمس، موقعه بالتدريج حتى انتهت تلك الأظلال إلى العدم والاضمحلال، ومعنى (إلينا) أن مرجعه إليه سبحانه، كما أن حدوثه منه، وجاء بثم استعارة تبعية لتفاضل ما بين الأمور الثلاثة، مد الظل، وجعل الشمس عليه دليلاً وقبضه يسيراً، فكان الثاني أعظم من الأول، والثالث أعظم من الثاني، شبه تباعد ما بينها في الفضل بتباعد ما بين الحوادث في الوقت، أو لتفاضل مبادي أوقات ظهورها، وقيل: المراد في الآية قبضه عند قيام الساعة قبض أسبابه، وهي الأجرام النيرة، والأول أولى، وقيل: المعنى أن الظل يبقى في هذا الجو من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، فإذا طلعت الشمس صار الظل مقبوضاً جزءاً فجزءاً، وخلفه في هذا الجو شعاع الشمس فأشرقت على الأرض وعلى الأشياء إلى وقت غروبها، فإذا غربت فليس هناك ظل إنما ذلك بقية نور النهار.
وقال قوم: قبضه بغروب الشمس لأنها إذا لم تغرب فالظل فيه بقية، وإنما يتم زواله لمجيء الليل ودخول الظلمة عليه وقيل: إن هذا القبض وقع بالشمس لأنها إذا طلعت أخذ الظل في الذهاب شيئاًً فشيئاًً قاله مالك وإبراهيم(9/317)
التيمي. وقيل: المعنى ثم قبضنا ضياء الشمس بالفيء.
(قبضاً يسيراً) أي: قليلاً قليلاً على تدريج بقدر ارتفاع الشمس، لتنتظم بذلك مصالح الكون ويتحصل به ما لا يحصى من منافع الخلق، وقيل: يسيراً أي سريعاً، قاله الضحاك، وقيل: المعنى يسيراً علينا، ليس بعسير. وقال قتادة: أي خفيفاً، كلما قبض جزء منه جعل مكانه جزء من الظلمة، وليس يزول دفعة واحدة، وهو قول مجاهد.(9/318)
وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا (47)
(وهو الذي جعل لكم الليل لباساً) شبه سبحانه ما يستر من ظلام الليل باللباس الساتر. قال ابن جرير: وصف الليل باللباس تشببها من حيث إنه يستر الأشياء ويغشاها (و) جعل (النوم سباتاً) أي: راحة لكم لأنكم تنقطعون عن الاشتغال، وأصل السبات التمدد، يقال سبتت المرأة شعرها، أي: نقضته وأرسلته. ورجل مسبوت أي ممدود الخلقة، وقيل للنوم سبات، لأنه بالتمدد يكون، وفي التمدد معنى الراحة، وقيل السبت القطع - فالنوم انقطاع عن الاشتغال، ومنه سبت اليهود لانقطاعهم عن الاشتغال قال الزجاج: السبات النوم الخفيف، وهو أن ينقطع عن الحركة، والروح في بدنه، أو ابتداؤه في الرأس، حتى يبلغ القلب، أي: جعلنا نومكم راحة لكم.
وقال الخليل: السبات نوم ثقيل، أي جعلنا نومكم ثقيلاً ليكمل الإجمام، والراحة، وقيل السبات الموت، والمسبوت الميت، لأنه مقطوع الحياة، هو كقوله تعالى: (وهو الذي يتوفاكم بالليل) ويعضده ذكر النشور في مقابلته، ذكره الزمخشري، والنسفي (وجعل النهار نشوراً) أي: ذا نشور وانتشار ينتشر فيه الناس للمعاش، أي جعله زمان بعث من ذلك السبات شبه اليقظة بالحياة، كما شبه النوم بالسبات الشبيه بالممات، وهذه الآية مع دلالتها على قدرة الخالق فيها إظهار لنعمته على خلقه، لأن في الاحتجاب بستر(9/318)
الليل فوائد دينية دنيوية، وفي النوم واليقظة المشبهين بالموت والحياة عبرة لمن اعتبر، قال لقمان لابنه: كما تنام فتوقظ كذلك تموت فتنشر.(9/319)
وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا (48)
(وهو الذي أرسل الرياح بشراً) جمع بشور، وقرئ نشراً بالنون (بين يدي رحمته) أي متفرقة قدام المطر لأنه ريح ثم سحاب ثم مطر، وهذه استعارة مليحة، والمراد بالرياح الجنس، وهي الصبا والجنوب والشمال، بخلاف الدبور، فإنها ريح العذاب التي أهلكت بها عاد. والشمال تأتي من ناحية الشام والجنوب تقابلها وهي اليمانية، والصبا تأتي من مطلع الشمس وهي القبول أيضاً، والدبور تأتي من ناحية المغرب، والريح مؤنثة على الأكثر فيقال هي الريح. وقد تذكر على معنى الهواء فيقال: هو الريح وهب الريح نقله أبو زيد وقال ابن الأنباري: إنها مؤنثة لا علامة فيها، وكذلك سائر أسمائها إلا الإعصار فإنه مذكّر، قد تقدم تفسير هذه الآية مستوفى في الأعراف.
(وأنزلنا من السماء ماء طهوراً) وصف الماء به إشعاراً بالنعمة وتتميماً للمنة بما بعده. فإن الماء الطهور أهنأ وأنفع مما خالطه ما يزيل طهوريته. وفيه تنبيه على أن ظواهرهم لما كانت مما ينبغي أن يطهروها، فبواطنهم أولى بذلك، قال الأزهري: الطهور في اللغة المطهر، قال: وفعول في كلام العرب لِمَعانٍ منها فعول لما يفعل به، مثل الطهور لما يتطهر به، والوضوء لما يتوضأ به قال ابن الأنباري: الطَهور بفتح الطاء الاسم وكذلك الوضوء والوقود، وبالضم المصدر، هذا هو المعروف في اللغة، وقد ذهب الجمهور إلى أن الطهور هو الطاهر المطهر، ويؤيد ذلك كونه بناء مبالغة، ويدل له ما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال في البحر " هو الطهور ماؤه الحل ميتته " أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي. (1)
_________
(1) أبو داوود كتاب الطهارة باب 41.
الترمذي كتاب الطهارة 52.
النسائي كتاب الطهارة باب 46.(9/319)
وروي عن أبي حنيفة أنه قال: الطهور هو الطاهر. واستدل لذلك بقوله تعالى (وسقاهم ربهم شراباً طهوراً) يعني طاهراً وعلى كل حال فقد ورد الشرع بأن الماء طاهر في نفسه مطهر لغيره. قال الله تعالى (وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به) وقال للنبي صلى الله عليه وآله وسلم (خلق الماء طهوراً) وأخرج أهل السنن وأحمد وغيرهم من حديث أبي سعيد قال: قيل يا رسول الله أتتوضأ من بئر قضاعة، وهي بئر تلقى فيه الحيض ولحوم الكلاب والنتن، فقال: " إن الماء طهور لا ينجسه شيء " (1) وفي إسناد هذا الحديث كلام طويل قد استوفاه الحافظ ابن حجر في التلخيص، وتبعه الشوكاني في شرحه على المنتقى، ثم ذكر سبحانه علة الإنزال فقال:
_________
(1) أبو داوود كتاب الطهارة باب 34 - الإمام أحمد 3/ 31 - 4/ 17.(9/320)
لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا (49)
(لنحيي به) أي الماء المنزل من السماء (بلدة ميتاً) وصف البلدة بالميت، وهي صفة للمذكر، لأنها بمعنى البلد. وقال الزجاج: أراد بالبلد المكان أو يستوي فيه المذكر والمؤنث والمراد بالإحياء هنا إخراج النبات من المكان الذي لا نبات فيه (ونسقيه) بضم النون، وقرئ بفتحها والضمير المنصوب راجع إلى الماء (مما خلقنا أنعاماً) أي بهائم أي إبلاً، وبقراً وغنماً، وقد تقدم الكلام عليها، وخصها بالذكر لأنها ذخيرتنا. ومدار معاش أكثر أهل المدر، ولذلك قدم سقيها على سقيهم، كما قدم عليها إحياء الأرض فإنها سبب لحياتها وتعيشها فقدم ما هو سبب حياتهم ومعاشهم.
(وأناسي كثيراً) جمع إنسان على ما ذهب إليه سيبويه، وهو الراجح وقال المبرد، والفراء والزجاج: إنه جمع إنسي أي بياء النسب وفيه أن ما هي فيه لا يجمع على فعاليَّ، وللفراء قول آخر، أنه جمع إنسان والأصل على الأول أناسين مثل سرحان وسراحين، وبستان وبساتين، فجعلوا الياء عوضاً من النون.(9/320)
وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا (51) فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا (52) وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا (53) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا (54) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُهُمْ وَلَا يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا (55) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (56) قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (57)(9/321)
وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا (50)
(ولقد صرفناه بينهم ليذكروا) أي كررنا أحوال الإظلال. وذكر إنشاء السحاب، وإنزال المطر في القرآن، وفي سائر الكتب السماوية، ليتفكروا أو يعتبروا، وقرئ صرفناه مثقلاً ومخففاً، وكذا ليذكروا مخففة من الذكر، ومثقلة من التذكر، وقيل ضمير صرفناه يرجع إلى أقرب المذكورات وهو المطر أي صرفنا المطر بينهم، في البلدان المختلفة. والأوقات المتغايرة، وعلى الصفات المتفاوتة من وابل وطش وطل وجود ورذاذ. وديمة فنزيد منه في بعض البلدان، وننقص في بعض آخر منها.
وقيل: الضمير راجع إلى القرآن، وقد جرى ذكره في أول السورة حيث قال (تبارك الذي نزل الفرقان على عبده) وقوله (لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني) وقوله: (اتخذوا هذا القرآن مهجوراً) والمعنى ولقد كررنا هذا القرآن بإنزال آياته بين الناس، ليذكروا به، ويعتبروا بما فيه، وقيل هو راجع إلى الريح، وعلى رجوع الضمير إلى المطر. فقد اختلف في معناه فقيل ما ذكرناه وقيل تصريفه تنويع الانتفاع به، في الشرب والسقي. والزراعات، والطهارات عن ابن عباس قال: ما من عام بأقل مطراً من عام، ولكن الله يصرفه حيث يشاء ثم قرأ هذه الآية.
(فأبى أكثر الناس إلا كفوراً) أي كفران النعمة وجحودها وقلة(9/321)
الاكتراث لها قال عكرمة: إن المراد هو قولهم في الأفواه: مطرنا بنوء كذا، قال النحاس: ولا نعلم بين أهل التفسير اختلافاً أن الكفر هنا قولهم مطرنا بنوء كذا، والنوء كما في المختار سقوط نجم من المنازل في المغرب، وطلوع رقيبة من المشرق في ساعته في كل ثلاثة عشر يوماً، ما خلا الجبهة فإن لها أربعة عشر يوماً وكانت العرب تضيف الأمطار والرياح والحر والبرد إلى الساقط منهما وقيل إلى الطالع لأنه في سلطانه والجمع أنواء.(9/322)
وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا (51)
(ولو شئنا لبعثنا) أي في زمنك (في كل قرية نذيراً) أي رسولاً ينذرهم ليكون الرسل المبعوثون معاونين لك، فتخف عليك أعباء النبوة. كما قسمنا المطر بينهم، ولكنا لم نفعل ذلك بل جعلنا نذيراً واحداً وهو أنت يا محمد، وقصرنا الأمر عليك إجلالاً لك، وتعظيماً لشأنك وتفضيلاً لك على سائر الرسل، وليعظم أجرك، فقابل ذلك بشكر النعمة وبالثبات والاجتهاد في الدعوة وإظهار الحق.(9/322)
فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا (52)
(فلا تطع الكافرين) فيما يدعونك إليه من اتباع آلهتهم، بل اجتهد في الدعوة واثبت فيها ولا تضجر (وجاهدهم به) أي بالقرآن واتل عليهم ما فيه من القوارع، والنواذر والزواجر والأوامر والنواهي، وقيل الضمير يرجع إلى الله أو الإسلام أو إلى السيف. والأول أولى، وهذه السورة مكية والأمر بالقتال إنما كان بعد الهجرة، وقيل راجع إلى ترك الطاعة المفهوم من قوله فلا تطع الكافرين، وقيل الضمير يرجع إلى ما دل عليه ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيراً، من كونه نذير كافة القرى لأنه سبحانه لو بعث في كل قرية نذيراً لم يكن على كل نذير إلا مجاهدة القرية التي أرسل إليها، وحين اقتصر على نذير واحد لكل القرى وهو محمد صلى الله عليه وآله وسلم فلا جرم اجتمع عليه كل المجاهدات فكبر جهاده وعظم فكأنه قال له: وجاهدهم بسبب كونك نذير كافة القرى جهاداً جامعاً. لكل مجاهدة ولا يخفى ما في هذين الوجهين من البعد.(9/322)
(جهاداً كبيراً) أي شديداً عظيماً موقعه عند الله لما يحتمل فيه من المشاق لأن مجاهدة السفهاء بالحجج أكبر من مجاهدة الأعداء بالسيوف وأريد بهذا تهييجه وتهييج المؤمنين وتحريكهم، ثم ذكر سبحانه دليلاً رابعاً على التوحيد فقال.(9/323)
وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا (53)
(وهو الذي مرج البحرين) أي أرسلهما متجاورين أو خلاهما متلاصقين بحيث لا يتمازجان، من مرَج أي خلى وخلط وأرسل يقال مرجت الدابة وأمرجتها إذا أرسلتها في المرعى وخليتها تذهب حيث تشاء قال مجاهد: أرسلهما وأفاض أحدهما إلى الآخر، وقال ابن عرفة: خلطهما فهما يلتقيان، يقال مرجته إذا خلطته، ومرج الدين والأمر اختلط واضطرب، ومنه قوله تعالى (في أمر مريج) وقال الأزهري: مرج البحرين خلى بينهما لا يلتبس أحدهما بالآخر، يقال: مرجت الدابة إذا خليتها ترعى، وقال ثعلب: المرج الإجراء فالمعنى أجراهما، وقال الأخفش: وتقول قوم أمرج مثل مرج فعل وأفعل بمعنى.
(هذا عذب فرات) هو البليغ العذوبة، المائلة إلى الحلاوة. والجملة مستأنفة كأنه قيل: كيف مرجهما؟ فقيل: هذا عذب الخ، أو حال بتقدير مقولاً فيهما. قيل سمى الماء الحلو فراتاً، لأنه يفرت العطش، أي يقطعه، ويشقه ويكسره ولا يجمع إلا نادراً على فرتان كغربان (وهذا ملح أجاج) أي بليغ الملوحة، وقيل البليغ في الحرارة وقيل البليغ في المرارة. وقرئ ملح بفتح الميم وكسر اللام. قال ابن عباس: خلع أحدهما على الآخر، فليس يفسد العذب المالح، وليس يفسد المالح العذب، وهذا من أحسن المقابلة، حيث قال: عذب فرات، وملح أجاج.
(وجعل بينهما برزخاً) هو الحاجز والحائل، الذي جعله الله بينهما من قدرته، يفصل بينهما ويمنعهما التمازج ولا يحس (وحجراً محجوراً) أي ستراً مستوراً، يمنع أحدهما من الاختلاط بالآخر فلا يبغي أحدهما على الآخر، ولا(9/323)
يفسد الملح العذب، فالبرزخ الحاجز والحجر المانع.
وقيل معناه ما تقدم من أنها كلمة يقولها المتعوذ، كان كل واحد من البحرين يتعوذ من صاحبه ويقول له هذا القول، وهو استعارة تمثيلية. وقيل حداً محدوداً، وقيل المراد من البحر العذب، الأنهار العظام كالنيل والفرات وجيحون، ومن البحر الأجاج، البحار المشهورة، والبرزخ بينهما الحائل من الأرض. وقيل معناه حراماً محرماً أن يعذب هذا المالح بالعذب أو يملح هذا العذب المالح. ومثل هذه الآية قوله سبحانه في سورة الرحمن (مرج البحرين يلتقيان بينهما برزخ لا يبغيان) وعن ابن عباس قال: حجر أحدهما عن الآخر بأمره وقضائه، ثم ذكر سبحانه حالة من أحوال خلق الإنسان من الماء فقال:(9/324)
وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا (54)
(وهو الذي خلق من الماء بشراً) أي خلق من ماء النطفة إنساناً، وقيل المراد بالماء؛ الماء المطلق الذي يراد في قوله (وجعلنا من الماء كل شيء حي). وقيل هو الماء الذي خمرت به طينة آدم عليه السلام وجعله جزءاً من مادة البشر، ليجتمع، ويتسلسل، ويستعد لقبول الأشكال والهيئات بسهولة، قاله أبو السعود.
(فجعله نسباً وصهراً) أي جعله ذا نسب وصهر، قيل المراد بالنسب هو الذي لا يحل نكاحه، والصهر ما يحل نكاحه قاله الفراء والزجاج. واشتقاق الصهر من صهرت الشيء إذا خلطته وسميت المناكح صهراً لاختلاط الناس بها وقيل الصهر قرابة النكاح فقرابة الزوجة هم الأختان، وقرابة الزوج هم الأحماء، والأصهار تعمهما. قاله الأصمعي.
وفي القاموس الصهر بالكسر؛ القرابة والخنن وجمعه أصهار. وفي المصباح قال الخليل: الصهر أهل بيت المرأة قال: ومن العرب من يجعل الأحماء والأختان جميعاً أصهاراً. وقال الأزهري: الصهر يشتمل على قرابات النساء، ذوي الحارم وذوات المحارم كالأبوين، والإخوة وأولادهم والأعمام(9/324)
والأخوال والخالات فهؤلاء أصهار زوج المرأة، ومن كان من قبل الزوج من ذوي قرابته المحارم فهم أصهار المرأة أيضاً.
وقال ابن السكيت: كل من كان من قبل الزوج من أبيه أو أخيه أو عمه، فهم الأحماء ومن كان من قبل المرأة فهم الأختان ويجمع الصنفين الأصهار وصاهرت لهم وإليهم وفيهم صهرت لهم صهراً انتهى. وفي القرطبي: النسب والصهر معنيان يعمان كل قربى تكون بين آدميين، قال الواحدي: قال المفسرون: النسب سبعة أصناف من القرابة يجمعها قوله (حرمت عليكم أمهاتكم) إلى قوله (وأمهات نسائكم) ومن هنا إلى قوله (وأن تجمعوا بين الأختين) تحريم بالصهر وهو الخلطة التي تشبه القرابة وهو النسب المحرّم للنكاح، وقد حرم الله سبعة أصناف من النسب وسبعة من جهة الصهر أي السبب، قد اشتملت الآية المذكورة على ستة منها والسابعة قوله (ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء) وقد جعل ابن عطية والزجاج وغيرهما الرضاع من جملة النسب ويؤيده قوله صلى الله عليه وآله وسلم: " يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب " (1).
أراد سبحانه تقسيم البشر قسمين ذوي النسب أي ذكورا ينسب إليهم، فيقال فلان بن فلان وفلانة بنت فلان وذوات صهر أي إناثاً يصاهر بهن، كقوله تعالى فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى. وسئل عمر بن الخطاب عن نسب وصهر فقال: ما أراكم إلا وقد عرفتم النسب وأما الصهر فالأختان، والصحابة.
(وكان ربك قديراً) أي بليغ القدرة عظيمها، ومن جملة قدرته الباهرة خلق الإنسان من النطفة الواحدة وتقسيمه إلى القسمين المذكورين. ولما ذكر سبحانه دلائل التوحيد عاد إلى ذكر قبائح الكفار وفضائح سيرتهم فقال:
_________
(1) مسلم 1445 - البخاري 1283.(9/325)
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُهُمْ وَلَا يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا (55)
(ويعبدون من دون الله ما لا ينفعهم) إن عبدوه (ولا يضرهم) إن(9/325)
تركوه (وكان الكافر على ربه ظهيراً) هو المظاهر أي المعاون على ربه بالشرك والعداوة، والظاهرة على الرب هي المظاهرة على رسوله أو على دينه قال الزجاج: لأنه يتابع الشيطان ويعاونه على معصية الله لأن عبادتهم للأصنام معاونة للشيطان. وقال أبو عبيدة: المعنى وكان الكافر على ربه هيناً مهيناً ذليلاً من قول العرب ظهرت به أي جعلته خلف ظهري لم ألتفت إليه. ومنه قوله تعالى (واتخذتموه وراءكم ظهرياً) وقيل إن المعنى وكان الكافر على ربه الذي يعبده وهو الصنم قوياً غالباً يعمل به ما يشاء لأن الجماد لا قدرة له على دفع ونفع.
ويجوز أن يكون الظهير جمعاً كقوله: (والملائكة بعد ذلك ظهير) أو المعنى أن بعض الكفرة مظاهر لبعض على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أو دين الله والمراد بالكفر هنا الجنس ولا ينافيه كون سبب النزول هو كافراً معيناً، كما قيل إنه أبو جهل. وقال ابن عباس: يعني أبا الحكم الذي سمّاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبا جهل بن هشام فالأصح أنه عام في كل كافر.(9/326)
وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (56)
(وما أرسلناك) في حال من الأحوال (إلا) حال كونك (مبشراً) للمؤمنين بالجنة (ونذيراً) للكافرين بالنار فلا تحزن على عدم إيمانهم، واقتصر على صيغة المبالغة في الإنذار لتخصيصه بالكافرين إذ الكلام فيهم والإنذار الكامل لهم، ولو قيل أن المبالغة باعتبارها لكم لشموله للعصاة جاز.(9/326)
قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (57)
(قل) يا محمد (ما أسألكم عليه) أي على القرآن أو على تبليغ الرسالة المدلول عليها بالإرسال أو على ما أدعوكم إليه (من أجر) أي عرض من عرضِ الدنيا قاله ابن عباس، والاستثناء في قوله (إلا من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلاً) منقطع أي لكن من شاء فليفعل.
وقيل هو متصل والمعنى إلا من شاء أن يتقرب إليه سبحانه بالطاعة، وصور ذلك بصورة الأجر من حيث إنه مقصود الحصول، ولما بين سبحانه أنّ الكفار متظاهرون على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأمره أنْ لا يطلب منهم أجراً ألبتة، أمره أن يتوكل عليه في دفع المضار وجلب المنافع فقال:(9/326)
وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا (58) الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا (59) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا (60) تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا (61)(9/327)
وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا (58)
(وتوكل) في استكفاء شرورهم والاستغناء عن أجورهم (على الحي الذي لا يموت) فإنه الحقيق بأن يتوكل عليه، وخص صفة الحياة إشارة إلى أن الحي الدائم هو الذي يوثق به في المصالح والنافع ودفع المضار، ولا حياة على الدوام إلا الله سبحانه، دون الأحياء المنقطعة حياتهم فإنهم إذا ما تواضع من يتوكل عليهم. وقرأها بعض الصالحين فقال: لا يصح لذي عقل أن يثق بعدها بمخلوق، والتوكل اعتماد العبد على الله في كل الأمور، والأسباب وسائط، أمر بها من غير اعتماد عليها.
(وسبِّح) أي نزهه عن صفات النقصان مقترناً (بحمده) وقيل معنى سبح صل، والصلاة تسمى تسبيحاً (وكفى به بذنوب عباده خبيراً) أي حسبك وهذه كلمة يراد بها المبالغة كقولك: كفى بالله رباً والخبير المطلع على الأمور بحيث لا يخفى عليه منها شيء فلا لوم عليك إن آمنوا وكفروا، وقيل معناه أنه لا يحتاج معه إلى غيره لأنه خبير عالم قدير على مكافأتهم، وفيه وعيد شديد، كأنه قال: إذا قدمتم على مخالفة أمره كفاكم علمه في مجازاتكم بما تستحقون من العقوبة، ثم زاد في المبالغة فقال:(9/327)
الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا (59)
(الذي خلق السماوات والأرض) لعل ذكره زيادة تقرير، لكونه حقيقاً بأن يتوكل عليه، من حيث أنه الخالق للكل والمتصرف فيه (وما بينهما) ولم يقل بينهن، لأنه أراد النوعين والمعنى خلقهما (في ستة أيام) فخلق الأرض(9/327)
في يومين الأحد والإثنين، وما بينهما في يومين الثلاثاء والأربعاء، والسماوات في يومين الخميس والجمعة، وفرغ من آخر ساعة من يوم الجمعة، وقيل في مقدار هذه المدة، لأنه لم يكن حينئذ ليل ولا نهار وإنما خلقها في ستة أيام وهو يقدر على أن يخلقها في لحظة، تعليماً لخلقه الرفق والتثبيت والتأني في الأمر والتؤدة والتدرج.
فإن قيل يلزم أن يكون خلق العرش بعد خلق السماوات والأرض، كما يفيده قوله: (ثم استوى على العرش) فيقال: إن كلمة (ثم) تدخل على خلق العرش بل على علوه على السماوات والأرض، والعرش في اللغة سرير الملك، والمراد هنا الجسم العظيم المحيط بالعالم الكائن فوق السماوات السبع، والاستواء صفة لله سبحانه معناها مباينته عن الخلق وكونه على الذات وفوق العالم، وقد تقدم الكلام عليها في سورة الأعراف وأخواتها.
قال الشوكاني رحمه الله تعالى: أعلم أن الكلام في الآيات والأحاديث الواردة في الصفات قد طالت ذيوله وتشعبت أطرافه، وتباينت فيه المذاهب وتفاوتت فيه الطرائق، وتخالفت النحل، وسبب هذا عدم وقوف المنتسبين إلى العلم حيث أوقفهم الله، ودخولهم في أبواب لم يأذن الله لهم بدخولها، ومحاولتهم لعلم شيء استأثر الله بعلمه، حتى تفرقوا فرقاً وتشعبوا شعباً وصاروا أحزاباً كانوا في البداية، ومحاولة الوصول إلى ما يتصورونه من العامة مختلفي المقاصد متبايني المطالب فطائفة -وهي أخف هذه الطوائف المتكلفة، علم ما لم يكلفها الله سبحانه بعلمه إثماً، وأقلها عقوبة وجرماً- وهي التي أرادت الوصول إلى الحق والوقوف على الصواب لكن سلكت في طلبه طريقة متوعرة، وصعدت في الكشف عنه إلى عقب: كؤود، لا يرجع من سلكها سالماً فضلاً عن أن يظفر فيها بمطلوب صحيح، ومع هذا أصّلوا أصولاً ظنوها حقاً، فدفعوا بها آيات قرآنية، وأحاديث صحيحة نبوية واعتلوا في ذلك الدفع بشبهة واهية وحالات مختلفة.(9/328)
وهؤلاء هم طائفتان الطائفة الأولى، هي الطائفة التي غلت في التنزيه فوصلت إلى حد يقشعر عنده الجلد ويضطرب له القلب، من تعطيل الصفات الثابتة، بالكتاب والسنة، ثبوتاً أوضح من شمس النهار وأظهر من فلق الصباح، وظنوا هذا -من صنيعهم- موافقاً للحق. مطابقاً لما يريده الله سبحانه، فضلوا الطريق المستقيمة، وأضلوا من رام سلوكها. والطائفة الآخرى: هي الطائفة التي غلت في إثبات القدرة، غلواً بلغ إلى حد أنه لا تأثير لغيرها، ولا اعتبار بما سواها، وأفضى ذلك إلى الجبر المحض، والقسر الخالص، فلم يبق لبعثة الرسل، وإنزال الكتب، كثير فائدة، ولا يعود ذلك على عباده بعائدة، وجاؤا بتأويلات للآيات البينات، ومحاولات لحجج الله الواضحات، فكانوا كالطائفة الأولى في الضلال والإضلال، مع أن كلا المقصدين صحيح، ووجه كل منهما صبيح، لولا ما شأنه من الغلو القبيح.
وطائفة توسطت، ورامت الجمع بين الضب والنون، وظنت أنها قد وقفت بمكان بين الإفراط والتفريط، ثم أخذت كل طائفة من هذه الطوائف الثلاث تجادل، وتناضل، وتحقق، وتدقق في زعمها، وتجول عمل الأخرى وتصول، بما ظفرت به، مما يوافق ما ذهبت إليه، وكل حزب بما لديهم فرحون، وعند الله تلتقي الخصوم.
ومع هذا فهم متفقون فيما بينهم على أن طريق السلف أسلم، ولكن زعموا أن طريق الخلف أعلم، فكان غاية ما ظفروا به، من هذه الأعلمية -بطريق الخلف- أن تمنى محققوهم وأذكياؤهم في آخر أمرهم دين العجائز وقالوا: هنيئاً للعامة. فتدبر هذه الأعلمية التي كان حاصلها أن يهنأ من ظفر لأهل الجهل البسيط، ويتمنى أنه في عدادهم وممن تدين بدينهم ويمشي على طريقتهم، فإن هذا ينادي بأعلى صوت ويدل بأوضح دلالة على أن هذه الأعلمية التي طلبوها؛ الجهل خير منها بكثير، فما ظنك بعلم يقر صاحبه على نفسه أن الجهل خير منه ويتمنى عند البلوغ إلى غايته والوصول إلى نهايته؛ أن يكون جاهلاً به عاطلاً عنه - ففي هذا عبرة للمعتبرين وآية بينة للناظرين، فهلاَّ(9/329)
عملوا على جهل هذا المعارف التي دخلوا فيها بادىء بدء؟ وسلموا من تبعاتها، وأراحوا أنفسهم من تعبها، وقالوا كما قال القائل:
أرى الأمر يفضي إلى آخر ... فصيّر آخره أولاً
وربحوا الخلوص من هذا التمني، والسلامة من هذه التهنئة للعامة؛ فإن العاقل لا يتمنى رتبة مثل رتبته أو دونها، ولا يهنىء لمن هو مثله أو دونه، بل لا يكون ذلك إلا لمن رتبته، أرفع من رتبته، ومكانه أعلى من مكانه، فيالله العجب، من علم يكون الجهل البسيط أعلى رتبة منه، وأفضل مقداراً بالنسبة إليه.
وهل سمع السامعون بمثل هذه الغريبة، ونقل الناقلون ما يماثلها أو يشابهها، وإذا كان هذا حال هذه الطائفة التي قد عرفناك أنها أخف الطوائف تكلفاً، وأقلها تبعة فما ظنك بما عداها من الطوائف، التي قد ظهر فساد مقاصدها، وتبين بطلان مواردها ومصادرها، كالطوائف التي أرادت بالمظاهر، التي تظاهرت به، كيْد الإسلام وأهله، والسعي في التشكيك فيه بإيراد الشبه، وتقرير الأمور المفضية إلى القدح في الدين، وتنفير أهله عنه.
وعند هذا تعلم أن:
خير الأمور والسالفات على الهدى .. وشر الأمور المحدثات البدائع
وأن الحق الذي لا شك فيه، ولا شبهة، هو ما كان عليه خير القرون، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، وقد كانوا رحمهم الله تعالى وأرشدنا إلى الاقتداء بهم، والاهتداء بهديهم، يمرون آيات الصفات على ظاهرها، ولا يتكلفون علم ما لا يعلمون، ولا يحرفون ولا يؤولون، وهذا المعلوم من أقوالهم وأفعالهم، والمتقرر من مذهبهم، لا يشك فيه شاك ولا ينكره منكر ولا يجادل فيه مجادل. وإن نزغ من بينهم نازغ أو نجم في عصرهم ناجم أوضحوا للناس أمره وبينوا لهم أنه على ضلالة، وصرحوا بذلك في المجامع والمحافل: وحذروا الناس من بدعته، كما كان منهم لما ظهر معبد الجهني(9/330)
وأصحابه، وقالوا: إن الأمر أنف، فتبرؤوا منه وبينوا ضلالته؛ وبطلان مقالته للناس فحذروه إلا من ختم الله على قلبه، وجعل على بصره غشاوة.
وهكذا كان من بعدهم، يوضح للناس بطلان أقوال أهل الضلال، ويحذرهم منها، كما فعل التابعون رحمهم الله بالجعد بن درهم، ومن قال بقوله، وانتحل نحلته الباطلة، ثم ما زالوا هكذا لا يستطيع المبتدع في الصفات أن يتظاهر ببدعته، بل يتكتمون بها كما يتكتم الزنادقة بكفرهم، وهكذا سائر المبتدعين في الدين، على اختلاف البدع، وتفاوت المقالات الباطلة.
ولكنا نقتصر هاهنا على الكلام في هذه المسألة، التي ورد السؤال عنها، وهي مسألة الصفات، وما كان من المتكلمين فيها بغير الحق المتكلفين علم ما لم يأذن الله، بأن يعلموه، وبيان أن إمرار آيات الصفات على ظاهرها، هو مذهب السلف الصالح، من الصحابة، والتابعين، وتابعيهم، وأن كل من أراد من نزاغ المتكلفين، وشذاذ المحرفين، والمتأولين، أن يظهر ما يخالف المرور على ذلك الظاهر، قاموا عليه، وحذروا الناس منه، وبينوا لهم أنه على خلاف ما عليه أهل الإسلام، فصار المبتدعون في الصفات، القائلون بأقوال تخالف ما عليه السواد الأعظم من الصحابة والتابعين وتابعيهم، في خبايا وزوايا لا يتصل بهم إلا مغرور.
ولا ينخدع بزخارف أقوالهم إلا مخدوع، وهم مع ذلك على تخوف من أهل الإسلام وترقب لنزول مكروه بهم من حماة الدين من العلماء الهادين والرؤساء والسلاطين، حتى نجم ناجم المحنة وبرق بارق الشر من جهة الدولة ومن لهم في الأمر والنهي والإصدار والإيراد الأعظم صولة، وذلك في الدولة المأمونية بسبب قاضيها أحمد بن أبي دؤاد.
فعند ذلك أطلع المنكمشون في تلك الزوايا رؤوسهم، وانطلق ما كان قد خرس من ألسنتهم، وأعلنوا مذاهبهم الزائغة، وبدعهم المضلة، ودعوا(9/331)
الناس إليها، وجادلوا عنها، وناضلوا المخالفين، حتى اختلط المعروف بالمنكر، واشتبه على العامة الحق بالباطل، والسنّة بالبدعة.
ولما كان الله سبحانه، قد تكفل بإظهار دينه على الدين كله، وحفظه عن التحريف، والتغيير، والتبديل، أوجد من علماء الكتاب والسنّة في كل عصر من العصور. من يبين للناس دينهم، وينكر على أهل البدع بدعهم، فكان لهم -ولله الحمد- المقامات المحمودة، والمواقف المشهورة في نصر الدين، وهتك المبتدعين، وبهذا الكلام القليل الذي ذكرناه، تعرف أن مذهب السلف من الصحابة، والتابعين، وتابعيهم، هو إمرار أدلة الصفات على ظاهرها، من دون تحريف لها، ولا تأويل متعسف، لشيء منها، ولا جبر، ولا تشبيه، ولا تعطيل، يفضي إليه كثير من التأويل وكانوا إذا سأل سائل عن شيء من الصفات؛ تلوا عليه الدليل، وأمسكوا عن القال والقيل، وقالوا: قال الله هكذا ولا ندري بما سوى ذلك.
ولا نتكلف ولا نتكلم بما لم نعلمه ولا أذن الله لنا بمجاوزته فإن أراد السائل أن يظفر منهم بزيادة على الظاهر زجروه عن الخوض فيما لا يعنيه ونهوه عن طلب ما لا يمكن الوصول إليه بالوقوع في بدعة من البدع التي هي غير ما هم عليه وما حفظوه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحفظه التابعون عن الصحابة، وحفظه من بعد التابعين عن التابعين.
وكان في هذه القرون الفاضلة الكلمة في الصفات متحدة والطريقة لهم جميعاً متفقة، وكان اشتغالهم بما أمرهم الله بالاشتغال به، وكلفهم القيام بفرائضه من الإيمان بالله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والصيام، والحج، والجهاد، وإنفاق الأموال، في أنواع البر وطلب العلم النافع وإرشاد الناس إلى الخير على اختلاف أنواعه والمحافظة على موجبات الفوز بالجنة والنجاة من النار، والقيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والأخذ على يد الظالم بحسب الاستطاعة وبما تبلغ إليه القدرة ولم يشتغلوا بغير ذلك مما لم يكلفهم الله بعلمه ولا تعبدهم بالوقوف على حقيقته.(9/332)
فكان الدين إذ ذاك صافياً عن كدر الباع، خالصاً عن شوب قذر التمذهب، فعلى هذا النمط كان الصحابة والتابعون وتابعوهم وبهدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اهتدوا وبأفعاله وأقواله اقتدوا، فمن قال إنهم تلبسوا بشيء من هذه المذاهب الناشئة في الصفات أو غيرها فقد أعظم عليهم الفرية وليس بمقبول في ذلك، فإن تقول الأئمة المطلبين على أحوالهم العارفين بها الأخذين لها عن الثقات الأثبات ترد عليه وعليهم وتدفع في وجهه.
يعلم ذلك كل من له علم، ويعرفه كل عارف، فاشدد يديك على هذا واعلم أنه مذهب خير القرون ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ودع عنك ما حدث من تلك التمذهبات في الصفات، وأرح نفسك من تلك العبارات التي جاء بها المتكلمون واصطلحوا عليها وجعلوها أصلاً يرد إليه كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، فإن وافقاها فقد وافقا الأصول المقررة في زعمهم، وإن خالفاها فقد خالفا الأصول المقررة في زعمهم، ويجعلون المرافق لها من قسم المقبول والمحكم والمخالف لها من قسم المردود والمتشابه، ولو جئت بألف آية واضحة الدلالة ظاهرة المعنى أو ألف حديث مما ثبت في الصحيح لم يبالوا به ولا رفعوا إليه رؤوسهم ولا عدوه شيئاًً.
ومن كان منكراً لهذا فعليه بكتب هذه الطوائف المصنفة في علم الكلام، فأنه سيقف على الحقيقة، ويسلم هذه الجملة، ولا يتردد فيها، ومن العجب العجيب والنبأ الغريب أن تلك العبارات الصادرة عن جماعة من أهل الكلام التي جعلها من بعدهم أصولاً لا مستند لها إلا مجرد الدعوى على العقل والفرية على الفطرة، وكل فرد من أفرادها تنازعت فيه عقولهم وتخالفت فيه إدراكاتهم، فهذا يقول حكم العقل في هذا كذا، وهذا يقول حكم العقل في هذا كذا، ثم يأتي بعدهم من يجعل ذلك الذي يعقله من يقلده ويقتدي به أصلاً يرجع إليه، ومعيار الكلام كلام الله وكلام رسوله يقبل منهما ما وافقه ويرد ما خالفه فيالله! ويا للمسلمين! ويا لطماء الدين من هذه الفواقر الموحشة التي لم يصب الإسلام وأهله بمثلها!.(9/333)
وأغرب من هذا، وأعجب، وأشنع، وأفظع، أنهم بعد أن جعلوا هذه التعقلات، التي تعقلوها، على اختلافهم فيها، وتناقضهم في معقولاتها، أصولاً ترد إليها أدلة الكتاب والسنة، جعلوها أيضاً معياراً لصفات الرب سبحانه، فما تعقله هذا من صفات الله، قال به جزماً، وما تعقله خصمه منها قطع به، فأثبتوا لله تعالى الشيء ونقيضه، استدلالاً بما حَكَمَت به في صفات الله عقولهم، الفاسدة، وتناقضت في شأنه. ولم يلتفتوا إلى ما وصف الله، نفسه، أو وصفه به رسوله - صلى الله عليه وسلم -، بل إن وجدوا ذلك موافقاً لما تعقلوه؛ جعلوه مؤيداً له، ومقوياً. وقالوا قد ورد دليل السمع مطابقاً لدليل العقل، وإن وجدوه مخالفاً لما تعقلوه جعلوه وارداً على خلاف الأصل، ومتشابهاً، وغير معقول العنى، ولا ظاهر الدلالة، ثم قابلهم الخالف لهم بنقيض قولهم فافترى على عقله بأنه قد تعقل خلاف ما تعقله خصمه، وجعل ذلك أصلاً يرد إليه أدلة الكتاب والسنة وجعل التشابه عند أولئك محكماً عنده، والمخالف لدليل العقل عندهم موافقاً له عنده، فكان حاصل كلام هؤلاء أنهم يعلمون من صفات الله ما لا يعلمه، وكفاك بهذا -وليس بعده شي- وعنده يتعثر القلم حياء من الله عز وجل وربما استبعد هذا مستبعد واستكبره مستكبر وقال: إن في كلامي هذا مبالغة وتهويلاً وتشنيعاً وتطويلاً وأن الأمر أيسر من أن يكون حاصله هذا الحاصل الذي ذكرت، وثمرته مثل هذه الثمرة التي أشرت إليها، فأقول: خذ جملة البلوى وح تفصيلها واسمع ما يصك سمعك، ولولا هذا الإلحاح منك ما سمعته، ولا جرى القلم بمثله، هذا أبو علي وهو رأس من رؤوسهم، وركن من أركانهم، وأسطوانة مني أساطينهم، قد حكى عنه الكبار منهم.
وآخر من حكى ذلك عنه صاحب شرح القلائد، يقول: والله لا يعلم الله من نفسه إلا ما يعلم هو. فخذ هذا التصريح، حيث لم يكتف بذلك التلويح، وانظر هذه الجرأة على الله التي ليس بعدها جرأة، فيالأم أبي على الويل؟ أينهق بمثل هذا النهيق؟ ويدخل نفسه في هذا المضيق؟ وهل سمع(9/334)
السامعون بيمين أفجر من هذه اليمين الملعونة؟ أو نقل الناقلون كلمة تقارب معنى هذه الكلمة المفتونة؟ أو بلغ مفتخر إلى ما بلغ إليه هذا المختال الفخور؟ أو وصل من يفجر في أيمانه إلى ما يقارب هذا الفجور؟ وكل عاقل يعلم أن أحدنا لو حلف أن ابنه أو أباه لا يعلم من نفسه إلا ما يعلمه هو لكان كاذباً في يمينه فاجراً فيها، لأن كل فرد من أفراد الناس ينطوي على صفات وغرائز، لا يحب أن يطلع عليها غيره، ويكره أن يقف على شيء منها سواه، ومن ذا الذي يدري بما يجول في خاطر غيره؟ ويستكن في ضميره؟ ومن ادعى علم ذلك وأنه يعلم من غيره من بني آدم ما يعلمه ذلك الغير من نفسه، ولا يعلم ذلك الغير من نفسه إلا ما يعلمه هذا المدير، فهو إما مصاب العقل بهذا، بما لا يدري، ويتكلم بما لا يفهم، أو كاذب شديد الكذب، عظيم الافتراء، فإن هذا أمر لا يعلمه غير الله سبحانه، فهو الذي يحول بين المرء وقلبه، ويعلم ما توسوس به نفسه، وما يسر عباده، وما يعلنون وما يظهرون وما يكتمون. كما أخبرنا بذلك في كتابه العزيز في غير موضع.
فقد خاب وخسر من أثبت لنفسه من العلم ما لا يعلمه إلا الله سبحانه من عباده، فما ظنك بمن جاوز هذا وتعداه؟ وأقسم بالله أن الله لا يعلم من نفسه إلا ما يعلمه هو؟ ولا يصح لنا أن نحمله على اختلاف العقل، فلو كان مجنوناً لم يكن رأساً يقتدى بقوله جماعات من أهل عصره، ومن جاء بعده، وينقلون كلامه في الدفاتر، ويحكون عنه في مقامات الاختلاف.
ولعل أتباع هذا ومن يقتدي بمذهبه، لو قال لهم قائل، وأورد عليهم مورد، قول الله عز وجل: (ولا يحيطون به علماً) وقوله: (ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء) وقال لهم هذا، يرد ما قاله صاحبهم، ويدل على أن يمينه هذه فاجرة مفتراة، لقالوا هذا ونحوه مما يدل دلالته ويفيد مفاده من المتشابه الوارد على خلاف دليل العقل المدفوع بالأصول المقررة.
وبالجملة فإطالة ذيول الكلام في مثل هذا المقام إضاعة للأوقات،(9/335)
واشتغال بحكاية الخرافات المبكيات لا المضحكات، وليس مقصودنا هاهنا إلا إرشاد السائل إلى أن المذهب الحق في الصفات هو إمرارها على ظاهرها من دون تأويل ولا تحريف ولا تكلف ولا تعسف ولا جبر ولا تشبيه ولا تعطيل. وإن ذلك هو مذهب السلف الصالح الصحابة والتابعين وتابعيهم.
فإن قلت: وماذا تريد بالتعطيل في مثل هذه العبارات التي تكررها؟ فإن أهل المذاهب الإسلامية يتنزهون عن ذلك ويتحاشون عنه، ولا يصدق معناه، ويوجد مدلوله إلا في طائفة من طوائف الكفار. وهم المنكرون للصانع.
قلت يا هذا إن كنت ممن له إلمام بعلم الكلام الذي اصطلح عليه طوائف من أهل الإسلام. فإنه لا محالة قد رأيت ما يقوله كثير منهم، ويذكرونه في مؤلفاتهم ويحكونه عن أكابرهم، أن الله سبحانه وتعالى وتقدس، لا هو جسم ولا جوهر ولا عرض ولا داخل العالم ولا خارجه، فأنشدك الله، أي عبارة تبلغ مبلغ هذه العبارة في النفي؟ وأي مبالغة في الدلالة على هذا النفي، تقوم مقام هذه المبالغة؟ فكان هؤلاء في فرارهم من شبهة التشبيه إلى هذا التعطيل كما قال القائل:
فكنت كالساعي إلى مثعب ... موائلا من سبل الراعد
أو كالمستجير من الرمضاء بالنار، والهارب من لسعة الزنبور إلى لدغة الحية، ومن قرصة النملة إلى قضمة الأسد، وقد كان يغني هؤلاء وأمثالهم من المتكلمين التكلفين كلمتان من كتاب الله تعالى وصف بهما نفسه وأنزلهما على رسوله - صلى الله عليه وسلم - وهما: (ولا يحيطون به علماً)، و (ليس كمثله شيء) فإن هاتين الكلمتين قد اشتملتا على فصل الخطاب وتضمنتا ما يغني أولي الألباب السالكين في تلك الشعاب والهضاب الصاعدين في متوعرات هاتيك العقاب فالكلمة الأولى منهما دلت دلالة بينة على أن كل ما تكلم به البشر في ذات الله وصفاته على وجه التدقيق ودعاوي التحقيق فهو مشوب بشعبة من شعب الجهل(9/336)
مخلوط بخلوط هي منافية للعلم مباينة له فإن الله سبحانه قد أخبرنا أنهم لا يحيطون به علماً.
فمن زعم أن ذاته كذا أو صفته كذا فلا شك أن صحة ذلك متوقفة على الإحاطة وقد نفيت عن كل فرد لأن هذه القضية هي في قوة لا يحيط به فرد من الأفراد علماً فكل قول من أقوال المتكلفين صادر عن جهل إما من كل وجه أو من بعض الوجوه وما صدر عن جهل فهو مضاف إلى جهل ولا سيما إذا كان في ذات الله وصفاته فإن ذلك من المخاطرة بالدين، ما لم يكن في غيره من المسائل. وهذا يعلمه كل ذي علم ويعرفه كل عارف.
ولم يحظ بفائدة هذه الآية ويقف عندها ويقتطف من ثمراتها إلا الممرون للصفات على ظاهرها المريحون أنفسهم عن التكلفات والتعسفات والتأويلات والتحريفات وهم السلف الصالح كما عرفت فهم الذين اعترفوا بعدم الإحاطة وأوقفوا أنفسهم حيث أوقفها الله وقالوا: الله أعلم بكيفية ذاته وماهية صفاته بل العلم كله له وقالوا كما قال من قال ممن اشتغل بطلب هذا المحال فلم يظفر بغير القيل والقال:
العلم للرحمن جل جلاله ... وسواه في جهلاته يتغمغم
ما للتراب وللعلوم وإنما ... يسعى ليعلم أنه لا يعلم
بل اعترف كثير من هؤلاء المتكلفين بأنه لم يستفد من تكلفه وعدم قنوعه مما قنع به السلف الصالح إلا بمجرد الحيرة التي وجد عليها غيره من المتكلفين فقال:
وقد طفت في تلك المعاهد كلها ... وسرحت طرفي بين تلك المعالم
فلم أر إلا واضعاً كف حائر ... على ذقن أو قارعا سن نادم
وها أنا أخبرك عن نفسي وأوضح لك ما وقعت فيه في أمسي فإني في أيام الطلب وعنفوان الشباب شغلت بهذا العلم الذي سموه تارة علم الكلام وتارة علم التوحيد وتارة علم أصول الدين وأكببت على مؤلفات الطوائف المختلفة(9/337)
منهم ورمت الرجوع بفائدة والعودة بعائدة فلم أظفر من ذلك بغير الخيبة والحيرة.
وكان ذلك من الأسباب التي حببت إلي مذهب السلف على أني كنت من قبل ذلك عليه ولكن أردت أن ازداد منه بصيرة وبه شغفاً وقلت عند النظر في تلك المذاهب:
وغاية ما حصلته من مباحثي ... ومن نظري من بعد طول التدبر
هو الوقف ما بين الطريقين حيرة ... فما علم من لم يلق غير التحير
على أنني قد خضت منه غماره ... وما قنعت نفسي بدون التبحر
وأما الكلمة الثانية، وهي: (ليس كمثله شيء) فبها يستفاد نفي المماثلة في كل شيء فيدفع بهذه الآية في وجه المجسمة ويعرف به الكلام عند وصفه سبحانه بالسميع. والبصير، وعند ذكر السمع، والبصر واليد والاستواء ونحو ذلك مما اشتمل عليه القرآن والسنة فيتقرر بذلك الإثبات لتلك الصفات لا على وجه المماثلة والمشابهة للمخلوقات، فيندفع به جانبي الإفراط والتفريط وهما المبالغة في الإثبات، المفضي إلى التجسيم، والمبالغة في النفي، المفضية إلى التعطيل، فيخرج من بين الجانبين، وغلو الطرفين، حقية مذهب السلف الصالح، وهو قولهم بإثبات ما أثبت لنفسه من الصفات على وجه لا يعلمه إلا هو فإنه القائل (ليس كمثله شيء وهو السميع البصير).
ومن جملة الصفات التي أمرها السلف على ظاهرها وأجروها على ما جاء به القرآن والسنة من دون تكلف ولا تأويل، صفة الاستواء التي ذكرها السائل، فإنهم يقولون نحن نثبت ما أثبته الله لنفسه من استوائه على عرشه على هيئة لا يعلمها إلا هو، وفي كيفية لا يدري بها سواء، ولا نكلف أنفسنا غير هذا فليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته، ولا يحبط عباده به علماً. وهكذا يقولون في مسألة الجهة التي ذكرها السائل وأشار إلى بعض ما فيه، دليل عليها. والأدلة في ذلك طويلة كثيرة، في الكتاب والسنة. وقد جمع أهل(9/338)
العلم منها لا سيما أهل الحديث مباحث طوّلوها بذكر آيات قرآنية، وأحاديث صحيحة، وقد وقفت من ذلك على مؤلف بسيط. في مجلد جمعه مؤرخ الإسلام الحافظ الذهبي، استوفى فيه كل ما فيه دلالة على الجهة. من كتاب أو سنة أو قول صاحب.
والمسألة أوضح من أن تلتبس على عارف، وأبين من أن يحتاج فيها إلى التطويل، ولكنها لما وقعت فيها تلك القلاقل، والزلازل الكائنة بين بعض الطوائف الإسلامية، كثر الكلام فيها، وفي مسئلة الاستواء، وطال خصوصاً بين الحنابلة وغيرهم من أهل المذاهب، فلهم في ذلك تلك الفتن الكبرى، والملاحم العظمى، وما زالوا هكذا في عصر بعد عصر، والحق هو ما عرفناك من مذهب السلف الصالح، فالاستواء على العرش، والكون في تلك الجهة، قد صرح به القرآن الكريم في مواطن يكثر حصرها، ويطول نشرها، وكذلك صرح به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في غير حديث، بل هذا مما يجده كل فرد من أفراد المسلمين في نفسه، ويحسه في فطرته، وتجذبه إليه طبيعته كما تراه في كل من استغاث بالله سبحانه. والتجأ إليه.
ووجه أدعيته إلى جنابه الرفيع وعزه المنيع، فإنه يشير عند ذلك بكفه أو يرمي إلى السماء بطرفه، ويستوي في ذلك عند عروض أسباب الدعاء وحدوث بواعث الاستغاثة ووجود مقتضيات الانزعاج، وظهور دواعي الالتجاء عالم الناس وجاهلهم والماشي على طريقة السلف والمقتدي بأهل التأويل القائلين بأن الاستواء هو الاستيلاء، كما قاله جمهور المتأولين أو الإقبال كما قاله أحمد بن يحيى ثعلب، والزجاج، والفراء وغيرهم، أو كناية عن الملك والسلطان كما قاله آخرون. فالسلامة والنجاة في إمرار ذلك على الظاهر، والإذعان بالاستواء والكون على ما نطق به الكتاب والسنة من دون تكييف ولا تكلف، ولا قيل ولا قال، ولا فضول في شيء من المقال.
فمن جاوز هذا المقدار بإفراط أو تفريط فهو غير مقتد بالسلف، ولا(9/339)
واقف في طريق النجاة، ولا معتصم عن الخطأ. ولا سالك في طريق السلامة والاستقامة. وكما تقول هكذا في الاستواء والكون في تلك الجهة، فكذا تقول في مثل قوله سبحانه، (وهو معكم أينما كنتم) وقوله: (ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم) وفي نحو إن الله مع الصابرين (إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون) إلى ما يشابه ذلك، ويماثله ويقاربه ويضارعه، فيقول في مثل هذه الآيات هكذا جاء القرآن أن الله سبحانه مع هؤلاء ولا نتكلف بتأويل ذلك كما يتكلف غيرنا بأن المراد بهذا الكون وهذه المعية، هو كون العلم ومعيته فإن هذه شعبة من شعب التأويل، تخالف مذاهب السلف وتباين ما كان عليه الصحابة والتابعون وتابعوهم.
وإذا انتهيت إلى السلا ... مة في مداك فلا تجاوز
وهذا الحق ليس به خفاء ... فدعني من بينات الطريق
وقد هلك المتنطعون.
ولا يهلك على الله إلا هالك ... وعلى نفسها براقش تجني
وفي هذه الجملة وإن كانت قليلة ما يغني من يشح بدينه، ويحرص عليه من تطويل المقال، وتكثير ذيوله، وتوسيع دائرة فروعه وأصوله والمهدي من هداه الله والله أعلم انتهى.
(الرحمن) خبر مبتدأ محذوف أي هو الرحمن، أو بدل من الضمير في استوى وقرئ بالجر على أنه نعت للحي، أو للموصول، وقيل أو مبتدأ وخبره (فاسأل به خبيراً) على رأى الأخفش. والضمير المجرور يعود إلى ما ذكر من خلق السماوات والأرض، والاستواء على العرش والمعنى فاسأل بتفاصيل ما ذكر إجمالاً من هذه الأمور عليماً.
وقال الزجاج والأخفش: الباء بمعنى عن، أي فاسأل عنه كقوله: (سأل سائل بعذاب واقع) والمراد بالخبير الله سبحانه لأنه لا يعلم تفاصيل تلك المخلوقات إلا هو، وقيل جبريل عليه السلام: والأول أولى وما قيل: إن التقدير إن(9/340)
شككت فيه فاسأل به خبيراً، على أن الخطاب له صلى الله عليه وآله وسلم، والمراد غيره فهو بمعزل من السداد؛ وقيل فاسأل به من وجده في الكتب المتقدمة ليصدقك فيه، وقيل إن الضمير للرحمن؛ أي إن أنكروا إطلاقه عليه سبحانه فاسأل عنه من يخبرك من أهل الكتاب ليعرفوا مجيء ما يرادفه في كتبهم. وانتصاب خبيراً على المفعولية. أو على الحال المؤكدة واستضعف الحالية أبو البقاء.
وقال ابن جرير: المعنى فاسأله حال كونه خبيراً وعلى هذا الباء في به زائدة وقيل قوله (به) يجري مجرى القسم كقوله: (واتقوا الله الذي تساءلون به) والوجه الأول أقرب هذه الوجوه، ثم أخبر سبحانه عنهم بأنهم جهلوا معنى الرحمن فقال:(9/341)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا (60)
(وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن)؟ قال المفسرون: إنهم قالوا: ما نعرف الرحمن. إلا رحمن اليمامة، يعنون مسيلمة قال الزجاج: الرحمن اسم من أسماء الله فلما سمعوه أنكروا فقالوا: وما الرحمن؟ (أنسجد) الاستفهام للإنكار أي: لا نسجد (لما تأمرنا) أي للرحمن الذي تأمرنا بالسجود له، ومن قرأ بالتحتية فالمعنى أنسجد لما يأمرنا محمد، بالسجود له. قيل هذه السجدة من عزائم السجود فيسن للقارئ والمستمع أن يسجد عند سماعها وقراءتها.
(وزادهم) الأمر بالسجود (نفوراً) عن الدين وبعداً عنه. وقيل: زادهم ذكر الرحمن تباعداً من الإيمان، كذا قال مقاتل. والأول أولى، ثم ذكر سبحانه ما لو تفكروا فيه لعرفوا وجوب السجود للرحمن، فقال:(9/341)
تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا (61)
(تبارك الذي جعل في السماء بروجاً) المراد بها، بروج النجوم السبعة السيارة، أي منازلهم، ومحالها الاثنا عشر، التي تسير فيها. وقال الحسن، وقتادة، ومجاهد: هي النجوم الكبار، سميت بروجاً لظهورها، والأول أولى وأصل البروج: القصور العالية. لأنها للكواكب كالمنازل الرفيعة لمن يسكنها،(9/341)
واشتقاق البروج من التبرج، وهو الظهور. وقال الزجاج: إن البرج كل مرتفع، فلا حاجة إلى التشبيه، أو النقل، قال ابن عباس في الآية: هي هذه الاثنا عشر برجاً، أولها الحمل، ويسمى بالكبش، ثم الثور، ثم الجوزاء، ثم السرطان، ثم الأسد، ويسمى بالليث، ثم السنبلة، ثم الميزان، ثم العقرب، ثم القوس، ثم الجدي، ثم الدلو، ويسمى بالدالي ثم الحوت وقد نظمها بعضهم وفي قوله:
حمل الثور جوزة السرطان ... ورعى الليث سنبل الميزان
ورمى عقرب بقوس لجدي ... نزح الدلو بركة الحيتان
وهي منازل الكواكب السيارة السبعة، المريخ وله الحمل، والعقرب، والزهرة ولها الثور، والميزان وعطارد، وله الجوزاء، والسنبلة والقمر، وله السرطان. والشمس ولها الأسد، والمشتري وله القوس، والحوت وزحل وله الجدي والدلو قاله المحلى. وقد نظم بعضهم هذه السبعة بقوله:
زحل شرى مريخه من شمسه ... فتزاهرت لعطارد الأقمار
فزحل نجم في السماء السابعة، والمشتري نجم في السماء السادسة والمريخ (1) نجم في السماء الخامسة، والشمس في الرابعة والزهرة في الثالثة، وعطارد في الثانية والقمر في الأولى والحاصل: إن خمسة من الكواكب السبعة أخذت عشرة بروج كل واحد أخذ اثنين وأن اثنين من السبعة وهما الشمس والقمر كل واحد منهما أخذ واحداً من البروج المذكورة.
_________
(1) لقد ثبت علمياً بالحس المفيد للقطع بواسطة المجاهر والمقاييس والآلات الرياضية أن المريخ أقرب الكواكب إلى الأرض وهو بنص القرآن في سماء الدنيا وهذه الكواكب التي ذكرها المصنف كلها في سماء الدنيا كما قال الله تعالى: (ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح) ولا يعارض القرآن العلم فالعلم مؤيد للقرآن ومثبت لإعجازه والله أعلم. المطيعي.(9/342)
وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا (62) وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا (63) وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا (64) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا (65) إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (66) وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا (67)
(وجعل فيها سراجاً) أي شمساً ومثله قوله (وجعل الشمس سراجاً) وقرئ سُرُجاً بالجمع أي النجوم العظام الوقادة ورجح الأولى أبو عبيدة وقال الزجاج في تأويل الثانية: أراد الشمس والكواكب (وقمراً منيراً) أي ينير الأرض إذا طلع، وقرئ قُمْراً بضم القاف وإسكان الميم، وهي قراءة ضعيفة شاذة وخص القمر بالذكر لنوع فضيلة عند العرب لأنها تبني السنة على الشهور القمرية.(9/343)
وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا (62)
(وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة) قال أبو عبيد: الخلفة كل شيء بعد شيء الليل خلفة للنهار، والنهار خلفة الليل، لأن أحدهما يخلف الآخر، ويأتي بعده، ومنه خلفة النبات، وهو ورق يخرج بعد الورق الأول في الصيف. قال الفراء: يقول: يذهب هذا، ويجيء هذا، وقال مجاهد وابن عباس: خلفة من الخلاف، هذا أبيض وهذا أسود والأول أقوى. وقيل: يتعاقبان في الضياء والظلام، والزيادة والنقصان. وقيل: هو من باب حذف المضاف أي: جعل الليل والنهار ذوي خلفة أي: اختلاف. قال ابن عباس وعمر والحسن: يقول من فاته شيء من الخير بالليل أن يعمله أدركه بالنهار ومن فاته بالنهار أدركه الليل.(9/343)
وعن الحسن أن عمر أطال صلاة الضحى، فقيل له: صنعت اليوم شيئاًً لم تكن تصنعه؟ فقال: إنه بقي عليّ من وردي شيء فأحببت أنا أتمه أو قال أقضيه، وتلا هذه الآية: (لمن أراد أن يذكر) مشدداً من التذكر لله وقرئ مخففاً من الذكر له.
والمعنى أن المتذكر المعتبر إذا نظر في اختلاف الليل والنهار علم أنه لا بد في انقالهما من حال إلى حال من ناقل. وقيل: المعنى يتذكر، فيعلم أن الله لم يجعلهما كذلك عبثاً فيعتبر في مصنوعات الله ويشكره سبحانه على نعمه عليه في العقل، والفكر والفهم. قال الفراء: يذكر ويتذكر يأتيان بمعنى واحد قال الله تعالى: (واذكروا ما فيه) وفي حرف عبد الله: ويذكروا ما فيه (أو أراد شكوراً أي: أراد أن يشكر الله على ما أودعه في الليل والنهار، من النعم العظيمة والألطاف الكثيرة و (أو) للتقسيم والتنويع وهي مانعة خلو فتجوز الجمع.(9/344)
وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا (63)
(وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هوناً) هذا كلام مستأنف مسوق لبيان أوصاف صالحي عباد الله سبحانه وأحوالهم الدنيوية والأخروية بعد بيان حال المنافقين قيل: هذه الإضافة للتخصيص والتشريف والتفضيل وإلا فالخلق كلهم عباد الله. وهوناً مصدر وهو السكينة والتواضع والوقار. وقد ذهب جماعة من المفسرين إلى أن الهون متعلق بـ (يمشون) أي مشياً هوناً، قال ابن عطية: ويشبه أن يتأول هدأ على أن يكون أخلاق ذلك الماشي هوناً مناسبة لمشيه. وأما أن يكون المراد صفة الشي وحده فباطل لأنه رب ماش هوناً رويداً وهو ذئب أطلس.
وقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يتكفَّأ في مشيه كأنما يمشي في صبب، قال ابن عباس في الآية: هم المؤمنون الذين يمشون على الأرض(9/344)
هوناً. أي بالطاعة والعفاف والتواضع، وقال أيضاً: هوناً، أي: علماً وحلماً، والمعنى: يمشون بالسكينة والوقار، متواضعين غير أشرين، ولا مرحين ولا متكبرين؛ بل علماء حكماء، أصحاب وقار وعفة، ولذا كره بعض العلماء الركوب في الأسواق، ولقوله: ويمشي في الأسواق.
(وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً) ذكر سبحانه أنهم يتحملون ما يرد عليهم من أذى أهل الجهل والسفه، فلا يجهلون من يجهل، ولا يشافهون أهل السفه. قال النحاس: ليس هذا السلام من التسليم إنما هو من التسلم، تقول العرب: سلاماً، أي تسلماً منك، أي: براءة منك، يعني قالوا: سلمنا سلاماً، وهذا على قول سيبويه، أو مفعول به، أي قالوا: هذا اللفظ ورجحه ابن عطية، وقال مجاهد معنى: سلاماً سداداً، أي يقولون للجاهل، كلاماً يدفعه به برفق ولين، قال سيبويه: لم يؤمر المسلمون يومئذ أن يسلموا على المشركين، لكنه على معنى قوله: تسلماً منكم ومتاركة، لا خير ولا شر. بيننا وبينكم، قال المبرد: كان ينبغي أن يقال لم يؤمر المسلمون يومئذ بحربهم، ثم أمروا بحربهم.
وقال محمد بن يزيد المبرد: أخطأ سيبويه في هذا، وأساء العبارة. قال النحاس: ولا نعلم لسيبويه كلاماً في معنى الناسخ والمنسوخ إلا في هذه الآية، لأنه قال في آخر كلامه: فنسختها آية السيف: وأقول هكذا يكون كلام الرجل إذا تكلم في غير علمه، ومشى في غير طريقته، ولم يؤمر المسلمون بالسلام على المشركين، ولا نهوا عنه، بل أمروا بالصفح، والهجر الجميل، فلا حاجة إلى دعوى النسخ، وفي الخطيب عن أبي العالية نسختها آية القتال. ولا حاجة إلى إدعاء النسخ بها ولا غيرها، لأن الإغضاء عن السفهاء، وترك المقابلة، مستحسن في الأدب والمروءة والشريعة، وأسلم للعرض والورع.(9/345)
وقال ابن العربي: لم يؤمر المسلمون يومئذ أن يسلموا على المشركين، ولا نهوا عن ذلك بل أمروا بالصفح والهجر الجميل. وقد كان عليه الصلاة والسلام يقف على أنديتهم ويحييهم، ويدانيهم ولا يداهنهم. قال النضر بن شميل: حدثني الخليل قال: أتيت أبا ربيعة الأعرابي، وكان من أعلم من رأيت فإذا هو على سطح، فسلمنا، فرد علينا السلام، وقال لنا! استووا فبقينا متحيرين، ولم ندر ما قال: فقال لنا أعرابي إلى جنبه أمركم أن ترتفعوا. فقال الخليل: هو من قول الله ثم استوى إلى السماء فصعدنا إليه فقال: هل لكم في خبز فطير، ولبن هجير؟ فقلنا: الساعة فارقناه، فقال: سلاماً فلم ندر ما قال فقال الأعرابي: إنه سألكم متاركة لا خير فيها، ولا شر. قال الخليل: هو من قول الله عز وجل (وإذا خاطبهم الجاهلون، قالوا سلاماً). قال الحسن: هذا وصف نهارهم، ثم وصف ليلهم بقوله:(9/346)
وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا (64)
(والذين يبيتون لربهم سجداً) على وجوههم (وقياماً) على أقدامهم بيان لحالهم في معاملة الخالق بعد بيان حالهم في معاملة الخلق، وتخصيص البيتوتة لأن العبادة بالليل أحمض، وأبعد عن الرياء، وتأخير القيام للفاصلة والبيتوتة، هي أن يدركك الليل، نمت أم لم تنم قال الزجاج: من أدركه الليل فقد بات، نام أو لم ينم، كما يقال بات فلان قلقاً، قال النسفي: والظاهر أنه وصفهم بإحياء الليل أو أكثره.(9/346)
وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا (65)
(والذين يقولون ربنا اصرف عنا عذاب جهنم إن عذابها كان غراماً) أي لزوماً كلياً في حق الكفار. ولزوماً بعده إطلاق إلى الجنة في الجنة في حق عصاة المؤمنين، أي هم مع طاعتهم، وحسن معاملتهم لخالقهم، وخلقه، لا يؤمنون مكر الله، بل هم مشفقون، وجلون، خائفون من عذابه، والغرام الشر اللازم الدائم قاله ابن زيد كما ورد مرفوعاً إليه صلى الله عليه وآله وسلم، ومنه سمي الغريم لملازمته، ويقال فلان مغرم بكذا، أي(9/346)
ملازم له، مولع به هذا معناه في كلام العرب، كما ذكره ابن الأعرابي، وابن عرفة، وغيرهما. وقال الزجاج: الغرام أشد العذاب، وقال أبو عبيدة: هو الهلاك الدائم.(9/347)
إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (66)
(إنها ساءت) تعليل لما قبلها، أي بئست جهنم، أو أحزنت أصحابها وداخلها (مستقراً ومقاماً) المراد بهما جهنم، فلذلك جاز تأنيث فعله قيل هما مترادفان وإنما عطف أحدهما على الآخر لاختلاف لفظهما. وقيل بل هما مختلفان معنى، فالمستقر للعصاة؛ فإنهم يخرجون، والمقام للكفار فإنهم يخلدون، والمخصوص بالذم محذوف، أي هي، ويجوز أن يكون هذا من كلام الله سبحانه، ويجوز أن يكون حكاية لكلامهم، ثم وصفهم سبحانه بالتوسط في الإنفاق فقال:(9/347)
وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا (67)
(والذين إذا أنفقوا) على عيالهم (لم يسرفوا ولم يقتروا) بفتح التحتية وضم الفوقية من قتر يقتر كقعد يقعد وقرئ بفتح التحتية وكسر التاء، وهي لغة معروفة حسنة، وقرئ بضم التحتية وكسر الفوقية، قال أبو عبيدة: يقال قتر الرجل على عياله، يقتر ويقتر قتراً، وأقتر يقتر إقتاراً. ومعنى الجميع التضييف في الإنفاق. قال النحاس: من أحسن ما قيل في معنى الآية إن من أنفق في غير طاعة الله فهو الإسراف، ومن أمسك عن طاعة الله فهو الإقتار، ومن أنفق في طاعة الله فهو القوام، وقال إبراهيم النخعي: هو الذي لا يجيع، ولا يعرى، ولا ينفق نفقة - تقول الناس قد أسرف.
وقال يزيد بن حبيب: أولئك أصحاب محمد، كانوا لا يأكلون طعاماً للتنعم واللذة، ولا يلبسون ثوباً للجمال، ولكن كانوا يريدون من الطعام ما يسد عنهم الجوع، ويقويهم على عبادة الله، ومن اللباس ما يستر عوراتهم ويقيهم الحر والبرد. وقال أبو عبيدة: لم يزيدوا على المعروف، ولم يبخلوا،(9/347)
كقوله (ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط). قال ابن عباس: هم المؤمنون لا يسرفون فينفقوا في معصية الله ولا يقترون فيمنعوا حقوق الله قال عمر بن الخطاب: كفى سرفاً أن لا يشتهي شيئاًً إلا اشتراه وأكله. وقيل الإسراف مجاوزة الحد في الإنفاق حتى يدخل في حد التبذير، والإقتار التقصير عما لا بد منه.
(وكان بين ذلك قواماً) بفتح القاف وقرئ بكسرها فقيل هما بمعني، وقيل القوام بالكسر ما يدوم عليه الشيء، ويستقر بالفتح العدل والاستقامة، قاله ثعلب، قيل بالفتح بين الشيئين، وبالكسر ما يقال به الشيء لا يفضل عنه ولا ينقص. وقيل: بالكسر السداد، والمبلغ واسم كان مقدر فيها، وخبرها قواماً قاله الفراء، أي كان إنفاقهم قصداً وسطاً بين الإسراف والإقتار، وحسنة بين السيئتين، وروي عن الفراء قول آخر، وهو أن اسم كان (بين ذلك) وتبنى (بين) على الفتح لأنها من الظروف المفتوحة وقال النحاس: ما أدرى ما وجه هذا لأن (بين) إذا كانت في موضع رفع رفعت.(9/348)
وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (70) وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا (71) وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا (72)(9/349)
وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68)
(والذين لا يدعون مع الله إلها آخر) لما فرغ من ذكر إتيانهم بالطاعات شرع في بيان اجتنابهم للمعاصي، والمعنى: لا يدعون معه رباً من الأرباب، ولا يشركون به شيئاً بل يوحدونه، ويخلصون له العبادة والدعوة.
وقد أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن مسعود قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أي: الذنب أكبر؟ قال: " أن تجعل لله نداً وهو خلقك " قلت: ثم أي قال: " أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك " قلت: ثم أي قال: " أن تزاني بحليلة جارك " فأنزل الله تصديق ذلك والذين لا يدعون مع الله الآية (1).
وأخرج الشيخان وغيرهما أيضاً عن ابن عباس، أن ناساً من أهل الشرك قد قتلوا فأكثروا، وزنوا فأكثروا، ثم أتوا محمداً - صلى الله عليه وسلم -، فقالوا: إن الذي تقول وتدعو إليه لحسن، لو تخبرنا أن لما عملناه كفارة، فنزلت: (والذين لا يدعون) الآية ونزلت: (قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم) الآية (2).
_________
(1) مسلم 86 - البخاري 1962.
(2) مسلم 122 - البخاري 2037.(9/349)
(ولا يقتلون النفس التي حرم الله) قتلها بسبب من الأسباب (إلا بالحق) أي بسبب الحق المزيل لحرمتها وعصمتها، أي بما يحق أن تقتل به النفوس، من كفر بعد إيمان أو زنا بعد إحصان، أو قتل نفس بغير نفس (ولا يزنون) أي لا يستحلون الفروج المحرمة بغير نكاح ولا ملك يمين.
(ومن يفعل ذلك) أي شيئاًً مما ذكر (يلق أثاماً) هو في كلام العرب العقاب، قال الفراء: آثمه الله يوثمه آثاماً وأثاماً، أي جازاه جزاء الإثم فهو مأثوم، أي مجزى جزاء الإثم. وقال عبد الله بن عمر وعكرمة ومجاهد: إن أثاماً واد في جهنم جعله الله عقاباً للكفرة وقال السدي: جبل فيها. وقرئ يلق بضم الياء وتشديد القاف، قال أبو مسلم: الأثام والإثم واحد. والمراد هنا جزاء الآثام. فأطلق اسم الشيء على جزائه، وقرأ الحسن أياماً جمع يوم يعني شدائد، والعرب تعبر عن ذلك بالأيام، وما أظن هذه القراءة تصح عنه.(9/350)
يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69)
(يضاعف) وقرئ يضعّف بالتشديد، وكل من القراءتين يجيء مع جزم الفعل، ورفعه فالقراءات أربع وكلها سبعية، وقرئ نُضَعّف بضم النون، وكسر العين المشددة والجزم.
(له العذاب يوم القيامة) سبب المضاعفة أن المشرك إذا ارتكب المعاصي مع الشرك، يضاعف له العذاب على شركه ومعصيته (ويخلد) وقرئ بالفوقية، خطاباً للكافر، وقرئ يُخَلَّد بضم الياء وفتح اللام، قال أبو علي الفارسي: وهي غلط من جهة الرواية وضمير (فيه) راجع إلى العذاب المضاعف، وقرئ فيها بالإشباع مبالغة في الوعيد، والعرب تمد للمبالغة، مع أن الأصل في هاء الكناية الإشباع، (مهاناً) ذليلاً حقيراً جامعاً للعذاب الجسماني والروحاني. قال ابن عباس: قرأناها على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سنين ثم نزلت.(9/350)
إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (70)
(إلا من تاب وآمن وعمل عملاً صالحاً) فما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -(9/350)
فرح بشيء قط فرحه بها، وفرحه بـ (إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً). قيل والاستثناء متصل من الضمير المستتر في يلق، أي إلا من تاب، فلا يلق أثاماً بل يزاد له في الإكرام بتبديل سيئاته حسنات. وقيل منقطع. قال أبو حيان: لا يظهر الاتصال لأن المستثنى منه محكوم عليه بأنه يضاعف له العذاب، فيصير التقدير إلا من تاب وآمن وعمل صالحاً. فلا يضاعف له العذاب. ولا يلزم من انتفاء التضعيف انتفاء العذاب غير المضعف، قال: والأولى عندي أن يكون منقطعاً، أي لكن من تاب. قال القرطبي: لا خلاف بين العلماء أن الاستثناء عام في الكافر، والزاني. واختلفوا في القاتل من المسلمين وقد تقدم بيانه في المائدة.
والإشارة بقوله (فأولئك يبدّل الله سيئاتهم حسنات) إلى المذكورين سابقاً، ومعنى تبديلها حسنات أنه يمحو عنهم سوابق المعاصي بالتوبة، ويثبت لهم مكانها لأحق الطاعات. قال النحاس: من أحسن ما قيل في ذلك أنه يكتب موضع كافر مؤمن وموضع عاص مطيع. قال الحسن: قوم يقولون هذا التبديل في الآخرة وليس كذلك إنما التبديل في الدنيا، يبدل الله لهم إيماناً مكان الشرك، وإخلاصاً مكان الشك، وإحصاناً مكان الفجور، وقتل المشرك مكان المؤمن. قال الزجاج: ليس يجعل مكان السيئة الحسنة، ولكن يجعل مكان السيئة التوبة، والحسنة مع التوبة، وقيل إن السيئات تبدل الحسنات، وبه قال جماعة من الصحابة، ومن بعدهم.
وقيل تبدل ملكة المعصية ودواعيها في النفس، بملكة الطاعة بأن يزيل الأولى ويأتي بالثانية مكانها. وقيل التبديل عبارة عن الغفران، أي يغفر الله لهم تلك السيئات، لا أنه يبدلها حسنات. قلت ولا يبعد في كرم الله تعالى إذا صحت توبة العبد، أن يضع مكان كل سيئة حسنة، وقد قال - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ: " وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن " (1) وقال ابن
_________
(1) الترمذي كتاب البر باب 55 - الإمام أحمد 5/ 153 - 5/ 158.(9/351)
عباس: أبدلهم الله بالكفر الإسلام، وبالمعصية الطاعة، وبالإنكار المعرفة، وبالجهالة العلم. وعنه قال: هم المؤمنون كانوا من قبل إيمانهم على السيئات فرغب الله بهم عن ذلك فحولهم إلى الحسنات فأبدلهم مكان السيئات الحسنات.
وأخرج أحمد وهناد والترمذي وابن جرير والبيهقي عن أبي ذر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " يؤتى بالرجل يوم القيامة فيقال: اعرضوا عليه صغار ذنوبه، فيعرض عليه صغارها، وينحى عنه كبارها، فيقال: عملت كذا وكذا وهو يقر ليس ينكر، وهو مشفق من الكبائر أن تجيء فيقال اعطوه بكل سيئة عملها حسنة " (1) والأحاديث في تكفير السيئات وتبديلها بالحسنات كثيرة. (وكان الله غفوراً رحيماً) مقررة لما قبلها من التبديل، وتكفير السيئات بالحسنات، أي لم يزل متصفاً بذلك.
_________
(1) الإمام أحمد 5/ 157 - مسلم 190 بلفظ آخر.(9/352)
وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا (71)
(ومن تاب) عن المعاصي بتركها، والندم عليها (وعمل صالحاً) يلافي به ما فرط (فإنه يتوب) يرجع (إلى الله متاباً) رجوعاً صحيحاً، مرضياً، قوياً عند الله، ماحياً للعقاب، محصلاً للثواب، أو متاباً إلى الله الذي يحب التائبين، ويحسن إليهم أو فإنه يرجع إلى الله. وإلى ثوابه مرجعاً حسناً، وهذا تعميم بعد تخصيص. قال القفال: يحتمل أن تكون الآية الأولى فيمن تاب من المشركين، ولهذا قال (إلا من تاب وآمن) ثم عطف عليه، ومن تاب من المسلمين وأتبع توبته عملاً صالحاً فله حكم التائبين أيضاً.
وقيل أي من تاب بلسانه ولم يحقق التوبة بفعله، فليست تلك التوبة نافعة بل من تاب وعمل صالحاً فحقق توبته بالأعمال الصالحة فهو الذي تاب إلى الله متاباً، أي تاب حق التوبة، وهي النصوح، ولذلك أكد بالمصدر ومعنى الآية من أراد التوبة وعزم عليها فليتب إلى الله فالخبر في معنى الأمر كذا، قيل: لئلا يتحد الشرط والجزاء، فإنه لا يقال من تاب فإنه يتوب، وقيل: المعنى من تاب من الشرك وأدى الفرائض، ممن لم يقتل ولم يزن فإنه يعود إلى(9/352)
الله بعد الموت حسناً، يفضل على غيره، ممن قتل وزنا، فالتوبة الأولى رجوع عن الشرك، والثانية رجوع إلى الله، للجزاء والمكافاة. والأول أولى.
ثم وصف سبحانه هؤلاء التائبين العاملين للصالحات فقال:(9/353)
وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا (72)
(والذين لا يشهدون الزور) أي لا يقيمون الشهادة الكاذبة أو لا يحضرون الزور، وهو الكذب والباطل، ولا يشاهدونه، وإلى الثاني ذهب جمهور المفسرين قال الزجاج: الزور في اللغة الكذب، ولا كذب فوق الشرك بالله، قال الواحدي: أكثر المفسرين على أن الزور هاهنا بمعنى الشرك والحاصل أن (يشهدون) إن كان من الشهادة ففي الكلام مضاف محذوف، أي لا يشهدون شهادة الزور وإن كان من الشهود والحضور -كما ذهب إليه الجمهور- فقد اختلفوا في معناه، فقال قتادة: لا يساعدون أهل الباطل على باطلهم وقال محمد بن الحنفية: لا يحضرون اللهو والغناء.
وقال ابن جريح: الكذب، وعن مجاهد أيضاً. وقيل ينفرون عن محاضر الكذابين، ومجالس الخطائين، فلا يقربونها تنزهاً عن مخالطة الشر، وأهله، وقيل أعياد المشركين، وقيل النوح، والأولى عدم التخصيص بنوع دون نوع من أنواع الزور بل المراد الذين لا يحضرون ما يصدق عليه اسم الزور كائناً ما كان، وعن ابن عباس قال: إن الزور كان صنماً بالمدينة يلعبون حوله كل سبعة أيام.
(وإذا مروا باللغو) على سبيل الاتفاق من غير قصد (مروا كراماً) أي معرضين عنه، غير ملتفتين إليه، مكرمين أنفسهم عن الوقوف عليه، والخوض فيه. ومن ذلك الإغضاء عن الفواحش، والصفح عن الذنوب، والكناية عما يستهجن التصريح به قال ابن عباس: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه آله وسلم إذا مروا به، يعني الصنم المذكور، مروا كراماً، لا ينظرون إليه، كقوله (وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه).
وقال الباقر: إذا ذكروا الفروج كنوا عنها. وقيل الشتم، والأذى(9/353)
وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا (73) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا (74) أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا (75) خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (76) قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا (77)
واللغو، كل ساقط، من قول أو فعل. قال الحسن: اللغو المعاصي كلها، وقيل المراد مروا بذوي اللغو، يقال فلان يكرم عما يشينه، أي بتنزه، ويكرم نفسه، عن الدخول في اللغو، والاختلاط بأهله.(9/354)
وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا (73)
(والذين إذا ذكّروا بآيات ربهم) أي بالقرآن أو بما فيه من موعظة وعبرة (لم يخروا) أي لم يسقطوا، ولم يقعوا (عليها) حال كونهم (صماً وعمياناً) ولكنهم أكبوا عليها سامعين، مبصرين، بآذان واعية، وعيون راعية، وانتفعوا بها. قال ابن قتيبة: المعنى لم يتغافلوا عنها، كأنهم صم لم يسمعوها، وعمي لم يبصروها قال ابن جرير: ليس ثَمَّ خرور، بل كما يقال قعد يبكي، وإن كان غير قاعد. قال ابن عطية: كأن المستمع للذكر قائم، فإذا أعرض عنه كان ذلك خروراً، وهو السقوط على غير نظام: قيل المعنى إذا تليت عليهم آيات الله، وجلت قلوبهم، فخرّوا سجداً وبكياً، ولم يخروا عليهما صماً وعمياناً. قال الفراء بأي لم يقعدوا على حالهم الأول، كأن لم يسمعوا قال في الكشاف: ليس بنفي للخرور. وإنما هو إثبات له ونفي للصمم والعمى، وأراد أن النفي متوجه إلى القيد لا إلى المقيد.(9/354)
وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا (74)
(والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا) من ابتدائية، أو بيانية، قاله الزمخشري (وذرياتنا) قرئ بالجمع، وبالإفراد، وهما سبعيتان،(9/354)
والذرية تقع على الجمع، كما في قوله (ذرية ضعافاً) وتقع على الفرد كما في قوله ذرية طيبة.
(قرة أعين) يقال: قرت عينه قرة. قال الزجاج: يقال أقر الله عينك أي صادف فؤادك ما تحبه وقال المفضل: في قرة العين ثلاثة أقوال، أحدها برد دمعها لأنه دليل السرور والضحك، كما أن حره دليل الحزن والغم، والثاني نومها، لأنه يكون مع فراغ الخاطر وذهاب الحزن، والثالث حصول الرضا قال ابن عباس: يعنون من يعمل بالطاعة فتقر به أعيننا في الدنيا والآخرة فإنه ليس شيء أقر لعين المؤمن من أن يرى زوجته وأولاده مطيعين لله عز وجل، فيطمع أن يحلّوا معه في الجنة، فيتم سروره، وتقر عينه بذلك.
(واجعلنا للمتقين إماماً) أي قدوة يقتدي بنا في الخير وإقامة مراسم الدين بإفاضة العلم والتوفيق للعمل الصالح. وإنما قال إماماً ولم يقل أئمة لأنه أريد الجنس، كقوله (ثم يخرجكم طفلاً) قال الفراء: قال إماماً، ولم يقل أئمة كما للاثنين (إنا رسول رب العالمين) يعني أنه من الواحد الذي أريد به الجمع وقال الأخفش: الإمام جمع أم من أم يؤم جمع على فعال نحو صاحب وصحاب وقائم وقيام، وقيل إن إماماً مصدر، يقال أم فلان فلاناً إماماً مثل الصيام والقيام، وقيل أرادوا اجعل كل واحد منا إماماً، وقيل أرادوا اجعلنا إماماً واحداً، لاتحاد كلمتنا واتفاق طريقتنا وقيل: إنه من الكلام المقلوب وأن المعنى واجعل المتقين لنا إماماً. وبه قال مجاهد.
وقيل: إن هذا الدعاء صادر عنهم بطريق الانفراد وإن عبارة كل واحد منهم عند الدعاء واجعلني للمتقين إماماً ولكنها حكيت عبارات القوم بصيغة المتكلم، مع الغير لقصد الإيجاز، كقوله: (يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحاً)، وفي هذا إبقاء إماماً على حاله قال القفال: وعندي أن الإمام إذا ذهب به مذهب الاسم وحد كأنه قيل اجعلنا حجة للمتقين. ومثله البينة، يقال هؤلاء بينة فلان، قال الحفناوي: ولفظ إمام يستوي فيه الجمع وغيره، فالمطابقة حاصلة.(9/355)
قال النيسابوري: قيل في الآية دلالة على أن الرياسة الدينية مما يجب أن تطلب ويرغب فيها والأقرب أنهم سألوا الله أن يبلغهم في الطاعة المبلغ الذي يشار إليهم ويقتدي بهم وقال ابن عباس في الآية: أئمة هدى يهتدي بنا ولا تجعلنا أئمة ضلالة لأنه قال لأهل السعادة (وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا) ولأهل الشقاوة (وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار).(9/356)
أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا (75)
(أولئك) إشارة إلى المتّصفين بتلك الصفات المفصلة في حيز الموصولات الثمانية من حيث اتصافهم بها وفيه دليل على أنهم متميزون بذلك أكمل تميز ومنتظمون في سلك الأمور المشاهدة وهو مبتدأ وخبره ما بعده والجملة مستأنفة وقيل ذلك (يجزون الغرفة) أي الدرجة الرفيعة وهي أعلى منازل الجنة وأفضلها كما أن الغرفة أعلى مساكن الدنيا، وهي في الأصل كل بناء مرتفع والجمع غرف؛ وقال الضحاك: الغرفة الجنة أي يجزون الجنة، ووحد الغرفة لدلالتها على الجنس دليله قوله (وهم في الغرفات آمنون).
وعن سهل بن سعد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: " الغرفة من ياقوته حمراء وزبرجدة خضراء ودرة بيضاء ليس فيها فصم ولا وصم (1) " أخرجه الحكيم الترمذي (بما صبروا) أي بسبب صبرهم على مشاق التكليفات والطاعات ورفض الأهواء والشهوات وتحمل المجاهدات.
(ويُلَقَّوْن فيها تحية وسلاماً) بضم الياء مشدداً، واختاره أبو عبيد، أي: يعطون، لقوله: (ولقاهم نضرة وسروراً) وقرئ يَلقَوْن بفتح الياء مخففاً، واختاره الفراء، ومعناه يجدون، ويصادفون، قال: لأن العرب تقول فلان يلقى بالسلام والتحية، والخير، وقلما يقولون يلقي، والمعنى أنه يحيي بعضهم بعضاً، ويرسل إليهم الرب سبحانه بالسلام وقيل التحية البقاء الدائم، والملك العظيم وقيل هي بمعنى السلام، وقيل إن الملائكة تحييهم،
_________
(1) ضعيف الجامع الصغير 3929.(9/356)
وتسلم عليهم، والظاهر أن هذه التحية والسلام هي من الله سبحانه لهم ومن ذلك قوله سبحانه تحيتهم يوم يلقونه سلام. وقيل معنى التحية الدعاء لهم بطول الحياة والتعمير ومعنى السلام الدعاء لهم بالسلامة من الآفات وقيل المراد بالتحية إكرام الله تعالى لهم بالهدايا والتحف، وبالسلام سلامه عليهم بالقول.(9/357)
خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (76)
(خالدين) أي مقيمين (فيها) من غير موت ولا خروج (حسنت) الغرفة (مستقراً) أي موضع قرار يستقرون فيه (ومقاماً) يقيمون فيه، وهذا في مقابل ما تقدم من قوله ساءت مستقراً ومقاماً(9/357)
قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا (77)
(قل ما يعبأ بكم ربي) بين سبحانه أنه غني عن طاعة الكل، وإنما كلفهم لينتفعوا بالتكليف، يقال ما عبأت بفلان، أي ما بالميت به ولا له عندي قدر وأصل يعبأ من العبء، وهو الثقل. قال الخليل: ما أعبأ بفلان أي ما أصنع به كأنه يستقله ويستحقره، ويدعي أن وجوده وعدمه سواء، وكذا قال أبو عبيدة.
قال الزجاج: ما يعبأ بكم ربي، يريد أي وزن يكون لكم عنده، أو ما يصنع بكم، أو بعذابكم والعبء الثقل و (ما) استفهامية أو نافية، وصرح الفراء بإنها استفهامية قال ابن الشجري: وحقيقة القول عندي أن موضع (ما) نصب، والتقدير: أي عبء يعبأ بكم؟ أي أيُّ مبالاة يبالي بكم؟ وأيُّ اعتداد يعتد بكم؟.
(لولا دعاؤكم) أي لولا دعاؤه إياكم لتعبدوه، وعلى هذا فالمصدر الذي هو الدعاء مضاف إلى مفعوله، وهو اختيار الفراء، وفاعله محذوف، وجواب لولا محذوف تقديره لولا دعاؤكم لم يعبأ بكم ويؤيد هذا قوله (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) والخطاب لجميع الناس وعن ابن عباس في الآية قال، يقول لولا إيمانكم فأخبر الله سبحانه أنه لا حاجة له بهم إذ لم يخلقهم مؤمنين، ولو كانت له بهم حاجة لحبب إليهم الإيمان كما حببه إلى المؤمنين وقيل إن المصدر مضاف إلى الفاعل أي لولا استغاثتكم إليه في الشدائد.(9/357)
وقيل المعنى ما يعبأ بكم أي بمغفرة ذنوبكم لولا دعاؤكم الآلهة معه وممن قال إن الدعاء مضاف إلى الفاعل القتيبي والفارسي، قالا والأصل لولا دعاؤكم آلهة من دونه، وجواب لولا محذوف أي لولا دعاؤكم لم يعذبكم، قال أبو السعود: أمر رسوله بأن يبين للناس أن الفائزين بتلك النعماء الجليلة التي يتنافس فيها المتنافسون إنما نالوها بما عدد من محاسنهم، ولولاها لم يعتد بهم أصلاً، يعني إنما اكترث بأولئك وعبأ بهم وأعلى ذكرهم لأجل عبادتهم وحدها لا لمعنى آخر، ولولا عبادتهم لم يكترث بهم البتة ولم يعتد بهم ولم يكونوا عنده شيئاًً يبالي به قاله الزمخشري.
ثم خصّ الكفار منهم فقال (فقد كذّبتم) وقرأ ابن الزبير فقد كذب الكافرون وبه قرأ ابن عباس وابن مسعود كما حكاه ابن جني وفي هذه القراءة دليل بين على أن الخطاب لجميع الناس ويكون معنى فقد كذبتم على الأول فقد كذبتم ما دعيتم إليه وعلى الوجه الثاني فقد كذبتم بالتوحيد، ثم قال سبحانه (فسوف يكون لزاماً) أي يكون جزاء التكليف لازماً لكم، وجمهور المفسرين على أن المراد باللزام هنا ما لزم المشركين يوم بدر، وبه قال ابن مسعود وقالت طائفة هو عذاب الآخرة، قال أبو عبيد: لزاماً فيصلاً بينكم وبين المؤمنين، وقال الزجاج: يكون تكذيبكم لزاماً يلزمكم فلا تعطون التوبة، وجمهور القراء على كسرة اللام من لزاماً قال ابن جرير: لزاماً عذاباً دائماً وهلاكاً مفنياً يلحق بعضكم بعضاً، وقرأ أبو السماك لزاماً بفتح اللام قال أبو جعفر: يكون مصدر لزم والكسر أولى قال ابن عباس: لزاماً موتاً وقيل وبالاً.
وفي الصحيحين عنه قال: " قد مضين " أي خمس علامات دالات (1) على قيام الساعة الدخان والقمر والروم والبطشة واللزام.
_________
(1) مسلم 2798 - البخاري 570.(9/358)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الشعراء
(مائتان وسبع وعشرون آية ومكيّة عند الجمهور) وبه قال ابن الزبير، وقال ابن عباس: سوى خمس آيات من آخرها نزلت بالمدينة وهي: والشعراء يتبعهم الغاوون إلى آخرها.
وأخرج القرطبي في تفسيره عن البراء أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " إن الله أعطاني السبع الطوال مكان التوراة، وأعطاني المئين مكان الإنجيل، وأعطاني الطواسين مكان الزبور، وفضلني بالحواميم والمفصل، ما قرأهن نبي قبلي ".
وأخرج أيضاً عن ابن عباس: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " أعطيت المفصل نافلة " قال ابن كثير: ووقع في تفسير مالك تسميتها بسورة الجمعة.(9/359)
بسم الله الرحمن الرحيم
طسم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (3) إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ (4) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (5) فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (6) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (7) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (8) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (9)(9/361)
طسم (1)
(طسم) محله الرفع على الابتداء إن كان اسماً للسورة كما ذهب إليه الأكثر، أو على أنه خبر، ويجوز أن يكون في محل نصب، والتقدير: اذكر أو اقرأ، وأما إذا كان مسروداً على نمط التعديد كما تقدم مراراً فلا محل له من الإعراب، وقد قيل: إنه اسم من أسماء الله سبحانه، وقيل: إنه اسم من أسماء القرآن، وقيل: اسم السورة، وقيل: أقسم بطوله وسنائه وملكه.
وقال ابن عباس: طسم عجزت العلماء عن علم تفسيرها وهو الحق في المقام، ولذا قال المحلي: الله أعلم بمراده بذلك.(9/361)
تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2)
(تلك) أي: السورة أو آيات هذه السورة (آيات الكتاب) أي: القرآن.
(المبين) أي: المبين المظهر للحق من الباطل، أو المبين الظاهر إعجازه إن كان من أبان اللازم بمعنى بان وهذا المعنى أليق بالمقام: وأوفق للمرام، ولذا اقتصر عليه صاحب الكشاف.(9/361)
لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (3)
(لعلك باخع) أي: قاتل ومهلك (نفسك) لعل هنا للإشفاق أي: أشفق عليها بتخفيف هذا الغم، والبخع في الأصل أن يبلغ بالذبح البخاع،(9/361)
وهو عرق في القفا، وقد مضى تحقيق هذا في سورة الكهف وقرئ باخع نفسك بالإضافة، والمعنى لعلك قاتل نفسك.
(أن لا يكونوا) أي أهل مكة (مؤمنين) أي: لعدم إيمانهم بما جئت به، وفي هذا تسلية لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأنه كان حريصاً على إيمان قومه شديد الأسف لما يراه من إعراضهم.(9/362)
إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ (4)
(إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية) مستأنفة مسوقة لتعليل ما سبق من التسلية، والمعنى ننزل آية تلجئهم إلى الإيمان ولكن قد سبق القضاء بأنا لا ننزل ذلك، وتقديم الظرفين على المفعول الصريح للإهتمام بالمقدم والتشويق إلى المؤخر.
(فظلت أعناقهم لها خاضعين) أي أنهم صاروا منقادين لها أي فتظل أعناقهم، قيل: وأصله فظلوا لها خاضعين، فأقحمت (الأعناق) للتقرير والتصوير، لأن الأعناق موضع الخضوع. وقيل: إنها لما وصفت الأعناق بصفات العقلاء أجريت مجراهم، ووصفت بما يوصفون به.
قال عيسى بن عمر: وخاضعين وخاضعة سواء واختاره المبرد، والمعنى أنها إذا ذلت رقابهم ذلوا، فالإخبار عن الرقاب إخبار عن أصحابها، ويسوغ في كلام العرب أن يترك الخبر عن الأول ويخبر عن الثاني.
وقال أبو عبيد والكسائي: إنّ المعنى خاضعيها هم وضعفه النحاس. وقال مجاهد: أعناقهم كبراؤهم. قال النحاس: وهذا معروف في اللغة، يقال جاءني عنق من الناس، أي: رؤساء منهم وقال أبو زيد، والأخفش: أعناقهم جماعاتهم، يقال: جاءني عنق منهم أي: جماعة، وقال ابن عباس: خاضعين ذليلين.(9/362)
وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (5)
(وما يأتيهم من) مزيدة لتأكيد المعنى (ذكر من الرحمن) لابتداء الغاية (محدث) إنزاله، وكلما نزل شيء من القرآن بعد شيء فهو أحدث من الأول.(9/362)
(إلاّ كانوا عنه معرضين) أي إنه لا يجدد لهم موعظة وتذكيراً إلا جددوا ما هو نقيض المقصود، وهو الإعراض والتكذيب والاستهزاء والجملة حالية، والاستثناء مفرغ من أعم العام. وقد تقدم تفسير مثل هذه الآية في سورة الأنبياء.(9/363)
فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (6)
(فقد كذبوا) بالذكر الذي يأتيهم تكذيباً صريحاً، ولم يكتفوا بمجرد الإعراض. وقيل: إن الإعراض بمعنى التكذيب لأن من أعرض عن شيء ولم يقبله فقد كذبه، وعلى هذا فيكون ذكر التكذيب للدلالة على صدور ذلك منهم على وجه التصريح، والأول أولى. فالإعراض عن الشيء عدم الالتفات إليه.
ثم انتقلوا عن هذا إلا ما هو أشد منه وهو التصريح بالتكذيب، ثم انتقلوا عن التكذيب إلى ما هو أشد منه وهو الاستهزاء كما يدل عليه قوله: (فسيأتيهم أنباء) وهي ما يستحقونه من العقوبة آجلاً وعاجلاً، وسميت أنباء لكونها مما أنبأ عنه القرآن وقال:
(ما كانوا به يستهزءون) ولم يقل: ما كانوا عنه معرضين، أو: ما كانوا به يكذبون، لأن الاستهزاء أشد منهما، ومستلزم لهما، وفي هذا وعيد شديد، وقد مرّ تفسير مثل هذا في سورة الأنعام. ثم ذكر سبحانه ما يدل على كمال قدرته من الأمور الحسية، التي يحصل بها للمتأمل فيها، والناظر إليها، والمستدل بها أعظم دليل، وأوضح برهان، وبيَّن أنه أظهر لهم أدلة تحدث في الأرض وقتاً بعد وقت تدل على توحيده، ومع ذلك استمر أكثرهم على الكفر فقال:(9/363)
أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (7)
(أولم يروا) الهمزة للتوبيخ، والواو للعطف على مقدر، كما في نظائره (إلى الأرض) أي: إلى عجائبها وبينَّ بعضها بقوله (كم أنبتنا فيها) أي: كثيراً (من كل زوج كريم) فنبه سبحانه على عظمته وقدرته، وأن هؤلاء(9/363)
المكذبين المستهزئين لو نظروا حق النظر لعلموا أنه سبحانه الذي يستحق أن يعبد، والمراد بالزوج هنا الصنف والنوع، وقال الفراء: هو اللون. وقال الزجاج: زوج نوع، وكريم محمود. والمعنى من كل زوج نافع، لا يقدر على إنباته إلا رب العالمين، إذ ما من نبت إلا وله النفع. والكريم في الأصل الحسن الشريف، يقال: نخلة كريمة، أي: كثيرة الثمرة، ورجل كريم، شريف فاضل، وكتاب كريم؛ إذا كان مرضياً في معانيه، والنبات الكريم هو المرضي في منافعه.
قال الشعبي: الناس مثل نبات الأرض فمن صار منهم إلى الجنة فهو كريم، ومن صار منهم إلى النار فهو لئيم. وفائدة الجمع بين كلمتي الكثرة والإحاطة أن كلمة كل تدل على الإحاطة بأزواج النبات على سبيل التفصيل، و (كم) تدل على أن هذا المحيط متكاثر مفرط الكثرة، وبه نبه على كمال قدرته. قاله الزمخشري، وإليه أشار في التقرير.(9/364)
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (8)
(إن في ذلك لآية) أي: فيما ذكر من الإنبات، أو في كل واحد من تلك الأزواج لدلالة بينة وعلامة واضحة على كمال قدرة الله سبحانه، وبديع صنعته، واللام زائدة في اسم إن المؤخر. وقد ذكرت هذه الآية في هذه السورة ثمان مرات، ثم أخبر سبحانه بأن أكثر هؤلاء مستمر على ضلالته، مصمم على جحوده وتكذيبه واستهزائه فقال:
(وما كان أكثرهم مؤمنين) أي: سبق علمي فيهم أنهم سيكونون هكذا، فلذلك لا تنفعهم أمثال هذه الآيات العظام. قال سيبويه: إن (كان) هنا صلة أي: زائدة.(9/364)
وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (9)
(وإن ربك لهو العزيز الرحيم) أي: الغالب القاهر لهؤلاء بالانتقام منهم، مع كونه كثير الرحمة، ولذلك أمهلهم ولم يعاجلهم بالعقوبة، أو المعنى أنه منتقم من أعدائه رحيم بأوليائه.(9/364)
وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلَا يَتَّقُونَ (11) قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (12) وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ (13) وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (14) قَالَ كَلَّا فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (15) فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (16) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (17) قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (18) وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (19)(9/365)
وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10)
(وإذ نادى ربك موسى) مستأنفة مسوقة لتقرير ما قبلها من الإعراض والتكذيب والاستهزاء وشروع في قصص سبع:
أولها: قصة موسى.
والثانية: قصة إبراهيم.
والثالثة: قصة نوح.
والرابعة: قصة هود.
والخامسة: قصة صالح.
والسادسة: قصة لوط.
والسابعة: قصة شعيب، والتقدير: واتل إذ نادى أو اذكر يا محمد والنداء الدعاء أي: نادى حين رأى الشجرة والنار وكان النداء بكلام سمعه من كل الجهات من غير واسطة.
(أن) مفسرة أو مصدرية، أي: بأن (ائت القوم الظالمين). وليس هذا مطلع ما ورد في حيز النداء، وأنما هو ما فصل في سورة طه من قوله: إني أنا ربك - إلى قوله لنريك من آياتنا الكبرى، ووصفهم بالظلم لأنهم جمعوا بين الكفر(9/365)
الذي ظلموا به أنفسهم، وبين المعاصي التي ظلموا بها غيرهم، كاستعباد بني إسرائيل وذبح أبنائهم، وكانوا في ذلك الوقت ستمائة ألف وثلاثين ألفاً.(9/366)
قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلَا يَتَّقُونَ (11)
(قوم فرعون) يعني القبط، عطف بيان. كان معنى القوم الظالمين وترجمته قوم فرعون، وكأنهما عبارتان تعتقبان على مؤدى واحد.
(ألا يتقون) أي: ألا يخافون عقاب الله سبحانه، فيصرفون عن أنفسهم عقوبته بطاعته. وقيل: المعنى قل لهم: ألا تتقون. وجاء بالتحتية لأنهم غيب وقت الخطاب. وقرئ بالفوقية أي قل لهم ذلك ومثله قل للذين كفروا ستغلبون بالتحتية والفوقية أو ائتهم زاجراً فقد آن لهم أن يتقوا، وهي كلمة حث وإغراء. وقيل: يظلمون غير متقين الله وعقابه، وعلى هذا حال من الضمير في الظالمين.(9/366)
قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (12)
(قال) موسى، واعتذر بثلاثة أعذار كل منها مرتب على ما قبله، وليس مراده الامتناع من الرسالة، بل إظهار العجز عن هذا الأمر الثقيل، وطلب المعونة عليه من الله.
(رب إني أخاف أن يكذبون) في الرسالة، والخوف غم يلحق الإنسان لأمر سيقع.(9/366)
وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ (13)
(ويضيق صدري) بتكذيبهم إياي.
(ولا ينطلق لساني) أي بتأدية الرسالة لعقدة كانت على لسانه، قرئ يضيق وينطلق، بالرفع على العطف، أو على الاستئناف وبنصبهما. قال الفراء: كلتا القراءتين لها وجه. قال النحاس: الوجه الرفع، لأن النصف عطف على (يكذبون) وهذا بعيد.
(فأرسل) جبريل بالوحي (إلى) أخي (هارون) ليكون معي رسولاً موازراً مظاهراً معاوناً، ولم يذكر الموازرة هنا لأنها معلومة من غير هذا الموضع، كقوله في طه: (واجعل لي وزيراً من أهلي). وفي القصص: (أرسله معي ردءاً يصدقني). وكان هارون بمصر حين بعث موسى نبياً بالشام، وهذا من موسى عليه السلام من باب طلب المعاونة له، والتماس العون في تبليغ الرسالة بإرسال(9/366)
أخيه، لا من باب الاستعفاء من الرسالة، ولا من التوقف عن المسارعة بالامتثال، وكفى بطلب العون دليلاً على التقبل لا على التقلل.(9/367)
وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (14)
(ولهم عليَّ ذنب) هو قتله للقبطي، قال قتادة: وسماه ذنباً بحسب زعمهم، أو كما سمى جزاء السيئة سيئة.
(فأخاف أن يقتلون) به قصاصاً فيفوت المقصود من الرسالة: فهذا هو الخائف عليه، وليس هذا تعللاً أيضاً، بل استدفاع للبلية المتوقعة، وفيه دليل على أن الخوف قد يحصل مع الأنبياء فضلاً عن الفضلاء، ثم أجابه سبحانه بما يشتمل على نوع من الرح. وطرف من الزجر.(9/367)
قَالَ كَلَّا فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (15)
(قال كلا) أي لا يقتلونك كأنه قيل. ارتدع عما تظن (فاذهبا) أي أنت وأخوك (بآياتنا) وفي ضمن هذا الجواب إجابة موسى إلى ما طلبه من ضم أخيه إليه كما يدل عليه توجيه الخطاب إليهما، وفيه تغليب الحاضر على الغائب، لأنه إذ ذاك كان بمصر. والإرسال والخطاب كان في الطور.
(إنا معكم) وفي هذا تعليل للردع عن الخوف، وهو كقوله سبحانه: إنني معكما أسمع وأرى، وأراد بذلك سبحانه تقوية قلوبهما، وأنه متول لحفظهما وكلاءتهما، وأجراهما مجرى الجمع فقال: (معكم) لكون الاثنين أقل الجمع على ما يذهب إليه بعض الأئمة أو لكونه أراد موسى وهارون ومن أرسلا إليه. ويجوز أن يكون المراد هما مع بني إسرائيل، أو تعظيماً لهما، ولا يخفى ما في المعية من المجاز لأن المصاحبة من صفات الأجسام، فالمراد معية النصرة والمعونة.
(مستمعون) أي: سامعون ما تقولون وما يقال لكم، والاستماع في غير هذا، الإصغاء للسماع يقال: استُمع فلان حديثه أي: أصغي إليه، ولا يجوز حمله هاهنا على ذلك، فحمل على السماع، قاله النسفي.(9/367)
فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (16)
(فأتيا فرعون فقولا إنا رسول رب العالمين) الفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها. قال القرطبي: فانطلقا إلى فرعون فلم يأذن لهما سنة في الدخول عليه،(9/367)
ووحّد الرسول هنا، ولم يثنه كما في قوله إنا رسولا ربك، لأنه مصدر بمعنى رسالة والمصدر يوحد، وأما إذا كان بمعنى المرسل فإنه يثنى مع المثنى ويجمع مع الجمع، قال أبو عبيدة رسول بمعنى رسالة، والتقدير على هذا إنا ذوو رسالة. وقال أبو عبيدة أيضاً يجوز أن يكون الرسول بمعنى الاثنين والجمع، تقول العرب هذا رسولي ووكيلي، وهذان رسولي ووكيلي، وهؤلاء رسولي ووكيلي، ومنه قوله تعالى: فإنهم عدو لي. وقيل: إن معناه أن كل واحد منا رسول.
وقيل: إنهما لما كانا متعاضدين متساعدين في الرسالة كانا بمنزلة رسول واحد، وأن في قوله(9/368)
أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (17)
(أن أرسل معنا بني إسرائيل) مفسرة لتضمن الإرسال المفهوم من الرسول معنى القول، أي: خلهم، واطلقهم معنا إلى أرض فلسطين، ولا تستعبدهم، وكان قد استعبدهم أربعمائة سنة.(9/368)
قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (18)
(قال) فرعون لموسى بعد أن أتياه وقالا له ما أمرهما الله به: (ألم نربّك فينا) أي في حجرنا ومنازلنا أراد بذلك المن عليه والاحتقار له أي: ربيناك لدينا (وليداً) أي: صغيراً قريباً من الولادة بعد فطامك، ولم نقتلك فيمن قتلنا من الأطفال.
(ولبثت فينا من عمرك سنين) فمتى كان هذا الذي تدعيه؟ قيل: لبث
فيهم ثماني عشرة سنة، وقيل: ثلاثين سنة، وقيل: أربعين سنة، ثم وبخه
بقتل القبطي فقال:(9/368)
وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (19)
(وفعلت فعلتك التي فعلت) الفعلة بفتح الفاء المرة من الفعل، كما قيل (1) الفعلة للمرة، والفعلة للحالة، وقرأ الشعبي بكسر الفاء. والفتح أولى، لأنها للمرة الواحدة لا للنوع، والمعنى إنه عدد عليه النعم، وذكر له ذنوبه، وأراد بالفعلة قتل القبطي ثم قال: (وأنت من الكافرين) للنعمة حيث قتلت رجلاً من أصحابي، وقيل: من الكافرين بأن فرعون إله، وقيل من الكافرين بالله في زعمه لأنه كان معهم على دينهم.
_________
(1) لعله أراد. كما قيل عن الفعلة للمرة الخ " المطيعي ".(9/368)
قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (20) فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (21) وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (22) قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (23) قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (24) قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ (25) قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (26) قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (27)(9/369)
قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (20)
(قال) موسى مجيباً لفرعون (فعلتها إذاً) أي فعلت هذه الفعلة التي ذكرت وهي قتل القبطي (وأنا) إذ ذاك (من الضالين) أي: الجاهلين قاله ابن عباس فنفى عليه الصلاة والسلام عن نفسه الكفر، وأخبر أنه فعل ذلك على الجهل قبل أن يأتيه العلم الذي علمه الله، وقيل: المعنى من الجاهلين أن تلك الوكزة تبلغ القتل، وقال أبو عبيدة: من الناسين، وقيل: من المخطئين. قال ابن جرير: العرب تضع الضلال موضع الجهل والجهل موضع الضلال.(9/369)
فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (21)
(ففررت منكم) أي خرجت من بينكم إلى مدين كما في سورة القصص (لمّا خفتكم) أن تقتلوني وذلك حين قال له مؤمن من آل فرعون: إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج، الآية.
(فوهب لي ربي) أي نبوة أو علماً وفهماً، وقال الزجاج: المراد بالحكم تيعليمه التوراة التي فيها حكم الله.
(وجعلني من المرسلين) أي من جملة رسله رد بذلك ما وبخه به فرعون قدحاً في نبوته وهو القتل بغير حق ووجه الرد أن موهبة الحكم والنبوة كانت بعد تلك الحادثة.(9/369)
وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (22)
(وتلك نعمة تمنها عليَّ) قيل هذا الكلام من موسى على جهة الإقرار بالنعمة، كأنه قال نعم تلك التربية نعمة تمن بها عليَّ، ولكن لا يدفع ذلك رسالتي، وبهذا(9/369)
قال الفراء وابن جرير.
وقيل: هو من موسى على جهة الإنكار أي أتمنّ عليَّ بأن ربيتني وليداً، وأنت قد استعبدت بني إسرائيل وقتلتهم، وهم قومي قال الزجاج: المفسرون أخرجوا هذا على جهة الإنكار لأن يكون ما ذكر فرعون نعمة على موسى، واللفظ لفظ خبر، وفيه تبكيت للمخاطب على معنى أنك لو كنت لا تقتل أبناء بني إسرائيل لكانت أمي مستغنية عن قذفي في البحر، فكأنك تمنّ على ما كان بلاؤك سبباً له، وذكر نحوه الأزهري بأبسط منه.
وقال المبرد: يقول. التربية كانت بالسبب الذي ذكرت من التعبّد، أي: تربيتك إياي كانت لأجل التملك والقهر لقومي. وقيلْ إن في الكلام تقدير الاستفهام، أي: أو تلك نعمة؛ قاله الأخفش وأنكره النحاس قال الفراء: ومن قال: إن الكلام إنكار قال: أو تلك نعمه؟ أي ليست هذه نعمة حتى تمنّ بها عليّ.
ومعنى (أن عبدت بني إسرائيل) أن اتخذتهم عبيداً، يقال عبّدته وأعبدته بمعنى كذا قال الفراء، ومحله الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أو بدل من نعمة، والجر بإضمار الباء، والنصب بحذفها، وعن مجاهد قال: عبدّت بني إسرائيل وقهرتهم واستعملتهم. وفيه أوجه سبعة ذكرها السمين.(9/370)
قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (23)
(قال فرعون وما رب العالمين) أي لما سمع قول موسى وهارون (إنّا رسول رب العالمين) قال مستفسراً لهما عن ذلك، عازماً على الاعتراض لما قالاه، أي: أي شيء هو؟ وجاء في الاستفهام بـ (ما) التي يستفهم بها عن المجهول، ويطلب بها تعيين الجنس. وقيل: معناه وما صفته؟ تقول ما زيد؟ أي طويل أم قصير؟ فقيه أم طبيب؟ نص عليه صاحب الكشاف وغيره.
فلما قال فرعون ذلك(9/370)
قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (24)
(قال) موسى: (رب السماوات والأرض وما بينهما) أي بيّن الجنسين فعيّن له ما أراد بالعالمين، وترك جواب ما سأل عنه فرعون لأنه سأل عن جنس رب العالمين، ولا جنس له، فأجابه موسى بما يدل على عظيم القدرة الإلهية التي تتضح لكل سامع أنه سبحانه الربّ ولا ربّ غيره، وفيه إبطال(9/370)
لدعواه أنه إله.
(إن كنتم موقنين) بشيء من الأشياء فهذا أولى بالإيقان، لظهوره، وإنارة دليله، وهو العلم الذي يستفاد بالاستدلال، ولذا لا يقال الله موقن.(9/371)
قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ (25)
(قال) فرعون (لمن حوله) من أشراف قومه وهم خمسمائة رجل عليهم الأساور وكانت للملوك خاصة (ألا تستمعون)؟ ما قاله، يعني موسى معجباً لهم من ضعف المقالة، كأنه قال: أتسمعون وتعجبون؟ يعني سألته عن حقيقته وهو يذكر أفعاله، أو يزعم أنه ربّ السماوات، وهي واجبة متحركة لذاتها كما هو مذهب الدهرية، أو غير معلوم افتقارها إلى مؤثر. والعدول عن الجواب المطابق متعين لاستحالته. فالسؤال عن الحقيقة سفه وعبث وحمق، وهذا من اللعين مغالطة لما لم يجد جواباً عن الحجة التي أوردها عليه موسى، فلما سمع موسى ما قاله فرعون أورد عليه حجة أخرى، هي مندرجة تحت الحجة الأولى، ولكنها أقرب إلى فهم السامعين.(9/371)
قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (26)
(قال ربكم ورب آبائكم الأولين) وخص من العام المتقدم أنفسهم وآباءهم لأن أقرب المنظور فيه من العاقل نفسه ومن ولد منه. وهي أظهر دلالة على القادر فأوضح لهم أن فرعون مربوب لا رب كما يدعيه.
والمعنى أن هذا الرب الذي أدعوكم إليه هو الذي خلق آباءكم الأولين وخلقكم، فكيف تعبدون من هو واحد منكم؟ مخلوق كخلقكم، وله آباء قد فنوا كآبائكم، فلم يجبه فرعون عند ذلك بشيء يعتدّ به، بل جاء بما يشكك قومه ويخيل إليهم أن هذا الذي قاله موسى مما لا يقوله العقلاء.(9/371)
قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (27)
(قال إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون) قاصداً بذلك المغالطة وإيقاعهم في الحيرة، مظهراً أنه مستخفّ بما قاله موسى مستهزئ به، لأني أسأله عن شيء ويجيبني عن آخر، وأضافه إلى مخاطبيه ترفعاً عن أن يكون مرسلاً إلى نفسه فأجابه موسى عند ذلك بما هو تكميل لجوابه الأول.(9/371)
قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (28) قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (29) قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (30) قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (31) فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (32) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (33) قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (34) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (35) قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (36) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ (37) فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (38) وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ (39)(9/372)
قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (28)
(قال رب المشرق والمغرب وما بينهما) خصهما لأنهما أوضح دلالة وأظهر، وذلك أنه أراد بالمشرق طلوع الشمس وطلوع النهار، وأراد بالمغرب غروب الشمس وزوال النهار، ومعلوم أن طلوع الشمس من أحد الخافقين، وغروبها في الآخر على تقدير مستقيم، لا يكون إلا بتقدير قادر حكيم، والمعنى ليس ملكه كملكك لأنك إنما تملك بلداً واحداً لا يجري أمرك في غيره، ويموت فيه من لا تحب أن يموت.
والذي أرسلني، يملك المشرق والمغرب وما بينهما، أي فتشاهدون في كل يوم أنه يأتي بالشمس من المشرق، ويحركها على مدار غير مدار اليوم الذي قبله، حتى يبلغها إلى المغرب على وجه نافع تنتظم به أمور الكائنات، ولم يشتغل موسى بدفع ما نسبه إليه من الجنون، بل بين لفرعون شمول ربوبية الله للمشرق والمغرب وما بينهما، وإن كان ذلك داخلاً تحت ربوبيته سبحانه للسموات والأرض وما بينهما لما تقدم، ولأن فيه تصريحاً بإسناد حركات السماوات وما فيها وتغيير أحوالها وأوضاعها، تارة بالنور، وتارة بالظلمة إلى الله، وقيل علم موسى أن قصده. في السؤال معرفة من سأل عنه(9/372)
فأجاب بما هو الطريق إلى معرفة الرب.
(إن كنتم تعقلون) شيئاًً من الأشياء، أو إن كنتم من أهل العقول أي إن كنت يا فرعون ومن معك من العقلاء، عرفت وعرفوا أنه لا جواب لسؤالك إلا ما ذكرت لك، لاينهم أولاً، وعاملهم بالرفق، حيث قال لهم (إن كنتم موقنين) ثم لما رأى شدة شكيمتهم، خاشنهم واغلظ عليهم في الرد، وعارضهم بمثل مقالتهم بقوله: (إن كنتم تعقلون) لأنه أبلغ وأوفق بما قبله من رد نسبة الجنون إليه، ثم إن اللعين لما انقطع عن الحجة رجع إلى الاستعلاء والتغلب والتهديد، وهكذا ديدن المعاند المحجوج.(9/373)
قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (29)
(قال لئن اتخذت إلهاً غيري لأجعلنّك من المسجونين) أي: من أهل السجن، واللام للعهد، أي ممن عرفت حالهم في سجوني. وكان سجن فرعون أشد من القتل، لأنه إذا سجن أحداً لم يخرجه حتى يموت، وكان يطرحه في هوة عميقة في مكان تحت الأرض وحده. ولذلك (أجعل) أبلغ من (لأسجننك) فتوعد موسى بالسجن، ولم يقل ما دليلك على أن هذا الإله أرسلك، لأن فيه الاعتراف بأن ثمة إلهاً غيره، وفي توعده بالسجن ضعف، لما يروى أنه كان يفزع من موسى فزعاً شديداً، حتى كان اللعين لا يمسك بوله فلما سمع موسى عليه الصلاة والسلام ذلك لاطفه طمعاً في إجابته، وإرخاء لعنان المناظرة معه، مريداً لقهره بالحجة المعتبرة في باب النبوة، وهي إظهار المعجزة، فعرض له على وجه يلجئه إلى طلب المعجزة.(9/373)
قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (30)
(قال أو لو جئتك بشيء مبين) أي: اتجعلني من المسجونين؟ وتفعل ذلك؟ ولو جئتك بشيء يتبين به صدقي، وتظهر عنده صحة دعواي؟ يعني المعجزة فإنها الجامعة بين الدلالة على وجود الصانع وحكمته، وبين الدلالة على صدق دعوى من ظهرت على يده. والهمزة هنا للاستفهام، والواو للعطف على مقدر كما مر مراراً، فلما سمع فرعون ذلك طلب ما عرضه عليه موسى.(9/373)
قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (31)
(قال فأت به إن كنت من الصادقين) في دعواك وإنما أمره بذلك لظنه أنه(9/373)
يقدر على معارضته وهذا الشرط جوابه محذوف، لأنه قد تقدم ما يدل عليه، فعند ذلك أبرز موسى المعجزة.(9/374)
فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (32)
(فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين) أي: ظاهر ثعبانيته ليس بتمويه وتخييل كما يفعل السحرة.
قيل: إنها لما صارت حية ارتفعت في السماء قدر ميل. ثم انحطت مقبلة إلى فرعون، فقال بالذي أرسلك إلا أخذتها، فأخذها موسى فعادت عصا كما كانت، وقد تقدم تفسير هذا وما بعده في سورة الأعراف واشتقاق الثعبان من ثعبت الماء في الأرض فانثعب، أي: فجرته فانفجر، وقد عبر سبحانه في موضع آخر مكان الثعبان بالحية بقوله: (فإذا هي حية تسعى) وفي موضع بالجان، فقال: (كأنها جانٌ) والجانّ هو المائل إلى الصغر، والثعبان هو المائل إلى الكبر، والحية جنس يشمل الكبير والصغير.(9/374)
وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (33)
(ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين) خلاف ما كانت عليه من الأدمة (1) فيه دليل على أن بياضها كان شيئاًً يجتمع النظارة على النظر إليه لخروجه عن العادة، وكان بياضها نورياً، قال ابن عباس يقول: وأخرج موسى يده من جيبه، فإذا هي بيضاء تلمع للناظرين لمن ينظر إليها ويراها من غير برص، لها شعاع كشعاع الشمس يكاد يغشي الأبصار، ويسد الأفق.
_________
(1) السمرة.(9/374)
قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (34)
(قال للملأ) مستقرين (حوله إن هذا لساحر عليم) فائق في علم السحر، وكان زمان السحر فلهذا روج فرعون هذا القول على قوله، ثم قال على سبيل التنفير:(9/374)
يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (35)
(يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره) لئلا يقبلوا قول موسى عليه الصلاة والسلام.
(فماذا تأمرون) أي ما رأيكم فيه؟ وما مشورتكم في مثله؟ فأظهر لهم الميل إلى ما يقولونه تألّفاً لهم، واستجلاباً لمودتهم، لأنه قد أشرف ما كان فيه من دعوى الربوبية على الزوال، وقارب ما كان يعزز به عليهم الاضمحلال، وإلا(9/374)
فهو أكبر تيهاً، وأعظم كبراً من أن يخاطبهم مثل هذه المخاطبة، المشعرة بأنه فرد من أفرادهم، وواحد منهم، مع كونه قبل هذا الوقت يدعي أنه إلههم، ويذعنون له بذلك ويصدقونه في دعواه.
قال أبو السعود: بهره سلطان المعجزة، وحيره حتى حطه عن ذروة ادعاء الربوبية إلى حضيض الخضوع لعبيده في زعمه، والامتثال بأمرهم، أو إلى مقام مؤامرتهم ومشاورتهم، بعد ما كان مستقلاًّ بالرأي والتدبير، وأظهر استشعار الخوف من استيلائه على ملكه، ونسبة الإخراج والأرض إليهم لتنفيرهم عن موسى عليه السلام.(9/375)
قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (36)
(قالوا أرجه وأخاه) أخرّ أمرهما، من أرجيته إذا أخرته. وقيل المعنى احبسهما (وابعث في المدائن حاشرين) للسحرة، وهم الشَرِط الذين يحشرون الناس، أي يجمعونهم(9/375)
يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ (37)
(يأتوك بكل سحار عليم) هذا ما أشاروا به عليه، وجاءوا بكلمة الإحاطة وصيغة المبالغة ليسكنوا بعض قلقه. والمراد بالسحار العليم الفائق في معرفة السحر وصنعته، أي: يفضل موسى ويفوق ويزيد عليه في علم السحر.(9/375)
فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (38)
(فجمع السحرة لميقات يوم معلوم) هو يوم الزينة كما في قوله: (قال موعدكم يوم الزينة. وكان يوم عيد لهم أو يوم سوق، وميقاته وقت الضحى لأنه الوقت الذي وقته لهم موسى من يوم الزينة حيث قال: (وأن يحشر الناس ضحى) والميقات ما وقت، أي حد من زمان، أو مكان. ومنه مواقيت الإحرام والصلاة.(9/375)
وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ (39)
(وقيل للناس هل أنتم مجتمعون)؟ حثّاً لهم على الاجتماع ليشاهدوا ما يكون من موسى والسحرة، ولمن تكون الغلبة، وكان ذلك ثقة من فرعون بالظهور؛ وطلباً أن يكون بمجمع من الناس حتى لا يؤمن بموسى أحد منهم، فوقع ذلك من موسى الموقع الذي يريده، لأنه يعلم أنّ حجة الله هي الغالبة وحجة الكافرين هي الداحضة، وفي ظهور حجة الله بمجمع من الناس زيادة في الاستظهار للمحقين، والانقهار للمبطلين.(9/375)
لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ (40) فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (41) قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (42) قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ (43) فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ (44) فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (45) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (46) قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (47)(9/376)
لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ (40)
(لعلنا نتبع السحرة) في دينهم (إن كانوا هم الغالبين) لا موسى عليه السلام؛ وليس مرادهم بذلك أن يتبعوا دينهم حقيقة؛ وإنما هو أن لا يتبعوا موسى عليه السلام، لكنهم ساقوا كلامهم مساق الكناية حملاً لهم على الاهتمام والجد في المبالغة. قاله أبو السعود. وقيل أراد بالسحرة موسى وهارون على طريقة الاستهزاء.(9/376)
فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (41)
(فلما جاء السحرة) أي فعند ذلك طلب السحرة من فرعون الجزاء على ما سيفعلونه (وقالوا لفرعون أئن لنا لأجراً)؟ أي: لجزاء تجزينا به من مال أو جاه وقيل: أرادوا أن لنا ثواباً عظيماً، ثم قيدوا ذلك بظهور غلبتهم لموسى فقالوا (إن كنا نحن الغالبين) فوافقهم فرعون على ذلك.
و(9/376)
قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (42)
(قال نعم وإنكم إذاً لمن المقربين) أي نعم، لكم ذلك الأجر والجعل عندي، على عملكم السحر مع زيادة عليه، وهي كونكم من المقربين لديّ.(9/376)
قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ (43)
(قال لهم موسى ألقوا ما أنتم ملقون) من السحر، فسوف ترون عاقبته. وفي آية أخرى (قالوا إما أن تلقي وإما أن نكون نحن الملقين)، فيحمل ما هاهنا على أنه قال لهم ألقوا بعد أن قالوا هذا القول، ولم يكن ذلك من موسى عليه السلام أمراً لهم بفعل السحر والتمويه، بل أراد أن يقهرهم(9/376)
بالحجة، توسلاً إلى إظهار الحق، ويظهر لهم أن الذي جاء به ليس هو من الجنس الذي أرادوا معارضته به.(9/377)
فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ (44)
(فألقوا حبالهم وعصيهم) سبعين ألف حبل وسبعين ألف عصا وقيل كانت الحبال اثنين وسبعين ألفاً وكذا العصي، فيخيلون أنها حيات تسعى (وقالوا) عند الإلقاء (بعزة فرعون) أقسموا بعزته وقوته. وهو من أيمان الجاهلية. وقولهم هذا يحتمل وجهين؛ الأول: أنه قسم، وجوابه ما بعده والثاني: إن يتعلق بمحذوف والباء للسببية والمراد بالعزة العظمة (إنا لنحن الغالبون) أي: نغلب بسبب عزته لفرط اعتقادهم في أنفسهم بالغلبة؛ وإتيانهم بأقصى ما يمكن أن يؤتى به من السحر.(9/377)
فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (45)
(فألقى موسى عصاه فإذا هي تلقف ما يأفكون) قد تقدم تفسير هذا مستوفى؛ والمعنى أنها تبتلع وتلقف ما صدر منهم من الإفك؛ بإخراج الشيء عن صورته الحقيقية. قيل أن عصا موسى صارت حية وابتلعت كل ما رموه من حبالهم وعصيهم ثم أخذها موسى فإذا هي كما كانت أول مرة.(9/377)
فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (46)
(فألقي السحرة) أي فخروا وسقطوا (ساجدين) أي لما شاهدوا ذلك علموا أنه صنيع صانع حكيم. ليس من صنيع البشر؛ ولا من تمويه السحرة فآمنوا بالله وسجدوا له. وأجابوا دعوة موسى وقبلوا نبوّته. وعبّر عن الخرور بالإلقاء بطريق المشاكلة لأنه ذكر مع الإلقاءات؛ ولأنهم لسرعة ما سجدوا صاروا كأنهم ألقوا وأخذوا فطرحوا على وجوههم، وأنه تعالى ألقاهم بما خولهم من التوفيق. وقد تقدم بيان معنى ألقى ومن فاعله، لوقوع التصريح به.
قال الشهاب ففي (فألقي) استعارة تبعية حسنها المشاكلة، وليس مجازاً مرسلاً وإن احتمله النظم، ووجه الشبه عدم التمالك.(9/377)
قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (47)
(قالوا) عند سجودهم، بدل اشتمال من (ألقى) أو حال بإضمار قد: (آمنا برب العالمين) قال عكرمة أمسوا سحرة وأصبحوا شهداء.(9/377)
رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (48) قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (49) قَالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (50) إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ (51) وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (52) فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (53) إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54) وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ (55) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ (56) فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (57) وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (58)(9/378)
رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (48)
(رب موسى وهارون) بدل للتوضيح والإشعار بأن سبب إيمانهم ما أجراه الله تعالى على يدهما، لعلمهم بأن ما شاهدوه من العصا لا يتأتى بالسحر، وأضافوه سبحانه إليهما لأنهما القائمان بالدعوة في تلك الحالة. وفيه تبكيت لفرعون، فإنه ليس برب وإن الرب في الحقيقة هو هذا. فلما سمع فرعون ذلك منهم ورأى سجودهم لله.(9/378)
قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (49)
(قال آمنتم له قبل أن آذن لكم)؟ أي بغير إذن مني، قال ذلك لما خاف على قومه أن يتبعوا السحرة، ثم قال مغالطاً للسحرة الذين آمنوا وموهماً للناس أن فعل موسى سحر من جنس ذلك السحر.
(إنه لكبيركم الذي علمكم السحر) وإنما اعترف له بكونه كبيرهم، مع كونه لا يحب الاعتراف بشيء يرتفع به شأن موسى، لأنه قد علم كل من حضر أن ما جاء به موسى أبهر مما جاء به السحرة، فأراد أن يشكك على الناس بأن هذا الذي شاهدتم، وإن كان قد فاق على ما فعله هؤلاء السحرة فهو فعل كبيرهم، وهو من أستاذهم الذي أخذوا عنه هذه الصناعة، فلا(9/378)
تظنوا أنه فعل لا يقدر عليه البشر، وأنه من فعل الرب الذي يدعو إليه موسى، ولا تعتقدوا أنّ السحرة آمنوا على بصيرة، وظهور حق، يعني أن غلبته عليكم لم تكن بالعجز الإلهي، بل بما لم يعلمكم من السحر، وأنتم لضعف عقولكم حسبتم أنه غلبكم بغير جنس السحر، فآمنتم.
ثم توعد أولئك السحرة الذين آمنوا بالله لما قهرتهم حجة الله فقال: (فلسوف تعلمون) وبال ما فعلتم وما ينالكم مني. أجمل التهديد أولا للتهويل، ثم فصله فقال:
(لأقطعنّ أيديكم وأرجلكم من خلاف) أي من أجل خلافٍ ظهر منكم. وقيل: أي يد كل واحد اليمنى ورجله اليسرى (ولأصلبنّكم أجمعين) كأنه أراد به ترهيب العامة لئلا يتبعونهم في الإيمان. قيل: إنه فعل بهم ما توعدهم به من التقطيع والتصليب وقيل: لم يفعله بهم ولم يرد في القرآن ما يدل على أنه فعل بهم ذلك، فلما سمعوا ذلك من قوله(9/379)
قَالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (50)
(قالوا لا ضير) أي لا ضرر علينا فيما يلحقنا من عقاب الدنيا، فإن ذلك يزول، ولا بد من الانقلاب بعده إلى ربنا، فيعطينا من النعيم الدائم ما لا يُحَدُّ ولا يوصف. قال الهروي: لا ضير ولا ضرر ولا ضر، بمعنى واحد، قال الجوهري: ضاره يضوره ويضيره ضيراً وضوراً أي ضره، قال الكسائي سمعت بعضهم يقول لا ينفعني ذلك ولا يضورني، قال أبو زيد: لا يضيرنا الذي تقول وإن صنعت بنا وصلبتنا.
(إنا إلى ربنا منقلبون) أي راجعون، وهو مجازينا لصبرنا على عقوبتك إيانا، وثباتنا على توحيده، والبراءة من الكفر قاله أبو زيد، تعليل لعدم الضير أي لا ضير في ذلك، بل لنا فيه نفع عظيم، لما يحصل لنا في الصبر عليه لوجه الله تعالى من تكفير الخطايا والثواب العظيم، أو لا ضير علينا فيما(9/379)
تتوعدنا به من القتل؛ إذ لا بد لنا من الانقلاب إلى ربنا بسبب من أسباب الموت، والقتل أهونها وأرجاها.(9/380)
إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ (51)
(إنّا نطمع) أي نرجو (أن يغفر لنا ربنا خطايانا) أي الكفر والسحر، ثم علّلوا هذا بقولهم: (أن كنا) أي بسبب أن كنا (أول المؤمنين) أي: أنهم أول من آمن من قوم فرعون بعد ظهور الآية أو من أهل المشهد.
وقال الفرّاء أول مؤمني زمانهم، وأنكره الزجاج، وقال: قد روي أنه أمن معهم ستمائة ألف وسبعون ألفاً، وهم الذين عناهم فرعون بقوله: إن هؤلاء لشرذمة قليلون قاك أبو زيد: كانوا كذلك يومئذ أول من آمن بآياته حين رأوها.(9/380)
وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (52)
(وأوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي) أمر الله سبحانه موسى أن يخرج ببني إسرائيل ليلاً إلى البحر، أي لا إلى جهة الشام بالبر، وهذا بعد سنين من إيمان السحرة، وسمّاهم عباده لأنهم آمنوا بموسى وبما جاء به. وقد تقدم تفسير مثل هذا في سورة الأعراف.
(إنكم مُتبعون) تعليل للأمر المتقدم، أي: يتبعكم فرعون وقومه ليردوكم أي: أسر بهم حتى إذا اتبعوكم مصبحين، كان لكم تقدم عليهم بحيث لا يدركونكم قبل وصولكم إلى البحر، بل يكونون على أثركم حيث تلجون البحر، فيدخلون مداخلكم فأطبقه عليهم وأغرقهم.(9/380)
فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (53)
(فأرسل فرعون في المدائن حاشرين) وذلك حين بلغه خروجهم، والمراد بالحاشرين الجامعون للجيش من الأمكنة التي فيها أتباع فرعون، ثم قال فرعون لقومه بعد اجتماعهم لديه:(9/380)
إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54)
(إن هؤلاء لشرذمة قليلون) يريد بني إسرائيل والشرذمة الجمع الحقير(9/380)
القليل والجمع شراذم. قال الجوهري: الشرذمة الطائفة القليلة من الناس والقطعة من الشيء وثوب شراذم أي قطع، قال الفراء يقال عصبة قليلة وقليلون وكثيرة وكثيرون. قال المبرد: الشرذمة القطعة من الناس غير الكثير، وجمعها الشراذم.
قال الواحدي: قال المفسرون وكان الشرذمة الذين قللهم فرعون ستمائة ألف، وبه قال ابن عباس ولا يحصى عدد أصحاب فرعون وقال ابن مسعود ستمائة ألف وسبعون ألفاً، ومقدمة جيشه سبعمائة ألف، فقللهم بالنظر إلى كثرة جيشه، وجملة جيشه ألف ألف وستمائة ألف.
وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر عنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان أصحاب موسى الذين جازوا البحر اثني عشر سبطاً فكان في كل طريق اثنا عشر ألفاً كلهم ولد يعقوب.
وأخرج ابن مردويه عنه أيضاً بسند، قال السيوطي واه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " كان فرعون عدو الله حيث أغرقه الله سبحانه هو وأصحابه في سبعين قائداً، مع كل قائد سبعون ألفاً، وكان موسى مع سبعين ألفاً حيث عبروا البحر ".
وعنه قال: كان طلائع قوم فرعون الذين بعثهم في أثرهم ستمائة ألف ليس فيها أحد إلا على بهيم. وأقول هذه الأقوال والروايات المضطربة قد روي عن كثير من السلف ما يماثلها في الاضطراب والاختلاف، ولا يصح منها شيء عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم.(9/381)
وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ (55)
(وإنّهم لنا لغائظون) يقال غاظني كذا، والغيظ الغضب، ومنه التغيظ والاغتياظ، أي غاظونا بخروجهم من غير إذن مني.(9/381)
وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ (56)
(وإنا لجميع حاذرون) أي خائفون من شرّهم، وقرئ (حذرون) قال الفراء الحاذر الذي يحذرك الآن، والحذر المخلوق كذلك، أي مجبولاً على الحذر لا تلقاه إلا حذراً وقال الزجاج الحاذر المستعد، والحذر المتيقظ، وبه قال الكسائي، والمبرد، وذهب أبو عبيدة إلى أن معنى (حاذرون) و (حذرون) واحد. وهو قول سيبويه أي وإنا لجمع من عادتنا الحذر، واستعمال الحزم في الأمور. أشار أولاً إلى عدم ما يمنع اتباعهم من شوكتهم، ثم إلى تحقق ما يدعو إليه من فرط عدوانهم ووجوب التيقظ في شأنهم، حثّاً عليه. أو اعتذر بذلك إلى أهل المدائن كيلا يظن به ما يكسر سلطانه قاله البيضاوي.(9/382)
فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (57)
(فأخرجناهم) أي فرعون وقومه أي خلقنا فيهم داعية الخروج فخرجوا (من جنات وعيون وكنوز) أخرجهم الله من أرض مصر ليلحقوا موسى وقومه. وفيها الجنات والبساتين على جانبي النيل من أسوان إلى رشيد وهي جمع جَنة، وعين، وكنز، والمراد بالكنوز الخزائن، وقيل الدفائن وقيل الأنهار، وفيه نظر؛ لأن العيون المراد بها عند جمهور المفسرين عيون الماء، فتدخل تحتها الأنهار.(9/382)
وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (58)
والمراد بالكنوز الأموال الظاهرة من الذهب والفضة، وسميت كنوزاً لأنه لم يعط حق الله منها، وفي الشهاب المراد بها إما الأموال التي تحت الأرض، وخصها لأن ما فوقها انطمس، أو مطلق المال الذي لم يؤد منه حق الله لأنه يقال له كنز، والأول أوفق باللغة، والثاني مروي عن السلف فلا وجه للتحكم هنا.
(ومقام كريم) أي بهي بهيج واختلف فيه، فقيل المنازل الحسان، وقيل المنابر، قاله ابن عباس، وقيل مجالس الرؤساء والأمراء والوزراء، حكاه ابن عيسى وقيل مرابط الخيل، الأول أظهر، وقال سعيد بن جبير سمعت أن المقام الكريم الفيوم.(9/382)
كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (59) فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (60) فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (62) فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63) وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ (64) وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (65) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (66) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (67) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (68) وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ (69) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ (70) قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ (71) قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72)(9/383)
كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (59)
(كذلك) أي أخرجناهم مثل ذلك الإخراج الذي وصفنا أو مقام كريم مثل ذلك المقام الذي كان لهم أو الأمر كذلك (وأورثناها بني إسرائيل) أي جعلناها ملكاً لهم بعد إغراق فرعون وقومه.
قال الحسن: لما عبروا النهر رجعوا وأخذوا ديارهم وجناتهم وأموالهم وعيونهم وقيل أراد بالوراثة هنا ما استعاروا من حلي آل فرعون بأمر الله تعالى وقيل مساكنهم الحسنة والكنوز (قلت) وكلا الأمرين جعل لهم والحمد لله.(9/383)
فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (60)
(فأتبعوهم) بقطع الهمزة وقرئ بوصلها وتشديد التاء أي فلحقوهم حال كونهم (مشرقين) أي داخلين في وقت الشروق، يقال شرقت الشمس شروقاً أذا طلعت كأصبح وأمسى، أي: دخل في هذين الوقتين وقيل داخلين نحو المشرق كأنجد، واتّهم. وقيل: مضيئين قال الزجاج: يقال شرقت الشمس إذا طلعت، وأشرقت إذا أضاءت.(9/383)
فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61)
(فلما تراءى الجمعان) أي: تقابلا بحيث يرى كل فريق صاحبه، وهو تفاعل من الرؤية. وقرئ (تراءت الفئتان) والمراد بنو إسرائيل والقبط.(9/383)
(قال أصحاب موسى إنا لمدكرون) أي سيدركنا جمع فرعون. ولا طاقة لنا بهم، وهذه قراءة الجمهور. يعني اسم مفعول من أدرك، ومنه (حتى إذا أدركه الغرق) وقرئ بفتح الدال المشددة وكسر الراء، قال الفراء هما بمعنى واحد. قال النحاس ليس كذلك يقول النحويون الحذاق إنما يقولون مدركون بالتخفيف ملحقون وبالتشديد مجتهدون في لحاقهم. قال: وهذا معنى قول سيبويه.
