ثم قص سبحانه علينا ما دار بين موسى والخضر بعد اجتماعهما فقال(8/81)
قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا (66)
(قال له موسى هل أتبعك على أن تعلمن مما علمت رشداً) في هذا السؤال ملاطفة ومبالغة في الأدب والتواضع لأنه استجهل نفسه واستأذنه أن يكون تابعاً له على أن يعلمه مما علمه الله من العلم، والرُّشْد بضم الراء وسكون الشين هو الوقوف على الخير وإصابة الصواب أي علماً ذا رشد أرشد به، وقرئ رَشَداً بفتحتين وهما لغتان كالبخل والبَخَل.
وفي الآية دليل على أن المتعلم تبع للعالم وإن تفاوتت الراتب، وليس في ذلك ما يدل على أن الخضر أفضل من موسى فقد يأخذ الفاضل عن الفاضل، وقد يأخذ الفاضل عن المفضول إذا اختص أحدهما بعلم لا يعلمه الأخر، فقد كان علم موسى علم الأحكام الشرعية والقضاء بظاهرها، وكان علم الخضر علم بعض الغيب ومعرفة البواطن، وقد زل أقدام أقوام من الضلال في هذا المقام في تفضيل الولي على النبي حيث قالوا؛ أمر موسى بالتعلم من الخضر وهو ولي وهو كفر جلي والجواب ما ذكرناه.(8/81)
قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (67)
(قال) الخضر لموسى (إنك لن تستطيع معي صبراً) أي لا تطيق أن تصبر على ما تراه من علمي لأن الظواهر التي هي علمك لا توافق ذلك ثم أكد ذلك مشيراً إلى علة عدم الاستطاعة فقال(8/81)
وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا (68)
(وكيف تصبر على ما لم تحط به خبراً) أي كيف تصبر على علم ظاهره منكر وأنت لا تعلم، ومثلك مع كونك صاحب شرع لا يسوغ له السكوت على منكر والإقرار عليه، والخبر العلم بالشيء والخبير بالأمور هو العالم بخفاياها وما يحتاج إلى الاختبار منها.(8/81)
قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا (69) قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا (70) فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا (71) قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (72) قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا (73) فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا (74)(8/82)
قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا (69)
(قال) موسى للخضر (ستجدني إن شاء الله صابراً) معك ملتزماً طاعتك، وإنما استثنى لأنه لم يثق من نفسه بالصبر ولم يستثن الخضر لأنه في مقام التعليم (ولا أعصي لك أمراً) أي لا أخالفك فيما تأمرني به، والتقييد بقوله إن شاء الله شامل للصبر ونفي المعصية، وقيل أن التقييد بالمشيئة مختص بالصبر لأنه أمر مستقبل لا يدري كيف يكون حاله فيه ونفي المعصية معزوم عليه في الحال ويجاب عنه بأن الصبر ونفي المعصية متفقان في كون كل واحد منهما معزوماً عليه في الحال وفي كون كل واحد منهما لا يدرى كيف حاله فيه في المستقبل.(8/82)
قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا (70)
(قال) الخضر لموسى (فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء) مما تشاهد من أفعالي المخالفة لما يقتضيه ظاهر الشرع الذي بعثك الله به أي لا تفاتحني بالسؤال عن حكمته فضلاً عن المناقشة والاعتراض (حتى أحدث لك منه ذكراً) أي حتى أكون أنا المبتدئ لك بذكره وبيان وجهه وما يؤول إليه وفيه إيذان بأن كل ما صدر عنه فله حكمة وغاية حميدة البتة وهذا من أدب المتعلم مع العالم والتابع مع المتبوع وهذه الجمل المعنونة بقال وقال مستأنفات لأنها جوابات عن سؤالات مقدرة كل واحدة ينشأ السؤال عنها مما قبلها.
واعلم أنه قد رويت في قصة موسى مع الخضر المذكورة في كتاب العزيز أحاديث كثيرة وأتمها وأكملها ما روي عن ابن عباس ولكنها اختلفت في بعض(8/82)
الألفاظ وكلها مروية عن سعيد بن جبير عنه وبعضها في الصحيحين وغيرهما وبعضها في أحدهما وبعضها خارج عنهما، وقد رويت من طريق العوفي عنه كما أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم ومن طرق أخرى فلنقتصر على الرواية التي هي أتم الروايات الثابتة في الصحيحين ففي ذلك ما يغني عن غيره وهي (1):
قال سعيد بن جبير قلت لابن عباس إن نوفاً البكالي يزعم أن موسى صاحب الخضر ليس هو موسى صاحب بني إسرائيل، قال ابن عباس كذب عدو الله حدثنا أبي بن كعب أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إن موسى قام خطيباً في بني إسرائيل فسئل أي الناس أعلم فقال أنا فعتب الله عليه إذ لم يرد العلم إليه فأوحى الله إليه أن لي عبداً بمجمع البحرين هو أعلم منك قال موسى يا رب فكيف لي به قال تأخذ معك حوتاً فتجعله في مكتل فحيثما فقدت الحوت فهو ثم (2).
فأخذ حوتاً فجعله في مكتل ثم انطلق وانطلق معه فتاه يوشع بن نون حتى إذا أتيا الصخرة وضعا رأسيهما فناما واضطرب الحوت في المكتل فخرج منه فسقط في البحر فاتخذ سبيله في البحر سرباً وأمسك الله عن الحوت جرية الماء فصار عليه مثل الطاق.
فلما استيقظ نسي صاحبه أن يخبره بالحوت فانطلقا بقية يومهما وليلتهما حتى إذا كان من الغد قال موسى لفتاه آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصباً قال ولم يجد موسى النصب حتى جاوز المكان الذي أمر الله به، فقال له فتاه أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره واتخذ سبيله في البحر عجباً قال فكان للحوت سرباً ولموسى وفتاه عجباً فقال موسى ذلك ما كنا نبغ فارتدا على آثارهما قصصاً.
_________
(1) مسلم 2380، البخاري 64.
(2) ثم بفتح الثاء أي هناك.(8/83)
قال سفيان: يزعم الناس أن تلك الصخرة عندها عين الحياة لا يصيب ماؤها ميتاً إلا عاش، قال وكان الحوت قد أكل منه فلما قطر عليه الماء عاش، قال فرجعا يقصان أثرهما حتى انتهيا إلى الصخرة، فإذا رجل مسجى بثوب فسلم عليه موسى فقال الخضر وإني بأرضك السلام، قال أنا موسى؛ قال موسى بن إسرائيل؛ قال نعم أتيتك لتعلمني مما علمت رشداً، قال: إنك لن تستطيع معي صبراً، يا موسى إني على علم من الله علمنيه لا تعلمه أنت، وأنت على علم من الله علمك الله لا أعلمه. قال موسى ستجدني إن شاء الله صابراً ولا أعصي لك أمراً، فقال له الخضر: فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكراً.
فانطلقا يمشيان على ساحل البحر فمرت بهما سفينة فكلموهم أن يحملوهم، فعرفوا الخضر فحملوه بغير نول، فلما ركبا السفينة لم يفجأ إلا والخضر قد قلع لوحاً من ألواح السفينة بالقدوم، فقال له موسى قوم حملونا بغير نول عمدت إلى سفينتهم فخرقتها لتغرق أهلها لقد جئت شيئاً إمراً، قال ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبراً؟ قال: لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من أمري عسراً.
قال وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " فكانت الأولى من موسى نسياناً "، قال " وجاءَ عصفور فوقع على حرف السفينة فنقر في البحر نقرة، فقال له الخضر ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا مثل ما نقص هذا العصفور الذي وقع على حرف السفينة من هذا البحر ".
ثم خرجا من السفينة فبينما. هما يمشيان على الساحل إذ أبصر الخضر غلاماً يلعب مع الغلمان، فأخذ الخضر رأسه بيده فاقتلعه بيده فقتله، فقال موسى: أقتلت نفساً زكية بغير نفس لقد جئت شيئاً نكراً، قال: ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبراً، قال: وهذه أشد من الأولى، قال: إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني قد بلغت من لدني عذراً.(8/84)
فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما فوجدا فيها جداراً يريد أن ينقض فأقامه، قال مائل، فقال الخضر بيده هكذا فأقامه، فقال موسى قوم أتيناهم فلم يطعمونا ولم يضيفونا! لو شئت لاتخذت عليه أجراً، قال هذا فراق بيني وبينك سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبراً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " وددنا أن موسى كان صبر حتى يقص علينا من خبرهما "، قال سعيد بن جبير: وكان ابن عباس يقرأ: وكان أمامهم ملك يأخذ كل سفينة غصباً، وكان يقرأ وأما الغلام فكان كافراً وكان أبواه مؤمنين وبقية روايات سعيد بن جبير عن ابن عباس عن أبي بن كعب هي موافقة لهذه الرواية في المعنى وإن تفاوتت الألفاظ في بعضها، فلا فائدة في الإطالة بذكرها، وكذلك روايات غير سعيد عنه.(8/85)
فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا (71)
(فانطلقا) أي موسى والخضر على ساحل البحر يطلبان السفينة ومعهما يوشع، وإنما لم يذكر في الآية لأنه تابع لموسى؛ فالمقصود ذكر موسى والخضر وقال القشيري؛ والأظهر أن موسى صرف فتاه لما لقي الخضر، وقال أبو العباس: اكتفى بذكر التبوع عن التابع، فمرت بهم سفينة فكلموهم أن يحملوهم فحملوهم بغير نول (حتى إذا ركبا في السفينة خرقها) قيل قلع لوحاً من ألواحها وقيل لوحين مما يلي الماء بفأس لما بلغت اللجج، وقيل خرق جدار السفينة ليعيبها ولا يتسارع الغرق إليها.
(قال) موسى (أخرقتها لتغرق أهلها لقد جئت شيئاً إمراً) أي عظيماً يقال أمر الأمر إذا كبر وعظم، وإمر الاسم منه، وقال أبو عبيدة: الإمر الداهية العظيمة، وقال القتيبي: الإمر العجب، وبه قال قتادة، وقال الأخفش: أمر أمره يأمر إذا اشتد والاسم الإمر. وقال ابن عباس: أمراً نكراً. وعن مجاهد نحوه روى أن الماء لم يدخلها.(8/85)
قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (72)
(قال) الخضر (ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبراً) أذكره ما تقدم(8/85)
من قوله له سابقاً إنك لا تستطيع معي صبراً(8/86)
قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا (73)
(قال) موسى (لا تؤاخذني بما نسيت) ما مصدرية، أي لا تؤاخذني بنسياني أو موصولة أي لا تؤاخذني بالذى نسيته، وهو قول الخضر فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكراً، فالنسيان إما على حقيقته على تقدير أن موسى نسي ذلك، أو بمعنى الترك على تقدير أنه لم ينس ما قاله له ولكنه ترك العمل به.
عن أبيّ بن كعب قال: لم ينس ولكنها من معاريض الكلام، أي أورده في صورة دلت على النسيان ولم يقصد نسيان الوصية بل نسيان شيء آخر حتى لا يلزم الكذب قاله الكازروني، قيل: كانت الأولى من موسى نسياً والثانية شرطاً والثالثة عمداً (ولا ترهقني) أي لا تكلفني (من أمري عسراً) مشقة في صحبتي. قال أبو زيد: أرهقته عسراً إذا كلفته ذلك، والمعنى عاملني باليسر والعفو لا بالعسر، وقرئ عُسُراً بضمتين.(8/86)
فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا (74)
(فانطلقا) بعد خروجهما من السفينة يمشيان (حتى إذا لقيا غلاماً) قيل كان اسمه شمعون، ذكره القرطبي؛ ولفط الغلام يتناول الشاب البالغ كما يتناول الصغير، قيل كان الغلام يلعب مع الصبيان (فقتله) أي فاقتلع الخضر رأسه أو ذبحه بالسكين أو ضرب رأسه بالجدار أقوال، وأتى هنا بالفاء العاطفة لأن القتل عقب اللقيّ وجواب إذا (قال) موسى (أقتلت نفساً زكية) هي البريئة من الذنوب، الطاهرة.
قال أبو عمر: الزاكية التي لم تذنب، والزكية التي أذنبت ثم تابت، وقال الكسائي: الزاكية والزكية لغتان، وقال الفراء: الزاكية والزكية مثل القاسية والقسية، قال ابن عباس: زاكية مسلمة، وقال سعيد بن جبير: لم يبلغ الخطايا. وعن الحسن نحو (بغير) قتل (نفس) محرمة حتى يكون قتل هذه قصاصاً (لقد جئت) أي فعلت (شيئاً نكراً) أي فظيعاً منكراً لا يعرف في الشرع، قرئ بسكون الكاف وضمها وهم سبعيتان، قيل معناه أنكر من(8/86)
الأمر الأول لكون القتل لا يمكن تداركه بخلاف نزع اللوح من السفينة فإنه يمكن تداركه بإرجاعه. وقيل النكر أقل من الإمر، لأن قتل نفس واحدة أهون من إغراق أهل السفينة.
وعن قتادة قال: النكر أنكر من العجب، قيل استبعد موسى أن يقتل نفساً بغير نفس ولم يتأول للخضر بأنه يحل القتل بأسباب أخر. عن أبي العالية عند ابن المنذر وابن أبي حاتم قال: كان الخضر عبداً لا تراه الأعين إلا من أراد الله أن يريه إياه، فلم يره من القوم إلا موسى، ولو رآه القوم لحالوا بينه وبين خرق السفينة وبين قتل الغلام.
وأقول ينبغي أن ينظر من أين له هذا، فإن لم يكن مستنده إلا قوله " ولو رآه القوم الخ " فليس ذلك بموجب لما ذكره أما أولاً فإن من الجائز أن يفعل ذلك من غير أن يراه أهل السفينة وأهل الغلام لا لكونه لا تراه الأعين، بل لكونه فعل ذلك من غير اطلاعهم.
وأما ثانياً فيمكن أن أهل السفينة وأهل الغلام قد عرفوه؛ ويدل عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتقدم فعرفوا الخضر فحملوه بغير نول، وعرفوا أنه لا يفعل ذلك إلا بأمر من الله كما يفعل الأنبياء فسلموا الأمر لله. وعن عطاء قال: كتب نجدة الحروري إلى ابن عباس يسأله عن قتل الصبيان فكتب إليه إن كنت الخضر تعرف الكافر من المؤمن فاقتلهم، وفي لفظ ولكنك لا تعلم، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتلهم فاعتزلهم.
وأخرج مسلم وأبو داود والترمذي وغيرهم عن أبىّ بن كعب عنِ النبي
صلى الله عليه وسلم قال: " الغلام الذي قتله الخضر طبع يوم طبع كافراً، ولو
أدرك لأرهق بأبويه طغياناً وكفراً ". (1)
_________
(1) مسلم 2661 - أبو داوود كتاب السنة باب 19.(8/87)
قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (75) قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا (76) فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا (77) قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (78) أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا (79) وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا (80)(8/88)
قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (75)
(قال) الخضر (ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبراً) زاد هنا لفظ لك لأن سبب العتاب أكثر وموجبه أقوى فقد نقض العهد مرتين، وقيل زاد لقصد التأكيد كما تقول لمن توبخه، لك أقول وإياك أعني، وقيل زاد لعدم العذر هنا تحاملاً في الخطاب وتقريعاً لموسى.
ولهذا(8/88)
قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا (76)
(قال) موسى (إن سألتك عن شيء بعدها) أي بعد هذه المرة أو بعد هذه النفس المقتولة (فلا تصاحبني) أي لا تجعلني صاحباً لك؛ وقرئ تصحبني قال الكسائي: معناه لا تتركني أصحبك، وقرئ بضم التاء والباء وتشديد النون؛ نهاه عن مصاحبته مع حرصه على التعلم لظهور عذره.
ولذا قال (قد بلغت من لدني عذراً) في مفارقتك لي، يريد أنك قد أعذرت حيث خالفتك ثلاث مرات. وهذا كلام نادم شديد الندامة اضطره الحال إلى الاعتراف وسلوك سبيل الإنصاف، وقرأ الجمهور لدني مخففاً وشددها الباقون، وعن أبيّ قال: أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ من لدني عذراً مثقلة. أخرجه أبو داود والترمذي والطبراني وغيرهم. وقرأ الجمهور عذْرُاً بسكون الذال وقرئ بضمها، وحكى الداني أن أبيا روى عن النبي صلى الله عليه وسلم بكسر الراء وياء بعدها بإضافة العذر إلى نفسه.(8/88)
فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا (77)
(فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية) قيل هي (أيلة) وهي أبعد الأرض من السماء وقيل انطاكية، وقيل برقة، وقيل قرية من قرى أذربيجان، وقيل قرية من قرى الروم، وقيل هي بلدة بالأندلس (استطعما أهلها) طلبا منهم الطعام بضيافة؛ وضع الظاهر موضع المضمر لزيادة التأكيد أو للتأسيس أو لكراهة اجتماع الضميرين في هذه الكلمة لما فيه من المكلفة أو لزيادة التشنيع على أهل القرية بإظهارهم (فأبوا أن يضيفوهما) أي أن يعطوهما ما هو حق واجب عليهم من ضيافتهما؛ فمن استدل بهذه الآية على جواز السؤال وحل الكدية فقد أخطأ خطأً بيّناً ومن ذلك قول بعض الأدباء الذين يسألون الناس:
فإن رددت فما في الرد منقصة ... عليَّ قد ردّ موسى قبل والخضر
وقد ثبت في السنة تحريم السؤال بما لا يمكن دفعه من الأحاديث الصحيحة الكثيرة. عن أبيّ أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ أن يضيفوهما مشددة، قيل شر القُرَى التي تبخل بالْقِرَى أي لا تضيف الضيف، قيل أطعمتهما امرأة من أهل بربر بعد أن طلبا من الرجال فلم يطعموهما فدعيا لنسائهم ولعنا رجالهم.
(فوجدا فيها) أي في القرية (جداراً) طوله مائة ذراع وعرضه خمسون ذراعاً وامتداده على وجه الأرض خمسمائة ذراع (يريد أن ينقضّ) إسناد الإرادة إلى الجدار مجاز، قال الزجاج: الجدار لا يريد إرادة حقيقة إلا أن هيئة السقوط قد ظهرت فيه كما تظهر أفعال المريدين القاصدين فوصف بالإرادة ومعنى الانقضاض السقوط بسرعة يقال انقض الحائط إذا وقع وانقض الطائر إذا هوى من طيرانه فسقط على شيء.
(فأقامه) أي فسواه الخضر بيده لأنه وجده مائلاً فرده كما كان، وقيل نقضه وبناه، وقيل أقامه بعمود، عن أبيّ بن كعب عن رسول الله صلى الله(8/89)
عليه وآله وسلم أنه قرأ يريد أن ينقض فهدمه ثم قعد يبنيه " قلت " ورواية الصحيحين التي قدمناها أنه مسحه بيده أولى. (1)
(قال) موسى (لو شئت لتخذت) عن أبيّ إن الرسول صلى الله عليه وسلم قرأ لتخذت مخففاً يقال تخذ فلان يتخذ تخذاً مثل اتخذ (عليه أجراً) أي على إقامته وإصلاحه، تحريضاً من موسى للخضر على أخذ الجعل والأجرة ليتعشيا به أو تعريضاً بأنه فضول، والأول أولى، قال الفراء: معناه لو شئت لم تقمه حتى يقرونا فهو الأجر.
_________
(1) مسلم 2380 - البخاري 64.(8/90)
قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (78)
(قال) الخضر (هذا فراق بيني وبينك) على إضافة فراق إلى الظرف اتساعاً أي هذا الكلام والإنكار منك على ترك الأجر هو المفرق بيننا قال الزجاج: المعنى هذا فراق بيننا أي هذا فراق اتصالنا وكرر بين تأكيداً.
أخرج أبو داود والنسائي والترمذي والحاكم وصححه وغيرهم عن ابن عباس عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم رحمة الله علينا وعلى موسى لو صبر لقص الله علينا من خبره ولكن (قال إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني) (1) ولما قال الخضر لموسى بهذا أخذ في بيان الوجه الذي فعل بسببه تلك الأفعال التي أنكرها موسى فقال:
(سأنبئك) قبل فراقي لك (بتأويل ما لم تستطع عليه صبراً) أي الأمور الثلاثة المتقدمة، والمراد بالتأويل إظهار ما كان باطناً ببيان وجهه، قاله الشهاب وفي القرطبي المراد بالتأويل التفسير، وأصل التأويل رجوع الشيء إلى مآله.
ثم شرع في البيان له فقال
_________
(1) المستدرك كتاب التاريخ 2/ 574.(8/90)
أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا (79)
(أما السفينة) يعني التي خرقها (فكانت لمساكين) لضعفاء عشرة وكانوا إخوة لا يقدرون على دفع من أراد ظلمهم وقد(8/90)
ذكر النقاش أسماءهم وقرأ جماعة مساكين بتشديد السين واختلف في معناها فقيل هم ملاحو السفينة وذلك أن المساك هو الذي يمسك السفينة والأظهر قراءة الجمهور بالتخفيف.
(يعملون في البحر) ولم يكن لهم مال غير تلك السفينة يكرونها من الذين يركبون البحر ويأخذون الأجرة، وقد استدل الشافعي بهذه الآية على أن الفقير أسوأ حالاً من المسكين (فأردت أن أعيبها) أي أجعلها ذات عيب بنزع ما نزعته منها (وكان وراءهم ملك) جملة حالية بإضمار قد قال المفسرون: يعني أمامهم، وعن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ أمامهم، وعن أبيّ بن كعب أنه قرأها كذلك وكتب عثمان (وكان وراءهم) ووراء يكون أمام، وقد مر الكلام على هذا في قوله (ومن ورائه عذاب غليظ).
وقيل أراد خلفهم وكان طريقهم في الرجوع عليه وما كان عندهم خبر بأنه (يأخذ كل سفينة) صالحة لا معيبة (غصباً) نصبه على المصدر المبين لنوع الأخذ، وقد قرأ ابن عباس وأبي بن كعب بزيادة صالحة والملك الغاصب كان اسمه الجلندي الأزدي وكان كافراً، وقيل كان اسمه هدد بن بدد، وقيل كان ملك غسان واسمه جيسورا ذكره القرطبي.(8/91)
وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا (80)
(وأما الغلام) يعني الذي قتله (فكان أبواه مؤمنين) ولم يكن هو كذلك وقرأ ابن عباس وأما الغلام فكان كافراً وكان أبواه مؤمنين (فخشينا) الخشية خوف يشوبه تعظيم، وأكثر ما يكون عن علم بما يخشى منه، وقيل معناه فعلمنا والأول أولى.
وعن قتادة: هي في مصحف عبد الله فخاف ربك (أن يرهقهما) أي يرهق الغلام أبويه يقال رهقه أي غشيه وأرهقه أغشاه، قال المفسرون: معناه(8/91)
خشينا أن يحملهما حبه على أن يتبعاه في دينه وهو الكفر، وقيل المعنى فخشينا أن يرهق الوالدين (طغياناً) عليهما (وكفراً) لنعمتهما بعقوقه.
قيل ويجوز أن يكون فخشينا من كلام الله ويكون المعنى كرهنا كراهة من خشى سوء عاقبة أمره فغيره، وهذا ضعيف جداً فالكلام كلام الخضر.
وقد استشكل بعض أهل العلم قتل الخضر لهذا الغلام بهذه العلة فقيل: إنه كان بالغاً وقد استحق ذلك بكفره، وقيل كان يقطع الطريق فاستحق القتل لذلك ويكون معنى خشينا الخ أن الخضر خاف على الأبوين أن يذبا عنه ويتعصبا له فيقعا في المعصية، وقد يؤدي ذلك إلى الكفر والارتداد.
والحاصل أنه لا إشكال في قتل الخضر له إذا كان بالغاً كافراً أو قاطعاً للطريق هذا فيما تقتضيه الشريعة الإسلامية، ويمكن أن يكون للخضر شريعة من عند الله سبحانه تسوغ له ذلك.
وأما إذا كان الغلام صبياً غير بالغ فقيل: أن الخضر علم بإعلام الله له أنه لو صار بالغاً لكان كافراً يتسبب عن كفره إضلال أبويه وكفرهما وهذا وإن كان ظاهر الشريعة الإسلامية يأباه فإن قتل من لا ذنب له ولا قد جرى عليه قلم التكليف لخشية أن يقع منه بعد بلوغه ما يجوز به قتله لا يحل في الشريعة المحمدية، ولكنه حل في شريعة أخرى فلا إشكال.(8/92)
فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا (81) وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (82) وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا (83)(8/93)
فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا (81)
(فأردنا أن يبدلهما) الإبدال رفع الشيء ووضع آخر مكانه، قال الزجاج: معنى فأردنا فأراد الله ومثله في القرآن، وقيل المعنى أردنا أن يرزقهما الله (ربهما) بدل هذا الولد ولداً (خيراً منه) والتفضيل ليس على بابه (زكاة) أي ديناً وصلاحاً وتقوى وطهارة من الذنوب (وأقرب رحماً) بسكون الحاء وقرئ بضمها الرحمة يقال رحمه الله رحمة ورحماً والألف للتأنيث قال ابن عباس: رحماً مودة فأبدلا جارية ولدت نبياً.(8/93)
وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (82)
(وأما الجدار) يعني الذي أصلحه (فكان لغلامين يتيمين) قيل اسمهما أصرم وصريم (في المدينة) هي القرية المذكورة سابقاً وفيه جواز إطلاق المدينة على القرية لغة، وقيل عبر هناك بالقرية تحقيراً لها لخسة أهلها وعبر هنا بالمدينة تعظيماً لها من حيث اشتمالها على هذين الغلامين وعلى أبيهما (وكان تحته كنز لهما) قيل كان مالاً جسيماً كما يفيده لفظ الكنز، وبه قال عكرمة وقتادة إذ هو المال المجموع.
قال الزجاج: المعروف في اللغة أن الكنز إذا أفرد فمعناه المال المدفون فإذا لم يكن مالاً قيل كنز علم وكنز فهم، وقيل لوح من ذهب، وقيل علم في صحف مكتوبة مدفونة، عن قتادة قال: كان الكنز لمن قبلنا وحرم علينا وحرمت الغنيمة على من كان قبلنا وأحلت لنا، فلا يعجبن الرجل فيقول ما شأن الكنز أحل لمن قبلنا وحرم علينا فإن الله يحل من أمره ما شاء ويحرم ما شاء، وهي السنن والفرائض تحل لأمة وتحرم على أخرى.(8/93)
وعن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: وكان تحته كنز ذهب وفضة أخرجه البخاري في تاريخه والترمذي وحسنه والطبراني والحاكم وصححه (1)، وعن أبي الدرداء قال: أحلت لهم الكنوز وحرمت عليهم الغنائم، وأحلت لنا الغنائم وحرمت علينا الكنوز.
وأخرج البزار وابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي ذر رفعه قال: إن الكنز الذي ذكره الله في كتابه لوح من ذهب مصمت فيه " عجبت لمن أيقن بالقدر ثم نصب، وعجبت لمن ذكر النار ثم ضحك، وعجبت لمن ذكر الموت ثم غفل لا إله إلا الله محمد رسول الله " وفي نحو هذا روايات كثيرة لا تتعلق بذكرها فائدة.
(وكان أبوهما صالحاً) فكان صلاحه مقتضياً لرعاية ولديه وحفظ مالهما، فظاهر اللفظ أنه أبوهما حقيقة، وقيل هو الذي دفنه، وقيل هو الأب السابع من عند الدافن له. قاله جعفر بن محمد وقيل العاشر وكان يسمى كاشحاً وكان من الأتقياء قاله مقاتل، واسم أمهما دنيا. ذكره النقاش، ففيه ما يدل على أن الله يحفظ الصالح في نفسه وفي ولده وإن بعدوا. قال ابن عباس: حفظا بصلاح أبيهما.
وأخرج ابن مردويه عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " إن الله عز وجل يصلح بصلاح الرجل الصالح ولده وولد ولده وأهل دويرته، وأهل دويرات حوله، فما يزالون في حفظ الله تعالى ما دام فيهم " (1). وعن ابن عباس نحوه وقال موضع حفظ الله في ستر من الله وعافية.
قال سعيد بن المسيب: إني لأصلي فأذكر ولدي فأزيد في صلاتي. وقد
_________
(1) الترمذي تفسير سورة 18/ 40.(8/94)
روي أن الله يحفظ الصالح في سبعة من ذريته، وعلى هذا يدل قوله تعالى (إن وليّيّ الله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين) قاله القرطبي.
(فأراد ربك) أي مالكك ومدبر أمرك، وأضاف الرب إلى ضمير موسى تشريفاً له، وإنما ذكر أولاً: فأردت لأنه إفساد في الظاهر وهو فعله، وثانياً: فأردنا لأنه إفساد من حيث الفعل إنعام من حيث التبديل، وثالثاً: فأراد ربك لأنه إنعام محض وغير مقدور للبشر.
قال الشوكاني في الفتح الرباني: علم أنه قد وجد في الخضر عليه السلام المقتضى للمجيء بنون العظمة لما تفضل الله به عليه من العطايا العظيمة والمواهب الجسيمة التي من جملتها العلم الذي فضله الله به حين أخبر موسى عليه السلام لما سأله هل في الأرض أعلم منه؟ فقال عبدنا خضر كما هو ثابت في الصحيح، كان هذا وجهاً صحيحاً ومسوغاً صحيحاً للمجيء بنون العظمة تارة وعدم المجيء بها أخرى، فقال فأردت أن أعيبها، وقال فأردنا ملاحظاً في أحد الموضعين لما يستحقه من التعظيم تحدثاً بنعمة الله سبحانه عليه وفي الموضع الآخر قاصداً للتواضع وأنه فرد من أفراد البشر غير ناظر إلى تلك المزايا التي اختصه الله بها سبحانه مع كون ذلك هو الصيغة التي هي الأصل في تكلم الفرد.
ْومع هذا ففي تلوين العبارة نوع من الحسن آخر وهو الافتنان في الكلام فإنه أحسن تطرية لنشاط السامع وأكثر إيقاظاً له، كما قيل في نكتة الالتفات، ويمكن أن يقال إن خرق السفينة لما كان باعتبار تحصيل مسماه أمراً يسيراً فإنه يحصل بنزع لوح من ألواحها، قال (فأردت أن أعيبها) ولما كان القتل مما تتعاظمه النفوس وتدخل فاعله الروعة العظيمة نزل منزلة ما لا يقدر عليه إلا جماعة. ويمكن أيضاً وجه ثالث وهو أن يقال لما كان خرق السفينة مما يمكن تداركه بأن يرد اللوح الذي نزعه كان ذلك وجهاً للإفراد لأنه يسير بالنسبة إلى ما لا يمكن تداركه وهو القتل.(8/95)
وأما قوله (فأراد ربك) فوجه نسبة الإرادة إلى الرب سبحانه أن هذه الإرادة وقعت على قوله أن يبلغا أشدهما، ومعلوم أن ذلك لا يكون من فعل البشر ولا بإرادته لأن بقاءهما في الحياة حتى يبلغا الأشد لا يدخل تحت طاقة البشر ولا يصح نسبته إلى غير الرب عز وجل؛ ولهذا يقول الخضر (رحمة من ربك وما فعلته عن أمري) هذا ما خطر بالبال عند الوقوف على هذه الآية، ولم أقف على كلام لأحد من أهل التفسير فيما يتعلق بذلك أهـ.
(أن يبلغا أشدهما) أي كمالهما وتمام نموهما (ويستخرجا كنزهما) من ذلك الموضع الذي عليه الجدار، ولو انقض لخرج الكنز من تحته قبل اقتدارهما على حفظ المال وتنميته وضاع بالكلية (رحمة من ربك) لهما وهو مصدر في موضع الحال أي مرحومين من الله سبحانه.
(وما فعلته عن أمري) أي عن اجتهادي ورأيي وهو تأكيد لما قبله فقد علم بقوله: فأراد ربك أنه لم يفعله الخضر عن أمر نفسه لأن تنقيص أموال الناس وإراقة دمائهم وتغيير أحوالهم لا يكون إلا بالنص، وليس في هذا دلالة على نبوة الخضر كما زعم الجمهور بل هو إلهام من الله سبحانه إليه.
(ذلك) المذكور من تلك البيانات التي بينتها لك وأوضحت وجوهها (تأويل ما لم تسطع عليه صبراً) أي ما ضاق صبرك عنه ولم تطق السكوت عليه. ومعنى التأويل هنا هو المال الذي آلت إليه تلك الأمور، وهو اتضاح ما كان مشتبهاً على موسى وظهور وجهه، وحذف التاء من تسطع تخفيفاً، يقال اسطاع واستطاع بمعنى أطاق، ففي هذا وما قبله جمع بين اللغتين.
وقد اختلف أهل العلم في نسب الخضر وفي كونه نبياً وفي طول عمره وبقاء حياته وكونه باقياً إلى زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وحياته بعده على أقوال. كثيرة، فقيل هو ابن آدم لصلبه وهو ضعيف منقطع. وقيل إنه ابن قابيل بن آدم وهو معضل؛ وقيل إنه من سبط هارون أخي موسى وهو بعيد. وقيل إنه أرميا بن خلقيا ورده ابن جرير وقيل إنه ابن بنت فرعون، وقيل ابن(8/96)
فرعون لصلبه، وقيل إنه اليسع، وقيل إنه من ولد فارس. وقيل من ولد بعض من كان آمن بإبراهيم وهاجر معه من أرض بابل، وقيل كان أبوه فارسياً وأمه رومية، وقيل بعكس ذلك.
ثم قيل كان اسمه عامراً؛ وقيل بليا بن ملكان، وقيل كلمان بدل ملكان، وقيل معمر بن مالك وكنيته أبو العباس، وهذا متفق عليه. قاله النووي.
واحتج من قال إنه نبي بقوله تعالى (وما فعلته عن أمري) لأن الظاهر من هذا أنه فعله بأمر الله والأصل عدم الواسطة.
قال الثعلبي: هو نبي في سائر الأقوال، ثم قيل نبي غير مرسل، وقيل أرسل إلى قومه فاستجابوا له ونصره الرماني ثم ابن الجوزي، وقيل كان ولياً وإليه ذهب جماعة من الصوفية، وبه قال علي بن أبي موسى من الحنابلة وابن الأنباري والقشيري، وقيل إنه ملك من الملائكة.
قال ابن جرير في تاريخه: إنه كان في أيام فريدون الملك في قول عامة أهل الكتاب الأول، وقيل كان على مقدمة ذي القرنين الأكبر الذي كان في زمن إبراهيم الخليل، وقصته هذه ذكرها جماعة منهم خيثمة بن سليمان.
وأما تعميره فقال ابن عباس: نسئ للخضر في أجله حتى يكذب الدجال، وقال أبو محنف: أجمع أهل العلم بالأحاديث والجمع لها أنه أطول آدمي عمراً وشرب من عين الحياة، وقال الحسن: وكل الخضر بالبحور وإلياس بالفيافي، وإنهما يجتمعان في موسم كل عام، وروى أبان مرفوعاً إليه صلى الله عليه وسلم اجتماعهما عند ردم يأجوج ومأجوج كل ليلة، وفي سنده متروكان.
وقال النووي في التهذيب. قال الأكثرون من العلماء: هو حي موجود بين أظهرنا وذلك متفق عليه بين الصوفية وأهل الصلاح والمعرفة وحكاياتهم(8/97)
في رؤيته والاجتماع به والأخذ عنه وسؤاله ووجوده في المواضع الشريفة ومواطن الخير أكثر من أن تحصى، وأشهر من أن تذكر.
قال ابن الصلاح: هو حي عند جماهير العلماء والصلحاء والعامة منهم، إنما شذ بإنكاره بعض المحدثين. وقال بعضهم: إن لكل زمان خضراً وهي دعوى لا دليل عليها، وقال السهيلي: اسمه عاميل وإن أباه كان ملكاً، وأنه الرجل الذي يقتله الدجال ثم يحييه.
وقال البخاري وطائفة من أهل الحديث: إنه مات قبل انقضاء مائة سنة من الهجرة، ونصره أبو بكر العربي لقوله صلى الله عليه وآله وسلم في آخر حياته " لا يبقى على وجه الأرض بعد مائة سنة ممن عليها اليوم " (1)؛ وله ألفاظ عند الشيخين وغيرهما عن جابر وابن عمر.
وأجاب من أثبت حياته بأنه كان حينئذ على وجه البحر، وما أبرد هذا الجواب وأبعده عن الصواب.
وأما اجتماعه مع النبي صلى الله عليه وسلم وتعزيته لأهل البيت وهم مجتمعون لغسله صلى الله عليه وسلم فقال لهم عليّ: هو الخضر فقد ذكره ابن عبد البر في التمهيد، وقيل اجتمع الناس مع النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا جاز ذلك جاز لقاء الخضر، رواه ابن أبي الدنيا عن أنس، وتعقبه الحافظ أبو الخطاب بن دحية وقال: لم يصح من طرقه شيء ولا يثبت اجتماعه مع أحد من الأنبياء إلا مع موسى كما قصه الله من خبره، وجميع ما ورد في حياته لا يصح منه شيء باتفاق أهل النقل.
وأما ما جاء من المشايخ فهو مما يتعجب منه، كيف يجوز لعاقل أن يلقى شيخاً لا يعرفه فيقول له أنا فلان فيصدقه، وحديث التعزية المتقدم موضوع وفيه ابن محرز متروك، قال مسلم صاحب الصحيح فلما رأيته كانت بعرة
_________
(1) مسلم 2537 - البخاري 105.(8/98)
أحب إليَّ منه، وما روي عن أنس فموضوع أيضاً، وقد نقل تكذيبه عن أحمد ويحيى وإسحاق وأبي زرعة، وسياق المتن ظاهر النكارة وإنه من المجازفات.
وتمسك من قال بتعميره بقصة عين الحياة واستند إلى ما وقع من ذكرها في صحيح البخاري وجامع الترمذي لكن لم يثبت ذلك مرفوعاً، وأخرج الطبراني في المعجم الكبير حديثاً طويلاً عن أبي أمامة الباهلي مرفوعاً إليه صلى الله عليه وسلم في قصة الخضر يدل على كونه نبياً وسنده حسن لولا عنعنة بقية وهو ضعيف. وقد ذهب إلى أن الخضر مات عليُّ بن موسى الرضا والبخاري، وانكر أن يكون باقياً للحديث المتقدم، وهو عمدة من تمسك بأنه مات.
قال أبو حيان في تفسيره: الجمهور على أن الخضر مات، وبه قال ابن أبي الفضل المرسي، لأنه لو كان حياً لزمه المجيء إلى النبي صلى الله عليه وسلم والإيمان به واتباعه، وقد روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: لو كان موسى حياً ما وسعه إلا اتباعي؛ وبذلك جزم ابن المناوي وإبراهيم الحربي وأبو طاهر العبادي. وأخرج مسلم من حديث جابر قال؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل موته بشهر: " أقسم بالله ما على الأرض نفس منفوسة يأتي عليها مائة سنة " (1)، وله ألفاظ وطرق عند الترمذي وغيره.
وممن جزم أنه غير موجود الآن أبو يعلى الحنبلي وأبو الفضل بن ناصر والقاضي أبو بكر بن العربي وأبو بكر بن النقاش وابن الجوزي، واستدل على ذلك بأدلة منها ما تقدم، ومنها قوله تعالى (وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفإن مت فهم الخالدون).
قال ابن عباس: ما بعث الله نبياً إلا أخذ عليه الميثاق إن بعث محمد وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه. أخرجه البخاري.
فلو كان الخضر موجوداً لجاء إليه ونصره بيده ولسانه وقاتل تحت رايته،
_________
(1) مسلم 2538.(8/99)
ولم يأت في خبر صحيح أنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو قاتل معه.
قال أبو الحسين بن المناوي: بحثت عن تعمير الخضر وهل هو باق أم لا فإذا أكثر المغفلين مغترون بأنه باق من أجل ما روي في ذلك، والأحاديث المرفوعة في ذلك واهية، والسند إلى أهل الكتاب ساقط لعدم ثقتهم؛ وخبر مسلمة بن مصقلة كالخرافة، وخبر رياح كالريح وما عدا ذلك من الأخبار كلها واهية الصدور والأعجاز لا يخلو حالها من أمرين؛ إما أن تكون أدخلت على الثقات استغفالاً أو يكون بعضهم تعمد ذلك. وقد قال الله (وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد).
وفي تفسير الأصفهاني عن الحسن أن الخضر مات، وقد مر عنه أيضاً أنه حي، وإذا تعارضا تساقطا، واحتج ابن الجوزي أيضاً بما ثبت في صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم بدر: " اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض " (1)، ولم يكن الخضر فيهم، ولو كان يومئذ حياً لورد على هذا العموم، فإنه كان ممن يعبد قطعاً.
وقد بسط الحافظ بن حجر العسقلاني القول في بيان أحوال الخضر وأخباره قبل بعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والتي وردت أن الخضر وإلياس كانا في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثم بعده إلى الآن، وما جاء في بقائه بعد النبي صلى الله عليه وسلم ومن نقل عنه أنه رآه وكلمه في أبواب مستقلة من كتابه الإصابة في معرفة الصحابة، وتكلم على أسانيدها جرحاً وتعديلاً وغالبها لا يخلو عن علة أو ضعف أو انقطاع أو إعضال أو وضع أو نكارة أو شذوذ، ولا يصلح شيء للاستدلال على حياة الخضر وبقائه إلى الآن أو إلى خروج الدجال.
_________
(1) مسلم 1763 - الإمام أحمد 1/ 30 ولم أجده في البخاري.(8/100)
والحق ما ذكرناه عن البخاري وأضرابه في ذلك ولا حجة في قول أحد كائناً من كان إلا الله سبحانه ورسوله صلى الله عليه وسلم، ولم يرد في ذلك نص مقطوع به ولا حديث مرفوع إليه صلى الله عليه وسلم حتى يعتمد عليه ويصار إليه؛ وظاهر الكتاب والسنة نفي الخلد وطول التعمير لأحد من البشر، وهما قاضيان على غيرهما، ولا يقضي غيرهما عليهما.
ومن قال إنه نبي أو مرسل أو حي باق لم يأت بحجة نيرة ولا سلطان مبين، وإذا جاء نهر الله بطل نهر معقل، وقد تكلم الحافظ على هذا الباب في فتح الباري أيضاً فمَنْ شاء الاطلاع على تفصيل ذلك فليرجع إليه وبالله التوفيق، ومنه الفتح والإصابة. ولما أجاب سبحانه عن سؤالين من سؤالات اليهود وانتهى الكلام إلى حيث انتهى شرع سبحانه في السؤال الثالث والجواب عنه، فالمراد بالسائلين في قوله (ويسألونك) هم اليهود أي سؤال تعنت (عن ذي القرنين) واختلفوا فيه اختلافاً كثيرا، فقيل هو الاسكندر بن فيلقوس الذي ملك الدنيا كلها بأسرها اليوناني باني الاسكندرية.
وقال ابن إسحاق: هو رجل من أهل مصر اسمه مرزبان بن مرزبة اليوناني من ولد يونان بن يافث بن نوح، وقيل هو ملك اسمه هرمس وقيل هردس، وقيل شاب من الروم وقيل كان نبياً وقيل كان عبداً صالحاً وقيل اسمه عبد الله بن الضحاك وقيل مصعب بن عبد الله من أولاد كهلان بن سبا.
وحكى القرطبي عن السهيلي أنه قال: أن الظاهر من علم الأخبار أنهما اثنان أحدهما كان على عهد إبراهيم عليه السلام، والآخر كان قريباً من عيسى عليه السلام، وقيل هو أبو كرب الحميري وقيل هو ملك من الملائكة؛ ورجح الرازي القول الأول قال: لأن من بلغ ملكه من السعة والقوة إلى الغاية التي نطق بها النزيل إنما هو إسكندر اليوناني كما يشهد به كتب التواريخ قال فوجب القطع بأن ذا القرنين هو الاسكندر.
قال: وفيه إشكال لأنه كان تلميذاً لأرسطاطاليس الحكيم وكان(8/101)
على مذهبه فتعظيم الله إياه يوجب الحكم بأن مذهب أرسطاطاليس حق وصدق، وذلك مما لا سبيل إليه.
قال النيسابوري: قلت ليس كل ما ذهب إليه الفلاسفة باطلاً فلعله أخذ منهم ما صفا وترك ما كدر والله أعلم، ورجح ابن كثير ما ذكره السهيلي من أنهما اثنان كما قدمنا ذلك وبين أن الأول طاف بالبيت مع إبراهيم أول ما بناه وآمن به واتبعه وكان وزيره الخضر، وأما الثاني فهو الاسكندر المقدوني اليوناني وكان وزيره الفيلسوف المشهور أرسطاطاليس وكان قبل المسيح بنحو من ثلاثمائة سنة، فأما الأول المذكور في القرآن فكان في زمن الخليل.
هذا معنى ما ذكره ابن كثير في تفسيره راوياً له عن الأزرقي وغيره ثم قال: وقد ذكرنا طرفاً صالحاً في أخباره في كتاب (البداية والنهاية) بما فيه كفاية (1)، وحكى أبو السعود في تفسيره عن ابن كثير أنه قال؛ وإنما بينا هذا يعني أنهما اثنان لأن كثيراً من الناس يعتقد أنهما واحد، وأن المذكور في القرآن العظيم هو هذا المتأخر فيقع بذلك خطأ كثير وفساد كبير.
كيف لا والأول كان عبداً صالحاً مؤمناً وملكاً عادلاً ووزيره الخضر، وقد قيل إنه كان نبياً، وأما الثاني فقد كان كافراً ووزيره أرسطاطاليس الفيلسوف وكان بينهما من الزمان أكثر من ألفي سنة، فأين هذا من ذاك انتهى.
قلت: لعله ذكر هذا في الكتاب الذي ذكره سابقاً وسماه بالبداية والنهاية ولم نقف عليه والذي يستفاد من كتب التاريخ هو أنهما اثنان كما ذكره السهيلي والأزرقي وابن كثير وغيرهم لا كما ذكر الرازي وادعى أنه الذي تشهد به كتب التواريخ وقد وقع الخلاف هل هو نبي أم لا؟ وسيأتي ما يستفاد منه المطلوب.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في كتاب الرد على المنطقيين: المشهور
_________
(1) ابن كثير 3/ 100.(8/102)
المتواتر أن أرسطو وزير الاسكندر بن فيلبس كان قبل المسيح بنحو ثلاثمائة سنة وكثير من الجهال يحسب أن هذا هو ذو القرنين المذكور في القرآن ويعظم أرسطو بكونه كان وزيراً له كما ذكر ذلك ابن سينا وأمثاله من الجهال بأخبار الأمم، وهذا من جهلهم فإن الاسكندر الذي وزر له أرسطو هو المقدوني الذي يؤرخ له تاريخ الروم المعروف عند اليهود والنصارى وهو إنما ذهب إلى أرض القدس لم يصل إلى السد عند من يعرف أخباره، وكان مشركاً يعبد الأصنام، وكذلك أرسطو وقومه كانوا مشركين يعبدون الأصنام وذو القرنين كان موحداً مؤمناً بالله وكان متقدماً على هذا؛ ومن يسميه الإسكندر ويقول هو الإسكندر بن فيلبس.
ولهذا كان هؤلاء المتفلسفة إنما راجوا على أبعد الناس عن العقل والدين كالقرامطة والباطنية الذين ركبوا مذهبهم من فلسفة اليونان ودين المجوس وأظهروا الرفض، وكجهال المتصوفة وأهل الكلام، وإنما ينفقون (1) في دولة جاهلية بعيدة عن العلم والإيمان إما كفاراً وإما منافقين كما نفق منهم من نفق على المنافقين الملاحدة ثم نفق على المشركين الترك، وكذلك إنما ينفقون دائماً على أعداء الله ورسوله من الكفار والمنافقين انتهى.
وأما السبب الذي لأجله سمي ذا القرنين فقال الزجاج والأزهري: إنما سمي ذا القرنين لأنه بلغ قرن الشمس من مطلعها وقرن الشمس من مغربها، وقيل إنه كان له ضفيرتان من شعر والضفائر تسمى قروناً، وقيل إنه رأى في أول ملكه كأنه قابض على قرني الشمس فسمي بذلك، وقيل كان له قرنان تحت عمامته، وقيل: إنه دعا إلى الله فشجه قومه على قرنه ثم دعا إلى الله فشجوه على قرنه الآخر وقيل إنما سمي بذلك لأنه كريم الطرفين من أهل بيت شرف من قبل أبيه وأمه وقيل: لأنه انقرض في وقته قرنان من الناس وهو حي، وقيل
_________
(1) أي يروجون.(8/103)
لأنه كان إذا قاتل قاتل بيديه وركائبه جميعاً، وقيل لأنه أعطى علم الظاهر والباطن.
وقيل لأنه دخل النور والظلمة، وقيل لأنه ملك فارس والروم، وقيل لأنه ملك الروم والترك، وقيل: لأنه بلغ أقصى المغرب والمشرق والشمال والجنوب، وهذا هو القدر المعمور من الأرض، وقيل لأنه كان لتاجه قرنان.
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما أدري أتُبَّع كان نبياً أم لا؟ وما أدري أذو القرنين كان نبياً أم لا؟ وما أدري الحدود كفارات لأهلها أم لا " (1)؟ أخرجه عبد الرزاق وابن المنذر والحاكم وصححه وغيرهم.
وعن عليّ بن أبي طالب قال؛ لم يكن نبياً ولا ملكاً ولكن كان عبداً صالحاً أحب الله فأحبه الله، ونصح لله فنصحه الله، بعثه الله إلى قوم فضربوه على قرنه فمات ثم أحياه الله لجهادهم، ثم بعثه الله إلى قومه فضربوه على قرنه الآخر فمات فأحياه الله لجهادهم فلذلك سمي ذا القرنين وإن فيكم مثله.
وعن ابن عمر قال: ذو القرنين نبي، وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: " هو ملك يسيح الأرض بالأسباب "، أخرجه ابن أبي حاتم عن الأحوص بن حكيم عن أبيه وعن عمر بن الخطاب أنه سمع رجلاً ينادي بمنى يا ذا القرنين فقال ها أنتم قد سميتم بأسماء الأنبياء فما بالكم وأسماء الملائكة، وفي الباب غير ما ذكرناه مما يغني عنه ما قد أوردناه.
وقد أخرج أبو الشيخ والبيهقي عن عقبة بن عامر الجهني حديثاً يتضمن أن نفراً من اليهود سألوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن ذي القرنين فأخبرهم بما جاؤوا له ابتداء وكان فيما أخبرهم به أنه كان شاباً من الروم وأنه بنى الاسكندرية وأنه علا به ملك إلى السماء وذهب به إلى السد، وإسناده
_________
(1) المستدرك كتاب التفسير 2/ 450.(8/104)
ضعيف وفي متنه نكارة، وأكثر ما فيه أنه من أخبار بني إسرائيل، ذكر معنى هذا ابن كثير في تفسيره وعزاه إلى ابن جرير والأموي في مغازيه: ثم قال بعد ذلك والعجب أن أبا زرعة الرازي مع جلالة قدره ساقه بتمامه في كتابه دلائل النبوة انتهى (1).
وقد ساقه بتمامه السيوطي في الدر المنثور وساق أيضاً خبراً طويلاً عن وهب بن منبه وعزاه إلى ابن إسحاق وابن المنذر وغيرهم، وفيه أشياء منكرة جداً وكذلك ذكر خبراً طويلاً عن محمد الباقر أخرجه أبو الشيخ وغيره، ولعل هذه الأخبار ونحوها منقولة عن أهل الكتاب وقد أمرنا بأن لى لا نصدقهم ولا نكذبهم فيما ينقلونه إلينا.
واختلفوا أيضاً في وقته فقال قوم: كان بعد موسى، وقال قوم: كان في الفترة بعد عيسى، وقال قوم: كان في وقت إبراهيم وإسماعيل، وقد حققنا ذلك في لقطة العجلان فراجعه.
وبالجملة فإن الله مكنه وملكه ودانت له الملوك، وروي أن الذين ملكوا الدنيا كلها أربعة مؤمنان وكافران، فالمؤمنان سليمان بن داود والاسكندر، والكافران نمروذ وبختنصر، وسيملكها من هذه الأمة خامس لقوله تعالى (ليظهره على الدين كله) وهو المهدي ذكره القرطبي.
وعن السدي قال؛ قالت اليهود للنبي صلى الله عليه وسلم: إنك إنما تذكر إبراهيم وموسى وعيسى والنبيين إنك سمعت ذكرهم منا فأخبرنا عن نبي لم يذكره الله في التوراة إلا في مكان واحد، قال " ومن هو؟ " قالوا ذو القرنين قال: " ما بلغني عنه شيء " فخرجوا فرحين قد غلبوا في أنفسهم، فلم يبلغوا باب البيت حتى نزل جبريل بهذه الآيات
_________
(1) ابن كثير 3/ 100.(8/105)
وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا (83)
(ويسألونك عن ذي القرنين). (قل سأتلو عليكم) أيها السائلون (منه) أي من ذي القرنين (ذكراً) خبراً وذلك بطريق الوحي التلو.(8/105)
إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا (84) فَأَتْبَعَ سَبَبًا (85) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا (86) قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا (87) وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا (88) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (89) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا (90) كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا (91)
ثم شرع سبحانه في بيان ما أمر به رسوله أن يقوله لهم من أنه سيتلو عليهم منه ذكراً فقال(8/106)
إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا (84)
(إنا مكنا له في الأرض) أي أقدرناه بما مهدنا له من الأسباب فجعلنا له مكنة وقدرة على التصرف فيها وسهل عليه المسير في مواضعها وذلّل له طرقها حتى تمكن منها أين شاء وكيف شاء، ومن جملة تمكينه فيها أن جعل الله الليل والنهار عليه سواء في الإضاءة (وآتيناه من كل شيء) مما يتعلق بمطلوبه أو مما يحتاج إليه الخلق (سبباً) أي طريقاً يتوصل بها إلى ما يريده كآلات السير وكثرة الجند واستقصاء بقاع الأرض والوصول إلى عين الحياة، وقال ابن عباس: سبباً أي علماً وقال أيضا: بلاغاً إلى حيث أراد.
قال المفسرون: والمعنى طريقاً تؤديه إلى مغرب الشمس قاله الزجاج: وقيل من كل شيء يستعين به الملوك من فتح المدائن وقهرالأعداء وأصل السبب الحبل فاستعير لكل ما يتوصل به إلى شيء.(8/106)
فَأَتْبَعَ سَبَبًا (85)
(فأتبع سبباً) سلك طريقاً نحو المغرب، قال الأخفش: تبعته وأتبعته بمعنى مثل ردفته وأردفته ومنه قوله تعالى (فأتبعه شهاب) وحكى الأصمعي أنه يقال تبعته واتبعته إذا سار ولم يلحقه واتبعه إذا لحقه.(8/106)
قال أبو عبيدة: ومثله (فأتبعوهم مشرقين) قال النحاس وهذا من الفرق وإن كان الأصمعي قد حكاه فلا يقبل إلا بعلم أو دليل، وقوله عز وجل (فأتبعوهم مشرقين) ليس في الحديث أنهم لحقوهم، وإنما في الحديث لما خرج موسى وأصحابه من البحر وحصل فرعون وأصحابه في البحر انطبق عليهم البحر.
والحق في هذا أن تبع واتبع وأتبع لغات، بمعنى واحد وهو بمعنى السير(8/107)
حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا (86)
(حتى إذا بلغ مغرب الشمس) أي نهاية الأرض من جهة المغرب وآخر العمارة منها لأن من وراء هذه النهاية البحر المحيط وهو لا يمكن المضي فيه فلما لم يبق قدامه شط بل مياه لا آخر لها (وجدها) أي رأى الشمس (تغرب في عين حمئة) أي كثيرة الحمأة وهي الطينة السوداء يقال حمأت البئر حمأً بالتسكين إذا نزعت حمأتها وحمأت البئر حمأً بالتحريك كثرت حمأتها وقرئ حامية من الحمأة أي حارة وقد يجمع بين القراءتين فيقال كانت حارة وذات حمئة.
قال كعب: أما أنا فإني أجد في التوراة تغرب الشمس في ماء وطين، وأشار بيده إلى المغرب وأنشد ابن أبي حاصر:
فرأى مغيب الشمس عند غروبها ... في عين ذي خلب وثاط حرمد
فقال ابن عباس: ما الخلب؟ قال الطين بكلامهم، قال فما الثاط؟ قال الحمئة، قال فما الحرمد؟ قال الأسود، فدعا ابن عباس غلاماً فقال اكتب ما يقول هذا الرجل.
قيل ولعل ذا القرنين لما بلغ ساحل البحر المحيط رآها كذلك في نظره إذ لم يكن في مطمح بصره غير الماء. ولذلك قال (وجدها تغرب) ولم يقل كانت تغرب، قاله البيضاوي، يعني على العادة من أن الشخص إذا كان في البحر(8/107)
يرى الشمس كأنها تغرب فيه، قيل وتسمية البحر المحيط عيناً لا محذور فيه، خصوصاً وهو بالنسبة إلى ما هو أعظم منه في علم الله.
وفي القرطبي قال بعض العلماء: ليس المراد أنه انتهى إلى الشمس مغرباً ومشرقاً حتى وصل إلى جرمها ومسها لأنها تدور مع السماء حول الأرض من غير أن تلصق بالأرض، وهي أعظم من أن تدخل في عين من عيون الأرض لأنها أكبر من الأرض أضعافاً مضاعفة، بل المراد أنه انتهى إلى آخر العمارة من جهتي المغرب والمشرق فوجدها في رأي العين تغرب في عين حمئة، كما إنا نشاهدها في الأرض الملساء كأنها تدخل في الأرض؛ ولهذا قال (وجدها تطلع على قوم لم نجعل لهم من دونها ستراً) ولم يرد أنها تطلع عليهم بأن تماسهم وتلاصقهم، بل أراد أنهم أول من تطلع عليه.
وقال القتيبي: ويجوز أن تكون هذه العين من البحر وتكون الشمس تغيب وراءها أو عندها أو معها فيقام حرف الصفة مقام صاحبه والله أعلم. أهـ.
أقول ولا يبعد أن يقال لا مانع من أن يمكنه الله من عبور البحر حتى يصل إلى تلك العين التي تغرب فيها الشمس، وما المانع من هذا بعد أن حكى الله عنه أنه بلغ مشرق الشمس ومكن له في الأرض والبحر من جملتها، ومجرد الاستبعاد لا يوجب حمل القرآن على خلاف ظاهره.
قال الكرخي: فالله تعالى قادر على تصغير جرم الشمس وتوسيع العين وكرة الأرض بحيث تسع عين الماء عين الشمس، فلم لا يجوز ذلك وإن كنا لا نعلم به لقصور عقولنا عن الإحاطة بذلك، وأيضاًً الأنبياء والحكماء لا يبعد أن يقع منهم مثل ذلك. ألا ترى إلى ظن موسى فيما أنكره على الخضر. أهـ.
(ووجد عندها) أي عند العين أو الشمس (قوماً) قيل هم قوم عراة(8/108)
لباسهم جلود الوحش وطعامهم ما لفظ البحر، وكانوا كفاراً، قاله البيضاوي. ومن المعلوم أن الكفر إنما يتحقق بعد بعثة رسول وعدم إيمانهم به، ولينظر أي رسول أرسل إلى هؤلاء حتى كفروا به.
هذا والأظهر أنهم كانوا أهل فترة لم يرسل إليهم أحد، ولما جاءهم ذو القرنين دعاهم إلى ملة إبراهيم، فمنهم من آمن ومنهم من كفر؛ فخيره الله بين أن يعذبهم وبين أن يتركهم فقال:
(قلنا يا ذا القرنين) يستدل بها من يزعم أنه كان نبياً فإن الله خاطبه بالوحي ومن قال إنه لم يكن نبياً أوّله بالإلهام، ويحتمل أن يكون الخطاب على لسان نبي غيره (إِما أن تعذب) إياهم بالقتل من أول الأمر (وإما أن تتخذ فيهم حُسناً) أي أمراً ذا حسن أو أمراً حسناً مبالغة بجعل المصدر صفة للأمر، والمراد دعوتهم إلى الحق وتعليمهم الشرائع، قيل: وإما للتقسيم دون التخيير، أي ليكن شأنك معهم إما التعذيب وإما الإحسان، فالأول لمن أصرّ على الكفر والثاني لمن تاب منه والأول أولى.(8/109)
قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا (87)
(قال) ذو القرنين مختاراً للدعوة التي هي الشق الأخير من الترديد (أما من ظلم) نفسه بالإصرار على الشرك ولم يقبل دعوتي (فسوف نعذبه) بالقتل في الدنيا (ثم يرد إلى ربه) في الآخرة (فيعذبه) فيها (عذاباً نكراً) أي منكراً فظيعاً شديداً بالنار لأنها أنكر من القتل، قال الزجاج: خيره الله بين الأمرين.
قال النحاس: وَرُدّ على ابن سليمان قوله لأنه لم يصح أن ذا القرنين نبي فيخاطب بهذا فكيف يقول لربه عز وجل (ثم يرد إلى ربه) وكيف يقول فسوف نعذبه فيخاطبه بالنون، قال والتقدير قلنا يا محمد قالوا يا ذا القرنين، قال النحاس: وهذا الذي ذكره لا يلزم لجواز أن يكون الله عز وجل خاطبه(8/109)
على لسان نبي في وقته، وكان ذو القرنين خاطب أولئك القوم، فلا يلزم ما ذكره، ويمكن أن يكون مخاطباً للنبي الذي خاطبه الله على لسانه أو خاطب قومه الذي وصل بهم إلى ذلك الموضع.(8/110)
وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا (88)
(وأما من آمن) بالله وصدق دعوتي (وعمل) عملاً (صالحاً) مما يقتضيه الإيمان (فله جزاء الحسنى) بنصب جزاء وتنوينه، قال الفراء: نصبه على التمييز وقال الزجاج: هو مصدر في موضع الحال، أي مجزياً بها جزاء، وقرئ بالإضافة أي جزاء الخصلة الحسنى عند الله أو الفعلة الحسنى وهي الجنة، قاله الفراء. وقيل: إضافة الجزاء إلى الحسنى التي هي الجنة كإضافة حق اليقين ودار الآخرة، ويجوز أن يكون هذا الجزاء من ذي القرنين أي أعطيه وأتفضل عليه.
(وسنقول له) أي لمن آمن (من أمرنا يسراً) أي مما نأمر به قولاً ذا يسر ليس بالصعب الشاق أو أطلق عليه المصدر مبالغة(8/110)
ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (89)
(ثم أتبع سبباً) أي سلك طريقاً آخر غير الطريق الأولى، وهي التي رجع بها من المغرب وسار فيها إلى المشرق واستمر فيه لا يمل ولا تغلبه أمة مرَّ عليها.(8/110)
حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا (90)
(حتى إذا بلغ) في مسيره ذلك (مطلع الشمس) أي الموضع الذي تطلع عليه الشمس أولاً من معمور الأرض، أو مكان طلوعها لعدم المانع شرعاً ولا عقلاً من وصوله إليه كما أوضحناه فيما سبق، قيل بلغه في اثنتي عشرة سنة، وقيل في أقل من ذلك بناء على أنه سخر له السحاب وطويت له الأسباب.
(وجدها تطلع على قوم) قيل: هم الزنج وقيل: هم من نسل مؤمني قوم هود واسم مدينتهم حاحيالق واسمها بالسريانية مرقسا، وهم مجاورون يأجوج ومأجوج (لم نجعل لهم من دونها) أي الشمس (ستراً) يسترهم لا من(8/110)
البيوت والسقوف ولا من اللباس بل هم حفاة عراة لا يأوون إلى شيء من العمارة، قيل لأنهم بارض لا يمكن أن يستقر عليها البناء.
قال كعب: أرضهم لا تمسك الأبنية لرخاوتها وبها أسراب فإذا طلعت الشمس دخلوها فإذا ارتفع النهار خرجوا إلى معايشهم. قال الزمخشري وعن بعضهم قال: خرجت حتى جاوزت الصين، فسألت عن هؤلاء القوم فقيل لي بينك وبينهم مسيرة يوم وليلة فبلغتهم وإذا أحدهم يفرش إحدى أذنيه ويلتحف الأخرى، فلما قرب طلوع الشمس سمعت صوتاً كهيئة الصلصلة فغشى عليَّ ثم أفقت فلما طلعت الشمس فإذا هي فوق الماء كهيئة الزيت، فأدخلوني سرباً لهم فلما طلع النهار جعلوا يصطادون السمك ويطرحونه في الشمس فينضج لهم.
وقال مجاهد: من لا يلبس الثياب من السودان عند مطلع الشمس أكثر من جميع أهل الأرض، وفي كتب الهيئة إن أكثر حال الزنج كذلك، وكذا حال كل من سكن البلاد القريبة من خط الاستواء.(8/111)
كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا (91)
(كذلك وقد أحطنا بما لديه خبراً) أي كذلك أمر ذي القرنين، اتبع هذه الأسباب حتى بلغ، وقد علمنا حين ملكناه ما عنده من الصلاحية لذلك الملك والاستقلال به أو من الآلات والجند وغيرهما.
وقيل المعنى لم نجعل لهم ستراً مثل ذلك الستر الذي جعلنا لكم من الأبنية والثياب، وقيل المعنى وكذلك بلغ مطلع الشمس مثل ما بلغ من مغربها وقيل المعنى كذلك يطلع على قوم مثل ذلك القبيل الذي تغرب عليهم، فقضى في هؤلاء مثل ما قضى في أولئك من تعذيب الظالمين والإحسان إلى المؤمنين وهو الأصح ويكون تأويل الإحاطة بما لديه في هذه على ما يناسب ذلك كما قلنا في الوجه الأول، ثم حكى سبحانه سفر ذي القرنين إلى ناحية أخرى وهي ناحية القطر الشمالي بعد تهيئة أسبابه فقال:(8/111)
ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (92) حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا (93) قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (94) قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا (95) آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا (96) فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا (97)(8/112)
ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (92)
(ثم أتبع سبباً) أي سلك طريقاً ثالثاً معترضاً بين المشرق والمغرب واستمر آخذاً فيه(8/112)
حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا (93)
(حتى إذا بلغ) في مسيره ذلك (بين السدين) بفتح السين وقرئ بضمها وهما سبعيتان.
وقال أبو عبيدة وابن الأنباري وأبو عمرو بن العلاء: السد إن كان بخلق الله تعالى فهو بضم السين حتى يكون بمعنى مفعول أي هو مما فعله الله وخلقه، وإن كان من عمل العباد فهو بالفتح حتى يكون حدثاً.
وقال ابن الأعرابي: كل ما قابلك فَسَد ما وراءه فهو سد، وسد نحو الضعف والضعف والفقر والفقر، والسدان هما جبلان من قبل أرمينية وأذربيجان. قاله ابن عباس. وقيل موضع بين السدين هو منقطع أرض الترك مما يلي المشرق، وقيل هما جبلان عاليان جداً أملسان لا يستطاع الصعود عليهما كالسد الأتي، ويسمى كل واحد منهما سدا لأنه سد فجاج الأرض.
وفي الشهاب إطلاق السد على الجبل لأنه سد في الجملة، وفي القاموس السد الجبل والحاجز أو لكونه ملاصقاً للسد فهو مجاز بعلاقة المجاورة.
وحكى ابن جرير في تاريخه أن صاحب أذربيجان أيام فتحها وجه إنساناً(8/112)
من ناحية الجزر فشاهده ووصف أنه بنيان رفيع وراء خندق وثيق منيع.
وحكى أن الواثق بعث بعض من يثق به إليه ليعاينوه فخرجوا من باب من الأبواب حتى وصلوا إليه وشاهدوه فوصفوا أنه بناء من لبن حديد مشدود بالنحاس المذاب وعليه باب مقفل، وقيل جبلان في أواخر الشمال.
قال الرازي: والأظهر أن موضع السدين في ناحية الشمال سد الإسكندر ما بينهما، أي الفتحة وطولها مائة فرسخ، وليس ليأجوج ومأجوج طريق يخرجون منها إلى أرض العمارة إلا هذه الفتحة ومسكنهم وراء هذين الجبلين، وأرضهم متسعة جداً تنتهي إلى البحر المحيط.
(وجد من دونهما) أي من ورائهما مجاوزاً عنهما، وقيل أمامهما أي خارجة عنهما لا داخلة بناحية يأجوج ومأجوج. وقال الخطيب بقربهما من الجانب الذي هو أدنى منهما إلى الجهة التي أتى منها ذو القرنين (قوماً) أي أمة من الناس لغتهم في غاية البعد من لغات بقية الناس لبعد بلادهم من بقية البلاد، فلذا (لا يكادون) أي لا يقربون (يفقهون) أي يفهمون (قولاً) ممن مع ذي القرنين فهماً جيداً كما يفهم غيرهم لغرابة لغتهم وقلة فطنتهم.
وقرئ بضم الياء وكسر القاف من أفقه إذا أبان، أي لا يبينون لغيرهم كلاماً، وقرئ بفتح الياء والقاف أي لا يفهمون كلام غيرهم، والقراءتان صحيحتان ومعناهما لا يفهمون عن غيرهم ولا يفهمون غيرهم لأنهم لا يعرفون غير لغة أنفسهم ولسانهم غريب مجهول لشدة عجمتهم فكلامهم مغلق قال ابن جريج هم الترك.(8/113)
قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (94)
(قالوا) أي هؤلاء القوم الذين لا يفهمون قولاً (يا ذا القرنين) وهو الإسكندر الأكبر، قيل أن فهمه لكلامهم من جملة الأسباب التي أعطاه الله، وقيل إنهم قالوا ذلك لترجمانهم؛ فقال لذي القرنين بما قالوا له، وذلك لأنهم(8/113)
من أولاد يافث بن نوح وذو القرنين من أولاد سام فلا يفهم لغتهم.
(إن يأجوج ومأجوج) اسمان عجميان لا اشتقاق لهما بدليل منع صرفهما للعلمية والعجمة، وبه قال الأكثر، وقيل عربيان مشتقان من أج الظليم في مشبه إذا هرول، وتأججت النار إذا تلهبت، وقرأهما الجمهور بغير همز، وقرأ عاصم بالهمز.
قال ابن الأنباري: وجه همزهما وإن لم يعرف له أصل أن العرب قد همزت حروفاً لا يعرف الهمز فيها أصل، كقولهم كَبْأَثَ وَرَثْأثَ وَاسْتَشْأَثَ الريح، ويحتمل إن تكون الهمزة أصلاً والألف بدلاً عنها أو بالعكس، لأن العرب تتلاعب بالأسماء العجمية، قال أبو علي: يجوز أن يكونا عربيين، فمن همز فهو على وزن يفعول، مثل يربوع، ومن لم يهمز أمكن أن يكون خفف الهمزة فقلبها ألفاً مثل رأس.
وأما مأجوج فهو مفعول من أج والكلمتان من أصل واحد في الاشتقاق، قال وترك الصرف فيهما على تقدير كونهما عربيين للتأنيث والتعريف كأنه اسم للقبيلة. وقيل: اشتقاقهما من الأَوْجَة وهي الاختلاط أو شدة الحر، وقيل من الأوج وهو سرعة العدو، واختلف في نسبهم، فقيل: هم من ولد يافث بن نوح والترك منهم، وقيل يأجوج ومأجوج من الترك ومأجوج من الجيل والديلم.
وقال كعب الأحبار: احتلم آدم فاختلط ماؤه بالتراب فخلقوا من ذلك الماء قال القرطبي: وهذا فيه نظر لأن الأنبياء لا يحتلمون، وإنما هم من ولد يافث، كذلك قال مقاتل وغيره. وقد وقع الخلاف في صفتهم، فمن الناس من يصفهم بصغر الجثث وقصر القامة، ومنهم من يصفهم بكبر الجثث وطول القامة، ومنهم من يكون لهم مخالب كمخالب السباع، وإن منهم صنفاً يفترش إحدى أذنيه ويلتحف بالأخرى، ولأهل العلم من السلف ومن بعدهم أخبار مختلفة في صفاتهم وأفعالهم.(8/114)
قال ابن عباس: يأجوج ومأجوج شبر وشبران وأطولهم ثلاثة أشبار وهم من ولد آدم وفيه بعد، وعن ابن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن يأجوج ومأجوج من ولد آدم، ولو أرسلوا لأفسدوا على الناس معايشهم، ولا يموت منهم رجل إلا ترك من ذريته ألفاً فصاعداً، وإن من ورائهم ثلاث أمم تأويل وتاريس ومنسك، أخرجه الطبراني وعبد بن حميد وابن المنذر والبيهقي وغيرهم قيل هم عشرة أجزاء وولد آدم كلهم جزء ومسافة الأرض بتمامها خمسمائة عام ثلثمائة بحار ومائة وتسعون مسكن لهم بقي عشرة سبعة للحبشة وثلاثة لجملة الخلق غيرهم وهم كفار دعاهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الإيمان ليلة الإسراء فلم يجيبوا والله أعلم.
(مفسدون في الأرض) بالنهب والبغي عند خروجهم، وقيل سيفسدون بعد خروجهم إلينا، واختلف في إفسادهم في الأرض فقيل هو أكل بني آدم، وقيل هو الظلم والغشم والقتل وسائر وجوه الإفساد، وقيل كانوا يخرجون إلى أرض هؤلاء القوم الذين شكوهم إلى ذي القرنين في أيام الربيع فلا يدعون فيها شيئاً أخضر إلا أكلوه ولا يابساً إلا حملوه وأدخلوه أرضهم.
وأخرج أحمد والترمذي وحسنه وابن ماجة وابن حبان والحاكم وصححه والبيهقي في البعث عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض يحفرون السد كل يوم حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس قال الذي عليهم ارجعوا فستفتحونه غداً فيعودون إليه أشد ما كان حتى إذا بلغت مدتهم وأراد الله أن يبعثهم على الناس حفروا حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس قال الذي عليهم ارجعوا فستفتحونه إن شاء الله تعالى ويستثنى فيعودون إليه وهو كهيئته حين تركوه فيحفرونه ويخرجون على الناس فيستقون المياه ويتحصن الناس منهم في حصونهم فيرمون بسهامهم إلى السماء فترجع مخضبة بالدماء فيقولون قهرنا من في الأرض وعلونا من في السماء قسراً وعلواً فيبعث الله عليهم نغفا في أقفائهم فيهلكون، قال رسول الله صلى(8/115)
الله عليه وسلم فوالذي نفس محمد بيده إن دواب الأرض لتسمن وتبطر وتشكر شكراً من لحومهم " (1).
وقد ثبت في الصحيحين من حديث زينب بنت جحش قالت: استيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم من نومه وهو محمر وجهه وهو يقول " لا إله إلا الله ويل للعرب من شر قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه وحلق "، قلت يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: " نعم إذا كثر الخبث " (2)، وأخرجا نحوه من حديث أبي هريرة مرفوعاً وقد ذكرنا تفصيل حالهم في حجج الكرامة فراجعه (فهل نجعل لك خرجاً) هذا الاستفهام من باب حسن الأدب مع ذي القرنين وقرئ خراجاً.
قال الأزهري: الخراج يقع على الضريبة ويقع على مال الفيء ويقع على الجزية وعلى الغلة، والخراج أيضاً اسم لما يخرج من الفوائض في الأموال والخرج المصدر، وقال قطرب: الخرج الجزية والخراج في الأرض وقيل: الخرج ما يخرجه كل أحد من ماله والخراج ما يجبيه السلطان، وقيل: هما بمعنى واحد قال ابن عباس خرجاً أي أجراً عظيماً وجعلاً من الأموال.
(على أن تجعل بيننا وبينهم سداً) أي ردماً حاجزاً بيننا وبينهم فلا يصلون إلينا، قال الخليل وسيبويه: الضم (3) هو الاسم والفتح المصدر، وقال الكسائي: الضم والفتح لغتان بمعنى واحد وقد سبق قريباً ما حكيناه عن أبي عمرو بن العلاء وأبي عبيدة وابن الأنباري من الفرق بينهما.
وقال ابن أبي إسحاق: ما رأته عيناك فهو سُد بالضم وما لا ترى فهو سد بالفتح وقد قدمنا بيان من قرأ بالفتح وبالضم في السدين.
_________
(1) الترمذي 2/ 197 - الحاكم 4/ 488 - الإمام أحمد 2/ 510.
(2) مسلم 2880 - البخاري 1582.
(3) الضم: أي ضم السين في " سداً " ومثله الفتح.(8/116)
قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا (95)
(قال) لهم ذو القرنين (ما مكني فيه ربي) أي ما بسطه الله لي من(8/116)
المال والقدرة والملك وفي قراءة سبعية بنونين من غير إدغام (خير) من خرجكم الذي تجعلونه لي فلا حاجة لي إليه وأجعل لكم السد تبرعاً ثم طلب منهم المعاونة له فقال (فأعينوني بقوة) أي برجال منكم يعملون بأيديهم أو أعينوني بآلات البناء أو بمجموعهما.
قال الزجاج: بعمل تعملونه معي (أجعل بينكم وبينهم ردماً) حاجزاً حصيناً وهذا جواب الأمر، والردم ما جعل بعضه على بعض حتى يتصل.
قال الهروي: يقال ردمت الثلمة أردمها بالكسر ردماً أي سددتها والردم أيضا الاسم وهو السد، وقيل: الردم أبلغ من السداد، السد كل ما يسد به والردم وضع الشيء على الشيء من حجارة أو تراب أو نحوهما حتى يقوم من ذلك حجاب منيع ومنه ردم ثوبه إذا رقعه برقاع متكائفة بعضها فوق بعض، قال ابن عباس: الردم هو أشد الحجاب.(8/117)
آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا (96)
(آتوني) أي أعطوني وناولوني (زبر الحديد) جمع زبرة كغرفة وغرف وهي القطعة، قال الخليل: الزبرة من الحديد القطعة الضخمة، قال الفراء: معناه آتوني بها على قدر الحجارة التي يبنى فيها فبنى بها وجعل بينها الحطب والفحم (حتى إذا ساوى بين الصدفين) بفتح الحرفين وضمهما وضم الأول وسكون الثاني، والثاني أشهر اللغات وقرئ بفتح الصاد وضم الدال.
وقال الأزهري: يقال لجانبي الجبل صدفان إذا تحاذيا لتصادفهما أي تلاقيهما وكذا قال أبو عبيدة والهروي وقد يقال لكل بناء عظيم مرتفع صدف قاله أبو عبيدة؛ وفي البيضاوي الصدفين من الصدف وهو الميل لأن كلا منهما منعزل عن الآخر ومنه التصادف للتقابل وقال ابن عباس: الصدفين الجبلين، وقال مجاهد: رؤوس الجبلين، ومعنى الآية أنهم أعطوه زبر الحديد فجعل يبني بها بين الجبلين حتى ساواهما.
ثم (قال) للعملة (انفخوا) على هذه الزُّبَر بالكيران (حتى إذا(8/117)
جعله) أي جعل ذلك المنفوخ فيه وهو الزبر (ناراً) أي كالنار في حرها وإسناد الجعل إلى ذي القرنين مجاز لكونه الآمر بالنفخ قيل: كان يأمر بوضع طاقة من الزبر والحجارة ثم يوقد عليها الحطب والفحم بالمنافخ حتى يحمى، والحديد إذا أوقد عليه صار كالنار ثم يؤتى بالنحاس المذاب فيفرغه على تلك الطاقة وهو معنى قوله:
(قال آتوني أفرغ عليه قطراً) قال أهل اللغة هو النحاس الذائب وبه قال ابن عباس: والإفراغ الصب وكذا قال أكثر المفسرين، وقالت طائفة: القطر الحديد المذاب، وقالت طائفة أخرى منهم ابن الأنباري: هو الرصاص المذاب فدخل القطر بين زُبَره فصار شيئاً واحداً قيل: وهذا السد معجزة عظيمة ظاهرة لأن الزُّبْرَة الكبيرة إذا نفخ عليها حتى صارت كالنار لم يقدر أحد على القرب منها والنفخ عليها لا يمكن إلا بالقرب منها فكأنه تعالى صرف تأثير تلك الحرارة العظيمة عن أبدان أولئك النافخين حتى تمكنوا من العمل فيه.(8/118)
فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا (97)
(فما اسطاعوا) أصلها فما استطاعوا، قال ابن السكيت: يقال ما أستطيع وما أستطيع وما أستيع وبالتخفيف قرأ الجمهور وقرأ حمزة وحده فما اسطاعوا بتشديد الطاء وهي قراءة ضعيفة الوجه.
قال أبو علي الفارسي: هي غير جائزة وقرئ على الأصل (أن يظهروه) أي يعلوه قاله ابن جريج، وقال قتادة: أن يرتقوه فما اسطاع يأجوج ومأجوج أن يعلوا على ذلك الردم لارتفاعه وملاسته فكان ارتفاعه مائتي ذراع ولملاسته لا يثبت عليه قدم ولا غيره.
(وما استطاعوا له نقباً) يقال نقبت الحائط إذا خرقت فيه خرقاً فخلص ما وراءه، قال الزجاج: ما استطاعوا أن ينقبوه من أسفله لشدته وصلابته وسمكه وثخنه أي عرضه قيل: أن عرضه خمسون ذراعاً وطوله فرسخ وسعة الفتحة التي بين الجبلين مائة فرسخ.(8/118)
قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (98) وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا (99) وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا (100) الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا (101) أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا (102) قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104)(8/119)
قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (98)
(قال) ذو القرنين مشيراً إلى السد (هذا) السد أي الإقدار عليه (رحمة من ربي) أي أثر من آثار رحمته لهؤلاء المجاورين للسد ولمن خلفهم ممن يخشى عليه معرتهم ولو لم يكن ذلك السد فهو نعمة لأنه مانع من خروجهم (فإذا جاء وعد ربي) أي أجله أن يخرجوا منه وقيل هو مصدر بمعنى المفعول وهو يوم القيامة (جعله) الظاهر أن الجعل هنا بمعنى التصيير وعند ابن عطية بمعنى خلق وفيه بعد لأنه إذ ذاك موجود (دكاء) أي مستوياً بالأرض ومنه (كلا إذا دكت الأرض دكاً دكاً) قاله الترمذي: أي مستوياً يقال ناقة دكاء إذا ذهب سنامها.
وقال القتيبي: أي جعله مدكوكاً مبسوطاً ملصقاً بالأرض وقيل مساوياً للأرض فيغور فيها أو يذوب حتى يصير تراباً، وقال الحليمي قطعاً منكسرة ومن قرأ دكاء بالمد أراد التشبه بالناقة الدكاء وهي التي لا سنام لها أي مثل دكاء لأن السد مذكر فلا يوصف بدكاء وقرأ الباقون دكاً بالتنوين على أنه مصدر ومعناه ما تقدم ويجوز أن يكون مصدراً بمعنى الحال أي مدكوكاً، قال قتادة لا أدري آلجبلين يعني به أم بينهما؟
(وكان وعد ربي حقاً) أي بخروجهم أو وعده بالثواب والعقاب أو(8/119)
الوعد المعهود حقاً ثابتاً لا يتخلف، وهذا آخر قول ذي القرنين.
ثم قال الله تعالى(8/120)
وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا (99)
(وتركنا بعضهم) أي بعض يأجوج ومأجوج (يومئذ يموج في بعض) أي جعلنا وصيرنا بعضهم يوم مجيء الوعد أو يوم خروج يأجوج ومأجوج يختلط ويموج في بعض آخر منهم، يقال ماج الناس إذا دخل بعضهم في بعض حيارى كموج الماء، والمعنى أنهم يضطربون ويختلطون من شدة الازدحام عند خروجهم عقب موت الدجال فينحاز عيسى بالمؤمنين إلى جبل الطور فراراً منهم، ثم يسلط الله عليهم دوداً في أنوفهم فيموتون به ولا يدخلون مكة ولا المدينة ولا بيت المقدس ولا يصلون إلى من تحصن منهم بورد أو ذكر وتمام قصتهم في كتابنا حجج الكرامة.
وقيل الضمير في بعضهم للخلق واليوم يوم القيامة أي وجعلنا بعض الخلق من الجن والإنس يموج في بعض، وقيل المعنى وتركنا يأجوج ومأجوج يوم كمال السد وتمام عمارته بعضهم يموج في بعض.
(ونفخ في الصور) أي القرن للبعث وقد تقدم تفسيره وفيه دليل على أن خروجهم من علامات قرب الساعة، قيل هي النفخة الثانية بدليل قوله بعد (فجمعناهم جمعاً) فإن الفاء تشعر بذلك ولم يذكر النفخة الأولى لأن المقصود هنا ذكر أحوال القيامة والمعنى جمعنا الخلائق بعد تلاشي أبدانهم ومصيرها تراباً جمعاً تاماً على أكمل صفة وأبدع هيئة وأعجب أسلوب في صعيد واحد.(8/120)
وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا (100)
(وعرضنا جهنم يومئذ للكافرين عرضاً) المراد بالعرض هنا الإظهار أي أظهرنا جهنم حتى شاهدوها يوم جمعنا لهم، وفي ذلك وعيد للكفار عظيم لما يحصل معهم عند مشاهدتها من الفزع والروعة.
ثم وصف الكافرين المذكورين بقوله(8/120)
الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا (101)
(الذين كانت أعينهم) في الدنيا أي أعين قلوبهم أي بصائرهم (في غطاء) أي غشاء وستر وهو ما غطى الشيء وستره من جميع الجوانب (عن) سبب (ذكري) وهي الآيات التي(8/120)
يشاهدها من له تفكر واعتبار فيذكر الله بالتوحيد والتمجيد فأطلق المسبب على السبب أو عن القرآن العظيم وتأمل معانيه وتدبر فوائده فهم عمي لا يهتدون به.
ثم لما وصفهم سبحانه بالعمى عن الدلائل التكوينية أو التزيلية أو مجموعهما أراد أن يصفهم بالصم عن استماع الحق فقال: (وكانوا لا يستطيعون) أي لا يعقلون (سمعاً) قاله مجاهد، وقيل: لا يقدرون على الاستماع لا فيه الحق من كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم لغلبة الشقاوة عليهم ولشدة عداوتهم لله ولرسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وهذا أبلغ مما لو قال: وكانوا صماً لأن الأصم قد يستطيع السمع إذا صيح به وهؤلاء لا استطاعة لهم بالكلية، وفي ذكر غطاء الأعين وعدم استطاعة السماع تمثيل لتعاميهم عن المشاهدة بالأبصار وإعراضهم عن الأدلة السمعية.(8/121)
أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا (102)
(أفحسب الذين كفروا أن يتخذوا عبادي من دوني أولياء) الحسبان هنا بمعنى الظن والاستفهام للتقريع والتوبيخ والفاء للعطف على مقدر كنظائره، والمعنى أفظنوا أنهم ينتفعون بما عبدوه مع إعراضهم عن تدبر آيات الله وتمردهم عن قبول الحق، وعن عليّ أنه قرأ أفَحَسْبُ بجزم السين وضم الباء.
وعن عكرمة أنه قرأ كذلك ومعناه أَكَافِئُهُم وَمُحْسِبُهم أن يتخذوا عيسى وعزيراً والملائكة أرباباً من دونه تعالى بل هم لهم أعداء يتبرأون منهم، وقيل يعني الشياطين أطاعوهم من دون الله.
والمعنى أظنوا أن الاتخاذ المذكور لا يغضبني ولا أعاقبهم عليه، قال الزجاج: المعنى أيحسبون أن ينفعهم ذلك يريد أن ذلك لا يكفيهم ولا ينفعهم عند الله كما حسبوا كلا (إنا اعتدنا) هيأنا (جهنم للكافرين نزلاً) يتمتعون به عند ورودهم قال الزجاج: النزل المأوى والمنزل، وفي القاموس ما يقتضي أن كل منزل يقال له نُزُل، ففي تقييد النزل بمكان الضيف نظر كما قال بعضهم إنه الذي يعد للضيف؛ وعلى هذا فيكون تهكماً بهم كقوله (فبشرهم(8/121)
بعذاب أليم) والمعنى أن جهنم معدة لهم عندنا كما يعد المنزل للضيف.(8/122)
قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103)
(قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالاً) جمع أخسر أي أشد خسراناً من غيرهم أو بمعنى خاسر، وجمع العمل للدلالة على إرادة الأنواع منه، عن مصعب بن سعد قال: سألت أبي أَهُمُ الحرورية؟ قَال: لا، هم اليهود والنصارى، أما اليهود فكذبوا محمداً صلى الله عليه وآله وسلم، وأما النصارى فكفروا بالجنة وقالوا لا طعام فيها ولا شراب، والحرورية الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه وكان سعد يسميهم الفاسقين، وعنه قال: لا ولكنهم أصحاب الصوامع، والحرورية قوم زاغوا فأزاغ الله قلوبهم.
وعن عليّ قال: إنهم الرهبان الذين حبسوا أنفسهم في السواري، وعنه قال هم فجرة قريش، وعنه قال: لا أظن إلا أن الخوارج منهم(8/122)
الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104)
(الذين ضل) أي بطل وضاع (سعيهم) كالعتق والوقف وإغاثة الملهوف لأن الكفر لا تنفع معه طاعة (في الحياة الدنيا وهم يحسبون) أي والحال أنهم يظنون (أنهم يحسنون صنعاً) عملاً يجازون عليه وأنهم منتفعون بآثاره.(8/122)
أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا (105) ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا (106) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا (107) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا (108) قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا (109) قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110)(8/123)
أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا (105)
(أولئك الذين كفروا بآيات ربهم) مستأنفة مسوقة لبيان تكميل الخسران وسببه، وهذا أولى الوجوه ومعنى كفرهم بالآيات كفرهم بدلائل توحيده من الآيات التكوينية والتنزيلية (ولقائه) أي كفروا بالبعث والحساب والثواب والعقاب وما بعده من أمور الآخرة ثم رتب على ذلك قوله (فحبطت أعمالهم) التي عملوها مما يظنونه حسناً وهو خسران وضلال ثم حكم عليهم بقوله (فلا نقيم لهم يوم القيامة وزناً) أي لا يكون لهم عندنا قدر ولا نعبأ بهم بل نزدريهم ونستذلهم.
وقيل لا يقام لهم ميزان توزن به أعمالهم لأن ذلك إنما يكون لأهل الحسنات والسيئات من الموحدين وهؤلاء لا حسنات لهم.
قال ابن الأعرابي: العرب تقول ما لفلان عندنا وزن أي قدر لخسته ويوصف الرجل بأنه لا وزن له لخفته وسرعة طيشه وقلة تثبته، والمعنى على هذا أنهم لا يعتد بهم ولا يكون لهم عند الله قدر ولا منزلة.
وقرأ مجاهد يقيم أي فلا يقيم الله وقرأ الباقون بالنون وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: " إنه ليأتي(8/123)
الرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة، وقال اقرأوا إن شئتم: فلا نقيم لهم يوم القيامة وزناً (1).
ثم بيّنَ سبحانه عاقبة هؤلاء وما يؤول إليه أمرهم فقال
_________
(1) مسلم 2785 - البخاري 2023.(8/124)
ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا (106)
(ذلك) أي الذي ذكرناه من أنواع الوعيد وحبوط أعمالهم وخسة قدرهم (جزاؤهم جهنم) عطف بيان للجزاء والسبب في ذلك أنهم ضموا إلى الكفر اتخاذهم آيات الله واتخاذ رسله هزواً، والباء في (بما كفروا) للسببية (واتخذوا آياتي ورسلي هزوا) أي مهزوءاً بهم.
ثم ذكر سبحانه بعد هذا الوعيد لهؤلاء الكفار الوعد للمؤمنين فقال(8/124)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا (107)
(إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات) أي جمعوا بينهما حتى كانوا على ضد صفة من قبلهم (كانت لهم) فيما سبق من علم الله لأهل طاعته قاله ابن الأنباري (جنات الفردوس نزلاً) قال المبرد: الفردوس فيما سمعت من كلام العرب الشجر الملتف والأغلب عليه العنب، واختار الزجاج ما قاله مجاهد أن الفردوس البستان باللغة الرومية، وقيل كل ما حوط فهو فردوس والجمع فراديس.
وحكى الزجاج: أنها الأودية التي تنبت ضروباً من النبت فقيل هو عربي وقيل أعجمي وقيل فارسي وقيل سرياني، وقد تقدم بيان النزل، والمعنى كانت لهم ثمار جنة الفرودس نزلاً معداً لهم مبالغة في إكرامهم.
أخرج الطبراني والحاكم وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وغيرهم عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " سلوا الله الفردوس فإنها سُرَّةُ الجنة وإن أهل الفردوس يسمعون أطيط العرش " (1).
وفي الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله
_________
(1) المستدرك كتاب التفسير 2/ 371.(8/124)
صلى الله عليه وسلم: " إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس فإنه وسط الجنة وأعلى الجنة وفوقه عرش الرحمن ومنه تفجر أنهار الجنة " (1)
وأخرج الترمذي وأحمد والحاكم والبيهقي وعبد بن حميد عن عبادة بن الصامت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن في الجنة مائة درجة كل درجة منها ما بين السماء والأرض، الفردوس أعلاها درجة ومن فوقها يكون العرش ومنه تفجر أنهار الجنة الأربعة فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس " (2).
وعن السدي هو الكرم بالنبطية، وقال كعب: هي جنات الأعناب بالسريانية وعنه ليس في الجنان جنة أعلى من جنة الفردوس فيها الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر.
وقال قتادة: الفردوس ربوة الجنة وأوسطها وأوسعها وأفضلها وأرفعها وقيل: هي الجنة الملتفة بالأشجار التي تنبت ضروباً من النبات، والأحاديث بهذا المعنى كثيرة وقد أوضحنا ما جاء في الجنان كلها ونعيمها من الأحاديث والآثار في كتاب سميناه مثير ساكن الغرام إلى روضات دار السلام.
_________
(1) الإمام أحمد 2/ 335 - 2/ 339 ولم أجده في الصحيحين.
(2) الترمذي كتاب الجنة باب 4.(8/125)
خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا (108)
(خالدين فيها لا يبغون عنها حولاً) قال مجاهد: متحولاً أي لا يطلبون تحولاً عنها إلى غيرها إذ هي أعز من أن يطلبوا غيرها أو تشتاق أنفسهم إلى سواها قال ابن الأعرابي وابن قتيبة والأزهري: الحول اسم بمعنى التحول يقوم مقام المصدر، وقال أبو عبيدة والفراء: أن الحول التحويل.
ولما ذكر سبحانه أنواع الدلائل نبه على كمال القرآن فقال(8/125)
قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا (109)
(قل لو كان البحر مداداً لكلمات ربي) قال ابن الأنباري: سمي المداد مداداً لإمداده الكاتب وأصله من الزيادة ومجيء الشىء، بعد الشيء، ويقال للزيت الذي يوقد به السراج مداداً، والمراد بالبحر هنا الجنس، والمعنى لو كتبت كلمات علم الله(8/125)
وحكمته وعجائبه وفرض أن جنس البحر مداد لها (لنفد البحر) أي لفنى ماؤه (قبل أن تنفد كلمات ربي) أي قبل نفود الكلمات، وقيل المعنى لو كان البحر مداداً للقلم والقلم يكتب لنفد البحر قبل نفود كلمات ربي أي علمه. قاله مجاهد.
وقال قتادة: ينفد ماء البحر قبل أن ينفد كلام الله وحكمته، وقيل المراد بها معلوماته، قرئ تنفد بالتاء والياء وهما سبعيتان وذكر في الكشاف أن قبل هنا بمعنى غير أو بمعنى دون، وقيل عنى سبحانه بالكلمات الكلام القديم الذي لا غاية له ولا منتهى، وهو إن كان واحداً فيجوز أن يعبر عنه بلفظ الجمع لما فيه من الفوائد، وقد عبرت العرب عن الفرد بلفظ الجمع قال الأعشى:
ووجه نقي اللون صاف يزينه ... مع الجيد لبات لها ومعاصم
فعبر باللبات عن اللبة قال الجبائي: أن قوله (قبل أن تنفد كلمات ربي) يدل على أن كلماته قد تنفد في الجملة، وما ثبت عدمه امتنع قدمه، وأجيب بأن المراد الألفاظ الدالة على متعلقات تلك الصفة الأزلية، وقيل في الجواب إن نفاد شيء قبل نفاد شيء آخر لا يدل على نفاد الشيء الآخر ولا على عدم نفاده، فلا يستفاد من الآية إلا كثرة كلمات الله بحيث لا تضبطها عقول البشر، أما أنها متناهية أو غير متناهية فلا دليل على ذلك في هذه الآية، والحق أن كلمات الله تابعة لمعلوماته وهي غير متناهية فالكلمات غير متناهية.
(ولو جئنا بمثله مدداً) كلام من جهته سبحانه غير داخل تحت قوله (قل لو كان البحر) وفيه زيادة مبالغة وتأكيد، والواو لعطف ما بعده على جملة مقدرة مدلول عليها بما قبلها أي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات الله لو لم يجيء بمثله مدداً (ولو جئنا بمثله) أي البحر (مدداً لنفد) أيضاً والمدد الزيادة وقرئ مداداً وهي كذلك في مصحف أبيّ.(8/126)
ثم أمر سبحانه نبيه صلى الله عليه وآله وسلم أن يسلك مسلك التواضع فقال(8/127)
قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110)
(قل إنما أنا بشر مثلكم) أي آدمي حالي مقصور على البشرية لا يتخطاها إلى الملكية ومن كان هكذا فهو لا يدعي الإحاطة بكلمات الله إلا أنه امتاز عنهم بالوحي إليه من الله سبحانه فقال (يوحى إلي) وكفى بهذا الوصف فارقاً بينه وبين سائر أنواع البشر.
ثم بيَّن أن الذي أوحي إليه هو قوله (إنما إلهكم إله واحد) لا شريك له في الألوهية والملك وفي هذا إرشاد إلى التوحيد ثم أمرهم بالعمل الصالح والتوحيد فقال (فمن كان يرجو لقاء ربه) الرجاء توقع وصول الخير في المستقبل، والمعنى من كان له هذا الرجاء الذي هو شأن المؤمنين ويخاف المصير إليه، وقيل يؤمل رؤية ربه والبعث والجزاء (فليعمل عملاً صالحا) هو ما دل الشرع على أنه عمل خير يثاب عليه فاعله أي مستوفياً لمعتبر أنه شرعٌ عن ابن عباس قال: أنزلت في المشركين الذين عبدوا مع الله إلهاً آخر غيره وليست هذه في المؤمنين.
(ولا يشرك بعبادة ربه أحداً) من خلقه سواء كان صالحاً أو طالحاً، حيواناً أو جماداً، قال الماوردي: قال جميع أهل التأويل في تفسير هذه الآية إن المعنى لا يرائي بعمله أحداً.
وأقول إن دخول الشرك الجلي الذي كان يفعله المشركون تحت هذه الآية هو المقدم على دخول الشرك الخفي الذي هو الرياء. ولا مانع من دخول هذا الخفي تحتها إنما المانع من كونه هو المراد بهذه الآية.
عن ابن عباس قال: قال رجل يا نبيِّ الله إني أقف المواقف أبتغي وجه الله وأحب أن يرى موطني فلم يرد عليه شيئاً حتى نزلت هذه الآية.
وعنه قال: كان جندب بن زهير إذا صلى أو صام أو تصدق فذكر بخير ارتاح له فزاد في ذلك لقالة الناس فلا يريد به الله فنزل في ذلك (فمن كان يرجو لقاء ربه) الآية.(8/127)
وأخرج أحمد والترمذي وابن ماجة والبيهقي في الشعب عن أبي سعيد بن أبي فضالة الأنصاري وكان من الصحابة سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إذا جمع الله الأولين والآخرين ليوم لا ريب فيه نادى مناد من كان أشرك في عمل عمله لله أحداً فليطلب ثوابه من عند غير الله فإن الله أغنى الشركاء عن الشرك " (1).
وأخرج الحاكم وصححه والبيهقي عن أبي هريرة أن رجلاً قال يا رسول الله الرجل يجاهد في سبيل الله وهو يبتغي عرضاً من الدنيا فقال: " لا أجر له فأعظم الناس ذلك " فعاد الرجل فقال " لا أجر له " (2)، وعن شداد بن أوس قال: كنا نعد الرياء على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الشرك الأصغر.
وعنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " من صلى يرائي فقد أشرك ومن صام يرائي فقد أشرك ومن تصدق يرائي فقد أشرك "، ثم قرأ (فمن كان يرجو لقاء ربه) الآية (3)، أخرجه أحمد والطبراني والحاكم وصححه والبيهقي وغيرهم عن شداد أيضاً قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إن الله يقول أنا خير قسيم لمن أشرك بي، من أشرك بي شيئاً فإن عمله قليله وكثيره لشريكه الذي أشركه أنا عنه غني " (4)، أخرجه أحمد وأبو نعيم الطيالسي.
واخرج أحمد والحاكم وصححه والبيهقي وغيرهم عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم عندي من المسيح الشرك الخفي أن يقوم الرجل يصلي لمكان رجل " (5).
_________
(1) الترمذي تفسير سورة 18/ 6 - الإمام أحمد: 4/ 215.
(2) المستدرك كتاب التفسير 2/ 371.
(3) الإمام أحمد 4/ 126.
(4) الإمام أحمد 4/ 126.
(5) الإمام أحمد 3/ 30.(8/128)
وأخرج أحمد وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم وصححه والبيهقي عن شداد ابن أوس قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " أتخوف على أمتي الشرك والشهوة الخفية " قلت أتشرك أمتك بعدك؟ قال: " نعم أما أفهم لا يعبدون شمساً ولا قمراً ولا حجراً ولا وثناً ولكن يراؤون الناس بأعمالهم "، قلت؛ يا رسول الله ما الشهوة الخفية؟ قال: " يصبح أحدهما صائماً فيعرض له شهوة من شهواته فيترك صومه ويواقع شهوته " (1).
وأخرج أحمد ومسلم وابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن ربه أنه قال: " أنا خير الشركاء فمن عمل عملاً أشرك فيه غيري فأنا بريء منه وهو الذي أشرك " وفي لفظ " فمن أشرك بي أحداً فهو له كله " (2).
وفي الباب أحاديث كثيرة في التحذير من الرياء وأنه الشرك الأصغر وأن الله لا يقبله، وقد استوفاها صاحب الدر المنثور في هذا الوضع فليرجع إليه، ولكنها لا تدل على أنه المراد بالآية بل الشرك الجلي يدخل تحتها دخولاً أولياً وعلى فرض أن سبب النزول هو الرياء كما يشير إلى ذلك ما قدمنا فالاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب كما هو مقرر في علم الأصول.
وقد ورد في فضائل هذه الآية بخصوصها ما أخرجه الطبراني وابن مردويه عن حكيم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لو لم ينزل على أمتي إلا خاتمة سورة الكهف لكفتهم "، وأخرج ابن راهويه والبزار والحاكم وصححه والشيرازي في الألقاب وابن مردويه عن عمر بن الخطاب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من قرأ في ليلة (فمن كان يرجو لقاء ربه)
_________
(1) الإمام أحمد 4/ 124.
(2) مسلم 2985 - الإمام أحمد 2/ 301.(8/129)
الآية كان له نور من عدن أبين إلى مكة حشوه الملائكة قال ابن كثير بعد إخراجه غريب جداً (1).
وعن معاوية بن أبي سفيان أنه تلا هذه الآية (فمن كان يرجو لقاء ربه) وقال: إنها آخر آية نزلت من القرآن، قال ابن كثير وهذا أثر مشكل فإن هذه الآية هي آخر سورة الكهف، والكهف كلها مكية ولعل معاوية أراد أنه لم ينزل بعدها ما ينسخها ولا ما يغير حكمها بل هي مثبتة محكمة فاشتبه ذلك على بعض الرواة فروي بالمعنى على ما فهمه (2).
_________
(1) ابن كثير 3/ 110.
(2) ابن كثير 3/ 110.(8/130)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة مريم
هي مكية وآياتها ثمان أو تسع وتسعون آية
قال ابن عباس: أنزلت بمكة. وعن ابن الزبير وعائشة مثله، وفي البيضاوي، إلا آية السجدة وفي الجلالين: إلا سجدتها فمدنية. أو وإلا (فخلف من بعدهم خلف) الآيتان وأخرج أحمد والبيهقي وابن أبي حاتم عن أم سلمة أن النجاشي قال لجعفر بن أبي طالب: هل معك مما جاء به -يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم- عن الله شيء؟ قال: نعم: فقرأ عليه صدراً من (كهعيص) فبكى النجاشي (1) حتى أخضلت لحيته وبكت أساقفته، حتى أخضلوا مصاحفهم حين سمعوا ما تلي عليهم ثم قال النجاشي: أن هذا والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة وقد ذكر ابن إسحاق القصة بطولها.
وقد تقدم في الجزء الأول من هذا التفسير أن أسماء السور وترتيبها وترتيب الآيات توقيفي ولم تذكر أمرأة باسمها صريحاًً في القرآن إلا مريم فذكرت فيه في ثلاثين موضعاً.
_________
(1) اخضل الشيء اخضلالاً واخضوضل أي ابتل إهـ صحاح، والأسقف رئيس من رؤساء النصارى في الدين والجمع أساقفة إهـ.(8/131)
بسم الله الرحمن الرحيم
كهيعص (1) ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2) إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا (3) قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (4) وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (6) يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (7)(8/133)
كهيعص (1)
(كهيعص) قال ابن عباس: كبير هاد أمين عزيز صادق. وعن ابن مسعود وناس من الصحابة: هو الهجاء القطع الكاف من الملك والهاء من الله والياء والعين من العزيز والصاد من المصور.
وعن أم هانئ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " كاف هاد عالم صادق "، وعن علي كان يقول يا كهيعص اغفر لي، وعن السدي قال: كان ابن عباس يقول: في كهيعص، وحم، ويس، وأشباه هذا هو بسم الله الأعظم وعن ابن عباس: هو قسم أقسم الله به، وهو من أسماء الله وقال قتادة: هو اسم من اسماء القرآن، وقيل هو اسم السورة. وعن الكلبي: هو ثناء أثنى الله به على نفسه.
وكما وقع الخلاف في هذا وأمثاله بين الصحابة، وقع بين من بعدهم، ولم يصح مرفوعاً في ذلك شيء. ومن روي عنه من الصحابة في ذلك شيء فقد روي عن غيره ما يخالفه، وقد يروى عن الصحابي نفسه التفاسير المتخالفة المتناقضة في هذه الفواتح، فلا يقوم شيء من ذلك حجة، بل الحق الوقف، ورَدُّ لعلم في مثلها إلى الله سبحانه، ولذا قال في الجلالين: الله أعلم بمراده(8/133)
بذلك. وفي الخطيب أنه من المتشابه الذي استأثر الله بعلمه. وقد قدمنا تحقيق هذا في فاتحة سورة البقرة.(8/134)
ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2)
(ذكر) أي هذا ذكر، أو المتلو ذكر، وقيل إنه خبر الحروف المقطعة، وهو قول يحيى بن زياد. قال أبو البقاء: وفيه بعد، وقيل هو مبتدأ محذوف الخبر أي فيما يتلى عليك ذكر.
قال الزجاج: المعنى هذا الذي نتلوه عليك ذكر (رحمة ربك) مضاف لفاعله ومفعوله (عبده زكريا) يعني إجابته إياه حين دعاه وسأله الولد. قيل عبده مفعول لذكر، ومعنى ذكر الرحمة بلوغها وإصابتها. كما يقال ذكرني معروف فلان أي بلغني.
عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " كان زكريا نجاراً " (1)، أخرجه أحمد وأبو يعلى والحاكم وصححه، وعن ابن مسعود قال: كان آخر أنبياء بني إسرائيل زكريا بن آزر بن مسلم من ذرية يعقوب
_________
(1) المستدرك كتاب التاريخ 2/ 590.(8/134)
إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا (3)
(إذ نادى ربه) ظرف زمان للرحمة أي رحمة الله إياه وقت أن ناداه (نداء) مشتملاً على دعاء (خفياً) سراً جوف الليل لأنه أسرع إلى الإجابة.
واختلف في وجه كون ندائه هذا خفياً، فقيل لأنه أبعد عن الرياء وأقرب إلى الصفاء، وقيل أخفاه لئلا يلام على طلبه للولد في غير وقته، ولكونه من أمور الدنيا. وقيل أخفاه مخافة من قومه، وقيل كان ذلك منه لكونه قد صار ضعيفاً هرماً لا يقدر على الجهر، لأنه كان ابن خمس وسبعين أو ثمانين سنة وكان النداء في المحراب.(8/134)
قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (4)
(قال رب إني وهن العظم مني) هذه الجملة مفسرة لقوله نادى ربه. فالنداء أوله قوله هذا وآخره قوله الأتي (واجعله رب رضياً) فجملة النداء ثمان جمل والدعاء منه هو قوله (فهب لي من لدنك ولياً) كما سيأتي،(8/134)
والوهن الضعف، يقال وهن يهن وهناً، من باب وعد إذا ضعف فهو واهن في الأمر والعمل والبدن، ووهنته أضعفته، يتعدى؛ ولا يتعدى في لغة فهو موهون البدن والعظم، والأجود أنه يتعدى بالهمزة، فيقال أوهنته، والوهن بفتحتين لغة في المصدر، ووهن يهن بالكسر فيهما لغة، وقرئ بالحركات الثلاث، أراد أن عظامه فترت ورقت، وضعفت قوته من الكبر.
وذكر العظم لأنه عمود البدن وبه قوامه، وهو أصل بنائه فإذا وهن تداعى وتساقطت قوته، ولأنه أشد ما في الإنسان وأصلبه، فإذا وهن كان ما وراءه أوهن. ووحد العظم قصداً إلى الجنس المفيد لشمول الوهن لكل فرد من أفراد العظام، وقيل اشتكى سقوط الأضراس.
(واشتعل الرأس شيباً) الاشتعال في الأصل انتشار شعاع النار، فشبه به انتشار بياض شعر الرأس في سواده بجامع البياض والإنارة، ثم أخرجه مخرج الاستعارة بالكناية بأن حذف المشبه به، وأداة التشبيه، وهذه الاستعارة من أبدع الاستعارات وأحسنها. قال الزجاج: يقال للشيب إذا كثر جداً. قد اشتعل رأس فلان.
(ولم أكن بدعائك) أي بدعائي إياك (رب شقياً) يقال شقي بكذا أي تعب فيه، ولم يحصل مقصوده منه، فالمعنى لم أكن خائفاً في وقت من الأوقات، بل كلما دعوتك استجبت لي، وهذا توسل بما سلف له من الاستجابة، وتنبيه على أن المطلوب -وإن لم يكن معتاداً- فإجابته لدعائه معتادة، وقد عوده سبحانه بالإجابة وأطعمه، ومن حق الكريم أن لا يخيب من أطعمه.
قال العلماء: يستحب للمرء أن يجمع في دعائه بين الخضوع. وذكر نعم الله عليه. كما فعل زكريا هاهنا. فإن قوله الماضي غاية الخضوع والتذلل وإظهار الضعف والقصور عن سرد مطالبه وبلوغ مآربه، وفي هذا ذكر ما(8/135)
عوده الله. والإنعام عليه بإجابة أدعيته، والتعرض في الموضعين لوصف الربوبية لتحريك سلسلة الإجابة بالمبالغة في التضرع.(8/136)
وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5)
(وإني خفت) بكسر الخاء (الموالي من ورائي) وقرئ خفت بكسر التاء وفاعله الموالي، أي قلوا وعجزوا عن القيام بأمر الدين بعدي أو انقطعوا بالموت، مأخوذ من خفت القوم إذا ارتحلوا، وهذه قراءة شاذة وبعيدة عن الصواب. والموالي هنا هم الأقارب الذين يرثون وسائر العصبات من بني العم، ونحوهم، والعرب تسمي هؤلاء موالي. وقيل هم الناصرون له، وقيل الكلالة، وقيل جميع الورثة.
واختلفوا في وجه المخافة من زكريا لمواليه من بعده، فقيل خاف أن يرثوا ماله وأراد أن يرثه ولده، فطلب من الله سبحانه أن يرزقه ولداً.
وقال آخرون: إنهم كانوا مهملين لأمر الدين فخاف أن يضيع الدين بموته، فطلب ولياً يقوم به بعد موته، وهذا القول أرجح من الأول، لأن الأنبياء لا يورثون، وهم أجل من أن يعتذوا بأمور الدنيا، فليس المراد هنا وراثة المال، بل المراد وراثة العلم والنبوة والقيام بأمر الدين، وقد ثبت عن نبينا صلى الله عليه وسلم، أنه قال: " نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة " (1).
(وكانت امرأتي عاقرأً) هي التي لا تلد لكبر سنها والتي لا تلد أيضاً لغير كبر، وهي المرادة هنا؛ ويقال للرجل الذي لا يلد عاقر أيضاً. قال ابن جرير: وكان اسم امرأته أشاع بنت فاقود بن ميل، وهي أخت حنة، وهي أم مريم، فولد لأشاع يحيى ولحنة مريم. وقال القتيبي: هي أشاع بنت عمران، فعلى القول الأول يكون يحيى بن زكريا ابن خالة أم عيسى. وعلى
_________
(1) مسلم 1757 - البخاري 1390.(8/136)
الثاني يكونان ابني خالة، كما ورد في الحديث الصحيح.
(فهب لي من لدنك) أي أعطني من فضلك (ولياً) مرضياً لأن مثله لا يرجى إلا من فضلك وكمال قدرتك. ولم يصرح بطلب الولد لما علم من نفسه بأنه قد صار هو وامرأته في حالة لا يجوز فيها حدوث الولد بينهما، وحصوله منهما، وقد قيل: إنه كان ابن بضع وتسعين سنة، وقيل: بل أراد بالولي الذي طلبه هو الولد، ولا مانع من سؤال من كان مثله لما هو خارق للعادة. فإن الله سبحانه قد يكرم رسله ما يكون كذلك، فيكون من جملة المعجزات الدالة على صدقهم(8/137)
يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (6)
(يرثني ويرث من آل يعقوب) قرئ بالرفع في الفعلين جميعاً على أنهما صفتان للولي، ولمسا بجواب الدعاء، وقرئ بالجزم فيهما على أنهما جواب للدعاء، ورجح الأول أبو عبيد، وقال: هي أصوب في المعنى لأنه طلب ولياً هذه صفته، فقال: هب لي الذي يكون وارثي. ورجح ذلك النحاس، والوراثة هنا هي وراثة العلم والنبوة على ما هو الراجح كما سلف.
وقد ذهب أكثر المفسرين إلى أن يعقوب المذكور هنا هو يعقوب بن إسحاق ابن إبراهيم. وزعم بعضهم أنه يعقوب بن ماثان أخو عمران بن ماثان، وبه قال الكلبي ومقاتل: وآل يعقوب هم خاصته الذين يؤول أمرهم إليه للقرابة أو الصحبة أو الموافقة في الدين، وقد كان فيهم أنبياء وملوك، وقرئ يرثني وارث ال يعقوب، وقرئ وأرث آل يعقوب، أي أنا، وقرئ " أُوَ يَرِثُ آل يعقوب " على أن هذا المصغر فاعل يرثني، وهذه القراءات في غاية الشذوذ لفظاً ومعنى.
(واجعله رب رضياً) أي مرضياً في أخلاقه وأفعاله؛ وقيل راضياً بقضائك، وقدرك، وقيل رجلاً صالحاً ترضى عنه، وقيل نبياً كما جعلت آباءه أنبياء.(8/137)
يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (7)
(يا زكريا) بالهمز، وحذفه سبعيتان. قال جمهور المفسرين: إن هذا النداء من الله سبحانه، وقيل من جهة الملائكة، لقوله في آل عمران (فنادته الملائكة) ويمكن أن يكن وقع له الخطاب مرتين، مرة بواسطة الملائكة وأخرى من غير واسطة، وفي الكلام حذف، أي فاستجاب له دعاءه فقال: (يا زكريا إنا نبشرك بغلام) وبين هذه البشارة ووجود الغلام في الخارج بالفعل ثلاث عشرة سنة لأن طلب زكريا للولد والبشارة به كان في صغر مريم وهي في كفالته، وأن الحمل بيحيى كان مقارناً للحمل بعيسى، وكانت مريم إذ ذاك بنت ثلاث عشرة سنة، وأن أشاع حملت به قبل حمل مريم بعيسى بستة أشهر.
(اسمه يحيى) قد تقدم في آل عمران وجه التسمية بيحيى وزكريا. قال الزجاج: سمي يحيى لأنه حيي بالعلم والحكمة التي أوتيها، وهو الممنوع من الصرف للعلمية والعجمية، وتقول في تثنيته يحييان رفعاً ويحيين نصباً وجراً، وفي جمع سلامته يحييون رفعاً، ويحيين نصباً وجراً.
(لم نجعل له من قبل سمياً) فعيل بمعنى مفعول، أي مسمى يحيى قال أكثر المفسرين: معناه لم نسم أحداً قبله يحيى.
وقال مجاهد وابن عباس وجماعة: معناه أنه لم يجعل له مثلاً ولا نظيراً، فيكون على هذا مأخوذ من المساماة أو السموّ، ورد هذا بأنه يقتضى تفضيله على إبراهيم وموسى. وقيل: معناه لم تلد عاقر مثله، والأول أولى.
وفي إخباره سبحانه بأنه لم يُسَمً بهذا الاسم قبله أحداً فضيلة له من جهتين. الأولى أن الله سبحانه هو الذي تولى تسميته به ولم يكملها إلى الأبوين، وسماه بخصوص يحيى لأنه به حيي رحم أمه بعد موته بالعقم، والجهة الثانية أن تسميته باسم لم يوضع لغيره تفيد تشريفه وتعظيمه.(8/138)
قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (8) قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا (9) قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا (10) فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (11) يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (12) وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا (13)(8/139)
قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (8)
(قال رب أنّي) أي كيف ومن أين (يكون لي غلام) وليس معنى هذا الاستفهام الاستبعاد والإنكار، بل التعجب والاستكشاف من قدرة الله وبديع صنعه حيث يخرج ولداً من امرأة عاقر وشيخ كبير (وكانت امرأتي عاقراً) أي لا تلد؛ والجملة حال من الياء في لي، وقد تقدم الكلام على مثل هذا في آل عمران.
(وقد بلغت من الكبر عتياً) أي يأساً، يريد بذلك نحول الجسم والجلد ودقة العظم أو يبساً جساوة (1) في المفاصل والعظام من أجل الكبر والطعن في السن العالية يقال عتا الشيخ يعتو عتياً إذا انتهت سنه وكبر، وشيخ عات إذا صار إلى حال اليبس والجفاف والأصل عتواً لأنه من ذوات الواو فأبدلوها ياء لكونها أخف قال السمين: فيه أربعة أوجه أظهرها أنه مفعول به، أو مصدر مؤكد لمعنى الفعل أو مصدر وقع موقع الحال، أي عاتياً أو ذا عتو، الرابع أنه تمييز، وعلى هذه الأوجه الثلاثة (من) مزيدة ذكره أبو البقاء، والأول هو الأوجه، انتهى، وقرئ عِتياً بكسر العين وبضمها وهما لغتان، وكلتا الجملتين لتأكيد الاستبعاد.
_________
(1) جسا ضد لطف وجست اليد وغيرها جسوا وجساء يبست وجسا الشيخ جسوا بلغ غاية السن والماء جمد، أهـ صحاح.(8/139)
والتعجب المستفاد من قوله: (أنى يكون لي غلام) قال ابن عباس: لا أدري كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ هذا الحرف عتيًّا أو عتياً. وعن عطاء في قوله عتياً قال: لبث زماناً في الكبر وقال السدي: هرماً، والمعنى كيف يحصل بيننا ولد الآن وقد كانت امرأتي عاقراً لم تلد في شبابها وشبابي: وهي الآن عجوز وأنا شيخ هرم.
ثم أجاب الله سبحانه عن هذا السؤال المشعر بالتعجب والاستبعاد بقوله:(8/140)
قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا (9)
(قال) أي الملك المبلغ للبشارة، وهو كما قال الكواشي: جبريل عليه السلام، والأكثر على أنه الله تعالى لسلامته عن فك النظم.
(كذلك) أي الأمر كذلك تصديق له والإشارة إلى ما سبق من قول زكريا: ثم ابتدأ بقوله: (قال ربك) أو قال قولاً مثل ذلك، والإشارة إلى مبهم يفسره قوله (هو عليَّ هين) وعلى الأول هذه الجملة مستأنفة مسوقة لإزالة استبعاد زكريا بعد تقريره، وإنما أعيد: قال ربك، اهتماماً أي قال هو مع بعده عندك، عليّ هين، وهو فيعل من هان الشيء يهون إذا لم يصعب ولم يمتنع من المراد. قال الفراء: أي خلقه عليّ هين بأن أرد عليك قوة الجماع وأفتق رحم امرأتك للعلوق.
(وقد خلقتك من قبل) أي من قبل يحيى، والجملة حال وقرأ سائر الكوفيين وقد خلقناك (ولم تك شيئاً) لأن المعدوم ليس بشيء، هذه الجملة مقررة لما قبلها قال الزجاج: أي فخلق الولد لك كخلقك، والمعنى أن الله سبحانه خلقه ابتداء وأوجده من العدم المحض، فإيجاد الولد له بطريق التوالد المعتاد أهون من ذلك وأسهل منه، وإنما لم ينسب ذلك إلى آدم عليه السلام لأنه المخلوق من العدم حقيقة بأن يقول: وقد خلقت أباك آدم من قبل ولم يك شيئاً، للدلالة على أن كل فرد من أفراد البشر له حظ من إنشاء آدم من العدم.(8/140)
قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا (10)
(قال رب اجعل لي آية) أي علامة تدلني على وقوع المسؤول وتحققه وحصول الحبل. والمقصود من هذا السؤال تعريفه وقت العلوق حيث كانت البشارة مطلقة عن تعيينه قال ابن الأنباري: وجه ذلك أن نفسه تاقت إلى سرعة الأمر فسأل الله آية يستدل بها على قرب ما مَنَّ به عليه، وقيل: طلب آية تدله على أن البشرى من الله سبحانه لا من الشياطين، لأن إبليس أوهمه بذلك، كذا قال الضحاك والسدي وهو بعيد جداً.
(قال آيتك أن لا تكلم الناس ثلاث ليال سوياً) نصب على الحال أي آيتك أن لا تقدر على الكلام، والحال أنك سوي الخلق صحيح سليم من غير بأس ليس بك آفة تمنعك منه، والمراد ثلاث ليال بأيامها، كما في آل عمران ثلالة أيام وإنما عبر هنا بالليالي، وهناك بالأيام، لأن هذه السورة مكية، والمكي سابق على المدني، والليل سابق على النهار، فأعطى السابق للسابق، وأعطى المؤخر للمؤخر، وقيل: ثلاث ليال متتابعات، والأول أولى، قال ابن عباس: اعتقل لسانه من غير مرض، وفي لفظ من غير خرس.(8/141)
فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (11)
(فخرج على قومه من المحراب) أي من مصلاه متغير اللون، عاجز الكلام فأنكروا ذلك عليه، في القاموس: الحراب الغرفة، وصدر البيت، وأكرم مواضعه، ومقام الإمام من المسجد، والوضع الذي يتفرد به الملك فيتباعد عن الناس، ومحاريب بني إسرائيل مساجدهم التي كانوا يجلسون فيها.
وفي الشهاب: وأما المحراب المعروف الآن، وهو طاق مجوّف في حائط المسجد يصلي فيه الإمام فهو محدث لا تعرفه العرب، فتسميته محراباً اصطلاح للفقهاء انتهى، وهو ممنوع، بل هو معنى لغوي إذ هو من أفراد المعنى اللغوي الذي ذكره في القاموس بقوله: ومقام الإمام بالسجد واشتقاقه من الحرب كأن ملازمه يحارب الشيطان، وقيل من الحرب محركاً؛ كأن ملازمه يلقى حرباً وتعباً ونصباً.(8/141)
(فأوحى إليهم) أي أومأ؛ وأشار، بدليل قوله في آل عمران: إلا رمزاً وقيل كتب لهم على الأرض، وبالأول قال الكلبي، والقرظي وقتادة وابن منبه وبالثاني، قال مجاهد: وقد يطلق الوحي على الكتابة. قال ابن عباس: كتب لهم كتاباً (أن سبحوا) مصدرية أو مفسرة، والمعنى فأوحى إليهم بأن صلوا؛ أو أي صلوا.
(بكرة وعشياً) أي نزهوا ربكم طرفي النهار؛ فهما ظرفا زمان للتسبيح. وانصرفت بكرة لأنه لم يقصد بها العلمية، فلو قصد بها العلمية امتنعت من الصرف، قال الفراء: العشي يؤنث، ويجوز تذكيره إذا أبهم، قال: وقد يقال: العشي جمع عشية قيل والمراد صلاة الصبح والعصر، وقيل المراد بالتسبيح هو قولهم سبحانه الله.(8/142)
يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (12)
(يا يحيى) أي قال الله للمولود يا يحيى، أو ولد له مولود فبلغ المبلغ لذي يجوز أن يخاطب فيه. فقلنا له يا يحيى.
وقال الزجاج: المعنى فوهبنا له وقلنا له يا يحيى أي بعد ولادته بثلاث سنين على ما قاله قتادة، وقيل بسنتين يعني على لسان الملك كما قاله أبو حيان (خذ الكتاب) المراد به التوراة لأنه المعهود حينئذ، ويحتمل أن يكون كتاباً مختصاً به وإن كنا لا نعرفه الآن.
والمراد بالأخذ إما الأخذ الحسي، أو الأخذ من حيث المعنى، وهو القيام بما فيه كما ينبغي، وذلك بتحصيل ملكة تقضي سهولة الإقدام على المأمور به، والإحجام على المنهي عنه، ثم أكده بقوله (بقوة) أي متلبساً بجد، وعزيمة، واجتهاد قاله مجاهد.
(وآتيناه الحكم صبياً) المراد بالحكم الحكمة، وهي الفهم للكتاب الذي أمر بأخذه، وفهم الأحكام الدينية، وقيل هي العلم وحفظه والعمل(8/142)
به: وقيل النبوة، وقيل العقل، وقال مجاهد: الفهم، وقال مالك بن دينار: اللب، ولا مانع من حمل الحكم على جميع ما ذكر، والجملة مستأنفة.
قال ابن عباس: أعطي الفهم، والعبادة، وهو ابن سبع سنين، وعنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " قال الغلمان ليحيى بن زكريا اذهب بنا نلعب فقال يحيى ما للعب خُلقنا اذهبوا نصلي "، فهو قول الله (وآتيناه الحكم صبياً) أخرجه الحاكم في تاريخه، وعنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من قرأ القرآن قبل أن يحتلم فهو ممن أوتي الحكم صبياً "، أخرجه البيهقي، وأخرجه ابن أبي حاتم موقوفاً عليه.(8/143)
وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا (13)
(وحناناً) معطوف على الحكم، قال جمهور المفسرين: الحنان الرحمة والرقة والشفقة، العطف والمحبة وأصله توقان النفس مأخوذ من حنين الناقة على ولدها قال: يقول حنانك يا رب وحنانيك يا رب معنى واحد يريد رحمتك، قال إن الأول الحنان مشدداً من صفات الله عز وجل، والحنان محققاً للعطف والرحمة والحنان التوق والبركة.
قال ابن عطية: والحنان في كلام العرب أيضاً ما عظم من الأمور في ذات الله ومنه قول زيد بن عمرو بن نفيل: والله لئن قتلتم هذا العبد لأتخذن قبره حناناً، يعني بلالاً لما مر به وهو يعذب، وقيل أن القائل لذلك هو ورقة ابن نوفل، قال الأزهري: معنى ذلك لأترحمن عليه ولأعطفن عليه لأنه من أهل الجنة.
ومعنى (من لدنا) من عندنا ومن جنابنا، وقيل المعنى أعطيناه رحمة من(8/143)
لدنا، كائنة في قلبه، يتحنن بها على الناس، ومنهم أبواه وقرابته حتى يخلصهم من الكفر، قال ابن عباس في (حناناً) لا أدري ما هو إلا أني أظنه يعطف الله على عبده بالرحمة، وقد فسرها جماعة من السلف بالرحمة كما مر، ومنه قول الشاعر:
وعسير بلاء حاق به ... ويسير حنانك يدفعه
(وزكاة) معطوف على ما قبله، والزكاة التطهير والبركة والتنمية والبر أي جعلناه مباركاً للناس يهديهم إلى الخير، وقيل ذكيناه بحسن الثناء عليه كتزكية الشهود، وقيل صدقة تصدقنا بها على أبويه قاله ابن قتيبة، وقيل تصدقاً على الناس أي أعطيناه توفيقاً للتصدق عليهم وقيل يعني بالزكاة الطاعة والإخلاص، وقيل: هي العمل الصالح، فلم يعمد بذنب.
(وكان تقياً) قال ابن عباس: طهر فلم يأت بذنب أي متجنباً لمعاصي الله سبحانه مطيعاً له بطبعه، وقد روي أنه لم يعمل معصية ولم يهم بها قط، ومن جملة تقواه أنه كان يتقوت بالعشب، وكان كثير البكاء فكان لدمعه مجار على خده.(8/144)
وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا (14) وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (15) وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا (16) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا (17) قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (18) قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا (19) قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20)(8/145)
وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا (14)
(وبراً) فعل بمعنى فاعل أي باراً (بوالديه) والمعنى لطيفاً بهما محسناً إليهما، لأنه لا عبادة بعد تعظيم الله أعظم من برهما يدل عليه قوله تعالى: (وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحساناً).
(ولم يكن جباراً عصياً) أي لم يكن متكبراً يقتل، ويضرب على الغضب، ولا عاصياً لوالديه، أو لربه، وهذا وصف له عليه السلام بلين الجانب وخفض الجناح، والمراد أصل الفعل، فالمنفي أصل الجبر، والعصيان، لا المبالغة فيهما(8/145)
وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (15)
(وسلام) منا (عليه).
قال ابن جرير وغيره: معناه أمان عليه من الله، قال ابن عطية: والأظهر عندي أنها التحية المتعارفة فهي أشرف وأنه من الأمان لأن الأمان متحصل له بنفي العصيان عنه وهو أقل درجاته. وإنما الشرف في أن سلم الله عليه. وقال سلام هنا منكراً، وفي قصة عيسى (والسلام) معرفاً لأن الأول من الله، والقليل منه كثير، والثاني من عيسى.
ومعنى (يوم ولد) أنه أمن من الشيطان وغيره في ذلك اليوم، وسلم من أن يناله الشيطان كما ينال سائر بني آدم، أو أن الله حياه في ذلك اليوم (ويوم يموت ويوم يبعث حياً) قيل أوحش ما يكون الإنسان في ثلاثة مواطن: يوم ولد لأنه خرج مما كان فيه، ويوم يموت لأنه يرى قوماً لم يكن قد عرفهم وأحكاماً ليس لديها عهد، ويوم يبعث لأنه يرى هول يوم القيامة، فخص الله سبحانه يحيى بالكرامة والسلامة في المواطن الثلاثة.(8/145)
وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا (16)
(واذكر في الكتاب مريم) هذا شروع في ابتداء خلق عيسى، والمراد بالكتاب هذه السورة: أي اذكر يا محمد للناس في هذه السورة قصة مريم وخبرها ونبأها؛ أو المراد به جنس القرآن وهذه السورة منه (إذ انتبذت) النبذ الطرح والرمي. قال تعالى: (فنبذوه وراء ظهورهم)، والمعنى أنها تنحت وتباعدت. وقال ابن قتيبة: اعتزلت وقيل انفردت.
(من أهلها) أي من قومها والمعاني متقاربة. واختلفوا في سبب انتباذها، فقيل لأجل أن تعبد الله سبحانه، وقيل للتطهر من حيضها (مكاناً شرقياً) أي من جانب الشرق، والنصب على الظرفية أو مفعول به، على أن معنى انتبذت أتت مكاناً، كما في السمين، وفي المصباح ما يؤيده.
والشرق بسكون الراء المكان الذي تشرق فيه الشمس، وإنما خص المكان بالشرق لأنهم يعظمون جهة الشرق لأنها مطلع الأنوار، حكى معناه ابن جرير، وقال ابن عباس: مكاناً أظلها من الشمس أن يراها أحد منهم، وقال: إنما اتخذت النصارى المشرق قبلة. لأن مريم اتخذت من أهلها مكاناً شرقياً. فاتخذوا ميلاده قبلة، وإنما سجدت اليهود على خوف حين شق فوقهم الجبل، فجعلوا ينحرفون وهم ينظرون إليه يتخوفون أن يقع عليهم، فسجدوا سجدة رضيها الله فاتخذوها عنه.
وقيل كان ذلك اليوم شاتياً شديد البرد فجلست في مشرقه تعلي رأسها.(8/146)
فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا (17)
(فاتخذت) أي ضربت (من دونهم) أي من دون أهلها (حجاباً) أي حاجزاً وستراً يسترها عنهم لئلا يروها حال العبادة أو حال التطهر من الحيض. والحجاب الستر والحاجز (فأرسلنا إليها روحنا) هو جبريل عليه السلام ليبشرها بالغلام ولينفخ فيها فتحمل به.
وقد اختلف الناس في نبوة مريم، فقيل إنها نبية لمجرد هذا الإرسال إليها ومخاطبتها للملك، وقيل لم تكن نبية لأنه إنما كلمها الملك وهو على مثال البشر، والمتفق عليه أن المنفي وحي الرسالة لا مطلق الوحي، والوحي هنا إنما هو بشارة الولد لا بالرسالة، وقد تقدم الكلام على هذا في آل عمران،(8/146)
وقيل هو روح عيسى لأن الله سبحانه خلق الأرواح قبل الأجساد. والأول أولى لقوله (فتمثل) أي جبريل عليه السلام (لها) بعد لبسها ثيابها (بشراً سوياً) تاماً مستوي الخلق لم يفقد من نعوت بني آدم شيئاً.
وقال البيضاوي: ولعله أي التمثل ليهيج شهوتها فتنحدر نطفتها إلى رحمها، إهـ قال في الخميس في أحوال أنفس نفيس: فيه نظر، انتهى، ولم يبين أحد هذا النظر الصحيح لا هو ولا غيره من المفسرين فيما تصفحت إلا أبا السعود حيث قال: هو مع مخالفته لمقام بيان آثار القدرة الخارقة للعادة يكذبه قوله تعالى:(8/147)
قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (18)
(قالت إني أعوذ بالرحمن منك) فإنه شاهد عدل بأنه لم يخطر ببالها شائبة مثل ما إليه فضلاً عما ذكر من الحالة المرتبة على أقصى مراتب الميل والشهوة.
نعم كان تمثله على ذلك الحسن الفائق والجمال الرائق لابتلائها وسبر عفتها، ولقد ظهر منها من الورع والعفاف ما لا غاية وراءه، وذكره تعالى بعنوان الرحمانية للمبالغة في العياذ به تعالى واستجلاب آثار الرحمة الخاصة التي هي العصمة مما دهمها إهـ.
وقد تكلموا في كيفية تمثله، فقال إمام الحرمين: يفني الله الزائد من خلقه أو يزيله عنه ثم يعيده إليه، يعني أن له أجزاء أصلية كما في الإنسان وأجزاء زائدة، وجزم ابن عبد السلام بالإزالة دون الفناء وقال ابن حجر: إن القدر الزائد لا يزول ولا يفنى بل يخفيه الله تعالى عن الرأي فقط قاله الكرخي.
وقيل إنما ظهر لها في سورة البشر لتستأنس بكلامه ولا تنفر عنه فتفهم كلامه ولو بدا لها في صورة الملائكة لنفرت ولم تقدر على استماع كلامه، وأنها لا تطيق أن تنظر إلى الملك وهو على صورته، فلما رأته في صورة إنسان حسن كامل الخلق قد خرق عليها الحجاب ظنت أنه يريدها بسوء فاستعاذت بالله منه.
و (قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقياً) أي ممن يتقي الله(8/147)
ويخافه، ويعامل بمقتضى التقوى والإيمان، وخصت الرحمن بالذكر ليرحم ضعفها وعجزها عن دفعه. وقيل أن تقياً اسم رجل صالح فتعوذت منه تعجباً. وقيل إنه اسم رجل فاجر معروف في ذلك الوقت، والأول أولى.
وتعوذها من تلك الصورة الحسنة دل على كمال عفتها وغاية ورعها، وجواب الشرط محذوف، أي فلا تتعرض لي واتركني وانئه عني، أو فتنتهي عني لتعوذي، وهذه الجملة كقول القائل: أن كنت مؤمناً فلا تظلمني.(8/148)
قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا (19)
(قال) جبريل (إنما أنا رسول ربك) الذي استعذت به، ولست ممن يتوقع منه ما خطر على بالك من إرادة السوء؛ وإنما جئت (لأهب لك) جعل الهبة من قبله لكونه سبباً فيها، من جهة كون الإعلام لها من جهته أو من جهة كون النفخ الذي قام به في الظاهر، ويقويه ما في بعض المصاحف أمرني أن أهب لك، وقرئ ليَهَبَ على معنى أرسلني الله، ليهب لك (غلاماً زكياً) هو الطاهر من الذنوب، الذي ينمو على النزاهة والعفة. وقيل المراد بالزكي النبي.(8/148)
قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20)
(قالت أنّى يكون لي غلام) والحال أنني (لم يمسسني) أي لم يقربني (بشر) زوج بنكاح (ولم أك بغياً) أي فاجرة، فجعلت المس عبارة عن النكاح الحلال لأنه كناية عنه، والزنا ليس كذلك، وإنما يقال فيه: فجر بها وحنث بها. وما أشبه ذلك.
والبغيّ هي الزانية التي تبغي الرجال. قال المبرد: أصله بغوي على فعول. وقال ابن جني: إنه فعيل. وقال ابن الأنباري: أن بغياً غالب في النساء إجراء له مجرى حائض وعاقر. وقلما تقول العرب رجل بغي، وزيادة ذكر ذلك يتناول الحلال والحرام لقصد التأكيد تنزيهاً لجانبها من الفحشاء، يعني أن الولد لا يكون إلا من نكاح أو سفاح ولم يكن هنا واحد منهما. قيل وما استبعدت من قدرة الله شيئاً، ولكن أرادت كيف يكون هذا الولد، هل من قبل زوج نتزوجه في المستقبل؟ أم يخلقه الله سبحانه ابتداء.(8/148)
قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا (21) فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا (22) فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا (23) فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (25)(8/149)
قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا (21)
(قال) جبريل (كذلك) أي الأمر هكذا من خلق غلام منك من غير أب (قال ربك هو) أي خلق ولدك بلا أب (عليّ هين) بأن ينفخ بأمري جبريل فيك فتحملي به، والجملة مستأنفة والكلام فيها كالكلام فيما تقدم من قول زكريا (و) خلقناه (لنجعله) أي هذا الغلام أو خلقه بلا أب (آية للناس) يستدلون بها على كمال القدرة على أنواع الخلق فإنه خلق آدم من غير ذكر ولا أنثى وخلق حواء من ذكر بلا أنثى، وخلق عيسى من أنثى بلا ذكر، وخلق بقية الخلق من ذكر وأنثى، قاله الكرخي.
(و) لنجعله (رحمة) عظيمة كائنة (منا) لمن آمن به لما ينالونه منه من الهداية والخير الكثير، لأن كل نبي رحمة لأمته (وكان) خلقه (أمراً مقضياً) به في علمي مقدراً محكوماً مفروغاً منه لا يرد ولا يبدل ولا يتغير مسطوراً في اللوح المحفوظ قد قدره الله سبحانه وجف به القلم.(8/149)
فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا (22)
(فحملته) أي الموهوب هاهنا كلام مطوي، والتقدير فاطمأنت إلى قوله فدنا منها فنفخ في جيب درعها وهو بعيد عنها فوصلت النفخة إلى بطنها فحملته وأحست في بطنها مصوراً؛ وكان سنها ثلاث عشرة سنة، أو عشراً، أو عشرين. أو ست عشرة سنة. وقيل كانت النفخة في ذيلها أو كمها، وقيل في فمها، وليس المراد أنه نفخ في فرجها مباشرة.
عن أبي بن كعب قال: تمثل روح عيسى في صورة بشر فحملته، قال:(8/149)
حملت الذي خاطبها دخل في فيها، قيل أن وضعها كان متصلاً بهذا الحمل من غير مضي مدة للحمل، ويدل على ذلك قوله.
(فانتبذت به مكاناً قصياً) أي تنحت بالحمل مصاحبة له واعتزلت إلى مكان بعيد من أهلها مخافة اللائمة؛ قيل كان هذا المكان وراء الجبل، وقيل أبعد مكان في تلك الدار؛ وقيل أقصى الوادي، وهو وادي بيت لحم، وقيل إنها حملت به ستة أشهر، وقيل ثمانية أشهر، وذلك آية أخرى، لأنه لا يعيش من ولد لثمانية أشهر، وقيل سبعة أشهر وقيل تسعة أشهر كحمل النساء، وقيل كان الحمل والولادة في ساعة واحدة وقيل حملته في ساعة وَصُوِّر في ساعة، ووضعته في ساعة حين زالت الشمس من يومه، وكانت قد حاضت حيضتين قبل أن تحمل بعيسى.
قلت: وهذا التفصيل لا دليل عليه ولا مستند له إلا أخبار الأخبار أو آراء الرجال، ولو صح من نص صحيح لوجب المصير إليه وكان آية أخرى.(8/150)
فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا (23)
(فأجاءها) يقال جاء وأجاء لغتان بمعنى واحد، أي ألجأها واضطرها وجاء بها. وقرأ شبل فَاجَأَهَا من المفاجأة، وفي مصحف أبيّ (فلما أجاءها). قال في الكشاف: أن أجاءها منقول من جاء إلا أن استعماله قد تغير بعد النقل إلى معنى الإلجاء، وفيه بعد، والظاهر أن كل واحد من الفعلين موضوع بوضع مستقل (المخاض) أو وجع الولادة وهو مصدر مخضت المرأة تمخض مخضاً ومخاضاً، إذا دنا ولادها قرأ الجمهور بفتح الميم وقرئ بكسرها.
(إلى جذع النخلة) الجذع ساق النخلة اليابسة التي لا رأس لها، كأنها طلبت شيئاً تستند أليه وتعتمد عليه وتتعلق به كما تتعلق الحامل لشدة وجع الطلق بشيء مما تجده عندها، والتعريف إما للجنس أو للعهد، والمستفيض المشهور أن ولادة عيسى كانت ببيت لحم، وأنها لما هربت وخافت عليه أسرعت به وجاءت به إلى بيت المقدس فوضعته على صخرة فانخفضت الصخرة له وصارت كالمهد، وهي الآن موجودة تزار بحرم بيت المقدس.(8/150)
ثم بعد أيام توجهت به إلى بحر الأردن فغمسته فيه، وهو اليوم الذي تتخذه النصارى عيداً ويسمونه يوم الغطاس، وهم يظنون أن المياه في ذلك اليوم تقدست فلذلك يغطسون في كل ماء. ومن زعم أنها ولدت بمصر، قال: بكورة أنهاس، ولم يثبت، انتهى من البحر لأبى حيان، وأنهاس بجانب البهنسا.
(قالت) جزعاً مما أصابها (يا) للتنبيه لأن المنادى غير عاقل (ليتني مت قبل هذا) الوقت أو الأمر تمنت الموت استحياء من الناس، أو خوفاً من الفضيحة لأنها خافت أن يظن بها السوء في دينها أو لئلا يقع قوم بسببها في البهتان.
(وكنت نسياً منسياً) أي شيئاً حقيراً متروكاً، والنَّسْيُ في كلام العرب الشيء الحقير الذي من شأنه أن يُنسى ولا يذكر ولا يعرف ولا يتألم لفقده كالوتد والحبل وقال الفراء: النسي ما تلقيه المرأة من خرق اعتلالها، فتقول مريم: نسياً منسياً أي حيضة ملقاة، وقد قرئ بفتح النون وكسرها وهما لغتان مثل الحجر والحجر والوتر والوتر، وقرأ القرظي: نِسأ بالهمز مع كسر النون، ونوف البكالي بالهمز مع فتح النون والمنسي المتروك الذي لا يذكر ولا يعرف ولا يخطر ببال أحد من الناس، قال ابن عباس: نسياً منسياً أي لم أخلق ولم أك دشيئاً.(8/151)
فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24)
(فناداها) أي خاطبها لا سمع قولها (من) قرئ بكسر الميم وفتحها وهما سبعيتان (تحتها) الضمير إما لمريم وإما للنخلة والأول أولى لتوافق الضميرين وكانت على أكمة وكان جبريل أسفل منها تحت الأكمة، قال قتادة: الذي ناداها جبريل، وبه قال ابن عباس: وزاد. ولم يتكلم عيسى حتى أتت به قومها، وقد اختلفت الروايات عن السلف، هل هذا المنادى هو جبريل؟ أو عيسى؟ فمن قرأ (من) بالفتح فهو عيسى، ومن قرأ بالكسر فهو جبريل (أن لا تحزني) تفسير للنداء أو المعنى بأن لا تحزني على أنها مصدرية ولا ناهية أو نافية (قد جعل ربك تحتك) أي قربك (سرياً).(8/151)
قال جمهور المفسرين: السَّرِيُّ النهر الصغير لأن الماء يسري فيه، والسري. الجدول؛ والجمع سِرْيَان والسرِي الرئيس، والجمع سُرَاة وهو عزيز لا يكاد يوجد له نظير، لأنه لا يجمع فعيل على فعلة وجمع السراة سروات وسري مفعول، وجعل بمعنى صير أو خلق.
وقيل: السري من سريت الثوب أي نزعته، وسررت الحبل عن الفرس، والأول أولى، والمعنى قد جعل تحت قدمك نهراً قيل: كان هذا قد انقطع عنه الماء فأرسل الله فيه الماء لمريم وأحيى به ذلك الجذع اليابس الذي اعتمدت عليه حتى أورق وأثمر.
وقيل: معنى تحتك تحت أمرك أي إن أَمَرْتِهِ أن يجري جرى، وإن أمرتِهِ بالإمساك أمسك؛ والأول أولى. وعن جماعة من التابعين أن المراد بالسري هنا عيسى، والسري العظيم من الرجال، ومنه قولهم فلان سري، أي عظيم ومن قوم سُرَاة أي عظام.
أخرج الطبراني وابن النجار وابن مردويه، عن ابن عمر أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إن السري الذي في الآية نهر أخرجه الله لها لتشرب منه "، وفي سنده أيوب بن نهيك الجبلي قال فيه أبو حاتم الرازي: ضعيف وقال أبو زرعة: منكر الحديث، وقال أبو الفتح الأزدي: متروك الحديث، وقال الطبراني بعد إخراجه إنه غريب جداً.(8/152)
وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (25)
(وهزي إليك بجذع النخلة) الْهَزُّ التحريك يقال هزه فاهتز والباء مزيدة للتأكيد، وقال الفراء؛ العرب تقول هزه وهز به، والجذع هو أسفل الشجرة، قال قطرب: كل خشبة في أصل شجرة فهي جذع (تساقط عليك) أصله تتساقط؛ وقرئ تسقط ويسقط، فمن قرأ بالفوقية جعل الضمير للنخلة، ومن قرأ بالتحتية جعله للجذع (رطباً جنياً) الجَنيّ المأخوذ طرياً، وقيل: هو ما طاب وصلح للجني، وهو فعيل يعني مفعول، أي رطباً طرياً طيباً، قاله ابن عباس أي استحق أن يجنى.(8/152)
فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (26) فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا (27) يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28) فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29) قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31)(8/153)
فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (26)
(فكلي) من ذلك الرطب (واشربي) من ذلك الماء أو من عصير الرطب وقدم الأكل مع أن ذكر النهر مقدم على الرطب لأن احتياج النفساء إلى أكل الرطب أشد من احتياجها إلى شرب الماء.
ثم قال: (وقري عيناً) قرأ الجمهور، بفتح القاف، وقرئ بكسرها، قال ابن جرير: هي لغة نجد، والمعنى طيبي نفساً وارفضي عنك الحزن وهو مأخوذ من القَرِّ والقِرَّة وهما البرد، والمسرور بارد القلب ساكن الجوارح، وذلك أن العين إذا فرح صاحبها كان دمعها قاراً أي بارداً وإذا حزن كان دمعها حاراً، ولذلك قالوا في الدعاء عليه: أسخن الله عينه.
وقيل: المعنى وقري عيناً برؤية الولد الموهوب لك، وقال الشيباني: معناه نامي، قال أبو عمرو: أقر الله عينه أي أنام عينه، وأذهب سهره، وقيل مأخوذ من الاستقرار أي أعطاها الله ما يسكن عينها، فلا تطمح إلى غيره.
(فإما ترين) أصله تَرْأَيِين مثل تسمعين (من البشر أحداً فقولي) أي إن طلب منك الكلام أحد من الناس فقولي، وبهذا المقدر يتخلص من إشكال وهو أن قولها فلن أكلم اليوم إنسياً، كلام فيكون ذلك تناقضاً لأنها قد(8/153)
كلمت إنسياً بهذا الكلام، وقيل قوله فقولي أي بالإشارة وليس بشيء، بل المعنى فلن أكلم اليوم إنسياً بعد هذا الكلام قاله السمين.
(إني نذرت للرحمن صوماً) قيل المراد به الصوم الشرعي، وهو الإمساك عن المفطرات (1) والأول أولى، وفي قراءة أبي صوماً صمتاً بالجمع بين اللفظين، وكذا روي عن أنس وروي عنه الواو بينهما، والذي عليه جمهور المفسرين أن الصوم هنا الصمت، ويدل عليه فلن أكلم اليوم إنسياً كما سيأتي ومعنى الصوم في اللغة أوسع من المعنيين.
قال أبو عبيدة: كل ممسك من طعام أو كلام أو سير فهو صائم، وقراءة أبي تدل على أن المراد بالصوم هنا الصمت، لأنه تفسير للصوم، وقراءة أنس تدل على أن الصوم هنا غير الصمت كما يفيده الواو، ومعنى (فلن أكلم اليوم إنسياً) أنها لا تكلم أحداً من الإنس بعد إخبارهم بهذا الخبر، بل إنما تكلم الملائكة وتناجي ربها.
ولما اطمأنت مريم عليها السلام بما رأت من الآيات
_________
(1) قوله (والأول أولى) لم يذكر الأول وأصل التركيب بعد قوله: (صوماً) أي امساكاً وسكوتاً، وقيل المراد الخ فتأمل إهـ مصححة.(8/154)
فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا (27)
(فأتت به) أي بعيسى (قومها تحمله) أي أتت مصاحبة له وكان إتيانها إليهم في المكان القصي الذي أنتبذت فيه للوضع قيل: في يوم الوضع، وقيل بعد أن طهرت، قال ابن عباس: بعد أربعين يوماً بعدما تعالت من نفاسها، فلما رأوا الولد معها حزنوا، وكانوا أهل بيت صالحين.
(قالوا) منكرين لذلك (يا مريم لقد جئت) أي فعلت، وارتكبت (شيئاً فرياً) عجيباً نادراً قاله أبو عبيدة، وقال مجاهد: الْفَرِيُّ العظيم أي من الأمر يقال في الخير والشر.
وقال قطرب: الْفَريّ الجديد من الأسقية أي جئت بأمر بديع جديد لم(8/154)
تُسبقي إليه وقيل الْفَرِيُّ القطع أي شيئاً قاطعاً وخارقاً للعادة التي هي الولادة بواسطة الأب وقال سعيد بن مسعدة: الْفَرِيُّ المختلق المفتعل، والاسم الفرية ويقال فريت الجلد وأفريت بمعنى واحد قطعته والولد من الزنا كالشيء المفتري قال تعالى: (ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن).(8/155)
يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28)
(يا أخت هارون) هذا من كلامهم أيضاً، وقد وقع الخلاف في معنى هذه الأخوة وفي هارون المذكور، من هو؟ فقيل هو هارون أخو موسى، والمعنى أن من كانت نظنها مثل هارون في العبادة كيف تأتي بمثل هذا؟ وقيل كانت مريم من ولد هارون أخي موسى، فقيل لها يا أخت هارون كما يقال لمن كان من العرب يا أخا العرب، وقيل كان لها أخ من أبيها اسمه هارون، وقيل: هارون هذا رجل صالح في ذلك الوقت شبهت به في عفتها وصلاحها، وقيل: بل كان في ذلك الوقت رجل فاسق اسمه هارون فنسبوها إليه على جهة التعيير والتوبيخ حكاه ابن جرير ولم يسم قائله، وهو ضعيف.
وأخرج أحمد ومسلم والترمذي والنسائي وعبد بن حميد وابن أبي شيبة وغيرهم عن المغيرة بن شعبة قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهل نجران فقالوا: أرأيت ما تقرؤون يا أخت هارون؟ وموسى قبل عيسى بكذا وكذا قال فرجعت فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " ألا أخبرتهم أنهم كانوا يسمون بالأنبياء والصالحين قبلهم " (1)، وهذا التفسير النبوي يغني عن سائر ما روي عن السلف في ذلك.
(ما كان أبوك) أي عمران (امرأ سوء وما كانت أمك) أي حنة (بغياً) هذا فيه تقرير لما تقدم من التعيير والتوبيخ وتنبيه على أن الفاحشة من ذرية الصالحين، مما لا ينبغي أن تكون
_________
(1) مسلم 2135 - الترمذي تفسير سورة 19 - الإمام أحمد 4/ 252.(8/155)
فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29)
(فأشارت) أي مريم (إليه) أي إلى عيسى أن كلموه، وإنما اكتفت بالإشارة ولم تأمره بالنطق لأنها نذرت للرحمن(8/155)
صوماً عن الكلام، كما تقدم هذا على تقدير أنها كانت إذ ذاك في أيام نذرها، وعلى تقدير أنها قد خرجت منها فيمكن أن يقال إن اقتصارها على الإشارة للمبالغة في إظهار الآية العظيمة، وأن هذا المولود يفهم الإشارة ويقدر على العبارة.
(قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبياً) هذا الاستفهام للإنكار والتعجب من إشارتها إلى ذلك المولود بأن يكلمهم، قال أبو عبيدة: في الكلام حشو زائد والمعنى كيف نكلم صبياً في المهد.
وقال الزجاج: الأجود أن يكون (مَنْ) في معنى الشرط والجزاء والمعنى من يكون في المهد صبياً فكيف نكلمه، ورجحه ابن الأنباري، وقيل إن كان هنا التامة التي هي بمعني الحدوث والوجود، وَرُدَّ بأنها لو كانت تامة لاستغنت عن الخبر، وقيل: أنها بمعنى صار.
وقيل: إنها الناقصة على بابها من دلالتها على اقتران مضمون الجملة بالزمان الماضي من غير تعرض للانقطاع، ولذلك يعبر عنها بأنها ترادف لم يزل، والمهد هو شيء معروف يتخذ لتنويم الصبي، ولفظ القاموس المهد الموضع يهيأ للصبي ويوطأ، والأرض كالمهاد، والجمع مهود انتهى، وقيل: هو هنا جحر الأم؛ وقيل سرير كالمهد.
والمعنى كيف نكلم من سبيله أن يُنَوَّم في المهد لصغره. فلما سمع عيسى كلامهم ترك الرضاع وأقبل عليهم(8/156)
قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30)
(قال إني عبد الله) فكان أول ما نطق به الاعتراف بالعبودية لله، لئلا يتخذوه إلهاً وفيه إزالة التهمة عن الأم لأن الله لم يختص بهذه المرتبة العظيمة من ولد في الزنا، ووصف نفسه بصفات ثمانية، أولها العبودية وآخرها تأمين الله له في أخوف المقامات (آتاني الكتاب) أي الإنجيل (وجعلني نبياً) أي حكم لي بإيتاء الكتاب، والنبوة في الأزل وإن لم يكن قد نزل عليه في تلك الحال ولا قد صار نبياً، وقيل إنه آتاه الكتاب وجعله نبياً في تلك الحال وهو بعيد جداً.(8/156)
وعن أنس قال: كان عيسى قد درس الإنجيل وأحكامها في بطن أمه فذلك قوله آتاني الكتاب، وهو أبعد، وقال عكرمة: قضى أن أكون كذلك، ومثله قوله صلى الله عليه وسلم " كنت نبياً وآدم بين الروح والجسد " (1).
_________
(1) لم يرو هذا الحديث في كتاب من الكتب المعتبرة كالصحاح والمسانيد والسنن والمعاجم والمستدركات وإنما رواه صاحب الحلية عن ميسرة الفحل وابن سعد من طريق ابن أبي الجدعاء.(8/157)
وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31)
(وجعلني مباركاً) البركة أصلها من بروك البعير والمعنى جعلني ثابتاً في دين الله (أينما كنت) وقيل البركة الزيادة والعلو فكأنه قال: جعلني في جميع الأشياء زائدا عالياً محجاً، وقيل معنى المبارك النفاع للعباد لأنه كان يحيي الموتى ويبرئ الأكمه والأبرص ويرشد ويهدي وقيل: المعلم للخير وقيل: الآمر بالمعروف الناهي عن المنكر.
وعن أبي هريرة عنه صلى الله عليه وسلم قال: جعلني نفاعاً للناس أينما اتجهت أخرجه الإسماعيلي في معجمه وأبو نعيم في الحلية.
وعن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: معلماً ومؤدباً، أخرجه ابن عدي وابن عساكر، وأينما شرطية لا استفهامية وجوابها إما محذوف وإما هو المتقدم عند من يرى ذلك.
(وأوصاني) أي أمرني (بالصلاة والزكاة) أي بزكاة المال إذا ملكته، أو تطهير النفس عن الرذائل في الوقت المعين لهما وهو البلوغ أو الآن، قولان للمفسرين والأول أولى (ما دمت حياً) أي مدة دوام حياتي، وهذه الأفعال الماضية هي من باب تنزيل ما لم يقع منزلة الواقع تنبيهاً على تحقق وقوعه لكونه قد سبق في القضاء المبرم.
وقيل: المراد إن الله صيره حين انفصل عن أمه بالغاً عاقلاً. قال الخازن: وهذا القول أظهر (قلت) بل أبعد ويحتاج إلى مستند صحيح ثابت.(8/157)
وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (32) وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33) ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (34) مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (35) وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (36) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (37) أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (38) وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (39)(8/158)
وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (32)
(وبراً بوالدتي) اقتصر على البر بوالدته لأنه قد علم في تلك الحال أنه لم يكن له أب وقرئ برأ بكسر الباء إما على حذف مضاف وإما على أنه مصدر وصف به مبالغة (ولم يجعلني جباراً شقياً) الجبار المتعظم الذي لا يرى لأحد عليه حقاً والشقي العاصي لربه. وقيل الخائب وقيل العاق. وقال ابن عباس: شقياً عصياً، أي بل أنا خاضع متواضع، ومن تواضعه أنه كان يأكل ورق الشجر ويجلس على التراب ولم يتخذ له مسكناً. روي أنه قال قلبي لين وأنا صغير في نفسي.(8/158)
وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33)
(والسلام) قال المفسرون: هو هنا بمعنى السلامة أي الأمان من الله (عليّ) والألف واللام فيه للعهد لأنه قد تقدم لفظه في قوله وسلام عليه أي ذلك السلام الموجه إلى يحيى موجه إليّ.
وقال الزمخشري: والصحيح أن يكون هذا التعريف تعريضاً باللعنة على متهمي مريم وأعدائها من اليهود وتحقيقه أن اللام للجنس، أي جنس السلام عليّ خاصة، فقد عَرض بأن ضده عليكم. ونظيره والسلام على من اتبع الهدى.
(يوم وُلدت) فلم يضرني الشيطان في ذلك الوقت بالطعن ولا أغواني(8/158)
(ويوم أموت) أي ولا عند الموت (ويوم أبعث حياً) أي ولا عند البعث وإنما خص هذه المواضع لكونها أخوف من غيرها. وهذا آخر كلامه فعلموا به براءة أمه، ولم يتكلم بعد هذا الكلام، حتى بلغ المدة التي يتكلم فيها الصبيان في العادة.(8/159)
ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (34)
(ذلك) أي المتصف بالأوصاف الثمانية السابقة. وقال الزجاج: ذلك الذي قال: إني عبد الله (عيسى بن مريم) لا ما تقوله النصارى من أنه ابن الله وأنه إله.
(قول الحق) قرئ بالنصب على المدح أو على أنه مصدر مؤكد لقال إني عبد الله، قاله الزجاج. وقرئ بالرفع على أنه نعت لعيسى. قاله الكسائي. وسمي قول الحق كما سمي كلمة الله. والحق هو الله عز وجل قاله قتادة. وقال أبو حاتم: المعنى هو قول الحق. وقيل التقدير هذا الكلام قول الحق، وهو من باب إضافة الموصوف إلى الصفة مثل حق اليقين. وقيل الإضافة للبيان. وقرئ قال الحق، وروي ذلك عن ابن مسعود،. وقرأ الحسن قول الحق بضم القاف، والقَوْل والقُول والقال والمقال بمعنى واحد.
(الذي فيه يمترون) أي ذلك عيسى ابن مريم الذي فيه يمترون، ومعناه يختلفون على أنه من المماراة أو يشكون على أنه من المرية، وقد وقع الاختلاف في عيسى، فقالت اليهود: هو ساحر وأنه ابن يوسف النجار، وقالت النصارى: هو ابن الله أو إله.
وعن قتادة في الآية قال: اجتمع بنو إسرائيل فأخرجوا منهم أربعة نفر، أخرج كل قوم عالمهم، فامتروا في عيسى حين رفع، فقال أحدهم: هو الله هبط إلى الأرض فأحيى من أحيى وأمات من أمات ثم صعد إلى السماء. وهم اليعقوبية فقالت الثلاثة كذبت، ثم قال اثنان منهم للثالث قل فيه، فقال هو(8/159)
ابن الله، وهم النسطورية، فقال الاثنان كذبت، ثم قال أحد الاثنين للآخر قل فيه، فقال هو ثالث ثلاثة: الله إله وعيسى إله وأمه إله. وهم الإسرائيلية وهم ملوك النصارى فقال. الرابع كذبت هو عبد الله ورسوله وروحه من كلمته، وهم المسلمون فكان لكل رجل منهم أتباع على ما قال، فاقتتلوا وظهروا على المسلمين، فذلك قول الله سبحانه (ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس).
قال قتادة: وهم الذين قال الله فيهم: فاختلف الأحزاب من بينهم، فاختلفوا فيه فصاروا أحزاباً، فاختصم القوم فقال المرء المسلم أنشدكم بالله هل تعلمون أن عيسى كان يطعم الطعام وأن الله لا يطعم؟ قالوا اللهم نعم. قال فهل تعلمون أن عيسى كان ينام وأن الله لا ينام؟ قالوا اللهم نعم، فخصمهم المسلمون فاقتتل القوم فذكر لنا أن اليعقوبية ظهرت يومئذ وأصيب المسلمون، فأنزل الله (فويل للذين كفروا من مشهد يوم عظيم).(8/160)
مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (35)
(ما كان لله أن يتخذ من ولد) أي ما صح ولا استقام ذلك. قال الزجاج: (من) مؤكدة تدل على نفي الواحد والجماعة، والمعنى ما كان من صفته اتخاذ الولد أي ثبوت الولد له محال.
ثم نزه الله نفسه فقال (سبحانه) أي تنزه وتقدس عن مقالتهم هذه. ثم صرح سبحانه بما هو شأنه، تعالى سلطانه فقال: (إذا قضى أمراً) من الأمور وهذا بمنزلة التعليل لما قبله (فإنما يقول له كن فيكون) أي فيكون حينئذ بلا تأخير لا يتعذر عليه إيجاده على الوجه الذي أراده، وفي إيراده في هذا الموضع تبكيت عظيم وإلزام بالحجة للنصارى، أي من كان هذا شأنه كيف يتوهم أن يكون له ولد، وقد سبق الكلام على هذا مستوفى في البقرة.(8/160)
وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (36)
(وإن الله) بفتح أن بتقدير اذكر أو لأن، وإليه ذهب الزمخشري تابعاً للخليل وسيبويه، وبكسرها بتقدير قل، أو على الاستئناف، وقيل على الأول(8/160)
أنها عطف على الصلاة، أي أوصاني بالصلاة وبأن الله، وإليه ذهب الفراء، ولم يذكر مكي غيره، وقيل على الثاني عطف على قوله إني عبد الله، وهو من البعد بمكان (ربي وربكم فاعبدوه) هذا من تمام كلام عيسى بدليل ما قلت لهم إلا ما أمرتني الآية.
(هذا صراط مستقيم) أي الذي ذكرته لكم من أنه ربي وربكم، هو الطريق القيم الذي لا اعوجاج فيه ولا يضل سالكه(8/161)
فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (37)
(فاختلف الأحزاب) أي اليهود والنصارى (من بينهم) أي فاختلفت الفرق من أهل الكتاب في أمر عيسى، فأفرطت النصارى وغلت وفرطت اليهود وقصرت، ومن زائدة وقيل للتبعيض إذ بقي منهم فرقة أخرى مؤمنة يقولون إنه عبد الله كما تقدم.
(فويل للذين كفروا) وهم المختلفون في أمره، عبر عنهم بالموصول إيذاناً بكفرهم جميعاً وإشعاراً بعلة الحكم (من مشهد يوم عظيم) أي من شهود يوم القيامة وما يجري فيه من الحساب والجزاء والعقاب، أو من مكان الشهود فيه، أو من شهادة ذلك اليوم عليهم. وقيل المعنى فويل لهم من حضورهم المشهد العظيم الذي اجتمعوا فيه للتشاور.(8/161)
أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (38)
(أسمع بهم وأبصر) قال أبو العباس: العرب تقول هذا في موضع التعجب فيقولون أسمع بزيد وأبصر به، أي ما أسمعه وأبصره، فعجب الله سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم منهم. وقال السمين: هذا لفظ أمر ومعناه التعجب، وقيل بل هو أمر حقيقة، والمأمور هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمعنى أسمع الناس وأبصرهم بهم وبحالهم، ماذا تصنع بهم من العذاب، وهو منقول عن أبي العالية، وقال ابن عباس: يقول الكفار يومئذ: أسمع شيء وأبصره، وهم اليوم لا يسمعون ولا يبصرون.
(يوم يأتوننا) للحساب والجزاء (لكن الظالمون) الأصل لكنهم وهو من إقامة الظاهر مقام المضمر للإيذان بأنهم في ذلك ظالمون لأنفسهم(8/161)
(اليوم) أي في الدنيا (في ضلال) أي خطأ (مبين) أي واضح ظاهر، ولكنهم أغفلوا التفكر والاعتبار والنظر في الآثار (وأنذرهم) أي خوّف يا محمد كفار مكة (يوم الحسرة) أي يوم يتحسرون جميعاً، فالمسيء يتحسر على إساءته، والمحسن على عدم استكثاره من الخير.
وعن ابن عباس قال: يوم الحسرة هو من أسماء يوم القيامة، وقرأ (أن تقول نفس يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله، وفي سنده علي ابن أبي طلحة وهو ضعيف، والآية التي استدل بها ابن عباس لا تدل على المطلوب لا بمطابقة ولا تضمن ولا التزام.
(إذ قضي الأمر) من الحساب وطويت الصحف وصار أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار (وهم في غفلة) أي غافلين عما يعمل بهم وتلك الحال متضمنة للتعليل، أي أنذرهم لأنهم في حالة يحتاجون فيها إلى الإنذار، وهي الغفلة والكفر.
(وهم لا يؤمنون) به، أخرج البخاري ومسلم وغيرهم، عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار يجاء بالموت كأنه كبش أملح، فيوقف بين الجنة والنار، فيقال: يا أهل الجنة هل تعرفون هذا؟ فيشرئبون، وينظرون إليه، فيقولون: نعم هذا الموت، وكلهم قد رآه، ثم ينادي يا أهل النار هل تعرفون هذا فيشرئبون وينظرون إليه فيقولون نعم هذا الموت، وكلهم قد رآه فيؤمن به فيذبح، ويقال: يا أهل الجنة خلود فلا موت، ويا أهل النار خلود فلا موت؛ ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم(8/162)
وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (39)
(وأنذرهم يوم الحسرة) الآية وأشار بيده فقال أهل الدنيا في غفلة (1). وأخرج النسائي وابن أبي حاتم وابن مردويه، عن أبي هريرة مرفوعاً نحوه.
_________
(1) مسلم 2849 - البخاري 1024.(8/162)
وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (39) إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (40) وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (41) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا (42) يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا (43) يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا (44) يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا (45) قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (46) قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا (47)(8/163)
إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (40)
(إنّا نحن) تأكيد للضمير في إنا لأنه بمعناه (نرث الأرض) أي نميت سكانها فلا يبقى بها أحد يرث الأموات، فكأنه سبحانه ورث الأرض (ومن عليها) حيث أماتهم جميعاً (وإلينا يرجعون) أي يردون إلينا يوم القيامة فنجازي كلاًّ بعمله، وقد تقدم مثل هذا في سورة الحجر.(8/163)
وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (41)
(واذكر) لكفار مكة (في الكتاب إبراهيم) أي خبره والمراد بذكر
الرسول إياه في الكتاب أن يتلو ذلك على الناس كقوله: (واتل عليهم نبأ
إبراهيم) فالمراد ما ذكر، وإلا فالذاكر له هو الله في كتابه، وعاش إبراهيم
من العمر مائة وخمساً وسبعين سنة؛ وبينه وبين آدم ألفا سنة، وبينه وبين
نوح ألف سنة ذكره السيوطي (1) وفي التحبير (إنه كان صديقاً نبياً) تعليل لما
تقدم من الأمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يذكره، وهي معترضة ما
بين البدل والمبدل منه والصديق كثير الصدق بليغه أي اذكر إبراهيم الجامع
لهذين الوصفين، ولا ثبت أن كل نبي يجب أن يكون صديقاً ولا يجب في كل
صديق أن يكون نبياً، ظهر بهذا قرب مرتبة الصديق من مرتبة النبي، فلهذا
انتقل من ذكر كونه صديقاً إلى ذكر كونه نبياً.
_________
(1) السيوطي يرجع في هذا إلى نقل عن التوراة في سفر التكوين مشوه، وليس له سند في الإسلام.(8/163)
إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا (42)
(إذ قال لأبيه) بدل اشتمال من إبراهيم وتعليق الذكر بالوقت مع أن المقصود تذكير ما وقع فيه من الحوادث للمبالغة، وأبو إبراهيم هو آزر على ما تقدم تقريره (يا أبت) التاء عوض عن الياء ولهذا لا يجتمعان (لم تعبد) الاستفهام للإنكار والتوبيخ أي لأي شيء ولأي سبب تعبد (ما لا يسمع) ما تقوله من الثناء عليه، والدعاء له (ولا يبصر) ما تفعله من عبادته؛ ومن الأفعال التي تفعلها مريداً بها الثواب، ويجوز أن يحمل نفي السمع والإبصار على ما هو أعم من ذلك أي لا يسمع شيئاً من المسموعات ولا يبصر شيئاً من المبصرات.
(ولا يغني عنك شيئاً) من الأشياء فلا يجلب لك نفعاً؛ ولا يدفع عنك ضرراً، وهي الأصنام التي كان يعبدها آزر، أورد إبراهيم عليه السلام على أبيه الدلائل والنصائح وصدر كلا منها بالنداء المتضمن للرفق واللين استمالة لقلبه، وامتثالاً لأمر ربه، ووصف الأصنام بثلاثة أشياء كل واحد منها قادح في الإلهية، ورتب هذا الكلام على غاية الحسن، ثم كرر دعوته إلى الحق فقال:(8/164)
يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا (43)
(يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك) أي بعض العلم وهو علم الوحي أو التوحيد أو الآخرة أقوال ثلاثة ذكرها أبو حيان فأخبر أنه قد وصل إليه من العلم نصيب لم يصل إلى أبيه، وأنه قد تجدد له حصول ما يتوصل به منه إلى الحق ويقتدر به على إرشاد الضال، ولهذا أمره باتباعه فقال: (فاتبعني) في الإيمان، والتوحيد (أهدك صراطاً سوياً) مستوياً موصلاً إلى المطلوب منجياً من المكروه ثم أكد ذلك بنصيحة أخرى زاجرة له عما هو فيه فقال:(8/164)
يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا (44)
(يا أبت لا تعبد الشيطان) أي لا تطعه فإن عبادة الأصنام هي من طاعة الشيطان ثم علل ذلك بقوله: (إن الشيطان كان للرحمن عصياً) حين ترك ما أمره به من السجود لآدم. ومن أطاع من هو عاص لله سبحانه فهو عاصٍ لله، والعاصي حقيق بأن تسلب عنه النعم وتحل به النقم، قال(8/164)
الكسائي: العصي والعاصي واحد، ثم بين له الباعث على هذه النصائح فقال:(8/165)
يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا (45)
(يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن) إن لم تتب.
قال الفراء: معنى أخاف هنا أعلم وبه فسر الأقلون الآية، وإليه أشار في التقرير وقال الأكثرون: أن الخوف هنا محمول على ظاهره لأن إبراهيم غير جازم بموت أبيه على الكفر، إذ لو كان جازماً بذلك لم يشتغل بنصحه، فوجب إجراؤه على ظاهره، ومعنى الخوف على الغير، هو أن يظن وصول الضرر إلى ذلك الغير.
(فتكون للشيطان ولياً) أي أنك إن أطعت الشيطان كنت معه قريناً في النار واللعنة. فتكون بهذا السبب موالياً له أو تكون بسبب موالاته في العذاب معه، وليس هناك ولاية حقيقية لقوله سبحانه: (الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو). وقيل الولي بمعنى التالي؛ وقيل بمعنى القريب.