وقال الزمخشري: إن معنى هذه القراءة إنا لمتتابعون في الهلاك على أيديهم حتى لا يبقى منا أحد. قال موسى زجراً لهم وردعاً(9/384)
قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (62)
(كلا) يعني أنهم لا يدركونكم، وذكرهم وعد الله بالهداية والخلاص، والظفر بقوله:
(إنّ معى ربي) بالنصر (سيهدين) أي سيدلّني على طريق النجاة. عن أبي موسى، عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال إنّ موسى لما أراد أن يسير ببني إسرائيل أضلّ الطريق فقال لبني إسرائيل ما هذا؟ فقال له علماء بني إسرائيل: إن يوسف لما حضره الموت أخذ علينا موثقاً أن لا نخرج من مصر حتى ننقل تابوته معنا، فقال لهم موسى أيكم يدري أين قبره؟ فقالوا ما يعلم أحد مكان قبره إلا عجوز لبني إسرائيل، فأرسل إليها موسى فقال: دلينا على قبر يوسف، فقالت لا والله، حتى تعطيني حكمي، قال: وما حكمك؟ قالت: إن أكون معك في الجنة فكأنه ثقل عليه ذلك فقيل له: أعطها حكمها فأعطاها حكمها، فانطلقت بهم إلى بحيرة مستنقعة ماء فقالت لهم؛ انضبوا عنها الماء ففعلوا قالت: احفروا، فحفروا فاستخرجوا قبر يوسف فلما احتملوه إذا الطريق مثل ضوء النهار، فلما عظم البلاء على بني إسرائيل ورأوا من الجيوش ما لا طاقة لهم به، أمر الله سبحانه موسى أن يضرب البحر بعصاه وذلك قوله:(9/384)
فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63)
(فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر) وذلك أن الله عز وجل أراد أن تكون الآية متصلة بموسى، ومتعلقة بفعل يفعله، وإلا فضرب العصا ليس بفارق البحر، ولا معيناً على ذلك بذاته إلا بما اقترن به من قدرة الله(9/384)
تعالى واختراعه، وبه نجا موسى وبنو إسرائيل وهلك عدوهم (فانفلق) الفاء فصيحة، أي: فضرب فصار وانشق اثني عشر فلقاً، بعدد الأسباط، وقام الماء عن يمين الطريق وعن يساره كالجبل العظيم، وهو معنى قوله:
(فكان كل فرق) هو القطعة من البحر، وقرئ (فلق) باللام بدل الراء (كالطود) كالجبل أو عظيمه والجمع أطواد، يقال طاد يطود إذا ثبت (العظيم) أي الضخم بينها مسالك سلكوها، لم يبتل منها سرج الراكب ولا لبده قاله ابن عباس، وابن مسعود.(9/385)
وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ (64)
(وأزلفنا ثَمَّ الآخرين) أي قربناهم إلى البحر قاله ابن عباس، قال أبو عبيدة أزلفنا جمعنا، ومنه قيل لليلة المزدلفة ليلة جمع، وثَمَّ ظرف مكان للبعيد، وقيل: قربنا من النجاة وقرئ (زلفنا) ثلاثياً، وقرئ (أزلقنا) أي أزللنا وأهلكنا، من قولهم، أزلقت الفرس إذا ألقت ولدها، ويعني بالآخرين فرعون وقومه وقيل، المراد بهم موسى وأصحابه والأول أولى.
قيل: كان جبريل بين بني إسرائيل وبين قوم فرعون. يقول لبني إسرائيل ليلحق آخركم أولكم، ويقول للقبط رويداً ليلحق آخركم أولكم فكان بنو إسرائيل يقولون ما رأينا أحسن سياسة من هذا الرجل، وكان القبط يقولون ما رأينا أحسن داع من هذا!.(9/385)
وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (65)
(وأنجينا موسى ومن معه أجمعين) بمرورهم في البحر بعد أن جعله الله طرقاً يمشون فيها(9/385)
ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (66)
(ثم أغرقنا الآخرين) يعني فرعون وقومه، أغرقهم الله بإطباق البحر عليهم، بعد أن دخلوا فيه متبعين موسى وقومه، وخرج بنو إسرائيل منه، وفيه إبطال القول بتأثير الكواكب في الآجال وغيرها من الحوادث، فإنهم اجتمعوا في الهلاك مع اختلاف طوالعهم.(9/385)
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (67)
(إن في ذلك) أي فيما صدر بين موسى وفرعون إلى هذه الغاية (لآية) عبرة عظيمة وقدرة باهرة من أدل العلامات على قدرة الله سبحانه وعظيم سلطانه لمن بعدهم.(9/385)
(وما كان أكثرهم) أي أكثر هؤلاء الذين مع فرعون (مؤمنين) بالله فإنه لم يؤمن منهم فيما بعد إلا القليل كحزقيل وابنته، وآسية امرأة فرعون، والعجوز التي دلت على قبر يوسف وليس المراد أكثر من كان مع فرعون عند لحاقه بوسى، فإنهم هلكوا جميعاً في البحر، بل المراد من كان معه من الأصل، ومن كان متابعاً له، ومنتسباً إليه، هذا غاية ما يمكن أن يقال.
وقال سيبويه وغيره: إنّ (كان) زائدة، وأنّ المراد الإخبار عن المشركين بعد ما سمعوا الموعظة.(9/386)
وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (68)
(وإنّ ربك لهو العزيز) أي المنتقم من أعدائه بإغراقهم (الرحيم) بأوليائه بإنجائهم.(9/386)
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ (69)
(واتل) أي: أقصص يا محمد (عليهم) أي على كفار مكة (نبأ) خبر (إبراهيم) وحديثه(9/386)
إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ (70)
(إذ قال) أي وقت قوله (لأبيه وقومه ما) أي أيُّ شيء (تعبدون) وهو يعلم أنهم يعبدون الأصنام، ولكنه أراد إلزام الحجة وليريهم أنّ ما يعبدونه ليس بمستحق للعبادة، بل بمعزل عنها بالكلية.(9/386)
قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ (71)
(قالوا نعبد أصناماً) افتخاراً ومباهاة بعبادتها (فنظل لها عاكفين) أي فنقيم وندوم على عبادتها، مستمرين طوال النهار، لا في وقت معين. يقال ظل يفعل كذا إذا فعله نهاراً، وبات يفعل كذا إذا فعله ليلاً، فظاهره أنهم يستمرون على عبادتهم نهاراً لا ليلاً والمراد من العكوف لها الإقامة على عبادتها وإنما قال (لها) لإفادة أن ذلك العكوف لأجلها.
فلما قالوا هذه المقالة(9/386)
قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72)
(قال) إبراهيم منبهاً على فساد مذهبهم (هل يسمعونكم إذ تدعون)؟ قال الأخفش المعنى هل يسمعون منكم؟ أو هل يسمعون دعاءكم؟ وقرأ قتادة هل يُسمعونكم؟ بضم الياء أي هل يسمعونكم أصواتهم وقت دعائكم لهم؟ قال الزمخشري إنه على حكاية الحال الماضية، ومعناه استحضروا الأحوال التي كنتم تدعونها فيها، هل سمعوكم إذا دعوتم؟ وهو أبلغ في التبكيت.(9/386)
أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73) قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (74) قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ (77) الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80)(9/387)
أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73)
(أو ينفعونكم)؟ بوجه من وجوه النفع إن عبدتموها (أو يضرون) أي يضرونكم إذا تركتم عبادتها؟ وهذا الاستفهام للتقرير، فإنها إذا كانت لا تسمع ولا تنفع ولا تضر، فلا وجه لعبادتها، فإذا قالوا نعم هي كذلك أقروا بأن عبادتهم لها من باب اللعب والعبث والسفه، وعند ذلك تقوم الحجة عليهم، فلما أورد عليهم الخليل هذه الحجة الباهرة، لم يجدوا لها جواباً إلا رجوعهم إلى التقليد البحت وهو أنهم.(9/387)
قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (74)
(قالوا بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون) هذه العبادة لهذه الأصنام، فقلدناهم مع كونها بهذه الصفة التي هي سلب السمع والنفع والضر عنها، وفي أبي السعود هذا الجواب منهم اعتراف بإنها بمعزل عما ذكر من السمع والمنفعة والمضرة بالمرة، واضطروا إلى إظهار أن لا مستند لهم سوى التقليد أي ما علمنا ولا رأينا منهم ما ذكر من الأمور، بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون، فاقتدينا بهم. انتهى.
قال الخازن: وفي الآية دليل على إبطال التقليد في الدين وذمّهِ، ومدح الأخذ بالاستدلال انتهى. وهذا الجواب هو العصا التي يتوكأ عليها كل عاجز ويمشي بها كل أعرج، ويغتر بها كل مغرور، وينخدع لها كل مخدوع؛ فإنك لو سألت الآن هذه المقلدة للرجال التي طبقت الأرض، بطولها والعرض؛ وقلت لهم: ما الحجة لكم على تقليد فرد من أفراد العلماء؟ والأخذ بكل ما يقوله في الدين ويبتدعه من الرأي المخالف للدليل؟ لم يجدوا غير هذا الجواب ولا فاهوا بسواه، وأخذوا يعدون عليك من سبقهم إلى تقليد هذا من سلفهم، واقتدى بقوله وفعله، وهم قد ملأوا صدورهم هيبة، وضاقت آذانهم عن تصورهم وظنوا أنهم خير أهل الأرض، وأعلمهم وأورعهم فلم(9/387)
يسمعوا لناصح نصحاً ولا لداع إلى الحق دعاء، ولو فطنوا لرأوا أنفسهم في غرور عظيم، وجهل ثشيع وأنهم كالبهيمة (1) العمياء وأولئك الأسلاف كالعمي الذين يقودون البهائم العمي كما قال الشاعر:
كبهيمة عمياء قاد زمامها ... أعمى على عوج الطريق الحائر
فعليك أيها العامل بالكتاب والسنة المبرأ من التعصب والتعسف؛ أن تورد عليهم حجج الله، وتقيم عليهم براهينه، فإنه ربما انقاد لك منهم من لم يستحكم داء التقليد في قلبه، وأما من قد استحكم في قلبه هذا الداء العضال فلو أوردت عليه كل حجة، وأقمت عليه كل برهان، لما أعارك إلا أذناً صماء وعيناً عمياء، ولكنك قد قمت بواجب البيان الذي أوجبه عليك القرآن، والهداية بيد الخلاق العليم، إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء.
ولما قال هؤلاء المقلدة هذه المقالة
_________
(1) هذا كلام لا يليق.(9/388)
قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75)
(قال) الخليل عليه السلام: (أفرأيتم ما كنت تعبدون أنتم وآباؤكم الأقدمون) أي فهل أبصرتم؟ أو تفكرتم وتأملتم فعلمتم ما كنتم تعبدون من هذه الأصنام التي لا تسمع ولا تنفع ولا تضر حتى تعلموا أنكم على ضلالة وجهالة والرؤية هنا مستعملة في معناها الأصلي، وإليه نحا أبو السعود، وصنيع الكازروني يقتضي أنها بمعنى أخبروني، أي أخبروني عن حال ما كنتم تعبدون، هل هو حقيق بالعبادة أولاً؟ وهذا استهزاء بعبدة الأصنام، والفاء فاء السببية تفيد أن ما بعدها وهو العداوة سبب لطلب الإخبار عن حالهم؛ فهي بمعنى اللام، أي: أخبروني عن حالها لأنها عدو لي كما صرح به الرضى في قوله أخرج منها فإنك رجيم ثم أخبرهم بالبراءة من هذه الأصنام التي يعبدونها فقال:(9/388)
فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ (77)
(فإنهم عدو لي) ومعنى كونهم عدواً له مع كونهم جماداً أنه إن عبدهم كانوا له عدواً يوم القيامة، قال الفراء: هذا من المقلوب، أي فإني عدو لهم، لأن من عاديته عاداك. وأسند العداوة إلى نفسه تعريضاً بهم، وهو أنفع في النصيحة من التصريح بأن يقول فإنهم عدو لكم.(9/388)
والعدو كالصديق يطلق على الواحد، والمثنى، والجماعة، والمذكر والمؤنث كذا قال الفراء قال علي بن سليمان من قال عدوة الله فأثبت الهاء قال هي بمعنى المعادية. ومن قال عدو للمؤنث، والجمع، جعله بمعنى النسب وقيل المراد بقوله (فإنهم عدو لي) آباؤهم الأقدمون لأجل عبادتهم للأصنام. ورد بأن الكلام مسوق فيما عبدوه في العابدين.
(إلا) أي لكن (رب العالمين) ليس كذلك، بل هو وليي في الدنيا والآخرة، لا يزال متفضلاً عليّ فيهما قال الزجاج قال النحويون هو استثناء ليس من الأول، وأجاز الزجاج أيضاً أن يكون من الأول على أنهم كانوا يعبدون الله عز وجل ويعبدون معه الأصنام فأعلمهم أنه تبرأ مما يعبدون إلا الله، فإني أعبده.
قال الجرجاني تقديره أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم وآباؤكم الأقدمون؟ إلا رب العالمين، فإنهم عدو لي. فجعله من باب التقديم والتأخير، وجعل (إلا) بمعنى دون وسوى، كقوله (لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى) أي دون الموتة الأولى، وقال الحسن بن الفضل: إن المعنى إلا من عبد رب العالمين، ثم وصف رب العالمين بقوله:(9/389)
الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78)
(الذي خلقني فهو يهدين) أي يرشدني إلى مصالح الدين والدنيا، وطريق النجاة، وقد وصف الخليل ربه بما يستحق العبادة لأجله، فإن الخلق والهداية والرزق الذي يدل عليه قوله:(9/389)
وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79)
(والذي هو يطعمني ويسقين وإذا مرضت فهو يشفين) ودفع المرض وجلب نفع الشفاء، والإماتة والإحياء والمغفرة للذنب، كلها نعم يجب على النعم عليه ببعضها فضلاً عن كلها، أن يشكر النعم بجميع أنواع الشكر التي أعلاها وأولاها العبادة، ودخول هذه الضمائر في صدور هذه الجمل للدلالة على أنه الفاعل لذلك دون غيره، وأسند المرض إلى نفسه دون غيره من هذه الأفعال المذكورة رعاية واستعمالاً للأدب مع الرب كما قال الخضر. (فأردت أن أعيبها). وقال: (فأراد ربك أن يبلغا أشدهما) وإلا فالمرض والشفاء من الله سبحانه.(9/389)
وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82) رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (83) وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (84) وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (85) وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ (86) وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (87) يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89) وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (90) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ (91)(9/390)
وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81)
(والذي يميتني ثم يحيين) المراد بالإحياء البعث، ولهذا عطف هنا بثم خلاف ما قبله لاتساع الأمر بين الإماتة والإحياء، لأن المراد به الإحياء في الآخرة. وحذف الياء من هذه الأفعال لكونها رؤوس الآي. وقرئ كلها بإثبات الياء، وأنما قال عليه السلام.(9/390)
وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82)
(والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي) هضماً لنفسه، وتعليماً للأمة أن يجتنبوا المعاصي ويكونوا على حذر. وطلب أن يغفر لهم ما يفرط منهم، وتكرير الموصول في المواضع الثلاثة المعطوفة للإيذان بأن كل واحد من تلك الصلات نعت جليل مستقل في إيجاب الحكم. قيل: إن الطمع هنا بمعنى اليقين في حقه، وبمعنى الرجاء في حق سواه.
وقرئ (خطاياي) لأنها ليست خطيئة واحدة. قال النحاس خطيئة بمعنى خطايا في كلام العرب، قال مجاهد يعني بخطيئته قوله: (بل فعله كبيرهم هذا)، وقوله: (إني سقيم)، وقوله إن سارة أخته زاد الحسن وقوله للكوكب: هذا ربي. وحكى الواحدي عن المفسرين أنهم فسروا الخطايا بما فسر بها مجاهد.
قال الزجاج: الأنبياء بشر ويجوز أن تقع عليهم الخطيئة إلا أنهم لا(9/390)
تكون منهم الكبيرة لأنهم معصومون (يوم الدين) أي يوم الجزاء للعباد بأعمالهم، ولا يخفى أن تفسير الخطايا بما ذكره مجاهد ومن معه ضعيف، فإن تلك معاريض، وهي أيضاً إنما صدرت عنه بعد هذه المقاولة الجارية بينه وبين قومه.
وعن عائشة قالت: قلت يا رسول الله ابن جدعان كان في الجاهلية يصل الرحم ويطعم المساكين أكان ذلك نافعاً له؟ قال لا ينفعه، إنه لم يقل يوماً رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين. وهذا كله احتجاج من إبراهيم على قوله إنه لا يصلح للإلهية إلا من يفعل هذه الأفعال ثم لما فرغ الخليل من الثناء على ربه، والاعتراف بنعمه، وفنون ألطافه، الفائضة عليه من حضرة الحق، من مبدأ خلقه إلى يوم بعثه، حمله ذلك على مناجاته تعالى؛ فعقبه بالدعاء ليقتدي به غيره في ذلك فقال:(9/391)
رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (83)
(رب هب لي حكماً) المراد بالحكم الكمال في العلم والفهم والعمل يستعد به لخلافة الحق ورياسة الخلق. وقيل النبوة والرسالة. وقيل المعرفة بحدود الله وأحكامه.
(وألحقني بالصالحين) يعني بالنبيين قبلي في العمل الصالح. وقيل بأهل الجنة، أي في درجاتهم. قاله ابن عباس: والأول أولى. ولقد أجابه تعالى حيث قال: وإنه في الآخرة لمن الصالحين.(9/391)
وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (84)
(واجعل لي لسان صدق في الآخرين) أي اجعل لي ثناء حسناً وذكراً جميلاً وجاهاً وصيتاً وقبولاً عاماً في الأمم الآخرين، الذين يأتون بعدي في الدنيا يبقى أثره إلى يوم القيامة. قال القتيبي: وضع اللسان موضع القول على الاستعارة، لأن القول يكون بها، وقد تكنى العرب بها عن الكلمة، وقد أعطى الله سبحانه إبراهيم ذلك بقوله: وتركنا عليه في الآخرين، وأجاب دعاءه، فإن كل أمة تتمسك به وتعظمه.
وكل أهل الأديان يتولونه ويثنون عليه، خصوصاً هذه الأمة وخصوصاً(9/391)
في كل تشهد من تشهدات الصلوات. وقال مكي: قيل معنى سؤاله أن يكون من ذريته في آخر الزمان من يقوم بالحق فأجيبت دعوته في محمد - صلى الله عليه وسلم -، فتكون الآية على تقدير مضاف، أي صاحب لسان صدق، أو هو مجاز من إطلاق الجزء على الكل، لأن الدعوة باللسان ولا وجه لهذا التخصيص والتكلف.
وقال القشيري: أراد الدعاء الحسن إلى قيام الساعة ولا وجه لهذا أيضاً. فإنّ لسان الصدق أعم من ذلك. وعن ابن عباس في الآية قال اجتماع أهل الملل على إبراهيم فما من أمة إلا وهي تحبه وتثني عليه.(9/392)
وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (85)
(واجعلني) وارثاً (من ورثة جنة النعيم) أي مندرجاً فيهم ومن جملتهم؛ أي ممن يعطاها بلا تعب ومشقة كالإرث الحاصل للإنسان من غير تعب، وإضافة الجنة إلى النعيم من إضافة المحل للحال فيه.
ولما طلب عليه السلام بالدعوة الأولى سعادة الدنيا؛ طلب بهذه الدعوة سعادة الآخرة وهي جنة النعيم، قيل: وجعلها مما يورث تشبيهاً لغنيمة الآخرة بغنيمة الدنيا. وقد تقدم تفسير معنى الوراثة في سورة مريم.(9/392)
وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ (86)
(واغفر لأبي) كان أبوه قد وعده أنه يؤمن به فاستغفر له فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه، وقد تقدم تفسير هذا مستوفى في سورة التوبة. وسورة مريم، وعن ابن عباس قال: أمنن عليه بتوبة يستحق بها مغفرتك (إنه كان من الضالين) أي: من المشركين الضالين عن طريق الهداية وكان زائدة على مذهب سيبويه كما تقدم في غير موضع.(9/392)
وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (87)
(ولا تخزني يوم يبعثون) أي لا تفضحني على رؤوس الأشهاد بمعاتبتي أو بمعاقبتي على ما فرطت، أو لا تعذبني يوم القيامة، وقال ذلك لخفاء العاقبة وجواز التعذيب عقلاً. أو المعنى. لا تخزني بتعذيب أبي أو ببعثه في جملة الضالين أو بنقص رتبتي عن رتبة بعض الوراث. والإخزاء يطلق على الخزي وهو الهوان وعلى الخزاية وهي الحياء، أي الاستحياء.(9/392)
أخرج البخاري وغيره من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: " يلقى إبراهيم أباه آزر يوم القيامة وعلى وجه آزر قترة وغبرة فيقول له إبراهيم: ألم أقل لك لا تعصني؟ فيقول أبوه: فاليوم لا أعصيك. فيقول إبراهيم: رب إنك وعدتني أن لا تخزيني يوم يبعثون، فأي خزي أخزى من أبي (الأبعد) فيقول الله إني حرمت الجنة على الكافرين. ثم يقول: ما تحت رجليك يا إبراهيم فإذا بذيخ متلطخ فيؤخذ بقوائمه فيلقى في النار، والذيخ هو الذكر من الضباع فكأنه حوّل آزر إلى صورة ذيخ " وقد أخرجه النسائي بأطول من هذا.(9/393)
يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88)
(يوم لا ينفع) فيه (مال ولا بنون) أحداً من الناس. والابن هو اخص القرابة وأولاهم بالحماية، والدفع والنفع، فإذا لم ينفع فغيره من القرابة والأعوان بالأولى. وقال ابن عطية إن هذا وما بعده من كلام الله، وهو ضعيف، والأظهر أنه من كلام إبراهيم(9/393)
إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89)
(إلا من أتى الله بقلب سليم) قيل هو استثناء منقطع أي لكن من أتى الله. قال في الكشاف: إلا مال من أتى الله فقدر مضافاً محذوفاً قال أبو حيان: ولا ضرورة تدعو إلى ذلك. وقيل: إن هذا الاستثناء بدل من المفعول المحذوف، أو مستثنى منه إذ التقدير لا ينفع مال ولا بنون أحداً من الناس إلا من كانت هذه صفته. ويحتمل أن يكون بدلاً من فاعل ينفع، فيكون مرفوعاً. قال أبو البقاء: فيكون التقدير إلا مال من، أو بنو من، فإنه ينفع وهذا الماضي بمعنى المضارع، وكذا يقال في قوله: وأزلفت وبرزت، وقيل وكبكبوا وقالوا.
واختلف في معنى القلب السليم فقيل؛ السليم من الشرك، فأما الذنوب فليس يسلم منها أحد، قاله أكثر المفسرين. وقال سعيد بن المسيب: السليم الصحيح؛ وهو قلب المؤمن؛ لأن قلب الكافر والمنافق مريض، قال تعالى في قلوبهم مرض. وقيل هو القلب الخالي عن البدعة المطمئن إلى السنة(9/393)
وقيل سالم من آفة المال والبنين. وقال الضحاك السليم الخالص. وقال الجنيد رحمه الله السليم في اللغة اللديغ، فمعناه أنه قلب كاللديغ من خوف الله ئعالى. وهذا تحريف وتعكيس لمعنى القرآن.
قال الرازي أصح الأقوال أن المراد منه سلامة النفس عن الجهل والأخلاف الرذيلة. وقال ابن عباس بشهادة أن لا إله إلا الله. وقد صوب الجليل استثناء الخليل إكراماً له؛ ثم جعله صفة له في قوله: (وإنّ من شيعته لإبراهيم إذ جاء ربه بقلب سليم).
قال النسفي: وما أحسن ما رتب عليه السلام من كلامه مع المشركين حيث سألهم أولاً عما يعبدون، سؤال مقرر لا مستفهم، ثم أقبل على آلهتهم فأبطل أمرها بأنها لا تضر ولا تنفع ولا تسمع، وعلى تقليدهم آباءهم الأقدمين فأخرجه من أن يكون شبهة، فضلاً عن أن يكون حجة؛ ثم صور المسألة في نفسه دونهم حتى تخلص منها إلى ذكر الله تعالى فعظم شأنه. وعدد نعمه من حين إنشائه إلى وقت وفاته مع ما يرجى في الآخرة من رحمته، ثم أتبع ذلك أن دعا بدعوات المخلصين، وابتهل إليه ابتهال الأدب، ثم وصله بذكر يوم القيامة وثواب الله وعقابه وما يدفع إليه المشركون يومئذ من الندم والحسرة على ما كانوا فيه من الضلال، وتمنى الكرة إلى الدنيا ليؤمنوا ويطيعوا انتهى.(9/394)
وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (90)
(وأزلفت الجنة للمتقين) أي قربت وأدنيت لهم ليدخلوها أو بحيث يشاهدونها من الموقف ويقفون على ما فيها من فنون المحاسن فيبتهجون بأنهم المحشورون إليها. وقال الزجاج: قرب دخولهم إياها ونظرهم إليها.(9/394)
وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ (91)
(وبرزت الجحيم للغاوين) أي جعلت بارزة لهم والمراد بهم الكافرون الضالون عن طريق الحق الذي هو الإيمان والتقوى. والمعنى أنها أظهرت بحيث يرونها مع ما فيها من أنواع الأحوال الهائلة ويوقنون بأنهم مواقعوها ولا يجدون عنها مصرفاً. وقيل: أظهرت قبل أن يدخلوها ليشتد حزن الكافرين ويكثر سرور المؤمنين وقرئ (برزت) على البناءين.(9/394)
وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (92) مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ (93) فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ (94) وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (95) قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ (96) تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (98) وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ (99) فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ (100) وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (101) فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (102) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (103) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (104)(9/395)
وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (92)
(وقيل لهم) على سبيل التوبيخ (أينما) أيْ في أيِّ مكان (كنتم تعبدون(9/395)
مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ (93)
من دون الله) من الأصنام والأنداد وهذا سؤال تبكيت لا يتوقع له جواب. (هل ينصرونكم)؟ فيدفعون عنكم العذاب (أو ينتصرون)؟ بدفعه عن أنفسهم، وهذا كله توبيخ وتقريع لهم.(9/395)
فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ (94)
(فكبكبوا فيها) أي ألقوا في جهنم على رؤوسهم. وقيل قلبوا على رؤوسهم. قيل ألقى بعضهم على بعض. وقيل جمعوا. قاله ابن عباس مأخوذ من الكبكبة وهي الجماعة قاله الهروي، وقال النحاس هو مشتق من كوكب الشيء، وهو معظمه، والجماعة من الخيل كوكب وكبكبة، وقيل دهدهوا.
وهذه المعاني متقاربة والكبكبة تكرير الكب، وهو الإلقاء على الوجه، جعل التكرير في اللفظ دليلاً على التكرير في المعنى، كأنه إذا ألقي في جهنم ينكب مرة إثر مرة، حتى يستقر في قعرها. نعوذ بالله منها وأصله كببوا بباءين الأولى مشددة من حرفين فأبدل من الباء الوسطى الكاف، وقد رجح الزجاج أن المعنى طرح بعضهم على بعض، ورجح ابن قتيبة أن المعنى ألقوا على رؤوسهم. وقيل انكسوا وقيل الضمير في كبكبوا لقريش.
(هم) أي الآلهة المعبودون والأصنام (والغاوون) أي العابدون لهم.(9/395)
وقيل الجن والكافرون. وقال ابن عباس مشركو العرب والآلهة(9/396)
وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (95)
(وجنود إبليس) أي شياطينه الذين يغوون العباد من الإنس والجن. وقيل ذريته وأتباعه. وقيل كل من يدعو إلى عبادة الأصنام (أجمعون) تأكيد للضمير في كبكبوا وما عطف عليه.(9/396)
قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ (96)
(قالوا) أي الغاوون (وهم) أي حال كونهم (فيها يختصمون) مع معبوديهم مستأنفة، كأنه قيل ماذا قالوا حين فعل بهم ما فعل؟ ومقول القول:(9/396)
تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (97)
(تالله إن كنا) أي إن الشأن كوننا (لفي ضلال مبين) واضح ظاهر، والمراد بالضلال هنا الخسار والتبار، والحيرة عن الحق ويجوز أن ينطق الله الأصنام حتى يصح التقاول والتخاصم أو يجري ذلك بين العصاة والشياطين.(9/396)
إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (98)
(إذ نسوّيكم) العامل في الظرف هو كونهم في الضلال. وقيل العامل هو الضلال وفيه ضعف. وقيل ظرف لِـ (مبين) وقيل: ما يدل عليه الكلام كأنه قيل: ضللنا وقت تسويتنا لكم في العبادة (برب العالمين) الذي أنتم أدنى مخلوقاته، وأذلهم وأعجزهم. وقال الكوفيون أن (إن) في (إن كنا) نافية واللام بمعنى إلا أي ما كنا إلا في ضلال مبين، والأول أولى، وهو مذهب البصريين، وصيغة المضارع لاستحضار الصورة الماضية.(9/396)
وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ (99)
(وما أضلنا) عن الهدى (إلا المجرمون) يعني من دعاهم إلى عبادة الأصنام من الجن والإنس والشياطين، وقيل رؤساؤهم الذين أضلوهم. وقيل إبليس وجنوده. وابن آدم الأول وهو قابيل، وهو أول من سن القتل وأنواع المعاصي. وقيل من سن الشرك وقيل الأولون الذين اقتدينا بهم.(9/396)
فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ (100)
(فما لنا من شافعين) يشفعون لنا من العذاب، كما للمؤمنين من الملائكة والنبيين والمؤمنين(9/396)
وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (101)
(ولا صديق حميم) أي ذي قرابة، والحميم القريب الذي تودّه ويودّك، وجمع الشفعاء، ووحّد الصديق، لما تقدم غير مرة، أنه يطلق على الواحد، والاثنين، والجماعة والمذكر، والمؤنث أو لكثرة الشفعاء في العادة وقلة الصديق، لأن الصديق الصادق في ودادك الذي يهمه(9/396)
ما أهمك قليل. وسئل حكيم عن الصديق فقال: اسم لا معنى له. وقيل اسم بلا مسمى. والنفي هاهنا يحتمل نفي الصديق من أصله، أو نفي صفته فقط، أو لأن الصديق الواحد يسعى أكثر مما يسعى الشفعاء، والحميم مأخوذ من حامّة الرجل أي خاصته وأقربائه. ويقال حم الشيء وأحم إذا قرب ومنه الحمى، لأنه يقرب من الأجل.
وقال علي بن عيسى: إنما سمي القريب حميماً لأنه يحمى لغضب صاحبه فجعله مأخوذاً من الحمية وقيل من الاحتمام بمعنى الاهتمام الذي يهمه ما يهمك قاله الزمخشري.(9/397)
فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (102)
(فلو أن لنا كرة) هذا منهم على طريق التمني الدال على كمال التحسر، كأنهم قالوا فليت لنا كرة أي رجعة إلى الدنيا وجواب التمني (فنكون من المؤمنين) أي نصير من جملتهم، حتى تحل لنا الشفاعة كما حلت لهؤلاء.(9/397)
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (103)
(إن في ذلك) أي ما تقدم ذكره من نبأ إبراهيم وقصة قومه (لآية) أي عبرة وعلامة وحجة وعظة لمن أراد أن يستبصر بها ويعتبر، فإنها جاءت على أنظم ترتيب؛ وأحسن تقرير، يتفطن المتأمل فيها لغزارة علمه، لما فيها من الإشارة إلى أصول العلوم الدينية والتنبيه على دلالتها، وحسن دعوته للقوم، وحسن مخالفته معهم، وكمال إشفاقه عليهم، وتصوير الأمر في نفسه، وإطلاق الوعد والوعيد على سبيل الحكاية تعريضاً بهم، وإيقاظاً لهم؛ ليكون أدعى إلى الاستماع والقبول، والتنوين في (آية) يدل على التعظيم والتفخيم.
(وما كان أكثرهم مؤمنين) أي أكثر هؤلاء الذين يتلو عليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نبأ إبراهيم وهم قريش. ومن دان بدينهم. وقيل: وما كان أكثر قوم إبراهيم بمؤمنين. وهو ضعيف لأنهم كلهم غير مؤمنين(9/397)
وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (104)
(وإنّ ربك لهو العزيز) القاهر لأعدائه (الرحيم) بأوليائه أو الرحيم للأعداء بتأخير عقوبتهم وترك معاجلتهم.(9/397)
كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (105) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ (106) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (107) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (108) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (109) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (110) قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (111) قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (112) إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ (113) وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ (114) إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (115) قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ (116) قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ (117)(9/398)
كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (105)
(كذّبت قوم نوح المرسلين) أنث الفعل لكونه مسنداً إلى (قوم) وهو في معنى الجماعة أو الأمة أو القبيلة، وفي المصباح: القوم يذكر ويؤنث وكذا كل اسم جمع، لا واحد له من لفظه؛ نحو: رهط، ونفر، وأوقع التكذيب على المرسلين، وهم لم يكذبوا إلا الرسول المرسل إليهم، لأن من كذب رسولاً فقد كذب الرسل. لأن كل رسول يأمر بتصديق غيره من الرسل، وقيل: كذبوا نوحاً في الرسالة وكذبوه فيما أخبرهم به من نبأ المرسلين بعده؛ أو لأنه لطول لبثه فيهم كأنه رسل.(9/398)
إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ (106)
(إذ قال لهم أخوهم نوح) أي أخوهم من أبيهم، لا أخوهم في الدين. وقيل: المراد إخوة المجالسة، وقيل؛ هو من قول العرب يا أخا بني تميم؛ يريدون واحداً منهم؛ (ألا تتقون) الله بترك عبادة الأصنام؟ وتجيبون رسوله الذي أرسله إليكم؟(9/398)
إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (107)
(إني لكم رسول أمين) فيما أبلغكم عن الله وقيل: أمين فيما بينكم، فإنهم كانوا قد عرفوا أمانته وصدقه.(9/398)
فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (108)
(فاتقوا الله) أي اجعلوا طاعة الله وقاية لكم من عذابه (وأطيعون) فيما آمركم به عن الله من الإيمان به، وترك الشرك، والقيام بفرائض الدين تصدير القصص الخمس بالحث على التقوى، يدل على أن البعثة مقصورة على(9/398)
الدعاء إلى معرفة الحق، والطاعة فيما يقرب المدعو إلى ثوابه، ويبعده عن عقابه وكان الأنبياء متفقين على ذلك وإن اختلفوا في بعض التفاريع، مبرئين عن المطامع الدنية والأغراض الدنيوية.(9/399)
وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (109)
(وما أسألكم عليه من أجر) أي ما أطلب منكم أجراً على تبليغ الرسالة ولا أطمع في ذلك منكم و (من) زائدة في المفعول (إن أجري) أي: ما ثوابي الذي أطلبه وأريده (إلا على رب العالمين) لا على غيره وكرر قوله:(9/399)
فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (110)
(فاتقوا الله وأطيعون) للتأكيد، والتقرير في النفوس، مع كونه علق كل واحد منهما بسبب؛ وهو الأمانة في الأول وقطع الطمع في الثاني. ونظيره قولك ألا تتقي الله في عنوقي وقد ربيتك صغيراً؟ ألا تتقي الله في عقوقي وقد علمتك كبيراً؟ وقدّم الأمر بتقوى الله على الأمر بطاعته لأن تقوى الله علة لطاعته.(9/399)
قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (111)
(قالوا أنؤمن لك) الاستفهام للإنكار، أي كيف نتبعك ونصدق لك ونؤمن بك؟ (و) الحال أن قد (اتبعك الأرذلون) جمع أرذل وجمع التكسير أرذال، والأنثى رذلاء وهم الأقلّون جاهاً ومالاً، والرذالة الخسة والذلة، استرذلوهم لقلة أموالهم وجاههم، أو لا تّضاع أنسابهم.
قال مجاهد: الأرذلون الحواكون. وقال قتادة سفلة الناس وأراذلهم وقال ابن عباس: يعني القافة، وقيل هم الحاكة والاساكفة؛ وقيل: كانوا من أهل الصناعات الدنية، والصناعة لا تزرى بالديانة فالغنى غنى الدين؛ والنسب نسب التقوى.
ولا يجوز أن يسمى المؤمن رذلا. وإن كان أفقر الناس؛ وأوضعهم نسباً وما زالت اتباع الأنبياء كذلك. وإنما بادروا للاتباع قبل الأغنياء لاستيلاء الرياسة على الأغنياء، وصعوبة الانفكاك منها، والأنفة عن الانقياد للغير. والفقير خلى من تلك الموانع فهو سريع الإجابة والانقياد، وهذا غالب أحوال أهل الدنيا، وهذا من سخافة عقولهم، وقصر رأيهم على حطام الدنيا حتى جعلوا اتباع المقلّين من الدنيا مانعاً من اتباعهم، وجعلوا إيمانهم بما يدعوهم إليه دليلاً على بطلانه.(9/399)
وقرئ (أتباعك الأرذلون) قال النحاس: وهي قراءة حسنة لأن هذه الواو تتبعها الأسماء كثيراً وأتباع جمع تابع.(9/400)
قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (112)
(قال وما علمي بما كانوا يعملون)؟ كان زائدة والمعنى: وما علمي بعملهم؟ أي: لم أكلف العلم بأعمالهم، إنما كلفت أن ادعوهم إلى الإيمان والاعتبار به لا بالحرف والصنائع، والفقر والغنى، وكأنهم أشاروا بقولهم (واتبعك الأرذلون) إلى أن إيمانهم لم يكن عن نظر صحيح، وإنما لتوقع مال ورفعة، فأجابهم بهذا أي أني لم أقف على باطن أمرهم، وإنما وقفت على ظواهرهم. وقيل المعنى إني لم أعلم أن الله سيهديهم ويضلكم ويوفقهم ويخذلكم ويرشدهم ويغويكم.(9/400)
إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ (113)
(إن حسابهم إلا على ربي لو تشعرون) أي ما حسابهم والتفتيش عن ضمائرهم وأعمالهم إلا على الله، لو كنتم من أهل الشعور والفهم ما عيرتموهم بصنائعهم. وقرئ (يشعرون) بالتحتية كأنه ترك الخطاب للكفار والتفت إلى الأخبار عنهم. قال الزجاج والصناعات لا تضر في باب الديانات، وما أحسن ما قال:(9/400)
وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ (114)
(وما أنا بطارد المؤمنين) هذا جواب من نوح على ما ظهر من كلامهم من طلب الطرد لهم(9/400)
إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (115)
(إن أنا إلا نذير مبين) أي ما أنا إلا نذير موضح لما أمرني الله سبحانه بإبلاغه إليكم وهذه الجملة كالعلة لما قبلها.(9/400)
قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ (116)
(قالوا لئن لم تنته يا نوح) أي إن لم تترك عيب ديننا وسب آلهتنا (لتكونن من المرجومين) بالحجارة، وقيل من المشتومين. وقيل من المقتولين، فعدلوا بعد تلك المحاورة بينهم وبين نوح إلى التجبر والتوعد. فلما سمع نوح قولهم هذا(9/400)
قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ (117)
(قال رب إنّ قومي كذبون) أي أصروا وصمموا على تكذيبي بعد ما دعوتهم هذه الأزمنة المتطاولة ولم يسمعوا قولي ولا أجابوا دعائي وإنما قال هذا إظهاراً لما يدعو عليهم لأجله وهو تكذيب الحق، لا تخويفهم له واستخفافهم به.(9/400)
فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (118) فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (119) ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ (120) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (121) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (122) كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلَا تَتَّقُونَ (124) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (125) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (126) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (127) أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (128) وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (129) وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (130) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (131)(9/401)
فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (118)
(فافتح بيني وبينهم فتحاً) الفتح الحكم أي احكم بيننا حكماً يستحقه كل واحد منا. أي أنزل العقوبة والهلاك، وهذه حكاية إجمالية لدعائه المفصل في سورة نوح.
(ونجنّي ومن معي من المؤمنين) وكانوا ثمانين، أربعون من الرجال وأربعون من النساء.(9/401)
فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (119)
(فأنجيناه ومن معه في الفلك المشحون) أي السفينة المملوءة من الناس، والحيوان، والطير. والشحن ملء السفينة بالناس والدواب والمتاع. قال ابن عباس: المشحون الممتلئ، وعنه قال أتدرون ما المشحون؟ قلنا لا. قال: هو الموقر. وعنه أيضاً قال: هو المثقل.(9/401)
ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ (120)
(ثم أغرقنا بعد) أي بعد إنجائهم (الباقين) من قومه.(9/401)
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (121)
(إن في ذلك لآية) أي علامة وعبرة عظيمة.
(وما كان أكثرهم مؤمنين) أفهم أنه لو كان نصفهم مؤمنين لما أخذوا(9/401)
وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (122)
(وإنّ ربك لهو العزيز) أي القاهر لأعدائه والمنتقم بإهابة من جحد وأصر (الرحيم) بأوليائه والمنعم بإعانة من وحّد وأقرّ.(9/402)
كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ (123)
(كذبت عاد المرسلين) أنث الفعل باعتبار إسناده إلى القبيلة، لأن عاداً اسم أبيهم الأعلى، وكان من نسل سام بن نوح، ومعنى تكذيبهم المرسلين مع كونهم لم يكذبوا إلا رسولاً واحداً قد تقدم وجهه في قصة نوح قريباً.(9/402)
إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلَا تَتَّقُونَ (124)
(إذ قال لهم أخوهم) نسباً (هود) وكان تاجراً جميل الصورة يشبه آدم، وعاش من العمر أربعمائة وأربعاً وستين سنة (ألا تتقون)؟ والكلام فيه كالكلام في قول نوح المتقدم قريباً وكذا في قوله:(9/402)
إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (125)
(إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ * أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً)؟ الريع المكان المرتفع من الأرض جمع ريعة. يقال: كم ريع أرضك؟ أي كم ارتفاعها؟ قال أبو عبيدة: الريع الارتفاع جمع ريعة. وقال قتادة والضحاك والكلبي الريع: الطريق، وبه قال مقاتل والسدي وابن عباس، وإطلاق الريع على ما ارتفع من الأرض معروف عند أهل اللغة. وقيل: الريع الجبل، واحده ريعة، والجمع أرياع، وقال مجاهد هو الفج بين الجبلين. وروي عنه أنه الثنية الصغيرة، وروي عنه أيضاً أنه المنظرة وقيل بروج الحمام. وقال ابن الأعرابي الريع الصومعة، والريع البرج يكون في الصحراء، والريع التل العالي وفي الريع لغتان كسر الراء وفتحها، والاستفهام للتقريع والتوبيخ ومعنى الآية انكم أتبنون بكل مكان مرتفع بناء.
(تعبثون) ببنائه وتلعبون بالمارة وتسخرون منهم لأنكم تشرفون من ذلك البناء المرتفع على الطريق فتؤذون من يمر بكم وتسخرون منهم، وقال الكلبي إنه عبث العشارين بأموال من يمر بهم، حكاه الماوردي.(9/402)
وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (129)
(وتتخذون مصانع) هي الأبنية التي يتخذها الناس منازل، قال أبو عبيدة كل بناء مصنعه وبه قال الكلبي وغيره. وقيل هي الحصون المشيدة قاله(9/402)
مجاهد وغيره، وقال الزجاج أنها مصانع الماء التي تجعل تحت الأرض واحدتها مصنعة، ومصنع أي حياضاً وبركاً تجمعون فيها الماء فهي من قبيل الصهاريج. قال الجوهري المصنعة بضم النون الحوض يجمع فيه ماء المطر والمصانع الحصون، وقال عبد الرزاق المصانع عندنا بلغة اليمن القصور العالية.
(لعلكم تخلدون) أي راجين أن تخلدوا في الدنيا لإنكاركم البعث، والتوبيخ حينئذ ظاهر، أو عاملين عمل من يرجو ذلك، فلذلك تحكمون بنيانها. وقيل إن (لعل) هنا للاستفهام التوبيخي، قاله زيد بن علي، وبه قال الكوفيون، أي هل تخلدون؟ كقولهم لعلك تشتمني؟ أي هل تشتمني وقال الفراء: كي تخلدون، وبه قرأ عبد الله، أي لا تتفكرون في الموت. وقيل المعنى كأنكم باقون مخلدون. فـ (لعل) معناها التشبيه، ولم أر من نص على أنها تكون للتشبيه. وقرئ (تخلدون) مخففاً ومشدداً وحكى النحاس أن في بعض القراءات (كأنكم مخلدون) وبه قال ابن عباس.(9/403)
وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (130)
(وإذا بطشتم) بضرب أو قتل (بطشتم جبارين) من غير رأفة، والبطش السطوة والأخذ بالعنف، قال مجاهد وغيره إذا أردتم البطش لئلا يتحد الشرط والجزاء. قال الزجاج إنما أنكر عليهم ذلك لأنه ظلم، وأما في الحق فالبطش بالسوط والسيف جائز.
قال الكرخي: اعلم أن اتخاذ الأبنية العالية تدل على حب الدنيا، واتخاذ المصانع يدل على حب البقاء، والجبارية تدل على حب التفرد بالعلو، وهذه صفات الإلهية وهي ممتنعة الحصول للعبد انتهى. ثم لما وصفهم بهذه الأوصاف القبيحة الدالة على الظلم، والعتو، والتمرد، والتجبر، أمرهم بالتقوى فقال:(9/403)
فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (131)
(فاتقوا الله) في ذلك (وأطيعون) فيما أمرتكم به أجمل التقوى، ثم فصله بقوله:(9/403)
وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ (132) أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ (133) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (134) إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (135) قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ (136) إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ (137) وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (138) فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (139) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (140) كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ (141) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلَا تَتَّقُونَ (142) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (143) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (144) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (145) أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ (146) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (147) وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ (148) وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ (149) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (150) وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (151) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (152)(9/404)
وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ (132)
(واتقوا الذي أمدكم بما تعلمون) من أنواع النعم والخير الحاصلة لكم، ثم فصل هذا الإجمال بقوله:(9/404)
أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ (133)
(أمدّكم بأنعام وبنين) الخ بإعادة الفعل لزيادة التقرير والتأكيد، لأن التفصيل بعد الإجمال. والتفسير بعد الإبهام أدخل في ذلك(9/404)
وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (134)
(وجنّات وعيون) أي بساتين وأنهار وآبار، ثم وعظهم وحذرهم فقال:(9/404)
إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (135)
(إني أخاف عليكم) إن كفرتم وأصررتم على ما أنتم فيه، ولم تشكروا هذه النعم (عذاب يوم عظيم) أي العذاب الدنيوي والأخروي، فإن كفران النعمة مستتبع للعقاب، كما أن شكرها مستتبع لزيادتها.(9/404)
قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ (136)
(قالوا سواء علينا) أي مستو عندنا (أوعظت أم لم تكن من الواعظين) أصلاً أي وعظك وعدمه سواء عندنا، لا نبالي بشيء منه، ولا نلتفت إلى ما تقوله، ولا نرعوي له والحاصل أنهم أظهروا قلة اكتراثهم بكلامه(9/404)
واستخفافهم بما أورده من المواعظ، والوعظ كلام يلين القلب بذكر الوعد والوعيد ولم يقل أم لم تعظ لرؤوس الآي وتواخي القوافي.
وأبدى له الزمخشري معنى فقال: هو أبلغ في قلة اعتدادهم بوعظه من قولك أم لم تعظ. وعن الكسائي: أوعظت بإدغام الظاء في التاء وهو بعيد، لأن حرف الظاء حرف إطباق إنما يدغم فيما قرب منه جداً وقرأ الباقون بإظهار الظاء.(9/405)
إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ (137)
(إن هذا) تعليل لما قبله أي ما هذا الذي جئتنا به ودعوتنا إليه من الدين وقيل: المعنى ما هذا الذي نحن عليه (إلا خلق الأولين) أي طبيعتهم وعادتهم التي كانوا عليها، وهذا بناء على ما قال الفراء وغيره: إن معنى الخلق العادة. قال النحاس: الخلق عند الفراء العادة.
وعن محمد بن يزيد: خلقهم مذهبهم وما جرى عليه أمرهم. والقولان متقاربان، وقال مقاتل: قالوا: ما هذا الذي تدعونا إليه إلا كذب الأولين. قال الواحدي: هو قول ابن مسعود ومجاهد، قال والخلق والاختلاق الكذب، ومنه قوله ويحلقون إفكاً. وقرئ خلق بفتح الخاء وسكون اللام وبضمهما. قال الهروي: معناه على الأولى اختلاقهم وكذبهم، وعلى الثانية عادتهم، وهذا التفصيل لا بدّ منه. قال ابن الأعرابي: الخلق الدين والطبع والمروءة وقرأ أبو قلابة بضم الخاء وسكون اللام، وهي تخفيف لقراءة الضم لهما. والظاهر أن المراد بالآية هو قول من قال ما هذا الذي نحن عليه إلا عادة الأولين وفعلهم، ويؤيده قولهم:(9/405)
وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (138)
(وما نحن بمعذبين) على ما نفعل من البطش ونحوه. مما نحن عليه الآن في الدنيا من الأعمال ولا بعث ولا حساب(9/405)
فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (139)
(فكذبوه) أي هوداً أي أصرّوا على تكذيبه (فأهلكناهم) في الدنيا بالريح، كما صرح به القرآن في غير هذا الموضع، وهي ريح باردة شديدة الصوت لا ماء فيها، وسلطت عليهم سبع ليال وثمانية أيام، أولها من صبح يوم الأربعاء لثمان بقين من شوال(9/405)
وكانت في عجز الشتاء.
(إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ *(9/406)
وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (140)
وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) تقدم تفسير هذا قريباً في هذه السورة، ثم لما فرغ سبحانه من ذكر قصة هود وقومه، ذكر قصة صالح وقومه وكانوا يسكنون الحِجر فقال:(9/406)
كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ (141)
(كذبت ثمود الرسلين) المراد بهم صالح ففي التعبير عنه بالجمع ما تقدم، وثمود اسم قبيلة سميت باسم أبيها، وهو ثمود جد صالح، ولذا قال:(9/406)
إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلَا تَتَّقُونَ (142)
(إذ قال لهم أخوهم) نسباً (صالح) لاجتماعه معهم في الأب الأعلى وعاش صالح من العمر مائتين وثمانين سنة، وبينه وبين هود مائة سنة: (أَلَا تَتَّقُونَ *)(9/406)
إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (143)
(إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ) قد تقدم تفسيره في قصة هود المذكورة قبل هذه القصة.(9/406)
أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ (146)
(أتتركون فيما هاهنا آمنين) الاستفهام للإنكار التوبيخي، أي لا تظنوا ولا ينبغي لكم أن تعتقدوا أنكم تتركون في الدنيا متقلبين في هذه النعم، التي أعطاكم الله، آمنين من الموت أو العذاب، باقين في الدنيا. ولما أبهم النعم في هذا فسرها بقوله:(9/406)
فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (147)
(فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ) ذكر النخل مع دخوله تحت الجنات لفضله على سائر الأشجار، أو لأن المراد بها غيره من الأشجار، وكثيراً ما يذكرون الشيء الواحد بلفظ يعمه وغيره كما يذكرون النعم ولا يقصدون إلا الإبل، وهكذا يذكرون الجنة ولا يريدون إلا النخل. وهو اسم جمع، الواحدة نخلة، وكل اسم جمع كذلك يؤنث ويذكر، وأما النخيل بالياء فمؤنثه اتفاقاً.
(طلعها هضيم) أول ما يطلع من الثمر، وبعده يسمى خلالاً، ثم(9/406)
بلحاً، ثم بسراً ثم رطباً ثم تمراً، وفي البيضاوي: هو ما يطلع منها كنصل السيف، في جوفه شماريخ القنو. انتهى.
وهذا التشبيه من حيث الهيئة والشكل والهضيم هو النضيج، الرخص اللين اللطيف، أو متدل متكسر من كثرة الحمل وقيل ما لم يخرج من كفراه لدخول بعضه في بعض. وحكى الماوردي في معنى هضيم اثني عشر قولاً أحسنها وأوفقها باللغة ما ذكرناه، وعن ابن عباس قال هضيم معشب، وعنه قال أينع وبلغ، وعنه قال أرطب واسترخى.(9/407)
وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ (149)
(وتنحتون في الجبال بيوتاً فارهين) النحت النجر والبري؛ نحته ينحِته بالكسر، براه والنحاته البراية، والمنحت ما ينحت به؛ وكانوا ينحتون بيوتهم من الجبال، لما طالت أعمارهم وتهدم بناؤهم من المدر، فإن السقوف والأبنية كانت تبلى قبل فناء أعمارهم، وفي الخطيب، وكان الواحد منهم يعيش ثلثمائة سنة إلى ألف سنة، وكذا كان قوم هود.
وقرئ (فرهين) قال أبو عبيد وغيره وهما بمعنى واحد، والفره النشاط وشدة الفرح، وفرق بينهما أبو عبيد وغيره فقالوا فارهين حاذقين بنحتها، قاله ابن عباس، وقيل: متجبرين، وفرهين بطرين أشرين؛ وبه قال مجاهد وابن عباس وغيره، وقيل: شرهين. وقال الضحاك: كيسين. وقال قتادة: معجبين ناعمين آمنين، وبه قال الحسن. وقيل: فرحين، قاله الأخفش. وقال ابن زيد: أقوياء(9/407)
قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (153) مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (154) قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (155) وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ (156) فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ (157) فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (158) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (159)(9/408)
قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (153)
(قالوا إنما أنت من المسحّرين) أي: الذين أصيبوا بالسحر قاله مجاهد وقتادة، وقيل: المسحر هو المعلل بالطعام والشراب، قاله الكلبي وغيره، فيكون المسحر الذي له سحر وهو الرئة، فكأنهم قالوا: إنما أنت بشر مثلنا تأكل وتشرب. قال الفراء أي أنك تأكل الطعام والشراب، وتسحر به. قال المؤرج المسحر المخلوق بلغة ربيعة، قال ابن عباس مسحرين مخلوقين.(9/408)
مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (154)
(ما أنت إلا بشر مثلنا) تدعي أنك رسول إلينا؟ (فأت بآية إن كنت من الصادقين) في قولك ودعواك.(9/408)
قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (155)
(قال) صالح: (هذه ناقة) أشار إليها بعد ما أخرجها الله من الصخرة بدعائه كما اقترحوها قال أبو موسى الأشعري: رأيت مبركها فإذا هو ستون ذراعاً في ستين ذراعاً ثم وصاهم صالح بأمرين:
الأول: (لها شرب ولكم شرب يوم معلوم) أي لها نصيب من الماء، ولكم نصيب منه معلوم. ليس لكم أن تشربوا في اليوم الذي هو نصيبها، ولا هي تشرب في اليوم الذي هو نصيبكم، وهذا دليل على جواز المهايأة، قال الفراء الشرب الحظ من الماء قال النحاس فأما المصدر فيقال فيه شرب شرباً وشرباً، وأكثرها المضموم؛ والشرب بفتح الشين جمع شارب، والمراد هنا(9/408)
الشرب بالكسر، وبه قرأ الجمهور فيهما، وقرئ بالضم فيهما.
والأمر الثاني:(9/409)
وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ (156)
(ولا تمسوها بسوء) أي بعقر أو ضرب أو شيء مما يسوءها وجواب النهي (فيأخذكم عذاب يوم عظيم) لحلول العذاب فيه، ووصف اليوم به أبلغ من وصف العذاب، لأن الوقت إذا عظم بسببه كان موقعه من العظم أشد.(9/409)
فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ (157)
(فعقروها) يوم الثلاثاء أي عقرها قدار، وضرب بالسيف في ساقيها وكان ابن زنا قصيراً دميماً ولكنهم راضون به فأضيف إليهم.
(فأصبحوا نادمين) على عقرها لما عرفوا أن العذاب نازل وذلك أنه أنظرهم ثلاثاً فظهرت عليهم العلامة في كل يوم، وندموا حيث لا ينفع الندم، لأن ذلك لا يجدي عند معاينة العذاب، وظهور آثاره، ولأن مجرد الندم ليس توبة.(9/409)
فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (158)
(فأخذهم العذاب) الذي وعدهم به يوم السبت وهو أنهم في اليوم الأول أي الأربعاء قد اصفرت وجوههم، ثم احمرت في الخميس، ثم اسودت في الجمعة وفي قول مقاتل أنه خرج في أبدانهم خراج مثل الحمص؛ فكان في اليوم الأول أحمر ثم صار من الغد أصفر، ثم صار في الثالث أسود، وكان عقر الناقة يوم الأربعاء وهلاكهم يوم الأحد، انفقعت فيه تلك الخراجات وصاح عليهم جبريل صيحة فماتوا بالأمرين وكان ذلك ضحوة. وقد تقدم تفسير قوله:
(إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين) وفيه إيماء بأنه لو آمن أكثرهم أو شطرهم لما أخذوا بالعذاب، وأن قريشاً إنما عصموا من مثله ببركة من آمن منهم(9/409)
وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (159)
(وإن ربك لهو العزيز الرحيم) تقدم تفسيرها أيضاً في هذه السورة.(9/409)
كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ (160) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلَا تَتَّقُونَ (161) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (162) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (163) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (164) أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ (165) وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ (166) قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ (167) قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ (168) رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ (169) فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (170) إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ (171) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (172)(9/410)
كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ (160)
(كذبت قوم لوط المرسلين) ذكر سبحانه القصة السادسة من قصص الأنبياء مع قومهم وهي قصة لوط، وقد تقدم تفسير قوله(9/410)
إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلَا تَتَّقُونَ (161)
(إذ قال لهم أخوهم لوط) أي في البلد والسكنى والتجاور في القرية، لا في الدين، ولا في النسب، لأنه ابن أخي إبراهيم، وهما من بلاد المشرق من أرض بابل. (أَلَا تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ).(9/410)
أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ (165)
(أتأتون) أي أتنكحون (الذكران) جمع الذكر ضد الأنثى وهم بنو آدم أو كل حيوان (من العالمين) أي من الناس وقد كانوا يفعلون ذلك بالغرباء على ما تقدم في الأعراف.(9/410)
وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ (166)
(وتذرون) تتركون (ما خلق) أي أصلح وأحل وأباح (لكم ربكم) لأجل استمتاعكم به (من أزواجكم) المراد بهن جنس الإناث وقال مجاهد تركتم أقبال النساء إلى أدبار الرجال، وأدبار النساء وعن عكرمة نحوه، وفيه دليل على تحريم أدبار الزوجات والمملوكات. قال النسفي ومن أجازه فقد(9/410)
أخطأ خطأً عظيماً (بل أنتم قوم عادون) أي مجاوزون للحد في جميع المعاصي ومن جملتها هذه المعصية التي ترتكبونها من الذكران.(9/411)
قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ (167)
(قالوا لئن لم تنته يا لوط) عن الإنكار علينا وتقبيح أمرنا (لتكونن من المخرجين) من بلدنا المنفيين عنها، ولعلهم كانوا يخرجون من أخرجوه على أسوأ حال.(9/411)
قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ (168)
(قال إني لعملكم) وهو ما أنتم فيه من إتيان الذكران (من القالين) أي من المبغضين له، والقلي: البغض الشديد، كأنه يقلي الفؤاد، يقال: قليته قلي وقلاء، وفيه دليل على عظم المعصية لأن قلاه من حيث الدين، ثم رغب عليه السلام عن مجاورتهم وطلب من الله عز وجل أن ينجيه فقال:(9/411)
رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ (169)
(رب نجني وأهلي مما يعملون) أي من عملهم الخبيث، أو من عقوبته التي ستصيبهم، فأجاب الله سبحانه دعاءه فقال(9/411)
فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (170)
(فنجيناه وأهله) أي أهل بيته ومن تابعه على دينه (أجمعين).(9/411)
إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ (171)
(إلا عجوزاً) هي امرأة لوط، وكانت راضية بذلك؛ والراضي بالمعصية في حكم العاصي، واستثناء الكافرة من الأهل وهم مؤمنون للإشتراك في هذا الاسم، وإن لم تشاركهم في الإيمان (في الغابرين) أي من الباقين في العذاب، وقال أبو عبيدة من الباقين في الهرم، أي بقيت حتى هرمت. قال النحاس يقال للذاهب عابر وللباقي غابر، والأغبار بقية الألبان: وتقول العرب ما مضى وما غبر، أي ما بقي. قال قتادة هي امرأة لوط غبرت في عذاب الله.(9/411)
ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (172)
(ثم دمرنا الآخرين) أي أهلكناهم بالخسف والحصب وبقلب قراهم عليهم، وجعل عاليها سافلها.(9/411)
وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (173) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (174) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (175) كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (176) إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلَا تَتَّقُونَ (177) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (178) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (179) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (180) أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ (181) وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ (182) وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (183) وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ (184)(9/412)
وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (173)
(وأمطرنا عليهم) أي على من كان منهم ذلك الوقت خارج المقرى لسفر أو غيره (مطراً) يعني الحجارة، وقيل الكبريت والنار.
(فساء مطر المنذَرين) المخصوص بالذم محذوف والتقدير مطرهم، ولم يرد بهم قوماً بأعيانهم، بل جنس الكافرين،(9/412)
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (174)
وقد تقدم تفسير قوله (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) في هذه السورة.(9/412)
كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (176)
(كذب أصحاب الأيكة الرسلين) الأيكة الشجر الملتف، وهي الغيضة وقرئ (ليكة) بلام واحدة وفتح التاء، وجعلوه اسماً غير معرف بأل مضافاً إليه (أصحاب) و (ليكة) اسم المقرية وأنكره الزمخشري، وهو غير جهد.
وقيل هما بمعنى واحد اسم للغيضة. قال القرطبي فأما ما حكاه أبو عبيدة من أن ليكة اسم القرية التي كانوا فيها، وأن الأيكة اسم البلد كله، فشيء لم يثبت ولم يعرف من قاله ولو عرف لكان فيه نظر، لأن أهل العلم جميعاً على خلافه.(9/412)
قال أبو علي الفارسي الأيكة تعريف أيكة، فإذا حذفت تخفيفاً ألقيت حركتها على اللام. قال الخليل الأيكة الغيضة تنبت السدر والأراك ونحوهما من ناعم الشجر. قال مجاهد ليكة هي الأيكة، وقد وقع لفظ الأيكة في القرآن أربع مرات، في الحجر، وفي ق، وما هنا، وفي ص، والأولان بأل والجر والآخران يقرآن بأل وبالجر وبحذف الهمزة، وإلقاء حركتها على اللام وفتح الهاء مع أن الكل مجرورات بإضافة لفظ أصحاب إليها وقال ابن عباس كانوا أصحاب غيضة من ساحل البحر إلى مدين.(9/413)
إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلَا تَتَّقُونَ (177)
(إذ قال لهم شعيب ألا تتقون)؟ ولم يقل أخوهم كما قال في الأنبياء قبله، لأنه لم يكن من أصحاب الأيكة في النسب؛ فلما ذكر مدين قال أخاهم شعيباً لأنه كان منهم، وقد مضى تحقيق نسبه في الأعراف، وبعث الله شعيباً إلى أمتين، أصحاب الأيكة وأهل مدين، فأهلك الله أصحاب الأيكة بالظلة؛ وأما أهل مدين فصاح بهم جبريل صيحة فهلكوا أجمعين.(9/413)
إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (178)
(إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ) وإنما كانت دعوة هؤلاء الأنبياء فيما حكى الله عنهم على صيغة واحدة لاتفاقهم على تقوى الله وطاعته والإخلاص في العبادة والامتناع من أخذ الأجر على تبليغ الرسالة.(9/413)
أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ (181)
(أوفوا الكيل) أي أتمّوه لمن أراده وعامل به (ولا تكونوا من المخسرين) أي الناقصين للكيل والوزن يقال أخسرت الكيل والوزن أي نقصته، ومنه قوله تعالى (وإذ كالوهم أو وزنوهم يخسرون) قال النسفي الكيل واف وهو مأمور به، وطفيف وهو منهي عنه، وزائد وهو مسكوت عنه، فتركه دليل على أنه إن فعله فقد أحسن، وإن لم يفعل فلا شيء عليه ثم زاد سبحانه في البيان فقال:(9/413)
وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ (182)
(وزنوا بالقسطاس المستقيم) أي أعطوا الحق بالميزان السوي وقد مر بيان تفسير هذا في سورة سبحان، وقرئ (القسطاس) مضموم القاف ومكسورها، وهي الميزان أو القبان، فإن كان من القسط وهو العدل، وجعلت العين مكررة، فوزنه فعلان وإلا فهو رباعي.(9/414)
وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (183)
(ولا تبخسوا الناس أشياءهم) البخس النقص يقال: بخسه حقه إذا نقصه، أي: لا تنقصوا حقوقهم التي لهم وهذا تعميم بعد التخصيص. وقيل: دراهمهم ودنانيرهم بقطع أطرافها. وقد تقدم تفسيره في سورة هود.
وتقدم أيضاً تفسير: (ولا تعثوا في الأرض مفسدين) فيها وفي غيرها أي لا تبالغوا فيها بالفساد نحو قطع الطريق، والغارة وإهلاك الزرع، وكانوا يفعلون ذلك فنهوا عنه، يقال: عثا في الأرض إذا أفسد، وبابه سما، وعثى بالكسر، وعثى بفتحتين بوزن فتى قال الأزهري: القراء كلهم متفقون على فتح الثاء وقد دل على أن القرآن نزل باللغة الثانية، وفي القاموس: عثى كسعى ورمى ورضى.(9/414)
وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ (184)
(واتقوا) الله (الذي خلقكم) أي من نطفة، وإعدامكم أهون شيء عليه، وأشار إلى ضعفهم وقوة من كان قبلهم بقوله (والجبلّة الأولين) الذين أهلكوا بالمعاصي، كقوم لوط كانوا على خلقة وطبيعة عظيمة قرئ الجبلة بكسر الجيم والباء وتشديد اللام وقرئ بضمهما وتشديد اللام، وقرئ بفتح الجيم مع سكون الباء والجبلة الخليقة قاله مجاهد وغيره، يعني الأمم المتقدمة يقال: جبل فلان على كذا أي خلق.
قال النحاس: الخلق يقال له جبلة بكسر الحرفين الأولين وبضمهما مع تشديد اللام فيهما، وبضم الجيم وسكون الباء وضمه وفتحها قال الهروي الجبلة والجبلة والجبل والجبل لغات وهو الجمع والعدد الكثير من الناس. ومنه قوله تعالى (جِبِلًّا كَثِيرًا) أي خلقاً كثيراً.(9/414)
قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (185) وَمَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (186) فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (187) قَالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (188) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (189) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (190) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (191) وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195)(9/415)
قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (185)
(قالوا إنما أنت من المسحرين) أي من المخلوقين(9/415)
وَمَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (186)
(وما أنت إلا بشر مثلنا) إدخال الواو هنا يفيد معنيين كلاهما مناف للرسالة عندهم، التسحير والبشرية، يعني أن كُلاًّ منهما كاف فكيف إذا اجتمعا، وترك الواو في قصة ثمود ليفيد معنى واحداًً، وهو كونه مسحراً، وقد تقدم تفسيره في هذه السورة.
(وإن نظنك لمن الكاذبين) فيما تدعيه علينا من الرسالة وقيل ما نظنك إلا من الكاذبين، والأول أولى.(9/415)
فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (187)
(فأسقط علينا كسفاً) كان شعيب عليه السلام يتوعدهم بالعذاب إن لم يؤمنوا فقالوا له هذا القول تعنتاً واستبعاداً وتعجيزاً، قال أبو عبيد الكسف جمع كسفة مثل سدر وسدرة، قال الجوهري الكسفة القطعة من الشيء يقال اعطني كسفة من ثوبك. والجمع كسف وكسف، وقد مضى تحقيق هذا في سورة سبحان (من السماء) أي السحاب أو الظلة (إن كنت من الصادقين) في دعواك.(9/415)
قَالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (188)
(قال ربي أعلم بما تفعلون) من الشرك والمعاصي فهو مجازيكم على ذلك إن شاء، وفي هذا تهديد شديد(9/415)
فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (189)
(فكذبوه) فاستمروا على تكذيبه وأصروا على ذلك.(9/415)
(فأخذهم عذاب يوم الظلة) هي السحاب أقامها الله فوق رؤوسهم، فأمطرت عليهم ناراً فهلكوا، وقد أصابهم الله بما اقترحوه لأنهم إن أرادوا بالكسف القطعة من السحاب فظاهر، وإن أرادوا بها القطعة من السماء فقد نزل عليهم العذاب من جهتها. قال ابن عباس أرسل الله إليهم سموماً من جهنم فأطاف بهم سبعة أيام حتى أنضجهم الحر فحميت بيوتهم، وغلت مياههم في الآبار والعيون، فخرجوا من منازلهم ومحلتهم هاربين، والسموم معهم، فسلط الله عليهم الشمس من فوق رؤوسهم فغشيتهم حتى تقلقلت فيها جماجمهم، وسلط الله عليهم الرمضاء من تحت أرجلهم حتى تساقطت لحوم أرجلهم، ثم نشأت لهم ظلة كالسحابة السوداء فلما رأوها ابتدروها يستغيثون بظلها حتى إذا كانوا جميعاً أطبقت عليهم فهلكوا، ونجى الله شعيباً والذين آمنوا معه.
وعنه أيضاً أنه سئل عن قوله فأخذهم عذاب إلى آخره فقال فخرجوا من البيوت هرباً إلى البرية، فبعث الله عليهم سحابة فأظلتهم من الشمس، فوجدوا لها برداً ولذة فنادى بعضهم بعضاً حتى إذا اجتمعوا تحتها أسقط الله عليهم ناراً، فذلك عذاب يوم الظلة، وعنه قال: من حدثك من العلماء عذاب يوم الظلة فكذبه، (أقول) فما نقول له رضي الله عنه فيما حدثنا به من ذلك مما نقلناه عنه هاهنا. وقد رواه عنه عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وغيرهم. ويمكن أن يقال: أنه لما كان هو البحر الذي علمه الله تأويل كتابه بدعوة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم: كان مختصاً بمعرفة هذا الحديث دون غيره من أهل العلم، فمن حدث بحديث عذاب يوم الظلة على وجه غير هذا الوجه الذي حدثنا به فقد وصانا بتكذيبه، لأنه قد علمه ولم يعلمه غيره، والله أعلم. وأضاف العذاب إلى يوم الظلة، لا إلى الظلة تنبيهاً على أن لهم في ذلك اليوم عذاباً غير عذاب يوم الظلة (1) كذا قيل، ثم وصف
_________
(1) قوله غير عذاب يوم الظلة كذا بالأصل الذي بأيدينا وانظره أهـ مصححه.(9/416)
سبحانه هذا العذاب الذي أصابهم بقوله:
(إنه كان عذاب يوم عظيم) لما فيه من الشدة عليهم التي لا يقادر قدرها(9/417)
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (190)
وقد تقدم تفسير قوله: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) في هذه السورة مستوفى فلا نعيده، وقد تقدم الكلام على هذه القصص في سورتي الأعراف وهود، فأغنى عن الإعادة هنا، وفي هذا التكرير لهذه الكلمات في آخر هذه القصص السبع من التهديد والزجر، والتقرير والتأكيد، ما لا يخفى على من يفهم مواقع الكلام، ويعرف أساليبه.
وقال النسفي: قد كرر في هذه السورة في أول كل قصة وآخرها ما كرر تقريراً لمعانيها في الصدور، وليكون أبلغ في الوعظ والزجر، ولأن كل قصة منها كتنزيل برأسه، وفيها من الاعتبار مثل ما في غيرها فكانت جديرة بأن تفتح بما افتتحت به صاحبتها، وأن تختم بما اختتمت به.(9/417)
وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192)
(وإنّه) الضمير يرجع إلى ما نزله عليه من الأخبار، أي وإن هذه الأخبار أو وإن القرآن وإن لم يجر له ذكر للعلم به، وبه قال قتادة (لتنزيل رب العالمين) أي: فليس بشعر ولا سحر، ولا أساطير، ولا غير ذلك مما قالوه فيه.(9/417)
نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193)
(نزل) قرئ مخففاً ومشدداً (به الروح الأمين) هو جبريل، كما في قوله قل من كان عدواً لجبريل فإنه نزله على قلبك وبه قال قتادة وابن عباس؛ وعنه مرفوعاً قال: الروح الأمين جبريل، رأيت له ستمائة جناح من لؤلؤ قد نشرها فيها مثل ريش الطواويس!! أخرجه أبو الشيخ، وسماه روحاً لأنه خلق من الروح، وسماه أميناً لأنه مؤتمن على وحيه لأنبيائه.(9/417)
عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194)
(على قلبك) أي: أنه تلاه على قلبك حتى تعيه وتفهمه ولا تنساه، ووجه تخصيص القلب أنه أول مدرك من الحواس الباطنة، قال الكرخي خصه(9/417)
بالذكر ليؤكد أن ذلك المنزل محفوظ، والرسول متمكن من قلبه لا يجوز عليه التغير، ولأن القلب هو المخاطب في الحقيقة، لأنه موضع التمييز والعقل والاختبار، وسائر الأعضاء مسخرة له.
ويدل عليه القرآن والحديث والمعقول أما القرآن فقوله تعالى: (إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب) والحديث قوله - صلى الله عليه وسلم - ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب أخرجاه في الصحيحين. وأما المعقول فإن القلب إذا غشى عليه، وقطع سائر الأعضاء لم يحصل له شعور، وأذا أفاق القلب شعر بجميع ما ينزل بالأعضاء من الآفات، وعبارة الخازن، ومن المعقول أن موضع الفرح والسرور، والغم والحزن، هو القلب، فإذا فرح القلب أو حزن يتغير حال سائر الأعضاء، فكان القلب كالرئيس لها، ومنه: إن موضع العقل هو القلب على الصحيح من القولين، فإذا ثبت ذلك كان القلب هو الأمير المطلق، وهو المكلف لأن التكليف مشروط بالعقل والفهم انتهى.
(لتكون من المنذرين) علة للإنزال أي: أنزله عليك لتنذرهم بما تضمنه من التحذيرات والإنذارات والعقوبات(9/418)
بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195)
(بلسان عربي مبين) أي: لتكون من المنذرين الذين أنذروا بهذا اللسان، وهم هود وشعيب وصالح وإسماعيل عليهم الصلاة والسلام، أو متعلق بـ (نزل) أي أنزله بلسان عربي لتنذر به.
وقال أبو البقاء: بلسان عربي، أي برسالة أو لغة. وقال أبو السعود باللغة العربية، وإنما جعل الله سبحانه القرآن عربياً بلسان الرسول العربي، لئلا يقول مشركو العرب: لو نزل بالأعجمي لسنا نفهم ما تقوله بغير لساننا فقطع بذلك حجتهم، وأزاح علتهم ودفع معذرتهم. قال ابن عباس: أي بلسان قريش، ولو كان غير عربي ما فهموه، وعن بريدة قال بلسان جُرْهُم.(9/418)
وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (196) أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ (197) وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (198) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ (199) كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (200) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (201) فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (202) فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ (203) أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ (204) أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ (205) ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ (206)(9/419)
وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (196)
(وإنه) أي: إن هذا القرآن باعتبار أحكامه التي أجمعت عليها الشرائع، أو ذكره، وقيل: الضمير لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - (لفي زبر الأولين) من الأنبياء كالتوراة والإنجيل، والزبر الكتب، الواحد زبور، وقد تقدم الكلام على تفسير مثل هذا، وقيل المراد بكون القرآن فيها أنه مذكور فيها هو نفسه لا ما اشتمل عليه من الأحكام، وفيه دليل على أن القرآن قرآن إذا ترجم بغير العربية كالفارسية وغيرها، والأول أولى، وقد قيل أن الصحيح من مذهب أبي حنيفة أن القرآن هو النظم والمعنى معاً قاله الشهاب.(9/419)
أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ (197)
(أولم يكن لهم آية)؟ الهمزة للإنكار. والواو للعطف على مقدر، كما تقدم مراراً، والآية العلامة والدلالة أي. ألم تكن لهؤلاء أي لكفار مكة علامة دالة على أن القرآن حق، وأنه تنزيل رب العالمين وأنه في زبر الأولين (أن يعلمه علماء بني إسرائيل) على العموم، أو من آمن منهم كعبد الله بن سلام، وأسد، وأسيد، وثعلبة، وابن يامين فهؤلاء الخمسة من علماء اليهود وقد حسن إسلامهم فإنهم يخبرون بذلك، وإنما صارت شهادة أهل الكتاب حجة على المشركين لأنهم كانوا يرجعون إليهم ويصدقونهم. قال الزجاج المعنى أولم يكن لهم علم علماء بني إسرائيل أن محمداً - صلى الله عليه وسلم - نبي حق، علامة ودلالة على نبوته، لأن العلماء الذين آمنوا من بني إسرائيل كانوا يخبرون بوجود ذكره في كتبهم.(9/419)
وكذا قال الفراء عن ابن عباس قال كان عبد الله بن سلام من علماء بني إسرائيل، وكان من خيارهم، فآمن بكتاب محمد فقال لهم الله أولم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل.(9/420)
وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (198)
(ولو نزلناه) أي هذا القرآن على الصفة التي هو عليها (على بعض) رجل من (الأعجمين) جمع أعجمي، قاله صاحب التحرير، أو جمع أعجم قاله ابن عطية، يقال رجل أعجم وأعجمي إذا كان غير فصيح اللسان، وإن كان عربياً، ورجل عجمي إذا كان أصله من العجم، وإن كان فصيحاً، إلا أنّ الفراء أجاز أن يقال رجل عجمي، بمعنى أعجمي وقرئ (على بعض الأعجميين) على الأصل، وقال الزمخشري الأعجم الذي لا يفصح، وفي لسانه عجمة أو استعجام، والأعجمي مثله إلا أن فيه زيادة ياء النسب توكيداً.(9/420)
فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ (199)
(فقرأه عليهم) قراءة صحيحة (ما كانوا به مؤمنين) أنفة من اتباعه، مع انضمام إعجاز القراءة من الرجل الأعجمي للكلام العربي، أي القرآن أو المعنى أن الأعجمي لا يتهم باكتسابه أصلاً، ولا باختراعه، لفقد الفصاحة فيه، ولكونه ليس لغته. وقيل المعنى ولو نزلناه على بعض الأعجمين بلغة العجم، فقرأه عليهم بلغته لم يؤمنوا به، وقالوا ما نفقه هذا ولا نفهمه، ومثل هذا قوله تعالى (ولو جعلناه قرآنا أعجمياً لقالوا لولا فصّلت آياته) وهذه الشرطية لا تستلزم الوقوع.(9/420)
كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (200)
(كذلك) أي مثل ذلك السلك (سلكناه) أي أدخلنا القرآن (في قلوب المجرمين) أي كفار مكة بقراءة النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى فهموا معانيه وعرفوا فصاحته، وأنه معجز. وقال الحسن وغيره سلكنا الشرك والتكذيب في قلوب المجرمين، وقال عكرمة سلكنا القسوة، والأول أولى، لأن السياق في القرآن، وفيه حجة على المعتزلة، في خلق أفعال العباد خيرها وشرها.(9/420)
لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (201)
(لا يؤمنون به) أي بالقرآن (حتى يروا العذاب الأليم) أي إلى هذه(9/420)
الغاية، وهي مشاهدتهم للعذاب الأليم والمراد معاينة الموت عند الموت، ويكون ذلك إيمان يأس فلا ينفعهم، والجملة مستأنفة أو حالية.(9/421)
فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (202)
(فيأتيهم) أي العذاب (بغتة) أي فجاة والفاء للترتيب الرتبي دون الزماني كما في الكشاف والمعنى حتى يروا العذاب فما هو أشد من رؤيته، وهو لحوقه بهم مفاجأة، فما هو أشد منه وهو سؤالهم الإنظار مع القطع بامتناعه كما يأتي (وهم) أي والحال أنهم (لا يشعرون) بإتيانه وقرأ الحسن فتأتيهم بالفوقية أي الساعة، وإن لم يتقدم لها ذكر لكنه قد دل العذاب عليها فيرونه.(9/421)
فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ (203)
(فيقولوا هل نحن منظرون)؟ أي مؤخرون وممهلون عن الهلاك ولو طرفة عين لنؤمن، قالوا هذا تحسر على ما فات من الإيمان، وطمعاً في المحال وهو إمهالهم بعد مجيء العذاب، وتمنياً للرجعة إلى الدنيا لإستدراك ما فرط منهم، فيقال لهم لا تأخير ولا إمهال، وقيل المراد بقولهم هذا الاستعجال للعذاب على طريقة الاستهزاء لقوله:(9/421)
أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ (204)
(أفبعذابنا يستعجلون)؟ ولا يخفى ما في هذا من البعد والمخالفة للمعنى الظاهر فإن معنى (هل نحن منظرون) طلب النظرة والإمهال، وأما قوله (أفبعذابنا) الخ فالمراد به الرد عليهم، والإنكار لما وقع منهم من قولهم (فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) وقولهم: (فائتنا بما تعدنا) حيث استعجلوا ما فيه ضررهم، وحتف أنفسهم، والفاء للعطف على مقدر يقتضيه المقام، أي أيكون حالهم كما ذكر عند نزول العذاب؟ فيستعجلون به وبينهما من التنافي ما لا يخفى على أحد، أو أيغفلون عن ذلك مع تحققه وتقرره فيستعجلون، وتقديم الظرف لرعاية الفواصل.(9/421)
أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ (205)
(أفرأيت) الاستفهام للإنكار، والفاء للعطف على مقدر يناسب المقام ومعنى رأيت أخبرني والخطاب لكل من يصلح له (إن متعناهم سنين) في الدنيا متطاولة، وطولنا لهم الأعمار(9/421)
ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ (206)
(ثم جاءهم ما كانوا يوعدون) من العذاب والهلاك.(9/421)
مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ (207) وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنْذِرُونَ (208) ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ (209) وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ (210) وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ (211) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (212) فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (213) وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214) وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215) فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (216) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (217) الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ (218)(9/422)
مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ (207)
(ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون) أي أيُّ شيء أو أيُّ إغناء أغنى عنهم كونهم ممتعين ذلك التمتع الطويل المديد، والاستفهام للإنكار التقريري و (ما) في (ما كانوا) مصدرية أو موصولة، وقيل (ما) الأولى نافية والثانية مصدرية أي لم يغن عنهم تمتعهم المتطاول في دفع العذاب، وتخفيفه وقرئ يمتعون من أمتع الله زيداً بكذا.
وعن ميمون بن مهران أنه لقي الحسن في الطواف وكان يتمنى لقاءه فقال له عظني فلم يزده على تلاوة هذه الآية، فقال ميمون قد وعظت فأبلغت وعن عمر بن عبد العزيز أنه كان يقرأها عند جلوسه للحكم.(9/422)
وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنْذِرُونَ (208)
(وما أهلكنا من قرية إلا لها منذرون) من مزيدة للتأكيد، أي وما أهلكنا قرية من القرى إلا بعد الإنذار والإعذار بإرسال الرسل إليهم وإنزال الكتب(9/422)
ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ (209)
(ذكرى) بمعنى تذكرة أي يذكرون ذكرى، قال النحاس وهذا قول صحيح لأن معنى إلا لها منذرون إلا لها مذكرون، أو التقدير إنذارنا ذكرى، أو ذلك ذكرى قال ابن الأنباري هي ذكرى، أو نذكرهم ذكرى وقيل ينذرونهم ذوي تذكرة أو لأجل التذكرة، وبه صرح أبو البقاء أي تنذرهم لأجل تذكيرهم بالعواقب، وقد رجح الأخفش أنها خبر مبتدأ محذوف والجملة اعتراضية.(9/422)
(وما كنا ظالمين) في تعذيبهم وليس من شأننا الظلم وقد قدمنا الحجة إليهم وأنذرناهم وأعذرنا إليهم.(9/423)
وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ (210)
(وما تنزلت به) أي بالقرآن (الشياطين) وقرئ بالواو والنون إجراء له مجرى جمع السلامة. قال النحاس: وهذا غلط عند جميع النحويين، قال المبرد وهذا غلط من العلماء، وبه قال الفراء، وقال المؤرج: إن كان الشيطان من شاط يشيط كان لهذه القراءة وجه، وقال يونس بن حبيب سمعت أعرابياً يقول: دخلنا بساتين من ورائها بساتون، وهذا رد لما زعمه الكفرة في القرآن أنه من قبيل ما تلقيه الشياطين على الكهنة بعد تحقيق الحق ببيان أنه نزل به الروح الأمين، فلا يكون سحراً أو كهانة أو شعراً أو أضغاث أحلام كما يقولون.(9/423)
وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ (211)
(وما ينبغي لهم) ذلك وما يصح منهم ولا يصلح أن ينزلوا به (وما يستطيعون) في ما نسبه الكفار إليهم أصلاً ولا يمكنهم(9/423)
إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (212)
(إنهم عن السمع) للقرآن أو لكلام الملائكة (لمعزولون) أي لمحجوبون مرجومون بالشهب، ثم لما قرر الله سبحانه حقية القرآن، وأنه منزل من عنده أمر نبيه - صلى الله عليه وسلم - بدعاء الله وحده فقال:(9/423)
فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (213)
(فلا تدع مع الله إلهاً آخر فتكون من المعذبين) إن فعلت ذلك الذي دعوك إليه، وخطاب النبي - صلى الله عليه وسلم - بهذا مع كونه منزهاً عنه معصوماً منه، لحث العباد على التوحيد، ونهيهم عن شوائب الشرك، وكأنه قال: أنت أكرم الخلق عليّ وأعزهم عندي، ولو اتخذت معي إلهاً لعذبتك، فكيف بغيرك من العباد؟ قال في حاشية الجمل: الخطاب له والمقصود غيره.(9/423)
وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214)
(وأنذر عشيرتك الأقربين) خصهم لأن الاهتمام بشأنهم أولى وهدايتهم إلى الحق أقدم، قيل هم قريش، وقيل: بنو عبد مناف، وقيل: بنو هاشم وقد ثبت في البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة قال: لما نزلت هذه الآية(9/423)
دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قريشاً وعم وخص، فقال: " يا معشر قريش أنقذوا أنفسكم من النار، فإني لا أملك لكم ضراً ولا نفعاً، يا معشر بني كعب بن لؤي أنقذوا أنفسكم من النار فإني لا أملك لكم ضراً ولا نفعاً، يا معشر بني قصي أنقذوا أنفسكم من النار فإني لا أملك لكم ضراً ولا نفعاً، يا معشر بني عبد مناف أنقذوا أنفسكم من النار فإني لا أملكم لكم ضراً ولا نفعاً، يا معشر بني عبد المطلب أنقذوا أنفسكم من النار فإني لا أملك لكم ضراً ولا نفعاً، يا فاطمة بنت محمد أنقدي نفسك من النار فإني لا أملك لك ضراً ولا نفعاً، ألا إن لكم رحماً وسأبلها ببلالها "، وفي الباب أحاديث من طريق جماعة من الصحابة فذلك منه - صلى الله عليه وسلم - بيان لعشيرة الأقربين وإنذاره لهم جهاراً.(9/424)
وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215)
(واخفض جناحك) أي جانبك، يقال: خفض جناحه إذا ألانه، وفيه استعارة حسنة، والمعنى ألن جناحك وتواضع (لمن اتبعك من المؤمنين) الموحدين من عشيرتك وغيرهم، وأظهر لهم المحبة والكرامة، وتجاوز عنهم.(9/424)
فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (216)
(فإن عصوك) أي خالفوا أمرك ولم يتبعوك (فقل) لهم (إني بريء مما تعملون) أي من عملكم أو من الذي تعملونه من عبادة غير الله، وهذا يدل على أنّ المراد بالمؤمنين الشارفون للإيمان المصدقون باللسان، لأن المؤمنين الخلص لا يعصونه ولا يخالفونه، ثم بين له ما يعتمد عليه عند عصيانهم له فقال:(9/424)
وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (217)
(وتوكل على العزيز الرحيم) أي فوِّض جميع أمورك إليه فإنه القادر على قهر الأعداء وهو الرحيم للأولياء، قرئ فتوكل بالفاء والواو وهما قراءتان سبعيتان فعلى الأولى يكون ما بعدها كالجزاء مما قبلها مترتباً عليه، وعلى الثانية يكون ما بعد الواو معطوفاً على ما قبلها عطف جملة على جملة من غير ترتيب(9/424)
الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ (218)
(الذي يراك حين تقوم) إلى الصلاة وحدك منفرداً في قول أكثر المفسرين وقال مجاهد حين تقوم حيثما كنت.(9/424)
وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (219) إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (220) هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ (223) وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ (226) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (227)(9/425)
وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (219)
(وتقلبك في الساجدين) المصلين، أي ويراك إن صليت في الجماعة راكعاً وقائماً وساجداً، كذا قال أكثر المفسرين وعن مقاتل أنه سأل أبا حنيفة رحمهما الله هل تجد الصلاة بالجماعة في القرآن قال لا يحضرني فتلا له هذه الآية، وقيل: يراك في أصلاب الرجال الموحدين من نبي إلى نبي من لدن آدم وحواء إلى عبد الله وآمنة، حتى أخرجك في هذه الأمة؛ فجميع أصوله رجالاً ونساء مؤمنون.
وأورد على هذا آزر أبو إبراهيم فإنه كافر بمقتضى الآيات وأجاب بعضهم بأنه كان عم إبراهيم لا أباه، وفيه ضعف بين. وأجاب بعضهم أن قولهم أصول محمد - صلى الله عليه وسلم - لم يدخلهم الشرك، محله ما دام النور المحمدي في الذكر وفي الأنثى، فإذا انتقل منه لمن بعده أمكن أن يعبد غير الله، وآزر ما عبد الأصنام إلا بعد انتقال النور منه لإبراهيم، وأما قبل انتقاله فلم يعبد غير الله، قاله الحفناوي.
وقيل، المراد بـ (تقوم) قيامه إلى التهجد، وبالتقلب تردده في تفحص أحوال المجتهدين في العبادة وتقلب بصره فيهم؛ كذا قال مجاهد.
قال ابن عباس: تقلبك أي قيامك وركوعك وسجودك، وعنه قال يراك وأنت مع الساجدين تقوم وتقعد معهم، وعنه قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا قام(9/425)
إلى الصلاة يرى من خلفه كما يرى من بين يديه، ومنه الحديث في الصحيحين وغيرهما عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: هل ترون قبلتي هاهنا فوالله ما يخفى على خشوعكم ولا ركوعكم، وإني لأراكم من وراء ظهري.(9/426)
إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (220)
(إنه هو السميع) لما تقوله (العليم) به، ثم أكد سبحانه معنى قوله (وما تنزلت به الشياطين) وبينه فقال:(9/426)
هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ (221)
(هل أنبئكم) يا كفار مكة (على من تنزل الشياطين)؟ أي تتنزل فحذف إحدى التاءين، وفيه بيان استحالة تنزل الشياطين على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -(9/426)
تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222)
(تنزل على كل أفاك أثيم) الأفاك الكثير الإفك، والأثيم كثير الإثم، والمراد به كل من كان كاهناً، فإن الشياطين كانت تسترق السمع، ثم يأتون إليهم فيلقونه إليهم مثل مسيلمة من المتنبئة، وكسطيح من الكهنة، وهو معنى قوله:(9/426)
يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ (223)
(يلقون السمع) أي: ما يسمعونه مما يسترقونه، فالمعنى حال كون الشياطين ملقين السمع، أي: ما يسمعونه من الملأ الأعلى إلى الكهان، ويجوز أن يكون المعنى أن الشياطين يلقون السمع، أي: يصغون إلى الملأ الأعلى ليسترقوا منهم شيئاًً ويكون المراد بالسمع على الوجه الأول المسموع، وعلى الوجه الثاني نفس حاسة السمع.
ويجوز أن تكون جملة يلقون السمع راجعة إلى كل أفاك أثيم، على أنها صفة أو مستأنفة، ومعنى الإلقاء أنهم يسمعون ما تلقيه إليهم الشياطين من الكلمات التي تصدق الواحدة منها، وتكذب المائة الكلمة، ويلقونها إلى عوام الخلق.
أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن عائشة قالت: سأل أناس النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الكهان فقال: إنهم ليسوا بشيء، قالوا يا رسول الله إنهم يحدثون أحياناً بشيء يكون حقاً قال: تلك الكلمة من الحق يخطفها الجني فيقذفها في أذن وليه، فيخلطون فيها أكثر من مائة كذبة. وفي لفظ البخاري فيزيدون معها(9/426)
مائة كذبة.
(و) جملة (أكثرهم كاذبون) راجعة إلى كل أفاك أثيم، أي وأكثر هؤلاء الكهنة كاذبون فيما يتلقونه من الشياطين، لأنهم يضمون إلى ما يسمعونه كثيراً من أكاذيبهم المختلقة أو أكثرهم كاذبون فيما يلقونه من السمع أي المسموع من الشياطين، إلى الناس، أو هذه الجملة راجعة إلى الشياطين أي أكثر الشياطين كاذبون فيما يلقونه إلى الكهنة مما يسمعونه، فإنهم يضمون إلى ذلك من عند أنفسهم كثيراً من الكذب، وكان هذا قبل أن حجبت الشياطين عن السماء.
وقد قيل: كيف يصح على الوجه الأول وصف الأفاكين بأن أكثرهم كاذبون، بعد ما وصفوا جميعاً بالإفك؛ وأجيب بأن المراد بالأفاك الذي يكثر الكذب، لا الذي لا ينطق إلا بالكذب، فالمراد بقوله: (وأكثرهم كاذبون) أنه قل من يصدق منهم فيما يحكى عن الشياطين، والغرض الذي سيق لأجله هذا الكلام رد ما كان يزعمه المشركون من كون النبي - صلى الله عليه وسلم - من جملة من يلقي إليه الشيطان السمع من الكهنة؛ ببيان أن الأغلب على الكهنة الكذب، ولم يظهر من أحوال محمد - صلى الله عليه وسلم - إلا الصدق. فكيف يكون كما زعموا؟ ثم إن هؤلاء الكهنة يعظمون الشياطين، وهذا النبي المرسل من عند الله برسالته إلى الناس يذمهم ويلعنهم، ويأمر بالتعوذ منهم.
ثم لما كان قد قال قائل من المشركين: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - شاعر، بيَّن سبحانه حال الشعراء ومنافاة ما هم عليه لما عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال:(9/427)
وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (224)
(والشعراء يتبعهم) مشدداً ومخففاً أي: يجاريهم وشملك مسلكهم ويكون من جملتهم (الغاوون) أي الضالون عن الحق، والشعراء جمع شاعر والغاوون جمع غاو، وهم ضلال الجن والإنس، قاله ابن عباس. وقيل الزائلون عن الحق، وقيل: المشركون، وقيل: الشياطين، وقيل: الذين يروون الشعر المشتمل على الهجاء وما لا يجوز.(9/427)
وقيل: المراد شعراء الكفار خاصة منهم عبد الله بن الزبعرى السهمي، وهبيرة بن أبي وهب المخزومي، ومسافع بن عبد مناف، وأبو عزة الجمحي، وأمية بن أبي الصلت الثقفي، تكلموا بالكذب والباطل، وقالوا نحن نقول مثل ما يقول محمد، وقالوا الشعر واجتمع إليهم غواة قومهم يسمعون أشعارهم حين يهجون النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه ويروون عنهم قولهم. فذلك قوله تعالى هذا.
قال الزجاج: إذا مدح أو هجا شاعر بما لا يكون، وأحب ذلك قوم وتابعوه فهم الغاوون، والمعنى لا يتبعهم على كذبهم وباطلهم وتمزيق الأعراض والقدح في الأنساب والطعن في الأحساب، ومدح من لا يستحق المدح وذم من لا يستحق الذم. ولا يستحسن ذلك منهم إلا الغاوون. عن ابن عباس قال: تهاجى رجلان على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحدهما من الأنصار، والآخر من قوم آخرين، وكان مع كل واحد منهما غواة من قومه وهم السفهاء، فأنزل الله هذه الآية ثم بين سبحانه قبائح شعراء الباطل فقال:(9/428)
أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (225)
(ألم تر أنهم في كل واد يهيمون)؟ تقرير لما قبله والخطاب لكل من تتأتى منه الرؤية، يقال: هام يهيم هيماً وهيماناً. إذا ذهب على وجهه، والهيام أن يذهب على وجهه من عشق وغيره، وهو تمثيل كما في الكشاف، والمعنى ألم تر أنهم في كل فن من فنون الكذب يخوضون؛ وفي كل شعب من شعاب الزور يتكلمون، فتارة يمزقون الأعراض بالهجاء، وتارة يأتون من المجون بكل ما يمجه السمع ويستقبحه العقل، وتارة يخوضون في بحر السفاهة والوقاحة، ويذمون الحق ويمدحون الباطل، ويرغبون في فعل المحرمات ويدعون الناس إلى فعل المنكرات، كما تسمعه في أشعارهم من مدح الخمر والزنا واللواط ونحو هذه الرذائل الملعونة.
كيف وأكثر مقدماتهم خيالات لا حقيقة لها، وأغلب كلماتهم في التشبيب بالحرام والغزل والابتهار، والقدح في الأنساب والطعن في الأحساب والوعد الكاذب، والإفتخار الباطل، ومدح من لا يستحقه؛ والإطراء فيه،(9/428)
قاله البيضاوي، وغيره، وهذا من باب الاستعارة البليغة والتمثيل الرائع شبه جولانهم في أفانين القول بطريق المدح والذم والتشبيب وأنواع الشعر بهيام الهائم في كل وجه وطريق، والهائم هو الذي يخبط في طريقه ولا يقصد موضعاً معيناً.
والهائم العاشق، والهيمان العطشان؛ والهيام داء يأخذ الإبل من العطش، وجمل أهيم، وناقة هيماء والجمع فيهما هيم قال تعالى فشاربون شرب الهيم.
قال ابن عباس في الآية: في كل لغو يخوضون، وقيل: يمدحون بالباطل ويهجون بالباطل، وقيل: إنهم يمدحون الشيء ثم يذمونه لا يطلبون الحق والصدق؛ فالوادي مثل لفنون الكلام وطرقه، والغوص في المعاني والقوافي ثم قال سبحانه:(9/429)
وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ (226)
(وإنهم يقولون ما لا يفعلون) أي يقولون فعلنا وفعلنا، وهم كذبة في ذلك ألجأهم إليه الفن الذي سلكوه، فقد يحثون بكلامهم على الكرم والخير، ولا يفعلونه وقد ينسبون إلى أنفسهم من أفعال الشر ما لا يقدرون على فعله، كما تجده في كثير من أشعارهم من الدعاوى الكاذبة، والزور الخالص المتضمن لقذف المحصنات، وأنهم فعلوا بهن كذا وكذا وذلك كذب محض وافتراء بحت ثم استثنى سبحانه الشعراء المؤمنين الصالحين الذين أغلب أحوالهم تحرّي الحق والصدق، وكانوا يجيبون شعراء الكفار ويهجون وينافحون عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه فقال:(9/429)
إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (227)
(إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات) أي دخلوا في حزب المؤمنين، وعملوا بأعمالهم الصالحات (وذكروا الله كثيراً) في أشعارهم ولم يشغلهم الشعر عن ذكر الله كابن رواحة، وحسان بن ثابت، وكعب بن مالك وكعب ابن زهير رضي الله تعالى عنهم. وعن عروة، قال: لما نزلت والشعراء إلى قوله ما لا يفعلون، قال عبد الله بن رواحة يا رسول الله قد علم الله أني منهم(9/429)
فأنزل الله إلا الذين آمنوا إلى قوله ينقلبون وروي نحو هذا من طرق.
(وانتصروا من بعد ما ظلموا) كمن يهجو منهم من هجاه أو ينتصر لعالم أو فاضل، كما كان يقع من شعراء النبي - صلى الله عليه وسلم - فإنهم كانوا يهجون من يهجوه، ويحمون عنه ويذبون عن عرضه، ويكافحون شعراء المشركين وينافحونهم.
ويدخل في هذا من انتصر بشعره لأهل السنة، وكافح أهل البدعة وزيف ما يقول شعراؤهم من مدح بدعتهم، وهجو السنة المطهرة كما يقع ذلك كثيراً من شعراء الرافضة ونحوهم، فإن الانتصار للحق بالشعر وتزييف الباطل به من أعظم المجاهدة، وفاعله من المجاهدين في سبيل الله المنتصرين لدين الله القائمين بما أمر الله بالقيام به.
واعلم أن الشعر في نفسه ينقسم إلى أقسام فقد يبلغ ما لا خير فيه منه إلى قسم الحرام. وقد يبلغ ما فيه خير منه إلى قسم الواجب، وقد وردت أحاديث في ذمه وذم الاستكثار منه، ووردت أحاديث أخر في إباحته وتجويزه، والكلام في تحقيق ذلك يطول.
وأخرج أحمد والبخاري في تاريخه، وأبو يعلى وابن مردويه عن كعب بن مالك أنه قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: " إن الله قد أنزل في الشعراء ما أنزل فكيف ترى فيه؟ فقال: إن المؤمن يجاهد نفسه بسيفه ولسانه، والذي نفسي بيده لكأن ما ترموهم به نضح النبل ".
وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد عن أبي سعيد قال: بينما نحن نسير مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ عرض شاعر ينشد فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحاً خير له من أن يمتلئ شعراً ".
وأخرج الديلمي مرفوعاً عن ابن مسعود: الشعراء الذين يموتون في الإسلام يأمرهم الله أن يقولوا شعراً يتغنى به الحور العين لأزواجهن في الجنة، والذين ماتوا في الشرك يدعون بالويل والثبور في النار.(9/430)
وأخرج ابن مردويه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إن من الشعر لحكمة ".
قال: وأتاه قريظة بن كعب وعبد الله بن رواحة وحسان بن ثابت، فقالوا: إنا نقول الشعر وقد نزلت هذه الآية فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " اقرأوا " فقرأوا والشعراء إلى قوله: (إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات) فقال: أنتم هم وذكروا الله كثيراً، فقال " أنتم هم "، وانتصروا من بعد ما ظلموا فقال: " أنتم هم ".
وأخرج ابن سعد، وابن أبي شيبة عن البراء بن عازب قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لحسان بن ثابت: أهج المشركين فإن جبريل معك.
وأخرج أحمد وابن سعد عن أبي هريرة قال: مر عمر بحسان وهو ينشد في المسجد فلحظ إليه فنظر إليه فقال قد كنت أنشد فيه وفيه من هو خير منك فسكت ثم التفت حسان إلى أبي هريرة فقال: أنشدك بالله هل سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول أجب عني اللهم أيده بروح القدس؟ قال: نعم.
وأخرج ابن أبي شيبة عن بريدة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إن من الشعر حكماً ".
وأخرج ابن أبي شيبة عن ابن مسعود عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: " لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحاً يريه خير من أن يمتلئ شعراً ".
وأخرج مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحاً يريه خير من أن يمتلئ شعراً ".
وفي الحديث الصحيح عن أبي سعيد الخدري مرفوعاً: " لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحاً خير له من أن يمتلئ شعراً ".
قال في الصحاح ورى القيح جوفه يريه ورياً إذا أكله.
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " حسن الشعر كحسن الكلام وقبيح الشعر كقبيح الكلام ". قال القرطبي: رواه إسماعيل عن(9/431)
عبد الله بن عوف الشامي؛ وحديثه عن أهل الشام صحيح فيما قال يحيى بن معين وغيره.
وأخرج مسلم من حديث عمرو بن الشريد عن أبيه قال: ردفت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: " هل معك من شعر أمية بن أبي الصلت؟ " قلت نعم، قال: " هيه "، فأنشدته بيتاً فقال: " هيه ". ثم أنشدته بيتاً، فقال: " هيه "، حتى أنشدته مائة بيت.
وقال الشعبي: كان أبو بكر يقول الشعر، وكان عمر يقول الشعر، وكان عثمان يقول الشعر، وكان عليّ أشعر من الثلاثة. وعن ابن عباس أنه كان ينشد الشعر ويستنشده في المسجد فروى أنه دعا عمر بن أبي ربيعة المخزومي فاستنشده قصيدة فأنشده إياها؛ وهي قريب من تسعين بيتاً، ثم إن ابن عباس أعاد القصيدة جميعها وكان حفظها من مرة واحدة.
وروى البخاري عن أُبي بن كعب أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " إن من الشعر حكمة " وقالت عائشة: الشعر كلام فمنه حسن ومنه قبيح، فخذ الحسن ودع القبيح ولآزاد البلجرامي رحمه الله في بيان حكم الشعر كلام لطيف في كتابه تسلية الفؤاد، إن شئت فارجع إليه، ثم ختم سبحانه هذه السورة بآية جامعة للوعيد كله فقال:
(وسيعلم) وفيه تهديد شديد؛ وتهويل عظيم؛ وكذا في إطلاق (الذين ظلموا) وإبهام (أي منقلب ينقلبون)؟ بعد الموت، وخص بعضهم هذه الآية بالشعراء؛ ولا وجه لذلك، فإن الاعتبار بعموم اللفظ، وقد تلاها أبو بكر لعمر حين عهد إليه، وكان السلف يتواعظون بها. قال ابن عطاء سيعلم المعرض عنا ما الذي فاته منا. والمعنى ينقلبون منقلباً أي منقلب، والمراد جهنم. وقدم (أي) لتضمنه معنى الاستفهام.
قال أبو البقاء: ولا يعمل فيه (سيعلم) لأن الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله، بل هو معلق عن العمل فيه وهذا الذي قاله مردود بأن أيا الواقعة صفة لا(9/432)
تكون استفهامية، وكذلك الاستفهامية لا تكون صفة، بل هما قسمان كل منهما قسم برأسه و (أي) تنقسم إلى أقسام كثيرة. قال النحاس وحقيقة القول في ذلك الاستفهام معنى، وما قبله معنى آخر، فلو عمل فيه ما قبلها لدخل بعض المعاني في بعض، والله أعلم.
وقال القرطبي: معناه أي مصير يصيرون؟ وأي مرجع يرجعون؟ لأن مصيرهم إلى النار وهو أقبح مصير، ومرجعهم إلى العذاب، وهو شر مرجع. والفرق بين المنقلب والمرجع أن المنقلب الانتقال إلى ضد ما هو فيه؛ والمرجع العود من حال هو فيها إلى حال كان عليها، فصار كل مرجع منقلباً، وليس كل منقلب مرجعاً ذكره الماوردي.
والمعنى عند الحسن وابن عباس أنّ الظالمين يطمعون في الانقلاب من عذاب الله، والانفكاك منه، ولا يقدرون على ذلك. وعن فضالة بن عبيد في الآية قال هؤلاء الذين يخربون البيت. والْحَمدُ لله رَب العَالَمِينَ(9/433)
خاتمة الجزء التاسع
تم بعون الله الجزء التاسع من فتح البيان في مقاصد القرآن ويليه الجزء العاشر وأوله تفسير سورة النمل.(9/435)
فتحُ البيان في مقاصد القرآن
تفسِير سَلفي أثري خالٍ منَ الإِسرَائيليّاتِ والجَدليَّاتِ المذهبية والكلامية يغني عَن جميع التفاسِير وَلا تغني جميعُهَا عَنه
تأليف: السيد الإمام العلامة الملك المؤيد من الله الباري آبي الطيب صديق بن حسن بن علي الحسين القنوجي النجاري 1248 - 1307 هـ
عني بطبعهِ وقدّم له وراجعه: خادم العلم عَبد الله بن إبراهيم الأنصَاري
الجزء العاشر
المَكتبة العصريَّة
صَيدَا - بَيروت(10/1)
جَمِيع الحُقُوق محفُوظَة
1412 هـ - 1992 م
شركة أبناء شريف الأنصاري للطباعة والنشر والتوزيع
المَكتبة العصريَّة للطبَاعة والنّشْر
الدار النموذجية ــ المكتبة العصرية
بَيروت - صَ. ب 8355 - تلكس LE 20437 SCS
صَيدَا - صَ. ب 221 - تلكس LE 29198(10/2)
فتح البيان في مقاصد القرآن(10/3)
الجزء العاشر
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
ويشتمل على:
- سورة النمل
- سورة القصص
- سورة العنكبوت
- سورة الروم
- سورة لقمان(10/5)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
سورة النمل
(هي ثلاث أو أربع أو خمس وتسعون آية)
قال القرطبي: وهي مكية كلها في قول الجميع، وبه قال ابن عباس، وعن ابن الزبير مثله.(10/7)
بسم الله الرحمن الرحيم
طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ (1) هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (3) إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ (4) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (5) وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (6)(10/9)
طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ (1)
(طس) قد مر الكلام مفصلاً في فواتح السور، وهذه الحروف إن كانت اسماً للسورة فمحلها الرفع على الابتداء، وما بعدها خبرها، ويجوز أن تكون خبر مبتدأ محذوف أي اسم هذه السورة طس، وإن كانت مسرودة على نمط التعديد فلا محل لها، والله أعلم بمراده بذلك.
(تلك) إشارة إلى نفس السورة لأنها قد ذكرت إجمالاً بذكر اسمها (آيات القرآن وكتاب مبين) عطف بزيادة صفة على مفهوم المعطوف عليه، وكان مفيداً بهذا الاعتبار، والمراد بالكتاب القرآن نفسه أو اللوح المحفوظ، أو نفس السورة.
وقد وصف الآيات بالوصفين، القرآنية الدالة على كونها مقروءة مع الإشارة إلى كونها قرآناً عربياً معجزاً، والكتابية الدالة على كونها مكتوبة، مع الإشارة إلى كونها متصفة بصفة الكتب المنزلة ثم ضم إلى الوصفين وصفاً ثالثاً، وهي الإبانة لمعانيه لمن يقرأه: وهو من أبان بمعنى بان، معناه اتضح إعجازه، بما اشتمل عليه من البلاغة أو مظهر لما في تضاعيفه من الحكم والأحكام، وأحوال الآخرة التي من جملتها الثواب والعقاب؛ أو لسبيل الرشد والغي، أو فارق بين الحق والباطل، والحلال والحرام.
وقدم وصف القرآنية هنا نظراً إلى تقدم حال القرآنية على حال الكتابة،(10/9)
وأخره في سورة الحجر فقال: تلك آيات الكتاب وقرآن مبين، نظراً إلى حالته التي قد صار عليها فإنه مكتوب، والكتابة سبب القراءة، والله أعلم.
وأما تعريف القرآن هنا وتنكير الكتاب، وتعريف الكتاب في سورة الحجر وتنكير القرآن، فلصلاحية كل واحد منهما للتعريف والتنكير، لأن القرآن والكتاب اسمان علمان للمنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم - ووصفان له، لأنه يقرأ ويكتب، فحيث جاء بلفظ التعريف فهو العلم، وحيث جاء بلفظ التنكير فهو الوصف.(10/10)
هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2)
(هدى وبشرى للمؤمنين) أي: تلك آيات هادية ومبشرة أو هو هدى أو يهدي هدى ويبشر بشرى، أو هاد من الضلالة، ثم وصف المؤمنين الذين لهم الهدى والبشرى فقال:(10/10)
الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (3)
(الذين يقيمون الصلاة) أي الخمس، ويديمون على شرائطها من
الفروض والسنن، ويأتون بها على وجهها.
(ويؤتون الزكاة) أي: يؤدون ويعطون زكاة أموالهم إذا وجبت عليهم، طيبة بها أنفسهم، ولما كانت إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة مما يتكرر ويتجدد في أوقاتهما، أتى بهما فعلين، ولما كان الإيقان بالآخرة أمراً ثابتاً مطلوباً دوامه، أتى به جملة اسمية فقال:
(وهم بالآخرة هم يوقنون) يعلمونها بالاستدلال، وجعل الخبر مضارعاً للدلالة على أن إيقانهم يستمر على سبيل التجدد في كل وقت، وعدم الانقطاع وكرر الضمير للدلالة على الحصر، ولما فصل بينه وبين الخبر، أي لا يوقن بالآخرة حق الإيقان إلا هؤلاء الجامعون بين الإيمان والعمل الصالح، لأن خوف العاقبة يحملهم على تحمل المشاق، وأنهم الأوحدون فيه، ثم لما ذكر سبحانه أهل السعادة ذكر بعدهم أهل الشقاوة فقال:(10/10)
إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ (4)
(إن الذين لا يؤمنون بالآخرة) أي: لا يصدقون بالبعث وهم الكفار.
(زينا لهم أعمالهم) قيل: المراد أن الله زين لهم أعمالهم السيئة(10/10)
القبيحة بتركيب الشهوة فيهم، حتى رأوها حسنة، وقيل: المراد أن الله زين لهم الأعمال الحسنة وذكر لهم ما فيها من خيري الدنيا والآخرة فلم يقبلوا ذلك. قال الزجاج: معنى الآية إنا جعلنا جزاءهم على كفرهم أن زينا لهم ما هم فيه بأن جعلناه مشتهى بالطبع محبوباً للنفس.
(فهم يعمهون) أي يترددون فيها متحيرين على الاستمرار، لا يهتدون. إلى طريقه، ولا يقفون على حقيقته؛ لعدم إداركهم قبحها في الواقع، وقيل: المعنى يتمادون، قاله أبو العالية وقال قتادة: يلعبون. وعن الحسن: يتحيرون. وقيل: يداومون وينهمكون فيها، ويستمرون. والمعاني متقاربة.(10/11)
أُولَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (5)
(أولئك الذين لهم سوء العذاب) أي: أشده، قيل: في الدنيا كالقتل والأسر ووجه تخصيصه بعذاب الدنيا قوله بعده:
(وهم في الآخرة هم الأخسرون) أي: هم أشد الناس خسراناً، وأعظمهم خيبة، فالمفضل عليه هو أنفسهم من حيث اعتبار اختلاف الزمان والمكان ثم مهد سبحانه مقدمة نافعة لما سيذكره بعد ذلك من الأخبار العجيبة، فقال مخاطباً للنبي - صلى الله عليه وسلم -:(10/11)
وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (6)
(وإنك لتلقى القرآن من لدن حكيم عليم) أي: يلقى عليك بشدة فتلقاه، وتأخذه من لدن كثير الحكمة والعلم، ووجه الجمع بينهما -مع أن العلم داخل في الحكمة- أن العلم الذي يدخل فيها هو العلم العملي، وهو الذي يتعلق بكيفية عمل، والعلم أعم منه، فكأنه قيل: مصيب في أفعاله، لا يفعل شيئاًً إلا على وفق علمه، عليم بكل شيء، سواء كان ذلك العلم مؤدياً إلى العمل أم لا.
قيل: إن (لدن) هاهنا بمعنى عند، وفيها لغات كما تقدم في سورة الكهف، وهذه الآية بساط وتمهيد لما يريد أن يسوق بعدها من الأقاصيص وما في ذلك من لطائف حكمته، ودقائق علمه؛ وقد اشتملت هذه السورة على قصص خمس: الأولى هذه، وتليها قصة النملة، وتليها قصة بلقيس، وتليها قصة صالح، وتليها قصة لوط.(10/11)
إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَارًا سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (7) فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (8) يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9) وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (10) إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (11)(10/12)
إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَارًا سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (7)
(إذ قال موسى لأهله) قال الزجاج: أي اذكر قصته إذ قال لأهله، والمراد بأهله امرأته في مسيره من مدين إلى مصر، وكان في ليلة مظلمة باردة مثلجة وقد ضل الطريق، وأخذ زوجه الطلق، والحامل له على هذا السفر أن يجتمع بأمه وأخيه بمصر، ولم يكن معه إذ ذاك إلا زوجته بنت شعيب، فكنى عنها بلفظ الأهل الدال على الكثرة للتعظيم، وقيل: كان معه ولده وخادمه أيضاً ومثله قوله: امكثوا (إني آنست ناراً) أي أبصرتها من بعيد.
(سآتيكم منها بخبر) عن حال الطريق، وكان قد ضلها، والسين تدل على بعد مسافة النار وتأكيد الوعد. والجمع -إن صح أنه لم يكن معه عليه السلام إلا امرأته لما كنى عنها بالأهل، أو للتعظيم- مبالغة في التسلية.
(أو آتيكم بشهاب قبس) بتنوينهما على أن الثاني بدل من الأول أو صفة له لأنه بمعنى مقبوس، أي بشعلة نار مقبوسة، أي مأخوذة من أصلها، وقرئ بالإضافة على أنها للبيان، فالمراد تعيين المقصود الذي هو القبس الجامع لمنفعتي الضياء والاصطلاء، لأن من النار ما ليس بقبس كالجمر وكلتا العدتين منه عليه الصلاة والسلام بطريق الظن، كما يفصح عن ذلك ما في سورة طه من صيغة الترجي والترديد للإيذان بأنه إن لم يظفر بهما لم يعدم أحدهما بناء على ظاهر الأمر وثقة بسنة الله تعالى فإنه تعالى لا يكاد يجمع على عبده حرمانين، قاله أبو السعود.(10/12)
والمعنى على القراءتين آتيكم بشعلة نار مأخوذة من أصلها في رأس فتيلة أو عود. قال الزجاج: من نوّن جعل (قبس) من صفة (شهاب). وقال الفراء: هذه الإضافة كمسجد الجامع، وصلاة الأولى، أضاف الشيء إلى نفسه لاختلاف أسمائه. وقال النحاس: هي إضافة النوع إلى الجنس، كما تقول ثوب خز وخاتم حديد وهي بمعنى: من. أي: شهاب من قبس.
قال: ويجوز في غير القرآن بشهاب قبساً، على أنه مصدر أو بيان أو حال. قال الزجاج: كل أبيض ذي نور فهو شهاب. وقال أبو عبيدة: الشهاب النار، وقال ثعلب: أصل الشهاب عود، في أحد طرفيه جمرة والآخر لا نار فيه، والشهاب الشعاع المضيء، وقيل للكوكب: شهاب.
(لعلكم تصطلون) أي: رجاء أن تستدفئوا بها من البرد: أو لكي تستدفئوا بها، يقال: صلى بالنار واصطلى بها إذا استدفأ بها، والصلاء النار العظيمة، واختلاف الألفاظ في هاتين السورتين، والقصة واحدة، دليل على جواز نقل الحديث بالمعنى، وجواز النكاح بغير لفظ التزوج.(10/13)
فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (8)
(فلما جاءها) أي النار التي أبصرها (نودي) من جانب الطور (أن بورك من في النار ومن حولها) (أن) هي المفسرة لما في النداء من معنى القول، أي قيل له: بورك أو هي المصدرية أي بأن بورك، أي بارك الله أي ناداه بأنا قدسناك، وطهرناك، واخترناك للرسالة. وقيل: هي المخففة من المثقلة، وتقديره بأنه بورك، واسمها ضمير الشأن، وبورك خبرها، وجاز ذلك من غير عوض، وإن منعه الزمخشري، أي لم يحتج هنا إلى فاصل. لأن قوله بورك دعاء والدعاء يخالف غيره في أحكام كثيرة. وقرئ أن بوركت النار.
وحكى الكسائي عن العرب باركك الله وبارك فيك وعليك ولك. وكذلك حكى هذا الفراء. قال ابن جرير: قال بورك من في النار، ولم يقل بورك على من في النار، على لغة من يقول: باركك الله، أي بورك، وقدس، وطهر من النار، وهو موسى، وليس هو فيها حقيقة، بل في المكان القريب(10/13)
منها وهذا تحية من الله تعالى لموسى وتكرمة له، كما حي إبراهيم على ألسنة الملائكة حين دخلوا عليه فقالوا: (رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت) قاله القرطبي.
ْوقال السدي: كان في النار ملائكة، والنار هنا هي مجرد النور، ولكنه ظن موسى أنها نار، فلما وصل إليها وجدها نوراً، وعن الحسن، وسعيد بن جبير أن المراد بمن في النار هو الله سبحانه أي نوره أو قدرته وسلطانه. وقيل: بورك ما في النار من أمر الله سبحانه الذي جعلها على تلك الصفة.
قال الواحدي: ومذهب المفسرين أن المراد بالنار هنا النور، وعن ابن عباس قال: يعني تبارك وتعالى نفسه، كان نور رب العالمين في الشجرة ومن حولها يعني الملائكة؛ وعنه قال: كان الله في النور، نودي من النور ومن حولها. قال الملائكة، وعنه قال: ناداه الله وهو في النور وعنه قرئ بوركت النار، وفي مصحف أُبي بن كعب. بوركت النار أما النار فيزعمون أنها نور رب العالمين.
وعن ابن عباس، بورك قال: قدس، وقيل: المراد (من) غير العقلاء وهو النور والأمكنة التي حولها. وأخرج عبد بن حميد، وابن ماجة، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي عن أبي موسى الأشعري قال: قام فينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: " إن الله لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفع إليه عمل الليل قبل النهار، وعمل النهار قبل الليل، حجابه النور، لو رفع لأحرقت سبحات وجهه كل شيء أدركه بصره ". ثم قرأ أبو عبيدة (أن بورك من في النار ومن حولها وسبحان الله رب العالمين) والحديث أصله مخرج في صحيح مسلم من حديث عمرو بن مرة.
وفي التوراة: جاء الله من سيناء، وأشرف من ساعير واستعلى من جبال فاران. والمراد بعثة موسى من سيناء، وبعثة عيسى من ساعير، وبعثة(10/14)
محمد - صلى الله عليه وسلم - من فاران، وهو اسم مكة، ثم نزه سبحانه نفسه من السوء فقال:
(وسبحان الله رب العالمين) فيه تعجيب لموسى من ذلك هو من جملة ما نودي به، وإنما وقع التعرض للتنزيه في هذا المقام لدفع ما رب أن يتوهمه موسى بحسب الطبع البشري، الجاري على العادة الخلقية أن الكلام الذي يسمعه في ذلك المكان بحرف وصوت حادث، ككلام الخلق، أو المتكلم به في مكان أو جهة قاله الحفناوي.(10/15)
يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9)
(يا موسى إنه) أي الشأن (أنا الله العزيز) الغالب القاهر (الحكيم) في أمري وفعلي، وقيل: إن موسى قال: يا رب من الذي ناداني؟ فأجابه سبحانه بقوله: إنه أنا الله، وهو تمهيد لما أراد أن يظهر على يده من المعجزات فأمره سبحانه بأن يلقي عصاه ليعرف ما أجراه على يده من المعجزات الخارقة، فيأنس بها فقال:(10/15)
وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (10)
(وألق) عطف على بورك منتظم معه في سلك تفسير النداء أي نودي أن بورك وأن ألق (عصاك فلما رآها تهتز) جملة حالية من هاء (رآها) لأن الرؤية بصرية وقوله (كأنها جان) يجوز أن تكون حالاً ثانية وأن تكون حالاً من ضمير (تهتز) فتكون حالاً متداخلة، قاله السمين.
قال الزجاج: صارت العصا تتحرك كما يتحرك الجان وهو الحية البيضاء، وإنما شبهها بالجان في خفة حركتها وإلا فجثتها كانت كبيرة جداً: وشبهها في موضع آخر بالثعبان لعظمها، وجمع الجان جنان، وهي الحية الخفيفة الصغيرة الجسم، وقال الكلبي: لا صغيرة ولا كبيرة. والفاء فصيحة تفصح عن جملة قد حذفت ثقة بظهورها، ودلالة على سرعة وقوع مضمونها كأنه قيل: فألقاها فانقلبت حية تسعى، فأبصرها.
فلما أبصرها متحركة بسرعة واضطراب (ولى مدبراً) من الخوف (ولم يعقب) أي لم يرجع على عقبه من عقب المقاتل إذا كر بعد الفر، يقال: عقب فلان إذا رجع وكل راجع معقب، وقيل: لم يقف ولم يلتفت ولم(10/15)
يعطف، ولم ينظر، والأول أولى. لأن التعقيب هو الكر بعد الفر، وإنما اعتراه الرعب لظنه أن ذلك لأمر أريد به كما ينبئ عنه قوله:
(يا موسى لا تخف) من غيري أي: من الحية وضررها ثقة بي أو لا تخف مطلقاً.
(إني لا يخاف لدي المرسلون) أي: لا يخاف عندي من أرسلته برسالتي، من حية وغيرها، فلا تخف، أنت عندي. قيل: ونفي الخوف عن المرسلين ليس في جميع الأوقات، بل في وقت الخطاب لهم، والإيحاء والإرسال؛ لأنهم إذ ذاك مستغرقون في مطالعة شؤون الله عز وجل، لا يخطر ببالهم خوف من شيء وأما في غير هذه الحالة فالمرسلون أخوف الناس منه تعالى. أو المعنى لا يكون لهم عندي سوء عاقبة ليخافوا منه، ثم استثنى استثناء منقطعاً فقال:(10/16)
إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (11)
(إلا من ظلم) أي لكن من أذنب في ظلم نفسه بالمعصية (ثم بدل حسناًْ) أي: توبة وندماً أتاه (بعد سوء) أي بعد عمل سوء (فإني غفور رحيم) أقبل التوبة وأغفر له؛ وقيل: الاستثناء من مقدر، أي لا يخاف لدي المرسلون، وإنما يخاف غيرهم ممن ظلم " إلا من ظلم ... الخ "، كذا قال الفراء. وقال النحاس: الاستثناء من محذوف محال، لأنه استثناء من شيء لم يذكر. وعن الفراء أن (إلا) بمعنى الواو.
وقيل: إن الاستثناء متصل من المذكور لا من المحذوف، والمعنى إلا من ظلم من المرسلين بإتيان الصغائر التي لا يسلم منها أحد، واختار هذا النحاس، وقال: علم من عصاه منهم فاستثناه فقال إلا من ظلم، وإن كنت قد غفرت له كآدم، وداود. وإخوة يوسف، وموسى لقتله القبطي. ولا مانع من الخوف بعد المغفرة فإن نبينا - صلى الله عليه وسلم - الذي غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر كان يقول: وددت أني شجرة تعضد.(10/16)
وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (12) فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (13) وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (14) وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (15)(10/17)
وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (12)
(وأدخل يدك في جيبك) المراد بالجيب هو المعروف، أي طوق القميص سمي جيباً لأنه يجاب، أي: يقطع ليدخل فيه الرأس. وفي القصص (أسلك يدك في جيبك) وفي (أدخل) من المبالغة ما لم يكن في (أسلك) ولم يأمره بإدخالها في كمه لأنه كان عليه مدرعة صغيرة من صوف لا كم لها. وقيل: كان لها كم قصير، عن ابن عباس قال: كانت على موسى جبة من صوف لا تبلغ مرفقيه، فقال له أدخل يدك في جيبك فأدخلها.
(تخرج) خلاف لونها من الأدمة (بيضاء من غير سوء) أي من غير برص أو نحوه من الآفات فهو احتراس، وقيل: في الكلام حذف تقديره: أدخل يدك تدخل، وأخرجها تخرج، ولا حاجة إلى هذا الحذف، ولا ملجئ إليه. قال المفسرون: وكانت على موسى مدرعة من صوف لا كم لها ولا أزرار، فأدخل يده في جيبه وأخرجها، فإذا هي تبرق كالبرق لها شعاع يغشي البصر.
(في تسع آيات) قال أبو البقاء: هو في محل نصب على الحال من فاعل (تخرج) وفيه بعد. وقيل: متعلق بمحذوف أي: اذهب في تسع آيات وقيل: متعلق بقوله: ألق عصاك وأدخل يدك، في جملة تسع آيات: وقيل: المعنى مهما آيتان من تسع، يعني العصا واليد فتكون الآيات إحدى عشرة، هاتان والفلق، والطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم، والطمس،(10/17)
والجدب في بواديهم، والنقصان في مزارعهم، قال النحاس: أحسن ما قيل فيه: إن هذه الآية يعني اليد داخلة في تسع آيات، وكذا قال المهدوي والقشيري.
قال الزجاج والقشيري: تقول خرجت في عشرة نفر وأنت أحدهم أي: خرجت عاشر عشرة فـ (في) بمعنى من، لقربها منها كما تقول: خذ لي عشراً من الإبل فيها فحلان، أي منها. وقيل: في بمعنى مع واليد والعصا خارجتان من التسع، وكذا فعل ابن عطية.
(إلى فرعون وقومه) قال الفراء: في الكلام إضمار، أي: إنك مبعوث أو مرسل إلى فرعون وقومه، وكذا قال الزجاج.
(إنهم كانوا قوماً فاسقين) تعليل لما قبله من المقدر، أي خارجين عن الحدود في الكفر والعدوان.(10/18)
فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (13)
(فلما جاءتهم آياتنا) التي كانت على يد موسى حال كونها (مبصرة) أي مضيئة واضحة اسم فاعل أطلق على المفعول نحو ماء دافق، أي مدفوق إشعاراً بأنها لفرط إنارتها ووضوحها تبصر نفسها لو كانت مما يبصر. كقوله: (وآتينا ثمود الناقة مبصرة) وقرئ مبصرة بفتح الميم والصاد، أي مكاناً يكثر فيه التبصر، كما يقال: الولد مجبنة ومبخلة، والأول أولى. ونسب الإبصار إليها مجازاً لأن بها يبصر. والمعنى إضاءة معنوية في كلها أو حسية أيضاً في بعضها وهو اليد.
فلما جاءتهم آياتنا (قالوا هذا) الذي نشاهده من الخوارق التي أتى بها موسى (سحر مبين) واضح ظاهر سحريته.(10/18)
وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (14)
(وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم) أي قد كذبوا بها ولم يقروا حال كون أنفسهم مستيقنة لها أنها من عند الله فالواو للحال، يقال: جحد حقه وبحقه بمعنى، والاستيقان أبلغ من الإيقان.
(ظلماً) أي للآيات كقوله تعالى: بما كانوا بآياتنا يظلمون، ولقد ظلموا(10/18)
بها أي ظلم حيث حطوها عن رتبتها العالية، وسموها سحراً.
(وعلواً) استكباراً عن الإيمان بها كقوله تعالى والذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها؛ وانتصابهما إما على العلة أي الحامل لهم على ذلك الظلم والعلو، أو على الحالية من فاعل جحدوا، أي جحدوا بها ظالمين لها مستكبرين عنها ويجوز أن يكونا نعت مصدر محذوف، أي جحدوا بها جحوداً ظلماً وعلواً.
قال أبو عبيدة: والباء في (وجحدوا بها) زائدة. وقال الزجاج: التقدير وجحدوا بها ظلماً وعلواً أي وتكبروا عن أن يؤمنوا بما جاء به موسى، وهم يعلمون أنها من عند الله.
(فانظر كيف كان عاقبة المفسدين) أي تفكر يا محمد في ذلك فإن فيه معتبراً للمعتبرين، وقد كان عاقبة أمرهم الإغراق لهم هنا في البحر، على تلك الصفة الهائلة، والإحراق ثمة، وإنما لم يذكر تنبيهاً على أنه عرضة لكل ناظر مشهور فيما بين كل باد وحاضر. ولما فرغ سبحانه من قصة موسى، شرع في قصة داود وابنه سليمان، وهذه القصة وما قبلها وما بعدها، هي كالبيان والتقرير لقوله: (وإنك لتلقى القرآن من لدن حكيم عليم) فقال:(10/19)
وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (15)
(ولقد آتينا) أي أعطينا (داود وسليمان) ابنه (علماً) التنوين إما للنوع أي طائفة من العلم، أو للتعظيم، أي علماً كثيراً، قيل: المراد علم الدين والحكم، وقيل: علم القضاء والسياسة، وقيل: علم داود تسبيح الطير، وعلم سليمان منطق الطير والدواب.
وكان لداود تسعة عشر ولداً، سليمان واحد منهم، وعاش داود مائة سنة وبينه وبين موسى (1) خمسمائة سنة وتسع وستون سنة، وعاش سليمان
_________
(1) ليس في القرآن ولا في السنة دليل على هذا التحديد التاريخي وبالرجوع إلى التواريخ الإسرائيلية لوحظ أنه ينقصه التحقيق؛ فهو لا يتفق مع أي حساب. المطيعي.(10/19)
نيفاً وخمسين سنة، وبينه وبين محمد - صلى الله عليه وسلم - ألف سنة وسبعمائة سنة ذكره في التحبير.
(وقالا) أي كل منهما والواو للعطف على محذوف لأن هذا المقام مقام الفاء، فالتقدير ولقد آتيناهما علماً فعملا به، وقالا شكراً لله.
(الحمد لله) ويؤيده أن الشكر باللسان وإنما يحسن إذا كان مسبوقاً بعمل القلب، وهو العزم على فعل الطاعة وترك المعصية (الذي فضلنا) بالعلم والنبوة وتسخير الطير والجن والإنس والشياطين (على كثير) ممن لم يؤت علماً أو مثل علمنا، وهذه المقالة على سبيل التحدث والشكر (من عباده المؤمنين) ولم يفضلوا أنفسهم على الكل تواضعاً منهم.
وظاهر النظم أن التسخير كان لكل من داود وسليمان، ومثله في الخازن -، والخطيب وفي الآية دليل على شرف العلم، وارتفاع محله، وتقدم حملته وأهله وأن نعمة العلم من أجل النعم التي ينعم الله بها على عباده، وأن من أوتيه فقد أوتي فضلاً على كثير من العباد؛ ومنح شرفاً جليلاً، وما سماهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورثة الأنبياء إلا لمداناتهم لهم في الشرف والمنزلة، لأنهم القوام بما بعثوا من أجله، وفيها أنه يلزمهم لهذه النعمة الفاضلة أن يحمدوا الله على ما أوتوه، وأن يعتقد العالم أنه إن فضل على كثير فقد فضل عليه مثلهم.
وما أحسن قول عمر رضي الله عنه: كل الناس أفقه من عمر.
وعن عمر بن عبد العزيز أنه كتب: إن الله لم ينعم على عبد نعمة فحمد الله عليها إلا كان حمده أفضل من نعمته لو كنت لا تعرف ذلك إلا في كتاب الله المنزل، فقد قال الله عز وجل: (ولقد آتينا داود وسليمان علماً إلى قوله: عباده المؤمنين) وأي نعمة أفضل مما أعطي داود وسليمان؟
أقول: ليس في الآية ما يدل على ما فهمه رحمه الله، والذي تدل عليه أنهما حمدا الله سبحانه على ما فضلهما به من النعم فمن أين تدل على أن حمده أفضل من نعمته.(10/20)
وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (16) وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (17) حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (18)(10/21)
وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (16)
(وورث سليمان داود) أي ورثه العلم والنبوة أو الكتب، دون باقي أولاده، قال قتادة والكلبي: كان لداود تسعة عشر ولداً ذكراً، فورث سليمان من بينهم نبوة، ولو كان المراد وراثة المال لم يخص سليمان بالذكر، لأن جميع أولاده في ذلك سواء، وكذا قال جمهور المفسرين.
فهذه الوراثة هي وراثة مجازية، كما في قوله - صلى الله عليه وسلم -: العلماء ورثة الأنبياء، قال قتادة: في الآية ورث نبوته وملكه وعلمه؛ وأعطى ما أعطي داود وزيد له تسخير الريح، والجن والشياطين، وكان أعظم ملكاً منه، وأقضى منه، وكان داود أشد تعبداً من سليمان، شاكراً لنعم الله تعالى.
(وقال) سليمان لبني إسرائيل تحدثا بما أنعم الله به عليه، وشكر النعمة التي خصه بها (يا أيها الناس علمنا) الضمير فيه وفي أوتينا لكل من داود وسليمان، قال القرطبي: تفضل الله علينا زيادة على ما ورثنا من داود من العلم والنبوة، والخلافة في الأرض أن فهمنا (منطق الطير) أي فهم ما يريده كل طائر إذا صوت، والمعاني التي في نفوسها، سمى صوت الطير منطقاً لحصول الفهم منه، كما يفهم من كلام الناس. وقدم منطق الطير لأنها نعمة خاصة به، لا يشاركه فيها غيره. قال الفراء: منطق الطير كلام الطير، فجعل كمنطق الرجل. ومعنى الآية فهمنا ما يقول الطير.(10/21)
ومقتضى هذا أن كُلاًّ منهما كان يعلم أصوات الطير؛ وما تريده. قال الخطيب: علمنا أي أنا وأبي بأيسر أمر وأسهله. وفي البيضاوي النطق والمنطق في التعارف: كل لفظ يعبر به عما في الضمير؛ مفرداً كان أو مركباً مفيداً كان أو غير مفيد. وقد يطلق على كل ما يصوت به على التشبيه أو التبع كقولهم: نطقت الحمامة، ومنه الناطق والصامت للحيوان والجماد، فإن الأصوات الحيوانية من حيث إنها تابعة للتخيلات نزلت منزلة العبارات، سيما وفيها ما يتفاوت باختلاف الأغراض، بحيث يفهمها ما هو من جنسه.
ولعل سليمان مهما سمع صوت حيوان علم بقوته القدسية الغرض الذي صوت لأجله، والغرض الذي توخاه به انتهى. قال جماعة من المفسرين: إنه علم منطق جميع الحيوانات، وإنما ذكر الطير لأنه كان جنداً من جنوده، يسير معه لتظليله من الشمس، فخص بالذكر لكثرة مداخله. وقال قتادة والشعبي: إنما علم منطق الطير خاصة، ولا يعترض ذلك بالنملة فإنها من جملة الطير، وكثيراً ما تخرج لها أجنحة فتطير، وكذلك كانت هذه النملة التي سمع سليمان كلامها وفهمه.
أخرج أحمد في الزهد وابن أبي شيبة وابن أبي حاتم عن أبي الصديق (1) الناجي قال: خرج سليمان بن داود يستسقي بالناس، فمر على نملة مستلقية على قفاها رافعة قوائمها إلى السماء، وهي تقول: اللهم إنا خلق من خلقك ليس بنا غنى عن رزقك، فإما أن تسقينا، وإما إن تهلكنا، فقال سليمان: للناس ارجعوا فقد سقيتم بدعوة غيركم.
وقد ذكر الخازن والنسفي في تفسيريهما منطق بعض الطيور، وما تقوله القمري وغيرها، وكذا القرطبي بلا إسناد صحيح متصل يعتمد عليه، ويصار
_________
(1) أبو الصديق الناجي واسمه بكر بن عمرو، وقال ابن سعد في الطبقات يتكلمون في أحاديثه يستنكرونها وقال غيره: ثقة تابعي، قال الذهبي يحتج به في الصحاح والكلام هنا عن قصة دعاء النملة موقوف عليه. المطيعي.(10/22)
إليه فتركنا ذكره هاهنا فإنه لا يأتي بكثير فائدة للمنقحين.
(وأوتينا من كل شيء) تدعو إليه الحاجة، كالعلم والنبوة والحكمة والمال وتسخير الجن، والإنس، والطير، والرياح، والوحش، والدواب، وكل ما بين السماء والأرض. وجاء سليمان بنون العظمة، والمراد نفسه بياناً لحاله من كونه مطاعاً لا يخالف، لا تكبراً وتعظيماً لنفسه، عن جعفر (1) بن محمد قال: أعطي سليمان ملك مشارق الأرض ومغاربها، فملك سليمان سبعمائة سنة وستة أشهر، ملك أهل الدنيا كلهم، وأعطي كل شيء.
وفي زمانه صنعت الصنائع المعجبة، حتى إذا أراد الله أن يقبضه أوحى إليه أن يستودع علم الله وحكمته أخاه؛ وولد داود كانوا أربعمائة وثمانين رجلاً، أنبياء بلا رسالة. قال الذهبي: هذا باطل وقد رويت قصص في عظم ملك سليمان عن القرظي وغيره لا تطيب النفس بذكر شيء منها، فالإمساك عن ذكرها أولى.
(إن هذا) أي ما تقدم ذكره من التعليم والإيتاء (لهو الفضل المبين) أي الظاهر الواضح، الذي لا يخفي على أحد. أو المظهر لفضيلتنا وإنما قال ذلك شكراً لا فخراً.
_________
(1) يعتبر الشيعة الإمامية والشيعة الإثنا عشرية وطائفة الإسماعيلية جعفر بن محمد أحد الأئمة المعصومين ويعدون قوله بمنزلة التنزيل، ورحم الله جعفراً الصادق وأباه محمداً الباقر، وأجدادهما الطاهرين لو رأيا كيف اتخذهما بعض الناس أرباباً لالتمسا في يديهما السيوف. المطيعي.(10/23)
وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (17)
(وحشر لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير) من الأماكن المختلفة في مسير له، والحشر: الجمع، أي: جمع له جنوده من هذه الأجناس. وقد أطال المفسرون في ذكر مقدار جنده؛ وبالغ كثير منهم مبالغة تستبعدها العقول، ولا تصح من جهة النقل، ولو صحت لكان في القدرة الربانية ما هو أعظم من ذلك وأكثر.
(فهم يوزعون) أي: لكل طائفة منهم وزعة ترد أولهم على آخرهم(10/23)
فيقفون على مراتبهم. قيل: كان في جنوده وزراء وهم النقباء، ترد أول العسكر على آخره، لئلا يتقدموا في السير. يقال: وزعه يزعه وزعاً: كفه، فاتزع أي: انكف وأوزعه بالشيء أغراه به؛ واستوزعت الله شكره فأوزعني، أي استلهمته فألهمني، والوازع في الحرب الموكل بالصفوف، يزع من تقدم منهم أي يرده، وجمعه وزعة: وقيل: هو من التوزيع بمعنى التفريق، يقال: القوم أوزاع، أي طوائف.
وقال ابن عباس: يوزعون يدفعون. وعنه قال: لكل صف وزعة، ترد أولاها على آخرها، لئلا تتقدمها في السير كما يصنع الملوك وفي الآية دليل على اتخاذ الأئمة والحكام وزعة، يكفون الناس ويمنعونهم من تطاول بعضهم على بعض، إذ لا يمكن الحكام ذلك بأنفسهم. قال الحسن: لا بد للناس من وازع أي سلطان يكفهم.(10/24)
حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (18)
(حتى إذا أتوا) حتى هي التي يبتدأ بعدها الكلام؛ وتكون غاية لما قبلها والمعنى فهم يوزعون إلى حضور هذه الغاية، وهي إتيانهم (على وادي النمل) أي: فهم يسيرون ممنوعاً بعضهم من مفارقة بعض، حتى إذا أتوا على مكان فيه نمل كثير، وعدّى بـ (على) لأنهم كانوا محمولين على الريح، فهم مستعلون والمعنى أنهم قطعوا الوادي وبلغوا آخره، قال كعب: وادي النمل بالطائف.
وقال قتادة ومقاتل: هو بالشام، والنمل حيوان معروف شديد الإحساس والشم، حتى إنه يشم للشيء من بعيد، ويدخر قوته، ومن شدة إدراكه أنه يفلق الحبة فلقتين خوفاً من الإنبات ويفلق حبة الكسبرة أربع فلق، لأنها إذا فلقت فلقتين نبتت، ويأكل في عامه نصف ما جمع ويستبقي باقيه عدة.
ووقف القراء جميعهم على (واد) بدون ياء اتباعاً للرسم، حيث لم يحذف لالتقاء الساكنين، كقوله: الذين جابوا الصخر بالواد، إلا الكسائي، فإنه وقف بالياء، قال: لأن الموجب للحذف إنما هو التقاء الساكنين بالوصل.(10/24)
(قالت نملة) (1) ملكة النمل، على وجه النصيحة قولاً مشتملاً على حروف وأصوات، وكانت عرجاء ذات جناحين، وهي من الحيوانات التي تدخل الجنة، قاله سليمان الجمل. قيل: وكانت أنثى بدليل تأنيث الفعل المسند إليها، وبه قال أبو حنيفة، ورد هذا أبو حيان فقال: لحاق التاء في (قالت) لا يدل على أن النملة مؤنثة، بل يصح أن يقال في المذكر قالت، لأن نملة وإن كانت بالتاء فإنها مما لا يتميز فيه المذكر من المؤنث، بتذكير الفعل ولا بتأنيثه، بل يتميز بالإخبار عنه بأنه ذكر أو أنثى، ولا يتعلق بمثل هذا كثير فائدة، ولا بالتعرض لاسم النملة، ولا بذكر القصص الموضوعة والأحاديث المكذوبة.
وقرئ النمل والنملة بزنة رجل وسمرة، وقرئ بضمتين فيهما، ثم قيل: نمل هذا الوادي صغار، وهو النمل المعروف، أو كبار كالبخاتي أو كالذئاب، والأول هو المشهور والجملة جواب (إذا) كأنها لما رأتهم متوجهين إلى الوادي فرت ونبهت سائر النمل منادية لها قائلة:
(يا أيها النمل) وقد اشتمل هذا القول منها على أحد عشر نوعاً من البلاغة:
أولها: النداء بـ (يا).
وثانيها: أنها كنت بأي.
وثالثها: نبهت بها التنبيه.
ورابعها: سمعت بقولها النمل.
وخامسها: أمرت بقولها: (ادخلوا).