قال الشهاب: الْوَليُّ من الوَلِيْ وهو القرب، وكل من المتقاربين قريب من صاحبه أي تكون للشيطان قريباً منه في النار، تليه ويليك، فلما مرت هذه النصائح النافعة والمواعظ المقبولة بسمع آزر قابلها بالغلظة والفظاظة والقسوة المفرطة، حيث:(8/165)
قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (46)
(قال أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم) ناداه باسمه ولم يقابل يا أبت بيا بني وأخره وقدم الخبر على المبتدأ. وصدره بهمزة الاستفهام للتقريع والتوبيخ والتعجيب، ولإنكار نفس الرغبة كأنها مما لا يرغب عنها عاقل. والمعنى أمعرض أنت عن ذلك ومنصرف إلى غيره. ثم توعده وهدده فقال: (لئن لم تنته) عن مقالتك فيها أو الرغبة عنها، واللام للقسم (لأرجمنك) بالحجارة حتى تموت، وقيل باللسان فيكون معناه لأشتمنك. قاله ابن عباس، وقيل معناه لأضربنك وقيل لأبعدنك عني بالقول القبيح، وقيل لأظهرن أمرك فاحذرني (واهجرني ملياً) أي زماناً طويلاً. وقال ابن عباس حيناً. قال الكسائي: يقال هجرته ملياً وملوة وملاوة، بمعنى الملاوة من(8/165)
الزمان وهو الطويل.
وقيل معناه اعتزلني سالم العرض سوياً لا تصيبك مني معرة، واختار هذا ابن جرير وعن ابن عباس قال: اجتنبني سوياً واجتنبني سالماً قبل أن تصيبك مني عقوبة وعن عكرمة: ملياً دهراً، وعن قتادة: سالماً، وعن الحسن مثله، فلما رأى إبراهيم إصرار أبيه على العناد(8/166)
قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا (47)
(قال سلام عليك) أي تحية توديع ومقاطعة ومتاركة، كقوله تعالى: وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً.
وقيل معناه أمنة مني لك. قاله ابن جرير. وإنما أمنه مع كفره لأنه لم يؤمر بقتاله والأول أولى وبه قال الجمهور.
وقيل معناه الدعاء له بالسلامة استمالة له ورفقاً به، وهذا في مقابلة قوله: لئن لم تنته، وهذا مقابلة للسيئة بالحسنة. ثم وعده بأن يطلب له المغفرة من الله سبحانه تألفاً له وطمعاً في لينه وذهاب قسوته.
والشيخ لا يترك أخلاقه حتى ... يوارى في ثرى رمسه
فقال: (سأستغفر لك ربي) وكان منه هذا الوعد قبل أن يعلم أنه يموت على كفره وتحق عليه الكلمة. ولهذا قال الله سبحانه في موضع آخر: (فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه) بعد قوله: (وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها أياه) وقيل المراد باستغفاره له طلب توفيقه للإيمان الموجب للمغفرة، أي سأسأل لك ربي توبة تنال بها المغفرة، يعني الإسلام، والاستغفار للكافر بهذا الوجه جائز، كأنه يقول اللهم وفقه للإسلام أو تب عليه واهده. قاله الكرخي والصحيح هو الأول.
(إنه كان بي حفياً) تعليل لما قبلها، والمعنى سأطلب لك المغفرة من الله، فإنه كان بي كثير البر واللطف. يقال حفي به وتحفى إذا بره. قال الكسائي. يقال حفي بي حفاوة وحفوة أي اعتنى بي وبالغ في إكرامي والطافي. وقال الفراء: حفياً أي عالماً لطيفاً يجيبني إذا دعوته. وبه قال ابن عباس. والحفي أيضاً المستقصي في السؤال، ومنه كأنك حفي عنها.(8/166)
وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا (48) فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاًّ جَعَلْنَا نَبِيًّا (49) وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا (50) وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (51) وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا (52) وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا (53)
ثم صرح الخليل بما تضمنه سلامه من التوديع والمتاركة فقال:(8/167)
وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا (48)
(وأعتزلكم وما تدعون من دون الله) أي أهاجر بديني عنكم وعن معبوداتكم حيث لم تقبلوا نصحي ولا نجعت فيكم دعوتي، وهذا في مقابلة قوله: واهجرني ملياً.
(وأدعو ربي) وحده (عسى أن لا أكون بدعاء ربي شقياً) أي خائباً كما شقيتم بعبادة الأوثان. وقيل عاصياً قيل: أراد بهذا الدعاء هو أن يهب الله له ولداً وأهلاً يستأنس بهم في اعتزاله ويطمئن إليهم عند وحشته، وفي تصدير الكلام بعسى التواضع وهضم النفس والتنبيه على أن الإجابة والإثابة تفضل منه تعالى غير واجبين وأن ملاك الأمر خاتمته وهو عيب.
وقيل: أراد دعاءه لأبيه بالهداية، وعسى للشك لأنه كان لا يدري
أيستجاب له فيه أم لا، والأول أولى لقوله:(8/167)
فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا (49)
(فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله) أي بأن ذهب مهاجراً من
بابل أو كوئي إلى الأرض المقدسة (وهبنا له إسحاق ويعقوب) أي جعلنا
هذين الموهوبين له أهلاً وولداً بدل الأهل الذين فارقهم يأنس بهما. وهذا
يقتضي أنه عاش حتى رأى يعقوب وهو كذلك، كما مرت الإشارة إليه في
قوله: فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب، وخصهما لأنه سيذكر إسماعيل بفضله منفرداً قال ابن عباس: وهبنا له إسحاق ابناً ويعقوب ابن ابنه (وكُلّا) مفعول لجعلنا قدم عليه للتخصيص، لكن بالنسبة إليهم أنفسهم لا بالنسبة إلى من عداهم، أي كل واحد منهم (جعلنا نبياً) لا(8/167)
بعضهم دون بعض.(8/168)
وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا (50)
(ووهبنا لهم من رحمتنا) أي للثلاثة بأن جعلناهم أنبياء، وذكر هذا بعد التصريح بجعلهم أنبياء لبيان أن النبوة هي من باب الرحمة. وقيل المراد بالرحمة هنا المال وسعة الرزق، وقيل كثرة الأولاد، وقيل الكتاب، ولا يبعد أن يندرج تحتها جميع هذه الأمور. ومن للتبعيض.
(وجعلنا لهم لسان صدق علياً) أي الثناء الحسن قاله ابن عباس، عبر عنه باللسان لكونه يوجد به، كما عبر باليد عن العطية، وإضافته إلى الصدق ووصفه بالعلو للدلالة على أنهم أحقاء بما يقال فيهم من الثناء على ألسن العباد، ففي اللسان مجاز مرسل من إطلاق اسم الآلة وإرادة ما ينشأ منها. والمعنى وجعلنا لهم ثناء صادقاً يذكرهم الأمم كلها إلى يوم القيامة، بما لهم من الخصال المرضية، ويصلون على إبراهيم وعلى آله إلى قيام الساعة، وهذا توبيخ لكفار مكة إذ كان مقتضى ترضيهم وثنائهم على المذكورين أن يتبعوهم في الدين مع أنهم لم يفعلوا.
ثم قفى الله سبحانه قصة إبراهيم بقصة موسى لأنه تلوه في الشرف، وقدمه على إسماعيل لئلا يفصل بينه وبين ذكر يعقوب فقال:(8/168)
وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (51)
(واذكر في الكتاب) أي واقرأ عليهم من القرآن قصة (موسى إنه كان مخلصاً) بفتح اللام أي جعلناه مختاراً وأخلصناه، وقرئ بكسرها أي أخلص العبادة والتوحيد لله غير مراء للعباد (و) أنه (كان رسولاً نبياً) أي أرسله الله إلى عباده فأنبأهم عن الله بشرائعه التي شرعها لهم، فهذا وجه ذكر النبي بعد الرسول مع استلزام الرسالة للنبوة، فكأنه أراد بالرسول معناه اللغوي لا الشرعي، والله أعلم.
وقال النيسابوري: الرسول النبي الذي معه كتاب والنبي الذي ينبئ عن الله عز وجل وإن لم يكن معه كتاب، وكان المناسب ذكر الأعم قبل الأخص إلا أن رعاية الفواصل اقتضت عكس ذلك؛ كقوله في طه: (رب هارون وموسى). قال مجاهد: النبي هو الذي يكلم وينزل عليه ولا يرسل،(8/168)
وفي لفظ الأنبياء الذين ليسوا برسل يوحى إلى أحدهم ولا يرسل إلى أحد، والرسل الأنبياء الذي يوحى إليهم ويرسلون.(8/169)
وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا (52)
(وناديناه) أي كلمناه كما في سورة القصص في قوله: (فلما أتاها نودي من شاطئ الوادي الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة أن يا موسى إني أنا الله رب العالمين) (من جانب الطور الأيمن) أي من ناحيته اليمنى، وهو جبل بين مصر ومدين اسمه زبير.
ومعنى الأيمن أنه كان ذلك الجانب عن يمين موسى حين أقبل من مدين متوجهاً إلى مصر فإن الشجرة كانت في ذلك الجانب والنداء وقع منها، وليس المراد يمين الجبل نفسه، فإن الجبال لا يمين لها ولا شمال، وقيل معنى الأيمن الميمون. ومعنى النداء أنه تمثل له الكلام من ذلك الجانب.
قال قتادة: جانب الجبل الأيمن. وهذا صريح في أن المراد بالطور هو الذي عند بيت المقدس، لا الطور الذي عند السويس، لأنه يكون على يسار المتوجه من مدين إلى مصر كما هو محسوس (وقربناه نجياً) أي أدنيناه بتقريب المنزلة حتى كلمناه، والنبي بمعنى المناجي كالجليس والنديم؛ فالتقريب هنا هو تقريب التشريف والإكرام، مثلت حاله بحال من قربه الملك لمناجاته.
قال الزجاج: قرّبه منه في المنزلة حتى سمع مناجاته. وقيل: إن الله سبحانه رفعه حتى سمع صريف القلم، روي هذا عن بعض السلف، وبه قال أبو العالية، وروي نحوه عن جماعة من التابعين قال ابن عباس حتى سمع صريف القلم يكتب في اللوح المحفوظ وأخرجه الديلمي عنه مرفوعاً قال قتادة: في نجيا نجي بصدقه.(8/169)
وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا (53)
(ووهبنا له من رحمتنا) أي من نعمتنا، وفي (من) هذه وجهان.
أحدهما أنها تعليلية أي من أجل رحمتنا، والثاني أنها تبعيضية، أي بعض رحمتنا (أخاه هارون نبياً) وذلك حين سأل ربه وقال: واجعل لي وزيراً من أهلي. هارون أخي قال ابن عباس: كان هارون أكبر من موسى، أي بأربع سنين، ولكن إنما وهب له نبوته.(8/169)
وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا (52) وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا (53) وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (54) وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (55) وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (56) وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا (57) أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا (58)(8/170)
وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (54)
(واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد) وصف الله سبحانه إسماعيل بصدق الوعد مع كون جميع الأنبياء كذلك، لأنه كان مشهوراً بذلك مبالغاً فيه، وناهيك أنه وعد الصبر من نفسه على الذبح، فوفى بذلك وكان ينتظر لمن وعده بوعد الأيام والليالي، حتى قيل: إنه انتظر لبعض من وعده حولاً؛ والمراد بإسماعيل هنا هو إسماعيل بن إبراهيم، ولم يخالف في ذلك إلا من لا يعتد به، فقال هو إسماعيل بن حزقيل بعثه الله إلى قومه فسلخوا جلدة رأسه، فخيره الله فيما شاء من عذابهم، وثوابه فاستعفاه ورضي بثوابه.
(وكان رسولاً نبياً) قد استدل بهذا إلى أن الرسول لا يجب أن يكون صاحب شريعة، فإن أولاد إبراهيم كانوا على شريعته، وقيل أنه وصفه بالرسالة لكون إبراهيم أرسله إلى جرهم، وهم قبيلة من عرب اليمن نزلوا على هاجر أم إسماعيل بوادي مكة(8/170)
وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (55)
(وكان يأمر أهله) المراد به هنا أمته وقيل جرهم وقيل عشيرته، كما في قوله: (وأنذر عشيرتك الأقربين).
والمراد (بالصلاة والزكاة) هنا هما العبادتان الشرعيتان، ويجوز أن يراد معناهما اللغوي (وكان عند ربه مرضياً) أي رضياً زاكياً صالحاً، والمعنى قائماً(8/170)
لله بطاعته. وقيل رضيه لنبوته ورسالته، وهذا نهاية في المدح لأن المرضي عند الله هو الفائز في كل طاعة بأعلى الدرجات قال الفراء والكسائي: من قال مرضي بني على رضيت، قال وأهل الحجاز يقولون مرضوي.(8/171)
وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (56)
(واذكر في الكتاب إدريس) هو ابن شيث بن آدم لصلبه، أفاده السيوطي في التحبير واسمه أخنوخ. قيل هو جد نوح، فإن نوحاً هو ابن لمك ابن متوشلخ ابن أخنوخ، وعلى هذا فيكون جد أبي نوح، ذكره الثعلبي وغيره، وقد قيل أن هذا خطأ، وامتناع إدريس للعجمة والعلمية.
وقولهم سمي به لكثرة دراسته الكتب لا يصح، لأنه لو كان إفعيلاً من الدرس لم يكن فيه إلا سبب واحد وهو العلمية وكان منصرفاً، وهو أول مرسل بعد آدم عليه السلام وأول من أعطى النبوة من بني آدم وأول من خط بالقلم، ونظر في النجوم والحساب وأول من خاط الثياب وأول من اتخذ السلاح. وقاتل الكفار.
(إنه كان صديقاً نبياً) وذلك إن الله شرفه بالنبوة، وأنزل عليه ثلاثين صحيفة. وقد اختلف في معنى قوله:(8/171)
وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا (57)
(ورفعناه مكاناً علياً) فقيل إن الله رفعه إلى السماء الرابعة. وقيل إلى السادسة وقيل إلى الثانية. وقد روى البخاري في صحيحه من حديث الإسراء، وفيه: " ومنهم إدريس في الثانية " (1) وهو غلط من رواية شريك بن عبد الله بن أبي نمر، والصحيح: " أنه في السماء الرابعة " كما رواه مسلم في صحيحه من حديث أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم (2).
_________
(1) البخاري 1684.
(2) مسلم 162.(8/171)
وقيل إن المراد برفعه ما أعطيه من شرف النبوة والزلفى عند الله، وقيل إنه رفع إلى الجنة. وقيل هو الرفعة بعلو المرتبة في الدنيا والأول أصح؛ عن ابن عباس قال: كان إدريس خياطاً، وكان لا يغرز غرزة إلا قال سبحان الله؛ وكان يمسي حين يمسي وليس على الأرض أفضل عملاً منه، فاستأذن ملك من الملائكة ربه فقال يا رب ائذن لي فأهبط إلى إدريس، فأذن له، فأتى إدريس فقال: إني جئتك لأخدمك، قال كيف تخدمني وأنت ملك وأنا إنسان، ثم قال إدريس هل بينك وبين ملك الموت شيء؟ قال الملك: ذاك أخي من الملائكة، قال هل تستطيع أن تنفعني؟ قال أما نؤخر شيئاً أو نقدمه فلا، ولكن سأكلمه لك فيرفق بك عند الموت، فقال اركب بين جناحي، فركب إدريس فصعد إلى السماء العليا فلقي ملك الموت وإدريس بين جناحيه، فقال له الملك: إن لي إليك حاجة قال علمت حاجتك، تكلمني في إدريس وقد محي اسمه من الصحيفة فلم يبق من أجله إلا نصف طرفة عين، فمات إدريس بين جناحي ملك أخرجه ابن أبي حاتم، وعنه سألت كعباً فذكر نحوه فهذا هو من الإسرائيليات التي يرويها كعب. وعنه قال رفع إدريس إلى السماء السادسة.
وأخرج الترمذي وصححه وابن المنذر وابن مردويه قال: حدثنا أنس بن مالك عن النبي (- صلى الله عليه وسلم -) قال: لما عرج بي رأيت إدريس في السماء الرابعة (1). وأخرج ابن مردويه عن أبي سعيد الخدري مرفوعاً نحوه، وعن مجاهد قال: رفع إدريس كما رفع عيسى ولم يمت. وعن ابن مسعود قال: إدريس هو إلياس، وحسنه السيوطي
_________
(1) الترمذي تفسير سورة 19 - الإمام أحمد 3/ 260.(8/172)
أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا (58)
(أولئك) خطاب لمحمد صلى الله عليه وسلم والإشارة إلى الأنبياء المذكورين من أول السورة إلى هنا، وهم عشرة أولهم في الذكر زكريا وآخرهم فيه إدريس، وهو مبتدأ وقوله: (الذين أنعم الله عليهم) صفته و (من النبيين) بيان للموصول من بيان العام بالخاص(8/172)
و (من ذرية آدم) بدل منه بإعادة الخافض، وقيل (من) فيه للتبعيض، يعني إدريس ونوحاً.
(وممن حملنا مع نوح) أي من ذرية من حملنا معه في السفينة، وهم من عدا إدريس، فإن إدريس من ذرية آدم لقربه منه، وإبراهيم من ذرية من حمل مع نوح لأنه من ذرية سام بن نوح، فإن إبراهيم بن آزر وبينه وبين نوح عشرة قرون كما في التحبير.
(ومن ذرية إبراهيم) وهم الباقون (و) من ذرية (إسرائيل) وهو يعقوب؛ وكان منهم موسى وهارون وزكريا ويحيى وعيسى، وفيه دليل على أن أولاد البنات من الذرية. وقيل إنه أراد بقوله من ذرية آدم إدريس وحده، وبقوله ممن حملنا مع نوح إبراهيم وحده، وبقوله ومن ذرية إبراهيم، إسماعيل وإسحاق ويعقوب، وبقوله إسرائيل موسى وهارون وزكريا ويحيى وعيسى، قال السدي: هذه تسمية الأنبياء الذين ذكرهم، أما من ذرية آدم فإدريس ونوح وأما من ذرية من حمل مع نوح فإبراهيم، وأما ذرية إبراهيم فإسماعيل وإسحاق ويعقوب، وأما ذرية إسرائيل فموسى وهارون وزكريا ويحيى وعيسى، لأن مريم من ذريته.
(وممن هدينا) أي من جملة من هدينا إلى الإسلام (واجتبينا) بالإيمان وقيل على الأنام وهذا آخر الصفات، والتقدير والكائنين ممن هدينا الخ، واعلم أنه تعالى أثنى على كل واحد ممن تقدم ذكره من الأنبياء بما يخصه من الثناء، ثم جمعهم آخراً فقال أولئك الخ، فرتب تعالى أحوال الأنبياء الذين ذكرهم على هذا الترتيب منبهاً بذلك على أنهم كما فضلوا بأعمالهم فلهم منزلة في الفضل بولادتهم من هؤلاء الأنبياء، ثم بين أنهم ممن هدينا واجتبينا منبهاً بذلك على أنهم خصوا بهذه المنازل لهداية الله لهم، ولأنه اختارهم للرسالة.
(إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجداً وبكياً) وهذا خير(8/173)
لأولئك، ويجوز أن يكون الخبر هو الذين أنعم الله عليهم، وهذا استئناف لبيان خشوعهم لله وخشيتهم منه، والسجد والبُكِيّ جمع ساجد قياساً وباك على غير قياس، وقياسه بكاة، كقاض وقضاة، وقد تقدم في سبحان بيان معنى خروا سجداً، يقال بكى يبكي بكاء وبكياً؛ قال الخليل: إذا قصرت البكاء فهو مثل الحزن، أي ليس معه صوت، ومنه قول الشاعر:
بكت عيني وحق لها بكاها ... وما يغني البكاء ولا العويل
قال الزجاج: قد بين الله أن الأنبياء كانوا إذا سمعوا آيات الله بكوا وسجدوا خضوعاً وخشوعاً وخوفاً وحذراً، والمراد من الآيات ما خصهم به من الكتب المنزلة عليهم، وقيل المراد بها ذكر الجنة والنار والوعد والوعيد؛ وفيه استحباب البكاء وخشوع القلب عند سماع القرآن.
قال صالح المري: قرأت القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام فقال لي يا صالح هذه القراءة فأين البكاء؟ وفي الحديث: " اتلوا القرآن وابكوا فإن لم تبكوا فتباكوا " (1). وعن ابن عباس: إذا قرأتم سجدة سبحان فلا تعجلوا بالسجود حتى تبكوا، فإن لم تبك عين أحدكم فليبك قلبه، وقد استدل بهذه على مشروعية سجود التلاوة، وهذه السجدة من عزائم سجود القرآن، فيسن للقارئ والمستمع أن يسجد عند تلاوة هذه الآية، وقال بعضهم: إنه الصلاة.
وقال الرازي: يحتمل أنهم عند الخوف كانوا قد تعبدوا بالسجود فيفعلوا ذلك لأجل ذكر السجود في الآية.
ولما مدح الله سبحانه هؤلاء الأنبياء بهذه الصفات ترغيباً لغيرهم في الاقتداء بهم وسلوك طريقتهم، ذكر أضدادهم تنفيراً للناس على طريقتهم فقال:
_________
(1) ابن ماجة كتاب الإقامة باب 176 - كتاب الزهد باب 69.(8/174)
فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا (60) جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (61) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (62) تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا (63) وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (64)(8/175)
فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59)
(فخلف) أي وجد وحدث (من بعدهم) أي من بعد النبيين المذكورين (خلف) أي عقب سوء. قال أهل اللغة: يقال لعقب الخير والصدق خلف بفتح اللام، ولعقب الشر والسوء خلف بسكون اللام، وقد قدمنا الكلام على هذا في آخر الأعراف.
(أضاعوا الصلاة) أي أخروها عن وقتها، قاله الأكثر، وهو أن لا يصلي الظهر حتى يأتي العصر ولا العصر حتى يأتي المغرب، وقيل أضاعوا الوقت، وقيل كفروا بها وجحدوا وجوبها، وقيل لم يأتوا بها على الوجه المشروع. وقيل تركوها كاليهود والنصارى، والظاهر أن من أخر الصلاة عن وقتها أو ترك فرضاً من فروضها أو شرطاً من شروطها أو ركناً من أركانها فقد أضاعها، ويدخل تحت الإضاعة من تركها بالمرة أو جحدها دخولاً أولياً.
واختلفوا فيمن نزلت هذه الآية، فقيل في اليهود وقيل في النصارى وقيل في قوم من أمة محمد صلى الله عليه وسلم يأتون في آخر الزمان. وقال بالأولين السدي. وقال بالثالث مجاهد، ولفظه هم من هذه الأمة يتراكبون في الطرق كما تراكب الأنعام لا يستحيون من الناس ولا يخافون من الله في السماء، وعن ابن مسعود قال: ليس إضاعتها تركها، قد يضيع الإنسان الشيء ولا يتركه. ولكن إضاعتها إذا لم يصلها لوقتها.(8/175)
(واتبعوا الشهوات) أي فعلوا ما تشتهيه أنفسهم وترغب إليه من المحرمات كشرب الخمر والزنا (فسوف يلقون غياً) هو الشر عند أهل اللغة كما أن الخير هو الرشاد. والمعنى أنهم سيلقون شراً لا خيراً.
وقيل الغي الضلال. وقيل الخيبة وقيل الخسران وقيل الهلاك وقيل العذاب وقيل هو اسم واد في جهنم تستعيذ من حره أوديتها أعد للزناة وشربة الخمر وشهاد الزور وأكلة الربا والعاقين لوالديهم.
وقيل في الكلام حذف. والتقدير سيلقون جزاء الغي. قاله الزجاج. ومثله قوله سبحانه: يلق أثاماً. أي جزاء أثام.
أخرج أحمد وابن حبان والحاكم وصححه والبيهقي وغيرهم، عن أبي سعيد الخدري قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وتلا هذه الآية قال: " يكون خلف من بعد ستين سنة؛ أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات، فسوف يلقون غياً، ثم يكون خلف يقرأون القرآن لا يعدو تراقيهم، ويقرأ القرآن ثلاثة؛ مؤمن ومنافق وفاجر " (1).
وأخرج أحمد والحاكم وصححه عن عقبة بن عامر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم " سيهلك من أمتي أهل الكتاب وأهل اللبن " قلت: يا رسول الله ما أهل الكتاب؟ قال " قوم يتعلمون الكتاب يجادلون به الذين آمنوا "، قلت: ما أهل اللبن؟ قال " قوم يتبعون الشهوات ويضيعون الصلوات " (2).
وعن عائشة أنها كانت ترسل بالصدقة لأهل الصدقة وتقول: لا تعطوا منها بربرياً، ولا بربرية، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
_________
(1) المستدرك كتاب التفسير 2/ 374.
(2) المستدرك كتاب التفسير 2/ 374.(8/176)
" هم الخلف الذين قال الله فخلف من بعدهم خلف " (1)، أخرجه ابن أبي حاتم وابن مردويه والحاكم وصححه.
وعن ابن مسعود قال: الغي نهر أو واد في جهنم من قيح بعيد القعر خبيث الطعم يقذف فيه الذين يتبعون الشهوات، وقد قال بأنه واد في جهنم، البراء بن عازب، وأخرج ابن جرير والطبراني وابن مردويه والبيهقي عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لو أن صخرة زنة عشر أواق قذف بها من شفير جهنم ما بلغت قعرها سبعين خريفاً، ثم ينتهي إلى غي، وأثام "؛ قلت: وما غي؟ وأثام؟ قال " نهران في أسفل جهنم يسيل فيهما صديد أهل النار، وهما اللذان ذكر الله في كتابه فسوف يلقون غياً "، ومن يفعل ذلك يلق أثاماً.
وأخرج ابن مردويه؛ عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: " الغي واد في جهنم ".
_________
(1) المستدرك كتاب التفسير 2/ 244.(8/177)
إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا (60)
(إلا من تاب) مما فرط منه من تضييع الصلاة واتباع الشهوات فرجع إلى طاعة الله (وآمن) به (وعمل) عملاً (صالحاً) الاستثناء منقطع قاله الزجاج وجرى أبو حيان وغيره على أنه متصل، وهو ظاهر الآية، لما روي عن قتادة أنها في حق هذه الأمة، ويجوز أن يحمل على التغليظ، كما قال تعالى: (من استطاع إليه سبيلاً) وبهذا التأويل يحسن قول قتادة. إن هذا الكلام نازل في شأن أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وقيل في هذا الاستثناء دليل على أن الآية في الكفرة لا في المسلمين.
(فأولئك يدخلون الجنة) بفتح الياء وضم الخاء، وقرئ بضم الياء(8/177)
وفتح الخاء (ولا يظلمون شيئاً) أي لا ينقص من أجورهم شيء، وإن كان قليلاً، فإن الله سبحانه يوفي أجورهم إليهم(8/178)
جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (61)
(جنات عدن) قرئ بالرفع على الابتداء وقرئ بالنصب على البدل من الجنة بدل البعض، لكون جنات عدن، بعضاً من الجنة، وعلى المدح أيضاً.
قال أبو حاتم: ولولا الخط لكان جنة عدن، يعني بالإفراد مكان الجمع وليس هذا بشيء، فإن الجنة اسم لمجموع الجنات التي هي بمنزلة الأنواع للجنس، وقرئ بصرف عدن؛ ومنعها عن الصرف، على أنها علم بمعنى العدن؛ وهو الإقامة أي بساتين إقامة وصفها بالدوام بخلاف جنات الدنيا فإنها لا تدوم، أو علم لأرض الجنة لكونها مقام إقامة.
(التي وعد) ها (الرحمن عباده) متلبسة أو متلبسين (بالغيب) والمعنى أنهم لا يرونها فهي غائبة عنهم، أو هم غائبون عنها (إنه) أي الرحمن، وقيل إنه ضمير الشأن والأمر لأنه مقام تعظيم وتفخيم (كان وعده) أي موعوده على العموم فيدخل فيه الجنات دخولاً أولياً، وقيل الوعد مصدر على بابه (مأتياً) أي هم يأتونها، قال الفراء: لم يقل آتياً لأن كل ما أتاك فقد أتيته، وكذا قال الزجاج، وقال الزمخشري: كان وعده مفعولاً لا منجزاً.(8/178)
لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (62)
(لا يسمعون فيها لغواً) هو الهذر، والفضول من الكلام الذي يلغي ولا طائل تحته، وهو كناية عن عدم صدور اللغو منهم، وقيل اللغو كل ما لم يكن فيه ذكر الله (إلا سلاماً) هو استثناء منقطع أي سلام بعضهم على بعض أو سلام الله أو سلام الملائكة عليهم، وقال الزجاج: السلام اسم جامع للخير، لأنه يتضمن السلامة، والمعنى أن أهل الجنة لا يسمعون ما يؤلمهم؛ وإنما يسمعون ما يسلمهم؛ وأبدى الزمخشري فيه ثلاثة أوجه ذكرها سليمان الجمل.(8/178)
(ولهم رزقهم فيها بكرة وعشياً) قال المفسرون: ليس في الجنة بكرة ولا عشية ولا نهار ولا ليل بل ضوء ونور أبداً، ولكنهم يؤتون رزقهم على مقدار ما يعرفون من الغداء والعشاء في الدنيا، وبه قال ابن عباس وإنما يعرفون الليل بإرخاء الحجب، وغلق الأبواب، والنهار بفتحها ورفع الحجب، كما روي، والرزق في البكرة والعشي، أفضل العيش عند العرب، وقيل أراد دوام الرزق.
أخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول، عن الحسن وأبي قلابة قالا: قال رجل يا رسول الله هل في الجنة من ليل؟ قال " وما هيجك على هذا؟ " قال سمعت الله يذكر في الكتاب: (ولهم رزقهم فيها بكرة وعشياً) فقلت الليل من البكرة والعشي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ليس هناك ليل وإنما هو ضوء ونور يرد الغدو على الرواح والرواح على الغدو، تأتيهم طرف الهدايا من الله بمواقيت الصلاة التي كانوا يصلون فيها في الدنيا وتسلم عليهم الملائكة ".(8/179)
تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا (63)
(تلك الجنة التي نورث من عبادنا من كان تقياً) أي هذه الجنة التي وصفنا أحوالها نورثها ونعطيها وننزل بها من كان من أهل التقوى، كما يتقي على الوارث مال مورثه، ولا يرد كالميراث الذي يأخذه الوارث فلا يرجع فيه المورث، أي نبقيها عليهم من ثمرة تقواهم، قرئ نورث بفتح الواو وتشديد الراء من ورّث مضعفاً وبالتخفيف، وقرأ الأعمش نورثها بإبراز عائد الموصول.
وقيل في الكلام تقديم وتأخير، أي نورث من كان تقياً من عبادنا والوراثة أقوى لفظ يستعمل في التمليك، والاستحقاق من حيث إنها لا تعقب بفسخ ولا استرجاع ولا تبطل بردّ ولا إسقاط، وقيل يورث المتقون من الجنة المساكن التي كانت لأهل النار، لو أطاعوا زيادة في كرامتهم.(8/179)
والآية تدل على أن المتقي يدخلها، وليس فيها دلالة على أن غير المتقي لا يدخلها، وأيضاً صاحب الكبيرة متق عن الكفر(8/180)
وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (64)
(وما نتنزل إلا بأمر ربك) أي قال الله سبحانه قل يا جبريل، وما نتنزل وقتاً غب وقت، إلا بأمر الله على ما تقتضيه حكمته، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استبطأ نزول جبريل عليه حين سألوه في أمر الروح، وأصحاب الكهف، وذي القرنين، فأمر جبريل أن يخبره بأن الملائكة ما تتنزل إلا بأمر الله، قيل احتبس جبريل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعين يوماً، وقيل خمسة عشر، وقيل اثني عشر، وقيل ثلاثة أيام، وقيل إن هذا حكاية عن أهل الجنة، وإنهم يقولون عند دخولها وما نتنزل هذه الجنان إلا بأمر ربك، والأول أولى بدلالة ما قبله، ومعناه يحتمل وجهين:
الأول: وما نتنزل عليك إلا بأمر ربك لنا بالتنزل.
والثاني: وما نتنزل عليك إلا بأمر ربك الذي يأمرك به بما شرعه لك ولأمتك. والتنزل: النزول على مهل فإنه مطاوع نزل بالتشديد وقد يطلق على مطلق النزول كما يطلق نزل المشدد بمعنى أنزل.
وقد أخرج البخاري وغيره، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لجبريل " ما يمنعك أن تزورنا أكثر مما تزورنا؟ " (1) فنزلت هذه الآية إلى آخرها وكان ذلك الجواب لمحمد صلى الله عليه وسلم، وفي الباب روايات تدل على أنه السبب في النزول، ثم أكد جبريل ما أخبر به النبي (صلى الله عليه وسلم) فقال.
(له ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك) أي من الجهات والأماكن أو من الأزمنة الماضية والمستقبلة وما بينهما من الزمان أو المكان الذي نحن فيه، فلا نقدر أن ننتقل من جهة إلى جهة، ومن مكان إلى مكان أو من زمان
_________
(1) البخاري كتاب التوحيد باب 28 - الإمام أحمد 1/ 231.(8/180)
إلى زمان إلا بأمر ربك ومشيئته، وقيل المعنى له ما سلف من أمر الدنيا وما يستقبل من أمر الآخرة. قاله سعيد بن جبير.
وقيل ما أمامنا من أمور الآخرة وما خلفنا من أمور الدنيا وما بين ذلك أي ما يكون من هذا الوقت إلى قيام الساعة، وقيل هو ما بين النفختين قاله قتادة، وقبل الأرض التي بين أيدينا إذا نزلنا والسماء التي وراءنا وما بين السماء والأرض وقيل ما مضى من أعمارنا وما غبر منها؛ والحالة التي نحن فيها وعلى هذه الأقوال كلها يكون المعنى: أن الله سبحانه هو الحيط بكل شيء: لا يخفى عليه خافية ولا يعزب عن علمه مثقال ذرة، فلا نقدم على أمر إلا بإذنه، وقال ما بين ذلك ولم يقل ما بين ذينك لأن المراد ما بين ما ذكرنا كما في قوله سبحانه عوان بين ذلك.
(وما كان ربك نسياً) ناسياً أي لم يَنْسَكَ ولم يتركك وإن تأخر عنك الوحي وقيل المعنى أنه عالم بجميع الأشياء لا ينسى منها شيئاً، وقيل المعنى وما كان ربك ينسى الإرسال إليك عند الوقت الذي يرسل فيه رسله.
أخرج البزار وابن المنذر وابن أبي حاتم، وابن مردويه والطبراني والبيهقي والحاكم وصححه عن أبي الدرداء رفع الحديث، قال: " ما أحل الله في كتابه فهو حلال وما حرم فهو حرام وما سكت عنه فهو عافية فاقبلوا من الله عافيته فإن الله لم يكن لينسى شيئاً ثم تلا: (وما كان ربك نسياً) " (1) ومن حديث جابر عند ابن مردويه مثله.
_________
(1) المستدرك كتاب التفسير 2/ 375.(8/181)
رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65) وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (66) أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا (67) فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (68) ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا (69) ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا (70) وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا (71)(8/182)
رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65)
(رب السماوات والأرض) أي خالقهما (و) خالق (ما بينهما) ومالكهما ومالك ما بينهما ومن كان هكذا فالنسيان محال عليه. وكيف يتصور أن يحوم حول ساحته الغفلة؟ وفيه دليل على أن فعل العبد خلق الله لأنه حاصل بين السماوات والأرض، ثم أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بعبادته، والصبر عليها فقال:
(فاعبده واصطبر لعبادته) الفاء للسببية لأن كونه لا ينساك، وكونه رب العالمين، سبب موجب لأن يعبد، وعدى فعل الصبر باللام دون على التي يتعدى بها لتضمنه معنى الثبات (هل تعلم له سمياً؟) الاستفهام للإنكار، والمعنى أنه ليس له مثل ولا نظير حتى يشاركه في العبادة فيلزم من ذلك أن تكون غير خالصة له سبحانه، فلما انتفى المشارك استحق الله سبحانه أن يفرد بالعبادة وتخلص له هذا مبني على أن المراد بالسَّمِيِّ، هو الشريك في المسمى.
وقيل المراد به الشريك في الاسم، كما هو الظاهر من لغة العرب فقيل المعنى أنه لم يسم شيء من الأصنام ولا غيرها بالله قط يعني بعد دخول الألف واللام التي عوضت عن الهمزة ولزمت أو برب السماوات والأرض. وإليه نحا(8/182)
أبو السعود. والجملة تأكيد لما أفادته الفاء من علية ربوبيته العامة لوجوب تخصيص العبادة به تعالى.
قال الزجاج: تأويله والله أعلم هل تعلم له سمياً يستحق أن يقال له خالق وقادر وعالم بما كان وبما يكون؟ وعلى هذا لا سَمِيّ لله في جميع أسمائه لأن غيره وأن سمي بشيء من أسمائه فلله سبحانه حقيقة ذاك الوصف. والمراد بنفي العلم المستفاد من الإنكار هنا نفي المعلوم على أبلغ وجه وأكمله. وقال ابن عباس: هل تعلم؟ أي تعرف للرب شبهاً أو مثلاً، ليس أحد يسمي الرحمن غيره، وعنه قال: يا محمد هل تعلم لإلهك من ولد؟.(8/183)
وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (66)
(ويقول الإنسان) المراد به ها هنا الكافر لأن الاستفهام هنا للإنكار والاستهزاء والتكذيب بالبعث. قال ابن جريج: الإنسان هو العاص بن وائل. وقيل أبي بن خلف أو الوليد بن المغيرة والنازل فيه الآية، وهذا من قبيل العام الذي أريد به الخاص، وقيل اللام في الإنسان للجنس بأسره، وإن لم يقل هذه المقالة إلا بعضهم، وهم الكفرة فقد يسند إلى الجماعة ما قام بواحد منهم، وعلى كل فلفظ الإنسان لا يشمل المؤمنين.
(أئذا ما مت) قرئ على الاستفهام وعلى الخبر (لسوف أخرج حياً) من القبر كما يقول محمد صلى الله عليه وسلم؟ والاستفهام بمعنى النفي أي لا أحيى بعد الموت، و (حياً) حال مؤكدة لأن من لازم خروجه من القبر أن يكون حياً وهو كقوله: (ويوم أبعث حياً).(8/183)
أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا (67)
(أولا يذكر الإنسان أنا خلقناه) الهمزة للإنكار التوبيخي والواو لعطف الجملة على أخرى مقدرة، أي أيقول ذلك ولا يذكر. وقرئ يذكر بالتخفيف وبالتشديد وأصله يتذكر، وفي قراءة أبي أو لا يتذكر، والمراد بالذكر هنا إعمال الفكر أي ألا يتفكر هذا الجاحد في أول خلقه فيستدل بالإبتداء على الإعادة؟. والابتداء أعجب وأغرب من الإعادة لأن النشأة الأولى هي إخراج لهذه(8/183)
المخلوقات من العدم إلى الوجوب ابتداعاً واختراعاً لم يتقدم عليه ما يكون
كالمثال له، وأما النشأة الآخرة فقد تقدم عليها النشأة الأولى فكانت كالمثال
لها.
ومعنى (من قبل) من قبل بعثه، وقدره الزمخشري من قبل الحالة التي هو عليها الآن وهي حالة بقائه (ولم يك شيئاً) أي والحال أنه لم يكن حينئذ شيئاً من الأشياء أصلاً، فالإعادة بعد أن كان شيئاً موجوداً أسهل وأيسر وأهون. ثم لما جاء سبحانه وتعالى بهذه الحجة التي أجمع العقلاء على أنه لم تكن في حجج البعث حجة أقوى منها أكد بالقسم باسمه سبحانه. مضافاً إلى رسوله تشريفاً له وتعظيماً، أو لأن العادة جارية بتأكيد الخبر بالتمييز فقال:(8/184)
فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (68)
(فوربك لنحشرنهم) أي لنسوقنهم إلى المحشر بعد إخراجهم من قبورهم أحياء كما كانوا (والشياطين) والواو للعطف أو بمعنى مع. والمعنى أن هؤلاء الجاحدين للبعث يحشرهم الله مع شياطينهم الذين أغووهم وأضلوهم في سلسلة، وهذا ظاهر على جعل اللام في الإنسان للعهد وهو الإنسان الكافر، وأما على جعلها للجنس فلكونه قد وجد في الجنس من يحشر مع شيطانه.
(ثم لنحضرنهم حول جهنم) من خارجها قبل دخولها، وقيل في داخلها (جثياً) جمع جاث من قولهم جثا على ركبتيه يجثو جثواً أي جاثين على ركبهم لما يصيبهم من هول الموقف وروعة الحساب، أو يكون الجثي على الركب شأن أهل الموقف كما في قوله سبحانه: وترى كل أمة جاثية.
وقيل المراد بقوله جثياً جماعات وأصله جمع جَثْوة، والجثوة هي المجموع من التراب والحجارة. قال ابن عباس: جثياً قعوداً.(8/184)
ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا (69)
(ثم لننزعن من كل شيعة) أي من كل أمة وفرقة وأهل دين وملة من الكفار. والشيعة الفرقة التي تبعث ديناً من الأديان، وخصص ذلك الزمخشري(8/184)
فقال هي الطائفة التي شاعت أي تبعت غاوياً من الغواة، قال الله تعالى: (إن الذين فرقوا دينهم (1) وكانوا شيعاً) (أيهم أشد (2) على الرحمن عتياً) أي أعصى لله وأعتى وقال ابن عباس: عتياً معصية وعصياً، فإنه ينزع من كل طوائف الغي والفساد أعصاهم وأعتاهم فإذا اجتمعوا طرحهم في جهنم، والعتي هنا مصدر كالعتو وهو التمرد في العصيان، أي عصياناً وجرأة.
وقيل: المعنى لننزعن من أهل كل دين قادتهم ورؤساءهم في الشر، قاله قتادة وفي ذكر الأشد تنبيه على أنه تعالى يعفو عن كثير من أهل العصيان، ولو خص ذلك بالكفرة، فالمراد أنه يميز طوائفهم أعتاهم فأعتاهم ويطرحهم في النار على الترتيب، أو يدخل كُلاًّ طبقته التي تليق به، وللنحويين في إعراب أيهم كلام طويل وأقوال كثيرة أظهرها عند الجمهور من المعربين، وهو مذهب سيبويه أن أيهم موصولة بمعنى الذي وأن حركتها حركة بناء، وأشد خبر مبتدأ مضمر والجملة صلة لأي، وأيهم وصلتها في محل نصب مفعولاً به لننزعن، وعتياً تمييز محول عن المبتدأ المحذوف الذي هو أشد. أي عتوة أشد من عتو غيره.
وعن ابن مسعود قال: يحشر الأول على الآخر حتى إذا تكاملت العدة أثارهم جميعاً، ثم بدأ بالأكابر والأكابر جرماً، ثم قرأ: فوربك لنحشرنهم إلى قوله عتياً
_________
(1) هذا جزء من الآية رقم 159 من سورة الأنعام.
(2) بقية آية مريم رقم 69.(8/185)
ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا (70)
(ثم لنحن أعلم بالذين هم أولى بها صلياً) بكسر الصاد وضمها سبعيتان. قال ابن جريج: يعني أيهم أحق وأولى بالخلود في جهنم، يقال صلى يصلي صلياً، مثل مضى الشيء يمضي مضياً.
قال الجوهري: يقال صليت الرجل ناراً إذا أدخلته النار وجعلته يصلاها، فإن ألقيته إلقاء كأنك تريد الإحراق، قلت أصليته بالنار بالألف، وصلَّيته تصلية، ومنه ويصلى سعيراً، ومن خفف فهو من قولهم: صلى فلان(8/185)
للنار بالكسر يصلى صلياً احترق. قال الله تعالى: (بالذين هم أولى بها صلياً)، ومعنى الآية أن هؤلاء الذين هم أشد على الرحمن عتياً، هم أولى بصليهما أو صليهم، أولى بالنار.(8/186)
وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا (71)
(وإن منكم إلا واردها) الخطاب للناس من غير التفات أو للإنسان المذكور فيكون التفاتاً، وقيل للكفار، وقرئ وإن منهم لمناسبة الآيات التي قبل هذه فإنها في الكفار، وهي قوله: فوربك لنحشرنهم، الآيات وكذلك قرأ عكرمة وجماعة، لكن الأكثرون على أن المخاطب العالم كلهم، والمعنى ما منكم من أحد مسلماً كان أو كافراً إلا واردها أي واصلها وداخلها، والضمير يرجع إلى النار؛ وقيل إلى يوم القيامة والأول أولى.
وقد اختلف الناس في هذا الورود، فقيل الورود الدخول لقوله: لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها، لكنه يختص بالكفار لقراءة وإن منهم، وتحمل القراءة المشهورة على الالتفات ويستثنى الأنبياء والمرسلون، وتكون على المؤمنين برداً وسلاماً، كما كانت على إبراهيم.
وقالت فرقة: الورود هو المرور على الصراط، لأن الصراط ممدود عليها، فيسلم أهل الجنة ويتقاذف أهل النار، وعلى هذا لا يستثنى الأنبياء والمرسلون، بل يمر عليه جميع الخلق. روي ذلك عن ابن عباس وكعب الأحبار والسدي ورواه السدي عن ابن مسعود عن النبي (صلى الله عليه وسلم) والحسن. وعن مجاهد: ورود المؤمن النار هو مس الحمى جسده في الدنيا؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: " الحمى حظ كل مؤمن من النار " (1)، وفيه بعد. وقيل ليس الورود الدخول إنما هو كما تقول وردت البصرة ولم أدخلها، وقد توقف كثير من العلماء عن تحقيق هذا الورود، وحمله على ظاهره لقوله تعالى: (إن
_________
(1) وتتمته: " وحمى ليلة تكفر خطايا سنة مجرمة " ضعيف الجامع الصغير 2795 سلسلة الأحاديث الضعيفة 3532.(8/186)
الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون) قالوا فلا يدخل النار من ضمن الله أن يبعده عنها، وأجابوا عنه بأن معناه أنهم مبعدون عن العذاب فيها والاحتراق بها، فمن دخلها وهو لا يشعر بها ولا يحس منها وجعاً ولا ألماً فهو مبعد عنها.
وقالت فرقة: الورود هو الإشراف والاطلاع والقرب، وذلك أنهم يحضرون موضع الحساب وهو بقرب جهنم فيرونها وينظرون إليها في حالة الحساب، ثم ينجي الله الذين اتقوا مما نظروا إليه ويصار بهم إلى الجنة كما سيأتي، ومما يدل على أن الورود لا يستلزم الدخول قوله تعالى: (ولما ورد ماء مدين) فإن المراد أنه أشرف عليه لا أنه دخل فيه، ولا يخفى أن القول بأن الورود هو المرور على الصراط أو الورود على جهنم وهي خامدة فيه، جمع بين الأدلة من الكتاب والسنة فينبغي حمل هذه الآية على ذلك لأنه قد حصل الجمع بحمل الورود على دخول النار مع كون الداخل من المؤمنين مبعداً من عذابها، أو بحمله على المضي فوق الجسر المنصوب عليها، وهو الصراط.
وأخرج أحمد وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي والحاكم وصححه عن أبي سمية قال: اختلفنا في الورود فقال بعضنا لا يدخلها مؤمن وقال بعضنا يدخلونها جميعاً ثم ننجي الذين اتقوا، فلقيت جابر بن عبد الله فذكرت له فقال -وأهوى بأصبعه إلى أذنيه- صممنا إن لم أكن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " لا يبقى بر ولا فاجر إلا دخلها، فتكون على المؤمن برداً وسلاماً كما كانت على إبراهيم، حتى إن للنار ضجيجاً من بردها(8/187)
ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا (72)
(ثم ننجي الذين اتقوا) " الآية (1). وأسنده أبو عمرو في كتاب التمهيد. وعلى هذا فالورود الدخول؛ وهو قول ابن عباس وخالد بن معدان وابن جريج وغيرهم.
_________
(1) المستدرك كتاب الأحوال 4/ 587.(8/187)
وفي الحديث فتقول النار للمؤمنين: جُزْ يا مؤمن فقد أطفأ نورك لهبي وعن مجاهد قال: خاصم نافع بن الأزرق ابن عباس فقال: الورود الدخول وقال نافع: لا، فقرأ ابن عباس: (إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون) وقال أورود أم لا؟ وقرأ (يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار)، ورود أم لا؟ أما أنا وأنت فسندخلها، فانظر هل نخرج منها أم لا؟ وقرأ ابن مسعود " وإن منكم إلا داخلها " مكان " واردها " وعنه قال ورودها الصراط وقال رجل من الصحابة لآخر: أيقنت بالورود. قال نعم، قال وأيقنت بالصدور قال لا، قال ففيم الضحك وفيم التثاقل.
وأخرج أحمد والترمذي والحاكم وصححه والبيهقي وغيرهم عن ابن مسعود في الآية قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يرد الناس كلهم النار ثم يصدرون منها بأعمالهم، فأولهم كلمح البرق، ثم كالريح، ثم كحضر الفرس، ثم كالراكب المجد في رحله، ثم كشد الرجل في مشية " (1) وقد روى نحوه عنه من طريق، وهو في مسند الدارمي أيضاً. وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " (وإن منكم إلا واردها) يقول مجتاز فيها ".
وأخرج مسلم وغيره عن أم مبشر قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا يدخل النار أحد شهد بدراً والحديبية ". قالت حفصة أليس الله يقول: (وإن منكم إلا واردها) قال " ألم تسمعيه يقول (ثم ننجي الذين اتقوا) ".
وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا يموت لمسلم ثلاث من الولد فيلج النار إلا تحلة القسم؛ ثم قرأ سفيان (وإن منكم إلا واردها) " (2).
_________
(1) المستدرك كتاب الأهوال 4/ 586.
(2) مسلم 2632 - البخاري 671.(8/188)
وأخرج أحمد والبخاري في تاريخه وأبو يعلى والطبراني عن معاذ بن أنس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من جهس من وراء المسلمين في سبيل الله متطوعاً لا يأخذه سلطان لم ير النار بعينيه إلا تحلة القسم، فإن الله يقول: (وإن منكم إلا واردها) " والأحاديث في تفسير هذه الآية كثيرة جداً.
وأما فائدة دخول المؤمنين النار، إذا لم يكن عذاب فَبوُجُوه. أحدها أن ذلك مما يزيدهم سروراً إذا علموا الخلاص منه؛ وثانيها أنَّ فيه مزيد همّ على أهل النار حيث يرون المؤمنين يتخلصون منها وهم باقون فيها، وثالثها أنهم إذا شاهدوا ذلك العذاب على الكفار صار ذلك سبباً لمزيد التذاذهم بنعيم الجنة، ولا نقول صريحاً إن الأنبياء يدخلون النار أدباً معهم، ولكن نقول إن الخلق جميعاً يردونها كما دلت عليه أحاديث الباب، فالعصاة يدخلونها بجرائمهم، والأولياء والسعداء يدخلونها لشفاعتهم، فبين الداخلين بَوْنٌ.
(كان على ربك حتماً مقضياً) أي كان ورودهم المذكور أمراً محتوماً لازماً قد قضى سبحانه أنه لا بد من وقوعه لا محالة بمقتضى حكمته لا بإيجاب غيره عليه قال مجاهد: مقضياً قضاء من الله. وقال عكرمة: قسماً واجباً. قالت الأشاعرة: إن هذا مشبه بالواجب من جهة استحالة تطرق الخلف إليه. وقد استدلت المعتزلة بهذه الآية على أن العقاب واجب على الله، وأن صاحب الكبيرة مخلد، والفاسق مخلد في النار، بدليل أن الله بين أن الكل يردونها، ثم لين صفة من ينجو، وهم المتقون، والفاسق لا يكون متقياً فبقي في النار أبداً.
وأجيب عن ذلك بأن المتقي هو الذي يتقي الشرك، فصاحب الكبيرة متق، فوجب أن يخرج من النار بعموم قوله: (ثم ننجي الذين اتقوا) فالآية التي توهموها دليلا لهم هي من أقوى الدلائل على فساد قولهم، وهذا من حيث البحث وأما من حيث النص فقد وردت أحاديث تدل على إخراج المؤمن الموحد من النار وهي معروفة.(8/189)
ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا (72) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا (73) وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا (74) قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضْعَفُ جُنْدًا (75) وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا (76)
(ثم ننجي) أي نخرج (الذين اتقوا) ما يوجب النار وهو الكفر بالله ومعاصيه وترك ما شرعه؛ وما أوجب العمل به من النار فلا يخلدون بعد أن أدخلوها قرئ ننجي بالتخفيف من أنجى؛ وقرئ بالتشديد وهما سبعيتان (ونذر) أي نترك (الظالمين) الذين ظلموا أنفسهم بفعل ما يوجب النار، أو ظلموا غيرهم بمظلمة في النفس أو المال أو العرض (فيها) أي في النار (جثياً) على الركب جمع جاث، وقد تقدم قريباً. قال ابن عباس جثياً باقين فيها.(8/190)
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا (73)
(وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات) واضحات لا يلتبس معانيها. وقيل ظاهرات الإعجاز، وقيل إنها حجج وبراهين والأول أولى، وهي حال مؤكدة لأن آيات الله لا تكون إلاَّ واضحة، والضمير في عليهم راجع إلى الكفار الذي سبق ذكرهم في قوله (أئذا ما مت لسوف أخرج حياً)، أي هؤلاء إذا قرئ عليهم القرآن تعذروا بالدنيا وقالوا: لو كنتم على الحق وكنا على الباطل لكان حالكم في الدنيا أطيب من حالنا ولم يكن بالعكس: لأن الحكيم لا يليق به(8/190)
أن يهين أولياءه ويعز أعداءه، وقيل: عليهم أي على المؤمنين والأول أظهر، ووضع الظاهر موضع المضمر في قوله: (قال الذين كفروا) للإشعار بأن كفرهم هو السبب لصدور هذا القول عنهم، وقيل المراد بهم هنا هم المتمردون المصرون منهم، والأغنياء المتجملون بالثياب وغيرها.
ومعنى (للذين آمنوا) قالوا لأجلهم، وقيل هي لام التبليغ كما في قوله: (وقال لهم نبيهم) أي خاطبوهم وشافهوهم بذلك، وبلغوا القول إليهم، يعني فقراء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت فيهم قشافة وفي عيشهم خشونة وفي ثيابهم رثاثة وفي منزلهم ضيق، وكان المشركون يرجلون شعورهم ويدهنون رؤوسهم ويلبسون أفخر ثيابهم.
(أي الفريقين) المراد بهما المؤمنون والكافرون، كأنهم قالوا فريقنا (خير مقاماً) أم فريقكم؟ وقرئ بضم الميم، وهو موضع الإقامة أو مصدر بمعناها، وبالفتح منزلاً ومسكناً فهو غير النادي إذ هو متحدث القوم، وقيل هو الموضع الذي يقام فيه بالأمور الجليلة، والمعنى أي الفريقين أكبر جاهاً وأكثر أعوانا وأنصاراً.
وعن مجاهد في الآية قال: قريش تقوله لها ولأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، وقال ابن عباس: مقاماً المنازل (وأحسن ندياً) قال ابن عباس: ندياً المجالس. والنَّدِيُّ والنادي مجلس القوم ومتحدثهم ومجتمعهم. ومنه قوله تعالى: (وتأتون في ناديكم المنكر) وقوله: (فليدع ناديه) أي أهل ناديه. وناداه جالسه في النادي ومنه دار الندوة لأن المشركين كانوا يتشاورون فيها في أمورهم. وقيل هو مشتق من الندى وهو الكرم لأن الكرماء يجتمعون فيه.(8/191)
وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا (74)
(وكم) أي كثيراً (أهلكنا قبلهم من قرن) هي الجماعة والأمة الماضية وهو مفرد لفظاً متعدد معنى (هم أحسن أثاثاً) هو المال أجمع الإبل والغنم والبقر والعبيد والمتاع.
وقيل هو متاع البيت خاصة، وقيل هو الجديد من الفرش، وقيل اللباس خاصة (رئياً) بمعنى المرئي، وهو كالذِّبحْ والطًحْن بمعنى المذبوح والمطحون قرئ بالهمزة، وقرئ بالياء المشددة من رأيت أي هم أحسن منظراً، وبه قال جمهور المفسرين: وحسن المنظر يكون من جهة حسن اللباس وحسن الأبدان وتنعمها أو مجموع الأمرين.
ومعنى القراءة الأولى معنى الثانية، قال الجوهري: من همز جعله من المنظر من رأيت وهو ما رأته العين من حال حسنة وكسوة ظاهرة، ومن لم يهمز إما أن يكون من تخفيف الهمزة أو يكون من رويت ألوانهم وجلودهم رياً أي امتلأت وحسنت، وقد ذكر الزجاج معنى هذا، وقرئ زياً وهو الهيئة والحسن والصورة، ويجوز أن يكون من زويت أي جمعت والزي محاسن مجموعة.(8/192)
قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضْعَفُ جُنْدًا (75)
(قل) أمر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم أن يجيب على هؤلاء المفتخرين بحظوظهم الدنيوية والكفار القائلين للمؤمنين أي الفريقين خير مقاماً وأحسن ندياً بقوله: (من كان) مستقراً (في الضلالة) أي الكفر والجهل والغفلة عن عواقب الأمور، وهذا شرط وجوابه (فليمدد له الرحمن مدّا) في الدنيا يستدرجه، وهذا وإن كان على صيغة الأمر فالمراد به الخبر، وإنما خرج مخرج الأمر لبيان الإمهال منه سبحانه للعصاة، وأن ذلك كائن لا محالة، لينقطع معاذير أهل الضلال، ويقال لهم يوم القيامة (أو لم(8/192)
نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر) أو للاستدراج كقوله سبحانه: (إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً) والتعرض لعنوان الرحمانية لما أن المد من أحكام الرحمة الدنيوية، وذكر لفظ الرحمن في هذه السورة في ستة عشر موضعاً، وقيل المراد بالآية الدعاء بالمد والتنفيس.
قال الزجاج: تأويله أن الله جعل جزاء ضلالته أن يتركه ويمده فيها لأن لفظ الأمر يؤكد معنى الخبر كأن المتكلم يقول أفعل ذلك وآمر به نفسي، وقال مجاهد: معناه فليدعه الله في طغيانه، وفي حرف أبي من كان في الضلالة فإنه يزيده الله ضلالة وطغياناً واستدراجاً بأن يطيل عمره، ويكثر ماله ويمكنه من التصرف فيه.
(حتى) حرف ابتداء وليست جارة ولا عاطفة، قاله الكازروني والشهاب وفي زكريا أنها جارة أي فيستمرون في الطغيان إلى أن يشاهدوا الموعود (إذا رأوا) يعني الذين مد لهم في الضلالة (ما يوعدون) جاء بضمير الجماعة اعتباراً لمعنى (من) كما أن قوله: (من كان في الضلالة فليمدد له) اعتباراً بلفظها، وقيل هذه غاية للمد لا لقول المفتخرين إذ ليس فيه امتداد والغاية في الحقيقة هي قوله: (فسيعلمون) الآن.
(إما العذاب وإما الساعة) هذا تفصيل لقوله: (ما يوعدون) أي هذا الذي يوعدون هو أحد الأمرين إما العذاب في الدنيا بالقتل والأسر كما وقع لهم يوم بدر وإما يوم القيامة وما يحل بهم حينئذ من العذاب الأخروي، فإما حرف تفصيل وهي مانعة خلو تجوز الجمع، والعذاب والساعة بدلان من ما.
(فسيعلمون) جواب إذا أي هؤلاء القائلون أي الفريقين خير مقاماً إذا عاينوا ما يوعدون به من العذاب الدنيوي بأيدي المؤمنين أو الأخروي(8/193)
(من هو شر مكاناً) من الفريقين (وأضعف جنداً) قابل به أحسن ندياً من حيث إن حسن النادي يكون باجتماع وجوه القوم وأعيانهم وظهور شوكتهم واستظهارهم والمعنى فسيعلمون أهم خير؟ وهم وجندهم الشياطين في النار أم المؤمنون وهم في الجنة وعندهم ملائكة الرحمن؟ (ومن) على هذا استفهامية وهو أحد وجهين، ويجوز أن تكون موصولة بمعنى الذي، وليس المراد أن للمفتخرين هنالك جنداً ضعفاء بل لا جند لهم أصلاً، كما في قوله سبحانه: (ولم تكن له فئة ينصرونه من دون الله وما كان منتصراً) ثم لما أخبر سبحانه عن حال أهل الضلالة أراد أن يبين حال أهل الهداية فقال:(8/194)
وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا (76)
(ويزيد الله الذين اهتدوا) بالإيمان (هدى) بما ينزل عليهم من الآيات، وذلك أن بعض الهدى يجر إلى البعض الآخر، والخير يدعو إلى الخير، وقيل: المراد بالزيادة العبادة من المؤمنين، والجملة مستأنفة لبيان حال المهتدين، وقيل الواو للعطف على جملة الشرط المحكية بالقول.
قال الزجاج: المعنى أن الله يجعل جزاء المؤمنين أن يزيدهم يقيناً كما جعل جزاء الكافرين أن يمدهم في ضلالتهم.
(والباقيات الصالحات) أي الطاعات المؤدية إلى السعادة الأبدية التي تبقى لصاحبها (خير عند ربك ثواباً) مما يتمتع به الكفار من النعم الدنيوية التي افتخروا بها (وخير مرداً) هو هنا مصدر كالرد، والمعنى وخير رداً للثواب على فاعلها ليست كأعمال الكفار التي خسروا فيها، والمراد المرجع والعاقبة أي ما يرد إليه ويرجع وهو الجنة وأفعل التفضيل للتهكم بهم على سبيل المشاكلة للقطع بأن أعمال الكفار لا خير فيها أصلاً، ثم أردف سبحانه مقالة هؤلاء المفتخرين بأخرى مثلها على سبيل التعجب فقال:(8/194)
أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا (77) أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (78) كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا (79) وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا (80) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81) كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (82) أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (83) فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا (84) يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا (85)(8/195)
أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا (77)
(أفرأيت الذي كفر بآياتنا) استفهام تعجيب أي أخبرني بقصة هذا الكافر يعني " عاص بن وائل " واذكر حديثه عقب حديث أولئك، وإنما استعملوا: أرأيت بمعنى أخبر لأن رؤية الشيء من أسباب صحة الخبر عنه، والآيات تعم كل آية، ومن جملتها آية البعث والفاء للعطف على مقدر أي أنظرت فرأيت واللام في (وقال لأوتين) هي الموطئة للقسم كأنه قال: والله لأوتين في الآخرة (مالاً وولداً) وهذا من شدة تعنته بكفره أي انظر إلى حال هذا الكافر، وتعجب من كلامه وَتَأَلِّيه على الله مع كفره به وتكذيبه بآياته.
أخرج البخاري ومسلم وغيرهما في الآية من حديث خباب بن الأَرَتّ قال: كنت رجلاً قيناً وكان لي علي العاص بن وائل (1) دين فأتيته أتقاضاه فقال: لا والله لا أقضيك حتى تكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم فقلت والله لا أكفر بمحمد حتى تموت ثم تبعث قال: فإني إذا مت ثم بعثت جئتني ولي ثَمَّ مال وولد فأعطيك فأنزل الله فيه هذه الآية.
وقرئ وُلْداً بضم الواو وبفتحها قيل هما لغتان معناهما واحد يقال ولد وولد كما يقال: عدم وعدم، وقيل بالضم للجمع وبالفتح للواحد، وقد ذهب
_________
(1) هو أبو سيدنا عمرو فهو جد عبد الله بن عمرو أحد العبادلة إهـ منه.(8/195)
الجمهور إلى أن هذا الكافر أراد بقوله: (لأوتين مالاً وولداً) أنه يؤتى ذلك في الدنيا، وقال جماعة في الجنة، قيل والمعنى أن أقمت على دين آبائي لأوتين، وقيل المعنى لو كنت على باطل لما أوتيت مالاً وولداً، ثم أجاب الله سبحانه عن قول هذا الكافر بما يدفعه ويبطله فقال:(8/196)
أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (78)
(أطلع الغيب) بفتح الهمزة الاستفهامية وأطلع متعد بنفسه؛ كقوله: اطلع الجبل، قال المغرب: وليس متعدياً بعلى كما توهمه بعضهم، حتى يكون من الحذف والإيصال لكن في القاموس اطلع عليه فكأنه يتعدى ولا يتعدى، يقال اطلع الجبل إذا ارتقى إلى أعلاه، والمعنى أعلِمَ ما غاب عنه حتى يعلم أنه في الجنة.
(أم اتخذ عند الرحمن عهداً) بذلك أي بأن يؤتى ما قاله فإنه لا يتوصل إلى هذا العلم إلا بإحدى هاتين الطريقتين؛ وقيل المعنى أنظر في اللوح المحفوظ؟ أم اتخذ عند الله عهداً؟ وقيل المعنى أم قال لا إله إلا الله فأرحمه بها ويرجو بها؟ قاله ابن عباس، وقيل المعنى أم قدم عملاً صالحاً فهو يرجوه؟.
(كلا) حرف ردع وزجر أي ليس الأمر على ما قال هذا الكافر من أنه يؤتى المال والولد ولفظة: (كَلَّا) فيها للنحاة ستة مذاهب:
أحدها: وهو مذهب جمهور البصريين كالخليل وسيبويه وأبي الحسن والأخفش وأبي العباس المبرد أنها حرف ردع وزجر وهذا معنى لائق بها حيث وقعت في القرآن وما أحسن ما جاءت في هذه الآية زجرت وردعت ذلك القائل.
والثاني: وهو مذهب النضر بن شميل أنها حرف تصديق بمعنى نعم فتكون جواباً ولا بد حينئذ من أن يتقدمها شيء لفظاً أو تقديراً وقد تستعمل في القسم.
والثالث: وهو مذهب الكسائي وأبى بكر بن الأنباري ونصر بن يوسف وابن واصل أنها بمعنى حقاً.(8/196)
والرابع: وهو مذهب أبي عبد الله الباهلي أنها رد لما قبلها، وهذا قريب من معنى الردع.
الخامس: أنها صلة في الكلام بمعنى أي كذا، قيل وفيه نظر فإن أي حرف جواب، ولكنه مختص بالقسم.
السادس: أنها حرف استفتاح، وهو قول أبي حاتم، قال السمين: ولتقرير هذه المذاهب موضع هو أليق بها قد حققتها بحمد الله فيه. انتهى ..
وذكرت(8/197)
كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا (79)
(كلا) في القرآن في النصف الثاني فقط، وذكرت في خمس عشرة سورة منه كلها مكية، وجملة ما ذكرت ثلاثة وثلاثون مرة، ترجع إلى أقسام ثلاثة، قسم يجوز الوقف عليها، وعلى ما قبلها فيبتدأ بها وهذا باتفاق.
وقسم اختلف فيه هل يجوز الوقف عليها أو يتعين على ما قبلها.
وقسم لا يجوز الوقف عليها باتفاق.
فالقسم الأول: خمسة مواضع اللتان في هذه السورة، واللتان في سورة الشعراء وواحدة في سورة سبأ.
والقسم الثاني: تسعة، واحدة في سورة المؤمنين واثنتان في سورة سأل سائل واثنتان في سورة المدثر. الأولى والثالثة والأولى في سورة القيامة؛ والثانية في سورة ويل للمطففين، والأولى في سورة الفجر والتي في سورة ويل لكل.
والقسم الثالث: هو التسع عشرة الباقية ذكره عز بن جماعة.
(سنكتب) أي سنحفظ عليه (ما يقول) فنجازيه به في الآخرة أو سنظهر له ما يقول ونعلمه أو سننتقم منه انتقام من كتبت معصيته (ونمد له من العذاب مداً) أي نزيده عذاباً فوق عذابه مكان ما يدعيه لنفسه من الإمداد بالمال والولد، أو نطول له من العذاب ما يستحقه، وهو عذاب من جمع بين الكفر والاستهزاء(8/197)
وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا (80)
(ونرثه ما يقول) أي نميته فنرثه المال والولد الذي(8/197)
يقول إنه يؤتاه والمعنى مسمى ما يقول ومصداقه، قاله أبو السعود، وقيل المعنى نحرمه ما تمناه في الآخرة ونعطيه غيره من المسلمين قاله القرطبي.
(ويأتينا) يوم القيامة (فرداً) لا مال له ولا ولد ولا عشيرة، بل نسلبه ذلك فكيف يطمع في أن نعطيه، وقيل المراد بما يقول نفس القول لا مسماه والمعنى إنما يقول هذا القول ما دام حياً، فإذا أَمَتْنَاه حُلْنا بينه وبين أن يقوله، ويأتينا رافضاً له، منفرداً عنه، والأول أولى.(8/198)
وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81)
(واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزاً) حكى سبحانه ما كان عليه هؤلاء الكفار الذين تمنوا ما لا يستحقون وَتَأَلَّوْا على الله سبحانه من اتخاذهم الآلهة من دون الله لأجل أن يتعززوا بذلك.
وقال أبو السعود: حكاية لجناية عامة للكل مستتبعة لضد ما يرجون ترتبه عليها إثر حكاية مقالة الكافر المعهود واستتباعها لنقيض مضمونها. وقال الهروي: معناه ليكونوا لهم أعواناً. وقال الفراء؛ ليكونوا لهم شفعاء عند الله في الآخرة، وقيل معناه ليتعززوا بهم من عذاب الله ويمتنعوا بها.(8/198)
كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (82)
(كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضداً) أي ليس الأمر كما ظنوا وتوهموا؛ والضمير في الفعل إما للآلهة، أي ستجحد هذه الأصنام عبادة الكفار لها يوم ينطقها الله سبحانه لأنها عند أن عبدوها جمادات لا تعقل ذلك، وإما للمشركين، أي سيجحد المشركون أنهم عبدوا الأصنام. ويدل على الوجه الأول قوله تعالى: (ما كانوا إيانا يعبدون) وقوله: (فألقوا إليهم القول إنكم لكاذبون) ويدل على الوجه الثاني قوله تعالى: (والله ربنا ما كنا مشركين).
قرئ كُلاًّ بضم الكاف والتنوين، وهي بمعنى جميعاً، وبالفتح مصدر أي كل هذا الرأي كلا والأصوب أنها حرف ردع وزجر والمعنى تكون هذه الآلهة التي ظنوها عزاً لهم ضداً عليهم، أي ضداً للعز، وضد العز الذل، هذا على الوجه الأول. وأما على الوجه الثاني فيكون المشركون للآلهة ضداً وأعداء(8/198)
يكفرون بها بعد أن كانوا يعبدونها ويحبونها ويؤمنون بها.
قال ابن عباس: عليهم ضداً أعواناً وحسرة، وإنما وحد الضد وإن كان خبراً عن جمع لأحد وجهين إما لأنه مصدر في الأصل، والمصادر موحدة مذكرة، وإما لأنه مفرد في معنى الجمع.(8/199)
أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (83)
(ألم تر أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين) ذكر الزجاج في معنى هذا وجهين: أحدهما أن معناه خلينا بين الكافرين وبين الشياطين فلم نعصمهم منهم ولم نعذهم، بخلاف المؤمنين الذين قيل فيهم: (إن عبادي ليس لك عليهم سلطان) الوجه الثاني: أنهم أرسلوا عليهم وقيضوا لهم بكفرهم كما قال: (ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطاناً) فمعنى الإرسال هنا التسليط، ومن ذلك قوله سبحانه لإبليس: (واستفزز من استطعت منهم بصوتك).
ويؤيد الوجه الثاني تمام الآية وهو قوله: (تؤزهم أزاً) فإن الأز والأزيز والهز والهزيز والاستفزاز أخوات معناها التحريك والتهييج وشدة الإزعاج فأخبر الله سبحانه أن الشياطين تحرك الكافرين وتهيجهم وتغريهم وتغريهم على المعاصي بالتسويلات وتحبيب الشهوات، وذلك هو التسليط لها عليهم.
وقيل معنى الأز الاستعجال وهو مقارب لما ذكرنا لأن الاستعجال تحريك وتهييج واستفزاز وإزعاج، وسياق هذه الآية لتعجيب رسول الله صلى الله عليه وسلم من حالهم وللتنبيه على أن جميع ذلك بإضلال الشياطين وإغوائهم، والجملة حالية من الشياطين، أو من الكافرين أو منهما أو مستأنفة، كأنه قيل ماذا تفعل الشياطين بهم؟.
قال ابن عباس: تؤزهم أزاً تغويهم إغواء، وتحرض المشركين على محمد وأصحابه وقال: تزعجهم إزعاجاً إلى معاصي الله، وفي الآية دليل على أن الله مدبر لجميع الكائنات(8/199)
فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا (84)
(فلا تعجل عليهم) بأن تطلب من الله إهلاكهم بسبب تصميمهم على الكفر وعنادهم للحق وتمردهم عن داعي الله سبحانه حتى تستريح أنت والمؤمنون من شرورهم وتطهر الأرض من فسادهم.(8/199)
ثم علل سبحانه هذا النهي بقوله: (إنما نعد لهم عداً) يعني نعد الأيام والليالي والشهور والسنين من أعمارهم إلى انتهاء آجالهم فلا نهمل ما بقع منهم بل نضبطه عليهم حتى نؤاخذهم به، وقيل نعد أنفاسهم وقيل خطواتهم وقيل لحظاتهم وقيل الساعات.
وقال قطرب: نعد أعمالهم، وقيل المعنى لا تعجل عليهم إنما نؤخرهم ليزدادوا إثماً. قال الشهاب: أن العد كناية عن القلة، ولا ينافي هذا ما مر من أنه يمد لمن كان في الضلالة لأنه بالنسبة لظاهر الحال عندهم وهو قليل باعتبار عاقبته وعند العد. ثم لما قرر سبحانه أمر الحشر وأجاب عن شبهة منكريه أراد أن يشرح حال المكلفين حينئذ فقال:(8/200)
يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا (85)
(يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفداً) أي اذكر يا محمد صلى الله عليه وسلم يوم إلخ. ومعنى الحشر إلى الرحمن حشرهم إلى جنته ودار كرامته، كقوله: إني ذاهب إلى ربي، والوفد جمع وافد كالركب جمع راكب والصحب جمع صاحب يقال وفد يفد وفداً إذا خرج إلى ملك أو أمر خطير. كذا قال الجوهري. وعن ابن عباس قال: وفداً ركباناً.
وعن أبي هريرة قال: على الإبل. وعن علي قال: على نوق. وفي الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يحشر الناس يوم القيامة على ثلاث طرائق، راغبين وراهبين، اثنان على بعير وثلاثة على بعير وأربعة على بعير وعشرة على بعير وتحشر بقيتهم النار تقيل معهم حيث قالوا وتبيت معهم حيث باتوا وتصبح معهم حيث أصبحوا وتمسي معهم حيث أمسوا " والأحاديث في هذا الباب كثيرة جداً (1).
وقيل يركبون من أول خروجهم من القبور. وهو ظاهر الآية. وقيل من منصرفهم من الموقف، وعلى كلا القولين فيستمرون راكبين، حتى يقرعون باب الجنة.
_________
(1) مسلم 2861 - البخاري 2450.(8/200)
وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا (86) لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (87) وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (89) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (90) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا (91) وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا (92)(8/201)
وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا (86)
(ونسوق المجرمين) أي الكافرين بكفرهم كما تساق البهائم (إلى جهنم ورداً) مشاة عطاشاً، والسوق الحث على السير، والورد العطاش، قاله الأخفش وغيره وبه قال ابن عباس وأبو هريرة. وقال الفراء وابن الأعرابي: هم المشاة. وقال الأزهري: هم المشاة العطاش كالإبل ترد الماء. وقيل ورداً أي للورد، كقولك جئتك إكراماً أي للإكرام. وقيل أفراداً. قيل ولا تناقض بين هذه الأقوال فهم يساقون مشاة عطاشاً أفراداً. وأصل الورد الجماعة التي ترد الماء من طير أو إبل أو قوم أو غير ذلك، والورد الماء الذي يورد، وقيل يساقون إلى النار بإهانة واستخفاف كأنهم نَعَمٌ عطاش تساق إلى الماء.(8/201)
لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (87)
(لا يملكون الشفاعة) جملة مستأنفة لبيان بعض ما يكون في ذلك اليوم من الأمور؛ والضمير راجع إلى الفريقين. وقيل للمتقين خاصة وقيل للمجرمين خاصة والأول أولى، والمعنى أنهم لا يملكون أن يشفعوا لغيرهم. وقيل لا يملك غيرهم أن يشفع لهم. والأول أولى.
(إلا من اتخذ عند الرحمن عهداً) هذا الاستثناء متصل على الوجه الأول، أي لا يملك الفريقان المذكوران الشفاعة إلا من تحلى واستأهل واستعد لذلك بما يصير به من جملة الشافعين لغيرهم، بأن يكون مؤمناً متقياً، فهذا معنى اتخاذ العهد عند الله.
وقيل معناه أن الله أمره بذلك، كقولهم: عهد الأمير إلى فلان بكذا إذا(8/201)
أمره به وقال ابن عباس: شهادة أن لا إله إلا الله ويبرأ من الحول والقوة ولا يرجو إلا الله. وعنه قال: " من مات لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة " وقيل غير ذلك.
وأما على الوجه الثاني فالاستثناء منقطع لأن التقدير لا يملك المجرمون الشفاعة إلا من اتخذ عند الرحمن عهداً، وهم المسلمون والأول أوجه، وبه جزم البيضاوي كالكشاف. وقيل متصل على هذا الوجه أيضاً، والتقدير لا يملك المجرمون الشفاعة إلا من كان منهم مسلماً، ودلت الآية على حصول الشفاعة لأهل الكبائر.
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من أدخل على مؤمن سروراً فقد سرني، ومن سرني فقد اتخذ عند الرحمن عهداً فلا تمسه النار، إن الله لا يخلف الميعاد ".
وأخرج الطبراني في الأوسط عن أبي هريرة قال، قال رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) " من جاء بالصلوات الخمس يوم القيامة قد حافظ على وضوئها ومواقيتها وركوعها وسجودها لم ينقص منها شيئاً، جاء وله عند الله عهد أن لا يعذبه، ومن جاء قد انتقص منها شيئاً فليس له عند الله عهد إن شاء رحمه وإن شاء عذبه ".(8/202)
وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا (88)
(وقالوا اتخذ الرحمن ولداً) قرئ بفتح الواو وضمها كما تقدم، والجملة مستأنفة لبيان قول اليهود والنصارى. ومن يزعم من العرب أن الملائكة بنات الله(8/202)
لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (89)
(لقد جئتم شيئاً إدًّا) فيه التفات من الغيبة إلى الخطاب، وفيه رد لهذه المقالة الشنعاء، والإد كما قال الجوهري: الداهية والأمر الفظيع، وكذلك الإدة، وجمع الإِدةَّ إدَد؛ يقال أدت فلاناً الداهية تَؤُدُّه بالضم وتئده بالكسرِ وَتأده بالفتح إذا دهته وقرئ بالفتح، وقرأ الجمهور بالكسر، وقرئ آداً مثل ماداً، وهي مأخوذة من الثقل، يقال آده الحمل يؤوده إذا أثقله.(8/202)
قال الواحدي: إدّاً أي عظيماً في قول الجميع، وبه قال ابن عباس. والمعنى قلتم قولاً منكراً عظيماً، وقيل الِأدُّ العجب والِأدَّة الشدة والمعنى متقارب. والتركيب يدور على الشدة والثقل.(8/203)
تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (90)
(تكاد السماوات يتفطرن منه) قرئ بالتحتية وبالفوقية، وقرئ يتفطرون من الانفطار، واختاره أبو عبيد لقوله: (إذا السماء انفطرت) وقوله: (السماء منفطر به) وقرأ ابن مسعود يتصدعن؛ والانفطار والتفطر التشقق.
(وتنشق الأرض) كرر الفعل للتأكيد لأن يتفطرن وتنشق معناهما واحد أي تخسف بهم.
(وتخر) أي تسقط وتنهدم (الجبال هداً) قال ابن عباس: هداً هدماً. لأن الشرك فزعت منه السماوات والأرض والجبال وجميع الخلائق إلا الثقلين، وكادت تزول منه لعظمة الله سبحانه، وكما لا ينفع مع الشرك إحسان المشرك، كذلك نرجو أن يغفر الله ذنوب الموحدين. وانتصاب (هداً) على أنه مصدر مؤكد لأن الخُرُور في معناه، أو هو مصدر لفعل مقدر، أي وَتنهدّ هداً أو على الحال أي مهدودة أو على أنه مفعول له أي لأنها تنهد.
قال الهروي: هدني الأمر وهد ركني أي كسرني وبلغ مني، قال الجوهري: هد البناء يهده هداً كسره وضعضعه؛ وَهَدَّته المصيبة أوهنت ركنه، وانْهَدَّ الجبل أي انكسر، والْهَدُ صوت وَقْعِ الحائط كما قال ابن الأعرابي.(8/203)
أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا (91)
(أن) أي لأن (دعوا) أو من أجل أن جعلوا (للرحمن ولداً) وقال الكسائي: هو بتقدير الخافض، وقيل في محل رفع على أنه فاعل هداً، أي هدها دعاء الولد، والدعاء بمعنى التسمية، أي سموا للرحمن ولداً، أو بمعنى النسبة، أي نسبوا له ولداً(8/203)
وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا (92)
(و) الحال أنه (ما ينبغي) أو لا يصلح (للرحمن) ولا يليق به (أن يتخذ ولداً) لاستحالة ذلك عليه لأن الولد يقتضي الجنسية والحدوث.(8/203)
إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93) لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا (95) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا (96) فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا (97) وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا (98)(8/204)
إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93)
(إن كل من في السماوات والأرض) أي ما كل من فيهما (إلا) وهو (آتي الرحمن) وَجَّد آتي وآتيه الأتي حملاً على لفظ (كل) وهو اسم فاعل مَن أتى وهو مستقبل، أي يأتيه يوم القيامة (عبداً) مقراً بالعبودية خاضعاً ذليلاً منهم عزير وعيسى، كما قال (وكل أتوه داخرين) أي صاغرين، والمعنى أن الخلق كلهم عبيده، فكيف يكون واحد منهم ولداً له؟ وقرئ آت على الأصل(8/204)
لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94)
(لقد أحصاهم) أي حصرهم بعلمه، وَعَلِمَ عَدَدَهم وأحاط بهم (وعدهم عداً) أي عد أشخاصهم وأنفاسهم وأفعالهم وأيامهم وآثارهم بعد أن حضرهم، فلا يخفى عليه أحد منهم ولا شيء من أمورهم.(8/204)
وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا (95)
(وكلهم) أي كل واحد منهم تحت قهره وقدرته وتدبيره (آتيه يوم القيامة فرداً) أي وحيداً ولا ناصراً له ولا مال معه، كما قال سبحانه (يوم لا ينفع مال ولا بنون). ثم ذكر الله سبحانه من أحوال المؤمنين بعض ما خصهم به بعد ذكره لقبائح الكافرين فقال:(8/204)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا (96)
(إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن وداً) الجمهور من السبعة وغيرهم على ضم الواو، وقرئ بكسرها وفتحها، أي حباً في قلوب عباده يجعله لهم من دون أن يطلبوه بالأسباب التي توجب ذلك، كما يقذف في قلوب أعدائهم الرعب، وهذا الجعل في الدنيا، والسين للدلالة على أن ذلك لم يكن من قبل وأنه مجعول من بعد نزول الآية، لأن المؤمنين كانوا(8/204)
بمكة حال نزول هذه الآية وكانوا ممقوتين حينئذ بين الكفرة فوعدهم الله تعالى بذلك إذا ظهر الإسلام فألف الله تعالى بين قلوب المؤمنين، ووضع فيها المحبة، أو في القيامة حين تعرض حسناتهم على رؤوس الأشهاد فينزع ما في صدورهم من الغل.
وعن ابن عباس قال: نزلت في علي بن أبي طالب، والمعنى محبة في قلوب المؤمنين. وعن البراء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعليّ: " قل اللهم اجعل لي عندك عهداً واجعل لي عندك وداً واجعل لي في صدور المؤمنين مودة " فأنزل الله الآية في عليّ. أخرجه ابن مردويه والديلمي.
وعن ابن عباس قال: محبة في الناس في الدنيا، وعن علي قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن هذه الآية ما هو؟ قال: " المحبة الصادقة في صدور المؤمنين ".
وثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إذا أحب الله عبداً نادى جبريل أني قد أحببت فلاناً فأحبه، فينادى في السماء، ثم ينزل المحبة في أهل الأرض، فذلك قوله: (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن وداً) وإذا أبغض الله عبداً نادى جبريل أني قد أبغضت فلاناً، فينادي في أهل السماء ثم ينزل البغضاء في الأرض " والأحاديث والآثار في هذا الباب كثيرة (1).
ثم ذكر سبحانه تعظيم القرآن، خصوصاً هذه السورة لاشتمالها على التوحيد والنبوة وبيان حال المعاندين فقال:
_________
(1) مسلم 2637 - البخاري 1515.(8/205)
فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا (97)
(فإنما يسرناه) أي القرآن بإنزالنا له (بلسانك) أي على لغتك(8/205)
العربية؛ وفصلناه وسهلناه والباء بمعنى على والفاء لتعليل كلام يساق فإليه النظم الكريم كأنه قيل بلغ هذا المنزل أو بشر به وأنذر به فإنما يسرناه، الآية، ثم علل ما ذكره من التيسير فقال: (لتبشر به المتقين) أي المتلبسين بالتقوى المتصفين بها (وتنذر به قوماً لدّاً) ولو أنزلناه بغيرها لم يتيسر التبشير ولا الإنذار لعدم فهم المخاطبين لغير العربية، واللُّدّ جمع الألد وهو الشديد الخصومة، ومنه قوله تعالى (ألد الخصام) وقال أبو عبيدة: الألد الذي لا يقبل الحق، ويدعي الباطل، وقيل اللُّدُّ الصُّمُّ وقيل الظَّلَمَة، وقال ابن عباس: لُدَّاً فجاراً، وعن الحسن قال: صماً يعني عن الحق.(8/206)
وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا (98)
(وكم أهلكنا قبلهم من قرن) أي أمة وجماعة من الناس؛ وفي هذا وعد لرسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) بهلاك الكافرين ووعيد لهم وتخويف وإنذار.
(هل تحس منهم من أحد) هذه الجملة مقررة لمضمون ما قبلها أي هل تشعر بأحد من القرون أو تراه أو تجد أو تعلم، والإحساس الإدراك بالحاسة والحواس خمس والحس والحسيس الصوت الخفي (أو تسمع لهم ركزاً) الركز: الخفاء والصوت الخفي ومنه ركز الرمح، إذا غيب طرفه في الأرض وقال اليزيدي وأبو عبيدة: الركز ما لا يفهم من صوت أو حركة، وقال سعيد ابن جبير: هل ترى منهم من أحد ركزاً صوتاً، وبه قال ابن عباس.
والمعنى لما أتاهم عذابنا لم يبق شخص يُرى ولا صوت يسمع، يعني هلكوا كلهم، قال الحسن: بادواء جميعاً فلم يبق منهم عين ولا أثر، يعني هكذا هؤلاء إن أعرضوا عن تدبر ما أنزل عليك فعاقبتهم الهلاك، فَلْيَهُنْ عليك أمرهم، والله أعلم بالصواب.(8/206)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة طه
(آياتها مائة وخمس وثلاثون آية أو أربعون واثنتان)
قال القرطبي: مكية في قول الجميع، وبه قال ابن عباس وابن الزبير. وقال السيوطي في الاتقان: استثني منها (فاصبر على ما يقولون).
وأخرج ابن مردويه عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " كل القرآن يوضع عن أهل الجنة فلا يقرأون منه شيئا إلا سورة طه ويس فإنهم يقرأون بهما في الجنة " وعن أنس بن مالك فذكر قصة عمر بن الخطاب مع أخته وخباب. وقراءتهما طه وكان ذلك سبب إسلام عمر والقصة مشهورة في كتب السير.(8/207)
بسم الله الرحمن الرحيم
طه (1) مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى (2) إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى (3) تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى (4) الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى (6) وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى (7) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى (8) وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (9) إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى (10)(8/209)
طه (1)
(طه) قد اختلف أهل العلم في معنى هذه الكلمة على أقوال:
الأول: أنها من المتشابه الذي لا يفهم المراد به.
والثاني: أنها بمعنى يا رجل في لغة عكل، وفي لغة عك (1)، قال الكلبي: لو قلت لرجل من عك يا رجل لم يجب حتى تقول طه، وقيل إنها في لغة عك بمعنى يا حبيبي. وقال قطرب: هي كذلك في لغة طيء، أي بمعنى يا رجل، وكذا قال الحسن وعكرمة، وقيل هي كذلك في اللغة السريانية حكاه المهدوي، وحكى ابن جرير أنها كذلك في اللغة النبطية، وبه قال السدي وسعيد بن جبير، وحكى عن عكرمة أنها كذلك في لغة الحبشة ولا مانع من أن تكون هذه الكلمة موضوعة لذلك المعنى في تلك اللغات كلها إذا صح النقل.
الثالث: أنها اسم من أسماء الله سبحانه.
الرابع: أنها اسم للنبي صلى الله عليه وسلم.
الخامس: أنها اسم للسورة.
_________
(1) عك قبيلة من قبائل العرب، إهـ خازن.(8/209)
السادس: أنها حروف مقطعة كل واحد منها على معنى، ثم اختلفوا في هذه المعاني التي تدل عليها هذه الحروف، على أقوال كلها متكلفة متعسفة.
السابع: أن معناها طوبى لمن اهتدى.
الثامن: أن معناها طأ الأرض يا محمد قال ابن الأنباري: وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتحمل مشقة الصلاة حتى كادت قدماه تتورم ويحتاج إلى التروح، فقيل له: طأ الأرض أي لا تتعب حتى تحتاج إلى التروض.
وحكى القاضي عياض في الشفاء عن الربيع بن أنس قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا صلى قام على رجل ورفع الأخرى فأنزل الله طه يعني طأ الأرض يا محمد، وعن الحسن البصري أنه قرأ: طه، على وزن دع أمر بالوطء والأصل طأ فقلبت الهمزة هاء.
التاسع: أنه قسم أقسم الله بطوله وهدايته، وعن أكثر المفسرين أن معناها يا رجل يريد النبي صلى الله عليه وسلم وهو قول الحسن وعكرمة وسعيد بن جبير والضحاك وقتادة ومجاهد وابن عباس غير أن بعضهم يقول: إنها بلسان الحبشة والنبطية والسريانية ويقول الكلبي. هي بلغة عك كما مر.
قال ابن الأنباري: ولغة قريش وافقت تلك اللغة في هذا المعنى لأن الله سبحانه لم يخاطب نبيه صلى الله عليه وسلم بلسان غير قريش انتهى وإذا تقرر أنها لهذا المعنى في لغة من لغات العرب كانت ظاهرة المعنى، واضحة الدلالة؛ خارجة عن فواتح السور، التي قدمنا بيان كونها من المتشابه في فاتحة سورة البقرة وهكذا إذا كانت لهذا المعنى في لغة من لغات العجم، واستعملتها العرب في كلامها في ذلك المعنى كسائر الكلمات العجمية التي استعملتها العرب الموجودة في الكتاب العزيز، فإنها صارت بذلك الاستعمال من لغة(8/210)
العرب، قال النسفي: وما روي أن معناه يا رجل فإن صح فظاهر وإلا فالحق ما هو المذكور في سورة البقرة، انتهى ولذا قال المحلى والله أعلم بمراده بذلك.(8/211)
مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى (2)
(ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى) مستأنفة مسوقة لتسلية رسول الله صلى الله عليه وسلم عما كان يعتريه من جهة المشركين من التعب، والشقاء يجيء في معنى التعب وشائع فيه.
قال ابن كيسان: وأصل الشقاء في اللغة التعب والعناء، ولعله عدل إليه للإشعار بأنه أنزل عليه ليسعد والمعنى ما أنزلنا عليك يا محمد القرآن لتتعب بفرط تأسفك عليهم وعلى كفرهم وتحسرك على أن يؤمنوا إذ ما عليك إلا أن تبلغ، فهو كقوله سبحانه: (فلعلك باخع نفسك).
قال النحاس: بعض النحاة يقول هذه اللام في لتشقى لام النفي وبعضهم يقول لام الجحود، وقال ابن كيسان: هي لام الخفض وهذا التفسير للآية على قول من قال إن طه كسائر فواتح السور التي ذكرت تعديداً لأسماء الحروف، وإن جعلت اسماً للسورة كان قوله ما أنزلنا الخ خبراً عنها.
وأما على أن معناها يا رجل أو بمعنى الأمر بوطء الأرض فتكون الجملة مستأنفة أيضاً مسوقة لصرفه (- صلى الله عليه وسلم -) عما كان عليه من المبالغة في العبادة.
وعن ابن عباس قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم أول ما أنزل عليه الوحي كان يقوم على صدر قدميه إذا صلى فأنزل الله طه، الآية، وعنه قال: قالوا: لقد شقي هذا الرجل بربه فأنزل الله هذه الآية، وعنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل يربط نفسه بحبل لئلا ينام فأنزل الله هذه الآية، وعن علي كان يراوح بين قدميه يقوم على كل رجل حتى نزلت هذه الآية وحسن السيوطي إسناده.(8/211)
وانتصاب(8/212)
إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى (3)
(إلا تذكرة) على أنه مفعول له لأنزلنا، كقولك: ما ضربتك للتأديب إلا إشفاقاً عليك، وقال الزجاج: هو بدل لتشقى، أي ما أنزلناه إلا تذكرة، وأنكره أبو علي الفارسي من جهة أن التذكرة ليست الشقاء، قال: وإنما هو منصوب على المصدرية أي أنزلناه لتذكر به تذكرة أو على المفعول من أجله أي ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى به ما أنزلناه إلا للتذكرة، وقيل الاستثناء منقطع لأن التذكرة ليست من جنس الشقاء المنفي أي لكن أنزلناه عظة.
(لمن يخشى) أي لمن خاف الله أو لمن يؤول أمره إلى الخشية أو لمن في قلبه خشية ورقة يتأثر بالإنزال. أو لمن علم الله أنه يخشى بالتخويف منه فإنه المنتفع، وكأنه يشير إلى أن اللام في لمن للعاقبة(8/212)
تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى (4)
(تنزيلاً ممن خلق الأرض والسماوات العلى) أي أنزلناه تنزيلاً، أو بدل من تذكرة، أو منصوب على المدح أو يخشى تنزيلاً من الله أو على الحال وبالرفع على معنى هذا تنزيل وتخصيص خلق الأرض والمسموات لكونهما أعظم ما يشاهده العباد من مخلوقاته عز وجل، والعلى جمع العليا أي المرتفعة كجمع كبرى وصغرى على كُبَر وصُغَر، وفي الآية إخبار لعباده عن كمال عظمته سبحانه وعظيم جلاله.(8/212)
الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5)
(الرحمن على العرش) هو في اللغة السرير، وقيل هو ما علا فأظل وسمي مجلس السلطان عرشاً اعتباراً بعلوه (استوى) استواء يليق به، قال ثعلب: الاستواء الإقبال على الشيء. وكذا قال الزجاج والفراء، وقيل هو كناية عن الملك والعز والسلطان، وأما استوى بمعنى استقر، فقد رواه البيهقي في كتاب الأسماء والصفات بروايات كثيرة عن جماعة من السلف وضعفها كلها.
وعن مالك: الاستواء غير مجهول والكيف غير معقول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة؛ قال البغوي: أهل السنة يقولون الاستواء على العرش صفة الله بلا كيف يجب على الرجل الإيمان به ويكل العلم به إلى الله عز(8/212)
وجل، وعن الثوري والأوزاعي والليث وابن عيينة وابن المبارك وغيرهم في أمثال هذه الآيات التي جاءت في الصفات أقروها كما جاءت بلا كيف وفيه مذهبان.
الأول: القطع بكونه تعالى متعالياً عن المكان والجهة وعدم الخوض في تأويلها وبه قال الخازن واختاره.
الثاني: الخوض فيه على التفصيل، وفيه قولان:
الأول: العرش في كلامهم هو السرير الذي يجلس عليه الملك، فإذا استقام له ملكه، واطرد أمره ونفذ حكمه قالوا استوى على عرشه واستوى على سرير ملكه قاله القفال، قال الخازن: والذي قاله حق وصواب والمراد منه نفاذ القدرة وجريان المشيئة، ويدل على صحة هذا قوله في سورة يونس. (ثم استوى على العرش يدبر الأمر) فقوله يدبر الأمر جرى مجرى التفسير لقوله: ثم استوى على العرش.
الثاني: أن يكون استوى بمعنى استولى، وهذا مذهب المعتزلة وجماعة من المتكلمين، واحتجوا عليه بقول الشاعر.
قد استوى بشر على عراق ... من غير سيف ودم مهراق
ورد هذا بأن العرب لا تعرف استوى بمعنى استولى، وإنما يقال استوى فلان على كذا إذا لم يكن في ملكه، ثم ملكه واستولى عليه، والله تعالى لم يزل مالكاً للأشياء كلها ومستولياً عليها، فأي تخصيص للعرش هنا دون غيره من المخلوقات؛ وقال أبو الحسن الأشعري: المعنى أن الله مستو على عرشه وأنه فوق الأشياء بائن منها ولا تحله ولا يحلها ولا يماسها ولا يشبهها.
وعن ابن الأعرابي: جاءه رجل فقال: ما معنى هذه الآية؟ قال: إنه مستو على عرشه كما أخبر فقال الرجل إنما معنى قوله: استوى استولى فقال له(8/213)
ابن الأعرابي: ما يدريك العرب لا تقول استوى فلان على الشيء، حتى يكون له فيه مضاد فأيهما غلب؟ قيل لمن غلب قد استولى عليه والله تعالى لا مضاد له فهو على عرشه كما أخبر، لا كما يظنه البشر، وقد تقدم الكلام على هذه الآية في سورة الأعراف وفيه رسائل مستقلة وكتب مفردة للحفاظ والمحدثين ونزاع قديم بين المتقدمين والمتأخرين.
والحق ما ذهب إليه سلف الأمة وأئمتها من إمرار الصفات على ظاهرها من غير تكييف ولا تعطيل ولا تمثيل ولا تحريف ولا تشبيه ولا تأويل، والذي ذهب إليه أبو الحسن الأشعري أنه سبحانه مستو على عرشه بغير حدّ ولا كيف وإلى هذا القول سبقه الجماهير من السلف الصالح من الصحابة والتابعين وتابعيهم والمجتهدين الأربعة وأهل الحديث والأثر، الذين يمرون الصفات كما وردت من دون تحريف ولا تعطيل ولا تأويل والبحث في تحقيق هذا يطول جداً وليس هذا موضع بسط ذلك رداً وتعقباً وقد أوضحنا ذلك إيضاحاً شافياً في رسائلنا (الانتقال الرجيح) و (هداية السائل) و (بغية الرائد) (1) وغيرها فليرجع إليها قاله الشوكاني.
_________
(1) يسر الله لنا طبعها.(8/214)
لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى (6)
(له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما) من الموجودات؛ وقيلِ يعني الهواء (وما تحت الثرى) هو في اللغة التراب الندي فإن لم يكن ندياً فهو تراب ولا يقال له حينئذ ثرى، أي ما تحت التراب النديّ من شيء، والمراد الأرضون السبع لأنها تحته.
قال الواحدي: والمفسرون يقولون: إنه سبحانه أراد الثرى الذي تحت الصخرة التي عليها الثور الذي تحت الأرض، ولا يعلم ما تحت الثرى إلا الله سبحانه. قال قتادة: الثرى كل شيء مبتل.(8/214)
وأخرج أبو يعلى عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل ما تحت هذه الأرض؟ قال: " الماء "، قيل فما تحت الماء؟ قال: " ظلمة "، قيل فما تحت الظلمة؟ قال: " الهواء " قيل فما تحت الهواء، قال: " الثرى "، قيل فما تحت الثرى، قال: " انقطع علم المخلوقين عند علم الخالق ". وأخرج ابن مردويه عنه نحوه بأطول منه.(8/215)
وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى (7)
(وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى) الجهر بالقول هو رفع الصوت به، والسر ما حدَّث به الإنسان غيره وأسره إليه، والأخفى من السر هو ما حدّث به الإنسان نفسه وأخطره بباله، والمعنى أن تجهر بذكر الله ودعائه فاعلم أنه غني عن ذلك فإنه يعلم السر وما هو أخفى من السر فلا حاجة لك إلى الجهر بالقول، وفي هذا معنى النهي عن الجهر كقوله سبحانه: (واذكر ربك في نفسك تضرعاً وخيفة) وقيل السر ما أسر الإنسان في نفسه، والأخفى منه هو ما خفي على ابن آدم مما هو فاعله وهو لا يعلمه. وبه قال ابن عباس، وزاد فإنه يعلم ذلك كله فيما مضى من ذلك وما بقى علم واحد؛ وجميع الخلائق عنده في ذلك كنفس واحدة، وهو كقوله (ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة).
وقيل السر ما أضمره الإنسان في نفسه والأخفى منه ما لم يكن ولا أضمره أحد، وقيل السر سر الخلائق، والأخفى منه سر الله عز وجل، وأنكر ذلك ابن جرير وقال: إن الأخفى ما ليس في سر الإنسان وسيكون في نفسه. وعن ابن عباس أيضاً قال: السر ما علمته أنت، وأخفى ما قذف الله في قلبك مما لم تعلمه، وفي لفظ: يعلم ما تسر في نفسك ويعلم ما تعمل غداً.
وفي الآية تنبيه على أن الذكر والدعاء والجهر فيهما ليس لإعلام الله تعالى وإسماعه، بل لغرض آخر كتصوير النفس بالذكر ورسوخها فيه ودفع الشواغل والوساس، ومنعها عن الاشتغال بغيره، وهضمها بالتضرع والجؤار(8/215)
ثم ذكر أن الموصوف بالعبادة على الوجه المذكور هو الله سبحانه المتنزه عن الشريك المستحق لتسميته بالأسماء الحسنى فقال:(8/216)
اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى (8)
(الله) أي الموصوف بهذه الصفات الكمالية الله، وجملة (لا إله إلا هو) مستأنفة لبيان اختصاص الإلهية به سبحانه أي لا إله في الوجود إلا هو وهكذا جملة (له الأسماء الحسنى) مبينة لاستحقاقه تعالى لها وهي التسعة والتسعون، التي بها ورد الحديث الصحيح، وقد تقدم بيانها في سورة الأعراف؛ والحسنى تأنيث الأحسن فهي اسم تفضيل يوصف به الواحد من المؤنث والجمع من المذكر ثم قرر سبحانه أمر التوحيد الذي إليه انتهى مساق الحديث، بذكر قصة موسى المشتملة على القدرة الباهرة والخبر الغريب فقال:(8/216)
وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (9)
(وهل أتاك حديث موسى) الاستفهام للتقرير؛ ومعناه أليس قد أتاك؟ وقيل معناه قد أتاك، وقال الكلبي: لم يكن قد أتاه حديث موسى إذ ذاك، وفي سياق هذه القصة تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم لما يلاقيه من مشاق أحكام النبوة وتحمل أثقالها ومقاساة خطوبها وأن ذلك شأن الأنبياء قبله، وأنه أمر مستمر فيما بينهم كابراً عن كابر، والمراد بالحديث القصة الواقعة لموسى.(8/216)
إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى (10)
(إذ رأى ناراً) أي اذكر وقت رؤيته ناراً، وقيل أي حين رأى ناراً كان كيت كيت، وكانت رؤيته للنار في ليلة مظلمة مثلجة شاتية شديدة البرد لما خرج مسافراً إلى أمه بعد استئذانه لشعيب وكانت ليلة الجمعة.
(فقال لأهله امكثوا) المراد بالأهل هنا امرأته، وهي بنت شعيب واسمها صفورا، وقيل صفوريا، وقيل صفورة واسم أختها ليا، وقيل شرقا وقيل عبدا واختلف في التي تزوجها هل هي الصغرى أو الكبرى، والجمع لظاهر لفظ الأهل، أو للتفخيم، وقيل المراد بهم المرأة والولد والخادم،(8/216)
والمعنى أقيموا مكانكم، وذلك في مسيرة من مدين طالباً مصر، ولما قضى الأجل الذي جعله عليه شعيب وبينها وبين مصر ثمان مراحل، وعبر بالمكث دون الإقامة لأنها تقتضي الدوام والمكث ليس كذلك.
(إني آنست ناراً) أي أبصرت يقال آنست الصوت سمعته وآنست الرجل أبصرته، وقيل الإيناس الإبصار البَيِّن، ومنه إنسان العين لأنه يبصر به الأشياء وقيل هو الوجدان وقيل الإحساس فهو أعم من الإبصار وقيل الإيناس مختص بإبصار ما يؤنس، والجملة تعليل للأمر بالمكث ولما كان الإتيان بالقبس ووجود الهدى متوقعين بني الأمر على الرجاء فقال:
(لعلّي) لعدم الجزم بوفاء الوعد (آتيكم) أجيئكم (منها) أي من النار (بقبس) هو الجذوة والشعلة من النار في رأس عود أو قصبة أو فتيلة ونحوها وهو فَعَل بمعنى مفعول كالقَبَض والنَقَض بمعنى المقبوض والمنقوض وكذا المقياس يقال قبست منه ناراً أقبس قبساً فأَقْبَسَني أي أعطاني وكذا اقْتَبَسْتُ، قال اليزيدي: أَقْبَسْتُ الرجلَ علما وَقَبَسْتُهُ ناراً ففرقوا بينهما هذا قول المبرد، فإن كنت طلبتها له قلت: أقبسته، وقال الكسائي: أقبسته ناراً وعلماً سواء قال: وقبسته أيضاً فيهما.
(أو) لمنع الخلو وهو الظاهر دون الجمع (أجد على النار) وحرف الاستعلاء للدلالة على أن أهل النار مستعلون على أقرب مكان إليها كما قال سيبويه (هدى) أي هادياً يهديني إلى الطريق، ويدلني عليها، قاله ابن عباس وكان أخطأها لظلمة الليل، قال الفراء: أراد هادياً، فذكره بلفظ المصدر، أو عبر بالمصدر لقصد المبالغة على حذف المضاف أي ذا هدى ولعله لم يقل قوماً يهدونني كما في الكشاف إذ لا دليل على فوق الواحد.(8/217)
فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى (11) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (12) وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى (13) إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (14) إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى (15) فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى (16) وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى (17) قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى (18) قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى (19) فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى (20)(8/218)
فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى (11)
(فلما أتاها) أي النار التي أنسها (نودي) من الشجرة كما هو مصرح بذلك في سورة القصص أي من جهتها وناحيتها، قيل كانت الشجرة سمرة خضراء وقيل كانت من عوسج وقيل كانت العليق وقيل شجرة من العقاب والله أعلم بما كان.
وقيل لم يكن الذي رآه ناراً، بل كان نوراً وذكر بلفظ النار، لأن موسى حسبه ناراً، وقيل هي النار بعينها، وهي إحدى حجب الرب سبحانه، ويدل له ما روي عن أبي موسى الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " حجابه النار، لو كشفها لأهلكت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه " (1) أخرجه مسلم.
(يا موسى) أي نودي من الشجرة، فقيل يا موسى وهذا أول الكلمات بينه وبين الله تعالى، وسيأتي آخرها وهو قوله: (أن العذاب على من كذب وتولى)؛ وهذا بالنسبة لهذه الواقعة، وهذه الحالة وإلا فله مكالمات أخر قاله سليمان الجمل ولما نودي موسى، قال: من المتكلم فقال الله تعالى:
_________
(1) مسلم 179.(8/218)
إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (12)
(إني أنا ربك) فعرف أنه كلام الله تعالى وليس هذا النداء والخطاب هو الذي وقع فيه الصعقة ودك الجبل كما تقدم ذكره في سورة الأعراف، بل هذا غيره؛ إذ هذا أول بدء رسالته، وذاك إنما كان بعد غرق فرعون حين أعطاه الله التوراة.
(فاخلع نعليك) أمره الله سبحانه بخلع نعليه تعظيماً، لأن الحفوة أبلغ في التواضع وأقرب إلى التشريف والتكريم وحسن التأدب. وقيل معناه انزعهما لتصيب قدميك بركة الوادي المقدس، والأول أولى، قيل ومن ثَم طاف السلف بالكعبة حافين.
قال النسفي: والقرآن يدل على أن ذلك احترام للبقعة وتعظيم لها، فخلعهما وألقاهما من وراء الوادي انتهى، وقيل لأنهما كانا من جلد حمار ميت أو من جلد مدبوغ، قاله علي وابن مسعود، وروي عن السدي وقتادة، وقيل معنى الخلع لهما تفريغ القلب من الأهل والمال وهو من بدع التفاسير، ثم علل سبحانه الأمر بالخلع فقال:
(إنك بالواد المقدس) أي المطهر، والمبارك والقدس الطهارة، والأرض المقدسة الطهرة، سميت بذلك لأن الله تعالى أخرج منها الكافرين وعمرها بالمؤمنين (طوى) اسم للوادي، قال الجوهري: هو اسم موضع بالشام يكسر طاؤه ويضم ويصرف ولا يصرف، فمن صرفه وجعله اسم واد ومكان جعله نكرة، ومن لم يصرفه جعله بلدة وبقعة وجعله معرفة، وقيل طوى كثني من الطي مصدر لنودي أو للمقدس، أي نودي نداءين أو قدس مرة بعد أخرى، قال ابن عباس: يعني الأرض المقدسة وذلك أنه مر بواديها ليلاً فطوى، يقال طويت وادي كذا وكذا، وقيل طوى واد مستدير عميق، مثل المطوي في استدارته.(8/219)
وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى (13)
(وأنا اخترتك) بالإفراد وقرئ إنَّا اخْتَرْنَاكَ بالجمع، قال النحاس: والأول أولى لأنها أشبه بالخط وأولى بنسق الكلام، لقوله: (يا موسى إني أنا ربك)(8/219)
والمعنى اصطفيتك بالنبوة والرسالة، فنبأه وأرسله في ذلك الوقت وفي ذلك المكان، وكان عمره حينئذ أربعين سنة.
(فاستمع لما يوحى) إليك مني أو للوحي، وفيه نهاية الهيبة والجلال له كأنه قال لقد جاءك أمر عظيم فتأهب له.(8/220)
إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (14)
(إنني أنا الله لا إله إلا أنا) ثم أمره بالعبادة فقال: (فاعبدني) لأن اختصاص الإلهية به سبحانه موجب لتخصيصه بالعبادة (وأقم الصلاة) خصها بالذكر مع كونها داخلة تحت الأمر بالعبادة لكونها أشرف طاعة وأفضل عبادة وعلل الأمر بإقامة الصلاة بقوله: (لذكري) أي لتذكرني، فإن الذكر الكامل لا يتحقق إلا في ضمن العبادة والصلاة، أو المعنى لتذكرني فيهما لاشتمالهما على الأذكار أو لذكري إياك أو لذكري خاصة لا تشوبه بذكر غيري، أو لأمري بها في الكتاب وذكري إياها، أو لتكون ذاكراً إلى غير ناس، وقيل لأوقات ذكري وهي مواقيت الصلاة، أو المعنى أقم الصلاة متى ذكرت أن عليك صلاة وقيل لذكر صلاتي.
وفي الصحيحين وغيرهما من حديث أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إذا رقد أحدكم عن الصلاة أو غفل عنها فليصلها إذا ذكرها، فإن الله قال: (أقم الصلاة لذكري) (1).
وأخرج الترمذي وابن ماجة وابن حبان وغيرهم من حديث أبي هريرة قال. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من نسي صلاة فليصلها إذا ذكرها، فإن الله قال: (أقم الصلاة لذكري) " (2). وكان ابن شهاب يقرؤها للذكرى، وقيل المعنى لأذكرك بالمدح في عليين، فالمصدر على هذا يحتمل الإضافة إلى الفاعل أو إلى المفعول. وقيل لإخلاص ذكري وطلب وجهي، ولا ترائي فيها، ولا تقصد بها غرضاً آخر.
_________
(1) مسلم 684 - البخاري 384.
(2) الترمذي كتاب الصلاة الباب 16 - 17 - ابن ماجة كتاب الصلاة الباب 10.(8/220)
إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى (15)
(إن الساعة) أي التي هي وقت الحساب والعقاب (آتية) أي كائنة وحاصلة لا محالة فاعمل الخير من عبادة الله والصلاة، وهذا تعليل لما قبله من الأمر (أكاد) أي أريد، قاله الأخفش. وقيل صلة (أخفيها) قال الواحدي: قال أكثر المفسرين: أخفيها من نفسي، وهو قول سعيد بن جبير ومجاهد وقتادة. وقال المبرد وقطرب: هذا على عادة مخاطبة العرب، يقولون إذا بالغوا في كتمان الشيء: كتمته حتى من نفسي، أي لم أطلع عليه أحداً.
ومعنى الآية أن الله تعالى بالغ في اخفاء الساعة فذكره بأبلغ ما تعرفه العرب والمعنى في إخفائها التهويل والتخويف؛ وكذلك المعنى في إخفاء وقت الموت على الإنسان ليكون على حذر، تقديم الْوَجَل في كل وقت.
وقد روي عن سعيد بن جبير أنه قرأ أخفيها بفتح الهمزة، ومعناه أظهرها، قال النحاس: وأجود من هذا ما روي عنه أنه قرأها بضم الهمزة، قال الفراء: معناه على الفتح أكاد أظهرها من خفيت الشيء إذا أظهرته، أخفيه.
قال القرطبي: قال بعض اللغويين يجوز أن يكون أخفيها بضم الألف معناه أظهرها، لأنه يقال خفيت الشيء وأخفيته من حروف الأضداد يقع على الستر والإظهار، قال أبو عبيدة: خفيت وأخفيت بمعنى واحد، قال النحاس وهذا أحسن، وليس المعنى على أظهرها ولا سيما وأخفيها قراءة شاذة، فكيف ترد القراءة الصحيحة الشائعة، وقال ابن الأنباري: في الآية تفسير آخر، وهو أن الكلام ينقطع على (أكاد) وبعده مضمر، أي أكاد آتي بها، ووقع الابتداء بأخفيها إلى آخره، واختار هذا النحاس.
وقال أبو علي الفارسي: هو من باب السلب وليس من الأضداد، ومعنى أخفيها أزيل عنها خفاءها وهو سترها، ومن هذا قولهم اشكيته أي أزلت شكواه وعن الأخفش أن كاد زائدة للتأكيد، قال: ومثله إذا أخرج يده لم يكد يراها، قال والمعنى أقارب ذلك لأنك إذا قلت كاد زيد يقوم جاز أن(8/221)
يكون قام: وأن يكون لم يقم، ودل على أنه قد أخفاها بدلالة غير هذه الآية على هذا.
(لتجزى كل نفس بما تسعى) أي بسعيها، والسعي وإن كان ظاهراً في الأفعال فهو هاهنا يعم الأفعال، والتُّرُوك للقطع بأن تارك ما يجب عليه معاقب بتركه مأخوذ به.(8/222)
فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى (16)
(فلا يصدنك عنها) أي لا يصرفنك عن الإيمان بالساعة والتصديق بها أو عن ذكرها ومراقبتها وهذا أولى وأليق بشأن موسى عليه السلام، وإن كان النهي بطريق التهييج والإلهاب.
وقيل الضمير للصلاة بعيد وهو (من لا يؤمن بها) من الكفرة، وهذا النهي وإن كان للكافر بحسب الظاهر فهو في الحقيقة نهي له صلى الله عليه وسلم عن الانصداد أو عن إظهار اللين للكافرين، فهو من باب لا أريتك ههنا، كما هو معروف.
(واتبع هواه) أي هوى نفسه بالانهماك في اللذات الحسية الفانية، وفي إنكار الساعة (فتردى) أي فتهلك لأن انصدادك عنها لصد الكافرين لك مستلزم للهلاك ومستتبع له.(8/222)
وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى (17)
(وما تلك بيمينك يا موسى) قال الزجاج والفراء: إن تلك اسم ناقص، وُصِلَتْ بيمينك أي ما التي بيمينك. وروي عن الفراء أنه قال: تلك بمعنى هذه ولو قال ما ذلك لجاز، أي ما ذلك الشيء، وبالأول قال الكوفيون. قال الزجاج: ومعنى السؤال عن العصا التنبيه له عليها لتقع المعجزة بها بعد التثبيت فيها والتأمل لها، قال الفراء: ومقصود السؤال تقرير الأمر حتى يقول موسى هي عصاي لتثبيت الحجة عليه بعدما اعترف، وإلا فقد علم الله ما هي في الأزل. وقيل السؤال للتوطين لئلا يهول انقلابها حية، أو للإيناس ورفع الهيبة للمكالمة.(8/222)
قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى (18)
(قال هي عصاي) وقرئ عصي على لغة هذيل قال ابن عباس:(8/222)
أعطاه ملك من الملائكة إذ توجه إلى مدين فكانت تضيء له بالليل ويضرب بها الأرض فيخرج له النبات، ويهش بها على غنمه ورق الشجر. وعن قتادة: كانت تضيء له بالليل، وكانت عصا آدم عليه السلام ورثها شعيب وأعطاها لموسى بعد أن زوَّجه ابنته. قيل وكان لها شعبتان وفي أسفلها سنان ولها محجن واسمها تبعة (أتوكأ) أي أتحامل (عليها) في المشي وأعتمدها عند الإعياء والوقوف على قطيع الغنم وعند الوثوب والنهوض للقيام، ومنه الاتكاء.
(وأهش بها على غنمي) هش بالعصا يهش هشاً إذا خبط بها الشجر ليسقط منه الورق، أي أضرب بها الشجر فيتساقط منه الورق على غنمي؛ قاله عكرمة. وقد روي نحو هذا عن جماعة من السلف.
وقرأ النخعي أهس بالسين المهملة، وهو زجر الغنم، وكذا قرأ عكرمة، وقيل هما لغتان بمعنى واحد، ولما ذكر تفصيل منافع العصا عقبه بالإجمال فقال: (ولي فيها مآرب) أي حوائج (أخرى) قاله مجاهد وقتادة، وأحدها مأرُبة مثلت الراء، كذا قال ابن الأعرابي وقطرب، والقياس أُخر، وإنما قال أخرى رداً إلى الجماعة أو لنسق الأخرى، ولما ذكر بعضها شكراً أجمل الباقي حياء من التطويل أو ليسأل عنها الملك العلام فيزيد في الإكرام ويتلذذ بالخطاب.
وقد تعرض قوم لتعداد منافع العصا فذكروا من ذلك أشياء، منها قول بعض العرب:
عصاي أركزها لصلاتي وأعدها لعداتي وأسوق بها دابتي وأقوى بها على سفري وأعتمد عليها في مشيتي ليتسع خطوي، وأثب بها النهر وتؤمنني العثر وألقي عليها كسائي فتقيني الحر وتدفيني من القر وتدني إلى ما بعد مني، وهي تحمل سفرتي وعلاقة أدواتي، أعصي (1) بها عند الضراب وأقرع بها الأبواب وأقي بها عقور الكلاب، وتنوب عن الرمح في الطعان وعن السيف عند منازلة الأقران ورثتها عن أبي وأورثها بعدي بني. أهـ.
_________
(1) يقال عصى بالسيف يعْصى إذا ضرب به، أ. هـ صحاح.(8/223)
وقال الشوكاني: قد وقفت على مصنف في مجلد لطيف في منافع العصا لبعض المتأخرين. وذكر فيه أخباراً وأشعاراً وفوائد لطيفة ونكتاً رشيقة، وقد جمع الله سبحانه لموسى في عصاه من البراهين العظام والآيات الجسام ما أمن به من كيد السحرة ومعرة المعاندين، واتخذها سليمان لخطبته وموعظته وطول صلاته، وكان ابن مسعود صاحب عصاة النبي صلى الله عليه وسلم وعنزته؛ وكان يخطب بالقضيب وكذلك الخلفاء من بعده، وكان عادة العرب العرباء أخذ العصا والاعتماد عليها عند الكلام وفي المحافل والخطب.
وقال بعضهم: إمساك العصا سنة الأنبياء وزينة الصلحاء وسلاح على الأعداء وعون الضعفاء وغم المنافقين وزيادة في الطاعات.
ويقال إذا كان مع المؤمن العصا يهرب منه الشيطان ويخشع منه المنافق والفاجر وتكون قبلته إذا صلى وقوته إذا أعيا.(8/224)
قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى (19)
(قال ألقها يا موسى) هذه جملة مستأنفة أمره سبحانه بإلقائها ليريه ما جعل له فيها من المعجزة الظاهرة(8/224)
فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى (20)
(فألقاها) أي طرحها موسى على الأرض (فإذا هي حية تسعى) ولم تكن قبل ذلك حية، فمرت بشجرة فأكلتها ومرت بصخرة فابتلعتها، فجعل موسى يسمع وقع الصخرة في جوفها قاله ابن عباس، وذلك بقلب الله سبحانه لأوصافها وأعراضها حتى صارت حية تسعى، أي تمشي بسرعة وخفة على بطنها.
قيل كانت عصا ذات شعبتين فصار الشعبتان فماً وباقيها جسم حية تنتقل من مكان إلى مكان وتلتقم الحجارة مع عظم جرمها وفظاعة منظرها، وقال في موضع آخر كأنها جان. وهي الحية الصغيرة الجسم الخفيفة، وقال في موضع آخر كأنها ثعبان، وهو أكبر ما يكون من الحيات، ووجه الجمع أن الحية اسم جامع للكبير والصغير والذكر والأنثى.
وقيل كانت في عظم الثعبان وسرعة الجان. وقيل سماها جاناً تارة نظراً للمبدأ وثعباناً مرة باعتبار المنتهى، وحية تارة أخرى باعتبار الاسم الذي يعم الحالين فلما رآها كذلك خاف وفزع وولى مدبراً ولم يعقب فنودي أن يا موسى.(8/224)
قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى (21) وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى (22) لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى (23) اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (24) قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي (28) وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي (29) هَارُونَ أَخِي (30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا (33) وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا (34) إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا (35) قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى (36) وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى (37)
و(8/225)
قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى (21)
(قال) سبحانه عند ذلك (خذها ولا تخف) منها (سنعيدها سيرتها) أي حالتها (الأولى) قال ابن عباس: فلم يأخذها، ثم نودي الثانية أن خذها ولا تخف فلم يأخذها، فقيل له في الثالثة إنك من الآمنين فأخذها.
قال الأخفش والزجاج: التقدير إلى سيرتها مثل واختار موسى قومه. قال: ويجوز أن يكون مصدراً لأن معنى سنعيدها سنسيرها، أو سائرة أو مسيرة، والمعنى سنعيدها بعد أخذك لها إلى حالتها الأولى التي هي العصوية، والأولى تأنيث الأول، والسيرة الحالة التي يكون عليها الإنسان غريزية أو مكتسبة، وهي في الأصل فِعْلة من السير كالرِّكْبَة من الركوب، ثم استعملت بمعنى الحالة والطريقة والهيئة.
قيل إنه لما قيل له لا تخف طابت نفسه حتى بلغ من عدم الخوف إلى أن كان يدخل يده في فمها ويأخذ بلحييها، قال المحلي وأرى ذلك موسى لئلا يجزع إذا انقلبت حية لدى فرعون.(8/225)
وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى (22)
(واضمم يدك) اليمنى بمعنى الكف لا بمعنى حقيقتها، وهي الأصابع إلى المنكب (إلى جناحك) قال الفراء والزجاج: جناح الإنسان عضده.(8/225)
وبه قال مجاهد وقال إلى بمعنى تحت وقال قطرب: جنبه، وعبر بالجناح عن الجنب لأنه في محل الجناح. وقال مقاتل: إلى بمعنى مع، أي مع جناحك الأيسر تحت العضد إلى الأبط.
وجواب الأمر (تخرج) يدك خلاف ما كانت عليه من الأدمة حال كونها (بيضاء) نيرة مشرقة كائنة.
(من غير سوء) أي عيب كنى به عن البرص، ويسمى هذا عند أهل البيان الاحتراس، وهو أن يؤتى بشيء يرفع توهم غير المراد، وذلك أن البياض قد يراد به البرص والبهق، فأتى بقوله: (من غير سوء) نفياً لذلك.
والمعنى تخرج بيضاء ساطعاً نورها تضيء بالليل والنهار كضوء الشمس، تغشي البصر من غير برص، وبه قال ابن عباس.
(آية) أي معجزة (أخرى) غير العصا. وقال الأخفش: أنها بدل من بيضاء، قال النحاس. وهو قول حسن، وقال الزجاج: المعنى آتيناك أو نؤتيك آية أخرى، لأنه لما قال: (تخرج بيضاء) دل على أنه قد آتاه آية أخرى، ثم علل سبحانه ذلك بقوله:(8/226)
لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى (23)
(لنريك من آياتنا الكبرى) قيل والتقدير فعلنا ذلك لنريك، والكبرى معناها العظمى، أي لنريك بهاتين الأيتين يعني اليد والعصا بعض آياتنا الكبرى على رسالتك فلا يلزم أن تكون، اليد هي الآية الكبرى وحدها حتى تكون أعظم من العصا، فيرد على ذلك أنه لم يكن في اليد إلا تغير اللون فقط بخلاف العصا فإن فيها مع تغير اللون الزيادة في الحجم وخلق الحياة والقدرة على الأمور الخارقة ومن قال هي اليد قال لأنها لم تعارض أصلاً، وأما العصا فقد عارضها السحرة، والأول أولى.
ثم صرح سبحانه بالغرض المقصود من هذه المعجزات فقال:(8/226)
اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (24)
(اذهب) رسولاً (إلى فرعون) ومن معه بهاتين الآيتين: العصا واليد،(8/226)
وانظر رسالته لبني إسرائيل من أين تؤخذ، قال بعضهم: تؤخذ من قوله: (وأنا اخترتك) أي للنبوة والرسالة، وخصه بالذكر لأن قومه تبع له، ثم علل ذلك بقوله.
(إنه طغى) أي عصى وتمرد وتكبر وكفر وتجبر وتجاوز الحد في كفره إلى ادعاء الإلهية.(8/227)
قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25)
(قال رب اشرح لي صدري) مستأنفة كأنه قيل فماذا قال موسى، ومعنى شرح الصدر توسيعه، تضرع عليه السلام إلى ربه وأظهر عجزه بقوله: " ويضيق صدري ولا ينطلق لساني "(8/227)
وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26)
(ويسر لي أمري) أي سهل عليّ ما أمرتني به من تبليغ الرسالة إلى فرعون، والتيسير معناه التسهيل.
قال الزمخشري: فإن قلت (لي) من قوله: (اشرح لي صدري ويسر لي أمري) ما جدواه، والكلام منتظم بدونه؟ قلت قد أبهم الكلام أولاً فقال: اشرح لي ويسر لي، فعلم أن ثم مشروحاً وميسراً، ثم بين ورفع الإبهام بذكرهما فكان آكد لطلب الشرح لصدره والتيسير لأمره، ويقال يسرت له كذا ومنه هذه الآية وتيسرته لكذا، ومنه فسنيسره لليسرى.(8/227)
وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي (27)
(واحلل عقدة من لساني) يعني العجمة التي كانت فيه من أثر الجمرة التي ألقاها في فيه وهو طفل، أي أطلق عن لساني العقدة التي فيه، قيل أذهب الله سبحانه تلك العقدة جميعها بدليل قوله: (قد أوتيت سؤلك يا موسى) وقيل لم تذهب كلها لأنه لم يسأل حل عقدة لسانه بالكلية، بل سأل حل عقدة تمنع الإفهام بدليل قوله من لساني، أي كائنة من عند لساني، ويؤيد ذلك قوله هو أفصح مني لساناً، وقوله حكاية عن فرعون ولا يكاد يبين.
وجواب الأمر قوله:(8/227)
يَفْقَهُوا قَوْلِي (28)
(يفقهوا قولي) أي لكي يفهموا كلامي عند تبليغ الرسالة، والفقه في كلام العرب الفهم، ثم خص به علم الشريعة، والعالم به فقيه. قاله الجوهري.(8/227)
وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي (29)
(واجعل لي وزيراً من أهلي) أي معيناً وظهيراً، والوزير الموازر(8/227)
كالأكيل المواكل لأنه يحمل عن السلطان وزره أي ثقله. قال الزجاج: واشتقاقه في اللغة من الوزر وهو الملجأ الذي يعتصم به لينجي من الهلكة، ومنه قوله تعالى: (كلا لا وزر) والوزير الذي يعتمد الملك على رأيه في الأمور ونلتجئ إليه. وقال الأصمعي: هو مشتق من الموازرة وهي المعاونة، نقله الزمخشري عن الأصمعي(8/228)
هَارُونَ أَخِي (30)
(هارون أخي) وكان أكبر من موسى وأفصح لساناً وأجمل وأوسم، وكان موسى آدم أقنى جعداً.(8/228)
اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32)
(اشدد به أزري وأشركه في أمري) على صيغة الدعاء أي يا رب أحكم به قوتي واجعله شريكي في أمر الرسالة، والأزر القوة، يقال آزره أي قواه، وقيل الظهر أي اشدد به ظهري، وقرئ أشدد بهمزة قطع وأشركه بضم الهمزة، أي أشدد أنا به أزري وأشركه أنا في أمري.
قال ابن عباس: نبئ هارون ساعتئذ حين نبئ موسى.(8/228)
كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا (33)
(كي نسبحك كثيراً ونذكرك كثيراً) هذا الذكر والتسبيح هما الغاية من الدعاء المتقدم، والمراد التسبيح هنا باللسان. وقيل المراد به الصلاة(8/228)
إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا (35)
(إنك كنت بنا بصيراً) هو المبصر والعالم بخفيات الأمور وهو المراد هنا، أي إنك كنت بنا عالماً في صغرنا فأحسنت إلينا فأحسن أيضاً كذلك الآن. ثم أخبره الله سبحانه بأنه قد أجاب ذلك الدعاء.(8/228)
قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى (36)
(قال قد أوتيت سؤلك يا موسى) أي أعطيت ما سألته منا عليك، والسؤل المسؤول، أي المطلوب، كقولك خبز بمعنى مخبوز، ومسؤوله هو قوله رب اشرح لي؛ وزيادة قوله يا موسى لتشريفه بالخطاب مع رعاية الفواصل.(8/228)
وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى (37)
(ولقد مننا عليك مرة أخرى) كلام مستأنف لتقوية قلب موسى بتذكيره نعم الله عليه، والمن الإحسان والإفضال، والمعنى ولقد أحسنا إليك قبل هذه المرة وهي حفظ الله سبحانه له من شر الأعداء كما بينه سبحانه هنا، وأخرى تأنيث آخر بمعنى غير، وحاصل ما ذكره من المنن عليه من غير سؤال ثمانية.(8/228)
إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى (38) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي (39) إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى (40) وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41) اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي (42) اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43)
الأولى: قوله:(8/229)
إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى (38)
(إذ أوحينا إلى أمك ما يوحى) إلى قوله: (عدو له) أي مننا ذلك الوقت وقت الإيحاء، والمراد به إما مجرد الإلهام لأمه واسمها يوحانذ، قاله السيوطي في شرح النقابة؛ أو في النوم بأن أراها ذلك، أو على لسان نبي أو على لسان ملك لا على طريق النبوة، كالوحي إلى مريم، أو بإخبار الأنبياء المتقدمين بذلك وانتهى الخبر إليها؛ والمراد بما يوحى ما سيأتي من الأمر لها أبهمه أولاً وفسره ثانياً تفخيماً لشأنه بقوله:(8/229)
أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي (39)
(أن) مفسرة لأن الوحي فيه معنى القول، أو بأن (اقذفيه في التابوت فاقذفيه في اليم) القذف هنا الطرح، أي اطرحيه في البحر، واليم البحر والنهر الكبير. قال الفراء: هذا أمر وفيه المجاراة، أي اقذفيه، والتابوت الصندوق.
(فليلقه اليم بالساحل) الأمر للبحر مبني على تنزيله منزلة من يفهم ويميز لا كان إلقاؤه بالساحل أمراً واجب الوقوع، وهذا أمر معناه الخبر وإنما(8/229)
جيء به بصيغة الأمر مبالغة، إذ الأمر أقطع الأفعال وآكدها، والساحل هو شط البحر، سمي ساحلاً لأن الماء سحله قال ابن دريد: والمراد هنا ما يلي الساحل من البحر لا نفس الساحل، والضمائر كلها لموسى لا للتابوت، وإن كان قد ألقي معه، لكن المقصود هو موسى مع كون الضمائر قبل هذا وبعده له قال السدي: اليم هو النيل.
(يأخذه عدو لي وعدو له) جواب الأمر بالإلقاء أو القذف، والمراد بالعدو فرعون، فإن أم موسى لما ألقته في البحر، وهو النيل المعروف: وكان يخرج منه نهر إلى دار فرعون، فساقه الله في ذلك النهر إلى داره؛ فأخذ التابوت فوجد موسى فيه. وقيل أن البحر ألقاه بالساحل فنظره فرعون فأمر من يأخذه. وقيل وجدته ابنة فرعون، والأول أولى، والمنة الثانية قوله:
(وألقيت عليك محبة مني) أي ألقى الله على موسى محبة عظيمة كائنة من الله تعالى في قلوب عباده لا يراه أحد إلا أحبه وقيل جعل عليه سبحة من جمال لا يراه أحد من الناس إلا أحبه وقال ابن جرير: المعنى وألقيت عليك رحمتي وقيل المعنى أحببتك؛ ومن أحبه الله أحبه الناس، والقلوب لا محالة. قال ابن عباس: كل من رآه ألقيت عليه منه محبة، وعن سلمة بن كهيل قال: حببتك إلى عبادي، والمنة الثالثة قوله:
(ولتصنع على عيني) أي ولتربّى وتغذَّى بمرأى مني، ويحسن إليك وأنا مراعيك ومراقبك كما يراعي الإنسان الشيء بعينه إذا اعتنى به. قاله الزمخشري والعين هنا بمعنى الرعاية مجاز مرسل من إطلاق السبب على المسبب، يقال صنع الرجل جاريته إذا رباها، وصنع فرسه إذا داوم على علفه والقيام عليه، وتفسير (على عيني) بمرأى مني صحيح. قال النحاس: وذلك معروف في اللغة ولكن لا يكون في هذا تخصيص لموسى فإن جميع الأشياء بمرأى من الله. وقال أبو عبيدة: وابن الأنباري: أن المعنى لتغذى على محبتي وإرادتي، تقول أتخذ الأشياء على عيني أي على محبتي قال ابن الأنباري: العين في هذه الآية يقصد(8/230)
بها قصد الإرادة والاختيار: من قول العرب: عدا فلان على عيني أي على المحبة مني، قيل أي فعلت ذلك لتصنع.
وقيل أي ولتصنع على عيني قدرنا مشي أختك، والعين أيضاً من ألفاظ الصفات فلا تؤَوَّل وَتُجْزى على ظاهرها وهو الأولى، وقرئ ولتصنع بإسكان اللام على الأمر وقرئ بفتح التاء والمعنى ولتكون حركتك وتصرفك بمشيئتي، وعلى عين مني، وقال الزمخشري قريباً منه.(8/231)
إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى (40)
(إذ تمشي أختك) وكانت شقيقته واسمها مريم وصيغة المضارع لحكاية الحال الماضية (فتقول هل أدلكم على من يكفله) وذلك أنها خرجت متعرفة لخبره فوجدت فرعون وامرأته آسية يطلبان له مرضعة فقالت لهما هذا القول أي هل أدلكم على من يضمه إلى نفسه ويربيه ويكمل له رضاعه؟ وكانت أمه قد أرضعته ثلاثة أشهر؛ وقيل أربعة قبل إلقائه في اليم، فقالا لها ومن هو؟ قالت أمي، فقالا: هل لها لبن، قالت نعم ابن أخي هارون أكبر من موسى بسنة، وقيل بأكثر فجاءت الأم فقبل ثديها وكان لا يقبل ثدي مرضعة غيرها وهذا هو معنى: (فرجعناك إلى أمك).
وفي مصحف أبيّ فرددناك وهذه هي المنة الرابعة.
(كي تقر عينها) بلقائك قال الجوهري: قررت به عيناً قرة وقروراً ورجل قرير العين وقد قرت عينه تقر وتقر نقيض سخنت، والمراد بقرة العين السرور برجوع ولدها إليها بعد أن طرحته في البحر وعظم فراقه عليها (ولا تحزن) حيئنذ أي لا يحصل لها ما يكدر ذلك السرور من الحزن بسبب من الأسباب، ولو أراد الحزن بالسبب الذي قرت عنها بزواله لقدم نفي الحزن على قرة العين فيحمل هذا النفي على ما يحصل بسبب يطرأ بعد ذلك، ويمكن أن يقال إن الواو لما كانت لمطلق الجمع كان هذا الحمل غير متعين، قال البيضاوي: ولا تحزن أنت يا موسى على فراقها وفقد إشفاقها وهو تعسف.(8/231)
والمنة الخامسة قوله: (وقتلت نفساً) المراد بالنفس هنا نفس القبطي الذي وكزه موسى فقضى عليه واسمه (قاب قان) وكان طباخاً لفرعون وكان قتله له خطأ وكان عمره إذ ذاك اثنتي عشرة سنة، وقيل ثلاثين سنة (فنجيناك من الغم) أي الغم الحاصل معك من قتله خوفاً من العقوبة الأخروية أو الدنيوية أو منهما جميعاً، وقيل من جهة فرعون لا من جهة قتله لأنه كان كافراً وأيضاً قتله له كان خطأ، وقيل الغم هو القتل بلغة قريش وما أبعده هذا.
والمنة السادسة قوله: (وفتناك فتوناً) الفتنة تكون بمعنى المحنة وبمعنى الأمر الشاق، وكل ما يبتلى به الإنسان، والفتون مصدر كالثبور والسكون والكفور أي اختبرناك اختباراً وابتليناك ابتلاء أو فتوناً من الابتلاء على أنه جمع فتن أو فتنة على ترك الاعتداد بتاء التأنيث كحجوز في حجزة، وبدور في بدرة أي خلصناك مرة بعد مرة مما وقعت فيه من المحن التي سبق ذكرها قبل أن نصطفيك لرسالتنا أولها أن أمه حملته في السنة التي كان فرعون يذبح فيها الأطفال ثم إلقاءه في البحر في التابوت، ثم منعه من الرضاع إلا من ثدي أمه، ثم أخذه بلحية فرعون حتى هم بقتله؛ ثم تناوله الجمرة بدل الجوهر، ثم قتله القبطي وخروجه إلى مدين خائفاً.
وقد أخرج عبد بن حميد والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبن مردويه عن ابن عباس أثراً طويلاً في تفسير هذه الآية فمن أحب استيفاء ذلك فلينظر في كتاب التفسير من سنن النسائي ولعل المقصود بذكر تنجيته من الغم الحاصل له بذلك السبب وتنجيته من المحن هو الامتنان عليه بصنع الله سبحانه وتقوية قلبه عند ملاقاة ما سيقع له من ذلك مع فرعون وبني إسرائيل.
والمنة السابعة قوله: (فلبثت سنين في أهل مدين) قال الفراء: تقدير الكلام وفتناك فتوناً فخرجت إلى أهل مدين فلبثت سنين ومثل هذا الحذف(8/232)
كثير في التنزيل، وكذا في كلام العرب، فإنهم يحذفون كثيراً من الكلام إذا كان المعنى معروفاً، ومدين هى بلد شعيب، وكانت على ثمان مراحل من مصر هرب إليها موسى فأقام بها عشرين سنة وهى أتم الأجلين وقيل أقام عند شعيب ثمانية وعشرين سنة، منها عشر مهر امرأته ابنة شعيب، ومنها ثماني عشرة سنة بقي فيها عنده حتى ولد له.
(ثم جئت على قدر يا موسى) أي في وقت سبق في قضائي وعلمي وقدري أن أكلمك وأجعلك نبياً أو على ميقات ومقدار من الزمان يوحي فيه إلى الأنبياء قاله ابن عباس، وهو رأس أربعين سنة، أو على موعد قد عرفته بإخبار شعيب لك به قاله مجاهد وقتادة قال الشاعر:
نال الخلافة إذ كانت له قدراً ... كما أتى ربه موسى على قدر
وكلمة ثم المفيدة للتراخي للدلالة على أن مجيئه عليه السلام كان بعد مدة وذلك بسبب ما وقع له من ضلال الطريق وتفرق غنمه ونحو ذلك، وعلى بمعنى مع.(8/233)
وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41)
(واصطنعتك لنفسي) بالرسالة والاصطناع اتخاذ الصنعة وهو الخير تسديه إلى إنسان، والمعنى اصطنعتك لوحي ورسالتي لتنصرف على إرادتي، قال الزجاح: تأويله اخترتك لإقامة حجتي وجعلتك بيني وبين خلقي وصرت بالتبليغ عني بالنزلة التي أكون أنا بها لو خاطبتهم واحتجبت عليهم، قيل وهو تمثيل لما خَوَّله الله سبحانه من الكرامة العظمى بتقريب الملك لبعض خواصه وهذه هي المنة الثامنة.
قال أبو السعود: وفي قوله يا موسى تشريف له عليه السلام وتنبيه على انتهاء الحكاية التي هي تفصيل المرة الأخرى التي وقعت قبل المرة المحكية أولاً وقوله (اصطنعتك لنفسي) تذكير لقوله: (وأنا اخترتك) وتمهيد لإرساله إلى فرعون مؤيداً بأخيه انتهى.(8/233)
اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي (42)
(اذهب أنت وأخوك) أي وليذهب أخوك حسبما طلبت وهو كلام مستأنف مسوق لبيان ما هو المقصود من الاصطناع، وفيه اختصار لما ذكر المذهوب إليه في قوله اذهبا إلى فرعون وحذفه هنا.
(بآياتي) أي بمعجزاتي التي جعلتها لك آية وهي اليد والعصا فقط وعليه أكثر المفسرين وقيل هي التسع الآيات وفيه نظر والباء للمصاحبة أي مصحوبين بها متمسكين بها في إجراء أحكام الرسالة وإكمال أمر الدعوة وليست المتعدية إذ ليس المراد مجرد ذهابهما وإيصالها إلى فرعون.
(ولا تنيا) أي لا تضعفا ولا تفترا يقال ونى ينى وَنْياً إذا ضعف وتواني في الأمر توانياً لم يبادر إلى ضبطه ولم يهتم به فهو متوان أي غير مهتم ولا محتفل.
(في ذكري) قال الفراء هذا وعن ذكري سواء، والمعنى لا تقتصرا عن ذكري بالإحسان إليكما والإنعام عليكما، ومن ذكر النعمة شكرها، وقيل المعنى لا تبطيا في تبليغ رسالتي، وفي قراءة ابن مسعود لا تهنا في ذكري.(8/234)
اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43)
(اذهبا إلى فرعون) هذا أمر لهما جميعاً بالذهاب وموسى حاضر وهارون غائب بل كان في ذلك الوقت بمصر تغليباً لموسى، لأنه الأصل في أداء الرسالة وكذا الحال في صيغة النهي المذكورة وعلل الأمر بالذهاب بقوله: (إنه طغى) أي جاوز الحد في الكفر والتمرد، بادعائه الربوبية، وخص موسى وحده بالأمر بالذهاب فيما تقدم وجمعهما هنا تشريفاً لموسى بإفراده، وقيل الأول أمر لموسى بالذهاب إلى كل الناس، والثاني أمر لهما بالذهاب إلى فرعون.(8/234)
فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44) قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى (45) قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46) فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى (47) إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (48) قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى (49) قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (50) قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى (51) قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى (52)
ثم أمرهما سبحانه بالإنة للقول لما في ذلك من التأثير في الإجابة فإن التخشين بادئ بدء يكون من أعظم أسباب النفور والتصلب في الكفر فقال:(8/235)
فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44)
(فقولا له قولاً ليناً) أي دَارِيَاه وارفقا به، ولا تعنُفا في قولكما في رجوعه عن ذلك؛ والقول اللين هو الذي لا خشونة فيه؛ يقال لأن الشيء يلين ليناً، والمراد تركهما للتعنيف كقولهما: (هل لك إلى أن تزكى وأهديك إلى ربك فتخشى) فإنه دعوة في صورة عرض ومشاورة، وقيل: القول اللين هو الكنية له أي: قولا له: يا أبا الوليد، وقيل يا أبا العباس، وقيل يا أبا مرة، وقيل أن بَعِدَاهُ بنعيم الدنيا والآخرة إن أجاب، وقيل أن يعداه بشباب لا يهرم بعده وملك لا يزول إلا بالموت. قاله البيضاوي.
ثم علل الأمر بالإنة للقول له بقوله: (لعله يتذكر أو يخشى) أي بَاشِرَا ذلك مباشَرَةً من يرجو ويطمع فالرجاء راجع إليهما كما قاله جماعة من النحوين سيبويه وغيره، وقد تقدم تحقيقه في غير موضع.
قال الزجاج: لعل لفظة طمع وترج فخاطبهم بما يعقلون، وقيل لعل هنا بمعنى الاستفهام، والمعنى فانظر هل يتذكر أو يخشى، وقيل بمعنى كي، والتذكر النظر فيما بلغاه من الذكر وإمعان الفكر فيه حتى يكون ذلك سبباً في الإجابة(8/235)
والخشية هي خشية عقاب الله الموعود به على لسانهما، وكلمة أو لمنع الخلو دون الجمع، وفائدة إرسالهما والمبالغة عليهما في الاجتهاد مع علم الله بأنه لا يؤمن إلزام الحجة وقطع المعذرة وإظهار ما حدث في أضاعيف ذلك من الآيات.(8/236)
قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى (45)
(قالا ربنا إننا نخاف) أسند القول إليهما مع أن القائل حقيقة هو موسى تغليباً للإيذان بأصالته في كل قول وفعل، أو قاله هارون بعد ملاقاتهما، فحكى ذلك مع قول موسى عند نزول الآية؛ كما في قوله تعالى: (يا أيها الرسل كلوا من الطيبات) فإن هذا الخطاب قد حكي بصيغة الجمع مع أن كلاً من المخاطبين لم يخاطب إلا بطريق الانفراد ضرورة استحالة اجتماعهم في الوجود، فكيف باجتماعهم في الخطاب.
(أن يفرط) فرعون (علينا) بفتح الياء وضم الراء أي يَعْجَل ويبادر بعقوبتنا، قاله ابن عباس، يقال فَرَط منه أمر أي بَدَر، ومنه الفارط وهو الذي يتقدم القوم إلى الماء أي يعذبنا عذاب الفارط في الذنب وهو المتقدم فيه، كذا قال المبرد، وقال أيضاً: فرط منه أمر وأفرط أسرف وفرط ترك وقرئ يُفْرَط بضم الياء وفتح الراء أي يحمله حامل على التسرع إلينا، وقرأت طائفة من الإفراط أي يشتط في أذيتنا أي فلا يصبر إلى تمام الدعوة وإظهار المعجزة.
(أو أن يطغى) أي يعتدي قاله ابن عباس وإظهار كلمة (أن) مع استقامة المعنى بدونها لإظهار كمال الاعتناء بالأمر والإشعار بتحقق الخوف من كل منهما(8/236)
قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46)
(قال) تعالى (لا تخافا) ما توهمتماه من الأمرين ثم علل ذلك بقوله: (إنني معكما) بالنصر لكما والمعونة على فرعون (أسمع وأرى) أي أدرك ما يجري بينكما وبينه بحيث لا يخفى علي منه خافية، ولست بغافل عنكما فأفعل في كل حال ما يليق بكما من دفع ضرر وجلب نفع، وعن ابن جريج قال: أسمع ما يقول وأرى ما يجاوبكما به فأوحي إليكما فتُجَاوِبَاه.(8/236)
وعن ابن مسعود قال: لما بعث الله موسى إلى فرعون قال: رب أي شيء أقول قال: قل هيا شرا هيا، قال الأعشى: تفسير ذلك الحي قبل كل شيء، والحي بعد كل شيء وجود السيوطي إسناده، وسَبَقَه إلى تجويد إسناده ابن كثير في تفسيره، ثم أمرهما بإتيانه الذي هو عبارة عن الوصول إليه بعد أمرهما بالذهاب إليه فلا تكرار فقال:(8/237)
فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى (47)
(فأتياه فقولا) أَمَرَهُما أن يقولا ست جمل.
الأولى قوله: (إنّا رسولا ربك) أرسلنا إليك (فأرسل معنا بني إسرائيل) أي خل عنهم وأطلقهم من الأسر والقسر (ولا تعذبهم) بالبقاء على ما كانوا عليه، وقد كانوا عند فرعون في عذاب شديد، يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم. ويكلفهم من العمل ما لا يطيقونه من الحفر والبناء وحمل الثقيل.
(قد جئناك بآية من ربك) قيل هي العصا واليد. وقيل إن فرعون قال لهما وما هي؟ فأدخل موسى يده في جيب قميصه ثم أخرجها ولها شعاع كشعاع الشمس، فعجب فرعون من ذلك، ولم يره موسى العصا إلا يوم الزينة.
قال الزمخشري؛ وهذه الجملة جارية من الجملة الأولى مجرى البيان والتفسير، لأن دعوى الرسالة لا تثبت إلا ببينتها التي هي مجيء الآية، وإنما وحد بآية ولم يثن معه آيتان لأن المراد تثبيت الدعوى ببرهانها، فكأنه قيل قد جئناك بمعجزة وبرهان وحجة على ما ادعيناه من الرسالة.
(والسلام) أي السلامة من العذاب (على من اتبع الهدى) قال الزجاج: أي من اتبع الهدى سلم من سخط الله عز وجل ومن عذابه وليس بتحية. قال: والدليل على ذلك أنه ليس بابتداء لقاء ولا خطاب، قال الفراء: السلام على من اتبع ولمن اتبع سواء.(8/237)
والجملة السادسة قوله:(8/238)
إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (48)
(إنا قد أوحي إلينا) من جهة الله سبحانه (أن العذاب على من كذب) ما جئنا به (وتولى) أعرض عنه، والمراد بالعذاب الهلاك والدمار في الدنيا والخلود في النار، والمراد بالتكذيب التكذيب بآيات الله وبرسله والتولي الإعراض عن قبولها والإيمان بها. قال قتادة: كذب كتاب الله وتولى عن طاعته فأتياه وقالا جميع ما ذكر وسارعا إلى الامتثال من غير تلعثم.(8/238)
قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى (49)
(قال) فرعون لهما (فمن ربكما يا موسى؟) فأضاف الرب إليهما لما أن المُرْسِل لا بد أن يكون رباً للرسول أو لأنهما قد صرحا بربوبيته تعالى للكل، ولم يضفه إلى نفسه لعدم تصديقه لهما ولجحده للربوبية وغاية عتوه ونهاية طغيانه، وخص موسى بالنداء لكونه الأصل في الرسالة. وقيل لمطابقة رؤوس الآي والأول أولى.(8/238)
قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (50)
(قال) موسى مجيباً له: (ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه) الذي هو عليه متميز به عن غيره؛ قرئ بفتح اللام على أنه فعل وبسكون اللام، والمعنى أعطى كل شيء صورته وشكله الذي يطابق بالمنفعة المنوطة به المطابقة له كاليد للبطش والرجل للمشي واللسان للنطق والعين للنظر والأذن للسمع، كذا قال الضحاك وغيره. قال الحسن وقتادة: أعطى كل شيء صلاحه وهداه لما يصلحه. وقال مجاهد: المعنى لم يخلق خلق الإنسان في خلق البهائم، ولا خلق البهائم في خلق الإنسان، ولكن خلق كل شيء فقدره تقديراً. ومنه قول الشاعر:
وله في كل شيء خلقه ... وكذلك الله ما شاء فعل
وقال الفراء: المعنى خلق للرجل المرأة ولكل ذكر ما يوافقه من الإناث أو المعنى أعطى خلقه كل شيء يحتاجون إليه ويرتفقون به، ومعنى (ثم(8/238)
هدى) أنه سبحانه هداهم إلى طريق الانتفاع بما أعطاهم فانتفعوا بكل شيء فيما خلق له، أو المعنى أعطى كل شيء خلقه الله سبحانه ولم يخله من عطائه.
قال ابن عباس: خلق لكل شيء زوجة ثم هدى، قال هداه لمنكَحِهِ ومطعمه ومشربه ومسكنه، ولما سمع فرعون ما احتج به موسى في ضمن هذا الكلام على إثبات الربوبية وشاهَد ما نَظَمَه في سلك الاستدلال من البرهان النير كما لا يخفى من أن الخلق والهداية ثابتان بلا خلاف ولا بد لهما من خالق وهاد، وذلك الخالق والهادي هو الله سبحانه لا رب غيره، خاف أن يظهر للناس أحقية ما قاله موسى وبطلان خرافاته، أراد أن يصرف موسى عن سننه إلى ما لا يعنيه من الأمور التي لا تعلق لها بالرسالة من الحكايات لأجل أن يرى قومه أن عنده معرفة.(8/239)
قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى (51)
(قال فما بال القرون الأولى) كقوم نوح وهود ولوط وصالح في عبادتهم الأوثان فإنها لم تُقِرّ بالرب، بل عبدت الأوثان ونحوها من المخلوقات. ومعنى البال الحال والشأن، أي ما حالهم وما شأنهم وماذا جرى عليهم من الحوادث المفصلة. فأجابه موسى و(8/239)
قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى (52)
(قال علمها عند ربي) أي أن هذا الذي سألت عنه ليس مما نحن بصدده، بل هو من علم الغيب الذي استأثر الله به لا تعلمه أنت ولا أنا وإن العلم بأحوالهم لا تعلق له بمنصب الرسالة (في كتاب) أي أنها مثبتة في اللوح المحفوظ. قال الزجاج: المعنى أن أعمالهم محفوظة عند الله يجازي بها يوم القيامة والتقدير علم أعمالها عند ربي في كتاب.
واعلم أن فرعون لما سأل موسى عن الإله وكان ذلك مما سبيله الاستدلال أجابه موسى بأوجز عبارة وأحسن معنى، ولما سأله عن القرون الأولى، وكان ذلك مما سبيله الإخبار ولم يأته خبر في ذلك وكله إلى عالم(8/239)
الغيوب. قاله الكرخي (لا يضل ربي ولا ينسى) اختلف في معناه على أقوال:
الأول: أنه ابتداء كلام مستأنف تنزيه لله سبحانه عن هاتين الصفتين، وقد تم الكلام عند قوله في كتاب. قاله الزجاج قال: ومعنى لا يضل لا يهلك، من قوله تعالى: (أئذا ضللنا في الأرض)، ولا ينسى شيئاً من الأشياء فقد نزهه عن الهلاك والنسيان.
الثاني: أن معنى لا يضل لا يخطىء. قاله ابن عباس.
الثالث: أن معناه لا يغيب. قال ابن الأعرابي: أصل الضلال الغيبوبة.
الرابع: أن المعنى لا يحتاج إلى كتاب ولا يضل عنه علم شيء من الأشياء ولا ينسى ما علمه منها. حكي هذا عن الزجاج أيضاً. قال النحاس: وهو أشبهها بالمعنى ولا يخفى أنه كقول ابن الأعرابي.
الخامس: أن المعنى لا يذهب شيء عن علمه ولا ينسى، أي بعدما علم، وهذا كالرابع.
السادس: أن اللفظ الأول إشارة إلى كونه عالماً بكل المعلومات. والثاني دليل على بقاء ذلك العلم أبد الآباد، وهو إشارة إلى نفي التغير.
السابع: أن هاتين الجملتين صفة للكتاب، والمعنى أن الكتاب غير ذاهب عن الله ولا هو ناس له.(8/240)
الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى (53) كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى (54) مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى (55) وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى (56) قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى (57) فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى (58)(8/241)
الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى (53)
(الذي جعل لكم الأرض مهداً) أي مهدها مهداً أو ذات مهد، وهو اسم لما يمهد كالفراش لما يفرش، وقرئ مهاداً. قال النحاس: والجمع أولى من المصدر لأن هذا الموضع ليس موضع مصدر إلا على حذف المضاف. وقيل مهاد مفرد كالفراش أو جمع معناه الفراش؛ فالمهاد جمع المهد، أي جعل كل موضع منها مهداً لكل واحد منكم، وهذا من جملة كلام موسى في جواب فرعون عن سؤاله الأول فهو مرتبط بقوله ثم هدى، لكنه ذكر في خلال كلامه على سبيل الاعتراض على سؤال فرعون الثاني وجوابه.
(وسلك لكم فيها سبلاً) السلك إدخال الشيء في الشيء، والمعنى أدخل في الأرض لأجلكم طرقاً تسلكونها وسهلها لكم، وَوَسطَها بين الجبال والأودية والبراري تسلكونها من قطر إلى قطر لتقضوا منها مأربكم وتنتفعوا بمنافعها ومرافقها. وفي آية أخرى (الذي جعل لكم الأرض مهداً وجعل لكم فيها سبلاً لعلكم تهتدون).
ثم قال سبحانه تتميماً لما وصفه به موسى (وأنزل من السماء ماء) هو ماء المطر. قيل إلى هنا انتهى كلام موسى، وما بعده وهو (فأخرجنا به) من كلام الله سبحانه. قاله ابن عطية وتبعه المحلى وفيه بعد. وقيل: هو من(8/241)
الكلام المحكي عن موسى، وإنما التفت إلى التكلم للتنبيه على ظهور ما فيه من الدلالة على كمال القدرة والحكمة وإيذاناً بأنه مطاع تنقاد الأشياء المختلفة لمشيئته، ونوقش بأن هذا خلاف الظاهر مع استلزامه فوت الالتفات لعدم اتحاد المتكلم، ويجاب عنه بأن الكلام كله محكي عن واحد وهو موسى، والحاكي للجميع هو الله سبحانه. والمعنى فأخرجنا بذلك الماء بسبب الحرث، والمعالجة.
(أزواجاً من نبات شتى) أي ضروباً وأشباهاً من أصناف النبات المختلفة الألوان والطعوم والروائح والمنافع، فمنها ما هو للناس، ومنها ما هو للدواب، سميت بذلك لازدواجها، واقتران بعضها ببعض.
والنبات مصدر سمي به النابت، فاستوى فيه الواحد والجمع، وشتى جمع شتيت وزنه فعلَى وألفه للتأنيث.
وقال الأخفش: التقدير أزواجاً شتى من نبات، يقال أمر شَتٌّ، أي متفرق وَشَتَّ الأمر شتاً يَشِتُ شتاً وشتاتاً تفرق واشْتَثَّ مثله، والشتيت المتفرق، وشتَّان اسم فعل ماض بمعنى افترق، ولذلك لا يكتفي بواحد، قاله السمين، قال ابن عباس: شيء مختلف.(8/242)
كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى (54)
(كلوا وارعوا أنعامكم) أي قائلين لهم ذلك والأمر للإباحة وتذكير النعمة والجملة حال، يقال رعت الماشية الكلأ ورعاها صاحبها رعاية، أي أسامها وسرحها، يجئ لازماً ومتعدياً، والأنعام جمع نعم وهي الإبل والبقر والغنم. والمعنى مُعديها لانتفاعكم بالأكل والعلف آذنين فيه.
(إن في ذلك) الإشارة إلى ما تقدم ذكره في هذه الآيات (لآيات) أي لعبر (لأولي النهى) جمع نُهْيَة وهي العقل، وسمي به لأنه ينهي صاحبه عن ارتكاب القبائح، وقيل: إنه اسم مفرد وهو مصدر كالهدى والسرى، قاله(8/242)
أبو علي وخص ذوي النهى لأنهم الذين يُنْتَهى إلى رأيهم. وقال ابن عباس: لأولي الحجى والعقل وعنه لأولي التقى، وهذا كله من موسى احتجاج على فرعون في إثبات الصانع جواباً لقوله: فمن ربكما يا موسى؟.
(منها) أي من الأرض المذكورة سابقاً (خلقناكم) قال الزجاج وغيره: يعني أن آدم خلق من الأرض وأولاده منه، فعلى هذا يكون خلق كل إنسان غير آدم من الأرض بوسائط عديدة بقدر ما بينه وبين آدم. وقيل المعنى أن كل نطفة مخلوقة من تراب في ضمن خلق آدم، لأن كل فرد من أفراد البشر له حظ من خلقه وعلى هذا يدل ظاهر القرآن.
(وفيها) أي في الأرض (نعيدكم) بعد الموت فتدفنون فيها وتتفرق أجزاؤكم حتى تصير من جنس الأرض، وجاء بـ (في) دون إلى للدلالة على الاستقرار (ومنها) أي من الأرض (نخرجكم) كما أخرجناكم عند ابتداء خلقكم (تارة) أي مرة (أخرى) بالبعث والنشور وتأليف الأجسام ورد الأرواح إليها على ما كانت عليه قبل الموت.
عن عطاء الخراساني قال: إن الملك ينطلق فيأخذ من تراب المكان الذي يدفن فيه فيذره على النطفة فيخلق من التراب ومن النطفة، وذلك قوله:(8/243)
مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى (55)
(منها خلقناكم وفيها نعيدكم).
وأخرج أحمد والحاكم عن أبي أمامة قال: لما وضعت أم كلثوم بنت
رسول الله صلى الله عليه وسلم في القبر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" (منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى)، بسم الله؛ وفي
سبيل الله، وعلى ملة رسول الله " (1).
_________
(1) المستدرك كتاب التفسير 2/ 379.(8/243)
وفي حديث في السنن أنه أخذ قبضة من التراب فألقاها في القبر وقال: " منها خلقناكم -ثم أخرى- وقال: وفيها نعيدكم -ثم أخرى- وقال: ومنها نخرجكم تارة أخرى ".(8/244)
وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى (56)
(ولقد أريناه) الرؤية بصرية أي أَبْصَرْنا فرعون وَعَرَّفْناه (آياتنا كلها) المراد بها الآيات التسع المذكورة في قوله ولقد آتينا موسى تسع آيات، على أن الإضافة للعهد، وهي العصا واليد والسنين ونقص الثمرات والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم وطمس الأموال والشد على القلوب.
وقال أبو السعود: هي العصا واليد وصيغة الجمع مع كونهما اثنتين باعتبار ما في تضاعيفهما من بدائع الأمور التي كل منها آية بينة لقوم يعقلون انتهى، وهذا مبني على أن هذا إخبار عما وقع له مع فرعون في أول دعائه له، وليس كذلك بل هذا إخبار عن جملة ما وقع له في مدة دعائه له، وهي عشرون سنة؛ وأن هذا من جملة الكلام المعْتَرَض به في أثناء القصة، وقيل: المراد جميع الآيات التي جاء بها موسى والتي جاء بها غيره من الأنبياء وأن موسى قد كان عرفه جميع معجزاته؛ ومعجزات سائر الأنبياء، والأول أولى، وقيل المراد بها حجج الله سبحانه الدالة على توحيده.
(فكذب) فرعون بها أو بموسى، وزعم أنها سحر (وأبى) عليه أن يجيبه إلى الإيمان وأن يوحد الله، وهذا يدل على أن كفر فرعون كفر عناد لأنه رأى الآيات وكذب بها كما في قوله: (وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعلواً).(8/244)
قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى (57)
(قال أجئتنا لتخرجنا من أرضنا؟) مستأنفة مرتبة على جواب موسى؛ والهمزة للإنكار لما جاء به موسى من الآيات أي جئت يا موسى لتوهم الناس بأنك نبي يجب عليهم اتباعك، والإيمان بما جئت به حتى تتوصل بذلك الإيهام الذي هو شعبة من السحر إلى أن تَغْلِب على أرضنا، يعني مصر وتخرجنا منها، ويكون لك الملك فيها وإنما ذكر الملعون الإخراج من الأرض(8/244)
لتنفير قومه عن إجابة موسى فإنه إذا وقع في أذهانهم وتقرر في أفهامهم أن عاقبة إجابتهم لموسى الخروج من ديارهم وأوطانهم كانوا غير قابلين لكلامه ولا ناظرين في معجزاته ولا ملتفتين إلى ما يدعو إليه من الخير.
(بسحرك يا موسى) فيه دليل على أنه خاف منه خوفاً شديداً وإلا فأي ساحر يقدر أن يخرج ملكاً من أرضه(8/245)
فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى (58)
(فلنأتينك بسحر مثله) أي والله لنعارضنك بمثل ما جئت به من السحر في الغرابة، حتى يتبين للناس أن الذي جئت به سحر يقدر على مثله ساحر.
(فاجعل بيننا وبينك موعداً) هو مصدر أي وعداً، وقيل اسم مكان أي اجعل لنا يوماً معلوماً أو مكاناً معلوماً أو أجلاً وميقاتاً، قال الجوهري: الميعاد المواعدة والوقت والموضع وكذلك الموعد، قال القشيري وأبو البقاء، والأظهر أنه مصدر ولهذا قال.
(لا نخلفه) أي لا نخلف ذلك الوعد ولا نجاوزه، وقرئ بالرفع على أنه صفة لموعد أي لا نخلف ذلك الموعد، وقرئ بالجزم على أنه جواب الأمر، والاخلاف أن تعد شيئاً ولا تنجزه (نحن) توكيد مصحح للعطف على الضمير المرفوع المستتر في نخلفه.
(ولا أنت) فوض تعيين الموعد إلى موسى إظهاراً لكمال اقتداره على الإتيان به بمثل ما أتي به موسى (مكاناً) منصوب باجعل على أنه مفعول فيه وأطال الكلام على نصبه السمين (سوى) بضم السين وبكسرها وهما قراءتان سبعيتان وكسر السين هي اللغة العالية الفصيحة، والمراد مكاناً مستوياً، وقيل مكاناً منصفاً عدلاً بيننا وبينك، قال سيبويه يقال: سوى وسوى أي عدل يعني عدلاً بين المكانين.
قال أبو عبيدة والقتيبي: معناه مكاناً وسطاً بين الفريقين، لأن المسافة من الوسط إلى الطرفين مستوية، وقيل معناه سوى هذا المكان وفيه بعد.(8/245)
قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (59) فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى (60) قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى (61) فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى (62) قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى (63) فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى (64) قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى (65)
ثم واعده موسى لوقت معلوم و(8/246)
قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (59)
(قال موعدكم) أي زمان الوعد (يوم الزينة) أو وعدكم وعد يوم الزينة وقرئ يوم بالنصب أي في يوم الزينة إنجاز موعدنا، قال مجاهد وقتادة ومقاتل والسدي: كان ذلك يوم عيد يتزينون فيه؛ وقال سعيد بن جبير: كان ذلك يوم عاشوراء، وبه قال ابن عباس، وعن ابن عمر نحوه.
وقال الضحاك: يوم السبت، وقيل يوم النيروز، وقيل يوم كسر الخليج. وإنما جعل الميعاد زماناً بعد أن طلب منه فرعون أن يكون مكاناً سوى، لأن يوم الزينة يدل على مكان مشهور يجتمع فيه الناس ذلك اليوم، وإنما خص عليه السلام ذلك اليوم ليكون ظهور الحق وزهوق الباطل في يوم مشهور على رؤوس الأشهاد، ويشيع ذلك فيما بين كل حاضر وباد، ولما أن ذلك اليوم وقت ظهور غاية شوكتهم، ولإظهار كمال قوته، وكونه على ثقة من أمره وعدم مبالاته بهم.
(وأن يحشر الناس ضحى) يعني وقت الضحى ذلك اليوم الذي هو عبارة من ارتفاع الشمس، والمراد بالناس أهل مصر، والمعنى يحشرون إلى العيد وقت الضحى نهاراً وينظرون في أمر موسى وفرعون جهاراً ليكون أبعد من الريبة وأبين لكشف الحق وليشيع في جميع أهل الوبر والمدر.(8/246)
قال الفراء: إذا رأيت الناس يحشرون من كل ناحية ضحى، فذلك الموعد قال: وجرت عادتهم بحشر الناس في ذلك اليوم، وقرئ يحشر على البناء للمفعول وللفاعل أي وأن يحشر الله الناس، وقرئ بالنون؛ وبالفوقية أي وأن تحشر أنت يا فرعون، والضحى قال الجوهري: ضحوة النهار بعد طلوع الشمس، ثم بعده الضحى وهو حين تشرق الشمس، وخص الضحى لأنه أول النهار فإذا امتد الأمر بينهما كان في النهار متسع.(8/247)
فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى (60)
(فتولى فرعون) أي انصرف من ذلك المقام والمجلس ليهيئ ما يحتاج إليه مما تواعدا عليه، وقيل معنى تولى أعرض عن الحق، والأول أولى: (فجمع كيده) أي جمع ما يكيد به سحره وحيلته، والمراد أنه جمع السحرة، قيل كانوا اثنين من القبط وسبعين من بني إسرائيل، وقيل أربعمائة وقيل اثنى عشر ألفاً، وقيل أربعة عشر ألفاً، وقال ابن المنذر: كانوا ثمانين ألفاً، وقيل غير ذلك مع كل واحد حبل وعصا.
(ثم أتى) فرعون الموعد الذي تواعدا إليه مع جمعه الذي جمعه وأتى موسى أيضاً(8/247)
قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى (61)
(قال لهم موسى) مستأنفة جواب سؤال مقدر.
(ويلكم لا تفتروا على الله كذباً) دعا عليهم بالويل ونهاهم عن افتراء الكذب بإشراك أحد معه بادعاء كون ما ظهر على يدي سحراً، قال الزجاج: التقدير ألزمهم الله ويلاً، أو هو نداء كقوله: (يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا).
(فيسحتكم بعذاب) عظيم السحت الاستئصال يقال سحت وأسحت بمعنى وأصله استقصاء الشعر قرئ من السحت، وهي لغة نجد وبني تميم، وقرئ من سحت وهي لغة الحجاز، قال ابن عباس: يسحتكم يهلككم، وقال قتادة: يستأصلكم؛ وقال أبو صالح: فيذبحكم.
(وقد خاب من افترى) أي قد خسر وهلك من كذب على الله أيّ(8/247)
كذب كان(8/248)
فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى (62)
(فتنازعوا) أي السحرة (أمرهم بينهم) لما سمعوا كلام موسى تناظروا وتشاوروا في أمر موسى وأخيه وتجاذبوا أطراف الكلام في ذلك أي هل هما ساحران أو رسولان؟ (وأسروا النجوى) أي من موسى وكانت نجواهم هي قولهم الآتي: أن هذان لساحران.
وقيل إنهم تناجوا فيما بينهم، فقالوا إن كان ما جاء به موسى سحراً فسنغلبه وإن كان من عند الله فسيكون له أمر.
وقيل الذي أسروه أنه إذا غلبهم اتبعوه، قاله الفراء والزجاج، وقيل الذي أسروه أنهم لما سمعوا قول موسى ويلكم لا تفتروا على الله كذباً قالوا: ما هذا بقول ساحر، والنجوى المناجاة يكون اسماً ومصدراً.(8/248)
قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى (63)
(قالوا) لأنفسهم أي قال بعضهم لبعض سراً، وحاصل ما قالوه ست جمل أولها قولهم: (إن هذان لساحران) وآخرها قولهم: (وقد أفلح اليوم من استعلى) وقرئ إن هذين وروي هذا عن عثمان وعائشة وغيرهما من الصحابة، وبها قرأ الحسن والنخعي وغيرهما من التابعين وهذه موافقة للإعراب الظاهر مخالفة لرسم المصحف فإنه مكتوب بالألف، وقرئ إن هذان بتخفيف إن على أنها نافية، وهذه موافقة للرسم وللإعراب.
وقرأ أهل المدينة والكوفة إنَّ هذان بتشديد إن وبالألف فوافقوا الرسم وخالفوا الإعراب الظاهر.
وقد تكلم جماعة من أهل العلم في توجيه هذه القراءة وقد استوفى ذلك ابن الأنباري والنحاس، فقيل إنها لغة بني الحرث بن كعب ومراد وخثعم وكنانة يجعلون رفع المثنى ونصبه وجره بالألف أي في أحواله الثلاث، وبه صرح سيبويه والأخفش وأبو زيد والكسائي والفراء.
وقيل: إن بمعنى نعم هاهنا قاله عاصم، قال النحاس: رأيت الزجاج(8/248)
والأخفش يذهبان إليه، وقال الزجاج المعنى أن هذان لهما ساحران وأنكره أبو علي الفارسي وأبو الفتح وابن جني، وقيل أن الألف في هذا مشبهة بالألف في يفعلان فلم تغير، وقيل إنه هذان لساحران، وبه قال قدماء النحاة، وقال ابن كيسان: إنه لما كان يقال. هذا بالألف في الرفع والنصب والجر على حال واحدة، وكانت التثنية لا تغير الواحد أجريت مجرى الواحد، فثبتت الألف في الرفع والنصب والجر، وقيل تقديره ما هذان إلا ساحران فهذه أقوال تتضمن توجيه هذه القراءة بوجه تصح به وتخرج به عن الخطأ وبذلك يندفع ما روي عن عثمان وعائشة أنه غلط من الكاتب للمصحف.
وحاصل القراءات السبعية التي في هذا التركيب أربعة واحدة لأبي عمرو، وهي التي بالياء، والثانية ألف بعدها نون مشددة ومخففة من ان، والأخريان تخفيف النون التي في هذان مع تشديد النون من ان وتخفيفها، وإثبات كل من الياء والألف في النطق وإن كان قراءة سبعية صحيحة متواترة لكنه مشكل من حيث مخالفته لخط الصحف الإمام فإنه ليس فيه ياء ولا ألف فإن رسمه كما في السمين هذن من غير ألف ولا ياء، ثم قال: وكم جاء في الرسم أشياء خارجة عن القياس، وقد نصوا على أنه لا نُجَوِّز القراءة بها فليكن هذا الموضع مما خرج عن القياس.