وسادسها: نصت بقولها (مساكنكم) جعل خطاب النمل كخطاب
_________
(1) لا نملك إلا أن نقول كما قال المصنف عن مثل هذا الكلام الذي هو " بلا إسناد صحيح متصل يعتمد عليه ويصار إليه " وسيأتي للمصنف مزيد. المطيعي.(10/25)
العقلاء، لفهمها لذلك الخطاب. والمساكن هي الأمكنة التي تسكن النمل فيها وقرأ أبي: أدخلن مساكنكن: وقرئ: مسكنكم.
وسابعها: حذرت بقولها (لا يحطمنكم) أي: لا يكسرنكم، والحطم الكسر. يقال: حطمته حطماً أي كسرته كسراً فانحطم، وتحطم تكسر، والتحطيم التكسير، والحطام ما تكسر من اليبس، وهذا النهي هو في الظاهر للنمل، وفي الحقيقة لسليمان، فهو من باب لا أرينك هاهنا، أو بدل من الأمر، أو جواب للأمر، وهو ضعيف يدفعه نون التأكيد لأنه من ضرورات الشعر.
وقرئ: لا يحطمنكم بضم الياء وفتح الحاء وتشديد الطاء.
وثامنها: خصت بقولها: (سليمان).
وتاسعها: عمت بقولها (وجنوده) وأرادت جنود سليمان فجاءت بما هو أبلغ.
وعاشرها: أشارت بقولها (وهم).
وحادي عشرها: عذرت بقولها:
(لا يشعرون) أي بحطمكم، ولا يعلمون بمكانكم. أي لو شعروا لم يفعلوا، قالت ذلك على وجه العذر، واصفة لهم بالعدل، كأنها عرفت أن النبي معصوم، وجنده محفوظ، فلا يقع منهم حطم هذه الحيوانات، إلا على سبيل السهو، وهذا تنبيه عظيم على وجوب الجزم بعصمة الأنبياء وحفظ أصحابهم، وفيه أن الرافضة الذين ينسبون الظلم وحطم الحقوق إلى أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أهل بيته وعترته، هم أقل وأضعف رأياً من تلك النملة فإنها اعتقدت في جنود سليمان العدل، وهؤلاء اعتقدوا بأصحابه - صلى الله عليه وسلم - الظلم وشتان بينهما، وقيل: إن المعنى والنمل لا يشعرون أن سليمان يفهم مقالتها وهو بعيد جداً.(10/26)
فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ (19) وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ (20) لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (21)(10/27)
فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ (19)
(فتبسم) سليمان ابتداء (ضاحكاً) انتهاء (من قولها) وقرئ: ضحكاً، وعلى الأول حال مؤكدة، لأنه قد فهم الضحك من التبسم، وقيل: حال مقدرة، لأن التبسم أول الضحك، وقيل: لما كان التبسم قد يكون للغضب كان الضحك مبيناً له، وقيل: إن ضحك الأنبياء هو التبسم لا غير، وعلى الثاني: مصدر منصوب بفعل محذوف.
وكل من التبسم والضحك والقهقهة انفتاح في الفم، لكن الأول انفتاح بلا صوت أصلاً، والثاني مع صوت خفيف، والثالث مع صوت قوي، وكان ضحك سليمان تعجباً من قولها وفهمها واهتدائها إلى تحذير النمل، أو فرحاً لظهور عدله.
(وقال رب أوزعني) قد تقدم بيان معناه قريباً في قوله: فهم يوزعون، قال في الكشاف: وحقيقة أوزعني اجعلني أزع شكر نعمتك عندي، وأكفه وارتبطه لا ينفلت عني حتى لا أنفك شاكراً لك، انتهى. قال الواحدي: أوزعني أي: ألهمني، وبه قال قتادة، وعن الحسن مثله، يقال: فلان موزع بكذا، أي: مولع به. قال القرطبي: وأصله من وزع فكأنه قال: كفني عما يسخطك، انتهى. وقال الزجاج: معناه امنعني أن أكفر نعمتك، وهو تفسير باللازم.
(أن أشكر نعمتك التي أنعمت) بها (علي) مفعول ثان لأوزعني، أي: من النبوة والملك والعلم.
(وعلى والدي) الدعاء منه بأن يوزعه الله شكر نعمته على والديه، كما أوزعه شكر نعمته عليه، لأن الإنعام عليهما إنعام عليه، وذلك يستوجب(10/27)
الشكر منه لله سبحانه. قال أهل الكتاب: وأمه هي زوجة أوريا بوزن قوتلا، التي امتحن الله بها داود، قاله القرطبي، والله أعلم بصحته، ثم طلب أن يضيف الله له لواحق نعمه إلى سوابقها، ولا سيما النعم الدينية فقال:
(وأن أعمل صالحاً) في بقية عمري (ترضاه) مني، ثم دعا أن يجعله الله سبحانه في الآخرة داخلاً في زمرة الصالحين، فإن ذلك هو الغاية التي يتعلق بها الطلب فقال: (وأدخلني) الجنة (برحمتك في عبادك الصالحين) من النبيين أو صلحاء العباد، والمعنى أدخلني في جملتهم، وأثبت اسمي في أسمائهم واحشرني في زمرتهم إلى دار الصالحين وهي الجنة، أو في بمعنى مع، والصالح الكامل هو الذي لا يعصي الله، ولا يفعل معصية، ولا يهم بها، وهذه درجة عالية.
اللهم وإني أدعوك بما دعاك به هذا النبي الكريم. فتقبل ذلك مني وتفضل علي به، فإني وإن كنت مقصراً في العمل، ففضلك الواسع هو سبب الفوز بالخير، ورحمتك أرجى عندي من عملي، فهذه الآية منادية بأعلى صوت، وأوضح بيان بأن دخول الجنة التي هي دار المتقين بالتفضل منك لا بالعمل منهم، كما قال رسولك الصادق المصدوق، فيما ثبت عنه في الصحيح: " سددوا وقاربوا واعلموا أنه لن يدخل الجنة أحد بعمله "، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: " ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته " فإذا لم يكن إلا بفضلك الواسع فترك طلبه منك عجز، والتفريط في التوسل إليك بالإيصال إليه تضييع.
ثم شرع سبحانه في ذكر قصة بلقيس وما جرى بينها وبين سليمان وذلك بدلالة الهدهد فقال:(10/28)
وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ (20)
(وتفقد الطير) التفقد تطلب ما غاب عنك، وتعرف أحواله. والطير اسم جنس لكل ما يطير، والمعنى أنه تطلب ما فقد من الطير، وتعرف حال ما غاب منها، وكانت الطير تصحبه في سفره وتظله بأجنحتها.(10/28)
(فقال ما لي) وقرئ بسكون الياء (لا أرى الهدهد)؟ أي ما للهدهد لا أراه؟ فهذا من الكلام المقلوب الذي تستعمله العرب كثيراً. وقيل: لا حاجة إلى ادعاء القلب، إذ المعنى صحيح بدونه، بل هو استفهام واستخبار عن المانع له من رؤية الهدهد، كأنه قال: ما لي لا أراه هل ذلك لساتر يستره عنه؟ أو لشيء آخر؟
قال الكلبي: ولم يكن له في مسيره إلا هدهد واحد، والهدهد معروف.
ثم ظهر له أنه غائب فقال: (أم كان من الغائبين)؟ فلم أره لغيبته، و (أم) هي المنقطعة التي بمعنى الإضراب، عن ابن عباس أنه سئل: كيف تفقد سليمان الهدهد من بين الطير؟ فقال: إن سليمان نزل منزلاً فلم يدر ما بعد الماء، وكان الهدهد يدل سليمان على الماء، فأراد أن يسأله عنه ففقده، قال سعيد بن جبير: لما ذكر ابن عباس رضي الله عنه هذا قيل له: كيف ذلك: والهدهد ينصب له الفخ يلقى عليه التراب ويضع له الصبي الحباله فيغيبها فيصيده فقال: إذا جاء القضاء، ونزل القدر، ذهب اللب، وعمي البصر، فلما تحقق الغيبة قال:(10/29)
لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (21)
(لأعذبنه عذاباً شديداً) اختلفوا في هذا العذاب الشديد ما هو؟ فقال ابن عباس ومجاهد وابن جريج: هو أن ينتف ريشه جميعاً وروي نحو هذا عن جماعة من التابعين؛ وقال يزيد ابن رومان: هو أن ينتف ريش جناحيه وقيل: يحبسه مع أضداده، وقيل: أن يمنعه من خدمته وقيل: إلقاءه في الشمس وقيل: التفريق بينه وبين إلفه. وقيل: إلزامه خدمة أقرانه. وقيل: إيداعه في القفص. وقيل: طرحه بين يدي النمل ليأكله، وفي هذا دليل على أن العقوبة على قدر الذنب، لا على قدر الجسد. وحل له تعذيب الهدهد لما رأى فيه من المصلحة، كما حل ذبح البهائم والطيور للأكل وغيره من المنافع، وإذا سخر له الطير لم يتم التسخير إلا بالتأديب والسياسة.
وعن الحسن قال: كان اسم هدهد سليمان غبر، قال الشوكاني: لا(10/29)
أدري من أين جاء هذا للحسن رحمه الله، وهكذا ما روي عنه أن اسم النملة حرس، وأنها من قبيلة يقال لهم بنو الشيصان، وأنها كانت عرجاء، وكانت بقدر الذئب، وهو رحمه الله أورع الناس عن نقل الكذب؛ ونحن نعلم أنه لم يصح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ذلك شيء. ونعلم أنه ليس للحسن إسناد متصل بسليمان، أو بأحد من أصحابه فهذا العلم مأخوذ من أهل الكتاب.
وقد أمرنا أن لا نصدقهم ولا نكذبهم. فإن ترخص مترخص بالرواية عنهم لمثل ما روي: " حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج "، فليس ذلك مما يتعلق بتفسير كتاب الله سبحانه بلا شك، بل فيما يذكر عنهم من القصص الواقعة لهم. وقد كررنا التنبيه على مثل هذا عند عروض ذكر التفاسير الغريبة.
(أو لأذبحنه) بقطع حلقومه (أو ليأتيني بسلطان مبين) هو الحجة البينة في غييته. قال ابن عباس: السلطان المبين خبر الحق الصدق البين. وعنه قال: كل سلطان في القرآن حجة، وذكر هذه الآية ثم قال: وأي سلطان كان للهدهد؟ يعني أن المراد بالسلطان الحجة، لا السلطان الذي هو الملك، والحلف في الحقيقة على أحد الأولين بتقدير عدم الثالث، فكلمة (أو) بين الأولين للتخيير، وفي الثالث للترديد بينه وبينهما.
قال الزمخشري: فإن قلت: قد حلف على أحد ثلاثة أشياء فحلفه على فعله لا كلام فيه، ولكن كيف يصح حلفه على فعل الهدهد؟ ومن أين درى أنه يأتي بسلطان؟
قلت: لما نظم الثلاثة بأو في الحكم الذي هو الحلف، آل كلامه إلى قولك: ليكونن أحد الأمور، يعني إن كان الإتيان بسلطان، لم يكن تعذيب ولا ذبح، وإن لم يكن، كان أحدهما، وليس في هذا ادعاء دراية انتهى. و (أو) الثانية ترجع في المعنى إلى أنها بمعنى إلا وهي قيد في كل من الأمرين قبلها، فكأنه قال: لأعذبنه إلا أن يأتيني أو لأذبحنه إلا أن يأتيني بسلطان مبين.(10/30)
فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22) إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (23) وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ (24)(10/31)
فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22)
(فمكث) بفتح الكاف من باب نصر، وقرئ بضم الكاف من باب قرب قال سيبويه: مكث يمكث مكوثاً كقعد يقعد قعوداً، أي مكث الهدهد بعد تفقد سليمان إياه زماناً (غير بعيد) وقيل: إن الضمير في مكث لسليمان، والمعنى بقي سليمان بعد التفقد والتوعد زماناً غير طويل، والأول أولى.
(فقال أحطت بما لم تحط به) الإحاطة: العلم بالشيء من جميع جهاته، حتى لا يخفى عليه معلوم، ولعل في الكلام حذفاً، والتقدير فمكث الهدهد غير بعيد، فجاء فعوتب على مغيبه، فقال معتذراً عن ذلك: أحطت بما لم تحط به. قال الفراء: ويقال: أحت بإدغام الطاء في التاء، والمعنى علمت ما لم تعلمه من الأمر، وبلغت ما لم تبلغ أنت ولا جنودك. وقال ابن عباس: اطلعت على ما لم تطلع عليه.
وقد ألهم الله الهدهد هذا الكلام، فكافح سليمان به مع ما أوتي من فضل النبوة، والعلوم الجمة: إبتلاء له في علمه، وتنبيهاً على أن أدنى جنده قد أحاط علماً بما لم يحط به ليكون لطفاً به في ترك الإعجاب وإنما أخفى الله على سليمان مكانها، وكانت المسافة بينهما قريبة لمصلحة رآها، كما أخفى مكان يوسف على يعقوب. وفيه دليل على بطلان قول الرافضة: إن الإمام لا يخفى عليه شيء، ولا يكون في زمانه أحد أعلم منه.(10/31)
(وجئتك من سبأ) قرئ بالصرف على أنه اسم رجل نسب إليه قوم، وقرئ بفتح الهمزة وترك الصرف على أنه اسم مدينة، وأنكر الزجاج أن يكون اسم رجل، وقال: سبأ اسم مدينة تعرف بمأرب اليمن. وقيل: هو اسم امرأة سميت بها المدينة.
قال القرطبي: والصحيح أنه اسم رجل كما في كتاب الترمذي، من حديث فروة بن مسيك المرادي، قال ابن عطية: وخفي هذا على الزجاج فخبط خبط عشواء.
وزعم الفراء أن الرؤاسي سأل أبا عمرو بن العلاء عن سبأ فقال: ما أدري ما هو؟ قال النحاس: وأبو عمر أجل من أن يقول هذا، قال: والقول في سبأ ما جاء التوقيف فيه أنه في الأصل اسم رجل، فإن صرفته فلأنه قد صار اسماً للحي، وإن لم تصرفه جعلته اسماً للقبيلة، مثل ثمود، إلا أن الاختيار عند سيبويه الصرف، انتهى.
وأقول: لا شك أن سبأ اسم لمدينة باليمن، كانت فيها بلقيس، وهو أيضا اسم رجل من قحطان، وهو سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان بن هود، ولكنه المراد هنا: أن الهدهد جاء إلى سليمان بخبر ما عاينه في مدينة سبأ، مما وصفه، وسيأتي في المأثور ما يوضح هذا ويؤيده، وعن ابن عباس قال: سبأ بأرض اليمن، يقال لها: مأرب، بينها وبين صنعاء مسيرة ثلاث ليال والمعنى أن الهدهد جاء سليمان من هذه المدينة.
(بنبإ يقين) النبأ: هو الخبر الخطير الشأن؛ وهذا من محاسن الكلام، ويسمى البديع، وقد حسن وبدع لفظاً ومعنى هاهنا، ألا ترى أنه لو وضع مكان بنبأ بخبر لكان المعنى صحيحاً، وهو كما جاء أصح لما في النبإ من الزيادة التي يطابقها وصف الحال، فلما قال الهدهد لسليمان ما قال، قال له سليمان: وما ذاك؟ فقال:(10/32)
إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (23)
(إني وجدت امرأة تملكهم) وهي بلقيس بنت شراحيل، روي ذلك عن الحسن وقتادة وزهير بن محمد، وعن ابن جريج أنها بنت ذي شرح، وجدها الهدهد تملك أهل سبأ، وكان أبوها ملك أرض اليمن، ولم يكن له ولد غيرها، فغلبت على الملك، وكانت هي وقومها مجوساً يعبدون الشمس. والضمير في تملكهم راجع إلى سبأ، على تأويل القوم، وأهل المدينة، والجملة هذه كالبيان والتفسير للجملة التي قبلها، أي: ذلك النبأ اليقين هو كون هذه المرأة تملك هؤلاء.
قال ابن عباس: اسمها بلقيس بنت ذي شيرة، وكانت هلباء شعراء، قيل: كانت من نسل يعرب بن قحطان، وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إحدى (1) أبوي بلقيس كان جنياً "، أخرجه ابن عساكر، وابن مردويه، وأبو الشيخ وابن جرير.
(وأوتيت من كل شيء) فيه مبالغة، والمراد أنها أوتيت من كل شيء من الأشياء التي تحتاجها الملوك، من الآلة والعدة، وكان يخدمها النساء، وهذا عام أريد به الخصوص، وقيل: المعنى أوتيت من كل شيء في زمانها شيئاً من أسباب الدنيا، والمال والعدة ما يليق بحالها، فحذف شيئاًً لأن الكلام قد دل عليه.
(ولها عرش عظيم) أي: سرير كبير ضخم، وقيل: المراد بالعرش هنا
_________
(1) لم يصح له إسناد، ثم إنه من حيث المعنى لا يقبل بالضرورة -إلا في معارض الفروض الفقهية الوهمية- أن يكون إنساناً مهجناً بجن أو جناً مهجناً بإنسان وليس هناك ما يثبت هذا إلا ما حكي من أن بني السعلات من العرب أمهم جنية ولم يرد من طريق معتبر إلا ما روي من سبق الشيطان لمن لم يسم عند الوقاع وهذا من قبيل جريان الشيطان من ابن آدم مجرى الدم وليس من قبيل التذري والتناسل. المطيعي.(10/33)
الملك، والأول أولى لقول سليمان: أيكم يأتيني بعرشها؟ ووصفه بالعظم بالنسبة إليها وإلى أمثالها من ملوك الدنيا، لأنه كما قيل: كان مضروباً من الذهب والفضة، طوله ثمانون ذراعاً، وعرضه أربعون ذراعاً، وارتفاعه في السماء ثلاثون ذراعاً، مكللاً بالدر والياقوت الأحمر، والزبرجد الأخضر والزمرد.
وأما وصف عرش الله بالعظيم، فهو بالنسبة إلى جميع المخلوقات من السماوات والأرض وما بينهما، فبينهما بون عظيم، وفرق بين. قال ابن عطية: واللازم من الآية أنها امرأة ملكة على مدائن اليمن، ذات ملك عظيم، وسرير كبير، وكانت كافرة من قوم كفار، وعن ابن عباس قال: سرير كبير من ذهب، وقوائمه من جوهر ولؤلؤ، حسن الصنعة غالي الثمن. عليه سبعة أبيات على كل بيت باب مغلق.(10/34)
وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ (24)
(وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله) أي يعبدونها متجاوزين عبادة الله سبحانه، قيل: كانوا مجوساً، وقيل: زنادقة، و (وجدت) بمعنى لقيت وأصبت؛ فتتعدى لواحد.
(وزين لهم الشيطان أعمالهم) التي يعملونها وهي عبادة الشمس، وسائر أعمال الكفر (فصدهم عن السبيل) أي صدهم الشيطان بسبب ذلك التزيين عن الطريق الواضح، وهو الإيمان بالله وتوحيده.
(فهم لا يهتدون) إلى ذلك، ولا يبعد من الهدهد التهدي إلى معرفة الله تعالى، ووجوب السجود له، وحرمة السجود للشمس إلهاماً من الله له؛ كما ألهمه وغيره من الطيور، وسائر الحيوان المعارف اللطيفة، التي لا يكاد العقلاء الرجاح العقول يهتدون لها.(10/34)
أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (25) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (26) قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (27) اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ (28) قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ (29)(10/35)
أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (25)
(ألاّ يسجدون لله) قال ابن الأنباري: الوقف على لا يهتدون غير تام عند من شدد (ألا) لأن المعنى وزين لهم الشيطان أن لا يسجدوا.
وقال النحاس: هي (أن) دخلت عليها (لا) قال الأخفش: أي زين لهم أن لا يسجدوا لله بمعنى لئلا يسجدوا، فهو على الوجهين مفعول له. وقيل: فهم لا يهتدون أن يسجدوا لله، و (لا) على هذا زائدة، كقوله: ما منعك أن لا تسجد، وعلى قراءة الجمهور ليس هذه الآية موضع سجدة، لأن ذلك إخبار عنهم بترك السجود، إما بالتزيين، أو بالصد، أو بمنع الاهتداء. وقد رجح كونه علة للصد الزجاج، ورجح الفراء كونه علة لزين، قال: زين لهم أعمالهم لئلا يسجدوا.
وقرئ ألا بالتخفيف، وعلى هذا فهي حرف تنبيه واستفتاح، وما بعدها حرف نداء، ألا يا اسجدوا، واسجدوا فعل أمر، وتقديره ألا يا هؤلاء اسجدوا، قال الزجاج، وقراءة التخفيف تقتضي وجوب السجود، دون قراءة التشديد، ولقراءة التخفيف وجه حسن إلا أن فيها انقطاع الخبر عن أمر سبأ، ثم الرجوع بعد ذلك إلى ذكرهم، والقراءة بالتشديد خبر يتبع بعضه بعضاً لا انقطاع في وسطه. وكذا قال النحاس، وعلى هذه تكون جملة ألا يا اسجدوا معترضة من كلام الهدهد أو من كلام سليمان، أو من كلام الله سبحانه.(10/35)
وقرأ ابن مسعود (هلا تسجدوا) بالفوقية. وقرأ أُبيّ (ألا تسجدوا) بالتاء وفيه مناسبة لما قبله، وهي الرد على من يعبد الشمس وغيرها من دون الله.
(الذي يخرج الخبء في السماوات والأرض) يقال: خبأت الشيء أخبأه خبا، والخبء ما خبأت، أي يظهر ما هو مخبوء ومخفي فيهما، لأنه لا يستحق العبادة إلا من هو قادر على من فيهما، عالم بجميع المعلومات، وفي إخراج الخبء دليل على القدرة.
قال الزجاج: جاء في التفسير أن الخبء هاهنا بمعنى القطر من السماء، والنبات من الأرض وقيل: خبء الأرض كنوزها ونباتها، وقال قتادة: الخبء السر. قال النحاس: أي ما غاب فيهما، وقرئ الخب بفتح الباء من غير همزة، وقرئ الخبا بالألف. قال أبو حاتم: وهذا لا يجوز في العربية ورد عليه بأن سيبويه حكى عن العرب، أن الألف تبدل من الهمز إذا كان قبلها ساكن. وقرئ: من السماوات، قال الفراء: من وفي تتعاقبان. عن ابن عباس قال: يعلم كل خبيئة في السماء والأرض.
(ويعلم ما تخفون وما تعلنون) قرئ بالتحتية في الفعلين، وبالفوقية للخطاب، أما الأولى فلكون الضمائر المتقدمة ضمائر غيبة، وأما الثانية فلكون القراءة فيها الأمر بالسجود، والخطاب لهم بذلك، فهذا من ذلك الخطاب.
والمعنى أن الله سبحانه يخرج ما في هذا العالم الإنساني من الخفي بعلمه له، كما يخرج ما خفي في السماء والأرض، وفيه دليل على إثبات العلم، والإعلان ذكره لتوسيع دائرة العلم للتنبيه على تساويهما بالنسبة إلى علمه تعالى، ثم بعد ما وصف الرب سبحانه بما تقدم، مما يدل على عظيم قدرته، وجليل سلطانه، وسعة علمه، ووجوب توحيده، وتخصيصه بالعبادة قال:(10/36)
اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (26)
(الله لا إله إلا هو رب العرش العظيم) بالجر نعتاً للعرش، وبالرفع نعتاً للرب، وخص العرش بالذكر لأنه أعظم المخلوقات، كما ثبت ذلك في المرفوع إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
وأما عرش بلقيس فتعظيمه بالإضافة إلى عروش أبناء جنسها من الملوك، وهذا بالنسبة إلى جميع الموجودات من السماء والأرض، وبينهما بون عظيم كما تقدم، وإلى هنا كلام الهدهد، لكنه من قوله: الذي يخرج إلى هنا ليس داخلاً تحت قوله: أحطت بما لم تحط به يعني ليس مما علمه الهدهد دون سليمان، بل سليمان يعلمه أيضاً على وجه أتم وأكمل من علم الهدهد، وإنما ذكره الهدهد بياناً لما هو عليه معتقده، وإظهاراً لتصلبه في الدين.
فلما فرغ الهدهد من كلامه(10/37)
قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (27)
(قال) له سليمان: (سننظر) فيما أخبرتنا به من هذه القصة، ونتعرف. والنظر والتأمل والتصفح: فيه إرشاد إلى البحث عن الأخبار، والكشف عن الحقائق، وعدم قبول خبر المخبرين تقليداً لهم، واعتماداً عليهم، إذا تمكن من ذلك بوجه من الوجوه.
(أصدقت)؟ فيما قلت، والهمزة استفهامية.
(أم كنت من الكاذبين)؟ أم هي المتصلة، وهذا القول أبلغ من قوله أم كذبت فيه، مع أنه أخصر وأشهر لأن المعنى من الذين اتصفوا بالكذب، وصار خلقاً لهم، فهو يفيد أنه كاذب لا محالة على أتم وجه، ومن كان كذلك لا يوثق به.
وقال البيضاوي: التغيير للمبالغة، والمحافظة على الفواصل. ثم بيَّن سليمان هذا النظر الذي وعد به فقال:(10/37)
اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ (28)
(اذهب بكتابي هذا فألقه إليهم) أي: إلى أهل سبأ. قال الزجاج: في ألقه خمسة أوجه قرئ بها، وخص الهدهد بإرساله بالكتاب لأنه المخبر(10/37)
بالقصة، ولكونه رأى منه من مخايل الفهم والعلم ما يقتضي كونه أهلاً للرسالة.
(ثم تول) أي: تنح وانصرف (عنهم) وقف قريباً منهم وإنما أمره بذلك لكون التنحي بعد دفع الكتاب من أحسن الآداب التي يتأدب بها رسل الملوك، والمراد التنحي إلى مكان يسمع فيه حديثهم، حتى يخبر سليمان بما سمع. وقيل: معنى التولي الرجوع إليه، والأول أولى لقوله:
(فانظر ماذا يرجعون) أي تأمل وتفكر فيما يرجع بعضهم إلى بعض من القول، وما يتراجعونه بينهم من الكلام. قال ابن عباس: كن قريباً منهم، فانظر ما الذي يردونه من الجواب(10/38)
قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ (29)
(قالت) بلقيس:
(يا أيها الملأ) في الكلام حذف، والتقدير: فذهب الهدهد فألقاه إليهم، فسمعها تقول يا أيها الملأ (إني ألقي إليّ كتاب كريم) والملأ: هم الأشراف، سموا ملأً لأنهم يملأون العيون، وفاعل (ألقي) محذوف، قيل: لجهلها به إن لم تكن شاهدته: وقيل: لاحتقاره إن كانت رأته، والكريم، المكرم المعظم.
ووصفت الكتاب بالكريم، لكونه من عند عظيم في نفسها، فعظمته إجلالاً لسليمان. وقيل: لاشتماله على كلام حسن. وقيل: لكونه مصدراً بالبسملة. وقيل: لغرابة شأنه. وقيل: لكونه وصل إليها مختوماً بخاتم. سليمان، وكرامة الكتاب ختمه، كما روى ذلك مرفوعاً (1).
قال ابن المقفع (2) من كتب إلى أخيه لم يختمه فقد استخف به.
_________
(1) نصر الحديث هكذا: كرامة الكتاب ختمه. رواه الطب في الكبير عن ابن عباس، والقضاعي يربط بين هذا الحديث والآية، والحديث يدور بين الضعف والوضع ونص على ضعضه الحافظ السيوطي في الجامع الصغير، فإذا عرفت مبلغ تساهل السيوطي في تصحيح الضعيف ورفع الموضوع إلى مرتبة الضعيف استطعت الحكم والله أعلم. المطيعي.
(2) ابن المقفع في الأدب الكبير. المطيعي.(10/38)
إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (30) أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (31) قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ (32) قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ (33) قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (34) وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (35)
ثم بينت ما تضمنه هذا الكتاب فقالت:(10/39)
إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (30)
(إنه من) عبد الله (سليمان) ابن داود إلى بلقيس ملكة سبأ.
(وإنه بسم الله الرحمن الرحيم) أي: وإن ما اشتمل عليه الكتاب من الكلام، وتضمنه من القول مفتتح بالتسمية، وفيه إشارة إلى سبب وصفها إياه بالكرم. قال ابن عباس: انطلق بالكتاب حتى إذا توسط عرشها ألقى الكتاب إليها فقرئ عليها فإذا فيه. إنه من سليمان الخ. وأخرج ابن أبي حاتم عن ميمون بن مهران، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يكتب " باسمك اللهم " حتى نزلت هذه الآية فكان يكتب البسملة وبعدها السلام على من اتبع الهدى.(10/39)
أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (31)
(أن لا تعلوا) أي: أما بعد فلا تتكبروا (عليّ) كما تفعله جبابرة الملوك، و (أن) هي المفسرة، وقيل: مصدرية و (لا) ناهية، وقيل نافية، ومحل الجملة الرفع على أنها بدل من كتاب أو خبر مبتدأ محذوف: أي هو أن لا تعلوا وقرئ: لا تغلوا بالغين من الغلو وهو تجاوز الحد في الكبر.
(وائتوني مسلمين) أي: طائعين منقادين للدين مؤمنين بما جئت به، قيل: لم يزد سليمان على ما نص الله في كتابه وكذلك الأنبياء كانوا يكتبون جملاً لا يطيلون ولا يكثرون. قيل: طبعه سليمان بالمسك أي جعل عليه قطعة منه كالشمع، ثم ختمه بخاتمه.(10/39)
قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ (32)
(قالت يا أيها الملأ أفتوني في أمري) أي: أشيروا علي وبينوا لي الصواب في هذا الأمر وأجيبوني بما يقتضيه الحزم وعبرت عن المشورة بالفتوى، لكون ذلك حلاً لما أشكل من الأمر عليها، وفي الكلام حذف؛ والتقدير: فلما قرأت بلقيس الكتاب، جمعت أشراف قومها وكانوا ثلثمائة واثني عشر، لكل واحد منهم أتباع كثيرة وقالت لهم: يا أيها الملأ إني ألقي إلي، يا أيها الملأ أفتوني وكرر (قالت) لمزيد العناية بما قالته لهم، ثم زادت في التأدب، واستجلاب خواطرهم ليمحضوها النصح، ويشيروا عليها بالصواب؛ فقالت:
(ما كنت قاطعة أمراً حتى تشهدون) أي: عادتي وشأني معكم، أني ما كنت مبرمة وقاضية وفاصلة أمراً من الأمور حتى تحضروا عندي وتشيروا عليَّ؛ فلما قالت لهم ذلك(10/40)
قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ (33)
(قالوا) مجيبين لها:
(نحن أولو قوة) في العدد والعدة (وأولو بأس شديد) عند الحرب واللقاء؛ ولنا من الشجاعة والنجدة ما نمنع به أنفسنا؛ وبلدنا، ومملكتنا، يعني أشاروا عليها بالقتال، ثم فوضوا الأمر إليها لعلمهم بصحة رأيها، وقوة عقلها فقالوا:
(والأمر) موكول (إليك) أي إلى رأيك ونظرك (فانظري) أي: تأملي (ماذا تأمرين) إيانا به، فنحن سامعون لأمرك مطيعون له.
فلما سمعت تفويضهم الأمر إليها لم ترض بالحرب، بل مالت للصلح، وبينت السبب في رغبتها فيه و(10/40)
قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (34)
(قالت إن الملوك إذا دخلوا قرية) من القرى.
(أفسدوها) أي: خربوا مبانيها، وغيروا مغانيها، وأتلفوا أموالها وفرقوا شمل أهلها. قال ابن عباس: إذا أخذوها عنوة وقهراً خربوها. وعن الزجاج مثله.
(وجعلوا أعزة أهلها أذلة) أي أهانوا أشرافها؛ وحطوا مراتبهم، فصاروا عند ذلك أذلة، وإنما يفعلون ذلك لأجل أن يتم لهم الملك، وتستحكم لهم(10/40)
الوطأة، وتتقرر لهم في قلوبهم المهابة. والمقصود من قولها هذا تحذير قومها من مسير سليمان إليهم، ودخوله بلادهم.
(وكذلك) أي مثل ذلك الفعل (يفعلون) أرادت أن هذه عادتهم المستمرة التي لا تتغير، لأنها كانت في بيت الملك القديم؛ فسمعت نحو ذلك ورأت. قال ابن الأنباري: الوقف على قوله أذلة، وقف تام، فقال الله عز وجل تحقيقاً وتصديقاً لقولها: وكذلك يفعلون. وقيل: هذه الجملة من تمام كلامها، فيكون من جملة مقول قولها أكدت به ما قبله، وعلى الأول مستأنفة لا محل لها من الإعراب.
قال النسفي: واحتج الساعي في الأرض بالفساد بهذه الآية ومن استباح حراماً فقد كفر وإذا احتج له بالقرآن على وجه التحريف فقد جمع بين كفرين انتهى. ثم لما قدمت لهم هذه المقدمة وبينت لهم ما في دخول الملوك إلى أرضهم من المفسدة أوضحت لهم وجه الرأي عندها وصرحت لهم بصوابه فقالت:(10/41)
وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (35)
(وإني مرسلة إليهم) أي إني أجرب هذا الرجل بإرسال رسلي إليه (بهدية) مشتملة على نفائس الأموال فإن كان ملكاً أرضيناه بذلك وكفينا أمره وإن كان نبياً لم يرضه ذلك لأن غاية مطلبه ومنتهى أربه هو الدعاء إلى الدين فلا ينجينا منه إلا إجابته ومتابعته والتدين بدينه وسلوك طريقته ولهذا قالت:
(فناظرة بم يرجع المرسلون) بالهدية من قبول أو رد، فعاملة بما يقتضيه ذلك، وذلك أن بلقيس كانت امرأة لبيبة عاقلة، قد ساست الأمور وجربتها وقد طول المفسرون في ذكر هذه الهدية.
قال ابن عباس: أرسلت بِلَبِنَةٍ من ذهب فلما قدموا إذا حيطان المدينة من ذهب، فذلك قوله (أتمدونن بمال) الآية. وقال ثابت البناني: أهدت له صفائح الذهب في أوعية الديباج. وقال مجاهد: أهدت جواري لباسهن لباس الغلمان، وغلماناً لباسهم لباس الجواري، وقال عكرمة: أهدت مائتي فرس على كل فرس غلام وجارية، وعلى كل فرس لون ليس على الآخر. وقال سعيد ابن جبير: كانت الهدية جواهر، وقيل: غير ذلك مما لا فائدة في التطويل بذكره.(10/41)
فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (36) ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ (37) قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (38)(10/42)
فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (36)
(فلما جاء) رسولها المرسل بالهدية وهو منذر بن عمرو، والمراد بهذا المضمر الجنس فلا ينافي كونهم جماعة كما يدل عليه قولها: بم يرجح المرسلون. وقرئ فلما جاءوا أي: الرسل (سليمان قال أتمدونن بمال)؟ مستأنفة والاستفهام للإنكار أي: قال منكراً لإمدادهم له بالمال، مع علو سلطانه، وكثرة ماله.
(فما آتاني الله) من النبوة والعلم والملك العظيم والأموال الكثيرة (خير مما آتاكم) من المال الذي هذه الهدية من جملته، وهذا تعليل للنفي، ثم إنه أضرب عن الإنكار المتقدم، فقال توبيخاً لهم بفرحهم بهذه الهدية فرح فخر وخيلاء:
(بل أنتم بهديتكم تفرحون) وأما أنا فلا أفرح بها وليست في الدنيا من حاجتي لأن الله سبحانه قد أعطاني منها ما لم يعطه أحداً من العالمين، ومع ذلك أكرمني بالنبوة والمراد بهذا الإضراب من سليمان بيان السبب الحامل لهم على الهدية مع الإزراء بهم، والحط عليهم، ثم قال سليمان للرسول:(10/42)
ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ (37)
(ارجع إليهم) أي إلى بلقيس وقومها بما أتيت به من الهدية، وخاطب المفرد هاهنا بعد خطابه للجماعة فيما قبل إما لأن الذي سيرجع هو الرسول فقط، أو خص أمير الرسل بالخطاب هنا، وخاطبهم معه فيما سبق افتناناً في الكلام. وقرئ ارجعوا وقيل: إن الضمير يرجع إلى الهدهد.
واللام في (فلنأتينهم) جواب قسم محذوف، أي: والله إن لم يأتوني مسلمين لنأتينهم قال النحاس: وسمعت ابن كيسان يقول: هي لام توكيد،(10/42)
ولام أمر، ولام خفض. وهذا قول الحذاق من النحويين لأنهم يردون الشيء إلى أصله، وهذا لا يتهيأ إلا لمن درب في العربية.
(بجنود لا قبل) أي: لا طاقة (لهم بها) وحقيقة القبل المقابلة والقاومة، أي لا يقدرون أن يقابلوهم.
(ولنخرجنهم منها) أي: من بلادهم وأرضهم التي هم فيها، وهي سبأ حال كونهم (أذلة) بعد أن كانوا أعزة (وهم صاغرون) هي حال ثانية مؤكدة للأولى، لأن الصغار هو الذلة، وقيل: إن المراد بالصغار هنا الأسر والاستعباد، وقيل: إن الصغار الإهانة التي تسبب عنها الذلة. ولما رجع الرسول إلى بلقيس بالهدية تجهزت للمسير إلى سليمان لتنظر ما يأمرها به، وأخبر جبريل سليمان بذلك.(10/43)
قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (38)
(قال) سليمان لكل من هو عنده في قبضته من الجن والإنس وغيرهما: (يا أيها الملأ أيكم يأتيني بعرشها) أي عرش بلقيس، الذي تقدم وصفه بالعظم وكان سليمان إذ ذاك في بيت المقدس، وعرشها في سبأ بلدة باليمن، وبينها وبين القدس مسيرة شهرين (قبل أن يأتوني مسلمين) أي قبل أن تأتيني هي وقومها منقادين طائعين.
قيل: إنما أراد سليمان أخذ عرشها قبل أن يصلوا إليه ويسلموا لأنهم حينئذ حربيون، وإذا أسلمت وأسلم قومها لم يحل أخذ أموالهم بغير رضائهم لأن الإسلام يعصم مالهم.
قال ابن عطية: وظاهر الروايات أن هذه المقالة من سليمان بعد مجيء هديتها ورده إياها وبعثه الهدهد بالكتاب، وعلى هذا جمهور المتأولين.
وقيل: استدعى العرش قبل وصولها ليريها القدرة التي هي من عند الله، ويجعله دليلاً على نبوته. وقيل: أراد أن يختبر عقلها ولهذا قال: نكروا لها عرشها كما سيأتي، وقيل: أراد أن يختبر صدق الهدهد في وصفه للعرش بالعظم والقول الأول هو الذي عليه الأكثر.(10/43)
قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (39) قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (40) قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ (41)(10/44)
قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (39)
(قال عفريت من الجن) وقرئ (عفريه) بفتح التحتية بعدها تاء تأنيث منقلبة هاء، ورويت هذه عن أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه؛ وقرأ أبو حيان بفتح العين وهو شاذ، والعفريت المارد الغليظ الشديد القوي. قال النحاس: يقال للشديد إذا كان معه خبث ودهاء، عفر وعفريه وعفريت.
وقال قتادة: هو الداهية، وقيل: هو رئيس الجن، وقال ابن عطية: وقرأت فرقة عفر بكسر العين جمعه على عفار. قال وهب: اسمه كوذي. وقال السهيلي: ذكوان، وقيل: هو صخر المارد، قاله ابن عباس، وقيل: اسمه دعوان، وكان مثل الجبل، يضع قدمه عند منتهى طرفه، وكان مسخراً لسليمان.
(أنا آتيك به) أي أنا سآتي بالعرش إليك مضارع أو اسم فاعل (قبل أن تقوم من مقامك) أي مجلسك الذي تجلس فيه للحكومة بين الناس وهو من الغداة إلى نصف النهار (وإني عليه) أي على حمله (لقوي أمين) على ما فيه من الجواهر وغيرها، قال سليمان: أريد أسرع من ذلك.(10/44)
قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (40)
(قال الذي عنده علم من الكتاب) المنزل على الأنبياء قبل سليمان كالتوراة التي أنزلت على موسى، قال أكثر المفسرين: اسمه آصف بن برخيا بالمد وبالقصر، وهو من بني إسرائيل، وكان وزيراً لسليمان وصديقاً له،(10/44)
وقيل: كاتبه، وكان من أولياء الله تظهر الخوارق على يديه كثيراً، وقيل كان يعلم اسم الله الأعظم الذي إذا سئل به أعطى، وإذا دعي به أجاب، قاله ابن عطية.
وقالت فرقة: هو سليمان نفسه، ويكون الخطاب على هذا للعفريت كأن سليمان استبطأ ما قاله العفريت، فقال له هذه المقالة تحقيراً له، وقيل هو جبريل، وقيل: ملك آخر. وقيل: الخضر، وقد قيل غير ذلك مما لا أصل له والأول أولى.
(أنا آتيك به) أي بالعرش، وقال مجاهد في قراءة ابن مسعود: أنا انظر في كتاب ربي الخ ثم آتيك به (قبل أن يرتد إليك طرفك) إذا نظرت به إلى شيء ما، والمراد بالطرف تحريك الأجفان وفتحها للنظر، وارتداده انضمامها، ولكونه أمراً طبيعياً غير منوط بالقصد آثر الارتداد على الرد، وفي القاموس إن الطرف كما يطلق أعلى نظر العين يطلق على العين نفسها، وقيل: هو بمعنى المطروف، أي الشيء الذي ينظره، وقيل: هو نفس الجفن عبر به عن سرعة الأمر كما تقول لصاحبك افعل ذلك في لحظة، قاله مجاهد.
وقال سعيد بن جبير: أنه قال لسليمان: انظر إلى السماء فما طرف حتى جاء به فوضعه بين يديه، والمعنى حتى يعود إليك طرفك بعد مده إلى السماء، والأول أولى هذه الأقوال، ثم الثالث.
قال ابن عباس: لم يجر عرش صاحبة سبأ بين الأرض والسماء، ولكن انشقت به الأرض فجرى تحت الأرض حتى ظهر بين يدي سليمان، وقال مجاهد: لما تكلم العالم بكلام دخل العرش في نفق تحت الأرض حتى خرج إليهم.
(فلما رآه مستقراً عنده) قيل: في الآية حذف، والتقدير فأذن له سليمان فدعا الله فأتى به، فلما رأى سليمان العرش حاضراً لديه (قال هذا)(10/45)
أي حضور العرش وثبوته من غير تحرك وتقلقل (من فضل ربي) وإحسانه.
(ليبلوني) أي ليختبرني، وقيل: ليتعبدني وهو مجاز، والأصل في الابتلاء: الاختبار (أأشكر)؟ الله بذلك واعترف بأنه من فضله من غير حول مني ولا قوة، وأقوم بحقه (أم أكفر)؟ بترك الشكر وعدم القيام به، أو بأن أثبت لنفسي فعلاً وتصرفاً في ذلك، وقال الأخفش: المعنى لينظر أشكر أم أكفر.
(ومن شكر فإنما يشكر لنفسه) لأنه استحق بالشكر تمام النعمة ودوامها، فإن الشكر قيد النعمة الموجودة وصيد النعمة المفقودة، والمعنى أنه لا يرجع نفع ذلك وثوابه إلا إلى الشاكر.
(ومن كفر) النعمة بترك الشكر (فإن ربي غني) عن شكره (كريم) في ترك المعاجلة بالعقوبة بنزع نعمه عنه وسلبه ما أعطاه منها.(10/46)
قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ (41)
(قال نكروا لها عرشها) قيل: إنما أعيد ذكر القول لكون المتعلق مختلفاً لكونه أولا ثناء على الله، وثانياً متعلقاً بشأن عرشها، والتنكير التغيير، وجعل الشيء بحيث لا يعرف، ضد التعريف، ومنه نقل إلى مصطلح أهل العربية يقول: غيروا سريرها إلى حال تنكره إذا رأته، قيل: جعل أسفله أعلاه، وأعلاه أسفله، وقيل: غير بزيادة ونقصان، قاله ابن عباس.
قال الفراء وغيره: إنما أمر بتنكيره لأن الشياطين قالوا له: إن في عقلها شيئاًً فأراد أن يمتحنها، وقيل: خافت الجن أن يتزوج بها سليمان فيولد له ولد منها، فيبقون مسخرين لآل سليمان أبداً فقالوا لسليمان: إنها ضعيفة العقل، ورجلها كرجل الحمار، وقيل: أراد سليمان أن يظهر لها أن الجن مسخرون له.
(ننظر) أي نعلم قرئ بالجزم على أنه جواب الأمر وبه قرأ الجمهور، وقرئ بالرفع على الاستئناف، قال ابن عباس: لننظر إلى عقلها فوجدت ثابتة العقل (أتهتدي)؟ إلى معرفته أو إلى الإيمان بالله (أم تكون من الذين لا يهتدون) إلى ذلك.(10/46)
فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ (42) وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ (43) قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (44) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ (45)(10/47)
فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ (42)
(فلما جاءت) بلقيس إلى سليمان (قيل) لها والقائل هو سليمان أو غيره بأمره: (أهكذا عرشك)؟ الذي تركته في قصرك، وأغلقت عليه الأبواب، وجعلت عليه حرساً، والهمزة للاستفهام، ولم يقل: (هذا عرشك) لئلا يكون ذلك تلقيناً لها فلا يتم الإختبار لعقلها.
(قالت كأنه هو) أي: فأجابت أحسن جواب، فلم تقل: هو هو، ولا ليس به، وذلك من رجاحة عقلها حيث لم تقع في المحتمل للأمرين. قال مجاهد: جعلت تعرف وتنكر، وتعجب من حضوره عند سليمان فقالت: كأنه هو، وقال مقاتل: عرفته ولكنها شبهت عليهم كما شبهوا عليها، ولو قيل لها: أهذا عرشك؟ لقالت نعم. وقال عكرمة: كانت حكيمة: قال: إن قلت: هو خشيت أن أكذب، وإن قلت: لا خشيت أن أكذب فقالت: كأنه هو.
(وأوتينا العلم من قبلها وكنا مسلمين) قيل: هو من كلام بلقيس، أي: وأوتينا العلم بصحة نبوة سليمان من قبل هذه الآية في العرش، وكنا منقادين لأمره، وقيل: هو من قول سليمان أي: وأوتينا العلم بقدرة الله من قبل بلقيس، وقيل: العلم بإسلامها، ومجيئها طائعة من قبل مجيئها، وقيل: هو من كلام قوم سليمان، والقول الثاني أرجح من سائر الأقوال، وبه قال مجاهد، وعن زهير بن محمد نحوه.(10/47)
وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ (43)
(وصدها ما كانت تعبد من دون الله) من جملة كلام سليمان أو كلامها على الاحتمالين السابقين، وذكر أبو السعود احتمالاً آخر وهو؛ أنه من كلام الله سبحانه بيان لما كان يمنعها من إظهار ما ادعته من الإسلام، أي منعها من إظهار الإيمان ما كانت تعبده وهو الشمس، قال النحاس: أي صدها عبادتها عن التقدم إلى الإسلام، وقيل: منعها الله عما كانت تعبد من دونه، وقيل: منعها سليمان عما كانت تعبد، والأول أولى، والجملة مستأنفة للبيان.
(إنها كانت من قوم كافرين) تعليل للجملة الأولى أي سبب تأخرها عن عبادة الله ومنع ما كانت تعبده عن ذلك أنها كانت من قوم متصفين بالكفر، راسخين فيه، ولذلك لم تكن قادرة على إظهار إسلامها وهي بينهم، بل حتى دخلت تحت ملك سليمان.(10/48)
قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (44)
(قيل لها ادخلي الصرح) قال أبو عبيدة: الصرح القصر، وقال الزجاج: الصرح الصحن، يقال هذه صرحة الدار، وقامتها، وقال ابن قتيبة: الصرح بلاط اتخذ لها من قوارير، وجعل تحته ماء وسمك، وأصله من التصريح وهو الكشف، وكذب صراح أي ظاهر مكشوف، ولوم صراح. وحكى أبو عبيدة في الغريب: إن الصرح كل بناء عال مرتفع.
(فلما رأته) أي الصرح بين يديها (حسبته لجة) هي معظم الماء، وقال ابن عباس: البحر (و) لذلك (كشفت عن ساقيها) لتخوض الماء خوفاً عليها أن تبتل؛ فإذا هي أحسن النساء ساقاً سليمة مما قالت الجن فيها، غير أنها كانت كثيرة الشعر، فلما فعلت ذلك وبلغت إلى هذا الحد.
(قال) لها سليمان بعد أن صرف بصره عنها (إنه صرح ممرد) أي مسقف بسطح (من قوارير) فمن أراد مجاوزته لا يحتاج إلى تشمير ثيابه. والممرد المحكوك المملس، ومنه الأمرد لملاسة وجهه، وتمرد الرجل إذا لم تخرج لحيته.
قال الفراء: ومنه الشجرة المرداء، التي لا ورق لها. والتمريد في البناء(10/48)
التمليس والتسوية والممرد أيضاً المطول، ومنه قيل للحصن: مارد. وقوارير: جمع قارورة أي زجاج وتطلق القارورة على المرأة لأن الولد أو المني يقر في رحمها كما يقر الشيء في الإناء أو تشبيهاً بآنية الزجاج لضعفها، قال الأزهري: والعرب تكنى عن المرأة بالقارورة والقوصرة قال آزاد البلجرامي رحمه الله:
كم من قلوب رقاق إثر عيسهم ... يا حادي العيس رفقاً بالقوارير
والمراد بها هنا بيت الزجاج فلما سمعت بلقيس ذلك أذعنت واستسلمت.
و (قالت رب إني ظلمت نفسي) أي بما كنت عليه من عبادة غيرك وهو الشمس وقيل: بالظن الذي توهمته في سليمان لأنها توهمت أنه أراد تغريقها في اللجة. والأول أولى.
(وأسلمت مع سليمان) متابعة له داخلة في دينه وهو الإسلام (لله رب العالمين) التفتت من الخطاب إلى الغيبة قيل: لإظهار معرفتها بالله، والأولى أنها التفتت لما في هذا الاسم الشريف من الدلالة على جميع الأسماء، ولكونه علماً للذات. وأخرج ابن المنذر، وعبد بن حميد، وابن أبي شيبة وغيرهم عن ابن عباس في أثر طويل " إن سليمان تزوجها بعد ذلك "، قال أبو بكر بن أبي شيبة: ما أحسنه من حديث.
قال ابن كثير في تفسيره بعد حكاية هذا القول: بل هو منكر جداًً، ولعله من أوهام عطاء بن السائب على ابن عباس والله أعلم. والأقرب في مثل هذه السياقات أنها متلقاة عن أهل الكتاب مما يوجد في صحفهم كروايات كعب ووهب سامحهما الله فيما نقلا إلى هذه الأمة من بني إسرائيل؛ من الأوابد والغرائب والعجائب، مما كان، ومما لم يكن ومما حرف وبدل ونسخ، انتهى.
وكلامه هذا هو شعبة مما قد كررناه في هذا التفسير ونبهنا عليه في عدة(10/49)
مواضع، وكنت أظن أنه لم ينبه على ذلك غيري، فالحمد لله على هذه الموافقة لمثل هذا الحافظ المنصف، وقيل: انتهى أمرها إلى قولها: أسلمت، ولا علم لأحد وراء ذلك. لأنه لم يذكر في الكتاب ولا في خبر صحيح.
وأخرج البخاري في تاريخه والعقيلي عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " أول من صنعت له الحمامات سليمان " وروي عنه مرفوعاً من طريق أخرى رواها الطبراني، وابن عدى في الكامل، والبيهقي في الشعب بلفظ: " أول من دخل الحمام سليمان "، فلما وجد حره قال: أوه من عذاب الله، روى أن سليمان ملك وهو ابن ثلاث عشرة سنة، ومات وهو ابن ثلاث وخمسين سنة، وانقضى ملك بلقيس بانقضاء ملك سليمان، فسبحان من لا انقضاء لدوام ملكه.(10/50)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ (45)
(ولقد أرسلنا إلى ثمود أخاهم صالحاً) اللام هي الموطئة للقسم وهذه القصة من جملة بيان قوله: وإنك لتلقى القرآن من لدن حكيم عليم. وثمود هو أبو القبيلة التي منها خرج صالح، فهو جده. والمراد به هنا نفس القبيلة وتسمى عاداً الثانية، وأما عاد الأولى فهم قوم هود، وتقدم أن بينهما مائة سنة، وعاش صالح مائتين وثمانين سنة (أن اعبدوا الله) أن هي المفسرة أو المصدرية أي بأن اعبدوا الله ووحدوه.
(فإذا هم فريقان يختصمون) إذا، هي الفجائية أي ففاجأ إرساله التفرق والاختصام، والمراد بالفريقين: المؤمنون منهم والكافرون، ومعنى الاختصام: أتا كل فريق يخاصم على ما هو فيه، ويزعم أن الحق معه، وقيل: إن الخصومة بينهم في صالح، هل هو مرسل؟ أم لا؟ وقال أحد الفريقين: صالح، والآخر: جميع قومه، وهو ضعيف، وقد تقدم حكاية اختصام الفريقين في سورة الأعراف، في قوله: قال الملأ الذين استكبروا من قومه للذين استضعفوا لمن آمن منهم الآية.(10/50)
قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (46) قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ (47) وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (48) قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (49)(10/51)
قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (46)
(قال) صالح للمكذبين: (يا قوم لمَ تستعجلون بالسيئة قبل الحسنة)؟ قال مجاهد: أي بالعذاب قبل الرحمة. والمعنى لم تؤخرون الإيمان الذي يجلب إليكم الثواب؟ وتقدمون الكفر الذي يجلب إليكم العقوبة؟ وقد كانوا لفرط كفرهم يقولون: ائتنا يا صالح بالعذاب، ووصف العذاب بأنه سيئة مجازاً، إما لأن العقاب من لوازمه، أو لأنه يشبهه في كونه مكروهاً.
(لولا) هلا (تستغفرون الله) وتتوبون إليه من الشرك (لعلكم ترحمون)؟ أي: رجاء أن ترحموا أو لكي ترحموا فلا تعذبوا، فإن استعجال الخير أولى من استعجال الشر، فكالن جوابهم عليه بعد هذا الإرشاد الصحيح والكلام اللين أنهم قالوا:(10/51)
قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ (47)
(اطيرنا بك) أصله تطيرنا، وقد قرئ بذلك، والتطير التشاؤم، أي: تشاءمنا بك، وأصابنا الشؤم والضيق والشدة بك (وبمن معك) ممن أجابك، ودخل في دينك، وذلك لأنه أصابهم قحط فتشاءموا بصالح، وقد كانت العرب أكثر الناس طيرة، وأشقاهم بها، وكانوا إذا أرادوا سفراً أو أمراً من الأمور نفروا طائراً من وكره، فإن طار يمنة ساروا وفعلوا ما عزموا عليه، وإن طار يسرة تركوا ذلك.
وفي القرطبي: لا شيء أضر بالرأي، ولا أفسد للتدبير، من اعتقاد(10/51)
الطيرة، ومن ظن أن خوار بقرة أو نعيق غراب يرد قضاء، أو يدفع مقدوراً فقد جهل؛ فلما قالوا ذلك (قال) لهم صالح:
(طائركم عند الله) أي ما يصيبكم من الخير والشر بأمر الله، وهو مكتوب عليكم، سمي طائراً لأنه لا شيء أسرع من نزول القضاء المحتوم، والمعنى ليس ذلك بسبب الطيرة التي تشاءمون بها، بل سبب ذلك عند الله، وهو ما يقدره عليكم. وقيل: المعنى أن الشؤم الذي أصابكم هو من عند الله لسبب كفركم، وهذا كقوله تعالى: (يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ) وقيل: طائركم عملكم، وسمي طائراً لسرعة صعوده إلى السماء، ثم أوضح لهم سبب ما هم فيه بأوضح بيان فقال:
(بل أنتم قوم تفتنون)، أي تمتحنون وتختبرون، وقيل: تعذبون بذنوبكم، وقيل: يفتنكم غيركم، وقيل: يفتنكم الشيطان بما تقعون فيه من الطيرة أو بما لأجله تطيرون، فأضرب عن ذكر الطائر إلى ما هو السبب الداعي إليه، وجاء بالخطاب مراعاة لتقدم الضمير، ولو روعي ما بعده لقيل: يفتنون، بياء الغيبة، وهو جائز، ولكنه مرجوح، تقول: أنت رجل تفعل ويفعل، ونحن قوم ناقر ويقرون.(10/52)
وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (48)
(وكان في المدينة) التي كان فيها صالح، وهي الحجر، كذا قال المفسرون هنا، وتقدم في سورة الحجر أنه واد بين المدينة والشام، وهو ديار ثمود.
(تسعة رهط) أي: تسعة رجال أو أشخاص من أبناء الأشراف وبهذا
الاعتبار وقع تمييزاً للتسعة لا باعتبار لفظه، والإضافة بيانية، أي: تسعة هم رهط، والرهط اسم جماعة، فكأنهم كانوا رؤساء يتبع كل واحد منهم جماعة، وقيل: الرهط ما دون العشرة من الرجال، ليس فيه امرأة، وسكون الهاء أفصح من فتحها، وهو جمع لا واحد له من لفظه؛ وقيل: الرهط من سبعة إلى عشرة وما دون السبعة إلى الثلاثة نافر، قال ثعلب: الرهط والنفر والقوم والمعشر والعشيرة معناهم الجمع، لا واحد لها من لفظها وهو للرجال دون(10/52)
النساء، وقال ابن السكيت: الرهط والعترة بمعنى، وقال الأصمعي: الرهط ما فوق العشرة إلى الأربعين، ونقله ابن فارس أيضاً.
والجمع أرهط وأراهط، وهؤلاء التسعة هم أصحاب قدار، عاقر الناقة، وكانوا عتاة قوم صالح. وقد اختلف في اسماء هؤلاء التسعة اختلافاً كثيراً لا حاجة إلا التطويل بذكره، ثم وصف هؤلاء بقوله:
(يفسدون في الأرض ولا يصلحون) أي شأنهم وعملهم الفساد في الأرض لا في المدينة فقط، فساداً لا يخالطه شيء من الإصلاح، قيل: كانوا يتبعون معائب الناس، ولا يسترون عوراتهم. وقيل: كانوا يظلمون ولا يمنعون الظالمين.(10/53)
قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (49)
(قالوا تقاسموا) أي قال بعضهمِ لبعض: حلفوا (بالله) هذا على أن (تقاسموا) فعل أمر ويجوز أن يكون فعلاً ماضياً مفسراً لـ (قالوا) كأنه قيل: ما قالوا؟ فقال: تقاسموا، أو قالوا ذلك متقاسمين، وإليه ذهب الزمخشري وقرأ ابن مسعود (تقاسموا بالله) ليس فيها قالوا.
(لنبيتنه) اللام جواب قسم، أي لنأتينه بغتة في وقت البيات، فنقتله ليلاً (وأهله) أي من آمن به، وكانوا أربعة آلاف (ثم لنقولن لوليه) بالنون للمتكلم وقرئ بالتحتية وبالفوقية على خطاب بعضهم لبعض، والمراد بـ (ولي) صالح رهطه، الذين لهم ولاية الدم.
(وما شهدنا مهلك أهله) أي: ما حضرنا قتلهم، ولا ندري من قتله وقتل أهله ونفيهم لشهودهم لكان الهلاك يدل على نفي شهودهم لنفس القتل بالأولا، وقيل: إن المهلك بمعنى الإهلاك، قرئ مهلك بفتح الميم واللام وبكسر اللام.
(وإنا لصادقون) فيما قلناه من إنكار لقتلهم، قال الزجاج: وكان هؤلاء النفر تحالفوا أن يبيتوا صالحاً وأهله، ثم ينكروا عند أوليائه أنهم ما فعلوا ذلك ولا رأوه، وكان هذا مكراً منهم، ولهذا قال الله سبحانه:(10/53)
وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (50) فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (51) فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (52) وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (53) وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (54) أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (55) فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (56) فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ (57)(10/54)
وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (50)
(ومكروا) بهذه المحالفة (مكراً) وهو ما أخفوه من تدبير الفتك بصالح (ومكرنا مكراً) أي جازيناهم بفعلهم فأهلكناهم.
(وهم لا يشعرون) بمكر الله بهم، وهذا على سبيل الاستعارة المنضمة إلى المشاكلة، كما في الكشاف وشروحه، يعني تشبيهاً له بالمكر من حيث كونه إضراراً في خفية، لأن المكر قصد الإضرار على طريق الغدر والحيلة.(10/54)
فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (51)
(فانظر كيف كان عاقبة مكرهم) أي انظر ما انتهى إليه أمرهم الذي بنوه على المكر وما أصابهم بسببه. (أنا دمرناهم وقومهم أجمعين) بفتح همزة (أنا) وقرئ بكسرها وهما سبعيتان، قال الفراء والزجاج: من كسر استأنف وهو يفسر به ما كان قبله، كأنه جعله تابعاً للعاقبة كأنه قال: العاقبة إنا دمرناهم وعلى قراءة الفتح التقدير بأنا، أو لأنا و (كان) تامة، وعاقبة فاعل لها، أو يكون بدلاً من عاقبة، أو يكون خبر مبتدأ محذوف، أي: هي أنا(10/54)
دمرناهم. وفي حرف أُبي أن دمرناهم.
والمعنى أن الله دمر التسعة الرهط المذكورين، بالرمي، ودمر قومهم الذين لم يكونوا معهم عند مباشرتهم لذلك بصيحة جبريل عليه السلام، وأجمعين. تأكيد لكل من المعطوف والمعطوف عليه ومعناه أنه لم يشذ منهم أحد، ولا سلم من العقوبة فرد من أفرادهم.
وجملة(10/55)
فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (52)
(فتلك بيوتهم خاوية) مقررة لما قبلها أي حال كونها خاوية قال الفراء، والنحاس: أي خالية عن أهلها خراباً ليس بها ساكن، من خوى البطن إذا خلا، أو ساقطة متهدمة من خوى النجم إذا سقط. وقيل: الأصل تلك بيوتهم الخاوية كقوله: وله الدين واصباً (بما ظلموا) أي بسبب ظلمهم.
(إن في ذلك) التدمير والإهلاك (لآية) أي: لعبرة عظيمة (لقوم يعلمون) أي يتصفون بالعلم بالأشياء(10/55)
وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (53)
(وأنجينا الذين آمنوا) وهم صالح ومن آمن به (وكانوا يتقون) الله ويخافون عقابه، وخرج صالح ومن معه من المؤمنين إلى حضرموت، فلما دخلها مات صالح فسمى حضرموت، قال الضحاك: ثم بنى الأربعة آلاف الذين كانوا معه مدينة يقال لها حاضوراء.(10/55)
وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (54)
(و) أرسلنا (لوطاً إذ قال لقومه) هم أهل سدوم: (أتأتون الفاحشة) أي: الفعلة المتناهية في القبح والشناعة، وهي إتيان المذكور واللواط (وأنتم تبصرون) أي وأنتم تعلمون علماً يقيناً أنها فاحشة وقبيحة. وذلك أعظم ذنوبكم، على أن تبصرون من بصر القلب وهو العلم أو بمعنى النظر لأنهم كانوا لا يستترون حال فعل الفاحشة، عتواً وتمرداً، والجملة حالية مفيدة لتأكيد الإنكار، وتشديد التوبيخ، وقد تقدم تفسير هذه القصة في الأعراف مستوفى.(10/55)
أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (55)
(أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ)؟ فيه تكرير للتوبيخ مع التصريح، بأن تلك الفاحشة هي اللواطة التي أبهمها أولا، وفيه إشارة إلى أن فعلتهم هذه مما يعي الواصف، ولا يبلغ كنه قبحها، ولا يصدق ذو عقل أن أحداً يفعلها، ثم علل ذلك بقوله:
(شهوة) تنزيلاً لهم إلى رتبة البهائم التي ليس فيها قصد ولد. ولا عفاف، والتقدير للشهوة أو إتياناً شهوة؛ أو مشتهين لهم.
(من دون النساء) أي متجاوزين النساء اللاتي هن محل لذلك، وفيه إشارة إلى أنهم أساءوا من الطرفين في الفعل والترك.
(بل أنتم قوم تجهلون) التحريم، أو عاقبة فعلكم، والعقوبة على هذه المعصية، قيل: أراد بالجهل السفاهة التي كانوا عليها، أو تفعلون فعل الجاهلين بقبحه، وقد اجتمع الخطاب والغيبة هنا، وفي قوله: بل أنتم قوم تفتنون فغلب الخطاب على الغيبة لأنه أقوى وأرسخ إذ الأصل أن يكون الكلام بين الحاضرين.(10/56)
فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (56)
(فما كان جواب قومه إلا أن قالوا) أي: إلا قولهم (أخرجوا آل لوط) أي لوطاً وأهله، والمراد بهم بنتاه وزوجته المؤمنة (1) (من قريتكم) فيه امتنان عليه بإسكانه عندهم، والإضافة للجنس لأن قراهم كانت خمساً أعظمها سدوم (إنهم أناس يتطهرون) أي يتنزهون ويتباعدون عن أدبار الرجال، قالوا ذلك استهزاء منهم بهم.(10/56)
فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ (57)
(فأنجيناه وأهله) من العذاب الواقع بالقوم، فخرج لوط بأهله من أرضهم وطوى الله له الأرض حتى نجا، ووصل إلى إبراهيم (إلا امرأته قدرناها) قرئ مخففاً ومشدداً، والمعنى واحد مع دلالة زيادة البناء على زيادة المعنى (من الغابرين) أي الباقين في العذاب.
__________
(1) قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: كذا في المطبوع!، وكأن المؤلف يذهب إلى أن للوط عليه السلام زوجتان إحداهما مؤمنة(10/56)
وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (58) قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (59) أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60)(10/57)
وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (58)
(وأمطرنا عليهم) أي: على كل من كان منهم خارج المدائن (مطراً) أي حجارة مكتوباً عليها اسم صاحبها، وهو حجارة السجيل أي: الطين المحرق وهذا التأكيد يدل على شدة المطر، وأنه غير معهود.
(فساء مطر المنذرين) أي الذين أنذروا فلم يعقلوا ولم يقبلوا الإنذار والمخصوص بالذم محذوف، أي مطرهم، وقد مضى بيان ذلك كله في الأعراف والشعراء.(10/57)
قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (59)
(قل الحمد لله) قال الفراء: قال أهل المعاني: قيل للوط قل الحمد لله على هلاكهم، وخالفه جماعة المفسرين فقالوا: إن هذا خطاب لنبينا - صلى الله عليه وسلم - أي قل: الحمد لله على هلاك كفار الأمم الخالية، قال النحاس: وهذا أولى لأن القرآن منزل على النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكل ما فيه فهو مخاطب به، إلا ما لم يصح معناه إلا لغيره، وكان هذا صدر خطبة لما يلقى من البراهين الدالة على الوحدانية، والعلم والقدرة الآتي ذكرها بقوله: أمن خلق الخ قيل: والمراد بقوله:
(وسلام على عباده الذين اصطفى) أمته - صلى الله عليه وسلم - والأولى حمله على العموم، وهم كل المؤمنين من السابقين واللاحقين، فيدخل في ذلك الأنبياء وأتباعهم، قال ابن عباس: هم أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - اصطفاهم الله لنبيه - صلى الله عليه وسلم -،(10/57)
وروي مثله عن سفيان الثوري؛ والأولى ما قدمناه من التعميم، فيدخل في ذلك أصحابه - صلى الله عليه وسلم - دخولاً أولياً، وهو تعليم لكل متكلم في كل أمر ذي بال، بأن يتبرك بهما ويستظهر لمكانهما.
(آلله)؟ فيه وجهان يجريان في خمسة مواضع في القرآن غير هذا الموضِع أحدهما تسهيل الهمزة الثانية مقصورة، والثاني إبدالها ألفاً ممدودة مداً لازماً والمعنى الله الذي ذكرت أفعاله، وصفاته الدالة على عظيم قدرته.
(خير أما يشركون)؟ به من الأصنام وفيه تبكيت للمشركين: وإلزام الحجة عليهم بعد هلاك الكفار و (أم) هذه متصلة عاطفة لاستكمال شروطها، والتقدير أيهما خير، وهذه الخيرية ليست بمعناها الأصلي، بل هي كقول الشاعر:
أتهجوه ولست له بكفء؟ ... فشركما لخيركما الفداء
فيكون ما في الآية من باب التهكم بهم، إذ لا خير فيهم أصلاً، وقد حكى سيبويه: إن العرب تقول: السعادة أحب إليك أم الشقاوة ولا خير في الشقاوة أصلاً، وقيل: المعنى أثواب الله خير؟ أم عقاب ما تشركون به؟ وقيل: قال لهم ذلك جرياً على اعتقادهم، لأنهم كانوا يعتقدون أن في عبادة الأصنام خيراً. وقيل: المراد من هذا الاستفهام الخبر، وقرأ الجمهور تشركون بالفوقية على الخطاب وقرئ بالتحتية.(10/58)
أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60)
(أمن خلق السماوات والأرض)؟ أم هذه هي المنقطعة، وقال أبو حاتم: تقديره أآلهتكم خير؟ أم من خلق السماوات والأرض؟ وقدر على خلقهن، وقيل: المعنى أعبادة ما تعبدون من أوثانكم خير؟ أم عبادة من خلق العالم الجسماني؟ فيكون (أم) على هذا متصلة، وفيها معنى التوبيخ والتهكم، كما في الجملة الأولى.(10/58)
(وأنزل لكم من السماء ماء) أي نوعاً مد، الماء وهو المطر (فأنبتنا به حدائق) جمع حديقة، قال الفراء: الحديقة البستان الذي عليه حائط، فإن لم يكن عليه حائط فهو البستان، وليس بحديقة. وقال قتادة وعكرمة: الحدائق النخل.
(ذات بهجة) أي ذات منظر حسن، ورونق، والبهجة هي الحسن الذي يبتهج به من رآه ولم يقل ذوات بهجة على الجمع، لأن المعنى جماعة حدائق، وصرف الكلام عن الغيبة إلى التكلم تأكيداً لمعنى اختصاص الفعل بذاته، وإيذاناً بأن إنبات الحدائق المختلفة الأصناف والألوان والطعوم والأشكال، مع سقيها بماء واحد لا يقدر عليه إلا هو وحده، ثم رشح معنى الاختصاص بقوله:
(ما كان لكم أن تنبتوا شجرها) فضلاً عن ثمارها وسائر صفاتها البديعة، ومعنى هذا النفي الحظر والمنع من فعل هذا أي ما يصح للبشر، ولا يتهيأ لهم ذلك، ولا يدخل تحت مقدورهم، لعجزهم عن إخراج الشيء من العدم إلى الوجود، وأن تأتي ذلك محال من غيره، ثم قال سبحانه موبخاً لهم ومقرعاً:
(أإله) أي: هل معبود (مع الله)؟ الذي تقدم ذكر بعض أفعاله حتى يقرن به، ويجعل شريكاً له في العبادة، وقرئ إلهاً أي: أتدعون إلهاً مع الله؟ والاستفهام للإنكار أي ليس معه إله، وكذا يقال في المواضع الأربعة الآتية، ثم أضرب عن توبيخهم وتقريعهم بما تقدم، وانتقل إلى بيان سوء حالهم مع الالتفات من الخطاب إلى الغيبة فقال:
(بل هم قوم يعدلون) بالله غيره، أو يعدلون عن الحق إلى الباطل، و (بل هم) بعد الخطاب أبلغ في تخطئة رأيهم ثم شرع في الاستدلال بأحوال الأرض وما عليها فقال:(10/59)
أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (61) أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (62) أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (63) أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (64)(10/60)
أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (61)
(أمن جعل الأرض قراراً)؟ القرار هو المستقر أي دحاها وسواها وجعلها بحيث يمكن الاستقرار عليها للإنسان والدواب بإخلاء بعضها من الماء حسبما تدور عليه منافعهم، وقيل: هذه الجملة وما بعدها من الجمل الثلاث بدل من قوله أمن خلق السماوات والأرض؟ ولا ملجئ لذلك، بل هي وما بعدها إضراب، وانتقال من التقريع والتوبيخ بما قبلها إلى التوبيخ والتقريع بشيء آخر.
(وجعل) أي خلق أو صير (خلالها) أي فيما بينها (أنهاراً) تطرد بالمياه، والخلال الوسط، وقد تقدم تحقيقه في قوله: وفجرنا خلالهما نهراً.
(وجعل لها رواسي) أي جبالاً ثوابت تمسكها وتمنعها من الحركة (وجعل بين البحرين) هما العذب والمالح، أي جعل بينهما من قدرته (حاجزاً) أي مانعاً معنوياً، وهو المنع الإلهي، إذ ليس هناك حاجز حسي كما هو مشاهد فلا يختلط أحدهما بالآخر، فلا هذا يغير ذاك، ولا ذاك يدخل في هذا وقد مر بيانه في سورة الفرقان.
(أإله مع الله) أي: إذا ثبت أنه لا يقدر على ذلك إلا الله فهل إله في(10/60)
الوجود يصنع صنعه، ويخلق خلقه فكيف يشركون به ما لا يضر ولا ينفع. (بل أكثرهم لا يعلمون) توحيد ربهم وسلطان قدرته.(10/61)
أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (62)
(أمن يجيب المضطر إذا دعاه)؟ هذا الاستدلال منه سبحانه بحاجة الإنسان إليه على العموم والمضطر اسم مفعول من الاضطرار، وهو افتعال من الضرورة، وهي الحاجة المحوجة إلى اللجأ، يقال: اضطره إلى كذا، والمضطر هو المكروب المجهود، الذي مسه الضر ولا حول له ولا قوة، وقيل هو المذنب إذا استغفر، وقيل: هو المظلوم إذا دعا، أو من رفع يديه ولم ير لنفسه حسنة غير التوحيد، وهو منه على خطر، وقيل: هو الذي عراه ضر من فقر، أو مرض، أو نازلة من نوازل الدهر، فألجأه إلى التضرع إلى الله.
والألف واللام في (المضطر) للجنس لا للاستغراق، فقد لا يجاب دعاء بعض المضطرين، لمانع يمنع من ذلك بسبب يحلله العبد، يحول بينه وبين إجابة دعائه، وإلا فقد ضمن الله سبحانه إجابة دعاء المضطر إذا دعاه وأخبر بذلك عن نفسه، والوجه في إجابة دعاء المضطر أن ذلك الاضطرار الحاصل له يتسبب عنه الإخلاص، وقطع النظر عما سوى الله.
وقد أخبر الله سبحانه بأنه يجيب دعاء المخلصين له الدين، وإن كانوا كافرين، فقال (حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ) وقال: (فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون) فأجابهم عند ضرورتهم وإخلاصهم مع علمه بأنهم سيعودون إلى شركهم.
(ويكشف السوء)؟ الذي يسوء العبد من غير تعيين وقيل: هو الضر وقيل: هو الجور وهذا من عطف العام على الخاص.
(ويجعلكم خلفاء الأرض)؟ أي: يحلف كل قرن منكم القرن الذي(10/61)
قبله بعد انقراضهم والمعنى يهلك قرناً وينشئ آخرين: وقيل: يجعل أولادكم خلفاً منكم، وقيل: جعلكم خلفاء الجن في الأرض، وقيل: يجعل المسلمين خلفاً من الكفار ينزلون أرضهم وديارهم.
(أإله مع الله)؟ الذي يوليكم هذه النعم الجسام. (قليلاً ما) أي: تذكراً قليلاً (تذكرون) و (ما) زائدة لتقليل القليل هو كناية عن العدم بالكلية فالمراد نفي تذكرهم رأساً، قال الكرخي: المعنى نفي التذكر والقلة تستعمل في معنى النفي، قرأ الجمهور بالفوقية على الخطاب وقرئ بالتحتية على الخبر رداً على قوله: بل أكثرهم لا يعلمون.(10/62)
أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (63)
(أمن يهديكم في ظلمات البر والبحر) أي يرشدكم في الليالي المظلمة إذا سافرتم في البر والبحر إلى مقاصدكم، وقيل: المراد مفاوز البر التي لا أعلام لها ولجج البحار، وشبهها بالظلمات لعدم ما يهتدون به فيها، وقيل: يهديكم بالنجوم ليلاً وبعلامات الأرض نهاراً.
(ومن يرسل الرياح بشراً بين يدي رحمته)؟ المراد بالرحمة هنا: المطر أي بين يدي المطر وقبل نزوله.
(أإله مع الله)؟ يفعل ذلك ويوجده (تعالى الله عما يشركون) أي تنزه وتقدس عن وجود ما يجعلونه له شريكاً.(10/62)
أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (64)
(أمن يبدأ الخلق ثم يعيده)؟ كانوا يقرون بأن الله سبحانه هو الخالق فألزمهم الإعادة أي إذا قدر على الابتداء قدر على الإعادة (ومن يرزقكم من السماء والأرض)؟ بالمطر والنبات أي: أهو خير أم ما تجعلونه شريكاً له مما لا يقدر على شيء من ذلك؟ (أإله مع الله) حتى تجعلوه شريكاً له.
(قل هاتوا برهانكم) أي حجتكم عقلية أو نقلية على أن الله سبحانه شريكاً أو هاتوا حجتكم على أن ثم صانعاً يصنع كصنعه (إن كنتم صادقين) أن مع الله إلهاً فعل شيئاًً مما ذكر. وفي هذا تبكيت لهم وتهكم بهم. وسألوه عن وقت قيام الساعة فنزل:(10/62)
قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (65) بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ (66) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآبَاؤُنَا أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ (67) لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (68) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (69)(10/63)
قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (65)
(قل لا يعلم من) أي لا يعلم أحد من المخلوقات الكائنة الثابتة الساكنة المستقرة (في السماوات والأرض) وهم الملائكة والإنس (الغيب) الذي استأثر الله بعلمه (إلا الله) أي: لكن الله يعلم ذلك فالاستثناء منقطع، ورفع ما بعد (إلا) على اللغة التميمية كما في قوله:
إلا اليعافير وإلا العيس
وقيل: لا يعلم غيب من فيهما، ولا يعلم الأشياء التي تحدث فيهما إلا الله، وقيل: هو استثناء متصل من (من) والأول أولى، لأن الاتصال يقتضي أن الله من جملة من فيهما.
أخرج البخاري ومسلم وغيرهما من حديث عائشة قالت: " ثلاث من تكلم بواحدة منهن فقد أعظم على الله الفرية "، وقالت في آخره: " ومن زعم أنه يخبر الناس بما يكون في غد فقد أعظم على الله الفرية، والله تعالى يقول: قل: (لا يعلم) " الآية ".
(وما يشعرون) أي الكفار (أيان يبعثون) أي متى ينشرون من القبور، وأيان مركبة من أي وأن، وقد تقدم تحقيقه، وقرئ إيان بكسر(10/63)
الهمزة، وهي لغة بني سليم.(10/64)
بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ (66)
(بل ادارك) أصله تدارك، وقرئ أدرك من الإدراك، وقرئ بل أدرك بفتح لام بل، وتشديد الدال، وأدرك على الاستفهام، وقرئ بل تدارك، بإثبات التاء، ومعنى الآية بل تكامل.
(علمهم في الآخرة) لأنهم رأوا كل ما وعدوا به وعاينوه، وقيل: معناه تتابع وتلاحق، والقراءة الثانية معناها كمل علمهم في الآخرة مع المعاينة، وذلك حين لا ينفعهم العلم لأنهم كانوا في الدنيا مكذبين، وقال الزجاج: إنه على معنى الإنكار. واستدل على ذلك بقوله: فيما بعد: بل هم منها عمون، أي لم يدرك علمهم علم الآخرة، وقيل: المعنى بل ضل وغاب علمهم في الآخرة فليس لهم فيها علم.
ومعنى الثالثة كالأولى، فافتعل وتفاعل، قد يجيئان لمعنى. والرابعة هي بمعنى الإنكار. قال الفراء: وهو وجه حسن كأنه وجهه إلى المكذبين على طريق الاستهزاء بهم، وفي الآية قراءات أخر لا ينبغي الاشتغال بذكرها وتوجيهها.
وعن ابن عباس قال: بل إدراك علمهم في الآخرة حين لا ينفع الندم وعنه قال: لم يدرك علمهم، وعنه: أنه قرأها بالاستفهام، وعنه قال: غاب علمهم.
(بل هم في شك منها) أي بل هم اليوم في الدنيا في شك من الآخرة ثم أضرب عن ذلك إلى ما هو أشر منه فقال: (بل هم منها عمون) فلا يدركون شيئاًً من دلائلها لاختلال بصائرهم التي يكون بها الإدراك و (عمون) جمع عم، وهو من كان أعمى القلب، والمراد بيان جهلهم بها على وجه لا يهتدون إلى شيء مما يوصل إلى العلم بها فمن قال: إن معنى الآية الأولى أنه كمل علمهم وتم مع المعاينة، فلا بد من حمل قوله بل هم في شك الخ على ما كانوا عليه في الدنيا، ومن قال: إن معنى الآية الأولى الاستهزاء بهم والتبكيت لهم لم(10/64)
يحتج إلى تقييد قوله بل هم في شك الخ بما كانوا عليه في الدنيا وبهذا يتضح معنى هذه الآيات ويظهر ظهوراً بيناً، والإضرابات الثلاث تنزيل لأحوالهم وتكرير لجهلهم.
ولما ذكر سبحانه أن المشركين في شك من البعث وأنهم عمون عن النظر في دلائله أراد أن يبين غاية شبهتهم وهي مجرد استبعاد إحياء الموتى بعد صيرورتهم تراباً فقال:(10/65)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآبَاؤُنَا أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ (67)
(وقال الذين كفروا أئذا كنا تراباً وآباؤنا أئنا لمخرجون) المعنى أنهم استنكروا واستبعدوا أن يخرجوا من قبورهم أحياء بعد أن قد صاروا تراباً.
ثم أكدوا ذلك الاستبعاد بما هو تكذيب للبعث فقالوا:(10/65)
لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (68)
(لقد وعدنا هذا) يعنون البعث (نحن وآباؤنا من قبل) أي من قبل وعد محمد - صلى الله عليه وسلم - لنا وقد مرت الدهور على هذا الوعد ولم يقع منه شيء، فذلك دليل على أنه لا حقيقة له والجملة مستأنفة مسوقة لتقرير الإنكار مصدرة بالقسم لزيادة التقرير.
(إن هذا) " الوعد بالبعث " (إلا أساطير الأولين) أي أحاديثهم وأكاذيبهم الملفقة التي كتبوها ولا حقيقة لها وقد تقدم تحقيق معنى الأساطير في سورة المؤمنين ثم أوعدهم سبحانه على عدم قبول ما جاءت به الأنبياء من الإخبار بالبعث فأمرهم بالنظر في أحوال الأمم السابقة المكذبة للأنبياء وما عوقبوا به وكيف كانت عاقبتهم فقال:(10/65)
قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (69)
(قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المجرمين) المكذبين بما جاءت به الأنبياء على نبينا وعليهم الصلاة والسلام، من الإخبار بالبعث ومعنى النظر هو مشاهدة آثارهم بالبصرت فإن في المشاهدة زيادة اعتبار، وكفاية لأولي الأبصار. وقيل: المعنى فانظروا بقلوبكم وبصائركم، كيف كان عاقبة المكذبين لرسلهم؟ والأول أولى، لأمرهم بالسير في الأرض؛ وفيه تهديد لهم على التكذيب؛ وتخويف بأن ينزل بهم مثل ما نزل بالمكذبين قبلهم.(10/65)
وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (70) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (71) قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ (72) وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ (73) وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ (74) وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (75) إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (76) وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (77) إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (78)(10/66)
وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (70)
(ولا تحزن عليهم) الحزن سببه إما فوت أمر في الماضي، أو توقع مكروه في المستقبل، أي: لا تحزن على عدم إيمان المستهزئين فيما مضى ولا تغتم وتهتم بمكرهم في المستقبل؛ وهو معنى قوله:
(ولا تكن في ضيق مما يمكرون) الضيق الحرج، يقال: ضاق الشيء ضيقاً بالفتح، وضيقاً بالكسر، قرئ بهما وهما لغتان، قال ابن السكيت: يقال: في صدر فلان ضيق، وضيق، وهو ما يضيق عنه الصدور، وقرئ لا تكن بثبوت النون هنا على الأصل.
وقد حذفت من هذا المضارع في القرآن في عشرين موضعاً، تسعة منها مبدوءة بالتاء، وثمانية بالياء، واثنان بالنون، وواحد بالهمزة، وهو قوله: ولم أك بغياً، وقد تقدم تفسير هذه الآية في آخر سورة النحل.(10/66)
وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (71)
(ويقولون متى هذا الوعد) بالعذاب الذي تعدنا (إن كنتم صادقين) في ذلك، خطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - ومن معه، من المؤمنين.(10/66)
قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ (72)
(قل عسى أن يكون ردف لكم) يقال ردفت الرجل وأردفته، إذا ركبت خلفه، وردفه إذا اتبعه وجاء في إثره، قال ابن شجرة: معنى ردف لكم تبعكم، قال: ومنه ردف المرأة، لأنه تبع لها من خلفها. قال(10/66)
الجوهري: وأردفه لغة في ردفه مثل تبعه واتبعه. قال الفراء: ردف لكم دنا لكم، ولهذا قيل: لكم، وقرئ ردف بفتح الدال، وهي لغة، والكسر أشهر.
وقرأ ابن عباس (أزف لكم) وعسى ولعل وسوف في مواعيد الملوك بمنزلة الجزم بمدخولها، وإنما يطلقونها إظهاراً للوقار، وإشعاراً بأن الرمز من أمثالهم كالتصريح ممن عداهم، وعلى ذلك يجري الله وعيده، قاله أبو السعود والمعنى قل: يا محمد - صلى الله عليه وسلم - لهؤلاء الكفار: عسى أن يكون هذا العذاب الذي به توعدون تبعكم ولحقكم؛ فتكون اللام زائدة للتأكيد، أو بمعنى اقترب لكم ودنا منكم قاله ابن عباس، فتكون غير زائدة.
(بعض الذي تستعجلون) من العذاب، أي حلوله، قيل: هو عذابهم بالقتل يوم بدر، وقيل: هو عذاب القبر، ثم ذكر سبحانه فضله فقال:(10/67)
وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ (73)
(وإن ربك لذو فضل على الناس) في تأخير العقوبة، والأولى أن تحمل الآية على العموم، ويكون تأخير العقوبة من جملة أفضاله سبحانه وإنعامه.
(ولكن أكثرهم لا يشكرون) فضله وإنعامه، ولا يعرفون حق إحسانه.
ثم بين سبحانه أنه مطلع على ما في صدورهم فقال:(10/67)
وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ (74)
(وإن ربك ليعلم ما تكن صدورهم) أي ما تخفيه فليس التأخير لخفاء حالهم عليه، قرئ بضم التاء من أكن، وبفتحها وضم الكاف يقال كننته بمعنى سترته وأخفيت أثره (وما يعلنون) من أقوالهم وأفعالهم، ويظهرونها. وقال ابن عباس: يعلم ما عملوا بالليل والنهار.(10/67)
وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (75)
(وما من غائبة في السماء والأرض إلا في كتاب مبين) أي: في اللوح المحفوظ، والغائبة: هي من الصفات الغالبة والتاء للمبالغة كراوية وعلامة، وقيل: هي الداخلة على المصادر نحو العاقبة والعافية. قال الزمخشري: ونظيرها الذبيحة والنطيحة والرمية في أنها أسماء غير صفات. قال الحسن:(10/67)
الغائبة هنا هي القيامة.
وقال مقاتل: علم ما يستعلجون من العذاب هو مبين عند الله، وإن غاب عن الخلق. وقال ابن شجرة: الغائبة هنا جميع ما أخفى الله عن خلقه، وغيبه عنهم، مبين في أم الكتاب، فكيف يخفى عليه شيء من ذلك، ومن جملة ذلك ما يستعجلون من العذاب. فإنه مؤقت بوقت مؤجل بأجل، علمه عند الله، فكيف يستعجلونه قبل أجله المضروب له؟ وقال ابن عباس: ما من شيء في السماء والأرض سراً ولا علانية إلا يعلمه.(10/68)
إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (76)
(إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل) الموجودين في زمان نبينا بالتصريح والتنصيص، ولذا خص الأكثر بالذكر وقال: (أكثر الذي هم فيه يختلفون) من التشبيه والتنزيه، وأحوال الجنة والنار، وعزير ومسيح، وذلك لأن أهل الكتاب تفرقوا فرقاً، وتحزبوا أحزاباً، يطعن بعضهم على بعض، ويتبرأ بعضهم من بعض، فنزل القرآن مبيناً لما اختلفوا فيه من الحق، فلو أخذوا به لوجدوا فيه ما يرفع اختلافهم ويدفع تفرقهم.(10/68)
وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (77)
(وإنه لهدى) من الضلالة (ورحمة) من العذاب (للمؤمنين) أي لمن آمن بالله وتابع رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وخصهم لأنهم هم المنتفعون به، ومن جملتهم من آمن من بني إسرائيل.(10/68)
إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (78)
(إن ربك يقضي بينهم) كغيرهم يوم القيامة (بحكمه) أي يقضي بالعدل بين المختلفين من بني إسرائيل، بما يحكم به من الحق، فيجازي المحق ويعاقب المبطل، فلا يمكن أحداً مخالفته، كما خالف الكفار في الدنيا أنبياءه ورسله وقيل: يقضي بينهم في الدنيا فيظهر ما حرفوه قرئ بحكمه بضم الحاء وسكون الكاف، وبكسرها وفتح الكاف؛ جمع حكمة؛ والحكم بمعنى العدل والحق والمحكوم به.
(وهو العزيز) الذي لا يغالب (العليم) بما يحكم به، أو الكثير العلم ثم أمره سبحانه بالتوكل وقلة المبالاة فقال:(10/68)
فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (79) إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (80) وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (81) وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ (82)(10/69)
فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (79)
(فتوكل على الله) الفاء لترتيب الأمر على ما تقدم ذكره، لأن هذه الأوصاف توجب على كل أحد أن يفوض جميع أموره إليه، والمعنى فوض إليه أمرك، واعتمد عليه فإنه ناصرك، ثم علَّل ذلك بعلتين الأولى قوله:
(إنك على الحق المبين) أي: الظاهر، وقيل: المظهر، وهو الدين الواضح الذي لا يتعلق به شك، وفيه بيان أن صاحب الحق حقيق بالوثوق بالله، وبنصرته وتأييده وحفظه له. والعلة الثانية قوله:(10/69)
إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (80)
(إنك لا تسمع الموتى) أي: موتى القلوب وهم الكفار، وفيه قطع طمعه عن متابعتهم، ومعاضدتهم رأساً.
(ولا تسمع الصم الدعاء) لأنه إذا علم أن حالهم كحال الموتى في انتفاء الجدوى بالسماع، أو كحال الصم الذين لا يسمعون، ولا يفهمون ولا يهتدون، صار ذلك سبباً قوياً في عدم الاعتداد بهم، شبه الكفار بالموتى الذين لا حس لهم ولا عقل، وبالصم الذين لا يسمعون المواعظ ولا يجيبون الدعاء إلى الله، وقرئ تسمع بضم الفوقية وكسر الميم من أسمع؛ وقرئ بالتحتية مفتوحة وفتح الميم وفاعله الصم؛ ثم ذكر سبحانه جملة لتكميل التشبيه وتأكيده فقال:
(إذا ولوا مدبرين) أي أعرضوا عن الحق إعراضاً تاماً فإن الأصم لا يسمع الدعاء إذا كان مقبلاً فكيف إذا كان مدبراً؛ معرضاً عنه مولياً؛ قال قتادة الأصم: إذا ولى مدبراً ثم ناديته لم يسمع؛ كذلك الكافر لا يسمع ما يدعى إليه من الإيمان. وظاهر نفي سماع الموتى العموم، فلا يخص منه إلا(10/69)
ما ورد بدليل؛ كما ثبت في الصحيح " أنه - صلى الله عليه وسلم - خاطب القتلى في قليب بدر فقيل له: يا رسول الله إنما تكلم أجساداً لا أرواح لها " وكذلك ما ورد من أن الميت يسمع خفق نعال المشيعين له إذا انصرفوا، ثم ضرب العمى مثلاً لهم فقال:(10/70)
وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (81)
(وما أنت بهادي العمي عن ضلالتهم) أي ما أنت بمرشد من أعماه الله عن الحق إرشاداً يوصله إلى المطلوب منه، وهو الإيمان، وليس في وسعك ذلك، ومثله قوله: (إنك لا تهدي من أحببت) قرأ الجمهور بإضافة هادي إلى العمي، وقرئ بالتنوين، وقرئ تهدي فعلاً مضارعاً، وفي حرف عبد الله وما أن تهدي العمي.
(إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا) أي من يصدق بالقرآن في علم الله لا من يكفر (فهم مسلمون) تعليل للإيمان أي: فهم منقادون مخلصون بتوحيد الله، ثم هدد العباد بذكر طرف من أشراط الساعة وأهوالها فقال:(10/70)
وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ (82)
(وإذا وقع القول عليهم) اختلف في معنى هذا الوقوع فقال قتادة: وجب الغضب عليهم، وقال مجاهد: حق القول عليهم بأنهم لا يؤمنون، وقيل: حق العذاب عليهم، وقيل: وجب السخط، والمعاني متقاربة، وقيل المراد بالقول ما نطق به القرآن من مجيء الساعة: وما فيها من فنون الأهوال التي كانوا يستعجلونها، وقيل: وقع القول بموت العلماء وذهاب العلم، ورفع القرآن، وذلك إذا لم يأمروا بالمعروف، وينهوا عن المنكر، قاله ابن عمر وأخرجه ابن مردويه عنه مرفوعاً.
وعن أبي العالية أنه فسر (وقع القول) بما أوحي إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن، والحاصل أن المراد بـ (وقع) وجب وبـ (القول) مضمونه أو أطلق المصدر على المفعول، أي المقول وجواب الشرط قوله:
(أخرجنا لهم دابة من الأرض) اختلف في هذه الدابة على أقوال فقيل: إنها فصيل ناقة صالح، يخرج عند اقتراب الساعة ويكون من أشراطها، وقيل: هي دابة مزغبة ذات شعر وقوائم طوال، يقال لها(10/70)
الجساسة وبه قال ابن عمرو.
وفي التعبير عنها باسم الجنس وتأكيد إبهامه بالتنوين التفخيمي من الدلالة على غرابة شأنها وخروج أوصافها عن طور البيان ما لا يخفى، وقيل: هي دابة على خلقة بني آدم، رأسها في السحاب وقوائمها في الأرض، وقيل: رأسها رأس ثور، وعينها عين خنزير، وأذنها أذن فيل، وقرنها قرن أيل، وعنقها عنق نعامة، وصدرها صدر أسد، ولونها لون نمر، وخاصرتها خاصرة هر، وذنبها ذنب كبش. وقوائمها قوائم بعير، بين كل مفصل ومفصل إثنا عشر ذراعاً، ولعل ذلك هو الجساسة، وقيل: الثعبان، والمشرف على جدار الكعبة التي اقتلعها العقاب حين أرادت قريش بناء الكعبة، والمراد أنها هي التي تخرج في آخر الزمان، وقيل: هي دابة ما لها ذنب ولها لحية، وقيل: هي إنسان ناطق متكلم يناظر أهل البدع ويراجع الكفار، وفيه بعد.
وعن ابن عباس قال: الدابة ذات وبر وريش؛ مؤلفة فيها من كل لون، لها أربع قوائم، تخرج بعقب من الحاج. وقيل غير ذلك مما لا فائدة في التطويل بذكره، وقد رجح القول الأول القرطبي في تفسيره، وقال: هو أصح الأقوال، واختلف في تعيينها وصفاتها اختلافاً كثيراً قد ذكرناه في كتاب التذكرة انتهى، واختلف من أي موضع تخرج، فقيل: من جبل الصفا بمكة، يتصدع فتخرج منه، قاله ابن عمرو، وقيل: تخرج من جبل أبي قبيس، وقيل: لها ثلاث خرجات، خرجة في بعض البوادي حتى يتقاتل عليها الناس؛ وتكثر الدماء؛ ثم تكمن، وتخرج في القرى، ثم تخرج من أعظم المساجد وأكرمها وأشرفها، وقيل: تخرج من بين الركن والمقام، وقال ابن عباس تخرج من بعض أودية تهامة، وقيل: من مسجد الكوفة من حيث فار التنور، وقيل: من أرض الطائف؛ وقيل: من صخرة من شعب أجياد، قاله ابن عمرو، وقيل: من صدع في الكعبة، وقيل: من بحر سدوم قاله وهب بن منبه، واختلف في معنى قوله:
(تكلمهم) فقيل: تكلم الموجودين ببطلان الأديان سوى دين الإسلام(10/71)
وقيل: تكلمهم بما يسوءهم، وقيل: تكلمهم بالعربية بقوله تعالى الآتي (أن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون)، قاله ابن عباس، أي بخروجها لأن خروجها من الآيات، وقال ابن عباس أيضاً: تكلمهم تحللهم، وعنه أنه سئل هو من التكليم باللسان، أو من الكلم وهو الجرح؟ فقال: كل ذلك والله تفعل، تكلم المؤمن وتكلم الكافر، أي: تجرحه، قرأ الجمهور تكلمهم من التكليم؛ وتدل عليه قراءة أبي: تنبئهم. وقرئ بفتح الفوقية وسكون الكاف من الكلم وهو الجرح، قال عكرمة: أي تسمهم وسماً، وقيل: تجرحهم، وقيل: قراءة الجمهور مأخوذة من الكلم وهو الجرح، والتشديد للتكثير، قاله أبو حاتم.
وأخرج عبد بن حميد، وابن مردويه عن ابن عمر في الآية قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " ليس ذلك حديثاً ولا كلاماً، ولكنها سمة تسم من أمرها الله به، فيكون خروجها من الصفا ليلة منى، فيصيحون بين رأسها وذنبها، لا يدحض داحض، ولا يجرح جارح حتى إذا فرغت مما أمرها الله به فهلك من هلك ونجا من نجا؛ كان أول خطوة تضعها بأنطاكية ".
وأخرج أحمد: وابن مردوبه عن أبي أمامة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " تخرج الدابة فتسم على خراطيمهم، ثم يعمرون فيكم حتى يشتري الرجل الدابة، فيقال له: ممن اشتريتها فيقول: من الرجل المخطم ".
وعن حذيفة بن أسيد رفعه قال: " تخرج الدابة من أعظم المساجد حرمة ".
وأخرج أحمد والترمذي وحسنه، وابن ماجة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم، والبيهقي، وغيرهم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " تخرج دابة الأرض ومعها عصى موسى، وخاتم سليمان، فتجلو وجه المؤمن بالخاتم، وتحطم أنف الكافر بالعصى، حتى يجتمع الناس على الخوان يعرف المؤمن من الكافر ".
وعن حذيفة بن أسيد الغفاري قال: ذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الدابة فقال: " لها ثلاث خرجات من الدهر " الحديث، أخرجه البيهقي والحاكم وصححه، وابن(10/72)
المنذر، وغيرهم، وفي صفتها، ومكان خروجها، وما تصنعه، ومتى تخرج أحاديث كثيرة بعضها صحيح. وبعضها حسن، وبعضها ضعيف.
وأما كونها تخرج، وكونها من علامات الساعة، فالأحاديث الواردة في ذلك صحيحة، ومنها ما هو ثابت في الصحيح كحديث حذيفة مرفوعاً " لا تقوم الساعة حتى تروا عشر آيات " وذكر منها الدابة فإنه في صحيح مسلم، وفي السنن الأربع.
وكحديث " بادروا بالأعمال قبل طلوع الشمس من مغربها، والدجال، والدابة " فإنه في صحيح مسلم أيضاً من حديث أبي هريرة مرفوعاً.
وكحديث ابن عمر مرفوعاً أن " أول الآيات خروجاً طلوع الشمس من مغربها، وخروج الدابة على الناس ضحى " فإنه في صحيح مسلم أيضاً.
ثم قرأ الجمهور: (إن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون) بكسر إن على الاستئناف، وقرئ بفتحها، قال الأخفش: المعنى على الفتح بأن الناس، وبها قرأ ابن مسعود، وقال أبو عبيدة: أي تخبرهم أن الناس الخ.
وعلى هذه فالذي تكلم الناس به هو قوله: إن الناس الخ كما قدمنا الإشارة إلى ذلك، وأما على الكسر فالجملة مستأنفة كما قدمنا، ولا يكون من كلام الدابة وقد صرح بذلك جماعة من المفسرين، وجزم به الكسائي والفراء وقال الأخفش إن كسر (إن) هو على تقدير القول، أي تقول لهم إن الناس فيرجع معنى القراءة الأولى على هذا إلى معنى الثانية:
والمراد بالناس في الآية هم الناس على العموم، فيدخل في ذلك كل مكلف وقيل: المراد الكفار خاصة، وقيل: كفار مكة، والأول أولى كما صنع جمهور المفسرين، والمعنى: لا يؤمنون بالقرآن المشتمل على البعث والحساب والعقاب، وبخروجها ينقطع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ولا يبقى نائب ولا تائب ولا يؤمن كافر، كما أوحى الله إلى نوح (أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن) ثم ذكر سبحانه طرفاً مجملاً من أهوال يوم القيامة بعد بيان مباديها فقال:(10/73)
وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ (83) حَتَّى إِذَا جَاءُوا قَالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا أَمَّاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (84) وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لَا يَنْطِقُونَ (85) أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (86) وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ (87)(10/74)
وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ (83)
(ويوم نحشر من كل أمة فوجاً) العامل في الظرف فعل محذوف خوطب به النبي - صلى الله عليه وسلم - والحشر الجمع قيل: والمراد بهذا الحشر هو حشر العذاب الخاص بعد الحشر الكلي الشامل لجميع الخلق، و (من) لابتداء الغاية، والفوج الجماعة كالزمرة والقوم، وقيدهم الراغب فقال: الفوج الجماعة المارة المسرعة، وكان هذا هو الأصل، ثم أطلق، وإن لم يكن مرور ولا إسراع، والجمع أفواج وفوج (1).
(ممن يكذب بآياتنا) من بيانية (فهم يوزعون) أي يحبس أولهم على آخرهم لأجل تلاحقهم، وقيل: معناه يدفعون، وقد تقدم تحقيقه في هذه السورة مستوفى، ومعنى الآية واذكر يا محمد يوم نجمع من كل أمة من الأمم جماعة مكذبين بآياتنا فهم عند ذلك الحشر يرد أولهم على آخرهم، أو يدفعون أي اذكر لهم هذا وبينه تحذيراً لهم وترهيباً
_________
(1) بضم الفاء وسكون الواو. المطيعي.(10/74)
حَتَّى إِذَا جَاءُوا قَالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا أَمَّاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (84)
(حتى إذا جاءوا) إلى موقف الحساب.
(قال) الله لهم توبيخاً وتقريعاً: (أكذبتم بآياتي) التي أنزلتها على رسلي وأمرتهم بإبلاغها إليكم (و) الحال أنكم (لم تحيطوا بها علماً) بل كذبتم بها بادئ بدئ جاهلين لها غير ناظرين فيها، ولا مستدلين على صحتها، أو بطلانها، تمرداً وعناداً وجرأة على الله وعلى رسله، وفي هذا مزيد تقريع وتوبيخ لأن من كذب بشيء ولم يحط به علماً، فقد كذب في تكذيبه ونادى على(10/74)
نفسه بالجهل وعدم الإنصاف وسوء الفهم، وقصور الإدراك.
ومن هذا القبيل من تصدى لذم علم من علوم الشريعة، أو لذم علم هو مقدمة من مقدماتها ووسيلة يتوسل بها إليها، وتفيد زيادة بصيرة في معرفتها، وتعقل معانيها، كعلوم اللغة العربية بأسرها، وهي اثنا عشر علماً، وعلم أصول الفقه فإنه يتوصل به إلى استنباط الأحكام الشرعية عن أدلتها التفصيلية مع اشتماله على بيان قواعد اللغة الكلية.
وهكذا كل علم من العلوم التي لها مزيد نفع في فهم كتاب الله وسنة رسوله، فإنه قد نادى على نفسه بإنه جاهل، مجادل بالباطل، طاعن على العلوم الشرعية، مستحق لأن تنزل به قارعة من قوازع العقوبة التي تزجره عن جهله وضلاله، وطعنه على ما لا يعرفه، ولا يعلم به ولا يحيط بكنهه، حتى يصير عبرة لغيره، وموعظة يتعظ بها أمثاله من ضعفاء العقول وركاك الأديان ورعاع المتلبسين بالعلم زوراً وكذباً.
(أم ماذا)؟ أم، هي المنقطعة بمعنى: بل، والمعنى أي شيء (كنتم تعملون) حتى شغلكم ذلك عن النظر فيها والتفكر في معانيها، وهذا الاستفهام على طريق التبكيت لهم.(10/75)
وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لَا يَنْطِقُونَ (85)
(ووقع القول) أي وجب العذاب (عليهم) وقد تقدم تفسيره قريباً (بما ظلموا) أي بسبب الظلم الذي أعظم أنواعه الشرك بالله (فهم لا ينطقون) عند وقوع القول عليهم، أي: ليس لهم عذر ينطقون به أو لا يقدرون على القول لما يرونه من الهول العظيم، وقال أكثر المفسرين: يختم على أفواههم فلا ينطقون، ثم بعد أن خوفهم بأهوال القيامة ذكر سبحانه ما يصلح أن يكون دليلاً على التوحيد، وعلى الحشر، وعلى النبوة مبالغة في الإرشاد، وإبلاء للمعذرة فقال:(10/75)
أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (86)
(ألم يروا أنا جعلنا الليل ليسكنوا فيه)؟ أي ألم يعلموا أنا خلقنا الليل للسكون والاستقرار، والنوم فيه، وذلك بسبب ما فيه من الظلمة فإنهم لا يسعون فيه للمعاش.
(و) خلقنا (النهار مبصراً) ليبصروا فيه ما يسعون له من المعاش الذي(10/75)
لا بد لهم منه، ووصف النهار بالإبصار وهو وصف للناس، مبالغة في إضاءته، كأنه يبصر ما فيه، ففي الكلام إسناد عقلي، من الإسناد إلى الزمان قيل: في الكلام حذف، والتقدير وجعلنا الليل مظلماً ليسكنوا أو حذف مظلماً لدلالة مبصراً عليه، وقد تقدم تحقيقه في الإسراء، وفي يونس.
(إن في ذلك) المذكور (لآيات) أي لعلامات ودلالات (لقوم يؤمنون) بالله سبحانه وفي الآية دليل على صحة البعث بعد الموت لأن القادر على تقليب الضياء ظلمة والظلمة ضياء، قادر على الإعادة بعد الموت، كيف ومن تأمل في تعاقب الليل والنهار، واختلافهما، على وجوه مبنية على حكم تحار في فهمها العقول، ولا يحيط بها إلا الله، وشاهد في الآفاق تبدل ظلمة الليل المحاكية للموت بضياء النهار المضاهي للحياة، وعاين في نفسه تبدل النوم الذي هو أخو الموت بالتيقظ الذي هو مثل الحياة قضى بأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور، وجزم بأن الله قد جعل هذا أنموذجاً ودليلاً يستدل به على أن سائر الآيات حق نازل من عند الله، قاله أبو السعود، ثم ذكر سبحانه علامة أخرى للقيامة فقال:(10/76)
وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ (87)
(ويوم ينفخ في الصور) وهو معطوف على (ويوم نحشر) منصوب بناصبه المتقدم، قال الفراء: إن المعنى وذلكم يوم ينفخ في الصور، والأول أولى، والصور قرن ينفخ فيه إسرافيل، وقد تقدم في الأنعام استيفاء الكلام عليه، والنفخات في الصور ثلاث:
الأولى: نفخة الفزع.
والثانية: نفخة الصعق.
والثالثة: نفخة البعث. وقيل: إنها نفختان وإن نفخة الفزع إما أن تكون راجعة إلى نفخة الصعق أو إلى نفخة البعث، واختار هذا القشيري والقرطبي وغيرهما وقال الماوردي: هذه النفخة المذكورة هنا هي يوم النشور من القبور.
(ففزع) كل (من) كان (في السماوات ومن) كان (في الأرض) حياً(10/76)
ذلك الوقت لم يسبق له موت أو كان ميتاً لكنه حي في قبره كالأنبياء والشهداء أي خافوا الخوف المفضي بهم إلى الموت كما في آية أخرى (فصعق من في السماوات) الخ وانزعجوا لشدة ما سمعوا وقيل المراد بالفزع هنا الإسراع والإجابة إلى النداء من قولهم فزعت إليك في كذا إذا أسرعت إلى أجابته، والأول أولى بمعنى الآية، وإنما عبر بالماضي مع كونه معطوفاً على المضارع للدلالة على تحقيق الوقوع حسبما ذكره علماء البيان وقال الفراء: هو محمول على المعنى لأن المعنى إذا نفخ.
(إلا من شاء الله) أن لا يفزع عند تلك النفخة فهو لا يفزع واختلف في تعيين من وقع الاستثناء له، فقيل: هم الشهداء والأنبياء وقيل: الملائكة وقيل: جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت وقيل: الحور العين وخزنة النار وحملة العرش. وقيل: هم المؤمنون كافة بدليل قوله فيما بعد، من جاء بالحسنة فله خير منها وهم من فزع يومئذ آمنون. ويمكن أن يكون الاستثناء شاملاً لجميع المذكورين فلا مانع من ذلك، قال البيضاوي: ولعل المراد ما يعم ذلك لعدم قرينة الخصوص انتهى. فهؤلاء كلهم لا يفضي بهم الفزع إلى الغشي والإغماء بل هو أقل من ذلك.
(وكل أتوه) قرئ فعلاً ماضياً، وكذا قرأ ابن مسعود، وقرأ قتادة (كل أتاه) وقرئ (آتوه) على اسم الفاعل مضافاً إلى الضمير الراجع إلى الله سبحانه، قال الزجاج: من قرأ على الفعل الماضي فقد وحد على لفظ كل، ومن قرأ على اسم الفاعل فقد جمع على معناه وهو غلط ظاهر فإن كلتا القراءتين لا توحيد فيهما بل التوحيد في قراءة قتادة فقط.
(داخرين) أي صاغرين ذليلين قاله ابن عباس. وقرئ (دخرين) بغير الألف والمعنى صغار ذل وهيبة من الجبار فيشمل هذا الطائعين والعاصين وقال الكرخي: المراد به ذل العبودية والرق لا ذل الذنوب والمعاصي وذلك يعم الخلق كلهم كما في قوله تعالى (إن كل من في السماوات والأرض إلا آتى الرحمن عبداً)، وفي القاموس: دخر الشخص كمنع وفرح دخراً ودخوراً صغر وذل وادخرته بالألف للتعدية وقد مضى تفسير هذا في سورة النحل.(10/77)
وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ (88) مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ (89)(10/78)
وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ (88)
(وترى الجبال تحسبها) بفتح السين وكسرها (جامدة) الخطاب لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو لكل من يصلح للرؤية، والرؤية بصرية، وهذه هي العلامة الثالثة لقيام الساعة، والمعنى تظنها واقفة قائمة ساكنة مكانها قاله ابن عباس.
(وهي تمر مر السحاب) أي: وهي تسير سيراً حثيثاً كسير السحاب التي تسيرها الرياح، وذلك أن كل شيء عظيم، وكل جسم كبير، وكل جمع كثير يقصر عنه البصر لكثرته وعظمه، وبعد ما بين أطرافه، فهو في حساب الناظر واقف وهو سائر، كذلك سير الجبال يوم القيامة لا يرى لعظمها، كما أن سير السحاب لا يرى لعظمه.
وقال القتيبي: وذلك أن الجبال تجمع وتسير، وهي في رؤية العين كالقائمة وهي تسير. قال النسفي: وهكذا الأجرام العظام المتكاثرة العدد إذا تحركت أي: في سمت واحد، لا تكاد تبين حركتها، ونحوه قال البيضاوي.
قال القشيري: وهذا يوم القيامة، ومثله قوله تعالى: وسيرت الجبال فكانت سراباً. وقال أبو السعود: هذا مما يقع بعد النفخة الثانية عند حشر الخلق، يبدل الله الأرض غير الأرض، ويغير هيئتها، ويسير الجبال عن مقارها على ما ذكر من الهيئة الهائلة، ليشاهدها أهل المحشر، وهي وإن اندكت وتصدعت عند النفخة الأولى لكن تسيرها إنما يكون بعد النفخة الثانية، كما نطق به قوله: فقل ينسفها ربي نسفاً الخ وقوله: يوم تبدل الأرض.(10/78)
وقد قيل: إن المراد بالنفخة هي النفخة الأولى، والفزع هو الذي يستتبع الموت، فيختص أثرها بمن كان حياً عند وقوعها دون من مات قبل ذلك من الأمم، والمراد بالإتيان داخرين رجوعهم إلى أمره تعالى، وانقيادهم له، ولا ريب في أن ذلك مما ينبغي أن تنزه ساحة التنزيل عن أمثاله وأبعد من هذا ما قيل: إن المراد بهذه النفخة نفخة الفزع التي تكون قبل نفخة الصعق فإنه مما لا ارتباط له بالمقام قطعاً، والحق الذي لا محيد عنه ما قدمناه، ومما هو نص في الباب، ما سيأتي من قوله تعالى: وهم من فزع يومئذ آمنون.
(صنع الله الذي أتقن كل شيء) أي صنع الله ذلك صنعاً، وهو مصدر مؤكد لقوله: يوم ينفخ في الصور، وقيل: انظروا صنع الله الذي أحكم، يقال: رجل تقن بكسر التاء أي حاذق بالأشياء، والإتقان الإتيان بالشيء على أكمل حالاته، وهو مأخوذ من قولهم تقن أرضه إذا ساق إليها الماء الخاثر بالطين لتصلح للزراعة، وأرض تقنة والتقن فعل ذلك بها، والتقن أيضاً ما رمي به في الغدير من ذلك، أو الأرض، ذكره السمين قال ابن عباس: أتقن أي أحسن كل شيء صنعه وخلقه وأوثقه.
(إنه خبير بما تفعلون) تعليل لما قبله من كونه سبحانه صنع ما صنع وأتقن كل شيء، والخبير المطلع على الظواهر والضمائر، قرئ بالفوقية على الخطاب، وبالتحتية على الخبر، قال المحلى: أي ما يفعلون أعداؤه من المعصية وأولياؤه من الطاعة.(10/79)
مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ (89)
(من جاء بالحسنة) أي من جاء بجنس الحسنة يوم القيامة (فله) من الجزاء والثواب عند الله (خير) أي أفضل (منها) وأكثر وقيل: خير حاصل من جهتها، والأول أولى، وقيل: الحسنة هي الإخلاص، وقيل: أداء الفرائض، والتعميم أولى، ولا وجه للتخصيص، وإن قال به بعض السلف.(10/79)
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن مردويه عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: " من جاء بالحسنة فله خير منها قال: " هي لا إله إلا الله، ومن جاء بالسيئة فكبت وجوههم في النار، قال هي الشرك " وإذا صح هذا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فالمصير إليه في التفسير متعين، ويحمل على أن المراد قال لا إله إلا الله بحقها، وما يجب لها، فيدخل تحت ذلك كل طاعة، ويشهد له ما أخرجه الحاكم في الكنى عن صفوان بن عسأل قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إذا كان يوم القيامة جاء الإيمان والشرك يجثوان بين يدي الله سبحانه فيقول الله للإيمان انطلق أنت وأهلك إلى الجنة، ويقول للشرك انطلق أنت وأهلك إلى النار، ثم تلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (من جاء بالحسنة فله خير منها) يعني قول لا إله إلا الله،(10/80)
وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (90)
(ومن جاء بالسيئة) يعني الشرك فكبت وجوههم في النار ".
وأخرج أبو الشيخ، وابن مردويه، والديلمي عن كعب بن عجرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - " من جاء بالحسنة يعني شهادة أن لا إله إلا الله، فله خير منها، يعني بالخير الجنة، ومن جاء بالسيئة يعني الشرك فكبت وجوههم في النار، وقال هذه تنجي وهذه تردي "، وعن ابن مسعود وابن عباس مثله، وعنه قال: " خير منها أي من جهتها "، وقال أيضاً " خير أي ثواب " قيل: وهذه الجملة بيان لقوله: إنه بما تعملون خبير، وقيل بيان لقوله: وكل أتوه داخرين.
(وهم من فزع يومئذ آمنون) قرئ (من فزع) بالتنوين وفتح ميم يومئذ، وقرئ بفتحها من غير تنوين، وقرئ بإضافة فزع إلى يومئذ، قال أبو عبيدة: وهذا أعجب إلي لأنه أعم التأويلين، لأن معناه الأمن من فزع جميع ذلك اليوم، ومع التنوين يكون الأمن من فزع دون فزع. وقيل: إنه مصدر يتناول الكثير فلا يتم الترجيح بما ذكر، فتكون القراءتان بمعنى واحد وقيل: المراد بالفزع هاهنا هو الفزع الأكبر المذكور في قوله: لا يحزنهم الفزع الأكبر، وقد تقدم في سورة هود كلام في هذا مستوفى.(10/80)
وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (90) إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (91) وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ (92) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (93)
(ومن جاء بالسيئة) قال جماعة من الصحابة، ومن بعدهم حتى قيل إنه مجمع عليه بين أهل التأويل أن المراد بالسيئة هنا الشرك، ووجه التخصيص قوله (فكبت وجوههم في النار) فهذا الجزاء لا يكون إلا لمثل سيئة الشرك، والمعنى أنهم كبوا فيها على وجوههم، وألقوا فيها وطرحوا عليها، يقال: كببت الرجل إذا ألقيته لوجهه، فانكب، راكب، وذكرت الوجوه لأنها موضع الشرف من الحواس فغيرها أولى.
(هل تجزون إلا ما كنتم تعملون) بتقدير القول، أي يقال لهم ذلك وقت كبهم، أو مقولاً لهم ذلك، وهذا أوضح والقائل لهم خزنة جهنم، أي ما تجزون إلا جزاء عملكم في الدنيا من الشرك والمعاصي؟(10/81)
إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (91)
(إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة) لما فرغ سبحانه من بيان أحوال المبدأ والمعاد، أمر رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يقول لهم هذه المقالة تنبيهاً لهم على أنه قد تم أمر الدعوة بما لا يزيد عليه. ولم يبق له بعد ذلك شأن سوى الاشتغال بعبادة الله، والاستغراق في مراقبته، غير مبال بهم ضلوا أو رشدوا أصلحوا أو أفسدوا، ليحملهم ذلك على أن يهتموا بأمر أنفسهم، ويشتغدوا بالتدبر فيما شاهدوه من الآيات الباهرة.
والمعنى قل يا محمد: إنما أمرت أن أخصص الله بالعبادة وحده لا شريك له، والمراد بالبلدة مكة، قاله ابن عباس، وإنما خصها من بين سائر البلاد(10/81)
لكون بيت الله الحرام فيها، ولكونها أحب البلاد إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
(الذي) الموصول صفة للرب، وهكذا قرأ الجمهور، وقرأ ابن عباس وابن مسعود (التي) على أن الموصول صفة للبلدة، والسياق إنما هو للرب لا للبلدة، فلذلك كانت قراءة العامة واضحة، ومعنى (حرمها) جعلها حرماً آمناً لا يسفك فيها دم، ولا يظلم فيها أحد، ولا يعضد شوكها، ولا يصاد صيدها، ولا يختلى خلالها؛ وتخصيص مكة بهذه الإضافة تشريف لها؛ وتعظيم لشأنها فلا ينافي قوله (وله) أي للرب (كل شيء) من الأشياء خلقاً وملكاً وتصرفاً.
(وأمرت أن أكون من المسلمين) أي: المنقادين لأمر الله المستسلمين له بالطاعة وامتثال أمره، واجتناب نهيه، والمراد بقوله: (أن أكون) أثبت على ما أنا عليه.(10/82)
وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ (92)
(وأن أتلو القرآن) أي أداوم تلاوته وأواظب على ذلك لتنكشف لي حقائقه الرائقة، الخزونة في تضاعيفه شيئاًً فشيئاًً. قيل: ليس المراد من تلاوة القرآن هنا إلا تلاوة الدعوة إلى الإيمان، والأول أولى. قرأ الجمهور (أن أتلو) بإثبات الواو من التلاوة، وهي القراءة. أو من التلو وهو الاتباع، كقوله: واتبع ما أوحي إليك من ربك، وقرئ (أن أتل) بحذف الواو أمراً له - صلى الله عليه وسلم - كذا وجهه الفراء، قال النحاس: ولا تعرف هذه القراءة وهي مخالفة لجميع المصاحف، ولقد قام - صلى الله عليه وسلم - بكل ما أمر به أتم قيام على ما أمر به.
(فمن اهتدى) أي: على العموم، أو فمن اهتدى بما أتلوه عليه، فعمل بما فيه من الإيمان بالله والعمل بشرائعه (فإنما يهتدي لنفسه) لأن نفع ذلك راجع إليه لا إلي.
(ومن ضل) بالكفر، وأعرض عن الهداية (فقل) له: (إنما أنا من المنذرين) وقد فعلت الإنذار بإبلاغ ذلك إليكم وليس على غير ذلك. وقيل: الجواب محذوف، أي: فوبال ضلاله عليه، وأقيم (إنما أنا من المنذرين)(10/82)
مقامه لكونه كالعلة له، والأول أظهر، قيل: نسختها آية القتال.(10/83)
وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (93)
(وقل الحمد لله) على نعمه التي أنعم بها عليّ من النبوة والعلم وغير
ذلك، ووفقني لتحمل أعبائها؛ وتبليغ أحكامها إلى كافة الورى.
وقوله: (سيريكم آياته) هو من جملة ما أمر به النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يقوله، أي سيريكم الله آياته الباهرة التي نطق بها القرآن في أنفسكم وفي غيركم، قيل: هو يوم بدر وهو ما أراهم من القتل والسبب وضرب الملائكة وجوههم وأدبارهم وقيل: آياته في السماوات والأرض، وقيل: آياته في الآخرة فيستيقنون بها، وقيل: هو انشقاق القمر والدخان وما حل بهم من نقمات الله في الدنيا.
(فتعرفونها) أي تعرفون آياته ودلائل قدرته ووحدانيته. وهذه المعرفة لا تنفع الكفار لأنهم عرفوها حين لا يقبل منهم الإيمان؛ وذلك عند حضور الموت، ثم ختم السورة بقوله:
(وما ربك بغافل عما تعملون) قرئ بالفوقية على الخطاب، وبالتحتية وهو كلام من جهته سبحانه، غير داخل تحت الكلام الذي أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يقوله، وفيه ترهيب شديد، وتهديد عظيم.(10/83)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة القصص
وتسمى أيضاً سورة موسى وأسماء السور توقيفية، وكذا ترتيبها ترتيب الآيات الكريمات.
وهي ثمان وثمانون آية: وهي مكيّة كلها في قول الحسن عكرمة وعطاء.
قال المحلي: هي مكيّة إلاَّ (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ) نزلت بالجحفة وإلا (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ) إلى (لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ) انتهى.
عن ابن عباس نزلت الأولى بالجحفة، فليست مكيّة ولا مدنيّة وقال مقاتل فيها من المدني (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ) الخ.(10/85)
بسم الله الرحمن الرحيم
طسم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (3) إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4) وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ (6)(10/87)
طسم (1)
(طسم) الله أعلم بمراده بذلك، والكلام في فاتحة هذه السورة قد مر
في فاتحة الشعراء وغيرها، فلا نعيده.
وكذلك مر الكلام على قوله:(10/87)
تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2)
(تلك آيات الكتاب المبين) قال الزجاج: مبين الحق من الباطل، والحلال من الحرام، وهو من أبان بمعنى أظهر، ويقال: ابنته فأبان لازم ومتعد، أي مبين خيره وبركته.(10/87)
نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (3)
(نتلو عليك من نبأ موسى وفرعون بالحق لقوم يؤمنون) أي: نوحي إليك بواسطة جبريل من أمرهما متلبساً بالحق، وخص المؤمنين لأن التلاوة إنما ينتفع بها المؤمن، وقيل: نتلو عليك شيئاً من نبئهما. و (من) مزيدة على رأي الأخفش، والأولى أن تكون للبيان أو للتبعيض، ولا ملجئ إلى الحكم بزيادتها، والحق: الصدق.(10/87)
إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4)
(إن فرعون علا في الأرض) مستأنفة مسوقة لبيان ما أجمله من النبأ. قال المفسرون: معنى علا تكبر وتعظم وتجبر بسلطانه، والمراد بالأرض أرض مصر، وقيل: معنى (علا) ادعى الربوبية، وقيل: علا عن عبادة ربه (وجعل أهلها شيعاً) أي: فرقاً وأصنافاً في خدمته يشايعونه على ما يريد(10/87)
ويطيعونه، قال مجاهد: فرق بينهم، وقال قتادة: يستعبد طائفة منهم، ويدع طائفة ويقتل طائفة، ويستحيي طائفة، أو فرقاً متفرقة، قد أغرى بينهم العداوة والبغضاء لئلا تتفق كلمتهم.
(يستضعف طائفة منهم) مستأنفة مسوقة لبيان حال الأهل الذين جعلهم فرقاً وأصنافاً، ويجوز أن تكون حالاً من فاعل.
(جعل) أي: جعلهم شيعاً، حال كونه مستضعفاً طائفة منهم، ويجوز أن تكون صفة لطائفة. والطائفة هم بنو إسرائيل، فإنهم عجزوا وضعفوا عن دفعه عن أنفسهم، وذلك أن بني إسرائيل لما كثروا بمصر استطالوا على الناس، وعملوا المعاصي، ولم يأمروا بالمعروف، ولم ينهوا عن المنكر فسلط الله عليهم القبط فاستضعفوهم؛ إلى أن أنجاهم الله على يد موسى عليه السلام.
(يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم) بدل من الجملة الأولى، أو مستأنفة للبيان، أو حال، أو صفة كالتي قبلها، وإنما كان فرعون يذبح أبناءهم ويترك نساءهم ويستبقيهن لأن المنجمين في ذلك العصر أخبروه أنه يذهب ملكه على يد مولود من بني إسرائيل.
قال الزجاج: والعجب من حمق فرعون، فإن الكاهن الذي أخبره بذلك إن كان صادقاً عنده فما ينفع القتل؟ وإن كان كاذباً فلا معنى للقتل، وقد قيل: إنه ذبح سبعين ألفاً.
(إنه كان من المفسدين) الراسخين في الإفساد في الأرض بالمعاصي والتجبر، ولذلك اجترأ على مثل تلك الجريمة العظيمة من قتل المعصومين من أولاد الأنبياء عليهم السلام، وفيه بيان أن القتل من فعل أهل الفساد.(10/88)
وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5)
(ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض) جاء بصيغة المضارع لحكاية الحالة الماضية، واستحضار صورتها، أي: نريد أن نتفضل عليهم بإنجائهم من بأسه، بعد استضعافهم، وقال النسفي: وهو دليل لنا على مسألة الأصلح انتهى والمراد بهؤلاء بنو إسرائيل، والواو للعطف على جملة: إن(10/88)
فرعون علا. وهذا أولى.
(ونجعلهم أئمة) أي: قادة في الخير، ودعاة إليه، يقتدى بهم، وولاة على الناس، وملوكاً فيهم، بعد أن كانوا أتباعاً مسخرين مهانين، قال علي بن أبي طالب: يعني يوسف وولده، وقال قتادة: أي ولاة الأمر، وهم بنو إسرائيل.
(ونجعلهم الوارثين) أي الذين يرثون الأرض بعد فرعون وقومه، لا الوراثة المعهودة في شرعنا، قاله قتادة، أي: نجعلهم الوارثين لملك فرعون ومساكن القبط وأملاكهم، فيكون ملك فرعون فيهم، ويسكنون مساكن قومه، وينتفعون بأملاكه وأملاكهم.(10/89)
وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ (6)
(ونمكن لهم في الأرض) أي نجعلهم مقتدرين عليها، وعلى أهلها، مسلطين على ذلك، يتصرفون فيها كيف شاءوا، يقال: مكن له إذا جعل له مكاناً يقعد عليه، ويتمكن فيه، أو يرقد، ثم استعير للتسلط وإطلاق الأمر، و (الأرض) أرض مصر والشام.
(وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا) الفاعل هو الله سبحانه، وقرئ (يرى) بالتحتية والفاعل فرعون، والأولى ألصق بالسياق، لأن قبلها (نريد) و (نمكن) بالنون، وأجاز الفراء: ويرى فرعون، أي ويرى الله فرعون، والرؤية بصرية، والإضافة إليهما إما للتغليب، أو أنه كان لهامان جنود مخصوصة به، وإن كان وزيراً، أو لأن جند السلطان جند وزيره، والإبصار لا يتوقف على الحياة عند أهل الحق، ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم - في أهل القليب: ما أنتم بأسمع منهم أو المراد رؤية طلائعه وأسبابه، وذلك حين أدركهم الغرق.
(منهم) أي: من أولئك المستضعفين (ما كانوا يحذرون) والمعنى أن الله يريهم، أو يرون هم الذي كانوا يخافون منه، ويجتهدون في دفعه من ذهاب ملكهم، وهلاكهم على يد المولود من بني إسرائيل المستضعفين والحذر التوقي من الضرر.(10/89)
وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (7) فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ (8) وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (9)(10/90)
وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (7)
(وأوحينا إلى أم موسى) أي: ألهمناها الذي صنعت بموسى، قاله ابن عباس: وليس ذلك هو الوحي الذي يوحى إلى الرسل، وقيل: كان ذلك رؤيا في منامها، وقيل: كان ذلك بملك أرسله الله يعلمها بذلك فعلى هذا هو وحي إعلام لا إلهام، وقد أجمع العلماء على أنها لم تكن نبية وإنما كان إرسال الملك إليها عند من قال به نحو تكلم الملك للأقرع والأبرص والأعمى كما في الحديث الثابت في الصحيحين وغيرهما. وقد سلمت على عمران ابن حصين الملائكة، كما في الحديث الثابت في الصحيح، فلم يكن بذلك نبياً، وكان اسمها يوحانذ، وقيل: لوخا بنت هاند بن لاوي بن يعقوب، نقله القرطبي عن الثعلبي.
(أن أرضعيه) أن هي المفسرة، لأن في الوحي معنى القول، أو بأن أرضعيه قيل: أرضعته ثمانية أشهر، وقيل: أربعة، وقيل: ثلاثة، وكانت ترضعه وهو لا يبكي ولا يتحرك في حجرها، وكان الوحي برضاعه قبل ولادتها، وقيل: بعدها، وأمرها بإرضاعه مع أنها ترضعه طبعاً ليألف لبنها فلا يقبل ثدي غيرها، بعد وقوعه في يد فرعون.
(فإذا خفت عليه) من فرعون بأن يبلغ خبره إليه فيذبحه، قال ابن عباس: أن يسمع جيرانك صوته (فألقيه في اليم) وهو بحر النيل، وقد تقدم بيان الكيفية التي ألقته في اليم عليها في سورة طه (ولا تخافي) عليه الغرق والضيعة.(10/90)
(ولا تحزني) لفراقه والخوف غم يصيب الإنسان لأمر يتوقعه في المستقبل، والحزن غم يصيبه لأمر وقع ومضى، فلا يقال ما الفرق بينهما، حتى عطف أحدهما على الآخر في الآية.
(إنا رادوه إليك) عن قريب على وجه تكون به نجاته، وتأمنين عليه، والجملة تعليل للنهي عن الخوف والحزن.
(وجاعلوه من المرسلين) الذين نرسلهم إلى العباد، وقد اشتملت هذه الآية على أمرين: أرضعيه، وألقيه، ونهيين: لا تخافي، ولا تحزني، وخبرين: إنا رادوه، وجاعلوه، وبشارتين في ضمن الخبرين، وهما الرد، والجعل المذكوران.(10/91)
فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ (8)
(فالتقطه آل فرعون) الفاء هي الفصيحة، والالتقاط إصابة الشيء من غير طلب، والمراد بآل فرعون هم الذين أخذوا التابوت الذي فيه موسى من البحر، والتقدير فألقته في اليم بعد ما جعلته في التابوت، فالتقطه من وجده من آل فرعون، أي أعوانه، قال الزجاج: كان فرعون من أهل فارس من اصطخر.
(ليكون لهم عدواً وحزناً) اللام لام العاقبة، ووجه ذلك أنهم إنما أخذوه ليكون لهم ولداً وقرة عين؛ لا ليكون عدواً، فكان عاقبة ذلك أنه كان لهم عدواً يقتل رجالهم، وحزناً يستعبد نساءهم، قاله المحلي وقال صاحب الكشاف: هي لام كي التي معناها التعليل، ولكن هذا المعنى وارد على طريق المجاز، لأنه لما كانت هذه العداوة نتيجة لفعلهم، وثمرة له، شبهت بالداعي الذي يفعل الفاعل الفعل لأجله، قرئ حزناً بفتح الحاء والزاي، وحزناً بضم الحاء وسكون الزاي، وهما لغتان كالعدم والعدم، والرشد والرشد والسقم والسقم.
(إن فرعون وهامان وجنودهما) تعليل لما قبله، أو اعتراض لقصد التأكيد (كانوا خاطئين) أي: عاصين آثمين في كل أفعالهم، وأقوالهم(10/91)
فعوقبوا على يديه مع أنه تربى على أيديهم، فهذا أبلغ في إذلالهم، وهو مأخوذ من (1) الخطأ المقابل للصواب لأنهم لم يشعروا أنه الذي يذهب بملكهم، أو من خطا يخطو أي تجاوز الصواب.
_________
(1) لو كان من الخطأ المقابل للصواب لقال " مخطئين " أما الخاطئ فهو من باب خطئ يخطأ خطيئة وليس من باب أخطأ يخطئ خطأ وفي الأول يقول الله تعالى لا يأكله إلا الخاطئون. وفي الثاني يقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه. المطيعي.(10/92)
وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (9)
(وقالت امرأة فرعون) وقد هم مع أعوانه لقتله. وهي آسية بنت مزاحم، وكانت من خيار النساء، وبنات الأنبياء، وقيل: كانت من بني إسرائيل، وقيل: كانت عمة موسى، حكاه السهيلي.
(قرة عين لي ولك) وكان قولها لهذا القول عند رؤيتها له، لما وصل إليها وأخرجته من التابوت، وخاطبت بقولها: (لا تقتلوه) فرعون ومن عنده من قومه، أو فرعون وجده على طريقة التعظيم له. وقرأ ابن مسعود (قالت امرأة فرعون لا تقتلوه قرة عين لي ولك) قيل: إنها قالت: هذا الولد أكبر من سنه، وأنت تذبح ولدان هذه السنة فدعه يكون عندي.
وقد حكى الفراء عن السدي عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس: إن قوله لا تقتلوه من كلام فرعون، واعترضه بكلام يرجع إلى اللفظ، ويكفي في رده ضعف إسناده، وقيل: إنها قالت لا تقتلوه، فإن الله أتى به من أرض بعيدة وليس من بني إسرائيل، ثم عللت ما قالته بالترجي منها لحصول النفع منه لهم والتبني له، فقالت:
(عسى أن ينفعنا) فنُصيب منه خيراً لأن فيه مخايل اليمن، ودلائل النفع لأهله (أو نتخذه ولداً) وكانت لا تلد فاستوهبته من فرعون، فوهبه لها (وهم لا يشعرون) أنهم على خطأ في التقاطه، وأن هلاكهم على يده فيكون حالاً من آل فرعون، وهي من كلام الله سبحانه، وقيل: هي من كلام المرأة أي وبنو إسرائيل لا يدرون أنا التقطناه وهم لا يشعرون قاله الكلبي، وهو بعيد جداً وما أحسن نظم هذا الكلام عند أصحاب المعاني والبيان.(10/92)
وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (10) وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (11) وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ (12)(10/93)
وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (10)
(وأصبح) أي صار (فؤاد أم موسى فارغاً) من كل شيء إلا من أمر موسى؛ كأنها لم تهتم بشيء سواه، قاله المفسرون. وقال أبو عبيدة: خالياً من ذكر كل من في الدنيا إلا من ذكر موسى، وقال الحسن، وابن إسحاق وابن زيد: فارغاً مما أوحى الله إليها من قوله: ولا تخافي ولا تحزني، وذلك لما سول الشيطان لها من غرقه وهلاكه، وقال الأخفش: فارغاً من الخوف والغم لعلمها أنه لم يغرق بسبب ما تقدم من الوحي إليها، وروي مثله عن أبي عبيدة أيضاً، وقال الكسائي: ناسياً ذاهلاً، وقيل صفراً من العقل، وقال العلاء ابن زياد: نافراً.
وقال سعيد ابن جبير: والهاً، كادت تقول واابناه من شدة الجزع.
وقال مقاتل: كادت تصيح شفقة عليه من الغرق.
وقيل: المعنى أنها لما سمعت بوقوعه في يد فرعون طار عقلها من فرط الجزع والدهش.
قال النحاس: وأصح هذه الأقوال الأول والذين قالوه أعلم بكتاب الله فإذا كان فارغاً من كل شيء إلا من ذكر موسى، فهو فارغ من الوحي. وقول من قال فارغاً من الغم غلط قبيح. لأن بعده إن كادت لتبدي به، لولا أن ربطنا على قلبها، وقرئ فزعاً مكان فارغاً، من الفزع، أي خائفاً وجلاً وقرأ ابن عباس: قرعاً من قرع رأسه إذا انحسر شعره.(10/93)
(إن كادت لتبدي به) من بدا يبدو إذا ظهر، وأبدى يبدي أي أظهر والمعنى لتظهر أمر موسى، وأنه ابنها من فرط ما دهمها من الدهش، والخوف والحزن وقيل: الضمير في (به) عائد إلى الوحي الذي أوحي إليها، والأول أولى وقال الفراء: لتبدي باسمه لضيق صدرها، وقال ابن عباس: تقول يا ابناه وقيل الباء زائدة للتأكيد، والمعنى لتبديه، كما تقول أخذت الحيل وبالحبل، وقيل المعنى لتبدي القول به.
(لولا أن ربطنا على قلبها) بالعصمة والصبر والتثبت، قال الزجاج: معنى الربط على القلب إلهام الصبر وتقويته، وجواب لولا محذوف أي لأبدت.
(لتكون من المؤمنين) أي ربطنا على قلبها لتكون من المصدقين بوعد الله وهو قوله إنا رادوه إليك قال يوسف بن الحسين: أمرت أم موسى بشيئين، ونهيت عن شيئين وبشرت بشيئين فلم ينفعها الكل حتى تولى الله حياطتها فربط على قلبها.(10/94)
وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (11)
(وقالت) أم موسى (لأخته) وهي مريم، وقال الضحاك إن اسمها كاتمة وقال السهيلي كلثوم، ذكره الماوردي (قصيه) أي تتبعي أثره واعرفي خبره وانظري أين وقع؟ وإلى من صار؟ يقال قصصت الشيء إذا اتبعت أثره متعرفاً لحاله.
(فبصرت به) أي أبصرته. قال المبرد: أبصرته وبصرت به بمعنى، قرئ (بصرت) بفتح الباء وضم الصاد وقرئ بفتحها وبكسرها (عن جنب) أصله عن مكان جنب ومنه الأجنبي وقيل: المراد بقوله عن جنب عن جانب قاله ابن عباس، والمعنى أنها أبصرت إليه متجانفة مخاتلة، وقرئ عن جانب أي بصرت به مستخفية، كائنة عن جنب، أو بعيداً منها وقرئ بضمتين وبضم الجيم وسكون النون، وقال أبو عمرو بن العلاء: إن معنى عن جنب عن شوق(10/94)
قال: وهي لغة جذام، يقولون: جنبت إليك أي اشتقت إليك.
(وهم لا يشعرون) أنها أخته؛ وأنها تقصه، وتتبع أثره، أخرج الطبراني، وابن عساكر عن أبي أمامة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لخديجة: " أما شعرت أن الله زوجني مريم بنت عمران؛ وكلثوم أخت موسى، وامرأة فرعون؟ " قالت: هنيئاً لك يا رسول الله، وأخرجه ابن عساكر عن ابن رداد مرفوعاً بأطول من هذا وفي آخره أنها قالت: بالرفاء والبنين.(10/95)
وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ (12)
(وحرمنا عليه المراضع) جمع مرضع، وقيل: جمع مرضع، بفتح الضاد: هو الرضاع، أو موضعه وهو الثدي، أي: منعناه أن يرضع من المرضعات جعله مجازاً إما استعارة أو مرسلاً، لأن من حرم عليه شيء فقد منعه لأن الصبي ليس من أهل التكليف.
(من قبل) أي: من قبل أن نرده إلى أمه أو من قبل أن تأتيه أمه، أو من قبل قصها لأثره، قال ابن عباس: لا يؤتى بمرضع فيقبلها، وقد كانت امرأة فرعون طلبت لموسى المرضعات ليرضعنه فلم يرضع من واحدة منهن.
(فقالت) أخته لما رأت امتناعه من الرضاع وحنوهم عليه (هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم)؟ أي يضمنون لكم القيام به وإرضاعه، وهي امرأة قتل ولدها، وأحب شيء إليها أن تجد ولداً ترضعه.
(وهم له ناصحون) أي مشفقون عليه لا يقصرون في إرضاعه وتربيته، والنصح: إخلاص العمل من شائبة الفساد، وفي الكلام حذف أي: قالوا لها: من هم؟ فقالت: أمي فقيل: وهل لأمك ابن؟ قالت: نعم ابن أخي هارون، وكان ولد في السنة التي لا يقتل فيها فدلتهم على أم موسى فدفعوه إليها فقبل ثديها ورضع منه، قيل: كانوا يعطونها كل يوم ديناراً، وإنما حل لها ما تأخذه لأنه مال حربى لا أنه أجرة على إرضاع ولدها.(10/95)
فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (13) وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (14) وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (15)(10/96)
فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (13)
(فرددناه إلى أمه كي تقر عينها) بولدها (ولا تحزن) حينئذ على فراقه (ولتعلم أن وعد الله) أي: جميع وعده ومن جملة ما وعدها بقوله إنا رادوه إليك (حق) لا خلف فيه واقع لا محالة.
(ولكن أكثرهم) أي: أكثر آل فرعون (لا يعلمون) بذلك بل كانوا في غفلة عن القدر، وسر القضاء، أو أكثر الناس لا يعلمون بذلك أو لا يعلمون أن الله وعدها بأن يرده إليها وهذه أخته وهذه أمه.(10/96)
وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (14)
(ولما بلغ أشده) أي: نهاية القوة، وتمام العقل، وهو جمع شدة كنعمة وأنعم عند سيبويه، وقد قال ربيعة ومالك: هو الحلم لقوله تعالى: (حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشداً) الآية وأقصاه أربع وثلاثون سنة كما قال مجاهد وسفيان الثوري وغيرهما. وقيل الأشد ما بين الثمانية عشر إلى الثلاثين وقال ابن عباس: ثلاثاً وثلاثين سنة، وقد تقذم الكلام في بلوغ الأشد في الأنعام.
(واستوى) أي اعتدل وتم استحكامه، والاستواء من الثلاثين إلى الأربعين، فإذا زاد على الأربعين أخذ في النقصان، قاله ابن عباس وقيل: الاستواء هو بلوغ الأربعين، ويروى أنه لم يبعث نبي إلا على رأس أربعين(10/96)
سنة، وقيل: الاستواء إشارة إلى كمال الخلقة، وقيل الأشد والاستواء بمعنى واحد، وهو ضعيف، لأن العطف يشعر بالمغايرة.
(أتيناه حكماً وعلماً) الحكم الحكمة على العموم، وقيل: النبوة وقيل: الفقه في الدين؛ والعلم الفهم قاله السدي. وقال مجاهد: الفقه، وقال ابن إسحاق: العلم بدينه ودين آبائه وقيل: كان هذا قبل النبوة، وقد تقدم بيان معنى ذلك في البقرة.
(وكذلك) أي مثل ذلك الجزاء. الذي جزينا أم موسى لما استسلمت
لأمر الله؛ وألقت ولدها في البحر، وصدقت بوعد الله (نجزي المحسنين)
على إحسانهم، والمراد العموم.(10/97)
وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (15)
(ودخل المدينة) أي دخل موسى مدينة مصر الكبرى، وقيل: مدينة غيرها من مدائن مصر، وهي منف من أعمال مصر وقيل: أم خنان أو حابين على رأس فرسخين من مصر، وقيل مدينة عين شمس.