(يريدان أن يخرجاكم من أرضكم) وهي أرض مصر (بسحرهما) الذي أظهراه (ويذهبا بطريقتكم المثلى) قال الكسائي: أي بسنتكم، والمثلى نعت، كقولك: امرأة كبرى تقول العرب فلان على الطريقة المثلى يعنون على الهدى المستقيم، قال الفراء: العرب تقول هؤلاء طريقة قومهم وطرائق قومهم لأشرافهم ونحوه في القاموس والمثلى تأنيث الأمثل وهو الأفضل يقال: فلان أمثل قومه أي أفضلهم وهم الأماثل وإنما أتت باعتبار التعبير بالطريقة وإلا فباعتبار المعنى كأن يقال أماثل، والمعنى أنهما أن يغلبا بسحرهما مال إليهما السادة والأشراف منكم أو يذهبا بمذهبكم الذي هو أمثل المذاهب.(8/249)
قال ابن عباس: يقول أمثلكم وهم بنو إسرائيل وقال علي: أي يصرف وجوه الناس إليهما.(8/250)
فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى (64)
(فأجمعوا كيدكم) الفاء فصيحة، أي إذا كان الأمر كما ذكر من كونهما ساحرين فأجمعوا، والإجماع الإحكام والعزم على الشيء. قاله الفراء، تقول أجمعت على الخروج مثل أزمعت. وقال الزجاج: معناه ليكن عزمكم كلكم كالكيد مجمعاً عليه بحيث لا يتخلف عنه واحد منكم.
(ثم ائتوا صفاً) أي مصطفين مجتمعين ليكون أنظم لأمرهم وأشهد لهيبتهم وأدخل في استجلاب الخشية، وهذا قول جمهور المفسرين. وقال أبو عبيدة: الصف المجمع، ويسمى المصلى الصف. قال الزجاج: وعلى هذا معناه: ثم ائتوا الموضع الذي تجتمعون فيه لعيدكم وصلاتكم، يقال أتيت الصف بمعنى أتيت المصلى. فعلى التفسير الأول نصب صفاً على الحال، وعلى الثاني على المفعولية، قال الزجاج: يجوز أن يكون المعنى " ثم ائتوا والناس مصطفون " فيكون مصدراً في موضع الحال ولذلك لم يجمع.
(وقد أفلح اليوم من استعلى) أي فاز من غلب، يقال استعلى عليه إذا غلبه؛ وهذا كله من قول السحرة بعضهم لبعض، وقيل: من قول فرعون لهم، وهذه جملة معترضة.(8/250)
قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى (65)
(قالوا يا موسى) اختر أحد الأمرين، كذا قدره الزمخشري، وهذا تفسير معنى (إما أن تلقي) ما تلقيه أو التقدير الأمر إما إلقاؤك أول أو إلقاؤنا، كذا قدره الزمخشري، أو إلقاؤك أول، ويدل عليه قوله:
(وإما أن نكون) نحن (أول من ألقى) ما يلقيه، واختاره المحلى، أو أول من يفعل الإلقاء والمراد إلقاء العصا على الأرض، وكانت السحرة معهم عصيّ، وكان موسى قد ألقى عصاه يوم دخل على فرعون، فلما أراد السحرة معارضته قالوا له هذا القول، وهذا منهم استعمال أدب حسن معه، وكأنه تعالى ألهمهم ذلك وقد وصلت إليهم بركته.(8/250)
قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى (66) فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى (67) قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى (68) وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى (69) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى (70) قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى (71)
وعلم موسى اختيار إلقائهم أولاً حتى(8/251)
قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى (66)
(قال) لهم (بل ألقوا) أنتم أولاً، وإنما أمرهم بذلك لتكون معجزته أظهر إذا ألقوا ما معهم فيصير آية نيرة للناظرين وعبرة بينة للمعتبرين، ثم يلقي هو عصاه فتبتلع ذلك ويظهر سلطانه. وقيل: إنما بتَّ عليه السلام لهم القول مقابلة للأدب بأحسن من أدبهم، وإظهاراً لعدم المبالاة بسحرهم.
فألقوا (فإذا حبالهم) الفاء فصيحة، يقال إذاً هذه هي المفاجئة، والتحقيق أنها إذاً الكائنة بمعنى الوقت للطالبة ناصباً لها، وقد يكون ناصبها فعلاً مخصوصاً وهو فعل المفاجأة (وعصيهم) بكسر العين اتباعاً لكسرة الصاد، وقرئ بضمها وهي لغة بني تميم.
(يخيل إليه من سحرهم) بالتحتية على البناء للمفعول، وقرئ تخيل بالفوقية لأن العصي والحبال مؤنثة، وقريء نخيل بالنون على أن الله سبحانه هو المخيل لذلك، وقرئ بالتحتية مبنياً للفاعل على أن المخيل هو الكيد.
وقيل المخيل هو (أنها تسعى) أي يخيل إليه سعيها، ذكر معناه الزجاج، وقال ومن قرأ بالفوقية جعل أن في موضع نصب، أي تخيل إليه ذات سعي. يقال خيل إليه إذا شبه له، وأدخل عليه التهمة والشبهة، وذلك أنهم لطخوها وطلوها بالزئبق فلما أصابها حر الشمس ارتعشت واهتزت(8/251)
واضطربت، فخيل إليه أنها تتحرك.(8/252)
فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى (67)
(فأوجس) أي أحس وقيل وجد وقيل أضمر وقيل خاف (في نفسه خيفة موسى) وذلك لما يُعْرَض من الطباع البشرية عند مشاهدة ما يخشى منه، وقيل خاف أن يفتتن الناس قبل أن يلقي عصاه، أو لعله كان مأموراً بأن لا يفعل شيئاً إلا بالوحي، فلما تأخر نزول الوحي في ذلك المحفل بقي في الخجل. قاله ابن عادل وقيل أن سبب خوفه هو أن سحرهم كان من جنس ما أراهم في العصا، فخاف أن يلتبس أمره على الناس فلا يؤمنوا، فأذهب الله سبحانه ما حصل معه من الخوف بما بشره به بقوله:(8/252)
قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى (68)
(قلنا لا تخف إنك أنت الأعلى) أي المستعلي عليهم بالظفر والغلبة، والجملة تعليل للنهي عن الخوف، وفيه إشارة إلى أن لهم علواً وغلبة بالنسبة إلى سائر الناس، ولذلك أوجس منهم خيفة فرد ذلك بأنواع من المبالغة، أحدها ذكر كلمة التوكيد وهي (إنَّ) وثانيها تكرير الضمير، وثالثها لام التعريف، ورابعها لفظ العلو وهو الغلبة الظاهرة، وهذا يكفي فيه ظن العلو في أمرهم لا أن الأعلى لمجرد الزيادة، لأنه لم يكن للسحرة علو حتى يكون هو أعلى منهم كما قيل. قاله الكرخي.(8/252)
وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى (69)
(وألق ما في يمينك) يعني العصا، وإنما أبهمها تعظيماً وتفخيماً، أي لا تحتفل بهذه الأجرام فإن في يمينك شيئاً أعظم منها كلها، وهذه على كثرتها أقل شيء عندها، فألقها ولا تبال بكثرة حبالهم وعصيهم، وجاز أنه يكون الإبهام للتصغير أي وألق العُوَيْد الفريد الصغير الجرم، الذي بيدك فإنه بقدرة الله تعالى: (تلقف) على وحدته وكثرتها وصغره وعظمها.
قرئ تلقف بسكون اللام من لقفه إذا ابتلعه بسرعة، وقرئ بالرفع على تقدير فإنها تلقف. وقال الزجاج: القراءة بالجزم جواب الأمر، ويجوز الرفع على معنى الحال كأنه قال ألقها متلقفة (ما صنعوا) من الحبال والعصيّ.
(إنما صنعوا كيد ساحر) أي جنسه، أي أن الذي صنعوه كيد(8/252)
ساحر، أو أن صنعهم كيد ساحر وقرئ سِحر، وإضافة الكيد إلى السحر على الاتساع من غير تقدير، أو بتقدير ذي سحر وقيل غير ذلك.
(ولا يفلح) ولا يسعد (الساحر) أي جنس الساحر (حيث أتى) أي حيث كان وأين توجه وأقبل، وهذا من تمام التعليل.(8/253)
فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى (70)
(فألقي السحرة) أي فألقى ذلك الأمر الذي شاهدوه من موسى والعمى إياهم (سجداً) لله تعالى، وذلك لأنهم كانوا في أعلى طبقات السحر، فلما رأوا ما فعله موسى خارجاً عن صناعتهم، عرفوا أنه ليس من السحر البتة، وقد مر تحقيق هذا في سورة الأعراف.
قال صاحب الكشاف: سبحان الله ما أعجب أمرهم، قد ألقوا حبالهم وعصيهم للكفر والجحود، ثم ألقوا رؤوسهم بعد ساعة للشكر والسجود، فما أعظم الفرق بين الإلقاءين؛ وقيل إنهم لم يرفعوا رؤوسهم حتى رأوا الجنة والنار والثواب والعقاب (قالوا آمنا برب هارون وموسى) إنما قدم هارون على موسى هنا في حكاية كلامهم، وأخر في الشعراء رعاية لفواصل الآي وعناية بتوافق رؤوسها؛ ولأن الواو لا توجب ترتيباً.
قال عكرمة: إن سحرة فرعون كانوا تسعمائة، فقالوا لفرعون: إن يكن هذان ساحرين فإنا نغلبهما فإنه لا أسحر منا، وإن كانا من رب العالمين فإنه لا طاقة لنا برب العالمين، فلما كان من أمرهم أن خروا سجداً أراهم الله في سجودهم منازلهم التي يصيرون إليها في الجنة، فعندها قالوا هذا القول، وقالوا أيضاً: (لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات) إلى قوله: (والله خير وأبقى).(8/253)
قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى (71)
(قال) فرعون (آمنتم له) يقال آمن له وبه، فمن الأول قوله (فآمن له لوط)، ومن الثاني قوله في الأعراف: (آمنتم به). قيل: أن الفعل هنا متضمن معنى الاتباع، وقرئ على الاستفهام التوبيخي أي كيف آمنتم به (قبل أن آذن لكم) أي من غير إذن مني لكم بذلك.(8/253)
(إنه) أي أن موسى (لكبيركم) أي أسحركم وأعلاكم درجة في صناعة السحر، فلا عبرة بما أظهرتموه، أو معلمكم وأستاذكم، كما يدل عليه قوله: (الذي علمكم السحر) يعني إنكم تلامذته في السحر، فاصطلحتم وتواطأتم معه على أن تظهروا العجز من أنفسكم ترويجاً لأمره وتفخيماً لشأنه.
قال الكسائي: الصبي بالحجاز إذا جاء من عند معلمه قال: جئت من عند كبيري. وقال محمد بن إسحاق: إنه لعظيم السحر. قال الواحدي: الكبير في اللغة الرئيس. ولهذا يقال للمعلم الكبير، أراد فرعون بهذا القول أن يدخل الشبهة على الناس حتى لا يؤمنوا، وإلا فقد علم أنهم لم يتعلموا من موسى ولا كان رئيساً لهم ولا بينه وبينهم مواصلة.
(فلأقطعن أيديكم وأرجلكم) أي والله لأفعلن بكم ذلك، والتقطيع للأيدي. والأرجل (من خلاف) هو قطع اليد اليمنى والرجل اليسرى، لأن كل واحد من العضوين يخالف الآخر بأن هذا يد وذاك رجل، وهذا يمين وذاك شمال، أي لأقطعنها مختلفات، ومن لابتداء الغاية، كان القطع ابتدئ من مخالفة العضو للعضو.
(ولأصلبنكم في جذوع النخل) أي على جذوعها؛ كقوله: (أم لهم سلم يستمعون فيه) أي عليه، وإنما آثر كلمة (في) للدلالة على استقرارهم عليها؛ كاستقرار المظروف في الظرف، وهذا هو المشهور، وخص النخل لطول جذوعها؛ وقيل إنه نقر جذوع النخل حتى جوفها ووضعهم فيها فماتوا جوعاً وعطشاً، وهذا على الحقيقة كما أن الأول على المجاز وهو الأولى.
(ولتعلمن أينا أشد عذاباً وأبقى) أراد لتعلمن هل أنا أشد عذاباً لكم على إيمانكم به أم موسى؟ ومعنى أبقى أدوم، وهو يريد بكلامه هذا الاستهزاء بموسى لأن موسى لم يكن من التعذيب في شيء، ويمكن أن يريد العذاب الذي توعدهم به موسى إن لم يؤمنوا، وقيل إشارة إلى أن إيمانهم لم يكن ناشئاً عن مشاهدة المعجزة بل كان من خوفهم من موسى حيث رأوا ما وقع من عصاه.(8/254)
قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (72) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (73) إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (74) وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى (75) جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى (76)(8/255)
قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (72)
(قالوا) غير مكترثين بوعيده لهم (لن نؤثرك) أي لن نختارك (على مما جاءنا) به موسى أو جاءنا من عند الله على يده (من البينات) أي من المعجزات الواضحات من عند الله سبحانه كاليد والعصا، وقيل: إنهم أرادوا بالبينات ما رأوه في سجودهم من المنازل المعدة في الجنة، وأنما نسب المجيء إليهم وإن كانت البينات جاءت لهم ولغيرهم، لأنهم كانوا أعرف بالسحر من غيرهم، وقد علموا أن ما جاءهم به موسى ليس من السحر، فكانوا على جلية من العلم بالمعجز وغيره. وغيرهم كالمقلد وأيضاً كانوا هم المنتفعين بها.
(و) لن نختارك على (الذي فطرنا) أي خلقنا والواو للعطف، وإنما أخروا ذكر الباري تعالى لأنه من باب الترقي من الأدنى إلى الأعلى، وقيل إنها واو القسم والموصول مقسم به وجوابه محذوف، أي وحق الذي، أو والله الذي فطرنا لا نؤثرك على الحق، وهذان الوجهان في تفسير الآية ذكرهما الفراء والزجاج والسمين.
(فاقض ما أنت قاض) هذا جواب منهم لفرعون لا قال لهم لأقطعن أيديكم الخ. والمعنى فاصنع ما أنت صانعه من القتل والصلب؛ واحكم ما أنت حاكم به. قال المفسرون: وليس في القرآن أن فرعون فعل بالسحرة ما(8/255)
هددهم به، ولم يثبت في الأخبار أيضاً. قاله أبو السعود. وفي بعض التفاسير أنه فعله بهم كما مر.
(إنما تقضي هذه الحياة الدنيا) تعليل لعدم المبالاة المستفادة من قولهم: لن نؤثرك ومن الأمر بالقضاء، أي إنما تصنع ما تهواه أو تحكم بما تراه في هذه الدنيا وما لنا من رغبة فيها ولا رهبة من عذابها. والمعنى إنما سلطانك علينا ونفوذ أمرك فينا في هذه الحياة الدنيا ولا سبيل لك علينا فيما بعدها فسيزول عن قريب قال الفراء: ما بمعنى الذي، أي أن الذي تقضيه هو هذه الحياة الدنيا، فقضاؤك وحكمك منحصر في ذلك.(8/256)
إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (73)
(إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا) التي سلفت منا من الكفر وغيره (و) يغفر لنا (ما) أي الذي (أكرهتنا عليه من) عمل (السحر) في معارضة موسى فـ (ما) في محل نصب على المفعولية، وقيل ما نافية، قال النحاس: والأول أولى، ويجوز أن تكون في محل رفع بالابتداء والخبر محذوف، أي وما أكرهتنا عليه من السحر محطوط وموضوع عنا، أو لا يؤاخذنا به ربنا. قال ابن عباس: أخذ فرعون أربعين غلاماً من بني إسرائيل فأمر أن يعلموا السحر فتعلموا، وقال علموهم تعليماً لا يغلبهم أحد في الأرض، فهم من الذين آمنوا بموسى، وقالوا هذا القول:
(والله خير) منك ثواباً (وأبقى) منك عذاباً. قال محمد بن كعب القرظي: خير منك إن أطيع وأبقى منك عذاباً إن عصي، وهذا رد لقوله: (ولتعلمن أينا) الخ حيث كان مراده نفسه.(8/256)
إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (74)
(إنه) أي الشأن (من يأت ربه مجرماً) هو المتلبس بالكفر والمعاصي، المائت عليها (فإن له جهنم لا يموت فيها) فيستريح (ولا يحيى) حياة تنفعه قال المبرد: لا يموت ميتة مريحة ولا يحيى حياة ممتعة، فهو يألم كما يألم الحي ويبلغ به حالة الموت في المكروه، إلا أنه لا يبطل فيها عن إحساس الألم، والعرب تقول: فلان لا حي ولا ميت، إذا كان غير منتفع بحياته، وهذا تحقيق لكون عذابه أبقى، وهذه الآية من جملة ما حكاه الله(8/256)
سبحانه من قول السحرة. وقيل هو ابتداء كلام، وهذا هو الأظهر. قاله النسفي.
أخرج أحمد ومسلم وابن أبي حاتم وغيرهم عن أبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب فأتى على هذه الآية فقال: " أما أهلها الذين هم أهلها فإنهم لا يموتون فيها ولا يحييون، وأما الذين ليسوا بأهلها فإن النار تميتهم إماتة ثم يقوم الشفعاء فيشفعون، فيؤتى بهم ضبائر على نهر يقال له الحياة أو الحيوان فينبتون كما ينبت القثاء في حميل السيل " (1).
_________
(1) مسلم 185 - وأحمد بن حنبل 3/ 11.(8/257)
وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى (75)
(ومن يأته) أي ومن يأت ربه (مؤمناً) أي مصدقاً به (قد عمل الأعمال (الصالحات) أي الطاعات ومات على الإيمان وليس فيه ما يدل على عدم اعتبار الإيمان المجرد عن العمل الصالح في استتباع الثواب، لأن ما نيط من الأعمال الصالحة هو الفوز بالدرجات العلى لا الثواب مطلقاً (فأولئك) الإشارة إلى من باعتبار معناه (لهم الدرجات العلى) أي المنازل الرفيعة التي قصرت دونها الصفات، والعلى جمع علياء مؤنث أعلى.(8/257)
جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى (76)
(جنات عدن تجري من تحتها الأنهار) بيان للدرجات، وعدن علم للإقامة كما سبق (خالدين فيها) أي ماكثين دائمين، فيه مراعاة لمعنى من (وذلك) أي ما تقدم لهم من الأجر (جزاء من تزكى) أي من تطهر من الكفر والذنوب والمعاصي الموجبة للنار.
وأخرج أبو داود وابن مردويه عن أبي سعيد قال، قال رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -): " إن أهل الدرجات العلى ليراهم من تحتهم كما ترون الكوكب الدري في أفق السماء وإن أبا بكر وعمر منهم وأنْعِمَا " (1)، وفي الصحيحين بلفظ " إن أهل عليين ليرون من فوقهم، كما ترون الكوكب الغابر في أفق السماء " (2).
_________
(1) صحيح الجامع الصغير 2026.
(2) مسلم 2831 - البخاري 1540.(8/257)
وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى (77) فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ (78) وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى (79) يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى (80) كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى (81) وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى (82)(8/258)
وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى (77)
(ولقد أوحينا إلى موسى) هذا شروع في إنجاء بني إسرائيل وإهلاك عدوهم، وقد تقدم في البقرة والأعراف، وفي يونس، واللام في لقد هي الموطئة للقسم، وفي ذلك من التأكيد ما لا يخفى (أن أسر بعبادي) أي أسر بهم ليلاً من مصر إلى البحر، وقد تقدم هذا مستوفى.
(فاضرب) أي اجعل (لهم طريقاً) وأشرعه، وقيل طريقاً مفعول به على سبيل المجاز بأن يكون المعنى اضرب البحر لينفلق لهم فيصير طريقاً لهم فعلى هذا تصح نسبة الضرب إلى الطريق؛ والمراد بالطريق جنسه، فإن الطرق كانت اثنتي عشرة بعدد أسباط بني إسرائيل (في البحر يبساً) أي يابساً وصف به الفاعل مبالغة، وذلك أن الله تعالى أيبس لهم تلك الطريق، ومرت عليه الصَّبا فجففته حتى لم يكن فيها ماء ولا طين قاله محمد بن كعب ومجاهد، وقرئ بسكون الباء مخففاً من يَبْساً المحرك وهو مصدر أو جمع يابس كصحب وصاحب وصف به الواحد مبالغة.
(ولا تخاف دركاً) أي آمناً من أن يدرككم العدوّ من ورائكم، والدرك اللحاق بهم من فرعون وجنوده، وبه قال ابن عباس قرأ الجمهور لا تخاف وهي أرجح لعدم الجزم في قوله سبحانه: (ولا تخشى) أي من فرعون أو من البحر أن يغرقك(8/258)
فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ (78)
(فأتبعهم فرعون بجنوده) اتبع هنا مطاوع اتبع يقال:(8/258)
أتبعتهم إذا تبعتهم وذلك إذا سبقوك فلحقته، فالعنى تبعهم فرعون ومعه جنوده، وقيل الباء زائدة والأصل أتبعهم جنوده أي أمرهم أن يتبعوا موسى وقومه، وقرئ فاتبعهم بالتشديد أي لحقهم بجنوده وهو معهم، كما يقال ركب الأمير بسيفه أي معه سيفه وقيل سائقاً جنوده معه.
(فغشيهم من اليمِّ ما غشيهم) أي علاهم وأصابهم منه ما غمرهم من الأمر الهائل الذي لا يقادر قدره، ولا يبلغ كنهه، وقال السمين: هذا من باب الاختصار وجوامع الكلم أي ما يقل لفظها ويكثر معناها، والتكرير للتعظيم والتهويل؛ كما في قوله: (الحاقة ما الحاقة) وقيل غشيهم ما سمعت قصته؛ وقال ابن الأنباري: غشيهم البعض الذي غشيهم لأنه لم يغشهم كل ماء البحر بل الذي غشيهم بعضه، فهذه العبارة للدلالة على الذي أغرقهم بعض الماء، والأول أولى لما يدل عليه من التهويل والتعظيم.
وقرئ (فغشاهم من اليمِّ ما غشاهم) أي غطاهم ما غطاهم من الغرق وسترهم ما لم يعلم كنهه إلا الله سبحانه فغرق فرعون وجنوده ونجا موسى وقومه.(8/259)
وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى (79)
(وأضل فرعون قومه وما هدى) هذا إخبار عن حاله قبل الغرق أي أضلهم عن الرشد وما هداهم إلى طريق النجاة لأنه قدر أن موسى وقومه لا يفوتونه لكونهم بين يديه يمشون في طريق يابسة وبين أيديهم البحر وفي قوله: (وما هدى) تأكيد وتقرير لإضلاله لأن المضل قد يرشد من يضله في بعض الأمور وفيه تكذيب لفرعون في قوله: وما أهديكم إلا سبيل الرشاد.(8/259)
يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى (80)
(يا بني إسرائيل قد أنجيناكم من عدوكم) ذكر سبحانه ما أنعم به على بني إسرائيل بعد إنجائهم، وفي هذا الترتيب غاية الحسن حيث قدم تذكير نعمة الإنجاء ثم النعمة الدينية ثم الدنيوية والتقدير: قلنا لهم بعد إنجائهم يا بني إسرائيل ويجوز أن يكون خطاباً لليهود المعاصرين لنبينا صلى الله عليه وسلم لأن النعمة على الآباء معدودة من النعم على الأبناء، والمراد بعدوهم هنا فرعون وجنوده، وذلك بإغراقه وإغراق قومه في البحر بمرأى من بني إسرائيل.(8/259)
(وواعدناكم جانب الطور الأيمن) انتصاب جانب على أنه مفعول به لا على الظرفية لأنه مكان معين غير مبهم، وإنما تنتصب الأمكنة على الظرفية إذا كانت مبهمة، قال مكي: وهذا أصل لا خلاف فيه.
قال النحاس: والمعنى أمرنا موسى أن يأمركم بالخروج معه لنكلمه بحضرتكم فتسمعوا الكلام، وقيل وعد موسى بعد إغراق فرعون أن يأتي جانب الطور فالوعد كان لموسى وإنما خوطبوا به لأن الوعد كان لأجلهم فهو من المجاز العقلي. وقرئ (ووعدناكم) لأن الوعد إنما هو من الله لموسى خاصة والمواعدة لا تكون إلا من اثنين، وقد قدمنا في البقرة هذا المعنى، والأيمن صفة للجانب، والمراد يمين الشخص لأن الجبل ليس له يمين ولا شمال، فإذا قيل خذ عن يمين الجبل فمعناه عن يمينك من الجبل
(ونزلنا عليكم) أي في التيه (المن والسلوى) قد تقدم تفسير المن بالترنجبين والسلوى بالسمان وأوضحنا ذلك بما لا مزيد عليه، وقال أبو السعود: المن هو شيء حلو أبيض مثل الثلج كان ينزل من الفجر إلى طلوع الشمس لكل إنسان صاع ويبعث الريح الجنوب عليهم السماني فيذبح الرجل منهم ما يكفيه.(8/260)
كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى (81)
(كلوا) أي قلنا لهم: كلوا (من طيبات ما رزقناكم) أي المنعم به عليكم المراد بالطيبات المستلذات، وقيل الحلال، على الخلاف المشهور في ذلك (ولا تطغوا فيه) الطغيان التجاوز أي لا تتجاوزوا ما هو جائز إلى ما لا يجوز كالسرف والبطر والمنع عن المستحق.
وقيل: المعنى لا تجحدوا نبي الله فتكونوا طاغين، وقيل: لا تكفروا نعمة الله ولا تنسوا شكرها، وقيل: لا تعصوا النعم أي لا تحملنكم السعة والعافية على المعصية ولا مانع من حمل الطغيان على جميع هذه المعاني، فإن كل واحد منها يصدق عليه أنه طغيان.(8/260)
(فيحل) بكسر الحاء أي يجب (عليكم غضبي) أي يلزمكم وبضمها بمعنى ينزل بكم وهو مأخوذ من حلول الدين أي حضور وقت أدائه (ومن يحلل عليه غضبي فقد هوى) قرئ بكسر اللام الأولى وبضمها وهما لغتان.
قال الفراء: الكسر أحب إليّ من الضم لأن الضم من الحلول بمعنى الوقوع ويحل بالكسر يجب وجاء التفسير بالوجوب لا بالوقوع وذكر نحو هذا أبو عبيدة وغيره، وَهَوَى بمعنى هلك، قال الزجاج: فقد هوى أي صار إلى الهاوية وهي قعر النار من هوى يهوي هوياً: أي سقط من علو إلى سفل وهوى فلان أي مات، وقال ابن عباس: هوى أي شقي.(8/261)
وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى (82)
(وإني لغفار لمن تاب) من الذنوب التي أعظمها الشرك بالله أو من الشرك قاله ابن عباس (وآمن) بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وقال ابن عباس: وحد الله (وعمل) عملاً (صالحاً) مما ندب إليه الشرع وحسنه، وقال ابن عباس: أدى الفرائض وظاهر اللفظ يشمل الفرض والنفل.
(ثم اهتدى) أي استقام واستمر على ذلك حتى يموت، قاله الزجاج وغيره وقال سعيد بن جبير: لزم السنة والجماعة، وعن ابن عباس قال: من تاب من الذنب وآمن من الشرك وعمل صالحاً فيما بينه وبين ربه ثم اهتدى أي علم أن لعمله ثواباً وعلى تركه عقاباً يجزى عليه، وقيل تعلم العلم ليهتدي به، وقيل لم يشك في إيمانه والأول أرجح مما بعده، و (ثم) إما للتراخي باعتبار الانتهاء لبعده عن أول الاهتداء أو الدلالة على بعد ما بين المرتبتين فإن المداومة أعظم وأعلى من الشروع.
والإيضاح أن المراد الاستمرار على تلك الطريقة إذ المهتدي في الحال لا يكفيه ذلك في الفوز بالنجاة، حتى يستمر عليه في المستقبل ويموت عليه، قاله الكرخي.(8/261)
وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى (83) قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى (84) قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (85) فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي (86) قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (87) فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ (88)(8/262)
وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى (83)
(وما أعجلك عن قومك يا موسى؟) هذا حكاية لما جرى بين الله سبحانه، وبين موسى عند موافاته الميقات. والسؤال وقع من الله لكنه ليس لاستدعاء المعرفة بل إما لتعريف غيره أو لتبكيته أو لتنبيهه كما صرح به الراغب وظاهره أنه ليس بمجاز كما يقول التلميذ سألني الأستاذ عن كذا ليعرف فهمي ونحو ذلك، قال المفسرون: كانت المواعدة أن يوافي موسى وجماعة من وجوه قومه فسار موسى بهم، ثم عجل من بينهم شوقاً إلى ربه فقال الله تعالى له: ما الذي حملك على العجلة حتى تركت قومك وخرجت من بينهم؟ والمراد بهم جملة بني إسرائيل فإن موسى كان قد أمر هارون أن يسير بهم على أثره ويلحقونه في مكان المناجاة، فأجاب موسى عن ذلك.
و(8/262)
قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى (84)
(قال هم أولاء على أثري) أي بالقرب مني تابعون لأثري واصلون بعدي ليس بيني وبينهم إلا مسافة يسيرة، وقيل لم يرد أنهم يسيرون خلفه؛ بل أراد أنهم بالقرب منه ينتظرون عوده إليهم. بنو تميم يقولون أولى مقصورة وأهل الحجاز أولاء ممدودة؛ قاله عيسى بن عمرو، وقرئ إثر بكسر الهمز وإسكان الثاء وبفتحهما وهما لغتان.
ثم قال مصرحاً بسبب ما سأله الله عنه، فقال: (وعجلت إليك رب(8/262)
لترضى) عني بمسارعتي إلى امتثال أمرك أو لتزداد رضا عني بذلك، وفيه دليل على جواز الاجتهاد، والمعنى عجلت إلى الوضع الذي أمرتني بالمصير إليه لترضى عني يقال رجل عجل وعجول بين العجلة والعجلة خلاف البطء.
وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة والبيهقي في الشعب من طريق عمرو بن ميمون عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: " تعجل موسى إلى ربه فرأى في ظل العرش رجلاً فعجب له فقال: من هذا يا رب؛ قال لا أحدثك من هو لكن سأخبرك بثلاث فيه كان لا يحسد الناس على ما آتاهم الله من فضله ولا يعن والديه ولا يمشي بالنميمة ".(8/263)
قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (85)
(قال فإنا قد فتنا قومك من بعدك) مستأنفة كأنه قيل فماذا؟ قال الله أي ابتليناهم واختبرناهم وألقيناهم في فتنة ومحنة، قال ابن الأنباري: صيرناهم مفتونين أشقياء بعبادة العجل من بعد انطلاقك من بينهم وهم الذين خلفهم مع هارون وكانوا ستمائة ألف فافتتنوا غير اثني عشر ألفاً وهذه الفتنة وقعت لهم بعد خروج موسى من عندهم بعشرين يوماً، وهذا الإخبار من الله تعالى عنها قيل إنه كان وقت سؤاله بقوله: وما أعجلك الخ فهو أول حضوره الميقات وفي ذلك الوقت لم تكن الفتنة وقعت لهم كما علمت فيكون هذا الإخبار فيه تجوز من إطلاق الماضي على المستقبل على حد (أتى أمر الله) وقيل إنه كان بعد تمام الأربعين أو في العشر الأخير منها.
قال الشهاب: وعليه الجمهور وعليه فيكون الإخبار حقيقاً لا تجوز فيه.
(وأضلهم السامري) أي دعاهم إلى الضلالة وكان من قوم يعبدون البقر فدخل في دين بني إسرائيل في الظاهر وفي قلبه ما فيه من عبادة البقر وكان من قبيلة تعرف بالسامرة، وقيل كان من القبط، وقيل كان علجاً من علوج كرمان رفع إلى مصر، وكان جاراً لموسى وآمن به واسمه موسى بن ظفر وكان منافقاً، فقال لمن معه من بني إسرائيل إنما تخلف موسى عن الميعاد الذي بينكم وبينه لا صار معكم من الحلي، وهي حرام عليكم وأمرهم بإلقائها في(8/263)
النار وكان من أمر العجل ما كان.(8/264)
فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي (86)
(فرجع موسى إلى قومه) قيل وكان الرجوع إلى قومه بعدما استوفى أربعين يوماً ذا القعدة وعشر ذي الحجة وأخذ التوراة، روي أنه لما رجع موسى سمع الصياح والضجيج وكانوا يرقصون حول العجل، فقال للسبعين الذين كانوا معه: هذا صوت الفتنة.
وفي القرطبي: وسئل الإمام أبو بكر الطرطوشي عن جماعة يجتمعون ويكثرون من ذكر الله وذكر رسوله صلى الله عليه وسلم، ثم إنهم يضربون بالقضيب على شيء من الطبل ويقوم بعضهم يرقص ويتواجد حتى يقع مغشياً عليه ويحضرون شيئاً يأكلونه، فهل الحضور معهم جائز أم لا؟.
فأجاب: يرحمك الله، مذهب الصوفية بطالة وجهالة وضلالة، وما الإسلام إلا كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأما الرقص والتواجد فأول من أحدثه أصحاب السامري لما اتخذ لهم عجلاً جسداً له خوار، فقاموا يرقصون حوله ويتواجدون، فهو دين الكفار وعباد العجل. وأما الطبل فأول من اتخذه الزنادقة ليشغلوا به المسلمين عن كتاب الله تعالى؛ وإنما كان مجلس النبي مع أصحابه كأنما على رؤوسهم الطير من الوقار، فينبغي للسلطان ونوابه أن يمنعهم من الحضور في المساجد وغيرها، ولا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يحضر معهم أو يعينهم على باطلهم. وهذا مذهب مالك وأبي حنيفة والشافعي وأحمد بن حنبل وغيرهم من أئمة المسلمين. إهـ.
(غضبان أسفاً) الأسَفِ الشديد الغضب، وقيل الحزين، وقد مضى في الأعراف بيان هذا مستوفى (قال يا قوم ألم يعدكم ربكم وعداً حسناً) الاستفهام للإنكار التوبيخي، والوعد الحسن وعدهم بالجنة إذا أقاموا على طاعته. وقيل وعدهم أن يسمعهم كلامه في التوراة على لسان موسى ليعملوا بما فيها فيستحقوا ثواب عملهم، وكانت ألف سورة كل سورة ألف آية، يحمل أسفارها سبعون جملاً، ولا وعد أحسن من ذلك. قاله النسفي، وقيل(8/264)
وعدهم النصر والظفر. وقيل هو قوله: (وإني لغفار لمن تاب) الآية.
(أفطال عليكم العهد) أي أوعدكم ذلك فطال عليكم الزمان فنسيتم (أم أردتم أن يحل عليكم غضب من ربكم) أي يلزمكم أو ينزل عليكم، والغضب العقوبة والنقمة. والمعنى أم أردتم أن تفعلوا فعلاً يكون سبب حلول غضب الله عليكم بإرادتكم واختياركم.
(فأخلفتم موعدي) أي موعدكم إياي، فالصدر مضاف إلى المفعول لأنهم وعدوه أن يقيموا على طاعة الله عز وجل إلى أن يرجع إليهم من الطور. وقيل وعدوه أن يأتوا على أثره إلى الميقات فتوقفوا وتركوا المجيء بعده، وهذا ترتيب على كل واحد من شقي الترديد على سبيل البدل.
فأجابوه و(8/265)
قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (87)
(قالوا ما أخلفنا موعدك) الذي وعدناك (بملكنا) بفتح اليم وقرئ بكسرها؛ واختار هذه القراءة أبو عبيد وأبو حاتم لأنها على اللغة العالية الفصيحة، وهو مصدر ملكت الشيء أملكه ملكاً، والمصدر مضاف إلى الفاعل والمفعول محذوف، أي بملكنا أمورنا، أو بملكنا الصواب، بل أخطأنا ولم نملك أنفسنا، وكنا مضطرين إلى الخطأ، أي سوَّل لنا السامري ما سوّل. وغلب على عقولنا.
قال ابن عباس: بملكنا أي بأمرنا. وقال قتادة، بطاقتنا، وعن السدي مثله، وقيل باختيارنا، وذلك أن المرء إذا وقع في الفتنة لم يملك نفسه، وقرئ بملكنا بضم اليم. والمعنى بسلطاننا، قاله الحسن، أي لم يكن لنا ملك فنخلف موعدك وقيل: أن الفتح والكسر والضم كلها لغات سبعية في مصدر ملكت الشيء.
(ولكنا حملنا أوزاراً من زينة القوم) قرئ حملنا بضم الحاء وتشديد الميم وقرئ بفتح الحاء واليم مخففة، واختارها أبو عبيد وأبو حاتم لأنهم حملوا حلية القوم معهم باختيارهم وما حملوها كرهاً، فإنهم كانوا استعاروها منهم حين أرادوا الخروج مع موسى وأوهموهم أنهم يجتمعون في عيد لهم أو وليمة.(8/265)
وقيل هو ما أخذوه من آل فرعون لما قذفهم البحر إلى الساحل. وسميت أوزاراً أي آثاماً لأنه لا يحل لهم أخذها ولا تحل لهم الغنائم في شريعتهم، والأوزار في الأصل الأثقال كما صرح به أهل اللغة، والمراد بالزينة هنا الحلى (فقذفناها) أي طرحناها في النار طلباً للخلاص من إثمها، وقيل المعنى طرحناها إلى السامري لتبقى لديه حتى يرجع موسى فيرى فيها رأيه.
(فكذلك ألقى السامري) أي فمثل ذلك القذف ألقاها السامري، قيل إنه قال لهم حين استبطأ القوم رجوع موسى. إنما احتبس عنكم لأجل ما عندكم من الحلى فجمعوه ودفعوه إليه فرمى به في النار وصاغ لهم منه عجلاً، ثم ألقى عليه قبضة من أثر الرسول، وهو جبريل.(8/266)
فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ (88)
(فأخرج لهم) السامري من الحفرة، وهذا من كلامه تعالى: (عجلاً) صاغه من الحلى في ثلاثة أيام (جسداً) أي حال كونها جسداً أي صائرة جسداً، أي دماً ولحماً، والجسد جمعه أجساد.
قال في البارع: لا يقال الجسد إلا للحيوان العاقل، وهو الإنسان والملائكة والجن، ولا يقال لغيره جسد إلا للزعفران، وللذم إذا يبس أيضاً جسد وجاسد والمعنى أخرج لهم عجلاً ذا جثة على التشبيه بالعاقل.
(له خوار) صوت يسمع، أي يخور كما يخور الحي من العجول، والخوار صوت البقر؛ وقيل خواره كان بالريح لأنه كان عمل فيه خروقاً فإذا دخلت الريح في جوفه خار، ولم تكن فيه حياة.
(فقالوا) أي السامري ومن وافقه بادئ الرأي (هذا إلهكم وإله موسى فنسي) أي فضل موسى ولم يعلم مكان إلهه هذا، وذهب يطلبه في الطور، وهذا يقتضي أنهم جعلوا العجل إلهاً يعبدونه لذاته، لا لتقريبه لهم من الله تعالى. وقيل المعنى فنسي موسى أن يذكر لكم أن هذا إلهه وإلهكم. قاله ابن عباس وقيل الناسي هو السامري؛ أي ترك السامري ما أمر به موسى من الإيمان وضل كذا قال ابن الأعرابي.(8/266)
أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا (89) وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (90) قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى (91) قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92) أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (93) قَالَ يَبْنَؤُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (94) قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ (95) قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (96)(8/267)
أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا (89)
(أفلا يرون ألا يرجع إليهم قولاً) الاستفهام للتوبيخ والتقريع، أي أفلا يعتبرون ويتفكرون في هذا العجل لا يرد عليهم جواباً، ولا يكلمهم إذا كلموه، فكيف يتهمون أنه إلهه وهو عاجز عن المكالمة، و (أن) مخففة ويرجع بالرفع في قراءة العامة، وقرئ بالنصب وفيه ضعف، والرؤية على الأول علمية، وعلى الثاني بصرية.
(ولا يملك لهم ضراً ولا نفعاً) أي لا يقدر على أن يدفع عنهم ضراً، ولا أن يجلب إليهم نفعاً.(8/267)
وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (90)
(ولقد قال لهم هارون) اللام هي الموطئة للقسم، وجملة مؤكدة لما تضمنته الجملة التي قبلها من الإنكار عليهم والتوبيخ لهم، أي والله لقد نصح لهم هارون (من قبل) أي من قبل أن يأتي موسى ويرجع إليهم (يا قوم إنما فتنتم به) أي وقعتم في الفتنة بسبب العجل وابتليتم به وضللتم عن طريق(8/267)
الحق لأجله. قيل ومعنى القصر المستفاد من إنما هو أن العجل صار سبباً لفتنتهم لا لرشادهم، وليس معناه أنهم فتنوا بالعجل لا بغيره.
(وإن ربكم الرحمن) لا العجل؛ خص هذا الموضع باسم الرحمن تنبيهاً على أنهم متى تابوا قبل الله توبتهم لأنه هو الرحمن ومن رحمته أن خلصهم من آفات فرعون (فاتبعوني) في أمري لكم بعبادة الله، ولا تتبعوا السامري في أمره لكم بعبادة العجل.
(وأطيعوا أمري) لا أمره(8/268)
قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى (91)
(قالوا لن نبرح عليه عاكفين) أجابوا هارون عن قوله المتقدم بهذا الجواب المتضمن لعصيانه وعدم قبول ما دعاهم إليه من الخير، وحذرهم عنه من الشر؛ أي لن نزال مقيمين على عبادة هذا العجل (حتى يرجع إلينا موسى) فينظر هل يقرنا على عبادته أو ينهانا عنها؛ فجعلوا هذا غاية لعكوفهم لكن لا على طريق الوعد بل بطريق التعلل والتسويف فعند ذلك اعتزلهم هارون في اثنى عشر ألفاً من المنكرين لما فعله السامري.
أخرج الحاكم وصححه عن عليّ قال: لما تعجل موسى إلى ربه عمد السامري فجمع ما قدر عليه من حلى بني إسرائيل فضربه عجلاً، ثم ألقى القبضة في جوفه فإذا هو عجل جسد له خوار، فقال لهم السامري: هذا إلهكم وإله موسى، فقال لهم هارون: يا قوم الم يعدكم ربكم وعداً حسناً؟ فلما أن رجع موسى أخذ برأس أخيه فقال له هارون مما قال، فقال موسى للسامري ما خطبك؟ قال قبضت قبضة من أثر الرسول فنبذتها، وكذلك سوَّلت لي نفسي، فعمد موسى إلى العجل فوضع موسى عليه المبارد فبرده بها وهو على شط نهر، فما شرب أحد من ذلك الماء ممن كان يعبد ذلك العجل إلا اصفر وجهه مثل الذهب، فقالوا لموسى ما توبتنا؟ قال يقتل بعضكم بعضاً، فأخذوا السكاكين فجعل الرجل يقتل أخاه وأباه وابنه ولا يبالي بمن قتل حتى(8/268)
قتل منهم سبعون ألفاً، فأوحى الله إلى موسى: مرهم فليرفعوا أيديهم فقد غفرت لمن قتل وتبت على من بقي، والحكايات لهذه القصة كثيرة جداً.(8/269)
قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92)
(قال يا هارون ما منعك) جملة مستأنفة، والمعنى أن موسى لما وصل إليهم أخذ بشعور رأس أخيه هارون وبلحيته، وقال ما منعك من اتباعي واللحوق بي عند أن وقعوا في هذه الضلالة ودخلوا في الفتنة؟.
وقيل المعنى ما منعك من اتباعي في الإنكار عليهم؟ وقيل معناه هلا قاتلتهم إذ قد علمت أني لو كنت بينهم لقاتلتهم؟ وقيل معناه هلا فارقتهم؟.
(إذ رأيتهم ضلوا(8/269)
أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (93)
ألا تتبعن؟) أي أيُّ شيء منعك حين رؤيتك لضلالهم من اتباعي، ومن أن تلحقني وتأتيني في الجبل فتخبرني بما فعلوا، وهذه الياء من ياءات الزوائد فحقها أن تحذف في الرسم كما هي كذلك في مصحف الامام ولا زائدة للتوكيد.
(أفعصيت) الهمزة للإنكار والتوبيخ، والمعنى كيف خالفت (أمري) لك بالقيام لله ومنابذة من خالف دينه، وأقمت بين هؤلاء الذين اتخذوا العجل إلهاً؟ وقيل: المراد بقوله: (أمري) هو قوله الذي حكى الله عنه. وقال موسى لأخيه هارون اخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين، فلما أقام معهم ولم يبالغ في الإنكار عليهم نسبه إلى عصيانه ومخالفة أمره، وبه قال ابن جرير والقرطبي.(8/269)
قَالَ يَبْنَؤُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (94)
(قال) هارون (يا ابن أم) بفتح الميم وبكسرها، وعلى كل من القراءتين أراد أمي لكن على الأولى حذفت الألف المنقلبة عن الياء اكتفاء عنها بالفتحة، وعلى الثانية حذفت الياء اكتفاء عنها بالكسرة، ونسبه إلى الأم مع كونه أخاه لأبيه وأمه عند الجمهور استعطافاً له وترقيقاً لقلبه؛ فليس ذكرها لكونه أخاه من أمه فقط كما قيل، فإن الحق إنه كان شقيقه.(8/269)
(لا تأخذ بلحيتي) وكان أخذها بشماله (ولا برأسي) وكان أخذ شعره بيمينه غضباً، والمعنى ولا بشعر رأسي وكان قد أخذ بذؤابتيه، أي لا تفعل هذا بي عقوبة منك لي فإن لي عذراً هو (إني خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل) أي خشيت إن خرجت عنهم وتركتهم أن يتفرقوا فتقول لي إنك فرقت جماعتهم وتغضب عليّ، وذلك لأن هارون لو خرج لتبعه جماعة ممن لم يعبد العجل وتخلف مع السامري عند العجل آخرون، وربما أفضى ذلك إلى القتال بينهم.
(ولم ترقب قولي) أي تقول لم تعمل بوصيتي لك فيهم وتحفظها، ومراده بوصية موسى له قوله هو: اخلفني في قومي وأصلح. قال أبو عبيدة: معناه ولم تنتظر عهدي وقدومي لأنك أمرتني أن أكون معهم. وقال ابن جريج: لم تنتظر قولي ما أنا صانع.
وقال ابن عباس: لم تحفظ قومي، والياء في (قولي) وواقعة على موسى، وقيل واقعة على هارون، لَكِنْ المفسرون على الاحتمال الأول كالسمين والبيضاوي والخازن والخطيب فكلهم اقتصروا على ذلك.
والمعنى على الثاني وخشيت عدم تأملك في القول حتى تفهم عذري، فاعتذر هارون إلى موسى هاهنا بهذا، واعتذر إليه في الأعراف بما حكاه الله عنه هنالك حيث قال: إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني.
ثم ترك موسى الكلام مع أخيه وخاطب السامري(8/270)
قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ (95)
(قال فما خطبك) أي ما شأنك الداعي؟ وما الذي حملك على ما صنعت (يا سامري،(8/270)
قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (96)
قال بصرت بما لم يبصروا به) أي رأيت ما لم يروا وعلمت بما لم يعلموا وفطنت لما لم يفطنوا له وأراد بذلك أنه رأى جبريل على فرس الحياة فألقى في ذهنه أن يقبض قبضة من أثره، وأن ذلك الأثر لا يقع على جماد إلا صار حياً.(8/270)
وقرئ لم تبصروا بالفوقية على الخطاب وبالتحتية وهي أولى لأنه يبعد كل البعد أن يخاطب موسى بذلك ويدير لنفسه أنه علم ما لم يعلم به موسى يقال بَصر بالشيء أي علمه وأبصره أي نظر إليه. كذا قال الزجاج، وقيل هما بمعنى علمه والعامة على ضم الصاد، وقرئ بالكسر وهي لغة.
(فقبضت قبضة) بالضاد المعجمة فيهما، وقرئ بالصاد المهملة فيهما، والفرق بينهما أن ما بالمعجمة هو الأخذ بجميع الكف، وما بالمهملة بأطراف الأصابع والقبضة بضم القاف القدر المقبوض.
قال الجوهري: هي ما قبضت عليه من شيء. قال وربما جاء بالفتح وقد قرئ قبضة بضم القاف وفتحها ومعنى الفتح المرة من القبض ثم أطلقت على المقبوض وهو معنى القبضة بضم القاف.
(من أثر الرسول) أي من المحل الذي وقع عليه حافر فرس جبريل أي الملك الذي أرسل إليك ليذهب بك إلى الطور للمناجاة وأخذ التوراة ولعل ذكره بعنوان الرسالة للإشعار بوقوفه على ما لم يقف عليه القوم، وللتنبيه على وقت أخذ القبضة.
(فنبذتها) أي فطرحتها في الحلى المذابة المسبوكة على صورة العجل فَخَارَ (وكذلك) أي ومثل ذلك التسويل (سوّلت) أي زينت (لي نفسي) قاله الأخفش، وقيل حدثتني نفسي أن أفعله ففعلته اتباعاً لهواي، وهو اعتراف بالخطأ واعتذار فلما سمع موسى منه ذلك.(8/271)
قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا (97) إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا (98) كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا (99) مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا (100) خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا (101) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا (102)(8/272)
قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا (97)
(قال فاذهب) من بيننا (فإن لك في الحياة) أي ما دمت حياً وما عشت (أن تقول) لمن رأيته (لا مساس) أي لا تقربني وهو مأخوذ من المماسة أي لا يَمَسُّك أحد ولا تَمَسُّ أحداً، لكن لا بحسب الاختيار منك بل بموجب الاضطرار الملجئ إلى ذلك، لأن الله سبحانه أمر موسى أن ينفي السامري عن قومه وأمر بني إسرائيل أن لا يخالطوه ولا يقربوه ولا يكلموه عقوبة له ولا شيء أوحش منها ولا أعظم في الدنيا.
ويقال إن قومه باقية فيهم تلك الحالة إلى اليوم، قيل إنه لما قال له موسى ذلك هرب فجعل يهيم في البرية مع السباع والوحش ولا يجد أحداً من الناس يمسه حتى صار كمن يقول لا مساس لبعده عن الناس وبعد الناس عنه، قال الجوهري في الصحاح، وأما قول العرب: لا مساس مثل قطام فإنما بني على الكسر لأنه معدول عن المصدر وهو المس إهـ.
ولا مساس مصدر ماس (1) كقتال من قاتل فهو يقتضي المشاركة وهو مبني مع لا الجنسية؛ والمراد به النهي أي لا تمسني ولا أمسك وحاصل ما قيل في معنى لا مساس ثلاثة أوجه.
_________
(1) وأصلها قبل الإدغام: ماسس.(8/272)
الأول: أنه حرم عليه مماسة الناس وكان إذا مسه أحد حم الماس والممسوس فلذلك كان يصيح إذا رأى أحداً: لا مساس.
والثاني: أن المراد منع الناس من مخالطته، واعترض بأن الرجل إذا صار مهجوراً فلا يقول هو لا مساس، وإنما يقال له ذلك وأجيب بأن المراد الحكاية أي أجعلك يا سامري بحيث إذا أخبرت عن حالك قلت لا مساس.
الثالث: أن المراد انقطاع نسله وأن يخبر بأنه لا يتمكن من مماسة المرأة قاله أبو مسلم وهو ضعيف جداً ويقال: إن موسى هم بقتل السامري، فقال الله تعالى لا تقتله فإنه سخي نقله القرطبي؛ وهذه الآية أصل في نفي أهل البدع والمعاصي وهجرانهم وأن لا يخالطوا قاله الكرخي، ثم ذكر حاله في الآخرة فقال:
(وإن لك موعداً لن تخلفه) بفتح اللام وبالفوقية مبنياً للمفعول أي لن يخلفك الله ذلك الموعد وهو يوم القيامة والموعد مصدر أي إن لك وعداً لعذابك وهو كائن لا محالة، قال الزجاج: أي يكافئك الله على ما فعلت في القيامة والله لا يخلف الميعاد، وقرئ لن تخلفه بكسر اللام وله معنيان أحدهما ستأتيه ولن تغيب عنه ولا مذهب لك عنه ولن تجده مخلفاً، كما تقول أحمدته أي وجدته محموداً، والثاني على التهديد أي لا بد لك أن تصير إليه، ولن يخلف الله موعده الذي وعدك بل توافيه وسيصل إليك، ولن تستطيع الروغان ولا الحيدة عنه، وقرئ لن نخلفه بالنون أي لن يخلفه الله.
(وانظر إلى إلهك الذي ظلت عليه عاكفاً) أصله ظللت، وقرئ بكسر الظاء أي دمت وأقمت على عبادته، قاله ابن عباس والعاكف الملازم.
(لنحرقنه) بالنار قرئ بضم النون وتشديد الراء من حرقه يحرقه وقرئ بتخفيف الراء من أحرقه يحرقه، ومن حرقت الشيء أحرقه حرقاً، إذا بردته وحككت بعضه ببعض أي لنبردنه بالمبارد، ويقال للمبرد المحرق والقراءة الأولى أولى، ومعناها الإحراق بالنار، وكذلك معنى الثانية، وقد جمع بين هذه(8/273)
الثلاث القراءات بأنه أحرق؛ ثم برد بالمبرد، وفي قراءة ابن مسعود لنذبحنه ثم لنحرقنه واللام هي الموطئة للقسم.
(ثم لننسفنه في اليم نسفاً) قال ابن عباس. أي لنذرينه في هواء البحر بحيث لا يبقى منه عين ولا أثر، والمقصود من ذلك زيادة عقوبته وإظهار غباوة المفتنين به لمن له أدنى نظر، والنسف نقض الشيء لتذهب به الريح، وقرئ بضم السين وبكسرها وهما لغتان، والمِنْسَف ما ينسف به الطعام وهو شيء منصوب الصدر أعلاه مرتفع والنسافة ما يسقط منه، والنسف التفرقة والتذرية، وقيل قلع الشيء من أصله، واليم البحر قاله ابن عباس، وقال عليّ: النهر.(8/274)
إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا (98)
(إنما إلهكم الله الذي لا إله إلا هو) لا هذا العجل الذي فتنكم به السامري استئناف مسوق لتحقيق الحق إثر إبطال الباطل (وسع كل شيء علماً) أي وسع علمه كل شيء، وقرئ وسع مشددة، قال قتادة: وسع ملأ، وهذا آخر قصة موسى في هذه السورة المبتدأة بقوله: (وهل أتاك حديث موسى) الخ.(8/274)
كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا (99)
(كذلك) كلام مستأنف خوطب به النبي صلى الله عليه وسلم تسلية له وتبصرة بأحوال من تقدم وتكثيراً لمعجزاته وتذكيراً للمستبصرين من أمته؛ أي كما قصصنا عليك خبر موسى:
(نقص عليك من أنباء ما قد سبق) أي من أخبار الحوادث الماضية في الأمم الخالية لتكون تسلية لك، ودلالة على صدقك ومن للتبعيض أي بعض أخبار ذلك.
(وقد آتيناك من لدنا ذكراً) منطوياً ومشتملاً على هذه القصص والأخبار والمراد بالذكر القرآن قاله ابن زيد، وسمي ذكراً لما فيه من الموجبات للتذكر والاعتبار، وقيل المراد بالذكر الشرف كقوله: (وإنه لذكر لك ولقومك) ثم توعد سبحانه المعرضين عن هذا الذكر فقال:(8/274)
مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا (100)
(من أعرض عنه) فلم يؤمن به ولا عمل بما فيه، وقيل عن الله سبحانه (فإنه) أي المعرض عنه (يحمل يوم القيامة وزراً) أي إثماً عظيماً وعقوبة ثقيلة بسبب إعراضه(8/275)
خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا (101)
(خالدين فيه) أي في عذاب الوزر، والمعنى أنهم مقيمون في جزائه فأقيم السبب مقام المسبب (وساء لهم) اللام للبيان كما في هيت لك (يوم القيامة حملاً) أي بئس الحمل، والمخصوص بالذم محذوف أي ساء لهم حملاً وزرهم.(8/275)
يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا (102)
(يوم) أي اذكر يوم (ينفخ) قرئ بضم التحتية وبالنون مبنياً للفاعل، وبفتح الياء على أن الفاعل هو الله أو إسرافيل (في الصور) بسكون الواو، وقرئ بفتحها جمع صورة، والأول أولى وهو قرن ينفخ فيه يدعى به الناس للمحشر، والمراد بهذه النفخة الثانية لأنه أتبعه بقوله: (ونحشر المجرمين) المراد بهم المشركون والكافرون والعصاة المأخوذون بذنوبهم التي لم يغفرها الله لهم.
والمراد بقوله: (يومئذ) يوم النفخ في الصور (زرقاً) أي زرق العيون مع سواد الوجوه، والزرقة الخضرة في العين كعين السنور، والعرب تتشاءم بزرقة العين لأن الروم كانوا أعدى أعدائهم وهم زرق؛ والزراقة أسوأ ألوان العين، وأبغضها إلى العرب ولذلك قالوا في صفة العدو: أسود الكبد أصهب السبال أزرق العين.
وقال الفراء: زرقاً أي عمياً، وقال الأزهري: عطاشاً، وهو قول الزجاج لأن سواد العين يتغير بالعطش إلى الزرقة، وقيل: إنه كناية عن الطمع الكاذب إذا تعقبته الخيبة، وقيل هو كناية عن شخوص البصر من شدة الحرص، والقول الأول أولى، والجمع بين هذه الآية وبين قوله: ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عمياً وبكماً وصماً ما قيل من أن ليوم القيامة حالات ومواطن تختلف فيها صفاتهم ويتنوع عندها عذابهم، قال ابن عباس: فيه حالات يكونون في حال زرقاً، وفي حال عمياً.(8/275)
يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا (103) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا (104) وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا (105) فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا (106) لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا (107) يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا (108) يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا (109)(8/276)
يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا (103)
(يتخافتون بينهم) أي يتشاورون قاله ابن عباس، وقيل يتسارون جملة حالية أو مستأنفة لبيان ما هم فيه في ذلك اليوم، والخَفْتُ في اللغة السكون والمخافتة والتخافت والخفت بوزن السبت إسرار المنطق ثم قيل لمن خفض صوته خفته، والمعنى يخفضون أصواتهم ويخفونها ويقول بعضهم لبعض سراً لما لحقهم من هول ذلك اليوم ورعبه.
(إن) أي ما (لبثتم) في الدنيا أو في القبور، أو ما بين النفختين وهو مقدار أربعين سنة (إلا عشراً) من الليالي بأيامها لأن الشهور غررها بالليالي فتكون الأيام داخلة فيها تبعاً، قاله في الكشاف، والمعنى أنهم يستقصرون ويستقلون مدة مقامهم ولبثهم في الدنيا جداً، وقيل: المراد بالعشر عشر ساعات، ثم لما قالوا هذا قال الله سبحانه(8/276)
نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا (104)
(نحن أعلم بما يقولون) فيما بينهم.
(إذ يقول أمثلهم طريقة) أي أعدلهم قولاً وأكملهم رأياً وأعلمهم عند نفسه وقال سعيد بن جبير أوفاهم عقلا (إن لبثتم إلا يوماً) واحداً ونسبة هذا القول إلى أمثلهم لكونه أدل على شدة الهول لا لكونه أقرب إلى الصدق.(8/276)
وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا (105)
(ويسألونك عن) حال (الجبال) قال ابن جريج: قالت قريش كيف يفعل ربك بهذه الجبال يوم القيامة أي على سبيل الاستهزاء فأمره الله سبحانه أن يجيب عنهم فقال (فقل) الفاء لجواب شرط محذوف، والتقدير.(8/276)
إن سألوك فقل، أو للمسارعة إلى إلزام السائلين (ينسفها ربي نسفاً).
قال ابن الأعرابي وغيره: يقلعها قلعاً من أصولها ثم يصيرها رملاً تسيل سيلاً ثم يصيرها كالصوف المنفوش تطيرها الرياح هكذا وهكذا، ثم كالهباء المنثور، يقال: نَسَفَت الريح التراب نسفاً من باب ضرب اقتلعته وفرقته واسم الآلة مِنْسَف بكسر الميم.(8/277)
فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا (106)
(فيذرها) أي يترك الجبال باعتبار مواضعها أي فيذر مواضعها وأجزاءها السافلة الباقية بعد النسف وهي مقارُّها ومراكزُها، أي فيذر ما انبسط منها، وساوى مُسَطَّحُه مُسَطَّحَ أجزاء الأرض بعد نسف ما كان عليها من الجبال الشواهق، أو الضمير للأرض المدلول عليها بقرينة الحال أنها الباقية بعد نسف الجبال (قاعاً صفصفاً) قال ابن الأعرابي: هو الأرض الملساء بلا نبات ولا بناء وقال الفراء: القاع مستنقع الماء، والصفصف القرعاء الملساء التي لا نبات فيها، كأن أجزاءها صف واحد من كل جهة فـ (صفصفاً) قريب في المعنى من (قاعاً) فهو كالتأكيد له.
قال الجوهري: القاع المستوي الصلب من الأرض والجمع أَقْوُع وَأَقْوَاع وقيعان، والظاهر -من لغة العرب- أن القاع الموضع المنكشف، والصفصف الستوى الأملس.(8/277)
لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا (107)
(لا ترى فيها) الضمير راجع إلى الجبال بذلك الاعتبار، أو إلى الأرض على ما مر (عوجاً) أي انخفاضاً وهو بكسر العين التَّعَوُّج. قاله ابن الأعرابي (ولا أمتاً) هو التلال الصغار، والَأمْت في اللغة المكان المرتفع، وقيل العِوج اليل والأمت الأثر مثل الشراك، وقيل العوج الوادي والأمت الرابية، وقيل الأمت النتوء اليسير، يقال مد حبله حتى ما فيه أَمْت، وقيل هما الانخفاض والارتفاع. وقيل العوج الصدوع والأمت الأكمة، وقيل الأمت الشقوق في الأرض. وقيل الآكام.
وقيل الأمت أن تغلظ في مكان، وتدق في مكان، ووصف مواضع الجبال(8/277)
بالعوج بكسر العين هاهنا يدفع ما يقال إن العوج بكسر العين في المعاني وبفتحها في الأعيان والمحسوسات؛ إلا أن يقال عبر فيه بمكسور العين لكونه لشدة خفائه، كأنه صار من قبيل المعاني؛ أي لا تدركه فيها، ولو تأملته بالمقاييس الهندسية. قاله أبو السعود.
وقد تكلف لذلك صاحب الكشاف في هذا الموضع بما عنه غِنىً وفي غيره سعة. وعن ابن عباس قال: هي الأرض الملساء التي ليس فيها رابية مرتفعة ولا انخفاض. قال البيضاوي: هي ثلاثة أحوال مترتبة فالأولان باعتبار الإحساس والثالث باعتبار المقياس، ولذلك ذكر العوج وهو يخص المعاني.(8/278)
يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا (108)
(يومئذ) أي يوم نسف الجبال (يتبعون الداعي) أي يتبع الناس داعي الله إلى المحشر فيقبلون من كل أوب إلى صوبه. قال الفراء: يعني بالداعي صوت الحشر، وقيل هو إسرافيل إذا نفخ في الصور، والراجح أن الداعي جبريل والنافخ إسرافيل تأمل.
(لا عوج له) أي مَعْدِل لهم عن دعائه فلا يقدرون على أن يزيغوا عنه وينحرفوا منه بل يسرعون إليه، كذا قال أكثر المفسرين، وقيل لا عوج لدعائه ولا يزيغون عنه يميناً ولا شمالاً، بل يتبعونه ويأتونه سراعاً ولا يميلون إلى ناس دون ناس، وقيل لا عوج لذلك الاتباع، والأول أظهر.
وعن محمد بن كعب القرظي قال: يحشر الناس يوم القيامة في ظلمة تطوى السماء وتتناثر النجوم وتذهب الشمس والقمر؛ وينادي مناد فيتبع الناس الصوت يَؤُمّونه، فذلك قول الله يومئذ (يتبعون الداعي لا عوج له).
وعن أبي صالح في الآية قيل: يضع إسرافيل الصور في فيه ويقف على صخرة بيت المقدس وينادي: أيتها العظام البالية والجلود المتمزقة واللحوم المتفرقة والأوصال المتقطعة، هلمي إلى عرض الرحمن فإن الله يأمركن أن تجتمعن لفصل القضاء، فيقبلون من كل أوب إلى صوبه لا يعدلون عنه ويستوون إليه من غير انحراف، متبعين لصوته.(8/278)
(وخشعت الأصوات للرحمن) أي خفضت لهيبته وجلاله؛ وقيل ضعفت لعظمته، وقيل ذلت من شدة الفزع، وقيل سكنت، قاله ابن عباس، والمراد أصحاب الأصوات.
(فلا تسمع إلا همساً) هو الصوت الخفي، قاله ابن عباس ومجاهد. وقال أكثر المفسرين: هو صوت نقل الأقدام إلى المحشر ووطئها، ومنه همست الإبل إذا سمع ذلك من وقع أخفافها على الأرض. وعن الضحاك وعكرمة وسعيد بن جبير والحسن مثله، وعن سعيد أيضاً قال: سر الحديث والظاهر أن المراد هنا كل صوت خفي، سواء كان بالقدم أو من الفم بتحريك الشفاه أو غير ذلك، ويؤيده قراءة أبي: فلا ينطقون إلا همساً وهو مصدر همست الكلام، من باب ضرب إذا أخفيته والاستثناء مفرغ. وقال الزمخشري: الهمس الذكر الخفي ومنه الحروف المهموسة.(8/279)
يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا (109)
(يومئذ) أي يوم يقع ما ذكرنا (لا تنفع الشفاعة) من شافع كائناً من كان (إلا) شفاعة (من أذن له الرحمن) في أن يشفع لغيره، وبه بدأ القاضي كالكشاف لما فيه من تعظيم الشافع، واللام للتعليل، أي لأجله.
(ورضي له قولاً) أي رضي قوله في الشفاعة، أو رضي لأجله قول الشافع، والمعنى إنما تنفع الشفاعة لمن أذن له الرحمن في أن يشفع له وكان له قول يرضى، ومثل هذه الآية قوله: (ولا يشفعون إلا لمن ارتضى). وقوله (لا يملكون الشفاعة إلا من اتخذ عند الرحمن عهداً). وقوله: (فما تنفعهم شفاعة الشافعين). وفيه دلالة على أنه لا يشفع أحد لأحد إلا لمن يأذن الله له فيها، فلا شفاعة إلا بإذن منه سبحانه، وهذا يدل على أنه لا يشفع لغير المؤمنين، وبه صرح البغوي؛ وهذه الآية من أقوى الدلائل على ثبوت الشفاعة في حق الفساق، لأن قوله ورضي له قولاً، يكفي في صدقه أن يكون الله تعالى قد رضي له قولاً واحداً من أقواله. والفاسق قد رضي الله من أقواله شهادة أن لا إله إلا الله فوجب أن تكون الشفاعة نافعة له بعد الإذن، لأن الاستثناء من النفي إثبات. والجملة تفسير لمن يؤذن في الشفاعة له.(8/279)
يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا (110) وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا (111) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا (112) وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا (113)
وحاصل هذا التفسير أنه كل من قال في الدنيا لا إله إلا الله، أي كان مسلماً ومات على الإسلام وإن عمل السيئات(8/280)
يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا (110)
(يعلم ما بين أيديهم) من أمور الساعة والآخرة (وما خلفهم) من أمور الدنيا، والمراد جميع الخلق. وقيل المراد بهم الذين يتبعون الداعي. وقيل الضمير للشافعين، وقال ابن جرير: يرجع إلى الملائكة أعلم الله من يعبدها أنها لا تعلم ما بين أيديها وما خلفها، والعموم أولى (ولا يحيطون به علماً) أي بالله سبحانه لا تحيط علومهم بذاته ولا بصفاته ولا بمعلوماته.
وقيل الضمير راجع إلى ما في الموضعين، فإنهم لا يعلمونّ جميع ذلك(8/280)
وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا (111)
(وعنت الوجوه للحي القيوم) أي ذلت وخضعت. قاله ابن الأعرابي وعن ابن عباس وقتادة مثله. وقال مجاهد: خشعت. وقال أبو العالية: خضعت، وعن ابن عباس قال: وعنت الوجوه: الركوع والسجود، قال الزجاج: معنى عَنَتْ في اللغة خضعت، يقال عنا يعنو عنواً إذا خضع وذل وأعناه غيره؛ أي أذله، ومنه قيل للأسير عانٍ والجمع عناة؛ وقيل هو من العناء بمعنى التعب، وذكر الوجوه وأراد بها أصحابها، وخص الوجوه بالذكر لأن الخضوع بها يتبين وأول ما يظهر فيها؛ ثم قسمها إلى قسمين بقوله:
(وقد خاب من حمل ظلماً) أي خسر من حمل شيئاً من الظلم، وقيل هو الشرك، وبه قال ابن جريج وقتادة.
وقوله(8/280)
وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا (112)
(ومن يعمل من) الأعمال (الصالحات) الطاعات (وهو)(8/280)
أي والحال أنه (مؤمن) بالله لأن العمل لا يقبل من غير إيمان، بل هو شرط في القبول (فلا يخاف) قرئ برفعه على النفي والاستئناف، أي فهو لا يخاف، وقرئ بجزمه على النهي (ظلماً) يصاب به من نقص ثواب في الآخرة (ولا هضماً) هو النقص والكسر، يقال هضمت لك من حقي أي حططته وتركته ونقصت منه، وهذا يهضم الطعام، أي ينقص ثقله، وامرأة هضيم الكشح أي ضامرة البطن. ومنه أيضاً طلعها هضيم أي دقيق متراكب كان بعضه يظلم بعضاً فينقصه حقه، ورجل هضيم ومهتضم أي مظلوم، وهضمته واهتضمته وتهضمته كله بمعنى، قيل الظلم والهضم متقاربان، وفرق القاضي الماوردي بينهما فقال: الظلم منع جميع الحق، والهضم منع بعضه.
قال قتادة: ظلماً أن يزاد في سيئاته ولا هضماً أن ينقص من حسناته، وقيل هضماً أي غضباً، وقيل لا يؤاخذ بذنب لم يعمله ولا تبطل عنه حسنة عملها(8/281)
وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا (113)
(وكذلك) أي مثل ذلك الإنزال.
(أنزلناه) أي القرآن كله حال كونه (قرآناً عربياً) أي بلغة العرب ليفهموه ويقفوا على ما فيه من النظم المعجز الدال على كونه خارجاً عن طوق البشر نازلاً من عند خالق القوى والقدر، وإضمار القرآن من غير سبق ذكره للإيذان بنباهة شأنه وكونه مركوزاً في العقول حاضراً في الأذهان (وصرفنا) أي وبينا (فيه) ضروباً (من الوعيد) تخويفاً وتهديداً وكررنا فيه بعضاً منه، والمراد الجنس ومن مزيدة على رأي الأخفش.
(لعلهم يتقون) أي كي يخافوا الله فيجتنبوا معاصيه ويحذروا عقابه (أو يحدث لهم ذكراً) أي اعتباراً واتعاظاً بهلاك من تقدمهم من الأمم فيعتبرون، وقيل ورعاً، وقيل شرفاً وقيل طاعة وعبادة لأن الذكر يطلق عليها، وأضيف الذكر إلى القرآن ولم تضف التقوى إليه، لأن التقوى عبارة عن أن لا يفعل القبيح وذلك استمرار على العدم الأصلي فلم يحسن إسناده إلى القرآن، وأما حدوث الذكر فأمر يحدث بعد أن لم يكن فجازت إضافته إليه. قاله الكرخي.(8/281)
فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا (114) وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا (115) وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى (116) فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى (117) إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (118) وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى (119) فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى (120)(8/282)
فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا (114)
(فتعالى الله الملك الحق) لما بين سبحانه للعباد عظيم نعمته عليهم بإنزال القرآن نزه نفسه عن مماثلة مخلوقاته في شيء من الأشياء، أي جل الله عن إلحاد الملحدين وعما يقول المشركون والمعطلون في صفاته، فإنه الملك الذي بيده الثواب والعقاب، نافذ أمره ونهيه وأنه الحق، أي ذو الحق في ملكوته وألوهيته أو الحقيق بأن يرجى وعده ويخشى وعيده، أو الثابت في ذاته وصفاته. وقيل إنما وصف نفسه باْلمَلِك الحق لأن ملكه لا يزول ولا يتغير وليس بمستفاد من قبل الغير ولا غيره أولى به منه.
(ولا تعجل بالقرآن) أي بقراءته (من قبل أن يقضى) أي يتم (إليك وحيه) أي يفرغ جبريل من إبلاغه. قال المفسرون: كان النبي صلى الله عليه وسلم يبادر جبريل فيقرأ قبل أن يفرغ جبريل من الوحي حرصاً منه على ما ينزل عليه منه، فنهاه الله عن ذلك، ومثله قوله (لا تحرك به لسانك لتعجل به) على ما يأتي إن شاء الله تعالى.
وقيل المعنى ولا تُلْقِه إلى الناس قيل أن يأتيك بيان تأويله، وقرئ نقضي بالنون. قال ابن عباس: لا تعجل حتى نبينه لك. وقال قتادة: لا تَتْلُه على أحد حتى نتمه لك.(8/282)
وعن الحسن قال: لطم رجل امرأته فجاءت إلى النبي (- صلى الله عليه وسلم -) تطلب قصاصاً فجعل للنبي صلى الله عليه وسلم القصاص، فأنزل الله: (ولا تعجل بالقرآن)، الآية فوقف النبي صلى الله عليه وسلم حتى نزلت: (الرجال قوامون على النساء)، الآية. أخرجه القربان وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه.
(وقل رب زدني علماً) أي سَلْ في نفسك ربك زيادة العلم بكتابه وبمعانيه فإنه الموصل إلى مطلوبك دون الاستعجال فكلما أنزل عليه شيء منه زاد به علمه وما أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بطلب الزيادة في شيء إلا في العلم، وفيه التواضع والشكر لله، والتنبيه على عظم موقع العلم وفضله، وكان ابن مسعود إذا قرأ هذه الآية قال: اللهم زدني علماً وإيماناً ويقيناً ذكره الخطيب وأقول. رب زدني علماً نافعاً وعملاً صالحاً وإيماناً كاملاً ويقيناً تاماً وعاقبة محمودة.(8/283)
وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا (115)
(ولقد عهدنا إلى آدم) اللام هي الموطئة للقسم، والجملة مستأنفة مقررة لما قبلها من تصريف الوعيد أي لقد أمرناه ووصيناه؛ والمعهود محذوف وهو ما سيأتي من نهيه عن الأكل من الشجرة (من قبل) أي من قبل هذا الزمان أو قبل أكله منها.
(فنسي) المراد بالنسيان هنا ترك العمل بما وقع به العهد إليه فيه، وبه قال أكثر المفسرين كما في قوله (إنا نسيناكم) أي تركناكم في العذاب فلا يشكل بوصفه بالعصيان غياً، وقيل النسيان على حقيقته وأنه نسى ما عهد الله به إليه وسها عنه وكان آدم مأخوذاً بالنسيان في ذلك الوقت، وإن كان النسيان مرفوعاً عن هذه الأمة، والمراد من الآية تسلية النبي صلى الله عليه وسلم على القول الأول أي أن طاعة بني آدم للشيطان أمر قديم، وأن هؤلاء المعاصرين له إن نقضوا العهد فقد نقض أبوهم آدم، كذا قال ابن جرير والقشيري وما اعترضه ابن عطية قائلاً يكون آدم مماثلاً للكفار الجاحدين بالله، فليس(8/283)
بشيء، وقرئ فَنُسِّيَ بضم النون وتشديد السين مكسورة أي فنساه إبليس. قال ابن عباس: إنما سمي الإنسان لأنه عهد إليه فنسي أي لقد عهدنا إلى آدم أن لا يقرب الشجرة فنسي فترك عهدي (ولم نجد) من الوجدان بمعنى العلم أو من الوجود ضد العدم (له عزماً) أي حزماً وصبراً عما نهيناه عنه أو حفظاً قاله ابن عباس، والعزم في اللغة توطين النفس على الفعل والتصميم عليه والمضي على المعتقد في أي شيء كان، وقد كان آدم عليه السلام قد وطن نفسه على أن لا يأكل من الشجرة وصمم على ذلك فلما وسوس إليه إبليس لانت عريكته وفتر عزمه وأدركه ضعف البشر، وقيل العزم: الصبر كما مر أي لم نجد له صبراً عن أكل الشجرة.
قال النحاس: وهو كذلك في اللغة يقال: لفلان عزم أو صبر وثبات على التحفظ عن المعاصي حتى يسلم منها، ومنه (كما صبر أولوا العزم من الرسل)، وقيل المعنى ولم نجد له عزماً على الذنب، وبه قال ابن كيسان، وقيل ولم نجد له رأياً معزوماً عليه، وبه قال ابن قتيبة.
ثم شرع سبحانه في كيفية ظهور نسيانه وفقدان عزمه فقال:(8/284)
وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى (116)
(وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم) أي اذكر، وتعليق الذكر بالوقت مع أن المقصود ذكر ما فيه من الحوادث للمبالغة لأنه إذا وقع الأمر بذكر الوقت كان ذكر ما فيه من الحوادث لازماً بطريق الأولى كررت هذه القصة في سبع سور من القرآن لسر يعلمه الله وبعض خلقه.
(فسجدوا إلا إبليس) وهو أبو الجن كان يصحب الملائكة ويعبد الله معهم فالاستثناء منقطع، وقيل متصل، والأول أولى (أبى) أن يسجد لآدم وقال أنا خير منه(8/284)
فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى (117)
(فقلنا يا آدم إن هذا) يعني إبليس (عدو لك ولزوجك) أي حواء بالمد حيث لم يسجد لك ولم ير فضلك، وسبب العداوة ما رأى من آثار نعمة الله على آدم فحسده فصار عدواً له.
(فلا يخرجنكما من الجنة) أسند الخروج إليه وإن كان الله تعالى هو(8/284)
المخرج لأنه لما كان يوسوسه وفعل آدم ما يترتب عليه الخروج صح ذلك (فتشقى) الشقاء الشدة والعسر ويمد ويقصر يقال: شقي كرَضي شقاوة، والمعنى فتتعب في تحصيل ما لا بد منه في المعاش وتنصب ويكونَ عيشك من كدِّ يمينك بعرق جبينك وهو الحرث والزرع والطحن والخبز ولم يقل فتشقياً لأن الكلام من أول القصة مع آدم وحده أو أن في ضمن شقاء الرجل شقاء أهله كما أن في سعادته سعادتهم لأنه القيم عليهم أو أريد بالشقاء التعب في طلب القوت وذلك على الرجل دون المرأة لأن الرجل هو الساعي على زوجته، ثم علل ما يوجبه ذلك النهي بما فيه الراحة الكاملة عن التعب والاهتمام فقال:(8/285)
إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (118)
(إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى) المعنى أن لك فيها تمتعاً بأنواع المعاش وتنعماً بأصناف النعم من الآكل الشهية والملابس البهية، فإنه لا نُفي عنه الجوع والعري أفاد ثبوت الشبع والاكتساء له وهكذا قوله:(8/285)
وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى (119)
(وإنك لا تظمأ فيها ولا تضحى) فإن نفي الظمأ يستلزم حصول الرِّيِّ ووجود المسكن الذي يدفع عنه مشقة الضحو يقال: ضحى الرجل يضحي ضحواً إذا برز للشمس فأصابه حرها وعن ابن عباس قال: لا يصيبك فيها عطش ولا حر إذ ليس فيها شمس وأهلها في ظل ممدود فذكر سبحانه هاهنا أنه قد كفاه الاشتغال بأمر المعاش، وتعب الكد في تحصيله.
ولا ريب أن أصول المتاعب في الدنيا التي يدور عليها كفاية الإنسان هي تحصيل الشبع والري والكسوة والسكن وما عدا هذه ففضلات يمكن البقاء بدونها وهو إعلام من الله سبحانه لآدم أنه إن أطاعه فله في الجنة هذا كله وأن ضيع وصيته ولم يحفظ عهده أخرجه من الجنة إلى الدنيا فيحل به التعب والنصب بما يدفع به الجوع والعري والظمأ والضحو فالمراد على هذا بالشقاء المتقدم شقاء الدنيا كما قاله كثير من المفسرين لا شقاء الأخرى.
قال الفراء: هو أن يأكل من كد يديه، قال الصفوي: قابل سبحانه وتعالى بين الجوع والعري والظمأ والضحو؛ وإن كان الجوع يقابل العطش،(8/285)
والعري يقابل الضحو، لأن الجوع ذل الباطن والعري ذل الظاهر، والظمأ حر الباطن والضحو حر الظاهر، فنفى عن ساكنها ذل الظاهر والباطن وحرهما، ذكره ابن لقيمة.
قال أبو السعود: وفصل الظمأ من الجوع مع تجانسهما وتقارنهما في الذكر عادة وكذا حال العري والضحو المتجانسين لتوقية مقام الامتنان حقه للإشارة إلى أن نفي كل واحد من تلك الأمور نعمة على حيالها ولو جمع بين الجوع والظمأ لربما توهم أن نفيهما نعمة واحدة وكذا الحال في الجمع بين العري والضحو ولزيادة التقرير بالتنبيه على أن نفي كل واحد من هذه الأمور مقصود بالذات مذكور بالأصالة لا أن نفي بعضها مذكور بطريق الاستطراد والتبعية لبعض آخر كما عسى يتوهم لو جمع كل من المتجانسين انتهى.(8/286)
فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى (120)
(فوسوس إليه الشيطان) قد تقدم تفسيره وما بعده في الأعراف في قوله: (فوسوس لهما الشيطان) أي ألقى إليه وسوسته، وأما وسوس له فمعناه وسوس لأجله وقال أبو البقاء: عدي بإلى لأنه بمعنى أسر، وعدي باللام في موضع آخر لكونه بمعنى ذكر له ويكون بمعنى لأجله.
(قال يا آدم) بيان لصورة الوسوسة (هل أدلك على شجرة الخلد) هي الشجرة التي من أكل منها لم يمت أصلاً وبقي مخلداً.
أخرج أحمد وعبد بن حميد وابن أبي حاتم، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها، وهي شجرة الخلد " (1) (وملك لا يبلى) أي تصرف يدوم ولا يزول ولا ينقضي ولا يبيد ولا يفنى وهو لازم الخلود.
_________
(1) أحمد بن حنبل 2/ 257 - 404 - 418 - 438 - 452 - 455 - 3/ 110 - 135 - 164 - 185 - 207 - 234 - مسلم 2826.(8/286)
فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (121) ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى (122) قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى (126)(8/287)
فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (121)
(فأكلا) أي آدم وحواء (منها) أي من الشجرة (فبدت لهما سوءآتهما) يعني عَريَا من الثياب التي كانت عليهما بسبب تساقط حلل الجنة عنهما، لما أكلا من الشجرة حتى ظهر لكل واحد منهما قُبَله وقُبُل الآخر ودُبُرَه وسمي كلاًّ منهما سوأة لأن انكشافه يسوء صاحبه ويحزنه.
(وطفقا) طفق يفعل كذا مثل جعل يفعل وهو ككاد في وقوع الخبر فعلاً مضارعاً إلا أنه للشروع في أول الأمر وكاد للْمُدنو منه، قال الفراء: معنى طفقا في العربية أقبلا، وقيل أخذا وجعلا (يخصفان) يلصقان (عليهما) ويلزقان لأجل سوءآتهما أي يسترهما، فَعَلى تعليلية.
(من ورق الجنة) أي من ورق التين بعضه ببعض حتى يصير طويلاً عريضاً يصلح للاستتار به (وعصى آدم ربه) أي خالف نهيه بالأكل من الشجرة فالعصيان هو المخالفة لكنه خالف بتأويل لأنه اعتقد أن أحداً لا يحلف بالله كاذباً أو لأنه اعتقد أن النهي قد نسخ لما حلف له إبليس أو اعتقد أن النهي عن شجرة معينة وأن غيرها من بقية أفراد الجنس ليس منهياً عنه.
(فغوى) أي فضلّ عن الصواب أو عن مطلوبه وهو الخلود بالأكل(8/287)
من تلك الشجرة أي حاد عنه ولم يظفر به هذا هو الحق في تقرير هذا المقام، وقيل فسد عليه عيشه بنزوله إلى الدنيا، وقيل جهل موضع رشده، وقيل بشم (1) من كثرة الأكل، قال ابن قتيبة: أكل آدم من الشجرة التي نهى عنها باستزلال إبليس وخدعه إياه، والقسم له بالله إنه له لمن الناصحين حتى دلاه بغرور، ولم يكن ذنبه عن اعتقاد متقدم ونية صحيحة، فنحن نقول عصى آدم ربه فغوى انتهى.
قال القاضي أبو بكر بن العربي: لا يجوز لأحد أن يخير اليوم بذلك عن آدم. قلت لا مانع من هذا بعد أن أخبرنا الله سبحانه في كتابه بأنه عصاه، وكما يقال: حسنات الأبرار سيئات المقربين، قال في المدارك: وفي التصريح بقوله: (وعصى آدم ربه فغوى) والعدول عن قوله: وزل آدم، مزجرة عظيمة وموعظة بليغة للمكلفين كافة كأنه قيل له انظروا واعتبروا كيف نعيت على النبي المعصوم زلته بهذه الغلظة فلا تتهاونوا بما يفرط منكم من الصغائر فضلاً عن الكبائر، ومما قال الشوكاني في هذا المعنى:
عصى أبو الْعَالَمَ وهو الذي ... من طينة صوره الله
وأسْجَدَ الأملاك من أجله ... وصير الجنة مأواه
أغواه إبليس فمن ذا أنا الـ ... ـمسكينُ إنْ إبليسُ أغواه
وحديث محاجة آدم وموسى في الصحيحين عن أبي هريرة كما سيأتي، وفيه: أتلومني على أمر قدره الله عليَّ قبل أن يخلقني بأربعين سنة، وقد أطال الرازي في بيان اختلاف الناس في عصمة الأنبياء في هذا المقام بما عنه غنى وفي تركه سعة وتبعه في ذلك الخازن في تفسيره فلا نطول الكلام بذكره.
_________
(1) البشم: التخمة يقال بشمت من الطعام بالكسر أهـ صحاح.(8/288)
ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى (122)
(ثم اجتباه ربه) أي اصطفاه وقربه واختاره بالحمل على التوبة(8/288)
والتوفيق لها من جَبَى إليّ كذا فاجتبيته، وأصل الكلمة الجمع، قال ابن فورك: كانت المعصية هذه من آدم قبل النبوة بدليل ما في هذه الآية فإنه ذكر الاجتباء والهداية بعد أن ذكر المعصية وإذا كانت المعصية قبل النبوة فجائز عليهم الذنوب وجهاً واحداً (فتاب عليه) من معصيته وقبل توبته. (وهدى) أي هداه إلى الثبات والمداومة على التوبة، فلم ينقضها أو إلى الاعتذار والاستغفار، قيل وكانت توبة الله عليه قبل أن يتوب هو وحواء، بقولهما: (ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين)، وقد مر وجه تخصيص آدم بالذكر دون حواء. وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " حاج آدم موسى، قال له: أنت الذي أخرجت الناس من الجنة بذنبك وأشقيتهم بمعصيتك. قال آدم: يا موسى أنت الذي اصطفاك الله برسالته وبكلامه أتلومني على أمر كتبه الله عليّ قبل أن يخلقني، أو قدره عليّ قبل أن يخلقني؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " فحج آدم موسى " (1)
_________
(1) مسلم 2652 - البخاري 1604.(8/289)
قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123)
(قال اهبطا منها جميعاً) أي أنزلا بما اشتملتما من ذريتكما من الجنة إلى الأرض والخطاب وإن كان مثنى في اللفظ لكنه في المعنى للجمع ليحصل التوفيق بين هذه الآية وآية الأعراف، وهي قوله: قال اهبطوا، وبالجملة خصهما الله سبحانه بالهبوط لأنهما أصل البشر.
ثم عمم الخطاب لهما ولذريتهما فقال: (بعضكم) بعض الذرية (لبعض عدو) من أجل ظلم بعضهم بعضاً، والمعنى تَعَادِيهِم في أمر المعاش ونحوه فيحدث بسبب ذلك القتال والخصام.
(فإما يأتينكم مني هدى) بإرسال الرسل وإنزال الكتب (فمن اتبع هداي) أي الكتاب والرسول، وضع الظاهر موضع المضمر مع الإضافة إلى ضميره تعالى لتشريفه والمبالغة في إيجاب اتباعه (فلا يضل) في الدنيا (ولا يشقى) في الآخرة أخرج ابن أبي شيبة والطبراني وأبو نعيم في الحلية وابن(8/289)
مردويه عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من اتبع كتاب الله هداه الله من الضلالة في الدنيا ووقاه سوء الحساب يوم القيامة، وذلك أن الله يقول: فمن اتبع. الآية (1) " وعن ابن عباس قال: أجار الله تابع القرآن من أن يضل في الدنيا أو يشقى في الآخرة ثم قرأ هذه الآية.
_________
(1) ضعيف الجامع الصغير 5335.(8/290)
وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124)
(ومن أعرض عن ذكري) أي الهدى الذاكر لي والداعي إليّ، أو عن ديني وتلاوة كتابي والعمل بما فيه، ولم يتبع هداي (فإن له معيشة ضنكاً) أي عيشاً ضيقاً في هذه الحياة الدنيا؛ يقال منزل ضنك وعيش ضنك أي ضيق، في القاموس الضنك الضيق في كل شيء، يقال ضَنُك ضَنْكاً وَضَنَاكة وضُنوكة ضاق. وهو مصدر يستوي فيه الواحد وما فوقه والمذكر والمؤنث، وقرئ بضم الضاد على فعلي. ومعنى الآية أن الله عز وجل جعل لمن اتبع هداه وتمسك بدينه أن يعيش في الدنيا عيشاً هنيئاً غير مهموم ولا مغموم ولا متعب نفسه، كما قال سبحانه (فلنحيينه حياة طيبة) وجعل لمن لم يتبع هداه وأعرض عن دينه أن يعيش عيشاً، ضيقاً، وفي تعب ونصب، ومع ما يصيبه في هذه الدنيا من المتاعب فهو في الآخرة أشد تعباً وأعظم ضيقاً وأكثر نصباً.
وعن أبي سعيد الخدري مرفوعاً معيشة ضنكاً، قال: عذاب القبر. أخرجه البيهقي والحاكم وصححه، ومسدد في مسنده، ولفظ عبد الرزاق: يضيق عليه قبره حتى تختلف أضلاعه، ولفظ ابن أبي حاتم قال: ضمة القبر، وفي سنده ابن لهيعة، وفيه مقال معروف. وقال ابن كثير: الموقوف أصح.
وأخرج البزار وابن أبي حاتم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " المعيشة الضنكى أن تسلط عليه تسع وتسعون حية ينهشون لحمه حتى تقوم الساعة " وعنه مرفوعاً قال: عذاب القبر. أخرجه البيهقي والبزار وابن المنذر وغيرهم. قال ابن كثير بعد إخراجه بإسناد جيد عن ابن(8/290)
مسعود مثله موقوفاً، ومجموع ما ذكرنا هنا يرجح تفسير المعيشة الضنكى بعذاب القبر. وعنه قال: بالشقاء. وقيل هو الزقوم والضريع والغسلين في النار. وقيل هو الحرام والكسب الخبيث؛ والأول أولى.
وقال ابن جبير: يسلبه القناعة حتى لا يشبع، وقيل الحياة في المعصية وإن كان في رخاء ونعمة، قاله الرازي. أو المراد بها عيشة في جهنم، وبما تقرر علم أنه لا يرد أن يقال. نحن نرى المعرضين عن الإيمان في خصب معيشة.
(ونحشره) أي المعرض عن القرآن (يوم القيامة أعمى) أي مسلوب البصر، وهو كقوله: (ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عمياً) قال النسفي: وهو الوجه، وقيل المراد العمى عن الحجة، وقيل أعمى عن جهات الخير لا يهتدي إلى شيء منها.
وقال عكرمة: عمي عليه كل شيء إلا جهنم. وفي لفظ: لا يبصر إلا النار(8/291)
قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (125)
(قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيراً) في الدنيا وعند البعث(8/291)
قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى (126)
(قال كذلك) أي مثل ذلك فعلت أنت أو الأمر كذلك، ثم فسره بقوله: (أتتك آياتنا فنسيتها) أي أعرضت عنها وتركتها ولم تنظر فيها (وكذلك اليوم) أي مثل ذلك النسيان الذي كنت فعلته في الدنيا (تنسى) أي تترك في العمى أو النار وقيل نُسُوا من الخير والبركة والرحمة ولم يُنْسَوْا من العذاب في النار.
قال الفراء: يقال إنه يخرج بصيراً من قبره فيعمى في حشره(8/291)
وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى (127) أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى (128) وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى (129) فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى (130)(8/292)
وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى (127)
(وكذلك) أي مثل ذلك الجزاء (نجزي من أسرف) الإسراف الانهماك في الشهوات، وقيل الشرك بالله، قاله سفيان: (ولم يؤمن بآيات ربه) بل كذب بها (ولعذاب الآخرة أشد) أي أفظع من المعيشة الضنكى (وأبقى) أي أدوم وأثبت لأنه لا ينقطع.(8/292)
أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى (128)
(أفلم يهد لهم) الاستفهام للتقريع والتوبيخ وقرئ بالنون، والمعنى على هذا واضح والجملة مستأنفة لتقرير ما قبلها (كم أهلكنا قبلهم من القرون) قال القفال: جعل كثرة ما أهلك من القرون مبيناً لهم، قال النحاس: وهذا خطأ لأن كم استفهام فلا يعمل فيها ما قبلها.
وقال الزجاج: المعنى أفلم يهد لهم الأمر بإهلاكنا من أهلكناه، وحقيقته تدل على الهدى فالفاعل هو الهدى، وقيل الفاعل ضمير الله أو الرسول أو القرآن، والجملة بعده تفسره.
ومعنى الآية على ما هو الظاهر: أفلم يتبين لأهل مكة خبر من أهلكنا قبلهم من القرون حال كون تلك القرون (يمشون في مساكنهم) ويتقلبون في ديارهم فيعتبروا بهذا الإهلاك فيرجعوا عن تكذيب الرسول أو حال كون هؤلاء يمشون في مساكن القرون الذين أهلكناهم عند خروجهم للتجارة، وطلب العيشة إلى الشام وغيرها، فيرون بلاد الأمم الماضية والقرون الخالية خاوية(8/292)
خاربة من أصحاب الحجر وثمود، وقرى قوم لوط فإن ذلك مما يوجب اعتبارهم لئلا يحل بهم مثل ما حل بأولئك.
(إن في ذلك لآيات) أي لعبراً (لأولي النُّهى) تعليل للإنكار وتقرير للهداية، والإشارة إلى مضمون كم أهلكنا، والنهى جمع نهية وهي العقل، أي بذوي العقول التي تنهى أربابها عن القبيح.(8/293)
وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى (129)
(ولولا كلمة سبقت من ربك) أي الكلمة السابقة وهي وعد الله سبحانه بتأخير عذاب هذه الأمة إلى الدار الآخرة (لكان) عقاب ذنوبهم (لزاماً) أي لازماً لهم في الدنيا لا ينفك عنهم بحال ولا يتأخر، كما لزم القرون الماضية واللزام مصدر لازم.
(وأجل مسمى) معطوف على قوله (كلمة) وهو يوم القيامة أو يوم بدر ويجوز عطفه على الضمير المستتر في (كان) العائد إلى الأخذ المفهوم من السياق أي لكان الأخذ العاجل، وأجل مسمى لازمين لهم، كما كانا لازمين لعاد وثمود وفيه تعسف ظاهر.
قال ابن عباس: هذا من مقاديم الكلام؛ يقول: لولا كلمة وأجل مسمى لكان لزاماً أي موتاً. وعن السدي نحوه، وعن مجاهد قال: الأجل المسمى الكلمة التي سبقت.
ثم لما بين الله سبحانه أنه لا يهلكهم بعذاب الاستئصال أمره بالصبر فقال(8/293)
فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى (130)
(فاصبر على ما يقولون) من أنك ساحر كذاب شاعر كاهن ونحو ذلك من مطاعنهم الباطلة، والمعنى لا تحتفل بهم فإن لعذابهم وقتاً مضروباً بألا يتقدم ولا يتأخر، وأنهم معذبون لا محالة فَتَسَلَّ واصبر. وقيل هذا منسوخ بآية القتال. وقيل إنها محكمة. قال الشهاب: الفاء سببية، والمراد بالصبر عدم الاضطراب لما صدر عنهم لا ترك القتال حتى تكون الآية منسوخة.
(وسبح بحمد ربك) أي متلبساً بحمده، قال أكثر المفسرين: والمراد الصلوات الخمس كما يفيده قوله: (قبل طلوع الشمس) فإنه إشارة إلى(8/293)
صلاة الفجر (وقبل غروبها) فإنه إشارة إلى صلاة العصر. وفي صحيح مسلم وسنن أبي داود والنسائي عن عمارة بن رويبة سمعت رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) يقول: " لن يلج النار أحد صلى قبل طلوع الشمس وقبل غروبها " (1).
(ومن آناء الليل) العتمة والمراد بالآناء الساعات، وهي جمع إناء بالكسر والقصر وهو الساعة، ومعنى (فسبح) فصلّ المغرب والعشاء، والفاء إما عاطفة على مقدر، أو واقعة في جواب شرط مقدر أو زائدة. قال ابن عباس: وهي الصلاة المكتوبة.
وفي الصحيحين وغيرهما من حديث جرير قال: قال رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) " إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته، فإن استطعتم أن لا تغلبوا عن صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا "، وقرأ هذه الآية (2).
(وأطراف النهار) أي في طرفي نصفيه أي في الوقت الذي يجمع الطرفين وهو وقت الزوال فهو نهاية للنصف الأول وبداية للنصف الثاني، والمراد صلاة الظهر لأن الظهر في آخر طرف النهار الأول وأول طرف النهار الآخر. وقيل أن الإشارة إلى صلاة الظهر هي بقوله: (وقبل غروبها) لأنها هي وصلاة العصر قبل غروبها. وقيل المراد بالآية صلاة التطوع.
ولو قيل ليس في الآية إشارة إلى الصلاة بل المراد التسبيح في هذه الأوقات أي قول القائل سبحان الله لم يكن ذلك بعيداً من الصواب، والتسبيح وإن كان يطلق على الصلاة لكنه مجاز، والحقيقة أولى إلا لقرينة تصرف ذلك إلى المعنى المجازي، وجمع الأطراف وهما طرفان لأمن الالتباس.
(لعلك ترضى) أي سبح في هذه الأوقات رجاء أن تنال عند الله سبحانه ما ترضي به نفسك من الثواب، هذا على قراءة الجمهور، وقرئ تُرْضي بضم التاء أي يرضيك ربك وَتُعْطَى ما يرضيك.
_________
(1) مسلم 634.
(2) مسلم 633 - البخاري 358.(8/294)
وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى (131) وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى (132) وَقَالُوا لَوْلَا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى (133) وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى (134) قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى (135)(8/295)
وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى (131)
(ولا تمدن) أي لا تطل نظر (عينيك) بطريق الرغبة والميل (إلى ما متعنا به) أي لذذنا، فالإمتاع والتمتيع معناه الإيقاع في اللذة (أزواجاً منهم) مدّ النظر تطويله وأن لا يكاد يرده استحساناً للمنظور إليه وإعجاباً به، وفيه أن النظر غير الممدود معفو عنه، وذلك أن يبادر الشيء بالنظر ثم يغض الطرف، ولقد شدد المتقون في وجوب غض البصر عن أبنية الظلمة وعدد الفسقة في ملابسهم ومراكبهم، حتى قال الحسن: " لا تنظروا إلى دقدقة (1) هماليج (2) الفسقة، ولكن انظروا كيف يلوح ذل المعصية من تلك الرقاب " وهذا لأنهم اتخذوا هذه الأشياء لعيون النظارة، فالناظر إليها محصل لغرضهم ومغر لهم على اتخاذها، وقد تقدم تفسير هذه الآية في الحجر.
(زهرة الحياة الدنيا) أي زينتها وبهجتها بالنبات وغيره، وقرئ زهرة بفتح الهاء وهي نور النبات، وذكر السمين في نصبه تسعة أوجه. وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي سعيد أن رسول الله ((- صلى الله عليه وسلم -)) قال: " إن أخوف ما أخاف عليك ما يفتح الله لكم من زهرة الدنيا "، قالوا: وما زهرة الدنيا يا رسول الله؛ قال: " بركات الأرض ".
_________
(1) الدقدقة حكاية أصوات حوافر الدواب مثل الطقطقة. إهـ صحاح.
(2) الهملاج من البراذين واحد الهماليج ومشيها الهملجة فارسي معرب إهـ صحاح.(8/295)
(لنفتنهم فيه) أي لنجعل ذلك فتنة لهم وضلالة ابتلاء منا لهم، كقوله: (إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم). وقيل لنعذبهم في الآخرة، وقيل لنشدد عليهم في التكليف، وقيل أزيد لهم النعمة فيزيدوا بذلك كفراً وطغياناً (ورزق ربك) أي ثواب الله في الجنة وما ادخر لصالحي عباده في الآخرة (خير) مما رزقهم في الدنيا على كل حال، وأيضاً فإن ذلك لا ينقطع وهذا ينقطع وهو معنى (وأبقى) وقيل المراد بهذا الرزق ما يفتح الله على المؤمنين من الغنائم ونحوها، والأول أولى لأن الخيرية المحققة والدوام الذي لا ينقطع إنما يتحققان في الرزق الأخروي لا الدنيوي وإن كان حلالاً طيباً، قال تعالى: (ما عندكم ينفد وما عند الله باق).
عن أبي رافع قال: أضاف النبي " - صلى الله عليه وسلم - " ضيفاً ولم يكن عند النبي ما يصلحه، فأرسلني إلى رجل من اليهود أن بعنا أو أسلفنا دقيقاً إلى هلال رجب، فقال: لا إلا بِرَهْن، فأتيت النبي " - صلى الله عليه وسلم - " فأخبرته، فقال: " أما والله إني لأمين في السماء أَمين في الأرض، ولئن أسلفني أو باعني لأديت إليه، اذهب بدرعي الحديد، فلم أخرج من عنده حتى نزلت هذه الآية، كأنه يعزيه عن الدنيا. أخرجه البزار وأبو يعلى وابن أبي شيبة وغيرهم (1).
_________
(1) صحيح الجامع الصغير 1349.(8/296)
وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى (132)
(وأْمر أهلك) المراد بهم أهل بيته، وقيل جميع أمته ولم يذكر هاهنا الأمر من الله له (بالصلاة) بل قصر الأمر على أهله إما لكون إقامته لها أمراِّ معلوماً أو لكون أمره بها قد تقدم في قوله: (وسبح بحمد ربك) الخ، أو لكون أمره بالأمر لأهله أمراً له؛ ولهذا قال: " واصطبر عليها " أي اصبر على محافظة الصلاة فإنها تنهى عن الفحشاء والمنكر ولا تشتغل عنها بشيء من أمور الدنيا.
وقيل اصبر عليها فعلاً، فإن الوعظ بلسان الفعل أبلغ منه بلسان(8/296)
القول. أخرج ابن النجار وابن عساكر وابن مردويه عن أبي سعيد الخدري قال: لما نزلت هذه الآية كان النبي صلى الله عليه وسلم يجيء إلى باب عليّ صلاة الغداة ثمانية أشهر يقول: " الصلاة رحمكم الله إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً ".
وأخرج أحمد والبيهقي وغيرهما عن ثابت قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أصابت أهله خصاصة نادى أهله: " يا أهلاه صلوا صلوا " قال ثابت: وكانت الأنبياء إذا نزل بهم أمر فزعوا إلى الصلاة.
وعن عبد الله بن سلام، قال السيوطي: بسند صحيح قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا نزلت بأهله شدة أو ضيق أمرهم بالصلاة، وقرأ (وأمر أهلك بالصلاة) الآية: وكان عروة بن الزبير إذا رأى ما عند السلاطين قرأ هذه الآية ثم ينادى الصلاة الصلاة رحمكم الله، وكان بكر بن عبد الله المزني إذا أصاب أهله خصاصة قال قوموا فصلوا، بهذا أمر الله رسوله، وعن مالك بن دينار مثله.
(لا نسألك رزقاً) أي لا نكلفك أن ترزق نفسك ولا أهلك وتشتغل بذلك عن الصلاة (نحن نرزقك) ونرزقهم (والعاقبة) المحمودة وهي الجنة (للتقوى) أي لأهل التقوى على حذف المضاف، كما قال الأخفش وفيه دليل على أن التقوى هي ملاك الأمر وعليها تدور دوائر الخير.(8/297)
وَقَالُوا لَوْلَا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى (133)
(وقالوا) أي قال كفار مكة (لولا) هلا (يأتينا) محمد صلى الله عليه وسلم (بآية من) آيات (ربه) كما كان يأتي بها مَنْ قَبْله من الأنبياء؟ وذلك كالناقة والعصا أو المعنى هلا يأتينا بآية من الآيات التي قد اقترحناها عليه؟.
فأجاب الله سبحانه وتعالى عليهم بقوله: (أو لم تأتهم بينة ما في الصحف الأولى) يريد بها التوراة والإنجيل والزبور وسائر الكتب المنزلة وفيها التصريح بنبوته والتبشير به، وذلك يكفي، فإن هذه الكتب المنزلة هم(8/297)
معترفون بصدقها وصحتها وفيها ما يدفع إنكارهم لنبوته ويبطل تعنتاتهم وتعسفاتهم، وقيل المعنى أو لم يأتهم إهلاكنا للأمم الذين كفروا واقترحوا الآيات فما يؤمنهم إن أتتهم الآيات التي اقترحوها أن يكون حالهم كحالهم.
وقيل: المراد أو لم تأتهم آية هي من الآيات وأعظمها في باب الإعجاز؟ يعني القرآن فإنه برهان لما في سائر الكتب المنزلة، قالوا: وعاطفة على مقدر يقتضيه المقام كأنه قيل ألم تأتهم سائر الآيات ولم تأتهم خاصة بينة ما في الصحف الأولى تقريراً لإتيانه وإيذاناً بأنه من الوضوح بحيث لا يأتي معه إنكار أصلاً.
قرئ أو لم يأتهم بالتحتية لأن معنى البينة البيان والبرهان.(8/298)
وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى (134)
(ولو أنا أهلكناهم) مستأنفة سيقت لتقرير ما قبلها (بعذاب من قبله) أي من قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم أو من قبل إتيان البينة بنزول القرآن (لقالوا) يوم القيامة أي لكان لهم أن يحتجوا ويتعللوا بقولهم:
(ربنا لولا) هلاًّ (أرسلت إلينا رسولاً) في الدنيا (فنتبع آياتك) اللاتي يأتي بها الرسول (من قبل أن نذل) بالعذاب والهوان في الدنيا (ونخزى) بدخول النار، وقرئ نُذَلّ وَنُخْزَى على البناء للمفعول وقد قطع الله معذرة هؤلاء الكفرة بإرسال الرسول إليهم قبل إهلاكهم، ولهذا حكى الله عنهم أنهم قالوا: (بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شيء).(8/298)
قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى (135)
(قل) لهم يا محمد (كلٌّ) أي كل واحد منا ومنكم (متربص) أي منتظر لما يؤول إليه الأمر (فتربصوا) أنتم (فستعلمون) عن قريب (من أصحاب الصراط السوي) أي الطريق المستقيم (ومن اهتدى) من الضلالة، ونزع عن الغواية، أنحن أم أنتم؟ قال النحاس والفراء: نذهب إلى أن معنى مَنْ أصحاب الصراط السوي من لم يضل، ومعنى: من اهتدى من ضل ثم اهتدى، ومن في الموضعين استفهامية أو موصولة.(8/298)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الأنبياء
(مكية. قال القرطبي في قول الجميع، وهي مائة وإحدى أو اثنتا عشرة آية)
وسميت بذلك لذكر قصص الأنبياء فيها وأخرج البخاري وغيره عن ابن مسعود قال بنو إسرائيل والكهف ومريم والأنبياء من العتاق الأول وهن من تلادى.
عن عامر بن ربيعة أنه نزل به رجل من العرب فأكرم عامر مثواه وكلم فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجاءه الرجل فقال: إني استقطعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وادياً ما في ديار العرب واد أفضل منه. وقد أردت أن أقطع إليك قطعة تكون لك ولعقبك من بعدك، فقال عامر: لا حاجة لي في قطعتك نزلت اليوم سورة أذهلتنا عن الدنيا يريد هذه السورة.(8/299)
بسم الله الرحمن الرحيم
اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (1) مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (2) لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (3) قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (4) بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (5)(8/301)
اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (1)
(اقترب للناس حسابهم) يقال قرُب الشيء واقترب، قال الزجاج المعنى: اقترب لهم وقت حسابهم أي القيامة، كما في قوله: (اقتربت الساعة) وتقديم (للناس) على الحساب لإدخال الروعة، ومعنى اقتراب الحساب دُنوّه منهم لأنه في كل ساعة أقرب إليهم من الساعة التي قبلها.
وقيل: لأن كل ما هو آت قريب وإنما البعيد ما انقرض ومضى، وموت كل إنسان قيام ساعته، والقيامة أيضاً قريبة بالإضافة إلى ما مضى من الزمان فما بقي من الدنيا أقل مما مضى، والمراد بالناس العموم، وقيل المشركون مطلقاً، وقيل: كفار مكة وعلى هذا الوجه قيل المراد بالحساب عذابهم يوم بدر.
(وهم في غفلة) عن حسابهم وعما يفعل بهم في الدنيا (معرضون) عن الآخرة غير متأهبين لا يجب عليهم من الإيمان بالله والقيام بفرائضه والانزجار عن مناهيه، أخرج النسائي عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم في الآية " قال في الدنيا " وأخرج ابن مردويه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من أمر الدنيا ".(8/301)
مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (2)
(ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث) تعليل لما قبله ومن لابتداء الغاية أو زائدة، وقد استدل بوصف الذكر بكونه محدثاً على أن لفظ القرآن(8/301)
محدث، لأن الذكر هنا هو القرآن، وأجيب بأنه لا نزاع في حدوث المركب من الأصوات والحروف لأنه متجدد في النزول، ولا خلاف في حدوثها فالمعني محدث تنزيله وإنما النزاع في الكلام النفسي.
وهذه المسألة أعني قدم القرآن وحدوثه قد ابتلي بها كثير من أهل العلم والفضل في الدولة المأمونية والمعتصمية والواثقية وجرى للإمام أحمد بن حنبل ما جرى من الضرب الشديد والحبس الطويل وضرب بسببها عنق محمد بن نصر الخزاعي، وصارت فتنة عظيمة في ذلك الوقت وما بعده؛ والقصة أشهر من أن تذكر، ومن أحب الوقوف على حقيقتها طالع ترجمة الإمام أحمد بن حنبل في كتاب النبلاء لمؤرخ الإسلام الذهبي.
ولقد أصاب أئمة السنة بامتناعهم من الإجابة إلى القول بخلق القرآن وحدوثه وحفظ الله بهم أمة نبيه صلى الله عليه وسلم عن الابتداع.
ولكنهم رحمهم الله جاوزوا ذلك إلى الجزم بقدمه، ولم يقتصروا على ذلك حتى كفروا من قال بالحدوث بل جاوزوا ذلك إلى تكفير من قال لفظي بالقرآن مخلوق بل جاوزوا ذلك إلى تكفير من وقف، وليتهم لم يجاوزوا حدّ الوقف وإرجاع العلم إلى علام الغيوب فإنه لم يسمع من السلف الصالح من الصحابة والتابعين ومن بعدهم إلى وقت قيام المحنة وظهور القول في هذه المسألة شيء من الكلام ولا نقل عنهم كلمة في ذلك فكان الامتناع من الإجابة إلى ما دعوا إليه والتمسك بأذيال الوقف وإرجاع علم ذلك إلى عالمه هو الطريقة المثلى وفيه السلامة والخلوص من تكفير طوائف من عباد الله والأمر لله سبحانه.
وقيل معنى الآية أن الله يحدث الأمر بعد الأمر فينزل الآية بعد الآية، والسورة بعد السورة في وقت الحاجة لبيان الأحكام وغيرها من الأمور والوقائع وهذا القول كالأول؛ وقيل الذكر المحدث ما قاله رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) وبينه سوى ما في القرآن والأول أولى.
(إلا استمعوه) من النبي (- صلى الله عليه وسلم -) أو غيره ممن يتلوه استثناء مفرغ(8/302)
(وهم يلعبون) جملة حالية أي لاعبين لا يعتبرون ولا يتعظون، والمعنى يستهزئون به(8/303)
لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (3)
(لاهية قلوبهم) حال أيضاً وهما حالان مترادفان أو متداخلان قاله الزمخشري والمعنى ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث في حال من الأحوال إلا في حال الاستماع مع اللعب والاستهزاء ولهوة القلب.
(وأسروا النجوى الذين ظلموا) كلام مستأنف مسوق لبيان جناية خاصة إثْرَ حكاية جناياتهم المعتادة، والنجوى اسم من التناجي وهو لا يكون إلا سراً، فمعناه المبالغة في الإخفاء بحيث لم يفهم أحد تناجيهم ومسارتهم تفصيلاً ولا إجمالاً وإنما قالوا ذلك سراً لأنهم كانوا في مبادي الشر والعناد وتمهيد مقدمات الكيد والفساد، وقد اختلف في محل الموصول على أقوال قال أبو عبيدة: أسروا هنا من الأضداد أي بمعنى أخفوا كلامهم؛ أو بمعنى أظهروه وأعلنوه.
(هل هذا) بدل من النجوى مفسر لها أو مفعول لمضمر وهل بمعنى النفي أي قالوا ما هذا الرسول (إلا بشر مثلكم) لا يتميز عنكم بشيء وما يأتي به سحر (أفتأتون السحر) أي إذا كان بشراً مثلكم، وكان الذي جاء به سحراً فكيف تجيبونه إليه وتتبعونه.
(وأنتم تبصرون) حال من فاعل تأتون مقرر للإنكار ومؤكد للاستيعاد وقالوا ما ذكر بناء على ما ثبت في اعتقادهم الزائغ أن الرسول لا يكون إلا ملكاً وأن كل ما يظهر على يد البشر يكون سحراً فأطلع الله سبحانه نبيه (- صلى الله عليه وسلم -) على ما تناجوا به وأمره أن يجيب عليهم فقال:(8/303)
قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (4)
(قال ربي يعلم القول في السماء والأرض) أي لا يخفى عليه شيء مما يقال فيهما وفي مصاحف أهل الكوفة (قال ربي) أي قال محمد: ربي يعلم فهو عالم بما تناجيتم به قيل: الأولى أولى لأنهم أسروا هذا القول فأطلع الله رسوله صلى الله عليه وآله وسلم على ذلك وأمره أن يقول لهم هذا، قال النحاس: والقراءتان صحيحتان وهما بمنزلة آيتين.(8/303)
(وهو السميع) لكل ما يسمع (العليم) بكل معلوم فيدخل في ذلك ما أسروا دخولاً أولياً (بل) للانتقال من غرض إلى غرض آخر في المواضع الثلاثة وهي:(8/304)
بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (5)
(بل قالوا) و (بل افتراه) و (بل هو شاعر)، كما ذكره ابن مالك في شرح كافيته، من أنها لا تقع في القرآن إلا على هذا الوجه وسبقه إليه صاحب الوسيط ووافقه ابن الحاجب وهو الحق.
(قالوا) الذي يأتي به من القرآن (أضغاث أحلام) أي أخلاط رآها في النوم. قاله الزجاج. وقال القتيبي: هي الرؤيا الكاذبة، وقال اليزيدي: الأضغاث ما لم يكن له تأويل. قال قتادة: أي دقل الأحلام إنما هي رؤيا رآها، يعني أباطيل وأهاويل رآها في النوم.
(بل افتراه) حكى سبحانه إضرابهم عن قولهم أضغاث أحلام، أي بل قالوا افتراه واختلقه من تلقاء نفسه من غير أن يكون له أصل. ثم حكى عنهم أنهم أضربوا عن هذا وقالوا: (بل هو شاعر) وما أتى به من جنس الشعر، أي كلام يخيل للسامع معاني لا حقيقة لها ويرغبه فيها، هذا هو المراد بالشعر هنا، وفي هذا الإضراب منهم والتلون والتردد أعظم دليل على أنهم جاهلون بحقيقة ما جاء به لا يدرون ما هو ولا يعرفون كنهه، أو كانوا قد علموا أنه حق وأنه من عند الله، ولكن أرادوا أن يدفعوه بالصدر ويرموه بكل حجر ومدر، وهذا شأن من غلبته الحجة وقهره البرهان.
ثم بعد هذا كله قالوا: (فليأتنا بآية) وهذا جواب شرط محذوف، أي إن لم يكن كما قلنا بل كان رسولاً من عند الله فليأتنا بآية إتياناً كائناً (كما أرسل الأولون) أي مثل ما أرسل موسى بالعصا وغيرها، وصالح بالناقة، وكان سؤالهم هذا سؤال تعنت، لأن الله سبحانه قد أعطاهم من الآيات ما يكفي، ولو علم الله سبحانه أنهم يؤمنون إذا أعطاهم ما يقترحونه لأعطاهم ذلك كما قال، (ولو علم الله فيهم خيراً لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون). قال الزجاج: اقترحوا الآيات التي لا يقع معها إمهال فقال الله مجيباً لهم:(8/304)
مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ (6) وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (7) وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ (8) ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْنَاهُمْ وَمَنْ نَشَاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ (9) لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (10)(8/305)
مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ (6)
(ما آمنت قبلهم) أي قبل مشركي مكة (من) أهل (قرية أهلكناها) أي أهلكنا أهلها بتكذيبهم، أو أهلكناها بإهلاك أهلها، وفيه بيان أن سنة الله في الأمم السالفة أن المقترحين إذا أعطوا ما اقترحوه، ثم لم يؤمنوا نزل بهم عذاب الاستئصال لا محالة ومن مزيدة للتوكيد، والمعنى ما آمنت قرية من القرى التي أهلكناها بسبب اقتراحهم قبل هؤلاء؛ فكيف نعطيهم ما اقترحوا وهم أسوة من قبلهم.
(أفهم يؤمنون) الهمزة للتقريع والتوبيخ، والمعنى أن لم تؤمن أمة من الأمم اْلمُهْلَكة عند إعطاء ما اقترحوا فكيف يؤمن هؤلاء لو أعطوا ما اقترحوا قال قتادة: قال أهل مكة للنبي صلى الله عليه وسلم: إذا كان ما تقوله حقاً ويسرك أن نُؤمن فحوّل لنا الصفا ذهباً، فأتاه جبريل فقال: إن شئت كان الذي سألك قومك ولكنه إن كان ثُمَّ لم يؤمنوا لم يُنْظروا، وإن شئت استأنيت بقومك قال: " بل أَسْتَأْنِي بقومي "، فأنزل الله (ما آمنت قبلهم) الآية.
ثم أجاب الله سبحانه عن قولهم: (هل هذا إلا بشر مثلكم) بقوله:(8/305)
وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (7)
(وما أرسلنا) أي لم نرسل (قبلك) إلى الأمم السالفة " إلا رجالاً " من البشر مخصوصين من أفراد جنسك متأهلين للاصطفاء والإرسال، ولم نرسل اليهم ملائكة، كما قال سبحانه: (قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكاً رسولاً).(8/305)
(نوحي إليهم) مستأنفة لبيان كيفية الإرسال أو صفة (رجالاً) أي متصفين بصفة الإيحاء إليهم، وصيغة المضارع لحكاية الحال الماضية؛ ثم أمرهم الله بأن يسألوا أهل الذكر إن كانوا يجهلون هذا فقال:
(فاسألوا أهل الذكر) هم أهل الكتابين اليهود والنصارى (إن كنتم لا تعلمون) أن رسل الله من البشر فإنهم لا يجهلون ذلك ولا ينكرونه وإن أنكروا نبوة محمد صلى الله عليه وسلم.
وتقدير الكلام إن كنتم لا تعلمون ما ذكر فاسألوا أهل الذكر، وتوجيه الخطاب إلى الكفرة لتبكيتهم واستنزالهم عن رتبة التكبر، وقد استدل بالآية على أن التقليد جائز وهو خطأ، ولو سلم لكان المعنى سؤالهم عن النصوص من الكتاب والسنة، لا عن الرأي البحت، وليس التقليد إلا قبول قول الغير دون حجته، والمقلد إذا سأل أهل الذكر عن كتاب الله وسنة رسوله لم يكن مقلداً. قال الرازي ومن الناس من قال المراد بأهل الذكر أهل القرآن وهو بعيد لأنهم كانوا طاعنين في القرآن وفي الرسول صلى الله عليه وسلم. فأما تعلق كثير من الفقهاء بهذه الآية في أن للعاميّ أن يرجع إلى فتيا العلماء، وفي أن للمجتهد أن يأخذ بقول مجتهد آخر فبعيد لأن هذه الآية خطاب مشافهة وهي واردة في هذه الواقعة المخصوصة ومتعلقة باليهود والنصارى على التعيين أهـ.
وقد قدمنا في سورة النحل أن سياق هذه الآية الكريمة يفيد أن المراد بها السؤال الخاص، وبه يظهر لك أن هذه الآية دليل الاتباع لا دليل التقليد فارجع إليه. وقد أوضح الشوكاني هذا في رسائل بسيطة، منها (القول المفيد في حكم التقليد)، (وأدب الطلب ومنتهى الأرب) وغيره في غيرها. ثم لما فرغ سبحانه عن الجواب عن شبهتهم أكد كون الرسل من جنس البشر فقال:(8/306)
وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ (8)
(وما جعلناهم جسداً لا يأكلون الطعام) أي أن الرسل أسوة لسائر أفراد بني آدم في حكم الطبيعة يأكلون كما يأكلون ويشربون كما يشربون، والجسد جسم الإنسان والجنة والملائكة.
قال الزجاج: هو واحد ينبئ عن جماعة، أي وما جعلناهم ذوي(8/306)
أجساد غير طاعمين (وما كانوا خالدين) بل يموتون كما يموت غيرهم من البشر في الدنيا، وقد كانوا يعتقدون أن الرسل لا يموتون، فأجاب الله عليهم بهذا.(8/307)
ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْنَاهُمْ وَمَنْ نَشَاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ (9)
(ثم صدقناهم الوعد) أي أوحينا إليهم ما أوحينا، ثم أنجزنا وعدهم الذي وعدناهم بإنجائهم وإهلاك من كذبهم، ولذا قال سبحانه: (فأنجيناهم ومن نشاء) من عبادنا المؤمنين الذين صدقوهم، والمراد إنجاؤهم من العذاب وإهلاك من كفر بالعذاب الدنيوي.
(وأهلكنا المسرفين) أي المجاوزين للحد في الكفر والمعاصي وهم المشركون(8/307)
لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (10)
(ولقد أنزلنا إليكم) يا معشر قريش (كتاباً) عظيم الشأن نير البرهان، يعني القرآن (فيه ذكركم) كلام مستأنف مسوق لتحقيق أحقية القرآن الذي ذكر في صدر السورة إعراضهم عما يأتيهم منه، والمراد بالذكر هنا الشرف، أي فيه شرفكم، قاله ابن عباس، كقوله: وأنه لذكر لك ولقومك، أي فيه ما يوجب الثناء عليكم لكونه بلسانكم نازلاً بين أظهركم على لسان رسول منكم، واشتهاره سبب لاشتهاركم، وجعل ذلك فيه مبالغة في سببيته له.
وقيل أي ذكر أمر دينكم وأحكام شرعكم وما تصيرون إليه من ثواب أو عقاب، وقيل فيه حديثكم، قاله مجاهد والحسن.
وقيل مكارم أخلاقكم وقيل صيتكم، وقيل فيه تذكرة لكم لتحذروا، فيكون الذكر بمعنى الوعد والوعيد، وقيل فيه موعظتكم، قال أبو السعود: وهو الأنسب بسياق النظم الكريم ومساقه فإن قوله:
(أفلا تعقلون) إنكار توبيخي فيه بعث لهم على التدبر في أمر الكتاب والتأمل فيما في تضاعيفه من فنون المواعظ والزواجر التي من جملتها القوارع السابقة واللاحقة، والفاء للعطف على مقدر ينسحب عليه الكلام، أي ألا تتفكرون فلا تعقلون إن الأمر كذلك، أو لا تعقلون شيئاً من الإشياء التي من جملتها ما ذكر؟ ثم أوعدهم وحذرهم ما جرى على الأمم المكذبة فقال:(8/307)
وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ (11) فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ (12) لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ (13) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (14) فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ (15) وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (16) لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ (17) بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (18)(8/308)
وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ (11)
(وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة) (كم) هي الخبرية المفيدة للتكثير والقصم كسر الشيء ودقه، يقال قصمت ظهر فلان إذا كسرته، واقتصمتْ سنّه إذا انكسرت، والمعنى هنا الإهلاك والعذاب.
وأما الفصم بالفاء فهو الصدع في الشيء من غير بينونة، أي وكم قصمنا من أهل قرية كانوا ظالمين، أي كافرين بالله مكذبين بآياته، والظلم في الأصل وضع الشيء في غير موضعه، وهم وضعوا الكفر في موضع الإيمان.
قال ابن عباس: بعث الله نبياً من حمير يقال له شعيب، فوثب إليه عبد فضربه بعصا، فسار إليهم بختنصر فقاتلهم فقتلهم حتى لم يبق منهم شيء، وفيهم أنزل الله: (وكم قصمنا -إلى قوله- خامدين).
وعن الكلبي في الآية قال: هي " حضور " بني أزد باليمن، فيكون التكثير باعتبار أفراد تلك القرية.
(وأنشأنا بعدها) أي أوجدنا وأحدثنا بعد إهلاك أهلها (قوماً آخرين) ليسوا منهم(8/308)
فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ (12)
(فلما أحسوا بأسنا) أي أدركوا وشعروا ورأوا عذابنا(8/308)
بحاسة البصر وقال الأخفش: خافوا وتوقعوا. والبأس العذاب الشديد.
(إذا هم منها يركضون) أي يسرعون هاربين ويهربون مسرعين من قريتهم لما رأوا مقدمة العذاب، أو من بأسنا لأنه في معنى النقمة والبأساء، فأنث الضمير حملاً على المعنى، ومن على الأول لابتداء الغاية وللتعليل على الثاني، والركض الفرار والهرب والانهزام، وأصله من ركض الرجل الدابة برجليه، يقال رَكَضَ الْفَرَس إذاْ كَدًه بساقيه، ثم كثر حتى قيل: ركض الفرس إذا عَدَا، ومنه (ارْكُضْ بِرِجْلِك) والمعنى أنهم يهربون منها راكضين دوابهم، فقيل لهم.(8/309)
لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ (13)
(لا تركضوا) أي لا تهربوا، قيل أن الملائكة نادتهم بذلك عند فرارهم وقيل: أن القائل لهم ذلك من هنالك من المؤمنين استهزاء بهم وسخرية منهم (وارجعوا إلى ما أترفتم) يعني ما تنعمتم (فيه) من الدنيا ولين العيش، يعني إلى نعمكم التي كانت سبب بطركم وكفركم، والمترف المنعم، يقال أترف فلان أي وسع عليه في معاشه، وقل فيه همه.
وقال سعيد بن جبير: ارجعوا إلى دوركم وأموالكم (ومساكنكم) التي تسكنونها وتفتخرون بها (لعلكم تسألون) أي تقصدون للسؤال والتشاور والتدبير في المهمات، وهذا على طريقة التهكم بهم والتوبيخ لهم.
وقيل: المعنى لعلكم تسألون عما نزل بكم وجرى عليكم من العقوبة فتخبرون السائل عن علم ومشاهدة. وقيل: لعلكم تسألون أن تؤمنوا كما كنتم تسئلون ذلك قبل نزول العذاب بكم، أو تسئلون شيئاً من دنياكم على العادة فتعطون من شئتم وتمنعون من شئتم، فإنكم أهل نعمة وثروة؛ وهذا كله توبيخ وتهكم بهم وقيل غير ذلك.
قال المفسرون وأهل الأخبار: أن المراد بهذه الآية أهل حضور من اليمن وكان أهلها عرباً، وكان الله سبحانه قد بعث إليهم نبياً اسمه شعيب بن مهدم. وقبره بجبل من جبال اليمن يقال له صنين، وبينه وبين حضور نحو(8/309)
بريد، قالوا وليس هو شعيباً صاحب مدين (قلت) وآثار القبر بجبل صنين موجودة، والعامة من أهل تلك الناحية يزعمون أنه قبر قدم بن قادم، فلما كذبوه وقتلوه اتبعهم بختنصر وأخذتهم السيوف ونادى مناد من جو السماء يا لثارات الأنبياء، فلما رأوا ذلك أقروا بالذنوب حين لم ينفعهم.
و(8/310)
قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (14)
(قالوا) لما قالت لهم الملائكة لا تركضوا (يا ويلنا) أي يا هلاكنا (إنا كنا ظالمين) لأنفسنا مستوجبين العذاب بما قدمنا، فاعترفوا على أنفسهم بالظلم الموجب للعذاب وقالوا ذلك على سبيل الندامة ولم ينفعهم الندم.(8/310)
فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ (15)
(فما زالت تلك) أي هذه الجملة والكلمة (دعواهم) هي قولهم يا ْويلنا أي يدعون بها ويرددونها (حتى جعلناهم حصيداً) بالسيوف كما يحصد الزرع بالمنجل، والحصيد هنا بمعنى المحصود.
ومعنى (خامدين) أنهم ميتون من خمدت النار وهمدت إذا طفئت، فشبه خمود الحياة بخمود النار، كما يقال لمن مات قد طفىء، والخمود عبارة عن سكون لهبها مع بقاء الحر، والهمود عبارة عن ذهابها بالكلية حتى تصير رماداً، فالأحسن أن يكون المراد بالخمود هنا الهمود فإنه أبلغ معنى، والمعنى جعلناهم جامعين لماثلة الحصاد والخمود، كقولك جعلته حلواً حامضاً؛ أي جعلته جامعاً للطعمين. قال مجاهد: بالسيف ضرب الملائكة وُجُوهَهم حتى رجعوا إلى مساكنهم.
أخرج ابن أبي حاتم عن ابن وهب قال: حدثني رجل من الجزريين قال: كان باليمن قريتان يقال لإحداهما حضور وللأخرى قلابة، فبطروا وأترفوا حتى ما كانوا يغلقون أبوابهم فلما أترفوا بعث الله إليهم نبياً فدعاهم فقتلوه، فألقى الله في قلب بختنصر أن يغزوهم؛ فجهز لهم جيشاً فقاتلوهم فهزموا جيشه فرجعوا منهزمين؛ فجهز إليهم جيشاً آخر أكثف من الأول فهزموهم أيضاً، فلما رأى بختنصر غزاهم هو بنفسه، فقاتلهم حتى خرجوا منها يركضون؛ فسمعوا منادياً يقول: لا تركضوا وارجعوا إلى ما أترفتم فيا(8/310)
ومساكنكم، فرجعوا فسمعوا صوت مناد يقول: يا لثارات النبي فقتلوا بالسيف، فهي التي قال الله: (وكم قصمنا من قرية -إلى قوله- خامدين).
قلت: وقرى حضور معروفه الآن، بينها وبين مدينة صنعاء نحو بريد في جهة الغرب منها.(8/311)
وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (16)
(وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما لاعبين) أي لم نخلقهما عبثاً ولا باطلاً بل للتنبيه على أن لهما خالقاً قادراً يجب امتثال أمره، واللعب هو محط النفي وفيه إشارة إجمالية إلى تكوين العالم؛ والمراد بما بينهما سائر المخلوقات الكائنة بين السماء والأرض على اختلاف أنواعها وتباين أجناسها، والمعنى ما سوينا هذا السقف المرفوع وهذا المهاد الموضوع وما بينهما من العجائب للعب واللهو، وإنما سويناهما لفوائد منها التفكر في خلقهما وما فيهما من المنافع التي لا تعد ولا تحصى وليستدل بها على قدرة مدبرها ولنجازي المحسن والمسيء على ما تقتضيه حكمتنا، واللعبُ فعْلٌ يروقُ أَوّلُهُ وَلا ثباتَ له.
ثم نزه ذاته عن سمات النقص فقال:(8/311)
لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ (17)
(لو أردنا أن نتخذ لهواً) اللهو ما يتلهى به، تقول أهل نجد لهوت عنه ألهو لهياً، والأصل لهُوُى من باب قعد على فعول وأهل العالية لَهيت عنه ألْهَى من باب تعب ومعناه السلوان والترك، ولهوت به لهواً من باب قتل أولعت به وتلهيت به أيضاً، قال الطرطوشي: وأصل اللهو؛ الترويح عن النفس بما لا تقتضيه الحكمة وألهاني الشيء بالألف شغلني.
قيل: اللهو هنا الزوجة والولد، وقيل: الزوجة فقط، وقيل: الولد فقط، قال الجوهري: قد يكنى باللهو عن الجماع ومنه قول الشاعر:
وفيهن ملهى للصديق ومنظر
والجملة مستأنفة لتقرير مضمون ما قبلها، وجواب لو قوله: (لاتخذناه من لدنا) أي من عندنا ومن جهة قدرتنا لا من عندكم ويستثنى نقيض التالي(8/311)
لينتج نقيض المقدم.
قال المفسرون: أي من الولدان أو الحور العين أو الملائكة، وفي هذا رد على من قال بإضافة الصاحبة والولد إلى الله، تعالى عن ذلك علواً كبيراً، وقيل: أراد الرد على من قال الأصنام أو الملائكة بنات الله؛ وقال ابن قتيبة: الآية رد على النصارى.
(إن كنا فاعلين) قال الفراء والمبرد والزجاج: ويجوز أن تكون (إن) للنفي كما ذكره المفسرون أي ما فعلنا ذلك ولم نتخذ صاحبة ولا ولداً ويجوز أن تكون للشرط أي إن كنا ممن يفعل ذلك لاتخذناه من لدنا، قال الفراء: وهذا أشبه الوجهين بمذهب العربية.(8/312)
بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (18)
(بل نقذف بالحق على الباطل) هذا إضراب عن اتخاذ اللهو أي دع ذلك الذي قالوا فإنه كذب وباطل بل شأننا أن نرمي بالحق على الباطل وبالإيمان على الكفر، وقيل الحق قول لا إله إلا الله، وأنه لا ولد له، والباطل قولهم: اتخذ الله ولداً.
(فيدمغه) أي يقهره ويهلكه وأصل الدمغ شق الرأس حتى يبلغ الدماغ، ومنه الدامغة، قال الزجاج: المعنى نذهبه ذهاب الصغار والإذلال؛ وذلك أن أصله إصابة الدماغ بالضرب قيل: أراد بالحق الحجة وبالباطل الشبهة وقيل: الحق المواعظ والباطل المعاصي، وقيل الباطل الشيطان، وقيل بكذبهم ووصفهم الله سبحانه بغير صفاته.
(فإذا هو زاهق) أي زائل ذاهب، وقيل هالك تالف، والمعنى متقارب (وإذا) هي الفجائية (ولكم الويل) يا معشر الكفار (مما تصفون) أي لكم العذاب في الآخرة بسبب وصفكم لله بما لا يجوز عليه من الصاحبة والولد، وقيل: الويل واد في جهنم، وهو وعيد لقريش؛ بأن لهم من العذاب مثل الذي لأولئك و (من) هي التعليلية وهذا وجه وجيه و (ما) مصدرية أو موصولة أو نكرة موصوفة.(8/312)
وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ (19) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ (20) أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (21) لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (22) لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (24)(8/313)
وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ (19)
(وله من في السماوات والأرض) عبيداً وملكاً، وهو خالقهم ورازقهم ومالكُهم والنعم عليهم بأصناف النعم، فكيف يجوز أن يكون بعض مخلوقاته شريكاً له يُعْبَد كما يُعْبد، وهذه الجملة مستأنفة مقررة لما قبلها (ومن عنده) يعني الملائكة، وفيه رد على القائلين بأن الملائكة بنات الله، وفي التعبير عنهم بكونهم عنده إثْرَ ما عبر عنهم بمن في السماوات إشارة إلى تشريفهم وكرامتهم ومزيد الاعتناء بهم وأنهم عنده بمنزلة المقربين عند الملوك:
قال أبو السعود: بطريق التمثيل وأقول أنا بل بطريق التحقيق كما هو ظاهر النظم القرآني، ثم وصفهم بقوله: (لا يستكبرون) أي لا يتعاظمون ولا يأنفون (عن عبادته) سبحانه والتذلل له.
(ولا يستحسرون) أي لا يعيون ولا يتعبون مأخوذ من الحسير وهو البعير المنقطع بالإعياء والتعب يقال حسر البعير يحسر حسوراً أعيي وكَلُّ واستحسر؛ وتحسر مثله وحسرته انا حسراً يتعدى ولا يتعدى، قال أبو زيد: لا يَكِلون، وقال ابن الأعرابي: لا يفشلون، وقال ابن عباس: لا يرجعون، قال الزجاج: معنى الآية أن هؤلاء الذين ذكرتم أنهم أولاد الله عباد الله لا يأنفون عن عبادته ولا يتعظمون عنها، كقوله: (إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته) وقيل: المعنى لا ينقطعون عن عبادته وهذه المعاني متقاربة.(8/313)
يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ (20)
(يسبحون الليل والنهار لا يفترون) أي ينزهون الله سبحانه دائماً لا يضعفون عن ذلك ولا يسامون، وقيل يصلون الليل والنهار، قال الزجاج: مجرى التسبيح منهم كمجرى النفس منا لا يشغلنا عن النفس شيء فكذلك تسبيحهم دائم أي ضروري فيهم سجية وطبيعة، وهذه الجملة إما مستأنفة وقعت جواباً عما نشأ مما قبله أو حالية.(8/314)
أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (21)
(أم اتخذوا آلهة من الأرض) قال المفضل مقصود هذا الاستفهام الجحد أي لم يتخذوا آلهة تقدر على الإحياء والإيجاد من العدم، وأم هي المنقطعة والهمزة لإنكار الوقوع.
قال المبرد: أن أم هنا بمعنى هل. أي هل اتخذ هؤلاء المشركون آلهة من الأرض يحيون الموتى؟ ولا يكون (أم) هنا بمعنى بل لأن ذلك يوجب لهم إنشاء الموتى إلا أن يقدر أم مع الاستفهام فتكون أم المنقطعة فيصح المعنى.
(هم ينشرون) أي يبعثون الموتى، والجملة مستأنفة أو صفة لآلهة وهذه الجملة هي التي يدور عليها الإنكار، والتجهيل لا نفس الاتخاذ فإنه واقع منهم لا محالة، والمعنى بل اتخذوا آلهة من الأرض لهم خاصة مع حقارتهم وينشرون الموتى وليس الأمر كذلك فإن ما اتخذوها آلهة بمعزل عن ذلك وقرئ ينشرون من أنشره أي أحياه، وقرئ بفتح الياء أي يَحْيَوْن ولا يموتون ثم إن الله سبحانه أقام البرهان على بطلان تعدد الآلهة فقال:(8/314)
لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (22)
(لو كان فيهما آلهة إلا الله) أي لو كان في السماوات والأرض آلهة معبودون غير الله، والجمع ليس قيداً وإنما عبر به مشاكلة لقوله (أم اتخذوا آلهة) وكذلك قوله فيهما ليس قيداً وإنما عبر به لأن هذا دليل إقناعي بحسب ما يفهمه المخاطب وبحسب ما فرط منهم، وهم إنما اتخذوا آلهة في الأرض والسماء لا فيما وراءهما كالملائكة الحافين من حول العرش، قاله الحفناوي، والصحيح: أن الآية حجة قطعية الدلالة والقول بأنها حجة إقناعية قول منكر بشع أي إنكار وإبشاع.(8/314)
(لفسدتا) أي لبطلتا يعني: السماوات والأرض بما فيهما من المخلوقات، وخرجتا عن نظامهما المشاهد وهلك من فيهما لوجود التمانع من الآلهة على العادة عند تعدد الحاكم من التمانع في الشيء وعدم الاتفاق عليه لأن كل أمر صدر عن الاثنين فأكثر لم يجر على النظام، ويدل العقل على ذلك، وذلك أنا لو قدرنا إلهين لكان أحدهما إذا انفرد صح منه تحريك الجسم واذا انفرد الثاني صح منه تسكينه فإذا اجتمعا وجب أن يبقيا على ما كانا عليه حال الانفراد، فعند الاجتماع يصح أن يحاول أحدهما التحريك، والآخر التسكين، فإما أن يحصل المراد وهو محال وإما أن يمتنعا وهو أيضاً محال لأنه يكون كل واحد منهما عاجزاً فثبت أن القول بوجود إلهين يوجب الفساد فكان القول به باطلاً، قاله الكرخي.
أقول الأدلة القرآنية والحجج الفرقانية الدالة على توحيد الله تعالى تغني عن البراهين الكلامية والمسائل العقلية الفلسفية في هذا المرام، وليس وراء بيان الله بيان ودونه خرط القتاد.
قال الرازي: القول بوجود إلهين يفضي إلى المحال ثم ذكر دلائل ذلك وهذه حجة تامة في مسألة التوحيد، والفساد لازم على كل التقديرات التي قدروها، وإذا وقفْتَ على هذه عرفت أن جميع ما في العالم العلوي والسفلي من المحدثات والمخلوقات فهو دليل على وحدانية الله تعالى.
وأما الدلائل السمعية على الوحدانية فكثيرة في القرآن وكل من طعن في دلالة التمانع فسر الآية بأن المراد لو كان في السماء والأرض آلهة يقول بإلهيتها عبدة الأصنام لزم فساد العالم، لأنها جمادات لا تقدر على تدبير العالم فلزم إفساد العالم، قالوا: وهذا أولى؛ لأنه تعالى حكى عنهم في قوله: (أم اتخذوا آلهة من الأرض هم ينشرون) ثم ذكر الدلالة على فساد هذا فوجب أن يختص الدليل به.
قال علي القاري: وأما قول التفتازاني: الآية حجة إقناعية فالمحققون(8/315)
كالغزالي وابن الهمام، ما قنعوا بالإقناعية بل جعلوها من الحقائق القطعية، بل قيل يكفر قائلها. انتهى.
قال الكسائي وسيبويه والأخفش والزجاج وجمهور النحاة إن (إلا) هنا ليست للاستثناء بل بمعنى غير صفة للآلهة، ولذلك ارتفع الاسم الذي بعدها، وظهر فيه إعراب غير التي جاءت إلا بمعناها، وقال الفراء: أن (إلا) هنا بمعنى سوى، ووجه الفساد أن كون إله آخر مع الله يستلزم أن يكون كل واحد منهما قادراً على الاستبداد بالتصرف؛ فيقع عند ذلك التنازع والاختلاف، ويحدث بسببه الفساد.
(فسبحان الله رب العرش عما يصفون) الفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها من ثبوت الوحدانية بالبرهان أي تنزه عز وجل عما لا يليق به من ثبوت الشريك له وفي إرشاد للعباد أن ينزهوا الرب سبحانه عما لا يليق به(8/316)
لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23)
(لا يسأل عما يفعل) مستأنفة مبينة أنه سبحانه لقوة سلطانه وعظيم جلاله لا يسأله أحد من خلقه عن شيء من قضائه وقدره من إعزاز وإذلال وإسعاد وإشقاء لأنه الرب المالك للأعناق.
(وهم) أي العباد (يسألون) عما يفعلون سؤال توبيخ وتقريع يقال لهم يوم القيامة لم فعلتم كذا وكذا، لأنهم عبيد يجب عليهم امتثال أمر مولاهم، والله تعالى ليس فوقه أحد يقول له لشيء فعله لم فعلته؟.
وقيل: أن المعنى أنه سبحانه لا يؤاخذ على أفعاله وهم يؤاخذون، قيل والمراد بذلك أنه سبحانه بين لعباده أن من يسأل عن أعماله كالمسيح والملائكة لا يصلح لأن يكون إلهاً، قال ابن عباس: ما في الأرض قوم أبغض إليّ من القدرية وما ذاك إلا أنهم لا يعلمون قدرة الله، قال الله (لا يسأل عما يفعل وهم يسألون).(8/316)
أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (24)
(أم اتخذوا من دونه آلهة) أم بمعنى بل وفيه إضراب وانتقال من إظهار بطلان كونها آلهة بالبرهان السابق إلى إظهار بطلان اتخاذها آلهة مع توبيخهم(8/316)
بطلب البرهان منهم ولهذا قال: (قل هاتوا برهانكم) على دعوى أنها آلهة أو على جواز اتخاذ آلهة سوى الله ولا سبيل لهم إلى شيء من ذلك لا من عقل ولا نقل لأن دليل العقل قد مر بيانه، وأما دليل النقل فقد أشار إليه بقوله: (هذا ذكر من معي وذكر من قبلي) أي هذا الوحي الوارد في شأن التوحيد التضمن للبرهان القاطع، ذكر أمتي وذكر الأمم السألفة وقد أقمته عليكم وأوضحته لكم، فأقيموا أنتم برهانكم.
وقيل المعنى هذا القرآن وهذه الكتب التي أنزلت قبلي، فانظروا هل في واحد منها أن الله أمر باتخاذ إنه سواه؟.
قال الزجاج: قيل لهم هاتوا برهانكم بأن رسولاً من الرسل أنبأ أمته بأن لهم إلهاً غير الله، فهل في ذكر من قبلي إلا توحيد الله، وفيه تبكيت لهم متضمن لإثبات نقيض مدعاهم.
وقيل معنى الكلام الوعيد والتهديد؛ أي افعلوا ما شئتم فعن قريب ينكشف الغطاء. وقرئ ذكرٌ مِن مَعي بالتنوين وكسر الميم، أي هذا ذكر مما أنزل إليّ ومما هو معي وذكرٌ مِنْ قبلي، قاله الزجاج. وقيل ذكر كائن من قبلي، أي جئت بما جاءت به الأنبياء من قبلي.
ثم لما توجهت الحجة عليهم ذمهم بالجهل بمواضع الحق فقال: (بل أكثرهم لا يعلمون الحق) وهذا إضراب من جهة الله سبحانه غير داخل في الكلام الملقن وانتقال من تبكيتهم بمطالبتهم بالبرهان إلى بيان أنه لا تؤثر فيهم المحاجة وإقامة البرهان لكونهم جاهلين للحق لا يميزون بينه وبين الباطل، وقرئ الحق بالرفع على معنى هذا الحق أو هو الحق.
(فهم معرضون) تعليل لما قبله من كون أكثرهم لا يعلمون. أي فهم لأجل هذا الجهل المستولي على أكثرهم معرضون عن قبول الحق وعن النظر الموصل إليه، مستمرون على الإعراض عن التوحيد واتباع الرسول، فلا يتأملون حجة ولا يتدبرون في برهان ولا يتفكرون في دليل.(8/317)
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25) وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26) لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28) وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (29)(8/318)
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25)
(وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه) استئناف مقرر لما أجمل قبله من كون التوحيد مما نطقت به الكتب الآلهية وأجمعت عليه الرسل، وقرئ نوحي بالنون وبالياء (أنه لا إله إلا أنا) وفي هذا تقرير لأمر التوحيد وتأكيد لما تقدم من قوله: هذا ذكر من معي.
وختم الآية بالأمر لعباده فقال: (فاعبدون) فقد اتضح لكم دليل العقل ودليل النقل، وقامت عليكم حجة الله.(8/318)
وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26)
(وقالوا اتخذ الرحمن ولداً) هؤلاء القائلون هم خزاعة وجهينة وبنو سلمة وبنو مليح، فإنهم قالوا الملائكة بنات الله، وقيل: هم اليهود، ويصح حمل الآية على كل من جعل لله ولداً. وقد قالت اليهود عزير ابن الله، وقالت النصارى المسيح ابن الله. وقالت طائفة من العرب: الملائكة بنات الله، ثم نزه الله سبحانه عز وجل نفسه فقال:
(سبحانه) أي تنزيهاً له عن ذلك، وهو يقول على ألسنة العباد؛ ثم أضرب عن قولهم وأبطله فقال: (بل عباد مكرمون) قرئ من الإكرام والتكريم؛ أي ليسوا كما قالوا، بل عباد الله سبحانه مكرمون بكرامته لهم مقربون عنده، والعبودية تنافي الولادة بحسب المعتاد الذي لا يتخلف عند(8/318)
العرب من كون عبد الانسان لا يكون ولده، أو بحسب قواعد الشرع من أن الإنسان إذ ملك ولده عتق عليه، والأول في تقرير المنافاة أظهر إذ الكلام مع جهال العرب وهم لا يعرفون قواعد الشرع.
قال قتادة: قالت اليهود إن الله صاهر الجن فكانت بينهم الملائكة، فقال الله تكذيباً لهم: (بل عباد مكرمون) أي الملائكة أكرمهم بعبادته واصطفاهم ووصفهم بصفات سبعة؛ الأولى هذه والأخيرة. ومن يقل منهم. فهذه الضمائر كلها للملائكة.(8/319)
لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27)
(لا يسبقونه بالقول) وصفهم بصفة أخرى، أي لا يقولون شيئاً حتى يقوله أو يأمرهم به، كذا قال ابن قتيبة وغيره، وفي هذا دليل على كمال طاعتهم وانقيادهم (وهم بأمره يعملون) أي هم القائمون بما يأمرهم الله به، التابعون له المطيعون لربهم فلا يخالفونه قولاً ولا عملاً.(8/319)
يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28)
(يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم) أي ما عملوا وما هم عاملون.
وقيل ما كان قبل خلقهم وما يكون بعد خلقهم، أو يعلم ما بين أيديهم. وهو الآخرة وما خلفهم، وهو الدنيا، والجملة تعليل لما قبلها، ووجه التعليل أنهم إذا علموا بأنه عالم بما قدموا وأخروا لم يعملوا عملاً ولا يقولوا قولاً إلا بأمره.
(ولا يشفعون إلا لمن ارتضى) أن يشفع الشافعون له وهو ممن رضى عنه وقيل: هم أهل لا إله إلا الله، وقد ثبت في الصحيح. أن الملائكة يشفعون في الدار الآخرة (1)، قال قتادة: لأهل التوحيد، وعن مجاهد نحوه،
_________
(1) وردت أحاديث كثيرة فيها شفاعة الملائكة منها: البخاري كتاب التوحيد باب 24 - الإمام أحمد 5/ 43.(8/319)
وعن الحسن: لمن قال لا إله إلا الله، وقال ابن عباس: الذين ارتضاهم بشهادة أن لا إله إلا الله.
وأخرج الحاكم وصححه والبيهقي في البعث عن جابر أن رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) تلا هذه الآية وقال: " شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي " (1).
(وهم من خشيته مشفقون) أي من خشيتهم منه، والخشية الخوف مع التعظيم ولهذا خص به العلماء؛ والإشفاق: الخوف مع التوقع والاعتناء والحذر فإن عدي بمن فمعنى الخوف فيه أظهر، وإن عدي بعلى فبالعكس أي لا يأمنون مكر الله، بل هم خائفون وَجِلُون.
_________
(1) المستدرك كتاب الإيمان 1/ 69.(8/320)
وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (29)
(ومن يقل منهم) أي من الملائكة على سبيل الفرض، لتحقق عصمتهم (إني إله من دونه) قال المفسرون: عني بهذا إبليس لأنه لم يقل أحد من الملائكة إني اله إلا إبليس، وذلك على سبيل التسمح، والتجوز إذ هو معترف بالعبودية وآيس من رحمة الله وكونه من الملائكة باعتبار أنه كان مغموراً فيهم وقيل الضمير للخلائق مطلقاً، وقيل الإشارة إلى جميع الأنبياء.
(فذلك) القائل على سبيل الفرض والتقدير (نجزيه جهنم) بسبب هذا القول الذي قاله، كما نجزي غيره من المجرمين (كذلك) أي مثل ذلك الجزاء الفظيع (نجزي الظالمين) أو مثل ما جعلنا جزاء هذا القائل جهنم فكذلك نجزي الظالمين الواضعين الإلهية والعبادة في غير موضعها، والمراد بالظالمين المشركون.(8/320)
أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ (30) وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (31) وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ (32) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (33) وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ (34) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (35)(8/321)
أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ (30)
(أو لم ير الذين كفروا) الهمزة للإنكار بواو، وتركها قراءتان سبعيتان والواو للعطف على مقدر، والرؤية هي القلبية أي ألم يتفكروا ولم يعلموا، وحاصل ما ذكر من هنا إلى يسبحون ستة أدلة على التوحيد، وهذا تجهيل لهم بتقصيرهم في التدبر في الآيات التكوينية الدالة على استقلاله تعالى بالألوهية وكون جميع ما سواه مقهوراً تحت ملكوته.
(أن السماوات والأرض كانتا رتقاً) قال الأخفش: إنما قال كانتا دون كنّ لأنهما صنفان أي جماعتا السماوات والأرض، وبه قال الزمخشري.
وقال أبو البقاء: الضمير يعود على الجنسين، وقال الحوفي: أراد الصنفين كما قال سبحانه؛ (إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا)، وقال الزجاج: إنما قال كانتا لأنه يعبر عن السماوات بلفظ الواحد لأنها كانت سماء واحدة وكذلك الأرضون. والرًتْقُ السد ضد الفتق، يقال رتقت الفتق أرتقُه فارتتق أي التأم، ومنه الرتقاء للمنضمة الفرج، يعني أنهما كانا شيئاً واحداً ملتزقين ملتصقين.
وقال: رتقاً ولم يقل رتقين لأنه مصدر والتقدير كانتا ذواتي رتق، وقيل مرتوقتين مسرودتين.(8/321)
قال البيضاوي: والكفرة وإن لم يعلموا ذلك فهم متمكنون من العلم به نظراً، فإن الفتق عارض مفتقر إلى مؤثر واجب ابتداء أو بواسطة أو استفساراً من العلماء ومطالعة الكتب انتهى، ومنعه الكازروني، وقال فيه نظر وتمكنهم هذا ممنوع، ويجوز أن يكونا مخلوقين منفصلين؛ بلا رتق وفتق؛ فإن استدل عليهما بأن القرآن نص عليهما فنقول هذا كاف في إثباتهما ولا حاجة إلى الدليل العقلي المذكور.
(ففتقناهما) أي ففصلناهما أي فصلنا بعضهما من بعض بالهواء فرفعنا السماء وأبقينا الأرض مكانها، والفتق الفصل بين الشيئين وهو من أحسن البديع هنا حيث قابل الرتق بالفتق قيل كانت السماوات مرتتقة طبقة واحدة ففتقها الله وجعلها سبع سموات، وكذلك الأرض كانت طبقة واحدة فجعلها سبع أرضين. وعن ابن عباس قال: فتقت السماء بالغيث وفتقت الأرض بالنبات.
وقد أطال الكلام القرطبي في ذلك، ولقل عن كعب الأخبار وغيره أحوال خلق الأرض العليا والسفلى؛ ولا يصار إليها إلا أن يصح من ذلك شيء من الله ورسوله صلى الله عليه وسلم (وجعلنا من الماء) أي خلقنا وأحيينا أو صيرنا بالماء الذي ننزله من السماء وينبع من الأرض.
(كل شيء حي) فيشمل الحيوان والنبات، والمعنى أن الماء سبب حياة كل شيء، وقيل: المراد بالماء هنا نطفة الرجل وبه قال أبو العالية وأكثر المفسرين وخرج هذا اللفظ مخرج الأغلب والأكثر وهذا احتجاج على المشركين بقدرة الله.
سبحانه، وبديع صنعه، وقد تقدم تفسير هذه الآية.
(أفلا يؤمنون) الهمزة للإنكار عليهم حيث لم يؤمنوا مع وجود ما يقتضيه من الآيات الربانية(8/322)
وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (31)
(وجعلنا في الأرض رواسي) أي جبالاً ثوابت جمع راسية من رسا الشيء إذا ثبت ورسخ، يقال جبال راسية وراسيات ورواس(8/322)
(أن تميد بهم) الميد: التحرك والدوران أي لئلا تتحرك وتدور بهم أو كراهة ذلك، وقد تقدم تفسير ذلك في النحل مستوفى.
(وجعلنا فيها) أي في الرواسي أو في الأرض وهو الظاهر (فجاجاً) طرقاً واسعة، قال أبو عبيدة: هي المسالك، وقال الزجاج: كل مخترق بين جبلين فهو فج و (سبلاً) تفسير للفجاج، لأن الفج قد لا يكون طريقاً نافذاً مسلوكاً (لعلهم يهتدون) إلى مصالح معاشهم ومقاصدهم في الأسفار، وما تدعو إليه حاجاتهم(8/323)
وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ (32)
(وجعلنا السماء سقفاً محفوظاً) عن أن يقع ويسقط على الأرض، كقوله: (ويمسك السماء أن تقع على الأرض).
وقال الفراء: محفوظاً بالنجوم من الشيطان كقوله: (وحفظاً من كل شيطان مارد)، وقيل محفوظاً لا يحتاج إلى عماد، وقيل المراد بالمحفوظ هنا المرفوع، وقيل محفوظاً عن الشرك والمعاصي، وقيل عن الهدم والنقض، وقيل عن الفساد والانحلال إلى الوقت المعلوم.
(وهم عن آياتها) أي الآيات الكائنة فيها الدالة على وجود الصانع ووحدته وتناهي قدرته وكمال حكمته وأضاف الآيات إلى السماء لأنها مجعولة فيها وذلك كالشمس والقمر والنجوم، وكنفية حركاتها في أفلاكها ومطالعها ومغاربها (معرضون) أي لا يعتبرون بها فيها ولا يتفكرون فيما توجبه من الإيمان.(8/323)
وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (33)
(وهو الذي خلق) هذا تذكير لهم بنعمة أخرى مما أنعم الله به عليهم وذلك بأنه خلق لهم (الليل) ليسكنوا فيه (والنهار) ليتصرفوا فيه في معايشهم (و) جعل (الشمس) آية النهار (والقمر) آية الليل ليعلموا عدد الشهور والحساب كما تقدم بيانه في (سبحان).
(كل في فلك) أي مستدير كالطاحونة في السماء (يسبحون)(8/323)
في دوران أي يجرون قاله ابن عباس يعني كل واحد من الشمس والقمر والنجوم في وسط الفلك يسيرون بسرعة كالسابح في الماء.
قال ابن عباس: فلك كفلكة المغزل يدورون في أبواب السماء، كما تدور الفلكة في المغزل، وعنه قال: هو فلك السماء الذي فيه ذلك الكوكب، وكل كوكب يجري في السماء الذي قدر فيه، والجمع في الفعل باعتبار المطالع، قال سيبويه: إنه لما أخبر عنهن بفعل من يعقل وجعلهن في الطاعة بمنزلة من يعقل، جعل الضمير عنهن ضمير العقلاء، ولم يقل يسبحن أو تسبح، وكذا قال الفراء، وقال الكسائي: إنما قال يسبحون لأنه رأس الآية والفلك واحد أفلاك النجوم وأصل الكلمة من الدوران، ومنه فلك المغزل لاستدارتها، والفلك مدار النجوم الذي يضمها وهو في كلام العرب كل شيء مستدير، وقيل الفلك استدارة السماء، وقيل الفلك ماء أو موج مكفوف دون السماء تجري فيه الكواكب.
وقال أهل الهيئة: الأفلاك أجرام صلبة لا ثقيلة ولا خفيفة غير قابلة للخرق والالتئام والنمو والذبول، وفي الرازي: الفلك في كلام العرب كل شيء مستدير وجمعه أفلاك، واختلف العقلاء فيه فقال بعضهم: الفلك ليس بجسم، وإنما هو استدارة هذه النجوم.
وقال الأكثرون: الأفلاك أجسام تدور النجوم عليها وهذا أقرب إلى ظاهر القرآن، واختلف الناس في حركات الكواكب والوجوه الممكنة. فيها ثلاثة فإنه إما أن يكون الفلك ساكناً، والكواكب تتحرك فيه، كحركة السمك في الماء الراكد، وإما أن يكون الفلك متحركاً والكواكب أيضاً إما مخالفة لجهة حركته أو موافقة لجهتها إما بحركة مساوية لحركة الفلك في السرعة والبطء أو مخالفة، وإما أن يكون الفلك متحركاً، والكواكب ساكنة.
والذي يدل عليه لفظ القرآن القسم الأول وهو أن تكون الأفلاك ساكنة والكواكب جارية فيها، كما تسبح السمكة في الماء الراكد انتهى، والحق أنه لا(8/324)
سبيل إلى معرفة صفة السماوات، والأفلاك وما فيها إلا بإخبار الصادق المصدوق.(8/325)
وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ (34)
(وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد) أي دوام البقاء في الدنيا لكونه مخالفاً للحكمة التكوينية والتشريعية (أفإن مت) بأجلك المحتوم، وقرئ مت بكسر الميم وضمها وهما لغتان.
(فهم الخالدون) قال الفراء: جاء بالفاء لتدل على الشرط لأنه جواب قولهم إن محمداً سيموت قال: ويجوز حذف الفاء وإضمارها، والمعنى إن مت فهم يموتون أيضاً فلا شماتة في الموت وكان سبب نزول هذه الآية قول المشركين فيما حكاه الله عنهم (أم يقولون: شاعر نتربص به ريب المنون).
أخرج البيهقي وغيره عن عائشة قالت: دخل أبو بكر على النبي (- صلى الله عليه وسلم -) وقد مات فقبله، وقال وانبياه واخليلاه واصفياه ثم تلا وما جعلنا. الآية.(8/325)
كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (35)
(كل نفس) مخلوقة فلا يراد الباري تعالى: (ذائقة الموت) أي ذائقة مرارة مفارقة جسدها فلا يبقى أحد من ذوات الأنفس المخلوقة كائناً ما كان وهذا دليل على ما أنكر من خلودهم، قيل هذا العموم مخصوص بقوله تعالى: (تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك) فإن الله حي لا يموت ولا يجوز عليه الموت، والذوق هاهنا عبارة عن مقدمات الموت وآلامه العظيمة قبل حلوله.
(ونبلوكم) أي نختبركم (بالشر) أي بالشدة (والخير) أي الرخاء (فتنة) مصدر لنبلوكم من غير لفظه لأن الابتلاء فتنة فكأنه قال: نفتنكم فتنة أو مفعول له أي لننظر كيف شكركم وصبركم، والمراد أنه سبحانه يعاملهم معاملة من يبلوهم فالله لا يخفى عليه شيء.
(وإلينا ترجعون) لا إلى غيرنا لا استقلالاً ولا اشتراكاً فنجازيكم بأعمالكم حسبما يظهر منكم إن خيراً فخير وإن شراً فشر، وفيه إشارة إلى أن المقصود من هذه الحياة الدنيا الابتلاء والتعريض للثواب والعقاب.(8/325)
وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ (36) خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ (37) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38) لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلَا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (39) بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (40) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (41)(8/326)
وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ (36)
(وإذا رآك الذين كفروا) يعني الستهزئين من المشركين (إن يتخذونك إلا هزواً) أي ما يتخذونك إلا مهزوءاً بك، والهزء السخرية وهؤلاء هم الذين قال الله فيهم: (إنا كفيناك المستهزئين) والمعنى ما يفعلون بك إلا اتخاذك هزواً (أهذا الذي يذكر آلهتكم؟) أي يقولون أهذا الذي؟ فعلى هذا يكون هو جواباً ويكون قوله: أن يتخذونك اعتراضاً بين الشرط والجزاء، ومعنى يذكر يعيب، قال الزجاج: يقال فلان يذكر الناس أي يغتابهم ويذكرهم بالعيوب وفلان يذكر الله يصفه بالتعظيم ويثني عليه، وإنما يحذف مع الذكر ما عقل معناه، وعلى ما قالوا لا يكون الذكر في كلام العرب العيب، وحيث يراد به العيب يحذف منه السوء، وقيل يطلق على المدح والذم مع القرينة.
(وهم بذكر الرحمن هم كافرون) أي بالقرآن، أو هم بذكر الرحمن الذي خلقهم كافرون؛ إذ قالوا ما نعرفه، والمعنى أنهم يعيبون على النبي صلى الله عليه وسلم أن يذكر آلهتهم التي لا تضر ولا تنفع بالسوء، والحال أنهم بذكر الله سبحانه بما يليق به من التوحيد، أو بالقرآن كافرون، فهم أحق بالعيب لهم والإنكار عليهم.(8/326)
خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ (37)
(خلق الإنسان من عجل) أي جعل لفرط استعجاله في أحواله كأنه مخلوق من العجل، وفيه استعارة بالكناية، والعجل والعجلة ضد البطء، وقد عَجِل من باب طَرِب، والمعنى أن الإنسان من حيث هو مطبوع على العجلة فيستعجل كثيراً من الأشياء وإن كانت تضره، وقال الفراء: كأنه يقول بنيته وخلقته من العجلة وعلى العجلة.
وقال الزجاج. خوطبت العرب بما تعقل، والعرب تقول للذي يكثر منه الشيء خلقت منه، كما تقول أنت من لعب وخلقت من لعب، تريد المبالغة في وصفه بذلك، ويدل على هذا المعنى قوله: (وكان الإنسان عجولاً) والمراد بالإنسان الجنس، وقيل آدم، فإنه لما خلقه الله ونفخ فيه من الروح صار الروح في رأسه، فذهب ينهض قبل أن يبلغ الروح إلى رجليه فوقع؛ فقيل: (خلق الإنسان من عجل) كذا قال عكرمة وسعيد بن جبير والسدي والكلبي ومجاهد، ولفظ عكرمة: لما نفخ في آدم الروح صار في رأسه فعطس، فقال الحمد لله، فقالت الملائكة يرحمك الله؛ فذهب ينهض قبل أن تمور في رجليه فوقع، فقال الله: (خلق الإنسان من عجل) وعن ابن جريج نحوه.
وقال أبو عبيدة وكثير من أهل المعاني: العجل الطين بلغة حمير، وقيل إن هذه الآية نزلت في النضر بن الحرث وهو القائل: (اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك) إلخ، وقيل نزلت في قريش لأنهم استعجلوا العذاب، وقال الأخفش: معناه أنه قيل له كن فكان، وقيل: أن هذه الآية من المقلوب، أي خلق العجل من الإنسان لشدة صدوره منه وملازمته له. وقد حكى هذا عن أبي عبيدة والنحاس وأبى عمرو، والقول الأول أولى.
(سأوريكم آياتي) أي نقماتي منكم ومواعيدي في الآخرة بعذاب النار أو في الدنيا كوقعة بدر (فلا تستعجلون) بالإتيان فإنه نازل بكم لا محالة.(8/327)
وقيل المراد بالآيات ما دل على صدق محمد صلى الله عليه وسلم من المعجزات، وما جعله الله له من العاقبة المحمودة، والأول أولى ويدل عليه قوله:(8/328)
وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38)
(ويقولون متى هذا الوعد) أي متى حصول هذا الوعد الذي تعدنا به من العذاب، قالوا ذلك على جهة الاستهزاء والسخرية، وقيل المراد بالوعد هنا القيامة (إن كنتم) يا معشر المسلمين (صادقين) في وعدكم، والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين الذين يتلون الآيات القرآنية المنذرة بمجيء الساعة وقرب حضور العذاب.(8/328)
لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلَا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (39)
(لو يعلم الذين كفروا حين) أي لو عرفوا ذلك الوقت، وقال أبو السعود: استئناف مسوق لبيان شدة هول ما يستعجلونه لجهلهم بشأنه، وإيثار صيغة المضارع في الشرط وإن كان المعنى على المضي لإفادة استمرار عدم العلم انتهى. وجواب (لو) محذوف لأنه أبلغ من الوعيد، فقدره الزمخشري لما كانوا بتلك الصفة من الكفر والاستهزاء والاستعجال، ولكن جهلهم هو الذي هوَّنه عندهم وقدره ابن عطية، ولو علموا الوقت الذي (لا يكفون) يدفعون.
(عن وجوههم النار ولا عن ظهورهم) لما استعجلوا الوعيد، وقدره الحوفي لسارعوا، وقال الزجاج: التقدير لعلموا صدق الوعد أي البعث. وقيل لو علموه ما أقاموا على الكفر. وقال الكسائي: هو تنبيه على تحقيق وقوع الساعة أي لو علموه علم يقين لعلموا أن الساعة آتية، ويدل عليه قوله الآتي:(8/328)
بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (40)
(بل تأتيهم بغتة) وتخصيص الوجوه والظهور بالذكر بمعنى القدام والخلف لكونهما أشهر الجوانب في استلزام الإحاطة بها للإحاطة بالكل بحيث لا يقدرون على دفعها من جانب من جوانبهم.(8/328)
(ولا هم ينصرون) أي لا يمنعون منها في القيامة ولا ينصرهم أحد من العباد فيدفع ذلك عنهم (بل) إضراب انتقالي من بيان السبب إلى بيان كيفية وقوع الموعود فقال: (تأتيهم) أي لا يُكْفَوْنَهَا بل تأتيهم العدة أو النار أو الساعة (بغتة) أي فجأة (فتبهتهم) قال الجوهري: بهته بهتاً أخذه، بغتاً، وقال الفراء: أي تحيرهم. وقيل تفجؤهم وقيل تدهشهم.
(فلا يستطيعون ردها) أي صرفها عن وجوههم ولا عن ظهورهم، فالضمير راجع إلى النار، وقيل إلى الوعد بتأويله بالعدة، وقيل إلى الحين بتأويله بالساعة (ولا هم ينظرون) أي يمهلون ويؤخرون لتوبة واعتذار.(8/329)
وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (41)
(ولقد استهزئ برسل من قبلك) مسوقة لتسلية رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعزيته، كأنه قال: إن استهزأ بك هؤلاء فقد فُعِلَ ذلك بمن قبلك من الرسل على كثرة عددهم وخطر شأنهم (فحاق) أي أحاط ودار بسبب ذلك (بالذين سخروا منهم) أي من أولئك الرسل وهزؤوا بهم (ما كانوا به يستهزئون) ما مصدرية أو موصولة، أي فأحاط بهم استهزاؤهم، أي جزاؤه على وضع السبب موضع المسبب أو نفس الاستهزاء إن أريد به العذاب الأخروي بناء على تجسم الأعمال أو الأمر الذي كانوا يستهزئون به.(8/329)
قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ (42) أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلَا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ (43) بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ (44) قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ (45)(8/330)
قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ (42)
(قل من يكلؤكم) أي يحرسكم، قاله ابن عباس، والمعنى يحفظكم، والكلاءة الحراسة والحفظ، يقال كلأه الله كِلأة بالكسر، أي حفظه وحرسه، وحكي يكلوْكم بفتح اللام وإسكان الواو، أي قل يا محمد لأولئك المستهزئين بطريق التقريع والتوبيخ من يحرسكم ويحفظكم (بالليل) أي فيه إذا نمتم (والنهار) إذا انصرفتم إلى معايشكم، وتقديم الليل لما أن الدواهي أكثر فيه وقوعاً وأشد وقعاً (من) بأس (الرحمن) وعذابه الذي تستحقون حلوله بكم ونزوله عليكم. قال الزجاج: معناه من يحفظكم من بأس الرحمن؟.
وقال الفراء: المعنى من يحفظكم مما يريد الرحمن إنزاله بكم من عقوبات الدنيا والآخرة. وفي التعرض لعنوان الرحمة إيذان بأن كالئهم ليس إلا رحمته العامة (بل هم عن ذكر ربهم معرضون) فلا يذكرونه ولا يخطرونه ببالهم ولا يتفكرون فيه بل يعرضون عنه أو عن القرآن أو عن مواعظ الله أو عن معرفته.(8/330)
أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلَا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ (43)
(أم لهم آلهة تمنعهم من دوننا) أم بمعنى بل والهمزة للإضراب عن الكلام السابق المشتمل على بيان جهلهم بحفظه سبحانه إياهم إلى توبيخهم(8/330)
وتقريعهم باعتمادهم على من هو عاجز عن نفع نفسه والدفع عنها، والمعنى بل لهم آلهة تمنعهم مما يسوءهم من عذابنا، وفيه تقدير وتأخير، والتقدير أم لهم آلهة من دوننا تمنعهم. ثم وصف آلهتهم هذه التي زعموا أنها تنصرهم بما يدل على الضعف والعجز فقال:
(لا يستطيعون نصر أنفسهم) أي هم عاجزون عن نصر أنفسهم فكيف يستطيعون أن ينصروا غيرهم، فهو استئناف مقرر لما قبله من الإنكار وموضح لبطلان اعتقادهم (ولا هم) أي الكفار (منا يصحبون) أي يجارون من عذابنا قال ابن قتيبة: أي لا يجيرهم منا أحد لأن المجير صاحب الجار. والعرب تقول: صحبك الله أي حفظك وأجارك، تقول العرب أنا لك جار، وصاحب من فلان أي مجير منه، وهو اختيار الطبري.
قال المازني: هو من أصحبت الرجل إذا منعته. وقال مجاهد: يحفظون قال ابن عباس: أي لا ينصرون ولا يجارون ولا يمنعون. وقال قتادة: لا يصحبون من الله بخير ولا يجعل الله رحمته صاحباً لهم. ذكره القرطبي.