(على حين غفلة من أهلها) أي مستخفياً، قيل: لما عرف موسى ما هو عليه من الحق في دينه عاب ما عليه قوم فرعون وفشا ذلك منه، فأخافوه فخافهم، فكان لا يدخل المدينة إلا مستخفياً، قيل: كان دخوله بين العشاء والعتمة، قاله ابن عباس، وقيل: وقت القائلة أي نصف النهار، قاله ابن عباس أيضاً. وقيل: يوم عيد لهم قد اشتغلوا بلهوهم ولعبهم قال الضحاك: طلب أن يدخل المدينة وقت غفلة أهلها فدخل على حين علم منهم فكان منه ما حكى الله سبحانه بقوله:
(فوجد فيها رجلين يقتتلان) أي يختصمان ويتنازعان (هذا من شيعته) أي ممن شايعه على دينه، وهم بنو إسرائيل، أي إسرائيلي، وقيل هو السامري.
(وهذا من عدوه) أي من المعادين له على دينه، وهم قوم فرعون أي قبطي وهو طباخ فرعون، واسمه فاتون أو فليثون، وكان كافراً اتفاقاً. وأما(10/97)
الإسرائيلي فقيل: كان مؤمناً وقيل: كان كافراً.
(فاستغاثه الذي من شيعته) أي طلب منه الإسرائيلي أن ينصره ويعينه على خصمه، والاستغاثة طلب الغوث (على الذي من عدوه) أي القبطي فأغاثه لأن نصر المظلوم واجب في جميع الملل، قيل: أراد القبطي أن يسخر الإسرائيلي ليحمل حطباً لمطبخ فرعون فأبى عليه، واستغاث موسى.
(فوكزه موسى) الوكز الضرب والدفع بجميع الكف، وهكذا اللكز واللهز، وقيل اللكز على اللحى والوكز على القلب. وقيل اللكز بأطراف الأصابع، والوكز بجميع الكف. وقيل بالعكس والنكز كاللكز، وقيل ضربه بعصاه، وقرأ ابن مسعود فلكزه، وحكى الثعلبي أن في مصحف عثمان فنكزه بالنون، قال الأصمعي: نكزه بالنون ضربه ودفعه. قال الجوهري: اللكز الضرب على الصدر، وقال أبو زيد: في جميع الجسد يعني أنه يقال له لكز واللهز: الضرب بجميع اليدين في الصدر ومثله عن أبي عبيدة.
(فقضى عليه) الضمير المرفوع لله، أو للوكز أو لموسى، وهو الظاهر أي قتله وكل شيء أتيت عليه وفرغت منه فقد قضيت عليه، قيل لم يقصد موسى قتل القبطي، وإنما قصد دفعه، فأتى ذلك على نفسه خطأ، فندم ودفنه في الرمل، والوكزة لا تقتل غالباً، وإنما وافقت، أجله، ولهذا:
(قال هذا من عمل الشيطان) وإنما قال بهذا القول مع أن المقتول كافر حقيق بالقتل لأنه لم يكن إذ ذاك مأموراً بقتل الكفار، وقيل: إن تلك الحالة حالة كف عن القتال لكونه مأموناً عندهم. فلم يكن له أن يغتالهم فكبر ذلك على موسى، وقيل إن الإشارة بقوله هذا إلى عمل المقتول لكونه كافراً مخالفاً لما يريده الله، وقيل: إنه إشارة إلى المقتول نفسه، يعني أنه من جند الشيطان وحزبه، ثم وصف الشيطان بقوله:
(إنه عدو مضل مبين) أي: عدو للإنسان يسعى في إضلاله ظاهر العداوة والإضلال، ثم طلب من الله سبحانه أن يغفر له ما وقع منه.(10/98)
قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (16) قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ (17) فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ (18) فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (19) وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (20)(10/99)
قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (16)
(قال رب إني ظلمت نفسي) بقتل القبطي من غير أمر (فاغفر لي فغفر) الله (له) ذلك؛ وعلم أنه غفر له بإلهام أو بغيره، ولا يلزم من هذا نبوته في هذا الوقت (إنه هو الغفور) بإقالة الزلل (الرحيم) بإزالة الخلل المتصف بهما في الأبد والأزل.
ووجه استغفاره أنه لم يكن لنبي أن يقتل حتى يؤمر، وقيل: إنه طلب المغفرة من تركه للأولى كما هو سنة المرسلين، أو أراد أني ظلمت نفسي بقتل هذا الكافر، لأن فرعون لو يعرف ذلك لقتلني به؛ وقيل: معنى فاغفر لي استر ذلك علي لا يطلع عليه فرعون، وهذا خلاف الظاهر، فإن موسى عليه السلام ما زال نادماً على ذلك خائفاً من العقوبة بسببه حتى إنه يوم القيامة عند طلب الناس الشفاعة منه يقول: إني قتلت نفساً لم أؤمر بقتلها، كما ثبت ذلك في حديث الشفاعة الصحيح.
وقد قيل: إن هذا كان قبل النبوة، وقيل كان قبل بلوغه سن التكليف، وأنه كان إذ ذاك في اثنتي عشرة سنة: وكل هذه التأويلات البعيدة محافظة على ما تقرر من عصمة الأنبياء ولا شك أنهم معصومون عن الكبائر(10/99)
والقتل الواقع منه لم يكن عن عمد فليس بكبيرة، لأن الوكزة في الغالب لا تقتل. وقيل: بل كان من قبيل دفع الصائل. وهو لا إثم فيه وأشار له القرطبي بقوله: وإنما أغاثه لأن نصر المظلوم دين في الملل كلها وفرض في جميع الشرائع وقيل: هو على سبيل الاتضاع لله تعالى، والاعتراف بالتقصير عن القيام بحقوقه. وإن لم يكن هناك ذنب فهو من باب حسنات الأبرار سيئات المقربين.
ثم لما أجاب الله سؤاله وغفر له ما طلب منه مغفرته.(10/100)
قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ (17)
(قال رب بما أنعمت عليَّ) الباء للقسم وما موصولة أو مصدرية أي: أقسم بإنعامك عليَّ بالمغفرة لأتوبن قاله الزمخشري والمهدوي والماوردي. وقيل: المراد بما أنعم به عليه هو ما آتاه من الحكم والمعرفة والعلم والتوحيد، قاله القرطبي. وقال الثعلبي: أي بالمغفرة فلم تعاقبني.
وجملة (فلن أكون ظهيراً للمجرمين) كالتفسير للجواب، وكأنه أقسم بما أنعم الله عليه أن لا يظاهر مجرماً، ويجوز أن تكون الباء هي باء السببية؛ متعلقة بمحذوف أي: اعصمني بسبب ما أنعمت به عليَّ. ويكون قوله: فلن أكون ظهيراً مترتباً عليه، ويكون في ذلك استعطاف لله تعالى، وتوصل إلى إنعامه بإنعامه وأراد بمظاهرة المجرمين إما صحبة فرعون والانتظام في جملته في ظاهر الأمر أو مظاهرته على ما فيه إثم أو تكثير سواده.
قال الكسائي والفراء: ليس قوله هذا خبراً، بل هو دعاء، أي: فلا تجعلني يا رب ظهيراً لهم، وبها قرأ عبد الله. وقال الفراء: المعنى اللهم فلن أكون الخ، وقال النحاس: إن جعله من باب الخبر أوفى، وأشبه بنسق الكلام وفيه دليل على أن الإسرائيلي الذي أعانه موسى كان كافراً، وقيل: أراد إني وإن أسأت في هذا القتل الذي لم أؤمر به فلا أترك نصرة المسلمين على المجرمين، فعلى هذا كان الإسرائيلي مؤمناً؛ ونصرة المؤمنين واجبة في جميع الأديان وقيل: لم يستثن فابتلي في اليوم الثاني، أي لم يقل فلم أكن إن شاء الله ظهيراً(10/100)
للمجرمين، كما قال الله تعالى.(10/101)
فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ (18)
(فأصبح في المدينة) أي دخل في وقت الصباح في المدينة التي قتل فيها القبطي (خائفاً يترقب) المكروه أو متى يؤخذ به، أو يترقب الفرج، أو الخبر هل وصل إلى فرعون أم لا قال النسفي: وفيه دليل على أنه لا بأس بالخوف من دون الله، بخلاف ما يقوله بعض الناس أنه لا يسوغ الخوف من دون الله سبحانه، زاد القرطبي وأن الخوف لا ينافي المعرفة بالله ولا التوكل عليه.
(فإذا الذي استنصره) إذا هي الفجائية أي فإذا صاحبه الإسرائيلي الذي استغاثه (بالأمس) يقاتل قبطياً آخر أراد أن يسخره ويظلمه، كما أراد القبطي الذي قد قتله موسى بالأمس (يستصرخه) أي يستغيث به، والاستصراخ الاستغاثة، وهو من الصراخ، وذلك أن المستغيث يصوت ويصرخ في طلب الغوث.
(قال له) أي للإسرائيلي (موسى) وإليه ذهب الخازن والمحلي، أو للقبطي؛ وإليه ذهب القرطبي (إنك لغوي مبين) أي بين الغواية، وذلك أنك تقاتل من لا تقدر على مقاتلته ولا تطيقه، وقيل إنما قال له هذه المقالة لأنه تسبب بالأمس لقتل رجل، ويريد اليوم أن يتسبب لقتل آخر.(10/101)
فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (19)
(فلما أن أراد) موسى (أن يبطش بالذي) أي القبطي الذي (هو عدو لهما) أي لموسى وللإسرائيلي حيث لم يكن على دينهما.
(قال) الإسرائيلي (يا موسى أتريد أن تقتلني كما قتلت نفساً بالأمس)؟ قال ذلك، لما سمع موسى يقول له إنك لغوي مبين، ورآه يريد أن يبطش بالقبطي، ظن أنه يريد أن يبطش به، فلما سمع القبطي ذلك أفشاه، ولم يكن قد علم أحد من أصحاب فرعون أن موسى هو الذي قتل القبطي بالأمس حتى أفشى عليه الإسرائيلي هكذا قال جمهور المفسرين وقيل: إن القائل هو القبطي، وكان قد بلغه الخبر من جهة الإسرائيلي، وهذا هو الظاهر؛ وقد سبق ذكر(10/101)
القبطي قبل هذا بلا فصل، لأنه هو المراد بقوله عدو لهما، ولا موجب لمخالفة الظاهر حتى يلزم منه أن المؤمن بموسى المستغيث به المرة الأولى، والمرة الأخرى هو الذي أفشى عليه.
وأيضاً أن قوله (إن تريد إلا أن تكون جباراً في الأرض) لا يليق صدور مثله إلا من كافر، و (إن) هي النافية أي ما تريد، قال الزجاج: الجبار في اللغة الذي يتعاظم، ولا يتواضع لأمر الله، والقاتل بغير حق جبار. وقيل: الجبار الذي يفعل ما يريد، من الضرب والقتل ولا ينظر في العواقب ولا يدفع بالتي هي أحسن. وقال عكرمة: لا يكون الرجل جباراً حتى يقتل نفسين. وهو بعيد، ولا دلالة في الآية على ذلك، والراجح هو الأول الموافق باللغة.
(وما تريد أن تكون من المصلحين) بين الناس، فتدفع التخاصم بالتي هي أحسن.(10/102)
وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (20)
(وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى) قيل: المراد بهذا الرجل حزقيل وهو مؤمن آل فرعون وكان ابن عم موسى، وقيل: اسمه شمعون. وقيل طالوت وقيل: سمعان، والمراد بأقصى المدينة آخرها وأبعدها، والمعنى يسرع في مشيه وأخذ طريقاً قريباً حتى سبق إلى موسى وأخبره وأنذره بما سمع.
(قال يا موسى إن الملأ) أي أشراف قوم فرعون (يأتمرون بك ليقتلوك) أي يتشاورون في قتلك ويتآمرون بسببك، وإنما سمي التشاور ائتماراً لأن كُلاًّ من المتشاورين يأمر الآخر ويأتمر به، قال الزجاج: يأمر بعضهم بعضاً بقتلك وهذا أقرب باللفظ والمعنى قاله الحفناوي وقال أبو عبيدة: يتشاورون فيك، قال الأزهري: ائتمر القوم وتآمروا أي أمر بعضهم بعضاً ونظيره قوله تعالى: وائتمروا بينكم بمعروف.
(فاخرج) من المدينة (إني لك من الناصحين) في الأمر بالخروج واللام للبيان لأن معمول المجرور لا يتقدم عليه.(10/102)
فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (21) وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ (22) وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23) فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (24) فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (25)(10/103)
فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (21)
(فخرج) موسى (منها) أي من المدينة (خائفاً يترقب) أي حال كونه خائفاً من الظالمين مترقباً لحوقهم به، وإداركهم له أو راجياً غوث الله إياه، قولان للمفسرين، وعن ابن عباس قال: خرج موسى من مصر إلى مدين وبينه وبينها ثمان ليال، ولم يكن له طعام إلا ورق الشجر، وخرج حافياً فما وصل إليها حتى وقع خف قدمه. وعنه قال: خرج موسى خائفاً جائعا ليس معه زاد، حتى انتهى إلى ماء مدين وهو أول ابتلاء من الله تعالى لموسى، ثم دعا ربه بأن ينجيه ممن خافه.
و (قال رب نجني من القوم الظالمين) قوم فرعون، أي خلصني منهم وادفعهم عني، وحل بيني وبينهم، واحفظني من لحوقهم.(10/103)
وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ (22)
(ولما توجه) أي قصد بوجهه (تلقاء مدين) أي نحوها، وجهتها قاصداً لها ماضياً إليها. قال الزجاج: أي سلك في الطريق التي تلقاء مدين فيها انتهى والتوجه: الإقبال على الشيء ومدين قرية شعيب، يقال: داره تلقاء دار فلان، وأصله من اللقاء ولم تكن هذه القرية داخلة تحت سلطان فرعون،(10/103)
ولهذا خرج إليها ولكن لم يكن يعرف طريقها.
(قال عسى ربي أن يهديني سواء السبيل) أي: يرشدني نحو الطريق المستوية إلى مدين وهو من إضافة الصفة للموصوف وكان لها ثلاث طرق، فأخذ موسى الوسطى، وجاء الطلاب في أثره فساروا في الآخريين، ذكره أبو السعود.(10/104)
وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23)
(ولما ورد ماء مدين) أي: وصل إليه وهو الماء الذي يستقون منه، والمراد بالماء هنا بئر فيها، صرح به الخازن والمحلي، فهو من باب ذكر الحال وإرادة المحل، ولفظ الورود قد يطلق على الدخول في المورد، وقد يطلق على البلوغ إليه وإن لم يدخل فيه وهو المراد هنا؛ وقد تقدم تحقيق معنى الورود في قوله: وإن منكم إلا واردها، وقيل: مدين اسم للقبيلة لا للقرية، وهي غير منصرفة على كلا التقديرين.
(وجد عليه أمة) أي: وجد على الماء جماعة كثيرة لأن التنكير للتكثير (من الناس) أي من أناس مختلفين (يسقون) مواشيهم (ووجد من دونهم) أي: من دون الناس الذين يسقون ما بينهم وبين الجهة التي جاء منها وقيل: معناه في موضع أسفل منهم قاله أبو السعود، وفي الخازن: في موضع بعيد منهم.
(امرأتين تذودان) أي تحبسان أغنامهما من الماء، حتى يفرغ الناس، ويخلو بينهما وبين الماء، وبه قال ابن عباس، وورد الذود بمعنى الطرد، أي تطردان، وقيل: تكفان الغنم عن أن تختلط بأغنام الناس، وقيل: تمنعان أغنامهما عن أن تند، وتذهب، والأول أولى لقوله:
(قال) موسى للمرأتين (ما خطبكما)؟ أي: ما شأنكما لا تسقيان غنمكما مع الناس؟ والخطب الشأن، قيل: وإنما يقال ما خطبك لمصاب أو لمضطهد أو لمن يأتي بمنكر.
(قالتا) عادتنا التأني (لا نسقي حتى يصدر الرعاء) عن الماء،(10/104)
وينصرفوا منه حذراً من مخالطتهم، أو عجزاً عن السقي معهم، قرئ نسقي بفتح النون، وبضمها من أسقى، وقرئ يصدر من أصدر. ومن صدر يصدر لازماً: أي: يرجعون مواشيهم، والرعاء جمع راع على غير قياس؛ لأن فاعلا الوصف المعتل اللام كقاض قياسه فعله نحو قضاة ورماة خلافاً للزمخشري في أن جمعه على فعال قياس، كصيام وقيام قاله الكرخي. قرأ الجمهور: الرعاء بكسر الراء وقرئ بفتحها قال أبو الفضل: هو مصدر أقيم مقام الصفة فلذلك استوى فيه الواحد والجمع، وقرئ الرعاء بالضم اسم جمع.
(وأبونا شيخ كبير) عالي السن، وهذا من تمام كلامهما إبداء منهما للعذر في مباشرة السقي أنفسهما أي: لا يقدر أن يسقي ماشيته من الكبر؛ فلذلك احتجنا ونحن امرأتان ضعيفتان مستورتان؛ لا نقدر على مزاحمة الرجال وعلى أن نسقي الغنم لعدم وجود رجل يقوم لنا بذلك، قيل: أبوهما شعيب وقيل: هو ثيرون ابن أخي شعيب، وقيل: هو رجل ممن آمن بشعيب؛ والأول أولى.
وإنما رضي شعيب لابنتيه بسقي الماشية، لأن هذا الأمر في نفسه ليس بمحظور، والدين لا يأباه. وأما المروءة فعادات الناس في ذلك متباينة، وأحوال العرب فيه خلاف أحوال العجم، ومذهب أهل البدو فيه غير مذهب أهل الحضر، خصوصاً إذا كانت الحالة حالة الضرورة، فلما سمع موسى كلامهما رق لهما ورحمهما.(10/105)
فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (24)
(فسقى لهما) أي: سقى أغنامهما لأجلهما رغبة في المعروف وإغاثة للملهوف، قال المحلي: سقى من بئر أخرى، لقربها، رفع حجراً عنها لا يرفعه إلا عشرة أنفس انتهى (ثم) لما فرغ من السقي لهما (تولى إلى الظل) أي: انصرف إليه فجلس فيه من شدة الحر وهو جائع. قيل: كان هذا الظل ظل سمرة هنالك، وهي شجرة من شجر الطلح وفيه دليل على جواز الاستراحة في الدنيا بخلاف ما يقوله بعض المتقشفة.(10/105)
(فقال) أي ثم قال لما أصابه من الجهد والتعب منادياً لربه (رب إني لما أنزلت إلي من خير) أي خير كان (فقير) أي محتاج إلى ذلك واللام بمعنى إلى، قال الأخفش: يقال هو فقير له واليه، قال ابن عباس لقد قال موسى رب الخ وهو أكرم خلقه عليه، ولقد افتقر إلى شق تمرة، ولقد لصق بطنه بظهره من شدة الجوع. وعنه قال: ما سأل إلا الطعام؛ وعنه قال: سأل فلقاً من الخبز يشد بها صلبه من الجوع، ويحتمل أن يريد أني فقير من الدنيا لأجل ما أنزلت إلي من خير الدين وهو النجاة من الظالمين، لأنه كان عند فرعون في ملك وثروة، قال ذلك رضاء بالبدل السني، وفرحاً بالعوض الهني، وشكراً لله الغني. وقال ابن عطاء: نظر من العبودية إلى الربوبية، وتكلم بلسان الافتقار، لما ورد على سره من الأنوار.(10/106)
فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (25)
(فجاءته إحداهما) في الكلام حذف يدل عليه السياق، قال الزجاج: تقديره فذهبتا إلى أبيهما سريعتين، وكانت عادتهما الإبطاء في السقي، فحدثتاه بما كان من الرجل الذي سقى لهما، فأمر الكبرى من بنتيه وهي صفورا، وقيل: صفراء وقيل: أمر الصغرى، وهي ليا وقيل: صفيراء أن تدعوه له فجاءته، وذهب أكثر المفسرين إليه أنهما ابنتا شعيب، وقيل: هما ابنتا أخي شعيب كان قد مات، والأول أرجح وهو ظاهر القرآن.
(تمشي) كائنة (على استحياء) حالتي المشي والمجيء لا عند المجيء فقط وهذا دليل كمال إيمانها، وشرف عنصرها، لأنها كانت تدعوه إلى ضيافتها ولم تعلم أيجيبها أم لا؟ فأتته مستحيية. قال عمر بن الخطاب: جاءت مستترة بكم درعها على وجهها من الحياء، والحياء والاستحياء بالمد الحشمة والانقباض والانزواء، ويتعدى بنفسه وبالحرف، يقال: استحييته واستحييت منه.
(قالت إن أبي يدعوك) مستأنفة جواب سؤال مقدر، كأنه قيل: ماذا قالت(10/106)
له لما جاءته فقيل قالت الخ (ليجزيك أجر ما سقيت لنا) أي جزاء سقيك لنا، فأجابها منكراً في نفسه أخذ الأجرة، وقيل أجاب لوجه الله، أو للتبرك برؤية الشيخ، لما سمع منهما أن أباهما شيخ كبير.
(فلما جاءه) أي جاء موسى شعيباً، عن أبي حازم قال: لما دخل موسى على شعيب إذا هو بالعشاء فقال له شعيب كل قال موسى أعوذ بالله؛ قال ولم ألست بجائع؟ قال بلى ولكن أخاف أن يكون هذا عوضاً عما سقيت لهما وأنا من أهل بيت لا نبيع شيئاًً من عمل الآخرة بملء الأرض ذهباً، قال: لا والله ولكنها عادتي. وعادة آبائي. نقري الضيف ونطعم الطعام، فجلس موسى فأكل.
(وقص عليه القصص) مصدر يسمى به المفعول أي المقصوص، يعني أخبره بجميع ما اتفق له من عند قتله القبطي إلى عند وصوله إلى ماء مدين، وعن مالك ابن أنس: أنه بلغه أن شعيباً هو الذي قص عليه القصص.
(قال) شعيب: (لا تخف نجوت من القوم الظالمين) أي فرعون وأصحابه لأن فرعون لا سلطان له على مدين، وفيه دليل على جواز العمل بخبر الواحد ولو عبداً أو أنثى، وعلى المشي مع الأجنبية مع ذلك الاحتياط والتورع وللرازي في هذا الموضع إشكالات باردة جداً لا تستحق أن تذكر في تفسير كلام الله عز وجل، والجواب عليها يظهر للمقصر فضلاً عن الكامل؛ وأسف ما جاء به أن موسى كيف أجاب الدعوة المعللة بالجزاء لما فعله من السقي، ويجاب عنه بأنه اتبع سنة الله في إجابة دعوة نبي من أنبياء الله، ولم تكن تلك الإجابة لأجل أخذ الأجر على هذا العمل، ولهذا ورد أنه لما قدم إليه الطعام قال: إنا أهل بيت لا نبيع ديننا بملء الأرض ذهباً كما مر، وفي الكشاف أن طلب الأجرة لشدة الفاقة غير منكر، ويشهد لصحته لو شئت لاتخذت عليه أجراً.(10/107)
قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (26) قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (27)(10/108)
قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (26)
(قالت إحداهما) وهي التي جاءته (يا أبت استأجره) ليرعى لنا الغنم وفيه دليل على أن الإجازة كانت عندهم مشروعة، وقد اتفق على جوازها ومشروعيتها جميع علماء الإسلام إلا الأصم، فإنه عن سماع أداتها أصم.
(إن خير من استأجرت القوي الأمين) تعليل لما وقع منها من الإرشاد لأبيها إلى استئجار موسى، أي أنه حقيق باستئجارك له لكونه جامعاً بين خصلتي القوة والأمانة ولم يقل تستأجر مع أنه الظاهر لأنه جعله لتحققه وتجربته منزلاً منزلة ما مضى وعرف قبل.
وقد روى عن ابن عباس، وعمر: إن أباها سألها عن وصفها له بالقوة والأمانة فأجابته: أما قوته فرفعه الحجر لا يطيقه إلا عشرة رجال، وأما أمانته فقال امش خلفي وانعتي لي الطريق، فإني أكره أن تصيب الريح ثيابك فتصف لي جسدك، فزاده ذلك رغبة فيه، وعن ابن مسعود: أفرس الناس ثلاثة: بنت شعيب، وصاحب يوسف في قوله عسى أن ينفعنا، وأبو بكر في أمر عمر.(10/108)
قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (27)
(قال إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين) الكبرى أو الصغرى وفيه مشروعية عرض ولي المرأة لها على الرجل، وهذه سنة ثابتة في الإسلام كما ثبت من عرض عمر لابنته حفصة على أبي بكر وعثمان، والقصة معروفة وغير(10/108)
ذلك مما وقع في أيام الصحابة وأيام النبوة، وكذلك ما وقع من عرض المرأة لنفسها على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
قيل: زوجه الكبرى، وقال الأكثرون: إنه زوجه الصغرى منهما واسمها صفورا، وهي التي ذهبت في طلب موسى و (هاتين) يدل على أنه كان له غيرهما وقد قال البقاعي: إن له سبع بنات كما في التوراة، وهذه مواعدة منه، ولم يكن ذلك عند نكاح إذ لو كان عنداً لقال: قد أنكحتك.
(على أن تأجرني ثماني حجج) جمع حجة وهي السنة قال الفراء: يقال: على أن تجعل ثوابي أن ترعى غنمي ثماني سنين. قال المبرد: يقال أجرت داري ومملوكي غير ممدود، وممدوداً والأول أكثر، والتزوج على رعي الغنم جائز بالإجماع لأنه من باب القيام بأمر الزوجية فلا مناقضة بخلاف التزوج على الخدمة.
(فإن أتممت) ما استأجرتك عليه من الرعي (عشراً) من السنين (فمن عندك) أي تفضلاً منك وتبرعاً، لا إلزاماً مني لك وليس بواجب عليك، جعل ما زاد على الثمانية الأعوام إلى تمام عشرة أعوام، موكولاً إلى المروءة أي فهي من عندك، والظاهر أنه استدعاء عند بالأجل الأول نظراً إلى شرعنا، ويمكن كونه عقداً صحيحاً عندهم قاله الكرخي.
(وما أريد أن أشق عليك) بإلزامك إتمام العشرة الأعوام، ولا بالمناقشة في مراعاة الأوقات، واستيفاء الأعمال، واشتقاق المشقة من الشق أي شق ظنه نصفين، فتارة يقول: أطيق وتارة يقول: لا أطيق، ثم رغبة في قبول الإجازة فقال (ستجدني إن شاء الله من الصالحين) في حسن الصحبة ولطف المعاملة ولين الجانب، والوفاء بالعهد، وقيل أراد الصلاح على العموم فيدخل صلاح المعاملة في تلك الإجازة تحت الآية دخولاً أولياً، وقيد ذلك بالمشيئة تفويضاً للأمر إلى توفيق الله ومعونته، وللتبرك به لا تعليق صلاحه بمشيئته تعالى.(10/109)
قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (28) فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (29)
ثم لما فرغ شعيب من كلامه قرره موسى و(10/110)
قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (28)
(قال ذلك بيني وبينك) والإشارة إلى ما تعاقدا عليه (أيما الأجلين قضيت) شرطية وجوابها:
(فلا عدوان عليّ) والمراد بالأجلين الثمانية الأعوام، والعشرة الأعوام ومعنى قضيت: وفيت به، وأتممته، وفرغت منه، و (الأجلين) مخفوض بإضافة (أي) إليه و (ما) زائدة أو مخفوضة بإضافة أي إليها والأجلين بدل منها، وقرأ ابن مسعود: أي الأجلين ما قضيت، والمعنى لا ظلم عليّ بطلب الزيادة على ما قضيته من الأجلين، أي كما لا أطالب بالزيادة على الثمانية الأعوام، لا أطالب بالنقصان عن العشرة: وقيل: المعنى كما لا أطالب بالزيادة على العشرة الأعوام لا أطالب بالزيادة على الثمانية الأعوام، وهذا أظهر. وأصل العدوان تجاوز الحد في غير ما يجب، قال المبرد: وقد علم موسى أنه لا عدوان عليه في أتمهما، ولكنه جمعهما ليجعل الأقل كالأتم في الوفاء، وقرئ عدوان بضم العين وبكسرها.
(والله على ما نقول) من هذه الشروط الجارية بيننا (وكيل) أي شاهد وحفيظ فلا سبيل لأحدنا إلى الخروج عن شيء من ذلك، قيل: هو من قول موسى، وقيل: من قول شعيب، والأول أولى لوقوعه في جملة كلام موسى وتم العقد بذلك ولعل هذا كان في شرعهما، وإلا فهذه الصيغة لا تكفي عندنا في عقد النكاح، لأن الواقع من شعيب وعد بالإنكاح، والواقع من موسى ليس(10/110)
فيه مادة التزويج، ولا الإنكاح، وأيضاً الصداق ليس راجعاً للمنكوحة بل لأبيها، هذا ما جرى عليه المحلي.
وقال غيره: إنهما عقدا عقداً بغير الصورة المذكورة هنا منهما، قال أبو السعود: ليس ما حكى عنهما في الآية تمام ما جرى بينهما من الكلام في إنشاء عقد النكاح، وعقد الإجازة وإيقاعهما، بل هو بيان لما عزما عليه واتفقا على إيقاعه حسبما يتوقف عليه مساق القصة إجمالاً من غير تعرض لبيان مواجب العقدين في تلك الشريعة تفصيلاً.
وأخرج الطبراني وغيره عن عتبة السلمي قال: كنا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقرأ سورة طسم حتى إذا بلغ قصة موسى قال: " إن موسى آجر نفسه ثماني سنين، أو عشراً على عفة فرجه، وطعام بطنه، فلما وفى الأجل قيل يا رسول الله أي الأجلين قضى موسى؟ قال: أبرهما وأوفاهما، فلما أراد فراق شعيب أمر امرأته أن تسأل أباها أن يعطيهما من غنمه ما يعيشون به، فأعطاهما ما ولدت غنمه " الحديث بطوله وفيه مسلمة الدمشقي ضعفه الأئمة.(10/111)
فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (29)
(فلما قضى موسى الأجل) الذي هو أكملهما وأوفاهما، وهو العشرة الأعوام، والفاء فصيحة؛ عن ابن عباس أنه سئل أي الأجلين قضى موسى؟ قال: " أكثرهما وأطيبهما أن رسول الله إذا قال فعل "، وصححه الحاكم، أقول: في قوله إذا قال رسول الله فعل نظر، فإن موسى لم يقل إنه سيقضي أكثر الأجلين، بل قال: أيما الأجلين قضيت فلا عدوان عليَّ، وقد روي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إن موسى قضى أتم الأجلين " من طرق أخرج الخطيب في تاريخه عن أبي ذر قال: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " إذا سئلت أي الأجلين قضى موسى فقل: خيرهما وأبرهما: وإن سئلت أي المرأتين تزوج؟ فقل الصغرى منهما، وهي التي جاءت فقالت يا أبت استأجره ".(10/111)
وأخرج ابن مردويه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " قال لي جبريل: يا محمد إن سألك اليهود أي الأجلين قضى موسى؟ فقل: أوفاهما وإن سألوك أيهما تزوج؟ فقل الصغرى منهما " فروايات أنه قضى أتم الأجلين لها طرق يقوي بعضها بعضاً.
(و) لما تم الأجل ودنا أيام الزلفة وظهرت أنوار النبوة (سار بأهله) زوجته بإذن أبيها إلى مصر ليشتركوا معه في لطائف صنع ربه، وقيل: سار لصلة رحمه وزيارة أمه وأخيه، وهذا أولى؛ وفيه دليل على أن الرجل يذهب بأهله حيث شاء.
(آنس من جانب الطور) أي أبصر من الجهة التي تلي الطور (ناراً) وذلك أنه كان في البرية في ليلة مظلمة شديدة البرد وأخذ امرأته الطلق، وقد تقدم تفسير هذا في سورة طه مستوفى، قال ابن عباس: لما قضى موسى الأجل سار بأهله فضل الطريق، وكان في الشتاء، فرفعت له نار فلما رآها ظن أنها نار وكانت من نور الله.
(قال لأهله امكثوا إني آنست ناراً لعلي آتيكم منها بخبر) أي لعلي أجد من يدلني على الطريق فإن لم أجد خبراً آتيكم بشهاب قبس وهو المراد بقوله (أو جذوة من النار) وهذا تقدم تفسيره أيضاً في سورة طه، وفي سورة النمل، وقرئ جذوة بكسر الجيم، وبضمها وبفتحها، وهي لغات في العود الذي في رأسه نار، هذا هو المشهور، وقيده بعضهم فقال: نار من غير لهب وقد ورد ما يقتضي وجود اللهب فيه، قال الجوهري الجذوة والجذوة الجمرة. والجمع جَذى وجَذيّ وجُذيّ، قال مجاهد: إن الجذوة قطعة من الجمر في لغة العرب، وقال أبو عبيدة: هي القطعة الغليظة من الخشب كأن في طرفها ناراً ولم تكن، وليس المراد هنا إلا ما في رأسه نار قاله السمين.
(لعلكم تصطلون) من البرد أي تستدفئون بالنار.(10/112)
فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (30) وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ (31)(10/113)
فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (30)
(فلما أتاها) أي النار التي أبصرها، وقيل: أتى الشجرة، والأول أولى لعدم الذكر للشجرة (نودي من) لابتداء الغاية (شاطئ الوادي الأيمن) صفة للشاطئ أو للوادي، وهو من اليمن وهو البركة أو من جهة اليمين المقابل لليسار بالنسبة إلى موسى، أي الذي يلي يمينه دون يساره، وشاطئ الوادي طرفه وحافته وكذا الشط والسيف والساحل كلها بمعنى، قال الراغب وجمع الشاطئ أشطاء قال ابن عباس: كان النداء من السماء الدنيا، وظاهر القرآن يخالف ما قاله رضي الله تعالى عنه.
(في البقعة) متعلق بنودي أو بمحذوف على أنه حال من الشاطئ (المباركة) بتكليم الله تعالى فيها (من الشجرة) بدل اشتمال من شاطئ الوادي لأن الشجرة كانت نابتة على الشاطئ، وقال الجوهري: شاطئ الأودية ولا يجمع، قرأ الجمهور: البقعة بضم الباء، وقرئ بفتحها، وهي لغة حكاها أبو زيد.
عن ابن مسعود، قال: " ذكرت لي الشجرة التي أوى إليهما موسى فسرت إليها يومي وليلتي حتى صبحتها فإذا هي سمرة خضراء ترف، فصليت على النبي - صلى الله عليه وسلم - وسلمت فأهوى إليها بعيري، وهو جائع، فأخذ منها ملآن فيه، فلاكه فلم يستطع أن يسيغه فلفظه، فصليت على النبي - صلى الله عليه وسلم - وسلمت، ثم انصرفت " أخرجه عبد ابن حميد وابن جرير، وابن المنذر، والحاكم وصححه، وقيل: الشجرة العناب؛ أو العوسج؛ وقيل: كانت من العليق.(10/113)
(أن يا موسى إني أنا الله رب العالمين) أن هي المفسرة أو هي المخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن؛ وجملة النداء مفسرة له، والأول أولى قرئ: إني بكسر الهمزة على إضمار القول أو على تضمين النداء معناه، والفتح قراءة ضعيفة. قال جعفر، أبصر ناراً دلته على الأنوار لأنه رأى النور في هيئة النار، فلما دنا منها شملته أنوار القدس، وأحاطت به جلابيب الأنس فخوطب بألطف خطاب واستدعى منه أحسن جواب فصار بذلك مكلماً شريفاً أعطي ما سأل، وأمن مما خاف.
قيل: إن موسى لما رأى النار في الشجرة الخضراء علم أنه لا يقدر على الجمع بين النار وخضرة الشجرة إلا الله فعلم بذلك أن المتكلم هو الله تعالى وقيل: إن الله خلق في نفس موسى علماً ضرورياً بأن المتكلم هو الله وأن ذلك الكلام كلام الله، وذهب جماعة من المتكلمين منهم الغزالي إلى أنه سمع كلامه الأزلي النفسي بلا صوت ولا حرف، ولا دليل عليه. وقيل: غير ذلك مما لا فائدة في ذكره.
وقال في سورة طه: (إني أنا ربك) وقال في النمل (نودي أن بورك من في النار ومن حولها) وهما مخالفان لما هنا من حيث اللفظ إلا أن الجميع متوافق في المقصود وهو فتح باب الاستنباء وسوق الكلام على وجه يؤدي إليه قال الإمام: لا منافاة بين هذه الأشياء فهو تعالى ذكر الكل إلا أنه حكى في كل سورة بعض ما اشتمل عليه ذلك النداء انتهى.(10/114)
وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ (31)
(وأن ألق عصاك) وقد تقدم تفسير هذا وما بعده في طه والنمل، وفي الكلام حذف، أي فألقاها فصارت ثعباناً فاهتزت (فلما رآها تهتز) أي: تتحرك (كأنها جان) في سرعة حركتها، مع عظم جسمها (ولى مدبراً) أي هارباً منهزماً (ولم يعقب) أي: لم يرجع فنودي:
(يا موسى أقبل ولا تخف إنك من الآمنين) من أن ينالك مكروه من الحية؛ وقد تقدم تفسير جميع ما ذكر هنا مستوفى فلا نعيده وكذلك قوله:(10/114)
اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (32) قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (33) وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (34) قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ (35) فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ (36) وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (37)(10/115)
اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (32)
(اسلك يدك في جيبك) والسلك بالفتح، والسلوك كل منهما مصدر لسلك الشيء في الشيء أنفذه فيه، فإنه من باب قعد ونصر (تخرج بيضاء من غير سوء) فأدخلها فخرجت ولها شعاع كضوء الشمس من غير برص.
(واضمم إليك جناحك) جناح الإنسان عضده؛ ويقال لليد كلها جناح أي: اضمم إليك يديك المبسوطتين لتتقي بهما الحية، كالخائف الفزع، وقد عبر هذا المعنى بثلاث عبارات:
الأولى: اسلك يدك في جيبك.
والثانية: واضمم إليك جناحك.
والثالثة: وأدخل يدك في جيبك.
قال الزمخشري: جعل الجناح وهو اليد في أحد الموضعين مضموماً، وفي الآخر مضموماً إليه، فالمراد بالجناح المضموم اليد اليمنى، وبالجناح المضموم(10/115)
إليه اليد اليسرى وكل واحدة من يمنى اليدين ويسراهما جناح، ويجوز أن يراد بالضم التجلد والثبات عند انقلاب العصا ثعباناً، وقيل: كل خائف بعد موسى إذا وضع يده على صدره زال خوفه. قال الفراء: أراد بالجناح عصاه.
(من الرهب) أي من أجل الخوف، قرئ بفتح الراء والهاء وبإسكان الهاء، وبضم الراء، وإسكان الهاء؛ وقال بعض أهل المعاني: الرهب الكم بلغة حمير وبني حنيفة، وقال الأصمعي: سمعت أعرابياً يقول لآخر: أعطني ما في رهبك؛ فسألته عن الرهب؛ فقال: الكم، فعلى هذا يكون معناها اضمم إليك يدك وأخرجها من الكم.
(فذانك) إشارة إلى العصا واليد، قرئ بتخفيف النون، قيل: والتشديد لغة قريش، وقرئ بياء تحتية بعد نون مكسورة؛ وهي لغة هذيل، وقيل لغة تميم (برهانان) أي حجتان نيرتان، ودليلان واضحان؛ وآيتان بينتان، وسميت الحجة برهاناً لإنارتها من قولهم للمرأة البيضاء: برهونة. (من ربك) أي: كائنان منه تعالى، مرسلان أو واصلان.
(إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ) متجاوزين الحد في الظلم، خارجين عن الطاعة أبلغ خروج، والجملة تعليل لما قبلها، ولما سمع موسى قول الله سبحانه هذا طلب منه سبحانه أن يقوي قلبه و(10/116)
قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (33)
(قال رب إني قتلت منهم نفساً) يعني القبطي الذي وكزه فقضى عليه (فأخاف أن يقتلون) بها.(10/116)
وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (34)
(وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا) أي: كلاماً لأنه كان في لسان موسى حبسة من وضع الجمر في فيه، كما تقدم بيانه، والفصاحة لغة الخلوص يقال: فصح اللبن، وأفصح فهو فصيح، أي: خلص من الرغوة، ومنه فصح الرجل جادت لغته، وأفصح تكلم بالعربية، وقيل: الفصيح الذي ينطق والأعجم الذي لا ينطق، وأما في اصطلاح أهل البيان ففصاحة الكلمة خلوصها عن تنافر الحروف والغرابة، ومخالفة القياس. وفصاحة الكلام خلوصه من ضعف التأليف والتعقيد.(10/116)
(فأرسله معي ردءاً) النصب على الحال أي: عوناً والردء: المعين من أردأته إذا أعنته، يقال: فلان ردء فلان إذا كان ينصره، ويشد ظهره. وقيل: من قولهم أردى على المائة إذا زاد عليها فكأن المعنى: أرسله معي زيادة في تصديقي.
(يصدقني) بالرفع على الاستئناف، وبالجزم على جواب الأمر وقرأ أبيّ: يصدقوني، أي فرعون وملؤه، وقال ابن عباس: كي يصدقني، أي هرون ومعنى تصديقه موسى إعانته إياه بزيادة البيان في مظان الجدال، وتقرير الحجة بتوضيحها، وتزييف الشبهة، وتلخيص الدلائل بلسانه.
والجواب عن شبهات الكفار ببيانه ليثبت دعواه لا أن يقول له: صدقت، ألا ترى إلى قوله هو أفصح مني؟ وفضل الفصاحة إنما يحتاج إليه لتقرير البرهان؛ لا لقوله صدقت، حبان وباقل فيه يستويان، وهذا هو الجاري مجرى التصديق كما يصدق القول بالبرهان.
(إني أخاف أن يكذبون) إذا لم يكن معي هارون لعدم انطلاق لساني بالمحاجة.(10/117)
قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ (35)
(قال سنشد عضدك بأخيك) هارون، وكان إذ ذاك بمصر، أي نقويك به فإن قوة الشخص بشدة اليد على مزاولة الأمور، ولذلك يعبر عنه باليد، وعن شدتها بشدة العضد، فهو مجاز مرسل على طريق إطلاق السبب وإرادة المسبب بمرتبتين، فإن شدة العضد سبب مستلزم لشدة اليد وشدة اليد مستلزمة لقوة الشخص في المرتبة الثانية.
قال الشهاب: الشد التقوية فهو إما كناية تلويحيية عن تقويته، لأن اليد تشد بشد العضد، والجملة تشتد بشد اليد، ولا مانع من الحقيقة كما توهم، أو استعارة تمثيلية، شبه حال موسى في تقويه بأخيه بحال اليد في تقويها بالعضد، ويقال في دعاء الخير شد الله عضدك، وفي ضده فت الله عضدك، قرأ الجمهور عضدك بفتح العين وضم الضاد وقرئ بضمهما وسكون الضاد، وبفتحهما.(10/117)
(ونجعل لكما سلطاناً) أي حجة وبرهاناً أو تسلطاً وغلبة، وهيبة في قلوب الأعداء (فلا يصلون إليكما) بالأذى والسوء، ولا يقدرون على غلبتكما بالحجة (بآياتنا) أي تمنعان منهم بآياتنا أو اذهبا بآياتنا وقيل: الباء للقسم وجوابه، فلا يصلون، وما أضعف هذا القول. وقال الأخفش وابن جرير في الكلام تقديم وتأخير، أي أنتما ومن اتبعكما الغالبون بآياتنا، وأولى هذه الوجوه أولها، وفي قوله (أنتما ومن اتبعكما الغالبون) تبشير لهما؛ وتقوية لقلوبهما.(10/118)
فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ (36)
(فلما جاءهم موسى بآياتنا بينات) واضحات الدلالة، وقد تقدم وجه إطلاق الآيات وهي جمع على العصا واليد في سورة طه، وهو أن في كل منهما آيات عديدة.
(قالوا ما هذا إلا سحر مفترى) أي مختلق مكذوب اختلقته من قبل نفسك ثم افتريته على الله، أو سحر موصوف بالافتراء كسائر أنواع السحر، وليس بمعجزة من عند الله، أو سحر لم يفعل قبل هذا الوقت مثله.
(وما سمعنا بهذا) الذي جئت به من دعوى النبوة أو ما سمعنا بهذا السحر (في آبائنا الأولين) أي كائناً أو واقعاً فيهم.(10/118)
وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (37)
(وقال موسى ربي أعلم بمن جاء بالهدى من عنده) يريد نفسه وإنما جاء بهذه العبارة لئلا يصرح لهم بما يريده قبل أن يوضح لهم الحجة، والله أعلم قرئ وقال بالواو وبغيرها، وكذلك هو في مصاحف أهل مكة (ومن تكون له عاقبة الدار) بالفوقية وهي أوضح من قراءتها بالتحتية، على أن اسم يكون عاقبة الدار والتذكير لوقوع الفصل، ولأنه تأنيث مجازي، والمراد بالدار هنا الدنيا، وعاقبتها هي الجنة، وإنما كانت عاقبة لها لأن الدنيا خلقت مجازاً وطريقاً إليها، أو المراد بالدار الدار الآخرة الصادقة على الجنة والنار والإضافة بمعنى في، والمعنى ومن تكون له العاقبة المحمودة في الدار الآخرة (إنه لا يفلح الظالمون) أي إن الشأن أنهم لا يفوزون بمطلب خير.(10/118)
وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ (38) وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ (39)(10/119)
وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ (38)
(وقال فرعون يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري) تمسك اللعين بمجرد الدعوى الباطلة مغالطة لقومه منه، وقد كان يعلم أن ربه الله عز وجل والظاهر أنه لا يريد بإلهية نفسه كونه خالقاً للسموات والأرض وما بينهما، فإن العلم بامتناع ذلك مما لا يخفى على أحد، فالشك في ذلك يقتضي زوال العقل بالكلية، فالمخذول لعنه الله كأنه يظن أن الأفلاك والكواكب كافية في اختلاف أحوال هذا العالم السفلي، فلا حاجة إلى إثبات صانع.
قال القاضي: نفي علمه بإله غيره دون وجوده إذ لم يكن عنده ما يقتضي الجزم بعدمه. ولذلك أمر ببناء الصرح، قلت: هو رد على الزمخشري في قوله: أن المقصود بنفي العلم بالإله نفي وجوده، ويمكن التوجيه بأن يقال: الوجود وجودان، وجود ذهني ووجود خارجي والمراد في كلامه الأول.
ولا شك أنه إذا انتفى علم الإنسان بشيء انتفى وجوده في ذهنه، ولكن ربما كان هذا غير مراد للزمخشري، لأن الظاهر من كلامه الوجود الشائع عند أهل اللغة، وهو الخارجي. قال سراج الدين: غرض صاحب الكشاف أن عدم الوجود سبب لعدم العلم بالوجود في الجملة، ولا شك أنه كذلك فأطلق السبب وأريد السبب، لا أن بينهما ملازمة كلية على أنه لا كان من أقوى أسباب عدم العلم لأنه المطرد، جاز أن يطلق ويراد به الوجود، إذ لا يشترط عند علماء هذا الفن اللزوم العقلي، بل العادي والعرفي كاف أيضاً.(10/119)
وقد يقول أحد منا: لا أعلم ذلك، أي: لو كان موجوداً لعلمته إذا قامت قرينة، وهذا استعمال شائع في عرف العرب والعجم، عند العامة والخاصة، كيف! وكان المخذول يدعي الإلهية! فالظاهر أنه من الكناية لا من المجاز والمصنف إنما ذكر معلومية انتفاء العلم لانتفاء الوجود ليبين أن انتفاء العلم من روادف انتفاء الوجود انتهى. قال الشوكاني: وهو الذي خطر ببالي أنه الجواب، لكنه عارض ذلك الخاطر إشكالات لا يتسع لها المقام انتهى.
وقد أشار أبو السعود في تفسيره إلى الجواب عن هذا الإشكال فقال: وهذا من خواص العلوم الفعلية فإنها لازمة لتحقق معلوماتها، فيلزم من انتفائها انتفاء معلوماتها، ولا كذلك العلوم الانفعالية انتهى. وقد وافق على هذا القاضي، ولاح لك عن هذا جوابان (1):
الأول: أنه ذكر نفي العلم، وأراد نفي المعلوم بطريق الكناية على الوجه الذي ذكره السراج.
الثاني: تخصيص العلم بالفعلي لا الانفعالي، كما ذكره أبو السعود والبيضاوي.
والثالث: إن يراد بالوجود الوجود في ذهن المتكلم بتلك الكلمة، وفي كل جواب من هذه الأجوبة كلام لا يلتبس على العالم بالفن قال الخفاجي وعلى كل حال فكلام القاضي لا يخلو عن ضعف، والذي غره فيه كلام صاحب الانتصاف انتهى.
قال ابن عباس: لما قال فرعون هذا القول قال جبريل: يا رب طغى عبدك فأذن لي في هلكه، فقال: يا جبريل بل هو عبدي ولن يسبقني، له أجل يجيء ذلك الأجل، فلما قال: أنا ربكم الأعلى! قال الله: يا جبريل سبقت دعوتك في عبدي، وقد جاء أوان هلاكه.
_________
(1) والأصح (ثلاث إجابات).(10/120)
وأخرج ابن مردويه عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " كلمتان قالهما فرعون (ما علمت لكم من إله غيري)، وقوله (أنا ربكم الأعلى) قال: كان بينهما أربعون عاماً فأخذه الله نكال الآخرة والأولى ".
ثم رجع إلى تكبره وتجبره وإيهام قومه بكمال اقتداره فقال:
(فأوقد لي يا هامان على الطين) أي اطبخ لي الطين حتى يصير آجراً أي بعد اتخاذه لبناً، عن قتادة قال: بلغني أن فرعون أول من طبخ الآجر، وبنى به. وعن ابن جريج نحوه، والنداء بـ (يا) في وسط الكلام دليل التعظيم والتجبر.
(فاجعل لي) من هذا الطين الذي توقد عليه حتى يصير آجراً (صرحاً) أي قصراً عالياً، وقيل منارة، روي أن هامان بنى صرحاً لم يبلغه بناء أحد من الخلق، وأراد الله أن يفتنهم فيه، فضرب الصرح جبريل بجناحه فقطعه ثلاث قطع وقعت قطعة على عسكر فرعون، وقطعة في البحر وقطعة في المغرب ولم يبق أحد من عماله إلا هلك.
(لعلي أطلع إلى إله موسى) أي أصعد إليه وأنظر وأقف على حاله كأنه توهم أنه لو كان هناك إله كان جسماً في السماء، يمكن الرقي إليه والاطلاع الصعود والطلوع والاطلاع واحد، يقال: طلع الجبل واطلع أي صعد.
(وإني لأظنه) أي موسى (من الكاذبين) في دعواه أن للأرض والخلق إلهاً سواه، وأنه أرسله.(10/121)
وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ (39)
(واستكبر هو وجنوده في الأرض بغير الحق) المراد بها أرض مصر والاستكبار التعاظم بغير استحقاق، بل بالعدوان لأنها لم تكن له حجة يدفع بها ما جاء به موسى، ولا شبهة ينصبها في مقابلة ما أظهره من المعجزات (وظنوا) أي فرعون وجنوده.
(أنهم إلينا لا يرجعون) قرئ مبنياً للمفعول وللفاعل والمراد بالرجوع البعث والمعاد.(10/121)
فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (40) وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ (41) وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ (42) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (43) وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (44)(10/122)
فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (40)
(فأخذناه وجنوده) بعد أن عتوا في الكفر وجاوزوا الحد فيه (فنبذناهم في اليم) أي طرحناهم في البحر المالح، وهو القلزم وفي هذا تفخيم وتعظيم لشأن الأخذ واستحقاراً لمأخوذين كأنه أخذهم مع كثرتهم في كف وطرحهم في اليم، وقد تقدتم بيان الكلام في هذا.
(فانظر) يا محمد - صلى الله عليه وسلم - (كيف كان عاقبة الظالمين)؟ حين صاروا إلى الهلاك(10/122)
وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ (41)
(وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار) أي صيرناهم رؤساء متبوعين في الكافرين فكأنهم بإصرارهم على الكفر والتمادي فيه ودعائهم إلى الشرك يدعون اتباعهم إلى النار لأنهم اقتدوا بهم، وسلكوا طريقتهم تقليداً لهم، وفيه دليل على خلق أفعال العباد، وقيل: المعنى إنه يأتم بهم أي يعتبر بهم من جاء بعدهم، ويتعظ بما أصيبوا به، والأول أولى.
(ويوم القيامة لا ينصرون) أي لا ينصرهم أحد ولا يمنعهم مانع من عذاب الله.(10/122)
وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ (42)
(وأتبعناهم في هذه الدنيا لعنة) أي: طرداً وإبعاداً أو أمرنا العباد بلعنهم فكل من ذكرهم لعنهم، والأول أولى. وفي أبي السعود أي: لا تزال تلعنهم الملائكة؛ والمؤمنون خلفاً عن سلف.(10/122)
(ويوم القيامة هم من المقبوحين) المبعدين، والمقبوح: المطرود المبعد وقال أبو عبيدة، وابن كيسان: معناه من المهلكين الممقوتين، وقال أبو زيد: قبح الله فلاناً قبحاً وقبوحاً أبعده من كل خير.
قال أبو عمرو: قبحت وجهه فالتخفيف بمعنى قبحت بالتشديد، وقيل: المقبوح: المشوه الخلقة أي فهم من الموسومين بعلامة منكرة كزرقة العيون وسواد الوجوه، والقبيح أيضاً عظيم الساعد، مما يلي النصف منه، إلى المرفق والعامل في يوم محذوف، يفسره (من المقبوحين) أي وقبحوا يوم القيامة وهو الأظهر، أو هو معطوف على موضع (في هذه الدنيا) أي: وأتبعناهم لعنة يوم القيامة، أو معطوف على (لعنة) على حذف مضاف أي: ولعنة يوم القيامة، والوجه الثاني أظهر.(10/123)
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (43)
(ولقد آتينا موسى الكتاب) أي التوراة (من بعد ما أهلكنا القرون الأولى) أي قوم نوح، وعاد، وثمود، وغيرهم. وقيل: من بعد ما أهلكنا فرعون وقومه، وخسفنا بقارون. والتعرض لكون إيتاء التوراة بعد إهلاك الأمم الماضية للإشعار بمسيس الحاجة الداعية إليها تمهيداً لما يعقبه من بيان الحاجة الداعية إلى إنزال القرآن على رسول الله.
فإن إهلاك القرون الأولى من موجبات اندراس معالم الشرائع، وانطماس آثارها وأحكامها المؤديين إلى اختلال نظام العالم المستدعيين للتشريع الجديد، بتقرير الأصول الباقية على ممر الدهور، وترتيب الفروع المتبدلة بتبدل العصور، وتذكير أحوال الأمم الخالية الموجبة، كأنه قيل: ولقد آتينا موسى التوراة على حين حاجة إليها.
أخرج البزار، وابن المنذر، والحاكم وصححه، وابن مردويه عن أبي سعيد قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " ما أهلك الله قوماً؛ ولا قرناً، ولا أمة، ولا أهل قرية بعذاب من السماء منذ أنزل التوراة على وجه الأرض غير القرية التي مسخت قردة "، ألم تر إلى قوله (ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما(10/123)
أهلكنا القرون الأولى) وروي عنه موقوفاً.
(بصائر للناس) أي آتينا الكتاب لأجل أن يتبصر الناس به، أو حال كونه بصائر لهم يبصرون به الحق، و (البصائر) جمع بصيرة، وهي نور القلب، كما أن البصر نور العين (وهدى) يهتدون إليه، وينقذون أنفسهم به من الضلالة بالاهتداء به (ورحمة) من الله رحمهم بها (لعلهم يتذكرون) هذه النعم، فيشكرون الله ويؤمنون به؛ ويجيبون داعيه إلى ما فيه خير لهم ويتعظون بما فيه من المواعظ.(10/124)
وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (44)
(وما كنت بجانب الغربي) هذا شروع في بيان أن إنزال القرآن واقع في بيان شدة الحاجة إليه أي وما كنت يا محمد بجانب الجبل الغربي، وهو المكان الواقع في شق الغرب، فيكون من باب حذف الموصوف، وإقامة الصفة مقامه واختاره الزجاج، وقال الكلبي: بجانب الوادي الغربي، أي حيث ناجى موسى ربه.
(إذ قضينا إلى موسى الأمر) أي عهدنا إليه وكلمناه، وأحكمنا الأمر معه بالرسالة إلى فرعون وقومه (وما كنت من الشاهدين) لذلك حتى تقف على حقيقته، وتحكيه من جهة نفسك وقيل: معنى إذ قضينا إلى موسى الأمر: إذ كلفناه وألزمناه، وقيل: أخبرناه أن أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - خير الأمم.
ولا يستلزم نفي كونه بجانب الغربي نفي كونه من الشاهدين لأنه يجوز أن يحضر ولا يشهد قيل: المراد بالشاهدين السبعون الذين اختارهم موسى للميقات وإذا تقرر أن الوقوف على تفاصيل تلك الأحوال لا يمكن أن يكون بالحضور عندها من نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -، والمشاهدة لها منه، وانتفى بالأدلة الصحيحة أنه لم يتلق ذلك من غيره من البشر ولا علمه معلم منهم كما قدمنا تقريره تبين أنه من عند الله سبحانه بوحي منه إلى رسوله بواسطة الملك النازل بذلك، فهذا الكلام هو على طريقة (وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم).(10/124)
وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (45) وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (46) وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (47) فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ (48)(10/125)
وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (45)
(ولكنا أنشأنا قروناً) أي خلقنا أمماً بين زمانك يا محمد - صلى الله عليه وسلم - وزمان موسى (فتطاول عليهم العمر) أي طالت عليهم المهلة، وتمادى عليهم الأمد، وفترت النبوة، وكانت الأخبار تخفى، فتغيرت الشرائع والأحكام، وتُنوسيَت الأديان، واندرست العلوم ووقع التحريف في كثير منها. فتركوا أمر الله ونسوا عهده.
فاقتضت الحكمة التشريع الجديد فجئنا بك رسولاً، وأوحينا إليك خبر موسى وغيره ليكون معجزة لك وتذكيراً لقومك ومثله قوله سبحانه (فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم) وقد استدل بهذا الكلام على أن الله سبحانه قد عهد إلى موسى عهوداً في محمد - صلى الله عليه وسلم - وفي الإيمان به، فلما طال عليهم العمر، ومضت القرون بعد القرون نسوا تلك العهود، وتركوا الوفاء بها.
(وما كنت ثاوياً في أهل مدين) أي مقيماً بينهم كما أقام موسى حتى تقرأ على أهل مكة خبرهم، وتقص عليهم من جهة نفسك يقال: ثوى يثوي ثواء وثوياً فهو ثاو، ومن المعلوم أن واقعة مدين كانت قبل واقعتي الطور، فمقتضى(10/125)
الترتيب الوقوعي أن تقدم عليهما وإنما وسطت بينهما للتنبيه على أن كُلاًّ منهما برهان مستقل على أن إخباره - صلى الله عليه وسلم - عن هذه القصص بطريق الوحي الألهي ولو روعي الترتيب الوقوعي لربما توهم أن الكل دليل واحد على ما ذكر.
(تتلو عليهم) أي: تقرأ على أهل مدين (آياتنا) وتتعلم منهم، وقيل: تذكرهم بالوعد والوعيد، وقيل: الضمير لأهل مكة، والمعنى عليه واضح، وأكثر المفسرين على الوجه الأول والجملة في محل نصب على الحال، أو خبر ثان، ويجوز أن تكون هذه الجملة هي الخبر وثاوياً حال، وجعلها الفراء مستأنفة، كأنه قيل: وها أنت تتلو على أمتك.
(ولكننا كنا مرسلين) أي: أرسلناك إلى أهل مكة، وأنزلنا عليك هذه الأخبار، ولولا ذلك ما علمتها. قال الزجاج: المعنى أنك لم تشاهد قصص الأنبياء، ولا تليت عليك، ولكننا أوحيناها إليك وقصصناها عليك.(10/126)
وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (46)
(وما كنت) يا محمد (بجانب الطور) أي: بجانب الجبل المسمى بالطور (إذ نادينا) موسى لما أتى إلى الميقات مع السبعين أن خذ الكتاب بقوة وبين الإرسال وإيتاء التوراة نحو ثلاثين سنة، وقيل: المنادى هو أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -. قال وهب: وذلك أن موسى لما ذكر الله له فضل محمد - صلى الله عليه وسلم - وأمته؛ قال: يا رب أرنيهم، فقال الله: إنك لن تدركهم، وإن شئت ناديتهم فأسمعتك صوتهم، قال: بلى يا رب أرنيهم فقال يا أمة محمد، فأجابوا من أصلاب آبائهم؛ فيكون معنى الآية على هذا: ما كنت يا محمد بجانب الطور إذ كلمنا موسى فنادينا أمتك، وسيأتي ما يدل على هذا ويقويه ويرجحه.
وعن أبي هريرة في الآية قال: نودوا: يا أمة محمد أعطيتكم قبل أن تسألوني، واستجبت لكم قبل أن تدعوني، وروي من وجه آخر عنه مرفوعاً.
وأخرج ابن مردويه، وأبو نعيم في الدلائل، وأبو نصر السجزي في الإبانة والديلمي عن عمرو بن عبسة قال: سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - عن قوله: وما(10/126)
كنت بجانب الطور إذ نادينا، ما كان النداء؟ وما كانت الرحمة؟ قال: كتبه الله قبل أن يخلق خلقه بألفي عام، ثم وضعه على عرشه، ثم نادى: يا أمة محمد سبقت رحمتي على غضبي أعطيتكم قبل أن تسألوني وغفرت لكم قبل أن تستغفروني، فمن لقيني منكم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبدي ورسولي صادقاً أدخلته الجنة.
وأخرج ابن مردويه، وأبو نعيم عن حذيفة في الآية قال: نودوا يا أمة محمد؛ ما دعوتمونا إذ استجبنا لكم، ولا سألتمونا إذ أعطيناكم.
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس مرفوعاً: " إن الله نادى يا أمة محمد أجيبوا ربكم، قال: فأجابوا، وهم في أصلاب آبائهم، وأرحام أمهاتهم؛ إلى يوم القيامة. فقالوا: لبيك أنت ربنا حقاً، ونحن عبيدك حقاً، قال: صدقتم أنا ربكم وأنتم عبيدي حقاً، قد عفوت عنكم قبل أن تدعوني، وأعطيتكم قبل أن تسألوني، فمن لقيني منكم بشهادة أن لا إله إلا الله دخل الجنة ".
(ولكن رحمة من ربك) أي: ولكن فعلنا ذلك رحمة منا لكم، وقيل: ولكن أرسلنا بالقرآن رحمة لكم، وقيل: علمناك وقيل: عرفناك قال الأخفش: ولكن رحمناك رحمة، وقال الزجاج: أي فعلنا ذلك بك لأجل الرحمة. وقال الكسائي: ولكن كان ذلك رحمة، وقرئ رحمة بالرفع أي ولكن أنت رحمة.
(لتنذر قوماً ما أتاهم من نذير من قبلك) والقوم هم أهل مكة، فإنه لم يأتهم نذير ينذرهم قبله - صلى الله عليه وسلم - في زمان الفترة، بينه وبين عيسى وهو خمسمائة وخمسون سنة أو بينه وبين إسماعيل بناء على أن دعوة موسى وعيسى كانت مختصة ببني إسرائيل (لعلهم يتذكرون) أي: يتعظون بإنذارك.(10/127)
وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (47)
(ولولا أن تصيبهم مصيبة بما قدمت أيديهم) (لولا) هذه هي الامتناعية وأن وما في حيزها في موضع رفع بالابتداء، أي ولولا إصابة المصيبة لهم، وجوابها محذوف، قال الزجاج: تقديره ما أرسلنا إليهم رسلاً، يعني(10/127)
أن الحامل على إرسال الرسل إليهم هو إزاحة عللهم، فهو كقوله سبحانه (لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل) وقدره ابن عطية لعاجلناهم بالعقوبة ووافقه على هذا التقدير الواحدي، فقال: والمعنى لولا أنهم يحتجون بترك الإرسال إليهم لعاجلناهم بالعقوبة بكفرهم، قال السمين ولا معنى لهذا (فيقولوا) الفاء للسببية (ربنا لو أرسلت إلينا رسولاً) (لولا) هذه هي التحضيضية، أي: هلا أرسلت رسولاً من عندك وجوابها قوله (فنتبع آياتك) فلذلك نصب بإضمار أن.
أخرج ابن مردويه عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الهالك في الفترة يقول: رب لم يأتني كتاب ولا رسول ثم قرأ هذه الآية والمراد بالآيات: الآيات التنزيلية الظاهرة الواضحة. وإنما عطف القول على (تصيبهم) لكونه هو السبب للإرسال، ولكن العقوبة لما كانت هي السبب للقول، وكان وجوده بوجودها، جعلت العقوبة كأنها هي السبب للإرسال بواسطة القول، قاله في الكشاف، وأطال سليمان الجمل في بيان ذلك وذكر عبارة السمين، والشهاب، وغيرهما.
وقال أبو السعود: لولا قولهم هذا عند إصابة العقوبة لهم، بسبب جناياتهم، ما أرسلناك، ولكن لما كان قولهم ذلك محققاً لا محيد عنه، أرسلناك قطعاً لمعاذيرهم بالكلية (ونكون من المؤمنين) بهذه الآيات، ومعنى الآية أنا لو عذبناهم لقالوا طال العهد بالرسل، ولم يرسل الله إلينا رسولاً ويظنون أن ذلك عذر لهم، ولا عذر لهم بعد أن بلغتهم أخبار الرسل، ولكنا أكملنا الحجة وأزحنا العلة، وأتممنا البيان بإرسالك يا محمد إليهم.(10/128)
فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ (48)
(فلما جاءهم الحق من عندنا) أي: فلما جاء أهل مكة الحق من عند(10/128)
الله، وهو محمد - صلى الله عليه وسلم - وما أنزل عليه من القرآن:
(قالوا) تعنتاً منهم وجدالاً بالباطل. (ولولا) هلا (أوتي) هذا الرسول (مثل ما أوتي موسى) من الآيات كاليد، والعصا، وغيرهما، أو التوراة المنزلة عليه جملة واحدة، فأجاب الله عليهم بقوله:
(أولم يكفروا بما أوتي موسى من قبل) أي من قبل هذا القول، أو من قبل ظهور محمد - صلى الله عليه وسلم -، والمعنى أنهم قد كفروا بآيات موسى كما كفروا بآيات محمد حيث (قالوا ساحران تظاهرا) مستأنفة مسوقة لتقرير كفرهم وعنادهم والمراد بهما موسى ومحمد - صلى الله عليه وسلم -، والتظاهر التعاون، أي تعاوناً على السحر.
والضمير في (أولم يكفروا) لكفار قريش، وقيل: هو لليهود، والأول أولى، فإن اليهود لا يصفون موسى بالسحر إنما يصفه بذلك كفار قريش وأمثالهم، إلا أن يراد من أنكر نبوة موسى، كفرعون وقومه فإنهم وصفوا موسى وهارون بالسحر؛ ولكنهم ليسوا من اليهود، ويمكن أن يكون الضمير لمن كفر بموسى ومن كفر بمحمد - صلى الله عليه وسلم -، فإن الذين كفروا بموسى وصفوه بالسحر والذين كفروا بمحمد - صلى الله عليه وسلم - وصفوه أيضًا بالسحر، وقيل المعنى: أولم يكفر اليهود في عصر محمد - صلى الله عليه وسلم - بما أوتي موسى من قبله بالبشارة بعيسى ومحمد، قرأ الجمهور: ساحران، وقرأ الكوفيون سحران، يعنون التوراة والقرآن وقيل:
الإنجيل والقرآن، قال بالأول: الفراء، وقال بالثاني: أبو زيد، وقيل: إن
الضمير في (أولم يكفروا) لليهود وأنهم عنوا بقولهم ساحران: عيسى ومحمداً عليهما الصلاة والسلام، وقال ابن عباس في الآية هم أهل الكتاب.
(وقالوا إنا بكل كافرون) يعني بكل من موسى ومحمد أو من موسى وهارون؛ أو من موسى وعيسى، أو من عيسى ومحمد، أو بكل من التوراة والإنجيل والفرقان على اختلاف الأقوال، وفي هذه الجملة تقرير لما تقدمها من وصف النبيين بالسحر، أو من وصف الكتابين به، وتأكيد لذلك.(10/129)
قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (49) فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50) وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (51) الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (52) وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (53) أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (54)
ثم أمر الله سبحانه نبيه أن يقول لهم قولاً يظهر به عجزهم فقال:(10/130)
قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (49)
(قل) لهم يا محمد إذا لم تؤمنوا بهذين الكتابين وقلتم فيهما ما قلتم: (فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما) أي: من التوراة والقرآن وأوضح وأبين وهداية الخلق (أتبعه) جواب الأمر، وقد جزمه جمهور القراء لذلك. وقرئ بالرفع على الاستئناف. أي: فإن أتيتم به فأنا أتبعه وقال الفراء: إنه على هذه القراءة صفة الكتاب.
وفي هذا الكلام تهكم بهم وفيه أيضاً دليل على أن قراءة الكوفيين أقوى من قراءة الجمهور، لأنه رجع الكلام إلى الكتابين لا إلى الرسولين (إن كنتم صادقين) فيما وصفتم به الرسولين أو الكتابين.(10/130)
فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50)
(فإن لم يستجيبوا لك) أي: لم يفعلوا ما كلفوا به من الإتيان بكتاب هو أهدى من الكتابين، وهذا كقوله فإن لم تفعلوا، وقيل: المعنى فإن لم يستجيبوا لك بالإيمان بما جئت به، وتعدية يستجيبوا باللام هو أحد الجائزين، وجواب الشرط (فاعلم أنما يتبعون أهواءهم) أي: آراءهم الزائغة، واستحساناتهم الزائفة، بلا حجة ولا برهان، و (أنما) أداة حصر أي(10/130)
أنهم ليس لهم مستند في ذلك، ومتمسك يتمسكون به، وإنما لهم محض هواهم الفاسد.
(ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى)؟ الاستفهام إنكاري بمعنى النفي، أي: لا أحد أضل منه، بل هو الفرد الكامل في الضلال.
(إن الله لا يهدي القوم الظالمين) لأنفسهم بالكفر وتكذيب الأنبياء والإعراض عن آيات الله.(10/131)
وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (51)
(ولقد وصلنا لهم القول) قرئ بتشديد الصاد، وتخفيفها، ومعنى الآية أتبعنا بعضه بعضاً في الإنزال ليتصل التذكير، أو في النظم لتتقرر الدعوة بالحجة، والمواعظ بالمواعيد، والنصائح بالعبر، وبعثنا رسولاً بعد رسول، وقال أبو عبيدة، والأخفش: معناه أتممنا. وقال ابن عيينة والسدي: بينا وقال ابن زيد: وصلنا لهم خير الدنيا بخير الآخرة، حتى كأنهم عاينوا الآخرة في الدنيا والأول أولى، وهو مأخوذ من وصل الحبال بعضها ببعض. وقال مجاهد: جعلناه أوصالاً، أي: أنواعاً من المعاني والضمير في (لهم) عائد إلى قريش، وقيل: إلى اليهود، وقيل: للجميع (لعلهم يتذكرون) فيكون التذكر سبباً لإيمانهم، مخافة أن ينزل بهم ما نزل بمن قبلهم.(10/131)
الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (52)
(الذين آتيناهم الكتاب من قبله) أي: من قبل القرآن، وقيل: من قبل محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
(هم به) أي: بالقرآن، أو بمحمد - صلى الله عليه وسلم - (يؤمنون) أخبر سبحانه أن طائفة من بني إسرائيل آمنوا بالقرآن، كعبد الله بن سلام، وسائر من أسلم من أهل الكتاب، قيل: نزلت في ثمانين، أربعون، من نجران، واثنان وثلاثون من الحبشة، وثمانية من الشام، وقال ابن عباس يعني من آمن بمحمد - صلى الله عليه وسلم - من أهل الكتاب، والأول أولى.(10/131)
وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (53)
(وإذا يتلى) أي: القرآن: (عليهم قالوا آمنا به) أي: صدقنا به (إنه الحق) الذي نعرفه المنزل (من ربنا) استئناف لبيان ما أوجب إيمانهم به.
(إنا كنا من قبله مسلمين) أي مخلصين لله بالتوحيد، أو مؤمنين بمحمد - صلى الله عليه وسلم - وبما جاء به لما نعلمه من ذكره في التوراة والإنجيل من التبشير به، وأنه سيبعث آخر الزمان وينزل عليه القرآن.(10/132)
أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (54)
(أولئك) أي: الموصوفون بتلك الصفات (يؤتون أجرهم مرتين)
بإيمانهم بالكتابين منصوب على المصدر.
قال ابن عباس: نزلت في عشرة رهط، أنا أحدهم. أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين، رجل من أهل الكتاب آمن بالكتاب الأول والآخر ورجل كانت له أمة فأدبها فأحسن تأديبها، ثم أعتقها وتزوجها، وعبد مملوك أحسن عبادة ربه ونصح لسيده ".
(بما صبروا) أي: بسبب صبرهم وثباتهم على الإيمان بالكتاب الأول والكتاب الآخر. وبالنبي الأول والنبي الآخر، أو بالعمل بهما أو على الإيمان بالقرآن قبل النزول وبعده أو بصبرهم على أذى المشركين، وأهل الكتاب، ومن عاداهم من أهل دينهم.
(ويدرأون بالحسنة السيئة) الدرء الدفع أي: يدفعون بالاحتمال، والكلام الحسن، ما يلاقونه من الأذى، وقيل يدفعون بالطاعة، المعصية، وقيل: بالتوبة والاستغفار، الذنوب، وقيل: بالحلم، الأذى، وقيل بشهادة أن لا إله إلا الله، الشرك.
(ومما رزقناهم ينفقون) أي: ينفقون أموالهم في الطاعات، وفيما أمر به الشرع، ثم مدحهم سبحانه بإعراضهم عن اللغو فقال:(10/132)
وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ (55) إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56) وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (57) وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ (58)(10/133)
وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ (55)
(وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه) تكرماً وتنزهاً؛ وتأدباً بآداب الشرع ومثله قوله سبحان (وإذا مروا باللغو مروا كراماً)، واللغو هنا هو ما يسمعونه من المشركين من الشتم لهم ولدينهم، والاستهزاء بهم.
(وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم) لا يلحقنا من ضرر كفركم شيء ولا يلحقكم من نفع إيماننا شيء.
(سلام عليكم) ليس المراد بهذا السلام سلام التحية، ولكن المراد به سلام المتاركة والإعراض والفراق، ومعناه أمنة لكم منا، وسلامة، لا نجاوبكم ولا نجاريكم فيما أنتم فيه، ولا نقابل لغوكم بمثله. قال الزجاج: وهذا قبل الأمر بالقتال.
(لا نبتغي الجاهلين) أي: لا نطلب صحبتهم ومخالطتهم وقال مقاتل: لا نريد أن نكون من أهل الجهل والسفه، وقال الكلبي: لا نحب دينكم الذي أنتم عليه.(10/133)
إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56)
(إنك لا تهدي من أحببت) هدايته من الناس، وليس ذلك إليك (ولكن الله يهدي من يشاء) هدايته (وهو أعلم) أي عالم (بالمهتدين) أي: القابلين للهداية المستعدين لها.
أخرج البخاري ومسلم وغيرهما من حديث المسيب ومسلم وغيره من حديث أبي هريرة " أن هذه الآية نزلت في أبي طالب لما امتنع من الإسلام "، وقد تقدم ذلك في براءة قال الزجاج: أجمع المفسرون على أنها نزلت في أبي طالب.
وقد تقرر في الأصول أن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فيدخل في ذلك أبو طالب دخولاً أولياً، والآية حجة على المعتزلة لأنهم يقولون: الهدى هو البيان، وقد هدى الناس أجمع ولكنهم لم يهتدوا بسوء اختيارهم فدل أن وراء البيان ما يسمى هداية وهو خلق الاهتداء وإعطاء التوفيق والقدرة.(10/134)
وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (57)
(وقالوا إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا) أي: قال مشركو قريش، ومن تابعهم إن ندخل في دينك، ونعمل به يا محمد يتخطفنا العرب من مكة، وننتزع منها بسرعة ولا طاقة لنا بهما، وهذا من جملة أعذارهم الباطلة وتعللاتهم العاطلة، والتخطف في الأصل هو الانتزاع بسرعة، وقرئ نتخطف بالجزم على جواب الأمر، وبالرفع على الاستئناف، ثم رد الله ذلك عليهم رداً مصدراً باستفهام التوبيخ والتقريع، وألقمهم الحجر فقال:
(أولم نمكن لهم حرماً آمناً)؟ أي ألم نجعل لهم حرماً ذا أمن؟ أو مؤمناً يؤمن من دخله؟ قال أبو البقاء: عداه بنفسه لأنه بمعنى جعل، كما صرح بذلك في قوله " أولم يروا أنا جعلنا حرماً آمناً " ومكن متعد بنفسه من غير أن يضمن معنى جعل، كقوله: مكناهم فيما إن مكناكم فيه؛ وإسناد الأمن إلى(10/134)
أهل الحرم حقيقة، وإلى الحرم مجاز عقلي، ومن المعروف أنه كان تأمن فيه الظباء من الذئاب، والحمام من الحدأة، ثم وصف هذا الحرم بصفة أخرى، دافعة لما عسى يتوهم من تضررهم بانقطاع الميرة بقوله:
(يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ) أي: تجمع إليه الثمرات على اختلاف أنواعها من الأراضي المختلفة، وتحمل إليه من الشام، ومصر، والعراق، واليمن وتساق إليه، فمعنى الكلية الكثرة على سبيل المجاز، كقوله: وأوتيت من كل شيء، قرئ يجبى بالتحتية اعتبارا بتذكير كل شيء، ووجود الحائل بين الفعل وبين (ثمرات) وأيضاً ليس تأنيث ثمرات بحقيقي. وبالفوقية اعتباراً بثمرات وقرئ ثمرات بفتحتين وبضمتين؛ جمع ثمر بضمتين. وقرئ بفتح الثاء وسكون الميم.
(رزقاً من لدنا) أي: نسوقه إليهم رزقاً من عندنا أو رازقين (ولكن أكثرهم لا يعلمون) أن ما نقوله حق لفرط جهلهم، ومزيد غفلتهم، وعدم تفكرهم في أمر معادهم، ورشادهم، لكونهم ممن طبع الله على قلبه، وجعل على بصره غشاوة.(10/135)
وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ (58)
(وكم أهلكنا من قرية) أي: أهل قرية كانوا في خفض عيش ودعة ورخاء، رد لقولهم: إن نتبع الهدى معك نتخطف الخ بيَّن الله بهذا أن الأمر بالعكس، وأنهم أحقاء بأن يخافوا بأس الله ولا يغتروا بالأمن الحاصل لهم فكثير من أهل القرى كان حالهم كحال هؤلاء في الأمن والخصب.
ثم (بطرت) أي: طغت وتمردت وخسرت وأشرت (معيشتها) أي في زمن حياتها، وقال الكرخي: كفرت نعمة معيشتها، أي أيام حياتها وهي ما(10/135)
يعاش به من النبات والحيوان وغيرهما، يعني وقع منهم البطر فأهلكوا قال الزجاج البطر الطغيان عند النعمة.
وفي القاموس: البطر محركاً النشاط والأشر وقلة احتمال النعمة، والدهش والحيرة والطغيان بالنعمة، وكراهة الشيء من غير أن يستحق الكراهة، وفعل الكل كفرح، وبطر الحق أي: تكبر عنده فلا يقبله.
قال عطاء: عاشوا في البطر؛ فأكلوا رزق الله، وعبدوا الأصنام. وقال الزجاج والمازني: معناها بطرت في معيشتها فلما حذفت (في) تعدى الفعل كقوله واختار موسى قومه، وقال الفراء: هو منصوب على التفسير كما تقول بطرك مالك، وبطرته، ونظيره قوله تعالى؛ إلا من سفه نفسه، ونصب المعارف على التمييز غير جائز عند البصريين، لأن معنى التفسير أن تكون النكرة دالة على الجنس. وقيل إن معيشتها منصوبة ببطرت على تضمينه معنى جهلت
(فتلك مساكنهم) أي منازلهم باقية الآثار يشاهدونها في الأسفار، كبلاد ثمود، وقوم شعيب وغيرهم، قد خربت بما ظلموا.
(لم تسكن من بعدهم إلا قليلاً) أي: لم يسكنها أحد بعدهم إلا زمناً قليلاً كالذي يمر بها مسافراً فإنه يلبث فيها يوماً أو بعض يوم أو المعنى: لم يبق من يسكن فيها إلا أياماً قليلة لشؤم ما وقع فيها من معاصيهم، وقيل: إن الاستثناء يرجع إلى المساكن أي لم تسكن بعد هلاك أهلها إلا قليلة من المساكن وأكثرها خراب، كذا قال الفراء، وهو قول ضعيف
(وكنا نحن الوارثين) لها منهم لأنهم لم يتركوا وارثا يرث منازلهم وأموالهم، ولم يخلفهم أحد يتصرف تصرفهم في ديارهم وغيرها(10/136)
وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ (59) وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ (60) أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (61) وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (62)(10/137)
وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ (59)
(وما كان ربك) بيان للعادة الربانية أي: ما صح، ولا استقام، وما كان، وما ثبت في حكمه الماضي، وقضائه السابق أن يكون (مهلك القرى) الكافر أهلها قبل الإنذار (حتى يبعث) ويرسل (في أمها) أي أكبرها وأعظمها (رسولاً) ينذرهم.
و (يتلو عليهم آياتنا) أي تالياً عليهم آيات الله الدالة الناطقة بما أوجبه الله عليهم، وما أعده من الثواب للمطيع، والعقاب للعاصي، ومخبراً أن العذاب سينزل بهم إذا لم يؤمنوا، وخص الأعظم منها بالبعثة إليها لأن فيها أشراف القوم وأهل الفهم والرأي، وفيها الملوك والأكابر فصارت بهذا الاعتبار كالأم لما حولها من القرى وقال الحسن: أم القرى أولها، وقيل: المراد بأم القرى هنا مكة كما في قوله: (إن أول بيت وضع للناس) الآية، والالتفات إلى نون العظمة لتربية المهابة والروعة، وقد تقدم بيان ما تضمنته هذه الآية في آخر سورة يوسف.
(وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون) معطوفة على الجملة التي قبلها والاستثناء مفرغ من أعم الأحوال أي: وما كنا مهلكين لأهل القرى بعد أن نبعث إلى أمها رسولاً يدعوهم إلى الحق في حال من الأحوال إلا حال كونهم ظالمين قد استحقوا الإهلاك لإصرارهم على الكفر، بعد الإعذار إليهم،(10/137)
وتأكيد الحجة عليهم، كقوله سبحانه (وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون).(10/138)
وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ (60)
(وما أوتيتم) يا كفار مكة (من شيء) من الأشياء (فمتاع) أي فهو متاع (الحياة الدنيا) تتمتعون به مدة حياتكم، أو بعض حياتكم ثم تزولون عنه، أو يزول عنكم (وزينتها) تتزينون به أيام عيشكم، ثم يفنى وعلى كل حال فذلك إلى فناء وانقضاء.
(وما عند الله) من ثوابه وجزائه (خير) من ذلك الزائل الفاني لأنه لذة خالصة عن شوب الكدر (وأبقى) لأنه يدوم أبداً، وذلك ينقضي بسرعة.
(أفلا تعقلون) أن الباقي أفضل من الفاني وما فيه لذة خالصة غير مشوبة أفضل من اللذات المشوبة بالكدر، المنغصة بعوارض البدن والقلب قيل من لم يرجح الآخرة على الدنيا فليس بعاقل، قال الشافعي رحمه الله: من وصى بثلث ماله لأعقل الناس صرف إلى المشتغلين بطاعة الله، وقرئ؛ يعقلون بالياء، والتاء على الخطاب وهي أرجح لقوله وما أوتيتم.
وأخرج مسلم والبيهقي عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " يقول الله عز وجل يا ابن آدم مرضت فلم تعدني الحديث بطوله ".
وأخرج عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد عن عبد بن عبيد بن عمير قال: يحشر الناس يوم القيامة أجوع ما كانوا، وأعطش ما كانوا، وأعرى ما كانوا فمن أطعم لله عز وجل أطعمه الله ومن كسا لله عز وجل كساه الله، ومن سقى لله عز وجل سقاه الله ومن كان في رضاء الله كان الله في رضاه.(10/138)
أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (61)
(أفمن وعدناه وعداً حسناً) بالجنة وما فيها (من النعم) التي لا تحصى (فهو لاقيه) أي مدركه ومصيبه لا محالة، فإن الله لا يخلف الميعاد ولذلك جيء بالإسمية المفيدة لتحققه، وعطف بفاء السببية، والفاء الأول لترتيب(10/138)
إنكار التساوي بين أهل الدنيا وأهل الآخرة على ما قبلها من ظهور التفاوت بين متاعها وبين ما عند الله عز وجل.
(كمن متعناه متاع الحياة الدنيا)؟ المشوب بالأكدار المستتبع للتحسر على الانقطاع، فأعطي منه بعض ما أراد مع سرعة زواله. وتنغيصه عن قريب.
(ثم هو يوم القيامة من المحضرين) هذا معطوف على قوله: متعناه داخل معه في حيز الصلة مؤكد لإنكار التشابه ومقرر له، والمعنى ثم هذا الذي متعناه هو يوم القيامة من المحضرين النار، وتخصيص المحضرين بالذين أحضروا العذاب اقتضاه المقام. وفيه من التهويل ما لا يخفى أي ليس حالهما سواء فإن الموعود بالجنة لا بد أن يظفر بما وعد به مع أنه لا يفوته نصيبه من الدنيا، وهذا حال المؤمن.
وأما حال الكافر فإنه لم يكن معه إلا مجرد التمتع بشيء من الدنيا، يستوي فيه هو والمؤمن، وينال كل واحد منهما حظه منه؛ وهو صائر إلى النار، فهل يستويان؟
و (ثم) للتراخي في الزمان أو في الرتبة قيل: نزلت في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي جهل، أو في علي وحمزة وأبي جهل؛ أو في المؤمن والكافر، أو في عمار ابن ياسر والوليد بن المغيرة.(10/139)
وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (62)
(ويوم يناديهم) أي اذكر يوم ينادي الله سبحانه هؤلاء المشركين الذين عبدوا غير الله والقصد من هذا النداء توبيخهم وتقريعهم، بأن معبوداتهم لم تنفعهم في هذا الوقت (فيقول) لهم (أين شركائي الذين) عبدتموهم من دوني، وأثبَتُّم لهم شركة في استحقاق العبادة و (كنتم تزعمون) أنهم ينصرونكم ويشفعون لكم.(10/139)
قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ (63) وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ (64) وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (65) فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ (66)(10/140)
قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ (63)
(قال الذين حق عليهم القول) أي حقت عليهم كلمة العذاب، بدخول النار وهم رؤساء الضلال، الذين اتخذوهم أرباباً من دون الله كذا قال الكلبي وقال قتادة: هم الشياطين.
(ربنا هؤلاء الذين أغوينا) أي: دعوناهم إلى الغواية، يعنون الأتباع في الكفر (أغويناهنم كما غوينا) أي: أضللناهم كما ضللنا، وآثروا الكفر على الإيمان، كما آثرنا نحن، وكنا السبب في كفرهم، فقبلوا منا، فلا فرق إذاً بين غينا وغيهم، وإن كان تسويلنا لهم داعياً إلى الكفر، فقد كان في مقابلته دعاء الله تعالى لهم إلى الإيمان بما وضع فيهم من أدلة العقل، وما بعث إليهم من الرسل، وأنزل عليهم من الكتب المشحونة بالوعد والوعيد، والمواعظ والزواجر، وناهيك بذلك صارفاً عن الكفر، وداعياً إلى الإيمان.
(تبرأنا إليك) ممن أطاعنا؛ وهذا مقرر لما قبله، ولذلك لم يعطف، قال الزجاج: برئ بعضهم من بعض وصاروا أعداء، كما قال تعالى: (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ). (ما كانوا إيانا يعبدون) إنما كانوا يعبدون أهواءهم. قيل: ما مصدرية،(10/140)
أي تبرأنا إليك من عبادتهم إيانا والأول أولى.(10/141)
وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ (64)
(وقيل) للكفار من بني آدم تهكماً بهم وتبكيتاً لهم (ادعوا شركاءكم) أي: استغيثوا بآلهتكم التي كنتم تعبدونهم من دون الله في الدنيا لينصروكم ويدفعوا عنكم (فدعوهم) عند ذلك (فلم يستجيبوا لهم) ولا نفعوهم بوجه من وجوه النفع.
(ورأوا) أي التابع والمتبوع (العذاب) قد غشيهم (لو أنهم كانوا يهتدون) قال الزجاج جواب لو محذوف أي لأنجاهم ذلك ولم يروا العذاب، وقيل: المعنى دعوهم، وقيل: لو كانوا يهتدون في الدنيا لعلموا أن العذاب حق، وقيل: لو يهتدون بوجه من وجوه الحيل لدفعوا به العذاب، وقيل: قد آن لهم أن يهتدوا، لو كانوا يهتدون، وقيل: غير ذلك.(10/141)
وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (65)
(ويوم يناديهم) عطف على ما قبله فسئلوا أولاً عن إشراكهم، وثانياً عن جوابهم للرسل الذين نهوهم عن ذلك كما قال: (فيقول ماذا أجبتم المرسلين) أي ما كان جوابكم لمن أرسل إليكم من النبيين لما بلغوا رسالاتي.(10/141)
فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ (66)
(فعميت عليهم الأنباء يومئذ) أي خفيت عليهم الحجج حتى صاروا كالعمي الذين لا يهتدون، والأصل فعموا عن الأنباء، ولكنه عكس الكلام للمبالغة والأنباء الأخبار وأنما سمى حججهم أخباراً لأنها لم تكن من الحجة في شيء وإنما هي أقاصيص وحكايات وقرئ: عميت بضم العين وتشديد الميم.
(فهم لا يتساءلون) أي لا يسأل بعضهم بعضاً عن الجواب النافع وذلك لفرط الدهشة أو لعلمهم بأن الكل سواء في الجهل، وقيل: لا يسأل بعضهم بعضاً عن الأنساب، قاله مجاهد: ولا ينطقون بحجة، ولا يدرون بما ْيجيبون لأن الله قد أعذر إليهم في الدنيا فلا يكون لهم عذر ولا حجة يوم القيامة.(10/141)
فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ (67) وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (68) وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ (69) وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (70) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ (71)(10/142)
فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ (67)
(فأما من تاب) من الشرك (وآمن) وصدق بتوحيد الله (وعمل صالحاً) أي أدى الفرائض (فعسى أن يكون من المفلحين) أي الناجين بوعد الله الفائزين بمطالبهم من سعادة الدارين، وعسى وإن كانت في الأصل للرجاء فهي من الله واجب على ما هو عادة الكرام، وقيل: إن الترجي هو من قبل التائب المذكور لا من جهة الله سبحانه، أي فليتوقع الفلاح.(10/142)
وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (68)
(وربك يخلق ما يشاء) أن يخلقه، وفيه دلالة على خلق الأفعال (ويختار) ما يشاء أن يختار، لا يسأل عما يفعل؛ وهم يسألون؛ وهذا متصل بذكر الشركاء الذين عبدوهم واختاروهم، أي: الاختيار إلى الله.
(ما كان لهم الخيرة) أي التخير، وهو كالطيرة فإنها التطير؛ اسمان يستعملان استعمال المصدر وبمعنى المتخير كقولهم: محمد خيرة الله من خلقه. وقيل: المراد من الآية أنه ليس لأحد من خلق الله أن يختار شيئاً اختياراً حقيقياً بحيث يقدم على تنفيذه بدون اختيار الله، بل الاختيار هو إلى الله عز وجل،. يختار لطاعته أو لنبوته، أو المعنى يخلق محمداً ويختار الأنصار لدينه، وقيل: اختار من النعم ضأناً، ومن الطير الحمام، ولا وجه للتخصيص. والعموم أولى.(10/142)
وظاهر الآية نفي الاختيار عنهم رأساً، والأمر كذلك، فإن اختيار العباد مخلوق باختيار الله، منوط بدواع لا اختيار لهم فيها، وقيل: إن هذه الآية جواب عن قولهم: (لولا أنزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم) وقيل: جواب عن اليهود حيث قالوا: لو كان الرسول إلى محمد - صلى الله عليه وسلم - غير جبريل لآمنا به.
قال الزجاج: الوقف على (ويختار) تام على أن (ما) نافية قال: ويجوز أن يكون (ما) في موضع نصب بـ (يختار) والمعنى ويختار الذي كان لهم فيه الخيرة، والصحيح الأول لإجماعهم على الوقف، وقال ابن جرير: إن تقدير الآية ويختار لولايته الخيرة من خلقه. وهذا في غاية من الضعف، وجوز ابن عطية أن تكون (كان) تامة ويكون (لهم الخيرة) جملة مستأنفة. وهذا أيضاً بعيد جداً، ومن قال معناه ويختار للعباد ما هو خير لهم وأصلح، فهو مائل إلى الاعتزال، وقيل: إن (ما) مصدرية، أي يختار اختيارهم، والمصدر واقع موقع المفعول به، أي ويختار مختارهم، وهذا كالتفسير لكلام ابن جرير والراجح أول هذه التفاسير، ومثله قوله سبحانه: (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن تكون لهم الخيرة) وقد ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - في الصحيح تعليم الاستخارة، وكيفية صلاتها ودعائها، فلا نطول بذكرها، ثم نزه سبحانه نفسه فقال:
(سبحان الله) أي تنزه تنزهاً خاصاً به، من غير أن ينازعه منازع، أو يشاركه مشارك، أو يزاحم اختياره (وتعالى كما يشركون) أي عن الذين يجعلونهم شركاء له(10/143)
وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ (69)
(وربك يعلم ما تكن صدورهم) أي تخفيه قلوبهم وتسره من الشرك، أو من عداوة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحسده، أو من جميع ما يخفونه مما يخالف الحق (وما يعلنون) بألسنتهم من ذلك ويظهرونه، ثم تمدح نفسه سبحانه بالوحدانية، والتفرد بالاستحقاق للحمد، فقال:(10/143)
وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (70)
(وهو الله) أي هو المستأثر بالإلهية المختص بها، وقوله (لا إله إلا(10/143)
هو) تقرير لذلك (له الحمد في الأولى) أي في الدنيا (والآخرة) لأنه المولى للنعم كلها عاجلها وآجلها، يحمده المؤمنون في الآخرة، كما حمدوه في الدنيا والتحميد سمة على وجه اللذة لا على المكلفة، وهو قولهم: الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن، الحمد لله الذي صدقنا وعده، وقيل الحمد لله رب العالمين.
(وله الحكم) أي القضاء النافذ في كل شيء، فيقضي بين عباده بما شاء من غير مشارك (وإليه) لا إلى غيره (ترجعون) بالبعث والنشور، والخروج من القبور فيجازي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته.(10/144)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ (71)
(قل) لأهل مكة (أرأيتم)؟ أي أخبروني (إن جعل الله عليكم الليل سرمداً بإسكان الشمس تحت الأرض، أو بتحريكها حول الأفق الغائر، والسرمد هو الدائم المستمر، من السرد، وهو المتابعة والاطراد، فالميم زائدة كما في دلامص من الدلاص، ووزنه فعمل، وقيل: إن ميمه (1) أصلية، ووزنه فعلل لا فعمل، وهو الظاهر، بين لهم سبحانه أنه مهد لهم أسباب المعيشة ليقوموا بشكر النعمة، فإنه لو كان الدهر الذي يعيشون فيه ليلاً دائماً لا نهار معه (إلى يوم القيامة) لم يتمكنوا من الحركة فيه، وطلب ما لا بد لهم منه مما يقوم به العيش من المطاعم، والمشارب، والملابس، ثم امتن عليهم فقال:
(من إله غير الله يأتيكم)؟ أي هل لكم من إله بزعمكم من الآلهة التي تعبدونها يقدر على أن يرفع هذه الظلمة الدائمة عنكم (بضياء) أي بنور تطلبون فيه المعيشة، وتبصرون فيه ما تحتاجون إليه وتصلح ثماركم، وتنمو عنده زرائعكم، وتعيش فيه دوابكم والجملة صفة أخرى لـ (إله) عليها يدور التبكيت والإلزام (أفلا تسمعون)؟ هذا الكلام سماع فهم، وقبول، وتدبر وتفكر، وهذا توبيخ لهم على أبلغ وجه، ثم لما فرغ الله من الامتنان عليهم بوجود النهار؛ امتن عليهم بوجود الليل فقال:
_________
(1) إذا كانت ميمه أصلية فيكون فعله الماضي على وزن مصدره سرمد يسرمد سرمداً.(10/144)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (72) وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (73) وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (74) وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (75)(10/145)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (72)
(قل أرأيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمداً)؟ أي: جعل جميع الدهر الذي تعيشون فيه نهاراً (إلى يوم القيامة) لا ليل معه بإسكان الشمس في وسط السماء، أو تحريكها على مدار فوق الأفق.
(من إله غير الله)؟ بزعمكم (يأتيكم بليل تسكنون) أي تستقرون (فيه) من النصب والتعب. وتستريحون مما تزاولون من طلب المعاش والكبت.
(أفلا تبصرون)؟ هذه المنفعة العظيمة إبصار متعظ متيقظ، حتى تنزجروا عما أنتم فيه من عبادة غير الله، فإذا أقروا بأنه لا يقدر على ذلك إلا الله عز وجل، فقد لزمتهم الحجة، وبطل ما يتمسكون به من الشبهة الساقطة، وإنما قرن سبحانه بالضياء قوله أفلا تسمعون؟ لأن السمع يدرك ما لا يدرك البصر، ومن درك منافعه ووصف فوائده، وقرن بالليل قوله أفلا تبصرون، لأن غيرك يبصر من منفعة الظلام، ما تبصره أنت من السكون، ونحوه، البصر يدرك ما لا يدرك السمع من ذلك.(10/145)
وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (73)
(ومن رحمته) تعالى (جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه) أي في(10/145)
الليل (ولتبتغوا من فضله) أي في النهار بالسعي في المكاسب وفيه مدح للسعي في طلب الرزق، وهو لا ينافي التوكل (ولعلكم تشكرون) أي ولكي تشكروا نعمة الله عليكم، وهذه الآية من باب اللف والنشر، واعلم أنه وإن كان السكون في النهار ممكناً، وطلب الرزق في الليل ممكناً، وذلك عند طلوع القمر على الأرض، أو عند الاستضاءة بشيء مما له نور كالسراج، لكن ذلك قليل نادر، مخالف لما يألفه العباد فلا اعتبار به.(10/146)
وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (74)
(ويوم يناديهم فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون) كرر سبحانه هذا لاختلاف الحالتين، لأنهم ينادون مرة فيدعون الأصنام، وينادون أخرى فيسكتون وفي هذا التكرار أيضاً تقريع بعد تقريع وتوبيخ بعد توبيخ وإيذان بأنه لا شيء أجلب لغضب الله من الإشراك به، كما لا شيء أدخل في مرضاته من توحيده، أو الأول لتقرير فساد رأيهم، والثاني لبيان أنه لم يكن عن مستند وإنما هو محض تشبه وهوى.(10/146)
وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (75)
(ونزعنا) جاء بصيغة الماضي للدلالة على التحقيق أي أخرجنا (من كل أمة) من الأمم. (شهيداً) يشهد عليهم بما قالوا، قال مجاهد: هم الأنبياء وقيل: عدول كل أمة، والأول أولى، ومثله قوله سبحانه: (فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد، وجئنا بك على هؤلاء شهيداً ثم بين سبحانه ما يقوله لكل أمة من هذه الأمم بقوله:
(فقلنا) لهم: (هاتوا برهانكم) أي حجتكم ودليلكم بأن معي شركاء: فعند ذلك اعترفوا وخرسوا عن إقامة البرهان ولذا قال:
(فعلموا أن الحق لله) في الإلهية وأنه وحده لا شريك له (وضل عنهم ما كانوا يفترون) أي غاب عنهم غيبة الشيء الضائع، وبطل، وذهب ما كانوا يختلقون من الكذب في الدنيا بأن لله شركاء يستحقون العبادة، ثم عقب سبحانه حديث أهل الضلال بقصة قارون، لما اشتملت عليه من بديع القدرة، وعجيب الصنع فقال:(10/146)
إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76) وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77)(10/147)
إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76)
(إن قارون كان من قوم موسى) قارون على وزن فاعول اسم أعجمي، ممتنع للعجمة والعلمية. وليس بعربي مشتق من قرنت، قال الزجاج: لو كان قارون من قرنت الشيء لانصرف، قال النخعي وقتادة وغيرهما: كان ابن عم موسى، وهو قارون بن يصهر بن قاهث بن لاوي ابن يعقوب، وموسى هو ابن عمران بن قاهث. وقال ابن إسحاق: كان عم موسى لأب وأم، فجعله أخاً لعمران، وهما ابنا قاهث. وقيل: هو ابن خالة موسى، وكان يسمى: المنور، لحسن صورته، وكان من السبعين الذين اختارهم موسى للمناجاة فسمع كلام الله، قاله الرازي، ولم يكن في بني إسرائيل أقرأ للتوراة منه، فنافق كما نافق السامري، وخرج عن طاعة موسى وهو معنى قوله:
(فبغى) أي جاوز الحد في التجبر والتكبر، وطلب التفضل (عليهم) وأن يكونوا تحت أمره وحسد موسى على رسالته، وهارون على إمامته. وكفر بالله بعد ما آمن بهما، بسبب كثرة ماله، قال الضحاك: بغيه على بني إسرائيل: استخفافه بهم لكثرة ماله وولده، وقال قتادة: بغيه بنسبة ما آتاه الله من المال إلى نفسه لعلمه وحيلته. وقيل: كان عاملاً لفرعون على بني إسرائيل فتعدى عليهم وظلمهم. وقيل: كان بغيه بغير ذلك مما لا يناسب معنى الآية.(10/147)
(وآتيناه من الكنوز) جمع كنز وهو المال المدخر، سميت أمواله كنوزاً لأنه كان ممتنعاً من أداء الزكاة. قال عطاء: أصاب كنزاً من كنوز يوسف، وقيل: كان يعمل الكيمياء.
(ما إن مفاتحه) (ما) موصولة صلتها (إن) وما في حيزها، ولهذا كسرت، ونقل الأخفش الصغير عن الكوفيين منع جعل الكسورة وما في حيزها صلة الذي، واستقبح ذلك منهم لوروده في الكتاب العزيز في هذا الموضع، والمفاتح جمع مفتح بالكسر وهو ما يفتح به، وقيل: المراد بالمفاتح الخزائن، فيكون وأحدها مفتحاً بفتح الميم. وقال الواحدي: إن المفاتح الخزائن في قول أكثر المفسرين كقوله: وعنده مفاتح الغيب، قال: هو اختيار الزجاج قال: الأشبه في التفسير أن مفاتحه خزائن ماله، وقال آخرون: هي جمع مفتاح، وهو ما يفتح به الباب، فهذا قول قتادة ومجاهد.
وعن خيثمة قال: كانت مفاتيح كنوز قارون من جلود الإبل كل مفتاح مثل الأصبع، كل مفتاح على خزانة على حدة، فإذا ركب حملت المفاتيح على سبعين بغلاً أغر محجل، وعنه قال: وجدت في الإنجيل أن بغال مفاتيح خزائن قارون غر محجلة ما يزيد كل مفتاح منها على أصبع لكل مفتاح كنز. قال الشوكاني: لم أجد في الإنجيل هذا الذي ذكره خيثمة.
(لتنوء بالعصبة أولي القوة) أي لتثقل بالجماعة الأقوياء يقال نأى (1) بحمله إذا نهض به مثقلاً، ويقال نأى بي الحمل أي أثقلني، والمعنى يثقلهم حمل المفاتيح، فلا يستطيعون حملها. وقال الرازي: فلا يستطيعون ضبطها لكثرتها انتهى. قال أبو عبيدة: هذا من المقلوب، والمعنى: لتنوء بها العصبة، أي تنهض بها، قال أبو زيد: نأوت بالحمل إذا نهضت به، وقال الفراء معنى تنوء بالعصبة تميلهم بثقلها، كما يقال يذهب بالبؤس، ويذهب
_________
(1) ينظر في هذين المثالين فإنه لا صلة لهما بقوله تعالى لتنوء لأنه من باب ناء ينوء لا من باب نأى ينأى أي: من باب نصر ينصر لا من باب فتح يفتح فليحرر. المطيعي.(10/148)
البؤس، وذهبت به، وأذهبته، وجئت به، وأجأته ونؤت به، وأنأوته، اختار هذا النحاس، وبه قال كثير من السلف.
وقيل: هو مأخوذ من النأي، وهو البعد وهو بعيد. وقرئ لينوء بالتحتية أي لينوء الواحد منها، أو المذكور فحمل على المعنى أو التقدير حملها، أو ثقلها، وقيل الضمير في مفاتحه لقارون، فاكتسب المضاف من المضاف إليه التذكير، كقولهم: ذهبت أهل اليمامة قاله الزمخشري، والمراد بالعصبة الجماعة التي يتعصب بعضها لبعض، قيل: هي من الثلاثة إلى العشرة، وقيل من العشرة إلى الخمسة عشر، وقيل: ما بين العشرة إلى العشرين وقيل: من الخمسة إلى العشرة. وقيل: أربعون، وقيل: سبعون وقيل: غير ذلك. قال ابن عباس لا ترفعها العصبة من الرجال أولي القوة، والعصبة أربعون رجلاً.
(إذ قال له قومه لا تفرح) أي اذكر، والمراد بقومه هنا: هم المؤمنون من بني إسرائيل. وقال الفراء: هو موسى، وهو جمع أريد به الواحد، والمعنى لا تبطر، ولا تأشر، ولا تمرح بكثرة المال.
(إن الله لا يحب الفرحين) البطرين الأشرين، الذين لا يشكرون الله على ما أعطاهم، قال الزجاج: المعنى لا تفرح بالمال فإن الفرح بالمال لا يؤدي حقه. وقيل: المعنى لا تفسد، قال الزجاج: الفرحين والفارحين سواء، وقال الفراء: معنى الفرحين الذين هم في حال الفرح، والفارحين الذين يفرحون في المستقبل، وقال مجاهد: معنى لا تفرح لا تبغ، والفرحين الباغين. وقيل: معناه لا تبخل إن الله لا يحب الباخلين، وقال ابن عباس الفرحين المرحين، قيل: إنه لا يفرح بالدنيا إلا من رضي بها واطمأن، وأما ْمن قلبه إلى الآخرة ويعلم أنه يتركها عن قريب فلا يفرح بها.(10/149)
وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77)
(وابتغ فيما آتاك الله) أي واطلب فيما أعطاك الله من الأموال والثروة والغنى (الدار الآخرة) هي الجنة فأنفقه فيما يرضاه الله كصدقة وصلة رحم، وإطعام جائع، وكسوة عار، ونفقة على محتاج. لا في التجبر والبغي. وقرئ، واتبع.(10/149)
(ولا تنس نصيبك من الدنيا) قال جمهور المفسرين: وهو أن يعمل في دنياه لآخرته، ونصيب الإنسان عمره وعمله الصالح، قال الزجاج: معناه لا تنس أن تعمل لآخرتك لأن حقيقة نصيب الإنسان من الدنيا الذي يعمل به لآخرته، وقال الحسن وقتادة: معناه لا تضع حظك من دنياك في تمتعك بالحلال، وطلبك إياه، وهذا ألصق بمعنى النظم القرآني. وقال ابن عباس: إن تعمل فيها لآخرتك، وفسر بعضهم النصيب بالكفن، وعليه قول الشاعر:
نصيبك مما تجمع الدهر كله ... رداءآن تدرج فيهما وحنوط
وفسره البيضاوي بما يحتاج إليه منها، وفي الحديث: " اغتنم خمساً قبل خمس شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك " وهو مرسل. وهذا ما جرى عليه مجاهد، وابن زيد. وقيل: معناه خذ ما تحتاجه من الدنيا. وأخرج الباقي، وقيل: أمر أن يعدم الفضل ويمسك ما يغنيه.
(وأحسن كما أحسن الله إليك) الكاف للتشبيه، أي أحسن إحساناً كإحسان الله إليك، أو للتعليل، أي أحسن إلى عباد الله بما أنعم به عليك من نعم الدنيا لما أمره بالإحسان بالمال، أمره ثانياً بالإحسان مطلقاً. ويدخل فيه الإعانة بالمال والجاه، وطلاقة الوجه. وحسن اللقاء. وقيل أطع الله واعبده كما أنعم عليك، ويؤيده ما ثبت في الصحيحين وغيرهما: إن جبريل سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الإحسان فقال: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك.
(ولا تبغ الفساد في الأرض) أي: لا تعمل فيها بمعاصي الله (إن الله لا يحب المفسدين) في الأرض يعني أنه يعاقبهم.(10/150)
قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (78) فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ (80) فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ (81)(10/151)
قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (78)
(قال إنما أوتيته) أي المال (على علم عندي) قال قارون: هذه المقالة رداً على من نصحه بما تقدم. أي إنما أعطيت ما أعطيت من المال لأجل علمي. وليس تفضلاً. وهذا العلم الذي جعله سبباً لما ناله من الدنيا قيل هو علم التوراة وقيل علمه بوجوه المكاسب والزراعات، وأنواع التجارات، وقيل معرفة الكنوز والدفائن، وقيل علم الكيمياء، وقيل المعنى أن الله آتاني هذه الكنوز على علم منه باستحقاقي إياها لفضل علمه مني.
واختار هذا الزجاج، وأنكر ما عداه، ثم رد الله عليه قوله هذا فقال:
(أولم يعلم أن الله قد أهلك من قبله من القرون من هو أشد منه قوة وأكثر جمعاً)؟ للمال ولو كان المال، أو القوة يدلان على فضيلة لما أهلكهم الله. وقيل القوة الآلات، والجمع الأعوان. وهذا الكلام خارج مخرج التقريع والتوبيخ لقارون، لأنه قد قرأ التوراة، وعلم علم القرون الأولى، وإهلاك الله سبحانه لهم، أو سمعه من حفاظ التواريخ قاله الكرخي.
(ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون) أي لا يسألون سؤال استعتاب كما في قوله: ولا هم يستعتبون، وما هم من المعتبين، وإنما يسألون سؤال تقريع وتوبيخ ويحاسبون ويشدد(10/151)
عليهم كما في قوله تعالى: فوربك لنسألنهم أجمعين، وقال مجاهد: لا تسأل الملائكة عن المجرمين لأنهم يعرفون بسيماهم، فإنهم يحشرون سود الوجوه، زرق العيون. وقال قتادة: لا يسأل المجرمون عن ذنوبهم لظهورها وكثرتها، بل يدخلون النار بغير سؤال وحساب. وقيل لا يسأل مجرمو هذه الأمة عن ذنوب الأمم الخالية، أو المعنى يعترفون بها بغير سؤال وقيل: لا يسألهم الله عن كيفية ذنوبهم وكميتها إذا أراد أن يعاقبهم. قال ابن عادل: وأليق الوجوه بهذه الآية الاستعتاب.(10/152)
فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79)
(فخرج) قارون وكان خروجه يوم السبت (على قومه في زينته) أي بأتباعه الكثيرين، ركباناً متحلين بملابس الذهب والحرير، على خيول وبغال متحلية، قاله المحلي.
عن أوس بن أوس الثقفي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " خرج على قومه في أربعة آلاف بغل " (1). أخرجه ابن مردويه. وقد روى عن جماعة من التابعين أقوال في بيان ما خرج به على قومه من الزينة، ولا يصح منها شيء مرفوعاً، بل هي من أخبار أهل الكتاب كما عرفناك غير مرة، ولا أدري كيف إسناد هذا الحديث الذي رفعه ابن مردويه؟ فمن ظفر بكتابه فلينظر فيه. وقد ذكر المفسرون أيضاً في هذه الزينة التي خرج فيها روايات مختلفة، والمراد أنه خرج في زينة ابتهر لها من رآها، ولهذا تمنى الناظرون إليه أن يكون لهم مثلها كما حكى الله عنهم بقوله:
(قال الذين يريدون الحياة الدنيا) اختلف في هؤلاء القائلين بهذه المقالة فقيل: هم من مؤمني ذلك الوقت، تمنوا الدنيا ليتقربوا إلى الله تعالى، ولينفقوه في سبيل الخير، فتمنوا مثله لاعينه، حذراً من الحسد، وقيل: هم قوم من الكفار. (يا) للتنبيه (ليت لنا مثل ما أوتي قارون) في الدنيا (إنه لذو حظ عظيم) أي نصيب وبخت ودولة وافرة من الدنيا.
_________
(1) لا يصح مرفوعاً.(10/152)
وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ (80)
(وقال الذين أوتوا العلم) بما وعد الله في الآخرة، وهم أحبار بني إسرائيل، قالوا(10/152)
للذين تمنوا (ويلكم) كلمة زجر منصوبة بمقدر، أي ألزمكم الله ويلكم، قاله الزمخشري، ومثله في التبيان، وأصل ويلك الدعاء بالهلاك، ثم استعمل في الزجر والردع والبعث على ترك ما لا يرضي.
(ثواب الله) في الآخرة بالجنة (خير لمن آمن وعمل صالحاً) مما أوتي قارون في الدنيا، لأن الثواب منافعه عظيمة، خالصة عن شوائب المضار دائمة، وهذه النعم على الضد في هذه الصفات فلا تتمنوا عرض الدنيا الزائل الذي لا يدوم، وهذا بيان للمفضل عليه.
(ولا يلقاها) أي هذه الكلمة التي تكلم بها الأحبار وقيل: الضمير يعود إلى الأعمال الصالحة، وقيل إلى الجنة، والمعنى لا يفهمها ويوقف عليها ويوفق للعمل لها (إلا الصابرون) على طاعة الله، والمصبرون أنفسهم عن الشهوات، الراضون بقضاء الله في كل ما قسم من المنافع والمضار.(10/153)
فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ (81)
(فخسفنا به) أي بقارون (وبداره الأرض) يقال خسف المكان يخسف خسوفاً ذهب في الأرض، وخسف به الأرض خسفاً أي غاب به فيها والمعنى أن الله غيبه، وغيب داره في الأرض.
(فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله) أي ما له جماعة يدفعون ذلك الخسف عنه (وما كان) هو في نفسه (من المنتصرين) أي من المنتقمين من موسى، أو من الممتنعين من عذاب الله يقال نصره من عدوه فانتصر، أي منعه منه فامتنع.
أخرج ابن أبي شيبة في المصنف، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه، وابن مردويه عن ابن عباس قال: " كان قارون ابن عم موسى، وكان يتبع العلم حتى جمع علماً، فلم يزل في أمره ذلك حتى بغى على موسى وحسده، فقال له موسى: إن الله أمرني أن آخذ الزكاة فأبى، فقال إن موسى يريد أن يأكل أموالكم، جاءكم بالصلاة، وجاءكم بأشياء فاحتملتموها فتحتملون أن تعطوه أموالكم؟ فقالوا: لا نحتمل! فما ترى؟ فقال لهم: أرى أن أرسل إلى بغي من بغايا بني إسرائيل فنرسلها إليه(10/153)
فترميه بأنه أرادها على نفسها، فأرسلوا إليها فقالوا لها: نعطيك جعلك على أن تشهدي على موسى أنه فجر بك! قالت: نعم فجاء قارون إلى موسى فقال: اجمع بني إسرائيل فاخبرهم بما أمرك ربك، قال نعم فجمعهم فقالوا له: ما أمرك ربك؟ قال: أمرني أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاًً. وأن تصلوا الرحم، وكذا، وكذا، وأمرني إذا زنى الرجل وقد أحصن أن يرجم، قالوا: وإن كنت أنت؟ قال: نعم، قالوا: فإنك قد زنيت، قال: أنا؟ فأرسلوا للمرأة فجاءت فقالوا: ما تشهدين على موسى؟ فقال لها موسى: أنشدك بالله إلا ما صدقت، قالت: أما إذا أنشدتني بالله فإنهم دعوني، وجعلوا لي جعلاً على أن أقذفك بنفسي، وأنا أشهد أنك بريء، وأنك رسول الله، فخر موسى ساجداً يبكي، ويقول: يا رب إن كنت رسولك فاغضب لي، فأوحى الله إليه ما يبكيك؟ قد سلطناك على الأرض فمرها فتطيعك، فرفع رأسه فقال: خذيهم، فأخذتهم إلى أعقابهم، فجعلوا يقولون: يا موسى، يا موسى فقال: خذيهم فأخذتهم إلى ركبهم، فجعلوا يقولون: يا موسى، يا موسى، فقال: خذيهم فأخذتهم إلى أعناقهم، فجعلوا يقولون: يا موسى يا موسى، فقال خذيهم فأخذتهم فغشيتهم فأوحى الله إليه: يا موسى سألك عبادي وتضرعوا إليك فلم تجبهم، وعزتي لو أنهم دعوني لأجبتهم. قال ابن عباس: وذلك قوله: فخسفنا به وبداره الأرض خسف به إلى الأرض السفلى. ذكره الخازن، والقرطبي، وغيرهما بألفاظ.
وعن النبي - صلى الله عليه وسلم -: " من لبس ثوباً جديداً فاختال فيه خسف به من شفير جهنم، فهو يتجلجل فيها لا يبلغ قعرها، لأن قارون لبس جبة فاختال فيها فخسف الله به الأرض " رواه الحرث بن إسحاق من حديث ابن عباس وأبي هريرة بسند ضعيف جداً، قال الحافظ في الفتح: إن مقتضى هذا الحديث أن الأرض لا تأكل جسده فيمكن أن يلغز ويقال لنا: كافر لا يبلى جسده بعد الموت وهو قارون، ذكره ابن لقيمة، والتجلجل السوخ في الأرض، والتحرك والتضعضع، والجلجلة التحريك. قيل: إذا وصل قارون إلى قرار الأرض السابعة نفخ إسرافيل في الصور.(10/154)
وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (82) تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83) مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (84) إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (85) وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ (86) وَلَا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (87)(10/155)
وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (82)
(وأصبح) أي صار (الذين تمنوا مكانه) أي: منزلته ورتبته من الدنيا (بالأمس) أي منذ زمان قريب، ولم يرد خصوص اليوم الذي قبل يومه.
و (يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ) أي: يقول كل واحد منهم متندماً على ما فرط منه من التمني، قال النحاس: أحسن ما قيل في هذا ما قاله الخليل وسيبويه ويونس والكسائي: إن القوم تنبهوا فقالوا: وي، والمتندم من العرب يقول في خلال ندمه: وي، قال الجوهري: وي كلمة تعجب؛ ويقال: ويك، وقد تدخل وي على كأن المخففة والمشددة، ويكأن الله. قال الخليل: هي مفصولة تقول وي، ثم تبتدى فتقول: كأن، وقال الفراء: هي كلمة تقرير كقولك: أما نرى صنع الله وإحسانه، وقيل: هي كلمة تنبيه بمنزلة ألا، وقال قطرب: إنما هو ويلك فأسقطت لامه، وقال ابن الأعرابي والأخفش: معنى ويك أعلم، وقال القتيبي: معناها بلغة حمير رحمة لك؛ وقيل:(10/155)
هي بمعنى ألم تر؟ وروي عن الكسائي أنه قال: هي كلمة تفجع، وقيل: معناها أظن وأقدر.
(يبسط) أي: يوسع (الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر) أي، ويضيق على من يشاء، والمعنى: ليس الأمر كما زعمنا من أن البسط ينبئ عن الكرامة، والقبض ينبىء عن الهوان، بل كل منهما بمقتضى مشيئته.
(لولا أن منّ الله علينا) برحمته بعدم إعطاء ما تمنيناه، وعصمنا من مثل ما كان عليه قارون من البطر والبغي (لخسف بنا) كما خسف به، قرئ مبنياً للفاعل وللمفعول (ويكأنه لا يفلح الكافرون) أي: لا يفوزون بمطلب من مطالبهم تأكيد لما قبله.(10/156)
تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83)
(تلك) التي سمعت بخبرها، وبلغك شأنها (الدار الآخرة) أي: الجنة والإشارة إليها القصد التعظيم لها، والتفخيم لشأنها (نجعلها للذين لا يريدون علواً في الأرض) أي: رفعة وتكبراً على المؤمنين، وقيل: ظلماً، وقيل: استطالة على الناس، وتهاوناً بهم بالبغي.
(ولا فساداً) أي عملاً بمعاصي الله سبحانه فيها، كقتل النفس، والزنا، والسرقة، وشرب الخمر أو دعاء إلى عبادة غير الله. ولم يعلق الموعد بترك العلو والفساد، ولكن بترك إرادتهما وميل القلوب إليهما، كما قال: ولا تركنوا إلى الذين ظلموا، فعلق الوعيد بالركون.
وعن عمر بن عبد العزيز: أنه كان يرددها حتى قبض. وقال بعضهم: حقيقته التنفير عن متابعة فرعون وقارون متشبثاً بقوله: إن فرعون علا في الأرض، ولا تبغ الفساد في الأرض، وذِكر الفساد والعلو مُنَكَّرين في حيز النفي يدل على شمولهما لكل ما يطلق عليه أنه فساد، وأنه علو من غير تخصيص بنوع خاص؛ أما الفساد فظاهر أنه لا يجوز شيء منه كائناً ما كان وأما العلو فالممنوع منه ما كان على طريقة التكبر على الغير والتطاول على الناس؛ وليس منه طلب العلو في الحق والرياسة في الدين ولا محبة اللباس الحسن، والمركوب الحسن، والمنزل الحسن.(10/156)
عن أبي هريرة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الآية قال: " التجبر في الأرض والأخذ بغير الحق "، أخرجه المحاملي والديلمي. وروى مثله عن مسلم البطين، وابن جرير، وعكرمة. وقال سعيد بن جبير بغياً في الأرض. وعن الحسن قال: هو الشرف والعلو عند ذوي سلطانهم. وأقول: إن كان ذلك للتقوى به على الحق فهو من خصال الخير لا من خصال الشر. وعن علي ابن أبي طالب قال: إن الرجل ليحب أن يكون شسع نعله أفضل من شسع نعل صاحبه فيدخل في هذه الآية.
قال ابن كثير في تفسيره بعد ذكر هذه الرواية عن علي: وهذا محمول على من أحب ذلك لا بمجرد التجمل. فهذا لا بأس به، فقد ثبت أن رجلاً قال: يا رسول الله إني أحب أن يكون ثوبي حسناً، ونعلي حسنة، أفمن الكبر ذلك؟ قال: " لا، إن الله جميل يحب الجمال ".
وعن علي بن أبي طالب قال: نزلت هذه الآية في أهل العدل والتواضع من الولاة، وأهل القدرة من سائر الناس، وعن ابن عباس مثله.
وعن عدي بن حاتم قال: لما دخل على النبي - صلى الله عليه وسلم - ألقى إليه وسادة فجلس على الأرض فقال: " أشهد أنك لا تبغي علواً في الأرض ولا فساداً فأسلم " أخرجه ابن مردويه.
(والعاقبة) المحمودة (للمتقين) أي لمن اتقى عقاب الله بأداء أوامره واجتناب نواهيه، وقيل: عاقبة المتقين الجنة.(10/157)
مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (84)
(من جاء) يوم القيامة متصفاً (بالحسنة) بأن كان من المؤمنين، والحسنة ما يحمد فاعلها شرعاً، وسميت حسنة لحسن وجه صاحبها عند رؤيتها في القيامة، والمراد الحسنة المقبولة الأصلية المعمولة للعبد أو ما في حكمها، كما لو تصدق عنه غيره، لا المأخوذة في نظير ظلامتهم، كما لو ضرب زيد عمراً ضربة، وكان لزيد حسنات موجودة فيؤخذ منها فيعطى لعمرو، فهذه الحسنة لا تنسب لعمرو، لا حقيقة ولا حكماً فلا تضاعف له. وخرج بالمعمولة ما لو هم بحسنة فلم يعملها لمانع، فإنها تكتب له واحدة،(10/157)
ويجازى عليها من غير تضعيف.
(فله خير منها) وهو أن الله يجازيه بعشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف، والتضعيف خاص بهذه الأمة، وأما غير هذه الأمة من بقية الأمم فلا تضعيف لهم، والصواب دخول المضاعفة في حسنات العصاة إن كانت على وجه يتناوله القبول بأن يعملها على وجه لا رياء فيه ولا سمعة، وعدم دخولها في أعمال الكفار لأنه لا يجتمع مع الكفر طاعة مقبولة، إن لم يسلم، وإلا فتكون كالمقبولة في الإسلام، ولا تضاعف الحسنات الحاصلة بالتضعيف.
(ومن جاء بالسيئة فلا يجزى) معناه فلا يجزون فوضع (الذين عملوا السيئات) موضع الضمير لأن في إسناد عمل السيئة إليهم مكرراً فضل تهجين لحالهم، وزيادة تبغيض للسيئة إلى قلوب السامعين، والسيئة هي ما يذم فاعلها شرعاً صغيرة كانت أو كبيرة، وسميت سيئة لأن فاعلها يساء بها عند المجازاة عليها (إلا) مثل (ما كانوا يعملون) وحذف المثل، وأقيم مقامه ما كانوا الخ مبالغة في المماثلة، ومن فضله العظيم أن لا يجزي السيئة إلا بمثلها، ويجزي الحسنة بعشرة أمثالها وبسبعمائة، وقد تقدم بيان معنى هذه الآية في سورة النمل.(10/158)
إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (85)
(إن الذي فرض عليك القرآن) قال المفسرون: أي أنزل عليك، وقال الزجاج: فرض عليك العمل بما يوجبه القرآن، وتقدير الكلام فرض عليك أحكام القرآن وفرائضه. وقيل: أوجب عليك تلاوته وتبليغه، والعمل بما فيه، عن علي بن حسين بن واقد قال: " أنزلت هذه الآية على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالجحفة حين خرج - صلى الله عليه وسلم - مهاجراً إلى المدينة " فليست مكية ولا مدنية، كما مر في أول السورة (لرادك إلى معاد) قال جمهور المفسرين: أي إلى مكة وهذا أقرب التفاسير؛ وبه قال ابن عباس كما أخرجه البخاري عنه، وزاد كما أخرجك منها.
قال القتيبي: معاد الرجل بلده لأنه ينصرف فيعود إلى بلده، وقال مجاهد، وعكرمة، والزهري، والحسن: إن المعنى لرادك إلى يوم القيامة وهو(10/158)
اختيار الزجاج، يقال بيني وبينك المعاد: أي يوم القيامة لأن الناس يعودون فيه أحياء وقال أبو مالك، وأبو صالح: لرادك إلى الجنة وبه قال أبو سعيد الخدري؛ وروي عن مجاهد. وقيل إلى معاد أي إلى الموت.
(قل ربي أعلم من جاء بالهدى) وهو النبي - صلى الله عليه وسلم - لأنه الجائي به (ومن هو في ضلال مبين) وهم المشركون، وهذا جواب لكفار مكة لما قالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم - إنك في ضلال والأولى حمل الآية على العموم، وأن الله سبحانه يعلم حال كل طائفة من هاتين الطائفتين، ويجازيها بما تستحقه من خير وشر.(10/159)
وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ (86)
(وما كنت) قبل مجيء الرسالة إليك (ترجو) وتؤمل أن نرسلك إلى العباد، و (أن يلقى إليك الكتاب) فإنزاله عليك ليس عن ميعاد، ولا عن طلب سابق منك، وهذا تذكير له - صلى الله عليه وسلم - بالنعم، والاستثناء في قوله: (إلا رحمة من ربك) منقطع، أي: لكن إلقاؤه عليك رحمة من ربك، أو متصل حملاً على المعنى كأنه قيل: وما ألقى إليك الكتاب إلا لأجل الرحمة من ربك والأول أولى، وبه جزم الكسائي؛ والفراء، ثم أمره الله بخمسة أشياء فقال: (فلا تكونن ظهيراً للكافرين) أي: عوناً لهم، وفيه تعريض بغيره من الأمة، وقيل: المراد لا تكونن ظهيراً لهم بمداراتهم.(10/159)
وَلَا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (87)
(ولا يصدنك) قرئ من (1) صده يصده، ومن أصده بمعنى صده والمعنى لا يمنعنك يا محمد الكافرون، وأقوالهم، وكذبهم، وأذاهم (عن آيات الله) أي: عن تلاوتها، والعمل بها وتبليغها (بعد إذ أنزلت إليك) أي بعد إذ أنزلها الله إليك وفرضت عليك.
(وادع) الناس (إلى ربك) أي: إلى الله وإلى توحيده، والعمل بفرائضه واجتناب معاصيه (ولا تكونن من المشركين) بإعانتهم، وفيه تعريض بغيره، كما تقدم لأنه - صلى الله عليه وسلم - لا يكون منهم بحال من الأحوال وكذلك قوله:
_________
(1) القراءة الأولى هي قراءة الجمهور أما القراءة الأخرى فهي بضم المثناة التحتية وكسر الصاد المهملة. المطيعي.(10/159)
وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (88)
وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (88)
(ولا تدع مع الله إلهاً آخر) فإنه تعريض بغيره، ثم وحد سبحانه نفسهٍ ووصفها بالبقاء والدوام فقال: (لا إله إلا هو كل شيء) من الأشياء كائنا ما كان.
(هالك) في حد ذاته، لأن وجوده ليس ذاتياً، بل لاستناده إلى واجب الوجود، فهو بالقوة وبالذات معدوم حالاً، والمراد بالمعدوم ما ليس له وجود ذاتي، لأن وجوده كلا وجود، وأما حمل هالك على المستقبل فكلام ظاهري قاله الشهاب.
(إلا وجهه) أي: إلا ذاته. قال الزجاج: وجهه منصوب على الاستثناء ولو كان في غير القرآن كان مرفوعاً، بمعنى كل شيء غير وجهه هالك، وقضية الاستثناء إطلاق الشيء على الله تعالى، وهو الصحيح، لأن المستثنى داخل في المستثنى منه، وإنما جاء على عادة العرب في التعبير بالأشرف على الجملة ومن لم يطلقه عليه جعله متصلاً أيضاً، وجعل الوجه ما عمل لأجله سبحانه، فإن ثوابه باق قاله الكرخي.
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: " لما نزلت كل من عليها فإن قالت الملائكة: هلك أهل الأرض فلما نزلت كل نفس ذائقة الموت، قالت الملائكة: هلك كل نفس، فلما نزلت كل شي هالك إلا وجهه قالت الملائكة: هلك أهل السماء والأرض ". وعنه قال: إلا ما أريد به وجهه، والمستثنى من الهلاك والفناء ثمانية أشياء نظمها السيوطي في قوله:
ثمانية حكم البقاء يعمها ... من الخلق والباقون في حيز العدم
هي العرش، والكرسي ونار، وجنة وعجب وأرواح، كذا اللوح والقلم (له الحكم) أي القضاء النافذ يقضي بما شاء ويحكم بما أراد (وإليه) أي إلى جزائه، أو إليه وحده (ترجعون) في جميع أحوالكم في الدنيا وعند البعث ليجزي المحسن بإحسانه والمسيىء بإساءته لا إلى غيره سبحانه وتعالى.(10/160)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة العنكبوت
(هي تسع وتسعون آية قيل: مكية كلها)
قاله: ابن عباس، وابن الزبير، والحسن، وعكرمة وعطاء وجابر بن زيد وقيل: أنها مدنية كلها، وهو أحد قولي ابن عباس، وقتادة، وهو قول يحيى بن سلام.
وعن علي بن أبي طالب قال: نزلت بين مكة والمدينة وهذا قول ثابت.
وأخرج الدارقطني في السنن عن عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي في كسوف الشمس والقمر أربع ركعات وأربع سجدات يقرأ في الركعة الأولى العنكبوت أو الروم، وفي الثانية يس.(10/161)
بسم الله الرحمن الرحيم
الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2)(10/163)
الم (1)
(الم) الله أعلم بمراده به وقد تقدم الكلام على فاتحة هذه السورة مستوفى في أول سورة البقرة.(10/163)
أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2)
(أحسب الناس) الاستفهام للتوبيخ والتقريع. أو للتقرير، والحسبان قوة أحد النقيضين على الآخر، كالظن بخلاف الشك فهو الوقوف بينهما والعلم هو القطع على أحدهما، ولا يصح تعليقهما بمعاني المفردات، ولكن بمضامين الجمل (أن يتركوا أن يقولوا) أي لأن يقولوا أو بأن يقولوا أو على أن يقولوا (آمنا) أي نطقوا بكلمة الشهادة.
(وهم لا يفتنون) أي يتركون بغير اختبار، ولا ابتلاء وليس الأمر كما حسبوا بل لا بد أن نختبرهم حتى يتبين المخلص من المنافق والصادق من الكاذب والثابت في الدين من المضارب فيه فالآية مسوقة لإنكار ذلك الحسبان واستبعاده، وبيان أنه لا بد من الامتحان بأنواع التكاليف وغيرها؛ قال الزجاج: المعنى أحسبوا أن نقنع منهم بأن يقولوا إنا مؤمنون فقط؟ ولا يمتحنون بما يتبين به حقيقة إيمانهم؟ بل يمتحنون لتميز الراسخ في الدين من غيره.
قال السدي، وقتادة، ومجاهد: أي لا يبتلون في أموالهم وأنفسهم بالقتل والتعذيب، وسيأتي في بيان سبب نزول هذه الآيات ما يوضح معنى ما ذكرنا قال ابن عطية: وهذه الآية وإن كانت نازلة في سبب خاص - فهي باقية في(10/163)
أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -، موجود حكمها بقية الدهر، وذلك أن الفتنة من الله باقية في ثغور المسلمين بالأسر ونكاية العدو، وغير ذلك. والفتنة الامتحان بشدائد التكليف، من مفارقة الأوطان، والمهاجرة، ومجاهدة الأعداء، وسائر الطاعات الشاقة، وهجر الشهوات، وبالفقر والقحط وأنواع المصائب في الأنفس والأموال ومصابرة الكفار على أذاهم وكيدهم، لينالوا بالصبر عليها عوالي الدرجات، فإن مجرد الإيمان وإن كان عن خلوص لا يقتضي غير الخلاص من الخلود في العذاب.
أخرج عبد بن حميد، وابن المنذر، وابن جرير وغيرهم. أنها أنزلت في ناس كانوا بمكة وقد أقروا بالإسلام فكتب إليهم أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من المدينة لما أنزلت آية الهجرة أنه لا يقبل منكم إقرار، ولا إسلام حتى تهاجروا، قال: " فخرجوا عامدين إلى المدينة فاتبعهم المشركون فردوهم، فنزلت فيهم هذه الآية فكتبوا إليهم أنه قد أنزل فيكم كذا وكذا، فقالوا: نخرج فإن اتبعنا أحد قتلناه، فخرجوا فاتبعهم المشركون، فقاتلوهم فمنهم من قتل ومنهم من نجا، فأنزل الله فيهم: (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ)، وعن قتادة نحوه بأخصر منه، وقيل: نزلت في عمار بن ياسر إذ كان يعذب في الله، وعن ابن مسعود قال: أول من أظهر الله إسلامه سبعة، رسول الله، وأبو بكر، وسمية أم عمار، وعمار، وصهيب، وبلال، والمقداد، فأما رسول الله فمنعه الله بعمه أبي طالب، وأما أبو بكر فمنعه الله بقومه، وأما سائرهم فأخذهم المشركون فألبسوهم أدرع الحديد، وصهروهم في الشمس، فما منهم من أحد إلا وقد آتاهم على ما أرادوا إلا بلال فإنه هانت عليه نفسه في الله، وهان على قومه، فأخذوه وأعطوه الولدان، فجعلوا يطوفون به في شعاب مكة وهو يقول: أحد أحد (1).
_________
(1) أنظر إلى قصص " ابتلاء الصحابة ومحنهم " في كتب السيرة. سيرة ابن هشام مثلاً.(10/164)
وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (4) مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (5) وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (6) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (7) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ (9)(10/165)
وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3)
(ولقد فتنا الذين من قبلهم) أي هذه سنة الله في عباده قديمة، جارية في الأمم كلها، وأنه يختبر مؤمني هذه الأمة كما اختبر من قبلهم من الأمم كما جاء في غير موضع من قصص الأنبياء، وما وقع لهم من قومهم من المحن، وما اختبر الله به أتباعهم، ومن آمن بهم، من تلك الأمور التي نزلت بهم، فمنهم من نشر بالمنشار، ومنهم من قتل، ومنهم من ألقي في النار ومنهم من مشط بأمشاط الحديد، ما يصرفه ذلك عن دينه، وابتلي بنو إسرائيل بفرعون فكان يسومهم العذاب، والمقصود التنبيه على خطئهم في هذا الحسبان، والمعنى: أحسبوا ذلك؟ وقد علموا أنه خلاف سنة الله، ولن تجد لسنة الله تحويلاً.
(فليعلمن الله الذين صدقوا) في قولهم: آمنا، علم مشاهدة (وليعلمن الكاذبين) منهم في ذلك، أي ليظهر الله الصادق والكاذب في قولهم، ويميز بينهم، وقرئ بضم الياء وكسر اللام، والمعنى أنه يعلم(10/165)
الطائفتين في الآخرة بمنازلهم، أو يعلم الناس بصدق من صدق، ويفضح الكاذبين بكذبهم، أو يضع لكل طائفة علامة تشتهر بها وتتميز عن غيرها. وقيل: إن علم صفة يظهر فيها كل ما يقع، وما هو واقع، إلا أن قبل التكليف يعلم أن زيداً مثلاً سيطيع وعمراً سيعصي، ثم بعد التكليف يعلم أنه مطيع، والآخر عاص، ولا يتغير علمه في شيء من الأحوال، وإنما المتغير هو المعلوم، وأتى بصيغة الفعل في (صدقوا) وباسم الفاعل في (الكاذبين). لأن اسم الفاعل يدل على ثبوت المصدر في الفاعل، ورسوخه فيه، والفعل الماضي لا يدل عليه لأن وقت نزول الآية كانت الحكاية عن قوم قريبي العهد بالإسلام، وعن قوم مستمرين على الكفر، فعبر في حق الأولين بلفظ الفعل، وفي حق الآخرين بالصيغة الدالة على الثبات: قاله زاده.(10/166)
أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (4)
(أم حسب الذين يعملون السيئات) أي الشرك والمعاصي (أن يسبقونا) أي أن يفوتونا فلا ننتقم منهم، ويعجزونا قبل أن نؤاخذهم بما يعملون، و (أم) هي المنقطعة، ومعنى الإضراب فيها أن هذا الحسبان أبطل من الحسبان الأول، لأن ذلك يقدر أنه لا يمتحن لإيمانه، وهذا يظن أنه لا يجازى بمساويه، وقالوا: الأول في المؤمنين، وهذا في الكافرين المشركين.
(ساء ما يحكمون) أي بئس الذي يحكمونه حكمهم هذا. وقال الزجاج: (ما) في موضع نصب بمعنى ساء شيئاًً أو حكماً يحكمون، قال: ويجوز أن تكون (ما) في موضع رفع بمعنى ساء الشيء، أو الحكم حكمهم. وقال ابن كيسان: ساء حكمهم.(10/166)
مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (5)
(من كان يرجو لقاء الله) الرجاء بمعنى الطمع، قاله سعيد بن جبير، وقيل: الرجاء هنا بمعنى الخوف، قال القرطبي: وأجمع أهل التفسير على أن المعنى من كان يخاف الموت، وقيل البعث والحساب قال الزجاج: أي ثواب المصير إليه تعالى، فالرجاء على هذا معناه الأمل و (من) موصولة، أو شرطية، والجزاء(10/166)
قوله:
(فإن أجل الله) والراجح أنه ليس بجزاء، لأن أجله جاء لا محالة من غير تقييد بشرط، لأنه لو كان جواب الشرط لزم أن من لا يرجوه لا يكون أجل الله آتياً له، بل الجواب محذوف، أي فليعمل عملاً صالحاً، ولا يشرك بعبادة ربه أحداً، والمعنى من كان يرجو ويطمع لقاء الله فإن أجله المضروب للبعث والثواب والعقاب.
(لآت) أي لجاء لا محالة. قال مقاتل: يعني يوم القيامة. وفي الآية من الوعد والوعيد، والترهيب والترغيب ما لا يخفى (وهو السميع) لأقوال عباده (العليم) بما يسرونه وما يعلنونه.(10/167)
وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (6)
(ومن جاهد) الكفار، وجاهد نفسه بالصبر على الطاعات، أو جاهد الشيطان بدفع وساوسه (فإنما يجاهد لنفسه) أي ثواب ذلك له لا لغيره، ولا يرجع إلى الله سبحانه من نفع ذلك شيء، وهذا بحكم الوعد لا بحكم الاستحقاق فإن الكريم إذا وعد وفى، فالحصر إضافي، فلا يقال كيف يستقيم الحصر؟ مع أن جهاد الشخص قد ينتفع به غيره، كما ينتفع الآباء بصلاح الأولاد، وينتفع من سن سنة حسنة بفعل من استن بها، وقيل: المعنى ومن جاهد عدوه لنفسه لا يريد بذلك وجه الله فليس لله حاجة بجهاده، والأول أولى، وفيه بشارة وتخويف (إن الله لغني عن العالمين) من الإنس، والجن والملائكة، فلا يحتاج إلى طاعاتهم، كما لا تضره معاصيهم، وإنما أمر ونهى رحمة لعباده.(10/167)
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (7)
(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ) أي لنبطلنها حتى تصير بمنزلة ما لم يعمل؛ والتكفير إذهاب السيئة بالحسنة، والمراد بالسيئة الشرك والمعاصي وتكفيرها هو الإيمان والتوبة والآية تستدعي وجود السيئات(10/167)
حتى تكفر والوجه فيه أنه ما من مكلف إلا وله سيئة أما غير الأنبياء فظاهر وأما الأنبياء فلأن ترك الأفضل منهم كالسيئة من غيرهم، ولهذا قال تعالى: (عفا الله عنك لم أذنت لهم)؟
(ولنجزينهم أحسن الذي كانوا يعملون) أي: بأحسن جزاء أعمالهم، وقيل: بجزاء أحسن أعمالهم والمراد بأحسن مجرد الوصف لا التفضيل، لئلا يكون جزاؤهم بالحسن مسكوتاً عنه، وهذا ليس بشيء لأنه من باب الأولى فإنه إذا جازاهم بالأحسن جازاهم بما دونه فهو من التنبيه على الأدنى بالأعلى، وقيل: معناه نعطيهم أكثر مما عملوا، وأحسن منه كما في قوله: (من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها).(10/168)
وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8)
(وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا) أي إيصاء حسناً على المبالغة قاله الكواشي، أو ذا حسن، وهذا مذهب البصريين، أو أن يفعل حسناً قاله الكوفيون قال الزجاج: إن يفعل بوالديه ما يحسن وقيل: وصيناه أمراً ذا حسن؛ وقيل: ألزمناه حسناً، وقيل: وصيناه بحسن، وقيل: يحسن حسناً ومعنى الآية: التوصية للإنسان بوالديه؛ بالبر لهما والعطف عليهما والإحسان إليهما بكل ما يمكنه من وجوه الإحسان فيشمل ذلك إعطاء المال والخدمة ولين القول، وعدم المخالفة لهما وغير ذلك، قرئ حسناً بضم الحاء وإسكان السين، وبفتحهما، وقرئ إحساناً وكذا في مضحف أبيّ.