ولما أبطل كون الأصنام نافعة أضرب عن ذلك منتقلاً إلى بيان أن ما هم فيه من الخير والتمتع بالحياة العاجلة هو من الله لا من مانع يمنعهم من الهلاك ولا من ناصر ينصرهم على أسباب التمتع فقال:(8/331)
بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ (44)
(بل متعنا هؤلاء وآباءهم) يعني أهل مكة متعهم الله بما أنعم عليهم (حتى طال عليهم العمر) وامتد بهم الزمان، فاغتروا بذلك وظنوا أنهم لا يزالون كذلك؛ فرد الله سبحانه عليهم قائلاً:
(أفلا يرون) أي لا ينظرون فيرون (أنّا نأتي الأرض) أي نقصد أرض الكفر (ننقصها) بالظهور عليها (من أطرافها) فنفتحها بلداً بلداً وأرضاً بعد أرض بتسليط المسلمين عليها، وأسنده إلى نفسه تعظيما لهم. وفيه(8/331)
تعظيم للجهاد والمجاهدين. وقيل ننقصها بالقتل والسبي، وهو تصوير لما يجريه الله على أيدي المسلمين. وقد مضى في الرعد الكلام على هذه مستوفى.
(أفهم الغالبون) الاستفهام للإنكار والفاء للعطف على مقدر كنظائره، أي كيف يكونون غالبين بعد نقصنا لأرضهم من أطرافها، وفي هذا إشارة إلى أن الغالبين هم المسلمون أصحاب النبي.(8/332)
قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ (45)
(قل إنما أنذركم) أي أخوفكم وأحذركم ما تستعجلونه من الساعة ْ (بالوحي) من الله أي بالقرآن لا من قبل نفسي، وذلك شأني وما أمرني الله به (ولا يسمع الصم الدعاء) إما من تتمة الكلام الذي أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقوله لهم أو من جهة الله تعالى.
والمعنى أن من أصم الله سمعه وختم على قلبه وجعل على بصره غشاوة لا يسمع الدعاء. وقرئ لا يُسْمَع بضم الياء وفتح الميم على ما لم يسم فاعله، وقرئ بالفوقية وكسر الميم، أي أنك يا محمد لا تُسْمِع هؤلاء و (ال) في الصم للجنس فيدخل المخاطبون فيه دخولاً أولياً أو للعهد.
(إذا ما ينذرون) أي يخوَّفون لتركهم العمل بما سمعوه من الإنذار، والأصل ولا يسمعون إذا ما ينذرون، فوضع الظاهر موضع المضمر للدلالة على تصامَّهم وسدهم أسماعهم إذا ما أنذروا، وللتسجيل عليهم.(8/332)
وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (46) وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ (47) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ (48) الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ (49) وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (50)(8/333)
وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (46)
(ولئن مستهم نفحة من عذاب ربك) المراد بالنفحة الدليل، مأخوذ من نفح المسك قاله ابن كيسان، وقال المبرد: النفحة الدفعة من الشيء التي دون معظمه، يقال نفحه نفحة بالسيف إذا ضربه ضربة خفيفة. وقيل هي النصيب وقيل هي الطرف وقيل وقعة خفيفة والمعنى متقارب، أي ولئن مسهم أقل شيء من العذاب، وفيه مبالغات ثلاث ذكر المس وما في النفحة من معنى القلة، فإن أصل النفح هبوب رائحة الشيء والبناء الدال على المرة.
(ليقولن يا ويلنا إنا كنا ظالمين) بالإشراك وتكذيب محمد، أي ليدعون على أنفسهم بالويل والهلاك ويعترفون عليها بالظلم.(8/333)
وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ (47)
(ونضع الموازين القسط) العادلة (ليوم القيامة) أي لأهلها، وقيل اللام بمعنى في، أي في يوم القيامة، والموازين جمع ميزان، وهو يدل على أن هناك موازين، وممكن أن يراد ميزان عبر عنه بلفظ الجمع للتعظيم أو باعتبار أجزائه فإن الصحيح أنه ميزان واحد لجميع الأمم ولجميع الأعمال.
وقد ورد في السنة في صفة الميزان ما فيه كفاية، وقد مضى في (الأعراف)، وفي (الكهف) في هذا ما يغني عن الإعادة، والقسط صفة للموازين وصف به مبالغة، قال الزجاج: قسط مصدر يوصف به، تقول: ميزان قسط، وموازين قسط؛ والمعنى ذوات قسط، والقسط العدل وصف به(8/333)
الموازين، لأن الميزان قد يكون مستقيماً، وقد يكون غير مستقيم، فبين الله أن تلك الموازين تجري على حد العدل.
وقرئ القصط بالصاد والطاء، وأما ماهية جرمه من أي الجوهر، وأنه موجود الآن أو سيوجد فنمسك عن تعيينه ولا يكون الوزن في حق كل أحد، لأن من لا حساب عليه لا يوزن له كالأنبياء والملائكة، والوزن يكون للمكلفين من الجن والإنس، وقد يوزن العبد نفسه " كما ورد عن النبي (- صلى الله عليه وسلم -) لرجل عبد الله بن مسعود في الميزان أثقل من جبل أحد " (1) " ومن مات له ولد يجعل ذلك الولد في الميزان " (2) وكيفيته ثقلا وخفة مثلها في الدنيا.
(فلا تظلم نفس شيئاً) أي لا ينقص من إحسان محسن ولا يزاد في إساءة مسيء (وإن كان مثقال حبة من خردل) أي إن كان العمل المدلول عليه بوضع الموازين مثقال حبة، كذا قال الزجاج.
وقال أبو علي الفارسي: وإن كان الظلامة مثقال حبة، قال الواحدي: وهذا أحسن لتقدم قوله: فلا تظلم نفس شيئاً، وقرئ برفع (مثقال) على أن كان تامة أي إن وقع أو أن وجد مثقال حبة، ومثقال الشيء ميزانه أي وإن كان في غاية الخفة والقلة والحقارة، فإن حبة الخردل مثل في الصغر.
(أتينا بها) أي أحضرناها وجئنا بها أي بموزونها للمجازاة عليها، وقرئ آتينا بالمد على معنى جازينا بها يقال آتى يؤاتي مؤاتاة جازى (وكفى بنا حاسبين) أي مُحْصِين في كل شيء، والحسب في الأصل معناه: الْعَدّ، وقيل عالمين لأن من حسب شيئاً علمه وحفظه، وقيل مجازين على ما قدموه من خير وشر والغرض منه التحذير، فإن المحاسب إذا كان في العلم بحيث لا يمكن
_________
(1) الإمام أحمد 1/ 114 - 1/ 421 - 5/ 131.
(2) البخاري كتاب الجنائز باب 6.(8/334)
أن يشتبه عليه شيء، وفي القدرة بحيث لا يعجز عن شيء فحقيق بالعاقل أن يكون على أشد الخوف منه.
وقد أخرج أحمد والترمذي وابن جرير في تهذيبه والبيهقي وغيرهم عن عائشة أن رجلاً قال: يا رسول الله إن لي مملوكين يكذبونني ويخونونني ويعصونني وأضربهم وأشتمهم فكيف أنا منهم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يحسب ما خانوك وعصوك وكذبوك وعقابك إياهم، فإن كان عقابك إياهم دون ذنوبهم كان فضلاً لك، وإن كان عقابك إياهم بقدر ذنوبهم كان كفافاً لا عليك ولا لك، وإن كان عقابك إياهم فوق ذنوبهم اقتص لهم منك الفضل " فجعل الرجل يبكي ويهتف، فقال رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) " أما تقرأ كتاب الله (ونضع الموازين القسط) إلى قوله (حاسبين) " فقال الرجل: يا رسول الله ما أجد لي ولهم خيراً من مفارقتهم أشهدك أنهم أحرار. (1) وفي معناه أحاديث، وروي عن الشبلي أنه رؤى في المنام، فقيل له: ما فعل الله بك؟ قال:
حاسبونا فدققوا ... ثم منوا فأعتقوا
وكذا كل مالك ... بالمماليك يرفق
ثمِ شرع الله سبحانه في تفصيل ما أجمله سابقاً بقوله (وما أرسلنا قبلك إلا رجالاً نوحي إليهم) وذكر عشر قصص، الأولى. قصة موسى، ثم إبراهيم ثم لوط ثم نوح ثم داود وسليمان ثم أيوب ثم إسماعيل وإدريس وذي الكفل، ثم يونس ثم زكريا ثم مريم وابنها عيسى فقال:
_________
(1) الترمذي تفسير سورة 21/ 2 - الإمام أحمد 6/ 280.(8/335)
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ (48)
(ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان وضياء وذكراً للمتقين) المراد بالفرقان هنا التوراة قاله أبو صالح، وعن قتادة مثله لأن فيها الفرق بين الحلال والحرام والحق والباطل.(8/335)
وقال ابن زيد الفرقان: الحق، وقيل الفرقان هنا هو النصر على الأعداء كما في قوله: وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان؛ قال الثعلبي: وهذا القول اشبه بظاهر الآية، ومعنى ضياء أنهم استضاؤوا بها في ظلمات الجهل والغواية، ومعنى الذكر الموعظة أي أنهم يتعظون بما فيها.
وخص المتقين لأنهم ينتفعون بذلك ووصفهم بقوله(8/336)
الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ (49)
(الذين يخشون ربهم بالغيب) لأن هذه الخشية تلازم التقوى أو يخشون عذابه وهو غائب عنهم أو هم غائبون عنه، لأنهم في الدنيا، والعذاب في الآخرة؛ وقيل يخافونه في الخلوات إذا غابوا عن أعين الناس.
(وهم من الساعة مشفقون) أي وهم من أهوال القيامة خائفون وَجِلُون، وهذا من ذكر الخاص بعد العام، لكونها أعظم المخلوقات وللتنصيص على إنصافهم بضد ما أنصف به المستعجلون وإيثار الجملة الاسمية للدلالة على ثبات الإشفاق ودوامه.(8/336)
وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (50)
(وهذا) أي القرآن قاله قتادة، والإشارة إليه بأداة القرب إيماء إلى سهولة تناوله عليهم (ذكر مبارك) قال الزجاج: أي ذكر لمن تذكر به وموعظة لمن اتعظ به والمبارك كثير البركة والخير (أنزلناه) صفة للذكر أو خبر بعد خبر.
(أفأنتم له منكرون)؟ الاستفهام للإنكار لما وقع منهم من الإنكار أي كيف تنكرون كونه منزلاً من عند الله؟ مع اعترافكم بأن التوراة منزلة من عنده، أو أنكم من أهل اللسان تدركون مزايا الكلام ولطائفه، وتفهمون من بلاغة القرآن ما لا يدركه غيركم؛ مع أن فيه شرفكم وَصِيَّتكم. كما يشير إليه لفظ الذكر على ما سبق، فلو أنكره غيركم لكان ينبغي لكم مناصبته، وتقديم الظرف على المتعلق دال على التخصيص أي أفأنتم للقرآن خاصة دون كتاب اليهود فإنهم كانوا يراجعون اليهود فيما عنّ لهم من المشكلات.(8/336)
وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ (51) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ (52) قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ (53) قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (54) قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ (55) قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (56) وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (57)(8/337)
وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ (51)
(ولقد آتينا إبراهيم رشده) أي الرشد اللائق به، وبأمثاله من الرسل الكبار، وهو الاهتداء الكامل المستند إلى الهداية الخاصة الخالصة بالوحي، والاقتدار على إصلاح الأمة باستعمال النواميس الإلهية، وقال مجاهد: هديناه صغيراً.
(من قبل) أي قبل إيتاء موسى وهارون التوراة، أو محمد صلى الله عليه وسلم، وقال الفراء: أي أعطيناه هداه من قبل النبوة والبلوغ أي وفقناه للنظر والاستدلال لما جن عليه الليل فرأى الشمس والقمر والنجم، وعلى هذا أكثر المفسرين وبالأول قال أقلهم.
(وكنا به عالمين) أي أنه موضع لإيتاء الرشد وأنه يصلح لذلك(8/337)
إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ (52)
(إذ) أي اذكر حين (قال لأبيه) آزر (وقومه) نمروذ ومن اتبعه (ما هذه التماثيل) وهي الصور والأصنام، قاله مجاهد، وفيه تجاهل لهم ليحقر آلهتهم مع علمه بتعظيمهم لها.
وأصل التمثال: الشيء المصنوع المشابه لشيء من مخلوقات الله سبحانه، يقال مَثَّلْتُ الشيء بالشيء إذا جعلته مشابهاً له، واسم ذلك اْلمُمَثل تمثال، وهو الصورة المصنوعة من رخام أو نحاس أو خشب شبيهة بخلق(8/337)
الآدمي أو غيره من الحيوانات وأنكر عليهم عبادتها بقوله:
(التي أنتم لها عاكفون) العكوف عبارة عن اللزوم والاستمرار على الشيء لغرض من الأغراض، واللام في لها للاختصاص، ولو كانت للتعدية لجيء بكلمة على أي ما هذه الأصنام التي أنتم مقيمون على عبادتها؟ وقيل: إن العكوف مضمن معنى العبادة وكانت تلك الأصنام اثنين وسبعين صنماً، بعضها من ذهب وبعضها من فضة، وبعضها من حديد، وبعضها من رصاص، وبعضها من نحاس وبعضها من حجر، وبعضها من خشب، وكان كبيرها من ذهب مكللاً بالجواهر في عينيه ياقوتتان متقدتان تضيآن في الليل.(8/338)
قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ (53)
(قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين) فقلدناهم واقتدينا بهم أجابوه بهذا الجواب الذي هو العصا التي يتوكأ عليها كل عاجز والحبل الذي يتشبث به كل غريق؛ وهو التمسك بمجرد تقليد الآباء أي وجدنا آباءنا يعبدونها، فعبدناها اقتداء بهم ومشياً على طريقتهم.
وهكذا يجيب هؤلاء المقلدة من أهل هذه الملة الإسلامية فإن العالم بالكتاب والسنة إذا أنكر عليهم العمل بمحض الرأي المدفوع بالدليل، قالوا: هذا قد قال به إمامنا الذي وجدنا آباءنا له مقلدين وبرأيه آخذين، قال الحفناوي: أي فلم يكن جوابهم إلا التقليد انتهى، وجوابهم هو ما أجاب به الخليل هاهنا.(8/338)
قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (54)
(قال لقد كنتم أنتم وآباؤكم في ضلال مبين) أي في خسران واضح ظاهر لا يخفى على أحد، ولا يلتبس على ذي عقل، فإن قوم إبراهيم عبدوا الأصنام التي لا تضر ولا تنفع ولا تسمع ولا تبصر، وليس بعد هذا الضلال ضلال، ولا يساوي هذا الخسران خسران، قال النسفي: أراد أن المقلدين(8/338)
والمُقَلدين منخرطون في سلك ضلال ظاهر وأكد بـ (أنتم) ليصح العطف لأن العطف على ضمير هو في حكم بعض الفعل ممتنع. انتهى.
أقول: وهؤلاء المُقَلَّدة من أهل الإسلام استبدلوا بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم كتباً قد دونت فيها اجتهادات عالم من علماء الإسلام زعم أنه لم يقف على دليل يخالفها إما لقصور منه أو لتقصير في البحث فوجد ذلك الدليل من وجده وأبرزه واضح المنار كأنه علم في رأسه نار، وقال هذا كتاب الله أو هذه سنة رسوله وأنشدهم:
دعوا كل قول عند قول محمد ... فما آمِنٌ في دينه كمُخَاطِرِ
فقالوا كما قال الأول:
وهل أنا إلا من غَزِيَّة إن غوت ... غَوِيت وإن ترشد غَزِيَّةُ أرشد
وقد أحسن من قال:
يأبي الفتى إلا اتباع الهوى ... ومنهجُ الحق له واضح
قال البيضاوي: والتقليد إن جاز فإنما يجوز لمن علم في الجملة أنه على الحق ثم لما سمع أولئك مقالة الخليل.(8/339)
قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ (55)
(قالوا أجئتنا بالحق أم أنت من اللاعبين) أي أجادّ أنت فيما تقول أم أنت لاعب مازح؟ وليس المراد به حقيقة المجيء إذ لم يكن غائباً عنهم و (أم) متصلة وإن كان يعدها جملة لأنها في حكم المفرد، إذ التقدير أي(8/339)
الأمرين واقع مجيئك بالحق؟ أم لعبك؟ وفي إيراد الشق الثاني بالجملة الاسمية الدالة على الثبات إيذان برجحانه عندهم ثم(8/340)
قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (56)
(قال) مضرباً عما بنوا عليه مقالتهم من التقليد.
(بل ربكم رب السماوات والأرض) وقيل هو إضراب عن كونه لاعباً، بإقامة البرهان على ما ادعاه، والأول أظهر (الذي فطرهن) أي خلقهن وأبدعهن والضمير للسموات أو للتماثيل وهو أدخل في تضليلهم وإقامة الحجة عليهم لأن فيه تصريحاً بأن معبوداتهم من جملة مخلوقاته.
(وأنا على ذلكم) الذي ذكرته لكم من كون ربكم هو رب السماوات والأرض فقط دون ما عداه كائناً ما كان (من الشاهدين) أي العالمين به على سبيل الحقيقة المبرهنين عليه، فإن الشاهد على الشيء هو من كان عالماً به، مبرهناً عليه مبيناً له.(8/340)
وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (57)
(وتالله لأكيدن أصنامكم) أخبرهم بأنه سينتقل من المحاجة باللسان إلى تغيير المنكر بالفعل ثقة بالله سبحانه ومحاماة على دينه، وهذه طريقة فعلية دالة على أنه على الحق، بعد أن أتى بطريقة قولية، فجمع بين القول والفعل، والكيد المكر، يقال كاده يكيده كيداً ومكيدة، والمراد هنا الاجتهاد في كسر الأصنام. قيل: إنه عليه السلام قال ذلك سراً، وقيل سمعه رجل منهم فأفشاه.
(بعد أن تولوا مدبرين) أي بعد أن تراجعوا من عبادتها ذاهبين منطلقين. قال المفسرون. كان لهم عيد في كل سنة يجتمعون فيه، فقالوا لإبراهيم لو خرجت معنا إلى عيدنا أعجبك ديننا، فقال إبراهيم هذه المقالة.(8/340)
فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (58) قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (59) قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ (60) قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (61) قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ (62) قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ (63) فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (64) ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ (65)(8/341)
فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (58)
(فجعلهم جذاذاً) أي تولوا فجعلهم جذاذاً؛ أي حطاماً بفأس.
قاله ابن عباس وعنه قال: فتاتاً. الْجَذّ القطع والكسر، يقال جذذت الشيء قطعته وكسرته، الواحد جذاذة، والجذاذ ما تكسر منه.
قال الجوهري. قال الكسائي ويقال لحجارة الذهب الجذاذ لأنها تكسر، وقرئ جذاذاً بكسر الجيم، أي كِسَراً وَقِطَعاً، جمع جذيذ وهو الهشيم، مثل خفيف وخفاف وظريف وظراف، وقرئ بالضم كالحطام، والرِّقاق فعال بمعنى مفعول وقرئ بفتحها. قال قطرب: هي في لغاتها كلها مصدر فلا يثنى ولا يجمع ولا يؤنث، والقراءتان الأوليان سبعيتان، وهذا هو الكيد الذي وعدهم به. (إلا كبيراً لهم) أي عظيم آلهتهم. قاله ابن عباس، يعني تركه ولم يكسره، والضمير للآلهة أو عائد على عابديها ووضع الفأس في عنقه ثم خرج.
(لعلهم إليه) أي إلى إبراهيم (يرجعون) فيحاجهم بما سيأتي فيحجهم. وقال الرازي: أما إذا قلنا إن الضمير راجع إلى الكبير، فالمعنى لعلهم يرجعون إليه كما يرجع إلى العالم في حل المشكلات فيقولون له ما لهؤلاء مكسورة ومالك صحيحاً؟ وما لهذا الفأس في عنقك؟ وقال ذلك بناء(8/341)
على كثرة جهالاتهم واستهزاء بهم، وكان من عادتهم إذا رجعوا إليها سجدوا إليها ثم ذهبوا إلى منازلهم.
وقيل المعنى لعلهم إلى الصنم الكبير يرجعون فيسألونه عن الكاسر، لأن من شأن المعبود أن يرجع إليه في المهمات، فإذا رجعوا إليه لم يجدوا عنده خبراً، فيعلمون حينئذ أنها لا تجلب نفعاً ولا تدفع ضرراً، ولا تعلم بخير ولا شر، ولا تخبر عن الذي ينوبها من الأمر. وقيل لعلهم إلى الله يرجعون، وهو بعيد جداً(8/342)
قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (59)
(قالوا) في الكلام حذف؛ والتقدير فلما رجعوا من عيدهم ورأوا ما حدث بآلهتهم من التكسير قالوا: (من فعل هذا بآلهتنا إنه لمن الظالمين) الاستفهام للتوبيخ والتشنيع والإنكار، وقيل (من) موصولة مبتدأ، و (إنه لمن) الخ خبره، أي فاعل هذا ظالم والأول أولى.
عن ابن مسعود قال: لما خرج قوم إبراهيم إلى عيدهم مروا عليه فقالوا يا إبراهيم ألا تخرج معنا؟ قال إني سقيم، وقد كان بالأمس قال: (تالله لأكيدن أصنامكم) الآية، فسمعه ناس منهم فلما خرجوا انطلق إلى أهله فأخذ طعاماً، ثم انطلق إلى آلهتهم فقربه إليهم فقال ألا تأكلون؟ فكسرها إلا كبيرهم؛ ثم ربط في يده الذي كسر به آلهتهم، فلما رجع القوم من عيدهم دخلوا، فإذا هم بآلهتهم قد كسرت، وإذا كبيرهم في يده الذي كسر به الأصنام، قالوا من فعل هذا بآلهتنا؟.(8/342)
قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ (60)
(قالوا) أي قال الذين سمعوا إبراهيم يقول: (وتالله لأكيدن أصنامكم) مجيبين المستفهمين لهم (سمعنا فتى يذكرهم) أي يعيبهم ويسبهم. وسمع هنا متعدية لاثنين لدخولها على ما لا يسمع، فالأول فتى والثاني جملة يذكرهم بخلاف ما لو دخلت على ما يسمع، كأن قلت سمعت كلام زيد فإنها تتعدى لواحد.
(يقال له إبراهيم) قال الزجاج: أي هو إبراهيم، فهو خبر مبتدأ(8/342)
محذوف، أو مبتدأ محذوف الخبر؛ أي يقال له إبراهيم فاعل ذلك، وقيل ارتفع على أنه مفعول ما لم يسم فاعله، أي يقال له هذا اللفظ، ولهذا قال أبو البقاء: المراد الاسم لا المسمى. وقيل على النداء أي يا إبراهيم.
ومن غرائب التدقيقات النحوية وعجائب التوجيهات الإعرابية أن الأعلم الشنتمري الأشبيلي قال: أنه مرتفع على الإهمال قال ابن عطية: ذهب إلى رفعه بغير شيء.(8/343)
قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (61)
(قالوا فأتوا به على أعين الناس) القائلون هم السائلون، أمروا بعضهم أن يأتي به ظاهراً بمرأى من الناس قيل إنه لما بلغ الخبر نمرود وأشراف قومه كرهوا أن يأخذوه بغير بينة فقالوا هذه المقالة ليكون ذلك حجة عليه يستحلون بها منه ما قد عزموا على أن يفعلوه به.
(لعلهم يشهدون) أي يحضرون عقابه حتى ينزجر غيره عن الاقتداء به في مثل هذا. وقيل: لعلهم يشهدون عليه بأنهم رأوه يكسر أصنامهم، أو لعلهم يشهدون طعنه على أصنامهم.(8/343)
قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ (62)
(قالوا أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم) مستأنفة وفي الكلام حذف، أي فجاء إبراهيم حين أتوا به، فاستفهموه هل فعل ذلك لإقامة الحجة عليه في زعمهم(8/343)
قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ (63)
(قال) إبراهيم مقيماً للحجة عليهم مبكتاً لهم، وقال المحلي: قال ساكتاً عن فعله (بل فعله كبيرهم هذا) مشيراً إلى الصنم الذي تركه ولم يكسره.
وقال الشهاب: هذا على طريقة الكناية الفرضية، فهذا يستلزم نفي فعل الصنم الكبير للكسر وإثباته لنفسه، وحاصله أنه إشارة لنفسه على الوجه الأبلغ مضمناً فيه الاستهزاء والتضليل. انتهى.(8/343)
أخرج أبو داود والترمذي وابن المنذر وابن أبي حاتم وغيرهم عن أبي هريرة قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لم يكذب إبراهيم في شيء قط إلا في ثلاث كلهن في الله. قوله إني سقيمٌ ولم يكن سقيماً. وقوله لسارة أختي، وقوله: بل فعله كبيرهم هذا " (1) وهذا الحديث في الصحيحين من حديث أبي هريرة بأطول من هذا، وقد روي نحوه أبو يعلى من حديث أبي سعيد.
وقيل: أراد إبراهيم عليه السلام بنسبة الفعل إلى ذلك الكبير من الأصنام أنه فعل ذلك لأنه غار وغضب من أن يعبد وتعبد الصغار معه، إرشاداً لهم إلى أن عبادة هذه الأصنام التي لا تسمع ولا تبصر ولا تنفع ولا تدفع، لا تستحسن في العقل مع وجود خالقها وخالقهم والأول أولى، وقرئ بل فعله بتشديد اللام، على معنى بل فَلَعَلَّ الفاعل كبيرهم.
(فاسألوهم) عن فاعله (إن كانوا ينطقون) أي إن كانوا ممن يمكنه النطق ويقدر على الكلام ويفهم ما يقال له فيجيب عنه بما يطابقه، وفيه تقديم جواب الشرط، أراد عليه السلام أن يبين لهم أن من لا يتكلم ولا يعلم ليس بمستحق للعبادة ولا يصح في العقل أن يطلق عليه أنه إله، فأخرج الكلام مخرج التعريض لهم بما يوقعهم في الاعتراف بأن الجمادات التي عبدوها ليست بآلهة، لأنهم إذا قالوا إنهم لا ينطقون، قال لهم فكيف تعبدون من يعجز عن النطق ويقصر عن أن يعلم بما يقع عنده في المكان الذي هو فيه؛ فهذا الكلام من باب فرض الباطل مع الخصم حتى تلزمه الحجة ويعترف بالحق، فإن ذلك أقطع لشبهته وأدفع لمكابرته. وإنما قال: ينطقون ولم يقل يسمعون أو يعقلون، مع أن السؤال موقوف على السمع والعقل أيضاً، لما أن نتيجة
_________
(1) الترمذي تفسير 21/ 3 - مسلم 2371 - البخاري 1113.(8/344)
السؤال الجواب، وأن عدم نطقهم أظهر في تبكيتهم.(8/345)
فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (64)
(فرجعوا إلى أنفسهم) أي رجع بعضهم إلى بعض رجوع المنقطع عن حجته المتفطن لصحة حجة خصمه المراجع لعقله، وذلك أنهم تنبهوا وفهموا عند هذه المقاولة بينهم وبين إبراهيم، أن من لا يقدر على دفع المضرة عن نفسه ولا على الإضرار بمن فعل به ما فعله إبراهيم بتلك الأصنام يستحيل أن يكون مستحقاً للعبادة ولهذا (فقالوا) أي قال بعضهم لبعض.
(إنكم أنتم الظالمون) لأنفسكم بعبادة هذه الجمادات، وليس الظالم من نسبتم إليه الظلم بقولكم أنه لمن الظالمين(8/345)
ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ (65)
(ثم نكسوا على رؤوسهم) أي رجعوا إلى جهلهم وعنادهم، شبه سبحانه عودهم إلى الباطل بصيرورة أسفل الشيء أعلاه. وقيل المعنى أنه طأطأوا رؤوسهم خجلة من إبراهيم، وهو ضعيف لأنه لم يقل نكسوا رؤوسهم بفتح الكاف؛ وإسناد الفعل إليهم حتى يصح هذا التفسير، بل قال نكسوا على رؤوسهم، وقرئ نُكِّسوا بالتشديد وأنه لغة من المخفف، فليس التشديد لتعدية ولا تكثير.
ثم قالوا بعد أن نكسوا مخاطبين لإبراهيم (لقد علمت ما هؤلاء ينطقون) أي لقد علمت أن النطق ليس من شأن هذه الأصنام فكيف تأمرنا بسؤالهم؟ وما هذه حجازية أو تميمية.(8/345)
قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ (66) أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (67) قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (68) قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69) وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ (70) وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ (71) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلاًّ جَعَلْنَا صَالِحِينَ (72)(8/346)
قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ (66)
(قال) إبراهيم مبكتاً لهم ومزرياً عليهم (أفتعبدون من دون الله) أي بدله (ما لا ينفعكم شيئاً) من النفع إن عبدتموه (ولا يضركم) بنوع من أنواع الضرر إذا لم تعبدوه، ثم تضجر عليه السلام منهم فقال:(8/346)
أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (67)
(أف) بكسر الفاء مع التنوين وتركه وفتحها بلا تنوين بمعنى مصدر، فالقراءات ثلاث وكلها سبعية، أي نتناً وقبحاً (لكم ولما تعبدون من دون الله) وفي هذا تحقير لهم ولمعبوداتهم، واللام في لكم لبيان المتأفف له، أي لكم ولآلهتكم والتأفف صوت يدل على التضجر (أفلا تعقلون) أي آليس لكم عقول تتفكرون بها فتعلمون هذا الصنع القبيح الذي صنعتموه، أو أن هذه الأصنام لا تستحق العبادة ولا تصلح لها وإنما يستحقها الله تعالى.(8/346)
قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (68)
(قالوا) أي قال بعضهم لبعض لما أعيتهم الحيلة في دفع إبراهيم وعجزوا عن مجادلته وضاقت عليهم مسالك المناظرة.
(حرّقوه) انصرافاً منهم إلى طريق الظلم والغشم وميلاً منهم إلى إظهار الغلبة بأي وجه كان وعلى أي أمر اتفق؛ وهكذا ديدن المبطل المحجوج إذا قرعت شبهته بالحجة القاطعة، وافتضح لا يبقى له مفزع إلا المناصبة.(8/346)
والقائل هو النمروذ بن كنعان بن السحاريب بن نمروذ بن كوش بن حام ابن نوح. وقيل القائل رجل من أكراد فارس اسمه هينون، خسف الله به الأرض ثم قالوا: (وانصروا آلهتكم) أي انصروها بالانتقام من هذا الذي فعل بها ما فعل وبتحريفه.
(إن كنتم فاعلين) للنصر، فجمعوا له الحطب الكثير وأضرموا النار في جميعه وأوثقوا إبراهيم وجعلوه في منجنيق ورموه في النار. قاله المحلي، وكانت مدة الجمع شهراً ومدة الإيقاد سبعة أيام ومدة مكث إبراهيم في النار سبعة أيام. وفي الرازي أربعين يوماً أو خمسين، ومثله في أبي السعود، وكان وقت إلقائه فيها ابن ست عشرة سنة. وقيل ست وعشرين قاله الماوردي.
(قلنا في الكلام حذف تقديره: فأضرموا النار وذهبوا بإبراهيم إليها فعند ذلك(8/347)
قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69)
(قلنا يا نار كوني برداً وسلاماً) أي ذات برد وسلام؛ أي أبردي برداً غير ضار، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه للمبالغة.
قيل وانتصاب (سلاماً) على أنه مصدر أي وسلمنا سلاماً.
(على إبراهيم) ولو لم يقل (على إبراهيم) لما أحرقت نار ولا اتقدت، قاله أبو حيان في البحر، عن ابن عباس قال: لما جمع لإبراهيم ما جمع، وألقي في النار جعل خازن المطر يقول: متى أومر بالمطر؟ فأرسله فكان أمر الله أسرع، قال الله: (كوني برداً وسلاماً) فلم تبق في الأرض نار إلا طفئت.
وأخرج أحمد وابن ماجه وابن حبان وأبو يعلى وابن أبي حاتم والطبراني، عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن إبراهيم حين ألقي في النار لم تكن دابة إلا تطفئ عنه النار غير الوزغ، فإنه كان ينفخ على إبراهيم، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتله وهو سام أبرص " (1)،
_________
(1) الإمام أحمد 6/ 280 - البخاري كتاب الأنبياء باب 8.(8/347)
وذكر بعض الحكماء أن الوزغ لا يدخل بيتاً فيه زعفران وأنه يبيض قاله ابن لقيمة. وعن ابن عمر قال: أول كلمة قالها إبراهيم حين ألقي في النار حسبنا الله ونعم الوكيل، أخرجه ابن أبي شيبة وابن المنذر، وعن السدي قال: كان جبريل هو الذي ناداها أي النار، وعن ابن عباس قال: لو لم يتبع بردها سلاماً، لمات إبراهيم من بردها، وعن عليّ نحوه.
وعن معتمر بن سليمان التيمي قال: جاء جبريل إلى إبراهيم وهو يوثق ليلقى في النار، فقال: يا إبراهيم ألك حاجة؟ قال: أما إليك فلا، وعن كعب قال: ما أحرقت النار من إبراهيم إلا وثاقه وذهبت حرارتها وبقيت إضاءتها.
وعن المنهال بن عمرو قال: أخبرت أن إبراهيم ألقي في النار، فكان فيها إما خمسين وإما أربعين، فقال: ما كنت أياماً وليالي قط أطيب عيشاً إذ كنت فيها ووددت أن عيشي وحياتي كلها مثل عيشي إذ كنت فيها.(8/348)
وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ (70)
(وأرادوا به كيداً) أي مكراً وهو التحريق (فجعلناهم الأخسرين) أي أخسر من كل خاسر ورددنا مكرهم عليهم فجعلنا لهم عاقبة السوء كما جعلنا لإبراهيم عاقبة الخير لأنهم خسروا السعي والنفقة، فلم يحصل لهم مرادهم، وصار سعيهم برهاناً على بطلانهم، أو الأخسرين بمعنى الهالكين بإرسال البعوض على نمروذ وقومه فأكلت لحومهم وشربت دماءهم ودخلت في دماغه بعوضة فأهلكته.(8/348)
وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ (71)
(ونجيناه ولوطاً إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين) قد تقدم أن لوطاً هو ابن أخي إبراهيم قاله ابن عباس أي هاران الأصغر، وكان لهما أخ ثالث اسمه ناخور، والثلاثة أولاد آزر، وأما هاران الأكبر فكان عماً لإبراهيم وكانت(8/348)
سارة بنت عم إبراهيم الذي هو هاران الأكبر وكانت آمنت بإبراهيم فحكى الله سبحانه هاهنا أنه نجى إبراهيم ولوطاً عليهما السلام.
قال المفسرون. والأرض هي أرض الشام؛ قاله أبيٌ وكانا بالعراق وسماها سبحانه مباركة لكثرة خصبها وأشجارها وثمارها وأنهارها ولأنها معادن الأنبياء وأصل البركة ثبوت الخير، ومنه برك البعير إذا لزم مكانه فلم يبرح وقيل: الأرض المباركة مكة، وقيل: بيت المقدس لأن منها بعث الله أكثر الأنبياء: وهي أيضاً كثيرة الخصب، والأول أولى لأن إبراهيم خرج من كوثى من أرض العراق؛ ومعه لوط، وسارة، فخرج يلتمس الفرار بدينه والأمان على عبادة ربه حتى نزل حران فمكث بها ما شاء الله، ثم خرج من حران حتى قدم مصر، ثم ورجع إلى الشام، فنزل السبع من أرض فلسطين وترك لوطاً بالمؤتفكة وهي على مسيرة يوم وليلة من السبع، فبعثه الله نبياً إلى أهلها وما قرب منها، ذكره الخازن.
وقد تقدم تفسير للعالمين ثم قال سبحانه ممتناً على إبراهيم(8/349)
وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ (72)
(ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلة) وهي الزيادة من غير سؤال، وكان إبراهيم قد سأل الله أن يهب له ولداً فوهب له إسحاق، وجملة ما عاشه من السنين مائة وسبع وأربعون ثم وهب لإسحاق يعقوب من غير دعاء، فكان ذلك نافلة.
وقيل المراد بالنافلة هنا العطية، قاله الزجاج ومجاهد، وقيل النافلة هنا ولد الولد لأنه زيادة على الولد، وقال ابن عباس: نافلة ابن الابن، وعن قتادة والحكم نحوه، وقال الفراء: النافلة يعقوب خاصة لأنه ولد الولد.
(وكًلاًّ جعلنا صالحين) أي كل واحد من هؤلاء الأربعة إبراهيم ولوط وإسحاق ويعقوب لا بعضهم دون بعض جعلناه صالحاً عاملاً بطاعة الله تاركاً لمعاصيه، وقيل المراد بالصلاح هنا النبوة.(8/349)
وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ (73) وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ (74) وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (77) وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78)(8/350)
وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ (73)
(وجعلناهم أئمة) أي رؤساء يقتدى بهم في الخيرات والأعمال الصالحات.
(يهدون) الناس (بأمرنا) أي بما أنزلنا عليهم من الوحي (وأوحينا إليهم فعل الخيرات) أي أن يفعلوا الطاعة، وقيل شرائع النبوات (وإقام الصلاة) الأصل الإقامة إلا أن المضاف إليه جعل بدلاً من الهاء، والمعنى المحافظة عليها.
(وإيتاء الزكاة) الواجبة، وخصهما بالذكر لأن الصلاة أفضل العبادات البدنية وشرعت لذكر الله، والزكاة أفضل العبادات المالية، ومجموعهما التعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله (وكانوا لنا) خاصة دون غيرنا من الأصنام قاله العمادي (عابدين) أي مطيعين فاعلين ما نأمرهم به تاركين، لما ننهاهم عنه، وقيل موحدين.(8/350)
وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ (74)
(ولوطاً آتيناه حكماً) أي نبوة (وعلماً) أي معرفة بأمر الدين أو فقهاً لائقاً به فيكون من عطف السبب على المسبب وقيل الحكم هو فصل(8/350)
الخصومات بالحق، وقيل هو الفهم (ونجيناه من القرية) هي سدوم كما تقدم (التي كانت تعمل) أي يعمل أهلها، ففيه مجاز عقلي (الخبائث) هي اللواطة والضراط، وحذف الحصى والرمي بالبندق واللعب بالطيور وغير ذلك كما سيأتي.
ثم علل سبحانه ذلك بقوله: (إنهم كانوا قوم سوء فاسقين) أي خارجين عن طاعة الله(8/351)
وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (75)
(وأدخلناه) بإنجائنا له من القوم المذكورين (في) أهل (رحمتنا) وقيل في النبوة، وقيل في الإسلام، وقيل في الثواب، وقيل في الجنة (إنه من الصالحين) الذين سبقت لهم منا الحسنى.(8/351)
وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76)
(و) اذكر (نوحاً إذ نادى) ربه (من قبل) أي من قبل هؤلاء الأنبياء المذكورين وبعث وهو ابن أربعين سنة، ومكث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً، وعاش بعد الطوفان ستين سنة. فتكون مدة عمره ألفاً وخمسين سنة كذا في التحبير، وكان عليه السلام أطول الأنبياء عمراً وأشدهم بلاء.
والمعنى دعا على قومه بقوله رب: لا تذر إلخ، دعاء تفصيلياً ودعا دعاء آخر إجمالياً، بقوله: إني مغلوب فانتصر، وإما نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فدعا لقومه بالهداية بقوله: رب اهد قومي فإنهم لا يفهمون كما فهمنا ولذلك ورد أن أمة محمد صلى الله عليه وسلم ثلثا أهل الجنة ولهم ثلاثة أرباع الجنة، بل تسعة أعشارها وبقية الأمم لهم العشر، ذكره السنوسي في شرح الصغرى.
(فاستجبنا له) دعاءه (فنجيناه وأهله) أي المؤمنين منهم (من الكرب العظيم) أي من الغرق بالطوفان وتكذيب قومه له، والكرب الغم الشديد(8/351)
وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (77)
(ونصرناه) نصراً مستتبعاً للانتقام، وقيل منعناه (من القوم الذين كذبوا بآياتنا) الدالة على رسالته أي من أن يصلوا إليه بسوء؛ وقيل من بمعنى على.(8/351)
ثم علل سبحانه ذلك بقوله: (إنهم كانوا قوم سوء فأغرقناهم أجمعين) أي لم نترك منهم أحداً، بل أغرقنا كبيرهم وصغيرهم ذكرهم وأنثاهم بسبب إصرارهم على الذنب (و) اذكر(8/352)
وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78)
(داود وسليمان) أي قصتهما (إذ يحكمان) أي وقت حكمهما، والمراد من ذكرهما ذكر خبرهما (في) شأن (الحرث) قيل كان زرعاً وهو أشبه بالعرف، وقيل كرماً وعليه أكثر المفسرين، وبه قال ابن عباس واسم الحرث يطلق عليهما، قال مرة: كان الحرث تبناً.
(إذ نفشت) قال ابن السكيت: النفش بالتحريك أن تنشر الغنم بالليل من غير راع أي تفرقت وانتشرت، ورعت بأن انفلتت (فيه غنم القوم) أي غنم بعض القوم من أمة داوود (وكنا لحكمهم) أي لحكم الحاكمين، وفيه جواز إطلاق الجمع على الاثنين، وهو مذهب طائفة من أهل العربية كالزمخشري والرضي وتقدمهما إلى القول به الفراء، وإنما وقع الجمع موقع التثنية مجازاً أو لأن التثنية جمع وأقل الجمع اثنان وتدل عليه قراءة لحكمهما.
وقيل المراد الحاكمان والمحكوم عليه فهؤلاء جماعة وفيه الجمع بين الحقيقة والمجاز، فإن الحقيقة إضافة المصدر لفاعله، والمجاز إضافته لمفعوله، ومعنى (شاهدين) حاضرين، والجملة اعتراضية.
وقد روى البيهقي في سننه عن ابن مسعود، ولفظه قال: كرم قد أنبتت عناقيده فأفسدته الغنم فقضى داود بالغنم لصاحب الكرم؛ فقال سليمان: غير هذا يا نبي الله، قال: وما ذاك؟ قال: يدفع الكرم إلى صاحب الغنم، فيقوم عليه حتى يعود كما كان، وتدفع الغنم إلى صاحب الكرم فيصيب منها حتى إذا عاد الكرم كما كان، دفعت الكرم إلى صاحبه والغنم إلى صاحبها فذلك قوله.(8/352)
فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ (79) وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ (80) وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ (81) وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ (82)(8/353)
فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ (79)
(ففهمناها سليمان) وعن مسروق نحوه، وكذا عن ابن عباس لكنه لم يذكر الكرم، وعنه بأطول منه، والضمير المنصوب يعود إلى القضية المفهومة من الكلام أو إلى الحكومة المدلول عليها بذكر الحكم.
وفي الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " بينما امرأتان معهما ابنان جاء الذئب فأخذ أحد الابنين فتحاكما إلى داود فقضى به للكبرى فخرجتا فدعاهما سليمان فقال: هاتوا السكين أشقه بينهما فقالت الصغرى: رحمك الله هو ابنها لا تشقه فقضى به للصغرى " (1) وهذا الحديث وإن لم يكن داخلاً فيما حكته الآية لكنه من جملة ما وقع لهما.
قال المفسرون: دخل رجلان على داود وعنده ابنه سليمان، أحدهما صاحب حرث، والآخر صاحب غنم، فقال صاحب الحرث: إن هذا انفلتت غنمه ليلاً فوقعت في حرثي، فلم تبق منه شيئاً، فقال: لك رقاب الغنم فقال سليمان: أو غير ذلك ينطلق أصحاب الكرم بالغنم فيصيبوا من ألبانها ومنافعها، ويقوم أصحاب الغنم على الكرم حتى إذا كان كليلة نفشت
_________
(1) مسلم 1720 - البخاري 1611.(8/353)
فيه دفع هؤلاء إلى هؤلاء غنمهم، ودفع هؤلاء إلى هؤلاء كَرْمهم، فقال داود: القضاء ما قضيت وحكم بذلك.
قال النحاس: إنما قضى داود بالغنم لصاحب الحرث، لأن ثمنها كان قريباً منه، وأما في حكم سليمان فقد قيل كانت قيمة ما نال من الغنم وقيمة ما أفسدت الغنم سواء، قال جماعة من العلماء: إن داود حكم بوحي، وحكم سليمان بوحي نسخ الله به حكم داود، فيكون التفهيم على هذا بطريق الوحي، وقال الجمهور: إن حكمهما كان باجتهاد وكلام أهل العلم في حكم اجتهاد الأنبياء معروف وهكذا ما ذكروه في اختلاف المجتهدين، وهل كل مجتهد مصيب؟ أو الحق مع واحد؟.
وقد استدل المستدلون بهذه الآية على أن كل مجتهد مصيب ولا شك أنها تدل على رفع الإثم عن المخطئ، وأما كون كل واحد منهما مصيباً فلا تدل عليه هذه الآية ولا غيرها بل صرح الحديث المتفق عليه في الصحيحين وغيرهما " أن الحاكم إذا اجتهد فأصاب فله أجران وإن اجتهد فأخطأ فله أجر " (1) فسماه النبي صلى الله عليه وسلم فكيف يقال أنه مصيب لحكم الله موافق له فإن حكم الله سبحانه واحد لا يختلف باختلاف المجتهدين، وإلا لزم توقف حكمه عز وجل على اجتهادات المجتهدين واللازم باطل فالملزوم مثله.
وأيضاً يستلزم أن تكون العين التي اختلف فيها اجتهاد المجتهدين بالحل والحرمة حلالاً وحراماً في حكم الله سبحانه، وهذا اللازم باطل بالإجماع فالملزوم مثله؛ وأيضاً يلزم أن حكم الله سبحانه لا يزال يتجدد عند وجود كل مجتهد، له اجتهاده في تلك الحادثة، ولا ينقطع ما يريده الله سبحانه فيها إلا بانقطاع المجتهدين، واللازم باطل فالملزوم مثله.
_________
(1) مسلم 1716 - البخاري 2593.(8/354)
والحاصل أن المجتهدين لا يقدرون على إصابة الحق في كل حادثة، لكن لا يصرون على الخطأ كما رجع داود هنا إلى حكم سليمان لما ظهر له أنه الصواب. وقد أوضح الشوكاني هذه المسألة بما لا مزيد عليه في القول المفيد وأدب الطلب، فمن أحب الوقوف على تحقيق الحق فليرجع إليهما وإلى المؤلف الذي سميناه حصول المأمول من علم الأصول، وإلى كتابنا الجنة في الأسوة الحسن بالسنة، ففيهما ما يغني عن غيرهما.
قال الحسن: لولا هذه الآية لرأيت الحكام قد هلكوا، ولكن الله حمد هذا بصوابه وأثنى على هذا باجتهاده. وقال مجاهد: كان هذا صلحاً وما فعله داود كان حكماً والصلح خير، فإن قلت فما حكم هذه الحادثة التي حكم فيها داوود وسليمان في هذه الشريعة المحمدية والملة الإسلامية؟.
قلت قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث البراء أنه شرع لأمته أن على أهل الماشية حفظها بالليل، وعلى أصحاب الحوائط حفظها بالنهار، وأن ما أفسدت المواشي بالليل مضمون على أهلها (1)، وهذا الضمان هو مقدار الذاهب عنها أو قيمته وقد ذهب جمهور العلماء إلى العمل بما تضمنه هذا الحديث. وذهب أبو حنيفة وأصحابه وجماعة من الكوفيين إلى أن هذا الحكم منسوخ وأن البهائم إذا أفسدت زرعاً في ليل أو نهار لا يلزم صاحبها شيء، وأدخلوا فسادها في عموم قول النبي: " جرح العجماء جبار " (2)؛ قياساً لجميع أفعالها على جرحها.
ويجاب عنه بأن هذا القياس فاسد الاعتبار لأنه في مقابلة النص. ومن أهل العلم من ذهب إلى أنه يضمن رب الماشية ما أفسدته من غير فرق بين الليل والنهار ويجاب عنه بحديث البراء، وقد بسط الشوكاني رحمه الله الكلام
_________
(1) الموطأ كتاب الأقضية 36 - الإمام أحمد 5/ 436.
(2) مسلم 1710 - البخاري 802 بلفظ: " العجماء وجرحها جبار ".(8/355)
عليه في شرحه للمنتقى، ومما يدل على أن هذين الحكمين من داوود وسليمان كانا بوحي من الله سبحانه لا باجتهاد، قوله: ففهمناها سليمان.
(وكلا آتينا حكماً وعلماً) فإن الله سبحانه أخبرنا بأنه أعطى كل واحد منهما هذين الأمرين وهما إن كانا خاصين فصدقهما على هذه القضية التي حكاها الله سبحانه عنهما مقدم على صدقهما على غيرهما، وإن كانا عامين فهذا الفرد من الحكم والعلم، وهو ما وقع من كل واحد منهما في هذه القضية أحق أفراد ذلك العام بدخوله تحته ودلالته عليه.
ومما يستفاد من ذلك دفع ما عسى يوهمه تخصيص سليمان بالتفهيم من عدم كون حكم داوود حكماً شرعياً، أي وكل واحد منهما أعطيناه حكماً وعلماً كثيراً، لا سليمان وحده، ولما مدح داوود وسليمان على سبيل الاشتراك ذكر ما. يختص بكل واحد منهما فبدأ بداود فقال:
(وسخرنا) التسخير التكليف للعمل بلا أجرة، وسخره تسخيراً كلفه عملاً بلا أجرة، والمراد هنا التذليل أي ذللنا (مع داود الجبال يسبحن) التسبيح إما حقيقة أو مجاز، وقد قال بالأول جماعة وهو الظاهر، وذلك أن داوود كان إذا سبح سبحت الجبال معه.
وقيل إنها كانت تصلي معه إذا صلى. قاله قتادة، وهو معنى التسبيح. وقال بالمجاز جماعة آخرون، وحملوا التسبيح على تسبيح من رآها تعجباً من عظيم خلقها وقدرة خالقها.
وقيل كانت الجبال تسير مع داوود حيث سار، وكان من رآها سائرة معه سبح، والظاهر وقوع التسبيح منها بالنطق، خلق الله فيها الكلام كما سبح الحصى في كف رسول الله صلى الله عليه وسلم وسمع الناس ذلك، وكان داوود هو الذي يسمع وحده. قاله أبو حيان.(8/356)
(و) كذا سخرنا (الطير) للتسبيح معه (وكنا فاعلين) ما ذكر من التفهيم وإيتاء الحكم والتسخير، وقدم الجبال على الطير لأن تسخيرها وتسبيحها أعجب وأدل على القدرة وأدخل في الإعجاز لأنها جماد والطير حيوان ناطق وهو جمع طائر، وجمع الطير طيور وأطيار، ويقع الطير على الواحد والجمع.
وقال ابن الأنباري: الطير جماعة وتأنيثها أكثر من التذكير، ولا يقال للواحد طير بل طائر، وقلما يقال للأنثى طائرة.(8/357)
وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ (80)
(وعلمناه صنعة لبوس لكم) اللبوس عند العرب السلاح كله، درعاً كان أو جوشنا أو سيفاً أو رمحاً، والمراد في الآية الدروع خاصة، وهو بمعنى الملبوس كالركوب والحلوب، قيل أول من صنع الدروع وسردها واتخذها حلقاً داوود عليه السلام، وكانت من قبل صفائح؛ قالوا إن الله ألان الحديد لداود عليه السلام بأن يعمل منه بغير نار كأنه طين، والدرع يجمع بين الخفة والحصانة، وهو قوله (لتحصنكم) بالفوقية بإرجاع الضمير إلى الصنعة أو إلى اللبوس بتأويل الدرع أي لشمنعكم، وقرئ بالنون بإرجاع الضمير إليه سبحانه؛ وقرئ بالياء بإرجاع الضمير إلى اللبوس أو إلى داوود أو إلى الله سبحانه (من بأسكم) أي من حربكم مع أعدائكم، أو من وقع السلاح فيكم.
(فهل أنتم) يا أهل مكة (شاكرون) لهذه النعمة التي أنعمنا بها عليكم، والاستفهام في معنى الأمر، ثم ذكر سبحانه ما خص به سليمان فقال:(8/357)
وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ (81)
(و) سخرنا (لسليمان الريح) عبر هنا باللام الدالة على التمليك، وفي داوود بـ (مع) وذلك أن الجبال والطير لما اشتركا معه في التسبيح ناسب فيه ذكر (مع) الدالة على الاصطحاب، ولما كانت الريح مستخدمة لسليمان(8/357)
أتى بلام الملك لأنها في طاعته وتحت أمره، والريح هو جسم متحرك لطيف ممتنع بلطفه من القبض عليه يظهر للحس بحركته ويخفي عن البصر بلطفه.
(عاصفة) أي شديدة الهبوب وخفيفته، يقال عصفت الريح أي اشتدت فهي ريح عاصف وعصوف (تجري بأمره) أي إن أراد أن تشتد اشتدت، وإن أراد أن تلين لانت، فهي جامعة للوصفين في وقت واحد، وهذه آية أخرى غير التسخير.
(إلى الأرض التي باركنا فيها) أي تجري منتهية إليها في رواحه من سفره، أي رجوعه منه وهي أرض الشام. عن ابن عباس قال: كان سليمان يوضع له ستمائة ألف كرسي، ثم يجيء أشراف الإنس فيجلسون مما يليه، ثم يجيء أشراف الجن فيجلسون مما يلي أشراف الإنس، ثم يدعو الطير فتظلهم، ثم يدعو الريح فتحملهم تسير مسيرة شهر في الغداة الواحدة.
(وكنا بكل شيء) وتدبيره (عالمين و) سخرنا له(8/358)
وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ (82)
(من الشياطين) أي الكافرين من الجن دون المؤمنين (من يغوصون له) في البحار ويستخرجون منها ما يطلبه منهم، والغوص النزول تحت الماء، يقال غاص في الماء، والغوّاص الذي يغوص في البحر على اللؤلؤ.
(ويعملون عملاً دون ذلك قال الفراء: أي سوى ذلك، ودون بمعنى غير وسوى لا بمعنى أقل وأدون، أي سوى الغوص كالبناء والنورة والطاحون والقوارير والصابون، لأن ذلك من استخراجهم، وقيل يراد بذلك المحاريب والتماثيل، وغير ذلك مما يسخرهم فيه.
(وكنا لهم) أي لأعمالهم (حافظين) وقال الفراء أي من أن يهربوا ويمتنعوا أو حفظناهم من أن يخرجوا عن أمره قال الزجاج: كان يحفظهم من أن يفسدون ما عملوا، وإن دأبهم أن يفسدوا بالليل ما عملوا بالنهار.(8/358)
وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ (84) وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (85) وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ (86)(8/359)
وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83)
(و) اذكر (أيوب إذ نادى ربه) لما ابتلي بفقد ماله وولده وتمزيق
جسده وهجر جميع الناس له إلا زوجته، وضيق عيشه (أني) أي بأني
(مسني الضر) اختلف في الضر الذي كان نزل به ماذا هو، فقيل إنه قام
ليصلي فلم يقدر على النهوض. وقيل إنه أقر بالعجز فلا يكون ذلك منافياً للصبر. وقيل انقطع الوحي عنه أربعين يوماً.
وقيل: إن دودة سقطت من لحمه فأخذها وردها في موضعها فأكلت منه فصاح مسني الضر. وقيل: كانت الدود تناول بدنه فيصبر حتى تناولت دودة قلبه. وقيل: إنه ضره قول إبليس لزوجته اسجدي لي، فخاف ذهاب إيمانها، وقيل: إنها تقذره قومه؛ وقيل: أراد بالضر الشماتة، وقيل غير ذلك.
وأخرج ابن عساكر والديلمي وابن النجار عن عقبة بن عامر قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " قال الله لأيوب: تدري ما جرمك عليّ حتى ابتليتك؟ قال لا يا رب، قال لأنك دخلت على فرعون فداهنت عنده في كلمتين ". وعن ابن عباس قال: إنما كان ذنب أيوب أنه استعان به مسكين على ظالم يدرؤه فلم يعنه ولم يأمر بالمعروف ولم ينه الظالم عن ظلم المسكين فابتلاه الله، وفي إسناده جُوَيبر، ولما نادى ربه متضرعاً إليه وصفه بغاية الرحمة فقال:
(وأنت أرحم الراحمين) وألطف في السؤال ولم يصرح بالمطلوب فكأنه(8/359)
قال أنت أهل أن ترحم وأيوب أهل أن يرحم فارحمه واكشف عنه الضر. قيل وإنما شكا إليه تلذذاً بالنجوى منه لا تضرراً بالشكوى، والشكاية إليه غاية القرب، كما أن الشكاية منه غاية البعد، فأخبر الله سبحانه باستجابته لدعائه فقال:(8/360)
فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ (84)
(فاستجبنا له) نداءه الذي في ضمنه الدعاء (فكشفنا ما به من ضر) أي شفاه الله مما كان به وأعاده بما ذهب عليه. وقال له اركض برجلك فركض فنبعت عين ماء، فأمره أن يغتسل منها، ففعل فذهب كل داء كان بظاهره، ثم مشى أربعين خطوة، فأمره أن يضرب برجله الأرض مرة أخرى ففعل فنبعت عين ماء بارد، فأمره أن يشرب منها، فشرب فذهب كل داء كان بباطنه، فصار كأصح ما كان.
عن عبد الله بن عبد بن عمير قال: كان لأيوب أخوان جاءا يوماً فلم يستطيعا أن يدنوا منه من ريحه فقام من بعيد، فقال أحدهما للآخر: لو كان علم الله من أيوب خيراً ما ابتلاه بهذا، فجزع أيوب من قولهما جزعاً لم يجزع من شيء قط مثله، فقال: اللهم إن كنت تعلم أني لم أبت ليلة قط شبعاناً وأنا أعلم مكان جائع فصدقني، فصدق من السماء وهما يسمعان.
ثم قال: اللهم إن كنت تعلم أني لم ألبس قميصاً قط وأنا أعلم مكان عار فصدقني فصدق من السماء وهما يسمعان، ثم خر ساجداً وقال: اللهم بعزتك لا أرفع رأسي حتى تكشف عني، فما رفع رأسه حتى كشف الله عنه، وقد رواه ابن أبي حاتم مرفوعاً بنحو هذا.
(وآتيناه أهله ومثلهم معهم) قيل تركهم الله عز وجل وأعطاه مثلهم في الدنيا. قال النحاس: والإسناد بذلك صحيح، وقد كان مات أهله جميعاً إلا امرأته فأحياهم الله في أقل من طرف البصر وآتاه مثلهم معهم، وهو ظاهر القرآن، وبه قال أكثر المفسرين، وكان له سبعة بنين وسبع بنات. وقيل كان ذلك بأن ولد له ضعف الذين أماتهم الله؛ فيكون معنى الآية على هذا آتيناه مثل أهله ومثلهم معهم. وعن مجاهد قال: قيل له يا أيوب إن(8/360)
أهلك لك في الجنة فإن شئت أتيناك بهم وإن شئت تركناهم لك في الجنة وعوضناك مثلهم، قال له بل اتركهم لي في الجنة، قال فتركوا له في الجنة وعوض مثلهم في الدنيا، وقال ابن مسعود: أوتي أهله بأعيانهم ومثلهم معهم.
وأخرج ابن أبي الدنيا وأبو يعلى وابن جرير وابن أبي حاتم والروياني وابن حبان والحاكم وصححه وابن مردويه عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن أيوب لبث به بلاؤه ثماني عشرة سنة فرفضه القريب والبعيد إلا رجلين من إخوانه، كانا من أخص إخوانه، كانا يغدوان إليه ويروحان، فقال أحدهما لصاحبه ذات يوم: تعلم والله لقد أذنب أيوب ذنباً ما أذنبه أحد، قال وما ذاك؟ قال منذ ثماني عشرة سنة ولم يرحمه الله فيكشف عنه ما به.
فلما راحا إلى أيوب لم يصبر الرجل حتى ذكر له ذلك، فقال أيوب لا أدري ما نقول غير أن الله يعلم أني أمر بالرجلين يتنازعان يذكران الله فأرجع إلى بيتي فأكفر عنهما كراهة أن يذكر الله إلا في حق " (1) وكان يخرج لحاجته فإذا قضى حاجته أمسكت امرأته بيديه حتى يبلغ، فلما كان ذات يوم أبطأ عليها فأوحى الله إلى أيوب في مكانه أن اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب، فاستبطأته فتلقته وأقبل عليها قد أذهب الله ما به من البلاء وهو أحسن ما كان، فلما رأته قالت: أي بارك الله فيك، رأيت نبي الله المبتلى؛ والله على ْذلك ما رأيت رجلاً أشبه به منك إذ كان صحيحاً، قال فإني أنا هو.
قال وكان له اندران، أندر للقمح واندر للشعير، فبعث الله سحابتين، فلما كانت إحداهما على اندر القمح أفرغت فيه الذهب حتى فاض وأفرغت الأخرى في اندر الشعير الورق حتى فاض.
_________
(1) المستدرك كتاب التاريخ 2/ 581.(8/361)
وأندر هو البيدر بلغة أهل الشام والجمع الأنادر؛ والبيدر موضع يداس فيه الطعام، وأندر اسم جنس فيكون مصروفاً (رحمة من عندنا) أي آتيناه ذلك لرحمتنا له (وذكرى للعابدين) أي وتذكرة لغيره من العابدين ليصبروا كما صبر فيثابوا كثوابه، واختلف في مدة إقامته على البلاء، فقيل سبع سنين وسبعة أشهر وسبعة أيام وسبع ليال؛ وقيل ثلاثين سنة، وقيل ثماني عشرة سنة.
قال الكرخي: وهذا القول هو الصحيح، وعاش أيوب ثلاثاً وستين سنة وكان أيوب رجلاً من الروم، ينتسب للعيص بن إسحاق، وكانت أمه من ولد لوط بن هاران.(8/362)
وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (85)
(و) اذكر (إسماعيل) الصابر على الانقياد للذبح وعاش مائة وثلاثين سنة (وإدريس) هو أخنوخ جد نوح ولد في حياة آدم قبل موته بمائة سنة، وبعث بعد موته بمائتي سنة، وعاش بعد نبوته مائة وخمسين سنة، فتكون جملة عمره أربعمائة وخمسين سنة، وكان بينه وبين نوح ألف سنة.
(وذا الكفل) هو إلياس، وقيل يوشع بن نون، وقيل زكريا، والصحيح أنه رجل من بني إسرائيل كان لا يتورع عن شيء من المعاصي فتاب فغفر الله له وقيل إن اليسع لما كبر قال: من يتكفل لي بكذا وكذا من خصال الخير حتى استخلفه فقال رجل: أنا فاستخلفه، وسمي ذا الكفل، وقيل كان رجلاً يتكفل بشأن كل إنسان إذا وقع في شيء من المهمات.
وقيل هو ولد أيوب واسمه بشر بعثه الله بعد أبيه، وسماه ذا الكفل وأمره بالتوحيد، وكان مقيماً بالشام حتى مات وعمره خمس وسبعون سنة، وعن مجاهد قال: رجل صالح غير نبي تكفل لنبي قومه أن يكفيه أمر قومه ويقيمهم له ويقضي بينهم بالعدل ففعل ذلك فسمي ذا الكفل.(8/362)
وعن ابن عباس قال: كان في بني إسرائيل قاض فحضره الموت، فقال: من يقوم مقامي على أن لا يغضب، فقال رجل أنا، فسمي ذا الكفل، فكان ليله جميعاً يصلي ثم يصبح صائماً فيقضي بين الناس وذكر قصة.
وعن أبي موسى الأشعري قال: ما كان ذو الكفل نبياً ولكن كان في بني إسرائيل رجل صالح يصلي كل يوم مائة صلاة، فتوفي فتكفل له ذو الكفل من بعده، فكان يصلي كل يوم مائة صلاة، فسمي ذا الكفل.
وأخرج أحمد والترمذي وحسنه وابن حبان والطبراني والبيهقي في شعب الإيمان وغيرهم عن ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " كان ذو الكفل من بني إسرائيل لا يتورع عن ذنب عمله، فأتته امرأة فأعطاها ستين ديناراً على أن يطأها، فلما قعد منها مقعد الرجل من امرأته ارتعدت وبكت فقال ما يبكيك أكرهتك؟ قالت: لا، ولكنه عمل ما عملته قط، وما حملني عليه إلا الحاجة فقال: تفعلين أنت هذا وما فعلته اذهبي فهي لك، وقال والله لا أعصي الله بعدها أبداً فمات من ليلته فأصبح مكتوب على بابه " إن الله قد غفر لذي الكفل " (1).
وقد ذهب الجمهور إلى أنه ليس بنبي، وبه قال أبو موسى الأشعري ومجاهد وغيرهما، وقال جماعة: هو نبي ولعله هو الصحيح، وبه قال الحسن لأن الله قرن ذكره بإسماعيل وإدريس؛ ولأن السورة ملقبة بسورة الأنبياء؛ ثم وصف الله سبحانه هؤلاء بالصبر فقال:
(كل من الصابرين) على القيام بما كلفهم الله به
_________
(1) الترمذي، كتاب القيامة باب 48 - الإمام أحمد 2/ 23.(8/363)
وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ (86)
(وأدخلناهم في رحمتنا) أي في الجنة أو في النبوة أو في الخير على عمومه، ثم علل ذلك بقوله: (إنهم من الصالحين) أي الكاملين في الصلاح.(8/363)
وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88) وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ (89) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ (90)(8/364)
وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87)
(و) اذكر (ذا النون) هو يونس بن متى على وزن شتى اسم لوالده على ما ذكره صاحب القاموس، أو اسم لأمه على ما قاله ابن الأثير وغيره.
وقال الشهاب: ومتى اسم أبيه على الصحيح، وسمي ذا النون لابتلاع الحوت له، فإن النون اسم للحوت وجمعه أنوان ونينان، والحوت السمكة، وجمعه حيتان، وقيل سمي به لأنه رأى صبياً مليحاً، فقال: دسموا نونته لئلا تصيبه العين وعن ابن الأعرابي أن نونة الصبي هي الثقبة التي تكون في ذقن الصبي الصغير ومعنى دسموا سودوا.
(إذ ذهب مغاضباً) أي اذكره وقت ذهابه مغاضباً أي مراغماً لقومه لا لربه، وقال الحسن والشعبي وسعيد بن جبير: مغاضباً لربه، واختاره ابن جرير والقتيبي، وحكى عن ابن مسعود، قال النحاس: وربما أنكر هذا من لا يعرف اللغة، وهو قول صحيح، والمعنى مغاضباً لأجل ربه، كما تقول: غضبت لك أي من أجلك، وقال الضحاك، مغاضباً لقومه، وحكى عن ابن عباس.
وقالت فرقة منهم الأخفش إنما خرج مغاضباً للملك الذي كان في وقته واسمه حزقيا، وقيل لم يغاضب ربه ولا قومه ولا الملك، ولكنه مأخوذ من(8/364)
غضب إذا أنف، وذلك أنه لما وعد قومه بالعذاب وكانوا يسكنون فلسطين وخرج عنهم، تابوا وكشف الله عنهم العذاب، فلما رجع وعلم أنهم لم يهلكوا أنف من ذلك وخرج عنهم.
(فظن أن لن نقدر عليه) بفتح النون وكسر الدال؛ واختلف في معنى الآية على هذه القراءة، فقيل: معناها أنه وقع في ظنه أن الله تعالى لا يقدر على معاقبته، وقد حكى هذا القول عن الحسن وسعيد بن جبير، وهو قول مردود؛ فإن هذا الظن بالله كفر؛ ومثل ذلك لا يقع من الأنبياء عليهم السلام.
وذهب جمهور العلماء إلى أن معناها فظن أن لن نضيق عليه كقوله: (يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر) أي يضيق، ومنه قوله: (ومن قدر عليه رزقه)، يقال يقدر وقدر وقتر وقتر أي ضيق، وقيل هو من القدر الذي هو القضاء والحكم دون القدرة والاستطاعة أي فظن أن لن نقضي عليه العقوبة، قاله قتادة ومجاهد، واختاره الفراء والزجاج.
قال ثعلب: هو من القدير ليس من القدرة يقال منه قدر الله لك الخير يقدره قدراً؛ ويؤيده قراءة عمر بن عبد العزيز والزهري، نقَدَّر بضم النون وتشديد الدال من التقدير، وحكى هذا عن ابن عباس، ويؤيده قراءة قتادة والأعرج يُقَدّرَ مبنياً للمفعول من التقدير، وقرئ يُقَدّرَ مخففاً مبنياً للمفعول.
وقد اختلف العلماء في تأويل الحديث الصحيح في قول الرجل الذي لم يعمل خيراً قط لأهله أن يحرقوه إذا مات؛ ثم قال فوالله لئن قدر الله عليّ، الحديث (1) كما اختلفوا في تأويل هذه الآية والكلام في هذا يطول، وقد ذكرنا هاهنا ما لا يحتاج معه الناظر إلى غيره.
_________
(1) مسلم 2756 - البخاري 1635.(8/365)
(فنادى في الظلمات) الفاء فصيحة أي كان ما كان من التقام الحوت له فنادى، والمراد بالظلمات ظلمة الليل وظلمة البحر وظلمة بطن الحوت، قاله ابن مسعود.
وكان نداؤه هو قوله: (أن) أي بأن (لا إله إلا أنت سبحانك) يعني تنزيهاً من أن يعجزك شيء (إني كنت من الظالمين) الذين يظلمون أنفسهم، وأول هذا الدعاء تهليل وأوسطه تسبيح وآخره إقرار بالذنب.
وقال الحسن وقتادة: هذا القول من يونس اعتراف بذنبه وتوبة من خطيئته قال ذلك وهو في بطن الحوت، قيل مكث فيه أربعين يوماً وليلة، وقيل سبعة وقيل ثلاثة كما في الخازن، وفي البيضاوي أربع ساعات.
ثم أخبر الله سبحانه بأنه استجاب له فقال:(8/366)
فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88)
(فاستجبنا له) دعاءه الذي دعانا به في ضمن اعترافه بالذنب على ألطف وجه (ونجيناه من الغم) أي غم الذلة والوحشة والوحدة بإخراجنا له من بطن الحوت حتى قذفه إلى الساحل (وكذلك ننجي المؤمنين) أي نخلصهم من همهم بما سبق من عملهم، وما أعددناه لهم من الرحمة إذا دعونا واستغاثوا بنا وهذا هو معنى الآية الأخرى وهي قوله: (فلولا أنه كان من المسبحين للبث في بطنه إلى يوم يبعثون) قرئ ننجي بنونين وبواحدة وجيم مشددة وتسكين الياء علي الفعل الماضي، وإضمار المصدر أي وكذلك نجى النجاة المؤمنين؛ كما تقول ضرب زيداً، أي ضرب الضرب زيداً، قاله الفراء وأبو عبيد وثعلب.
وخطأها أبو حاتم والزجاج، وقالا: هي لحن لأنه نصب اسم ما لم يسم فاعله، وإنما يقال نجى المؤمنون، وقيل أدغم النون في الجيم وبه قال القتبي وأبو عبيدة واعترضه النحاس، فقال: هذا لا يجوز عند أحد من النحويين لبعد مخرج المدغم والمدغم فيه.(8/366)
قيل كانت هذه الواقعة قبل الرسالة وصححه الخازن ويدل له قوله تعالى بعد ذكر خروجه من بطن الحوت، في سورة الصافات (وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون).
وأخرج أحمد والترمذي والنسائي والحاكم وصححه والبيهقي، عن سعد ابن أبي وقاص قال: سمعت رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) قال: " دعوة ذي النون إذ هو في بطن الحوت لا إله إلا أنت -الخ- لم يدع بها مسلم ربه في شيء قط إلا استجاب له " (1).
وأخرج ابن جرير عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " اسم الله الأعظم الذي إذا دعي به أجاب، وإذا سئل به أعطي دعوة يونس بن متى، قلت: يا رسول الله هل ليونس خاصة؟ أم لجماعة المسلمين قال: هي ليونس خاصة وللمؤمنين عامة إذا دعوا به، ألم تسمع قول الله (وكذلك ننجي المؤمنين) فهو شرط من الله لمن دعاه ".
وأخرج الحاكم من حديثه أيضاً نحوه، وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا ينبغي لأحد أن يقول أنا خير من يونس بن متى " (2) وروي أيضاً في الصحيح وغيره من حديث ابن مسعود، وروي أيضاً في الصحيحين من حديث أبي هريرة.
_________
(1) المستدرك كتاب الدعاء 1/ 505.
(2) مسلم 2376 - البخاري 1608.(8/367)
وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ (89)
(و) اذكر خبر (زكريا إذ نادى ربه) أي وقت ندائه لربه قال: (رب لا تذرني فرداً) أي منفرداً وحيداً لا ولد لي يرثني، وقد تقدم الكلام على هذه الآية في آل عمران (وأنت خير الوارثين) أي خير من يبقى بعد(8/367)
كل من يموت فأنت حسبي إن لم ترزقني ولداً فإني أعلم أنك لا تضيع دينك
وأنه سيقوم بذلك من عبادك من تختاره له وترتضيه للتبليغ.(8/368)
فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ (90)
(فاستجبنا له) دعاءه (ووهبنا له يحيى) ولداً، وقد تقدم تفسيره مستوفى في سورة مريم (وأصلحنا له زوجه) قال أكثر المفسرين: إنها كانت عاقراً فجعلها الله ولوداً، فهذا هو المراد بإصلاح زوجه، وقيل كانت سيئة الخلق فجعلها الله سبحانه حسنة الخلق، ولا مانع من إرادة الأمرين جميعاً، وذلك بأن يصلح الله سبحانه ذاتها فتكون ولوداً بعد أن كانت عاقراً، ويصلح أخلاقها فتكون أخلاقها مرضية بعد أن كانت غير مرضية.
قال ابن عباس: كان في لسان امرأة زكريا طول فأصلحه الله، وروي نحو ذلك عن جماعة من التابعين، وقال أيضاً: وهبنا له ولدها، وعن قتادة قال: كانت عاقراً فجعلها الله ولوداً ووهب له منها يحيى.
(إنهم كانوا يسارعون في الخيرات) هذه الجملة تعليل لما قبلها من إحسانه سبحانه إلى أنبيائه عليهم السلام، والمعنى يبادرون في وجوه الخيرات مع ثباتهم واستقرارهم في أصل الخير وهو السر في إيثار كلمة في على كلمة إلى المشعرة بخلاف المقصود من كونهم خارجين عن أصل الخيرات متوجيهن إليها كما في قوله تعالى: (وسارعوا إلى مغفرة من ربكم) وقيل الضمير راجع إلى زكريا وامرأته ويحيى (ويدعوننا رغباً ورهباً) أي يتضرعون إلينا في حال الرخاء وحال الشدة. وقيل الرغبة رفع بطون الأكف إلى السماء والرهبة رفع ظهورها، والتقدير يرغبون رغباً ويرهبون رهباً، أو للرغب والرهب، أو راغبين وراهبين (وكانوا لنا خاشعين) أي متواضعين متضرعين. قال قتادة: أذلاء، وقال ابن جريج: رغباً في رحمة الله ورهباً من عذاب الله.
وأخرج ابن مردويه عن جابر بن عبد الله قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قول الله رغباً ورهباً، فقال: رغباً هكذا ورهباً هكذا، وبسط كفيه يعني جعل ظهرهما للأرض في الرغبة وعكسه في الرهبة ".(8/368)
وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ (91) إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (92) وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ (93) فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ (94) وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (95) حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (96) وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ (97)(8/369)
وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ (91)
(و) اذكر خبر (التي أحصنت فرجها) وهي مريم فإنها أحصنت فرجها من الحلال والحرام ولم يمسسها بشر؛ وإنما ذكرها مع الأنبياء وإن لم تكن منهم لأجل ذكر عيسى، وما في ذكر قصتها من الآية الباهرة، ومعنى أحصنت عفت فامتنعت من الفاحشة وغيرها.
وقيل المراد بالفرج جيب القميص، أي أنها طاهرة الأثواب، وقد مضى بيان مثل هذا في سورة النساء ومريم.
(فنفخنا فيها من روحنا) أضاف سبحانه الروح إليه وهو للملك تشريفاً وتعظيماً، وهو يريد روح عيسى. وقيل المراد بالروح جبريل؛ أي أمرناه فنفخ في جيب درعها فحملت بعيسى.
(وجعلناها وابنها آية للعالمين) قال الزجاج: الآية فيهما واحدة لأنها ولدته من غير فحل. وقيل أن التقدير على مذهب سيبويه وجدلناها آية وجعلنا ابنها آية، كقوله تعالى: (والله ورسوله أحق أن يرضوه) والمعنى أن الله سبحانه جعل قصتهما آية تامة مع تكاثر آيات كل واحد منهما، وقيل أراد(8/369)
بالآية الجنس الشامل لكل واحد منهما من الآيات. ثم لما ذكر سبحانه الأنبياء بين أنهم كلهم مجتمعون على التوحيد فقال:(8/370)
إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (92)
(إن هذه أمتكم أمة واحدة) الأمة الملة وهي الدين كما قال ابن قتيبة، ومنه (إنا وجدنا آباءنا على أمة) أي على دين وملة؛ كأنه قال إن هذا دينكم دين واحد لا خلاف بين الأمم المختلفة في التوحيد، ولا يخرج عن ذلك إلا الكفرة المشركون بالله. وقيل المعنى أن هذه الشريعة التي بينتها لكم في كتابكم شريعة واحدة، وقيل المعنى أن هذه ملتكم ملة واحدة وهي ملة الإسلام. والنصب على الحال، أي أمة متفقة غير مختلفة قال ابن عباس أي أن هذا دينكم ديناً واحداً، وعن مجاهد مثله وعن قتادة نحوه.
(وأنا ربكم فاعبدون) خاصة لا تعبدوا غيري كائناً ما كان.(8/370)
وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ (93)
(وتقطعوا أمرهم بينهم) أي تفرقوا فرقاً في الدين حتى صاروا كالقطع المتفرقة. وقال الأخفش: اختلفوا فيه، وهو القول الأول. قال الأزهري: أي تفرقوا في أمرهم، فنصب أمرهم بحذف في والمقصود بالآية المشركون، ذمهم الله بمخالفة الحق واتخاذهم آلهة من دون الله. وقيل المراد جميع الخلق وأنهم جعلوا أمرهم في أديانهم قطعاً وقسموه بينهم، فهذا موحد وهذا يهودي، وهذا نصراني وهذا مجوسي وهذا عابد وثن، ثم أخبر سبحانه بأن مرجع الجميع إليه فقال:
(كل إلينا راجعون) أي كل واحد من هذه الفرق الثابت على دينه الحق، والزائغ عنه إلى غيره راجع إلينا بالبعث لا إلى غيرنا(8/370)
فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ (94)
(فمن يعمل من الصالحات) أي بعض الأعمال الصالحة كالفرائض والنوافل لا كلها، إذ لا يطيق ذلك أحد وقيل (من) زائدة (وهو مؤمن) بالله ورسله واليوم الآخر (فلا كفران لسعيه) أي لا جحود لعمله ولا بطلان لثوابه ولا تضييع لجزائه؛ بل يشكر ويثاب عليه.
والمراد نفي الجنس للمبالغة لأن نفي الماهية يستلزم نفي جميع أفرادها،(8/370)
والكفر ضد الإيمان، والكفر أيضاً جحود النعمة وهو ضد الشكر، يقال كفر كفوراً، وكفراناً. وفي قراءة ابن مسعود فلا كفر لسعيه (وإنا له) أي لسعيه (كاتبون) أي حافظون، بأن نأمر الحفظة بكتبه فنجازيه عليه، ومثله قوله سبحانه (إني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى).(8/371)
وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (95)
(وحرام) هكذا قرأ أهل المدينة، وقرأ أهل الكوفة وحرم، وبها قرأ عليّ وابن مسعود وابن عباس وهما لغتان مثل حل وحلال، وقرئ وحرم (على قرية أهلكناها) أي قدرنا إهلاكها (أنهم لا يرجعون) أي ممتنع البتة عدم رجوعهم إلينا للجزاء. وقيل (لا) زائدة، أي أن يرجعوا بعد الهلاك إلى الدنيا، واختاره أبو عبيدة. وقيل أن لفظ حرام هنا بمعنى الواجب؛ أي واجب على قرية. وقيل حرام أي ممتنع رجوعهم إلى التوبة، على أن (لا) زائدة.
قال النحاس: والآية مشكلة. ومن أحسن ما قيل فيها وأجله ما روي عن ابن عباس في معنى الآية قال: واجب أنهم لا يتوبون. قال الزجاج وأبو علي الفارسي: إن في الكلام إضماراً، أي وحرام على قرية حكمنا باستئصالها أو بالختم على قلوب أهلها أن يتقبل منهم عمل لأنهم لا يرجعون أي لا يتوبون.(8/371)
حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (96)
(حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج) حتى هذه هي التي يحكى بعدها الكلام وقيل حتى للغاية، والمعنى أن هؤلاء المذكورين سابقاً مستمرون على ما هم عليه إلى يوم القيامة، وهي فتح سد يأجوج ومأجوج، وأطال سليمان الجمل في بيان (حتى) هذه وذكر لها وجوهاً، ويأجوج ومأجوج بالهمز وتركه اسمان أعجميان وهما قبيلتان من الإنس، يقال إنهما تسعة أعشار بني آدم، والمراد بالفتح فتح السد الذي عليهم على حذف المضاف.
(وهم) أي يأجوج ومأجوج أو العالم بأسره والأول أظهر (من كل حدب) أي نشز، وهو كل أكمة وكدية من الأرض مرتفعة، والجمع أحداب(8/371)
مأخوذ من حدبة الأرض، ومعنى (ينسلون) يسرعون وقيل يخرجون. قال الزجاج: النسلان مشية الذئب إذا أسرع، يقال نسل فلان في العَدْوِ ينسِل بالكسر والضم نسلاً ونسولاً ونسلاناً، والنسلان مقارنة الخطأ مع الإسراع. وقال ابن عباس: ينسلون يقبلون، وقد ورد في صفة يأجوج ومأجوج وفي وقت خروجهم وبيان حالهم ومآلهم أحاديث وآثار كثيرة لا يتعلق بذكرها هنا كثير فائدة، وكتابنا حجج الكرامة قد اشتمل عليها اشتمالاً تاماً فليرجع إليه.(8/372)
وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ (97)
(واقترب الوعد الحق) المراد به ما بعد الفتح من الحساب، وقال الفراء والكسائي وغيرهما: المراد بالوعد الحق القيامة، والواو زائدة، والمعنى حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج اقترب الوعد الحق وهو القيامة، فاقترب جواب اذا، ومنه قوله تعالى: (فلما أسلما وتله للجبين وناديناه). وأجاز الفراء أن يكون جوابه فإذا هي شاخصة، وقال البصريون: الجواب محذوف والتقدير قالوا يا ويلنا وبه قال الزجاج، وقيل غير ذلك.
(فإذا هي) يعني القيامة، بارزة واقعة كأنها آية حاضرة (شاخصة أبصار الذين كفروا) يعني أن القيامة إذا قامت شخصت أبصار الكفار من شدة الأهوال ولا تكاد تطرف من هول ذلك اليوم وهول ما هم فيه. ومعنى شاخصة مرتفة الأجفان، وإنما هو في القيامة بعد النفخة الثانية، فالتعقيب عرفي أريد به المبالغة هنا.
(يا ويلنا) على تقدير القول (قد كنا في غفلة) في الدنيا (من هذا) أي من هذا الذي دهمنا من البعث والحساب (بل كنا ظالمين) أضربوا عن وصف أنفسهم بالغفلة، أي لم نكن غافلين، بل كنا ظالمين لأنفسنا بالتكذيب وعدم الانقياد للرسل، ثم بين سبحانه حال معبوديهم يوم القيامة فقال:(8/372)
إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ (98) لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ (99) لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ (100) إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ (101)(8/373)
إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ (98)
(إنكم) يا أهل مكة (وما تعبدون من دون الله) من الأصنام والشمس والقمر وإبليس وأعوانه (حصب) أي وقود (جهنم) وحطبها، فكل ما أوقدت به النار أو هيجتها به فهو حصب، كذا قال الجوهري، وقال أبو عبيدة؛ كل ما قذفته في النار فقد حصبتها به، ومثل ذلك قوله تعالى: (فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة) وقرئ حطب جهنم بالطاء وقرئ حضب بالمعجمة. قال الفراء: ذكر لنا أن الحضب في لغة أهل اليمن الحطب، ووجه إلقاء الأصنام في النار مع كونها جمادات لا تعقل ذلك ولا تحس به التبكيت لمن عبدها وزيادة التوبيخ لهم وتضاعف الحسرة عليهم، وقيل إنها تحمى فتلصق بهم زيادة في تعذيبهم، وكذلك الشمس والقمر يكونان ثورين عقيرين في النار أيضاً، كما صح بذلك خبر أبي هريرة، أخرجه البيهقي وأصله في البخاري.
(أنتم لها واردون) الخطاب لهم ولما يعبدون تغليباً، واللام في لها للتقوية لضعف عمل اسم الفاعل. وقيل هي بمعنى على، والمراد بالورود هنا الدخول. قال كثير من أهل العلم: ولا يدخل في هذه الآية عيسى وعزير والملائكة؛ لأن (ما) لما لا يعقل، ولو أراد العموم لقال ومن تعبدون.
قال الزجاج: ولأن المخاطبين بهذه الآية مشركو مكة دون غيرهم. قال ابن عباس: لما نزلت هذه الآية قال المشركون: " فالملائكة وعيسى وعزير(8/373)
يُعبدون من دون الله " فنزلت (إن الذين سبقت) الآية. وفي الباب روايات(8/374)
لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ (99)
(لو كان هؤلاء) أي هذه الأصنام (آلهة) كما تزعمون (ما وردوها) أي ما ورد العابدون والمعبودون في النار، وقيل العابدون فقط، لكنهم وردوها فلم يكونوا آلهة، وفي هذا تبكيت لعباد الأصنام وتوبيخ شديد (وكل فيها) أي كل العابدين والمعبودين في النار (خالدين) لا يخرجون منها.(8/374)
لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ (100)
(لهم) أي لهؤلاء الذين وردوا النار (فيها زفير) وهو صوت نفس المغموم، والمراد هنا الأنين والبكاء والتنفس الشديد والعويل. وقد تقدم بيان هذا في هود (وهم فيها لا يسمعون) أي لا يسمع بعضهم زفير بعض لشدة الهول. وقال ابن مسعود في الآية: إذا بقي في النار من يخلد فيها جعلوا في توابيت من نار، ثم جعلت تلك التوابيت في توابيت أُخر، ثم تلك التوابيت في توابيت أُخر عليها مسامير من نار، فلا يسمعون شيئاً ولا يرى أحد منهم أن في النار أحداً يعذب غيره.