(وإن جاهداك لتشرك بي ما ليس لك به علم) أي: إن طلبا منك وألزماك أن تشرك بي إلهاً ليس لك علم بكونه إلهاً، وفي سورة لقمان (على أن تشرك بي) لأن ما هنا وافق ما قبله لفظاً وهو: (من جاهد فإنما يجاهد لنفسه) وما هناك محمول على المعنى لأن التقدير: وإن حملاك على أن تشرك، قاله الكرماني.(10/168)
(فلا تطعهما) في الإشراك وعبر بنفي العلم عن نفي الإله لأن ما لم يعلم صحته لا يجوز اتباعه فكيف بما علم بطلانه، وإذا لم تجز طاعة الأبوين في هذا المطلب مع المجاهدة منهما له فعدم جوازها مع مجرد الطلب بدون مجاهدة منهما أولى، ويلحق بطلب الشرك منهما سائر معاصي الله سبحانه. فلا طاعة لهما فيما هو معصية لله، كما صح ذلك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
أخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه عن سعد بن أبي وقاص قال: قالت أمي: لا آكل طعاماً، ولا أشرب شراباً حتى تكفر بمحمد - صلى الله عليه وسلم - فامتنعت من الطعام والشراب حتى جعلوا يشجرون فاها بالعصا، فنزلت هذه الآية إلى قوله: فلا تطعهما، وأخرجه أيضاً الترمذي من حديثه، وقال نزلت في أربع آيات، وذكر نحو هذه القصة، وقال: حسن صحيح، وقد أخرج هذا الحديث أحمد ومسلم، وأبو داود والنسائي أيضاً قال القرطبي: فلم يطعها سعد وقال لها: والله لو كان لك مائة نفس فخرجت نفساً نفساً ما كفرت بمحمد - صلى الله عليه وسلم -، فإن شئت فكلي، وإن شئت فلا تأكلي، فلما رأت ذلك أكلت قال الكرخي: هذا وما في لقمان والأحقاف نزل في سعد بن أبي وقاص.
(إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي أخبركم بصالح أعمالكم وطالحها، فأجازي كُلاًّ منكم بما يستحقه، وفي ذكر المرجع والوعيد تحذير من متابعتهما على الشرك، وحث على الثبات والاستقامة في الإيمان.(10/169)
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ (9)
(والذين آمنوا وعملوا الصالحات لندخلنهم في الصالحين) أي في زمرة الراسخين في الصلاح، وهذا أبلغ صفات المؤمنين، وهو متمنى الأنبياء عليهم السلام، قال سليمان عليه السلام: (وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين) وقال يوسف عليه السلام: (توفني مسلماً وألحقني بالصالحين) وقيل: لندخلنهم في مدخل الصالحين وهو الجنة. كذا قيل والأول أولى ومعنى إدخالهم فيهم كونهم معدودين من جملتهم لا اتصافهم أي نحشرهم معهم اللهم اجعلنا من عبادك الصالحين وارزقنا لسان صدق في الآخرين.(10/169)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ (10) وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ (11) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (12) وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ (13) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (14)(10/170)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ (10)
(ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذا أوذي) أي أصابه بلاء من الناس أو أذى من الكفار (في الله) أي في دين الله وسبيله ولأجله، كما يفعله أهل الكفر مع أهل الإيمان وكما يفعله أهل المعاصي مع أهل الطاعات وأصحاب البدع مع أصحاب السنة وأهل التقليد مع أهل الاتباع بل كل مبطل مع كل محق من إيقاع أنواع الأذى عليهم لأجل الإيمان بالله والعمل بما أمر به من كتاب وسنة.
(جعل فتنة الناس) التي هي ما يوقعونه عليه من الأذى وجزع من أذاهم فلم يصبر عليه وجعله في الشدة والعظم (كعذاب الله) فأطاع الناس كما يطيع الله من يخاف عقابه، وقيل: وهو المنافق إذا أوذي في الله رجع عن الدين فكفر وكان يمكنه أن يصبر على الأذى إلى حد الإكراه، ويكون قلبه مطمئناً بالإيمان، فجعل المنافقون فتنة الناس صارفة عن الإيمان كما أن عذاب الله صارف للمؤمنين عن الكفر، فعذاب الناس له دافع وعذاب الله ما له من دافع،(10/170)
وأيضاً عذاب الناس يترتب عليه ثواب عظيم، وعذاب الله بعده عقاب أليم، والمشقة إذا كانت مستتبعة للراحة العظيمة تطيب النفس لها، ولا تعدها عذاباً.
قال الزجاج: ينبغي للمؤمن أن يصبر على الأذية في الله.
أخرج أحمد والترمذي، وصححه، وابن ماجة وأبو يعلى وابن حبان، والبيهقي وغيرهم عن أنس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " لقد أوذيت في الله وما يؤذى أحد، ولقد أخفت في الله وما يخاف أحد، ولقد أتت علي ثالثة ومالي ولبلال طعام يأكله ذو كبد إلا ما وارى إبط بلال ".
(ولئن جاء نصر من ربك) أي فتح من الله للمؤمنين وغلبة على الأعداء وغنيمة يغنمونها منهم (ليقولن) بضم اللام حملاً على المعنى بعد الحمل على اللفظ، ونقل أبو معاذ النحوي أنه قرئ بالفتح جرياً على مراعاة لفظها أيضاً وقراءة العامة أحسن لقوله:
(إنا كنا معكم) في دينكم فأشركونا في الغنيمة، فالمراد المعية في الإيمان دون الصحبة في القتال لأنها غير واقعة، قاله الشهاب فكذبهم الله فقال:
(أوليس الله بأعلم بما في صدور العالمين)؟ من الإيمان به أي هو سبحانه أعلم بما فيها من خير وشر فكيف يدعون هذه الدعاوى الكاذبة، قيل: هم قوم ممن كان في إيمانهم ضعف. كانوا إذا مسهم الأذى من الكفار أو لم يجدوا من قوة الإسلام ونصر الله المؤمنين في موطن من المواطن قالوا: إنا كنا معكم يرضون بهذا وما قبله المنافقون، قال مجاهد: نزلت في ناس كانوا يؤمنون بالله بألسنتهم فإذا أصابهم بلاء من الله أو مصيبة في أنفسهم افتتنوا. وقال الضحاك: نزلت في ناس من المنافقين كانوا يؤمنون، فإذا أوذوا رجعوا إلى الشرك، وقيل: نزلت في الذين أخرجهم المشركون معهم إلى بدر، والظاهر أن هذا النظم من قوله: ومن الناس من يقول، إلى قوله: وقال الذين كفروا، نازلٌ في المنافقين لما يظهر من السياق، ولقوله.(10/171)
وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ (11)
(وليعلمن الله الذين آمنوا) بقلوبهم أي صدقوا فثبتوا على الإسلام عند البلاء (وليعلمن المنافقين) بترك الإيمان عند البلاء فإنه لتقرير ما قبله وتأكيده واللام في الفعلين لام قسم أي والله ليميزن الله بين الطائفتين ويظهر إخلاص المخلصين ونفاق المنافقين فيجازي الفريقين، فالمخلص الذي لا يتزلزل بما يصيبه من الأذى ويصبر في الله حق الصبر، ولا يجعل فتنة الناس كعذاب الله والمنافق الذي يميل هكذا وهكذا فإن أصابه أذى من الكافرين وافقهم وتابعهم، وكفر بالله عز وجل؛ وإن خفقت ريح الإسلام، وطلع نصره، ولاح فتحه رجع إلى الإسلام وزعم أنه من المسلمين وتغيير الأسلوب حيما عبر في الأول بالفعل، وفي الثاني باسم الفاعل تفنن لرعاية الفاصلة. قيل: هذه الآيات العشر من أول السورة إلى هاهنا مدنية، وباقي السورة مكي. قاله يحيى بن سلام.(10/172)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (12)
(وقال الذين كفروا) من أهل مكة كأبي سفيان وأتباعه (للذين آمنوا) اللام لام التبليغ أي قالوا مخاطبين لهم سبق بيانه في غير موضع، أي قالوا لهم:
(اتبعوا سبيلنا) أي اسلكوا طريقتنا، أو ادخلوا في ديننا (ولنحمل خطاياكم) أي إن كان اتباع سبيلنا خطيئة تؤاخذون بها عند البعث والنشور كما تقولون فلنحمل ذلك عنكم فنؤاخذ بها دونكم، قال مقاتل: يعني قولهم نحن الكفلاء بكل تبعة تصيبكم من الله واللام في لنحمل لام الأمر كأنهم أمروا أنفسهم بذلك. وقال الزمخشري: الأمر بمعنى الخبر وقرئ بكسر اللام وهو لغة الحجاز، ثم رد عليهم بقوله:
(وما هم بحاملين من خطاياهم من شيء) (من) الأولى بيانية، والثانية مزيدة للاستغراق، أي وما هم بحاملين شيئاًً من خطيئاتهم التي التزموا بها، وضمنوا لهم حملها، ثم وصفهم الله سبحانه بالكذب في هذا التحمل فقال:
(إنهم لكاذبون) فيما ضمنوا به من حمل خطاياهم، قال المهدوي هذا(10/172)
التكذيب لهم من الله عز وجل حمل على المعنى، لأن المعنى أن اتبعتم سبيلنا حملنا خطاياكم، فلما كان الأمر يرجع في المعنى إلى الخبر أوقع عليه التكذيب كما يوقع على الخبر.(10/173)
وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ (13)
(وليحملن أثقالهم) أي: أوزارهم التي عملوها، والتعبير عنها بالأثقال للإيذان بأنها ذنوب عظيمة (وأثقالاً مع أثقالهم) أي أوزاراً مع أوزارهم وهي أوزار من أضلوهم وأخرجوهم عن الهدى إلى الضلالة، ومثله قوله سبحانه: (لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ). ومثله قوله - صلى الله عليه وسلم -: " من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها " كما في حديث أبي هريرة الثابت في صحيح مسلم وغيره.
(وليسألن يوم القيامة) سؤال تقريع وتوبيخ (عما كانوا يفترون) أي: يختلقونه من الأكاذيب والأباطيل التي كانوا يأتون بها في الدنيا وأضلوهم بها، ومن جملتها هذا الوعد.(10/173)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (14)
(ولقد أرسلنا نوحاً إلى قومه) وعمره أربعون سنة أو أكثر، وبينه وبين آدم (1) ألف سنة، أجمل سبحانه قصة نوح تصديقاً لقوله في أول السورة (ولقد فتنا الذين من قبلهم) (فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً) فيه تثبيت للنبي - صلى الله عليه وسلم - كأنه قيل له: إن نوحاً لبث هذه المدة الكثيرة يدعو قومه ولم يؤمن منهم إلا قليل، فصبر وما ضجر، فأنت أولى بالصبر لقلة مدة لبثك، وكثرة عدد أمتك، قيل: ووقع في النظم:
(إلا خمسين عاماً) ولم يقل تسعمائة سنة وخمسين، لأن في الاستثناء تحقيق العدد بخلاف الثاني فقد يطلق على ما يقرب منه وذكر الألف أفخم وأوصل إلى الغرض. وجيء بالمميز أولاً بالسنة، ثم بالعام لأن تكرار لفظ واحد في كلام واحد حقيق بالاجتناب في البلاغة، ثم إنه خص لفظ العام بالخمسين إيذاناً بأن نبي الله لما استراح منهم بقي في زمن حسن، والعرب
_________
(1) لا دليل على هذا التحديد من كتاب ولا سنة. المطيعي.(10/173)
تعبر عن الخصب بالعام، وعن الجدب بالسنة.
وقد اختلف في مقدار عمر نوح عليه السلام، وليس في الآية إلا أنه لبث فيهم هذه المدة، وهي لا تدل على أنها جميع عمره، فقد تلبث في غيرهم قبل اللبث فيهم، وقد تلبث في الأرض من بعد هلاكهم بالطوفان، فقال ابن عباس: بعث الله نوحاً وهو ابن أربعين سنة، ولبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً يدعوهم إلى الله وعاش بعد الطوفان ستين سنة حتى كثر الناس، وفشوا.
وعن عكرمة قال: كان عمر نوح قبل أن يبعث إلى قومه، وبعد ما بعث ألفا وسبعمائة سنة، وعن عوف بن شداد قال: إن الله أرسل نوحاً إلى قومه وهو ابن خمسين سنة وثلثمائة سنة فلبث فيهم ألفاً إلا خمسين عاماً، ثم عاش بعد ذلك خمسين وثلثمائة سنة، وقال أبو السعود: عاش نوح بعد الطوفان مائتين وخمسين سنة فكان عمره ألفاً ومائتين سنة وأربعين وعن أنس ابن مالك قال: جاء ملك الموت إلى نوح فقال: يا أطول النبيين عمراً كيف وجدت الدنيا ولذتها؟ قال كرجل دخل بيتاً له بابان فقال (1) في وسط البيت هنية ثم خرج من الباب الآخر.
(فأخذهم الطوفان) أي الماء الكثير، طاف بهم وعلاهم فغرقوا، وارتفع على أعلى جبل أربعين ذراعاً، وقيل: خمسة عشر حتى غرق كل شيء غير من في السفينة والفاء للتعقيب، أي أخذهم عقب تمام المدة المذكورة، والطوفان يقال لكل شيء كثير، مطيف بجمع: محيط بهم، من مطر أو قتل أو موت، قاله النحاس. وقال سعيد بن جبير، وقتادة والسدي: هو المطر، وقال الضحاك: الغرق، وقيل: الموت، قال الشهاب: ولكنه غلب في الماء كما هو المراد هنا.
(وهم ظالمون) أي مستمرون على الظلم والشرك ولم ينجع فيهم ما وعظهم به نوح وذكرهم هذه المدة بطولها.
_________
(1) قال بمعنى القيلولة، وهي النوم في الظهيرة، تقول: قال يقيلُ قيلولةً معجم الصحاح للجوهري، باب اللام، فصل القاف، 5/ 1808، طبعة دار العلم للملايين، بيروت.(10/174)
فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ (15) وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (16) إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (17) وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (18)(10/175)
فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ (15)
(فأنجيناه وأصحاب السفينة) أي أنجينا نوحاً، وأنجينا من معه في السفينة من أولاده وأتباعه، واختلف في عددهم على أقوال، قيل: كانوا ثمانية وسبعين نفساً نصفهم ذكور ونصفهم إناث منهم أولاد نوح، سام، وحام، ويافث ونساؤهم.
(وجعلناها) أي السفينة (آية للعالمين) أي عبرة عظيمة لهم ولمن بعدهم من الناس إن عصوا رسولهم، وفي كونها آية وجوه:
أحدها: أنها كانت باقية على الجودي مدة مديدة، كذا قال قتادة.
وثانيها: إن الله سلم السفينة بأن جعلها آية وقيل: إن الضمير راجع في جعلناها إلى الواقعة أو القصة أو الحادثة أو إلى النجاة أو إلى العقوبة بالغرق.(10/175)
وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (16)
(وإبراهيم) انتصابه بالعطف على (نوحاً) وقال الكسائي: هو معطوف على الهاء في (جعلناها) وقيل: منصوب بمقدر، أي واذكر، وقرأ إبراهيم: النخعي، وأبو حنيفة رضي الله تعالى عنهما (وإبراهيم) بالرفع على معنى ومن المرسلين إبراهيم.(10/175)
(إذ قال) منصوب على الظرفية، أي وأرسلنا إبراهيم وقت قوله أو وجعلنا إبراهيم آية وقت قوله، أو اذكر إبراهيم وقت قوله (لقومه اعبدوا الله) أي أطيعوه وأفردوه بالعبادة وخصوه بها ووحدوه، وفيه إشارة إلى إثبات الإله (واتقوه) أن تشركوا به شيئاًً وفيه إشارة إلى نفي الغير لأن من يشرك مع الملك غيره في ملكه فقد أتى بأعظم الجرائم، وقيل: اعبدوا الله إشارة إلى الإتيان بالواجبات، وقوله: اتقوه إشارة إلى الامتناع من المحرمات، ثم يدخل في الأول الاعتراف بالله، وفي الثاني الامتناع من الشرك.
(ذلكم) أي عبادة الله وتقواه (خير لكم) من الشرك ولا خير في الشرك أبداً، ولكنه خاطبهم باعتبار اعتقادهم، وقيل: خير من كل شيء لأن حذف المفضل عليه يقتضي العموم مع عدم احتياجه إلى التأويل، إذ المراد بكل شيء كل شيء فيه خيرية، ويجوز كونه صفة لا اسم تفضيل (إن كنتم تعلمون) شيئاًً من العلم أو تعلمون علماً تميزون به بين ما هو خير وما هو شر وأن من المرسلين إبراهيم ثم ذكر إبراهيم بطلان مذهبهم بأبلغ وجه بقوله:(10/176)
إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (17)
(إنما تعبدون من دون الله أوثاناً) وبيَّن لهم أنهم يعبدون ما لا ينفع ولا يضر ولا يسمع ولا يبصر، والأوثان هي الأصنام، وقال أبو عبيدة: الصنم ما يتخذ من ذهب أو فضة أو نحاس: والوثن ما يتخذ من جص أو حجارة، وقال الجوهري: الوثن الصنم والجمع أوثان.
(وتخلقون إفكاً) أي وتكذبون كذباً على أن معنى تخلقون تكذبون قال الحسن: معنى تخلقون تنحون، أي إنما تعبدون أوثاناً وأنتم تصنعونها وهذا على قراءة الجمهور بفتح الفوقية وسكون الخاء وضم اللام مضارع خلق؛ وإفكاً بكسر الهمزة وسكون الفاء وقرأ علي بن أبي طالب وزيد بن علي والسلمي وقتادة بفتح الخاء واللام مشددة، والأصل تتخلقون، وروي عن زيد بن علي أنه(10/176)
قرأ بضم التاء وتشديد اللام مكسورة، وقرأ ابن الزبير، وفضيل بن ورقان: أَفِكاً بفتح الهمزة وكسر الفاء وهو مصدر كالكذب، أو صفة لمصدر محذوف، أي خلقاً أفكاً.
(إن الذين تعبدون من دون الله لا يملكون لكم رزقاً) أي لا يقدرون على أن يرزقوكم شيئاًً من الرزق (فابتغوا عند الله الرزق) أي اصرفوا رغبتكم في أرزاقكم إلى الله فهو الذي عنده الرزق كله، فاسألوه، واطلبوه من فضله.
(واعبدوه) أي وحدوه دون غيره (واشكروا له) على نعمائه ذكرهما بعد طلب الرزق لأن الأول أي العبادة سبب لحدوث الرزق والثاني أي الشكر موجب لبقائه وسبب لمزيد عليه، يقال شكرته وشكرت له.
(إليه) أي إلى محل جزائه تعالى (ترجعون) بالموت ثم بالبعث لا إلى غيره، فاستعدوا للقائه بعبادته: والشكر له على أنعمه، ولما فرغ من بيان التوحيد أتى بعده بالتهديد وقال:(10/177)
وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (18)
(وإن تكذبوا فقد كذب أمم من قبلكم) أي وإن تكذبوني فقد وقع ذلك لغيري ممن قبلكم فهو من قول إبراهيم، وقيل: هو من قول الله سبحانه، أي وإن تكذبوا محمد - صلى الله عليه وسلم - فذلك عادة الكفار مع من سلف كقوم شيث وإدريس ونوح وغيرهم، وقيل: هذا اعتراض متصل إلى قوله عذاب أليم، وقع تذكيراً لأهل مكة، وتحذيراً لهم.
(وما على الرسول إلا البلاغ المبين) لقومه الذين أرسل إليهم وليس عليه هدايتهم، وليس ذلك في وسعه، ولما بين الله تعالى الأصل الأول، وهو التوحيد وأشار إلى الثاني وهو الرسالة بقوله: ما على الرسول الخ شرع في بيان الأصل الثالث وهو الحشر، وهذه الأصول الثلاثة لا ينفك بعضها عن بعض في الذكر الإلهي فقال:(10/177)
أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (19) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20) يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (21) وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (22)(10/178)
أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (19)
(أولم يروا كيف يبدئ الله الخلق ثم يعيده)؟ قرئ بالتحتية على الخبر قال أبو عبيدة: كأنه قال أولم يَرَ الأمم، وقرئ بالفوقية على الخطاب من إبراهيم لقومه، وقيل هو خطاب من الله لقريش، وقرئ يبدي من أبدى يبدي ومن بدأ يبدئ، وقرئ (كيف بدأ) والمعنى: ألم يروا كيف يخلقهم الله ابتداء نطفة، ثم علقة، ثم مضغة ثم ينفخ فيهم الروح، ثم يخرجهم إلى الدنيا ثم يتوفاهم بعد ذلك. ثم هو يعيدهم كما بدأهم، وكذلك سائر الحيوانات وسائر النباتات.
فإذا رأيتم قدرة الله سبحانه على الابتداء والإيجاد فهو القادر على الإعادة والهمزة لإنكار عدم رؤيتهم، والواو للعطف على مقدر، والمراد بالرؤية العلم الواضح الذي هو كالرؤية، والعاقل يعلم أن البدء من الله لأن الخلق الأول لا يكون من مخلوق، وإلا لما كان الخلق الأول خلقاً أول فهو من الله.
(إن ذلك) أي الخلق الأول والثاني (على الله يسير) لأنه إذا أراد أمراً قال له كن فيكون، فكيف ينكرون الثاني، ثم أمر سبحانه إبراهيم أن يأمر قومه بالمسير في الأرض ليتفكروا ويعتبروا، فقال:(10/178)
قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20)
(قل) لمنكري البعث (سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق) على كثرتهم؛ واختلاف ألوانهم وطبائعهم، وألسنتهم، وانظروا إلى مساكن القرون الماضية، والأمم الخالية، وآثارهم، لتعلموا بذلك كمال قدرة الله، فإن من قدر على إنشائها بدءاً يقدر على إعادتهم، وقيل: إن المعنى قل لهم يا محمد سيروا ومعنى قوله (ثم الله ينشئ النشأة الآخرة) إن الله الذي بدأ النشأة الأولى وخلقها على تلك الكيفية، ينشئها نشأة ثانية عند البعث، أي فكما لم يتعذر عليه إحداثهم مبدئاً كذلك لا يتعذر عليه إنشاؤهم معيداً بعد الموت. ثانياً وهذا دليل على أنهما نشأتان وأن كل واحد منهما إنشاء أي ابتداء واختراع، وإخراج من العدم إلى الوجود، غير أن الآخرة إنشاء بعد إنشاء مثله، والأولى ليست كذلك، والجملة عطف على جملة: سيروا في الأرض داخلة معها في حيز القول.
قال ابن عباس: النشأة الآخرة: هي الحياة بعد الموت وهو النشور، قرئ النشأة بالقصر وسكون الشين، وبالمد وفتح الشين وهما لغتان كالرأفة والرآفة، وهي منتصبة على المصدرية بحذف الزوائد، والأصل الإنشاءة أو على حذف العامل أي ينشئ فينشئون النشأة (إن الله على كل شيء) من البداءة والإعادة (قدير) والجملة تعليل لما قبلها.(10/179)
يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (21)
(يعذب من يشاء) تعذيبه بعد النشأة الآخرة بالخذلان، وهم الكفار والعصاة (ويرحم) بالهداية (من يشاء) رحمته وهم المؤمنون به، المصدقون لرسله، العاملون بأوامره ونواهيه، أو المعنى: يعذب بالحرص، ويرحم بالقناعة، أو بسوء الخلق وحسنه، أو بالإعراض عن الله، وبالإقبال عليه، أو بمتابعة البدع، وبملازمة السنة، وقدم التعذيب في الذكر على الرحمة مع أن رحمته سابقة لأن السابق ذكر الكفار فذكر العذاب أولاً لسبق ذكر مستحقيه (وإليه) لا إلى غيره (تقلبون) أي ترجعون وتردون.(10/179)
وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (22)
(وما أنتم) الخطاب لبني آدم وهم من أهل الأرض وليس في وسعهم الهرب في السماء لكن المقصود امتناع الفوات على جميع الأحوال (بمعجزين) ربكم عن إدراككم (في الأرض) الفسيحة (ولا في السماء) التي هي أفسح منها، قال الفراء: ولا من في السماء بمعجزين الله فيها قال: وهو كما في قول حسان:
فمن يهجو رسول الله منكم ... ويمدحه وينصره سواء
أي: ومن يمدحه وينصره سواء، ومثله قوله تعالى: (وما منا إلا له مقام معلوم) أي إلا من له مقام معلوم، والمعنى أنه لا يعجزه سبحانه أهل الأرض في الأرض، ولا أهل السماء في السماء، إن عصوه. وقال قطرب: إن معنى الآية ولا في السماء لو كنتم فيها، كما تقول: لا يفوتني فلان هاهنا ولا بالبصرة، يعني ولا بالبصرة ولو صار إليها، وقال المبرد: المعنى ولا من في السماء، على أن من ليست موصولة بل نكرة، وفي السماء صفة لها فأقيمت مقام الموصوف ورده الأخفش ورجح ما قاله قطرب.
والمقصود بيان امتناع الفوات على جميع التقادير، ممكناً كان أو مستحيلاً وهذا إن حملت الأرض والسماء على المشهور من معناهما، ويجوز أن يراد بهما جهة السفل وجهة العلو، وقال هنا: (في الأرض ولا في السماء)، واقتصر في الشورى على الأرض لأن ما هنا خطاب لقوم فيهم النمرود الذي حاول الصعود إلى السماء، وقد حذفا معاً للاختصار في قوله في الزمر: (وما هم بمعجزين).
(وما لكم من دون الله) أي غيره (من ولي ولا نصير) من مزيدة للتأكيد، أي: ليس له ولي يواليه، ولا نصير ينصره، ويدفع عنه عذاب الله.(10/180)
وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (23) فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (24) وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (25) فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (26) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (27) وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (28)(10/181)
وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (23)
(والذين كفروا بآيات الله) أي التنزيلية أو التكوينية، أو جميعهما (ولقائه) أي أنكروا البعث وما بعده، ولم يعملوا بما أخبرتهم به رسل الله سبحانه، والإشارة بقوله (أولئك) إلى الكافرين بالآيات واللقاء.
(يئسوا من رحمتي) في الدنيا، ولم ينجع فيهم ما نزل من كتب الله، ولا ما أخبرتهم به رسله، وقيل: المعنى أنهم ييأسون يوم القيامة من رحمة الله وهي الجنة، وصيغة الماضي لدلالة علمه على تحقق وقوعه، وأضاف الرحمة إلى نفسه، ولم يضف العذاب إليها لسبق رحمته، وإعلاماً لعباده بعمومها لهم.
(وأولئك لهم عذاب أليم) تكرير الإشارة للتأكيد، ووُصف العذاب(10/181)
بكونه أليماً للدلالة على أنه في غاية الشدة وهذا آخر الآيات في تذكير أهل مكة، وقوله:(10/182)
فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (24)
(فما كان جواب قومه إلا أن قالوا) رجوع إلى خطاب إبراهيم بعد الاعتراض بما تقدم من خطاب محمد - صلى الله عليه وسلم - على قول من قال: إن قوله: (قل سيروا في الأرض) خطاب لمحمد - صلى الله عليه وسلم -، وأما على قول من قال: إنه خطاب لإبراهيم عليه السلام، فالكلام في سياقه سابقاً ولاحقاً: أي قال بعضهم لبعض عند المشاورة بينهم: لا تجيبوا عن براهينه الثلاثة الدالة على الأصول وهي التوحيد والنبوة والحشر، وافعلوا بإبراهيم أحد الأمرين.
(اقتلوه) بالسيف أو نحوه فتستريحوا منه عاجلاً (أو حرقوه) بالنار فإما أن يرجع إلى دينكم إذا أوجعته النار، وإما أن يموت بها إذا أصر على قوله ودينه وإنما أجابوا بذلك لعدم قدرتهم على الجواب الصحيح، ثم اتفقوا على تحريقه فقذفوه في النار.
(فأنجاه الله من النار) بأن جعلها عليه برداً وسلاماً، قيل: إن ذلك اليوم لم ينتفع أحد بنار، وذلك لذهاب حرها (إن في ذلك) أي في إنجاء الله لإبراهيم بعد إلقائه في النار (لآيات) أي: دلالات واضحة وعلامات ظاهرة، على عظيم قدرة الله، وبديع صنعه، حيث أضرموا تلك النار العظيمة، وألقوه فيها، ولم تحرقه، ولا أثرت فيه أثراً، بل صارت إلى حالة مخالفة لما هو شأن عنصرها، من الحرارة والإحراق. قال المحلي: هي عدم تأثيرها فيه، وإخمادها، وإنشاء روض مكانها في زمن يسير، انتهى. أي مقدار طرفة عين بحيث إنها لم تؤذه. ولكن أحرقت وثاقه لينحل.
(لقوم يؤمنون) أي يصدقون بتوحيد الله وقدرته، وإنما خص المؤمنون لأنهم الذين يعتبرون بآيات الله سبحانه، وينتفعون بها، وأما من عداهم فهم عن ذلك غافلون.(10/182)
وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (25)
(وقال) إبراهيم لقومه بعد الإنجاء من النار، ولم يحصل له منهم رعب ولا مهابة (إنما اتخذتم من دون الله أوثاناً مودة بينكم) أي للتودد بينكم والتواصل لاجتماعكم على عبادتها، وللخشية من ذهاب المودة فيما بينكم إن تركتم عبادتها، قرئ برفع مودة، وإضافتها إلى بينكم، وبالنصب منونة، ونصب بينكم على الظرفية (في الحياة الدنيا) أي ثم تنقطع ولا تنفع في الآخرة.
(ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض) أي يكفر بعض هؤلاء المتخذين للأوثان العابدين لها بالبعض الآخر منهم، فيتبرأ القادة من الأتباع والأتباع من القادة، وقيل: المعنى يتبرأ العابدون للأوثان من الأوثان، والأوثان من العابدين لها، يقولون، لا نعرفكم.
(ويلعن بعضكم بعضاً) أي كل فريق الآخر على التفسيرين المذكورين (ومأواكم النار) أي مأوى الكفار جميعاً، وقيل: يدخل في ذلك الأوثان (وما لكم من ناصرين) يخلصونكم منها بنصرتهم لكم.(10/183)
فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (26)
(فآمن له) أي لإبراهيم (لوط) فصدقه في جميع ما جاء به، وقيل: إنه لم يؤمن به إلا حين رأى النار لا تحرقه، وكأن لوط ابن أخي إبراهيم هاران، وقيل: ابن أخته، والأول أولى قال ابن عباس: آمن أي: صدق برسالته.
(وقال إني مهاجر إلى ربي) قال النخعي، وقتادة: الذي قال إني مهاجر هو إبراهيم. قيل: هو أول من هاجر إلى الله وترك بلده، وسار إلى حيث أمره الله بالمهاجرة إليه، قيل: هاجر وهو ابن خمس وسبعين سنة، وقال قتادة: هاجر من كوثى وهي قرية من سواد الكوفة إلى حران، ثم منها إلى فلسطين، وهي برية الشام، ثم إلى الشام ومعه ابن أخيه لوط، وامرأته سارة، وقد تزوجها ومن ثم قالوا: لكل نبي هجرة ولإبراهيم هجرتان، والمعنى إني مهاجر عن دار قومي إلى حيث أعبد ربي.(10/183)
عن أنس قال: أول من هاجر من المسلمين إلى الحبشة بأهله عثمان بن عفان، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - صحبهما الله، إن عثمان لأول من هاجر إلى الله بأهله بعد لوط أخرجه أبو يعلى، وابن مردويه، عن أسماء بنت أبي بكر قالت: هاجر عثمان إلى الحبشة فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " إنه أول من هاجر بعد إبراهيم ولوط " أخرجه ابن منده؛ وابن عساكر، عن زيد بن ثابت قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " ما كان بين عثمان وبين رقية وبين لوط، مهاجر "، أخرجه الطبراني، والحاكم في الكنى وابن عساكر.
(إنه هو العزيز الحكيم) أي: الغالب الذي أفعاله جارية على مقتضى الحكمة، وقيل: إن القائل: إني مهاجر إلى ربي هو لوط، والأول أولى لرجوع الضمير في قوله: ((10/184)
وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (27)
وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ) إلى إبراهيم وكذا الضمير في قوله:
قوله: (وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب، وآتيناه أجره في الدنيا) فإن هذه الضمائر كلها لإبراهيم بلا خلاف، يعني منَّ الله عليه بالأولاد فوهب له بعد إسماعيل بأربع عشرة سنة إسحاق ولداً له، ويعقوب ولداً لولده إسحق، وقول ابن عباس: هما ولدا إبراهيم لعله يريد ولده وولد ولده، لأن ولد الولد بمنزلة الولد، ومثل هذا لا يخفى على مثل ابن عباس، وهو حبر الأمة، وهذه عنه من رواية العوفي.
وفي الصحيحين: " إن الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف عليه السلام بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، وجعل من ذريته النبوة فلم يبعث الله نبياً بعد إبراهيم إلا من صلبه ونسله ".
ووحد الكتاب لأن الألف واللام فيه للجنس الشامل للكتب، والمراد التوراة والإنجيل والزبور والفرقان، ومعنى إيتاء الأجر في الدنيا أنه أعطي فيها(10/184)
الأولاد في غير أوانه وأخبر الله باستمرار النبوة فيهم، وذلك مما تقر به عينه، ويزداد به سروره. وقيل: أجره في الدنيا: إن أهل الملل كلها تدعيه، وتقول: هو منهم، ويثنون عليه الثناء الحسن، ويذكره أهل الإسلام في آخر كل تشهد إلى آخر الدهر، وقيل: أعطاه في الدنيا عملاً صالحاً، وعاقبة حسنة، وفيه دليل على أن الله تعالى قد يعطي الأجر في الدنيا. وعن ابن عباس قال: إن الله وصى أهل الأديان بدينه، فليس من أهل الأديان دين إلا وهم يقولون إبراهيم ويرضون به، وقال: أجر الدنيا الذكر الحسن، وقال أيضاً: الولد الصالح والثناء.
(وإنه في الآخرة لمن الصالحين) أي الكاملين في الصلاح المستحقين لتوفير الأجرة، وكثرة العطاء، والفوز بالدرجات العلا من الرب سبحانه(10/185)
وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (28)
(و) اذكر (لوطاً) وقال الكسائي: المعنى وأنجينا لوطاً، أو أرسلنا لوطاً (إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ) أي الخصلة المتناهية في القبح، وهي اللواطة قرئ بالاستفهام وبغيره.
(ما سبقكم بها من أحد من العالمين) الإنس والجن، مستأنفة مقررة لكمال قبح هذه الخصلة، وأنهم منفردون بذلك لم يسبق إلى عملها أحد من الناس على اختلاف أجناسهم قيل: لم ينز (1) ذكر على ذكر قبل قوم لوط من حيث إنها مما اشمأزت منه الطباع، وتحاشت عنه النفوس، حتى قدموا عليها لخبث طينتهم.
وهذه الآية دالة على وجوب الحد في اللواطة، لأنها اشتركت مع الزنا في كونها فاحشة، وقد قال تعالى: (ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة) هذا وإن كان قياساً إلا أن الجامع مستفاد من الآية، قاله الرازي، ثم بين سبحانه هذه الفاحشة فقال:
_________
(1) نزا ينزو نزواً ونزاء أي وثب. المطيعي.(10/185)
أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (29) قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ (30)(10/186)
أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (29)
(أئنكم لتأتون الرجال) أي: تلوطون بهم (وتقطعون السبيل) قيل: إنهم كانوا يفعلون الفاحشة بمن يمر بهم من المسافرين، فلما فعلوا ذلك ترك الناس المرور بهم، فقطعوا السبيل بهذا السبب، قال الفراء: كانوا يعترضون الناس في الطرق بعملهم الخبيث. وقيل: كانوا يقطعون الطريق على المارة: بقتلهم ونهبهم، والظاهر أنهم كانوا يفعلون ما يكون سبباً لقطع الطريق، من غير تقييد بسبب خاص، وقيل: إن معنى قطع الطريق قطع النسل بالعدول عن النساء إلى الرجال.
(وتأتون في ناديكم المنكر) النادي والندى والمنتدى مجلس القوم ومتحللهم، ولا يقال للمجلس ناد إلا ما دام فيه أهله، واختلف في المنكر الذي كانوا يأتونه فيه، فقيل: كانوا يحذفون الناس بالحصباء ويستخفون بالغريب.
وعن أم هاني بنت أبي طالب قالت: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن هذه الآية قال: " كانوا يجلسون بالطريق، فيخذفون أبناء السبيل، ويسخرون منهم ". أخرجه أحمد، والترمذي وحسنه، وقال: لا نعرفه إلا من حديث حاتم بن أبي صغيرة عن سماك.
وأخرج ابن مردويه عن جابر أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: " نهى عن الخذف "، وهو قول الله سبحانه (وتأتون في ناديكم المنكر) وعن ابن عمر قال: في(10/186)
الآية هو الخذف، وعن ابن عباس مثله. وقيل: كانوا يتضارطون في مجالسهم قالته عائشة، وقيل: كانوا يأتون الرجال في مجالسهم، وبعضهم يرى بعضاً، وقيل: كانوا يلعبون بالحمام، وقيل: كانوا يناقرون بين الديكة ويناطحون بين الكباش وقيل: يبزق بعضهم على بعض، ويلعبون بالنرد والشطرنج، ويلبسون المصبغات، وكان من أخلاقهم مضغ العلك وتطريف الأصابع بالحناء، وحل الإزار، والصفير، ولا مانع من أنهم كانوا يفعلون جميع هذه المنكرات، قال الزجاج: في هذا إعلام أنه لا ينبغي أن يتعاشر الناس على المنكر، وأن لا يجتمعوا على الهزء والمناهي، ولما أنكر لوط عليهم ما كانوا يفعلون أجابوا بما حكى الله عنهم بقوله:
(فما كان جواب قومه إلا أن قالوا ائتنا بعذاب الله إن كنت من الصادقين) أي: فما أجابوا بشيء إلا بهذا القول، رجوعاً منهم إلى التكذيب واللجاج والعناد، وقد تقدم الكلام على هذه الآية، وقد تقدم في سورة النمل (فما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوا آل لوط من قريتكم) وتقدم في الأعراف: (فما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوهم من قريتكم) وقد جمع بين هذه الثلاثة المواضع بأن لوطاً كان ثابتاً على الإرشاد ومكرراً للنهي لهم، والوعيد عليهم، فقالوا له أولاً، إئتنا بعذاب الله، كما في هذه الآية.
فلما كثر منه ذلك ولم يسكت عنهم قالوا: أخرجوهم كما في الأعراف والنمل، وقيل: أنهم قالوا أولاً أخرجوهم من قريتكم؛ ثم قالوا ثانياً: إئتنا بعذاب الله، ثم إن لوطاً لما يئس منهم طلب النصرة عليهم من الله سبحانه.
و(10/187)
قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ (30)
(قال رب انصرني على القوم المفسدين) بإنزال عذابك عليهم، وتحقيق قولي: إن العذاب نازل بهم. وإفسادهم هو ما سبق من إتيان الرجال، وعمل المنكر في ناديهم، فاستجاب الله سبحانه دعاءه، وبعث لعذابهم ملائكة، وأمرهم بتبشير إبراهيم قبل عذابهم ولهذا قال:(10/187)
وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ (31) قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (32) وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالُوا لَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (33) إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (34)(10/188)
وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ (31)
(ولما جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى) أي: بالبشارة بالولد وهو إسحاق وبولد الولد وهو يعقوب (قالوا) لإبراهيم: (إنا مهلكو أهل هذه القرية) وهي سدوم التي كان فيها قوم لوط قيل: كانت على مسيرة يوم وليلة من موضع إبراهيم عليه السلام (إن أهلها كانوا ظالمين) تعليل للإهلاك أي: إهلاكنا لهم بهذا السبب.(10/188)
قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (32)
(قال) لهم إبراهيم (إن فيها) أي: في هذه القرية (لوطاً) وهو غير ظالم فكيف تهلكونها؟ (قالوا نحن أعلم بمن فيها) من الأخيار والأشرار، ونحن أعلم من غيرنا بمكان لوط (لننجينه وأهله) من العذاب، قرئ لننجينه بالتخفيف والتشديد، وهما قراءتان سبعيتان.
(إلا امرأته كانت) في علم الله وحكمه الأزلي (من الغابرين) أي الباقين في العذاب، المنغمسين فيه، الذين لم يخلصوا منه بسبب أن الدال على الشر له نصيب كفاعله كما أن الدال على الخير كفاعله وهي كانت تدل القوم على أضياف لوط فصارت واحدة منهم، بسبب الدلالة وقيل: المعنى من الباقين في(10/188)
القرية التي سينزل بها العذاب فتعذب من جملتهم، ولا تنجو فيمن نجا، والغابر لفظ مشترك بين الماضي والباقي وقد تقدم تحقيقه.(10/189)
وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالُوا لَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (33)
(ولما أن جاءت رسلنا لوطاً) بعد مفارقتهم إبراهيم و (أن) زائدة وهو مطرد (سيء بهم) أي: جاءه ما ساءه وأخافه، لأنه ظنهم من البشر فخاف عليهم من قومه لكونهم في أحسن صورة من الصور البشرية.
(وضاق بهم ذرعاً) أي: عجز عن تدبيرهم، وحزن وضاق صدره وضيق الذراع كناية عن العجز وفقد الطاقة، كما يقال في الكناية عن الفقر: ضاقت يده، ومقابله رحب ذرعه بكذا إذا كان مطيقاً له، وذلك لأن طويل الذراع ينال ما لا يناله قصير الذراع، وقد تقدم تفسير هذا مستوفى في هود، ولما شاهدت الملائكة ما حل به من الحزن والتضجر.
(قالوا لا تخف) علينا من قومك (ولا تحزن) فإنهم لا يقدرون علينا (إنا منجوك وأهلك) من العذاب الذي أمرنا الله بأن ننزله بهم، قرئ منجوك بالتخفيف والتشديد، قال المبرد: التقدير وننجي أهلك (إلا امرأتك كانت من الغابرين) في العذاب.(10/189)
إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (34)
(إنا منزلون على أهل هذه القرية رجزاً من السماء) مستأنفة لبيان هلاكهم المفهوم من تخصيص التنجية به وبأهله، والرجز العذاب، أي: عذاباً من السماء، وهو الرمي بالحجارة، وقيل: إحراقهم بنار نازلة من السماء وقيل: هو الخسف والحصب كما في غير هذا الموضع، ومعنى كون الخسف من السماء: إن الأمر به نزل من السماء: وسمي العذاب بالرجز لأنه يقلق المعذب من قولهم: ارتجز إذا ارتجس، أي اضطرب، قرأ ابن عباس: منزلون بالتشديد وقرئ بالتخفيف (بما كانوا يفسقون) أي بسبب فسقهم.(10/189)
وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (35) وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (36) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (37) وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (38) وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ (39)(10/190)
وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (35)
(ولقد تركنا منها آية بينة) أي أبقينا من القرية علامة ودلالة بينة وهي الآثار التي بها من الحجارة التي رجموا بها، حتى أدركها أوائل هذه الأمة وخراب الديار، وآثار منازلهم الخربة: وقال مجاهد: هو الماء الأسود الباقي على وجه أرضهم، ولا مانع من حمل الآية. على جميع ما ذكر (لقوم) متعلق بتركنا أو بآية أو بينة وهو أظهر (يعقلون) أي: يتدبرون الآيات تدبر ذوي العقول، وخص من يعقل لأنه الذي يفهم أن تلك الآثار عبرة يعتبر بها من يراها.(10/190)
وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (36)
(وإلى مدين) هو اسم رجل، وقيل: اسم المدينة، فعلى الأول المعنى وأرسلنا إلى مدين وأولاده؛ وعلى الثاني: أرسلنا إلى أهل مدين (أخاهم شعيباً) قد تقدم ذكره، وذكر نسبه، وذكر قومه في سورة الأعراف وسورة هود، وأضيف شعيب هنا إليهم، بخلافه في قصة نوح وإبراهيم ولوط حيث ذكر قوم مؤخراً عنهم، معرفاً بالإضافة إلى ضمير كل واحد منهم، لأن الأصل في جميع المواضع أن يذكر القوم ثم يذكر رسولهم لأن الله لا يبعث رسولاً إلى غير معين.
غير أن قوم نوح وإبراهيم ولوط لم يكن لهم اسم خاص ولا نسبة(10/190)
مخصوصة يعرفون بها فعرفوا بالإضافة لنبيهم، فقيل: قوم نوح، وقوم لوط، وقوم إبراهيم، وأما قوم شعيب، وهود وصالح، فكان لهم نسب معلوم اشتهروا به عند الناس، فجرى الكلام على أصله، فقال: وإلى مدين أخاهم شعيباً، وإلى عاد أخاهم هوداً ذكره الرازي.
(فقال يا قوم اعبدوا الله) أي: أفردوه بالعبادة وخصوه بها، ولم يذكر عن لوط أنه أمر قومه بالعبادة والتوحيد، وذكر عن غيره ذلك لأن لوطاً كان في زمن إبراهيم، وإبراهيم سبقه بذلك حتى اشتهر الأمر بالتوحيد عند الخلق وإنما ذكر عنه ما اختص به من النهي عن الفاحشة وأما غيره فجاءوا في زمن غير مشتهر بالتوحيد؛ فأمروا به.
(وارجوا اليوم الآخر) أي: توقعوه وافعلوا اليوم من الأعمال ما يدفع عذابه عنكم، قال يونس النحوي: معناه اخشوا الآخرة التي فيها الجزاء على الأعمال وخافوه (ولا تعثوا في الأرض مفسدين) حال مؤكدة لعاملها، والعثو، والعثي أشد الفساد، وقد تقدم تفسيره.(10/191)
فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (37)
(فكذبوه) والتكذيب راجع إلى الإخبارات الضمنية، كأنه قال: الله واحد فاعبدوه، والحشر كائن فارجوه، والفساد محرم فلا تقربوه فلا يقال: إنه لا يكذب الآمر ولا الناهي وإنما يكذب المخبر.
(فأخذتهم الرجفة) أي: الزلزلة الشديدة وكذا في الأعراف، وقال في سورة هود: الصيحة، والقصة واحدة، قال ابن عباس: أي صيحة جبريل، وهي سبب الرجفة فرجفت الأرض من صيحته، والقلوب رجفت بها والإضافة إلى السبب لا تنافي الإضافة إلى سبب السبب.
(فأصبحوا في دارهم) أي في بلدهم وأرضهم أو منازلهم (جاثمين) أي: باركين على الركب ميتين.(10/191)
وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (38)
(وعاداً وثمود) بالصرف وتركه، بمعنى الحي والقبيلة، قال الكسائي: قال بعضهم: هو راجع إلى أول السورة أي ولقد فتنا الذين من قبلهم وفتنا عاداً(10/191)
وثمود، قال: وأحب إلي أن يكون معطوفاً على: فأخذتهم الرجفة، أي: وأخذت عاداً وثمود، وقال الزجاج التقدير: وأهلكنا عاداً وثمود. وقيل: المعنى اذكر عاداً وثمود إذا أرسلنا إليهم هوداً وصالحاً.
(وقد تبين) أي: ظهر (لكم) يا معشر الكفار، ويا أهل مكة (من مساكنهم) أي منازلهم الكائنة بالحجر والأحقاف واليمن آيات بينات تتعظون بها وتتفكرون فيها، وكانوا يمرون عليها في أسفارهم فيبصرونها.
(وزين لهم الشيطان أعمالهم) التي يعملونها من الكفر ومعاصي الله (فصدهم) بهذا التنزيين (عن السبيل) أي: الطريق الواضح الموصل إلى الحق (وكانوا مستبصرين) بواسطة الرسل؛ يعني لم يكن لهم في ذلك عذر لأن الرسل أوضحوا السبيل قاله الرازي. وقيل: مستبصرين في الضلالة، قاله ابن عباس، أي أهل بصائر يتمكنون بها من معرفة الحق بالاستدلال لكنهم لم يفعلوا. وقال الفراء: كانوا عقلاء ألباء ذوي بصائر في أمور الدنيا، فلم ينفعهم بصائرهم، وقيل: المعنى كانوا مستبصرين في كفرهم وضلالتهم معجبين بها، يحسبون أنهم على هدى، ويرون أن أمرهم حق، فوصفهم بالاستبصار على هذا باعتبار ما عند أنفسهم، أو متبينين أن العذاب لاحق لهم بإخبار الرسل لهم، ولكنهم لجوا حتى هلكوا.(10/192)
وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ (39)
(وقارون وفرعون وهامان) قال الكسائي: إن شئت كان معطوفاً على عاد، وكان فيه ما فيه؛ وإن شئت كان على: (فصدهم عن السبيل) أي وصد قارون الخ. وقيل: التقدير: وأهلكنا هؤلاء بعد أن جاءتهم الرسل. وقدم قارون على فرعون، لشرف نسبه بقرابته من موسى، لكونه ابن عمه، وهامان هو وزير فرعون.
(ولقد جاءهم موسى بالبينات) أي بالحجج الظاهرات، والدلالات الواضحات الباهرات (فاستكبروا في الأرض) عن عبادة الله (وما كانوا سابقين) أي فائتين عذابنا، فارين منه، يقال: سبق طالبه إذ فاته، وقيل: سابقين في الكفر، بل قد سبقهم إليه قرون كثيرة.(10/192)
فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (40) مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (42)(10/193)
فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (40)
(فكُلاًّ) من المذكورين (أخذنا بذنبه) أي عاقبنا بسبب كفره وتكذيبه، قال الكسائي: أي فأخذنا كُلاًّ بذنبه وفيه رد على من يجوز العقوبة بغير ذنب.
(فمنهم من أرسلنا عليه حاصباً) أي ريحاً تأتي بالحصباء، وهي الحصى الصغار فترجمهم بها. وهم قوم لوط، قاله ابن عباس.
(ومنهم من أخذته الصيحة) وهو ثمود وأهل مدين، قاله ابن عباس.
(ومنهم من خسفنا به الأرض) وهو قارون وأصحابه. قاله ابن عباس.
(ومنهم من أغرقنا) وهم قوم نوح؛ وفرعون قاله ابن عباس.
(وما كان الله ليظلمهم) بما فعل بهم فيعذبهم بغير ذنب لأنه قد أرسل إليهم رسله وأنزل إليهم كتبه (ولكن كانوا أنفسهم يظلمون) باستمرارهم على الكفر، وتكذيبهم للرسل، وعملهم بمعاصي الله وارتكابهم الذنوب.(10/193)
مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41)
(مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء) يوالونهم، ويتكلون عليهم في حاجاتهم من دون الله سواء كانوا من الجماد أو الحيوان، ومن الأحياء أو من الأموات (كمثل العنكبوت اتخذت بيتاً) لنفسها، تأوي إليه، وإن بيتها في(10/193)
غاية الضعف والوهن، لا يغني عنها شيئاًً لا في حر، ولا قر، ولا مطر كذلك ما اتخذوه ولياً من دون الله. فإنه لا ينفعهم بوجه من وجوه النفع ولا يغني عنهم شيئاًً شبه حال من اتخذ الأصنام والأوثان والأحبار والرهبان أولياء وعبدها، واعتمد عليها، راجياً لنفعها وشفاعتها، بحال العنكبوت التي اتخذت بيتاً لا يغني عنها في مطر ولا أذى. قال الفراء: هو مثل ضربه الله لمن اتخذ من دونه آلهة لا تنفعه ولا تضره، كما أن بيت العنكبوت لا يقيها حراً ولا برداً. قال: ولا يحسن الوقف على العنكبوت، لأنه لما قصد بالتشبيه لبيتها الذي لا يقيها من شيء، شبهت الآلهة التي لا تنفع ولا تضر به، وقد جوز الوقف على العنكبوت الأخفش وغلطه ابن الأنباري، قال لأن (اتخذ) صلة للعنكبوت. كأنه قال: كمثل العنكبوت التي اتخذت بيتاً، فلا يحسن الوقف على الصلة دون الموصول.
والعنكبوت تقع على الواحد والجمع؛ والمذكر والمؤنث، ونونه أصلية والواو والتاء مزيدتان، بدليل قولهم في الجمع عناكيب وفي التصغير عنيكيب، وهذا مطرد في أسماء الأجناس؛ ويجمع على عكاب وعكبة وأعكاب وعناكب. وعنكبوتات أيضاً وهي الدويبة الصغيرة التي تنسج نسجاً رقيقاً، وقد يقال لها عنكبات، والغالب في استعماله التأنيث.
(وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت) لا بيت أضعف منه، مما يتخذه الهوام بيتاً، ولا يدانيه في الوهن، والوهن شيء من ذلك، فإن الريح إذا هبت عليه أو لمسه لامس فلا يبقى له عين ولا أثر فكما أن أوهن البيوت بيته كذلك أضعف الأديان دين عبدة الأوثان، ومن يعبد غير الله أو يتخذه ولياً وأرباباً من دونه كمقتدي الأحبار والرهبان ومقلديهم.
(لو كانوا يعلمون) أن اتخاذهم الأولياء من دون الله كاتخاذ العنكبوت بيتاً، وأن أمر دينهم بلغ هذه الغاية من الوهن ما عبدوها، أو لو كانوا يعلمون شيئاًً من العلم لعلموا بهذا. قال ابن عباس في الآية: ذاك مثل(10/194)
ضربه الله لمن عبد غيره أن مثله كمثل بيت العنكبوت.
وأخرج أبو داود في مراسيله. عن يزيد بن مرثد قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " العنكبوت شيطان مسخه الله، فمن وجدها فليقتلها " وعن يزيد بن ميسرة قال " العنكبوت شيطان ".
وأخرج الخطيب عن عليّ قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " دخلت أنا وأبو بكر الغار، فاجتمعت العنكبوت فنسجت بالباب فلا تقتلوهن ".
وروى القرطبي في تفسيره عن عليّ أنه قال: طهروا بيوتكم من نسج العنكبوت فإن تركه في البيوت يورث الفقر، وعن عطاء الخراساني قال: نسجت العنكبوت مرتين مرة على داود عليه السلام، ومرة على النبي صلى الله عليه وسلم.(10/195)
إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (42)
(إن الله يعلم ما يدعون من دونه من شيء) ما استفهامية، أو نافية أو موصولة، ومن للتبيين، أو مزيدة للتأكيد. وقيل: التقدير قل للكافرين إن الله يعلم أي شيء تدعون من دونه من إنس وجن وملك وحبر، وراهب وغير ذلك، وجزم أبو علي الفارسي بأنها استفهامية، وعلى تقدير النفي كأنه قيل: يعلم أنكم لا تدعون من دونه من شيء يعني ما تدعونه ليس بشيء وهذا تأكيد للمثل وزيادة عليه، وعلى تقدير الموصولة: إن الله يعلم الذين تدعونهم من دونه، وهذا أظهر الأوجه فيها، كما قال الكرخي ويجوز أن تكون (ما) مصدرية و (من شيء) عبارة عن المصدر، وقرئ يدعون بالتحتية لذكر الأمم قبل هذه الآية وقرئ بالفوقية على الخطاب.
(وهو العزيز) الغالب المصدر أفعاله على غاية الإحكام والإتقان، وفيه تجهيل لهم حيث عبدوا جماداً وحيواناً لا علم له، ولا قدرة، وتركوا عبادة القادر القاهر على كل شيء (الحكيم) الذي لا يفعل كل شيء إلا بحكمة وتدبير.(10/195)
وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ (43) خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (44) اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ (45)(10/196)
وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ (43)
(وتلك الأمثال) أي هذا المثل وغيره من الأمثال التي في القرآن (نضربها للناس) تنبيهاً لهم وتقريباً لما بعد من أفهامهم (وما يعقلها) أي: ما يفهم صحتها وحسنها وفائدتها، ويتعقل الأمر الذي ضربناها لأجله (إلا العالمون) بالله وبأسمائه وصفاته، الراسخون في العلم، المتدبرون المتفكرون لما يتلى عليهم، وما يشاهدونه. لأن الأمثال والتشبيهات إنما هي الطرق إلى المعاني المستورة حتى تبرزها وتصورها للأفهام، كما صور هذا التشبيه بين حال المشرك وحال الموحد، ودلت الآية على فضل العلم على العقل ثم إنه تعالى لما أمر الخلق بالإيمان، وأظهر الحق بالبرهان، ولم يأت الكفار بما أمرهم، ولم يهتدوا بذلك إلى سواء السبيل، وحصل يأس الناس عنهم سلى المؤمنين بقوله:(10/196)
خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (44)
(خلق الله السماوات والأرض بالحق) أي: خلقهما متلبساً بالعدل والقسط مراعياً في خلقهما مصالح عباده، غير قاصد به باطلاً. وقيل: المراد بالحق كلامه وقدرته، والأول أولى، لأن المقصود بالذات من خلقهما إفاضة الخير والدلالة على ذاته وصفاته، كما أشار له بقوله:
(إن في ذلك لآية للمؤمنين) أي لدلالة عظيمة وعلامة ظاهرة على قدرته؛ وتفرده بالإلهية وخص المؤمنين لأنهم الذين ينتفعون بذلك بخلاف الكافرين، أي: فإن لم يؤمنوا فلا يضر ذلك في يقينكم وإيمانكم.(10/196)
اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ (45)
(اتل ما أوحي إليك من الكتاب) أي القرآن وفيه الأمر بالتلاوة للقرآن، والمحافظة على قراءته تقرباً إليه مع التدبر لآياته، والتفكر في معانيه من الأوامر والنواهي. (وأقم الصلاة) أي دم على إقامتها وجملة (إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر) تعليل لما قبلها، كأنه قيل: صل بهم إن الصلاة الخ والفحشاء ما قبح من العمل، كالزنا مثلاً؛ والمنكر ما لا يعرف في الشريعة أي تمنعه عن معاصي الله، وتبعده منها، ومعنى نهيها عن ذلك أن فعلها يكون سبباً للانتهاء عنهما، والمراد هنا الصلوات المفروضة المكتوبة، المؤداة بالجماعة قال ابن عباس وابن مسعودة في الصلاة منتهى ومزدجر عن المعاصي.
أخرج ابن مردويه، وابن أبي حاتم عن عمران بن حصين قال: سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن قول الله هذا فقال: " من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر فلا صلاة له ".
وأخرج الطبراني، وغيره عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد بها من الله إلا بعداً ".
وعن الحسن قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر فلا صلاة له ". أخرجه عبد بن حميده، وابن جرير، والبيهقي، وأخرج الخطب عن ابن عمر مرفوعاً نحوه. وأخرج عبد بن حميد، وغيره عن ابن مسعود مرفوعاً نحوه. قال السيوطي: وسنده ضعيف. قال ابن كثير في تفسيره: والأصح في هذا كله الموقوفات عن ابن مسعود، وابن عباس، والحسن، وقتادة، والأعمش، وغيرهم.
وقيل: من داوم على الصلاة جره ذلك إلى ترك المعاصي والسيئات كما روي عن أنس قال: كان فتى من الأنصار يصلي الصلوات مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم لم يدع من الفواحش شيئاًً إلا ركبه فذكر ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: إن صلاته ستنهاه يوماً، فلم يلبث أن تاب وحسنت حاله.(10/197)
وقيل: معنى الآية أنه ما دام في صلاته فإنها تنهاه عن الفحشاء والمنكر، ومنه قوله: إن في الصلاة لشغلاً، وقيل: تنهى عنهما مطلقاً في سائر الأوقات لأن الصلاة تشغل جميع بدن المصلي، فإذا دخل في المحراب خشع، وأخبت لربه، وتذكر أنه واقف بين يدي مولاه، وأنه تعالى مطلع عليه، وأنه يراه فصلحت لذلك نفسه، وتذللت، وخامرها ارتقاب الله تعالى، وظهرت على جوارحه هيئتها، ولو بعد خروجه منها، ولم يكد يفتر عن ذلك حتى تظله صلاة أخرى، يرجع بها إلى أفضل حاله، فهذا معنى هذه الآية، لأن صلاة المؤمن هكذا ينبغي أن تكون.
لا سيما وإن أشعر نفسه أن هذا ربما يكون آخر عمله، فهو أبلغ في المقصود، وأتم في المراد، فإن الموت ليس له سن محدود، ولا زمن مخصوص، ولا مرد معلوم، وهذا مما لا خلاف فيه. روي عن بعض السلف أنه كان إذا قام إلى الصلاة ارتعد واصفر لونه، فكلم في ذلك فقال: إني واقف بين يدي الله، وحق لي هذا مع ملوك الدنيا، فكيف مع ملك الملوك، فهذه صلاة تنهى ولا بد عن الفحشاء والمنكر، ومن صلاته قاصرة على الإجزاء، أي إسقاط الطلب عن المكلف، ولا خشوع فيها، ولا تذكر، ولا فضائل كصلاتنا، فتلك تنزل صاحبها من منزلته حيث كان.
فإن كان مرتكباً للمعاصي قد بعد من الله بسببها، فتلك الصلاة تتركه يتمادى على بعده. وقيل لابن مسعود: إن فلاناً كثير الصلاة، فقال: إنها لا تنفع إلا من أطاعها، ذكره القرطبي. ويل: أراد بالصلاة القرآن، وفيه ضعف، لتقدم ذكر القرآن، والأول أولى، وعلى كل حال فإن المراعي للصلاة لا بد وأن يكون أبعد عن الفحشاء والمنكر ممن لا يراعيها.
(ولذكر الله) بسائر أنواعه من تحميد، وتهليل، وتسبيح، وغير ذلك (أكبر) من كل شيء أي: أفضل من العبادات كلها بغير ذكر، وقد نقل القرطبي هذا التقييد عن ابن زيد وقتادة. قال ابن عطية: وعندي أن المعنى(10/198)
ولذكر الله أكبر على الإطلاق، أي هو الذي ينهى عن الفحشاء والمنكر، فالجزء الذي منه في الصلاة يفعل ذلك، وكذلك يفعل ما لم يكن منه في الصلاة لأن الانتهاء لا يكون إلا ممن ذكر الله مراقباً له وقيل: ذكر الله أكبر من الصلاة في النهي عن الفحشاء والمنكر، مع المداومة عليه، قال الفراء وابن قتيبة: المرد بالذكر هنا الصلاة، والصلاة أكبر من سائر الطاعات وعبر عنها بالذكر كما في قوله فاسعوا إلى ذكر الله للدلالة على أن ما فيها من الذكر هو العمدة في تفضيلها على سائر الطاعات، وكونها ناهية عن السيئات وقيل: عبر عنها بالذكر ليستقل بالتعليل كأنه قال: والصلاة أكبر لأنها ذكر الله.
وقيل: المعنى ولذكر الله لكم بالثواب والثناء عليكم منه أكبر من ذكركم له في عبادتكم وصلواتكم، واختار هذا ابن جرير، ويؤيده حديث من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم. وقال ابن عباس: يقول ولذكر الله لعباده إذ ذكروه أكبر من ذكرهم إياه.
وعن عبد الله بن ربيعة قال: سألني ابن عباس عن قول الله ولذكر الله أكبر فقلت: ذكر الله بالتسبيح، والتهليل، والتكبير، قال: ولذكر الله إياكم أكبر من ذكركم إياه، ثم قال اذكروني اذكركم.
وعن ابن مسعود قال: ذكر الله العبد أكبر من ذكر العبد لله، وعن ابن عمر نحوه، وعن ابن عباس أيضاً قال لها وجهان ذكر الله أكبر مما سواه، (وفي لفظ ذكر الله عندما حرمه)، وذكر الله إياكم أعظم من ذكركم إياه.
وعن معاذ بن جبل قال: ما عمل آدمي عملاً أنجى له من عذاب الله من ذكر الله، قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال لا، إلا أن يضرب بسيفه حتى ينقطع لأن الله يقول في كتابه العزيز (ولذكر الله أكبر).
وعن عنترة قال: قلت لابن عباس أي العمل أفضل؟ قال ذكر الله.
وعن أبي الدرداء قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم؟ وأرفعها في درجاتكم؟ وخير لكم من إعطاء الذهب(10/199)
والورق، وخير لكم من أن تلقوا أعداءكم، فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟ قالوا: بلى يا رسول الله قال: ذكر الله " أخرجه الترمذي.
وله عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل أي العباد أفضل درجة عند الله يوم القيامة؟ قال: " الذاكرون الله كثيراً، قالوا: يا رسول الله ومن الغازي في سبيل الله؟ فقال: لو ضرب بسيفه الكفار والمشركين حتى ينكسر، ويختضب دماً لكان الذاكرون الله كثيراً أفضل منه درجة ".
وأخرج مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " سبق المفردون، قالوا: وما المفردون يا رسول الله؟ قال: الذاكرون الله كثيراً والذاكرات ". وأخرج البخاري عن أبي هريرة وأبي سعيد أنهما شهدا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " لا يقعد قوم يذكرون الله، إلا حفتهم الملائكة، وغشيتهم الرحمة، ونزلت عليهم السكينة، وذكرهم الله فيمن عنده ".
وروي أن أعرابياً قال: يا رسول الله أي الأعمال أفضل؟ قال: " تفارق الدنيا ولسانك رطب بذكر الله " وفي الباب أحاديث كثيرة لا نطول بذكرها. قال ابن عطاء: أكبر أي أن تبقى معه معصية، وقيل: ذكر الله إياكم برحمته أكبر من ذكركم إياه بطاعته. وقيل: لأن ذكره بلا علة وذكركم مشوب بالعلل والأماني، ولأن ذكره لا يفنى وذكركم لا يبقى أو ذكره أكبر من أن تحويه أفهامكم وعنولكم، والذكر النافع هو الذي يكون مع العلم، وإقبال القلب وتفرغه مما سوى الله تعالى، وأما ما لا يتجاوز اللسان ففي رتبة أخرى.
(والله يعلم ما تصنعون) من الذكر ومن سائر الطاعات لا يخفى عليه من ذلك خافية فهو مجازيكم بالخير خيراً وبالشر شراً، ثم شرع سبحانه في بيان إرشاد أهل الكتاب بعد بيان إرشاد أهل الشرك فقال:(10/200)
وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (46) وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ (47)(10/201)
وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (46)
(ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن) أي: بالخصلة التي هي أحسن للثواب، وذلك على سبيار الدعاء لهم إلى الله عز وجل، والتنبيه لهم على حججه وبراهينه رجاء إجابتهم إلى الإسلام لا على طريق الإغلاظ والمخاشنة، وعن ابن عباس قال: بالتي هي أحسن، بلا إله إلا الله.
(إلا الذين ظلموا منهم) بأن أفرطوا في المجادلة، ولم يتأدبوا مع المسلمين فلا بأس بالإغلاظ عليهم، والتخشين في مجادلتهم، هكذا فسر الآية أكثر المفسرين بأن المراد بأهل الكتاب اليهود والنصارى، وقيل: معنى الآية لا تجادلوا من آمن بمحمد - صلى الله عليه وسلم -. من أهل الكتاب كعبد الله بن سلام، وسائر من آمن منهم إلا بالتي هي أحسن، يعني بالموافقة فيما حدثوكم به، من أخبار أهل الكتاب، ويكون المراد بالذين ظلموا على هذا هم الباقون على كفرهم.
قال مجاهد: هذه الآية محكمة فيجوز مجادلتهم بها، وقيل: هي منسوخة بآية القتال، وبذلك قال قتادة ومقاتل، قال النحاس وغيره: من قال هي منسوخة احتج بأن الآية مكية ولم يكن في ذلك الوقت قتال مفروض، ولا طلب جزية ولا غير ذلك. وقول مجاهد حسن، لأن أحكام الله عز وجل لا يقال فيها إنها منسوخة، إلا بخبر يقطع العذر أو حجة من معقول، واختار هذا(10/201)
القول ابن العربي.
قال سعيد بن جبير ومجاهد: المراد بالذين ظلموا منهم الذين نصبوا القتال للمسلمين، وآذوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجادلهم بالسيف حتى يسلموا أو يعطوا الجزية. وقيل: إلا الذين أثبتوا الولد والشريك فيدخل فيه أهل الشرك وعبدة الأوثان، والآية تدل على جواز المناظرة مع الكفرة في الدين وعلى جواز تعلم علم الكفار الذي به تتحقق المجادلة الحقة بالتي هي أحسن، قال السمين: الاستثناء متصل وفيه معنيان: أحدهما: إلا الظلمة، فلا تجادلوهم البتة بل جادلوهم بالسيف والثاني: جادلوهم بغير التي هي أحسن أي: اغلظوا لهم كما اغلظوا عليكم وقرأ ابن عباس (ألا) حرف تنبيه أي: فجادلوهم:
(وقولوا) هذا تبيين لمجادلتهم بالتي هي أحسن: (آمنا بالذي أنزل إلينا) من القرآن (وأنزل إليكم) من التوراة والإنجيل، أي بأنهما منزلان من عند الله وأنهما شريعة ثابتة إلى قيام الشريعة الإسلامية، والبعثة المحمدية، ولا يدخل في ذلك ما حرفوه وبدلوه.
أخرج البخاري والنسائي وابن جرير والبيهقي وغيرهم عن أبي هريرة قال: كان أهل الكتاب يقرأون التوراة بالعبرانية ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم وقولوا: آمنا بالذي أنزل إلينا وإليكم ".
وأخرج البيهقي وأبو نصر السجزي في الإبانة عن جابر ابن عبد الله قال: قال: رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء فإنهم لن يهدوكم وقد ضلوا، إما أن تصدقوا بباطل أو تكذبوا بحق، والله لو كان موسى حياً بين أظهركم ما حل له إلا أن يتبعني ".
وعن ابن مسعود قال: لا تسألوا أهل الكتاب، وذكر نحو حديث جابر، ثم قال: فإن كنتم سائليهم لا محالة فانظروا ما واطأ كتاب الله فخذوه،(10/202)
وما خالف كتاب الله فدعوه وهذه الآية من جنس المجادلة بالأحسن.
(وإلهنا وإلهكم واحد) لا شريك له، ولا ند، ولا ضد (ونحن له مسلمون) أي: ونحن معاشر أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - مطيعون له خاصة لم نقل عزير ابن الله ولا المسيح ابن الله، ولا اتخذنا أحبارنا ورهباننا أرباباً من دون الله، ويحتمل أن يراد ونحن جميعاً منقادون له، ولا يقدح في هذا الوجه كون انقياد المسلمين أتم من انقياد أهل الكتاب، وطاعتهم أبلغ من طاعتهم.(10/203)
وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ (47)
(وكذلك أنزلنا) هذا خطاب لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - والإشارة إلى مصدر الفعل كما بيناه في مواضع كثيرة أي ومثل ذلك الإنزال البديع أنزلنا (إليك الكتاب) وهو القرآن، وقيل: المعنى كما أنزلنا الكتاب عليهم أنزلنا عليك القرآن.
(فالذين آتيناهم الكتاب يؤمنون به) يعني مؤمني أهل الكتاب كعبد الله ابن سلام وغيره، وخصهم بإيتائهم الكتاب لكونهم العاملين به، وكأن غيرهم لم يؤتوه لعدم عملهم بما فيه، وجحدهم لصفات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المذكورة فيه، وكان إسلامهم بالمدينة والسورة مكيّة، فهذا من قبيل الإخبار بالغيب أخبره تعالى بحالهم قبل وقوعه.
(ومن هؤلاء) إشارة إلى أهل مكة، والمراد أن منهم وهو من قد أسلم (من يؤمن به) أي بالقرآن، وقيل: إشارة إلى جميع العرب (وما يجحد بآياتنا) أي القرآن، والجحود إنما يكون بعد المعرفة، وعبر عن الكتاب بالآيات للتنبيه على ظهور دلالتها على معانيها، وعلى كونها من عند الله تعالى وأضيفت إلى نون العظمة لمزيد تفخيمها، وغاية التشنيع على من يجحد بها.
(إلا الكافرون) المصممون على كفرهم المتوغلون فيه من المشركين، ومن أهل الكتاب ككعب بن الأشرف وأضرابه فإن ذلك يصدهم عن التأمل فيما يؤديهم إلى معرفة حقيقتها.(10/203)
وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ (48) بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ (49) وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (50)(10/204)
وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ (48)
(وما كنت) يا محمد (تتلو من قبله من كتاب) أي من قبل القرآن كتاباً، ولا تقدر على ذلك، لأنك أميّ لا تقرأ ولا تكتب. و (من) زائدة. (ولا تخطه بيمينك) أي ولا تكتبه لأنك لا تقدر على الكتابة، وخص اليمين لأن الكتابة، غالباً تكون باليمين، أي ولا كنت كاتباً، قال مجاهد: كان أهل الكتاب يجدون في كتبهم أن محمداً - صلى الله عليه وسلم - لا يخط ولا يقرأ فنزلت هذه الآية قال النحاس: وذلك دليل على نبوته لأنه لا يكتب ولا يخالط أهل الكتاب ولم يكن بمكة أهل الكتاب، فجاءهم بأخبار الأنبياء والأمم.
قال ابن عباس: لم يكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ ولا يكتب، وكان أمياً، قال الحافظ بن حجر في تخريج أحاديث الرافعي: قال البغوي في التهذيب: هل كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يحسن الخط ولا يكتب ويحسن الشعر ولا يقوله أو لا؟ والأصح أنه كان لا يحسنهما ولكن كان يميز بين رديء الشعر وجيده، ذكره الشهاب وما أحسن ما قال آزاد رحمه الله:
ما كان يعرف ألواحاً ولا قلماً ... وكان يعرف ما في اللوح والقلم
وهذا شروع في الدليل على كون القرآن معجزاً (إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ) أي لو كنت ممن يقدر على التلاوة والخط لقالوا لعله وجد ما يتلوه علينا من كتب الله السابقة من الكتب المدونة في أخبار الأمم، فلما كنت أمياً لا تقرأ ولا تكتب لم يكن هناك موضع للريبة، ولا محل للشك أبداً، بل إنكار من أنكر وكفر من كفر، مجرد عناد وجحود بلا شبهة، وسماهم المبطلين لأن ارتيابهم(10/204)
على تقدير أنه - صلى الله عليه وسلم - يقرأ ويكتب ظلم منهم، لظهور نزاهته، ووضوح معجزاته.(10/205)
بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ (49)
(بل هو) أي القرآن الذي جئت به (آيات بينات) وقال قتادة ومقاتل: إن الضمير يرجع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أي بل محمد آيات، أي ذو آيات، وقرأ ابن مسعود: بل هي آيات بينات، قال الفراء معنى هذه القراءة بل آيات القرآن آيات بينات، واختار ابن جرير ما قاله قتادة ومقاتل، وقد استدل لما قالاه بقراءة ابن السميفع بل هذا آيات بينات، ولا دليل في هذه على ذلك، لأن الإشارة يجوز أن تكون إلى القرآن كما جاز أن تكون إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، بل رجوعها إلى القرآن أظهر لعدم احتياج ذلك إلى التأويل؛ وهو إضراب عن ارتيابهم أي ليس القرآن مما يرتاب فيه لكونه محفوظاً.
(في صدور الذين أوتوا العلم) يعني العلماء المؤمنين الذين حفظوا القرآن على عهده - صلى الله عليه وسلم -، وحفظوه بعده عن ظهر قلب، وهذا من خصائص القرآن بخلاف سائر الكتب فإنها لم تكن معجزات، ولا كانت تقرأ إلا من المصاحف، ولذا جاء في وصف هذه الأمة صدورهم أناجيلهم، ولذلك لا يقدرون على تحريفه ولا تغييره، والمراد أنهم يحفظونه تلقيناً منك، وبعضهم من بعض، وأنت تلقيته عن جبريل عن اللوح المحفوظ فلم تأخذه من كتاب بطريق تلقيه منه.
(وما يجحد بآياتنا) أي القرآن الكريم (إلا الظالمون) أي المجاوزون للحد، والمتوغلون في الظلم،(10/205)
وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (50)
(وقالوا) أي المشركون (لولا أنزل عليه آيات من ربه) المعنى هَلا أنزلت عليه آيات كآيات الأنبياء وذلك كآيات موسى، وناقة صالح، وإحياء المسيح للموتى، ثم أمره الله سبحانه أن يجيب عليهم فقال:
(قل إنما الآيات عند الله) ينزلها على من يشاء من عباده، ولا قدرة لأحد على ذلك (وإنما أنا نذير مبين) أنذركم بما أمرت وأبين لكم كما ينبغي ليس في قدرتي غير ذلك.(10/205)
أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51) قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (52)(10/206)
أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51)
(أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ) مستأنفة للرد على اقتراحهم، وبيان بطلانه أي أو لم يكف المشركين من الآيات التي اقترحوها هذا الكتاب المعجز الذي قد تحديتهم بأن يأتوا بمثله أو بسورة منه فعجزوا ولو أتيتهم بآيات موسى أو بآيات غيره من الأنبياء لقالوا: سحر، ونحن لا نعرف السحر والكلام مقدور لهم ومع ذلك عجزوا عن المعارضة ولما آمنوا كما لم يؤمنوا بالقرآن الذي يتلى عليهم في كل زمان ومكان فلا تزال معهم آية ثابتة لا تزول كما تزول كل آية بعد كونها، أو تكون في مكان دون مكان، والمعنى أن القرآن معجزة أتم من معجزة من تقدم من الأنبياء، مغنية عن سائر الآيات، لأن معجزة القرآن تدوم على مر الدهور والزمان، ثابتة لا تضمحل كغيرها من الآيات.
(إن في ذلك) الكتاب الموجود في كل مكان وزمان إلى آخر الدهور الموصوف بما ذكر (لرحمة) عظيمة في الدنيا والآخرة (وذكرى) في الدنيا يتذكرون بها وترشدهم إلى الحق (لقوم يؤمنون) أي لقوم يصدقون بما جئت به من عند الله فإنهم هم الذين ينتفعون بذلك.
أخرج الدارمي وأبو داود في مراسيله وغيرهما. عن يحيى بن جعدة قال: جاء أناس من المسلمين بكتب قد كتبوها، فيها بعض ما سمعوه من اليهود، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " كفى بقوم حمقاً أو ضلالة أن يرغبوا عما جاء به نبيهم إليهم إلى ما جاء به غيره إلى غيرهم، فنزلت، أو لم يكفهم الآية ".
وعن الزهري: إن حفصة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بكتاب من قصص يوسف في كتف فجعلت تقرؤه، والنبي - صلى الله عليه وسلم - يتلون وجهه(10/206)
فقال: " والذي نفسي بيده لو أتاكم يوسف وأنا بينكم فاتبعتموه وتركتموني لضللتم ".
وعن عبد الله بن الحرث الأنصاري قال: دخل عمر بن الخطاب على النبي - صلى الله عليه وسلم - بكتاب فيه مواضع من التوراة فقال: هذه أصبتها مع رجل من أهل الكتاب أعرضها عليك: فتغير وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تغيراً شديداً لم أر مثله قط فقال عبد الله بن الحرث لعمر: أما ترى وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فقال عمر: رضينا بالله رباً؛ وبالإسلام ديناً وبمحمد نبياً فسرى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال " لو نزل موسى فاتبعتموه وتركتموني لضللتم، أنا حظكم من النبيين، وأنتم حظي من الأمم ". أخرجه عبد الرازق وابن سعد وابن الضريس.
وأخرج البيهقي وضعفه، عن عمر بن الخطاب قال: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن تعلم التوراة فقال: لا تتعلمها وآمن بها، وتعلموا ما أنزل إليكم وآمنوا به ".(10/207)
قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (52)
(قل كفى بالله بيني وبينكم شهيداً) أي قل للمكذبين: كفى الله شهيداً بما وقع بيني وبينكم، وقال ابن عباس: معناه يشهد لي إني رسوله والقرآن كتابه ويشهد عليكم بالتكذيب، وشهادة الله إثبات المعجزة له بإنزال الكتاب عليه والقرآن وحده كاف واف لا حاجة معه إلى غيره من الكتب لمن آمن به وعمل صالحاً.
(يعلم ما في السماوات والأرض) لا تخفى عليه من ذلك خافية، ومن جملته ما صدر بينكم وبين رسوله - صلى الله عليه وسلم - (والذين آمنوا بالباطل) أي بما يعبدونه من دون الله، قال ابن عباس: بالباطل أي بغير الله، وقيل: بعبادة الشيطان وقيل: بما سوى الله، والمعاني متقاربة، ثم ذكر الكفر بعد الباطل لبيان قبح الأول فقال:
(وكفروا بالله) وآياته، والجملة مؤكدة لما قبلها (أولئك هم الخاسرون) الجامعون بين خسران الدنيا والآخرة في صفقتهم حيث اشتروا الكفر بالإيمان.(10/207)
وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (53) يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (54) يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (55)(10/208)
وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (53)
(ويستعجلونك بالعذاب) استهزاء وتكذيباً منهم بذلك، كقولهم أمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم (ولولا أجل مسمى) قد جعله الله لعذابهم، وعينه، وهو القيامة، وقال الضحاك: الأجل مدة أعمارهم لأنهم إذا ماتوا صاروا إلى العذاب؛ وقيل. المراد بالأجل المسمى النفخة الأولى، وقيل: الوقت الذي قدره الله لعذابهم في الدنيا بالقتل أو الأسر يوم بدر، والحاصل أن لكل عذاب أجلاً لا يتقدم عليه ولا يتأخر عنه، كما في قوله سبحانه (لكل نبأ مستقر).
(لجاءهم العذاب) أي لولا ذلك الأجل المضروب لجاءهم العذاب الذي يستحقونه بذنوبهم عاجلاً (وليأتينهم بغتة) أي فجأة كوقعة بدر فإنها أتتهم بغتة والجملة مستأنفة مبينة لمجيء العذاب المذكور قبلها (وهم لا يشعرون) أي حال كونهم لا يعلمون بإتيانه على ما تشهد لهم كتب السير، ثم ذكر سبحانه أن موعد عذابهم النار فقال:(10/208)
يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (54)
(يستعجلونك بالعذاب) أي يطلبون منك تعجيل عذابهم في الدنيا، ذكر هذا للتعجب لأن من توعد بأمر فيه ضرر يسير كلطمة أو لكمة، قد يرى من نفسه الجلد ويقول: باسم الله هات وأما من توعد بإغراق أو إحراق ويقطع بأن المتوعد قادر لا يخلف الميعاد، فلا يخطر بباله أن يقول هات ما توعدتني به فقوله ويستعجلونك بالعذاب أولا إخبار عنهم، وقوله ثانياً: يستعجلونك بالعذاب تعجب منهم وقيل: التكرير للتأكيد.
(وإن جهنم لمحيطة بالكافرين) أي: والحال أن مكان العذاب محيط(10/208)
بهم أي سيحيط بهم عن قرب، فإن ما هو آت قريب فعبر عن الاستقبال بالحال للدلالة على التحقق والمبالغة أو يراد بجهنم أسبابها الموصلة إليها فلا تأويل في قوله: محيطة، والأول أظهر، والمراد بالكافرين جنسهم، فيدخل فيه هؤلاء المستعجلون دخولاً أولياً، والمعنى أن جهنم جامعة لهم لا يبقى منهم أحد إلا دخلها.
قال ابن عباس: جهنم هو هذا البحر الأخضر تنتثر الكواكب فيه، وتكون فيه الشمس والقمر، ثم يستوقد فيكون هو جهنم، وفي هذا نكارة شديدة! فإن الأحاديث الكثيرة الصحيحة ناطقة بأن جهنم موجودة مخلوقة على الصفات التي ورد بها الكتاب والسنة، ثم ذكر سبحانه كيفية إحاطة العذاب بهم فقال:(10/209)
يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (55)
(يوم يغشاهم العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم) أي من جميع جهاتهم لقوله تعالى (من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل)، فإذا غشيهم العذاب على هذه الصفة فقد أحاطت بهم جهنم. قيل: خص الجانبين ولم يذكر اليمين ولا الشمال، ولا الخلف ولا الأمام، لأن المقصود ذكر ما تتميز به نار جهنم عن نار الدنيا، فنار الدنيا تحيط بالجوانب الأربع، فإن من دخلها تكون الشعلة قدامه وخلفه ويمينه وشماله، وأما النار من فوق فلا تنزل وإنما تصعد من أسفل في العادة، وتحت الأقدام لا تبقى الشعلة التي تحت القدم بل تطفأ، ونار جهنم تنزل من فوق ولا تطفأ بالدوس عليها بوضع القدم، ذكره الرازي.
(ويقول ذوقوا ما كنتم تعملون) والقائل هو الله سبحانه وتعالى أو بعض ملائكته بأمره في ذلك اليوم، أي ذوقوا جزاء ما كنتم تعملون من الكفر والمعاصي، فلا تفوتوننا قرئ: نقول بالنون وبالتحتية لقوله: قل كفى بالله، وقرئ: ويقال ذوقوا، ولما ذكر سبحانه حال الكفرة من أهل الكتاب ومن المشركين وجمعهم في الإنذار، وجعلهم من أهل النار اشتد عنادهم وزاد فسادهم وسعوا في إيذاء المسلمين بكل وجه فقال الله سبحانه:(10/209)
يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (56) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (57)(10/210)
يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (56)
(يا عبادي الذين آمنوا) أضافهم إليه بعد خطابه لهم تشريفاً وتكريماً، والموصول صفة موضحة أو مميزة (إن أرضي واسعة) قيل: نزلت في ضعفاء مسلمي أهل مكة، يقول الله: إن كنتم في ضيق في مكة من إظهار الإيمان، وفي مكايدة للكفار فأخرجوا منها لتتيسر لكم عبادتي وحدي، وتتسهل عليكم.
وقيل: نزلت في قوم تخلفوا عن الهجرة، وقالوا: نخشى إن هاجرنا من الجوع وضيق المعيشة، فأنزل الله هذه الآية ولم يعذر لهم بترك الخروج. قال الزجاج: أمروا بالهجرة من الموضع الذي لا تمكنهم فيه عبادة الله، وكذلك يجب على كل من كان في بلد يعمل فيها بالمعاصي ولا يمكنه تغيير ذلك أن يهاجر إلى حيث يتهيأ أن يعبد الله حق عبادته، وقال مطرف بن الشخير: المعنى أن رحمتي واسعة ورزقي لكم واسع، فابتغوه في الأرض. وقيل: البلاد والبقاع تتفاوت في ذلك تفاوتاً كثيراً، قال علي القارى رحمه الله: وأما اليوم فإنا بحمد الله لم نجد أعون على قهر النفس، وأجمع للقلب، وأحث على القناعة، وأطرد للشيطان، وأبعد من الفتن وأربط للأمر الديني، وأظهر له من مكة حرسها الله تعالى (1).
أقول: لولا ما فيها الآن من استطالة أهل البدع على أهل السنة وإيثار التنظيمات السلطانية على الأحكام الرحمانية، وظلم أهل المكس على الحجاج، وعدم الانتصاف من أهل الاعتساف، والحجر على العمل بالسنة، والتمسك بالحق، والله يفعل ما يشاء ويحكم على ما يريد.
_________
(1) من أول (أقول) كلام المصنف الذي ينعي على الحجاز ما كان في عهده من فراهة الشر واستفحال أهل الحرابة وقطاع الطرق. المطيعي.(10/210)
قال سهل: إذا ظهرت المعاصي والبدع في أرض فأخرجوا منها إلى أرض المطيعين، قلت وأنى لنا هذا اليوم؟ ولو علمنا أرضاً طائعة على وجه البسيطة على حسب ما نطق به الكتاب والسنة أو ما ذهب إليه فقهاء الأمة لخرجنا إليها إن شاء الله تعالى، ولكن كم من أمنية ضاعت فإنا لله وإنا إليه راجعون، وروي مرفوعاً: من فر بدينه من أرض إلى أرض وإن كان شبراً من الأرض استوجب الجنة، ولينظر في سنده وتخريجه، وقيل: المعنى: إن أرضي التي هي أرض الجنة واسعة.
(فإياي فاعبدون) حتى أورثكموها، وانتصاب إياي بفعل مضمر، أي: فاعبدوا إياي، ثم لما صعب على المؤمنين ترك الأوطان، ومفارقة الإخوان، خوفهم سبحانه بالموت ليهون عليهم أمر الهجرة، وشجع المهاجرين لئلا يقيموا بدار الشرك خوفاً من الموت فقال:(10/211)
كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (57)
(كل نفس) من النفوس (ذائقة الموت) أي: واجدة مرارة الموت وكربه ومشاقه لا محالة كما يجد الذائق طعم المذوق فلا يصعب عليكم ترك الأوطان ومفارقة الإخوان، وهجر الخلان، بل الأولى أن يكون ذلك في سبيل الله فيجازيكم عليه، فلا تخافوا من بعد الشقة ومقاساة المشقة (ثم إلينا) لا إلى غيرنا.
(ترجعون) بالموت والبعث إلينا فكل حي في سفر إلى دار القرار، وإن طال لبثه في هذه الدار.
عن عليّ قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما نزلت: (إنك ميت وإنهم ميتون) قلت: يا رب أيموت الخلائق كلهم ويبقى الأنبياء؟ فنزلت كل نفس ذائقة الموت، الآية أخرجه ابن مردويه، وينظر كيف صحته؟ فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد أن يسمع قول الله سبحانه: (إنك ميت وإنهم ميتون) يعلم أنه ميت، وقد علم أن من قبله من الأنبياء قد ماتوا، وأنه خاتم الأنبياء، فكيف ينشأ عن هذه الآية ما نقل عنه علي رضي الله عنه من قوله أيموت الخلائق ويبقى الأنبياء؟ فلعل هذه الرواية لا تصح مرفوعة ولا موقوفة.(10/211)
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (58) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (59) وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (60) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (61) اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (62) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (63)(10/212)
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (58)
(والذين آمنوا وعملوا الصالحات) في هذا ترغيب إلى الهجرة، وأن جزاء من هاجر أن يكون في غرف الجنة كما قال (لَنُبَوِّئَنَّهُمْ) أي لننزلنهم، وهو مأخوذ من المباءة وهي الإنزال، وقرئ لنثوينهم بالثاء، والمعنى لنعطينهم غرفاً يثوون فيها من الثوى، وهو الإقامة قال الزجاج: يقال: ثوى الرجل إذا أقام وأثويته إذا أنزلته منزلاً يقيم فيه. قال الأخفش: لا تعجبني هذه القراءة لأنك لا تقول: أثويته الدار، بل تقول: في الدار، وليس في الآية حرف جر في الفعول الثاني.
(من الجنة غرفاً) أي: غرف الجنة وهي علاليها جمع علية، ثم وصف سبحانه تلك الغرف فقال (تجري من تحتها الأنهار) أي من تحت الغرف (خالدين فيها) أي مقدرين الخلود في الغرف، لا يموتون أبداً، أو في الجنة، والأول أولى.
(نعم أجر العاملين) للأعمال الصالحة أجرهم، بيَّن في هذه الآية: أن للمؤمنين الجنات في مقابلة أن للكافرين النيران، وأن فيها غرفاً تحتها الأنهار: في مقابلة أن تحت الكافرين النار، وبين أن ذلك أجر عملهم بقوله: نعم أجر العاملين في مقابلة ما تقدم للكفار بقوله: ذوقوا ما كنتم تعملون، ولم يذكر(10/212)
ما فوق المؤمنين لأنهم في أعلى عليين فلم يذكر فوقهم شيئاًً إشارة إلى علو مرتبتهم، وارتفاع منزلتهم، ولم يجعل الماء من تحت أقدامهم، بل من تحت غرفهم لأن الماء يكون ملتذاً به في أي جهة كان، وعلى أي بعد كان إذا كان تحت الغرفة ذكره الرازي، ثم وصف هؤلاء العاملين بقوله:(10/213)
الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (59)
(الذين صبروا) على مشاق التكاليف، وعلى أذية المشركين لهم، والهجرة لإظهار الدين وعلى الطاعة، وعن المعاصي، ولم يتركوا دينهم لشدة لحقتهم (وعلى ربهم يتوكلون) أي: يفوضون أمورهم إليه في كل إقدام وإحجام، ثم ذكر سبحانه ما يعين على الصبر والتوكل، وهو النظر في حال الدواب فقال:
(وكأين) قد تقدم الكلام فيها وأنها أي دخلت عليها كاف التشبيه، وصار فيها معنى كم كما صرح به الخليل وسيبويه، وتقديرها عندهما كشيء كثير من العدد (من دابة) وقيل: المعنى وكم من دابة ذات حاجة إلى غذاء (لا تحمل رزقها) أي لا تطيق حمله لضعفها، ولا تدخره لغد، ولا ترفعه معها مثل البهائم والطير.
(الله يرزقها وإياكم) أي إنما يرزقها الله من فضله ويرزقكم، فكيف لا تتوكلون على الله مع قوتكم وقدرتكم على أسباب العيش كتوكلها على الله مع ضعفها وعجزها. قال الحسن: تأكل لوقتها لا تدخر شيئاًً، وقال مجاهد: يعني الطير والبهائم تأكل بأفواهها ولا تحمل شيئاًً.
وعن عمر بن الخطاب قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصاً وتروح بطاناً " أخرجه الترمذي وقال حديث حسن، والمعنى أنها تذهب أول النهار جياعاً ضامرة البطون وتروح آخر النهار إلى أوكارها شباعاً ممتلئة البطون، ولا تدخر شيئاًً. قال سفيان بن عيينة: ليس شيء من خلق الله يخبئ إلا الإنسان والفأرة والنملة، سوى سبحانه وتعالى في هذه الآية بين الحريص والمتوكل في الرزق، وبين الراغب والقانع، وبين الجلد والعاجز يعني أن الجلد لا يتصور(10/213)
أنه مرزوق بجلده، ولا يتصور العاجز أنه ممنوع من الرزق بعجزه.
(وهو السميع) الذي يسمع كل مسموع (العليم) بكل معلوم.
أخرج عبد بن حميد، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، والبيهقي، وابن عساكر، قال السيوطي: بسند ضعيف عن ابن عمر قال: خرجت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى دخل بعض حيطان المدينة فجعل يلتقط التمر ويأكل، قال لي: مالك لا تأكل؟ قلت: لا أشتهيه يا رسول الله، قال: لكني أشتهيه، وهذه صبح رابعة منذ لم أذق طعاماً، ولم أجده، ولو شئت لدعوت ربي فأعطاني مثل ملك كسرى وقيصر فكيف بك يا ابن عمر إذا بقيت في قوم يخبئون رزق سنتهم ويضعف اليقين؟ قال: فوالله ما برحنا ولا رمنا حتى نزلت:(10/214)
وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (60)
(وكأين من دابة لا تحمل رزقها)، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إن الله لم يأمرني بكنز الدنيا ولا باتباع الشهوات، ألا وإني لا أكنز ديناراً ولا درهماً؛ ولا أخبئ رزقاً لغد "، وهذا الحديث فيه نكارة شديدة لمخالفته ما كان عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - فقد كان يعطي نساءه قوت العام كما ثبت ذلك في كتب الحديث المعتبرة، وفي إسناده أبو العطوف (1) الجوزي وهو ضعيف. ثم إنه سبحانه ذكر حال المشركين من أهل مكة وغيرهم، وعجب السامع من كونهم يقرون بأنه خالقهم ورازقهم ولا يوحدونه ولا يتركون عبادة غيره فقال:
_________
(1) كذا بالأصل وصوابه: أبو العطوف الجزري وهو الجراح بن منهال روى عن الزهري قال أحمد: كان صاحب غفلة، وقال ابن المديني: لا يكتب حديثه. وقال البخاري ومسلم: منكر الحديث. وقال النسائي، والدارقطني: متروك. وقال ابن حبان: كان يكذب في الحديث ويشرب الخمر. مات سنة سبع وستين ومائة؟ المطيعي.(10/214)
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (61)
(ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض) أتى بشيئين، أحدهما يتعلق بالذوات؛ وهو هذا، والثاني يتعلق بالصفات، وهو قوله (وسخر الشمس والقمر ليقولن الله)، خلقها، لا يقدرون على إنكار ذلك، ولا يتمكنون من جحوده. (فأنى يأفكون)؟ أي: فكيف يصرفون عن الإقرار بتفرده بالإلهية؟(10/214)
وأنه وحده لا شريك له؟ والاستفهام للإنكار والاستبعاد. ذكر في السماوات والأرض الخلق، وفي الشمس والقمر التسخير، لأن مجرد خلقهما ليس حكمة، فإن الشمس لو كانت مخلوقة بحيث تكون في موضع واحد لا تتحرك ما حصل الليل والنهار، ولا الصيف ولا الشتاء، فحينئذ الحكمة إنما هي في تحريكهما وتسخيرهما، ولما قال المشركون لبعض المؤمنين: لو كنتم على حق لم تكونوا فقراء دفع الله سبحانه ذلك بقوله:(10/215)
اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (62)
(الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر له) أي التوسيع في الرزق والتقتير له هو من الله الباسط القابض، يبسطه لمن يشاء، ويضيقه على من يشاء، على حسب ما تقتضيه حكمته، وما يليق بأحوال عباده من القبض والبسط، ولهذا قال: (إن الله بكل شيء عليم) يعلم ما فيه صلاح عباده وفسادهم ومنه البسط والتضييق.(10/215)
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (63)
(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا) أي جدبها، وقحط أهلها (ليقولن الله) أي يعترفون بذلك لا يجدون إلى إنكاره سبيلاً فكيف يشركون به بعد هذا الإقرار؟ ثم لما اعترفوا هذا الاعتراف في هذه الآيات؛ وهو يقتضي بطلان ما هم عليه من الشرك وعدم إفراد الله سبحانه بالعبادة أمر الله رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يحمد الله على إقرارهم بذلك وعدم جحودهم، مع تصلبهم في العناد، وتشددهم في رد كل ما جاء به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من التوحيد، فقال:
(قل الحمد لله) أي: أحمد الله على أن جعل الحق معك، وأظهر حجتك عليهم، وقيل: على إنزال الماء، وإحياء الأرض بالنبات، والأول أولى، ثم ذمهم فقال: (بل أكثرهم لا يعقلون) الأشياء التي يتعقلها العقلاء فلذلك لا يعلمون بمقتضى ما اعترفوا به مما يستلزم بطلان ما هم عليه عند كل عاقل، ثم أشار سبحانه إلى تحقير الدنيا وتصغيرها، وأنها من جنس اللعب واللهو، وهي لا تزن عند الله جناح بعوضة، وأن الدار على الحقيقة هي الدار الآخرة فقال:(10/215)
وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (64) فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ (65) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (66)(10/216)
وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (64)
(وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب) أي: من جنس ما يلهو به الصبيان ويلعبون به، وأما القرب، كالصلاة، والصوم والحج والاستغفار، والتسبيح فمن أمور الآخرة لظهور ثمرتها فيها. واللهو هو الاستمتاع بلذات الدنيا وقيل: هو الاشتغال بما لا يعنيه وما لا يهمه، واللعب هو العبث، وقيل: اللهو هو الإعراض عن الحق بالكلية، واللعب: الإقبال على الباطل، قاله الرازي. وفي هذا تصغير للدنيا وازدراء بها، ومعنى الآية أن سرعة زوال الدنيا عن أهلها، وتقلبهم فيها، وموتهم عنها، كما يلعب الصبيان ساعة ثم ينصرفون.
(وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ) أي الحياة الدائمة الخالدة التي لا موت فيها، قال أبو عبيدة، وابن قتيبة: إن الحيوان الحياة، قال الواحدي وهو قول جميع المفسرين، ذهبوا إلى أن معنى الحيوان هاهنا الحياة، وأنه مصدر، بمنزلة الحياة فيكون كالنزوان والغليان، وواو الحيوان مقلوبة عن ياء عند سيبويه وأتباعه، وقال أبدلت شذوذاً وكذا في حياة علماً (1) وقال أبو البقاء: لئلا يلتبس بالتثنية، وغير سيبويه، حمل ذلك على ظاهره، فالحياة عنده لامها واو، ولا دليل لسيبويه في حي، لأن الواو متى انكسر ما قبلها قلبت ياء نحو: عرى ورعى ورضى، والتقدير لهي دار الحيوان أو ذات الحيوان، أي: دار الحياة الباقية التي لا تزول، أو لا ينغصها موت ولا مرض ولا هم ولا غم، وقدر أبو البقاء أن حياة الدار وذلك ليتطابق المبتدأ والخبر والمبالغة أحسن: قال ابن عباس هي الحيوان؛ أي الباقية.
_________
(1) فعل ماض مبني للمجهول والألف للإطلاق، ويبدو أنها شطرة من رجز. المطيعي.(10/216)
وعن أبي جعفر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " يا عجباً كل العجب من مصدق بدار الحيوان، وهو ليسعى لدار الغرور " أخرجه ابن أبي الدنيا والبيهقي في الشعب وهو مرسل (لو كانوا يعلمون) أن الحياة هي حياة الآخرة، أو يعلمون شيئاًً من العلم لما آثروا الدار الفانية المنغصة على الآخرة الباقية، ثم بين سبحانه أنه ليس المانع لهم من الإيمان إلا مجرد تأثير الحياة فقال:(10/217)
فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ (65)
(فإذا ركبوا في الفلك) أي: إذا انقطع رجاؤهم من الحياة وخافوا الغرق فقال: رجعوا إلى الفطرة، والركوب هو الاستعلاء وهو متعد بنفسه، وإنما عدى بكلمة (في) للإشعار بأن المركوب في نفسه من قبيل الأمكنة (دعوا الله) وحده (مخلصين له الدين) بصدق نياتهم، وتركهم عند ذلك لدعاء الأصنام لعلمهم أنه لا يكشف هذه الشدة العظيمة النازلة بهم غير الله سبحانه.
(فلما نجاهم إلى البر) وآمنوا (إذا هم يشركون) أي فاجأوا المعاودة إلى الشرك ودعوا غير الله سبحانه، وعادوا إلى ما كانوا عليه من العناد. وقيل: كان أهل الجاهلية إذا ركبوا البحر حملوا الأصنام، فإذا اشتد الريح ألقوها في البحر، وقالوا يا رب يا رب(10/217)
لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (66)
(ليكفروا بما آتيناهم) من نعمة الإنجاء.
(وليتمتعوا) أي فاجأوا الشرك بالله ليكفروا ويجحدوا بنعمة الله وليتمتعوا بها، فاللام في الفعلين لام كي، وفيه شيء لأنه ليس الحامل لهم على الإشراك قصد الكفر، والظاهر أنها لام العاقبة والمآل، كما أشار له الشهاب، وقيل: اللام للتعليل، والمعنى لا فائدة لهم في الإشراك إلا التمتع به في العاجلة ولا نصيب لهم في الآخرة. وقيل: هما لاما الأمر تهديداً ووعيداً أي: اكفروا بما أعطيناكم من النعمة، وتمتعوا. ويدل على هذا المعنى قراءة أبيّ وتمتعوا، وهذا الاحتمال للأمرين إنما هو على قراءة أبي عمرو، وورش بكسر اللام، وأما على قراءة الجمهور بسكونها، فلا خلاف أنها لام الأمر.
(فسوف يعلمون) عاقبة ذلك الأمر وما فيه من الوبال عليهم، وفيه تهديد لهم عظيم.(10/217)
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ (67) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (68) وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)(10/218)
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ (67)
(أولم يروا) أي ألم ينظر كفار قريش (أنا جعلنا) حرمهم أي بلدهم مكة (حرماً آمناً) يأمن فيه ساكنه من الغارة، والقتل، والسبي، والنهب، فصاروا في سلامة وعافية مما صار فيه غيرهم من العرب، فإنهم في كل حين تطرقهم الغارات، ويجتاح أموالهم الغزاة، وتسفك دماءهم الجنود وتستبيح حرمهم وأموالهم شطار العرب وشياطينها.
(ويتخطف الناس) جملة حالية، أي وهم يتخطف الناس (من حولهم) بالقتل والسبب والنهب والخطف: الأخذ بسرعة، وقد مضى تحقيق معناه في سورة القصص، والجملة حالية (أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ)؟ وهو الشرك والأصنام والشيطان بعد ظهور حجة الله عليهم وإقرارهم بما يوجب التوحيد (وبنعمة الله يكفرون) أي بمحمد صلى الله عليه وسلم والإسلام ويجعلون كفرها مكان شكرها وفي هذا الاستفهام من التقريع والتوبيخ ما لا يقادر قدره.(10/218)
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (68)
(ومن) أي: لا أحد (أظلم ممن افترى على الله كذباً)؟ وهو من زعم أن لله شريكاً (أو كذب بالحق لما جاءه) أي كذب بالرسول الذي أرسل إليه، أو الكتاب الذي أنزله على رسوله. وقال السدي: بالتوحيد والظاهر شموله لما يصدق عليه أنه حق، ثم هدد المكذبين وتوعدهم فقال:
(أليس في جهنم مثوى للكافرين)؟ أي مكان يستقرون فيه،(10/218)
والاستفهام للتقرير، والمعنى أليس يستحقون الاستقرار فيها؟ وقد فعلوا ما فعلوا لأن همزة الإنكار، إذا دخلت على النفي صار إيجاباً فيرجع إلى معنى التقرير. أو ألم يصح عندهم أن جهنم مثواهم حين اجترأوا مثل هذه الجرأة؟ ثم لما ذكر حال المشركين الجاحدين التوحيد، الكافرين بنعم الله، أردفه بحال عباده الصالحين فقال:(10/219)
وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)
(والذين جاهدوا) أي: أوقعوا الجهاد بغاية جهدهم، على ما دل عليه بالمفاعلة (فينا) أي: في شأن الله لطلب مرضاته، ورجاء ما عنده من الخير وقيل: في حقنا ومن أجلنا ولوجهنا خالصا، ومراقبتنا، خاصة بلزوم الطاعات من جهاد الكفار، وغيرهم من كل ما ينبغي الجهاد فيه، بالقول والفعل، في الشدة والرخاء، ومخالفة الهوى عند هجوم الفتن، وشدائد المحن مستحضرين لعظمتنا.
(لنهدينهم سبلنا) أي سبل السير والطريق الموصل إلينا وقيل: لنزيدنهم هداية إلى سبل الخير، وتوفيقاً. وعن ابن عطاء: جاهدوا في رضانا لنهدينهم إلى الوصول إلى محل الرضوان، وعن الجنيد: جاهدوا في التوبة لنهدينهم سبل الإخلاص أو جاهدوا في خدمتنا لنفتحن عليهم سبل المناجاة معنا، والأنس بنا، قال ابن عطية: هي مكيّة نزلت قبل فرض الجهاد العرفي، وإنما هو جهاد عام في دين الله، وطلب مرضاته.
وقيل: الآية هذه نزلت في العباد، قال سفيان بن عيينة إذا اختلف الناس فانظروا ما عليه أهل الثغور، فإن الله تعالى يقول: والذين جاهدوا فينا الخ وقيل: المجاهدة الصبر على الطاعات، والمخالفة للهوى. وقال الفضيل بن عياض: والذين جاهدوا فينا أي: في طلب العلم لنهدينهم سبل العلم والعمل به. وقال سهل بن عبد الله: الذين جاهدوا بإقامة السنة وإماتة البدعة لنهدينهم سبل الجنة، وقال ابن عباس: الذين جاهدوا في طاعتنا لنهدينهم سبل ثوابنا وقال أبو سليمان الداراني: الذين جاهدوا فيما علموا لنهدينهم إلى ما لم يعلموا أو عن بعضهم: من عمل بما علم وفق لعلم ما لم يعلم.(10/219)
وقال إبراهيم بن أدهم: هي في الذين يعملون بما يعلمون، وقال الداراني أيضاً: ليس الجهاد في الآية قتال الكفار فقط بل هو نصر الدين والرد على المبطلين، وقمع الظالمين وأعظمه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومنه مجاهدة النفوس في طاعة الله.
قال ابن عيينة: مثل السنة في الدنيا، كمثل الجنة في العقبى من دخل الجنة في العقبى سلم، فكذلك من لزم السنة في الدنيا سلم وظاهر الآية. العموم فيدخل تحته كل ذلك، قال النسفي: أطلق المجاهدة ولم يقيدها بمفعول، ليتناول كل ما تجب مجاهدته من النفس، والشيطان، وأعداء الدين.
(وإن الله لمع المحسنين) بالنصر والعون في دنياهم والمغفرة في عقباهم، وثوابهم الجنة في الآخرة، ومن كان الله معه لا يخذل أبداً ودخلت لام التوكيد على (مع) بتأويل كونها اسماً أو على أنها حرف ودخلت عليها لإفادة معنى الاستقرار، كما تقول: إن زيداً لفي الدار والبحث مقرر في علم النحو، وفيه إقامة الظاهر مقام المضمر إظهاراً لشرفهم بوصف الإحسان.(10/220)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الروم
(هي ستون أو تسع وخمسون آية) قال القرطبي: كلها مكيّة بلا خلاف، قال ابن عباس: نزلت بمكة، وعن ابن الزبير مثله، وقال البيضاوي، إلا قوله: (فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ)، والأول أولى.
وأخرج عبد الرزاق، وأحمد -قال السيوطي بسند حسن- عن رجل من الصحابة: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى بهم الصبح فقرأ فيها سورة الروم، وأخرج البزار عن أغر المزني مثله، وعن عبد الملك بن عمير أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قرأ في الفجر يوم الجمعة بسورة الروم، وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف، وأحمد بن قانع من طريق ابن عمير مثل حديث الرجل الذي من الصحابة، وزاد فتردد فيها فلما انصرف قال: " إنما يلبس علينا في صلاتنا قوم يحضرون الصلاة بغير طهور، من شهد الصلاة فليحسن الطهور ".(10/221)
بسم الله الرحمن الرحيم
الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5) وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (6)(10/223)
الم (1)
(الم) قد تقدم الكلام على فاتحة هذه السورة في فاتحة سورة البقرة، والله أعلم بمراده بذلك.(10/223)
غُلِبَتِ الرُّومُ (2)
(غلبت الروم) قرئ مبنياً للمفعول وللفاعل. قال النحاس: قراءة الناس بضم الغين وكسر اللام، قال أهل التفسير: غلبت فارس الروم ففرح بذلك كفار مكة، وقالوا: الذين ليس لهم كتاب غلبوا الذين لهم كتاب، وافتخروا على المسلمين، فقالوا: نحن أيضاً نغلبكم كما غلبت فارس الروم، وكان المسلمون يحبون أن يظهر الروم على فارس لأنهم أهل كتاب، أي: نصارى، فهم أقرب إلى الإسلام، والفرس مجوس فهم أقرب إلى كفار قريش وفارس اسم أعجمي علم على تلك القبيلة، فهو ممنوع من الصرف للعلمية والتأنيث، بل والعجمة، وعن أبي سعيد قال: لما كان يوم بدر ظهر الروم على فارس، فأعجب ذلك المؤمنين، فنزلت الم غلبت الروم، وقرأها على البناء للفاعل، ففرح المؤمنون بظهور الروم على فارس، وعن أبي الدرداء قال: سيجيء أقوام يقرأون الم غَلبت يعني بالفتح وإنما هي غُلبت يعني بالضم، والروم اسم قبيلة سميت باسم جدها، وهو روم (1) بن عيصو بن
_________
(1) لا أصل لكلام ابن جزي من علم التاريخ ولا من علم الأجناس ولا من علوم الدين، والروم يعدون سلالة إبراهيم وغير الروم على الإطلاق برابرة حتى بعد دخولهم المسيحية؟ المطيعي.(10/223)
إسحاق ابن إبراهيم قاله ابن جزي في تفسيره، وسمي عيصو لأنه كان مع يعقوب في بطن، فعند خروجهما تزاحما، وأراد كل أن يخرج قبل صاحبه: فقال عيصو ليعقوب: إن لم أخرج قبلك وإلا خرجت من جنبها، فتأخر يعقوب شفقة منه فلذا كان أبا الأنبياء، وعيصو أبا الجبارين، كذا قيل والله أعلم، قيل: وكانت هذه الحروب بين أذرعات وبصرى، والملك بفارس يومئذ كسرى أبرويز.(10/224)
فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3)
(في أدنى الأرض) متعلق بغلبت أي أقرب أرض من أرض العرب، أو في أقرب أرض العرب منهم. قيل: هي أرض الجزيرة، وقيل: أذرعات وقيل: كسكر، وقيل الأردن، وقيل فلسطين (1) وهذه المواضع هي أقرب إلى بلاد العرب من غيرها، وإنما حملت الأرض على أرض العرب لأنها المعهودة في ألسنتهم إذا أطلقوا الأرض أرادوا بها جزيرة العرب، وقيل: إن الألف واللام عوض عن المضاف إليه، والتقدير في أدنى أرضهم فيعود الضمير إلى الروم، ويكون المعنى في أقرب أرض الروم من العرب إلى فارس، والمراد بالجزيرة ما بين دجلة والفرات، وليس المراد بها جزيرة العرب وحدها على ما روي عن الأصمعي: أنها من أقصى عدن إلى ريف العراق طولاً، ومن جدة وما والاها إلى أطراف الشام عرضاً.
وسبب تسميتها جزيرة، إحاطة البحار والأنهار العظيمة بها، كبحر الحبشة وبحر فارس، ودجلة والفرات. وقال ابن جزي في تفسيره: الجزيرة بين الشام
_________
(1) الحقيقة التي أجمع المؤرخون لهذه الحرب عليها أن الفرس انتصروا على الروم ودخلوا بيت المقدس وانتزعوا منه الصليب المقدس الذي يزعم الرومان أنه الذي صلب عليه المسيح. فتأهب الروم للكر على الفرس فانتصروا عليهم بقيادة ملكهم هرقل واستردوا الصليب وفي أثناء تجول هرقل في بلاد الشام سمع بالبعثة المحمدية فبعث من يطلب أحداً من مكة يعلم بخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - وكان يومئذ بغزة كما في حديث البخاري واستاق له رجاله أبا سفيان بن حرب وجرى بينهما الحوار المعروف الذي استنتج منه الإمبراطور أن صاحب هذه الدعوة سيملك موضع قدميه فالمعركة محددة المعالم معروفة الأماكن؟. المطيعي.(10/224)
والعراق. وهي أول الروم إلى فارس. قال ابن عطية: إن كانت الوقعة بأذرعات فهي من أدنى الأرض بالقياس إلى مكة وإن كانت الوقعة بالجزيرة فهي أدنى بالقياس إلى أرض كسرى، وإن كانت بالأردن فهي أدنى إلى أرض الروم.
وعن ابن عباس قال: كان المشركون يحبون أن يظهر فارس على الروم لأنهم كانوا أصحاب أوثان؛ وكان المسلمون يحبون أن يظهر الروم على فارس لأنهم أصحاب كتاب، فذكروه لأبي بكر فذكره أبو بكر للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " أما إنهم سيغلبون " فذكره أبو بكر لهم فقالوا: اجعل بيننا وبينك أجلاً، فإن ظهرنا كان لنا كذا وكذا؛ وإن ظهرتم كان لكم كذا وكذا، فجعل بينهم أجلاً خمس سنين فلم يظهروا فذكر ذلك أبو بكر لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: ألا جعلته أراه قال دون العشرة، فظهرت الروم بعد ذلك، فذلك قوله: الم غلبت الروم، فغلبت ثم غلبت بعد. قال سفيان: سمعت أنهم ظهروا عليهم يوم بدر.
وعن البراء بن عازب نحوه، وزاد أنه لما مضى الأجل ولم تغلب الروم فارس ساء النبي - صلى الله عليه وسلم - ما جعله أبو بكر من المدة وكرهه، وقال: ما دعاك إلى هذا؟ قال: تصديقاً دته ولرسوله، فقال: تعرض لهم وأعظم الخطة، واجعله إلى بضع سنين، فأتاهم أبو بكر فقال: هل لكم في العود، فإن العود أحمد، قالوا: نعم، فلم تمض تلك السنون حتى غلبت الروم فارس، وربطوا خيولهم بالمدائن، وبنوا رومية فقمر (1) أبو بكر، فجاء به أبو بكر يحمله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: هذا السحت تصدق به. ومن مذهب أبي حنيفة ومحمد: إن العقود الفاسدة كعقد الربا وغيره جائزة في دار الحرب بين المسلمين والكفار، وقد احتجا على صحة ذلك بهذه القصة والقصة حجة عليهما، لا لهما لأنها كانت قبل تحريم القمار، وفيه: هذه السحت تصدق به.
_________
(1) قمر أبو بكر أي كسب الرهان وهو من القمار الذي حرم بعد ذلك. المطيعي.(10/225)
(وهم من بعد غلبهم) أي: والروم من بعد غلب فارس إياهم (سيغلبون) أهل فارس، والغلب والغلبة لغتان(10/226)
فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4)
(في بضع سنين) قد تقدم تفسير البضع واشتقاقه في سورة يوسف، والمراد هنا: ما بين الثلاثة إلى العشرة، وقيل: إلى التسع، وقيل: إلى السبع، وقيل: ما دون العشرة، وإنما أبهم البضع ولم يبينه، وإن كان معلوماً لنبيه صلى الله عليه وسلم لإدخال الرعب والخوف عليهم في كل وقت، كما يؤخذ ذلك من تفسير الفخر الرازي.
أخرج الترمذي وصححه، والدارقطني في الأفراد، والطبراني، وابن مردويه وأبو نعيم في الدلائل، والبيهقي في الشعب، عن نيار بن مكرم الأسلمي قال: لما نزلت: الم غلبت الروم الآية، كانت فارس يوم نزلت هذه الآية قاهرين الروم، وكان المسلمون يحبون ظهور الروم عليهم لأنهم وإياهم أهل الكتاب، وفي ذلك يقول الله: ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله الخ وكانت قريش تحب ظهور فارس، لأنهم وإياهم ليسوا أهل كتاب ولا إيمان ببعث، فلما أنزل الله هذه الآية خرج أبو بكر يصيح في نواحي مكة: الم غلبت الروم في أدنى الأرض، وهم من بعد غلبهم سيغلبون، في بضع سنين فقال ناس من قريش لأبي بكر: ذلك بيننا وبينكم، يزعم صاحبك أن الروم ستغلب فارس في بضع سنين، أفلا نراهنك على ذلك؟ فقال: بلى، وذلك قبل تحريم الرهان، فارتهن أبو بكر والمشركون، وتواضعوا الرهان وقالوا لأبي بكر: لم تجعل البضع ثلاث سنين إلى تسع سنين؟ فسم بيننا وبينك وسطاً ننتهي إليه قال فسموا بينهم ست سنين فمضت الست قبل أن يظهروا فأخذ المشركون رهن أبي بكر فلما دخلت السنة السابعة ظهرت الروم، فعاب المسلمون على أبي بكر تسميته ست سنين، لأن الله قال في بضع سنين، فأسلم عند ذلك ناس كثير.
وأخرج الترمذي وحسنه، عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لأبي بكر: " ألا احتطت يا أبا بكر؟ فإن البضع ما بين ثلاث إلى تسع ". وأخرج(10/226)
البخاري عنه في تاريخه نحوه، وفي الباب روايات. وما ذكرنا يغني عما سواه.
(لله الأمر) أي هو المتفرد بالقدرة وإنفاذ الأحكام (من قبل ومن بعد) أي من وقت المغلوبية ووقت الغالبية. فهو لف ونشر مرتب على الآية وقال أبو السعود: أي في أول الوقتين وفي آخرهما حين غلبوا، وحين يغلبون والمعنى أن كُلاًّ من كونهم مغلوبين أولاً وغالبين آخراً، ليس إلا بأمر الله تعالى وقضائه، وتلك الأيام نداولها بين الناس انتهى. قرئ بضم الظرفين لكونهما مقطوعين عن الإضافة أي من قبل الغلب، ومن بعده، أو من قبل كل أمر وبعده. قال الزجاج: معنى الآية من متقدم ومن متأخر، وحكى الكسائي. من قبل ومن بعد، بكسر الأول منوناً وضم الثاني بلا تنوين. وحكى الفراء بكسرهما من غير تنوين، وغلطه النحاس، وقال: إنما يجوز مكسوراً منوناً، تلت وقد قرئ بذلك، ووجهه أنه لم ينو إضافتهما فأعربهما وقال شهاب الدين: وقد قرئ بكسرهما منونين.
(ويومئذ) أي ويوم أن تغلب الروم على فارس، ويحل ما وعد الله من غلبتهم (يفرح المؤمنون(10/227)
بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5)
بنصر الله) للروم على فارس لكونهم أهل كتاب كما أن المسلمين. أهل كتاب بخلاف فارس فإنهم لا كتاب لهم، ولهذا سر المشركون بنصرهم على الروم، وقيل: نصر الله هو إظهار صدق المؤمنين فيما أخبروا به المشركين من غلبة الروم على فارس، والأول أولى، قال: الزجاج هذه الآية من الآيات التي تدل على أن القرآن من عند الله، لأنه أنبأ بما سيكون وهذا لا يعلمه إلا الله سبحانه.
(ينصر من يشاء) أن ينصره (وهو العزيز) الغالب القاهر (الرحيم) الكثير الرحمة لعباده المؤمنين، وقيل المراد بالرحمة هنا الدنيوية وهي شاملة للمسلم والكافر(10/227)
وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (6)
(وعد الله لا يخلف الله وعده) أي وعد الله وعداً لا يخلفه وهو ظهور الروم على فارس (ولكن أكثر الناس لا يعلمون) بجهلهم وعدم تفكرهم إن الله لا يخلف وعده؛ وهم الكفار. وقيل: كفار مكة على الخصوص نفى عنهم العلم النافع للآخرة، وقد أثبت لهم العلم بأحوال الدنيا فقال:(10/227)
يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ (7) أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ (8)(10/228)
يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ (7)
(يعلمون) بدل من لا يعلمون، وهذا أحسن من قول الحوفي: إنها مستأنفة من حيث المعنى، إلا أن الصناعة لا تساعد عليه، لأن بدل فعل مثبت من فعل منفي لا يصح، والضمير للأكثر وكذا يقال فيما بعده، وفيه بيان أنه لا فرق بين عدم العلم الذي هو الجهل، وبين وجود العلم الذي لا يتجاوز عن تحصيل الدنيا.
(ظاهراً من الحياة الدنيا) أي ظاهر ما يشاهدونه من زخارف الدنيا وملاذها، وأمر معاشهم وأسباب تحصيل فوائدهم الدنيوية. وقيل: هو ما تلقيه الشياطين إليهم من أمور الدنيا عند استراقهم السمع. وقيل: الظاهر الباطل، وقيل: يعني معايشهم كيف يكسبون، ويتجرون، ومتى يغرسون، ومتى يزرعون، ومتى يحصدون.
قال الحسن: إن أحدهم لينقر الدرهم بطرف ظفره فيذكر وزنه لا يخطئ وهو لا يحسن يصلي. وقيل: يعلمون وجودها الظاهر ولا يعلمون فناءها، وقيل: لا يعلمون الدنيا بحقيقتها إنما يعلمون ظاهرها، وهو ملاذها وملاعبها، ولا يعلمون باطنها، وهو مضارها ومتاعبها. وأفادت الآية الكريمة أن للدنيا ظاهراً وباطناً، فظاهرها ما يعرفه الجهال من التمتع بزخارفها والتنعم بملاذها، وباطنها أنها مجاز إلى الآخرة يتزود منها إليها بالطاعة، وبالأعمال الصالحة، وتنكير الظاهر، يفيد أنهم لا يعلمون إلا ظاهراً واحداً من جملة ظواهرها.
(وهم عن الآخرة) التي هي النعمة الدائمة واللذة الخالصة (هم غافلون) لا يلتفتون إليها ولا يعدون لها ما تحتاج إليه؛ أو غافلون عن الإيمان بها، والتصديق بمجيئها، وفيه أنهم معدن الغفلة عن الآخرة ومقرها، وإعادة(10/228)
لفظ (هم) الثانية للتأكيد.(10/229)
أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ (8)
(أولم يتفكروا)؟ الهمزة للإنكار عليهم، والواو للعطف على مقدر كما في نظائره (في أنفسهم) ظرف للتفكر وليس معفولاً للتفكر، والمعنى أن أسباب التفكر حاصلة لهم، وهي أنفسهم لو تفكروا فيها كما ينبغي لعلموا وحدانيته تعالى وصدق أنبيائه، وقيل إنها مفعول التفكر.
والمعنى أولم يتفكروا في خلق الله إياهم ولم يكونوا شيئاًً. والأول أولى، لأن المعنى أولم يتفكروا في قلوبهم الفارغة من الفكر التي هي أقرب إليهم من غيرها من المخلوقات وهم أعلم بأحوالها منهم بأحوال ما عداها فيتدبروا ما أودعها الله ظاهراً وباطناً من غرائب الحكمة الدالة على التدبير دون الإهمال، وأنه لا بد لها من الانتهاء إلى وقت يجازى فيه على الإحسان إحساناً وعلى الإساءة مثلها حتى يعلموا عند ذلك أن سائر الخلائق كذلك أمرها، جار على الحكمة في التدبير، وأنه لا بد لها من الانتهاء إلى ذلك الوقت.
(ما خلق الله السماوات والأرض وما بينهما) متعلق بالقول المحذوف، معناه: أولم يتفكروا فيقولوا هذا القول. وقيل: معناه فيعلموا لأن في الكلام دليلاً عليه، (وما) في (ما خلق) نافية أي لم يخلقها (إلا بالحق) الثابت الذي يحق ثبوته أو هي اسم في محل نصب على إسقاط الخافض، أي: بما خلق الله ويضعف أن تكون استفهامية، بمعنى النفي، والباء للسببية، أو هي ومجرورها في محل النصب على الحال، أي متلبسة بالحق. قال الفراء: معناه إلا للحق، أي للثواب والعقاب، وقيل: بالحق بالعدل، وقيل: بالحكمة، وقيل: إنه هو الحق، وللحق خلقها.
(وأجل مسمى) للسموات والأرض وما بينهما تنتهي إليه، وهو يوم القيامة، وفي هذا تنبيه على الفناء وأن لكل مخلوق أجلاً لا يجاوزه، وقيل: معناه أنه خلق ما خلق في وقت سماه لخلق ذلك الشيء (وإن كثيراً من الناس بلقاء ربهم) أي بالبعث بعد الموت (لكافرون) واللام هي المؤكدة والمراد بهؤلاء الكفار على الإطلاق أو كفار مكة.(10/229)
أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (9) ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ (10) اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (11) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ (12)(10/230)
أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (9)
(أولم يسيروا في الأرض فينظروا) الاستفهام للتقريع والتوبيخ لعدم تفكرهم في الآثار وتأملهم لمواقع الاعتبار، والمعنى أنهم قد ساروا وشاهدوا (كيف كان عاقبة الذين من قبلهم) من طوائف الكفار والأمم الذين أهلكوا بسبب كفرهم بالله، وجحودهم للحق، وتكذيبهم للرسل.
(كانوا أشد منهم قوة) كعاد وثمود، والجملة مبينة للكيفية التي كانوا عليها وأنهم أقدر من كفار مكة ومن تابعهم على الأمور الدنيوية؛ وقال ابن عمر: كان الرجل ممن كان قبلكم بين منكبيه ميل، أخرجه ابن مردويه (وأثاروا الأرض) أي حرثوها وقلبوها للزراعة، وزاولوا أسباب ذلك، ولم يكن أهل مكة أهل حرث.
(وعمروها) عمارة (أكثر مما عمروها) لأن أولئك كانوا أطول منهم أعماراً وأقوى أجساماً، وأكثر تحصيلاً لأسباب المعاش، فعمروا الأرض بالأبنية والزراعة والغرس (وجاءتهم رسلهم بالبينات) أي: المعجزات والحجج الظاهرات وقيل: بالأحكام الشرعية (فما كان الله ليظلمهم) بتعذيبهم على غير ذنب، وإهلاكهم بغير جرم (ولكن كانوا أنفسهم يظلمون) بالكفر والتكذيب للرسل.(10/230)
ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ (10)
(ثم كان عاقبة الذين أساءوا) أي: عملوا السيئات من الشرك والمعاصي (السُّوأَى) هي فعلى من السوء تأنيث الأسوأ، وهو الأقبح، أي كان عاقبتهم العقوبة التي هي أسوأ العقوبات. وقيل: هي اسم لجهنم كما أن الحسنى اسم للجنة، أو مصدر كاليسرى، والذكرى، وصفت به العقوبة مبالغة، وقرئ عاقبة بالرفع على أنها اسم كان، والخبر السوأى، أي الفعلة أو الخصلة أو العقوبة السوأى، ومن القائلين بأن السوأى جهنم، الفراء والزجاج وابن قتيبة، وأكثر المفسرين. وسميت سوأى لأنها تسوء صاحبها.
(أن كذبوا) أي: لأن كذبوا (بآيات الله) التي أنزلها على رسوله، أو بأن كذبوا، قال الزجاج: المعنى ثم كان عاقبة الذين أشركوا تكذيبهم بآيات الله واستهزاؤهم بها (وكانوا بها يستهزئون) عطف على كذبوا، داخل معه في حكم العلية أو في حكم الاسمية لكان أو الخبرية لهما.(10/231)
اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (11)
(الله يبدأ الخلق ثم يعيده) أي يخلقهم أولاً ثم يعيدهم بعد الموت أحياء كما كانوا (ثم إليه ترجعون) أي إلى موقف الحساب؛ فيجازي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته، وأفرد الضمير في (يعيده) باعتبار لفظ الخلق وجمعه في (ترجعون) باعتبار معناه وقرئ يرجعون بالتحتية والفوقية على الخطاب والالتفات المؤذن بالمبالغة.(10/231)
وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ (12)
(ويوم تقوم الساعة يبلس المجرمون) قرئ يبلس على البناء للفاعل يقال: أبلس الرجل إذا سكت، وانقطعت حجته؛ فهو قاصر لا يتعدى، قال الفراء والزجاج: المبلس الساكت المنقطع في حجته، الذي أيس أن يهتدي إليها، وقرئ مبنياً للمفعول، وفيه بعد، لأن أبلس لا يتعدى وقال الكلبي: أي يأس المشركون من كل خير حين عاينوا العذاب، وقدمنا تفسير الإبلاس عند قوله: فإذا هم مبلسون، وقال ابن عباس: يبلس يبتئس، وعنه يكتئب وعنه الإبلاس الفضيحة.(10/231)
وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاءُ وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ (13) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (14) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (15) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (16) فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (18) يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (19)(10/232)
وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاءُ وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ (13)
(ولم يكن لهم) أي لا يكون للمشركين يوم تقوم الساعة (من شركائهم) الذين عبدوهم من دون الله، وأشركوهم، وهم الأصنام ليشفعوا لهم (شفعاء) يجيرونهم من عذاب الله (وكانوا) في ذلك الوقت (بشركائهم) أي بآلهتهم الذين جعلوهم شركاء لله (كافرين) أي جاحدين لكونهم آلهة لأنهم علموا إذ ذاك أنهم لا ينفعون ولا يضرون، وقيل: إن معنى الآية كانوا كافرين في الدنيا بسبب عبادتهم، والأول أولى.(10/232)
وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (14)
(ويوم تقوم الساعة يومئذ يتفرقون) أي يتفرق جميع الخلق المدلول عليهم بقوله؛ الله يبدأ الخلق والمراد بالتفرق أن كل طائفة تنفرد، فالمؤمنون يصيرون إلى الجنة، والكافرون إلى النار، وليس المراد تفرق كل فرد منهم عن الآخر، ومثله قوله فريق في الجنة وفريق في السعير، وذلك بعد تمام الحساب، فلا يجتمعون أبداً، ثم بينَّ الله سبحانه كيفية تفرقهم فقال:(10/232)
فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (15)
(فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات) قال النحاس: سمعت الزجاج يقول معنى (أما) دع ما كنا فيه وخذ في غيره، وكذا قال سيبويه إن معناها مهما يكن من شيء فخذ في غير ما كنا فيه.(10/232)
(فهم في روضة) الروضة كل أرض ذات نبات وماء ورونق ونضارة؛ وقيل: البستان الذي هو في غاية النضارة قال المفسرون: والمراد بها هنا الجنة، والتنكير لإبهام أمرها وتفخيم شأنها قال أبو عبيد: الروضة ما كان في سفل، فإذا كان مرتفعاً فهو ترعة. وقال غيره: أحسن ما تكون الروضة إذا كانت في مكان مرتفع.
(يحبرون) الحبور والحبرة السرور، أي فهم في رياض الجنة ينعمون وقال ابن عباس: يحبرون يكرمون. وقال النحاس: حكى الكسائي حبرته أي أكرمته ونعمته، وقيل: يحلون، والأولى تفسير يحبرون بالسرور، كما هو المعنى العربي، ونفس دخول الجنة يستلزم الإكرام، والنعيم، وفي السرور زيادة على ذلك، وقيل: التحبير التحسين فمعنى يحبرون يحسن إليهم، وقيل: هو السماع الذي يسمعون في الجنة، وقيل: غير ذلك والوجه ما ذكرناه.
وأخرج الديلمي عن جابر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إذا كان يوم القيامة قال الله: أين الذين كانوا ينزهون أسماعهم وأبصارهم عن مزامير الشيطان ميزوهم، فيميزون في كثب المسك والعنبر، ثم يقول للملائكة اسمعوهم من تسبيحي، وتحميدي، وتهليلي، قال فيسبحون بأصوات لم يسمع السامعون بمثلها قط ".
وعن مجاهد قال: ينادي مناد يوم القيامة فذكر نحوه. وعن ابن عباس قال السيوطي بسند صحيح: في الجنة شجر على ساق، قدر ما يسير الراكب المجد في ظلها مائة عام، فيخرج أهل الجنة أهل الغرف وغيرهم، فيحدثون في ظلها، فيشتهي بعضهم، ويذكر لهو الدنيا، فيرسل الله ريحاً من الجنة فتحرك تلك الشجرة بكل لهو كان في الدنيا، وعن أبي هريرة مرفوعاً نحوه، أخرجه الحكيم الترمذي في النوادر.(10/233)
وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (16)
(وأما الذين كفروا) بالله (وكذبوا بآياتنا) أي القرآن (ولقاء الآخرة) أي البعث، والجنة والنار (فأولئك) المتصفون بهذه الصفات (في العذاب(10/233)
محضرون) أي مقيمون فيه لا يغيبون عنه، ولا يخفف عنهم، كقوله (وما هم بخارجين منها) وقيل: مجموعون. وقيل نازلون. وقيل: معذبون، والمعاني متقاربة، والمراد دوام عذابهم، ثم لمّا بين عاقبة طائفة المؤمنين، وطائفة الكافرين، أرشد المؤمنين إلى ما فيه الأجر الوافر، والخير العام؛ فقال:(10/234)
فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17)
(فسبحان الله) الفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها أي فإذا عملتم ذلك فسبحوا الله، أي نزهوه عما لا يليق به، وصفوه بصفات الكمال، وهذا أولى، وقيل: صلوا كما سيأتي (حين تمسون وحين تصبحون) أي في وقت الصباح والمساء، وفي العشي، وفي وقت الظهيرة، وعلى أن المراد بالتسبيح هنا الصلوات الخمس، فقوله " حين تمسون " صلاة المغرب والعشاء، وقوله حين تصبحون صلاة الفجر.(10/234)
وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (18)
(وله الحمد في السماوات والأرض) معترضة مسوقة للإرشاد إلى الحمد والإيذان بمشروعية الجمع بينه وبين التسبيح، كما في قوله سبحانه: فسبح بحمد ربك وقوله: ونحن نسبح بحمدك، وقيل: معنى وله الحمد الاختصاص له بالصلاة التي يقرأ فيها الحمد والأول أولى.
(وعشياً) عطف على حين، وفيه صلاة العصر، والعشي من صلاة المغرب إلى العتمة، قاله الجوهري، وقال قوم: هو من زوال الشمس إلى طلوع الفجر، أي الحمد له يكون في السماوات والأرض (وحين تظهرون) أي تصفون صلاة الظهر، كذا قال الضحاك، وسعيد بن جبير، وغيرهما قال الواحدي: قال المفسرون: إن معنى فسبحان الله فصلو الله، قال النحاس: أهل التفسير على أن هذه الآية في الصلوات الخمس، قال: وسمعت محمد بن يزيد يقول: حقيقته عندي فسبحوا الله في الصلوات، لأن التسبيح يكون في الصلاة وقال ابن عباس: كل تسبيح في القرآن فهو صلاة، وعنه قال: جمعت هذه الآية(10/234)
مواقيت الصلاة، فسبحان الله حين تمسون المغرب والعشاء، وحين تصبحون الفجر وعشيا العصر، وحين تظهرون الظهر.
وقد وردت أحاديث صحاح في فضل التسبيح، وثواب المسبح، وأخرج أحمد، وابن السني والطبراني، وغيرهم، عن معاذ بن أنس، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " ألا أخبركم لم سمى الله إبراهيم خليله الذي وفى؟ لأنه كان يقول كلما أصبح وأمسى: سبحان الله حين تمسون، وحين تصبحون، وله الحمد الآية " وفي إسناده ابن لهيعة.
وأخرج أبو داود، والطبراني، وابن السني وغيرهم عن ابن عباس عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " من قال حين يصبح: سبحان الله إلى قوله وكذلك تخرجون، أدرك ما فاته في يومه، ومن قالها حين يمسي أدرك ما فاته في ليلته " وإسناده ضعيف.(10/235)
يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (19)
(يخرج الحي من الميت) كالإنسان من النطفة، والطير من البيضة، والمؤمن من الكافر (ويخرج الميت من الحي) كالنطفة والبيضة من الإنسان والطير، والكافر من المؤمن، وقد سبق بيان هذا في سورة آل عمران قيل: ووجه تعلق هذه الآية بالتي قبلها أن الإنسان عند الصباح يخرج من شبه الموت وهو النوم إلى شبه الوجود، وهو اليقظة، وعند العشاء يخرج من اليقظة، إلى النوم.
(ويحي الأرض) بالنبات (بعد موتها) باليباس، وهو شبيه بإخراج الحي من الميت (وكذلك) الإخراج (تخرجون) من قبوركم قرئ على البناء للمفعول والفاعل فأسند الخروج إليهم كقوله: يخرجون من الأجداث، والمعنى أن الإبداء والإعادة يتساويان في قدرة من هو قادر على إخراج الميت من الحي وعكسه.(10/235)
وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (20) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21) وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ (22)(10/236)
وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (20)
(ومن آياته) الباهرة الدالة على البعث، وذكر لفظ من آياته ست مرات، تنتهي عند قوله: إذا أنتم تخرجون. ذكر فيها بدء خلق الإنسان آية آية، إلى حين بعثه من القبور، وختم هذه الآية بقيام السماوات والأرض لكونه من العوارض اللازمة، لأن كُلاًّ من السماء والأرض لا يخرج عن مكانه فيتعجب من وقوف الأرض، وعدم نزولها، ومن علو السماء وثباتها بغير عمد، ثم أتبع ذلك بالنشأة الآخرة، وهي الخروج من الأرض، وذكر من الأنفس أمرين: خلقكم وخلق لكم من أنفسكم، وذكر من الآفاق السماء والأرض وذكر من لوازم الإنسان اختلاف الألسنة واختلاف اللون، وذكر من عوارضه المنام والابتغاء، ومن عوارض الآفاق البرق والمطر ومن لوازمهما قيام السماء وقيام الأرض كذا في النهر، فجملة ما يتعلق بالنوع الإنساني ستة أشياء: اثنان أصول، واثنان لوازم، واثنان عوارض، وستة متعلقة بالآفاق: اثنان أصول، واثنان لوازم واثنان عوارض.
(أن خلقكم) أي خلق أباكم آدم (من تراب) وخلقكم في ضمن خلقه، لأن الفرع مستمد من الأصل، ومأخوذ منه، وقد مضى تفسير هذا في الأنعام.
(ثم إذا أنتم بشر) الترتيب والمهلة هنا ظاهران، فإنهم إنما يصيرون بشراً بعد أطوار كثيرة و (إذا) هي الفجائية وإن كانت أكثر ما تقع بعد الفاء، لكنها وقعت هنا بعد ثم بالنسبة إلى ما يليق بهذه الحالة الخاصة، وهي أطوار الإنسان كما حكاه الله في مواضع من كونه نطفة، ثم علقة، ثم(10/236)
مضغة، ثم عظماً مكسواً لحماً فاجأ البشرية والانتشار (تنتشرون) أي تنصرفون فيما هو قوام معايشكم، وتنبسطون في الأرض.(10/237)
وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21)
(ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم) أي من جنسكم في البشرية والإنسانية (أزواجاً) وقيل: المراد حواء فإنه خلقها من ضلع آدم، والنساء بعدها خلقن من أصلاب الرجال ونطف النساء (لتسكنوا) أي: تألفوا وتميلوا (إليها) أي إلى الأزواج فإن الجنسين المختلفين لا يسكن أحدهما إلى الآخر ولا يميل قلبه إليه.
(وجعل بينكم مودة ورحمة) أي: وداداً وترحماً بسبب عصمة النكاح يعطف به بعضكم على بعض من غير أن يكون بينكم من قبل ذلك معرفة فضلاً عن مودة ورحمة، وقال مجاهد: المودة الجماع، والرحمة الولد، وبه قال الحسن وابن عباس، وقال السدي: المودة المحبة، والرحمة: الشفقة وقيل: المودة حب الرجل امرأته، والرحمة رحمته إياها من أن يصيبها بسوء وقيل: المودة للشابة، والرحمة: للعجوز وقيل: المودة والرحمة من الله والفرك من الشيطان، أي بغض المرأة زوجها وبغض الزوج المرأة.
(إن في ذلك) المذكور سابقاً (لآيات) عظيمة الشأن بديعة البيان واضحة البرهان على قدرته سبحانه على البعث والنشور (لقوم يتفكرون) أن قوام الدنيا بوجود التناسل، لأنهم الذين يقتدرون على الاستدلال لكون التفكر مادة له، يتحصل عنه، أو لأن الفكر يؤدي إلى الوقوف على المعاني المطلوبة من التأنس والتجانس بين الأشياء كالزوجين وأما الغافلون عن التفكر فما هم إلا كالأنعام.(10/237)
وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ (22)
(ومن آياته) الدالة على أمر البعث، وما يتلوه من الجزاء (خلق السماوات والأرض) فإن من خلق هذه الأجرام العظيمة بلا مادة مساعدة لها وجعلها باقية ما دامت هذه الدار، وخلق فيها من عجائب الصنع وغرائب التكوين، ما هو عبرة للمعتبرين، قادر على أن يخلقكم بعد موتكم وينشركم(10/237)
من قبوركم. وقدم السماء على الأرض لأن السماء كالذكر، فنزول المطر من السماء على الأرض كنزول المني من الذكر في المرأة، لأن الأرض تنبت وتخضر بالمطر.
(واختلاف ألسنتكم) أي: لغاتكم من عرب، وعجم، وترك، وروم، وغير ذلك، بأن علم كل صنف لغته، أو ألهمه وضعها وأقدره عليها أو أجناس النطق وأشكاله، فإنك لا تكاد تسمع متكلمين متساويين في الكيفية من كل وجه.
(وألوانكم) من البياض، والسواد، والحمرة، والصفرة، والشقرة، والزرقة، والخضرة، مع كونكم أولاد رجل واحد، وأم واحدة، يجمعكم نوع واحد وهو الإنسانية، وفصل واحد وهو الناطقية، حتى صرتم متميزين في ذات بينكم، لا يلتبس هذا بهذا، بل في كل فرد من أفرادكم ما يميزه عن غيره من الأفراد، حتى أن التوأمين مع توافق موادهما وأسبابهما، والأمور الملاقية لهما في التخليق، يختلفان في شيء من ذلك لا محالة، وإن كانا في غاية التشابه، وفي هذا من بديع القدرة ما لا يعقله إلا العالمون، ولا يفهمه إلا المتفكرون ولو اتفقت الأصوات، والصور، وتشاكلت، وكانت ضرباً واحداً لوقع التجاهل والالتباس، ولتعطلت مصالح كثيرة، ولم يعرف العدو من الصديق، ولا القريب من البعيد؛ فسبحان من خلق الخلق على ما أراد، وكيف أراد، وإنما نظم هذا في سلك الآيات الآفاقية من خلق السماوات والأرض، مع كونه من الآيات الأنفسية الحقيقة بالانتظام، في سلك ما سبق من خلق أنفسهم وأزواجهم؛ للإيذان باستقلاله، والاحتراز عن توهم كونه من تتمات خلقهم.
(إن في ذلك لآيات) لدلالات على قدرته تعالى (للعالمين) لعموم العلم فيهم، قرئ بكسر اللام وبفتحها وهما سبعيتان. وقال الفراء للكسرة وجه جيد لأنه قد قال: لآيات لقوم يعقلون، لآيات لأولي الألباب، وما يعقلها إلا العالمون.(10/238)
وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (23) وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (24) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (25) وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (26)(10/239)
وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (23)
(ومن آياته منامكم بالليل والنهار وابتغاؤكم من فضله) قيل: في الكلام تقديم وتأخير والتقدير: ومن آياته منامكم بالليل وابتغاؤكم من فضله بالنهار، وقيل: المعنى الصحيح من دون تقديم وتأخير، أي ومن آياته العظيمة أنكم تنامون بالليل وتنامون بالنهار في بعض الأحوال للاستراحة، كوقت القيلولة، والنوم بالنهار مما كانت العرب تعده نعمة من الله، ولا سيما في البلاد الحارة، وابتغاؤكم من فضله فيهما. فإن كل واحد منهما يقع فيه ذلك، وإن كان ابتغاء الفضل في النهار أكثر، والأول هو المناسب لسائر الآيات الواردة في هذا المعنى، والآخر هو المناسب للنظم القرآني هاهنا، ووجه ذكر النوم والابتغاء هاهنا وجعلهما من جملة الأدلة على البعث أن النوم شبيه بالموت، والتصرف في الحاجات والسعي في المكاسب شبيه بالحياة بعد الموت.
(إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون) الآيات والمواعظ سماع متفكر متدبر بآذان واعية فيستدلون بذلك على البعث.(10/239)
وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (24)
(ومن آياته يريكم البرق) المعنى أن يريكم، ومنه المثل المشهور " تسمع بالمعيدي خير من أن تراه " وقيل: ويريكم البرق من آياته، وقيل: من آياته آية يريكم بها وفيها البرق، وقيل: التقدير: ومن آياته سحاب يريكم البرق (خوفا وطمعاً) من آياته قال قتادة: خوفاً للمسافر، وطمعاً(10/239)
للمقيم. وقال الضحاك: خوفاً من الصواعق، وطمعاً في الغيث. وقال يحيى ابن سلام: خوفاً أن يكون البرق برقاً خلباً لا يمطر، وطمعاً أن يكون ممطراً (وينزل من السماء ماء فيحيي به الأرض بعد موتها) باليباس بأن تنبت.
(إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون) فإن من له نصيب من العقل يعلم أن ذلك آية يستدل بها على القدرة الباهرة، كيف؟ والعقل ملاك الأمر. وهو المؤدي إلى العلم فيما ذكر وغيره، وإنما قال هنا: يعقلون، وفيما تقدم: يتفكرون، لأنه لما كان حدوث الولد من الوالد أمراً عادياً مطرداً قليل الاختلاف؛ كان يتطرق إلى الأوهام القاصرة أن ذلك بالطبيعة لأن المطرد أقرب إلى الطبيعة من المختلف، والبرق والمطر ليس أمراً مطرداً غير مختلف بل يختلف إذ يقع ببلدة دون بلدة، وفي وقت دون وقت، وتارة يكون قوياً وتارة يكون ضعيفاً فهو أظهر في العقل دلالة على الفاعل المختار. فقال: هو آية لمن له عقل وإن لم يتفكر تفكراً تاماً، قاله الكرخي.(10/240)
وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (25)
(ومن آياته أن تقوم السماء والأرض) هذا شروع في بيان بقائهما وثباتهما بعد بيان إيجادهما في قوله: ومن آياته خلق السماوات والأرض، وأظهر كلمة (أن) هنا التي هي علم الاستقبال لأن القيام هنا يعني البقاء لا الإيجاد، وهو مستقبل باعتبار أواخره وما بعد نزول هذه الآيات.
(بأمره) أي: قيامهما واستمساكهما بإرادته سبحانه، وقدرته بلا عمد يعمدهما، ولا مستقر يستقران عليه. قال الفراء: يقول أن تدوما قائمتين بأمره، وإنما ذكر قوله: إن في ذلك لآيات، في أربع مواضع، ولم يذكره في الأول، وهو قوله: ومن آياته أن خلقكم من تراب، ولا في الأخيرة وهي هذا لأن في الأول خلق الأنفس وخلق الأزواج من باب واحد، وهو الإيجاد فاكتفى فيهما بذكره مرة واحدة. وأما قيام السماوات والأرض الذي هو الأخير فلأن في(10/240)
الآيات السماوية ذكر أنها آيات للعالمين، ولقوم يسمعون؛ ولقوم يعقلون، لظهورها، فلما كان في أول الأمر ظاهراً ففي آخر الأمر بعد سرد الدلائل يكون أظهر؛ فلم يميز أحداً عن أحد وذكر ما هو مدلوله؛ وهو قدرته على الإعادة قاله الرازي.
(ثم) أي بعد موتكم ومصيركم في القبور (إذا دعاكم دعوة) واحدة (من الأرض) التي أنتم فيها كما يقال: دعوته من أسفل الوادي فطلع إلي وقيل: أي خرجتم من الأرض ولا يجوز أن يتعلق بـ (تخرجون) لأن ما بعد إذا لا يعمل فيما قبلها وهذه الدعوة هي نفخة إسرافيل الآخرة في الصور على ما تقدم بيانه (إذا أنتم تخرجون) أي فاجأتم الخروج منها بسرعة من غير تلبث ولا توقف كما يجيب المدعو المطيع دعوة الداعي المطاع وإذا الفجائية تقوم مقام الفاء في جواب الشرط، وقال هنا: إذا أنتم، وقال في خلق الإنسان: ثم إذا أنتم بشر تنتشرون، لأن هناك يكون خلق وتقدير وتدريج حتى يصير التراب قابلاً للحياة فتنفخ فيه الروح فإذا هو بشر وأما في الإعادة فلا يكون تدريج بل يكون بدء وخروج فلم يقل هنا (ثم) ذكره الكرخي، وقد أجمع القراء على فتح التاء في (تخرجون) هنا وإنما قرئ بضمها في الأعراف(10/241)
وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (26)
(وله من في السماوات والأرض) من جميع المخلوقات ملكاً وتصرفاً وخلقاً ليس لغيره في ذلك شيء.
(كل له قانتون) مطيعون طاعة انقياد قاله النحاس، وقيل: مقرون بالعبودية إما بالمقال وإما بالدلالة قاله عكرمة وأبو مالك والسدي وقيل: مصلون وقيل: قائمون يوم القيامة، كقوله: يوم يقوم الناس لرب العالمين أي للحساب قاله الربيع بن أنس، وقيل: بالشهادة أنهم عباده قال الحسن وقيل مطيعون لأفعاله لا يمتنع عليه شيء يريد فعله بهم، من حياة وموت ومرض وصحة فهي طاعة الإرادة، لا طاعة العبادة وقيل: مخلصون قاله سعيد بن جبير وقال ابن عباس: مطيعون في الحياة والنشور والموت وهم له عاصون فيما سوى ذلك من العبادة.(10/241)
وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27) ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (28)(10/242)
وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27)
(وهو الذي يبدأ الخلق) للناس (ثم يعيده) بعد الموت فيحيييه الحياة الدائمة (وهو) أي البعث أو الإعادة نظراً إلى المعنى دون اللفظ وهو رجعة أو ردة أو تذكيره باعتبار الخبر (أهون عليه) أي هين لا يستصعبه أو أهون عليه بالنسبة إلى قدرتكم وعلى ما يقوله بعضكم لبعض وإلا فلا شيء في قدرته بعضه أهون من بعض بل كل الأشياء مستوية يوجدها بقوله كن فيكون قال أبو عبيد: من جعل أهون عبارة عن تفضيل شيء على شيء فقوله مردود بقوله (وكان ذلك على الله يسيراً) وبقوله (وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا) والعرب تحمل أفعل على فاعل كثيراً كما في قول الفرزدق:
إن الذي سمك السماء بنى لنا ... بيتاً دعائمه أعز وأطول
أي عزيزة طويلة. وأنشد أحمد بن يحيى ثعلب على ذلك:
تمنى رجال أن أموت وإن أمت ... فتلك سبيل لست فيها بأوحد
أي بواحد، وكقولهم: الله أكبر، أي كبير، وهي رواية العوفي عن ابن عباس، وقرأ ابن مسعود: وهو عليه هين. وقال مجاهد، وعكرمة، والضحاك: إن الإعادة أهون على الله من البداءة أي أيسر وإن كان جميعه هيناً وقيل: المراد أن الإعادة فيما بين الخلق أهون من البداءة، وقيل: الضمير في عليه للخلق أي: والعود أهون على الخلق، أي أسرع واقصر عليه وأيسر وأقل انتقالاً من طور إلى طور لأنه يصاح بهم صيحة واحدة، فيقومون ويقال لهم:(10/242)
كونوا فيكونون، فذلك أهون عليهم من أن يكونوا نطفة، ثم علقة، ثم مضغة، إلى آخر النشأة. وقال ابن عباس: الإعادة أهون على المخلوق لأنه يقول له يوم القيامة كن فيكون، وابتداء الخلقة من نطفة ثم من علقة، ثم من مضغة.
(وله المثل الأعلى) أي: الوصف الأعلى العجيب الشأن من القدرة العامة والحكمة التامة وسائر صفات الكمال، والجلال، والجمال، التي ليس لغيره ما يدانيها فضلاً عما يساويها، وقال الخليل: المثل الصفة أي: وله الوصف الأعلى قول: لا إله إلا الله أي الوحدانية، وبه قال قتادة وقال الزجاج: وله المثل الأعلى.
(في السماوات والأرض) مرتبط بما قبله، وهو قوله: وهو أهون عليه، قد ضربه لكم مثلاً فيما يصعب ويسهل، وقيل: مرتبط بما بعده من قوله " ضرب لكم مثلاً من أنفسكم " وقيل: المثل الأعلى هو أنه ليس كمثله شيء، قاله ابن عباس. وقيل: هو أن ما أراده كان بقول: كن، والمعنى أنه سبحانه عرف بالمثل الأعلى ووصف به في السماوات والأرض، أي في هاتين الجهتين؛ وقيل: غير ذلك (وهو العزيز) في ملكه القادر الذي لا يغالب (الحكيم) في أفعاله وأقواله.(10/243)
ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (28)
(ضرب لكم) أيها المشركون (مثلاً) قد تقدم تحقيق معنى المثل (من أنفسكم) من لابتداء الغاية أي مثلاً منتزعاً كائناً ومأخوذاً من أنفسكم، فإنها أقرب شيء منكم وأبين من غيرها عندكم فإذا ضرب لكم المثل بها في بطلان الشرك كان أظهر دلالة وأعظم وضوحاً ثم بين المثل المذكور فقال: (هل لكم مما ملكت أيمانكم)؟ من للتبعيض أي من مماليككم وفي قوله (من شركاء) زائدة للتأكيد، والمعنى هل لكم شركاء؟
(فيما زرقناكم) من الأموال وغيرها كائنون من النوع الذي ملكت أيمانكم، وهم العبيد والإماء؟ والاستفهام للإنكار. قال ابن عباس في(10/243)
الآية: كان يلبي أهل الشرك: لبيك لا شريك لك إلا شريك هو لك تملكه وما ملك، فأنزل الله هذه الآية.
(فأنتم) وهم (فيه سواء) أي مستوون في التصرف فيه على عادة الشركاء، وهذا جواب للاستفهام الذي بمعنى النفي، ومحقق لنفي الشركة بينهم وبين العبيد والإماء المملوكين لهم في أموالهم، والمعنى هل ترضون لأنفسكم والحال أن عبيدكم وإماءكم أمثالكم في البشرية أن يساووكم في التصرف بما رزقناكم من الأموال؟ ويشاركوكم فيها من غير فرق بينكم وبينهم؟
(تخافونهم) خيفة (كخيفتكم أنفسكم) أي كما تخافون الأحرار المشابهين لكم في الحرية وملك الأموال، وجواز التصرف. والمراد نفي الأشياء الثلاثة، الشركة بينهم وبين المملوكين، والاستواء معهم وخوفهم إياهم. وليس المراد ثبوت الشركة ونفي الاستواء والخوف كما قيل في قولهم: ما تأتينا فتحدثنا. والمراد إقامة الحجة على المشركين فإنهم لا بد أن يقولوا: لا نرضى بذلك، فيقال لهم: فكيف تنزهون أنفسكم عن مشاركة المملوكين لكم؟ وهم أمثالكم في البشرية، وتجعلون عبيد الله شركاء له؟ فإذا بطلت الشركة. بين الله وبين أحد من خلقه، والخلق كلهم عبيد الله تعالى، لم يبق إلا أنه الرب وحده لا شريك له. قرئ أنفسكم بالنصب على أنه معمول المصدر المضاف إلى فاعله، وبالرفع على إضافة المصدر إلى مفعوله.
(كذلك نفصل الآيات) تفصيلاً واضحاً وبياناً جلياً لأن التمثيل مما يكشف المعاني ويوضحها (لقوم يعقلون) لأنهم الذين ينتفعون بالآيات التنزيلية، والتكوينية باستعمال عقولهم في تدبرها والتفكر فيها، ثم أضرب سبحانه عن مخاطبة المشركين وإرشادهم إلى الحق بما ضرب لهم من المثل فقال:(10/244)
بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (29) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32) وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (33)(10/245)
بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (29)
(بل اتبع الذين ظلموا) بالإشراك، وفيه الإضراب مع الالتفات وأقيم الظاهر مقام الضمير للتسجيل عليهم بوصف الظلم (أهواءهم بغير علم) أي: لم يعقلوا الآيات بل اتبعوا أهواءهم الزائغة، وآراءهم الفاسدة الزائفة، والمعنى جاهلين بأنهم على ضلالة.
(فمن يهدي من أضل الله) أي: لا أحد يقدر على هدايته، لأن الرشاد والهداية بتقدير الله وإرادته (وما لهم) أي: ما لهؤلاء الذين أضلهم الله، والجمع باعتبار معنى من (من ناصرين) ينصرونهم، ويحولون بينهم وبين عذاب الله سبحانه؛ ثم أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بتوحيده وعبادته كما أمره فقال:(10/245)
فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30)
(فأقم وجهك للدين حنيفاً) شبه الإقبال على الدين بتقويم وجهه إليه، وإقباله عليه، أي مائلاً إليه مستقيماً عليه غير ملتفت إلى غيره من الأديان الباطلة فإن من اهتم بالشيء عند عليه طرفه وسدد إليه نظره، وقوم له وجهه مقبلاً عليه.(10/245)
(فطرة الله التي فطر الناس عليها) الفطرة في الأصل الخلقة، والمراد بها هنا الملة وهي الإسلام والتوحيد. قال الواحدي: هذا قول المفسرين في الفطرة وقيل: المراد بها قابلية الدين والتهيوء له، وترسم الفطرت بالتاء المجرورة، وليس في القرآن غيرها، والمراد بالناس هنا الذين فطرهم الله على الإسلام، لأن المشرك لم يفطر على الإسلام، وهذا الخطاب وإن كان خاصاً برسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأمته داخلة معه فيه. قال القرطبي: باتفاق من أهل التأويل، والأولى حمل الناس على العموم من غير فرق بين مسلمهم وكافرهم، وأنهم جميعاً مفطورون على ذلك لولا عوارض تعرض لهم، فيبقون بسببها على الكفر، كما في حديث أبي هريرة الثابت في الصحيح قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " ما من مولود إلا يولد على الفطرة " وفي رواية: على هذه الملة، ولكن أبواه يهودانه، وينصرانه، ويمجسانه: كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء. هل تحسون فيها من جدعاء؟ ثم يقول أبو هريرة: واقرأوا إن شئتم (فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله) وفي رواية: حتى تكونوا أنتم تجدعونها.
أخرج أحمد والنسائي، والحاكم، وصححه، وغيرهم، عن أسود بن سريع: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث سرية إلى خيبر فقاتلوا المشركين فانتهى القتل إلى الذرية. فلما جاءوا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " ما حملكم على قتل الذرية؟ قالوا: يا رسول الله إنما كانوا أولاد المشركين، قال: وهل خياركم إلا أولاد المشركين؟ والذي نفسي بيده، ما من نسمة تولد إلا على الفطرة، حتى يُعْرِبَ عنها لسانها ".
وأخرج أحمد من حديث جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " كل مولود يولد على الفطرة حتى يعبر عنه لسانه، فإذا عبر عنه لسانه، إما شاكراً وإما كفوراً "
وروى الإمام أحمد في المسند عن عياش بن حماد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -(10/246)
خطب يوماً فقال في خطبته حاكياً عن الله سبحانه وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فأضلتهم عن دينهم. وحرمت عليهم ما أحللت لهم الحديث. وهذا معاضد لحديث أبي هريرة المتقدم، فكل فرد من أفراد الناس مفطور، أي مخلوق على ملة الإسلام، ولكن لا اعتبار بالإيمان والإسلام الفطريين، وإنما يعتبر الإيمان والإسلام الشرعيان. وهذا قول جماعة من الصحابة ومن بعدهم وقول جماعة من المفسرين، وهو الحق.
والقول بأن المراد بالفطرة هنا الإسلام هو مذهب جمهور السلف، قال آخرون: هي البداءة التي ابتدأهم عليها فإنه ابتدأهم للحياة والموت والسعادة والشقاوة، والفاطر في كلام العرب: هو المبتدئ، وهذا مصير من القائلين به إلى معنى الفطرة لغة. وإهمال معناها شرعاً، والمعنى الشرعي مقدم على المعنى اللغوي باتفاق أهل الشرع، ولا ينافي ذلك ورود الفطرة في الكتاب أو السنة في بعض المواضع مراداً بها اللغوي. كقوله تعالى: (الحمد لله فاطر السماوات والأرض) أي خالقهما ومبتديهما، وكقوله: (وما لي لا أعبد الذي فطرني) إذ لا نزاع في أن المعنى اللغوي هو هذا، ولكن النزاع في المعنى الشرعي للفطرة، وهو ما ذكره الأولون كما بيناه. وانتصاب فطرة على أنها مصدر مؤكد للجملة التي قبلها. وقال الزجاج: منصوب بمعنى اتبع فطرة الله، قال: لأن معنى فأقم وجهك للدين: اتبع الدين واتبع فطرة الله: وقال ابن جرير: هي مصدر من معنى فأقم وجهك، لأن معنى ذلك فطرة الله الناس على الدين. وقيل: هي منصوبة على الإغراء، أي الزموا فطرة الله، أو عليكم فطرة الله، ورد هذا الوجه أبو حيان، وقال: إن كلمة الإغراء لا تضمر، إذ هي عوض عن الفعل، فلو حذفها لزم حذف العوض والمعوض عنه، وهو إجحاف، وأجيب بأن هذا رأي البصريين، وأما الكسائي وأتباعه فيجيزون ذلك.
(لا تبديل لخلق الله) أي لما جبلكم وطبعكم عليه من قبول الحق، وهذا تعليل لما قبله من الأمر بلزوم الفطرة. أي هذه الفطرة التي فطر الله الناس(10/247)
عليها. لا تبديل لها من جهة الخالق سبحانه، أو تعليل لوجوب الامتثال له، أي لا صحة ولا استقامة لتبديله بالإخلال بموجبه، وعدم ترتيب مقتضاه عليه باتباع الهوى، وقبول وسوسة الشياطين.
وقيل: لا يقدر أحد أن يغيره، فلا بد حينئذ من حمل التبديل على تبديل نفس الفطرة بإزالتها رأساً، ووضع فطرة أخرى مكانها غير مصححة لقبول الحق، والتمكن من إدراكه ضرورة أن التبديل بالمعنى الأول مقدور، بل واقع قطعاً، فالتعليل حينئذ من جهة أن سلامة الفطرة متحققة في كل أحد، فلا بد من لزومها بترتيب مقتضاها عليها وعدم الإخلال به بما ذكر من اتباع الهوى، وخطوات الشيطان، ذكره أبو السعود.
وقيل: هو نفي؛ معناه: النهي. أي: لا تبدلوا خلق الله، قال مجاهد وإبراهيم النخعي: معناه لا تبديل لدين الله، قال قتادة، وابن جبير، والضحاك، وابن زيد: هذا في المعتقدات، وقال عكرمة: إن المعنى لا تغيير لخلق الله في البهائم، بأن تخصى فحولها. وقيل: لا تبدلوا التوحيد بالشرك، والسنة بالبدعة، وقيل: لا تبديل لما جبل عليه الإنسان من السعادة والشقاوة، فلا يصير السعيد شقياً، ولا الشقي سعيداً.
(ذلك) الدين المأمور بإقامة الوجه له هو (الدين القيم) أو لزوم الفطرة هو الدين القيم، أي: المستقيم. وقال ابن عباس: الدين: القضاء (ولكن أكثر الناس) أي: كفار مكة (لا يعلمون) ذلك حتى يفعلوه ويعملوا به.(10/248)
مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31)
(منيبين) أي: راجعين (إليه) بالتوبة والإخلاص، ومطيعين له في أوامره ونواهيه. قال الجوهري: أناب إليّ أي: أقبل وتاب. قال الفراء: فأقم وجهك. ومن معك، منيبين، وكذا قال الزجاج. وقال تقديره: فأقم وجهك وأمتك، فالحال من الجميع، وقيل: كونوا منيبين إليه، لدلالة ولا تكونوا من المشركين، على ذلك، ثم أمرهم سبحانه بالتقوى بعد أمرهم(10/248)
بالإنابة فقال (واتقوه) أي: خافوه باجتناب معاصيه.
(وأقيموا الصلاة) التي أمرتم بها (ولا تكونوا من المشركين) بالله أي ممن يشرك به غيره في العبادة وقوله(10/249)
مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32)
(من الذين فرقوا دينهم) باختلافهم فيما يعبدونه، وهو بدل مما قبله بإعادة الجار.
(وكانوا شيعاً) الشيع: الفرق، أي لا تكونوا من الذين تفرقوا فرقاً في الدين، يشايع بعضهم بعضاً، من أهل البدع والأهواء، وقيل المراد بهم اليهود والنصارى، وقرئ فرقوا دينهم، أي الذي يجب اتباعه وهو التوحيد، وهي سبعية، وقد تقدم تفسير هذه الآية في آخر سورة الأنعام.
(كل حزب) أي كل فريق منهم (بما لديهم) من الدين المبني على غير الصواب (فرحون) أي مسرورون مبتهجون يظنون أنهم على الحق وليس بأيديهم منه شيء، والجملة اعتراض مقرر لا قبله من تفريقهم دينهم، وكونهم شيعاً.(10/249)
وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (33)
(وإذا مس الناس) أي: كفار مكة وغيرهم (ضر) أي قحط وشدة، أو هزال، أو مرض (دعوا ربهم) أن يرفع ذلك عنهم واستعانوا به (منيبين) أي راجعين ملتجئين (إليه) لا يعولون على غيره، وقيل: مقبلين عليه بكل قلوبهم.
(ثم إذا أذاقهم منه رحمة) بإجابة دعائهم، ورفع تلك الشدائد عنهم (إذا فريق منهم بربهم يشركون) إذا: هي الفجائية وقعت جواباً للشرط؛ كأنها كالفاء في إفادة التعقيب، أي: فاجأ فريق منهم بالإشراك، وهم الذين دعوه فخلصهم مما كانوا فيه، وهذا الكلام مسوق للتعجيب من أحوالهم، وما صاروا عليه من الاعتراف بوحدانية الله سبحانه عند نزول الشدائد والرجوع إلى الشرك عند رفع ذلك عنهم، وفيه مراعاة معنى لفظ الفريق وكذا في قوله.(10/249)
لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (34) أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (35) وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ (36) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (37) فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (38)(10/250)
لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (34)
(ليكفروا بما آتيناهم) أي بنعمة الله عليهم، واللام لام كي، وقيل: لام الأمر لقصد الوعيد والتهديد، وقيل: هي لام العاقبة التي تقتضي المهلة، سميت لام المآل، والشرك والكفران متقارنان، لا مهلة بينهما، ثم خاطب سبحانه هؤلاء الذين وقع منهم ما وقع فقال: (فتمتعوا) أريد به التهديد أيضاً، وفيه التفات عن الغيبة إلى الخطاب لأجل المبالغة في زجرهم، وقرئ فتمتعوا على الخطاب، وبالتحتية على البناء للمفعول؛ وفي مصحف ابن مسعود: فليتمتعوا (فسوف تعلمون) ما يتعقب هذا التمتع الزائل من العذاب الأليم.(10/250)
أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (35)
(أم أنزلنا عليهم سلطاناً) أم، هي المنقطعة، والاستفهام للإنكار، على مذهب الكوفيين، ومذهب البصريين أنها بمعنى بل والهمزة. والسلطان: الحجة الظاهرة، وفيه التفات عن الخطاب إلى الغيبة للإيذان بالإعراض عنهم وبعدهم عن ساحة الخطاب، قال الفراء: إن العرب تؤنث السلطان، يقولون: قضت به عليك السلطان، فأما البصريون فالتذكير عندهم أفصح، وجاء به القرآن، والتأنيث عندهم جائز لأنه بمعنى الحجة، وقيل: المراد بالسلطان هنا: الملك.
(فهو يتكلم) أي يدل، كما في قوله: (هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق) وهو في حيز النفي المستفاد من أم (بما كانوا يشركون) أي ينطق بإشراكهم(10/250)
بالله سبحانه أو المعنى بالأمر الذي كانوا بسببه يشركون.(10/251)
وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ (36)
(وإذا أذقنا الناس) أي كفار مكة وغيرهم (رحمة) أي خصباً ومطراً؛ ونعمة وسعة وصحة وعافية (فرحوا بها) فرح بطر وأشر، لا فرح شكر بها وابتهاج بوصولها إليهم، كما دل عليه قوله: (قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا) ثم قال سبحانه:
(وإن تصيبهم سيئة) أي بلاء من جدب، أو ضيق، أو مرض أو شدة على أي صفة (بما قدمت أيديهم) أي بسبب شؤم ذنوبهم (إذا هم يقنطون) القنوط الإياس من الرحمة، كذا قال الجمهور؛ وقال الحسن: القنوط ترك فرائض الله سبحانه؛ وقرئ يقنطون بفتح النون وبكسرها؛ وهما سبعيتان، وبابه ضرب وتعب؛ والمعنى إذا هم ييأسون، وهذا خلاف وصف المؤمنين؛ فإن من شأنهم أن يشكروا عند النعمة؛ ويرجوا ربهم عند الشدة أو يقال: الدعاء اللساني بناء على مجرد العادة لا ينافي القنوط القلبي، وقد يشاهد مثل ذلك في كثير من الناس، فلا يخالف هذا قوله: (دعوا ربهم منيبين إليه) أو المراد يفعلون فعل القانطين، كالاهتمام بجمع الذخائر أيام الغلاء، قاله الكرخي.(10/251)
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (37)
(أولم يروا) أي فما بالهم لم يشكروا في السراء والضراء، كالمؤمنين ولم يعلموا (أن الله يبسط الرزق) أي يوسعه (لمن يشاء) من عباده امتحاناً هل يشكر أم يطغى فيكفر؟ (ويقدر) أي يضيق على من يشاء ابتلاء هل يصبر أم يضيق ذرعاً فيكفر (إن في ذلك) البسط والقبض (لآيات لقوم يؤمنون) فيستدلون بها على الحق لدلالتها على كمال القدرة وبديع الصنع وغريب الخلق والحكمة، ولما بين سبحانه كيفية التعظيم لأمر الله أشار إلى ما ينبغي من مواساة القرابة وأهل الحاجات ممن بسط الله له في رزقه فقال:(10/251)
فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (38)
(فآت ذا القربى حقه) الخطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأمته أسوته، أو لكل مكلف له مال وسع الذ به عليه وقدم الإحسان إلى القرابة لأن خير الصدقة ما كان على قريب فهو صدقة مضاعفة وصلة رحم مرغب فيها،(10/251)
والمراد الإحسان إليهم بالصدقة والصلة والبر سواء كانوا في مخمصة أولم يكونوا وقيل فيه دليل على وجوب النفقة للمحارم (وبه قالت الحنفية، وعدم ذكر بقية الأصناف المستحقين للزكاة يدل على أن ذلك في صدقة التطوع) وقاس الشافعي سائر الأقارب ما عدا الفروع والأصول على ابن العم، لأنه لا ولادة بينهم، ولا يصح حمل الصدقة على الواجبة وهي الزكاة لأن السورة مكية، والزكاة ما فرضت إلا في السنة الثانية من الهجرة بالمدينة وللقريب الفقير في مال قريبه الغني حق واجب، وبه قال مجاهد وقتادة، قال مجاهد: لا تقبل صدقة من أحد ورحمه محتاج وقيل: المراد بالقربى: النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال القرطبي: والأول أصح، فإن حقهم مبين في كتاب الله عز وجل في قوله (فإن لله خمسه وللرسول ولذي القربى) وقال الحسن: إن الأمر في إيتاء ذي القرب للندب.
(والمسكين وابن السبيل) أي آتهما حقهما الذي يستحقانه، ووجه تخصيص الأصناف الثلاثة بالذكر أنهم أولى من سائر الأصناف، ولكون ذلك واجباً لهم على كل من له مال فاضل عن كفايته وكفاية من يعول، سواء كان زكوياً أو لم يكن، وسواء كان قبل الحول أو بعده، لأن المقصود هنا الشفقة العامة وهؤلاء الثلاثة يجب الإحسان إليهم، وإن لم يكن للإنسان مال زائد، والفقير داخل في المسكين، لأن من أوصى للمساكين بشيء يصرف إلى الفقراء أيضاً وإذا نظرت إلى الباقين من الأصناف، رأيتهم لا يجب صرف المال إليهم إلا على الذين وجبت الزكاة عليهم، وأما المسكين فحاجته ليست مختصة بموضع فقدم على من حاجته مختصة بموضع دون موضع قال مقاتل: حق المسكين أن يتصدق عليه، وحق ابن السبيل الضيافة، وقد اختلف في هذه الآية هل هي محكمة أو منسوخة فقيل: هي منسوخة بآية المواريث، وقيل محكمة.
(ذلك خير للذين يريدون وجه الله) أي ذلك الإيتاء أفضل من الإمساك لمن يريد التقرب إلى الله سبحانه، ويقصد بمعروفه إياه خالصاً (وأولئك هم المفلحون) أي الفائزون بمطلوبهم حيث أنفقوا لوجه الله امتثالاً لأمره.(10/252)
وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (39) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (40)(10/253)
وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (39)
(وما آتيتم) بالمد بمعنى: أعطيتنم، وقرئ بالقصر بمعنى: ما فعلتم، وهما سبعيتان، وقيل بالقصر بمعنى: ما جئتم به من إعطاء ربا، وهو يؤول من حيث المعنى إلى القراءة المشهورة، لأنه يقال: آتى معروفاً، وأتى قبيحاً إذا فعلهما.
(من ربا) وأجمعوا على الأولى في قوله: وما آتيتم من زكاة، أصل الربا الزيادة والمعني: ما أعطيتم من زيادة خالية عن العوض بأن تعطوا شيئاًً هبة أو هدية.
(ليربوا في أموال الناس) أي ليزيد ويزكو في أموالهم (فلا يربو عند الله) قرئ بالتحتية، على أن الفعل مسند إلى ضمير الربا، وقرئ بالفوقية مضمومة خطاباً للجماعة، بمعنى لتكونوا ذوي زيادات، وقرئ لتربوها، ومعنى الآية: أنه لا يزكو عند الله ولا يثيب عليه، لأنه لا يقبل إلا ما أريد به وجهه خالصاً، قال السدي: الربا في هذا الموضع: الهدية يهديها الرجل لأخيه يطلب المكافأة، فإن ذلك لا يربو عند الله، أي لا يؤجر عليه صاحبه، ولا إثم عليه وهكذا قال قتادة والضحاك قال الواحدي: وهذا قول جماعة المفسرين قال الزجاج: يعني دفع الرجل الشيء ليعوض أكثر منه، وذلك ليس بحرام ولكنه لا ثواب فيه لأن الذي يهبه يستدعي به ما هو أكثر منه.(10/253)
وقال الشعبي: معنى الآية أن ما خدم به الإنسان أحداً لينتفع به في دنياه فإن ذلك النفع الذي يجري به الخدمة، لا يربو عند الله وقيل: هذا كان حراماً على النبي صلى الله عليه وآله وسلم على الخصوص، لقوله سبحانه (ولا تمنن تستكثر) ومعناها: إن تعطي فتأخذ أكثر منه عوضاً عنه وحرم عليه تشريفاً له، وقيل: إن هذه الآية نزلت في هبة الثواب، وبه قال ابن عباس وابن جبير، وطاوس، ومجاهد، قال ابن عطية وما يجري مجراه مما يصنعه الإنسان ليجازى عليه كالسلام وغيره، وهو وإن كان لا إثم فيه، فلا أجر ولا زيادة عند الله.
قال عكرمة: الربا ربوان، فربا حلال، وربا حرام، فأما الربا الحلال فهو الذي يهدي يلتمس ما هو أفضل منه، يعني كما في هذه الآية. وقيل: إن هذا الذي في هذه الآية هو الربا المحرم، فمعنى لا يربو عند الله على هذا القول: لا يحكم به، بل هو للمأخوذ منه، قال المهلب: اختلف العلماء فيمن وهب هبة يطلب بها الثواب، فقال مالك: ينظر فيه، فإن كان مثله ممن يطلب الثواب من الموهوب له فله مثل ذلك، مثل هبة الفقير للغني، وهبة الخادم للمخدوم، وهبة الرجل لأميره، وهو أحد قولي الشافعي رحمه الله. وقال أبو حنيفة رحمه الله: لا يكون له ثواب إذا لم يشترط، وهو قول الشافعي رحمه الله الآخر.
وعن عليّ قال: المواهب ثلاثة: موهبة يراد بها وجه الله، وموهبة يراد بها ثناء الناس، وموهبة يراد بها الثواب؛ فموهبة الثواب يرجع فيها صاحبها إذا لم يثب عليها، بخلاف القسمين الآخرين، فلا يرجع فيهما صاحبهما. قال ابن عباس: في الآية الربا ربوان، ربا لا بأس به، وربا لا يصلح، فأما الربا الذي لا بأس به، فهدية الرجل إلى الرجل يريد فضلها وإضعافها، وعنه قال: هذا هو الربا الحلال أن يهدي يريد أكثر منه وليس له أجر ولا وزر، ونهى النبي - صلى الله عليه وسلم - خاصة فقال: ولا تمنن تستكثر.
(وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله) أي: وما أعطيتم من صدقة(10/254)
تطوع لا تطلبون بها المكافأة، وإنما تقصدون بها ما عند الله (فأولئك هم المضعفون) أي ذوو الأضعاف من الحسنات، الذين يعطون بالحسنة عشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف. قال الفراء: هو نحو قولهم: مسمن، ومعطش، ومضعف إذا كانت له إبل سمان وعطاش وضعيفة، وقرئ بفتح العين اسم مفعول وفيه التفات حسن عن الخطاب، لأنه يفيد التعظيم، كأنه خاطب به الملائكة وخواص الخلق تعريفاً لحالهم، فهو أمدح لهم من أن يقول: فأنتم المضعفون أو للتعميم لغير المخاطبين، كأنه قال: من فعل هذا فسبيله سبيل المخاطبين، وكان مقتضى ظاهر المقابلة أن يقال: فيربو عند الله فغير عبارة الربا إلى الإضعاف ونظم الفعلية إلى الإسمية الدال على الدوام، المشتملة على ضمير الفصل، المفيد للحصر، والمعنى: المضعفون به لأنه لا بد له من ضمير يرجع إلى ما الموصولة.(10/255)
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (40)
(اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) عاد سبحانه إلى الاحتجاج على المشركين، وأنه الخالق الرازق، المميت المحيي، أي المختص بالخلق، والرزق، والإماتة، والإحياء؛ ثم قال على جهة الاستفهام: (هل من شركائكم) أي أصنامكم التي زعمتم أنهم شركاء، وأضاف الشركاء إليهم لأنهم كانوا يسمونهم آلهة ويجعلون لهم نصيباً من أموالهم.
(من يفعل من ذلكم)؟ أي: الخلق والرزق والإماتة والإحياء (من شيء) أي شيئاًً من هذه الأفعال؟ ومعلوم أنهم يقولون: ليس فيهم من يفعل شيئاًً من ذلك، فتقوم عليهم الحجة، و (من) الأولى والثانية لبيان شروع الحكم في جنس الشركاء والأفعال، والثالثة مزيدة لتعميم النفي، ثم نزه سبحانه نفسه فقال: (سبحانه وتعالى عما يشركون) أي نزهوه تنزيهاً، وهو متعال عن أن يجوز عليه شيء من ذلك.(10/255)
ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ (42)(10/256)
ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41)
(ظهر الفساد) بين سبحانه أن الشرك والمعاصي سبب لظهور الفساد (في البر والبحر) أي العالم، والفساد من فسد كنصر وكرم، فساداً ضد صلح فهو فاسد، والفساد أخذ المال ظلماً والجدب والمفسدة ضد المصلحة، واختلف في معنى ظهور الفساد المذكور، فقيل: هو القحط وعدم النبات ونقصان الرزق، وكثرة الخوف، ونحو ذلك، وقال مجاهد وعكرمة: فساد البر قتل ابن آدم أخاه. يعني قتل قابيل لهابيل، وفساد البحر الملك الذي يأخذ كل سفينة غصباً. وليت شعري أي دليل دلهم على هذا التخصيص البعيد والتعيين الغريب؟ فإن الآية نزلت على محمد - صلى الله عليه وسلم -، والتعريف في الفساد يدل على الجنس، فيعم كل فساد واقع في حيز البر والبحر.
وقال السدي: الفساد الشرك، وهو أعظم الفساد، ويمكن أن يقال: إن الشرك وإن كان الفرد الكامل في أنواع المعاصي، ولكن لا دليل على أنه المراد بخصوصه وقيل: الفساد كساد الأسعار وقلة المعاش، وقيل: قطع السبل والظلم وقيل: نقصان البركة بأعمال العباد كي يتوبوا، قال النحاس: وهو أحسن ما قيل في الآية. وعنه أن الفساد في البحر انقطاع صيده بذنوب بني آدم. قال ابن عطية: فإذا قل المطر قل الغوص فيه، وعميت دواب البحر. وقيل غير ذلك مما هو تخصيص لا دليل عليه، والظاهر من الآية ظهور ما يصح إطلاق اسم الفساد عليه، سواء كان راجعاً إلى أفعال بني آدم من معاصيهم واقترافهم السيئات، وتقاطعهم وتظالمهم، وتقاتلهم، أو راجعاً إلى ما هو من جهة الله سبحانه،(10/256)
بسبب ذنوبهم، كالقحط وكثرة الخوف، والموتان ونقصان الزرائع والثمار، وكثرة الحرق والغرق ومحق البركات من كل شيء، والبر والبحر هما المعروفان المشهوران.
وقيل: البر الفيافي، والبحر القرى التي على ماء، قاله عكرمة، والعرب تسمي الأمصار البحار. قال مجاهد: البر ما كان من المدن والقرى على غير نهر، والبحر ما كان على شط نهر، وعن ابن عباس نحوه، والأول أولى، ويكون معنى البر مدن البر، ومعنى البحر مدن البحر، وما يتصل بالمدن من مزارعها ومراعيها.
(بما كسبت أيدي الناس) من المعاصي والذنوب، والباء للسببية وأما (ما) موصولة أو مصدرية (ليذيقهم بعض الذي عملوا) اللام للعلة، أي: ليذيقهم بعض عقوبة عملهم، أو جزاء بعض عملهم في الدنيا، قبل أن يعاقبهم بجميعها في الآخرة. وقيل: للصيرورة، قرئ بالياء وبنون العظمة (لعلهم يرجعون) عما هم فيه من المعاصي، ويتوبون إلى الله، قال ابن عباس: يرجعون من الذنوب. ولما بيَّن سبحانه ظهور الفساد فيهما بما كسبت أيدي المشركين والعصاة بين لهم ضلال أمثالهم من أهل الزمن الأول فقال:(10/257)
قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ (42)
(قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة الذين من قبل) أمرهم بأن يسيروا لينظروا آثارهم، ويشاهدوا كيف كانت عاقبتهم. فإن منازلهم خاوية وأراضيهم مقفرة موحشة، كعاد وثمود ونحوهم من طوائف الكفار (كان أكثرهم مشركين) مستأنفة لبيان الحالة التي كانوا عليها، وإيضاح السبب الذي صارت عاقبتهم به إلى ما صارت إليه، وهو فشو الشرك والعصيان فيما بينهم، أو كان الشرك في أكثرهم وما دونه من المعاصي في قليل منهم.(10/257)
فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (43) مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (44) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (45) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (46) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47)(10/258)
فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (43)
(فأقم) خطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وأمته أسوته فيه، كأن المعنى: إذاً قد ظهر الفساد بالسبب المتقدم فأقم (وجهك) يا محمد (للدين القيم) قال الزجاج: اجعل جهتك اتباع الدين القيم البليغ الاستقامة، الذي لا يتأتى فيه عوج وهو الإسلام. وقيل: المعنى: أوضح الحق وبالغ في الإعذار، واشتغل بما أنت فيه ولا تحزن عليهم. قاله القرطبي.
(من قبل أن يأتي يوم) يعني يوم القيامة (لا مرد له من الله) المرد مصدر، رد، أي لا يقدر أحد على أن يرده كقوله: لا يستطيعون ردها فلا بد من وقوعه، وقيل: المعنى لا يرده الله لتعلق إرادته القديمة بمجيئه، قاله أبو السعود (يومئذ) أي: يوم إذ يأتي هذا اليوم.
(يصدعون) أصله يتصدعون، والتصدع: التفرق، يقال: تصدع القوم، إذا تفرقوا، ومنه قول الشاعر (1):
وكنا كندماني حذيمة حقبة ... من الدهر حتى قيل لن يتصدعا
_________
(1) الشاعر هو متمم بن نويرة يرثي أخاه مالكاً الذي قتل في حروب الردة والبيت الذي يليه:
فلما تفرقنا كأني ومالكاً ... لطول اجتماع لم نبت ليلة معاً. المطيعي(10/258)
وفي المصباح: صدعته صدعاً من باب نفع؛ شققته فانصدع. وصدعت القوم صدعاً فتصدعوا. أي: فرقتهم فتفرقوا، وقوله: فاصدع بما تؤمر، قيل: مأخوذ من هذا، أي: شق جماعاتهم بالتوحيد، وقيل: افرق بذلك بين الحق والباطل. وقيل: أظهر ذلك، وصدعت بالحق: تكلمت به جهاراً، وصدعت الفلاة: قطعتها، والمراد بتفرقهم أن أهل الجنة يصيرون إلى الجنة، وأهل النار إلى النار، ثم فصل سبحانه المتصدعين بقوله:(10/259)
مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (44)
(من كفر فعليه كفره) أي: جزاء كفره ووباله وهو النار (وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ) أي: يوطئون لأنفسهم منازل في الجنة بالعمل الصالح والمهاد: الفراش، وقد تقول مهدت الفراش مهداً إذا بسطته ووطأته، فجعل الأعمال الصالحة التي هي سبب لدخول الجنة كبناء المنازل في الجنة وفرشها، وقيل: المعنى: فعلى أنفسهم يشفقون، من قولهم يا المشفق أم فرشت فأنامت، وتقديم الظرف في الموضعين للدلالة على الاختصاص، وقال مجاهد: فلأنفسهم يمهدون، في القبر، أي يوطئون الضاجع ويسوونها في القبور.(10/259)
لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (45)
(ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات من فضله) والكافرين بعدله، متعلق بيصدعون أو يمهدون أي يتفرقون ليجزي الله المؤمنين بما يستحقونه، على أن ضرر الكفر لا يعود إلا على الكافر، ومنفعة الإيمان والعمل الصالح ترجع إلى المؤمن لا تجاوزه، أو يمهدون لأنفسهم بالأعمال الصالحة ليجزيهم. وقال ابن عطية: تقديره ذلك ليجزي، وتكون الإشارة إلى ما تقدم من قوله: من كفر ومن عمل. قال ابن عباس: ليثيبهم الله ثواباً أكثر من أعمالهم، وجعل أبو حيان قسيم قوله الذين آمنوا وعملوا الصالحات محذوفاً لدلالة قوله:
(إنه لا يحب الكافرين) عليه، لأنه كناية عن بغضه لهم، الموجب لغضبه سبحانه، وغضبه يستتبع عقوبته؛ وقيل: تقرير بعد تقرير على الطرد(10/259)
والعكس، وفيه تهديد ووعيد لهم.(10/260)
وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (46)
(ومن آياته أن يرسل الرياح) أي: ومن دلالات بديع قدرته تعالى إرسال الرياح، أي (1) الشمال، والصبا، والجنوب، فإنها رياح الرحمة، وأما الدبور فهي ريح العذاب، ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم -: " اللهم اجعلها رياحاً ولا تجعلها ريحاً " قرئ الرياح بالجمع والإفراد على قصد الجنس لأجل قوله (مبشرات) بالمطر لأنها تتقدمه؛ كما في قوله سبحانه بشراً بين يدي رحمته.
(وليذيقكم من رحمته) أي: يرسلها ليذيقكم بها الغيث والخصب، أو نعمته من المياه العذبة، والأشجار الرطبة؛ وصحة الأبدان، وما يتبع ذلك من أمور لا يحصيها إلا الله. وقيل: اللام متعلقة بمحذوف، أي وأرسلها ليذيقكم، وقيل: الواو مزيدة على رأي من يجوز ذلك فتتعلق اللام بيرسل و (من) تبعيضية.
(و) يرسل الرياح (لتجري الفلك) في البحر عند هبوبها، ولما أسند الجري إلى الفلك عقبه بقوله: (بأمره) أي: بتدبيره أو بتكوينه، كقوله: إنما أمره إذا أراد شيئاً الآية (ولتبتغوا) الرزق (من فضله) بالتجارة التي تحملها السفن (ولعلكم تشكرون) هذه النعم فتفردون الله بالعبادة، وتستكثرون من الطاعة.
_________
(1) الشمال ريح تخالف الجنوب والجنوب مهبها من مطلع سهيل إلى مطلع الثريا، والصبا ريح مهبها من مطلع الثريا إلى بنات نعش. المطيعي.(10/260)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47)
(ولقد أرسلنا من قبلك رسلاً إلى قومهم) كما أرسلناك إلى قومك، وهذا تسلية لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو اعتراض بين الكلامين المتصلين معنى، أي: قوله: ومن آياته أن يرسل الرياح، وقوله: الله الذي يرسل الرياح، وقال أبو حيان(10/260)
جاء تأنيساً له - صلى الله عليه وسلم - ووعداً بالنصر ووعيداً لأهل الكفر، وحقية نصر المؤمنين على الله لا تختص بالدنيا بل تعم الآخرة أيضاً فما في الآخرة من متناولات الآية.
(فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ) أي: بالمعجزات الواضحات، والحجج النيرات، على صدقهم في رسالتهم إليهم، فآمن بهم قوم وكفر بهم قوم، ويدل على هذا الإضمار قوله: (فَانْتَقَمْنَا) بالإهلاك في الدنيا (من الذين أجرموا) أي: فعلوا الإجرام وهي الآثام.
(وكان حقاً علينا نصر المؤمنين) على الكافرين بإهلاكهم وإنجاء المؤمنين هذا إخبار من الله سبحانه بأن نصره لعباده المؤمنين حق عليه، وهو صادق الوعد، لا يخلف الميعاد، وفيه تشريف للمؤمنين ومزيد تكرمة لعباده الصالحين.
أخرج الطبراني، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، والترمذي عن أبي الدرداء قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " ما من مسلم يرد عن عرض أخيه إلا كان حقاً على الله أن يرد عنه نار جهنم يوم القيامة، ثم تلا (وكان حقاً علينا نصر المؤمنين) "، وهو من طريق شهر (1) بن حوشب عن أم الدرداء عن أبي الدرداء.
_________
(1) روى شهر بن حوشب الأشعري عن أم سلمة وأبي هريرة وجماعة وعنه قتادة وداود بن أبي هند وعبد الحميد بن بهرام وجماعة قال أحمد بن حنبل روى عن أسماء بنت يزيد أحاديث حساناً. وروى ابن خيثمة ومعاوية ابن صالح عن ابن معين أنه ثقة وقال أبو حاتم: ليس هو بدون أبي الزبير - أحد رجال سفيان بن عيينة، ولا يحتج به، وعن ابن عون تركوه: وقال النسائي وابن عدي ليس بالقوي، قال يحيى بن بكير الكرماني: حدثني أبيّ قال كان شهر على بيت المال فأخذ منه دراهم فقال قائل: لقد باع شهر دينه بخريطة.
وقال الفلاس كان يحيى بن سعيد القطان لا يحدث عن شهر فمن يأمن القراء بعدك. يا شهر والحديث من مكارم الأخلاق وتظاهره أدلة كثيرة من الكتاب والسنة. المطيعي.(10/261)
اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (48) وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (49) فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (50) وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (51)(10/262)
اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (48)
(الله الذي يرسل الرياح) قرئ بالجمع والإفراد، قال أبو عمرو: كل ما كان بمعنى الرحمة فهو جمع، وما كان بمعنى العذاب فهو موحد، وهي مسوقة لبيان ما سبق من أحوال الرياح (فتثير سحاباً) أي تزعجه وتهيجه وتحركه.
(فيبسطه) أي ينشره متصلاً بعضه ببعض، أي ينشره كمال الانتشار وإلا فأصل الانتشار موجود في السحاب دائماً (في السماء) أي في سمت السماء، وجهتها وشقها، كقوله: وفرعها في السماء، أي: في جهة العلو، وليس المراد حقيقة السماء المعروفة (كيف يشاء) تارة سائراً، وتارة واقفاً، وتارة مطبقاً، وتارة غير مطبق؛ وتارة إلى مسافة بعيدة وتارة إلى مسافة قريبة، وتارة من ناحية الشمال، وتارة من ناحية الجنوب أو الدبور أو الصبا وقد تقدم تفسير هذه الآية في البقرة وفي سورة النور.
(ويجعله كسفاً) تارة أخرى، أو يجعله بعد بسطه قطعاً متفرقة بعضها فوق بعض، والكسف جمع كسفة بالكسر: وهي القطعة من الشيء أو السحاب وقرئ بفتح السين وسكونها، والمسكن مخفف من المحرك بمعنى، والقراءتان سبعيتان، وجمع الجمع: أكساف وكسوف. وكسفه يكسفه: قطعه (فترى الودق) أي المطر (يخرج من خلاله) أي: من بينه ووسطه.
(فإذا أصاب به) أي بالودق (من يشاء من عباده) أي: بلادهم(10/262)
وأرضهم (إذا هم يستبشرون) إذا هي الفجائية أي: فاجأوا الاستبشار بمجيء المطر والخصب، والاستبشار: الفرح.(10/263)
وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (49)
(وإن) أي: وإن الشأن، وفسر المحلي إن بقد، تبعاً للبغوي، والأول أولى، ويدل له اللام في لمبلسين، فإنها اللام الفارقة (كانوا من قبل أن ينزل عليهم) المطر (من قبله) تكرير للتأكيد، قاله الأخفش، وأكثر النحويين كما حكاه عنهم النحاس، كقوله: فكان عاقبتهما أنهما في النار خالدين فيها، ومعنى التوكيد فيها على ما قاله الزمخشري: الدلالة على أن عهدهم بالمطر قد تطاول، فاستحكم يأسهم، وتمادى إبلاسهم فكان الاستبشار على قدر اغتمامهم بذلك.
قال السمين: وهو كلام حسن وقال ابن عطية: وفائدة هذا التأكيد الإعلام بسرعة تقلب قلوب البشر من الإبلاس إلى الاستبشار، وذلك أن قوله: من قبل أن ينزل عليهم، يحتمل الفسحة في الزمان، أي: من قبل أن ينزل بكثير كالأيام، فجاء قوله: من قبله بمعنى: إن ذلك متصل بالمطر: فهو تأكيد مفيد، وقال قطرب: إن الضمير في قبله راجع إلى المطر. أي: وإن كانوا من قبل التنزيل من قبل المطر، قيل: المعنى من قبل تنزيل الغيث عليهم: من قبل الزرع والمطر، وقيل: من قبل أن ينزل عليهم: من قبل السحاب، أي من قبل رؤيته، واختار هذا النحاس. وقيل: الضمير عائد إلى الكسف، وقيل: إلى الإرسال، وقيل: إلى الاستبشار، والراجح الوجه الأول، وما بعده من هذه الوجوه كلها ففي غاية التكلف والتعسف.
(لمبلسين) أي آيسين، يقال: أبلس الرجل إبلاساً: سكت، وأبلس أيس، وقد تقدم تحقيق الكلام في هذا.(10/263)
فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (50)
(فانظر إلى آثار رحمه الله) الناشئة عن إنزال المطر من النبات والثمار. والزرائع (1) التي بها يكون الخصب ورخاء العيش؛ أي انظر نظر اعتبار
_________
(1) الزرائع جمع زراعة وليس جمع زرع كرسالة ورسائل وسحابة وسحائب. المطيعي.(10/263)
واستبصار، لتستدل بذلك على توحيد الله، وتفرده بهذا الصنع العجيب؛ والفاء للدلالة على سرعة ترتبها عليه وقرئ: أثر بالتوحيد، وآثار بالجمع سبعية.
(كيف يحيي الأرض بعد موتها)؟ فاعل الإحياء ضمير يعود إلى الله سبحانه وقيل: ضمير يعود إلى الأثر، أي: انظر إلى كيفية هذا الإحياء البديع للأرض بعد موتها، والمراد بالنظر التنبيه على عظيم قدرته، وسعة رحمته، مع ما فيه من التمهيد لأمر البعث، وقرئ تحيي بالفوقية على أن فاعله ضمير يعود إلى الرحمة، أو إلى الآثار.
(إن ذلك) أي: إن الله العظيم الشأن، المخترع لهذه الأشياء المذكورة (لمحيي الموتى) أي: القادر على إحيائهم في الآخرة، وبعثهم ومجازاتهم، كما أحيا الأرض الميتة بالمطر، وهذا استدلال بإحياء الموات على إحياء الأموات (وهو على كل شيء قدير) أي: عظيم القدرة وكثيرها، وهذا من جملة المقدورات بدليل الإنشاء.(10/264)
وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (51)
(ولئن أرسلنا ريحاً) مضرة وهي الريح الدبور التي أهلكت بها عاد (فرأوه) أي: الزرع والنبات الذي كان من أثر رحمة الله (مصفراً) من البرد الناشئ عن الريح التي أرسلها الله بعد اخضراره، وقيل: الضمير راجع إلى الريح، وهو يجوز تذكيره وتأنيثه، وقيل: راجع إلى الأثر المدلول عليه بالآثار، وقيل: راجع إلى السحاب، لأنه إذا كان مصفراً لم يمطر، والأول أولى واللام هي الموطئة، وجواب القسم قوله تعالى: (لظلوا من بعده) وهو يسد مسد جواب الشرط، لأنه اجتمع هنا شرط وقسم، والشرط مؤخر فيحذف جوابه، دلالة عليه بجواب القسم على القاعدة والمعنى: وبالله لئن أرسلنا ريحاً حارة أو باردة فضربت زرعهم بالصفرة لظلوا من بعد ذلك.
(يكفرون) بالله ويجحدون نعمه والمعنى: أنهم يفرحون عند الخصب، ولو أرسلت عذاباً على زرعهم لجحدوا سالف نعمتي، وفي هذا دليل على سرعة تقلبهم، وعدم صبرهم، وضعف قلوبهم، وليس كذا حال أهل الإيمان، ثم شبههم بالموتى وبالصم فقال:(10/264)
فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (52) وَمَا أَنْتَ بِهَادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (53) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (54) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ (55) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (56) فَيَوْمَئِذٍ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (57)(10/265)
فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (52)
(فإنك لا تسمع الموتى) أي موتى القلوب إذا دعوتهم، فكذا هؤلاء لعدم فهمهم للحقائق، ومعرفتهم للصواب (ولا تسمع الصم الدعاء) إذا دعوتهم إلى الحق ووعظتهم بمواعظ الله، وذكرتهم الآخرة وما فيها (إذا ولوا مدبرين) بيان لإعراضهم عن الحق بعد بيان كونهم كالأموات وكونهم صم الآذان.
وقد تقدم تفسير هذا في سورة النمل، فإن قلت: الأصم لا يسمع مقبلاً أو مدبراً؛ فما فائدة هذا التخصيص؟ قلت: هو إذا كان مقبلاً يفهم بالرمز والإشارة، فإذا ولى لا يسمع ولا يفهم بالإشارة عن ابن عباس قال: نزلت هذه الآية في دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - لأهل بدر، والإسناد ضعيف.
والمشهور في الصحيحين وغيرهما أن عائشة استدلت بهذه الآية على رد رواية من روى من الصحابة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نادى أهل قليب بدر، وهو من الاستدلال بالعام على رد الخاص، فقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لما قيل له إنك تنادي أجساداً بالية: ما أنتم بأسمع لما أقول منهم.(10/265)
وفي مسلم من حديث أنس: إن عمر بن الخطاب لما سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يناديهم فقال: يا رسول الله تناديهم بعد ثلاث؟ وهل يسمعون؟ يقول الله: إنك لا تسمع الموتى، فقال " والذي نفسي بيده ما أنتم بأسمع منهم، ولكنهم لا يطيقون أن يجيبوا " ثم وصفهم بالعمي فقال:(10/266)
وَمَا أَنْتَ بِهَادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (53)
(وما أنت بهادي العمي عن ضلالتهم) لفقدهم للانتفاع بالأبصار كما ينبغي، أو لفقدهم للبصائر (إن) أي: ما (تسمع إلا من يؤمن بآياتنا) لكونهم أهل التفكر والتدبر، والاستدلال بالآثار على المؤثر (فهم مسلمون) أي منقادون للحق متبعون له، وفيه مراعاة معنى: (من).(10/266)
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (54)
(الله الذي خلقكم) ذكر سبحانه استدلالاً آخر على كمال قدرته، وهو خلق الإنسان نفسه على أطوار مختلفة، كما قال: (من ضعف) أي: بدأكم وأنشأكم على ضعف، وهو مصدر، ضد القوة، قال الواحدي: قال المفسرون: من نطفة كقوله: من ماء مهين، أي: ذي ضعف، وقيل: المراد حال الطفولية والصغر، فهذه أحوال غاية الضعف، قرئ: ضعف بضم الضاد في هذه المواضع، وبفتحها، وهما سبعيتان. قال الفراء: الضم لغة قريش، والفتح لغة تميم؛ قال الجوهري: الضعف خلاف القوة والصحة، وقيل: هو بالفتح في الرأي، وبالضم في الجسم، وأجاز الكوفيون ضعف بفتحتين.
(ثم جعل من بعد ضعف قوة) وهي قوة الشباب، وبلوغ الأشد، فإنه إذ ذاك تستحكم القوة، وتشتد الخلقة إلى بلوغ النهاية.
(ثم جعل من بعد قوة ضعفاً) أي: عند الكبر والهرم (وشيبة) هي تمام الضعف، ونهاية الكبر. وقيل: بياض الشعر الأسود، ويحصل أوله في الغالب في السنة الثالثة والأربعين، وهو أول سن (1) الاكتهال، والأخذ في النقص بالفعل بعد الخمسين إلى أن يزيد النقص في الثالثة والستين، وهو أول
_________
(1) الكهولة من الأربعين إلى الستين وبعدها الشيخوخة. المطيعي.(10/266)
سن الشيخوخة، ويقوى الضعف إلى ما شاء الله تعالى.
(يخلق ما يشاء) من جميع الأشياء، ومن جملتها القوة والضعف، والشباب والشيبة، في بني آدم (وهو العليم) بتدبيره وأحوالهم (القدير) على خلق ما يريده وتغييرهم، وهذا الترديد في الأحوال أبين دليل على الصانع القادر.(10/267)
وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ (55)
(ويوم تقوم) أي: توجد وتحصل (الساعة) أي: القيامة، وهي النفخة الثانية، وسميت ساعة لأنها تقوم في آخر ساعة من ساعات الدنيا، أو لأنها تقع بغتة (يقسم المجرمون) أي: يحلف المشركون والكافرون المنكرون للبعث بأنهم (ما لبثوا) في الدنيا، قاله الخطيب، والكشاف، والقاضي (1) أو في قبورهم، قاله مقاتل والكلبي.
(غير ساعة) فيمكن أن يكونوا استقلوا مدة لبثهم، واستقر ذلك في أذهانهم، فحلفوا عليه، وهم يظنون أن حلفهم مطابق للواقع، وقال ابن قتيبة: إنهم كذبوا في هذا الوقت، كما كانوا يكذبون من قبل، وهذا هو الظاهر لأنهم إن أرادوا لبثهم في الدنيا، فقد علم كل واحد منهم مقداره، وإن أرادوا لبثهم في القبور فقد حلفوا على جهالة أن؟ كانوا لا يعرفون الأوقات في البرزخ.
(كذلك) الصرف (كانوا يؤفكون) أي: يصرفون ويقولون: ما هي إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين، يقال: أفك الرجل إذا صرف عن الصدق والحق. وقيل: المراد يصرفون عن الحق، وقيل: عن الخير، والأول أولى، وهو دليل على أن حلفهم كذب.
_________
(1) يعني بالقاضي الإمام الجهبذ أبو بكر بن العربي في كتابه " أحكام القرآن ".(10/267)
وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (56)
(وقال الذين أوتوا العلم والإيمان) اختلف في تعيين هؤلاء، فقيل: الملائكة، وقيل: الأنبياء، وقيل: علماء الأمم، وقيل مؤمنو هذه الأمة، ولا مانع من الحمل على الجميع. قالوا رداً على هؤلاء الكفرة وتكذيباً لهم:(10/267)
(لقد لبثتم في كتاب الله) أي: سابق علمه، وسالف قضائه (إلى يوم البعث) قال الزجاج: في علم الله المثبت في اللوح المحفوظ، قال الواحدي: المفسرون حملوا هذا على التقديم والتأخير، على تقدير: وقال الذين أوتوا العلم في كتاب الله، وكان رد الذين أوتوا العلم عليهم باليمين للتأكيد، أو للمقابلة لليمين باليمين، ردوا ما قالوه، وحلفوا عليه وأطلعوهم على الحقيقة، ثم وصلوا ذلك بتقريعهم على إنكار البعث، فنبهوهم على طريقة التبكيت بقولهم:
(فهذا) الوقت الذي صاروا فيه هو (يوم البعث) الذي كنتم تنكرونه في الدنيا، وقيل: الفاء جواب شرط محذوف تقديره: إن كنتم منكرين للبعث، فهذا يومه، أي: فقد تبين بطلان إنكاركم (ولكنكم كنتم لا تعلمون) أنه حق وقوعه في الدنيا، بل كنتم تستعجلونه تكذيباً واستهزاء.(10/268)
فَيَوْمَئِذٍ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (57)
(فيومئذ) الفاء تفصيل، لما يفهم مما قبلها، من أنه لا يفيدهم تقليل مدة اللبث، ولا النسيان، أو هو جواب شرط مقدر أيضاً.
(لا ينفع الذين ظلموا معذرتهم) أي: لا ينفعهم الاعتذار يومئذ، ولا يفيدهم علمهم بالقيامة، كأنهم توهموا أن التقليل ونحوه عذر في عدم طاعتهم، كقوله: (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ) وقيل؛ لا رد عليهم المؤمنون، سألوا الرجوع إلى الدنيا، واعتذروا فلم يعذروا. قرئ لا ينفع بالتحتية وبالفوقية، وهما سبعيتان.
(ولا هم يستعتبون) أي: لا يطلب منهم العتبى، وهو الرجوع إلى ما يرضى الله من التوبة، والعمل الصالح، وذلك لانقطاع التكليف في ذلك اليوم، يقال: استعتبته فأعتبني، أي: استرضيته فأرضاني، وذلك إذا كنت جانياً عليه، وحقيقة أعتبته: أزلت عتبه، والمعنى: أنهم لا يدعون إلى إزالة عتبهم من التوبة والطاعة، كما دعوا إلى ذلك في الدنيا.(10/268)
وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ (58) كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (59) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ (60)(10/269)
وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ (58)
(ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل) أي: وصفنا لهم كل صفة كأنها مثل في غرابتها وقصصنا عليهم كل قصة عجيبة الشأن، كصفة المبعوثين يوم القيامة، وقصتهم وما يقولون؛ وما يقال لهم، وما لا ينفع من اعتذارهم ولا يسمع من استعتابهم، وكذا ضربنا لهم من كل مثل من الأمثال التي تدلهم على توحيد الله، وصدق رسله، واحتججنا عليهم بكل حجة تدل على بطلان الشرك وفيه إشارة إلى إزالة الأعذار، والإتيان بما فوق الكفاية من الإنذار.
(ولئن جئتهم بآية) من آيات القرآن الناطقة بذلك، أو لئن جئتهم بآية كالعصا، واليد، أو جئتهم بكل آية جاءت بها الرسل (ليقولن الذين كفروا) منهم (إن أنتم إلا مبطلون) أي: ما أنت يا محمد وأصحابك إلا أصحاب أباطيل، تتبعون السحر وما هو مشاكل له في البطلان، أو أنكم كلكم أيها الرسل مبطلون، واللام مؤكدة واقعة في جواب القسم.(10/269)
كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (59)
(كذلك) الطبع (يطبع الله على قلوب الذين لا يعلمون) أي: الفاقدين للعلم النافع الذي يهتدون به إلى الحق والتوحيد، وينجون به من الباطل والشرك، والمصرين على خرافات اعتقدوها، فإن الجهل المركب يمنع إدراك الحق، ويوجب تكذيب المحق؛ ثم أمر الله سبحانه نبيه - صلى الله عليه وسلم - بالصبر، معللاً ذلك بحقية وعده سبحانه، وعدم الخلف فيه، فقال:(10/269)
فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ (60)
(فاصبر) على ما تسمعه منهم من الأذى، وتنظره من الأفعال الكفرية، والفاء فصيحة.
(إن وعد الله حق) وقد وعدك بالنصر عليهم، وإعلاء حجتك،(10/269)
وإظهار دعوتك، ووعده حق لا خلف فيه (ولا يستخفنك) أي: لا يحملنك يا محمد - صلى الله عليه وسلم - على الخفة والجهل والطيش بترك الصبر، ولا يستفزنك عن دينك وما أنت عليه، يقال: استخف فلان أي: استجهله حتى حمله على اتباعه في الغي، وقرئ من الاستحقاق، والنهي في الآية من باب لا أرينك هاهنا (الذين لا يوقنون) بالله، ولا يصدقون أنبياءه ولا يؤمنون بكتبه، ولا بالبعث والحساب.(10/270)
سورة لقمان
(آياتها ثلاث أو أربع وثلاثون آية)
وهي مكية إلا ثلاث آيات، وهي قوله تعالى: (ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام)، إلى تمام الآيات الثلاث، قاله ابن عباس، وعنه أنها مكيّة، ولم يستثن، وعن قتادة أنها مكيّة إلا آيتين فمدنيتان، وأخرج النسائي، وابن ماجة عن البراء قال: كنا نصلي خلف النبي - صلى الله عليه وسلم - الظهر نسمع منه الآية بعد الآية من سورة لقمان والذاريات.(10/271)
بسم الله الرحمن الرحيم
الم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (2) هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (3) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (6)(10/273)
الم (1)
(الم) الله أعلم بمراده به، وقد تقدم الكلام على مثل فاتحة هذه السورة فلا نعيده(10/273)
تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (2)
(تلك آيات الكتاب الحكيم) وقد تقدم أيضاً بيان مرجع الإشارة مراراً في نظائرها، والحكيم إما أن يكون بمعنى مفعل، أو بمعنى فاعل أو بمعنى ذي الحكمة، أو الحكيم قائله، والإضافة بمعنى من.(10/273)
هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (3)
(هدى ورحمة) قال الزجاج: المعنى تلك آيات الكتاب في حال الهداية والرحمة؛ وقرئ بالرفع، أي هو هدى ورحمة (للمحسنين) المحسن العامل للحسنات، أو من يعبد الله كأنه يراه؛ كما ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - في الصحيح، لما سأله جبريل عن الإحسان فقال: " أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك " (1) ثم وصفهم بقوله:
_________
(1) تقدم ذكره.(10/273)
الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4)
(الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم يوقنون) وخص هذه العبادات الثلاث لأنها عمدتها(10/273)
أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)
(أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون) قد تقدم تفسير هذا في أوائل سورة البقرة، والمعنى هنا: أن أولئك المتصفين بالإحسان، وفعل تلك الطاعات، التي هي أمهات العبادات، هم على طريقة الهدى، هم الفائزون بمطالبهم، الظافرون بخيري الدارين.(10/273)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (6)
(ومن الناس من يشتري) (من) إما موصولة أو موصوفة، ومفرد لفظاً، جمع معنى، وروعي لفظها أولاً في ثلاثة ضمائر، يشتري، ويضل، ويتخذ. وروعي معناها ثانياً في موضعين، وهما: أولئك لهم، ثم رجع إلى مراعاة اللفظ في خمسة ضمائر، وهي وإذا تتلى عليه إلخ.
(لهو الحديث) وهو كل باطل يلهي، ويشغل عن الخير، من الغناء والملاهي، والأحاديث المكذوبة، والأضاحيك، والسمر بالأساطير التي لا أصل لها، والخرافات، والقصص المختلفة، والمعازف والمزامير، وكل ما هو منكر والإضافة بيانية، أي: اللهو من الحديث، لأن اللهو يكون حديثاً وغيره؛ فهو كثوب خز، وهذا أبلغ من حذف المضاف. وقيل: المراد شراء القينات المغنيات، والمغنين. فيكون التقدير من يشتري أهل لهو الحديث، قال الحسن: لهو الحديث: المعازف والغناء. وروي عنه أنه قال: هو الكفر والشرك. وفيه بعد، والمراد بالحديث: الحديث المنكر، والمعنى: يختارون حديث الباطل على حديث الحق.
" قال القرطبي: إن أولى ما قيل في هذا الباب هو تفسير لهو الحديث بالغناء قال: وهو قول الصحابة والتابعين. قال ابن عباس: لهو الحديث باطله، وهو في النضر بن الحرث بن علقمة: اشترى أحاديث الأعاجم، وأخبار الأكاسرة، وصنيعهم في دهرهم، وكان يكتب الكتب من الحيرة إلى الشام، ويحدث بها قريشاً، ويكذب القرآن. وعنه قال: هو الغناء وأشباهه. أخرجه البخاري في الأدب المفرد، وعنه قال: الجواري الضاربات، وعن ابن مسعود قال: هو والله الغناء، وفي لفظ قال: هو الغناء، والله الذي لا إله إلا هو، يرددها ثلاث مرات، وعن ابن عباس والحسن وعكرمة، وسعيد بن جبير: قالوا لهو الحديث هو الغناء، والآية نزلت فيه. وقيل: هو كل لهو ولعب؛ والمعنى: يستبدل ويختار الغناء، والمزامير؛ والمعازف على القرآن.
وأخرج أحمد والترمذي، وابن ماجة، والطبراني، والبيهقي، وغيرهم عن أبي أمامة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " لا تبيعوا القينات ولا تشتروهن، ولا(10/274)
خير في تجارة فيهن؛ وثمنهن حرام ". في مثل هذا أنزلت هذه الآية. وفي إسناده عبيد (1) بن زحر عن علي بن زيد عن القاسم بن عبد الرحمن، وفيهم ضعف.
وأخرج ابن أبي الدنيا في ذم الملاهي، وابن مردويه عن عائشة قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " إن الله حرم القينة وبيعها، وثمنها، وتعليمها، والاستماع إليها ثم قرأ: ومن الناس من يشتري لهو الحديث ".
وأخرج البيهقي في السنن، وابن أبي الدنيا، وابن مردويه عن ابن مسعود قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " الغناء ينبت النفاق، كما ينبت الماء البقل ". وروياه عنه موقوفاً. وأخرج ابن أبي الدنيا، وابن مردويه، عن أبي أمامة: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " ما رفع أحد صوته بغناء إلا بعث الله إليه شيطانين يجلسان على منكبيه، يضربان بأعقابهما على صدره حتى يمسك ".
وأخرج الترمذي عنه مرفوعاً نحو؛ وفي الباب أحاديث في كل حديث منها منال.
وقال ابن مسعود: لهو الحديث، الرجل يشتري جارية تغنيه ليلاً ونهاراً وعن ابن عمر أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول في لهو الحديث: " إنما ذلك
_________
(1) عبيد الله بن زحر عن علي بن يزيد، والأعمش وكأنه مات شاباً، وروى عنه الكبار: يحيى ابن سعيد الأنصاري، ويحيى بن أيوب المصري قال محمد بن يزيد المستعلي: سألت أبا مسهر عنه فقال: صاحب كل معضلة، وإن ذلك على حديثه لبين. وروى عثمان بن سعيد عن يحيى قال: حديثه عندي ضعيف. وروى عباس عن يحيى: ليس بشيء. وقال ابن المديني. منكر الحديث، وقال الدارقطني. ليس بالقوي، وشيخه علي متروك. وقال ابن حبان يروي الموضوعات عن الإثبات، وإذا روى عن علي بن يزيد يأتي بالطامات، وإذا اجتمع في إسناد خبر عبيد الله، وعلي بن يزيد، والقاسم أبو عبد الرحمن - لم يكن ذلك الخبر إلا مما عملته أيديهم أهـ.
قلت: وهذا الخبر اجتمع فيه الثلاثة، وإن كان قد روي عن أبي زرعة الرازي أنه صدوق. المطيعي.(10/275)
شراء الرجل اللعب والباطل "، أخرجه ابن مردويه.
وعن نافع قال: كنت أسير مع عبد الله بن عمر في طريق فسمع زمارة فوضع أصبعيه في أذنيه، ثم عدل عن الطريق، فلم يزل يقول: يا نافع أتسمع؟ قلت: لا، فأخرج أصبعيه من أذنيه. وقال: هكذا رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صنع. وعن ابن عوف أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " إنما نهيت عن صوتين أحمقين فاجرين: صوت عند نعمة، لهو ومزامير شيطان، وصوت عند مصيبة، خمش وجوه، وشق جيوب، ورنة شيطان ".
(ليضل عن سبيل الله) اللام للتعليل، قرئ بضم الباء، أي: ليضل غيره عن طريق الهدى، ومنهج الحق. وقرئ بفتح الياء، أي: ليضل هو في نفسه ويدوم، ويستمر، ويثبت على الضلال، وهما سبعيتان. قال الزجاج: من قرأ بضم الياء فمعناه ليضل غيره، فإذا أضل غيره فقد ضل هو، ومن قرأ بالفتح فمعناه ليصير أمره إلى الضلال، وهو إن لم يكن يشتري الضلالة، فإن أمره إلى ذلك، فأفاد هذا التعليل أنه إنما يستحق الذم من اشترى لهو الحديث لهذا المقصد، ويؤيد هذا سبب النزول، قال ابن عباس: سبيل الله: قراءة القرآن، وذكر الله، نزلت في رجل من قريش اشترى جارية مغنية. قال الطبري: قد أجمع علماء الأمصار على كراهة الغناء، والمنع منه، وإنما فارق الجماعة إبراهيم ابن سعد، وعبد الله العنبري. قال القاضي أبو بكر بن العربي: يجوز للرجل أن يسمع غناء جاريته، إذ ليس شيء منها عليه حراماً لا من ظاهرها ولا من باطنها، فكيف يمنع من التلذذ بصوتها؟
وقال في نيل الأوطار بعد ذكر الاختلاف فيه مع الأدلة: لا يخفى على الناظر أن محل النزاع إذا خرج عن دائرة الحرام، لم يخرج عن دائرة الاشتباه والمؤمنون وقافون عند الشبهات، كما صرح به الحديث الصحيح، ومن تركها فقد استبرأ لعرضه ودينه، ومن حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه، ولا سيما إذا كان مشتملاً على ذكر القدود، والخدود، والجمال، والدلال،(10/276)
والهجر، والوصال ومعاقرة العقار، وخلع العذار، والوقار، فإن سامع ما كان كذلك لا يخلو عن بلية، وإن من التصلب في ذات الله على حد يقصر عنه الوصف، وكم لهذه الوسيلة الشيطانية من قتيل دمه مطلول، وأسير بهموم غرامه وهيامه مكبول، نسأل الله السداد والثبات.
قلت: وقد جمع الشوكاني رسالة مشتملة على أقوال أهل العلم في الغناء، وما استدل المحللون له والمحرمون له، وحقق هذا المقام بما لا يحتاج من نظر فيها، وتدبر معانيها، إلى النظر في غيرها، وسماها إبطال دعوى الإجماع على تحريم مطلق السماع. ولنا أيضاًً بحمد الله عز وجل جواب بسيط في جواز الغناء، وعدم جوازه بالفارسية، ذكرناه في كتابنا هداية السائل، فمن أحب تحقيق المقام كما ينبغي فليرجع إلى ذلك.
(بغير علم) أي حال كونه غير عالم بحال ما يشتريه، أو بحال ما ينفع من التجارة وما يضر، فلهذا استبدل بالخير ما هو شر محض، أو يفعله عن جهل، أو جهلاً منه بما عليه من الوزر، ونحوه قوله تعالى: (فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين) أي: لصواب التجارة.
(ويتخذها) قرأ حمزة والكسائي والأعمش بالنصب، عطفاً على يضل، والضمير المنصوب راجع إلى السبيل، فيكون المعنى على هذه القراءة من جملة التعليل للتحريم؛ والمعنى: أنه يشتري لهو الحديث للإضلال عن سبيل الله، واتخاذ السبيل (هزوا) أي: مهزواً به. والسبيل يذكر ويؤنث. وقرأ الجمهور بالرفع عطفاً على يشتري، فهو من جملة الصلة؛ وقيل: الرفع على الاستئناف، والضمير المنصوب يعود إلى الآيات المتقدم ذكرها، والأول أولى (أولئك) إشارة إلى (من) والجمع باعتبار معناها، كما أن الإفراد في الفعلين باعتبار لفظها كما تقدم (لهم عذاب مهين) هو الشديد الذي يصير به من وقع عليه مهيناً.(10/277)
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (7) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (8) خَالِدِينَ فِيهَا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (10) هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (11)(10/278)
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (7)
(وإذا تتلى عليه) أي: على هذا المستهزئ (آياتنا ولى مستكبر) أي: أعرض عنها حال كونه مبالغاً في التكبر، رافعاً نفسه عن الإصغاء إلى القرآن (كأن لم يسمعها) أي: كأن ذلك المعرض المستكبر لم يسمعها مع أنه قد سمعها ولكن أشبهت حاله حال من لم يسمع (كأن في أذنيه وقراً) ولا وقر فيهما والوقر: الثقل وهو حال من لم يسمعها، وقد تقدم بيانه، وفيه مبالغة في إعراض ذلك المعرض (فبشره بعذاب أليم) أي: أخبره بأن له العذاب البليغ في الألم، وذكر البشارة تهكم به، ثم لما بين سبحانه حال من يعرض عن الآيات، بين حال من يقبل عليها فقال:(10/278)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (8)
(إن الذين آمنوا) بالله وبآياته، ولم يعرضوا عنها، بل قبلوها (وعملوا الصالحات لهم جنات النعيم) أي: نعيم الجنات، فعكسه للمبالغة، جعل لهم جنات النعيم، كما جعل للفريق الأول العذاب المهين(10/278)
خَالِدِينَ فِيهَا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9)
(خالدين فيها) حال من الضمير في لهم أي مقدار خلودهم فيها فإذا دخلوها.
(وعد الله حقاً) هما مصدران الأول مؤكد لنفسه أي: وعد الله وعداً،(10/278)
والثاني مؤكد لغيره، وهو مضمون الجملة الأولى وتقديره حق ذلك حقاً، والمعنى: أن وعده بأن لهم جنات النعيم كائن لا محالة ولا خلف فيه (وهو العزيز) الذي لا يغلبه غالب (الحكيم) في كل أفعاله وأقواله ثم بين سبحانه عزته وحكمته بقوله:(10/279)
خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (10)
(خلق السماوات بغير عمد) جمع عماد كأهب جمع إهاب، وهو ما يعمد به، أي: يسند؛ يقال: عمدت الحائط إذا دعمته، والدعامة بالكسر ما يسند به الحائط إذا مال، يمنعه السقوط، ودعمت الحائط دعماً من باب نفع. وقد تقدم الكلام فيه في سورة الرعد، قيل: إن السماء خلقت مبسوطة كصفحة مستوية، وهو قول المفسرين؛ وهي في الفضاء، والفضاء لا نهاية له وكون السماء في بعضه دون بعض ليس ذلك إلا بقدرة قادر مختار، وإليه الإشارة بقوله بغير عمد.
(ترونها) أي ليس لها شيء يمنعها الزوال من موضعها، وهي ثابتة لا تزول، وليس ذلك إلا بقدرة الله تعالى، وفيه وجهان: أحدهما أنه راجع إلى السماوات، أي ليست هي بعمد، وأنتم ترونها كذلك بغير عمد، الوجه الثاني: أنه راجع إلى العمد، ومعناه بغير عمد مرئية، فيمكن أن تكون ثم عمد ولكن لا ترى، وقيل: ولا عمد البتة، قال علي بن سليمان: الأولى أن يكون مستأنفاً، أي: ولا عمد، ثم:
(وألقى في الأرض رواسي) أي: جبالاً مرتفعة ثوابت شوامخ من أوتاد الأرض، وهي سبعة عشر جبلاً منها قاف، وأبو قبيس (1) والجودي ولبنان،
_________
(1) أين هذه الجبال القميئة من جبال هملايا القريبة من بلاد المصنف أو من جبال الألب في أوربا أو جبال البرانس في شمال أفريقيا؟ وأين هو جبل قاف الذي يحكيه الوضاعون والقصاصون والمهرجون بأساطير ألف ليلة وليلة؟ بصر الله أهل العلم بمناهج العلم. المطيعي.(10/279)
وطور سينين، وطور سيناء، أخرجه ابن جرير، ولكن لا وجه للتخصيص، والأولى العموم، والجبال على الأرض أكثر من ذلك، والكل يصلح للرسو، يقال: رسا الشيء ثبت، وبابه عدا وسما والرواسي: الرواسخ واحدتها راسية (أن تميد بكم) أي: كراهة أن تميد بكم، وقيل: لئلا تميده والمعنى أنه خلقها وجعلها مستقرة ثابتة، لا تتحرك بجبال جعلها عليها وأرساها على ظهرها.
(وبث) أي نشر وفرق (فيها) أي: في الأرض (من كل دابة) أي: كل نوع من أنواع الدواب، ومن زائدة (وأنزلنا) فيه التفات عن الغيبة (من السماء ماء) مطهراً وهو من إنعام الله على عباده وفضله (فأنبتنا فيها) أي: في الأرض بسبب إنزال الماء.
(من كل زوج كريم) أي من كل صنف حسن، ووصفه بكونه كريماً لحسن لونه، وكثرة منافعه، وقيل: إن المراد بذلك الناس، فالكريم منهم من يصير إلى الجنة، واللئيم من يصير إلى النار، قاله الشعبي، وغيره؛ والأول أولى.(10/280)
هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (11)
(هذا) أي: ما ذكر من خلق السماوات والأرض وما تعلق بهما من الأمور المعدودة (خلق الله) أي: مخلوقه تعالى (فأروني ماذا خلق الذين من دونه)؟ أي: من آلهتكم التي تعبدونها من دون الله، والاستفهام للتقريع والتوبيخ، والمعنى: فأروني أي شيء خلقوا مما يحاكي خلق الله، أو يقاربه حتى استوجبوا عندكم العبادة، وهذا الأمر لهم لقصد التعجيز والتبكيت، ثم أضرب عن تبكيتهم بما ذكر إلى الحكم عليهم بالضلال الظاهر، والإعلام ببطلان ما هم عليه فقال: (بل الظالمون في ضلال مبين) فقرر ظلمهم أولاً وضلالهم ثانياً؛ ووصفه بالوضوح والظهور، ومن كان هكذا فلا يعقل الحجة. ولا يهتدي إلى الحق.(10/280)
وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (12) وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13)(10/281)
وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (12)
(ولقد آتينا لقمان الحكمة) كلام مستأنف لبيان بطلان الشرك، واختلف في لقمان، هل هو عربي؟ أم أعجمي؟ مشتق من اللقم، فمن قال: إنه أعجمي منعه للتعريف والعجمة. ومن قال: إنه عربي منعه للتعريف ولزيادة الألف والنون. قال الحفناوي: والأول أظهر، واختلفوا أيضاًً هل هو نبي؟ أم رجل صالح؟ فذهب أكثر أهل العلم إلى أنه ليس بنبي. وحكى الواحدي عن عكرمة والسدي، والشعبي، أنه كان نبياً، والأول أرجح لما سيأتي، وقيل: لم يقل بنبوته إلا عكرمة فقط، مع أن الراوي لذلك عنه (1) جابر الجعفي، وهو ضعيف جداً وقيل: خير بين النبوة والحكمة فاختار الحكمة، وهو لقمان، بن باعورا، ابن ناحور، بن تارخ وهو آزر أبو إبراهيم.
وقيل: هو لقمان بن عنقا، بن مرون، وكان نوبياً من أهل أيلة ذكره السهيلي.
قال وهب: هو ابن أخت أيوب وقال مقاتل: هو ابن خالته، عاش ألف سنة وأخذ عنه العلم، وكان يفتي قبل مبعث داود، فلما بعث داود قطع الفتوى فقيل له، فقال: ألا أكتفي إذ كفيت. وقيل: كان خياطاً، وقيل نجاراً، وقيل: راعياً؛ وقال الواقدي: كان قاضياً في بني إسرائيل.
_________
(1) جابر بن يزيد بن الحارث الجعفي أحد علماء الشيعة وليس فيه ضعف شديد كما قال المصنف فقد قال سفيان كان جابر الجعفي ورعاً في الحديث ما رأيت أورع منه وقال شعبة: صدوق وقال يحيى ابن أبي بكير عن شعبة: كان جابر إذا قال: أخبرنا وحدثنا، وسمعت فهو من أوثق الناس.
وقال وكيع: ما شككتم في شيء فلا تشكوا أن جابراً الجعفي ثقة وقال ابن عبد الحكم سمعت الشافعي يقول، قال سفيان الثوري لشعبة لئن تكلمت في جابر الجعفي لأتكلمن فيك. المطيعي.(10/281)
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " أتدرون ما كان لقمان "؟ قالوا الله ورسوله أعلم، قال: كان حبشياً " أخرجه ابن مردويه.
وعن ابن عباس قال: كان عبداً حبشياً نجاراً.
وعنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " اتخذوا السودان، فإن ثلاثة منهم سادات أهل الجنة، لقمان الحكيم، والنجاشي، وبلال المؤذن " أخرجه الطبراني، وابن حيان في الضعفاء، قال الطبراني أراد الحبشة، والحكمة التي آتاه الله هي الفقه، والعقل، والإصابة في القول وفسر الحكمة من قال بنبوته بالنبوة، قال ابن عباس: يعني العقل والفهم، والفطنة في غير نبوة.
وعن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " إن لقمان الحكيم كان يقول: إن الله إذا استودع شيئاًً حفظه " وقد ذكر جماعة من أهل الحديث روايات عن جماعة من الصحابة والتابعين تتضمن كلمات من مواعظ لقمان وحكمه.
ولم يصح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من ذلك شيء، ولا يثبت إسناد صحيح إلى لقمان بشيء منها حتى نقبله، وقد حكى الله سبحانه من مواعظه لابنه ما حكاه في هذا الموضع، وفيه كفاية وما عدا ذلك مما لم يصح فليس في ذكره إلا شغلة للحيز؛ وقطيعة للوقت، ولم يكن نبياً، حتى يكون ما نقل عنه من شرع من قبلنا، ولا صح إسناد ما روي عنه من الكلمات، حتى يكون ذكر ذلك من تدوين كلام الحكمة التي هي ضالة المؤمن.
(أن أشكر لله) أن هي المفسرة، لأن في الإيتاء معنى القول، لأنه تعليم أو وحي، وقيل: التقدير: قلنا له هذا القول، وقال الزجاج: التقدير لأن أشكر، وقيل: بأن أشكر فشكر، فكان حكيماً بشكره، والشكر لله الثناء عليه في مقابلة النعمة، وطاعته فيما أمر به وقيل: الشكر أن لا تعصي الله بنعمه وقيل: إن لا ترى معه شريكاً له في نعمه. وقيل: هو الإقرار بالعجز، ورؤية العجز في الكل دليل قبول الكل، ثم بين سبحانه أن الشكر لا ينتفع به إلا الشاكر فقال:
(ومن يشكر فإنما يشكر لنفسه) لأن نفع ذلك وثوابه راجع إليه(10/282)
وفائدته حاصلة له، إذ به تستبقى النعمة، وبسببه يستجلب المزيد لها من الله سبحانه، والجملة مستأنفة مقررة لمضمون ما قبلها، موجبة لامتثال الأمر (ومن كفر) أي: من جعل كفر النعمة مكان شكرها (فإن الله غني) عن شكره غير محتاج إليه (حميد) مستحق للحمد من خلقه، لإنعامه عليهم بنعمه التي لا يحاط بقدرها، ولا يحصر عددها، وإن لم يحمده أحد، فإن كل موجود ناطق بحمده بلسان الحال، قال يحمى بن سلام: غني عن خلقه، حميد في فعله.(10/283)
وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13)
(و) اذكر (إذ قال لقمان لابنه) قال السهيلي: واسم ابنه ثاران في قول ابن جرير، والقتيبي، وقال الكلبي: مشكم، وقال النقاش: أنعم وقيل: ماتان، قال القشيري: كان ابنه وامرأته كافرين فما زال يعظهما حتى أسلما ودل على هذا قوله: لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم، والتقدير آتينا لقمان الحكمة حين جعلناه شاكراً في نفسه، وحين جعلناه واعظاً لغيره.
(وهو يعظه) أي: والحال أنه يخاطبه بالموعظة التي ترغبه في التوحيد، وتصده عن الشرك، وذلك لأن أعلى مراتب الإنسان أن يكون كاملاً في نفسه مكملاً لغيره، وبدأ بالأقرب إليه وهو ابنه فقال:
(يا بني) تصغير إشفاق ومحبة (لا تشرك بالله) وهذا يدل على أنه كان كافراً كما تقدم. قال الخطيب، والخازن: فرجع إليه وأسلم. وقيل: كان مسلماً ونهاه أن يقع منه إشراك في المستقبل.
(إن الشرك لظلم عظيم) لأنه تسوية بين من لا نعمة إلا وهي منه، وبين من لا نعمة له أصلاً. وبدأ في وعظه بنهية عن الشرك، لأنه أهم من غيره وقد اختلف في هذه الجملة، فقيل: هي في كلام لقمان، فتكون تعليلاً لما قبلها، وقيل: هي من كلام الله، فتكون منقطعة عما قبلها، ويؤيد هذا ما ثبت في الحديث الصحيح، أنها لما نزلت: (ولم يلبسوا إيمانهم بظلم) شق ذلك على الصحابة وقالوا: أينا لم يظلم نفسه؟ فأنزل الله إن الشرك لظلم عظيم، فطابت أنفسهم.(10/283)
وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14) وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (15) يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (16)(10/284)
وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14)
(ووصينا الإنسان بوالديه) أي: أمرناه أن يبرهما، وهذه الوصية بالوالدين وما بعدها إلى قوله: (وما كنتم تعلمون) اعتراض بين كلام لقمان على نهج الاستطراد، لقصد التأكيد لما قبلها من النهي عن الشرك بالله وتفسير التوصية هو قوله: أن أشكر لي ولوالديك وما بينهما اعتراض بين المفسر والمفسر، وفي جعل الشكر لهما مقترناً بالشكر لله دلالة على أن حقهما من أعظم الحقوق على الولد وأكبرها وأشدها وجوباً.
(حملته أمه وهناً على وهن) قرئ بسكون الهاء وبفتحها في الموضعين، وهما لغتان، أي: أنها حملته في بطنها، وهي تزداد كل يوم ضعف على ضعف، فإنها لا يزال يتضاعف ضعفها، والوهن الضعف والمشقة، وقد وهن من باب وعد، ووهنه غيره توهيناً، والوهن والموهن نحو من نصف الليل. وقال ابن عباس: شدة بعد شدة، وخلقاً بعد خلق، وقيل: المعنى أن المرأة ضعيفة الخلقة، ثم يضعفها الحمل، وقيل: أي: حملته بضعف على ضعف: وقال الزجاج المعنى لزمها بحملها إياه أن تضعف مرة بعد مرة: أي: وهناً كائناً على وهن، لأن الحمل وهن، والطلق وهن، والوضع وهن، والرضاعة وهن، وانتصاب وهناً على المصدر أو الحال.
(وفصاله في عامين) الفصال: الفطام عن الرضاع، وهو أن يفصل الولد عن الأم، وقرئ وفصله وهما لغتان، يقال: انفصل عن كذا أي: تميز، وبه(10/284)
سمي الفصيل، والمعنى: فطامه لتمام سنتين عن الرضاع، قال البيضاوي: وفيه دليل على أن مدة الإرضاع حولان.
(أن أشكر لي ولوالديك) أي: وصيناه بشكرنا وشكر والديه، قال سفيان ابن عيينه: من صلى الصلوات الخمس فقد شكر الله؛ ومن دعا لوالديه في أدبار الصلوات الخمس فقد شكر للوالدين. و (أن) مفسرة أو مصدرية، وهو قول الزجاج (إلى المصير) تعليل لوجوب امتثال الأمر، أي الرجوع إليّ لا إلى غيري، وقيل: الجزاء عليَّ وقت المصير إليّ.(10/285)
وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (15)
(وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم) أي: ما لا علم لك بشركته، وذكر هذا القيد موافقة للواقع، ولا مفهوم (مخالفته) له، إذ ليس لله شريك يعلم لأنه مستحيل (فلا تطعمها) في ذلك لأنه لا طاعة للمخلوق في معصية الخالق، وجملة هذا الباب أن طاعة الأبوين لا تراعى في ركوب كبيرة، ولا ترك فريضة على الأعيان؛ وتلزم طاعتهما في المباحات، وقد قدمنا تفسير الآية، وسبب نزولها في سورة العنكبوت، قال سعد بن أبي وقاص: نزلت في هذه الآية، وعن أبي هريرة مثله، وعليه جماعة من المفسرين.
(وصاحبهما في الدنيا) أي: في أمورها التي لا تتعلق بالدين، ما دمت حياً صحاباً (معروفاً) ببرهما إن كانا على دين يقران عليه وقيل: صاحبهما بمعروف وهو البر والصلة، والعشرة الجميلة، والخلق الجميل، والحلم والاحتمال، وما يقتضيه مكارم الأخلاق، ومعالي الشيم.
(واتبع سبيل من أناب) أي: رجع (إليّ) والخطاب لسائر المكلفين، أي: اتبع أيها المكلف دين من أقبل إلى طاعتي من عبادي الصالحين، بالتوبة والإخلاص، وهو النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، قيل: يعني أبا بكر الصديق رضي الله تعالى عنه، قال: ابن عباس وذلك حين أسلم أتاه عثمان وطلحة والزبير، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الرحمن بن عوف، وقالوا له: قد صدقت هذا الرجل، وآمنت به؟ قال: نعم إنه صادق، فآمنوا به ثم حملهم إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى أسلموا، فهؤلاء لهم سابقه الإسلام أسلموا بإرشاد أبي بكر.(10/285)
(ثم إليّ) لا إلى غيري (مرجعكم) جميعاً أي: أنت ووالداك زمن أناب إليَّ (فأنبئكم) أخبركم عند رجوعكم إليّ (بما كنتم تعملون) من خير أو شر، فأجازي كل عامل بعمله، ثم شرع سبحانه في حكاية بقية كلام لقمان في وعظه لابنه فقال:(10/286)
يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (16)
(يا بنيَّ إنها) الضمير عائد إلى الخطيئة، لما روي أن ابن لقمان قال لأبيه: يا أبت إن عملت الخطيئة حيث لا يراني أحد هل يعلمها الله؟ فقال إنها أي الخطيئة (إن تك) بالفوقية على معنى إن تك الخطيئة، أو المسألة أو الخصلة أو القصة (مثقال) قرئ بالنصب على أنه خبر كان، واسمها هو أحد تلك المقدرات، وقرئ بالرفع على أنه اسم كان وهي تامة وأنث الفعل في هذه القراءة لإضافة مثقال إلى المؤنث أي: زنة (حبة من خردل) والجملة الشرطية مفسرة للضمير، قال الزجاج: التقدير أن التي سألتني عنها إن تك مثقال حبة من جنس الخردل، وعبر بالخردلة لأنها أصغر الحبوب، ولا يدرك ثقلها بالحس، ولا ترجح ميزاناً، ثم زاد في بيان خفاء الحبة مع خفتها وصغرها فقال:
(فتكن في صخرة) فإنها عند كونها في الصخرة قد صارت في أخفى مكان وأحرزه، قرئ فتكن بضم الكاف، ومن الكن الذي هو الشيء المغطى قال السدي: هذه الصخرة هي صخرة ليست في السماوات والأرض، وقال ابن عباس: صخرة تحت الأرضين السبع، وهي التي تكتب فيها أعمال الفجار، وهي السجين. وخضرة السماء منها، وقيل: غير ذلك.
(أو في السماوات أو في الأرض) أي حيث كانت من بقاع السماوات أو بقاع الأرض، أي: في أخفى مكان من ذلك، فالأخفى من الصخرة كأن تكون في صخرة تحت الأرضين السبع، والأخفى من السماوات كأن تكون في أعلاها، والأخفى من الأرض كأن تكون في أسفلها.
(يأت بها الله) أي: يحضرها يوم القيامة، ويحاسب فاعلها عليها (إن الله لطيف) باستخراجها لا تخفى عليه خافية، بل يصل علمه إلى كل خفي (خبير) بمكانها، وبكل شيء لا يغيب عنه شيء، ومعنى الآية الإحاطة بالأشياء صغيرها وكبيرها.(10/286)
يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17) وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (18) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19)(10/287)
يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17)
(يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ) من الأذى في ذات الله، إذا أمرت بالمعروف ونهيت عن المنكر، أو اصبر على ما أصابك من المحن فإنها تورث المنح، حكى سبحانه عن لقمان أنه أمر ابنه بهذه الأمور، ووجه تخصيص هذه الطاعات، أنها أمهات العبادات وعماد الخير كله.
(إن ذلك) الطاعات المذكورة التي وصاه بها (من عزم الأمور) أي: مما جعله الله عزيمة، وأوجبه على عباده، وحتمه على المكلفين، ولم يرخص في تركه وقيل: المعنى من حق الأمور التي أمر الله بها، والعزم يجوز أن يكون بمعنى المعزوم أي: من معزومات الأمور، أو بمعنى العازم كقوله فإذا عزم الأمر.
قال المبرد: إن العين تبدل حاء فيقال: عزم وحزم وقال ابن جريج: ويحتمل أن يريد أن ذلك من مكارم أهل الأخلاق، وعزائم أهل الحزم السالكين طريق النجاة، وصوب هذا القرطبي، وهذا دليل على أن هذه الطاعات كانت مأموراً بها في سائر الأمم.(10/287)
وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (18)
(ولا تصعر خدك للناس) وقرئ تصاعر، والمعنى متقارب، وكل منهما في خط المصحف الإمام بلا ألف، والصعر: الميل، يقال: صعر خده: وصاعر خده: إذا أمال وجهه، وأعرض تكبراً، والمعنى، لا تعرض عن الناس(10/287)
تكبراً عليهم، وبه قال الهروي، يقال: أصاب البعير صعر: إذا أصابه داء يلوي عنقه وقيل: المعنى: ولا تلو شدقك إذا ذكر الرجل عندك كأنك تحتقره، وقال ابن خواز منداد: كأنه نهى أن يذل الإنسان نفسه من غير حاجة، ولعله فهم من التصعير التذلل.
وعن أبي أيوب الأنصاري أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل عن قوله: ولا تصعر خدك، فقال لي: " الشدق " أخرجه الطبراني. وابن عدي وابن مردويه وقال ابن عباس: لا تتكبر فتحتقر عباد الله، وتعرض عنهم إذا كلموك وعنه قال: هو الذي إذا سلم عليه لوى عنقه كالمستكبر، والمعنى: أقبل على الناس بوجهك تواضعاً، ولا تولهم شق وجهك وصفحته كما يفعله المستكبرون، بل يكون الفقير والغني عندك سواء.
(ولا تمش في الأرض مرحاً) أي: خيلاء وفرحاً، والمراد: النهي عن التكبر والتجبر، والمختال يمرح في مشيه، وقد تقدم تحقيقه (إن الله لا يحب كل مختال فخور) تعليل للنهي المذكور، لأن الاختيال هو المرح، والفَخور هو الذي يفتخر على الناس بماله من المال والشرف، أو القوة أو يعدد مناقبه تطاولاً، أو غير ذلك ويظن أن إسباغ النعم الدنيوية عليه من محبة الله له وذلك من جهله، فإن الله أسبغ نعمه على الكافر الجاحد، فينبغي للعارف أن لا يتكبر على عباده، وليس منه التحديث بنعم الله، فإن الله يقول: (وأما بنعمة ربك فحدث).(10/288)
وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19)
(واقصد في مشيك) أي: توسط فيه، والقصد ما بين الإسراع والبطء، يقال: قصد فلان في مشيته: إذا مشى مستوياً لا يدب دبيب المتمادين، ولا يثب وثوب الشياطين. وقد ثبت " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا مشى أسرع "، فلا بد أن يحمل القصد هنا على ما جاوز الحد في السرعة، وقال مقاتل: معناه لا تختل في مشيتك، وقال ابن مسعود: كانوا ينهون عن خبي اليهود، ودبيب النصارى، ولكن مشياً بين ذلك، وقيل: انظر(10/288)
موضع قدميك تواضعاً، والمعنى أعدل فيه حتى يكون مشياً بين مشيَيْن الدبيب والإسراع. وقال عطاء: امش بالسكينة والوقار، كفوله: يمشون على الأرض هوناً.
(واغضض من صوتك) أي: أنقص منه واخفضه، ولا تتكلف رفعه فإن الجهر بأكثر من الحاجة يؤذي السامع، و (من) تبعيضية، وعند الأخفش مزيدة، ويؤيده قوله: (إن الذين يغضون أصواتهم)، والمعنى: شيئاًً من صوتك وكانت الجاهلية يتمدحون برفع الصوت.
(إن أنكر الأصوات) أي: أوحشها وأقبحها (لصوت الحمير) تعليل للأمر بالغض من الصوت على أبلغ وجه وآكده، قال قتادة: أقبح الأصوات صوت الحمير، أوله زفير، أي: صوت قوي وآخره شهيق، أي: صوت ضعيف، وهما صوتا أهل النار، وأنكر، قيل: مبني من الفعل المبني للمفعول، نحو أشغل من ذات النحبيين، وهو مختلف فيه، قال المبرد: تأويله إن الجهر بالصوت ليس بمحمود، وأنه داخل في باب الصوت المنكر، واللام للتأكيد، ووحد الصوت مع كونه مضافاً إلى الجمع لأنه مصدر، وهو يدل على الكثرة، وهو مصدر: صات يصوت صوتاً فهو صائت.
وقيل: إنما وحده ولم يجمع لأنه لم يرد أن يذكر صوت كل واحد من آحاد هذا الجنس حتى يجمع، بل المراد أن كل جنس من الحيوان له صوت، وأنكر أصوات هذه الأجناس صوت هذا الجنس، فوجب توحيده. وعن الثوري في الآية قال: صياح كل شيء تسبيح إلا الحمار. وقيل: معنى الآية هو: العطسة القبيحة المنكرة، والأول أولى، وفي تشبيه الرافعين أصواتهم بالحمير، وتمثيل أصواتهم بالنهاق، تنبيه على أن رفع الصوت في غاية الكراهة، ولما فرغ سبحانه من قصة لقمان رجع إلى توبيخ المشركين وتبكيتهم، وإقامة الحجج عليهم، فقال:(10/289)
أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (20) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (21) وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (22)(10/290)
أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (20)
(ألم تروا أن الله سخر لكم ما في السماوات وما في الأرض)؟ قال الزجاج: معنى تسخيرها للآدميين: الانتفاع بها، انتهى، فمن مخلوقات السماوات المسخرة لبني آدم بأمر الله سبحانه: الشمس، والقمر، والنجوم، والسحاب. وغير ذلك، ومن مخلوقات الأرض المسخرة: الأحجار، والمعادن، والتراب، والزرع، والشجر، والثمر، والبحار، والأنهار، والحيوانات، والدواب التي ينتفعون بها، والعشب الذي يرعون فيه دوابهم، وغير ذلك مما لا يحصى كثرة، فالمراد بالتسخير: جعل المسخر بحيث ينتفع به المسخر له، سواء كان منقاداً له وداخلاً تحت تصرفه أم لا.
(وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة) أي: أتم وأكمل عليكم نعمه، يقال: سبغت النعمة إذا تمت وكملت، وقرئ أصبغ بإبدال السين صاداً وهي لغة كلب، يفعلون ذلك في كل سين اجتمع مع الغين، والخاء والقاف، كصلخ وصقر، والنعم جمع نعمة، وقرئ نعمة على الإِفراد والتنوين، اسم جنس يراد به الجمع، ويدل به على الكثرة، كقوله تعالى: وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها، والنعمة: كل نفع قصد به الإِحسان.
والمراد بالنعم الظاهرة: ما يدرك بالعقل أو الحس، ويعرفه من(10/290)
يتعرفه. وبالباطنة: ما لا يدرك للناس، ويخفى عليهم. وقيل: الظاهرة الصحة، وكمال الخلق، والبصر، والسمع، واللسان، وسائر الجوارح الظاهرة. والباطنة: المعرفة، والعقل، والقلب، والفهم، وما أشبه ذلك. وقيل: الظاهرة: ما يرى بالأبصار من المال والجاه، والجمال، وفعل الطاعات، والباطنة: ما يجده المرء في نفسه من العلم بالله، وحسن اليقين، وما يدفعه الله عن العبد من الآفات، وقد سرد الماوردي في هذا أقوالاً تسعة، كلها ترجع إلى هذا.
وقيل: الظاهرة: نعم الدنيا، والباطنة: نعم الآخرة، وقيل: الظاهرة: الإسلام والقرآن والجمال، والباطنة: ما ستره الله عن العبد من الأعمال السيئة، وقيل: الظاهرة: تسوية الأعضاء، وحسن الصورة، والباطنة: الاعتقاد بالقلب. وقيل: الظاهرة: الرزق، والباطنة: حسن الخلق. وقيل: الظاهرة: تخفيف الشرائع، والباطنة: الشفاعة. وقيل الظاهرة: ظهور الإسلام والنصر على الأعداء. والباطنة الإمداد بالملائكة. وقيل: الظاهرة: اتباع الرسول - صلى الله عليه وسلم -.
والباطنة: محبته. واللفظ أعم من ذلك.
وعن عطاء قال: سألت ابن عباس عن هذا، فقال هذه من كنوز علمي، سألت عنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: " أما الظاهرة فما سوى من خلقك، وأما الباطنة فما ستر من عورتك، ولو أبداها لقلاك أهلك، فمن سواهم ". أخرجه البيهقي.
وعنه قال: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن قوله وأسبغ عليكم نعمه الخ، فقال: " أما الظاهرة فالإسلام، وما سوى من خَلقِك وما أسبغ عليك من رزقه، وأما الباطنة فما ستر من مساوي عملك " أخرجه ابن النجار والديلمي والبيهقي وعنه قال: النعمة الظاهرة: الإسلام. والنعمة الباطنة: كل ما ستر عليكم من الذنوب والعيوب والحدود، أخرجه ابن مردويه وعنه أنه قال في تفسير الآية: هي لا إله إلا الله.(10/291)
(ومن الناس من يجادل في الله) أي: في شأن الله سبحانه في توحيده وصفاته مكابرة، وعناداً بعد ظهور الحق له، وقيام الحجة عليه ولهذا قال (بغير علم) مستفاد من عقل ونقل (ولا هدى) من جهة رسول يهتدى به إلى طريق الصواب.
(ولا كتاب منير) نير واضح أنزله الله؛ بل مجرد تعنت ومحض عناد وتقليد، وقد تقدم تفسير مثل هذه الآية في سورة البقرة. قيل: نزلت في النضر بن الحرث، وأبي بن خلف، وأمية بن خلف، وأشباههم، كانوا يجادلون النبي - صلى الله عليه وسلم - في الله، وفي صفاته بغير علم.(10/292)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (21)
(وإذا قيل لهم) أي: لهؤلاء المجادلين، والجمع باعتبار معنى (من) (اتبعوا ما أنزل الله) على رسوله من الكتاب، تمسكوا بمجرد التقليد البحت، و (قالوا بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا) فنعبد ما كانوا يعبدونه من الأصنام، ونمشي في الطريق التي كانوا يمشون فيها في دينهم؛ ومثل هذا في القرآن كثير من ذم تقليد الآباء والرؤساء.
قال ابن القيم: قد احتج العلماء بهذه الآية وأمثالها في إبطال التقليد، ولم يمنعهم كفر أولئك من الاحتجاج بها، لأن التشبيه لم يقع من جهة كفر أحدهما وإيمان الآخر، وإنما وقع التشبيه بين المقلدين بغير حجة للمقلد، كما لو قلد رجلاً فكفر، وقلد آخر فأذنب، وقلد آخر في مسألة فأخطأ، وجهها كان كل واحد ملوماً على التقليد بغير حجة، لأن كل تقليد يشبه بعضه بعضاً، وإن اختلفت الآثام فيه، والتقليد أنواع:
أحدها: الإِعراض عما أنزل الله، وعدم الالتفات إليه، اكتفاء بتقليد الآباء.
الثاني: تقليد من لا يعلم المقلد أنه أهل لأن يؤخذ بقوله.(10/292)
الثالث: التقليد بعد قيام الحجة، وظهور الدليل على خلاف قول المقلد، والفرق بين هذا وبين النوع الأول أن الأول قلد قبل تمكنه من العلم والحجة، وهذا قلد بعد ظهور الحجة له فهو أولى بالذم ومعصية الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، وقد ذم الله سبحانه هذه الأنواع الثلاثة من التقليد في غير موضع من كتابه، والتقليد ليس بعلم باتفاق أهل العلم، ولا يكون العبد مهتدياً حتى يتبع ما أنزل الله على رسوله، فهذا المقلد إن كان يعرف ما أنزل الله على رسوله فهو مهتد وليس بمقلد، وإن كان لم يعرف ما أنزل الله فهو جاهل ضال بإقراره على نفسه، فمن أين يعرف أنه على هدى في تقليده؟ وهذا جواب كل سؤال يوردونه في هذا الباب.
وكان طريقة الأئمة اتباع الحجة، والنهي عن تقليدهم فمن ترك الحجة وارتكب ما نهوا عنه، ونهى الله ورسوله عنه قبلهم فليس على طريقهم، بل هو من المخالفين لهم، وإنما يكون على طريقتهم من اتبع الحجة، وانقاد للدليل، ولم يتخذ رجلاً بعينه سوى الرسول - صلى الله عليه وسلم - يجعله مختاراً على الكتاب والسنة، يعرضهما على قوله، وبهذا يظهر بطلان فهم من جعل التقليد اتباعاً، وقد فرق الله ورسوله وأهل العلم بينهما، كما فرقت الحقائق بينهما، فإن الاتباع سلوك المتبع، والإتيان بمثل ما أتى به، والمصنفون في السنة جمعوا بين فساد التقليد وإبطاله، وبيان زلة العالم، ليبينوا بذلك فساد التقليد، وأن العالم قد يزل ولا بد إذ ليس بمعصوم، فلا يجوز قبول كل ما يقوله، وينزل قوله منزلة المعصوم، فهذا الذي ذمه كل عالم على وجه الأرض، وحرموه وذموا أهله وهو أصلاً بلاء المقلدين وفتنتهم، فإنهم يقلدون العالم فيما يزل فيه وفيما لم يزل، وليس لهم تمييز بين ذلك، فيأخذون الدين بالخطأ ولا بد، فيحلون ما حرم الله ويحرمون ما أحل الله، ويشرعون ما لم يشرع ولا بد لهم من ذلك، إذ كانت العصمة منتفية عمن قلدوه فالخطأ واقع منه ولا بد. انتهى، بتصرف في العبارة ثم قال على طريق الاستفهام للاستبعاد والتبكيت:(10/293)
(أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ)؟ أي: آباءهم الذين اقتدوا بهم في دينهم أي: يتبعونهم في الشرك، ولو كان الشيطان يدعوهم فيما هم عليه من الشرك ويجوز أن يراد أنه يدعو هؤلاء الأتباع.
(إلى عذاب السعير) لأنه زين لهم اتباع آبائهم: والتدين بدينهم، والأول أولى. لأن مدار إنكار الأتباع واستبعاده كون المتبوعين تابعين للشيطان لا كون أنفسهم كذلك، ويجوز أن يراد أنه يدعو جميع التابعين والمتبوعين إلى العذاب، فدعاؤه المتبوعين بتزيينه لهم الشرك، ودعاؤه للتابعين بتزيينه لهم دين آبائهم، وجواب (لو) محذوف، أي: يدعوهم فيتبعونه، وما أقبح التقليد وأكثر ضرره على صاحبه، وأوخم عاقبته وأشأم عائدته على من وقع فيه، فإن الداعي له إلى ما أنزل الله على رسوله كمن يريد أن يذود الفراش عن لهب النار لئلا تحرق، فتأبى ذلك وتتهافت في نار الحريق، وعذاب السعير.(10/294)
وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (22)
(ومن يسلم وجهه إلى الله) أي: يفوض أمره إليه. ويخلص له عبادته، ويقبل عليه بكليته، وقرئ من يسلم بالتشديد. قال النحاس: التخفيف في هذا أعرف، كما قال عز وجل: (فقل أسلمت وجهي).
(وهو محسن) في أعماله، لأن العبادة من غير إحسان فيها ولا معرفة بما يحتاج إليه فيها لا تقع بالموقع الذي تقع به عبادة المحسنين، وقد صح عن الصادق المصدوق لما سأله جبريل عن الإحسان أنه قال له: إن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك.
(فقد استمسك بالعروة الوثقى) أي: اعتصم بالعهد الأوثق، وتعلق به وهو تمثيل لحال من أسلم وجهه إلى الله بحال من أراد أن يرتقي إلى شاهق جبل فيمسك بأوثق عرى حبل متدل منه (وإلى الله عاقبة الأمور) أي: مصيرها له لا إلى غيره فيجازي عليها.(10/294)
وَمَنْ كَفَرَ فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (23) نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ (24) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (25) لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (26) وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (27)(10/295)
وَمَنْ كَفَرَ فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (23)
(ومن كفر فلا يحزنك كفره) أي: لا تحزن لذلك، فإن كفره لا يضرك. قرئ بفتح الياء وضم الزاي، وبضم الياء وكسر الزاي سبعيتان، بين سبحانه حال الكافرين بعد فراغه من بياد حال المؤمنين، ثم توعدهم بقوله (إلينا مرجعهم فننبئهم بما عملوا) أي: نخبرهم بقبائح أعمالهم، ونجازيهم عليها (إن الله عليم بذات الصدور) أي: بما تسره صدورهم، لا تخفى عليه من ذلك خافية فالسر عنده كالعلانية.(10/295)
نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ (24)
(نمتعهم) تمتيعاً أو زماناً (قليلاً) أي: نبقيهم في الدنيا مدة قليلة يتمتعون بها إلى انقضاء آجالهم، فإن النعيم الزائل هو أقل قليل بالنسبة إلى النعيم الدائم (ثم نضطرهم إلى عذاب غليظ) أي نلجئهم ونردهم إلى عذاب النار في الآخرة، لا يجدون عنها محيصاً: والمراد: الشدة والثقل على المعذب فإنه لا أثقل منه على من وقع فيه، وأصيب به، فلهذا استعير له الغلظ(10/295)
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (25)
(ولئن) لام قسم (سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله) أي: يعترفون بأن الله خالق ذلك لوضوح الأمر فيه عندهم، وهذا اعتراف منهم بما يدل على التوحيد، وبطلان الشرك، وإلزام لهم على إقرارهم. ولهذا قال:
(قل) يا محمد (الحمد لله) على اعترافكم، فكيف تعبدون غيره(10/295)
وتجعلونه شريكاً له، أو المعنى: فقل: الحمد على ما هدانا له من دينه، ولا حمد لغيره، أو على أن جعل دلائل التوحيد بحيث لا يكاد ينكرها المكابرون ويجحدها الجاحدون، ثم أضرب عن ذلك فقال (بل أكثرهم لا يعلمون) أن ذلك يلزمهم، وإذا نبهوا عليه لم ينتبهوا، وقيل: لا ينظرون، ولا يتدبرون حتى يعلموا أن خالق هذه الأشياء هو الذي تجب له العبادة دون غيره.(10/296)
لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (26)
(لله ما في السماوات والأرض) ملكاً وخلقاً وعبيداً، فلا يستحق العبادة فيهما غيره (إن الله هو الغني) عن غيره (الحميد) أي: المستحق للحمد، وإن لم يحمدوه، والمحمود من عاده بلسان المقال، أو بلسان الحال، ثم لما ذكر سبحانه أن له ما في السماوات والأرض، أتبعه بما يدل على أن له وراء ذلك ما لا يحيط به عد، ولا يحصر بحد، فقال:(10/296)
وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (27)
(ولو أن) جميع (ما في الأرض من شجرة أقلام) وحد الشجرة لما تقرر في علم المعاني أن استغراق المفرد أشمل، قيل: وتوحيد شجرة لأن المراد تفصيل الشجر، واستقصاؤه، فكأنه قال: كل شجرة شجرة حتى لا تبقى من جنس الشجر واحدة إلا وقد بريت أقلاماً، ولو لم يفرد لم يفد هذا المعنى إذ الجمع يتحقق بما فوق الثلاثة، إلا أن تدخل عليه لام الاستغراق هكذا قرروه، قال الشهاب: وفيه بحث فإن إفادة المفرد التفصيل بدون تكرار أو الاستغراق بدون نفي محل نظر، لأنه إنما عهد ذلك في نحو جاءوني رجلاً رجلاً وما عندي تمرة. قال أبو حيان: وهو من وقوع المفرد موقع الجمع، والنكرة موقع المعرفة، كقوله: ما ننسخ من آية، وجمع الأقلام لقصد التكثير، أي: ولو أن يعد كل شجرة من الشجر أقلاماً، ثم قال سبحانه:
(والبحر) أي المحيط لأنه المتبادر من التعريف، إذ هو الفرد الكامل قرئ البحر بالرفع على أنه مبتدأ، وخبره يمده، وبالنصب عطفاً على اسم أن، أو بفعل مضمر يفسره (يمده من بعده) أي: بعد نفاده (سبعة أبحر) أي: والحال أن البحر المحيط مع سعته يمده السبعة الأبحر مداً لا ينقطع، كذا قال سيبويه. وقال المبرد: إن البحر مرتفع بفعل مقدر،(10/296)
تقديره: ولو ثبت البحر حال كونه تمده من بعده سبعة أبحر، وقرئ. يمده من أمد، وقرئ: والبحر مداده، وجواب لو:
(ما نفدت كلمات الله) التي هي عبارة عن معلوماته، لأنها لا نهاية لها، قال أبو علي الفارسي: المراد بالكلمات -والله أعلم- ما في المقدور والإمكان، دون ما خرج منه إلى الوجود والزمان، ووافقه القفال، فقال: المعنى: إن الأشجار لو كانت أقلاما، والبحار مداداً، فكتب بها عجائب صنع الله تعالى، الدالة على قدرته ووحدانيته، لم تنفد تلك العجائب. قال القشيري: رد القفال معنى الكلمات إلى المقدورات، وحمل الآية على الكلام القديم أولى، والمخلوق لا بد له من نهاية، وإذا نفيت النهاية فهي نفي للنهاية عما يقدر في المستقبل على إيجاده، فأما ما حصره الوجود وعده فلا بد من تناهيه، والقديم لا نهاية له على التحقيق.
قال النحاس: قد تبين أن الكلمات هاهنا يراد بها العلم وحقائق الأشياء، لأنه جل وعلا علم قبل أن يخلق الخلق ما هو خالق في السماوات والأرض من شيء، وعلم ما فيه من مثاقيل الذر، وعلم الأجناس كلها، وما فيها من شعرة وعضو، وما في الشجرة من ورق، وما فيها من ضروب الخلق. وقيل: إن قريشاً قالت: ما أكثر كلام محمد؟ فنزلت قاله السدي.
وعن ابن مسعود قال: إن أحبار اليهود قالوا لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالمدينة: " يا محمد أرأيت قولك: وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً، إيانا تريد؟ أم قومك؟ " فقال: كلا، فقالوا: ألست تتلو فيما جاءك أنا قد أوتينا التوراة، وفيها تبيان كل شيء؟ فقال: " إنها في علم الله قليل، وأنزل الله ولو أن ما في الأرض الآية " أخرجه ابن إسحاق، وابن جرير، وابن أبي حاتم. قال أبو عبيدة: المراد بالبحر هنا: الماء العذب الذي ينبت الأقلام، وأما المالح فلا ينبتها، قال الشوكاني: ما أسقط هذا الكلام وأقل جدواه (إن الله عزيز حكيم) أي: غالب لا يعجزه شىء ولا يخرج عن حكمته وعلمه فرد من أفراد مخلوقاته.(10/297)
مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (28) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (29) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (30) أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (31) وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (32)
و(10/298)
مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (28)
(ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس) أي: كخلق نفس (واحدة) وبعثها لأنه بكلمة: كن فيكون، قال النحاس: هكذا قدره النحويون، يعني إلا كخلق نفس، كقوله: واسأل القرية: قال الزجاج: أي قدرة الله على بعث الخلق كلهم، وعلى خلقهم، كقدرته على خلق نفس واحدة، وبعث نفس واحدة، أي: سواء في قدرته القليل والكثير، فلا يشغله شأن عن شأن (إن الله سميع) لكل ما يسمع (بصير) لكل ما يبصر.(10/298)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (29)
(ألم تر) الخطاب لكل أحد يصلح لذلك، أو للرسول - صلى الله عليه وسلم - (أن الله يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل) أي: يدخل كل واحد منهما في الآخر، فيزيد كل منهما بما نقص من الآخر، وقد تقدم تفسيره في سورة الحج والأنعام (وسخر الشمس والقمر) أي: دللهما وجعلهما منقادين بالطلوع والأفول تقديراً للآجال، وتتميماً للمنافع، والاختلاف بينهما في الصيغة، لما أن إيلاج أحد المولجين في الآخر متجدد في كل حين، وأما تسخير النيرين فأمر لا تعدد فيه، وإنما التعدد والتجدد في آثاره.(10/298)
(كل) منهما (يجري إلى أجل مسمى) قيل: هو يوم القيامة، وقيل: وقت الطلوع ووقت الأفول، وقيل: الشمس إلى آخر السنة، والقمر إلى آخر الشهر، والأول أولى، وقال هنا بلفظ: (إلى)، وفي فاطر، والزمر، بلفظ اللام، لأن ما هنا، وقع بين آيتين دالتين على غاية ما ينتهي إليه الخلق، وهما قوله ما خلقكم الآية وقوله: اتقوا ربكم واخشوا يوماً الآية فناسب ذكر (إلى) الدالة على الانتهاء، وما في فاطر والزمر خال عن ذلك، إذ ما في فاطر لم يذكر مع ابتداء خلق ولا انتهائه، وما في الزمر ذكر مع ابتدائه، فناسب ذكر اللام، والمعنى: يجري كل كما ذكر لبلوغ أجل. قاله الكرخي.
(وأن الله بما تعملون خبير) لا تخفى عليه خافية، لأن من قدر على مثل هذه الأمور العظيمة فقدرته على العلم بما يعملونه بالأولى، وهو عطف على أن الله يولج الخ، داخل معه في حيز الرؤية(10/299)
ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (30)
(ذلك) أي: ما تقدم ذكره من الآيات الكريمة المشتملة على سعة العلم، وشمول القدرة، وعجائب الصنع واختصاص الباري بها (بأن الله) أي: بسبب أنه سبحانه (هو الحق) الثابت ألوهيته، أو فعل ذلك ليعلموا أنه الحق، وهو المستحق للعبادة (وأن ما يدعون من دونه الباطل) لا يستحق العبادة، قال مجاهد: الذي يدعون من دونه هو الشيطان، وقيل: ما أشركوا به من صنم أو غيره، وهذا أولى.
(وأن الله هو العلي الكبير) أي: إن ذلك الصنع البديع الذي وصفه في الآيات المتقدمة، للاستدلال به على حقية الله، وبطلان ما سواه، وعلوه وكبريائه على الخلق، له الصفات العليا، والأسماء الحسنى، وهو علي الذات، سمي الصفات، كبير الشأن، جليل القدر، رفيع الذكر، مطاع الأمر جلي البرهان، ثم ذكر من عجيب صنعه، وبديع قدرته، وغاية حكمته، وشمول إنعامه نوعاً آخر فقال:(10/299)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (31)
(ألم تر أن الفلك) أي: السفن والمراكب (تجري في البحر بنعمة الله) أي بلطفه بكم، ورحمته لكم، أو بالريح لأنها من نعم الله تعالى، وذلك من أعظم نعمه عليكم، لأنها تخلصكم من الغرق عند أسفاركم في البحر لطلب الرزق، وقرئ بنعمات الله جمع نعمة، والباء للصلة، أو للحال (ليريكم من آياته) من للتبعيض، أي بعض آياته، قال يحيى بن سلام، وهو جري السفن في البحر بالريح، وقال ابن شجرة: المراد بقوله؛ من آياته ما يشاهدونه من قدرة الله تعالى. قال النقاش: ما يرزقهم الله من البحر.
(إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور) هذه الجملة تعليل لما قبلها أي: فيما ذكر لآيات عظيمة، وعبراً فخيمة لكل من له صبر بليغ، وشكر كثير، يصبر عن معاصي الله، ويشكر نعمه، وهما صفتا المؤمن. فالإيمان نصفان نصفه شكر، ونصفه صبر، فكأنه قال: إن في ذلك لآيات لكل مؤمن حيث يبعث في نفسه التفكر في عدم غرقه، وفي سيره إلى البلاد الشاسعة، والأقطار البعيدة، وفي كون سيره ذهاباً وإياباً بريحيين. وتارة بريح واحدة، وفي إنجاء أبيه نوح عليه السلام، ومن أراد الله تعالى من خلقه، وإغراق غيرهم من جميع أهل الأرض، وفي غير ذلك من شؤونه، وأموره، وصنائعه، وأفعاله.(10/300)
وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (32)
(وإذا غشيهم موج كالظلل) أي: كالجبال التي تظل من تحتها، شبه الموج لكبره بما يظل الإنسان من جبل، أو سحاب، أو غيرهما، وإنما شبه الموج وهو واحد، بالظلل وهي جمع، لأن الموج يأتي شيئاًً بعد شيء، ويركب بعضه بعضاً. وقيل: إن الموج في معنى الجمع، لأنه مصدر، وأصل الموج الحركة والازدحام، ومنه يقال ماج البحر، وماج الناس وقرئ كالظلال جمع ظل.
(دعوا الله) وحده (مخلصين له الدين) أي: لا يعولون على غيره في خلاصهم، لأنهم يعلمون أنه لا يضر ولا ينفع سواه، ولكنه يغلب على(10/300)
طبائعهم العادات، وتقليد الأموات، فإذا وقعوا في مثل هذه الحالة اعترفوا بوحدانية الله تعالى، وأخلصوا دينهم له طلباً للخلاص والسلامة مما وقعوا فيه، لزوال ما ينازع الفطرة الإيمانية من الهوى والتقليد بما دهاهم من الشدائد.
(فلما نجاهم إلى البر) صاروا قسمين (فمنهم مقتصد) أي: فقسم مقتصد، أي: عدل موف في البر، بما عاهد عليه الله في البحر من إخلاص الدين له، باق على ذلك بعد أن نجاه الله من هول البحر، وأخرجه إلى البر سالماً. قال الحسن: معنى مقتصد مؤمن متمسك بالتوحيد والطاعة. وقال مجاهد: مقتصد في القول مضمر للكفر. وقال الرازي: المقتصد المتوسط بين السابق بالخيرات، والظالم لنفسه، وهو الذي تساوت سيئاته وحسناته، وقيل: متوسط بين الكفر والإيمان، لأنه انزجر بعض الانزجار، ومنهم باق على كفره لأن بعضهم كان أشد قولاً، وأعلى افتراء من بعض، والأولى ما ذكرناه.
قيل: نزلت في عكرمة بن أبي جهل، وذلك أنه هرب عام الفتح إلى البحر، فجاءهم ريح عاصف، فقال عكرمة: لئن نجانا الله من هذا لأرجعن إلى محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ولأضعن يده في يدي، فسكنت الريح، ورجع عكرمة إلى مكة، وحسن إسلامه، وفي الكلام حذف، والتقدير: فمنهم مقتصد، ومنهم كافر لم يوف بما عاهد، ويدل على هذا المحذوف قوله:
(وما يجحد بآياتنا إلا كل ختار كفور) لأنه نقض العهد الفطري، ورفض ما كان عليه في البحر، ؤهذا في مقابلة صبار، كما أن (كفور) في مقابلة (شكور) والختر: أسوأ الغدر وأقبحه. قال الجوهوي: الختر: الغدر، يقال: ختره فهو ختار، أي: غدارء قال الماوردي: وهذا قول الجمهور، وقال ابن عطية: إنه الجاحد، وجحد الآيات إنكارها، والكفور عظيم الكفر بنعم الله سبحانه. قال ابن عباس: ختار: جحاد.(10/301)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (33) إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34)(10/302)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (33)
(يا أيها الناس اتقوا ربكم واخشوا يوماً لا يجزي) أي: لا يغني ولا يقضي (والد عن ولده) شيئاًً ولا ينفعه بوجه من وجوه النفع، لاشتغاله بنفسه، وقد تقدم بيان معناه في البقرة (ولا مولود هو) مبتدأ ثان خبره: (جاز عن والده شيئاًً) والجملة خبر مولود، وجاز الابتداء به، وهو نكرة لأنه في سياق النفي، ثم الخبر مع المبتدأ كلام وارد على طريق من التوكيد، لم يرد عليه ما هو معطوف عليه، لأن الجملة الاسمية آكد من الجملة الفعليه وقد انضم إلى ذلك قوله (هو) وقوله (مولود) والسبب في ذلك أن الخطاب للمؤمنين، فأريد حسم أطماعهم أن ينفعوا آباءهم بالشفاعة في الآخرة، ومعنى التأكيد في لفظ المولود: إن الواحد منهم لو شفع للأب الأدنى الذي ولد منه لم تقبل شفاعته، فضلاً أن يشفع لأجداده، إذ الولد يقع على الولد، وولد الولد، بخلاف المولود فإنه لمن ولد منك، كذا في الكشاف.
وبالجملة فقد ذكر سبحانه هنا فردين من القرابات، وهما الوالد والولد، وهما الغاية في الحنو والمحبة والشفقة على بعضهم البعض، فما عداهما من القرابات لا يجزي بالأولى، فكيف بالأجانب، ونبه أيضاً بالأعلى على الأدنى، وبالأدنى على الأعلى، فالوالد يجزي عن ولده في الدنيا لكمال شفقته عليه، والولد يجزي عن والده لما له عليه من حق التربية وغيرها، فإذا كان يوم القيامة فكل إنسان يقول: نفسي نفسي، ولا يهتم بقريب ولا بعيد.(10/302)
وقال ابن عباس: كل امرئ تهمه نفسه، اللهم اجعلنا ممن لا يرجو سواك، ولا يعول على غيرك.
(إن وعد الله) بالبعث (حق) لا يتخلف، فما وعد به من الخير، وأوعد به من الشر، فهو كائن لا محالة (فلا تغرنكم الحياة الدنيا) وزخارفها عن الإسلام فإنها زائلة ذاهبة فانية.
(ولا يغرنكم بالله) في حلمه وإمهاله (الغرور) بفتح الغين أي: الدنيا، أو الأمل بأن يرجيكم التوبة والمغفرة فيجسركم على المعاصي، وقال ابن عباس: الغرور: هو الشيطان، وكذا قال مجاهد، وعكرمة وقتادة لأن من شأنه أن يغر الخلق، ويمنيهم بالأماني الباطلة، ويلهيهم عن الآخرة، ويصدهم عن طريق الحق. وقال سعيد بن جبير: يعمل بالمعاصي، ويتمنى المغفرة. وقرئ بضم الغين، مصدر غر يغر غروراً، ويجوز أن يكون مصدراً واقعاً وصفاً للشيطان على المبالغة.(10/303)
إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34)
(إن الله عنده علم الساعة) أي: علم وقتها الذي تقوم فيه، قال الفراء: إن معنى هذا الكلام النفي، أي: ما يعلمه إلا الله عز وجل، قال النحاس: وإنما صار فيه معنى النفي، لما ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال في قوله: وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو: إنها هذه.
أخرج البخاري، ومسلم وغيرهما عن ابن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: مفاتيح الغيب خمس، لا يعلمهن إلا الله، لا يعلم ما في غد إلا الله، ولا متى تقوم الساعة إلا الله، ولا ما في الأرحام إلا الله. وفي الصحيحين، وغيرهما، من حديث أبي هريرة -في حديث سؤاله عن الساعة، وجوابه بأشراطها- ثم قال: في خمس لا يعلمهن إلا الله ثم تلا هذه الآية، أي: لا يدري أحد متى تقوم الساعة في أي سنة، وأي شهر وأي يوم، وأي ساعة ليلاً أو نهاراً.(10/303)
وفي الباب أحاديث، وعن مجاهد قال: جاء رجل من أهل البادية فقال: إن امرأتي حبلى فأخبرني ما تلد؟ وبلادنا مجدبة، فأخبرني متى ينزل الغيث، وقد علمت متى ولدت، وأخبرني متى أموت؟، فأنزل الله: إن الله عنده علم الساعة الآية، وعن عكرمة نحوه، وزاد وقد علمت ما كسبت اليوم، فماذا أكسب غداً؟ وزاد أيضاًً أنه سأل عن قيام الساعة! وقيل: نزلت في الحرث بن عمرو بن حارثة من أهل البادية.
(وينزل الغيث) في الأوقات والأمكنة التي جعلها معينة لإنزاله، ولا يعلم ذلك غيره، قرئ من التنزيل والإنزال (ويعلم ما في الأرحام) من الذكور والإناث، والصلاح والفساد (وما تدري نفس) من النفوس كائنة ما كانت، من غير فرق بين الملائكة والأنبياء، والجن والإنس (ماذا تكسب غداً) من كسب دين، أوكسب دنيا، خير أو شر.
(وما تدري نفس بأي أرض تموت) وقرئ بأية أرض، وجوز ذلك الفراء، وهي لغة ضعيفة، قال الأخفش: يجوز أن يقال مررت بجارية أي جارية، والمعنى: ولا تعلم نفس بأي مكان يقضى الله عليها بالموت من الأرض في بر أو بحر، في سهل، أو جبل، وربما أقامت بأرض، وضربت أوتادها، وقالت: لا أبرحها فترمي بها مرامي القدر حتى تموت مكان لم يخطر ببالها.
روي أن ملك الموت مر على سليمان فجعل ينظر إلى رجل من جلسائه فقال الرجل: من هذا؟ قال ملك الموت، قال: كأنه يريدني، وسأل سليمان عليه السلام أن يحمله على الريح، ويلقيه ببلاد الهند. ففعل، ثم قال ملك الموت لسليمان: كان دوام نظري إليه تعجباً منه، لأني أمرت أن أقبض روحه بالهند وهو عندك، ذكره النسفي في المدارك، ورأى المنصور في منامه صورة ملك الموت، وسأله عن مدة عمره فأشار بأصابعه الخمس، فعبرها المعبرون بخمس سنوات، وبخمسة أشهر، وبخمسة أيام، فقال أبو حنيفة: هو إشارة إلى هذه الآية.(10/304)
فإن هذه العلوم الخمسة لا يعلمها إلا الله. قال الكرخي: أضاف في الآية العلم إلى نفسه في الثلاثة من الخمسة المذكورة، ونفى العلم عن العباد في الأخيرتين منها، مع أن الخمسة سواء في اختصاص الله تعالى بعلمها، وانتفاء علم العباد بها، لأن الثلاثة الأولى أمرها أعظم وأفخم، فخصت بالإضافة إليه تعالى، والأخيرتان من صفات العباد، فخصتا بالإضافة إليهم مع أنه إذا انتفى عنهم علمهما كان انتفاء علم ما عداهما من الخمس أولى:
(إن الله عليم) بهذه الأشياء، وبغيرها من الغيوب (خبير) بما كان وبما يكون وببواطن الأشياء كلها، ليس علمه محيطاً بالظاهر فقط. قال ابن عباس: هذه الخمسة لا يعلمها ملك مقرب، ولا نبي مرسل، فمن ادعى أنه يعلم شيئاًً من هذه فإنه كفر بالقرآن. وعن الزهري: أكثروا قراءة سورة لقمان فإن فيها أعاجيب، والله أعلم، وفيه رد على المنجم والكاهن، اللذين يخبران بوقت الغيث والموت وغيرهما.(10/305)
خاتمة الجزء العاشر
تم بعون الله الجزء العاشر من كتاب فتح البيان في مقاصد القرآن ويليه الجزء الحادي عشر وأوله سورة السجدة.(10/307)
فتحُ البيان في مقاصد القرآن
تفسِير سَلفي أثري خالٍ منَ الإِسرَائيليّاتِ والجَدليَّاتِ المذهبية والكلامية يغني عَن جميع التفاسِير وَلا تغني جميعُهَا عَنه
تأليف: السيد الإمام العلامة الملك المؤيد من الله الباري آبي الطيب صديق بن حسن بن علي الحسين القنوجي النجاري 1248 - 1307 هـ
عني بطبعهِ وقدّم له وراجعه: خادم العلم عَبد الله بن إبراهيم الأنصَاري
الجزء الحادي عشر
المَكتبة العصريَّة
صَيدَا - بَيروت(11/1)
جَمِيع الحُقُوق محفُوظَة
1412 هـ - 1992 م
شركة أبناء شريف الأنصاري للطباعة والنشر والتوزيع
المَكتبة العصريَّة للطبَاعة والنّشْر
الدار النموذجية ــ المكتبة العصرية
بَيروت - صَ. ب 8355 - تلكس LE 20437 SCS
صَيدَا - صَ. ب 221 - تلكس LE 29198(11/2)
فتح البيان في مقاصد القرآن(11/3)
الجزء الحادي عشر
بسم الله الرحمن الرحيم
ويشتمل على
- سورة السجدة
- سورة الأحزاب
- سورة سبأ
- سورة يس
- سورة الصافات(11/5)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة السجدة
(آياتها تسع وعشرون آية وقيل ثلاثون آية)
بناء على الاختلاف في أن آخر الآية: (لفي خلق جديد). أو هو (كافرون) فعلى الاول: تكون ثلاثين. وعلى الثاني: تكون تسعا وعشرين. وهي مكية. قاله: ابن عباس وابن الزبير.
وأخرج البخاري عنه: هي مكية سوى ثلاث آيات نزلت بالمدينة (أفمن كان مؤمنا) إلى تمام الآيات الثلاث. وكذا قال الكلبي ومقاتل، وقيل إلا خمس آيات من قوله: (تتجافى جنوبهم) إلى قوله: (الذي كنتم به تكذبون). وقد ثبت عند مسلم؛ وأهل السنن من حديث أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ في صلاة الفجر يوم الجمعة بألم تنزيل السجدة. وهل أتى على الإنسان.
وأخرج أحمد والدارمي والترمذي والنسائي والحاكم وصححه وغيرهم: عن جابر قال كان النبي - صلى الله عليه وسلم -: " لا ينام حتى يقرأ الم تنزيل السجدة. وتبارك الذي بيده الملك ". وقد وردت في فضائل هذه السورة أحاديث.(11/7)
بسم الله الرحمن الرحيم
(ألم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (3) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (4) يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ)(11/9)
الم (1)
(ألم) قد قدمنا الكلام على فاتحة هذه السورة في البقرة وفي مواضع كثيرة من فواتح السور والله أعلم بمراده به.(11/9)
تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2)
(تنزيل الكتاب) فيه أوجه خمسة ذكرها السمين (لا ريب فيها) أي لا شك في أنه (من رب العالمين) وأنه ليس بكذب ولا سحر ولا كهانة ولا أساطير الأولين(11/9)
أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (3)
(أم يقولون؟) أم هي المنقطعة التي بمعنى بل والهمزة أي بل أيقولون؛ فأضرب عن الكلام الأول إلى ما هو معتقد الكفار مع الاستفهام المتضمن للتقريع والتوبيخ.
(افتراه) أي افتعله واختلقه من تلقاء نفسه ثم أضرب عن معتقدهم هذا إلى بيان ما هو الحق في شأن الكتاب فقال:
(بل) إضراب إبطال لنفس افتراه وحده، وعلى هذا كل ما في القرآن إضراب فهو انتقال إلا هذا، فإنه يجوز أن يكون إبطالاً لإنه إبطال لقولهم أي. ليس هو كما قالوا، بل (هو الحق من ربك) فكذبهم سبحانه في دعوى الافتراء، ثم بين العلة التي كان التنزيل لأجلها فقال:
(لتنذر قوماً ما أتاهم من نذير من قبلك) وهم العرب؛ وكانوا أمة(11/9)
أمية لم يأتهم رسول، وقيل قريش خاصة، والتقدير لتنذر قوماً العقاب، وجوز أبو حيان أن تكون (ما) موصولة أي العقاب الذي أتاهم وهو ضعيف جداً، فإن المراد تعليل الإنزال بالإنذار لقوم لم يأتهم نذير قبله، لا تعليله بالإنذار لقوم قد أنذروا بما أنذرهم به. وقيل: المراد بالقوم أهل الفترة ما بين عيسى ومحمد - صلى الله عليه وسلم - (لعلهم يهتدون) أي كي يهتدوا أو رجاء أن يهتدوا والترجي معتبر من جهته عليه السلام.(11/10)
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (4)
(الله الذي خلق) أي أوجد وأبدع (السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام) على التوزيع كما يأتي في سورة فصلت، وقد تقدم تفسير هذه الآية في الأعراف وغيرها، والمراد من ذكرها هنا تعريفهم كمال قدرته، وعظيم صنعه ليسمعوا القرآن ويتأملوه. قال الحسن الأيام هنا هي من أيام الدنيا، وقيل: مقدار اليوم ألف سنة من سني الدنيا، قاله الضحاك، فعلى هذا المراد بالأيام هنا هي من أيام الآخرة لا من أيام الدنيا، وليست ثم للترتيب في قوله:
(ثم استوى على العرش) بل بمعنى الواو، والعرش في اللغة سرير الملك والمراد به هنا الجسم النوراني المحيط بالعالم كله، وهذا الاستواء في سبع مواضع من القرآن الكريم والأصل الراجح أن نعتقد ما ورد به القرآن ولا نؤوله ولا نصرفه عن وجهه وهو نص وظاهر في أن الله تعالى فوق العرش بائن من خلقه بالمعنى الذي يليق بجنابه الأقدس الأعلى وتأويله إخراج النص أو الظاهر عن معناه وهذا لا يجوز قطعاً إلا عند وجود ما يساويه أو يتقدم عليه ويعارضه ودونه خرط القتاد.
وقد اختلف الناس في هذا على أربعة عشر قولاً: أولاها بالصواب مذهب سلف الأمة وأئمتها، أنه استوى عليه بلا كيف، مع تنزيهه عما لا يجوز عليه، والآيات الصريحة والأحاديث الصحيحة في هذا الباب كثيرة جداً، وهي تغني عن غيرها. وردَّت الجهمية هذه الصفة الثابتة له سبحانه، وتبعها المعتزلة، ورد عليهم الحافظ ابن القيم في إعلام الموقعين بثمانية عشر وجهاً،(11/10)
يطول ذكرها، وقد جمع أهل العلم فيها سيما أهل القرآن وأصحاب الحديث مباحث، بل رسائل، بل كتباً، طولوها بذكر الأدلة النقلية، بل العقلية، والمسألة أوضح من أن تلتبس على عارف، وأبين من أن يحتاج فيها إلى التطويل، ولكن لما وقعت فيها تلك القلاقل والزلازل بين بعض الطوائف الإسلامية الحق الصراح فيها، وأطال سيما الحنابلة وأهل الحديث، فلهم في ذلك الفتن الكبرى، والملاحم العظمى، وما زالوا هكذا في عصر بعد عصر إلى يومنا هذا، والحق ما عرفناك من مذهب السلف الصالح، فالاستواء على العرش، وكونه تعالى فوق الخلق عالياً عليهم، قد نطق به القرآن الكريم في مواطن يكثر حصرها، ويطول نشرها، وكذلك صرح به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في غير حديث، بل هذا مما يجده كل فرد من أفراد الناس في نفسه، ويحسه في فطرته، وتجذبه إليه طبيعته، كما تراه في كل من استغاث بالله سبحانه، والتجأ إليه، ووجه دعاءه إلى جنابه الرفيع، وعزه المنيع، فإنه يشير عند ذلك بكفه، أو يرمي بطرفه، يستوى في ذلك عند عروض أسباب الأدعية، وحدوث بواعث الاستغاثة، ووجود مقتضيات الانزعاج، وظهور دواعي الالتجاء، عالم الناس وجاهلهم، وباديهم وحاضرهم، والماشي على طريقة السلف والمقتدي بأهل التأويل من الخلف.
فالسلامة والنجاة في إمرار ذلك على الظاهر والإذعان بأن الاستواء والاستقرار (1) والكون في الفوق ثابتة على ما نطق به الكتاب والسنة من دون
_________
(1) يذهب أنصار مذهب الخلف إلى التأويل واستهجان مذهب السلف مع التسليم بأنه أسلم فيقولون مذهب السلف أسلم ومذهب الخلف أعلم وأحكم وناهيك بهذا من شطط، ويقابلهم في الطرف الآخر بعض دعاة مذهب السلف؛ فتند بهم أحياناً قوة الاندفاع في الدفاع عن مذهب السلف فينحرفون إلى التفسير الذي يقابل التأويل عند خصومهم. ومن هذا تعبير المؤلف بكلمة الاستقرار كعطف تفسير لكلمة الاستواء وهي كلمة لعمر الحق ليس لها أصل في الروايات القرآنية أو الحديثية في الاستواء، ومذهب السلف أبلغ ما ورد فيه قول مالك بن أنس: الاستواء معلوم. والكيف مجهول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة أهو الاستقرار في كلام المؤلف يوهم بالكيف والتجسيم حاشاه. المطيعي.(11/11)
تكييف، ولا تعطيل، ولا تشبيه، ولا تمثيل والمؤول غير مقتد بالسلف، ولا واقف في طريق النجاة ولا معصوم عن الخطأ، ولا سألك في جادة السلامة والاستقامة. قال في حجة الله البالغة: واستطال هؤلاء الخائضون على معشر أهل الحديث وسموهم مجسمة مشبهة، وقالوا هم المستترون بالكيفية، وقد وضح عليّ وضوحاً بيناً أن استطالتهم هذه ليست بشيء وأنهم مخطئون في مقالتهم، رواية ودراية، وخاطئون في طعنهم أئمة الهدى انتهى.
(ما لكم من دونه) أي ليس لكم من دون الله أو من دون عذابه (من ولي) يواليكم، ويرد عنكم عذابه (ولا شفيع) يشفع لكم عنده (أفلا تتذكرون) تذكر تدبر وتفكر، وتسمعون هذه المواعظ سماع من يفهم ويعقل، حتى تنتفعوا بها وتؤمنوا، ولما بين سبحانه خلق السموات والأرض وما بينهما؛ بين تدبيره لأمرها فقال:(11/12)
يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (5)
(يدبّر) أي يحكم (الأمر) بقضائه وقدره (من السماء إلى الأرض) إلى أن تقوم الساعة، والمعنى: ينزل أمره من أعلى السموات إلى أقصى تخوم الأرض السابعة، كما قال سبحانه: (الله الذي خلق سبع سموات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن). ومسافة. ما بين سماء الدنيا والأرض التي تحتها نزولاً وطلوعاً ألف سنة من أيام الدنيا.
وقيل: المراد بالأمر المأمور به من الأعمال، أي ينزله مدبراً من السماء إلى الأرض، وقيل: يدبر أمر الدنيا بأسباب سماوية من الملائكة وغيرها نازلة أحكامها وآثارها إلى الأرض. وقيل: ينزل الوحي مع جبريل، وقيل العرش موضع التدبير، كما أن ما دون العرش موضع التفصيل كما في قوله: ثم استوى على العرش يدبر الأمر يفصل الآيات، وما دون السموات موضع التصرف قال تعالى: (ولقد صرفناه بينهم ليذكروا). وقال ابن عباس: يدبر الأمر هذا في الدنيا أي شأنها وحالها، والأمور التي تقع فيها، والمراد بتدبير أمرها القضاء(11/12)
السابق؛ الذي هو الإرادة الازلية المقتضية لنظام الموجودات على ترتيب خاص، ثم لما ذكر سبحانه تدبير الأمر قال:
(ثم يعرج) قرأ الجمهور على البناء للفاعل، وقرىء على البناء للمفعول والأصل يعرج به أي يرجع ذلك الأمر، ويعود ذلك التدبير والتصرف في المخلوقات بالحشر، والحساب، ووزن الأعمال، والتعذيب، والتنعيم، وغير ذلك مما يقع في ذلك اليوم (إليه) سبحانه (في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون) قرأ الجمهور بالفوقية على الخطاب، وقرىء بالتحتية على الغيبة أي تعدونه من أيام الدنيا، وذلك باعتبار مسافة النزول من السماء، والطلوع من الأرض كما قدمنا. وقيل: إن المراد يعرج إليه في يوم القيامة الذي مقداره كذا من أيام الدنيا، وذلك حين ينقطع أمر الدنيا، ويموت من فيها وقيل هي أخبار أهل الأرض تصعد إليه مع من يرسله إليها من الملائكة، والمعنى: أنه يثبت ذلك عنده، ويكتب في صحف ملائكته ما عمله أهل الأرض في كل وقت من الأوقات إلى أن تبلغ مدة الدنيا آخرها. وقيل: المعنى يثبت في عمله موجوداً بالفعل في برهة من الزمان، هي مقدار ألف سنة والمراد طول امتداد ما بين تدبير الحوادث وحدوثها من الزمان.
وقيل: يدبر أمر الحوادث اليومية بإثباتها في اللوح المحفوظ فينزل بها الملائكة. ثم يعرج إليه في زمان هو كألف سنة من أيام الدنيا. وقيل يقضي قضاء ألف سنة فينزل به الملائكة، ثم يعرج بعد الألف لألف آخر. وقيل: المراد أن الأعمال التي هي طاعات يدبرها الله سبحانه، وينزل بها ملائكته، ثم لا يعرج منها إليه إلا الخالص بعد مدة متطاولة لقلة المخلصين من عباده.
وقيل الضمير في يعرج يعود إلى الملك، وإن لم يجر له ذكر لأنه مفهوم من السياق وقد جاء صريحاً في قوله: (تعرج الملائكة والروح إليه) والضمير في (إليه) راجع إلى السماء على لغة من يذكرها، أو إلى مكان الملك الذي يرجع(11/13)
إليه، وهو الذي أقرَّه الله فيه.
وقيل المعنى يدبر أمر الشمس في الطلوع والغروب، ورجوعها إلى موضعها من الطلوع في يوم كان مقداره في المسافة ألف سنة وقيل المعنى أن الملك يعرج إلى الله في يوم كان مقداره لو ساره غير الملك ألف سنة فإن ما بين السماء والأرض مسافة خمسمائة (1) عام، فمسافة النزول من السماء إلى الأرض والرجوع من الأرض إلى السماء ألف عام، وقد رجح هذا جماعة من المفسرين منهم ابن جرير.
وقيل: مسافة النزول ألف سنة، ومسافة الطلوع ألف سنة - روي ذلك عن الضحاك. وهذا اليوم هو عبارة عن زمان يتقدر بألف سنة، وليس المراد به مسمى اليوم الذي هو مدة النهار بين ليلتين والعرب قد تعبر عن المدة باليوم كما قال الشاعر:
يومان يوم مقامات وأندية ... ويوم سير إلى الاعداء تأديب
فإن الشاعر لم يرد يومين مخصوصين، وإنما أراد أن زمانهم ينقسم شطرين؛ فعبَّر عن كل واحد من الشطرين بيوم. وعن ابن عباس في الآية قال: من الأيام الستة التي خلق الله فيها السموات والأرض، وعنه قال: لا يتنصف النهار في مقدار يوم من أيام الدنيا في ذلك اليوم، حتى يقضي بين العباد، فينزل أهل الجنةِ الجنةَ، وأهل النارِ النارَ ولو كان إلى غيره لم يفرغ في خمسين ألف سنة، وعنه قال: في يوم من أيامكم هذه ومسيرة ما بين السماء والأرض خمسمائة عام.
وقد استشكل جماعة الجمع بين هذه الآية، وبين قوله: (تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة) فقيل في الجواب: إن يوم
_________
(1) ورد في هذا حديث موضوع كتاب " الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة " صفحة 450 برقم 22 ونصه: " بين كل سماء إلى سماء مسيرة خمسمائة عام " فلا يعتد به.(11/14)
القيامة مقداره ألف سنة من أيام الدنيا؛ ولكنه باعتبار صعوبته وشدة أهواله على الكفار كخمسين ألف سنة؛ والعرب تصف كثيراً يوم الكريهة بالطول، كما تصف يوم السرور بالقصر.
وقيل: إن يوم القيامة فيه أيام؛ فمنها ما مقداره ألف سنة، ومنها ما مقداره خمسون ألف سنة. وقيل: هي أوقات مختلفة يعذب الكافر بنوع من أنواع العذاب ألف سنة، ثم ينقل إلى نوع آخر فيعذب خمسين ألف سنة.
وقيل مواقف القيامة خمسون موقفاً كل موقف ألف سنة، فيكون معنى يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة أنه يعرج إليه في وقت من تلك الأوقات أو موقف من تلك المواقف وعن مجاهد، وقتادة والضحاك أنه أراد سبحانه في قوله: (تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة) المسافة من الأرض إلى سدرة المنتهى، التي هي مقام جبريل.
والمراد أنه يسير جبريل ومن معه من الملائكة في ذلك المقام إلى الأرض مسيرة خمسين ألف سنة في مقدار يوم واحد من أيام الدنيا، وأراد بقوله في يوم كان مقداره ألف سنة المسافة التي بين الأرض وبين السماء الدنيا هبوطاً وصعوداً فإنها مقدار ألف سنة من أيام الدنيا.
وقيل: إن ذلك إشارة إلى امتداد نفاذ الأمر، وذلك لأن من نفذ أمره غاية النفاذ في يوم أو يومين وانقطع، لا يكون مثل من ينفذ أمره في سنين متطاولة، فقوله في يوم كان مقداره ألف سنة يعني: يدبر الأمر في زمان يوم منه ألف سنة، فكم يكون الشهر منه، وكم تكون السنة منه، وعلى هذا فلا فرق بين ألف سنة وبين خمسين ألف سنة.
وقيل: غير ذلك، وقد وقف حبر الامة ابن عباس لما سئل عن الآيتين، وقال هما يومان ذكرهما الله في كتابه الله أعلم بهما، وأكره أن أقول في كتاب الله ما لا أعلم. وقال ابن المسيب للسائل هذا ابن عباس قد أبى أن يقول فيهما وهو أعلم مني، والإشارة بقوله:(11/15)
(ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (6) الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (8) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ (9))(11/16)
ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (6)
(ذلك) إشارة إلى الله باعتبار اتصافه بتلك الأوصاف أي: ذلك الخالق المدبر (عالم الغيب والشهادة) أي العالم بما غاب عن الخلق وما حضرهم، وفي هذا معنى التهديد لأنه سبحانه إذا علم بما يغيب وما يحضر، فهو مجاز لكل عامل بعمله، أو فهو يدبر الأمر بما تقتضيه حكمته (العزيز) القاهر الغالب (الرحيم) بعباده(11/16)
الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ (7)
(الذي أحسن كل شيء خلقه) قرىء بفتح اللام وبإسكانها فعلى الأولى خلقه فعل ماض نعتاً لشيء، وعلى الثانية ففي نصبه أوجه:
الأول: أن يكون بدلاً من (كل شيء) بدل اشتمال، والضمير عائد إلى: كل شيء، وهذا هو الوجه المشهور عند النحاة.
الثاني: أنه بدل كل من كل، والضمير راجع إلى الله سبحانه، ومعنى (أحسن) حسن؛ لأنه ما من شيء إلا وهو مخلوق على ما تقتضيه الحكمة فكل المخلوقات حسنة.
الثالث: أن يكون (كل شيء) هو المفعول الأول، وخَلْقَهُ هو المفعول الثاني، على تضمين أحسن معنى أعطى، والمعنى: أعطى كل شيء خلقه الذي خصه به، وقيل: على تضمينه معنى ألهم. قال الفراء: ألهم خلقه كل شيء يحتاجون إليه.(11/16)
الرابع: أنه منصوب على المصدر المؤكد لمضمون الجملة أي خلقه خلقاً كقوله: صُنْعَ اللهِ، وهذا قول سيبويه، والضمير يعود إلى الله سبحانه.
والخامس: أنه منصوب بنزع الخافض، والمعنى: أحسن كل شيء في خلقه، ومعنى الآية أنه أتقن وأحكم خلق مخلوقاته، فبعض المخلوقات -وإن لم تكن حسنة في نفسها- فهي متقنة محكمة، فيكون هذه الآية معناها معنى أعطى كل شيء خلقه أي: لم يخلق الإنسان على خلق البهيمة ولا خلق البهيمة على خلق الإنسان. وقيل هو عموم في اللفظ خصوص في المعنى، أي أحسن خلق كل شيء حسن. وقال ابن عباس: أما رأيت القردة ليست بحسنة، ولكنه أحكم خلقها. وعنه في الآية قال: أما آنست القردة ليست بحسنة، ولكنه أحكم خلقها، وقال: خلقه: صورته. وقال أحسن كل شيء القبيح والحسن، والعقارب، والحيات، وكل شيء مما خلق، وغيره لا يحسن شيئاًً من ذلك.
وأخرج الطبراني عن أبي أمامة قال: بينما نحن مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ لقينا عمرو بن زرارة الأنصاري في حلة قد أسبل، فأخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - بناحية ثوبه، فقال يا رسول الله إني أحمش الساقين؛ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " يا عمرو ابن زرارة إن الله عز وجل قد أحسن كل شيء يا عمرو إن الله لا يحب المسبلين ". وأخرج أحمد والطبراني عن الشريد بن سويد قال: " أبصر النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلاً قد أسبل إزاره فقال ارفع إزارك، فقال: يا رسول الله إني أحنف تصطك ركبتاي، فقال: ارفع إزارك كل خلق الله حسن ".
(وبدأ خلق الإنسان) يعني آدم خلقه (من طين) فصار على صورة بديعة، وشكل بديع حسن(11/17)
ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (8)
(ثم جعل نسله) أي ذريته (من سلالة) أي نطفة؛ سميت الذرية سلالة لأنها تنسل من الأصل، وتنفصل عنه، وقد تقدم تفسيرها في سورة المؤمنين، والمذكور هنا صفة آدم، ثم صفة ذرية آدم (من ماء مهين) أي ممتهن لا خطر له عند الناس، وهو المني. وقال الزجاج من ماء ضعيف.(11/17)
ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (9)
(ثم سواه) أي الإنسان الذي بدأ خلقه من طين وهو آدم، أو جميع النوع، والمراد أنه عدل خلقه وسوى شكله، وقومه وناسب بين أعضائه على ما ينبغي كقوله في أحسن تقويم.
(ونفخ فيه من روحه) أي جعله حياً حساساً بعد أن كان جماداً، وبالإضافة للتشريف والتكريم، وهذه الإضافة تقوي أن الكلام في آدم لا في ذريته، وإن أمكن توجيهه بالنسبة إلى الجميع، وقيل للتخصيص، أي نفخ فيه من الشيء الذي اختص هو به وبعلمه، والأول أولى ثم خاطب جميع النوع فقال:
(وجعل لكم) وفيه التفات عن الغيبة إلا الخطاب، ولم يخاطبهم قبل ذلك لأن الخطاب إنما يكون مع الحي فلما قال ونفخ فيه من روحه خاطبه بعد ذلك وقال: وجعل لكم:
(السمع) أي الأسماع (والأبصار، والأفئدة) أي القلوب تكميلاً لنعمته عليكم، وتتميماً لتسويته لخلقكم، حتى تجتمع لكم هذه النعم، فتسمعون كل مسموع، وتبصرون كل مبصر، وتعقلون كل متعقل، وتفهمون كل ما يفهم، وأفرد السمع لكونه مصدراً يشمل القليل والكثير، وخص السمع بذكر المصدر دون البصر والفؤاد، فذكرهما بالاسم، ولهذا جمعا لأن السمع قوة واحدة. ولها محل واحد، وهو الأذن، ولا اختيار لها فيه، فإن الصوت يصل إليها ولا يقدر على رده، ولا على تخصيص السمع ببعض المسموعات دون بعض؛ بخلاف الأبصار فمحلها العين، وله فيه اختيار، فإنها تتحرك إلا جانب المرئي دون غيره، وتطبق أجفانها إذا لم ترد الرؤية لشيء، وكذلك الفؤاد له نوع اختيار في إدراكه فيتعقل هذا دون هذا، ويفهم هذا دون هذا.
(قليلاً ما) أي شكراً قليلاً، أو زماناً قليلاً (تشكرون) وفي هذا بيان لكفرهم لنعم الله، وتركهم لشكرها إلا فيما ندر من الأحوال.(11/18)
(وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ (10) قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (11) وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ (12))(11/19)
وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ (10)
(وقالوا) كلام مستأنف مسوق لبيان أباطيلهم، بطريق الالتفات عن الخطاب إلى الغيبة، إيذاناً بأن ما ذكر من عدم شكرهم لتلك النعم موجب للإعراض عنهم، وتعديد جناياتهم: (أئذا ضللنا في الأرض) الضلال الغيبوبة يقال ضل الميت في التراب إذا غاب وبطل، والعرب تقول للشيء إذا غلب عليه غيره، حتى خفي أثره: قد ضل. قال قطرب: المعنى غبنا في الأرض، قرىء ضللنا بفتح ضاد معجمة، ولام مفتوحة، بمعنى: ذهبنا، وضعنا، وصرنا تراباً، وغبنا عن الأعين بالدفن فيها. وقرىء: ضللنا بكسر اللام، وهي لغة العالية من نجد. قال الجوهري: وأهل العالية يقولون: ضللت بالكسر، قال وأضله أي أضاعه، وأهلكه، يقال ضل الميت إذا دفن.
وقرىء صللنا بصاد مهملة، ولام مفتوحة أي أنتنا، وبها قرأ عليّ، والحسن، والأعمش، وأبان بن سعيد. قال النحاس: ولا يعرف في اللغة صللنا، ولكن يقال: صل اللحم إذا أنتن. قال الجوهري: صل اللحم، يصل بالكسر صلولاً إذا أنتن، مطبوخاً، كان أو نيئاً، والعامل في إذا محذوف تقديره: نبعث، أو نخرج لدلالة قوله:
(أئنا لفي خلق جديد) عليه أي نبعث ونصير أحياء، والهمزة للاستنكار، وهذا قول منكري البعث من الكفار، فأضرب الله سبحانه من بيان كفرهم بإنكار البعث إلى بيان ما هو أبلغ منه، وهو كفرهم بلقاء الله فقال:
(بل هم بلقاء ربهم كافرون) أي: جاحدون له مكابرة وعناداً، فإن اعترافهم بأنه المبدىء للخلق، يستلزم اعترافهم بأنه قادر على الإعادة، ثم أمر(11/19)
الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وآله وسلم أن يبين لهم الحق، ويرد عليهم ما زعموه من الباطل فقال:(11/20)
قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (11)
(قل يتوفاكم ملك الموت) يقال: توفاه الله واستوفى روحه، إذا قبضه إليه، وملك الموت هو عزرائيل (1) وقال ذلك هنا، وقال في الأنعام: توفته رسلنا، وفي الزمر: الله يتوفى الأنفس حين موتها، ولا منافاة لأن الله تعالى هو المتوفي حقيقة بخلق الموت، وأمر الوسائط بنزع الروح، وهم غير ملك الموت أعوان له ينزعونها من الأظافر إلى الحلقوم فصحت الإِضافات كلها، والتفعيل والاستفعال يلتقيان في مواضع مثل: تقضيته، واستقضيته، وتعجلته، واستعجلته.
(الذي وكل بكم) أي: بقبض أرواحكم عند حضور آجالكم، قيل: إن ملك الموت يدعو الأرواح فتجيبه، ثم يأمر أعوانه بقبضها والله تعالى هو الآمر بذلك، وهذا وجه الجمع بين الآيات كما تقدم (ثم إلى ربكم ترجعون) أي: تصيرون إليه تعالى أحياء بالبعث والنشور، لا إلى غيره فيجازيكم بأعمالكم، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر.
_________
(1) لم يثبت أن ملك الموت اسمه هكذا، وملك الموت اسم جنس للملائكة التي تتولى قبض الأرواح بدليل قوله تعالى " توفته رسلنا وهم لا يفرطون " وفي الحديث " اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل وحملة العرش " ولم يقل وعزرائيل، ولم يرد اسم عزرائيل في خبر معتبر والله أعلم.
المطيعي.(11/20)
وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ (12)
(ولو ترى) لو امتناعية وجوابه محذوف، أي لرأيت أمراً فظيعاً، وهولاً هائلاً، لا يقدر قدره، والخطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم. قال الزجاج والمخاطبة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم مخاطبة لأمته؛ فالمعنى: ولو ترى يا محمد منكري البعث يوم القيامة لرأيت العجب، أو الخطاب لكل أحد ممن يصلح له كائناً من كان، إذ المراد بيان كمال سوء حالهم، وبلوغها من الفظاعة إلى حيث لا يختص استغرابها واستعظامها براء دون راء، ممن أعتاد مشاهدة الأمور البديعة، والدواهي الفظيعة، بل كل من تتأتى منه الرؤية(11/20)
يتعجب من هولها وفظاعتها، ويجوز أن يكون (لو) للتمني، والمضي فيها وفي (إذ) لأن الثابت في علم الله بمنزلة الواقع.
(إذ المجرمون ناكسو رؤوسهم) المراد بهم هم القائلون: أئذا ضللنا في الأرض، ويجوز أن يراد بالمجرمين كل مجرم، ويدخل فيه أولئك القائلون دخولاً أولياً، والمعنى: مطأطئوها وخافضوها حياء وندماً على ما فرط منهم في الدنيا من الشرك بالله، والعصيان له.
(عند ربهم) أي عند محاسبته لهم (ربنا) أي: يقولون ربنا (أبصرنا) الآن ما كنا نكذب به (وسمعنا) ما كنا ننكره، وقيل أبصرنا صدق وعيدك، وسمعنا تصديق رسلك؛ فهؤلاء أبصروا حين لم ينفعهم البصر، وسمعوا حين لم ينفعهم السمع.
(فارجعنا) إلى الدنيا (نعمل) عملاً (صالحاً) كما أمرتنا، وحسبما تقضيه تلك الآيات (إنا موقنون) أي مصدقون، وقيل مصدقون بالذي جاء به محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وصفوا أنفسهم بالإيقان الآن طمعاً فيما طلبوه من إرجاعهم إلى الدنيا وأنى لهم ذلك؟ فقد حقت عليهم كلمة الله فإنهم لو ردوا لعادوا لما نهوا عنه، وإنهم لكاذبون. وقيل: هذا ادعاء منهم لصحة الأفئدة، والاقتدار على فهم معاني الآيات، والعمل بموجبها، كما أن قبله ادعاء لصحة صفتي البصر والسمع، كأنهم قالوا أيقنا وكنا من قبل لا نعقل شيئاًً أصلاً، وإنما عدلوا إلى الجملة الاسمية المؤكدة إظهاراً لثباتهم على الإِيقان، وكمال رغبتهم فيه، وكل ذلك للجد في الاستدعاء طمعاً في الإجابة إلى ما سألوه من الرجعة، وقيل معنى إنا موقنون، أنها قد زالت عنهم الشكوك التي كانت تخالطهم في الدنيا، لما رأوا ما رأوا وسمعوا ما سمعوا. قيَل والمعنى صرنا نسمع ونبصر، فلا يحتاج إلى تقدير مفعول، ثم رد الله عليهم لما طلبوا الرجعة بقوله:(11/21)
(وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (13) فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (14) إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (15))(11/22)
وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (13)
(ولو شئنا لآتينا) أعطينا (كل نفس هداها) أي رشدها، وتوفيقها إلى الإيمان يعني ما عندنا من اللطف الذي لو كان منهم اختيار ذلك لاهتدوا جميعاً، فلم يكفر منهم أحد؛ ولكن لم نعطهم ذلك اللطف لما علمنا منهم اختيار الكفر، وإيثاره، وهو حجة على المعتزلة فإنهم أولوا الآية بمشيئة الجبر، وهو تأويل فاسد. قال النحاس: في معنى هذا قولان أحدهما أنه في الدنيا، والآخر أنه في الآخرة، أي: لو شئنا لرددنا إلى الدنيا.
(ولكن حق القول مني) أي نفذ قضائي، ووجب قدري، وسبقت كلمتي، وثبت وعيدي.
(لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين) هذا هو القول الذي وجب من الله، وحق على عباده، ونفذ فيه قضاؤه، فكان مقتضى هذا القول أنه لا يعطى كل نفس هداها، وإنما قضى عليهم بهذا لأنه سبحانه قد علم أنهم من أهل الشقاوة، وأنهم ممن يختار الضلالة على الهدى، وقدم الجن لأن المقام مقام تحقير، ولأن الجهنميين منهم أكثر فيما قيل، ولا يلزم من قوله: أجمعين دخول جميع الإنس والجن فيها، لأنها تفيد عموم الأنواع لا الأفراد، قاله بعض المحققين، ورد بأنه لو قصد ما ذكر كان المناسب التثنية دون الجمع بأن يقول: كليهما، فالظاهر أنها لعموم الأفراد، والتعريف فيهما للعهد، والمراد عصاتهما، ويؤيده قوله في آية أخرى خطاباً لإِبليس: (لأملأن جهنم منك، وممن تبعك منهم أجمعين)، قاله الشهاب.(11/22)
وفي تخصيص الإنس والجن إشارة إلى أنه عصم ملائكته عن عمل يستوجبون به جهنم.(11/23)
فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (14)
(فذوقوا) أي: العذاب، والفاء لترتيب الأمر بالذوق على ما قبله، أي فإذا دخلوا النار، قالت لهم الخزنة: ذوقوا؛ قاله مقاتل واستعار الذوق للإِحساس، وقد يعبر بالذوق عما يطرأ على النفس، وإن لم يكن مطعوماً لإِحساسها به كإحساس الذائقة بذوق المطعوم.
(بما نسيتم لقاء يومكم) الباء للسببية، وفيه إشعار بأن تعذيبهم ليس لمجرد سبق القول المتقدم، بل بذاك واختلف في النسيان المذكور ههنا، فقيل: هو النسيان الحقيقي، وهو الذي يزول عنده الذكر.
وقيل هو الترك، قاله الضحاك، ويحيى بن سلام. والمعنى على الأول أنهم لم يعملوا لذلك اليوم فكانوا كالناسين له، وعلى الثاني لا بد من تقدير مضاف قبل اللقاء أي: فذوقوا بسبب ترككم لما أمرتكم به كذاب لقاء يومكم هذا، ورجح الثاني المبرد، قال الرازي في تفسيره: إن اسم الإشارة في قوله (هذا) يحتمل ثلاثة أوجه: أن يكون إشارة إلى اللقاء، وأن يكون إلى اليوم، وأن يكون إلى العذاب.
(إنا نسيناكم) أي تركناكم بالكلية غير ملتفت إليكم كما يفعل الناس قطعاً لرجائكم قال يحيى: المعنى نسيناكم بما تركتم الإيمان بالبعث في هذا اليوم، تركناكم من الخير، وكذا قال السدي، وقال مجاهد: تركناكم في العذاب.
(وذوقوا) تكرير هذا للتأكيد والتشديد، ولتبيين المفعول المطوي للذوق وللإِشعار بأن سببه ليس مجرد النسيان، بل له أسباب أخر من فنون الكفر والمعاصي، التي كانوا مستمرين عليها في الدنيا (عذاب الخلد) أي الدائم الذي لا انقطاع له (بما كنتم تعملون) في الدنيا من الكفر والمعاصي، والتكذيب.(11/23)
إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (15)
(إنما يؤمن بآياتنا) مستأنفة لبيان من يستحق الهداية إلى الإِيمان ومن لا يستحقها، والمعنى: إنما يصدّق بآياتنا وينتفع بها (الذين إذا ذكروا بها) لا غيرهم ممن يذكر بها أي: يوعظ بها، ولا يتذكر، ولا يؤمن بها.
(خروا سجداً) أي: سقطوا على وجوههم ساجدين تعظيماً لآيات الله، وخوفاً من سطوته وعذابه وتواضعاً، وخشوعاً، وشكراً على ما رزقهم من الإسلام.
(وسبحوا بحمد ربهم) أي نزَّهوه عن كل ما لا يليق به متلبسين بحمده على نعمه، التي أجلُّها وأكملها الهداية إلى الإيمان بالآيات، قال ابن عباس: نزلت هذه الآية في شأن الصلوات الخمس، ومعنى الآية قالوا في سجودهم، سبحان الله وبحمده، أو سبحان ربي الأعلى وبحمده.
وقال سفيان: المعنى صلوا حمداً لربهم (وهم لا يستكبرون) عن الإيمان به، والسجود له كما استكبر أهل مكة عن السجود، أي حال كونهم خاضعين لله متذللين له، غير مستكبرين عليه.
وقال ابن عباس: لا يستكبرون عن إتيان الصلاة في الجماعات، قيل: هذه من عزائم سجود القرآن للقارىء والمستمع.
قال سليمان الجمل والمراد بالآيات في هذه الآية إن كان مطلق القرآن - وإن لم تكن فيه آية سجدة- أشكل قوله خروا سجداً فإن السجود لا يشرع لتلاوة القرآن إلا إذا كان فيه آية سجدة من آيات السجود المعروفة، وإن كان المراد بها خصوص آيات السجدات أشكل قوله إذا ذكروا بها، مع تفسير التذكير بالوعظ كما ذكروه ووجه الاشكال أن أكثر آيات السجدات بل كلها ليس فيها وعظ أي تخويف وتذكير بالعواقب، إذ هذا حقيقة الوعظ بل غالبها لمدح الساجدين تصريحاً وذم غيرهم تلويحاً كهذه الآية، وقد يكون بعكس ذلك أي ذم غير الساجدين تصريحاً، ومدح الساجدين تلويحاً، كآية الانشقاق، فليتأمل فلم نر من المفسرين من بيَّن هذا، ولا من تعرض له انتهى.(11/24)
(تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (16) فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17))(11/25)
تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (16)
(تتجافى جنوبهم عن المضاجع) استئناف، أو حال، أي ترتفع وتنبو وتتنحى يقال جفا الشيء عن الشيء وتجافى عنه إذا لم يلزمه، ونبا عنه وتنحى قال الزجاج، والرماني، التجافي والتجفي إلى جهة فوق؛ وكذلك هو في الصفح عن المخطىء في سب ونحوه، والجنوب جمع جنب، أي متجافية جنوبهم عن مضاجعهم، والمضاجع جمع مضجع، وهو الموضع الذي يضطجع فيه، وهم المتهجدون في الليل الذين يقومون للصلاة عن الفراش، وبه قال الحسن ومجاهد وعطاء، والجمهور.
والمراد بالصلاة صلاة التنفل بالليل من غير تقييد، وقال قتادة، وعكرمة هو النفل ما بين المغرب والعشاء وبه قال أبو حازم، ومحمد بن المنكدر، وقيل هي صلاة الأوّابين، وقيل صلاة العشاء فقط وهو رواية عن الحسن وعطاء.
وقال الضحاك صلاة العشاء والصبح في جماعة، وقيل هم الذين يقومون لذكر الله، سواء كان في صلاة أو غيرها.
عن أنس بن مالك أن هذه الآية نزلت في انتظار الصلاة التي تدعى: العتمة، وعنه قال: نزلت في صلاة العشاء، وعنة قال: كانوا لا ينامون حتى يصلوا العشاء، وعنه قال: كنا نجتنب الفراش قبل صلاة العشاء.
وعنه قال: ما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - راقداً قط قبل صلاة العشاء ولا متحدثاً بعدها: فإن هذه الآية نزلت في ذلك.
وعن ابن عباس في الآية أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " هم الذين لا ينامون قبل صلاة العشاء "، فأثنى عليهم، فلما ذكر ذلك جعل الرجل يعتزل فراشه مخافة أن تغلبه عينه، فوقتها قبل أن ينام الصغير، ويكسل الكبير. أخرجه ابن مردويه.
وعن بلال قال: كنا نجلس في المسجد وناس من أصحاب رسول(11/25)
الله - صلى الله عليه وسلم - يصلون بعد المغرب العشاء، تتجافى جنوبهم عن المضاجع.
وعن أنس نحوه وعنه قال: كانوا ينتظرون ما بين المغرب والعشاء يصلون.
وعن معاذ بن جبل قال: قيام العبد من الليل، وعنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وذكر حديثاً، وأرشد فيه إلى أنواع من الطاعات- وقال فيه: وصلاة الرجل في جوف الليل، ثم قرأ هذه الآية أخرجه أحمد، والترمذي وصححه، والنسائي، وابن ماجة. والحاكم وصححه، والبيهقي. وغيرهم.
وعن أبي هريرة مرفوعاً في حديث قال فيه: وصلاة المرء في جوف الليل. ثم تلا هذه الآية أخرجه ابن مردويه.
عن أنس في الآية قال: كان لا تمر عليهم ليلة إلا أخذوا منها. وأشهر الأقاويل أن المراد منه صلاة الليل، وبه قال جماعة من أهل العلم -وقد ورد في فضل قيام الليل- والحث عليه من الأحاديث الصحيحة ما هو مذكور في كتب السنة.
وعن كعب قال: إذا حشر الناس نادى مناد هذا يوم الفصل. أين الذين تتجافى جنوبهم عن المضاجع؟ الحديث رواه أحمد. وعن ابن عباس يقول: كلما استيقظوا ذكروا الله، إما في الصلاة، وإما في القيام، أو قعوداً أو على جنوبهم لا يزالون يذكرون الله.
(يدعون) أي تتجافى جنوبهم حال كونهم داعين (ربهم خوفاً) من عذابه (وطمعاً) في رحمته، قال ابن عباس خوفاً من النار، وطمعاً في الجنة. وفيه دليل على صحة العبادة، والدعاء بالخوف والطمع، وقد حققنا ذلك في هداية السائل، فليرجع إليها.
(ومما رزقناهم) أي من الذي رزقناهم، أو من رزقهم (ينفقون) وذلك الصدقة الواجبة، وقيل صدقة النفل، والأولى الحمل على العموم.
(فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين) النكرة في سياق النفي تفيد العموم، أي لا تعلم نفس من النفوس أي نفس كانت ما أخفاه الله(11/26)
سبحانه لأولئك الذين تقدم ذكرهم مما تقر به أعينهم، قال أبو السعود: أي لا ملك مقرب، ولا نبي مرسل، فضلاً عما عداهم، وقيل: المراد لا تعلم نفس ما أخفى لهم علماً تفصيلياً، وإلا فنحن نعلم ما أُعدّ للمؤمنين من النعيم إجمالاً من حيث أنه غرف في الجنة، وقصور، وأشجار، وأنهار، وملابس، ومآكل وغير ذلك- قرىء (قرة) بالإفراد، وقرأت بالجمع، وقرىء ما أخفي بسكون الياء على أنه فعل مضارع مسند إلى الله سبحانه، وقرىء بفتحها فعلاً ماضياً مبنياً للمفعول، وما نخفي بالنون مضمومة، ويخفي بالتحتية.
قال ابن عباس: كان عرش الله على الماء فاتخذ جنة لنفسه، ثم اتخذ دونها أخرى، ثم أطبقهما بلؤلؤة واحدة، ثم قال ومن دونهما جنتان، لم يعلم الخلق ما فيهما، وهي التي قال الله: فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين تأتيهم منها كل يوم تحفة. وعنه قال: هذا مما لا تفسير له: وعن ابن مسعود قال: إنه لمكتوب في التوراة: لقد أعد الله للذين تتجافى جنوبهم عن المضاجع ما لم تر عين، ولم تسمع أذن، ولم يخطر على قلب بشر، ولا يعلم ملك مقرب، ولا نبي مرسل، وإنه لفي القرآن: فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين. وأخرج البخاري، ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: قال الله: [أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر] (1) قال أبو هريرة: واقرأوا إن شئتم:
_________
(1) تقدم ذكره.(11/27)
فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17)
(فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين).
وفي الباب أحاديث عن جماعة من الصحابة، وهي معروفة فلا نطول بذكرها، وقيل أخفوا أعمالهم فأخفى الله ثوابهم، وفيه دليل على أن المراد الصلاة في جوف الليل، ليكون الجزاء وفاقاً، ثم بين سبحانه أن ذلك بسبب أعمالهم الصالحة، فقال:
(جزاء بما كانوا يعملون) أي لأجل الجزاء بما كانوا يعملونه في الدنيا من الطاعات أو جوزوا جزاء بذلك.(11/27)
(أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقاً لَا يَسْتَوُونَ (18) أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلاً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (19) وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (20))(11/28)
أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ (18)
(أفمن كان مؤمناً كمن كان فاسقاً؟) الاستفهام للإنكار أي ليس المؤمن كالفاسق. فقد ظهر ما بينهما من التفاوت والتباين، ولهذا قال (لا يستوون) ففيه زيادة تصريح لما أفاده الإنكار الذي أفاده الاستفهام على أبلغ وجه وآكده ليبني عليه التفصيل الآتي، قال الزجاج جعل الاثنين جماعة حيث قال لا يستوون، لأجل معنى (من) وقيل لكون الاثنين أقل الجمع. وقيل أراد الجنس منهما، ولم يرد مؤمناً واحداً، ولا فاسقاً واحداً، وهذا أولى، فإن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
وفي السمين أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يتعمد الوقف على فاسقاً، ويبتدي بقوله لا يستوون. أي في المآل، والمستقر، أو في الشرف والمثوبة، والضمير فيه لمن الواقعة على الفريقين، وفيه مراعاة معناها بعد مراعاة لفظها، والمراد بالفسق الكامل بقرينة المقابلة للمؤمنين، وإلا فالمؤمن قد يكون فاسقاً، ونظيره: (أفنجعل المسلمين كالمجرمين)؟ وقوله: (أم حسب الذين اجترحوا السيئات) الآية، إذ ليس كل مجرم ومسيء كافراً.
وعن ابن عباس قال: قال الوليد بن عتبة لعلي بن أبي طالب: أنا أحدُّ منك سناناً، وأشجع جناناً، وأبسط منك لساناً، وأملأ حشواً للكتيبة منك فقال له علي: اسكت فإنما أنت فاسق، فنزلت هذه الآية، يعني بالمؤمن علياً، وبالفاسق الوليد وروى نحو هذا عن عطاء بن يسار، والسدي، وعبد الرحمن بن أبي ليلى، ثم بين سبحانه عاقبة حال الطائفتين وبدأ بالمؤمنين(11/28)
فقال:(11/29)
أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (19)
(أما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم جنات المأوى) قرىء بالجمع وبالإِفراد، والمأوى هو الذي يأوون إليه، وأضاف الجنات إليه لكونه المأوى الحقيقي. وقيل: المأوى جنة من الجنات تأوى إليها أرواح الشهداء، وقيل: هي عن يمين العرش، وقد تقدم الكلام على هذا.
(نزلاً) أي: إنها معدة لهم عند نزولهم، وهو في الأصل ما يعد للنازل من الطعام والشراب، إكراماً له كما بيناه في آل عمران، وقرىء نزلاً بسكون الزاي (بما كانوا يعملون) أي بسبب ما كانوا يعملونه، وليس المراد السبب الحقيقي، حتى يخالف حديث (لا يدخل أحد منكم الجنة بعمله). بل ما يفضي إلى الجنة بمقتضى وعد الله تعالى ثم ذكر الفريق الآخر فقال:(11/29)
وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (20)
(وأما الذين فسقوا) أي خرجوا عن طاعة الله؛ وتمردوا عليه وعلى رسله بالكفر والتكذيب، واعلم أن العمل الصالح له مع الإيمان تأثير، فلذلك قال آمنوا وعملوا الصالحات، وأما الكفر فلا التفات إلى الأعمال معه، فلهذا لم يقل وعملوا السيئات، لأن المراد من قوله فسقوا كفروا، ولو جعل العقاب في مقابلة الكفر والعمل؛ لظُنَّ أن مجرد الكفر لا عقاب عليه (فمأواهم النار) أي منزلهم الذي يصيرون إليه، ويستقرون فيه هو النار.
(كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها) أي إذا أرادوا الخروج منها أعيدوا إليها راغمين مكرهين، وقيل إذا دفعهم اللهب إلى أعلاها رُدّوا إلى مواضعهم، وكلمة (في) للدلالة على أنهم مستقرون فيها، وإنما الإِعادة من بعض طبقاتها إلى بعض.
(وقيل لهم ذوقوا عذاب النار الذي كنتم به تكذبون) والقائل لهم هذه المقالة هم خزنة جهنم من الملائكة أو القائل لهم هو الله عز وجل وفي هذا القول لهم حال كونهم قد صاروا في النار من الإغاظة لهم ما لا يخفى وهذا دليل على أن المراد بالفاسق الكافر إذ التكذيب يقابل الإيمان.(11/29)
وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (21) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ (22) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (23) وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ (24)(11/30)
وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (21)
(ولنذيقنهم من العذاب الأدنى) وهو عذاب الدنيا، قال الحسن، وأبو العالية، والضحاك، والنخعي: هو مصائب الدنيا وأسقامها، وقيل:
الحدود، وقيل: القتل بالسيف يوم بدر، وقيل: سني الجوع بمكة سبع سنين، حتى أكلوا فيها الجيف والعظام، والكلاب. وقيل عذاب القبر. ولا مانع من الحمل على الجميع، والذوق حسي ومعنوي.
(دون العذاب الأكبر) وهو عذاب الآخرة (لعلهم يرجعون) مما هم فيه من الشرك والمعاصي بسبب ما ينزل بهم من العذاب، إلى الإيمان والطاعة ويتوبون عما كانوا فيه، وفي هذا التعليل دليل على ضعف قول من قال: إن العذاب الأدنى هو عذاب القبر، قال ابن مسعود: العذاب الأدنى يوم بدر، والعذاب الأكبر يوم القيامة، لعل من بقي منهم أن يتوب فيرجع، وعنه قال: العذاب الأدنى سنون أصابتهم لعلهم يتوبون، وقال أُبي بن كعب العذاب الأدنى مصائب الدنيا، والروم والبطشة والدخان، وعنه قال: يوم بدر، وقال ابن عباس: الحدود. قال الكرخي: وفي هذا الترجي وجهان: أحدهما معناه لنذيقنهم إذاقة الراجين، كقوله: إنا نسيناكم يعني تركناكم كما يترك الناسي، حيث لا يلتفت إليه أصلاً فكذلك ههنا. والثاني نذيقهم العذاب إذاقة -يقول القائل إذا رآهم- لعلهم يرجعون بسببه انتهى.(11/30)
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ (22)
(ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه ثم أعرض عنها) أي: لا أحد أظلم منه لكونه سمع من آيات الله ما يوجب الإقبال على الإيمان والطاعة، فجعل الإِعراض مكان ذلك، والمجيء بثم للدلالة على استبعاد ذلك وأنه مما ينبغي أن لا يكون، والاستفهام إنكاري.
(إنا من المجرمين منتقمون) أي: من أهل الإجرام على العموم، فيدخل فيه من أعرض عن آيات الله دخولاً أولياً قال أبو السعود: أي كل من اتفق منه إجرام -وإن هانت جريمته- فكيف بمن هو أظلم من كل ظالم؟ وأشد جرماً من كل مجرم؟.
أخرج ابن منيع وابن جرير وابن أبي حاتم، والطبراني، وغيرهم -قال السيوطي بسند ضعيف- عن معاذ بن جبل: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " ثلاث من فعلهن فقد أجرم: من عند لواء في غير حق، أو عق والديه، أو مشى مع ظالم لينصره فقد أجرم، يقول الله: إنا من المجرمين منتقمون ".
قال ابن كثير بعد إخراجه: هذا حديث غريب.(11/31)
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (23)
(ولقد آتينا موسى الكتاب) أي: التوراة، وإنما ذكر موسى لقربه من النبي - صلى الله عليه وسلم - ووجود من كان على دينه إلزاماً لهم: وإنما لم يختر عيسى عليه السلام للذكر والاستدلال، لأن اليهود ما كانوا يوافقون على نبوته، وأما النصارى فكانوا يعترفون بنبوة موسى عليه السلام، فتمسك بالمجمع عليه.
(فلا تكن) يا محمد (في مرية) أي شك، وريبة (من لقائه) قال الواحدي: قال المفسرون وعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه سيلقى موسى قبل أن يموت ثم لقيه في السماء أو في بيت المقدس حين أسري به، وهذا قول مجاهد والكلبي والسدي، وقيل: فلا تكن في شك من لقاء موسى في القيامة، وستلقاه فيها وقيل: فلا تكن في شك من لقاء موسى للكتاب، قاله الزجاج وقال الحسن: إن معناه ولقد آتينا موسى الكتاب فكذب وأوذي، فلا تكن في(11/31)
شك من أنه سيلقاك ما لقيه من التكذيب والأذى، فيكون الضمير في لقائه على هذا إلى محذوف والمعنى من لقائه: ما لاقى موسى، قال النحاس: وهذا قول غريب.
وقيل: في الكلام تقديم وتأخير، والمعنى قل: يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم، فلا تكن في مرية من لقائه، فجاء معترضاً بين ولقد آتينا موسى الكتاب، وبين قوله الآتي، وجعلناه هدى لبني إسرائيل.
وقيل الضمير راجع إلى الكتاب الذي هو الفرقان، كقوله: (وإنك لتلقى القرآن)، والمعنى إنا قد آتينا موسى مثل ما آتيناك من الكتاب ولقيناه مثل ما لقيناك من الوحي، فلا تكن في شك من أنك لقيت مثله ونظيره، وما أبعد هذا؟ ولعل الحامل لقائله عليه قوله: (وجعلناه هدى لبني إسرائيل) فإن الضمير راجع إلى الكتاب، وقيل: إن الضمير في لقائه عائد إلى الرجوع المفهوم من قوله: (ثم إلى ربكم ترجعون)، أي لا تكن في مرية من لقاء الرجوع وهذا بعيد جداً، قال السمين: وهذه أقوال بعيدة ذكرت للتنبيه على ضعفها، وأظهرها أن الضمير إما لموسى، وإما للكتاب، أي لا تَرْتَبْ في أن موسى لقي الكتاب، وأنزل عليه.
وقد أخرج البخاري، ومسلم، وغيرهما من حديث ابن عباس قال قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: رأيت ليلة أسرى بي موسى بن عمران رجلاً طويلاً جعداً كأنه من رجال شنوءة، ورأيت عيسى بن مريم مربوع الخلق إلى الحمرة والبياض، سبط الرأس، ورأيت مالكاً خازن جهنم، والدجال في آيات أراهن الله إياه، قال (فلا تكن في مرية من لقائه)، فكان قتادة يفسرها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد لقي موسى.
وأخرج الطبراني، وابن مردويه والضياء في المختارة بسند - قال السيوطي صحيح.
عن ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلا تكن في مرية من لقائه قال: من لقاء موسى، قيل أو لقي موسى؟ قال نعم ألا ترى إلى قوله واسأل من أرسلنا من(11/32)
قبلك من رسلنا؟.
وروى البخاري عن أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال أتيت على موسى ليلة المعراج عند الكثيب الأحمر، وهو قائم يصلي في قبره.
وصح في حديث المعراج أيضاًً أنه رآه في السماء السادسة، فلعل رؤيته كانت في قبره قبل صعوده إلى السماء، ثم صعد إليها فوجده هناك قد سبقه لما يريده الله، وهذا وجه الجمع بين هذين الحديثين، على ما ذكره الخازن. واختلف في الضمير في قوله:
(وجعلناه) فقيل راجع إلى الكتاب أي جعلنا التوراة (هدى لبني إسرائيل) قاله الحسن وغيره، وقال قتادة إنه راجع إلى موسى، أي وجعلنا موسى هدى لبني إسرائيل.(11/33)
وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ (24)
(وجعلنا منهم أئمة) أي قادة يقتدون بهم في دينهم وهم الأنبياء الذين كانوا في بني إسرائيل، وقيل هم أتباع الأنبياء، وقيل العلماء قاله قتادة وقرىء أأمة.
قال النحاس: وهو لحن عند جميع النحويين، لأنه جمع بين همزتين في كلمة واحدة (يهدون) أي يدعونهم إلى الهداية بما يلقونه إليهم من أحكام التوراة ومواعظها (بأمرنا) لهم بذلك أو لأجل أمرنا.
(لما صبروا) أي حين صبروا والضمير للأئمة، وفي (لما) معنى الجزاء، والتقدير لما صبروا جعلناهم أئمة، أي لصبرهم، وهذا الصبر هو صبرهم على مشاق التكليف والهادية للناس، وقيل صبروا عن الدنيا، وفيه دليل على أن الصبر ثمرته إمامة الناس.
(وكانوا بآياتنا) التنزيلية التي تضاعيف الكتاب (يوقنون) أي يصدقون بها، ويعلمون أنها حق، وأنها من عند الله، لمزيد تفكرهم، وكثرة تدبرهم.(11/33)
إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (25) أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ أَفَلَا يَسْمَعُونَ (26) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ (27) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (28) قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (29) فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ (30)(11/34)
إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (25)
(إن ربك هو يفصل بينهم يوم القيامة) أي يقضي بينهم، ويحكم بين المؤمنين والكفار. وقيل يقضي بين الأنبياء وأممهم، حكاه النقاش (فيما كانوا فيه يختلفون) فيظهر المحق من المبطل.(11/34)
أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ أَفَلَا يَسْمَعُونَ (26)
(أو لم يهد لهم) أي أو لم يتبين لأهل مكة؟ والهمزة للإنكار، والواو للعطف على مقدر يقتضيه المقام، أي أغفلوا ولم يتبين لهم. وقرىء: يهد بالتحتية وبالنون، وهي واضحة، والفاعل ما دل عليه قوله (كم أهلكنا) أي كثرة إهلاكنا، وقال المبرد: إن الفاعل الهدى، المدلول عليه بـ (يهدي) أي أو لم يهد لهم الهدى (من قبلهم) حال من قوله (من القرون) كعاد وثمود، وقوم لوط، ونحوهم.
(يمشون في مساكنهم) أي والحال أنهم يمشون في مساكن المهلكين، ويشاهدونها، وينظرون ما فيها من العبر، وآثار العذاب، ولا يعتبرون بذلك.
وقيل الضمير يعود إلى المهلكين، والمعنى أهلكناهم حال كونهم ماشين في مساكنهم، والأول أولى، وقيل جملة مستأنفة بيان لوجه هدايتهم، والمعنى يمرون في أسفارهم إلى التجارة على ديارهم وبلادهم (إن في ذلك) المذكور(11/34)
من كثرة إهلاكنا الأمم الخالية (لآيات) عظيمة (أفلا يسمعون) ويتعظون بها.(11/35)
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ (27)
(أو لم يروا أنا نسوق الماء إلى الأرض الجرز) أي: أو لم يعلموا بسوقنا الماء إلى الأرض التي لا تنبت إلا بسوق الماء إليها؟ وقيل هي اليابسة وأصله من الجرز، وهو القطع، أي التي قطع نباتها لعدم الماء، وأزيل بالمرة، ولا يقال للتي لا تنبت أصلاً كالسباخ جرز لقوله الآتي: (نخرج به زرعاً) قال ابن عباس الجرز التي لا تُمطَر إلا مطراً لا يغني عنها شيئاًً إلا ما يأتيها من السيول وعنه قال هي أرض باليمن.
وقيل: أبين، قال القرطبي في تفسيره والإسناد عن ابن عباس صحيح لا مطعن فيه، وقيل أرض عدن. قال الضحاك هي الأرض العطشاء، وقال الفراء: هي الأرض التي لا نبات فيها، وقال الأصمعي هي الأرض التي لا تنبت شيئاًً. قال المبرد يبعد أن يكون لأرض بعينها لدخول الألف واللام. وقيل هي مشتقة من قولهم رجل جروز، إذا كان لا يبقى شيئاًً إلا أكله: وكذلك ناقة جروز، إذا كانت تأكل كل شيء تجده، وقال مجاهد إنها أرض النيل لأن الماء إنما يأتيها في كل عام.
(فنخرج به) أي: بالماء (زرعاً تأكل منه أنعامهم) أي من الزرع، كالتبن والقصل، والورق، وبعض الحبوب المخصوصة بها، ونحوها مما لا يأكله الناس (وأنفسهم) أي: يأكلون من الحبوب، والثمار، والأقوات الخارجة من الزرع مما يقتاتونه، وقدم الأنعام لأن انتفاعها مقصور على النبات، ولأن أكلها منه مقدم، لأنها تأكله قبل أن يثمر، ويخرج سنبله.
(أفلا يبصرون) هذه النعم ويشكرون النعم ويوحِّدونه، لكونه المتفرد بإيجاد ذلك، وجعلت الفاصلة: يبصرون لأن الزرع مرئي، وفيما قبله يسمعون لأن ما قبله مسموع، أو ترقياً إلى الأعلى في الاتعاظ مبالغة في التذكير، ودفع العذر.(11/35)
وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (28)
(ويقولون) بطريق الاستعجال تكذيباً واستهزاء. والقائلون هم الكفار على العموم، أو كفار مكة على الخصوص (متى هذا الفتح) الذي تعدنا به، يعنون بالفتح القضاء والفصل بين العباد، وهو يوم البعث الذي يقضي الله فيه بين العباد، قاله مجاهد وغيره، قال الفراء، والقتيبي: هو فتح مكة.
قال قتادة: قال أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - للكفار. إن لنا يوماً نتنعم فيه ونستريح، ويحكم الله بيننا وبينكم، يعنون يوم القيامة، فقال الكفار: متى هذا الفتح؟ وقال السدي: هو يوم بدر، لأن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - كانوا يقولون للكفار إن الله ناصرنا، ومظهرنا عليكم، وعن ابن عباس قال: يوم بدر فتح للنبي - صلى الله عليه وسلم - فلم ينفع الذين كفروا إيمانهم بعد الموت (إن كنتم صادقين) فيما تدعونه من نصر المؤمنين، وإظهارهم على الكفار، ثم أمر الله سبحانه نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يجيب عليهم فقال:(11/36)
قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (29)
(قل يوم الفتح لا ينفع الذين كفروا إيمانهم) وفي هذا دليل على أن يوم الفتح هو يوم القيامة، الذي هو يوم الفصل يين المؤمنين وأعدائهم، لأن يوم فتح مكة؛ ويوم بدر: كليهما مما ينفع الإيمان، وقد أسلم أهل مكة يوم الفتح، وقبل منهم ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم -. والمعنى: ولا يقبل منهم الإيمان، والعدول عن تطبيق الجواب على ظاهر سؤالهم؛ للتنبيه على أنه ليس مما ينبغي أن يسأل عنه لكونه أمراً بيناً وإنما المحتاج إلى البيان عدم نفع إيمانهم في ذلك اليوم كأنه قيل. لا تستعجلوا فكأني بكم قد آمنتم فلم ينفعكم واستنظَرتم فلم تُنظَروا، والآية إن عمت غير المستهزئين فهي تعميم بعد تخصيص، وإن خصت بهم فهو إظهار في مقام الإضمار تسجيلاً عليهم بالكفر، وبياناً لعلة عدم النفع وعدم إمهالهم.
(ولا هم ينظرون) أي لا يمهلون ولا يؤخرون بتأخير العذاب عنهم ليتوبوا ويعتذروا، ولما فتحت مكة هرب قوم من بني كنانة فلحقهم خالد بن الوليد؛ فأظهروا الإسلام فلم يقبله منهم خالد وقتلهم.(11/36)
فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ (30)
(فأعرض عنهم) أي عن سفههم وتكذيبهم، ولا تجبهم إلا بما أمرت به (وانتظر) يوم الفتح، وهو يوم القيامة أو يوم إهلاكهم بالقتل، وموعدي لك بالنصر عليهم (إنهم منتظرون) لإهلاككم، أو انتظر عذابنا إياهم فهم منتظرون ذلك.
والآية منسوخة بآية السيف، وذلك قوله لا ينفع .. الخ قاله ابن عباس، وقيل غير منسوخة إذ يقع الإعراض مع الأمر بالقتال، وقرىء منتظرون بفتح الظاء، مبنياً للمفعول. قال الفراء: لا يصح هذا إلا بإضمار أي إنهم منتظر بهم، قال أبو حاتم: الصحيح الكسر، أي انتظر عذابهم إنهم منتظرون هلاكك.(11/37)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الأحزاب
(هي ثلاث وسبعون آية)
قال ابن عباس: نزلت بالمدينة وعن ابن الزبير مثله وعن زر قال: قال لي أبيّ بن كعب: كأين تقرأ سورة الأحزاب أو كأين تعدها؟ قلت: ثلاثاً وسبعين آية فقال: قط؟ لقد رأيتها وأنها لتعادل سورة البقرة: أو أكثر من سورة البقرة: ولقد قرأنا فيها الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالاً من الله والله عزيز حكيم. فرفع فيما رفع. قال ابن كثير: وإسناده حسن.
وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن عباس أن عمر بن الخطاب قام فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: " أما بعد يا أيها الناس: إن الله بعث محمداً بالحق وأنزل عليه الكتاب فكان فيما أنزل عليه آية الرجم فقرأناها ووعيناها: الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة. ورجم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأخشى أن يطول بالناس زمان أن يقول قائل: لا نجد آية في كتاب الله فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله ". وقد روي عنه نحو هذا من طرق.(11/39)
وعن عائشة قالت: كانت سورة الأحزاب تقرأ في زمان النبي - صلى الله عليه وسلم - مائتي آية، فلما كتب عثمان المصاحف لم يقدر منها إلا على ما هو الآن.
قال النسفي: وأما ما يحكى أن تلك الزيادة كانت في صحيفة في بيت عائشة فأكلتها الداجن فمن تأليفات الملاحدة والروافض.(11/40)
بسم الله الرحمن الرحيم
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً (1) وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً (2) وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً (3) مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (4)(11/41)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (1)
(يا أيها النبي) أي: يا أيها المخبر عنا، المأمون على أسرارنا، المبلغ خطابنا، وإنما لم يقل: يا محمد كما قال: يا آدم، يا موسى، تشريفاً له، وتنويهاً بفضله، وتصريحه باسمه في قوله: محمد رسول الله ونحوه، لتعليم الناس بأنه رسول الله ليلقبوه بذلك، ويدعوه به.
(اتق الله) أي: دم على ذلك وازدد منه، فهو باب واسع، وعرض عريض، لا يدرك مداه، ولا ينال منتهاه.
(ولا تطع الكافرين) من أهل مكة، ومن هو على مثل كفرهم (والمنافقين) الذين يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر. قال الواحدي: إنه أراد سبحانه بالكافرين: أبا سفيان، وعكرمة، وأبا الأعور السلمي، وذلك أنهم قالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم - أرفض ذكر آلهتنا، وقل إن لها شفاعة لمن عبدها، قال: والمنافقين عبد الله بن أبي، وعبد الله بن سعد بن أبي سرح.
(إن الله كان عليماً حكيماً) في أي: كثير العلم والحكمة بليغهما، قال النحاس: " ودل بقوله هذا على أنه كان يميل إليهم يعني النبي - صلى الله عليه وسلم - استدعاء لهم إلى الإسلام، والمعنى أن الله عز وجل لو علم أن ميلك إليهم فيه منفعة لما(11/41)
نهاك عنهم، لأنه حكيم " ولا يخفى بعد هذه الدلالة التي زعمها ولكن هذه الجملة تعليل لجملة الأمر بالتقوى، والنهي عن طاعة الكافرين والمنافقين، والمعنى: أنه لا يأمرك أو ينهاك إلا بما علم فيه صلاحاً أو فساداً لكثرة علمه، وسعة حكمته.(11/42)
وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (2)
(واتبع) في جميع أمورك (ما يوحى إليك من ربك) من القرآن ولا تتبع شيئاًً مما عداه من مشورات الكافرين والمنافقين، ولا من الرأي البحت، فإن فيما أوحي إليك ما يغنيك عن ذلك.
(إن الله كان بما تعلمون خبيراً) تعليل لأمره باتباع ما أوحي إليه، وتأكيد لموجبه، والأمر له - صلى الله عليه وسلم - أمر لأمته، فهم مأمورون باتباع القرآن، كما هو مأمور باتباعه، ولهذا جاء بخطابه وخطابهم في قوله: بما تعلمون على قراءة الجمهور بالفوقية على الخطاب، وقرىء بالتحتية، والواو ضمير الكفرة والمنافقين، أي: إنه خبير بمكايدهم؛ فيدفعها عنك.(11/42)
وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (3)
(وتوكل على الله) أي اعتمد عليه وفوض أمورك إليه (وكفى بالله وكيلاً أي حافظاً يحفظ من توكل عليه، وقيل: كفيلاً برزقك، وقال الزجاج: لفظه وإن كان لفظ الخبر فالمعنى اكتف بالله وكيلاً، ثم ذكر سبحانه مثلاً توطئة وتمهيداً لما يتعقبه من الأحكام القرآنية التي هي من الوحي الذي أمره الله باتباعه فقال:(11/42)
مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (4)
(ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه) وقيل: هي مثل ضربه الله للمظاهر، أي: كما لا يكون للرجل قلبان كذلك لا تكون امرأة المظاهر أمه حتى تكون له أمان وكذلك لا يكون الدعي ابن الرجل، وقيل كان الواحد من المنافقين يقول: لي قلب يأمرني بكذا، وقلب بكذا فنزلت الآية برد النفاق وبيان أنه لا يجتمع مع الإسلام؛ كما لا يجتمع قلبان، والقلب بضعة صغيرة على هيئة الصنوبرة خلقها الله وجعلها محلاً للعلم و (من) زائدة وقال: في جوفه لأنه معدن الروح الحيواني المتعلق للنفس الإنساني ومنبع القوى بأسرها؛ فيمتنع(11/42)
تعدده لأنه يؤدي إلى التناقض وهو أن يكون كل منهما أصلاً لكل القوى وغير أصل لها.
عن ابن عباس قال: قام النبي - صلى الله عليه وسلم - يوماً يصلي فخطر خطرة فقال المنافقون الذين يصلون معه: إلا ترى أن له قلبين قلباً معكم وقلباً معهم، فنزل (ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه).
وعنه بلفظ: صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - صلاة، فسها فيها فخطرت منه كلمة فسمعها المنافقون فقالوا: إن له قلبين، فنزلت. وعنه أيضاًً قال: كان رجل من قريش يسمى من دهائه: ذا القلبين فأنزل الله هذا في شأنه.
(وما جعل أزواجكم اللائي تظاهرون منهن أمهاتكم) قرىء اللائي بياء ساكنة بعد همزة وبياء ساكنة بعد ألف محضة قال أبو عمرو بن العلاء: إنها لغة قريش التي أمر الناس أن يقرأوا بها وتظاهرون مضارع ظاهر، وقرىء مضارع تظاهر والأصل تتظاهرون وقرىء تظهرون والأصل تنظهرون، وأخذ ذلك من لفظ الظهر كأخذ لبى من التلبية، وإنما عُدّي بمن لأنه ضُمّن معنى التباعد، كأنه قيل: متباعدين من نسائكم بسبب الظهار، كما تقدم في تعدية الإيلاء بمن في البقرة.
والظهار أصله أن يقول الرجل لامرأته أنت علي كظهر أمي، والمعنى ما جعل الله نساءكم اللاتي تقولون لهن هذا القول كأمهاتكم في التحريم، ولكنه منكر من القول وزور، وإنما تجب به الكفارة بشرطه، وهو العود كما ذكر في سورة المجادلة بقوله: والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا أي نفسه بأن يخالفوه بإمساك المظاهر منها زمناً يمكنه أن يفارقها فيه أو لا يفارقها، لأنه مقصود المظاهر وصف المرأة بالتحريم وإمساكها يخالفه قاله الكرخي.
(وما جعل أدعياءكم) أي: وكذلك ما جعل الأدعياء الذين تدعون أنهم أبناؤكم (أبناءكم) والأدعياء جمع دعي، وهو الذي يدعى ابناً لغير أبيه(11/43)
فهو فعيل بمعنى مفعول ولكن جمعه على أدعياء غير مقيس لأن أفعلاء إنما يكون جمعاً لفعيل، المعتل اللام إذا كان بمعنى فاعل؛ نحو تقي وأتقياء، وغني وأغنياء، وهذا وإن كان فعيلاً معتل اللام لأن أصله دعيو فأدغم إلا أنه بمعنى مفعول فكان القياس جمعه على فَعلى كقتيل وقتلى وجريح وجرحى، ومريض ومرضى، ونظير هذا في الشذوذ قولهم: أسير وأسارى، والقياس أسرى، وقد سمع فيه الأصل قاله السمين.
(ذلكم) أي ما تقدم من ذكر الظهار والادعاء (قولكم بأفواهكم) أي ليس ذلك إلا مجرد قول بالأفواه، ولا تأثير له في الخارج، فلا تصير المرأة به أمه، ولا ابن الغير به إبناً، ولا يترتب على ذلك شيء من أحكام الأمومة والبنوة.
وقيل: الإشارة راجعة إلى الادعاء أي: ادعاؤكم أن أبناء الغير أبناؤكم لا حقيقة له بل هو مجرد قول بالفم؛ إذ الابن لا يكون إلا بالولادة وفيه نسخ التبني، وذلك أن الرجل كان في الجاهلية يتبنى الرجل، فيجعله كالابن المولود يدعوه إليه الناس، ويرث ميراثه، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - أعتق زيد بن حارثة الكلبي وتبناه قبل الوحي وآخى بينه وبين حمزة، فلما تزوج زينب -وكانت تحت زيد- قال المنافقون: تزوج محمد امرأة ابنه، وهو ينهى الناس عن ذلك، فأنزل الله هذه الآية، ونسخ بها التبني.
قال النحاس: وهذا من نسخ السنة بالقرآن. قال القرطبي: أجمع أهل التفسير على أن هذا القول أنزل في زيد بن حارثة.
(والله يقول الحق) الذي يحق اتباعه لكونه حقاً في نفسه، لا باطلاً، فيدخل تحته دعاء الأبناء لآبائهم (وهو يهدي السبيل) أي يدل على الطريق الموصلة إلى الحق، وفي هذا إرشاد للعباد إلى قول الحق، وتراث قول الباطل والزور، ثم صرح سبحانه بما يجب على العباد من دعاء الأبناء للآباء فقال:(11/44)
(ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (5) النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفاً كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُوراً (6))(11/45)
ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (5)
(ادعوهم لآبائهم) للصلب وانسبوهم إليهم، ولا تدعوهم إلى غيرهم؛ أخرج البخاري، ومسلم وغيرهما، عن عمر أن زيد بن حارثة مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما كنا ندعوه إلا زيد بن محمد، حتى نزل القرآن: أدعوهم لآبائهم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنت زيد بن حارثة بن شراحيل.
(هو أقسط عند الله) تعليل للأمر بدعاء الأبناء للآباء، والضمير راجع إلى مصدر: ادعوهم ومعنى أقسط: أعدل، أي أعدل من كل كلام يتعلق بذلك فترك الإضافة للعموم، كقوله: (الله أكبر، أو أعدل من قولكم: هو ابن فلان، ولم يكن ابنه لصلبه، وأقسط أفعل تفضيل، قصد به الزيادة مطلقاً، من القسط بمعنى العدل، وانظر إلى فصاحة هذا الكلام، حيث وصل الجمل الطلبية. ثم فصل الخبرية عنها، ووصل بينها؛ ثم فصل الاسمية عنها ووصل بينها، ثم فصل بالطلبية ثم تمم الإرشاد للعباد فقال:
(فإن لم تعلموا آباءهم) تنسبونهم إليهم (فإخوانكم) أي فهم إخوانكم (في الدين ومواليكم) فقولوا: أخي ومولاي، ولا تقولوا: ابن فلان حيث لم تعلموا آباءهم على الحقيقة، قال الزجاج: مواليكم، أي أولياؤكم في الدين.
وقيل المعنى: فإن كانوا محررين ولم يكونوا أحراراً فقولوا: موالي فلان(11/45)
(وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به) أي إثم عليكم فيما وقع منكم من ذلك خطأ من غير عمد قبل النهي، فنسبتموه إلى غير أبيه (ولكن) الإثم.
(ما تعمدت قلوبكم) وهو ما قلتموه على طريقة العمد، من نسبة الأبناء إلى غير آبائهم مع علمكم بذلك، قال قتادة: لو دعوت رجلاً بغير أبيه وأنت ترى أنه أبوه، لم يكن عليك بأس بخلاف الحال في زيد فإنه لا يجوز أن يقال فيه زيد بن محمد، فإن قاله أحد متعمداً عصى بقوله هذا، عن سعد بن أبي وقاص وأبي بكرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " من ادعى إلى غير أبيه، وهو يعلم أنه غير أبيه فالجنة عليه حرام " أخرجه البخاري ومسلم.
(وكان الله غفوراً رحيماً) يغفر للمخطىء ويرحمه، ويتجاوز عنه. أو غفور للذنوب، رحيماً بالعباد، ومن جملة من يغفر له ويرحمه من دعا رجلاً لغير أبيه خطأً، أو قبل النهي عن ذلك، أو على سبق اللسان؛ ثم ذكر سبحانه لرسوله مزية عظيمة، وخصوصية جليلة؛ لا يشاركه فيها أحد من العباد فقال:(11/46)
النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (6)
(النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم) أي هو أحق بهم، وأرأف، وأشفق في كل ما دعاهم إليه من أمور الدين والدنيا، فإن نفوسهم تدعوهم إلى ما فيه هلاكهم، وهو يدعوهم إلى ما فيه نجاتهم، فيجب عليهم أن يؤثروه بما أراده من أموالهم، وإن كانوا محتاجين إليها، ويجب عليهم أن يحبوه زيادة على حبهم أنفسهم، ويجب عليهم أن يقدموا حكمه عليهم على حكمهم لأنفسهم. وبالجملة فإذا دعاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - لشيء ودعتهم أنفسهم إلى غيره وجب عليهم أن يقدموا ما دعاهم إليه ويؤخروا ما دعتهم أنفسهم إليه، ويجب عليهم أن يطيعوه فوق طاعتهم لأنفسهم ويقدموا طاعته على ما تميل إليه أنفسهم وتطلبه خواطرهم.
وقيل: المراد بأنفسهم في الآية بعضهم فيكون المعنى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أولى بالمؤمنين من بعضهم ببعض، وقيل هي خاصة بالقضاء أي هو أولى بهم من(11/46)
أنفسهم فيما قضى بينهم، وقيل أولى بهم في الجهاد بين يديه وبذل النفس دونه. وقيل: أولى بهم أي أرأف بهم وأعطف عليهم وأنفع لهم كقوله بالمؤمنين رؤوف رحيم.
وفي قراءة ابن مسعود: (النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وهو أب لهم) وقال مجاهد: كل نبي أبو أمته ولذلك صار المؤمنون إخوة لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أبوهم في الدين، والأول أولى.
وقد أخرج البخاري وغيره عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " ما من مؤمن إلا وأنا أولى الناس به في الدنيا والآخرة اقرأوا إن شئم: (النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم) فأيما مؤمن ترك مالاً فلترثه عصبته من كانوا فإن ترك ديناً أو ضياعاً فليأتني فأنا مولاه ".
وقد ثبت في الصحيح أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: " والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه وماله وولده والناس أجمعين ".
وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد والنسائي عن بريدة قال: غزوت مع عليّ اليمن فرأيت منه جفوة، فلما قدمت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذكرت علياً فنقصته فرأيت وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تغير وقال، يا بريدة ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم قلت بلى يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " من كنت مولاه فعليّ مولاه. "
(وأزواجه) - صلى الله عليه وسلم - سواء دخل بهن أو لا وسواء مات عنهن أو طلقهن (أمهاتهم) أي مثل أمهاتهم في الحكم بالتحريم ومنزَّلات منزلتهن في استحقاق التعظيم، فلا يحل لأحد أن يتزوج بواحدة منهن، كما لا يحل له أن يتزوج بأمه، فهذه الأمومة مختصة بتحريم النكاح لهن تحريماً مؤبداً، وبالتعظيم لجنابهن لا في النظر إليهن، والخلوة بهن فإنه حرام في حقهن، كما في حق سائر الأجانب، وتخصيص المؤمنين يدل على أنهن لسن أمهات نساء (1) المؤمنين،
_________
(1) إن أبسط مبادىء اللغة تقتضي شمول الذكران والإناث للتغليب، وهي قضية من البداهة حيث
[ص:48]
لا تحتاج إلى هذه الفنقيلات اللجوج فإذا قال الله " يا أيها الذين آمنوا " تناول نداؤه اللائي آمن، وإذا قال: " إنما المؤمنون إخوة " دل على إخوة المؤمنات فأزواجه - صلى الله عليه وسلم - أمهات المؤمنات كما هن أمهات ذكران المؤمنين. المطيعي.(11/47)
ولا بناتهن أخوات المؤمنين ولا إخوتهن أخوال المؤمنين.
وقال القرطبي: الذي يظهر لي أنهن أمهات الرجال والنساء تعظيماً لحقهن على الرجال والنساء كما يدل عليه قوله: (النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم) وهذا يشمل الرجال والنساء ضرورة، قال: ثم إن في مصحف أبيّ بن كعب وأزواجه أمهاتهم، وهو أب لهم، وقرأ ابن عباس بعد لفظ أنفسهم، وهو أب وأزواجه أمهاتهم.
عن عائشة أن امرأة قالت لها يا أمه، فقالت: " أنا أم رجالكم ولست أم نسائكم ". وعن أم سلمة قالت أنا: " أم الرجال منكم والنساء ".
وعن بجالة قال: مر عمر بن الخطاب بغلام وهو يقرأ في المصحف: وأزواجه أمهاتهم وهو أب لهم، فقال: يا غلام حكّها، فقال: هذا مصحف أبي فذهب إليه فسأله، فقال: إنه كان يلهيني القرآن ويلهيك الصفق في الأسواق وهن فيما وراء ذلك كالإرث ونحوه كالأجنبيات، ولهذا لم يتعد التحريم إلى بناتهن ثم بين سبحانه أن القرابة أولى ببعضهم البعض فقال:
(وأولو الأرحام) جمع رحم وهو القرابة (بعضهم أولى) أي أحق (ببعض) في الميراث، وقد تقدم تفسير هذه الآية في آخر سورة الأنفال وهي ناسخة لما كان في صدر الإسلام من التوارث بالهجرة والموالاة. قال قتادة: لما نزل قوله سبحانه في سورة الأنفال (والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا) فتوارث المسلمون بالهجرة ثم نسخ ذلك بهذه الآية، وكذا قال غيره.
ويحتمل أن يكون النسخ بآية الأنفال وهو قوله: (وأولو لأرحام بعضهم(11/48)
أولى ببعض في كتاب الله) قال الشهاب: وهذا الاحتمال أولى، لأن سورة الأنفال متقدمة نزولاً على هذه السورة فنسبة النسخ إليها أولى، وتكون هذه الآية مؤكدة لتلك، وقيل إن هذه الآية ناسخة للتوارث بالحلف والمؤاخاة في الدين؛ وقيل معنى الآية لا توارث بين المسلم والكافر ولا بين المهاجر وغير المهاجر.
(في كتاب الله) أي هذه الأولوية وهذا الاستحقاق كائن وثابت فيه والمراد بالكتاب اللوح المحفوظ أو القرآن، أو آية المواريث (من المؤمنين والمهاجرين) المعنى إن ذوي القرابات من المؤمنين والمهاجرين بعضهم أولى ببعض، أو أولو الأرحام بعضهم أولى ببعض من المؤمنين والمهاجرين الذين هم أجانب.
وقيل إن معنى الآية: (وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض) إلا ما يجوز لأزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - من كونهن كالأمهات في تحريم النكاح، وفي هذا من الضعف ما لا يخفى (إلا) هذا الاستثناء إما متصل من أعم العام، والتقدير أولى ببعض في كل شيء من الإرث وغيره إلا.
(أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفاً) من صدقة أو وصية فإن ذلك جائز، قاله قتادة، والحسن، وعطاء، ومحمد بن الحنفية قال ابن الحنفية نزلت في إجازة الوصية لليهودي والنصراني، فالكافر وليّ في النسب لا في الدين فتجوز الوصية له، قال في الخازن: إن الله لما نسخ التوارث بالحلف، والإخاء، والهجرة، أباح أن يوصي الرجل لمن تولاه بما أحب من ثلث ماله، ويجوز أن يكون الاستثناء منقطعاً، والمعنى لكن فعل المعروف للأولياء لا بأس به وضمن (تفعلوا) معنى توصلوا أو تسدوا، فعُدّي بإلى. وقال مجاهد: أراد بالمعروف النصرة وحفظ الحرمة بحق الإيمان والهجرة (كان ذلك) أي نسخ الميراث بالهجرة والمحالفة والعاقدة ورده إلى ذوي الأرحام من القرابات (في الكتاب) أي في اللوح المحفوظ، أو في التوراة أو في القرآن (مسطوراً) مكتوباً.(11/49)
(وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقاً غَلِيظاً (7) لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً أَلِيماً (8) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً (9))(11/50)
وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (7)
(وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم) كأنه قال: يا أيها النبي اتق الله واذكر أن الله أخذ ميثاق الأنبياء أو التقدير كان هذا الحكم مكتوباً في الكتاب ووقت أخذنا، قاله السمين، قال قتادة أخذ الله الميثاق على النبيين خصوصاً على أن يصدق بعضهم بعضاً ويتبع بعضهم بعضاً، وأن ينصحوا لقومهم وأن يعبدوا الله ويدعوا الناس إلى عبادته، وإلى الدين القيم، وأن يبلغوا رسالات ربهم، وذلك حين أخرجوا من صلب آدم كالذر -وهو جمع ذرة- وهي أصغر النمل وهي صغيرة جداً، بحيث إن نحو الأربعين منها أصغر من جناح بعوضة- والميثاق هو اليمين، وقيل هو الإقرار بالله والوصية والأمر، والأول أولى، وقد سبق تحقيقه، ثم خصص سبحانه بعض النبيين بالذكر بعد التعميم الشامل لهم ولغيرهم فقال:
(ومنك) خصوصاً (ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم) ووجه تخصيصهم بالذكر الإعلام بأن لهم مزيد شرف وفضل لكونهم أصحاب الشرائع المشهورة، والكتب المذكورة، ومن أولي العزم من الرسل وتقديم ذكر نبينا - صلى الله عليه وسلم - مع تأخر زمانه فيه من التشريف له والتعظيم ما لا يخفى، وتقديم نوح في آية: شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً، لأنها سيقت لوصف ما بعث به نوح من العهد القديم، وما بعث به نبينا - صلى الله عليه وسلم - من العهد الحديث وما بعث به من توسطهما من الأنبياء المشاهير، فكان تقديم نوح فيها أشد مناسبة للمقصود(11/50)
من بيان أصالة الدين وقدمه، قاله الكرخي. ثم أكد ما أخذه على النبيين من الميثاق بتكرير ذكره ووصفه بالغلظ فقال:
(وأخذنا منهم ميثاقاً غليظاً) أي عهداً شديداً على الوفاء بما حملوا أو ما أخذه الله عليهم من عبادته والدعاء إليها، ويجوز أن يكون قد أخذ الله عليهم الميثاق مرتين: فأخذه عليهم في المرة الأولى مجرد الميثاق بدون تغليظ ولا تشديد، ثم أخذه عليهم ثانية مغلظاً شديداً، ومثل هذه الآية قوله: (وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه).
أخرج الطبراني، وابن مردويه، وأبو نعيم في الدلائل عن أبي مريم الغساني أن أعرابياً قال: يا رسول الله أي شيء كان أول نبوتك قال: أخذ الله مني الميثاق كما أخذ من النبيين ميثاقهم، ثم تلا هذه الآية إلى قوله: (ميثاقاً غليظاً، ودعوة إبراهيم قال: وابعث فيهم رسولاً منهم، وبشرى عيسى ابن مريم، ورأت أم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في منامها أنه خرج من بين رجليها سراج أضاءت له قصور الشام.
وعن ابن عباس قال: قيل يا رسول الله متى أخذ ميثاقك؟ قال وآدم بين الروح والجسد، وعنه قال: قيل يا رسول الله متى كنت نبياً؟ قال: وآدم بين الروح والجسد، أخرجه البزار والطبراني، وفي الباب أحاديث قد صحح بعضها.
وعن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في الآية: كنت أول النبيين في الخلق وآخرهم في البعث، فبدأ بي قبلهم. أخرجه ابن عساكر، وابن مردويه، وأبو نعيم.
وعن ابن عباس قال ميثاقهم عهدهم، وعنه قال إنما أخذ الله ميثاق النبيين على قومهم.(11/51)
لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (8)
(ليسأل) أي لكي يسأل (الصادقين عن صدقهم) في تبليغ الرسالة إلى قومهم تبكيتاً للكافرين بهم، وفي هذا وعيد لغيرهم لأنهم إذا كانوا يسألون(11/51)
عن ذلك فكيف غيرهم؟ وقيل ليسأل الأنبياء عما أجابهم به قومهم كما في قوله (فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين). وقوله (يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم). وقيل فعل ذلك ليسأل. وقيل: عن صدقهم عن عملهم لله عز وجل. وقيل: ليسأل الصادقين بأفواههم عن صدقهم في قلوبهم والكافرين عن تكذيبهم، فاستغنى عن الثاني بذكر مسببه وهو قوله:
(وأعد للكافرين) وقيل التقدير أثاب الصادقين، وأعد للكافرين وقيل: المعنى أكد على الأنبياء الدعوة إلى دينه ليثيب المؤمنين، وأعد للكافرين (عذاباً أليماً) قاله السمين، وقيل: الكلام قد تم عند قوله عن صدقهم وجملة (وأعد) مستأنفة لبيان ما أعده للكفار.(11/52)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (9)
(يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله) الكائنة (عليكم) هذا تحقيق لما سبق من الأمر بالتقوى بحيث لا يبقى معه خوف من أحد (إذ) أي حين.
(جاءتكم جنود) والمراد بها جنود الأحزاب الذين تحزبوا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وغزوه إلى المدينة وهي الغزوة المسماة غزوة الخندق وكانت بعد حرب أحد بسنة (1) وهم أبو سفيان بن حرب بقريش ومن معهم من الألفاف، وعيينة ابن حصن الفزاري ومن معه من قومه غطفان، وبنو قريظة والنضير فضايقوا المسلمين مضايقة شديدة كما وصف الله سبحانه في هذه الآيات، وكانت هذه الغزوة في شوال سنة خمس من الهجرة قاله ابن اسحق. وقال ابن وهب، وابن القاسم، عن مالك كانت في سنة أربع. وقد بسط أهل السير في هذه الوقعة ما هو معروف فلا نطيل بذكرها.
_________
(1) الصحيح أنها وقعت بعد أحد بسنتين أي في السنة الخامسة من الهجرة في شهر شوال على التحديد أما غزوة أحد فكانت في السنة الثالثة من الهجرة وبين الغزوتين حدثت أحداث تتخم هذين العامين كيوم الرجيع ورهط عضل والقارة واستشهاد زيد بن الدثنة وخبيب وأصحابهما بماء هذيل ثم بئر معونة ثم إجلاء بني النضير في السنة الرابعة وغزوة ذات الرقاع وغزوة بدر الآخرة ثم غزوة دومة الجندل ثم الخندق. المطيعي.(11/52)
أخرج الحاكم وصححه وابن مردويه وأبو نعيم والبيهقي كلاهما في الدلائل، وابن عساكر من طرق عن حذيفة قال: لقد رأيتنا ليلة الأحزاب ونحن صافون قعوداً، وأبو سفيان ومن معه من الأحزاب فوقنا. وقريظة اليهود أسفل منا نخافهم على ذرارينا، وما أتت علينا ليلة قط أشد ظلمة، ولا أشد ريحاً في أصوات ريحها أمثال الصواعق، وهي ظلمة ما يرى أحد منا أصبعه.
فجعل المنافقون يستأذنون رسول الله ويقولون: إن بيوتنا عورة. وما هي بعورة فما يستأذنه أحد منهم إلا أذن له، فيتسللون. ونحن ثلثمائة أو نحو ذلك إذا استقبلنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلاً رجلاً حتى مر عليّ وما عليّ جنة من العدو، ولا من البرد إلا مرط لامرأتي ما يجاوز ركبتي، فأتاني وأنا جاث على ركبتي فقال: من هذا؟ فقلت: حذيفة، قال: حذيفة؟ فتقاصرت إلى الأرض فقلت: بلى يا رسول الله -كراهية أن أقوم- قال قم، فقال: إنه كان في القوم خبر فأتني بخبر القوم؟ قال: وأنا من أشد القوم فزعاً وأشدهم قراً فخرجت، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: اللهم احفظه من بين يديه. ومن خلفه، وعن يمينه. وعن شماله، ومن فوقه، ومن تحته. قال: فوالله ما خلق الله فزعاً ولا قراً في جوفي فما أجد منه شيئاًً، فلما وليت قال يا حذيفة، لا تحدثن في القوم شيئاًً حتى تأتيني، فخرجت حتى إذا دنوت من عسكر القوم نظرت في ضوء نار لهم توقد، وإذا رجل أدهم ضخم يقول بيده على النار، ويمسح خاصرته ويقول: الرحيل، الرحيل، ثم دخلت العسكر فإذا أدنى الناس مني بنو عامر يقولون: يا آل عامر الرحيل، الرحيل، لا مقام لكم وإذا الريح في عسكرهم ما تجاوز شبراً فوالله إني لأسمع صوت الحجارة في رحالهم وفرشهم، الريح تضربهم، ثم خرجت نحو النبي - صلى الله عليه وسلم - فلما انتصفت في الطريق أو نحو ذلك إذا أنا بنحو من عشرين فارساً معتمين فقالوا أخبر صاحبك أن الله كفاه القوم، فرجعت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبرته، وهو مشتمل في شملة يصلي، وكان إذا حزبه أمر صلى، فأخبرته خبر القوم أني تركتهم يترحلون، وأنزل الله: (يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم(11/53)
جنود الآية).
وعن ابن عباس في قوله: إذ جاءتكم جنود، قال: كان يوم أبي سفيان يوم الأحزاب (فأرسلنا عليهم ريحاً) قال مجاهد هي ريح الصبا أرسلت على الأحزاب يوم الخندق حتى ألقت قدورهم، ونزعت فساطيطهم، وهي ريح تهب من الشرق، وكانت باردة شديدة جداً، ومع هذا لم تتجاوزهم. ويدل على هذا ما ثبت عنه (- صلى الله عليه وسلم -) من قوله: " نصرت بالصبا، وأهلكت عاد بالدبور " أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما من حديث ابن عباس.
وعنه قال لما كان ليلة الأحزاب جاءت الشمال إلى الجنوب فقالت انطلقي فانصري الله ورسوله، فقالت الجنوب إن الحرة لا تسري بالليل فغضب الله عليها وجعلها عقيماً، فأرسل الله عليهم الصبا فأطفأت نيرانهم، وقطعت أطنابهم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نصرت بالصبا، وأهلكت عاد بالدبور، فذلك قوله فأرسلنا عليهم ريحاً الآية، وقيل الصبا ريح فيها روح ما هبت على محزون إلا ذهب حزنه، وللشعراء تفنن بها كثير يعرفه كل من له إلمام بدواوينهم.
(وجنوداً لم تروها) وهي الملائكة، وكانوا ألفاً، ولم يقاتلوا، وإنما ألقوا الرعب في قلوب الأحزاب. قال المفسرون: بعث الله عليهم الملائكة فقلعت الأوتاد، وقطعت أطناب الفساطيط، وأطفأت النيران، وأكفأت القدور، وجالت الخيل بعضها في بعض، وأرسل الله عليهم الرعب، وكثر تكبيرهم في جوانب العسكر، حتى كان سيد كل قوم يقول لقومه يا بني فلان هلم إليّ فإذا اجتمعوا قال لهم النجاء النجاء، فانهزموا من غير قتال (وكان الله بما تعملون) أيها المسلمون من ترتيب الحرب، وحفر الخندق، واستنصاركم به، وتوكلكم عليه (بصيراً) وقرىء يعملون بالتحتية أي بما يعمله الكفار من العناد لله ولرسوله والتحزب على المسلمين واجتماعهم عليهم من كل جهة.(11/54)
(إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً (11) وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً (12))(11/55)
إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10)
(إذ جاءوكم من فوقكم) أي اذكر إذ جاءوكم من أعلى الوادي، وهو من جهة المشرق والذين جاءوا من هذه الجهة هم غطفان وسيدهم عيينة بن حصن، وهوازن وسيدهم عوف ابن مالك، وأهل نجد وسيدهم طليحة بن خويلد الأسدي، وانضم إليهم عوف بن مالك، وبنو النضير. وعن عائشة في الآية قالت كان ذلك يوم الخندق (ومن أسفل منكم) أي من أسفل الوادي من جهة المغرب من ناحية مكة، وهم قريش ومن معهم من الأحابيش وسيدهم أبو سفيان بن حرب وجاء أبو الأعور السلمي ومعه حيي بن أخطب اليهودي في يهود بني قريظة من وجه الخندق ومعهم عامر بن الطفيل.
(وإذ) معطوف على ما قبله داخل معه في حكم التذكير (زاغت الأبصار) أي مالت وعدلت عن كل شيء فلم تنظر إلا إلى عدوها مقبلاً من كل جانب، وقيل شخصت دهشاً من فرط الهول والحيرة (وبلغت القلوب الحناجر) جمع حنجرة، وهي جوف الحلقوم، وقيل رأس الغلصمة، والغلصمة رأس الحلقوم، وقيل هي منتهى الحلقوم، والحلقوم مجرى الطعام والشراب وقيل مجرى النفس؛ والمريء مجرى الطعام والشراب، وهو تحت الحلقوم وقال الراغب رأس الغلصمة من خارج، والمعنى ارتفعت القلوب عن مكانها ووصلت من الفزع والخوف إلى الحناجر، فلولا أنه ضاق الحلقوم عنها وهو الذي نهايته الحنجرة لخرجت، كذا قال قتادة، وقيل هو على طريق المبالغة المعهودة في كلام العرب وإن لم ترتفع القلوب إلى ذلك المكان ولا خرجت عن موضعها، ولكنه مثل في اضطرابها وجبنها، قال الفراء والمعنى(11/55)
أنهم جبنوا وجزع أكثرهم، وسبيل الجبان إذا اشتد الخوف أن تنتفخ رئته، فإذا انتفخت الرئة ارتفع القلب إلى الحنجرة، ولهذا يقال للجبان: انتفخ سحره.
(وتظنون بالله الظنونا) المختلفة، فبعضهم ظن النصر ورجا الظفر، وبعضهم ظن خلاف ذلك. وقال الحسن ظن المنافقون أنه يستأصل محمد وأصحابه وظن المؤمنون أنه ينصر. وقيل: الآية خطاب للمنافقين، والأولى ما قاله الحسن، فيكون الخطاب لمن أظهر الإسلام على الاطلاق، أعم من أن يكون مؤمناً في الواقع أو منافقاً.
واختلف القراء في الألف في الظنونا، فأثبتها وصلاً ووقفاً جماعة وتمسكوا بخط المصحف العثماني، وجميع المصاحف في البلدان، فإن الألف فيها كلها ثابتٌ وتمسكوا أيضاًً بما في أشعار العرب من مثل هذا. وأيضاًً أن هذه الألف تشبه هاء السكت لبيان الحركة، وهاء السكت تثبت وقفاً، للحاجة إليها، وقد تثبت وصلاً إجراء للوصل مجرى الوقف، وقرىء بحذفها في الوصل والوقف معاً لأنها لا أصل لها، وقالوا هي من زيادات الخط فكتبت كذلك ولا ينبغي النطق بها، وأما الشعر فهو يجوز فيه للضرورة ما لا يجوز في غيره، وقولهم: أجريت الفواصل مجرى القوافي غير معتد به، لأن القوافي يلزم الوقف عليها غالباً، والفواصل لا يلزم ذلك فيها فلا تشبه بها، وقرىء بإثباتها وقفاً، وحذفها وصلاً إجراء للفواصل مجرى القوافي في ثبوت ألف الإِطلاق ولأنها كهاء السكت، وهي تثبت وقفاً وتحذف وصلاً، قاله السمين وهذه القراءة راجحة باعتبار اللغة العربية، وهذه الألف هي التي تسميها النحاة ألف الإطلاق، والكلام فيها معروف في علم النحو، وهكذا اختلف القراء في الألف التي في قوله: الرسولا والسبيلا، كما يأتي في آخر هذه السورة.(11/56)
هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا (11)
(هنالك ابتلي المؤمنون) ظرف مكان يقال للمكان البعيد: هنالك كما يقال للقريب هنا، وللمتوسط: هناك. أي في ذلك المكان الدحض وهو(11/56)
الخندق، وقد يكون ظرف زمان، أي عند ذلك الوقت ابتلوا وهو منصوب بابتلى، وقيل: بتظنون، واستضعفه ابن عطية، والمعنى: إن في ذلك المكان أو الزمان اختبر المؤمنون بالخوف والقتال والجوع والحصر وغيرها ليتبين المؤمن من المنافق وامتحنوا بالصبر على الإِيمان.
(وزلزلوا زلزالاً شديداً) قرأ الجمهور زلزلوا بضم الزاى الأولى؛ وكسر الثانية على ما هو الأصل في المبني للمفعول، وروي عن أبي عمرو أنه قرأ بكسر الأولى وروى الزمخشري عنه أنه قرأ بإشمامها كسراً، وقرأ الجمهور زلزالاً بكسر الزاي الأولى وقرأ عاصم، والجحدري، وعيسى بن عمر بفتحها، وهما لغتان.
قال الزجاج: كل مصدر من المضاعف على فعلال يجوز فيه الكسر والفتح نحو قلقلته قلقالاً وزلزلوا زلزالاً، والكسر أجود، وقد يراد بالمفتوح اسم الفاعل نحو صلصال، بمعنى مصلصل، وزلزال بمعنى مزلزل قال ابن سلام معنى زلزلوا حركوا بالخوف تحريكاً شديداً بليغاً.
وقال الضحاك: هو إزاحتهم عن أماكنهم حتى لم يكن لهم إلا موضع الخندق. وقيل: المعنى أنهم اضطربوا اضطراباً مختلفاً، فمنهم من اضطرب في نفسه، ومنهم من اضطرب في دينه.(11/57)
وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا (12)
(وإذ يقول المنافقون) يعني: معتب بن قشير، وقيل عبد الله بن أبيّ وأصحابه (والذين في قلوبهم مرض) هو الشك والريبة أي أهل الشك والاضطراب، قيل هم قوم لا بصيرة لهم في الدين كان المنافقون يستميلونهم بإدخال الشبهة عليهم: (ما وعدنا الله ورسوله) من النصر والظفر أو فتح فارس والروم (إلا غروراً) أي: باطلاً من القول، وكان القائلون بهذه المقالة نحو سبعين رجلاً من أهل النفاق والشك، وهذا القول المحكي عن هؤلاء كالتفسير للظنون المذكورة، أي كان ظن هؤلاء هذا الظن كما كان ظن المؤمنين النصر، وإعلاء كلمة الله.(11/57)
(وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَاراً (13) وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيراً (14))(11/58)
وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا (13)
(وإذا قالت طائفة منهم) قال مقاتل: هم بنو سالم من المنافقين وقال السدي هم عبد الله بن أبيّ وأصحابه، وقيل هم أوس بن قيظي وأصحابه.
والطائفة تقع على الواحد فما فوقه، والقول الذي قالته هذه الطائفة هو قوله:
(يا أهل يثرب لا مقام لكم) أي لا موضع، ولا مكانة إقامة لكم؛ أو لا إقامة لكم ههنا في العسكر. قرىء (مقام) بفتح الميم وبضمها على أنه مصدر من أقام يقيم، وعلى الأولى هو اسم مكان، وهما سبعيتان.
قال أبو عبيدة يثرب اسم الأرض ومدينة النبي - صلى الله عليه وسلم - في ناحية منها، قال السهيلي وسميت يثرب لأن الذي نزلها من العمالقة اسمه يثرب بن عميل.
وقيل يثرب اسم لنفس المدينة، ولم تصرف للعلمية ووزن الفعل فإنها على وزن يضرب.
وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمرت بقرية تأكل القرى يقولون يثرب وهي المدينة تنفي الناس كما ينفي الكير خبث الحديد.
وأخرج أحمد وابن أبي حاتم وابن مردويه عن البراء بن عازب قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " من سمى المدينة يثرب فليستغفر الله، هى طابة، هى طابة، هي طابة ". ولفظ أحمد: إنما هي طابة وإسناده ضعيف. وكأنه - صلى الله عليه وسلم - كره هذه اللفظة لما فيها من التثريب وهو التقريع، والتوبيخ.
(فارجعوا) أمروهم بالهرب من عسكر النبي - صلى الله عليه وسلم -، وذلك أن رسول(11/58)
الله - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين خرجوا عام الخندق حتى جعلوا ظهورهم إلى سلع (1) والخندق بينهم وبين القوم فقال هؤلاء المنافقون ليس ههنا موضع إقامة وأمروا الناس بالرجوع إلى منازلهم بالمدينة، وسلع جبل خارج المدينة قريب منها بينها وبين الخندق، وقيل: المعنى ارجعوا عن الإيمان إلى الكفر، وقيل عن القتال، والأول أولى (ويستأذن فريق منهم النبي) في الرجوع إلى منازلهم وهم بنو حارثة، وبنو سلمة.
(يقولون إن بيوتنا عورة) أي ضائعة سائبة، ليست بحصينة ولا ممتنعة من العدو، وقال ابن عباس نحلية نخشى عليها السرق. وعن جابر نحوه.
قال الزجاج يقال: عور المكان يعور عوراً وعورة، وبيوت عورة وعورة وهي مصدر. قال مجاهد، ومقاتل، والحسن قالوا: بيوتنا ضائعة نخشى عليها السراق. وقال قتادة: قالوا بيوتنا مما يلي العدو، ولا نأمن على أهلنا. قال الهروي: كل مكان ليس بممنوع ولا مستور فهو عورة، والعورة في الأصل الخلل في البناء ونحوه، بحيث يمكن دخول السارق فيها، فأطلقت على المختل، والمراد ذوات عورة وقرىء عورة بكسر الواو أي قصيرة الجدران.
قال الجوهري: العورة كل حال يتخوف منه في ثغر أو حرب، قال النحاس: يقال أعور المكان إذا تبينت فيه عورة، وأعور الفارس إذا تبين منه موضع الخلل، ثم رد الله سبحانه عليهم بقوله:
(وما هي بعورة) فكذبهم الله سبحانه فيما ذكروه، ثم بين سبب استئذانهم وما يريدونه به فقال:
(إن يريدون إلا فراراً) أي ما يريدون إلا الهروب من القتال، وقيل المراد ما يريدون إلا الفرار من الدين.
_________
(1) جبل حول المدينة يلي هضبة بني حرام، وهضبة بني النجار وفيها منزل حسان بن ثابت الذي لجأ إليه النساء والأطفال من آل البيت وكانوا يشرفون من هذا البيت على منازل بني قريظة.
المطيعي.(11/59)
وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا (14)
(ولو دخلت عليهم من أقطارها) يعني بيوتهم، أو المدينة. والأقطار النواحي، جمع قطر وهو الجانب والناحية، والمعنى لو دخلت عليهم بيوتهم أو المدينة من جوانبها جميعاً لا من بعضها هذه العساكر المتحزبة، ونزلت بهم هذه النازلة الشديدة، واستبيحت ديارهم. وهتكت حرمهم ومنازلهم.
(ثم سئلوا الفتنة) من جهة أخرى عند نزول هذه النازلة الشديدة بهم (لآتوها) أخرج البيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال: جاء تأويل هذه الآية على رأس ستين سنة، يعنى إدخال بني حارثة أهل الشام (1) على المدينة، ومعنى الفتنة هنا إما القتال في العصبية كما قال الضحاك، أو الشرك بالله، أو الرجعة إلى الكفر الذي يبطنونه ويظهرون خلافه كما قال الحسن قرىء لآتوها بالمد أي لأعطوها من أنفسهم، وبالقصر أي لجاؤوها وفعلوها، وهما سبعيتان.
(وما تلبثوا بها) أي بالمدينة بعد أن أتوا الفتنة (إلا) تلبثاً (يسيراً) حتى يهلكوا كذا قال الحسن والسدي والفراء والقتيبي، وقال أكثر المفسرين: إن المعنى وما احتبسوا عن فتنة الشرك إلا قليلاً، بل هم مسرعون إليها راغبون فيها لا يقفون عنها إلا مجرد وقوع السؤال لهم، ولا يتعللون عن الإجابة بأن بيوتهم في هذه الحالة عورة مع أنها قد صارت عورة على الحقيقة، كما تعللوا عن إجابة الرسول والقتال معه بأنها عورة ولم تكن إذ ذاك عورة، ثم حكى الله سبحانه عنهم ما قد كان وقع منهم من قبل من المعاهدة لله ولرسوله بالثبات في الحرب، وعدم الفرار عنه فقال:
_________
(1) عندما دخلت جيوش بني أمية الحجاز ودحرت جيوش عبد الله بن الزبير وقتلته في الكعبة صلبته وحرقته ومثلت به، وكان ذلك في يوم الثلاثاء لسبع خلت من جمادى الآخرة سنة ثلاث وسبعين.
المطيعي.(11/60)
(وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولاً (15) قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلاً (16) قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلَا نَصِيراً (17) قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لإِِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلاً (18) أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (19))(11/61)
وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا (15)
(ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل) أي حلفوا من قبل غزوة الخندق، ومن بعد بدر أن لا يولوا ظهورهم فراراً من العدو، بل يثبتوا على القتال حتى يموتوا شهداء، وهم قوم لم يحضروا وقعة بدر. قال قتادة وذلك أنهم غابوا عن بدر، ورأوا ما أعطى الله أهل بدر من الكرامة والنصر فقالوا: لئن أشهدنا الله قتالاً لنقاتلن.
(لا يولون الأدبار) أي لا ينهزمون وجاء على حكاية اللفظ فجاء بلفظ الغيبة، ولو جاء على حكاية المعنى لقيل: لا نولي (وكان عهد الله مسؤولاً) عنه ومطلوباً صاحبه بالوفاء به، ومجازي على ترك الوفاء به.(11/61)
قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا (16)
(قل لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل) لأنه لا بد لكل إنسان من الموت إما حتف نفسه أو بقتل بالسيف في وقت معين، سبق به القضاء وجرى به القلم، فمن حضر أجله مات أو قتل، فرّ أو لم يفر.
(وإذاً لا تمتعون). أي: وإن نفعكم الفرار مثلاً فمتعتم بالتأخير لم يكن ذلك التمتع (إلا) تمتعاً أو زماناً (قليلاً) بعد فراركم إلى أن تنقضي(11/61)
آجالكم، وكل آت قريب، قرىء: تمتعون بالفوقية والتحتية وبحذف النون.(11/62)
قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (17)
(قل من ذا الذي يعصمكم) أي يجيركم (من الله إن أراد بكم سوءاً؟) أي هلاكاً أو هزيمة أو نقصاً في الأموال وجدباً ومرضاً (أو) يصيبكم بسوء إن (أراد) الله (بكم رحمة)؟ يرحمكم بها من خصب ونصر وعافية وإطالة عمر، وهذا على حد قوله: (علفتها تبناً وماء بارداً، وليس معمولاً للسابق، وهو: يعصمكم، لعدم صحة المعنى عليه.
وفي السمين قال الزمخشري: فإن قلت: كيف جعلت الرحمة قرينة السوء في العصمة ولا عصمة إلا من الشر؟ قلت: معناه أو يصيبكم بسوء إن أراد بكم رحمة فاختصر الكلام، وأجرى مجرى قوله: (متقلداً سيفاً ورمحاً، وحمل الثاني على الأول لما في العصمة من منع المنع. قال الشيخ: أما الوجه الأول ففيه حذف جملة لا ضرورة تدعو إلى حذفها، والثاني هو الوجه، لا سيما إذا قدر مضاف محذوف، أي يمنعكم من مراد الله، قلت: وأين الثاني من الأول ولو كان معه حذف جمل؟ انتهى.
(ولا يجدون لهم من دون الله) أي غيره (ولياً) يواليهم وينفعهم ويدفع الضرر عنهم (ولا نصيراً) ينصرهم من عذاب الله(11/62)
قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا (18)
(قد يعلم الله المعوقين منكم) يقال: عاقه واعتاقه وعوقه إذا صرفه عن الوجه الذي يريده.
(والقائلين لإخوانهم هلم إلينا) قال الواحدي: قال المفسرون: هؤلاء قوم من المنافقين كانوا يثبطون أنصار النبي - صلى الله عليه وسلم -، وذلك أنهم قالوا لهم: ْما محمد وأصحابه إلا أكلة رأس، ولو كانوا لحماً لالتقمهم أبو سفيان وحزبه، فخلوهم وتعالوا إلينا، وقيل: إن القائل لهذه المقالة اليهود، ومعنى هلم: أقبل وأحضر، اسم فعل أمر: وأهل الحجاز يسوون فيه بين الواحد والجماعة والمذكر والمؤنث وعند غيرهم من العرب كبني تميم فعل أمر، يقولون: هلم للواحد المذكر، وهلمي للمؤنث، وهلما للاثنين، وهلموا للجماعة، وقد مر الكلام على هذا في سورة الأنعام، والمعنى: ارجعوا إلينا واتركوا محمداً فلا تشهدوا(11/62)
معه الحرب فإنا نخاف عليكم الهلاك، وقيل: تعالوا إلينا لتستريحوا يعني أن يهود المدينة طلبوا المنافقين ليستريحوا، وخوفوا المؤمنين ليرجعوا، وهلم هنا لازم، وفي الأنعام متعد لنصبه مفعوله، وهو شهداءكم، بمعنى أحضروهم، وههنا بمعنى احضروا وتعالوا، وكلام الزمخشري هنا مؤذن بأنه متعد أيضاًً، وحذف مفعوله فإنه قال: هلموا إلينا أي قربوا أنفسكم إلينا.
(ولا يأتون البأس) أي الحرب والقتال (إلا) إتياناً (قليلاً) خوفاً من الموت ويقفون قليلاً مقدار ما يرى شهودهم ثم ينصرفون، وقيل: المعنى لا يحضرون القتال إلا رياء وسمعة من غير اكتساب، ولو كان ذلك القليل لله لكان كثيراً.(11/63)
أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (19)
(أشحة) أي بخلاء (عليكم) لا يعاونونكم بحفر الخندق ولا بالنفقة في سبيل الله قاله مجاهد وقتادة، وقيل: أشحة بالقتال معكم، وقيل: بالنفقة على فقرائكم ومساكينكم، وقيل: أشحة بالغنائم إذا أصابوها، قاله السدي. العامة على نصب: أشحة، وفيه وجهان.
أحدهما: أنه منصوب على الذم.
والثاني: على الحال من ضمير: يأتون قاله الزجاج أو هلم إلينا قاله الطبري، وقرىء بالرفع أي هم أشحة وهو جمع شحيح، وهو جمع لا يقاس عليه، إذ قياس فعيل الوصف الذي عينه ولامه من واد واحد أن يجمع على أفعلاء نحو خليل وأخلاء، وظنين، وأظناء، وضنين، وأضناء، وقد سمع أشحاء وهو القياس، والشح، البخل وتقدم في آل عمران قاله السمين.
(فإذا جاء الخوف) من قبل العدو قاله السدي أو منه - صلى الله عليه وسلم - قاله ابن شجرة (رأيتهم) أي أبصرتهم (ينظرون إليك) في تلك الحالة خوفاً من القتال على القول الأول، ومن النبي - صلى الله عليه وسلم - على الثاني (تدور أعينهم) يميناً(11/63)
وشمالاً لذهول عقولهم حتى لا يصح منهم النظر إلى جهة، وقيل لشدة خوفهم حذراً أن يأتيهم القتل من كل جهة، وذلك سبيل الجبان إذا شاهد ما يخافه.
(كالذي يغشى عليه من الموت) أي كدوران عين الذي قرب من الموت، وهو الذي نزل به الموت وغشيته أسبابه، فيذهل إليه، ويذهب عقله ويشخص بصره، فلا يطرف، كذلك هؤلاء تشخص أبصارهم لما يلحقهم من الخوف، ويقال للميت إذا شخص بصره دارت عيناه ودارت حماليق عينيه.
(فإذا ذهب الخوف سلقوكم) أي استقبلوكم (بألسنة حداد) أي ذربة تفعل كفعل الحديد يقال: سلق فلان فلاناً بلسانه إذا أغلظ له في القول مجاهراً، قال الفراء: أي آذوكم بالكلام في الأمن بألسنة سليطة ذربة ويقال: خطيب مسلاق ومصلاق إذا كان بليغاً، قال القتيبي: المعنى آذوكم بالكلام الشديد، والسلق: الأذى قال ابن عباس: معناه عضوكم وتناولوكم بالنقص والغيبة، قال قتادة: المعنى بسطوا ألسنتهم فيكم في وقت قسمة الغنيمة يقولون. أعطونا فإنا قد شهدنا معكم فعند الغنيمة أشح قوم وأبسطهم لساناً، ووقت البأس أجبن قوم وأخوفهم، قال النحاس وهذا قول حسن.
(أشحة على الخير) أي على الغنيمة يشاحون المسلمين عند القسمة، قاله يحيى بن سلام، وقيل على المال أن ينفقوه في سبيل الله قاله السدي، ويمكن أن يقال معناه إنهم قليلو الخير من غير تقييد بنوع من أنواعه (أولئك) الموصوفون بتلك الصفات.
(لم يؤمنوا) إيماناً خالصاً بل هم المنافقون يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر (فأحبط الله أعمالهم) أي أبطلها بمعنى أظهر بطلانها لأنها لم تكن أعمالاً صحيحة تقتضي الثواب حتى يبطلها الله وتحبط، قال مقاتل أبطل جهادهم لأنه لم يكن في إيمان، أو المراد أبطل تصنعهم ونفاقهم فلم يبق مستتبعاً لمنفعة دنيوية أصلاً (وكان ذلك) الإحباط لأعمالهم أو كان نفاقهم (على الله يسيراً) هيناً بإرادته.(11/64)
(يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلاً (20) لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً (21) وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً (22))
ْ(11/65)
يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا (20)
(يحسبون الأحزاب لم يذهبوا) أي يحسب هؤلاء المنافقون لجبنهم أن الأحزاب أي قريشاً وغطفان واليهود باقون في معسكرهم لم يذهبوا إلى ديارهم، ولم ينهزموا ففروا إلى داخل المدينة، وذلك لما نزل بهم من الفشل والروع والفرق والجبن.
(وإن يأت الأحزاب) مرة أخرى بعد هذه المرة، والذهاب (يودوا لو أنهم بادون في الأعراب) أي يتمنون لو أنهم كانوا في بادية لما حل بهم من الرهبة، والبادي خلاف الحاضر، يقال: بدا يبدو بداوة إذا خرج إلى البادية وسكنها.
(يسألون عن أنبائكم) وأخباركم وما آل إليه أمركم، وما جرى لكم، كل قادم عليهم من جهتكم، أو يسأل بعضهم بعضاً عن الأخبار التي بلغته من أخبار الأحزاب، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والمعنى أنهم يتمنون أنهم بعيد عنكم يسألون عن أخباركم من غير مشاهدة للقتال، لفرط جبنهم وضعف نياتهم (ولو كانوا فيكم) أي معكم في هذه الغزوة مشاهدين للقتال (ما قاتلوا) معكم (إلا) قتالاً (قليلاً) خوفاً من العار وحمية على الديار، أو رياء من غير احتساب.(11/65)
لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21)
(لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة) أي قدوة صالحة، يقال: لي في فلان أسوة أي لي به اقتداء، والأسوة من الائتساء كالقدوة من الاقتداء اسم يوضع موضع المصدر يقال: ائتسى فلان بفلان أي اقتدى به، قال الجوهري: الأسوة والإِسوة بالضم والكسر والجمع أسى وإسى، وقد قرىء بهما وهما سبعيتان وهما أيضاًً لغتان كما قال الفراء وغيره.
وفي هذه الآية عتاب للمتخلفين عن القتال مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أي لقد كان لكم في رسول الله حيث بذل نفسه للقتال، وخرج إلى الخندق لنصرة دين الله أسوة، والمعنى اقتدوا به اقتداء حسناً، وهو أن تنصروا دين الله وتوازروا رسوله، ولا تتخلفوا عنه، وتصبروا على ما يصيبكم كما فعل هو إذ كسرت رباعيته، وجرح وشج وجهه، وجاع بطنه، وقتل عمه حمزة، وأوذي بضروب الأذى فصبر، وواساكم مع ذلك بنفسه، فافعلوا أنتم كذلك أيضاًً، واستنوا بسنته، وهذه الآية وإن كان سببها خاصاً فهي عامة في كل شيء؛ ومثلها: (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) وقوله: (قل: إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله).
عن ابن عمر قال في الآية: هذا في جوع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد استدل بهذه الآية جماعة من الصحابة في مسائل كثيرة اشتملت عليها كتب السنة، وهي خارجة عما نحن بصدده، نعم فيه دلالة على لزوم الاتباع، وترك التقليد الحادث الذي أصيب به الإسلام، أي مصيبة وهل هذه الأسوة على الإيجاب أو على الاستحباب، فيه قولان، قال القرطبي يحتمل أن تحمل على الإيجاب في أمور الدين، وعلى الاستحباب في أمور الدنيا.
(لمن كان يرجو الله) أي حسنة كائنة لمن يرجو الله والمراد أنهم الذين يرجون الله ويخافون عذابه، يعني يرجون ثوابه ولقاءه (واليوم الآخر) أي أنهم يرجون رحمة الله فيه أو يصدقون بحصوله، وأنه كائن لا محالة وهذه الجملة تخصيص بعد التعميم بالجملة الأولى.(11/66)
(وذكر الله) أي ولمن ذكر الله في جميع أحواله ذكراً (كثيراً) وجمع بين الرجاء لله والذكر له فإن بذلك تتحقق الأسوة الحسنة برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم بين سبحانه ما وقع من المؤمنين المخلصين عند رؤيتهم للأحزاب ومشاهدتهم لتلك الجيوش التي أحاطت بهم كالبحر العباب فقال:(11/67)
وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا (22)
(ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله) الإشارة بهذا إلى ما رأوه من الجيوش أو إلى الخطب الذي نزل، والبلاء الذي دهم، وهذا القول منهم قالوه استبشاراً بحصول ما وعدهم الله ورسوله من مجيء هذه الجنود وأن يتعقب مجيئهم إليهم نزول النصر والظفر من عند الله، و (ما) في (ما وعدنا) هي الموصولة أو المصدرية، ثم أردفوا ما قالوه بقولهم:
(وصدق الله ورسوله) أي ظهر صدق خبرهما ووجه إظهار الاسم الشريف والرسول بعد قوله (ما وعدنا الله ورسوله)، هو قصد التعظيم، وأيضاًً لو أضمرهما لجمع بين ضميري الله ورسوله في لفظ واحد وقال صدقاً، وقد ورد النهي عن جمعهما كما في حديث [بئس خطيب القوم أنت]، لمن قال ومن يعصهما فقد غوى، وأما قوله صلى الله عليه وسلم [من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما]، فالجواب أنه صلى الله عليه وسلم أعرف بقدر الله منا فليس لنا أن نقول كما يقول، قاله السمين.
(وما زادهم) ما رأوه من اجتماع الأحزاب عليهم ومجيئهم (إلا إيماناً) بالله (وتسليماً) لأمره، قال الفراء: ما زادهم النظر إلى الأحزاب إلا ذلك قال علي بن سليمان رأي يدل على الرؤية، وتأنيث الرؤية غير حقيقي؛ والمعنى ما زادهم الرؤية إلا إيماناً بالرب؛ وتسليماً للقضاء، ولو قال ما زادتهم لجاز، وعن ابن عباس قال: في الآية أن الله قال لهم في سورة البقرة (أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء)، فلما مسهم البلاء حيث رابطوا الأحزاب في الخندق قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله فتأول المؤمنون ذلك فلم يزدهم إلا إيماناً وتسليماً.(11/67)
مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً (23) لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً (24) وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيّاً عَزِيزاً (25)(11/68)
مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا (23)
(من المؤمنين) المخلصين (رجال صدقوا) أي أتوا بالصدق من صدقني إذا قال الصدق (ما عاهدوا الله عليه) أي وفِّوا بما عاهدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة من الثبات معه والمقاتلة لمن قاتله، بخلاف من كذب في عهده وخان الله ورسوله، وهم المنافقون، وقيل هم الذين نذروا أنهم إذا لقوا حرباً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثبتوا له ولم يفروا.
أخرج البخاري وغيره عن أنس قال: [نرى هذه الآية نزلت في أنس ابن النضر]، وأخرج ابن سعد، وأحمد، ومسلم، والترمذي، والنسائي، والبغوي في معجمه وابن جرير وابن أبي حاتم وأبو نعيم والبيهقي عن أنس قال: " غاب عمي أنس بن النضر عن بدر فشق عليه وقال أول مشهد شهده رسول الله صلى الله عليه وسلم غبت عنه؟ لئن أراني الله مشهداً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليرين الله ما أصنع، فشهد يوم أحد فاستقبله سعد بن معاذ قال يا أبا عمرو أين؟ قال واهاً لريح الجنة أجدها دون أحد، فقاتل حتى قتل، فوجد في جسده بضع وثمانون من بين طعنة وضربة ورمية، ونزلت هذه الآية، وكانوا يرون أنها نزلت فيه وفي أصحابه. وقد روي عنه نحوه من طريق أخرى عند الترمذي وصححه، والنسائي وغيرهما.(11/68)
وأخرج الحاكم وصححه، والبيهقي في الدلائل عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين انصرف من أحد مر على مصعب بن عمير وهو مقتول فوقف عليه ودعا له، ثم قرأ: (من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه) ثم قال: أشهد أن هؤلاء شهداء عند الله، فأتوهم وزوروهم، والذي نفسي بيده لا يسلم عليهم أحد إلى يوم القيامة إلا ردوا عليه، وقد تعقب الحاكم، في تصحيحه الذهبي، كما ذكر ذلك السيوطي.
ولكنه قد أخرج الحاكم حديثاً آخر وصححه، وأخرجه أيضاًً البيهقي في الدلائل عن أبي ذر قال لما فرغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد مر على مصعب بن عمير مقتولاً على طريقه، فقرأ (من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه) الآية وأخرج ابن مردويه من حديث خباب مثله، وهما يشهدان لحديث أبي هريرة، ثم فصل سبحانه حال الصادقين بما وعدوا الله ورسوله، وقسمهم إلى قسمين فقال:
(فمنهم من قضى نحبه) أي فرغ من نذره، ووفّى بعهده، وصبر على الجهاد حتى استشهد، وقال ابن عمر: أي مات على ما هو عليه من التصديق والإيمان. والنحب ما التزمه الإنسان واعتقد الوفاء به وأوجبه على نفسه، والقتل، والموت. قال ابن قتيبة قضى نحبه أي: قتل. وأصل النحب: النذر كانوا يوم بدر نذروا إن لقوا العدو أن يقاتلوا حتى يقتلوا أو يفتح الله لهم فقتلوا، فقيل: فلان قضى نحبه، أي قتل. والنحب أيضاًً الحاجة وإدراك الأمنية يقول قائلهم: مالي عندهم نحب، والنحب العهد، ومعنى الآية أن من المؤمنين رجالاً أدركوا أمنيتهم، وقضوا حاجتهم، ووفّوا بنذرهم، فقاتلوا حتى قتلوا، وذلك يوم أحد كحمزة ومصعب بن عمير وأنس بن النضر.
أخرج الترمذي وحسنه، وأبو يعلى، وابن جرير، وابن مردويه عن طلحة أن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قالوا لأعرابي جاهل: سله عمن قضى نحبه من هو؟ وكانوا لا يجترؤون على مسألته يوقرونه ويهابونه، فسأله الأعرابي،(11/69)
فأعرض عنه، ثم سأله فأعرض عنه، ثم إني طلعت من باب المسجد فقال: أين السائل عمن قضى نحبه؟ قال الأعرابي أنا قال: هذا ممن قضى نحبه.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه من حديثه نحوه.
وأخرج الترمذي، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن مردويه عن معاوية قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول " طلحة ممن قضى نحبه ".
وعن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: " من سره أن ينظر إلى رجل يمشي على الأرض قد قضى نحبه فلينظر إلى طلحة ". أخرجه سعيد بن منصور، وأبو يعلى، وأبو نعيم، وابن المنذر وغيرهم.
وأخرج ابن مردويه من حديث جابر مثله، وأخرج ابن منده وابن عساكر من حديث أسماء بنت أبي بكر نحوه.
وأخرج أبو الشيخ وابن عساكر عن عليّ إن هذه الآية نزلت في طلحة.
وأخرج أحمد والبخاري وابن مردويه عن سليمان بن صرد قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الأحزاب الآن نغزوهم ولا يغزونا.
(ومنهم من ينتظر) قضاء نحبه حتى يحضر أجله كعثمان بن عفان، وطلحة، والزبير، وأمثالهم فإنهم مستمرون على الوفاء بما عاهدوا الله عليه من الثبات مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والقتال لعدوه، ومنتظرون لقضاء حاجتهم وحصول أمنيتهم بالقتل، وإدراك فضل الشهادة.
(وما بدلوا تبديلاً) أي ما غيروا عهدهم الذي عاهدوا الله ورسوله عليه كما غير المنافقون عهدهم، بل ثبتوا عليه ثبوتاً مستمراً، أما الذين قضوا نحبهم فظاهر، وأما الذين ينتظرون قضاء نحبهم فقد استمروا على ذلك حتى فارقوا الدنيا ولم يغيروا ولا بدلوا.(11/70)
لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (24)
(ليجزي الله) اللام يجوز أن يتعلق بصدقوا أو بزادهم أو بما بدلوا أو بمحذوف كأنه قيل: وقع جميع ما وقع ليجزي الله (الصادقين بصدقهم) بوفائهم بالعهد.
(ويعذب المنافقين إن شاء) إذا لم يتوبوا (أو يتوب عليهم) بما صدر عنهم من التغيير والتبديل إن تابوا، جعل المنافقين كأنهم قصدوا عاقبة السوء، وأرادوها بسبب تبديلهم وتغييرهم، كما قصد الصادقون عاقبة الصدق بوفائهم، فكل من الفريقين مسوق إلى عاقبة من الثواب والعقاب، فكأنما استويا في طلبها والسعي لتحصيلها، ومفعول إن شاء وجوابها محذوفان أي إن شاء تعذيبهم عذبهم، وذلك إذا أقاموا على النفاق، ولم يتركوه ولم يتوبوا عنه.
(إن الله كان غفوراً) لمن تاب منهم بقبول التوبة (رحيما) بمن أقلع عما كان عليه من النفاق بعفو الحوبه ثم رجع سبحانه، إلى حكاية بقية القصة وما امتن به على رسوله والمؤمنين من النعمة فقال:(11/71)
وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا (25)
(وردَّ الله الذين كفروا) وهم الأحزاب كأنه قيل؛ وقع ما وقع من الحوادث ورد الله الذين كفروا (بغيظهم) الباء للسببية (لم ينالوا خيراً) المعنى أن الله ردهم بغيظهم لم يشف صدورهم، ولا نالوا خيراً في اعتقادهم وهو الظفر بالمسلمين، أولم ينالوا خيراً أي خير، بل رجعوا خاسرين لم يربحوا إلا عناء السفر، وغرم النفقة.
(وكفى الله المؤمنين القتال) بما أرسله من الريح والجنود من الملائكة (وكان الله قوياً) على كل ما يريده إذا قال له: كن فيكون (عزيزاً) قاهراً غالباً لا يغالبه أحد من خلقه: ولا يعارضه معارض في سلطانه وجبروته.
روى البخاري عن سلمان بن صرد قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين انجلى الأحزاب يقول: " الآن نغزوهم ولا يغزونا نحن نسير إليهم ".(11/71)
وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً (26) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً (27) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً (28) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً (29)(11/72)
وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا (26)
(وأنزل الذين ظاهروهم) أي عاضدوهم وعاونوهم على رسول الله
- صلى الله عليه وسلم - (من أهل الكتاب) وهم بنو قريظة فإنهم عاونوا الأحزاب من قريش وغطفان، ونقضوا العهد الذي كان بينهم وبين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصاروا يداً واحدة مع الأحزاب وكانت في آخر ذي (1) القعدة سنة خمس.
وقيل: سنة أربع (من صياصيهم) جمع صيصية وهي الحصون، وكل شيء يتحصن به فهو صيصية؛ ومنه صيصية الديك، وهي الشوكة التي في رجله وصياصي البقر والظباء: قرونها لأنها تمنع بها، ويقال لشوكة الحائك الذي يسوي بها السدي واللحمة: صيصية.
وأخرج أحمد، وابن مردوول، وابن أبي شيبة عن عائشة خرجت يوم الخندق أقفو الناس فإذا أنا بسعد بن معاذ رماه رجل من قريش يقال له ابن الفرقة بسهم فأصاب أكحله فقطعه، فدعا الله سعد فقال: اللهم لا تمتني حتى
_________
(1) مر لنا في تفسير قوله تعالى: " إذ جاءتكم جنود " تحقيق أن الغزوة وقعت في شوال من السنة الخامسة وكان المصنف قد ذكر أنها في الرابعة وهنا يرجح المصنف أنها في الخامسة في شهر ذي القعدة بل في آخره وقد اتفقنا معه في السنة هنا وخالفناه هناك ويبدو أنه تحقق من التاريخ بعد كتابة ما مر قبل وللمصنف العذر لا سيما وأن من القائلين بوقوعها في السنة الرابعة علماء تتقاصر الأعناق دون مطاولتهم مثل الإمام النووي وغيره ومع هذا أقوال مرجوحة لا تثبت أمام التحقيق.
المطيعي.(11/72)
تقر عيني من قريظة.
فبعث الله الريح على المشركين وكفى الله المؤمنين القتال، ولحق أبو سفيان ومن معه بتهامه؛ ولحق عيينة بن بدر ومن معه بنجد ورجعت بنو قريظة فتحصنوا في صياصيهم، ورجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة، وأمر ببقية من أدم فضربت على سعد في المسجد.
قالت فجاء جبريل وإن على ثناياه لوقع الغبار، فقال أو قد وضعت السلاح؟ لا والله ما وضعت الملائكة بعد السلاح.
أخرج إلى بني قريظة فقاتلهم فلبس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأْمَته وأذن في الناس بالرحيل أن يخرجوا فحاصرهم خمساً وعشرين ليلة.
فلما اشتد حصرهم واشتد البلاء عليهم قيل لهم: انزلوا على حكم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
قالوا: ننزل على حكم سعد بن معاذ فنزلوا وبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى سعد بن معاذ فأتى به على حمار فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أحكم فيهم.
قال فإني أحكم فيهم أن تقتل مقاتلتهم وتسبى ذراريهم، وتقسم أموالهم.
فقال: لقد حكمت فيهم بحكم الله وحكم رسوله.
(وقذف في قلوبهم الرعب) أي: الخوف الشديد حتى سلموا أنفسهم للقتل وأولادهم ونساءهم للسبي، وهي معنى قوله: (فريقاً تقتلون) هو منهم.
(وتأسرون فريقاً) قرىء الفعلان بالتحتية وبالفوقية فيهما على الخطاب وبالفوقية في الأول وبالتحتية في الثاني فالفريق الأول هم الرجال والفريق الثاني هم النساء، والذرية. والجملة مبينة ومقررة لقذف الرعب في قلوبهم، ووجه تقديم المفعول في الأول وتأخيره في الثاني. أن الرجال لما كانوا أهل الشوكة وكان الوارد عليهم أشد الأمرين وهو القتل كان الاهتمام بتقديم ذكرهم أنسب بالمقام.(11/73)
وقد اختلف في عدد المقتولين والمأسورين فقيل: كان المقتولون من ستمائة إلى سبعمائة، وقيل سبعمائة، وقيل ثمانمائة، وقيل تسعمائة وكان المأسورون سبعمائة وخمسين، وقيل تسعمائة.(11/74)
وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (27)
(وأورثكم أرضهم) أي عقارهم وخيلهم (وديارهم) أي منازلهم وحصونهم (وأموالهم) أي الحلي والأثاث والمواشي والسلاح والدراهم والدنانير والنقود والأمتعة.
(و) أورثكم (أرضاً لم تطؤها) بعد لقصد القتال، واختلف المفسرون في تعيين هذه الأرض المذكورة فقال يزيد بن رومان وابن زيد، ومقاتل إنها خيبر، أولم يكونوا إذ ذاك قد نالوها فوعدهم الله بها. قال سليمان الجمل: وأُخذت بعد قريظة بسنتين أو ثلاث لأن خيبر كانت في السابعة في المحرم وهي مدينة كبيرة ذات حصون ثمانية وذات مزارع ونخل كثير، بينها وبين المدينة الشريفة أربع مراحل. انتهى ملخصاً وتمام هذه القصة في سيرة الحلبي.
وقال قتادة: كنا نتحدث أنها مكة، وقال الحسن: فارس والروم، وقال عكرمة هي كل أرض تفتح على المسلمين إلى يوم القيامة والمضي (1) لتحقق وقوعه (وكان الله على كل شيء قديراً) أي هو سبحانه قدير على كل ما أراده من خير وشر، ونعمة ونقمة، وعلى إنجاز ما وعد به من الفتح للمسلمين.
_________
(1) هكذا في الأصل ويبدو أن بها تصحيفاً فتكون: (والمعنى الخ) والمقصود على هذا أن صيغة الخبر جاءت تشمل الماضي والمستقبل لتحقق وقوع التوريث لأرض الأعداء وديارههم وأخرى لم يطأوها.
المطيعي.(11/74)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (28)
(يا أيها النبي قل لأزواجك) قيل هذه الآية متصلة بمعنى ما تقدمها من المنع من إيذاء النبي صلى الله عليه وسلم، وكان قد تأذى ببعض الزوجات. قال الواحدي قال المفسرون: إن أزواج النبي صلى الله عليه(11/74)
وسلم سألنه شيئاًً من عرض الدنيا، وطلبن منه الزيادة في النفقة، وآذينه بغيرة بعضهن على بعض، فآلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منهن شهراً وأنزل الله آية التخيير هذه، وكن يومئذ تسعاً: عائشة، وحفصة، وأم سلمة، وأم حبيبة، وسودة، وهؤلاء من نساء قريش، وصفية الخيبرية، وميمونة الهلالية، وزينب بنت جحش الأسدية، وجويرية بنت الحارث المصطلقية.
واختلف في عدة أزواجه صلى الله عليه وسلم وترتيبهن وعدة من مات منهن قبله، ومن مات هو عنهن، ومن دخل بها ومن لم يدخل بها، ومن خطبها ولم ينكحها، ومن عرضت نفسها عليه، والمتفق على دخوله بهن إحدى عشرة امرأة، كذا في المواهب وقد بسط الكلام عليهن في المقصد الثاني منه جداً فارجع إليه إن شئت.
(إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها) أي سعتها ونضارتها ورفاهيتها وكثرة الأموال والتنعم فيها (فتعالين) أي أقبلن إليّ بإرادتكن واختياركن لأحد الأمرين.
(امتّعْكن) أي أعطيكن المتعة (وأسرحكن) أي أطلقكن قرأ الجمهور في الفعلين بالجزم جواباً للأمر. وقيل أن جزمهما على أنهما جواب الشرط، وعلى هذا يكون قوله فتعالين اعتراضاً بين الشرط والجزاء، وقرىء بالرفع فيهما على الاستئناف (سراحاً جميلاً) المراد به هو الواقع من غير ضرار على مقتضى السنة.(11/75)
وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا (29)
(وإن كنتن تردن الله ورسوله) أي تردن رسوله، وذكر الله للإيذان بجلالة محمد - صلى الله عليه وسلم - عنده تعالى (والدار الآخرة) أي الجنة ونعيمها (فإن الله أعد للمحسنات منكن) أي اللاتي عملن عملاً صالحاً (وأجراً عظيماً) لا يمكن وصفه، ولا يقادر قدره، وذلك بسبب إحسانهن وبمقابلة صالح عملهن.(11/75)
وقد اختلف العلماء في كيفية تخيير النبي - صلى الله عليه وسلم - أزواجه على قولين: الأول
أنه خيرهن بإذن الله في البقاء على الزوجية أو الطلاق فاخترن البقاء وبهذا قالت عائشة ومجاهد وعكرمة والشعبي والزهري وربيعة. والثاني: أنه إنما خيرهن بين الدنيا فيفارقهن، وبين الآخرة فيمسكهن، ولم يخيرهن في الطلاق، وبهذا قال علي والحسن وقتادة، والراجح الأول.
واختلفوا أيضاًً في المخيرة إذا اختارت زوجها هل يحسب مجرد ذلك التخيير على الزوج طلقة أم لا؟ فذهب الجمهور من السلف والخلف إلى أنه لا يكون التخيير مع اختيار المرأة لزوجها طلاقا، لا واحدة ولا أكثر. وقال علي وزيد بن ثابت: إن اختارت زوجها فواحدة بائنة، وبه قال الحسن والليث وحكاه الخطابي والنقاش عن مالك.
والراجح الأول، لحديث عائشة الثابت في الصحيحين قالت: خيّرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاخترناه، فلم يعده طلاقاً، ولا وجه لجعل مجرد التخيير طلاقاً. ودعوى أنه كناية من كنايات الطلاق مدفوعة بأن المخير لم يرد الفرقة بمجرد التخيير، بل أراد تفويض المرأة وجعل أمرها بيدها، فإن اختارت البقاء بقيت على ما كانت عليه من الزوجية، وإن اختارت الفرقة صارت مطلقة. واختلفوا في اختيارها لنفسها هل يكون ذلك طلقة رجعية؟ أو بائنة؟.
فقال بالأول عمر وابن مسعود وابن عباس وابن أبي ليلى والثوري والشافعي.
وقال بالثاني علي وأبو حنيفة وأصحابه، وروي عن مالك، والراجح الأول؛ لأنه يبعد كل البعد أن يطلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نساءه على خلاف ما أمره الله به. وقد أمره بقوله إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن، وروي عن زيد بن ثابت: أنها إذا اختارت نفسها فثلاث طلقات، وليس لهذا القول وجه.(11/76)
وقد روي عن علي أنها إذا اختارت نفسها فليس بشيء وإذا اختارت زوجها فواحدة رجعية.
وقد أخرج أحمد ومسلم والنسائي وابن مردويه عن جابر قال: أقبل أبو بكر يستأذن على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والناس ببابه جلوس، والنبي - صلى الله عليه وسلم - جالس، فلم يؤذن له. ثم أقبل عمر فاستأذن فلم يؤذن له، ثم أذن لأبي بكر وعمر فدخلا، والنبي - صلى الله عليه وسلم - جالس وحوله نساؤه وهو ساكت، فقال عمر: لأكلمن النبي - صلى الله عليه وسلم - لعله يضحك فقال عمر. يا رسول الله لو رأيت ابنة زيد امرأة عمر سألتني النفقة آنفاً فوجأت في عنقها؟ فضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى بدت نواجذه وقال: هن حولي يسألنني النفقة.
فقام أبو بكر إلى عائشة ليضربها، وقام عمر إلى حفصة كلاهما يقولان: تسألان رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) ما ليس عنده؟ فنهاهما رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) فقلن نساؤه: " والله لا نسأل رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) بعد هذا المجلس ما ليس عنده "، وأنزل الله الخيار فبدأ بعائشة فقال: إني ذاكر لك أمراً ما أحب أن تعجلي. فيه حتى تستأمري أبويك قالت ما هو؟ فتلا عليها (يا أيها النبي قل لأزواجك) الآية فقالت عائشة: أفيك أستأمر أبوي؟ بل اختار الله ورسوله، وأسألك أن لا تذكر لنسائك ما اخترت فقال إن الله لم يبعثني متعنتاً ولكن بعثني معلماً ميسراً لا تسألني امرأة منهن عما اخترت إلا أخبرتها.
وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن عائشة أن رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) جاءها حين أمره الله أن يخير أزواجه قالت فبدأ بي فقال: إني ذاكر لك أمراً فلا عليك أن لا تستعجلي حتى تستأمري أبويك، وقد علم أن أبوي لم يكونا يأمراني بفراقه، فقال: إن الله قال: يا أيها النبي قل لأزواجك إلى تمام الآية، فقلت: ففي أي هذا أستأمر أبوي؟ فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة، وفعل أزواج النبي (- صلى الله عليه وسلم -) مثل ما فعلت، ثم لما اختار نساء رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) إياه أنزل فيهن هذه الآيات تكرمة لهن وتعظيماً لحقهن فقال:(11/77)
(يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (30) وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحاً نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقاً كَرِيماً (31) يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً (32))(11/78)
يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30)
(يا نساء النبي من يأت منكن) من بيانية لأنهن كلهن محسنات (بفاحشة) أي معصية (مبينة) أي ظاهرة القبح، واضحة الفحش، وقد عصمهن الله عن ذلك وبرأهن وطهرهن فهو كقوله تعالى: لئن اشركت ليحبطن عملك، وقيل: المراد بالفاحشة: النشوز وسوء الخلق، وقال قوم: الفاحشة إذا وردت معرفة فهي الزنا واللواط، وإذا وردت منكرة فهي سائر المعاصي، وإذا وردت منعوتة فهي عنوق الزوج، وفساد عشرته. وقالت فرقة: قوله هذا يعم جميع المعاصي، وكذلك الفاحشة كيف وردت.
(يضاعف لها العذاب ضعفين) أي يعذبهن الله مثلي عذاب غيرهن من النساء إذا أتين بمثل تلك الفاحشة، وذلك لشرفهن وعلو درجتهن، وارتفاع منزلتهن، ولأن ما قبح من سائر النساء كان منهن أقبح، فزيادة قبح المعصية تتبع زيادة الفضل، وليس لأحد من النساء مثل فضل نساء النبي (- صلى الله عليه وسلم -)، ولذا كان الذم للعاصي العالم أشد من العاصي الجاهل، لأن المعصية من العالم أقبح، ولذا فضل حد الأحرار على العبيد.
وقد ثبت في هذه الشريعة في غير موضع أن تضاعف الشرف وارتفاع(11/78)
الدرجات يوجب لصاحبه إذا عصى تضاعف العقوبات. وقرىء يضعف على البناء للمفعول، وفرق أبو عمرو وأبو عبيد بين يضاعف ويضعف فقالا: يكون يضاعف ثلاثة عذابات ويضعف عذابين قال النحاس: هذه التفرقة التي جاء بها لا يعرفها أحد من أهل اللغة، والمعنى في: يضاعف ويضعف واحد، أي يجعل ضعفين، وهكذا ضعف ما قالاه ابن جرير.
قال قوم: لو قدر الله الزنا من واحدة -وقد أعاذهن الله عن ذلك- لكانت تحد حدَّين لعظم قدرها، كما يزاد حد الحرة على الأمة، والعذاب بمعنى الحد قال تعالى: (وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين)، وعلى هذا فمعنى الضعفين معنى المثلين أو المرئين، وقال مقاتل: هذا التضعيف في العذاب إنما هو في الآخرة، كما إن إيتاء الأجر مرتين في الآخرة وهذا حسن لأن نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يأتين بفاحشة توجب حداً.
وقد قال ابن عباس: ما بغت امرأة نبي قط، وإنما خانتا في الإيمان والطاعة. وقال بعض المفسرين: العذاب الذي توعدن به ضعفين هو عذاب الدنيا وعذاب الآخرة وكذلك الأجر. قال ابن عطية: وهذا ضعيف، اللهم إلا أن تكون أزواج النبي (- صلى الله عليه وسلم -) لا ترفع عنهن حدود الدنيا عذاب الآخرة على ما هو حال الناس عليه بحكم حديث عبادة بن الصامت، وهذا أمر لم يرد في أزواج النبي (- صلى الله عليه وسلم -) ولا حفظ تقريره.
(وكان ذلك) أي تضعيف العذاب (على الله يسيراً) هيناً لا يتعاظمه ولا يصعب عليه، فليس كونكن تحت النبي (- صلى الله عليه وسلم -) وكونكن جليلات شريفات مما يدفع العذاب عنكن، وليس أمر الله كأمر الخلق حتى يتعذر عليه تعذيب الأعزة بسبب كثرة أوليائهن وأعوانهن أو شفعائهن وإخوانهن.(11/79)
وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا (31)
(ومن يقنت) قرىء بالتحتية وكذا يأت منكن حملاً على لفظ من في(11/79)
الموضعين، وقرىء بالفوقية حملاً على المعنى، والقنوت الطاعة أي يطع.
(منكن لله ورسوله وتعمل صالحاً نؤتها أجرها مرتين) يعني أنه يكون لهن من الأجر على الطاعة مثلاً ما يستحقه غيرهن من النساء إذا فعلن تلك الطاعة وفي هذا دليل قوي على أن معنى يضاعف لها العذاب ضعفين أنه يكون العذاب مرتين لا ثلاثاً، لأن المراد إظهار شرفهن ومرتبتهن في الطاعة والمعصية، يكون حسنتهن كحسنتين وسيئتهن كسيئتين ولو كانت كثلاث سيئات لم يناسب ذلك كون حسنتهن كحسنتين، فإن الله أعدل من أن يضاعف العقوبة عليهن مضاعفة تزيد على مضاعفة أجرهن، قيل الحسنة بعشرين حسنة، وتضعيف ثوابهن لرفع منزلتهن، وفيه إشارة إلى أنهن أشرف نساء العالمين.
(وأعتدنا لها) زيادة على الأجر مرتين (رزقاً كريماً) جليل القدر، قال المفسرون: هو نعيم الجنة، حكى ذلك عنهم النحاس، ثم أظهر سبحانه فضيلتهن على سائر النساء تصريحاً فقال:(11/80)
يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا (32)
(يا نساء النبي لستن كأحد من النساء) قال الزجاج: لم يقل كواحدة من النساء لأن (أحد) لفظ عام للمذكر والمؤنث والواحد والجماعة، وقد يقال على ما ليس بآدمي، كما يقال: ليس فيها أحد لا شاة ولا بعير، والمعنى لستن كجماعة واحدة من جماعات النساء في الفضل والشرف.
قال ابن عباس: يريد ليس قدركن عندي مثل قدر غيركن من النساء الصالحات، أنتن أكرم علي وثوابكن أعظم لدي، ثم قيد هذا الشرف العظيم بقيد فقال:(11/80)
(إن اتقيتن) الله فأطعتنه فإن الأكرم عند الله هو الأتقى، فبين سبحانه أن هذه الفضيلة لهن إنما تكون بملازمتهن للتقوى لا لمجرد اتصالهن بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وقد وقعت منهن ولله الحمد التقوى البينة، والإيمان الخالص، والمشي على طريقة رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته وبعد مماته، وجواب الشرط محذوف لدلالة ما قبله عليه أي إن اتقيتن فلستن كأحد من النساء. وقيل إن جوابه قوله:
(فلا تخضعن بالقول) والأول أولى، والمعنى: لا تُلِن القول عند فخاطبة الناس كما تفعله المريبات من النساء، لا ترققن الكلام قال ابن عباس يقول: لا ترخصن بالقول، ولا تخضعن بالكلام. وعنه قال: مقارنة الرجال بالقول فإنه يتسبب عن ذلك مفسدة عظيمة وهي قوله:
(فيطمع الذي في قلبه مرض) أي فجور وشهوة أو شك وريبة، أو نفاق.
والمعنى لا تقلن قولاً يجد المنافق والفاجر به سبيلاً إلى الطمع فيكن والمرأة مندوبة إلى الغلظة في المقال إذا خاطبت الأجانب لقطع الأطماع فيهن.
(وقلن قولاً معروفاً) عند الناس أي حسناً مع كونه خشناً بعيداً من الريبة على سنن الشرع لا ينكر منه سامعه شيئاًً، ولا يطمع فيكن أهل الفسق والفجور بسببه، أو قولاً يوجبه الإسلام والدين عند الحاجة إليه ببيان من غير خضوع. وقيل: القول المعروف ذكر الله تعالى والأول أولى.(11/81)
وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (33)
وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (33)
(وقرن في بيوتكن) قرأ الجمهور بكسر القاف من وقر يقر وقاراً أي سكن والأمر منه قر بكسر القاف وللنساء قرن مثل عدن وزن، وقال المبرد هو من القرار لا من الوقار؛ تقول قررت بالمكان -بفتح الراء- والأصل اقررن بكسر الراء فحذفت الراء الأولى تخفيفاً كما قالوا في ظللت ظلت، ونقلوا حركتها إلى القاف واستغني عن ألف الوصل بتحريك القاف. وقال أبو علي الفارسي: أبدلت الراء الأولى ياء كراهة التضعيف؛ كما أبدلت في قيراط ودينار وصارت الياء حركة الحرف الذي أبدلت منه، والتقدير: أقيرن ثم تلقى حركة الياء على القاف كراهة تحريك الياء بالكسر فتسقط الياء لاجتماع الساكنين وتسقط همزة الوصل لتحريك ما بعدها فيصير قرن، وقرىء بفتح القاف وأصله قررت بالمكان إذا أقمت فيه بكسر الراء أقر بفتح القاف كحمد يحمد، وهي لغة أهل الحجاز، ذكر ذلك أبو عبيد عن الكسائي، وذكرها الزجاج وغيره.
قال الفراء: هو كما تقول: هل حسست صاحبك أي هل أحسسته، قال أبو عبيد: كان أشياخنا من أهل العربية ينكرون القراءة بالفتح للقاف: وذلك لأن قررت بالمكان أقر لا يجوزه كثير من أهل العربية، والصحيح قررت أقر بالكسر، ومعنى الآية الأمر لهن بالتوقر والسكون في بيوتهن، وأن لا يخرجن.
وهذا يخالف ما ذكرناه هنا عنه عن الكسائي وهو من أجل مشايخه، وقد(11/82)
وافقه على الإنكار لهذه القراءة أبو حاتم فقال: أن قرن بفتح القاف لا مذهب له في كلام العرب قال النحاس: قد خولف أبو حاتم في قوله إنه لا مذهب له في كلام العرب بل فيه مذهبان أحدهما حكاه الكسائي والآخر عن علي بن سليمان، فأما المذهب الذي حكاه الكسائي فهو ما قدمناه من رواية أبي عبيدة عنه وأما المذهب الذي حكاه علي بن سليمان فقال: إنه من قررت به عيناً أقر، وقيل المعنى وأقررن به عيناً في بيوتكن.
قال النحاس: وهو وجه حسن، وأقول ليس بحسن ولا هو معنى الآية، فإن المراد بها أمرهن بالسكون والاستقرار في بيوتهن، وليس من قرة العين أي الزمن بيوتكن، عن محمد بن سيرين قال: نبئت أنه قيل لسودة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - " مالك لا تحجين ولا تعتمرين كما تفعل أخواتك "؟ فقالت " قد حججت واعتمرت وأمرني الله أن أقر في بيتي، فوالله لا أخرج من بيتي حتى أموت " قال: فوالله ما خرجت من باب حجرتها حتى أخرجت جنازتها ".
(ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى) التبرج أن تبدي المرأة من زينتها ومحاسنها ما يجب عليها ستره مما تستدعي به شهوة الرجل، وقد تقدم معنى التبرج في سورة النور، قال المبرد هو مأخوذ من السعة؛ يقال في أسنانه برج إذا كانت متفرقة، والمعنى إظهار الزينة وإبراز المحاسن للرجال. وقيل التبرج هو التغنج والتبختر، والتكسر في المشي، وهذا ضعيف جداً، والأول أولى.
وقد اختلف في المراد بالجاهلية الأولى فقيل ما بين آدم ونوح أو زمن داود وسليمان. وقيل ما بين نوح وإدريس قاله ابن عباس، وكانت ألف سنة وقيل: ما بين نوح وإبراهيم. وقيل ما بين موسى وعيسى أو ما بين عيسى ومحمد قاله ابن عباس. وقيل ما قبل الإسلام والجاهلية الأخرى قوم يفعلون(11/83)
مثل فعلهم في آخر الزمان، أو الأولى جاهلية الكفر والأخرى جاهلية الفسوق، والفجور في الإسلام وقد بين حكمها في قوله تعالى ولا يبدين زينتهن الخ.
وقيل نذكر الأولى وإن لم تكن لها أخرى. وقال المبرد: الجاهلية الأولى كما تقول الجاهلية الجهلاء، قال: وكان نساء الجاهلية يظهرون ما يقبح إظهاره حتى كانت المرأة تجلس مع زوجها وخليلها فيتفرد خليلها بما فوق الإزار إلى أعلى ويتفرد زوجها بما دون الإزار إلى أسفل وربما سأل أحدهما صاحبه البدل.
قال ابن عطية والذي يظهر لي أنه أشار إلى الجاهلية التي لحقنها وأدركنها فأمرن بالنقلة عن سيرتهن فيها، وهي ما كان قبل الشرع من سيرة الكفرة؛ لأنهم كانوا لا غيرة عندهم فكان أمر النساء دون حجبة وجعلها أولى بالنسبة إلى ما كن عليه؛ وليس المعنى أن ثم جاهلية أخرى كذا قال، وهو قول حسن، ويمكن أن يراد بالجاهلية الأخرى ما يقع في الإسلام من التشبه بأهل الجاهلية بقول أو فعل، فيكون المعنى ولا تبرجن أيها المسلمات بعد إسلامكن تبرجاً مثل تبرج أهل الجاهلية التي كنتن عليها، وكان عليها من قبلكن، أي لا تحدثن بأفعالكن وأقوالكن جاهلية تشابه الجاهلية التي كانت من قبل. وعن عائشة قالت: الجاهلية الأولى كانت على عهد إبراهيم كانت المرأة تلبس الدرع من اللؤلؤ فتمشي وسط الطريق تعرض نفسها على الرجال، وكانت عائشة إذا قرأت هذه الآية تبكي حتى يبتل خمارها، رواه مسروق.
(وأقمن الصلاة) الواجبة (وآتين الزكاة) المفروضة (وأطعن الله ورسوله) فيما أمر وفيما نهى، وخص الصلاة والزكاة ثم عمم فأمرهن بالطاعة لله ولرسوله في كل ما هو شرع لأنهما أصل الطاعات البدنية والمالية، ولأن من واظب عليهما جرتاه إلى ما وراءهما.
(إنما يريد الله) أي إنما أوصاكن الله بما أوصاكن من التقوى وأن لا تخضعن بالقول، ومن قول المعروف، والسكون في البيوت، وعدم التبرج(11/84)
وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والطاعة.
(ليذهب عنكم الرجس) والمراد بالرجس الإثم والذنب المدنسان للإعراض الحاصلان بسبب ترك ما أمر الله به، وفعل ما نهى عنه فيدخل في ذلك كل ما ليس فيه رضا الله وقيل: الرجس الشك، وقيل: السوء، وقيل: عمل الشيطان والعموم أولى (أهل البيت) نصبه على النداء أو المدح.
(ويطهركم) من الأرجاس والأدناس (تطهيراً) كاملاً وفي استعارة الرجس للمعصية والترشيح لها بالتطهير تنفير عنها بليغ، وزجر لفاعلها شديد.
وقد اختلف أهل العلم في أهل البيت المذكورين في الآية فقال ابن عباس وعكرمة وعطاء والكلبي ومقاتل وسعيد بن جبير: إن أهل البيت المذكورين في الآية هم زوجات النبي - صلى الله عليه وسلم - خاصة قالوا: والمراد بالبيت بيت النبي - صلى الله عليه وسلم - ومساكن زوجاته، لقوله: (واذكرن ما يتلى في بيوتكن) وأيضاًً السياق في الزوجات من قوله: يا أيها النبي قل لأزواجك إلى قوله لطيفاً خبيراً، وقاله أبو سعيد الخدري ومجاهد وقتادة.
وروي عن الكلبي إن أهل البيت المذكورين في الآية هم علي وفاطمة والحسن والحسين خاصة، ومن حججهم الخطاب في الآية بما يصلح للذكور لا للإناث، وهو قوله عنكم، وليطهركم، ولو كان للنساء خاصة لقال عنكن، وليطهركن، وأجاب الأولون عن هذا بأن التذكير باعتبار لفظ الأهل كما قال سبحانه (أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ)، وكما يقول الرجل لصاحبه: كيف أهلك؟ يريد زوجته أو زوجاته، فيقول هم بخير.
ولنذكر ههنا ما تمسك به كل فريق: أما الأولون فتمسكوا بالسياق فإنه في الزوجات كما ذكرنا، وبما أخرجه ابن أبي حاتم وابن عساكر من طريق عكرمة عن ابن عباس في الآية قال: نزلت في نساء النبي (- صلى الله عليه وسلم -) خاصة. وقال عكرمة(11/85)
من شاء باهلته أنها نزلت في أزواج النبي (- صلى الله عليه وسلم -) وروي هذا عنه بطرق، وأمّا ما تمسك به الآخرون فأخرج الترمذي وصححه، وابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه، وابن مردويه والبيهقي في سننه، من طرق عن أم سلمة قالت: في بيتي نزلت إنما يريد الله الآية، وفي البيت فاطمة وعلي والحسن والحسين فجللهم رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) بكساء كان عليه، ثم قال: هؤلاء أهل بيتي فاذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه عن أم سلمة أيضاًً أن النبي (- صلى الله عليه وسلم -) كان في بيتها على منامة له عليه كساء خيبري فجاءت فاطمة ببرمة فيها خزيرة فقال رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) ادعي زوجك وابنيك حسناً وحسيناً فدعتهم، فبينما هم يأكلون إذ نزلت على النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً فأخذ النبي (- صلى الله عليه وسلم -) بفضلة كسائه فغشاهم إياها ثم أخرج يده من الكساء وألوى بها إلى السماء ثم قال: اللهم هؤلاء أهل بيتي وخاصتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً قالها ثلاث مرات، قالت أم سلمة فأدخلت رأسي في الستر فقلت يا رسول الله وأنا معكم؟ فقال: إنك إلي خير مرتين وأخرجه أحمد أيضاًً من حديثها وفي إسناده مجهول وهو شيخ عطاء وبقية رجاله ثقات، وقد أخرجه الطبراني عنها من طريقين بنحوه.
وقد ذكر ابن كثير في تفسيره لحديث أم سلمة طرقاً كثيرة في مسند أحمد وغيره، وأخرج ابن مردويه والخطيب من حديث أبي سعيد الخدري نحوه وأخرج الترمذي وابن جرير والطبراني وابن مردويه عن عمر ابن أبي سلمة ربيب النبي (- صلى الله عليه وسلم -) قال لما نزلت هذه الآية على النبي (- صلى الله عليه وسلم -) وذكر نحو حديث أم سلمة.
وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد ومسلم وابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم(11/86)
عن عائشة قالت خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - غداة وعليه مرط مرحل من شعر أسود فجاء الحسن والحسين فأدخلهما معه ثم جاءت فاطمة فأدخلها معه، ثم جاء علي فأدخله معه ثم قال: إنما يريد الله الآية.
وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم وصححه والبيهقي في سننه عن وائلة ابن الأسقع قال: جاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى فاطمة ومعه علي وحسن وحسين حتى دخل فأدنى علياً وفاطمة وأجلسهما بين يديه، وأجلسن حسناً وحسيناً كل واحد منهما على فخذه ثم لف عليهم ثوبه وأنا مستدبرهم، ثم تلا هذه الآية وقال: اللهم هؤلاء أهل بيتي اللهم أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً قلت: يا رسول الله وأنا من أهلك؟ قال. وأنت من أهلي، قال وائلة: إنه لأرجى ما أرجوه. وله طرق في مسند أحمد.
وأخرج ابن أبي شيبه وأحمد والترمذي وحسنه وابن جرير وابن المنذر والطبراني والحاكم وصححه وابن مردويه عن أنس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يمر بباب فاطمة إذا خرج إلى صلاة الفجر يقول: الصلاة يا أهل البيت الصلاة، إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس، ويطهركم تطهيراً.
وأخرج مسلم عن زيد بن أرقم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال أذكركم الله في أهل بيتي فقيل لزيد: ومن أهل بيته؟ أليس نساؤه من أهل بيته؟ قال: نساؤه من أهل بيته، ولكن أهل بيته من حرم عليهم الصدقة بعده، آل علي وآل عقيل، وآل جعفر، وآل عباس.
وأخرج الحكيم الترمذي والطبراني وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن الله قسم الخلق قسمين فجعلني في خيرهما قسماً، فذلك قوله: وأصحاب اليمين وأصحاب الشمال، فأنا من أصحاب اليمين؛ وأنا خير أصحاب اليمين، ثم جعل القسمين أثلاثاً(11/87)
فجعلني في خيرها ثلثاً فذلك قوله (فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ) (وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ) (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ) فأنا من السابقين وأنا خير السابقين ثم جعل الأثلاث قبائل فجعلني في خيرها قبيلة وذلك قوله (وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ)، وأنا أتقى ولد آدم وأكرمهم على الله ولا فخر، ثم جعل القبائل بيوتاً فجعلني في خيرها بيتاً فذلك قوله: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا) فأنا وأهل بيتي مطهرون من الذنوب.
وأخرج ابن جرير وابن مردويه عن أبي الحمراء قال: رابطت المدينة سبعة أشهر على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا طلع الفجر جاء إلى باب علي وفاطمة فقال: الصلاة الصلاة إنما يريد الله الآية وفي إسناده أبو داود الأعمى وهو وضاع كذاب، وفي الباب أحاديث وآثار، وقد ذكرنا ههنا ما يصلح للتمسك دون ما لا يصلح، وقد توسطت طائفة ثالثة بين الطائفتين فجعلت هذه الآية شاملة للزوجات ولعلي وفاطمة والحسن والحسين، أما الزوجات فلكَونهن المرادات في سياق هذه الآيات كما قدمنا، ولكونهنَ الساكنات في بيوته (- صلى الله عليه وسلم -) النازلات في منازله، ويعضد ذلك ما تقدم عن ابن عباس وغيره، وأما دخول علي وفاطمة والحسن والحسين فلكونهم قرابته وأهل بيته في النسب، ويؤيد ذلك ما ذكرناه من الأحاديث المصرحة بأنهم سبب النزول، فمن جعل الآية خاصة بأحد الفريقين أعمل بعض ما يجب إعماله وأهمل ما لا يجوز إهماله، وقد رجح هذا القول جماعة من المحققين منهم القرطبي وابن كثير وغيرهما.
وقال جماعة: هم بنو هاشم واستدلوا بما تقدم من حديث ابن عباس، ويقول زيد بن أرقم المتقدم حيث قال: ولكن آله من حرم الصدقة بعده: آل علي وآل عقيل وآل جعفر وآل عباس، فهؤلاء ذهبوا إلى أن المراد بالبيت بيت النسب.(11/88)
وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا (34) إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (35)(11/89)
وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا (34)
(واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة) أي اذكرن موضع النعمة إذ صيركن الله في بيوت تتلى فيها آيات الله والحكمة أو اذكرنها وتفكرن فيها لتتعظن بمواعظ الله أو اذكرنها للناس ليتعظوا بها ويهتدوا بهداها، أو اذكرنها بالتلاوة لها لتحفظنها ولا تتركن الاستكثار من التلاوة، قال القرطبي: قال أهل التأويل؛ آيات الله هي القرآن، والحكمة السنة، وقال مقاتل المراد بالآيات والحكمة أمره ونهيه في القرآن.
وقيل: إن القرآن جامع بين كونه آيات بينات دالة على التوحيد، وصدق النبوة، وبين كونه حكمة مشتملة على فنون من العلوم والشرائع. وقال قتادة في الآية القرآن والسنة يمنن بذلك عليهن.
وأخرج ابن سعد عن أبي أمامة بن سهل في الآية قال كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي في بيوت أزواجه النوافل بالليل والنهار.(11/89)
(إن الله كان لطيفاً)، بأوليائه (خبيراً) بجميع خلقه وجميع ما يصدر منهم من خير وشر وطاعة ومعصية فهو يجازي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته.(11/90)
إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (35)
(إن المسلمين والمسلمات) بدأ سبحانه بذكر الإسلام الذي هو مجرد الدخول في الدين والانقياد له مع العمل، كما ثبت في الحديث الصحيح إن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما سأله جبريل عن الإسلام قال: هو أن تشهد أن لا إله إلا الله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتحج البيت وتصوم رمضان، ثم عطف على المسلمين المسلمات تشريفاً لهن بالذكر وهكذا فيما بعد إن كن داخلات في لفظ المسلمين والمؤمنين ونحو ذلك، والتذكير إنما هو لتغليب الذكور على الإناث كما في جميع ما ورد في الكتاب العزيز من ذلك، ثم ذكر:
(والمؤمنين والمؤمنات) وهم من يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله والقدر خيره وشره كما ثبت ذلك في الصحيح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (والقانتين والقانتات) القانت المطيع العابد، وكذا القانتة، وقيل المداومين على العبادة والطاعة.
(والصادقين والصادقات) هما من يتكلم بالصدق ويتجنب الكذب ويفي بما عوهد عليه.
(والصابرين والصابرات) هما من يصبر عن الشهوات وعلى مشاق التكليف.
(والخاشعين والخاشعات) أي المتواضعين لله الخائفين منه الخاضعين في عبادتهم لله.(11/90)
(والمتصدقين والمتصدقات) هما من تصدق من ماله بما أوجبه الله عليه، وقيل ذلك أعم من صدقة الفرض والنفل.
(والصائمين والصائمات) قيل: ذلك مختص بالفرض، وقيل هو أعم.
(والحافظين فروجهم والحافظات) فروجهن عن الحرام بالتعفف والتنزه والاقتصار على الحلال.
(والذاكرين الله كثيراً والذاكرات) الله كثيراً هما من يذكر الله على جميع أحواله، وفي ذكر الكثرة دليل على مشروعية الاستكثار من ذكر الله سبحانه بالقلب واللسان والخبر لجميع ما تقدم هو قوله:
(أعد الله لهم مغفرة) لذنوبهم التي أذنبوها (وأجراً عظيماً على طاعاتهم التي فعلوها من الإسلام والإيمان والقنوت والصدق والصبر والخشوع والتصدق والصوم والعفاف والذكر، ووصف الأجر بالعظيم للدلالة على أنه بالغ غاية المبالغ، ولا شيء أعظم من أجر هو الجنة ونعيمها الدائم الذي لا ينقطع ولا ينفد اللهم اغفر ذنوبنا وأعظم أجورنا.
وقد أخرج أحمد والنسائي وابن جرير وابن المنذر والطبراني وابن مردويه عن أم سلمة قالت: قلت يا رسول الله فما لنا لا نذكر في القرآن كما تذكر الرجال فلم يرعني منه ذات يوم إلا نداؤه على المنبر وهو يقول: " إن الله يقول إن المسلمين والمسلمات الآية وأخرج عبد بن حميد والترمذي وحسنه والطبراني عن أم عمارة الأنصارية أنها أتت النبي (- صلى الله عليه وسلم -) فقالت ما أرى كل شيء إلا للرجال وما أرى النساء يذكرن بشيء فنزلت هذه الآية، وعن ابن عباس قال: قالت النساء يا رسول الله ما باله يذكر المؤمنين ولا يذكر المؤمنات فنزلت هذه الآية أخرجه الطبراني وابن جرير وابن مردويه بإسناد، قال السيوطي: حسن.(11/91)
وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا (36)
وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا (36)
(وَمَا كَانَ) أي ما صح وما استقام (لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ) قال القرطبي: لفظ ما كان وما ينبغي ونحوهما معناها الحظر والمنع من الشيء والإخبار بأنه لا يحل شرعاً أن يكون، وقد يكون لما يمتنع عقلاً كقوله: (مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا)، ومعنى الآية: أنه لا يحل لمن يؤمن بالله -إذا قضى الله أمراً- أن يختار من أمر نفسه ما شاء، بل يجب عليه أن يذعن للقضاء ويوقف نفسه تحت ما قضاه الله عليه، واختاره له، ويجعل رأيه تبعاً لرأيه. وجمع الضمير في قوله لهم ومن أمرهم؛ لأن مؤمناً ومؤمنة وقعا في سياق النفي، فهما يعمان كل مؤمن ومؤمنة، قرىء أن يكون بالتحتية؛ لأنه قد فرق بين الفعل وفاعله المؤنث بقوله: لهم مع كون التأنيث غير حقيقي، وقرىء بالفوقية لكونه مسنداً إلى الخيرة وهي مؤنثة لفظاً والخيرة مصدر بمعنى الاختيار، ودل ذلك على أن الأمر للوجوب، وقرىء بسكون التحتية وبتحريكها، ثم توعد سبحانه من لم يذعن لقضاء الله وقدره فقال:
(ومن يعص الله ورسوله) في أمر من الأمور ومن ذلك عدم الرضاء بالقضاء (فقد ضل ضلالاً مبيناً) أي ضل عن طريق الحق ضلالاً ظاهراً واضحاً لا يخفى. فإن كان العصيان عصيان رد وامتناع عن القبول فهو ضلال كفر، وإن كان عصيان فعل مع قبول الأمر واعتقاد الوجوب فهو ضلال خطأ وفسق.
عن ابن عباس قال: " إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - انطلق ليخطب على فتاه زيد بن حارثة فدخل على زينب بنت جحش الأسدية فخطبها. قالت: لست بناكحته(11/92)
قال: بلى فانكحيه. قالت: يا رسول الله أؤامر نفسي؛ فبينما هما يتحدثان أنزل الله هذه الآية على رسوله. قالت: قد رضيته لي يا رسول الله منكحاً، قال: نعم قالت: إذن لا أعصي رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) قد أنكحته نفسي " أخرجه ابن جرير وابن مردويه، وعنه قال: قال رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) لزينب: إني أريد أن أزوجك زيد بن حارثة فإني قد رضيته لك. قالت: يا رسول الله لكني لا أرضاه لنفسي، وأنا أيّم قومي، وبنت عمتك، فلم أكن لأفعل فنزلت هذه الآية: (وما كان لمؤمن) يعني: زيداً (ولا مؤمنة) يعني زينب (إذا قضى الله ورسوله أمراً) يعني النكاح في هذا الموضع (أن تكون لهم الخيرة من أمرهم)، يقول: ليس لهم الخيرة من أمرهم خلاف ما أمر الله به، قالت: قد أطعتك فاصنع ما شئت، فزوجها زيداً ودخل عليها أخرجه ابن مردويه.
وعن ابن زيد قال: نزلت في أم كلثوم بنت عقب بن أبي معيط وكانت أول امرأة هاجرت فوهبت نفسها للنبي (- صلى الله عليه وسلم -) فزوجها زيد بن حارثة فسخطت هي وأخوها وقالا: إنما أردنا رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) فزوجها عبده، وكان تزوج زيد بزينب قبل الهجرة بنحو ثمان سنين، وبعد ما طلق زيد زينب زوجه (- صلى الله عليه وسلم -) أم كلثوم بنت عقب: بن أبي معيط وكانت وهبت نفسها للنبي (- صلى الله عليه وسلم -) فزوجها من زيد، وكان زوجه قبلها أم أيمن وولدت له أسامة، وكانت ولادته بعد البعثة بثلاث سنين، وقيل بخمس، وفي شرح المواهب أن أم أيمن، هي بركة الحبشية بنت ثعلبة أعتقها عبد الله أبو النبي (- صلى الله عليه وسلم -)، وقيل بل اعتقها هو (- صلى الله عليه وسلم -) وقيل: كانت لأمه أسلمت قديماً وهاجرت الهجرتين ماتت بعده (- صلى الله عليه وسلم -) بخمسة أشهر، وقيل بستة، ودلت الآية على لزوم اتباع قضاء الكتاب والسنة، وذم التقليد والرأي، وعدم خيرة الأمر في مقابلة النص من الله ورسوله (- صلى الله عليه وسلم -) وإن كان السبب خاصاً فإن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
لما زوج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زيد بن حارثة بزينب بنت جحش كما مر أنزل الله سبحانه:(11/93)
وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (37) مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا (38)(11/94)
وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (37)
(وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ) هو زيد بن حارثة أنعم الله عليه بالإسلام وأنعم عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأن أعتقه من الرق، وكان من سبي الجاهلية اشتراه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الجاهلية وأعتقه وتبناه، وسيأتي في سبب نزول الآية ما يوضح المراد منها. قال القرطبي: وقد اختلف في تأويل هذه الآية فذهب قتادة وابن زيد وجماعة من المفسرين منهم ابن جرير والطبري وغيره: إلى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقع منه استحسان لزينب بنت جحش، وهي في عصمة زيد وكان حريصاً على أن يطلقها زيد. فيتزوجها هو.
ثم إن زيداً لما أخبره بأنه يريد فراقها وشكا منها غلظة القول وعصيان الأمر والأذى باللسان والتعظم بالشرف قال له: اتق الله فيما تقول عنها وأمسك عليك زوجك زينب، وهو يخفي الحرص على طلاق زيد إياها. وهذا الذي كان يخفي في نفسه ولكنه فعل ما يجب عليه من الأمر بالمعروف. قال علماؤنا رحمهم الله: وهذا القول أحسن ما قيل في هذه الآية وهو الذي عليه أهل التحقيق من المفسرين والعلماء الراسخين كالزهري والقاضي أبي بكر بن العلاء القشيري والقاضي أبي بكر بن العربي وغيرهم، انتهى ما قاله القرطبي ملخصاً.
(واتق الله) في أمرها ولا تعجل بطلاقها (وتخفي) الواو للحال أي والحال أنك تخفي (في نفسك ما الله مبديه) هو نكاحها إن طلقها زيد،(11/94)
وقيل: حبها.
(وتخشى الناس) أي تستحييهم أو تخاف من تعييرهم أن يقولوا: أمر مولاه بطلاق امرأته ثم تزوجها (وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ) في كل حال وتخاف منه وتستحييه ولا تأمر زيداً بإمساكه زوجته بعد أن أعلمك الله أنها تكون زوجتك فعاتبه الله على هذا، قال بعضهم: وما ذكروه في تفسير هذه الآية من وقوع محبتها في قلب النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإرادته طلاق زيد لها فيه أعظم الحرج، وما لا يليق بمنصبه - صلى الله عليه وسلم - وإقدام عظيم من قائله وقلة معرفة بحق النبي (- صلى الله عليه وسلم -) وبفضله، وكيف يقال: رآها فأعجبته وهي بنت عمته ولم يزل يراها منذ ولدت ولا كانت النساء يحتجبن منه - صلى الله عليه وسلم - وهو زوجها لزيد، فلا يشك في تنزيه النبي (- صلى الله عليه وسلم -) عن أن يأمر زيداً بإمساكها وهو يحب تطليقه إياها قال: وأصح ما في هذا الباب ما قاله علي ابن الحسين: إن الله قد أعلمه أنها ستكون من أزواجه، وإن زيداً سيطلقها؛ فلما جاء زيد وقال: إني أريد أن أطلقها، قال له: أمسك عليك زوجك، فعاتبه الله تعالى، وقال: لم قلت أمسك عليك زوجك؟ وقد أعلمتك أنها ستكون زوجتك.
قال الخطيب: وهذا هو الأولى والأليق بحال الأنبياء وهو مطابق للتلاوة، لأن الله تعالى أعلم أنه يبدي ويظهر ما أخفاه، ولم يظهر غير تزويجها منه، فقال تعالى: زوجناكها. فلو كان الذي أضمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - محبتها أو إرادة طلاقها لكان يظهر ذلك؛ لأنه لا يجوز أن يخبر الله أنه يظهره، ثم يكتمه فلا يظهره، فدل على أنه إنما عوتب على إخفاء ما أعلمه الله من أنها ستكون زوجته، وإنما ذلك استحياء أن يخبر زيداً أن التي تحتك وفي نكاحك ستكون زوجتي.
قال الكرخي: وهذا القول هو المنصور المعول عليه عند الجمهور.
وقال البغوي: وهذا هو الأولى، وإن كان الآخر -وهو أنه أخفى محبتها أو نكاحها لو طلقها- لا يقدح في حال الأنبياء، لأن العبد غير ملوم على ما يقع في قلبه من مثل هذه الأشياء، ما لم يقصد فيه المأثم لأن الود وميل النفس من طبع البشر انتهى. ولهذا قال ابن عباس: كان في قلبه حبها. وقال قتادة: ود أنه لو(11/95)
طلقها زيد. قال الخازن: وهذا قول حسن مرضي، وكم من شيء يتحفظ منه الإنسان ويستحي من اطلاع الناس عليه وهو في نفسه مباح متسع، وحلال مطلق، لا مقال فيه ولا عيب عند الله، وربما كان الدخول في ذلك المباح سلّماً إلى حصول واجبات يعظم أثرها في الدين، وهو إنما جعل طلاق زيد لها وتزويج النبي - صلى الله عليه وسلم - إياها؛ لإزالة حرمة التبني وإبطال سنته كما قال تعالى: (لكيلا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم).
(فلما قضى زيد منها وطراً) قضاء الوطر في اللغة بلوغ منتهى ما في النفس من الشيء يقال قضى وطراً منه إذا بلغ ما أراد من حاجته فيه، والمراد هنا أنه قضى وطره منها بنكاحها والدخول بها بحيث لم يبق له فيها حاجة، وتقاصرت عنه همته وطابت عنها نفسه. وقيل المراد به الطلاق لأن الرجل إنما يطلق امرأته إذا لم يبق له فيها حاجة. وقال المبرد: الوطر الشهوة والمحبة.
وقال أبو عبيدة الوطر الأرب والحاجة. قال الإمام أبو القاسم عبد الرحمن السهيلي: كان يقال زيد بن محمد: حتى نزل " أدعوهم لآبائهم " فقال: أنا زيد بن حارثة وحرم عليه أنا زيد بن محمد: فلما نزع هذا الشرف وهذا الفخر منه، وعلم الله وحشته من ذلك شرفه بخصيصة لم يكن يختص بها أحد من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو أنه سمّاه في القرآن أي في هذه الآية، فذكره الله تعالى باسمه في الذكر الحكيم، حتى صار اسمه قرآناً يتلى في المحاريب، ونوه به غاية التنويه، فكان في هذا تأنيس له وعوض من الفخر بأبوة محمد - صلى الله عليه وسلم -، ألا ترى إلى قول أُبي بن كعب؟ حين قال له النبي (- صلى الله عليه وسلم -) " إن الله أمرني أن أقرأ عليك سورة كذا فبكى " وقال: أذكرت هنالك، وكان بكاؤه من الفرح - حيث إن الله تعالى ذكره فكيف بمن صار اسمه قرآناً يتلى مخلداً لا يبلى؟ يتلوه أهل الدنيا إذا قرأوا القرآن، وأهل الجنة كذلك أبداً لا يزال على ألسنة المؤمنين، كما لم يزل مذكوراً على الخصوص عند رب العالمين، إذ القرآن كلام الله القديم، وهو باق لا يبيد. فاسم زيد في الصحف المكرمة المرفوعة المطهرة يذكره في تلاوتهم السفرة الكرام البررة، وليس ذلك لاسم من اسماء المؤمنين إلا لنبي من(11/96)
الأنبياء ولزيد بن حارثة تعويضاً من الله له مما نزع منه، وزاد في الآية أن قال: (وإذ تقول للذي أنعم الله عليه) أي بالإيمان فدل على أنه من أهل الجنة علم ذلك قبل أن يموت وهذه فضيلة أخرى رضي الله تعالى عنه انتهى.
(زوجناكها) وقرىء زوجتكها، يعني ولم نحوجك إلا ولي من الخلق يعقد لك عليها تشريفاً لك ولها، فلما أعلمه الله بذلك دخل عليها بغير إذن ولا عقد ولا تقدير صداق ولا شيء مما هو معتبر في النكاح في حق أمته، وهذا من خصوصياته (صلى الله عليه وسلم) التي لا يشاركه فيها أحد بإجماع المسلمين، وكان تزوجه بزينب سنة خمس من الهجرة.
وقيل سنة ثلاث. وهي أول من مات بعده من زوجاته الشريفات المطهرات ماتت بعده بعشر سنين عن ثلاث وخمسين سنة، وقيل المراد به الأمر له بأن يتزوجها والأول أولى وبه جاءت الأخبار الصحيحة.
وقد أخرج أحمد والبخاري والترمذي وغيرهم عن أنس قال: " جاء زيد ابن حارثة يشكو زينب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: اتق الله وأمسك عليك زوجك، فنزلت: وتخفي في نفسك ما الله مبديه فتزوجها رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، فما أوْلَم على امرأة من نسائه ما أوْلَم عليها؛ ذبح شاة وأطعم الناس خبزاً ولحماً حتى تركوه، فكانت تفتخر على أزواج النبي (صلى الله عليه وسلم) تقول زوجكن أهاليكن وزوجني الله من فوق سبع سموات، وكانت تقول لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) جدي وجدك واحد، وليس من نسائك من هي كذلك غيري، وقد أنكحنيك الله والسفير في ذلك جبريل " قاله الخازن.
وقال عمر وابن مسعود ما نزلت على رسول الله (صلى الله عليه وسلم) آية هي أشد عليه من هذه الآية. وقال أنس: فلو كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) كاتماً شيئاًً لكتم هذه الآية، وكذا روي عن عائشة.(11/97)
(لكيلا يكون على المؤمنين حرج) أي ضيق ومشقة؛ علة للتزويج، وهو دليل على أن حكمه وحكم الأمة واحد إلا ما خصه الدليل (في أزواج أدعيائهم) أي في التزوج بأزواج من يجعلونه ابناً كما كانت تفعله العرب فإنهم كانوا يتبنون من يريدون، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد تبنى زيد بن حارثة وكان يقال له زيد بن محمد حتى نزول قوله سبحانه (أدعوهم لأبائهم)، وكانت العرب تعتقد أنه يحرم عليهم نساء من تبنوه كما يحرم عليهم نساء أبنائهم حقيقة، والأدعياء جمع دعي؛ وهو الذي يدعى ابناً من غير أن يكون ابناً على الحقيقة، فأخبرهم الله أن نساء الأدعياء حلال لهم.
(إذا قضوا منهن وطراً) بخلاف ابن الصلب فإن امرأته تحرم على أبيه بنفس العقد عليها.
(وكان أمر الله مفعولاً) أي قضاؤه في أمر زينب أن يتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم قضاء ماضياً موجوداً في الخارج لا محالة.
وعن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما تزوج زينب قالوا تزوج حليلة ابنه، فأنزل الله: (ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين). وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم تبناه وهو صغير، فلبث حتى صار رجلاً يقال له: زيد بن محمد؛ فأنزل الله (أدعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله) يعني أعدل أخرجه الترمذي وصححه وابن جرير وابن المنذر والطبراني وغيرهم.
وأخرج أحمد ومسلم والنسائي وغيرهم عن أنس قال: لما انقضت عدة زينب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لزيد: اذهب فاذكرها، عليّ فانطلق. قال: فلما رأيتها عظمت في صدري؛ فقلت: يا زينب أبشري. أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرك. قالت: ما أنا بصانعة شيئاًً حتى أُؤآمر ربي. فقامت إلى مسجدها، ونزل القران، وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودخل عليها بغير إذن، ولقد رأيتنا حين دخلت على رسول الله(11/98)
صلى الله عليه وسلم؛ أطعمنا الخبز واللحم، فخرج الناس وبقي رجال يتحدثون في البيت بعد الطعام؛ فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم واتبعته فجعل يتتبع حجر نسائه يسلم عليهن، ويقلن يا رسول الله كيف وجدت أهلك؛ فما أدري أنا أخبرته أن القوم قد خرجوا أو أخبر، فانطلق حتى دخل البيت فذهبت أدخل معه فألقى الستر بيني وبينه، ونزل الحجاب ووعظ القوم بما وعظوا: (لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم) الآية، ثم بينّ سبحانه أنه لم يكن على رسول الله صلى الله عليه وسلم حرج في هذا النكاح فقال:(11/99)
مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا (38)
(ما كان على النبي من حرج فيما فرض الله له) أي فيما أحل الله له وقدره وقضاه، يقال: فرض له كذا أي قدر له (سنة الله) أي سن الله ذلك سنة، أو اسم وضع موضع المصدر؛ قاله الزمخشري أو مصدر كصنع الله ووعد الله.
(في الذين خلوا من قبل) أي أن هذا هو السنن الأقوم في الأنبياء والأمم الماضية أن ينالوا ما أحله الله لهم من أمر النكاح وغيره، توسعة عليهم، فكان لهم الحرائر والسراري. عن كعب القرظي قال: يعني يتزوج من النساء ما شاء هذا فريضة، وكان من قبل من الأنبياء هذا سنتهم، قد كان لسليمان بن داود ألف امرأة منها ثلثمائة سرية، وكان لداود مائة امرأة. وقال ابن جريج: الذين خلوا هم داود والمرأة التي نكح زوجها واسمها: اليسية؛ فذلك سنة في محمد وزينب.
(وكان أمر الله قدراً مقدوراً) أي قضاء مقضياً، وحكماً مبتوتاً، وهو كظل ظليل وليل أليل وروض أريض في قصد التأكيد، والقضاء: الإرادة الأزلية المتعلقة بالأشياء على ما هي عليه، والقدر عبارة عن إيجاده إياها على تقدير مخصوص معين، لكن كلاً منهما يستعمل بمعنى الآخر، فالمراد إيجاد ما تعلقت به الإرادة قاله الشهاب، ثم ذكر سبحانه الأنبياء الماضين وأثنى عليهم فقال:(11/99)
الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (39) مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (40) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (42)(11/100)
الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (39)
(الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه) مدحهم سبحانه بتبليغ ما أرسلهم به إلى عباده وخشيته في كل فعل وقول (ولا يخشون أحداً إلا الله) أي سواه ولا يبالون بقول الناس ولا بتعييرهم فيما أحل الله لهم، بل خشيتهم مقصورة على الله سبحانه.
(وكفى بالله حسيباً) حاضراً في كل مكان، حافظاً لأعمال خلقه يكفي عباده كل ما يخافونه أو محاسباً لهم في كل شيء، ولما تزوج - صلى الله عليه وسلم - زينب قال الناس امرأة ابنه فأنزل الله:(11/100)
مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (40)
(ما كان محمد أبا أحد من رجالكم) أي ليس هو - صلى الله عليه وسلم - بأب لزيد بن حارثة على الحقيقة حتى تحرم عليه زوجته، ولا هو أب لأحد لم يلده، قال الواحدي: قال المفسرون لم يكن أبا أحد لم يلده، وقد ولد له من الذكور إبراهيم، والقاسم، والطيب والمطهر. قال القرطبي: ولكن لم يعش له ابن حتى يصير رجلاً، قال وأما الحسن والحسين فكانا طفلين ولم يكونا رجلين معاصرين له. قال النسفي: وكل رسول أبو أمته فيما يرجع إلى وجوب التوقير والتعظيم له عليهم، ووجوب الشفقة والنصيحة لهم عليه لا في سائر الأحكام الثابتة بين الآباء والأبناء، وزيد واحد من رجالكم الذين ليسوا بأولاده حقيقة، فكان حكمه كحكمهم، والتبني من باب الاختصاص والتقريب لا غير.
(ولكن رسول الله) قال الأخفش والفراء: ولكن كان رسول الله، وأجاز الرفع وكذا قرأ ابن أبي عبلة بالرفع في رسول وفي خاتم على معنى: ولكن هو رسول الله.(11/100)
(وخاتم النبيين) وقرأ الجمهور بتخفيف لكن ونصب رسول وخاتم ووجه النصب على خبرية كان المقدرة كما تقدم، ويجوز أن يكون بالعطف على (أبا أحد) قرىء بتشديد (لكن)، ونصب رسول، على أنه اسمها، وخبرها محذوف أي ولكن رسول الله هو، وقرأ الجمهور: وخاتم بكسر التاء، وقرىء بفتحها ومعنى الأولى أنه ختمهم أي جاء آخرهم ومعنى الثانية أنه صار كالخاتم لهم الذي يختمون به ويتزينون بكونه منهم، وقيل: كسر التاء وفتحها لغتان، قال أبو عبيدة: الوجه الكسر لأن التأويل أنه ختمهم، فهو خاتمهم، وأنه قال: أنا خاتم النبيين وخاتم الشيء آخره، ومنه قولهم: خاتمه المسك.
وقال الحسن: الخاتم هو الذي ختم به، والمعنى: ختم الله به النبوة فلا نبوة بعده ولا معه. قال ابن عباس: يريد لو لم أختم به النبيين لجعلت له ابناً يكون بعده نبياً، وعنه أن الله لما حكم أن لا نبي بعده؛ لم يعطه ولداً ذكراً يصير رجلاً، وعيسى ممن نبىء قبله: وحين ينزل ينزل عاملاً على شريعة محمد - صلى الله عليه وسلم - كأنه بعض أمته.
(وكان الله بكل شيء عليماً) قد أحاط علمه بكل شيء، ومن جملة معلوماته هذه الأحكام التي ذكرت هنا. أخرج أحمد ومسلم عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " مثلي ومثل النبيين كمثل رجل بنى داراً فانتهى إلى لبنة واحدة فجئت أنا فأتممت تلك اللبنة ".
وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن جابر قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: مثلي ومثل الأنبياء كمثل رجل ابتنى داراً فأكملها وأحسنها إلا موضع لبنة؛ فكان من دخلها فنظر إليها قال ما أحسنها إلا موضع اللبنة فأنا موضع اللبنة حتى ختم بي الأنبياء ".
وأخرج الشيخان من حديث أبي هريرة نحوه.(11/101)
وأخرج أحمد والترمذي وصححه، من حديث أبي ابن كعب نحوه أيضاًً.(11/102)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41)
(يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكراً كثيراً) أمر سبحانه عباده بأن يستكثروا من ذكره بالتهليل والتحميد والتسبيح وكل ما هو ذكر لله تعالى، قال مجاهد: هو أن لا ينساه أبداً، وقال الكلبي: ويقال ذكراً كثيراً بالصلوات الخمس، وقال مقاتل: هو التسبيح والتحميد والتهليل والتكبير على كل حال، وقال ابن عباس في الآية لم يفرض على عباده فريضة إلا جعل لها أجلاً معلوماً، ثم عذر أهلها في حال العذر غير الذكر، فإن الله لم يجعل له حداً ينتهي إليه ولم يعذر أحداً في تركه إلا مغلوباً على عقله؛ فقال: (اذكروا الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبكم) بالليل والنهار، في البر والبحر، في السفر والحضر، في الغنى والفقر، في الصحة والسقم، في السر والعلانية وعلى كل حال، وقد ورد في فضل الذكر والاستكثار منه أحاديث كثيرة.
وقد صنف في الأذكار المتعلقة بالليل والنهار جماعة من الأئمة كالنسائي والنووي والجزري وغيرهم، وقد نطقت الآيات القرآنية بفضل الذاكرين وفضيلة الذكر، ولذكر الله أكبر، وقد ورد أنه أفضل من الجهاد كما في حديث أبي سعيد الخدري عند أحمد والترمذي والبيهقي: " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل أي العباد أفضل درجة عند الله يوم القيامة؟ قال: الذاكرون الله كثيراً. قلت: يا رسول الله ومن الغازين في سبيل الله؟ قال: لو ضرب بسيفه في الكفار والمشركين حتى يتكسر ويتخضب دماً لكان الذاكرون أفضل منه درجة، وأخرج أحمد عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم، وأرفعها في درجاتكم، وخير لكم من إعطاء الذهب والورق، وخير لكم من أن تلقوا أعداءكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟ قالوا وما هو يا رسول الله؟ قال: ذكر الله عز وجل وأخرجه أيضاًً الترمذي وابن ماجة.
وفي صحيح مسلم وغيره من حديث أبي هريرة قال: قال رسول(11/102)
الله - صلى الله عليه وسلم - سبق المفردون. قالوا: وما المفردون يا رسول الله؟ قال: الذاكرون الله كثيراً والذاكرات.
وأخرج أحمد وأبو يعلى وابن حبان والحاكم وصححه، والبيهقي عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) قال: أكثروا ذكر الله حتى يقولوا مجنون وأخرج الطبراني عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أذكروا الله حتى يقول المنافقون إنكم مراؤون.(11/103)
وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (42)
(وسبحوه بكرة وأصيلاً) أي نزهوه عما لا يليق به في وقت البكرة ووقت الأصيل، وهما أول النهار وآخره، وتخصيصهما بالذكر لمزيد ثواب التسبيح فيهما، وخص التسبيح بالذكر بعد دخوله تحت عموم قوله: اذكروا الله تنبيهاً على مزيد شرفه وأنافة ثوابه على غيره من الأذكار، وقيل المراد بالتسبيح بكرة: فصلاة الفجر، وبالتسبيح أصيلاً صلاة المغرب، وقال قتادة وابن جرير: المراد صلاة الغداة وصلاة العصر، وقال الكلبي: أما بكرة فصلاة الفجر، وأما أصيلاً: فصلاة الظهر والعصر والمغرب والعشاء.
قال المبرد: والأصيل العشي، وجمعه أصائل، وقد ورد في فضل التسبيح بخصوصه أحاديث ثابتة في الصحيحين وغيرهما، فمن ذلك حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من قال في يوم مائة مرة سبحان الله وبحمده حطت خطاياه ولو كانت مثل زبد البحر ".
وأخرج أحمد ومسلم والترمذي وغيرهم عن سعد بن أبي وقاص قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقال لنا: أيعجز أحدكم أن يكتسب كل يوم ألف حسنة. فقال رجل: كيف يكتسب أحدنا ألف حسنة؟. قال: يسبح الله مائة تسبيحة، فيكتب له ألف حسنة، ويحط عنه ألف خطيئة وقيل معنى سبحوه قولوا: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله. زاد في نسخة: العلي العظيم؛ فعبر بالتسبيح عن أخواته. والمراد بقوله: كثيراً هذه الكلمات يقولها الطاهر، والجنب، والحائض، والمحدث.(11/103)
هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا (43) تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا (44) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا (46) وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا (47) وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (48)(11/104)
هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا (43)
(هو الذي يصلي عليكم وملائكته) الصلاة من الله على العباد رحمة لهم وبركةٌ عليهم، ومن الملائكة الدعاء لهم والاستغفار كما قال: (ويستغفرون للذين آمنوا) قال مقاتل بن سليمان ومقاتل بن حيان: المعنى ويأمر ملائكته بالاستغفار لكم، والجملة مستأنفة كالتعليل لما قبلها من الأمر بالذكر والتسبيح. وقيل: الصلاة من الله على العبد هي إشاعة الذكر الجميل في عباده، وقيل الثناء عليه، وعطف ملائكته على الضمير المستكن في يصلي لوقوع الفصل بقوله (عليكم) فأغنى ذلك عن التأكيد بالضمير المنفصل، والمراد بالصلاة هنا معنى مجازي يعم صلاة الله بمعنى الرحمة، وصلاة الملائكة بمعنى الدعاء، لئلا يجمع بين حقيقة ومجاز في كلمة واحدة، واللام في قوله:
(ليخرجكم من الظلمات إلى النور) متعلق بيُصلي، أي يعتني بأموركم هو وملائكته ليخرجكم من ظلمات المعاصي إلى نور الطاعات ومن ظلمة الضلالة إلى نور الهداية، ومعنى الآية تثبيت المؤمنين على الهداية، ودوامهم عليها؛ لأنهم كانوا وقت الخطاب على الهداية، قال الحفناوي: جمع الأول لتعدد أنواع الكفر، وأفرد الثاني لأن الإيمان شيء واحد لا تعدد فيه،(11/104)
ثم أخبر سبحانه برحمته للمؤمنين تأنيساً لهم وتثبيتاً فقال:
(وكان بالمؤمنين رحيماً) وفي هذه الجملة تقرير لمضمون ما تقدمها، ثم بين سبحانه أن هذه الرحمة منه لا تخص السامعين وقت الخطاب، بل هي عامة لهم، ولمن بعدهم، وفي الدار الآخرة فقال:(11/105)
تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا (44)
(تحيتهم يوم يلقونه سلام) أي تحية المؤمنين من الله سبحانه يوم لقائهم له عند الموت، أو عند البعث، وعند دخول الجنة هي التسليم عليهم منه عز وجل، يقول الله تبارك وتعالى: السلام عليكم، وقيل: المراد تحية بعضهم لبعض يوم يلقون ربهم: سلام، وذلك لأنه كان بالمؤمنين رحيماً، فلما شملتهم رحمته وأمنوا من عقابه، حيا بعضهم بعضاً سروراً واستبشاراً، والمعنى: سلامة لنا من عذاب النار.
قال الزجاج: المعنى فيسلمهم الله من الآفات، ويبشرهم بالأمن من المخافات يوم يلقونه، وقيل: الضمير في يلقونه راجع إلى ملك الموت، وهو الذي يحييهم كما ورد أنه لا يقبض روح مؤمن إلا سلم عليه، قاله البراء بن عازب، وقال ابن مسعود: إذا جاء ملك الموت لقبض روح المؤمن قال: ربك يقرئك السلام، وقال مقاتل: هو تسليم الملائكة عليهم يوم يلقون الرب كما في قوله: (والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم).
(وأعد لهم أجراً كريماً) أي في الجنة، أو أعد لهم في الجنة رزقاً حسناً؛ ما تشتهيه أنفسهم وتلذه أعينهم، وهذا بيان لآثار رحمته تعالى الفائضة عليهم بعد دخول الجنة عقيب بيان آثار رحمته الواصلة إليهم قبل ذلك، ثم ذكر سبحانه صفات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التي أرسله لها فقال:(11/105)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45)
(يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً) أي على أمته يشهد لمن صدقه وآمن به، وعلى من كَذَّبه وكفر به، قال مجاهد شاهداً على أمته بالتبليغ إليهم وعلى سائر الأمم بتبليغ أنبيائهم إليهم.(11/105)
(ومبشراً) للمؤمنين برحمة الله وبالجنة، وبما أعدَّهُ لهم من جزيل الثواب وعظيم الأجر (ونذيراً) للكافرين والعصاة بالنار وبما أعدّه الله لهم من أليم العقاب.(11/106)
وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا (46)
(وداعياً إلى الله) يدعو عباد الله إلى التوحيد والإيمان بما جاء به والعمل بما شرعه لهم. ومعنى (بإذنه) بأمره بذلك وتقديره.
وقيل: بتيسيره قاله الكرخي وغيره. (وسراجاً منيراً) يستضاء به في ظلم الضلالة كما يستضاء بالمصباح في الظلمة. قال الزجاج: (وسراجاً) أي ذا سراج منير أي كتاب نير، وهو القرآن، وإنما شبه الله نبيه صلى الله عليه وسلم بالسراج دون الشمس مع أنها أتم لأن المراد بالسراج هنا الشمس؛ كما قال تعالى: وجعل الشمس سراجاً، أو شبه بالسراج لأنه تفرع منه بهدايته جميع العلماء؛ كما يتفرع من السراج سرج لا تحصى بخلاف الشمس.(11/106)
وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا (47)
(وبشر المؤمنين) عطف على مقدر يقتضيه المقام؛ كأنه قيل: فراقب أحوال الناس، وبشر المؤمنين من أمتك (بأن لهم من الله فضلاً كبيراً) على مؤمني سائر الأمم في الرتبة والشرف، وزيادة على أجور أعمالهم بطريق التفضل والإحسان، وقد بين ذلك سبحانه بقوله: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ).
عن ابن عباس قال: لما نزلت: (يا أيها النبي) الآية، وقد كان صلى الله عليه وسلم أمر علياً ومعاذاً أن يسيرا إلى اليمن فقال: " انطلقا فبشرا ولا تنفرا، ويسرا ولا تعسرا " فإنها قد أنزلت عليّ (يا أيها النبي إنا أرسلناك) الآية.
وأخرج أحمد والبخاري وغيرهما: عن عطاء بن يسار قال لقيت عبد الله(11/106)
ابن عمرو بن العاص فقلت: أخبرني عن صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوارة، قال أجل والله إنه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن (يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً) وحرزاً للأميين أنت عبدي ورسولي سميتك المتوكل ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح " وزاد أحمد: ولن يقبضه الله حتى يقيم الملة العوجاء بأن يقولوا: لا إله إلا الله فيفتح بها أعيناً عمياً، وآذاناً صماً وقلوباً غلفاً، وقد ذكر البخاري في صحيحه في البيوع هذا الحديث فقال:
وقال سعيد عن هلال عن عطاء عن عبد الله بن سلام ولم يقل: عبد الله بن عمرو، وهذا أولى فعبد الله بن سلام هو الذي كان يسأل عن التوراة فيخبر بما فيها، ثم نهاه سبحانه عن طاعة أعداء الدين فقال:(11/107)
وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (48)
(ولا تطع الكافرين والمنافقين) فيما يشيرون به عليك من المداهنة في الدين، والمداراة في أمر الدعوة، ومن استعمال لين الجانب في التبليغ. وفي الآية تعريض لغيره من أمته لأنه - صلى الله عليه وسلم - معصوم عن طاعتهم في شيء مما يريدونه ويشيرون به عليه، وقد تقدم تفسير هذه الآية في أول السورة (ودع أذاهم) أي لا تبال بما يصدر منهم إليك من الأذى بسبب تصلبك في دين الله وشدتك على أعدائه، أو دع أن تؤذيهم أنت مجازاة لهم على ما يفعلونه من الأذى لك؛ فالمصدر على الأول مضاف إلى الفاعل، وعلى الثاني مضاف إلى المفعول، قيل: هي منسوخة بآية السيف.
(وتوكل على الله) في كل شؤونك (وكفى بالله وكيلاً) توكل إليه الأمور وتفوض إليه الشؤون فمن فوض إليه أموره كفاه، ومن وكل إليه أحواله لم يحتج فيها إلى سواه، ولما ذكر سبحانه قصة زيد وطلاقه لزينب وكان قد دخل بها وخطبها النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد انقضاء عدتها كما تقدم، خاطب المؤمنين مبيناً لهم حكم الزوجة إذا طلقها زوجها قبل الدخول فقال:(11/107)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (49)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (49)
(يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات) أي عقدتم بهن عقد النكاح أو بالكتابيات، وإنما خص المؤمنات بالذكر للتنبيه على أن من شأن المؤمن أن لا ينكح إلا مؤمنة تخيراً للنطفة، وقد اختلف في لفظ النكاح، هل هو حقيقة في الوطء؟ أو في العقد؟ أو فيهما على طريقة الاشتراك؟ وكلام صاحب الكشاف في هذا الموضع يشعر بأنه حقيقة في الوطء، فإنه قال: النكاح الوطء وتسمية العقد نكاحاً لملابسته له من حيث إنه طريق إليه، ونظيره تسمية الخمر إثماً لأنها سبب في اقتراف الإثم، ولم يرد لفظ النكاح في كتاب الله إلا في معنى العقد، كما قاله صاحب الكشاف والقرطبي وغيرهما.
(ثم) التراخي ليس قيداً، وفائدة التعبير بثم إزالة ما عسى أن يتوهم من أن تراخي الطلاق بقدر إمكان الإصابة كما يؤثر في النسب يؤثر في العدة (طلقتموهن من قبل أن تمسوهن) أي تجامعوهن، فكنى عن ذلك بلفظ المس ومن آداب القرآن الكناية عن الوطء بلفظ الملامسة والمماسة والقربان والغشي والإتيان.
وقد استدل بهذه الآية القائلون بأنه لا طلاق قبل النكاح، وهم الجمهور، وبه قال علي وابن عباس وجابر ومعاذ وعائشة، وبه قال سعيد بن المسيب وعروة وشريح وسعيد بن جبير والقاسم وطاووس والحسن وعكرمة وعطاء وسليمان بن يسار ومجاهد والشعبي وقتادة وأكثر أهل العلم، وبه قال الشافعي، وذهب ابن مسعود ومالك وأبو حنيفة إلى صحة الطلاق قبل النكاح إذا قال: إذا تزوجت فلانة فهي طالق فتطلق إذا تزوجها، وبه قال النخعي وأصحاب الرأي، وقال ربيعة والأوزاعي: إن عينّ امرأة وقع وإن عمّم(11/108)
فلا يقع، وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لا طلاق فيما لا تملك، ولا عتق فيما لا تملك، ولا بيع فيما لا تملك، أخرجه أبو داود والترمذي بمعناه. وعن ابن عباس قال: جعل الله الطلاق بعد النكاح أخرجه البخاري.
(فما لكم عليهن من عدة تعتدونها) أي تحصونها بالاقراء والأشهر، أجمع العلماء على أنه إذا كان الطلاق قبل المسيس والخلوة فلا عدة، وذهب أحمد إلى أن الخلوة توجب العدة والصداق، وقد حكى ذلك الإجماع القرطبي وابن كثير، والمعنى: تستوفون عددها؛ من عددت الدراهم فأعتدها، وإسناد ذلك إلى الرجال للدلالة على أن العدة حق لهم كما يفيده قوله: (فما لكم) وقرىء: تعتدونها بتشديد الدال وبتخفيفها، وفي هذه وجهان أحدهما: أن يكون بمعنى الأولى مأخوذ من الاعتداد أي تستوفون عددها ولكنهم تركوا التضعيف لقصد التخفيف، قال الرازي: ولو كان من الاعتداء الذي هو الظلم لضعف؛ لأن الاعتداء يتعدى بعلى، وقيل من الاعتداء بحذف حرف الجر أي تعتدون عليها أي على العدة مجازاً.
والوجه الثاني: أن يكون المعنى تعتدون فيها والمراد بالاعتداء هذا هو ما في قوله: (ولا تمسكوهن ضراراً لتعتدوا) فيكون معنى الآية على القراءة الأخرى: فما لكم عليهن من عدة تعتدون عليهن فيها بالمضارة وقد أنكر ابن عطية صحة هذه القراءة عن ابن كثير، وقال: إن البزي غلط عليه وهذه الآية مخصصة لعموم قوله تعالى: (والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء) ولقوله: (واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر).
(فمتعوهن) أي أعطوهن ما يستمتعن به، والمتعة المذكورة هنا قد تقدم الكلام عليها في البقرة. وقال سعيد بن جبير: هذه المتعة المذكورة هنا منسوخة بالآية التي في البقرة، وهي في قوله: (وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم)، وقيل المتعة هنا: هي أعم من أن تكون نصف الصداق، أو المتعة خاصة إن لم يكن قد سمي لها فمع التسمية(11/109)
للصداق تستحق نصف المسمى عملاً بقوله (فنصف ما فرضتم)، ومع عدم التسمية تستحق المتعة عملاً بهذه الآية، ويؤيد ذلك قوله تعالى (ولا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره)، وهذا الجمع لا بد منه، وهو مقدم على الترجيح وعلى دعوى النسخ، ويخصص من هذه الآية من توفي عنها زوجها، فإنه إذا مات بعد العقد عليها وقبل الدخول بها كان الموت كالدخول فتعتد أربعة أشهر وعشراً، قال ابن كثير بالإجماع، فيكون المخصص هو الإجماع.
(وسرحوهن سراحاً جميلاً) أي أخرجوهن من غير إضرار ولا منع حق من منازلكم، إذ ليس لكم عليهن عدة، والسراح الجميل الذي لا ضرار فيه وقيل: هو أن لا يطالبها بما كان قد أعطاها، وقيل هو هنا كناية عن الطلاق وهو بعيد، لأنه قد تقدم ذكر الطلاق، ورتب عليه التمتع، وعطف عليه السراح الجميل، فلا بد أن يراد به معنى غير الطلاق.
وعن ابن عباس في الآية قال: هذا في الرجل يتزوج المرأة ثم يطلقها من قبل أن يمسها فإذا طلقها واحدة بانت منه ولا عدة عليها تتزوج من شاءت ثم قال: (فمتعوهن وسرحوهن سراحاً جميلاً)، يقول: إن كان سمى لها صداقاً فليس لها إلا النصف وإن لم يكن سمى لها صداقاً متعها على قدر عسره، ويسره وهو السراح الجميل.
وعن ابن عمر قال: (إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن) منسوخة نسختها التي في البقرة (فنصف ما فرضتم)، وعن سعيد بن المسيب نحوه، وعن الحسن وأبي العالية قالا: ليست بمنسوخة لها نصف الصداق، ولها المتاع وعن ابن جريج قال بلغ ابن عباس أن ابن مسعود يقول: إن طلق ما لم ينكح فهو جائز فقال ابن عباس: أخطأ في هذا إن الله يقول: إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن، ولم يقل: إذا طلقتم المؤمنات ثم نكحتموهن.
وعن ابن عباس أنه تلا هذه الآية وقال: لا يكون طلاق حتى يكون نكاح، وقد وردت أحاديث فيها: أنه لا طلاق إلا بعد نكاح وهي معروفة.(11/110)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (50)(11/111)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (50)
(يا أيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك اللاتي آتيت أجورهن) ذكر سبحانه في هذه الآية أنواع الأنكحة التي أحلها لرسوله، وبدأ بأزواجه اللاتي قد أعطاهن أجورهن أي مهورهن فإن المهور أجور الإبضاع، ولهذا قال الكرخي: إن النكاح بلفظ الإجارة جائز.
وقال أهل الرأي: التأبيد من شرط النكاح، والتأقيت من شرط الإجارة وبينهما منافاة، وإيتاء الأجور إما تسليمها معجلة، أو فرضها أو تسميتها في العقد، واختلف في معنى الآية فقال ابن زيد والضحاك: إن الله أحل له أن يتزوج كل امرأة يؤتيها مهرها؛ فتكون الآية مبيحة لجميع النساء ما عدا ذوات المحارم، وقال الجمهور: المراد أحللنا لك أزواجك الكائنات عندك لأنهن قد اخترنك على الدنيا وزينتها، وهذا هو الظاهر؛ لأن قوله: أحللنا وآتيت ماضيان؛ وتقييد الاحلال بإيتاء الأجور ليس لتوقف الحل عليه؛ لأنه يصح العقد بلا تسمية ويجب مهر المثل مع الوطء، والمتعة مع عدمه. فكأنه لقصد الإرشاد إلى ما هو أفضل.
(وما ملكت يمينك مما أفاء الله عليك) أي السراري اللاتي دخلن في ملكك بالغنيمة. والمعنى: مما رده الله عليك من الكفار بالغنيمة من نسائهم(11/111)
المأخوذات على وجه القهر والغلبة مثل: صفيه وجويرية فأعتقهما وتزوجهما، وقد كانت مارية مما ملكت يمينه فولدت له إبراهيم، وليس المراد بهذا القيد إخراج ما ملكه بغير الغنيمة؛ فإنها تحل السرية المشتراة والموهوبة ونحوهما ولكنه خرج مخرج الغالب وأشار به إلى ما هو الأفضل كالقيد الأول المصرح بإيتاء الأجور، وهكذا قيد المهاجرة في قوله:
(وبنات عمك وبنات عماتك) أي نساء قريش (وبنات خالك وبنات خالاتك) أي نساء بني زهرة (اللاتي هاجرن معك) فإنه للإشارة إلى ما هو الأفضل، وللإيذان بشرف الهجرة وشرف من هاجر، أي أحللنا لك ذلك زائداً على الأزواج اللاتي آتيت أجورهن على قول الجمهور، لأنه لو أراد أحللنا لك كل امرأة تزوجت وآتيت أجرها لما قال بعد ذلك: وبنات عمك وبنات عماتك، لأن ذلك داخل فيما تقدم، والأول أولى والمراد بالمعية هنا الاشتراك في الهجرة لا في الصحبة فيها. قال النسفي: ليس (مع) للقران، بل لوجودها فحسب، كقوله: وأسلمتُ مع سليمان.
وقيل إن هذا القيد أعني المهاجرة معتبر، وإنها لا تحل له من لم تهاجر من هؤلاء كما في قوله: (والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا)، ويؤيد هذا حديث أم هانىء وسيأتي.
ووجه إفراد العم والخال، وجمع العمة والخالة، ما ذكره القرطبي إن العم والخال في الإطلاق اسم جنس؛ كالشاعر والراجز، وليس كذلك العمة والخالة قال وهذا عرف لغوي، فجاء الكلام عليه بغاية البيان، وحكاه عن ابن العربي وقال ابن كثير إنه وحد لفظ الذكر لشرفه، وجمع الأنثى كقوله: عن اليمين وعن الشمائل، وقوله يخرجهم: (من الظلمات إلى النور)، وجعل: (الظلمات والنور) وله نظائر كثيرة انتهى.
وقال النيسابوري: وإنما لم يجمع العم والخال اكتفاء بجنسيتهما مع أن لجمع البنات دلالة على ذلك لامتناع اجتماع أختين تحت واحد، ولم يحسن(11/112)
هذا الاختصار في العمة والخالة لإمكان سبق الوهم إلى أن التاء فيهما للوحدة انتهى. وكل وجه من هذه الوجوه يحتمل المناقشة بالنقض والمعارضة، وأحسنها تعليل جمع العمة والخالة تسبق الوهم إلى أن التاء للوحدة وليس في العم والخال ما يسبق الوهم إليه بأنه أريد به الوحدة إلا مجرد صيغة الإفراد وهي لا تقتضي ذلك بعد إضافتها لما تقرر من عموم أسماء الأجناس المضافة؛ على أن هذا الوجه الأحسن لا يصفو عن شوب المناقشة أيضاًً؛ قال الشهاب.
وقد سئل كثير عن حكمة إفراد العم والخال دون العمة والخالة حتى أن السبكي صنف جزءاً فيه سماه بذل الهمة في إفراد العم وجمع العمة. وقد رأيت لهم فيه كلمات كلها ضعيفة، كقول الرازي: إن العم والخال على زنة المصدر ويستوي فيه المفرد والجمع بخلاف العمة والخالة وقيل: إنهما يعمان إذا أضيفا، والعمة والخالة لا يعمان لتاء الوحدة انتهى.
أخرج الترمذي وحسنه، وابن جرير، والطبراني وغيرهم عن أم هانيء بنت أبي طالب قالت: (خطبني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاعتذرت إليه فعذرني، فأنزل الله: يا أيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك إلى قوله هاجرن معك) قالت: فلم أكن أحل له لأني لم أهاجر معه، كنت من الطلقاء.
وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه من وجه آخر عنها قالت: نزلت في هذه الآية: (وبنات عماتك اللاتي هاجرن معك) أراد النبي أن يتزوجني فنهي عني إذ لم أهاجر.
وعن ابن عباس في قوله: (إنا أحللنا لك أزواجك) إلى قوله: (خالصة لك) قال فحرم الله عليه سوى ذلك من النساء، وكان قبل ذلك ينكح في أي النساء شاء لم يحرم ذلك عليه. وكان نساؤه يجدن من ذلك وجداً شديداً أن ينكح في أي النساء أحب، فلما أنزل: إني حرمت عليك من النساء سوى ما قصصت عليك أعجب ذلك نساءه.
(وامرأة مؤمنة) أي: وأحللنا لك امرأة مصدقة بالتوحيد، وهذا يدل(11/113)
على أن الكافرة لا تحل له، قال إمام الحرمين: وقد اختلف في تحريم الحرة الكافرة عليه، قال ابن العربي: والصحيح عندي تحريمها، وبهذا يتميز علينا، فإنه ما كان في جانب الفضائل والكرامات فحظه فيه أكثر، وما كان من جانب النقائص فجانبه عنها أطهر فجوز لنا نكاح الحرائر الكتابيات، وقصر هو - صلى الله عليه وسلم - على المؤمنات، ولهذا كان لا تحل له الكتابية الكافرة لنقصانها بالكفر، انتهى.
وأما تسرّيه بالأمة الكتابية فالأصح فيه الحل لأنه - صلى الله عليه وسلم - استمتع بأمته ريحانه قبل أن تسلم كذا في المواهب وكانت يهودية من سبي قريظة، ومما خص به أيضاًً أنه يحرم عليه نكاح الأمة ولو مسلمة لأن نكاحها معتبر بخوف العنت، وهو معصوم، وبفقدان مهر الحرة ونكاحه غنى عن المهر ابتداء وانتهاء، وبرق الولد ومنصبه - صلى الله عليه وسلم - ينزه عنه كذا في الروض وشرحه.
(إن وهبت نفسها للنبي) أي ملكتك بضعها بأي عبارة كانت بغير صداق، وأما من لم تكن مؤمنة فلا تحل لك بمجرد هبتها نفسها لك، ولكن ليس ذلك بواجب عليك بحيث يلزمك قبول ذلك، بل مقيداً بإرادتك فهي جملة شرطية لا تستلزم الوقوع، ولهذا قال: (إن أراد النبي أن يستنكحها) يقال نكح واستنكح مثل عجل واستعجل، وعجب واستعجب.
ويجوز أن يراد الاستنكاح بمعنى طلب النكاح أو طلب الوطء قاله القرطبي، أي يصيرها منكوحة له، ويتملك بضعها بتلك الهبة بلا مهر، وذلك جار منه مجرى القبول. وحيث لم تكن الآية نصاً في كون تملكيها بلفظ الهبة لم تصلح أن تكون مناطاً للخلاف في انعقاد النكاح بلفظ الهبة، وإيراده في الموضعين بعنوان النبوة بطريق الالتفات عن الخطاب للإيذان بأنها المناط لثبوت الحكم؛ فيختص به كما ينطق به قوله الآتي: (خالصة لك) وقد قيل إنه لم ينكح النبي من الواهبات أنفسهن أحداً، ولم يكن عنده منهن شيء، قال قتادة: كانت عنده ميمونة بنت الحرث، قال الشعبي: هي زينب بنت خزيمة الأنصارية أم المساكين: وقال علي بن الحسين والضحاك ومقاتل: هي أم شريك بنت جابر الأسدية، وقال عروة ابن الزبير وهي أم حكيم بنت الأوقص(11/114)
السلمية.
أخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في السنن عن عائشة قالت: (التي وهبت نفسها للنبي - صلى الله عليه وسلم - خولة بنت حكيم). وأخرج البخاري وغيره عن عروة: (أن خولة بنت حكيم كانت من اللاتي وهبن أنفسهن لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -)، وعن محمد بن كعب وعمر بن الحكم وعبد الله ابن عبيدة قالوا: تزوج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاث عشرة امرأة؛ ستاً من قريش: خديجة وعائشة وحفصة وأم حبيبة وسودة وأم سلمة، وثلاثاً من بني عامر بن صعصعة، وامرأتين من بني هلال بن عامر: ميمونة بنت الحرث، وهي التي وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم وزينب أم المساكين والعامرية وهي التي اختارت الدنيا، وامرأة من بني الجون، وهي التي استعاذت منه: وزينب بن جحش الأسدية، والسبيتين: صفية بنت حيي وجويرية بنت الحرث الخزاعية.
وأخرج البخاري وابن مردويه عن أنس قال جاءت امرأة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت يا رسول الله هل لك بي حاجة؟ فقالت ابنة أنس ما كان أقل حياءها؟ فقال: هي خير منك رغبت في النبي صلى الله عليه وسلم فعرضت نفسها عليه.
وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن سهل بن سعد الساعدي أن امرأة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فوهبت نفسها له فصمت، الحديث بطوله وكان من خصائصه صلى الله عيله وسلم أن النكاح ينعقد في حقه بمعنى الهبة من غير ولي. ولا شهود ولا مهر، والزيادة على أربع، ووجوب تخيير النساء وعليه جماعة.
واختلفوا في انعقاد النكاح بلفظ الهبة في حق الأمة، فذهب أكثرهم إلى أنه لا ينعقد إلا بلفظ النكاح والتزويج، وهو قول سعيد بن المسيب والزهري ومجاهد وعطاء، وبه قال ربيعة ومالك والشافعي. وقال إبراهيم النخعي وأهل الكوفة ينعقد بلفظ التمليك والهبة، ومن قال بالقول الأول اختلفوا في نكاح النبي - صلى الله عليه وسلم - فذهب قوم إلى أنه كان ينعقد في حقه - صلى الله عليه وسلم - بلفظ الهبة، وذهب قوم(11/115)
آخرون إلى أنه لا ينعقد كما في حق سائر الأمة وكان اختصاصه في ترك المهر وعدم لزومه له لا في لفظ النكاح واختلفوا في أن العقد بلفظ الهبة هل وقع له بالفعل أم لا.
فقال ابن عباس ومجاهد: لم يكن عنده امرأة إلا بعقد نكاح أو ملك يمين. وقال آخرون: وقع، واختلفوا فيها كما تقدم وقال الزمخشري: قيل الموهوبات أربع: ميمونة وزينب وأم شريك وخولة: وفي السمين: هذا من اعتراض الشرط على الشرط. والثاني قيد في الأول ولذلك أعربوه حالاً، لأن الحال قيد ولهذا اشترط الفقهاء أن يتقدم الثاني على الأول في الوجود.
فلو قال: إن أكلت إن ركبت فأنت طالق فلا بد أن يتقدم الركوب على الأكل، وأنه يشترط أن لا يكون ثمة قرينة تمنع من تقدم الثاني على الأول كقولك: إن تزوجتك إن طلقتك فعبدي حر، فإنه لا يتصور هنا تقديم الطلاق على التزويج إلا أني قد عرض لي إشكال على ما قاله الفقهاء بهذه الآية.
وذلك أن الشرط الثاني هنا لا يمكن تقدمه في الوجود بالنسبة إلى الحكم الخاص بالنبي - صلى الله عليه وسلم - لا أنه لا يمكن عقلاً، وذلك أن المفسرين فسروا قوله تعالى إن أراد، بمعنى قبل الهبة لأنه بالقبول منه يتم نكاحه، وهذا لا يتصور تقدمه على الهبة إذ القبول متأخر، وأيضاًً فالقصة كانت على ما ذكرته من تأخر إرادته عن هبتها، وهو مذكور في التفسير.
وقد عرضت هذا الإشكال على جماعة من أعيان زماننا فاعترفوا به، ولم يظهر عنهم جواب، إلا ما قدمته من أن ثم قرينة مانعة من ذلك كما مثلت لك آنفاً انتهى.
وقد بين الله سبحانه أن هذا النوع من النكاح خاص برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لا يحل لغيره من أمته فقال.
(خالصة لك من دون المؤمنين) لفظ: خالصة إما حال من امرأة قاله الزجاج، أو حال من فاعل (وهبت) أي حال كونها خالصة لك دون غيرك، أو(11/116)
مصدر مؤكد كوعد الله أي خالص لك خلوصاً، أو نعت مصدر مقدر أي: هبة خالصة، فنصبها بوهبت، وقد أجمع العلماء على أن هذا خاص بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، وأنه لا يجوز لغيره ولا ينعقد النكاح بهبة المرأة نفسها إلا ما روي عن أبي حنيفة وصاحبيه أنه يصح النكاح إذا وهبت وأشهد هو على نفسه بمهر، وأما بدون مهر فلا خلاف في أن ذلك خاص برسول الله صلى الله عليه وسلم ولهذا قال.
(قد علمنا ما فرضنا عليهم في أزواجهم) اعتراض مقرر لمضمون ما قيله من خلوص الإحلال له، أي ما فرضه الله سبحانه على المؤمنين في حق أزواجهم من شرائط العقد وحقوقه، فإن ذلك حق عليهم مفروض لا يحل لهم الإخلال به، ولا الاقتداء برسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما خصه الله به توسعة عليه وتكريماً له، فلا يتزوجوا إلا أربعاً بمهر وبينة وولي.
وعن ابن عمر في الآية قال: فرض الله عليهم أنه لا نكاح إلا بولي وشاهدين. وعن ابن عباس: مثله وزاد ومهر.
(وما ملكت أيمانهم) أي وعلمنا ما فرضنا عليهم فيما ملكت أيمانهم من كونهم ممن يجوز سبيه وحربه، لا ممن كان لا يجوز سبيه أو كان له عهد من المسلمين؛ أي تكون الأمة ممن تحل لمالكها كالكتابية بخلاف المجوسية والوثنية، وأن تستبرأ قبل الوطء.
(لكيلا يكون عليك حرج) قال المفسرون: هذا يرجع إلى أول الآية أي أحللنا لك تزواجك وما ملكت يمينك، والواهبة نفسها لك لكيلا يكون عليك حرج؛ فتكون اللام متعلقة بأحللنا، وقيل هي متعلقة بخالصة قاله البيضاوي وأبو السعود، والتعلق باعتبار ما فيه من معنى ثبوت الإحلال وحصوله له - صلى الله عليه وسلم - والأول أولى، والحرج الضيق، أي وسعنا عليك في التحليل لك لئلا يضيق صدرك فتظن أنك قد أثمت في بعض المنكوحات.
(وكان الله غفوراً رحيماً) يغفر الذنوب فيما يعسر التحرز عنه، ويرحم العباد بالتوسعة في ذلك، ولذلك وسع الأمر ولم يضيقه.(11/117)
تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا (51) لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا (52)(11/118)
تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا (51)
(ترجي من تشاء منهن) قرىء ترجي مهموزاً وغير مهموز، وهما لغتان والإرجاء التأخير. يقال: أرجأت الأمر وأرجيته إذا أخرته (وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ) أي تضم إليك. يقال: آواه إليه بالمد ضمه إليه، وأوى مقصوراً أي ضم إليه، والمعنى: أن الله وسع على رسوله - صلى الله عليه وسلم - وجعل الخيار إليه في نسائه، فيؤخر من شاء منهن ويؤخر نوبتها ويتركها ولا يأتيها من غير طلاق، ويضم إليه من شاء منهن ويضاجعها ويبيت عندها.
وقد كان القسم واجباً عليه حتى نزلت هذه الآية فارتفع الوجوب وصار الخيار إليه، وكان ممن آوى إليه عائشة وحفصة وأم سلمة وزينب، وممن أرجى سودة وجويرية وأم حبيبة وميمونة وصفية، فكان - صلى الله عليه وسلم - يسوي بين من آوى في القسم، وكان يقسم لمن أرجاه ما شاء، هذا قول جمهور المفسرين في معنى الآية، وهو الذي يناسب ما مضى، وقد دلت عليه الأدلة الثابتة في الصحيح وغيره.
قال ابن العربي: هذا الذي ثبت في الصحيح هو الذي ينبغي أن يعول عليه لكنه كان يقسم من قبل نفسه دون فرض عليه تطييباً لنفوسهن، وصوناً لهن عن أقوال الغيرة التي تؤدي إلى ما لا ينبغي. وقيل: هذه الآية في(11/118)
الواهبات أنفسهن لا في غيرهن من الزوجات قاله الشعبي وغيره، وقيل: معنى الآية في الطلاق أي: تطلق من تشاء منهن وتمسك من تشاء.
وقال الحسن. إن المعنى تنكح من شئت من نساء أمتك وتترك نكاح من شئت منهن، وقد قيل: إن هذه الآية ناسخة لقوله: لا يحل لك النساء من بعد، وعن ابن عباس: ترجي أي تؤخر، وعنه قال: من شئت خليت سبيلها منهن، ومن أحببت أمسكت منهن.
وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن عائشة قالت: كنت أغار من اللاتي وهبن أنفسهن لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: وأقول: تهب المرأة نفسها. فلما أنزل الله: ترجي من تشاء منهن الآية قلت: ما أرى ربك إلا يسارع في هواك.
وعن أبي رزين قال: هَمَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يطلق من نسائه فلما رأين ذلك أتينه فقلن: لا تخل سبيلنا وأنت في حل فيما بيننا وبينك افرض لنا من نفسك ومالك بما شئت فأنزل الله ترجي من تشاء منهن، يقول: تعزل من تشاء فأرجى منهن نسوة، وآوى نسوة، وكان ممن أرجى ميمونة وجويرية وأم حبيبة وصفية وسودة، وكان يقسم بينهن من نفسه وماله ما شاء، وكان ممن آوى عائشة وحفصة وأم سلمة وزينب فكانت قسمته من نفسه وماله بينهن سواء.
وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يستأذن في يوم المرأة منا بعد أن أنزلت هذه الآية ترجي من تشاء منهن، فقلت لها ما كنت تقولين؟ قالت كنت أقول إن كان ذلك إلي فإني أريد أن لا أوثر عليك أحداً.
(ومن ابتغيت ممن عزلت) الابتغاء الطلب، والعزل الإزالة، والمعنى إن أردت أن تؤوي إليك امرأة ممن قد عزلتهن من القسمة وتضمها إليك (فلا جناح عليك) في ذلك، والحاصل أن الله سبحانه فوض الأمر إلى رسوله(11/119)
يصنع في زوجاته ما شاء من تقديم وتأخير وعزل وإمساك، وضم من أرجى وإرجاء من ضم إليه، وما شاء في أمرهن فعل توسعة عليه ونفياً للحرج عنه، وأصل الجناح الميل، يقال: جنحت السفينة إذا مالت، والمعنى لا ميل عليك بلوم ولا عتب فيما فعلت.
(ذلك) أي ما تقدم من التفويض إلى مشيئته وهو مبتدأ وخبره قوله (أدنى أن تقر أعينهن) أي ذلك التخيير والتفويض فوضناك أقرب إلى رضائهن وأطيب لأنفسهن إذ كان من عندنا لأنهن إذا علمن أنه من الله قرت أعينهن، واطمأنت نفوسهن، وذهب التغاير وحصل الرضاء. قرىء تقر على البناء للفاعل مسنداً إلى أعينهن، وقرىء بضم التاء من أقرر وفاعله ضمير المخاطب وبنصب أعينهن على المفعولية، وقرىء على البناء للمفعول، وقد تقدم بيان معنى قرة العين في سورة مريم.
(ولا يحزن) أي لا يحصل معهن حزن بتأثيرك بعضهن دون بعض (ويرضين بما آتيتهن كلهن) أي بما أعطيتهن من تقريب وإرجاء وعزل وإيواء وكان يقسم بينهن في القسمة حتى مات، ولم يستعمل شيئاًً مما أتيح له ضبطاً لنفسه، وأخذاً بالأفضل غير سودة فإنها وهبت ليلتها لعائشة رضي الله عنهما.
(والله يعلم ما في قلوبكم) من كل ما تضمرونه ومن ذلك ما تضمرونه من أمور النساء والميل إلى بعضهن (وكان الله عليماً) بكل شيء وبما في ضمائركم لا تخفى عليه خافية (حليماً) عنكم لا يعاجل العصاة بالعقوبة فينبغي أن تتقى محارمه لأن انتقام الحليم وغضبه أمر عظيم.(11/120)
لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا (52)
(لا يحل لك النساء من بعد) أي من بعد هؤلاء التسع اللاتي اخترنك واجتمعن في عصمتك وهن التسع اللاتي توفي عنهن. وهن عائشة بنت أبي بكر الصديق وحفصة بنت عمر وأم حبيبة بنت أبي سفيان وسودة بنت(11/120)
زمعة وأم سلمة بنت أبي أمية وصفية بنت حيي بن أخطب الخيبرية وميمونة بنت الحرث الهلالية وزينب بنت جحش الأسدية وجويرية بنت الحارث المصطلقية قاله أبو السعود.
وقد اختلف أهل العلم في تفسير هذه الآية على أقوال، الأول: أنها محكمة، وأنه حرم على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتزوج على نسائه مكافأة لهن بما فعلن من اختيار الله ورسوله والدار الآخرة؛ لما خيرهن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمر الله له بذلك، وهذا قول ابن عباس ومجاهد والضحاك وقتادة والحسن وابن سيرين وابن بكر بن عبد الرحمن بن الحرث بن هشام وابن زيد وابن جرير. وقال أبو أمامة بن سهل حنيف: لما حرم الله عليهن أن يتزوجن من بعده حرم عليه أن يتزوج غيرهن.
وقال أُبي بن كعب وعكرمة وأبو رزين أن المعنى لا يحل لك النساء من بعد الأصناف التي سماها الله قال القرطبي: وهو اختيار ابن جرير وقيل لا يحل لك اليهوديات ولا النصرانيات لأنهن لا يصح أن يتصفن بأمهات المؤمنين، وهذا القول فيه بعد؛ لأنه يكون التقدير لا يحل لك النساء من بعد المسلمات ولم يجر للمسلمات ذكر، وقيل هذه الآية منسوخة بالسنة، وبقوله: (تُرجي من تشاء منهن وتؤوي إليك من تشاء)، وبهذا قالت أم سلمة وعائشة وعلي بن أبي طالب وعلي بن الحسين وغيرهم. وهذا هو الراجح وسيأتي ما يدل عليه من الأدلة، عن زياد رجل من الأنصار قال: قلت لأبي بن كعب أرأيت لو أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم مُتْنَ أما كان يحل له أن يتزوج؟ قال وما يمنعه من ذلك؟ قلت قوله: لا يحل لك النساء من بعد، قال إنما أحل له ضرباً من النساء ووصف له صفة فقال: (يا أيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك) إلى قوله (وامرأة مؤمنة) ثم قال: لا يحل لك النساء من بعد هذه الصفة.
وعن ابن عباس قال نُهي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أصناف النساء إلا ما كان(11/121)
من المؤمنات المهاجرات: (لا يحل لك النساء من بعد) الآية، فأحل له الفتيات المؤمنات وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي وحرم كل ذات دين غير الإسلام وقال: (يا أيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك) إلى قوله: (خالصة لك من دون المؤمنين)؟ وحرم ما سوى ذلك من أصناف النساء.
وعنه قال نُهي النبي أن يتزوج بعد نسائه الأولى شيئاًً، وعنه في الآية قال: حبسه الله عليهن كما حبسهن عليه، وعن أنس قال: لما خيرهن فاخترن الله ورسوله قصره عليهن فقال: (لا يحل لك النساء من بعد).
وعن أم سلمة قالت: لم يمت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى أحل الله أن يتزوج من النساء ما شاء إلا ذات محرم، وذلك قول الله: (ترجي من تشاء منهن) الآية، وأخرج أحمد وأبو داود في ناسخه، والترمذي وصححه، والنسائي والحاكم وصححه.
عن عائشة قالت: لم يمت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى أحل الله له أن يتزوج من النساء ما شاء إلا ذات محرم، لقوله: (ترجي من تشاء منهن) الآية، وعن ابن عباس مثله، وعن أبي رزين: (لا يحل لك النساء من بعد) قال: من المشركات إلا ما سبيت فملكت يمينك.
(ولا أن تبدل بهن من أزواج) أي ليس لك أن تطلق واحدة منهن أو أكثر وتتزوج بدل من طلقت منهن أي من المسلمات غيرهن من الكتابيات؛ لأنه لا تكون أم المؤمنين يهودية ولا نصرانية و (من) مزيدة لتأكيد النفي وفائدته استغراق جنس الأزواج بالتحريم.
وقال ابن زيد: هذا شيء كانت العرب تفعله تقول خذ زوجتي وأعطني زوجتك، وقد أنكر ابن جرير والنحاس ما ذكره ابن زيد؛ قال ابن جرير: ما فعلت العرب هذا قط، ويدفع هذا الإنكار منهما؛ ما أخرجه الدارقطني عن أبي(11/122)
هريرة قال: كان البدل في الجاهلية أن يقول الرجل للرجل تنزل لي عن امرأتك وأنزل لك عن امرأتي فأنزل الله عز وجل ولا أن تبدل بهن، وأخرجه أيضاًً عنه البزار وابن مردويه.
وأخرجا عن أبي هريرة قال: كان البدل في الجاهلية أن يقول الرجل للرجل: بادلني امرأتك وأبادلك امرأتي؛ أي تنزل لي عن امرأتك وأنزل لك عن امرأتي، فأنزل الله هذه الآية. قال: فدخل عيينة بن حصن الفزاري على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعنده عائشة فدخل بغير إذن؛ فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أين الاستئذان؟ قال يا رسول الله ما استأذنت على رجل من الأنصار منذ أدركت، ثم قال: من هذه الحميراء إلى جنبك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذه عائشة أم المؤمنين، قال أفلا أنزل لك عن أحسن خلق الله؟ قال: يا عيينة إن الله حرم ذلك، فلما أن خرج قالت عائشة: من هذا؟ قال أحمق مطاع، وإنه على ما ترين لسيد قومه.
(ولو أعجبك حسنهن) وهذا كقولك: اعطوا السائل ولو على فرس. أي: في كل حال، ولو على هذه الحالة المنافية للإعطاء، وقيل: تقديره مفروضاً إعجابك بهن، أي لا يحل لك التبدل بأزواجك ولو أعجبك حسن غيرهن وجمالها ممن أردت أن تجعلها بدلاً من إحداهن، وهذا التبدل أيضاًً من جملة ما نسخه الله في حق رسوله على القول الراجح ونسخها إما بالسنة أو بقوله: (إنا أحللنا لك أزواجك)، وترتيب النزول ليس على ترتيب المصحف.
قال ابن عباس: يعني أسماء بنت عميس امرأة جعفر بن أبي طالب لما استشهد جعفر؛ أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخطبها فنهي عن ذلك.
(إلا ما ملكت يمينك) استثناء من النساء لأنه يتناول الحرائر والإماء وقيل: منقطع، والمعنى تحل لك الإماء، وقد ملك صلى الله عليه وسلم(11/123)
بعدهن مارية القبطية أهداها له المقوقس ملك القبط وهم أهل مصر والإسكندرية وولدت له إبراهيم في ذي الحجة سنة ثمان ومات في حياة أبيه، وله سبعون يوماً وقيل: سنة وعشرة أشهر وفي رواية أنه صلى الله عليه وسلم لم يصل عليه بنفسه بل أمرهم فصلوا قاله ابن حجر في شرح الهمزية، وقد اختلف العلماء في تحليل الأمة الكافرة على قولين:
الأول: أنها تحل للنبي صلى الله عليه وسلم لعموم هذه الآية وبه قال مجاهد وسعيد بن جبير وعطاء والحسن.
والثاني: أنها لا تحل للنبي صلى الله عليه وسلم تنزيهاً لقدره عن مباشرة الكافرة، ويترجح القول الأول بعموم هذه الآية وتعليل المنع بالتنزه ضعيف فلا تنزه عما أحله الله فهو طيب لا خبيث باعتبار ما يتعلق بأمور النكاح لا باعتبار غير ذلك فالمشركون نجس بنص القرآن، وممكن ترجيح القول الثاني بقوله سبحانه: (ولا تمسكوا بعصم الكوافر) فإنه نهي عام.
(وكان الله على كل شيء رقيباً) أي مراقباً حافظاً وفي الآية دليل على جواز النظر إلى من يريد نكاحها من النساء، ويدل عليه ما روي عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إذا خطب أحدكم المرأة فإن استطاع أن ينظر إلى ما يدعوه إلى نكاحها فليفعل]. أخرجه أبو داود وعن أبي هريرة أن رجلاً أراد أن يتزوج امرأة من الأنصار فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: [انظر إليها فإن في أعين الأنصار شيئاًً].
قال الحميدي: يعني هو الصغر وعن المغيرة بن شعبة قال: خطبت امرأة فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم: هل نظرت إليها؟ قلت لا. قال: فانظر إليها فإنه أحرى أن يُؤدَم بينكما، أخرجه الترمذي وقال حسن.(11/124)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا (53)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا (53)
(يا أيها الذين آمنوا) شروع في بيان ما تجب رعايته على الناس من حقوق نساء النبي إثر بيان ما تجب مراعاته عليه من حقوقهن (لا تدخلوا بيوت النبي) هذا نهي عام لكل مؤمن أن يدخل بيوت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا بإذن منه. وسبب النزول ما وقع من بعض الصحابة في وليمة زينب.
وقد أخرج البخاري ومسلم عن أنس قال: قال عمر بن الخطاب: (يا رسول الله إن نساءك يدخل عليهن البر والفاجر فلو حجبتهن فأنزل الله آية الحجاب)، وفي لفظ أنه قال عمر: (يا رسول الله يدخل عليك البر والفاجر فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب)، فأنزل الله آية الحجاب.
وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أنس قال: لما تزوج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زينب بنت جحش دعا القوم فطعموا ثم جلسوا يتحدثون وإذا هو كأنه يتهيأ للقيام، فلم يقوموا فلما رأى ذلك قام، فلما قام قام من قام وقعد ثلاثة نفر، فجاء النبي - صلى الله عليه وسلم - ليدخل فإذا القوم جلوس، ثم إنهم قاموا فانطلقت فجئت فأخبرت النبي - صلى الله عليه وسلم - أنهم قد انطلقوا فجاء حتى دخل فذهبت أدخل فألقى الحجاب بيني وبينه فأنزل الله: (يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي) الآية.
وأخرج ابن جرير عن عائشة أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم(11/125)
كن يخرجن بالليل إذا تبرزن إلى المناصع وهو صعيد أفيح وكان عمر بن الخطاب يقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم احجُب نساءك فلم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك فخرجت سودة بنت زمعة ليلة من الليالي عشياً، وكانت امرأة طويلة، فناداها عمر بصوته الأعلى: قد عرفناك يا سودة، حرصاً على أن ينزل الحجاب فأنزل الله الحجاب قال: (يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي) الآية وأخرج بن سعد عن أنس قال نزل الحجاب مبتنى رسول الله صلى الله عليه وسلم بزينب بنت جحش، وذلك سنة خمس من الهجرة، وحجب نساءه من يومئذ، وأنا ابن خمس عشرة سنة، وكذا أخرج ابن سعد عن صالح بن كيسان، وقال: نزل الحجاب على نسائه في ذي القعدة سنة خمس من الهجرة. وبه قال قتادة والواقدي، وزعم أبو عبيدة وخليفة بن خياط أن ذلك كان في سنة ثلاث.
وفي الآية دليل على أن البيت للرجل ويحكم له به فإن الله أضافه إليه إضافة ملك، وأما إضافته إلى الأزواج في قوله (ما يتلى في بيوتكن) فهي إضافة محل بدليل أنه جعل فيها الإذن إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، والإذن إنما يكون من المالك، واختلف العلماء في بيوت النبي - صلى الله عليه وسلم - التي كان يسكن فيها نساؤه بعد موته هل هي ملك لهن أو لا؟ على قولين، فقالت طائفة: كانت ملكاً لهن بدليل أنهن سكن فيها بعد موت النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى وفاتهن، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم وهب لهن ذلك في حياته، الثاني: أن ذلك كان إسكاناً كما يسكن الرجل أهله، ولم يكن هبة وامتدت سكناهن بها إلى الموت، وهذا هو الصحيح، وهو الذي ارتضاه أبو عمر بن عبد البر وابن العربي، وغيرهما. فإن ذلك من مؤونتهن التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم استثناها لهن كما استثنى لهن نفقاتهن حين قال: [لا تقسم ورثتي ديناراً ولا درهما، ما تركت بعد نفقة أهلي ومؤمنة عاملي فهو صدقه] هكذا قال أهل العلم، قالوا: ويدل على ذلك أن مساكنهن لم ترثها عنهن ورثتهن. قالوا: وفي ترك ورثتهن ذلك دليل على أنها لم تكن لهن ملكاً وإنما كان لهن سكنى حياتهن. فلما توفين جعل ذلك(11/126)
زيادة في المسجد الحرام الذي يعم المسلمين نفعه، كما جعل ذلك الذي كان لهن من النفقات في تركة رسول الله صلى الله عليه وسلم لما مضين إلى سبيلهن فزيد إلى أصل المال فصرف لمنافع المسلمين مما يعم نفعه الجميع والله الموفق كذا قاله القرطبي.
وأعلم أن قالون همز النبي حيث وقع إلا في موضعين من هذه السورة أحدهما هذه الآية والثاني قوله: (إن وهبت نفسها للنبي) فأبدلها ياء في الوصل وهمزها في الوقف كما ذكره الشاطبي، ولم يسهلها كما سهل غيرها لأنه رأى الإبدال هنا جارياً على القياس فيه فرجحه لموافقته لغيره ولأنه أفصح من التسهيل ولذلك أنكر على من قال يا نبىء الله بالهمزة وهذا مما لا غبار عليه فلله در التنزيل، وما فيه من دقائق التأويل.
(إلا أن يؤذن لكم) استثناء مفرغ من أعم الأحوال، أي لا تدخلوها في حال من الأحوال إلا في حال كونكم مأذوناً لكم، أي إلا مصحوبين بالإذن أو إلا بأن يؤذن لكم أو إلى وقت أن يؤذن لكم وقوله: (إلى طعام) متعلق بيؤذن على تضمينه معنى الدعاء أي إلا أن يؤذن لكم مدعوين إلى طعام.
(غير ناظرين إناه) انتصاب غير على الحال، والعامل فيه يؤذي، أو مقدر.
أي: ادخلوا غير ناظرين، ومعنى ناظرين منتظرين، وإناه نضجه وإدراكه، يقال: أنى يأنى إناً إذا حان وأدرك.
قال الرازي: في الآية إما أن يكون فيه تقديم وتأخير تقديره: ولا تدخلوا إلى طعام إلا أن يؤذن لكم فلا يكون منعاً من الدخول في غير وقت الطعام بغير إذن، وإما أن لا يكون فيه تقديم وتأخير فيكون معناه: ولا تدخلوا إلا أن يؤذن لكم إلى طعام فيكون الإذن مشروطاً بكونه إلى طعام، فإن لم يؤذن إلى طعام فلا يجوز الدخول، فلو أذن لواحد في الدخول لاستماع كلام لا لأكل طعام فلا يجوز. فنقول: المراد هو الثاني ليعم النهي عن الدخول، وأما كونه لا يجوز إلا بإذن إلى الطعام فلما هو مذكور في سبي النزول أن الخطاب مع قوم كانوا يتحينون حين الطعام، ويدخلون من غير إذن فمنعوا من الدخول في وقتهم(11/127)
بغير إذن وقال ابن عادل: الأولى أن يقال المراد هو الثاني، لأن التقديم والتأخير خلاف الأصل، وقوله: إلى طعام من باب التخصيص بالذكر فلا يدل على نفي ما عداه لا سيما إذا علم أن غيره مثله فإن من جاز دخول بيته بإذنه إلى طعامه جاز دخوله بإذنه إلى غير الطعام انتهى والأولى في التعبير عن هذا المعنى الذي أراده أن يقال قد دلت الأدلة على جواز دخول بيوته (- صلى الله عليه وسلم -) بإذنه لغير الطعام، وذلك معلوم لا شك فيه فقد كان الصحابة وغيرهم يستأذنون عليه لغير الطعام فيأذن لهم، وذلك يوجب قصر هذه الآية على السبب الذي نزل فيه، وهو القوم الذين كانوا يتحينون طعام النبي (- صلى الله عليه وسلم -) فيدخلون ويقعدون منتظرين لإدراكه وأمثالهم، فلا تدل على المنع من الدخول مع الإذن لغير ذلك، وإلا لما جاز لأحد أن يدخل بيوته بإذنه لغير الطعام، واللازم باطل فالملزوم مثله.
قال ابن عطية: وكانت سيرة القوم إذا كان لهم طعام وليمة أو نحوه أن يبكر من شاء إلى الدعوة ينتظرون طبخ الطعام ونضجه، وكذلك إذا فرغوا منه جلسوا كذلك، فنهى الله المؤمنين عن ذلك في بيت النبي (- صلى الله عليه وسلم -) ودخل في النهي سائر المؤمنين، والتزم الناس أدب الله لهم في ذلك فمنعهم من الدخول إلا بإذن عند الأكل، لا قبله لانتظار نضج الطعام، ثم بين سبحانه ما ينبغي في ذلك فقال:
(ولكن إذا دعيتم) وأذن لكم فادخلوا، وفيه تأكيد بليغ للمنع، وبيان الوقت الذي يكون فيه الدخول، وهو عند الإذن، وقال ابن العربي: وتقدير الكلام ولكن إذا دعيتم وأذن لكم.
(فادخلوا) وإلا فنفس الدعوة لا يكون إذناً كافياً في الدخول، وقيل إن فيه دلالة بينة على أن المراد بالإذن إلى الطعام هو الدعوة إليه، قال الرازي: فيه لطيفة وهي أنه في العادة إذا قيل لمن يعتاد دخول دار من غير إذن لا تدخلها إلا بإذن، يتأذى وينقطع بحيث لا يدخلها أصلاً، ولا بالدعاء، فقال: لا تفعلوا مثل ما يفعله المستنكفون، بل كونوا طائعين إذا قيل لكم لا تدخلوا(11/128)
فلا تدخلوا، وإذا قيل لكم ادخلوا فادخلوا وقوله: إلا أن يؤذن لكم يفيد الجواز، وقوله: ولكن إذا دعيتم فادخلوا يفيد الوجوب، فليس تأكيداً بل هو مفيد فائدة جديدة.
(فإذا طعمتم) أي أكلتم الطعام يقال: طعم بكسر العين يطعم بفتحها طعماً كفهم، وطعماً كقفل، وفي الخطيب إذا أكلتم طعاماً أو شربتم شراباً (فَانْتَشِرُوا) أي اذهبوا حيث شئتم في الحال، ولا تمكثوا بعد الأكل والشرب والمراد الإلزام بالخروج من المنزل الذي وقعت الدعوة إليه عند انقضاء المقصود من الأكل، ولا تدخلوا هاجمين.
(ولا) تمكثوا (مستأنسين لحديث) يستأنس بعضكم ببعض لأجل حديث يحدث به، يقال: أنست به أنساً من باب علم، وفي لغة من باب ضرب، والأنس بالضم اسم منه واستأنست به وتأنست به إذا سكن القلب ولم ينفر (إن ذلكم) أي الانتظار أو المكث والاستئناس للحديث وأشير إليهما بما يشار به إلى الواحد بتأويلهما بالمذكور كما في قوله تعالى: (عوان بين ذلك)، أي إن ذلك المذكور من الأمرين.
(كان) في علم الله (يؤذي النبي) لأنهم كانوا يضيقون عليه المنزل وعلى أهله، ويتحدثون بما لا يريده، قال الزجاج: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يحتمل إطالتهم كرماً منه فيصبر على الأذى في ذلك فعلم الله من يحضره الأدب فصار أدباً لهم ولمن بعدهم.
(فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ) أي يستحيي أن يقول لكم: قوموا أو أخرجوا (وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ) أي لا يترك أن يبين لكم ما هو الحق ولا يمتنع من بيانه وإظهاره والتعبير عنه بعدم الاستحياء للمشاكلة.
قرأ الجمهور: يستحيي بيائين وروي عن ابن كثير أنه قرأ بياء واحدة، وهي لغة تميم يقولون استحى يستحي مثل استقى يستقي وهذا أدبٌ أدَّب الله به الثقلاء وعن عائشة قالت: حسبك في الثقلاء أن الله تعالى لم يحتملهم، وقال: إذا طعمتم فانتشروا؛ ثم ذكر سبحانه أدباً آخر متعلقاً بنساء النبي - صلى الله عليه وسلم -(11/129)
فقال.
(وإذا سألتموهن) أي أزواج النبي (- صلى الله عليه وسلم -) (متاعاً) أي شيئاًً يتمتع به من الماعون وغيره والمتاع يطلق على كل ما يتمتع به فلا وجه لما قيل من أن المراد به العارية أو الفتوى أو المصحف.
(فاسألوهن) المتاع (من وراء حجاب) أي من وراء ستر بينكم وبينهن فبعد آية الحجاب لم يكن لأحد أن ينظر إلى امرأة من نساء رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -)، متنقبة كانت أو غير متنقبة.
(ذلكم) أي سؤال المتاع من وراء الحجاب، وقيل الإشارة إلى جميع ما ذكر من عدم الدخول بغير إذن وعدم الاستئناس للحديث عند الدخول وسؤال المتاع، والأول أولى، واسم الإشارة مبتدأ وخبره قوله:
(أطهر لقلوبكم وقلوبهن) أي أكثر تطهيراً لها من الريبة وخواطر السوء التي تعرض للرجال في أمر النساء، وللنساء في أمر الرجال وأبعد للتهمة وأقوى في الحماية وفي هذا أدب لكل مؤمن وتحذير له من أن يثق بنفسه في الخلوة مع من لا تحل له، والمكالمة من دون حجاب لمن تحرم عليه فإن مجانبة ذلك أحسن بحاله وأحصن لنفسه وأتم لعصمته.
(وما كان) أي ما صح ولا استقام (لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ) بشيء من الأشياء كائناً ما كان ومن جملة ذلك دخول بيوته بغير إذن منه، واللبث فيها على غير الوجه الذي يريده، وتكليم نسائه من دون حجاب.
(ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبداً) أي ولا كان لكم ذلك بعد وفاته أو فواقه لأنهن أمهات المؤمنين، ولا يحل للأولاد نكاح الأمهات قال ابن عباس في الآية: نزلت في رجل هَمَّ أن يتزوج بعض نساء النبي (- صلى الله عليه وسلم -) بعد موته.
قال سفيان: وذكروا أنها عائشة.
وعن السدي قال: بلغنا أن طلحة بن عبيد الله قال: أيحجبنا محمد عن بنات عمنا؟ ويتزوج نساءنا من بعدنا لئن حدث به حدث لنتزوجن نساءه من بعده، فنزلت هذه الآية. وعن قتادة قال: قال طلحة بن عبيد الله: لو قبض(11/130)
النبي (- صلى الله عليه وسلم -) لتزوجت عائشة، فنزلت. وعن أبي بكر محمد بن عمرو بن حزم قال: نزلت في طلحة لأنه قال إذا توفي النبي (- صلى الله عليه وسلم -) تزوجت عائشة. قال ابن عطية: وهذا عندي لا يصح على طلحة.
قال القرطبي: قال شيخنا الإمام أبو العباس وقد حكى هذا القول عن بعض فضلاء الصحابة وحاشاهم عن مثله، وإنما الكذب في نقله، وإنما يليق مثل هذا القول بالمنافقين الجهال.
وعن ابن عباس قال: قال رجل من أصحاب النبي (- صلى الله عليه وسلم -) لو قد مات رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) تزوجت عائشة وأم سلمة فأنزل الله: (وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله) الآية وعنه أن رجلاً أتى بعض أزواج رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) فكلمها وهو ابن عمها فقال النبي (- صلى الله عليه وسلم -): [لا تقومن هذا المقام بعد يومك هذا] فقال: يا رسول الله إنها ابنة عمي والله ما قلت لها منكراً، ولا قالت لي. قال النبي (- صلى الله عليه وسلم -): [قد عرفت ذلك إنه ليس أحد أغير من الله وأنه ليس أحد أغير مني] فمضى ثم قال: يمنعني من كلام ابنة عمي لأتزوجنها من بعده. فأنزل الله هذه الآية فأعتق ذلك الرجل رقبة وحمل على عشرة أبعرة في سبيل الله وحج ماشياً توبة من كلمته.
وعن أسماء بنت عميس قالت: خطبني علي فبلغ ذلك فاطمة فأتت النبي (- صلى الله عليه وسلم -) فقالت: إن أسماء متزوجة علياً فقال لها النبي (- صلى الله عليه وسلم -)، ما كان لها أن تؤذي الله ورسوله، والذي جرى عليه الرملي في شرح المنهاج أن من عقد عليها النبي (- صلى الله عليه وسلم -) تحرم على غيره سواء دخل بها صلى الله عليه وسلم أو لا، وأما حكم إمائه فمن دخل بها منهن حرمت على غيره وإلا فلا.
(إن ذلكم) أي نكاح أزواجه من بعده (كان عند الله عظيماً) أي ذنباً عظيماً، وخطباً هائلاً شديداً وهذا من إعلام تعظيم الله لرسوله - صلى الله عليه وسلم - وإيجاب حرمته حياً وميتاً، وإعلامه بذلك مما طيب نفسه، وسر قلبه، واستفرغ شكره فإن من الناس من تفرط غيرته على حرمته حتى يتمنى لها الموت قبله لئلا تنكح بعده.(11/131)
إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (54) لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلَا أَبْنَائِهِنَّ وَلَا إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلَا نِسَائِهِنَّ وَلَا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا (55)(11/132)
إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (54)
(إن تبدوا شيئاًً) أي تظهروه على ألسنتكم (أو تخفوه) في صدوركم (فإن الله كان بكل شيء عليماً) يعلم كل شيء من الأشياء ومن جملة ذلك ما تظهرونه في شأن أزواج رسوله، وما تكتمونه في صدوركم، وفي هذا وعيد شديد لأن إحاطته بالمعلومات تستلزم المجازاة على خيرها وشرها، قال أبو أمامة بن سهل في الآية: إن تكلموا به فتقولون نتزوج فلانة لبعض أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - أو تخفوا ذلك في أنفسكم فلا تنطقوا به يعلمه الله، ثم بين سبحانه من لا يلزم الحجاب منه فقال:(11/132)
لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلَا أَبْنَائِهِنَّ وَلَا إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلَا نِسَائِهِنَّ وَلَا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا (55)
(لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلَا أَبْنَائِهِنَّ وَلَا إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ) فهؤلاء لا يجب على نساء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا على غيرهن من النساء الاحتجاب منهم في رؤية وكلام، ولم يذكر العم والخال لأنهما يجريان مجرى الوالدين، وقال الزجاج: العم والخال ربما يصفان المرأة لولديهما فإن المرأة تحل لابن العم وابن الخال فكره لهما الرؤية وهذا ضعيف جداً، فإن تجويز وصف المرأة لمن تحل له ممكن من غيرهما ممن يجوز له النظر إليها لا سيما أبناء الإخوة وأبناء الأخوات، واللازم باطل فالملزوم مثله وهكذا يستلزم أن لا يجوز للنساء الأجنبيات أن ينظرن إليها لأنهن يصفنها، واللازم باطل فالملزوم مثله، وهكذا لا وجه لما قاله الشعبي وعكرمة: من أنه يكره للمرأة أن تضع خمارها عند عمها أو خالها، والأولى أن يقال: إنه سبحانه اقتصر ههنا على بعض من(11/132)
ذكره من المحارم في سورة النور اكتفاء بما تقدم.
(ولا نسائهن) هذه الإضافة تقتضي أن يكون بالنساء المؤمنات لأن الكافرات غير مأمونات على العورات، والنساء كلهن عورة، فيجب على أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - الاحتجاب عنهن كما يجب على سائر المسلمات أي ما عدا ما يبدو عند المهنة أما هو فلا يجب على المسلمات حجبه وستره عن الكافرات ولهذا قيل: هو خاص، أي لا يجوز للكتابيات الدخول على أزواج رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) وقيل عام في المسلمات والكتابيات.
(ولا ما ملكت أيمانهن) من العبيد والإماء أن يروهن ويكلموهن من غير حجاب وقيل: الإماء خاصة، ومن لم يبلغ من العبيد والخلاف في ذلك معروف، وقد تقدم في سورة النور ما فيه كفاية، ثم أمر سبحانه بالتقوى التي هي ملاك الأمر ونقل الكلام من الغيبة إلى الخطاب، وفي هذا النقل فضل تشديد كأنه قيل:
(واتقين الله) في كل الأمور التي من جملتها ما هو مذكور هنا من الاحتجاب أي أن يراكن أحد غير هؤلاء. قال ابن عباس: في الآية أنزلت هذه فىِ نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - خاصة.
(إن الله كان على كل شىء) من أعمال العباد (شهيداً) لم يغِب عنه شىء من الأشياء كائناً ما كان فهو مجاز للمحسن بإحسانه وللمسيء بإساءته، والشهيد الذي يعلم خطرات القلوب كما يعلم حركات الجوارح.(11/133)
إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (56) إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا (57) وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (58)(11/134)
إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (56)
(إن الله وملائكته يصلون على النبي) هذه الآية شرف الله بها رسوله - صلى الله عليه وسلم - في حياته وموته، وأظهر بها منزلته عنده تعالى، والضمير في: يصلون راجع إلى الله وإلى الملائكة، وفيه تشريف للملائكة عظيم حيث جعل الضمير لهم ولله سبحانه واحداً، فلا يرد الاعتراض بما ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - لما سمع الخطيب يقول: من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعصهما فقد غوى، فقال: بئس خطيب القوم أنت، قل: ومن يعص الله ورسوله، ووجه ذلك أنه ليس لأحد أن يجمع ذكر الله سبحانه مع غيره في ضمير واحد وهذا الحديث ثابت في الصحيح، وثبت أيضاًً في الصحيح أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أم منادياً ينادي يوم خيبر: إن الله ورسوله ينهيانكم عن لحوم الحمر الأهلية ولأهل العلم أبحاث في الجمع بين الحديثين ليس هذا موضع ذكرها، والآية مؤيدة للجواز لجعل الضمير فيها لله والملائكة واحداً، والتعليل بالتشريف للملائكة يقال مثله في رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ويحمل الذم لذلك الخطيب الجامع بينهما على أنه (- صلى الله عليه وسلم -) فهم منه إرادة التسوية بين الله سبحانه وبين رسوله، فيختص المنع بمثل ذلك، وهذا أحسن ما قيل في الجمع.
وقالت طائفة في هذه الآية حذف، والتقدير: إن الله يصلي وملائكته يصلون، وعلى هذا القول فلا تكون الآية مما جمع فيه بين ذكر الله وذكر غيره(11/134)
في ضمير واحد، ولا يرد أيضاًً ما قيل إن الصلاة من الله الرحمة، ومن ملائكته الدعاء، فكيف يجمع بين هذين المعنيين المختلفين في لفظ يصلون، ويقال على القول الأول: إنه أريد بيصلون معنى مجازي يعم المعنيين، وذلك بأن يراد بقوله يصلون: يهتمون بإظهار شرفه، أو يعظمون شأنه، أو يعتنون بأمره وحكى البخاري عن أبي العالية: أن صلاة الله سبحانه ثناؤه عليه عند ملائكته وصلاة الملائكة الدعاء، وروى الترمذي في سننه: عن سفيان الثوري وغير واحد من أهل العلم أنهم قالوا: صلاة الرب الرحمة، وصلاة الملائكة الاستغفار.
وقال عطاء بن أبي رباح: صلاته تبارك وتعالى: سبوح قدوس سبقت رحمتي غضبي. والمقصود من هذه الآية أن الله سبحانه أخبر عباده بمنزلة نبيه عنده في الملأ الأعلى بأنه يثني عليه عند ملائكته، وأن الملائكة تصلي عليه، وأمر عباده بأن يقتدوا بذلك ويصلوا عليه، وقد اختلف أهل العلم في الصلاة على النبي (- صلى الله عليه وسلم -) هل هي واجبة؟ أو مستحبة؟ بعد اتفاقهم على أن الصلاة عليه فرض في العمر مرة. وقد حكى هذا الإجماع الاقرطبي في تفسيره فقال قوم من أهل العلم: إنها واجبة عند ذكره، وقال قوم: تجب في كل مجلس مرة، وقد وردت أحاديث مصرحة بذم من سمع ذكر النبي (- صلى الله عليه وسلم -) فلم يصل عليه.
واختلف العلماء في الصلاة على النبي (- صلى الله عليه وسلم -) في تشهد الصلاة المفروضة هل هي واجبة أم لا؟ فذهب الجمهور إلى أنها فيها سنة مؤكدة غير واجبة. قال ابن المنذر: يستحب أن لا يصاب أحد صلاة إلا صلى فيها على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فإن ترك ذلك تارك فصلاته مجزئة في مذهب مالك وأهل المدينة، وسفيان الثوري، وأهل الكوفة من أصحاب الرأي وغيرهم،(11/135)
وهو قول جمهور أهل العلم، قال: وشذ الشافعي فأوجب على تاركها الإعادة مع تعمد تركها دون النسيان، وهذا القول عن الشافعي لم يروه عنه إلا حرملة ابن يحيى، ولا يوجد عن الشافعي إلا من روايته، قال الطحاوي: لم يقل به أحد من أهل العلم غير الشافعي، وقال الخطابي؛ وهو من الشافعية: إنها ليست بواجبة في الصلاة، قال: وهو قول جماعة الفقهاء إلا الشافعي، ولا أعلم له في ذلك قدوة، انتهى.
وقد قال بقول الشافعي جماعة من أهل العلم منهم الشعبي والباقر ومقاتل ابن حيان وإليه ذهب أحمد بن حنبل أخيراً، كما حكاه أبو زرعة الدمشقي، وبه قال ابن راهويه وابن المواز من المالكية وقد جمع الشوكاني رحمه الله في هذه المسألة رسالة مستقلة ذكر فيها ما احتج به الموجبون لها وما أجاب به الجمهور، وفي شرحه على المنتقى، ورسالتي: هداية السائل إلى أدلة المسائل، ما يشفي ويكفي وأشف ما يستدل به على الوجوب الحديث الثابت بلفظ: إن الله أمرنا أن نصلي عليك فكيف نصلي عليك في صلاتنا؟ قال قولوا: الحديث، فإن هذا الأمر يصلح للاستدلال به على الوجوب، وأما على بطلان الصلاة بالترك ووجوب الإعادة لها فلا، لأن الواجبات لا يستلزم عدمها العدم كما يستلزم ذلك الشروط والأركان.
واعلم أنه قد ورد في فضل الصلاة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحاديث كثيرة لو جمعت لجاءت في مصنف مستقل، ولو لم يكن منها إلا الأحاديث الثابتة في الصحيح من قوله - صلى الله عليه وسلم -: [من صلى عليّ صلاة صلى الله عليه عشراً] فناهيك بهذه الفضيلة الجليلة، والمكرمة النبيلة، وأما صفة الصلاة عليه - صلى الله عليه وسلم - فقد وردت فيها صفات كثيرة بأحاديث ثابتة في الصحيحين وغيرهما منها: ما هو مقيد بصفة الصلاة عليه في الصلاة، ومنها ما هو مطلق، وهي معروفة في كتب الحديث فلا نطيل بذكرها، والذي يحصل به الامتثال لمطلق الأمر في هذه الآية هو أن يقول القائل: اللهم صل وسلم على رسولك أو على محمد أو على النبي، أو اللهم صل على محمد وسلم ومن أراد أن يصلي ويسلم عليه بصفة من(11/136)
الصفات التي ورد التعليم بها والإرشاد إليها فذلك أكمل وهي صفات كثيرة قد اشتملت عليها كتب السنة المطهرة، وسيأتي بعضها، وسيأتي الكلام في الصلاة على الآل.
وكان ظاهر هذا الأمر بالصلاة والتسليم في الآية أن يقول القائل: صليت عليه وسلمت عليه أو الصلاة عليه والسلام عليه، أو عليه الصلاة والتسليم، لأن الله سبحانه أمرنا بإيقاع الصلاة عليه والتسليم منا، فالامتثال هو أن يكون ذلك على ما ذكرنا فكيف كان الامتثال لأمر الله لنا بذلك أن نقول: اللهم صلّ عليه وسلم بمقابلة أمر الله لنا بأمرنا له بأن نصلي عليه ونسلم عليه، وقد أجيب عن هذا بأن هذه الصلاة والتسليم لما كانتا شعاراً ْعظيماً للنبي - صلى الله عليه وسلم - وتشريفاً كريماً، وكّلنا ذلك إلى الله عز وجل وأرجعناه إليه وهذا الجواب ضعيف جداً.
وأحسن ما يجاب به أن يقال: إن الصلاة والتسليم المأمور بهما في الآية هما أن نقول: اللهم صلّ عليه وسلم أو نحو ذلك مما يؤدي معناه كما بينه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاقتضى ذلك البيان في الأحاديث الكثيرة أن هذه هي الصلاة الشرعية.
واعلم أن هذه الصلاة من الله على رسوله وإن كان معناها الرحمة فقد صارت شعاراً له يختص به دون غيره فلا يجوز لنا أن نصلي على غيره من أمته، كما يجوز لنا أن نقول اللهم ارحم فلاناً أو رحم الله فلاناً، وبهذا قال الجمهور من العلماء مع اختلافهم؛ هل هو محرم؟ أو مكروه كراهة شديدة؟ أو مكروه كراهة تنزيه؟ على ثلاثة أقوال. وقد قال ابن عباس: كما رواه عنه ابن أبي شيبة والبيهقي في الشعب: لا تصلح الصلاة على أحد إلا على النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولكن يدعى للمسلمين والمسلمات بالاستغفار.
وقال في المواهب: لم ينقل أن الأمم المتقدمة كان يجب عليهم أن يصلوا على أنبيائهم انتهى وقال في الأنموذج ومن خواصه - صلى الله عليه وسلم - أنه ليس في القرآن ولا(11/137)
غيره صلاة من الله تعالى على غيره - صلى الله عليه وسلم - فهي خصيصة اختصه الله بها دون سائر الأنبياء انتهى. وقال قوم: إن ذلك جائز لقوله تعالى: (وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم)، ولقوله: (أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة)، ولقوله: (هو الذي يصلي عليكم وملائكته).
ولحديث عبد الله بن أبي أوفى الثابت في الصحيحين وغيرهما قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أتاه قوم بصدقتهم قال: اللهم صلّ عليهم فأتاه أبيّ بصدقته فقال: اللهم صلّ على آل أبي أوفى، ويجاب عن هذا بأن هذا الشعار الثابت لرسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) له أن يخص به من شاء، وليس لنا أن نطلقه على غيره، وأما قوله تعالى: (هو الذي يصلي) إلخ وقوله: (أولئك عليهم صلوات) فهذا ليس فيه إلا إن الله سبحانه يصلي على طوائف من عباده كما يصلي على من صلى على رسوله (- صلى الله عليه وسلم -) مرة واحدة عشر صلوات وليس في ذلك أمر لنا ولا شرعة الله في حقنا. بل لم يشرع لنا إلا الصلاة والتسليم على رسوله، وكما أن لفظ الصلاة على رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) شعار له فكذا لفظ السلام عليه.
وقد جرت عادة جمهور هذه الأمة والسواد الأعظم من سلفها وخلفها على الترضي عن الصحابة والترحم على من بعدهم، والدعاء لهم بمغفرة الله وعفوه كما أرشدنا إلى ذلك بقوله سبحانه: (وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ). عن ابن عباس أن بني إسرائيل قالوا لموسى: هل يصلي ربك؟ فناداه ربه يا موسى: سألوك هل يصلي ربك؟ فقال: نعم أنا أصلي وملائكتي على أنبيائي ورسلي، فأنزل الله على نبيه: (إن الله وملائكته يصلون على النبي) الآية أي يبركون، وعنه أن صلاة الله على النبي هي المغفرة إن الله لا يصلي، ولكن يغفر، وأما صلاة الناس على النبي فهي الاستغفار له.
(يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه) أي ادعوا له بالرحمة وقولوا: اللهم(11/138)
صلّ على محمد أو صلى الله على محمد فإنكم أولى بذلك، وعن ابن عباس أنه قرأ: صلوا عليه كما صلى الله عليه (وسلموا تسليماً) أي حيوه بتحية السلام، وقولوا اللهم سلم على محمد، أو انقادوا لأمره انقياداً والأول أولى، ثم هي واجبة مرة عند الطحاوي، وكلما ذكر اسمه عند الكرخي، وهو الاحتياط وعليه الجمهور.
قال أبو السعود: وهذه الآية دليل على وجوب الصلاة والسلام عليه مطلقاً أي من غير تعرض لوجوب التكرار، وقال القسطلاني قيل: هي مستحبة وقيل: واجبة في التشهد الأخير من كل صلاة وعليه الشافعي وهو رواية عن أحمد وقيل: تجب في الصلاة من غير تعيين لمحل منها. وقيل: تجب في خارج الصلاة وقيل: كلما ذكر وقيل: في كل مجلس مرة وإن تكرر ذكره فيه وقيل: تجب في العمر مرة واحدة وقيل: تجب في الجملة من غير حصر وقيل: يجب الإكثار منها من غير تقييد. وتسليماً مصدر مؤكد قال الإمام ولم تؤكد الصلاة لأنها مؤكدة بقوله: إن الله وملائكته إلخ وقيل: إنه من الاحتباك فحذف عليه من أحدهما والمصدر من الآخر وقال بعض الفضلاء: إنه سئل في منامه لم خص السلام بالمؤمنين دون الله والملائكة؟ ولم يذكر له جواباً؟.
قلت: وقد لاح لب فيه نكتة سرية أي شريفة، وهي أن السلام تسليمه عما يؤذيه، فلما جاءت هذه الآية عقيب ذكر ما يؤذي النبي والأذية إنما هي من البشر فناسب التخصيص بهم، والتأكيد، وإليه الإشارة بما ذكر بعده قاله الشهاب.
وأقول: هذه الآية من باب الاكتفاء على حد قوله: سرابيل تقيكم الحر والمعنى: إن الله وملائكته يصلون على النبي ويسلمون، وقد ثبت بالأدلة الصحيحة القرآنية وغيرها تسليم الله تعالى على غيره - صلى الله عليه وسلم - من الأنبياء والصلحاء، والنكتة التي ذكرها الشهاب لا تخلو عن تكلف وبعد تأمل. وعن كعب بن عجرة قال: لما نزلت: (إن الله وملائكته) الآية قلنا: يا رسول الله(11/139)
قد علمنا السلام عليك فكيف الصلاة عليك؟ قال: قولوا: اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم، وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد، وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم، وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، أخرجه سعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن أبي حاتم وابن مردويه.
وأخرجه البخاري ومسلم وغيرهما من حديثه بلفظ: قال رجل: يا رسول الله أما السلام عليك فقد علمناه، فكيف الصلاة عليك؟ قال: قل: اللهم صلّ على محمد، وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم إنك حميد مجيد اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم إنك حميد مجيد.
وأخرج ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وأحمد، والنسائي من حديث طلحة بن عبيد الله قال: قلت: يا رسول الله كيف الصلاة عليك؟ قال: قل: اللهم صلّ على محمد، وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم، وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
وفي الأحاديث اختلاف، ففي بعضها على إبراهيم فقط، وفي بعضها على آل إبراهيم فقط، وفي بعضها بالجمع بينهما، كحديث طلحة هذا. وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما من حديث أبي حميد الساعدي أنهم قالوا: يا رسول الله كيف نصلي عليك: فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قولوا: اللهم صلّ على محمد وأزواجه وذريته كما صليت على آل إبراهيم، وبارك على محمد وأزواجه وذريته كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، والأحاديث في هذا الباب كثيرة جداً، وفي بعضها التقييد بالصلاة كما في حديث ابن مسعود عند ابن خزيمة والحاكم وصححه، والبيهقي في سننه أن رجلاً قال: يا رسول الله أما السلام عليك فقد عرفناه، فكيف نصلي عليك إذا نحن صلينا عليك في صلاتنا الحديث.
وأخرج الشافعي في مسنده من حديث أبي هريرة مثله وجميع التعليمات(11/140)
الواردة عنه - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة عليه مشتملة على الصلاة على آله معه إلا النادر اليسير من الأحاديث، فينبغي للمصلي عليه أن يضم آله إليه في صلاته عليه، وقد قال بذلك جماعة، ونقله إمام الحرمين والغزالي قولاً عن الشافعي، كما رواه عنهما ابن كثير في تفسيره، ولا حاجة إلى التمسك بقول قائل في مثل هذا مع تصريح الأحاديث الصحيحة به، ولا وجه لقول من قال: إن هذه التعليمات الواردة عنه (- صلى الله عليه وسلم -) في صفة الصلاة عليه مقيدة بالصلاة في الصلاة حملاً لمطلق الأحاديث على المقيد منها بذلك القيد لما في حديث كعب بن عجرة وغيره أن ذلك السؤال لرسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) كان عند نزول الآية، وأخرج عبد الرزاق وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن أبي هريرة أن رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) وآله وسلم قال: صلوا على أنبياء الله ورسله فإن الله بعثهم كما بعثني، ثم لما ذكر سبحانه ما يجب لرسوله من التعظيم ذكر الوعيد الشديد للذين يؤذونه فقال:(11/141)
إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا (57)
(إن الذين يؤذون الله ورسوله) قيل المراد بالأذى هنا هو فعل ما يكرهانه من المعاصي ليعم هذا القدر الإيذاء الحقيقي في حق الرسول، والمجازي في حقه تعالى، لاستحالة حقيقة التأذي عليه سبحانه، قال الواحدي قال المفسرون: هم المشركون واليهود والنصارى وصفوا الله بالولد، فقالوا عزير ابن الله، والمسيح ابن الله، والملائكة بنات الله، وكذبوا رسول الله وشجوا وجهه، وكسروا رباعيته، وقالوا: مجنون، شاعر، كذاب، ساحر وبه قال ابن عباس.
قال القرطبي: وبهذا قال جمهور العلماء، وقال عكرمة الأذية لله سبحانه بالتصوير والتعرض لفعل ما لا يفعله إلا الله بنحت الصور وغيرها، وقال جماعة إن الآية على حذف مضاف والتقدير: إن الذين يؤذون أولياء الله، وقيل: معنى الأذية الإلحاد في أسمائه وصفاته وأما أذية رسوله فهي كل ما يؤذيه من الأقوال والأفعال، ومنه ترك الاتباع، وفعل التقليد لآراء الرجال(11/141)
وإيثاره عليه.
(لعنهم الله) معنى اللعنة الطرد والإبعاد من رحمته، وجعل ذلك (في الدنيا والآخرة) لتشملهم اللعنة فيهما بحيث لا يبقى وقت من أوقات محياهم ومماتهم إلا واللعنة واقعة عليهم مصاحبة لهم.
(وأعد لهم) مع ذلك اللعن (عذاباً مهيناً) يصيرون به في الإهانة في الدار الآخرة، لما يفيده معنى الإعداد من كونه في الدار الآخرة، عن ابن عباس في الآية قال: نزلت في الذين طعنوا على النبي (- صلى الله عليه وسلم -) حين اتخذ صفية بنت حي، وروي عنه: أنها نزلت في الذين قذفوا عائشة، ثم لما فرغ من الذم لمن آذى الله ورسوله ذكر الأذية لصالحي عباده فقال:(11/142)
وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (58)
(والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات) بوجه من وجوه الأذى من قول، أو فعل ومعنى قوله: (بغير ما اكتسبوا) إنه لم يكن ذلك بسبب فعلوه يوجب عليهم الأذية ويستحقونها به وقيل: يقعون فيه ويرمونهم بغير جرم، فأما الأذية للمؤمن والمؤمنة بما كسبوه مما يوجب عليه حداً أو تعزيراً أو نحوهما فذلك حق أثبته الشرع، وأمر أمرنا الله به وندبنا إليه وهكذا إذا وقع من المؤمنين والمؤمنات الابتداء بشتم لمؤمن أو مؤمنة أو ضرب فإن القصاص من الفاعل ليس من الأذية المحرمة على أي وجه كان ما لم يجاوز ما شرعه الله ثم أخبر عما لهؤلاء الذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقال:
(فقد احتملوا بهتاناً وإثماً مبيناً) أي ظاهراً واضحاً لا شك في كونه من البهتان والإثم، وقد تقدم بيان حقيقة البهتان وحقيقة الإثم. قيل: إنها نزلت في علي بن أبي طالب كانوا يؤذونه. وقيل نزلت في شأن عائشة وقيل نزلت في الزناة كانوا يمشون في طرق المدينة يتبعون النساء وهن كارهات، وعن الفضيل: لا يحل لك أن تؤذي كلباً أو خنزيراً بغير حق فكيف إيذاء المؤمنين والمؤمنات ولما فرغ سبحانه من الزجر لمن يؤذي رسوله والمؤمنين والمؤمنات من عباده، أمر رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) أن يأمر بعض من ناله الأذى ببعض ما يدفع ما يقع عليه منه فقال:(11/142)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (59) لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا (60) مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا (61) سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (62)(11/143)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (59)
(يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ) جمع جلباب وهو ثوب أكبر من الخمار، وهو الملاءة التي تشتمل بها المرأة فوق الدرع والخمار، قال الجوهري: لجلباب الملحفة، وقال الشهاب إزار واسع يلتحف به، وقيل: القناع وقيل: هو كل ثوب يستر جميع بدن المرأة من كساء وغيره كما ثبت في الصحيح من حديث أم عطية أنها قالت يا رسول الله إحدانا لا يكون لها جلباب؟ فقال: (لتلبسها أختها من جلبابها) قال الواحدي قال المفسرون: يغطين وجوههن ورؤوسهن إلا عيناً واحدة فيعلم أنهن حرائر فلا يعرض لهن بأذى، وبه قال ابن عباس، وقال الحسن: تغطي نصف وجهها، وقال قتادة: تلويه فوق الجبين وتشده، ثم تعطفه على الأنف وإن ظهرت عيناها لكنه يستر الصدر ومعظم الوجه، وقال البرد: يرخينها عليهن ويغطين بها وجوههن وأعطافهن، و (من) للتبعيض أي ترخي بعض جلبابها وفضله على وجهها تتقنع حتى تتميز عن الأمة.
(ذلك) أي إدناء الجلابيب وهو مبتدأ وخبره (أدنى) أقرب (أن يعرفن) فيتميزن عن الإماء ويظهر للناس أنهن حرائر (فلا يؤذين) من جهة أهل الريبة بالتعرض لهن مراقبة لهن ولأهلهن، وليس المراد بقوله ذلك إلخ أن تعرف الواحدة منهن من هي، بل المراد أن يعرفن أنهن حرائر لا إماء لأنهن لبسن لبسة تختص بالحرائر.
قال السبكي: في الطبقات الكبرى إن من أئمة الشافعية أحمد بن عيسى(11/143)
شارح التنبيه استنبط من هذه الآية أن ما يفعله علماء هذا الزمان في ملابسهم من سعة الأكمام والعمة ولبس الطيلسان حسن، وإن لم يفعله السلف، لأن فيه تمييزاً لهم، وبذلك يعرفون فيلتفت إلى فتاواهم وأقوالهم انتهى. ومنه يعلم أن تمييز الأشراف بعلامة أمر مشروع أيضاًً انتهى.
أقول ما أبرد هذا الاستنباط وما أقل نفعه، لا سيما بعد ما ورد في السنة المطهرة من النهي عن الإسراف في اللباس وإطالته، وقد منع عن ذلك سلف الأمة وأئمتها فأين هذا من ذاك؟ وإنما هو بدعة أحللها علماء السوء ومشايخ الدنيا ولذا قال علي القاري في معرض الذم: " لهم عمائم كالأبراج، وكمائم كالأخراج " وأنكر عليهم ذلك أشد الإنكار، وما ذكره من أن زي العلماء والأشراف سنة رده ابن الحاج في المدخل بأنه مخالف لزيهم في زمن النبي (- صلى الله عليه وسلم -) وزمن الخلفاء الراشدين ومن بعدهم من خير القرون، فإن قيل إنهم به يعرفون، قيل إنهم لو بقوا على الزي الأول عرفوا به أيضاًً لمخالفته لما عليه غيرهم الآن وأطال في إنكار ما قالوه، وقد بسطنا القول على ذلك في حجج الكرامة بالفارسية أيضاًً فراجعه.
(وكان الله غفوراً) لما سلف من ترك إدناء الجلابيب (رحيماً). بهن أو غفوراً لذنوب المذنبين رحيماً بهم، فيدخل في ذلك دخولاً أولياً.
وقد أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن عائشة قالت: خرجت سودة بعدما ضرب الحجاب لحاجتها وكانت امرأة جسيمة لا تخفى على من يعرفها، فرآها عمر فقال: يا سودة أما والله ما يخفين علينا فانظري كيف تخرجين. قالت: فانكفأت راجعة ورسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) في بيتي، وإنه ليتعشى، وفي يده عرق، فدخلت وقالت: يا رسول الله إني خرجت لبعض حاجتي فقال عمر: كذا وكذا فأوحي إليه ثم رفع عنه وإن العرق في يده ما وضعه فقال إنه قد أذن لكن أن تخرجن لحاجتكن.
وعن أبي مالك قال: كان نساء النبي (- صلى الله عليه وسلم -) يخرجن لحاجتهن بالليل وكان ناس من المنافقين يتعرضون لهن فَيَؤبْن فقيل ذلك للمنافقين فقالوا: إنما(11/144)
نفعله بالإماء فنزلت هذه الآية: (يا أيها النبي قل لأزواجك) الآية.
وعن محمد بن كعب القرظي قال: كان رجل من المنافقين يتعرض لنساء المؤمنين يؤذيهن فإذا قيل له قال كنت أحسبها أمة، فأمرهن الله أن يخالفن زي الإماء ويدنين عليهن من جلابيبهن، تخمر وجهها إلا إحدى عينيها ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين، يقول ذلك أحرى أن يعرفن.
وعن ابن عباس في هذه الآية قال: أمر الله نساء المؤمنين إذا خرجن من بيوتهن في حاجة أن يغطين وجوههن من فوق رؤوسهن بالجلابيب، ويبدين عيناً واحدة، وعن أم سلمة قالت: لما نزلت هذه الآية يدنين عليهن من جلابيبهن خرج نساء الأنصار كأن على رؤوسهن الغربان من السكينة، وعليهن أكسية سود يلبسنها هكذا في الرواية بلفظ: من السكينة، وليس لها معنى فإن المراد تشبيه الأكسية السود الغربان لا أن المراد وصفهن بالسكينة كما يقال: كأن على رؤوسهن الطير.
وعن عائشة قالت: رحم الله نساء الأنصار لما نزلت: (يا أيها النبي قل لأزواجك) الآية شققن مروطهن فاعتجرن بها فصلين خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كأن على رؤوسهن الغربان.
وعن ابن عباس في الآية قال: كانت الحرة تلبس لباس الأمة فأمر الله نساء المؤمنين أن يدنين عليهن من جلابيبهن وإدناء الجلباب أن تقنع وتشده على جبينها.
قال أنس: مرت بعمر بن الخطاب جارية متنقبة فعلاها بالدرة وقال يا لكاع تتشبهين بالحرائر ألقي القناع، قلت: ولكاع كلمة تقال لمن يستحقر به مثل العبد، والأمة، والخامل، والقليل العقل، مثل قولك: يا خسيس، وذلك أن النساء في أول الإسلام على هاجراتهن في الجاهلية متبذلات، تبرز المرأة في درع وخمار لا فصل بين الحرة والأمة.
وكان الفتيان يتعرضون إذا خرجن بالليل لقضاء حوائجهن في النخيل والغيمان - للإماء، وربما تعرضوا للحرة لحسبان الأمة فأُمرن أن يخالفن بزيهن(11/145)
عن زي الإماء بلبس الملاحف وستر الرؤوس والوجوه، فلا يطمع فيهن طامع، ثم توعد سبحانه أهل النفاق والإرجاف فقال:(11/146)
لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا (60)
(لئن لم ينته المنافقون) عما هم عليه من النفاق (والذين في قلوبهم مرض) أي شك وريبة عما هم عليه من الاضطراب (والمرجفون في المدينة) عما يصدر منهم من الإرجاف بذكر الأخبار الكاذبة المتضمنة لتوهين جانب المسلمين وظهور المشركين عليهم.
قال القرطبي: أهل التفسير على أن الأوصاف الثلاثة لشىء واحد، والمعنى أن المنافقين قد جمعوا بين النفاق ومرض القلوب والإرجاف على المسلمين فهو على هذا من باب قوله:
إلى الملك القرم وابن الهما ... م وليث الكتيبة في المزدحم
والواو مقحمة. وقيل الموصوف متغاير ومتعدد، فكان من المنافقين قوم يرجفون وقوم يتبعون النساء للريبة، وقال عكرمة وشهر بن حوشب: الذين في قلوبهم مرض هم الزناة. من قوله: (فيطمع الذي في قلبه مرض)، والمرض هو الزنا والإرجاف في اللغة إشاعة الكذب والباطل، يقال: أرجف بكذا إذا أخبر به على غير حقيقته لكونه خبراً متزلزلاً غير ثابت من الرجفة، وهي الزلزلة، يقال: رجفت الأرض أي تحركت وتزلزلت ترجف رجفاً، والرجفان الاضطراب الشديد، وسمي البحر رجافاً لاضطرابه، والإرجاف واحد الأراجيف، وأرجفوا في الشيء خاضوا فيه، وذلك بأن هؤلاء المرجفين كانوا يخبرون عن سرايا المسلمين بأنهم هزموا، وتارة بأنهم قتلوا، وتارة بأنهم غلبوا، ونحو ذلك مما تنكسر له قلوب المسلمين من الأخبار فتوعدهم الله سبحانه بقوله:
(لنغرينك بهم) أي لنحرشنك ولنسلطنك عليهم فتستأصلهم بالقتل والتشريد بأمرنا لك بذلك، قال المبرد: قد أغراه الله بهم في قوله الآتي:(11/146)
مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا (61)
(ملعونين أينما ثقفوا) إلخ فهذا فيه معنى الأمر بقتلهم وأخذهم أي هذا حكمهم إذا كانوا مقيمين على النفاق والإرجاف؛ قال النحاس: وهذا من أحسن ما(11/146)
قيل في الآية، وأقول ليس هذا بحسن ولا أحسن، فإن قوله ملعونين إلخ، إنما هو لمجرد الدعاء عليهم لا أنه أمر لرسوله (- صلى الله عليه وسلم -) بقتالهم ولا تسليط له عليهم، وقد قيل: إنهم انتهوا بعد نزول هذه الآية عن الإرجاف فلم يغره الله بهم، وجملة لنغرينك بهم، جواب القسم.
(ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلاً) وإنما عطف بثم لأن الجلاء عن الأوطان كان أعظم عليهم من جميع ما أصيبوا به فتراخت حاله عن حال المعطوف عليه يعني أنها للتفاوت الرتبي والدلالة على أن ما بعدها أبعد مما قبلها، وأعظم وأشد عندهم، والمعنى لا يساكنونك في المدينة إلا جواراً قليلاً حتى يخرجوا أو يهلكوا.
(ملعونين أينما ثقفوا) أي مطرودين أينما وجدوا وأدركوا (أخذوا وقتلوا تقتيلاً) دعاء عليهم بأن يؤخذوا ويقتلوا، والتشديد يدل على التكثير وقيل: إن هذا هو الحكم فيهم وليس بدعاء عليهم، والأول أولى، وقيل معنى الآية: أنهم إن أصروا على النفاق لم يكن لهم مقام بالمدينة إلا وهم مطرودون ملعونون.
وقد فعل بهم - صلى الله عليه وسلم - هذا فإنه لما نزلت سورة براءة جمعوا، فقال: النبي (- صلى الله عليه وسلم -): " يا فلان قم فاخرج فإنك منافق ويا فلان قم فقام إخوانهم من المسلمين وتولوا إخراجهم من المسجد ".(11/147)
سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (62)
(سنة الله في الذين خلوا من قبل) أي سن الله ذلك في الأمم الماضية وهو لعن المنافقين وأخذهم وتقتيلهم، وكذا حكم المرجفين وهو منتصب على المصدر قال الزجاج: سن الله في الذين ينافقون الأنبياء ويرجفون بهم أن يقتلوا حيثما ثقفوا.
(ولن تجد لسنة الله تبديلاً) أي تحويلاً وتغييراً، بل هي ثابتة دائمة في أمثال هؤلاء في الخلف والسلف، يجريها الله مجرى واحداً في الأمم لإثباتها على أساس الحكمة التي عليها يدور فلك التشريع، وقال الخطيب: أي ليست هذه السنة مثل الحكم الذي يتبدل وينسخ، فإن النسخ يكون في الأقوال أما الأفعال إذا وقعت والأخبار فلا تنسخ.(11/147)
يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا (63) إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا (64) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (65) يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا (66) وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا (67) رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا (68) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا (69) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70)(11/148)
يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا (63)
(يسألك الناس عن الساعة) أي عن وقت حصولها ووجودها وقيامها، قيل السائلون عنها هم أولئك المنافقون والمرجفون والمشركون واليهود لما توعدوا بالعذاب سألوا عن الساعه استبعاداً وتكذيباً، أو امتحاناً، لأن الله تعالى عمى وقتها في التوارة وسائر الكتب (قل إنما علمها عند الله) يعني أنه سبحانه قد استأثر به ولم يطلع عليه نبياً مرسلاً ولا ملكاً مقرباً.
(وما يدريك) أي ما يعلمك ويخبرك يا محمد (لعل الساعة تكون قريباً) أي في زمان قريب وانتصاب قريباً على الظرفية والتذكير لكون الساعة في معنى اليوم، أو الوقت مع كون التأنيث ليس بحقيقي، والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم لبيان أنها إذا كانت محجوبة عنه لا يعلم وقتها -وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم - فكيف بغيره من الناس وفي هذا تهديد عظيم للمستعجلين وإسكات للممتحنين والمشركين؛ ولمن يثبت علم المغيبات للأنبياء والصلحاء وغيرهم من الخلق.(11/148)