وقيل لا يسمعون شيئاً لأنهم يحشرون صماً، كما قال سبحانه: (ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عمياً وبكماً وصماً) وإنما سلبوا السماع لأن فيه بعض تروّح وتأنس. وقيل لا يسمعون ما يسرهم، بل يسمعون ما يسوءهم، ثم لما بين سبحانه حال هؤلاء الأشقياء شرع في بيان حال السعداء فقال:(8/374)
إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ (101)
(إن) هي بمعنى إلا، أي إلا (الذين سبقت لهم منا الحسنى) أي العدة الجميلة والخصلة الحسنى التي هي أحسن الخصال وهي السعادة. وقيل التوفيق أو التبشير بالجنة أو نفس الجنة (أولئك) أي الموصوفون بتلك الصفة (عنها) عن جهنم (مبعدون) لأنهم قد صاروا في الجنة. وقال الجنيد: المعنى سبقت منا العناية في البداية فظهرت لهم الولاية في النهاية.(8/374)
لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ (102) لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (103) يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ (104) وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ (105)(8/375)
لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ (102)
(لا يسمعون حسيسها) الحس والحسيس الصوت تسمعه من شيء يمر قريباً منك. والمعنى لا يسمعون حركة النار وصوتها وحركة تلهبها. أخرج ابن مردويه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " حيات على الصراط تقول حس حس ".
وعن ابن عثمان النهدي قال: حيات على الصراط تلسعهم فإذا لسعتهم قالوا: حس حس، وقال ابن عباس: لا يسمع أهل الجنة حسيس النار إذا نزلوا منزلهم من الجنة.
(وهم فيما اشتهت أنفسهم) من النعيم والكرامة (خالدون) أي دائمون مقيمون، والشهوة طلب النفس اللذة، وفي الجنة ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين كما قال تعالى: (ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدعون)(8/375)
لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (103)
(لا يحزنهم) بفتح الياء وضم الزاي، وقرئ بضم الياء وكسر الزاي.
قال اليزيدي: حزنه لغة قريش وأحزنه لغة تميم، بيان لنجاتهم من الفزع بالكلية إثر بيان نجاتهم من النار لأنهم إذا لم يحزنهم (الفزع الأكبر) وهو أهوال يوم القيامة من البعث والحساب والعقاب، والأمر بالعبد إلى النار، لا يحزنهم ما عداه بالضرورة.(8/375)
وقال ابن عباس: هو النفخة الآخرة، وقيل هو حين يذبح الموت وينادي يا أهل النار خلود ولا موت، وقيل هو حين يطبق على جهنم، وذلك بعد أن يخرج الله منها من يريد أن يخرجه، ثم تغلق النار على أهلها.
وأخرج أحمد والترمذي وحسنة عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ثلاثة على كثبان المسك لا يهولهم الفزع الأكبر يوم القيامة؛ رجل أمَّ قوماً وهم له راضون، ورجل كان يؤذن في كل يوم وليلة وعبد أدى حق الله وحق مواليه " (1).
(وتتلقاهم الملائكة) أي تستقبلهم على أبواب الجنة يهنونهم، وقال المحلي: عند خروجهم من القبور، ولا مانع أنها تستقبلهم في الحالين، ويقولون لهم (هذا يومكم الذي كنتم توعدون) به في الدنيا وتبشرون بما فيه، هكذا قال جماعة من المفسرين: إن المراد بقوله: (إن الذين سبقت لهم منا الحسنى) إلى هنا هم كافة الموصوفين بالإيمان والعمل الصالح لا المسيح وعزير والملائكة، لأن علياً قرأ هذه الآية، ثم قال: أنا منهم وأبو بكر وعمر وعثمان وطلحة والزبير وسعد وعبد الرحمن بن عوف.
وقال أكثر المفسرين: إنه لما نزل (إنكم وما تعبدون) الآية أتى ابن الزبعري (2) إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد ألست تزعم أن عزيراً رجل صالح وأن عيسى رجل صالح، وأن مريم امرأة صالحة؟ قال: " بلى "، قال: فإن الملائكة وعيسى وعزيراً ومريم يعبدون من دون الله، فهؤلاء في النار، فأنزل الله هذه الآية إلى آخرها أخرجه ابن مردويه والضياء في المختارة عن ابن عباس وأخرجه أبو داود والطبراني من وجه آخر بأطول منه.
_________
(1) الترمذي كتاب البر باب 54 - كتاب الجنة باب 25 - الإمام أحمد 2/ 26.
(2) الزبعري معناه السيء الخلق الغليط وهو لقب والمد عبد الله القرشي ولقد أسلم بعد هذه القصة إهـ منه.(8/376)
يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ (104)
(يوم نطوي) بنون العظمة أي اذكر يوم نطوي (السماء كطي السجل للكتب) وقرئ تطوى بالفوقية ورفع السماء، وبالتحتية على معنى يطوي الله السماء، والأولى أظهر وأوضح والطي في هذه الآية يحتمل معنيين:
أحدهما الذي هو ضد النشر، ومنه قوله: (والسماوات مطويات بيمينه).
والثاني الإخفاء والتعمية والمحو، لأن الله سبحانه يمحو ويطمس رسومها، ويكدر نجومها، والمراد بالسماء الجنس والسجل الصحيفة أي طياً كطي الطومار للكتابة، وقيل السجل الصك وهو مشتق من المساجلة وهي المكاتبة وأصلها من السجل وهو الدلو، يقال ساجلت الرجل، إذا نزعت دلواً ونزع هو دلواً؛ ثم استعيرت للمكاتبة والمراجعة في الكلام، وقرئ السُّجُلّ بضم السين والجيم وتشديد اللام، وقرئ السجل بفتح السين وإسكان الجيم، وقيل السجل اسم ملك في السماء الثالثة، وهو الذي يطوي كتب بني آدم.
وقيل هو اسم كاتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، قاله ابن عباس أخرجه أبو داود والنسائي، وعن ابن عمر مثله، قال ابن كثير: هذا منكر جداً، وقد صرح جماعة من الحفاظ بوضعه، وإن كان في سنن أبي داود منهم الحافظ المزي وقد أفرد الشوكاني لهذا الحديث جزءاً على حده، وقد تصدى الإمام ابن جرير للإنكار على هذا الحديث ورده أتم رد، وقال: ولا نعرف في الصحابة أحداً اسمه سجل، وكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا معروفين، وليس فيهم أحد اسمه السجل انتهى، وصدق رحمه الله في ذلك، وهو من أقوى الأدلة على نكارة هذا الحديث، وأما من ذكر في أسماء الصحابة هذا فإنما اعتمد على هذا الحديث لا على غيره والله أعلم، قال: والصحيح عن ابن عباس أن السجل هو الصحيفة، ونص على ذلك مجاهد وقتادة وغير(8/377)
واحد، واختاره ابن جرير لأنه المعروف في اللغة، قلت فالأولى التعويل على المعنى اللغوي؛ والمصير إليه.
وأخرج النسائي عن ابن عباس قال: السجل هو الرجل أي بلغة الحبشة، والأول أولى، وقرئ للكتب جمعاً؛ وللكتاب وهو متعلق بمحذوف حال من السجل أي كطي السجل كائناً للكتب فإن الكتب عبارة عن الصحائف وما كتب فيها فسجلها بعضر أجزائها وبه يتعلق الطي حقيقة.
وأما على الثانية فالكتاب مصدر، واللام للتعليل، أي كما يطوى الطومار للكتابة أي ليكتب فيه أو لما يكتب فيه من المعاني الكثيرة والأعمال المنتشرة وهذا على أن معنى الطي ضد النشر.
وعن علي قال: كطي السجل ملك، وعن عطية وأبي جعفر مثله، قال ابن عمر: السجل ملك، فإذا صعد بالاستغفار قال: اكتبوها نوراً.
(كما بدأنا أول خلق نعيده) بعد إعدامه تشبيهاً للإعادة بالابتداء في تناول القدرة لهما على السواء أي كما بدأناهم في بطون أمهاتهم، وأخرجناهم إلى الأرض حفاة عراة غرلاً، كذلك نعيدهم يوم القيامة، وإنما خص أول الخلق بالذكر تصويراً للإيجاد عن العدم، والمقصود بيان صحة الإعادة بالقياس على المبدأ لشمول الإمكان الذاتي لهما، وقيل معنى الآية نهلك كل نفس كما كان أول مرة، قاله ابن عباس، وقيل المعنى نغير السماء ثم نعيدها مرة أخرى بعد طيها وزوالها، والأول أولى؛ وهو مثل قوله: (ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة) ثم قال سبحانه.
(وعداً علينا) أي وعدنا وعداً علينا إنجازه والوفاء به وهو البعث والإعادة ثم أكد سبحانه ذلك بقوله: (إنا كنا فاعلين) أي محققين هذا الوعد فاستعدوا له وقدموا صالح الأعمال للخلاص من هذه الأهوال، قال الزجاج: معناه إنا كنا قادرين على ما نشاءه، وقيل فاعلين ما وعدناكم، ومثله قوله: (كان وعده مفعولاً).(8/378)
وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ (105)
(ولقد كتبنا في الزبور) هو في الأصل الكتاب، يقال زبرت أي كتبت وعلى هذا يصح إطلاق الزبور على التوراة والإنجيل، وعلى كتاب داود المسمى بالزبور، والمراد جنس الكتب المنزلة، قاله الزجاج.
وقيل المراد به هنا كتاب داود خاصة (من بعد الذكر) أي اللوح المحفوظ كما في البيضاوي والخازن وأبي السعود وأبي حيان.
وقيل هو القرآن قاله ابن عباس، وعنه قال: والذكر الأصل الذي نسخت منه هذه الكتب الذي في السماء أي والله لقد كتبنا في كتاب داوود من بعد كتبنا في كتاب داوود من بعد كتبنا في التوراة أو من بعد كتبنا في اللوح المحفوظ.
(أن الأرض يرثها عبادي الصالحون) قد اختلف في معنى هذه الآية فقيل المراد أرض الجنة، قاله ابن عباس، واستدل القائلون بهذا بقوله سبحانه: (وقالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الأرض)، وقيل هي الأرض المقدسة، وقيل هي أرض الأمم الكثيرة الكافرة، يرثها نبينا صلى الله عليه وسلم وأمته بفتحها، وقيل المراد بذلك بنو إسرائيل بدليل قوله سبحانه: (وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها).
والظاهر أن هذا تبشير لأمته صلى الله عليه وسلم بوراثة أرض الكافرين، وعليه أكثر المفسرين.
قال ابن عباس: أخبر الله سبحانه في التوراة والزبور وسابق علمه قبل أن تكون السماوات والأرض أن يورث أمة محمد صلى الله عليه وسلم، ويدخلهم الجنة وهم الصالحون، وقيل عام في كل صالح فيتناول أمة محمد صلى الله عليه وسلم وغيرها من الأمم.(8/379)
إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ (106) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107) قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (108) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ (109) إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ (110) وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (111) قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (112)(8/380)
إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ (106)
(إن في هذا لبلاغاً) أي فيما جرى ذكره في هذه السورة من الوعظ والتنبيه لكفاية ووصول إلى البغية، قاله الرازي، يقال: في هذا الشيء بلاغ، وبلغة وتبلغ أي كفاية، وقيل الإشارة بهذا إلى القرآن، والقرآن زاد الجنة، كبلاغ المسافر.
(لقوم عابدين) أي مشغولين بعبادة الله مهتمين بها، والعبادة هي الخضوع والتذلل، وهم أمة محمد (- صلى الله عليه وسلم -) ورأس العبادة الصلاة قال أبو هريرة: الصلوات الخمس، وأخرج ابن مردويه وأبو نعيم والديلمي، عن أنس قال: قال رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) في الآية قال: " إن في الصلوات الخمس شغلاً للعبادة ".
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية وقال: " هي الصلوات الخمس في المسجد الحرام جماعة "، وقيل هم العالمون العاملون الموحدون، وقال الرازي: والأولى أنهم الجامعون بين الأمرين، لأن العلم كالشجرة، والعمل كالثمرة، والشجر بدون الثمر غير مفيد، والثمر بدون الشجر غير كائن.(8/380)
وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107)
(وما أرسلناك) يا محمد بالشرائع والأحكام (إلا رحمة للعالمين) أي(8/380)
الإنس والجن، والاستثناء مفرغ من أعم الأحوال؛ والعلل أي: ما أرسلناك لعلة من العلل إلا لرحمتنا الواسعة، فإن ما بعثت به سبب لسعادة الدارين، وقيل معنى كونه رحمة للكفار أنهم آمنوا به من الخسف والمسخ والاستئصال، وقيل المراد بالعالمين المؤمنون خاصة، والأول أولى، بدليل قوله سبحانه: وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم.
وعن ابن عباس في الآية قال: من آمن تمت به الرحمة في الدنيا والآخرة، ومن لم يؤمن عوفي مما كان يصيب الأمم في عاجل الدنيا من العذاب من المسخ، والخسف والقذف.
وأخرج مسلم عن أبي هريرة قال: قيل يا رسول الله ادع الله على المشركين، قال: " إني لم أبعث لعاناً، وإنما بعثت رحمة " (1) وأخرج أحمد والطيالسي والطبراني وأبو نعيم، عن أبي امامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله بعثني رحمة للعالمين وهدى للمتقين " (2).
وأخرج أحمد والطبراني عن سلمان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " أيما رجل من أمتي سببته سبة في غضبي أو لعنته لعنة، فإنما أنا رجل من بني آدم أغضب كما يغضبون، وإنما بعثني رحمة للعالمين، فأجعلها عليه صلاة يوم القيامة " (3).
وأخرج البيهقي عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنما أنا رحمة مهداة " (4) وقد روي معنى هذا من طرق، ثم بين سبحانه أن أصل تلك الرحمة هو التوحيد والبراءة من الشرك فقال:
_________
(1) مسلم 2599.
(2) الإمام أحمد 5/ 265.
(3) الإمام أحمد 5/ 294.
(4) طبقات ابن سعد 1/ 192 - الطبراني المعجم الكبير 1/ 76/2.(8/381)
قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (108)
(قل إنما يوحى إليّ أنما إلهكم إله واحد) إن كانت (ما) موصولة(8/381)
فالمعنى أن الذي يوحى إليّ هو أن وصفه تعالى مقصور على الوحدانية لا يتجاوزها إلى ما يناقضها أو يضادها وإن كانت ما كافة فالمعنى أن الوحي إليّ مقصور على استئثار الله بالوحدة (فهل أنتم مسلمون) منقادون مخلصون للعبادة ولتوحيد الله سبحانه، والمراد بهذا الاستفهام الأمر، أي أسلموا.(8/382)
فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ (109)
(فإن تولوا) أي أعرضوا عن الإسلام (فقل) لهم (آذنتكم) أي أعلمتكم أنَّا وإياكم حرب لا صلح بيننا كائنين (على سواء) في الإعلام لم أخص به بعضكم دون بعض، كقوله سبحانه: (وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء) أي أعلمهم أنك نقضت العهد نقضاً سويت بينهم فيه.
وقال الزجاج: المعنى أعلمتكم بما يوحى إليّ على استواء في العلم به، ولا أظهر لأحد شيئاً كتمته على غيره.
(وإن أدري أقريب أم بعيد ما توعدون) أي ما أدري أقريب حصوله أم بعيد وهو غلبة الإسلام وأهله على الكفر وأهله، وقيل المراد العذاب أو القيامة المشتملة عليه ولا يعلمها إلا الله تعالى، وقيل آذنتكم بالحرب ولكن لا أدري ما يؤذن لي في محاربتكم.(8/382)
إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ (110)
(إنه يعلم الجهر من القول ويعلم ما تكتمون) أي يعلم سبحانه ما تجاهرون به من الكفر والطعن على الإسلام وأهله وما تكتمونه من ذلك وتخفونه لا تخفى عليه منه خافية(8/382)
وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (111)
(وإن أدري لعله) أي ما أدري لعل الإمهال (فتنة لكم) واختبار ليرى كيف صنعكم.
عن الربيع بن أنس قال: " لما أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم رأى فلاناً، وهو بعض بني أمية على المنبر يخطب الناس، فشق ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله هذه الآية يقول هذا الملك. وقال: ابن عباس، يقول ما أخبركم به من العذاب والساعة لعل تأخير ذلك عنكم فتنة لكم.(8/382)
(ومتاع إلى حين) أي وتمتع إلى وقت مقدر تقتضيه حكمته ثم حكى سبحانه وتعالى دعاء نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله:(8/383)
قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (112)
(قال رب احكم بالحق) بيني وبين هؤلاء المكذبين بما هو الحق عندك ففوض الأمر إليه سبحانه.
وقال ابن عباس: لا يحكم الله إلا بالحق، وإنما يستعجل بذلك في الدنيا يسأل ربه، وقرئ رب بضم الباء قال النحاس: وهذا لحن عند النحويين.
وقرئ أَحْكَمُ بقطع الهمزة وفتح الكاف وضم الميم، أي قال محمد: ربي أحكم بالحق من كل حاكم، وقرئ أَحْكَمَ بصيغة الماضي، أي أحكم الأمور بالحق، وقرئ قُلْ بصيغة الأمر، أي قل يا محمد.
قال أبو عبيدة: الصفة هنا أقيمت مقام الموصوف، والتقدير رب احكم بحكمك الحق. وقد استجاب سبحانه دعاء نبيه صلى الله عليه وسلم فعذبهم ببدر، ثم جعل العاقبة والغلبة والنصر لعباده المؤمنين، والحمد لله رب العالمين.
ثم قال سبحانه متمماً لتلك الحكاية (وربنا الرحمن المستعان على ما تصفون) من الكفر والتكذيب، أي هو كثير الرحمة لعباده، والمستعان به في الأمور التي من جملتها ما تصفونه من أن الشوكة تكون لكم. ومن قولكم: (هل هذا إلا بشر مثلكم؟) وقولكم: (اتخذ الرحمن ولداً)، وكثيراً ما يستعمل الوصف في كتاب الله بمعنى الكذب، كقوله: (ولكم الويل مما تصفون) وقوله: (سيجزيهم وصفهم)، وقرئ بالتحتية وبالفوقية على الخطاب.(8/383)
خاتمة الجزء الثامن
تم بعون الله الجزء الثامن من كتاب فتح البيان في مقاصد القرآن ويليه الجزء التاسع وأوله: تفسير سورة الحج(8/385)
فتحُ البيان في مقاصد القرآن
تفسِير سَلفي أثري خالٍ منَ الإِسرَائيليّاتِ والجَدليَّاتِ المذهبية والكلامية يغني عَن جميع التفاسِير وَلا تغني جميعُهَا عَنه
تأليف: السيد الإمام العلامة الملك المؤيد من الله الباري آبي الطيب صديق بن حسن بن علي الحسين القنوجي النجاري 1248 - 1307 هـ
عني بطبعهِ وقدّم له وراجعه: خادم العلم عَبد الله بن إبراهيم الأنصَاري
الجزء التاسع
المَكتبة العصريَّة
صَيدَا - بَيروت(9/1)
جَمِيع الحُقُوق محفُوظَة
1412 هـ - 1992 م
شركة أبناء شريف الأنصاري للطباعة والنشر والتوزيع
المَكتبة العصريَّة للطبَاعة والنّشْر
الدار النموذجية ــ المكتبة العصرية
بَيروت - صَ. ب 8355 - تلكس LE 20437 SCS
صَيدَا - صَ. ب 221 - تلكس LE 29198(9/2)
فتح البيان في مقاصد القرآن(9/3)
الجزء التاسع
بسم الله الرحمن الرحيم
ويشتمل على:
- سورة الحج
- سورة المؤمنون
- سورة النور
- سورة الفرقان
- سورة الشعراء(9/5)
سورة الحج
(هي سبع أو ثمان وسبعون آية)
اختلف العلماء هل هي مكية أو مدنية؟ قال ابن عباس: نزلت بالمدينة. وعن ابن الزبير ومجاهد مثله. وقال قتادة: إلا أربع آيات. " وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي " -إلى قوله- " عذاب يوم مقيم " فهن مكيات. وقال ابن عباس: سوى ثلاث آيات. وقيل: أربع آيات إلى قوله " عذاب الحريق " وعن النقاش أنه عد ما أنزل منها بالمدينة عشر آيات.
وقال الجمهور: إن السورة مختلطة منها مكي ومنها مدني.
قال القرطبي: وهذا هو الصحيح لأن الآيات تقتضي ذلك، لأن " يا أيها الناس " مكي، و " يا أيها الذين آمنوا " مدني.
قال العزيزي: وهي من أعاجيب السور؛ نزلت ليلاً ونهاراً، سفراً وحضراً، مكياً ومدنياً؛ سلمياً وحربياً، ناسخاً ومنسوخاً، محكماً ومتشابهاً.
وقد ورد في فضلها ما أخرجه أحمد أبو داود والترمذي وغيرهم عن عقبة بن عامر قال قلت يا رسول الله: أفضلت سورة الحج على سائر القرآن بسجدتين؟ قال: " نعم. فمن لم يسجدهما فلا يقرؤها " (1).
قال الترمذي: هذا حديث حسن ليس إسناده بالقوي، وقد روي عن كثير من الصحابة أن فيها سجدتين، وبه يقول ابن المبارك والشافعي وأحمد وإسحاق، وقال بعضهم: إن فيها سجدة واحدة، وهو قول سفيان الثوري، وروي هذا عن ابن عباس وإبراهيم النخعي.
_________
(1) الإمام أحمد 4/ 151 - الترمذي كتاب الجمعة باب 54.(9/7)
بسم الله الرحمن الرحيم
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ (3) كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (4)
لما انجر الكلام في خاتمة السورة المتقدمة إلى ذكر الإعادة وما قبلها وما بعدها بدأ سبحانه في هذه السورة بذكر القيامة وأهوالها حثاً على التقوى التي هي أنفع زاد فقال:(9/9)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1)
(يا أيها الناس اتقوا ربكم) أي احذروا عقابه بفعل ما أمركم به من الواجبات وترك ما نهاكم عنه من المحرمات؛ ولفظ الناس يشمل جميع المكلفين من الوجودين ومن سيوجد على ما تقرر في موضعه، وقد قدمنا طرفاً من ذلك في سورة البقرة.
(إن زلزلة الساعة شيء عظيم) تعليل لما قبله من الأمر بالتقوى، والزلزلة شدة الحركة والازعاج، وأصلها من زل عن الموضع، أي زال عنه وتحرك، وزلزل الله قدمه أي حركها، وتكرير الحرف يدل على تأكيد المعنى، وهو من إضافة المصدر إلى فاعله، ومفعوله محذوف تقديره الأرض، ويكون إسناد الزلزلة إلى الساعة على سبيل المجاز العقلي، وهي على هذا الزلزلة التي هي إحدى أشراط الساعة التي تكون في الدنيا قبل يوم القيامة، هذا قول الجمهور، أو إلى الظرف لأنها تكون فيها، كقوله: (بل مكر الليل والنهار)، ووقتها يكون يوم القيامة.
وقيل إنها تكون في النصف من شهر رمضان، ومن بعدها طلوع الشمس من مغربها. ولا حجة فيها للمعتزلة في تسمية المعدوم شيئاً، فإن هذا(9/9)
اسم لها حال وجودها. وقيل في التعبير عنها بالشيء: إيذان بأن العقول قاصرة عن إدراك كنهها.
وقد أخرج أحمد والترمذي وصححه والنسائي والحاكم وصححه وغيرهم، عن عمران بن حصين قال: لما نزلت (يا أيها الناس) -إلى قوله- (عذاب شديد)، أنزلت عليه هذه وهو في سفر فقال: " أتدرون أي يوم ذلك؟ قالوا: الله ورسوله أعلم قال: " ذلك يوم يقول الله لآدم: ابعث بعث النار، قال: يا رب وما بعث النار؟ قال: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين إلى النار وواحداً إلى الجنة "، فأنشأ المسلمون يبكون، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " قاربوا وسددوا وأبشروا فإنها لم تكن نبوة قط إلا كان بين يديها جاهلية، فتؤخذ العدة من الجاهلية، فإن تمت وإلا كملت من المنافقين. وما مثلكم والأمم إلا كمثل الرقمة في ذراع الدابة أو كالشامة في جنب البعير ".
ثم قال: " إني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة "، فكبروا. ثم قال: " إني لأرجو أن تكونوا ثلث أهل الجنة " فكبروا، ثم قال " إني لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة "، فكبروا، قال: ولا أدري، قال الثلثين أم لا؟ (1).
وأخرج الترمذي وصححه وابن جرير وابن المنذر عنه مرفوعاً نحوه، وقال في آخره " اعملوا وأبشروا، فوالذي نفس محمد بيده إنكم لمع خليقتين ما كانتا مع شيء إلا كثرتاه، يأجوج ومأجوج ومن مات من بني آدم ومن بني إبليس، فسري عن القوم بعض الذي يجدون، قال: اعملوا وأبشروا فوالذي نفس محمد بيده ما أنتم في الناس إلا كالشامة في جنب البعير أو كالرقمة في ذراع الدابة " (2).
_________
(1) المستدرك كتاب الإيمان 1/ 29.
(2) الترمذي تفسير سورة 22/ 1 - 22 - 2.(9/10)
وفي الصحيحين وغيرهما عن أبي سعيد الخدري قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: فذكر نحوه وفي آخره فقال: " من يأجوج ومأجوج ألف ومنكم واحد وهل أنتم في الأمم إلا كالشعرة السوداء في الثور الأبيض أو كالشعرة البيضاء في الثور الأسود؟ " (1).
_________
(1) مسلم 222 - البخاري 1584.(9/11)
يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2)
(يوم ترونها) أي وقت رؤيتكم للزلزلة (تذهل كل مرضعة عما أرضعت) أي تغفل كل ذات رضاع عن رضيعها، قال قطرب: تذهل تشتغل؛ وقيل تنسى، وقيل: تلهو؛ وقيل: تسلو، وهذه معانيها متقاربة.
قال المبرد (ما) هنا بمعنى المصدر، أي تذهل عن الإرضاع، قال: وهذا يدل على أن هذه الزلزلة في الدنيا، إذ ليس بعد القيامة حمل وإرضاع، إلا أن يقال: إن من ماتت حاملاً فتضع حملها للهول، ومن ماتت مرضعة بعثت كذلك، ويقال هذا مثل، كما يقال: (يوماً يجعل الولدان شيباً)، وقيل يكون مع النفخة الأولى، قال ويحتمل أن تكون الزلزلة عبارة عن أهوال يوم القيامة؛ كما في قوله (مسّتهم البأساء والضراء وزلزلوا).
(وتضع كل ذات حمل حملها) أي تلقي جنينها بغير تمام من شدة الهول، كما أن المرضعة تترك ولدها بغير رضاع لذلك (وترى الناس سكارى) قرأ الجمهور بفتح التاء والراء خطاباً لكل واحد؛ أي يراهم الرائي كأنهم سكارى، وقرئ ترى بضم التاء مسنداً إلى المخاطب من أرأيتك، أي تظنهم سكارى، قال الفراء: ولهذه وجه جيد في العربية.
(وما هم بسكارى) حقيقة، وقرئ سكرى بغير ألف، وهما لغتان يجمع بهما سكران، مثل كسلى وكسالى، ولما نفى سبحانه عنهم السكر أوضح السبب الذي لأجله شابهوا السكارى فقال:(9/11)
(ولكن عذاب الله شديد) فبسبب هذه الشدة والهول العظيم طاشت عقولهم واضطربت أفهامهم فصاروا كالسكارى، بجامع سلب كمال التمييز وصحة الإدراك وروي أن هاتين الآيتين نزلتا في غزوة بني المصطلق ليلاً فقرأهما النبي (- صلى الله عليه وسلم -) فلم ير أكثر باكياً من تلك الليلة. قاله أبو حيان في البحر، ثم لما أراد سبحانه أن يحتج على منكري البعث قدم قبل ذلك مقدمة تشمل أهل الجدال كلهم فقال:(9/12)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ (3)
(ومن الناس من يجادل في الله) أي في شأن الله وقدرته وصفاته، والمعنى أنه يخاصم في ذلك فيزعم أنه غير قادر على البعث (بغير علم) يعلمه ولا حجة يدلي بها أو يؤول أو يمثل أو يعطل أو يشبه صفاته بصفات الخلق من دون حجة نيّرة أو يكابر في دين الله ويقول فيه ما لا خير فيه من الأباطيل وتقليد آراء الرجال (ويتبع) فيما يقوله ويتعاطاه ويحتج به ويجادل عنه.
(كل شيطان مريد) أي متمرد على الله متجرد للفساد، وهو العاتي، سمي بذلك لخلوه عن كل خير.
وقال الزجاج: المريد والمارد المرتفع الأملس، والمراد إما إبليس وجنوده أو رؤساء الكفار الذين يدعون أشياعهم إلى الكفر. قال المفسرون: نزلت في النضر بن الحارث؟ وكان كثير الجدال، وكان ينكر أن الله يقدر على إحياء الأموات، وقيل نزلت في الوليد بن المغيرة وعتبة بن ربيعة.(9/12)
كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (4)
(كتب عليه) أي قضى على الشيطان، قاله قتادة وعن مجاهد مثله (أنه من تولاه) أي من اتخذه ولياً واتبعه (أنّه) أي فشأن الشيطان أنه (يضله) عن طريق الحق والجنة، وقد وصف الشيطان بوصفين، الأول أنه مريد، والثاني ما أفاده جملة: كتب عليه الخ.
(ويهديه إلى عذاب السعير) أي يحمله على مباشرة ما يصير به في العذاب، وفي الآية زجر عن اتباعه، ثم ذكر سبحانه ما هو المقصود من الاحتجاج على الكفار بعد فراغه من تلك المقدمة فقال:(9/12)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5)
(يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث) قرأ الجمهور بسكون العين وقرئ بفتحها وهي لغة، وشكّهم يحتمل أن يكون في وقوعه أو في مكانه. والمعنى إن كنتم في شك من الإعادة بعد الموت فانظروا في مبدأ خلقكم أي خلق أبيكم آدم ليزول عنكم الريب ويرتفع الشك وتدحض الشبهة الباطلة.
(فإنا خلقناكم من تراب) في ضمن خلق أبيكم آدم وهذا أول تطور الإنسان في أطوار سبعة وهي التراب والنطفة والعلقة والمضغة والإخراج طفلاً وبلوغ الأشد والتوفي أو الرد إلى أرذل العمر كما سيأتي تفصيل ذلك (ثم) خلقناكم (من نطفة) أي من مني سمي نطفة لقلته والنطفة القليل من الماء، وقد يقع على الكثير منه والنطفة القطرة، يقال نطف ينطف أي قطر: وليلة نطوف أي دائمة القطر (ثم من علقة) وهي الدم الجامد والعلق الدم العبيط أي الطري أو المتجمد وقيل الشديد الحمرة، والمراد الدم الجامد المتكون من مني (ثم من مضغة) وهي القطعة من اللحم قدر ما يمضغ الماضغ يتكون من العلقة (مخلَّقة) أي مستبينة الخلق ظاهرة التصوير (وغير مخلقة) أي لم يستبن خلقها ولا ظهر تصويرها.
قال ابن عباس: المخلقة ما كان حياً تام الخلق وغير المخلقة ما كان(9/13)
سقطاً، وروي نحو هذا عن جماعة من التابعين، وقال ابن الأعرابي: مخلّقة يريد قد بدا خلقه وغير مخلّقة لم تصوّر، قال: الأكثر ما أكمل خلقه بنفخ الروح فيه فهو المخلقة وهو الذي ولد لتمام، وما سقط كان غير مخلقة أي غير حي بإكمال خلقته بالروح، قال الفرّاء: مخلّقة تام الخلق وغير مخلقة السقط.
وأخرج البخاري ومسلم وأهل السنن وغيرهم، عن ابن مسعود قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق: " إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يرسل الله إليه الملك فينفغ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات يكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد فوالذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها " (1)، والأحاديث في هذا الباب كثيرة جداً.
(لنبين لكم) أي خلقناكم على هذا النمط البديع، لنبين لكم، كمال قدرتنا بتصريفنا أطوار خلقكم لتستدلوا بها في ابتداء الخلق على إعادته (ونقر) مستأنف أي نثبت (في الأرحام ما نشاء) فلا يكون سقطاً، ولم يقل من نشاء لأنه يرجع إلى الحمل وهو جماد قبل أن ينفخ فيه الروح، وقرئ ما نشاء بكسر النون (إلى أجل مسمى) وهو وقت الولادة (ثمّ نخرجكم) من بطون أمهاتكم (طفلاً) أي أطفالاً وإنما أفرده إرادة للجنس الشامل للواحد والمتعدد.
قال الزجاج: طفلاً في معنى أطفالاً، ودل عليه ذكر الجماعة، يعني في
_________
(1) مسلم 2643 - البخاري 1514.(9/14)
(نخرجكم) والعرب كثيراً ما تطلق اسم الواحد على الجماعة، والمعنى نخرج كل واحد منكم نحو القوم يشبعهم رغيف أي كل واحد منهم.
وقال المبرّد: هو اسم يستعمل مصدراً كالرضا والعدل، فيقع على الواحد، والجمع قال الله تعالى: (أو الطفل الذين لم يظهروا)؛ ثم قيل نصبه على التمييز، قاله ابن جرير وفيه بعد، والظاهر أنه على الحال والطفل يطلق على الولد الصغير من وقت انفصاله إلى البلوغ، وأما الطفل بالفتح فهو الناعم والمرأة طفلة.
(ثم لتبلغوا أشدّكم) كأنه قيل نخرجكم لتكبروا شيئاً فشيئاً، ثم لتبلغوا إلى الأشد، وقيل أن ثم زائدة، والأشد هو كمال العقل، وكمال القوة والتمييز؛ قيل وهو ما بين الثلاثين إلى الأربعين، وهو في الأصل جمع شدة كأنعم جمع نعمة، وقد تقدم الكلام على هذا مستوفى في الأنعام (ومنكم من يتوفى) أي يموت قبل بلوغ الأشد الكبر، وقرئ مبنياً للفاعل أيضاً.
(ومنكم من يرد إلى أرذل العمر) أي أخسّه وأدونه وهو الهرم والخرف وهو خمس وسبعون سنة قاله علي، وقيل ثمانون سنة، وقال قتادة: تسعون سنة حتى لا يعقل، ولهذا قال سبحانه (لكيلا يعلم) أي يعقل (من بعد علم) أي بعد عقله الأول (شيئاً) من الأشياء أو شيئاً من العلم، والمعنى أنه يصير من بعد أن كان ذا علم بالأشياء وفهم لها لا علم له ولا فهم كهيئته الأولى في أوان الطفولية من سخافة الرأي وقلة الفقه والعقل والفهم فينسى ما يعلمه، وينكر ما يعرفه، ومثله قوله تعالى: (لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ثم رددناه أسفل سافلين) وقوله: (ومن نعمّره ننكّسه في الخلق) قال عكرمة: من قرأ القرآن لم يصر بهذه الحالة أي فهذا الرد والنكس خاص بغير قارئ القرآن والعلماء، وأما هؤلاء فلا يردّون في آخر عمرهم إلى الأرذل بل يزداد عقلهم كلما طال عمرهم.(9/15)
(وترى الأرض هامدة) هذه حجة أخرى على البعث فإنّه سبحانه احتج بإحياء الأرض بإنزال الماء على إحياء الأموات، والهامدة اليابسة التي لا تنبت شيئاً، قال ابن قتيبة: أي ميتة يابسة كالنار إذا طفئت، وقيل دارسة، والهمود السكون والخشوع والدروس، وقيل هي التي ذهب عنها الندى؛ وقيل هالكة، ومعاني هذه الأقوال متقاربة.
(فإذا أنزلنا عليها الماء) أي ماء المطر والأنهار والبحار والعيون والسواقي (اهتزت) أي تحركت في رأي العين، والاهتزاز شدة الحركة، يقال هززت الشيء فاهتز أي حركته فتحرك، والمعنى تحركت بالنبات؛ لأن النبات لا يخرج منها حتى يزيل بعضها من بعض إزالة حقيقية، فسمّاه اهتزازاً مجازاً، وقال المبرّد المعنى اهتز نباتها، واهتزازه شدة حركته، والاهتزاز في النبات أظهر منه في الأرض (وربت) أي ارتفعت، وقيل انتفخت وزادت، والمعنى واحد وأصله الزيادة؛ يقال: ربا الشيء يربو ربواً إذا زاد، ومنه الربا والربوة وربأت أي ارتفعت حتى صارت بمنزلة الرابية، وهو الذي يحفظ القوم على مكان مشرف، ويقال له راب ورابية وربيئة.
(وأنبتت) أي أخرجت (من كل زوج بهيج) أي من كل صنف حسن ولون مستحسن سارّ للناظرين إليه والبهجة الحسن، قاله ابن عباس، يعني الشيء المشرق الجميل و (من) زائدة، والإسناد مجازي، لأن المنبت في الحقيقة هو الله تعالى.(9/16)
ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ (7) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (8) ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ (9) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (10) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (11)(9/17)
ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6)
(ذلك) الصنع البديع حاصل (بأن) أي بسبب أن (الله هو الحق) وحده في ذاته وصفاته وأفعاله المحقق والموجد لا سواه من الأشياء فهذه الآثار الخاصة من فروع القدرة العامة التامة، والحق هو الموجود الذي لا يتغير ولا يزول، وقيل ذو الحق على عباده، وقيل الحق في أفعاله.
قال الزجاج: ذلك في موضع رفع، أي الأمر ما وصفه لكم وبين بأن الله هو الحق؛ والجملة مستأنفة ولما ذكر افتقار الموجودات إليه سبحانه، وتسخيرها على وفق إرادته واقتداره، قال بعد ذلك هذه المقالات.
(وأنه يحيى الموتى وأنه على كل شيء) من الأشياء (قدير) والمعنى أنه المتفرد بهذه الأمور، وأنها من شأنه لا يدعي غيره أنه يقدر على شيء منها فدل سبحانه بهذا على أنه الحق الحقيقي الغني المطلق، وأن وجود كل موجود مستفاد منه(9/17)
وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ (7)
(وأن الساعة آتية) أي في مستقبل الزمان، قيل لا بد من إضمار فعل أي ولتعلموا أن الساعة آتية.
(لا ريب فيها) ولا تردد، ثم أخبر سبحانه عن البعث فقال: (وأن الله يبعث من في القبور) فيجازيهم بأعمالهم إن خيراً فخير، وإن شراً(9/17)
فشر، وأن ذلك كائن لا محالة، والحاصل أنّه تعالى ذكر أسباباً خمسة، الثلاثة الأول مؤثرة، والأخيران غير مؤثرين.(9/18)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (8)
(ومن الناس من يجادل في) شأن (الله) كقول من قال: إن الملائكة بنات الله والمسيح ابن الله وعزيراً ابن الله، قيل نزلت في النضر بن الحرث وقيل في أبي جهل، وقيل في رجل من بني عبد الدار، قاله ابن عباس، وقيل هي عامة لكل من يتصدى لإضلال الناس وإغوائهم وعلى كل حال فالاعتبار بما يدل عليه اللفظ وإن كان السبب خاصاً.
والمعنى ومن الناس فريق يجادل في الله فيدخل في ذلك كل مجادل في ذات الله أو صفاته أو شرائعه الواضحة (بغير علم) أي كائناً بغير علم، قيل والمراد بالعلم هو العلم الضروري (ولا هدى) وهو العلم النظري الاستدلالي؛ لأن الدليل يهدي إلى المعرفة، والأولى حمل العلم على العموم وحمل الهدى على معناه اللغوي وهو الإرشاد.
(ولا كتاب) أي وحي (منير) وهو القرآن، والمعنى أنه يجادل من غير مقدمة ضرورية ولا نظرية ولا سمعية والعلم للإنسان من أحد هذه الوجوه الثلاثة والمنير: النير البيّن الحجة الواضح البرهان، وهو إن دخل تحت قوله بغير علم فإفراده بالذكر كإفراد جبريل بالذكر بعد ذكر الملائكة وذلك لكونه الفرد الكامل الفائق على غيره من أفراد العلم، وأما من حمل العلم على الضروري والهدى على الاستدلالي، فقد حمل الكتاب هنا على الدليل السمعي فتكون الآية متضمنة لنفي الدليل العقلي ضرورياً كان أو استدلالياً، ومتضمنة لنفي الدليل النقلي بأقسامه وما ذكرناه أولى. قيل والمراد بهذا المجادل في هذه الآية هو المجادل في الآية الأولى أعني قوله: (ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ويتبع كل شيطان مريد) وبذلك قال كثير من المفسرين والتكرير للمبالغة في الذم، كما تقول لرجل تذمّه وتوبّخه: أنت فعلت هذا! أنت(9/18)
فعلت هذا! ويجوز أن يكون التكرير لكونه وصفه في كل آية بزيادة ما وصفه به في الآية الأخرى، وقيل الآية الأولى واردة في المقلَّدين اسم فاعل، والثانية في المقلِّدين اسم مفعول، ذكره الزمخشري وقال وهو أوفق وأظهر بالمقام انتهى.
ولا وجه لهذا كما أنه لا وجه لقول من قال إن الآية الأولى خاصة بإضلال المتبوعين لتابعيهم، والثانية عامة في كل إضلال وجدال.(9/19)
ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ (9)
(ثاني عطفه) حال أي لاوي عنقه، قاله قتادة، وعن ابن عباس والسدي وابن زيد وابن جريج أنه المعرض والعطف الجانب وعطفا الرجل جانباه من يمين وشمال، وفي تفسيره وجهان:
الأول: إن المراد به من يلوي عنقه مرحاً وكبراً ذكر معناه الزجاج قال: وهذا يوصف به المتكبر، قال ابن عباس: أي مستكبراً في نفسه، وقال المبرّد: العطف من انثنى من العنق.
الوجه الثاني: أنّ المراد بقوله: (ثاني عطفه) الإعراض أي معرضاً عن الذكر كذا قال الفرّاء والمفضّل وغيرهما كقوله تعالى: (ولّى مستكبراً كأن لم يسمعها) وقوله: (لووا رؤوسهم) وقوله: (أعرض ونأى بجانبه) وقيل المعنى مانع تعطفه إلى غيره.
(ليضل عن سبيل الله) أي ليستمر أو ليزيد ضلاله، وإن ضلاله كالغرض له لكونه مآله، قرئ ليضل بفتح الياء وضمها والسبيل هنا الدين، يعني أن غرضه هو الإضلال عن السبيل وإن لم يعترف بذلك، وقيل هي لام العاقبة كأنه جعل ضلاله عائداً لجداله (له في الدنيا خزي) مستأنفة مبينة لما يحصل له بسبب جداله من العقوبة والخزي والذل، وذلك بما يناله من العقوبة(9/19)
في الدنيا ومن العذاب المعجل، وسوء الذكر على ألسن الناس، وقيل الخزي الدنيوي هو القتل كما وقع في يوم بدر.
(ونذيقه يوم القيامة عذاب الحريق) أي عذاب النار المحرقة، ثم يقال له(9/20)
ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (10)
(ذلك) أي ما تقدم من العذاب الدنيوي والأخروي (بما قدمت يداك) من الكفر والمعاصي والباء للسببية، وعبر باليد عن جملة البدن لكون مباشرة المعاصي تكون بها في الغالب، وفي غير هذه السورة (أيديكم) لأن هذه الآية نزلت في أبي جهل وحده وفي غيرها نزلت في جماعة تقدم ذكرهم.
(وأن الله ليس بظلام) أي بذي ظلم (للعبيد) أي والأمر أنه سبحانه لا يعذب عباده بغير ذنب. وقد مر الكلام على هذه الآية في آخر آل عمران فلا نعيده(9/20)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (11)
(ومن الناس من يعبد الله على حرف) هذا بيان لشقاق أهل الشقاق. قال أكثر المفسرين الحرف الشك. وأصله من حرف الشيء أي طرفه. مثل حرف الجبل والحائط فإن القائم عليه غير مستقر. والذي يعبد الله على حرف قلق في دينه على غير ثبات وطمأنينة كالذي هو على حرف الجبل ونحوه يضطرب اضطراباً ويضعف قيامه. فقيل للشاك في دينه إنه يعبد الله على حرف. أي متزلزلاً لأنه على غير يقين من وعده ووعيده بخلاف المؤمن لأنه يعبده على يقين وبصيرة فلم يكن على حرف. ففي الآية استعارة تمثيلية.
وقيل الحرف الشرط. والشرط هو قوله: (فإن أصابه خير) دنيوي من رخاء وصحة وعافية وسلامة وخصب وكثرة مال (اطمأنّ به) أي ثبت على دينه واستمر على عبادته أو اطمأن قلبه بذلك الخير الذي أصابه وسكن إليه (وإن أصابته فتنة) أي شيء يفتتن به من مكروه يصيبه في أهله وماله أو نفسه ومعيشته كالجدب والمرض وسائر المحن.
(انقلب على وجهه) أي ارتد ورجع إلى الوجه الذي كان عليه من(9/20)
الكفر، ثم بين حاله بعد انقلابه على وجهه فقال: (خسر الدنيا والآخرة) أي ذهبا منه وفقدهما فلا حظّ له في الدنيا من الغنيمة والثناء الحسن وصون المال والدم ولا في الآخرة من الأجر وما أعده الله للصالحين من عباده وقرئ خاسر الدنيا على اسم الفاعل.
(ذلك هو الخسران المبين) أي الواضح الظاهر الذي لا خسران مثله. فإنه إذا لم ينضم إليه الأخروي أو بالعكس لم يتمحض خسراناً فلم يظهر كونه كذلك ظهوراً تاماً، فانحصر الخسران المبين فيه على ما دل عليه الإتيان بضمير الفصل. قاله الكرخي.
أخرج البخاري وغيره عن ابن عباس في الآية قال: كان الرجل يقدم المدينة فإن ولدت امرأته غلاماً وأنتجت خيله قال هذا دين صالح. وإن لم تلد امرأته ولم تنتج خيله قال هذا دين سوء.
وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عنه بسند صحيح قال: كان ناس من الإعراب يأتون النبي صلى الله عليه وسلم يسلمون، فإذا رجعوا إلى بلادهم فإن وجدوا عام غيث وعام خصب وعام ولاد حسن، قالوا إن ديننا هذا لصالح فتمسكوا به، وإن وجدوا عام جدب وعام ولاد سوء وعام قحط، قالوا ما في ديننا هذا خير فأنزل الله هذه الآية.
وعن أبي سعيد قال: أسلم رجل من اليهود فذهب بصره وماله وولده. فتشاءم بالإسلام، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أقلني أقلني، قال: " إن الإسلام لا يقال "، فقال: لم أصب من ديني هذا خيراً، ذهب بصري ومالي ومات ولدي، فقال: " يا يهودي الإسلام يسبك الرجال كما تسبك النار خبث الحديد والذهب والفضة "، فنزلت هذه الآية. أخرجه ابن مردويه.(9/21)
يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (12) يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ (13) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (14) مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ (15)(9/22)
يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (12)
(يدعو) أي يعبد هذا الذي انقلب على وجهه ورجع إلى الكفر (من دون الله) أي متجاوزاً عبادة الله إلى عبادة الأصنام (ما لا يضره) إن ترك عبادته وعصاه (وما لا ينفعه) إن عبده وأطاعه؛ لكون ذلك المعبود جماداً لا يقدر على ضر ولا نفع، والجمع بين نفي النفع والضر هنا؛ وإثباتهما في قوله: (لمن ضره أقرب من نفعه)، الآية، كما سيأتي بأن معبوداتهم لا تضر ولا تنفع بأنفسها ولكن بسبب عبادتها، فنسب الضرر إليها كما في قوله تعالى: (رب إنهنّ أضللن كثيراً من الناس)؛ حيث أضاف الإضلال إليها من حيث إنها كانت سبب الضلال.
وقال الشهاب: دفع التنافي بأن النفي باعتبار ما في نفس الأمر والإثبات باعتبار زعمهم الباطل. انتهى.
(ذلك) أي الدعاء المفهوم من يدعو (هو الضلال البعيد) عن الحق والرشد مستعار من ضلال من سلك غير الطريق فصار بضلاله بعيداً عنها. قال الفراء: البعيد الطويل.(9/22)
يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ (13)
(يدعو) أي يقول هذا الكافر يوم القيامة. (لمن ضرّه أكثر من نفعه) هذه الجملة مقررة لما قبلها من كون ذلك الدعاء ضلالاً بعيداً والأصنام لا نفع فيها بحال من الأحوال، بل هي ضرر بحت لمن عبدها، لأنه دخل النار(9/22)
بسبب عبادتها، وإيراد صيغة التفضيل مع عدم النفع بالمرة للمبالغة في تقبيح حال ذلك الداعي. أو ذلك من باب وأنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين، واللام هي الموطئة للقسم و (من) موصولة أو موصوفة، وضره مبتدأ خبره أقرب، والجملة صلة الموصول وجملة (لبئس المولى ولبئس العشير) جواب القسم.
والمعنى أنه يقول ذلك الكافر يوم القيامة (لبئس المولى) أنت (ولبئس العشير أنت)، و (المولى) الناصر، و (العشير) الصاحب.
وقال الزجاج: أي ذلك هو الضلال البعيد يدعوه، وعلى هذا قوله؛ من ضره كلام مستأنف مبتدأ، وخبره لبئس المولى، قال: وهذا لأن اللام لليمين والتوكيد فجعلها أول الكلام.
وقال الزجاج والفراء: يجوز أن يكون (يدعو) مكررة على ما قبلها على جهة تكثير هذا الفعل الذي هو الدعاء، أي يدعو ما لا يضره ولا ينفعه يدعو. وقال الفراء والكسائي والزجاج: معنى الكلام القسم، والتقدير يدعو من لَضره أقرب من نفعه. وقال محمد بن يزيد: المعنى يدعو لن ضره أقرب من نفعه إلهاً، قال النحاس: وأحسب هذا القول غلطاً منه.
وقال الفراء والقفال: اللام صلة، والمعنى يدعو من ضره أقرب من نفعه، واللام في (لبئس المولى ولبئس العشير) على هذا موطئة للقسم.(9/23)
إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (14)
(إنّ الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار) لما فرغ سبحانه في ذكر حال المشركين ومن يعبد الله على حرف ذكر حال المؤمنين في الآخرة، وأخبر أنه يدخلهم هذه الجنات المتصفة بهذه الصفة، وهذا وعد لمن عبد الله بكل حال لا لمن عبده على حرف، وقد تقدم الكلام في جري الأنهار من تحت الجنات، وبينا أنه إن أريد بها الأشجار(9/23)
المتكاثفة الساترة لما تحتها فجريان الأنهار من تحتها ظاهر، وإن أريد بها الأرض فلا بد من تقدير مضاف أي من تحت أشجارها.
(إن الله يفعل ما يريد) تعليل لما قبلها، أي يفعل ما يريده من الأفعال لا يسئل عما يفعل، فيثيب من يشاء ويعذب من يشاء، ويكرم من يطيعه، ويهين من يعصيه.(9/24)
مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ (15)
(من كان يظن أن لن ينصره الله في الدنيا والآخرة) قال النحاس، ومن أحسن ما قيل في هذه الآية إن المعنى من كان يظن أن لن ينصر الله محمداً " - صلى الله عليه وسلم - " وأنه يتهيأ له أن يقطع النصر الذي أوتيه صلى الله عليه وسلم (فليمدد بسبب) أي فليطلب حيلة يصل بها (إلى السماء ثم ليقطع) النصر إن تهيأ له (فلينظر هل يذهبن كيده) وحيلته (ما يغيظ) إياه من نصر النبي " - صلى الله عليه وسلم - " وحمل (من) على الكفار يوافق كلام الجلال، ومثله في العمادي.
وقال أبو السعود: المعنى أنه تعالى ناصر لرسوله في الدنيا والآخرة لا محالة من غير صارف يلويه ولا عاطف يثنيه، فمن كان يغيظه ذلك من أعاديه وحساده ويظن أن لن يفعله تعالى بسبب مدافعته ببعض الأمور ومباشرة ما يرده من المكايد فليبالغ في استفراغ المجهود وليجاوز في الجدّ كل حد معهود، فقصارى أثره وعاقبة أمره أن يختنق خنقاً مما يرى من ضلال مساعيه، وعدم إنتاج مقدمات مبادية.
وقيل المعنى فليشدد حبلاً في سقف بيته ثم ليقطع، أي ليمد الحبل حتى ينقطع فيموت مختنقاً، والمعنى فليختنق غيظاً حتى يموت، فإن الله ناصره صلى الله عليه وسلم ومظهره ولا ينفعه غيظه. وبه قال ابن عباس. وقيل المعنى من كان يظن أن الله لا يرزقه فليقتل نفسه، فلينظر هل ينفعه ذلك أو يأتيه برزق؟.(9/24)
وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ (16) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (17) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (18)(9/25)
وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ (16)
(وكذلك) أي مثل ذلك الإنزال البديع من الآيات السابقة (أنزلناه) أي القرآن (آيات بينات) واضحات ظاهرة الدلالة على مدلولاتها (وأن الله يهدي من يريد) هدايته ابتداء أو زيادة فيها لمن كان مهدياً من قبل، ويضل من يريد ضلالته معطوف على هاء (أنزلناه) فـ " إن " وصلتها في محل نصب، ويصح أن تكون في موضع رفع خبر المبتدأ مضمر؛ أي والأمر أن الله الخ.(9/25)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (17)
(إنّ الذين آمنوا) بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم أو بما ذكر من الآيات البينات (والذين هادوا) هم اليهود المنتسبون إلى ملة موسى (والصابئين) هم قوم يعبدون النجوم؛ وقيل هم من جنس النصارى وليس ذلك بصحيح بل هم فرقة معروفة لا ترجع إلى ملة من الملل المنتسبة إلى الأنبياء (والنصارى) هم المنتسبون إلى ملة عيسى (والمجوس) هم الذين يعبدون النار ويقولون إن للعالم أصلين النور والظلمة.
وقيل هم قوم يعبدون الشمس والقمر، وقيل هم يستعملون النجاسات. وقيل هم قوم من النصارى اعتزلوهم ولبسوا المسوح، وقيل إنهم أخذوا بعض دين اليهود وبعض دين النصارى.(9/25)
(والذين أشركوا) هم الذين يعبدون الأصنام؛ وقد مضى تحقيق هذا في البقرة، ولكنه سبحانه قدم هنالك النصارى على الصابئين وأخّرهم عنهم هنا، فقيل وجه التقديم هنالك أنهم أهل كتاب دون الصابئين، ووجه تقديمهم هنا أن زمنهم متقدم على زمن النصارى.
قال قتادة: الصابئون هم قوم يعبدون الملائكة ويصلّون للقبلة ويقرأون الزبور، والمجوس عبدة الشمس والقمر والنيران؛ والذين أشركوا عبدة الأوثان (إن الله يفصل) أي يقضي (بينهم يوم القيامة) فيُدخل المؤمنين منهم الجنة، والكافرين منهم النار، وقيل الفصل هو أن يُميز المُحق من المبطل بعلامة يعرف بها كل واحد منهما.
وقيل يفصل بينهم في الأحوال والأماكن جميعاً فلا يجازيهم جزاء واحداً بغير تفاوت، ولا يجمعهم في موطن واحد قال قتادة: الأديان ستة؛ فخمسة للشيطان وواحد للرحمن. وعن عكرمة قال: فصل قضاء بينهم فجعل الخمسة مشتركة وجعل هذه الأمة واحدة.
وعن ابن عباس قال: (والذين هادوا) اليهود والصابئون ليس لهم كتاب، والمجوس أصحاب الأصنام، والمشركون نصارى العرب (إن الله) تعليل لما قبلها وكأن قائلاً قال: أهذا الفصل عن علم أو لا؟ فقيل إن الله (على كل شيء) من أفعال خلقه وأقوالهم " شهيد " عالم علم مشاهدة لا يعزب عنه شيء منها، ومن قضيته الإحاطة بتفاصيل ما صدر عن كل فرد من أفراد الفرق المذكورة، والظاهر تعميم الكلام لعبدة الأوثان ولعباد الشمس والقمر والنجوم. قاله الكرخي.(9/26)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (18)
(ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض) الرؤية هنا هي القلبية لا البصرية، وذلك لأن رؤية سجود هذه الأشياء لله إنما جاءنا من طريق العقل لأنا لا نراه بأبصارنا، والخطاب لكل من يصلح له، وهو من تتأتى منه الرؤية، والمراد بالسجود هنا هو الانقياد الكامل لا سجود الطاعة(9/26)
الخاصة بالعقلاء، سواء جعلت كلمة (مَنْ) خاصة بالعقلاء أو عامة لهم ولغيرهم، ولهذا عطف.
(والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب) على (من) فإن ذلك يفيد أن السجود هو الانقياد لا الطاعة الخاصة بالعقلاء، وإنّما أفرد هذه الأمور بالذكر مع كونها داخلة تحت (من) على تقدير جعلها عامة لكون قيام السجود بها مستبعداً في العادة. وقوله:
(وكثير من الناس) مرتفع على الابتداء وخبره محذوف، تقديره وكثير من الناس يستحق الثواب، وإنما لم يرتفع بالعطف على (من) لأن سجود هؤلاء الكثير هو سجود الطاعة الخاصة بالعقلاء، والمراد بالسجود المتقدم هو الانقياد فلو ارتفع بالعطف لكان في ذلك جمع بين معنيين مختلفين في لفظ واحد، وأنت خبير بأنه لا ملجئ إلى هذا بعد حمل السجود على الانقياد، ولا شك أنه يصح أن يراد من سجود كثير من الناس هو انقيادهم، لا نفس السجود الخاص، فارتفاعه بالعطف لا بأس به، وإن أبي ذلك صاحب الكشاف ومتابعوه.
(وكثير) مرتفع بالابتداء وخبره (حق عليه العذاب) قاله الكسائي والفراء وقيل معطوف على كثير، الأول أي وكثير من الناس يسجد؛ وكثير منهم يأبى ذلك. وقيل المعنى وكثير من الناس في الجنة، وكثير حق عليه العذاب. هكذا حكاه ابن الأنباري.
(ومن يهن الله) أي من أهانه الله بأن جعله كافراً شقياً (فما له من مكرم) يكرمه فيصير سعيداً عزيزاً. وحكى الأخفش والكسائي والفراء أي من إكرام؛ فهو على هذا مكرم بفتح الراء اسم مصدر.
(إن الله يفعل ما يشاء) من الأشياء التي من جملتها ما تقدم ذكره من الشقاوة والسعادة والإكرام والإهانة، وظاهر هذه الآية والتي قبلها ينقض على المعتزلة قولهم لأنهم يقولون: شاء أشياء ولم يفعل وهو يقول يفعل ما يشاء(9/27)
هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ (19) يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (20) وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (21) كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (22) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (23) وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ (24)
وهذه السجدة من عزائم السجود، فيسنّ للقارئ والمستمع أن يسجدا عند تلاوتها أو سماعها(9/28)
هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ (19)
(هذان خصمان) أحدهما أنجس الفرق اليهود والنصارى والصابئون والمجوس والذين أشركوا، والخصم الآخر المسلمون فهما فريقان يختصمان قاله الفراء وغيره، وقيل المراد بالخصمين الجنة والنار، قالت الجنة خلقني لرحمته، وقالت النار: خلقني لعقوبته وهو ضعيف، وقيل المراد بالخصمين هم الذين برزوا يوم بدر فمن المؤمنين حمزة وعلي وعبيدة، ومن الكافرين عتبة وشيبة ابنا ربيعة والوليد بن عتبة، وقد كان أبو ذر يقسم أن هذه الآية نزلت في هؤلاء المتبارزين كما ثبت عنه في الصحيحين وغيرهما، وقال بمثل هذا جماعة من الصحابة والتابعين وهم أعرف من غيرهم بأسباب النزول.
وقد ثبت في صحيح البخاري وغيره أيضاً عن علي أنه قال: فينا نزلت هذه الآية، وأنا أول من يجثو في الخصومة على ركبتيه بين يدي الله يوم القيامة: وقال سبحانه.
(اختصموا) ولم يقل اختصما لأنهم جمع، ولو قال اختصما لجاز، قاله(9/28)
الفراء (في) شأن (ربهم) أي في دينه أو في ذاته أو في صفاته أو في شريعته لعباده أو في جميع ذلك.
قال أبو حيان: الظاهر أن الاختصام هو في الآخرة، بدليل التقسيم بالفاء الدالة على التعقيب في قوله: فالذين كفروا، وإن قلنا هذا في الدنيا فالجواب أنه لما كان تحقيق مضمونه في ذلك اليوم صح جعل يوم القيامة ظرفاً له بهذا الاعتبار ثم فصّل سبحانه ما أجمله في قوله يفصل بينهم فقال:
(فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار) أي قدرت لهم على قدر جثثهم لأن الثياب الجدد تقطع على مقدار بدن من يلبسها، فالتقطيع مجاز عن التقدير بذكر المسبب وهو التقطيع وإرادة السبب وهو التقدير والتخمين، والظاهر أنه بعد ذلك جعل تقطيعها استعارة تمثيلية تهكمية شبه إعداد النار وإحاطتها بهم بتفصيل ثياب لهم وجمع الثياب لأن النار لتراكمها عليهم كالثياب الملبوس بعضها فوق بعض وهذا أبلغ من جعلها من مقابلة الجمع بالجمع.
قال الأزهري: المعنى سوّيت وجعلت لبوساً لهم، وإنما شبهت النار بالثياب لأنها مشتملة عليهم كاشتمال الثياب وعبر بالماضي عن المستقبل تنبيهاً على تحقق وقوعه.
وقيل إن هذه الثياب من نحاس قد أذيب فصار كالنار وهي السرابيل المذكورة في آية أخرى، قاله سعيد بن جبير، وزاد ليس من الآنية شيء إذا حمي أشد حراً منه، وقيل المعنى في الآية أحاطت النار بهم، والحق إجراء النظم القرآني على ظاهره ولا نرتضي تأويله بما يخالف لفظه ومعناه، وقرئ قُطِعَت بالتخفيف.
(يصبّ من فوق رؤوسهم الحميم) هو الماء الحار المغلي بنار جهنم انتهت حرارته، والجملة مستأنفة، قال النحاس: يذاب على رؤوسهم(9/29)
يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (20)
(يصهر به) أي يذاب بالحميم (ما في بطونهم).
قال ابن عباس: تسيل أمعاؤهم (والجلود) قال ابن عباس: يتناثر(9/29)
جلودهم، وعن أبي هريرة أنه تلا هذه الآية فقال: سمعت رسول صلى الله عليه وسلم يقول: " إن الحميم ليصب على رؤوسهم فينفذ الجمجمة حتى يخلص إلى جوفة فيسلت ما في جوفه حتى يمرق من قدميه وهو الصهر، ثم يعاد كما كان " أخرجه الترمذي (1) والحاكم وصححاه وابن جرير وابن أبي حاتم وغيرهم.
وعن ابن عباس قال: يمشون وأمعاؤهم تتساقط وجلودهم، وعنه قال: يسقون ماء إذا دخل في بطونهم أذابها والجلود مع البطون، والصهر الإذابة والصهارة ما ذاب منه، يقال صهرت الشيء فانصهر أي أذبته فذاب فهو صهير، والمعنى أنه يذاب بذلك الحميم ما في بطونهم من الأمعاء والأحشاء ويصهر به الجلود.
وقيل إنّ الجلود لا تذاب بل تحرق فيقدر فعل يناسب ذلك. ويقال وتحرق به الجلود ولا يخفى أنه لا ملجئ لهذا، فإن الحميم إذا كان يذيب ما في البطون فإذابته للجلد الظاهر بالأولى.
_________
(1) المستدرك كتاب التفسير 2/ 387.(9/30)
وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (21)
(ولهم) يجوز في الضمير وجهان أظهرهما أنه يعود على الذين كفروا وفي اللام حينئذ قولان:
أحدهما: أنها للاستحقاق.
والثاني: أنها بمعنى على، كقوله. ولهم اللعنة وليس بشيء. الوجه الثاني: إن الضمير يعود على الزبانية أعوان جهنم ويدل عليه سياق الكلام وفيه بعد.
وقوله (مقامع) جمع مقمعة ومقمع، يقال قمعته ضربته بالمقمعة وهي قطعة من حديد، يقال: قمعه يقمعه من باب قطع إذا ضربه بشيء يزجره به ويذله والمقمعة المطرقة، وقيل السوط وسميت المقامع مقامع لأنها تقمع(9/30)
المضروب أي تذلُله، قال ابن السكيت: يقال: أقمعت الرجل عني إقماعاً إذا طلع عليك فرددته عنك، والمعنى لهم مقامع كائنة.
(من حديد) يضربون بها، أخرج أحمد وأبو يعلى والحاكم وصححه والبيهقي عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لو أن مقمعاً من حديد وضع في الأرض فاجتمع الثقلان ما أقلوه من الأرض، ولو ضرب الجبل بمقمع من حديد لتفتت ثم عاد كما كان " (1).
_________
(1) المستدرك، كتاب الأهوال 4/ 608.(9/31)
كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (22)
(كلما أرادوا) الإرادة هنا مجاز عن القرب (إن يخرجوا منها) أي من النار (من) أجل (غم) شديد من ضموم النار يأخذ بأنفاسهم وهو بدل اشتمال من منها بإعادة الجار أو الأولى لابتداء الغاية، والثانية بمعنى من أجل أي من أجل غم يلحقهم فخرجوا.
(أعيدوا فيها) أي ردوا إليها بالضرب بالمقامع، وهي الجرز من الحديد؛ والمراد إعادتهم إلى معظم النار لا أنهم ينفصلون عنها بالكلية ثم يعودون إليها، عن سلمان قال: النار سوداء مظلمة لا يضيء لهبها ولا جمرها، ثم قرأ. كلما أرادوا الآية (و) قيل لهم (ذوقوا عذاب الحريق) أي المحرق الغليظ المنتشر العظيم الإهلاك البالغ نهاية الإحراق وأصل الحريق الاسم من الاحتراق تحرق الشيء بالنار واحترق حرقة واحتراقاً، والذوق مماسة يحصل معها إدراك الطعم، وهو هنا توسع، والمراد به إدراك الألم، قال الزجاج: وهذا لأحد الخصمين، وقال في الخصم الآخر وهم المؤمنون.(9/31)
إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (23)
(إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار) ثم بين بعض ما أعده لهم من النعيم بعد دخولهم الجنة فقال: (يُحَلَّوْنَ فيها) بالتشديد والبناء للمفعول، وقرئ مخففاً أي يحليهم الله أو الملائكة بأمره (من) للتبعيض أي يحلون بعض (أساور) للبيان أو زائدة، وهي جمع أسورة، والأسورة جمع سوار، وفيه لغتان كسر السين وضمها، وفيه لغة ثالثة وهي أسوار.(9/31)
(من ذهب) من للبيان (ولؤلؤاً) بالنصب أي ويحلون لؤلؤاً وهو ما يستخرج من البحر من جوف الصدف، قال القشيري: والمراد ترصيع السوار باللؤلؤ، ولا يبعد أن يكون في الجنة سوار من لؤلؤ مصمت كما أن فيها أساور من ذهب، قال القرطبي: يسور المؤمن في الجنة بثلاثة أسورة سوار من ذهب وسوار من فضة وسوار من لؤلؤ.
(ولباسهم) أي جميع ما يلبسونه (فيها حرير) كما تفيده هذه الإضافة، ويجوز أن يراد أن هذا النوع من الملبوس الذي كان محرماً عليهم في الدنيا حلال لهم في الآخرة، وأنه من جملة ما يلبسونه فيها، ففيها ما تشتهيه الأنفس؛ وكل واحد منهم يعطى ما تشتهيه نفسه، وينال ما يريده.
وفي الصحيحين وغيرهما عن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة " (1) وفي الباب أحاديث. وغيّر الأسلوب حيث لم يقل: ويلبسون فيها حريراً، للمحافظة على الفواصل، وللدلالة على أن الحرير ثيابهم المعتادة في الجنة، فإن العدول إلى الجملة الاسمية يدل على الدوام.
_________
(1) مسلم 2073 - البخاري 2279.(9/32)
وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ (24)
(وهُدوا) أي: أرشدوا (إلى الطيب من القول) قيل هو لا إله إلا الله، وقيل الحمد لله، وقيل القرآن؛ وقيل هو ما يأتيهم من الله سبحانه من البشارات وقد ورد في القرآن ما يدل على هذا القول المجمل هنا، وهو قوله سبحانه: (الحمد لله الذي صدقنا وعده) الحمد لله الذي هدانا لهذا، الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن، وقل ابن عباس: هدوا أُلهموا، وعن أبي العالية قال: في الخصومة إذا قالوا: الله مولانا ولا مولى لكم، وعن ابن زيد قال: لا إله إلا الله والله أكبر والحمد لله الذي صدقنا وعده.
(و) معنى (هدوا إلى صراط الحميد) أنهم أرشدوا إلى الصراط المحمود، وهو الطريق الموصلة إلى الجنة أو صراط الله الذي هو دينه القويم وهو الإسلام قاله الضحاك.(9/32)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (25) وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26) وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27)(9/33)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (25)
(إن الذين كفروا ويصدون) أي يمنعون (عن سبيل الله) ودينه من أراد الدخول فيه، وعطف المضارع على الماضي لأن المراد بالمضارع ما مضى من الصد ومثل هذا قوله: (إنّ الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله، والمسجد الحرام)؛ أو المراد بالصد هنا الاستمرار لا مجرد الاستقبال؛ فصح عطفه بذلك على الماضي أي كفروا، والحال أنهم يَصدون، وقيل الواو زائدة، والمضارع خبر إنَّ، والأولى أن يقدر خبر إن بعد قوله الآتي (والباد) وذلك نحو خسروا أو هلكوا والمراد بالصد المنع.
(والسجد الحرام) قيل: المراد به المسجد نفسه كما هو الظاهر من هذا النظم القرآني؛ وقيل: الحرم كله، لأن المشركين صدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه عنه يوم الحديبية، وقيل المراد به مكة بدليل قوله:
(الذي جعلناه للناس) على العموم يصلّون فيه، ويطوفون به (سواء) مستويان (العاكف) المقيم (فيه) الملازم له، ويدخل فيه الغريب إذا جاور وأقام به ولزم التعبد فيه (والباد) أي الواصل من البادية، والمراد به الطارئ عليه المنتاب إليه من غير فرق بين كونه من أهل البادية أو من غيرهم، وصف المسجد الحرام بذلك لزيادة التقريع والتوبيخ للصادين عنه، وقيل جعلناه للناس قبلة لصلاتهم ومنسكاً ومتعبداً للعاكف والبادي، سواء في تعظيم حرمته وقضاء النسك به. وإليه ذهب مجاهد والحسن وجماعة(9/33)
من أهل العلم. ومعنى التسوية هو التسوية في تعظيم الكعبة وقضاء النسك فيه وفي فضل الصلاة فيه والطواف به. عن جبير بن مطعم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " يا بني عبد مناف لا تمنعوا أحداً طاف بهذا البيت وصلى أية ساعة شاء من ليل أو نهار " أخرجه الترمذي وأبو داود والنسائي (1).
قال القرطبي: وأجمع الناس على الاستواء في المسجد الحرام نفسه، واختلفوا في مكة فذهب مجاهد ومالك إلى أن دور مكة ومنازلها يستوي فيها المقيم والطارئ وذهب عمر بن الخطاب وابن عباس وجماعة إلى أن للقادم أن ينزل حيث وجد، وعلى رب المنزل أن يؤويه شاء أم أبي.
وذهب الجمهور إلى أن دور مكة ومنازلها ليست كالمسجد الحرام ولأهلها منع الطارئ من النزول فيها.
والحاصل أن الكلام في هذا راجع إلى أصلين: الأول ما في هذه الآية، هل المراد بالمسجد الحرام نفسه أو جميع الحرم أو مكة على الخصوص. والثاني هل كان فتح مكة صلحاً أو عنوة؟ وعلى فرض أن فتحها كان عنوة. وهل أقرها النبي صلى الله عليه وسلم في أيدي أهلها على الخصوص أو جعلها لمن نزل بها على العموم، وقد أوضح الشوكاني هذا في شرحه على المنتقي بما لا يحتاج الناظر فيه إلى زيادة. ثم قال فيه بعد ذكر حجج الفريقين.
ومن أوضح الأدلة على أنها فتحت عنوة قوله صلى الله عليه وسلم، " وإنما أحلَّت لي ساعة من نهار " (2)، فإن هذا تصريح بأنها أحلت له في ذلك بسفك الدماء بها وأن حرمتها ذهبت فيه وعادت بعده، ولو كانت مفتوحة صلحاً لما كان لذلك معنى، وقد ذكر المقبلي في الاتحاف أدلة قوية على أن المراد به نفس المسجد. وعن ابن عباس: المسجد الحرام الحرم كله خلق الله فيه سواء. وعن سعيد بن جبير مثله. وأيضاً قال: هم في منازل مكة سواء
_________
(1) النسائي كتاب الحج باب 42.
(2) البخاري كتاب العلم باب 37. 39 - أبو داوود كتاب المناسك باب 89.(9/34)
فينبغي لأهل مكة أن يتوسعوا لهم حتى يقضوا مناسكهم. والبادي وأهل مكة سواء -يعني في المنزل والحرم. وعن ابن عمرو قال: من أخذ من أجور بيوت مكة إنما يأكل في بطنه ناراً.
وعن عمر بن الخطاب أن رجلاً قال له عند المروة: أقطعني مكاناً لي ولعقبي فأعرض عنه وقال: هو حرم الله، سواء العاكف فيه والباد. وكان عمر يمنع أهل مكة أن يجعلوا لها أبواباً حتى ينزل الحاج في عرصات الدور.
وعن ابن عباس قال: قال رسول الله " - صلى الله عليه وسلم - " في الآية: " سواء المقيم والذي يدخل " أخرجه الطبراني وغيره، قال السيوطي: بإسناد صحيح.
وعن ابن عمر مرفوعاً قال: " مكة مباحة لا تؤجر بيوتها ولا تباع رباعها " أخرجه ابن مردويه.
وعن علقمة بن نضلة قال: " توفي رسول الله " - صلى الله عليه وسلم - " وأبو بكر وعمر وما يدعى رباع مكة إلا السوائب، من احتاج سكن ومن استغنى سكن. رواه ابن ماجة. وأخرج الدارقطني عن ابن عمر مرفوعاً " من أكل كراء بيوت مكة أكل ناراً، وعلى هذا القول لا يجوز بيع دور مكة وإجارتها لأنها لو ملكت لم يستو العاكف فيها والبادي، وإليه ذهب أبو حنيفة وعلى القول الأول يجوز ذلك، وإليه ذهب الشافعي مستدلاً بقوله تعالى: (الذين أخرجوا من ديارهم) فنسب الديار إليهم نسبة ملك واشتراء.
وقال رسول الله " - صلى الله عليه وسلم - " يوم الفتح: " من أغلق بابه فهو آمن، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن " (1) والأول أقوى والله أعلم.
(ومن يرد فيه بإلحاد بظلم) مفعول (يرد) محذوف لقصد التعميم، أي من يرد فيه مراداً، أي مراداً بعدول عن القصد والاعتدال. والإلحاد في اللغة الميل، إلا أنه سبحانه بين هنا أنه الميل بظلم. وقد اختلف في هذا
_________
(1) مسلم 1780.(9/35)
الظلم ماذا هو، فقيل هو الشرك، وقيل الشرك والقتل، وقيل صيد حيواناته وقطع أشجاره. وقيل هو الحلف فيه بالأيمان الفاجرة.
وقيل المراد المعاصي فيه على العموم حتى شتم الخادم، وقيل هو دخول الحرم بغير احرام أو ارتكاب شيء من محظورات الحرم؛ وقيل احتكار الطعام، لما روى يعلى بن أمية أن رسول الله " - صلى الله عليه وسلم - " قال: " إن احتكار الطعام في الحرم إلحاد فيه " أخرجه أبو داود (1).
وعن ابن عمر " بيع الطعام بمكة الحاد " وعنه سمعت رسول الله " - صلى الله عليه وسلم - " يقول: " احتكار الطعام بمكة إلحاد " (2) أخرجه البيهقي في الشعب، والباء في بإلحاد قيل ليست بزائدة إنْ كان مفعول (يرد) محذوفاً كما ذكرنا. وقيل زائدة، وبه قال الأخفش، والمعنى عنده ومن يرد فيه إلحاداً بظلم، وقال أهل الكوفة: المعنى بأن يلحد، وقيل من يرد الناس بإلحاد، وقيل إن يرد مضمناً معنى يهم، والمعنى من يهم فيه بإلحاد، والباء في بظلم للسببية وقيل غير ذلك.
(نذقه من عذاب أليم) في الآخرة إلا أن يتوب. قاله السدي، قيل المراد بهذه الآية أنه يعاقب بمجرد الإرادة للمعصية في ذلك المكان، وقد ذهب إلى هذا ابن مسعود وابن عمر والضحاك وابن زيد وغيرهم حتى قالوا: لو همّ الرجل في الحرم بقتل رجل بعدن لعذبه الله.
وعن ابن مسعود رفعه قال: لو أن رجلاً همّ بإلحاد بظلم وهو بعدن أبين لأذاقه الله عذاباً أليماً. قال ابن كثير: هذا الإسناد صحيح على شرط البخاري وقفه أشبه من رفعه. وعنه قال: من همّ بخطيئة فلم يعملها في
_________
(1) أبو داوود كتاب المناسك 89.
(2) مشكاة المصابيح 2723.(9/36)
سوى البيت لم يكتب عليه حتى يعملها، ومن هم بخطيئة في البيت لم يمته الله من الدنيا حتى يذيقه من عذاب أليم.
وعن ابن عباس قال: نزلت هذه الآية في عبد الله بن أنَيْس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه مع رجلين أحدهما مهاجر والآخر من الأنصار، فافتخروا في الأنساب، فغضب ابن أنيس فقتل الأنصاري ثم ارتد عن الإسلام وهرب إلى مكة، فنزلت فيه (ومن يرد فيه بإلحاد بظلم)؛ يعني من لجأ إلى الحرام بإلحاد بميل عن الإسلام.
والحاصل أن هذه الآية دلت على أن من كان في البيت الحرام مأخوذ بمجرد الإرادة للظلم فهي مخصصة لما ورد من أن الله غفر لهذه الأمة ما حدثت به أنفسها إلا أن يقال إن الإرادة فيها زيادة على مجرد حديث النفس، وبالجملة فالبحث عن هذا تقرير الحق فيه على وجه يجمع بين الأدلة ويرفع الإشكال يطول جداً، ومثل هذه الآية حديث " إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار "، قيل: يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: " إنه كان حريصاً على قتل صاحبه " (1)، فدخل النار هنا بمجرد حرصه على قتل صاحبه، وقد أفرد الشوكاني هذا البحث برسالة مستقلة.
_________
(1) مسلم 2888 - البخاري 29.(9/37)
وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26)
(و) اذكر (إذ بوأنا لإبراهيم) يقال بوأته منزلاً وبوأت له، كما يقال مكنتك ومكنت لك، قال الزجاج: معناه جعلنا (مكان البيت) مبوأ لإبراهيم، وقيل معنى بوأنا بينا له، وقيل وطأنا، وقد رفع البيت إلى السماء أيام الطوفان، فأعلم الله إبراهيم مكانه بريح أرسلها فكنست مكان البيت فبناه على أسه القديم وجعل طوله في السماء سبعة أذرع بذراعهم، وذرعه في الأرض ثلاثين ذراعاً بذراعهم؛ وأدخل الحجر في البيت ولم يجعل له سقفاً، وجعل له باباً وحفر له بئراً يلقى فيها ما يهدى للبيت وبناه قبله شيث وقبل شيث آدم وقبل آدم الملائكة وقد تقدم الكلام عليه في سورة البقرة.(9/37)
(إن لا تشرك بي شيئاً) أي أوحينا إليه أن لا تعبد غيري، قال المبرد: كأنه قيل له وحّدني في هذا البيت، لأن معنى لا تشرك بي وحّدني. وقالت فرقة: الخطاب بقوله: (أن لا تشرك) لمحمد صلى الله عليه وسلم، وهذا ضعيف جداً.
(وطهر بيتي) من الشرك والأقذار وعبادة الأوثان، وفي الآية طعن على أن من أشرك من قطان البيت، أي هذا كان الشرط على أبيكم فمن بعده، وأنتم فلم تفوا بل أشركتم. والمعنى تطهيره من الكفر والأوثان والدماء والبدع وسائر النجاسات.
وقيل: عنى به التطهير عن الأوثان فقط، وذلك أن جرهماً والعمالقة كانت لهم أصنام في محل البيت وحوله قبل أن يبنيه إبراهيم، وقيل المعنى نزهه أن يعبد فيه صنم، وهذا أمر بإظهار التوحيد فيه. وقد مر في سورة براءة ما فيه كفاية في هذا المعنى.
(للطائفين) الذين يطوفون بالبيت (والقائمين) هم المصلون (و) ذكر قوله: (الركع السجود) بعده لبيان أركان الصلاة دلالة على عظم شأن هذه العبادة، وقرن الطواف بالصلاة لأنهما لا يشرعان إلا في البيت، كالطواف عنده والصلاة إليه.(9/38)
وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27)
(وأذّن) أي ناد (في الناس بالحج) أي بدعوته والأمر به، وقرئ آذن بالمد والأذان الاعلام. وعن ابن عباس قال: لما فرغ إبراهيم من بناء البيت قال: قد فرغت، قال: أذن في الناس بالحج، قال: يا رب وما يبلغ صوتي؟ قال: أذن وعليّ البلاغ، قال: رب كيف أقول؟ قال: " قل يا أيها الناس كتب عليكم الحج إلى البيت العتيق " فسمعه من في السماء والأرض، ألا ترى أنهم يجيئون من أقصى الأرض يلبون، وفي الباب آثار عن جماعة من(9/38)
الصحابة؛ وبه قال جماعة من المفسرين، وزادوا: فعلا على المقام، فأشرف به حتى صار كأعلى الجبال.
وقيل: علا على جبل أبي قبيس فلما صعده للنداء خفضت الجبال رؤوسها ورفعت له القرى فأدخل أصبعيه في أذنيه وأقبل بوجهه يميناً وشمالاً وشرقاً وغرباً، ونادى في الناس بالحج قال: يا أيها الناس إن ربكم بنى بيتاً وكتب عليكم الحج إليه فأجيبوا ربكم، فأجابه كل من كتب له أن يحج ممن كان في أصلاب الرجال وأرحام الأمهات، لبيك اللهم لبيك. قال القسطلاني: فمن لبى مرة حج مرة، ومن لبى مرتين حج مرتين، ومن لبى أكثر حج بقدر تلبيته. انتهى، قيل: أول من أجابه أهل اليمن فهم أكثر الناس حجاً.
وقيل إن الخطاب لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، والمعنى أعلمهم يا محمد بوجوب الحج عليهم، وعلى هذا فالخطاب لإبراهيم انتهى عند قوله: (والركع السجود) وقيل إن خطابه انتهى عند قوله (مكان البيت)، وما بعده خطاب لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم أمره أن يقول ذلك في حجة الوداع.
عن أبي هريرة قال: خطبنا رسول الله " - صلى الله عليه وسلم - " فقال: " يا أيها الناس قد فرض الله عليكم الحج فحجوا " أخرجه مسلم (1)، قال في المدارك: والأول أظهر وقرأ الجمهور بالحج بفتح الحاء، وابن إسحاق في كل القرآن بكسرها.
(يأتوك رجالاً) هذا جواب الأمر وعده الله إجابة الناس له إلى حج البيت ما بين راجل وراكب، فمعنى رجالاً مشاة جمع راجل وقيل: جمع رجل، وقرئ بضم الراء رُجالاً، وقرئ على وزن كسالى، وقدم الرجال على الركبان في الذكر لزيادة تعبهم في المشي، قال الكرخي: إذ للراكب بكل خطوة سبعون حسنة وللراجل سبعمائة من حسنات الحرم، كل حسنة مائة
_________
(1) مسلم 1337 - النسائي كتاب المناسك باب 1.(9/39)
ألف حسنة، وإبراهيم وإسماعيل عليهما السلام حجا ماشيين، انتهى.
أقول: المعتمد في الباب أن الركوب أفضل من المشي لأن رسول الله " - صلى الله عليه وسلم - " حج راكباً كما في الروايات الصحيحة المشهورة، وفضيلة الاتباع تربو على غيره، وإن كان المشي فضيلة في نفسه سواء قدر على المشي أم لا قبل الإحرام وبعده، والحديث الذي ذكره الكرخي تبعاً للغزالي، والرافعي ضعيف على ما فيه، قاله ابن علان في مثير شوق الأنام إلى بيت الله الحرام، وممن ضعّفه ابن حجر المكي في شرح العباب وشرح المنهاج. والجواب عن التقديم أنه قد لا يفيد التفضيل قطعاً أو على الأصح، وقد يتقدم المفضول ويتأخر الأفضل، قال تعالى: (فمنكم كافر ومنكم مؤمن) وقال: (لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة) وقال: (إن مع العسر يسراً) إلى غير ذلك من الآيات فليعلم، وقال: (يأتوك) وإن كانوا يأتون البيت لأن من أتى الكعبة حاجاً فقد أتى إبراهيم لأنه أجاب نداءه.
(وعلى كل ضامر) أي وركباناً على كل بعير، والضامر: البعير المهزول، الذي أتعبه السفر، يقال ضمر يضمر ضموراً؛ وضَمَر الفرس من باب دخل وضمُر أيضاً بالضم فهو ضامر فيهما، وناقة ضامر وضامرة وتضمير الفرس أيضاً أن تعلفه حتى يسمن، ثم ترده إلى القوت وذلك في أربعين يوماً، ووصف الضامر بقوله: (يأتين) باعتبار المعنى لأن ضامر في معنى ضوامر.
(من كل فج عميق) الفج الطريق الواسع، الجمع فجاج والعميق البعيد، قال النسفي: قدم الرجال على الركبان إظهاراً لفضيلة المشاة انتهى، وليس بشيء لأن الاستطاعة المفسرة بالزاد والراحلة في الحديث الصحيح شرط في فريضة الحج واستدل بذلك بعضهم على أنه لا يجب الحج على راكب البحر، وهو استدلال ضعيف، لأن مكة ليست على بحر، وإنما يتوصل إليها على إحدى هاتين الحالتين بمشي أو ركوب، فذكر تعالى ما يتوصل به إليها.(9/40)
لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ (28) ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29) ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30)(9/41)
لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ (28)
(ليشهدوا) أي ليحضروا (منافع لهم) وهي تعمّ منافع الدنيا والآخرة وقيل المراد بها المناسك، وقيل المغفرة، وقيل التجارة كما في قوله: (ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم).
قال ابن عباس: أسواقاً كانت لهم ما ذكر الله منافع إلا الدنيا، وعنه قال: منافع في الدنيا ومنافع في الآخرة، فأما منافع الآخرة فرضوان الله؛ وأما منافع الدنيا فما يصيبون من لحوم البدن في ذلك اليوم، والذبائح والتجارات، ونكر منافع لأنه أراد منافع مختصة بهذه العبادة دينية ودنيوية لا توجد في غيرها من العبادات، وللنسفي في هذا المقام كلام حسن من باب الاعتبار تركنا ذكره روما للاختصار فمن شاء إدراكه فليرجع إلى المدارك.
(ويذكروا اسم الله) عند ذبح الهدايا والضحايا، وقيل إن هذا الذكر كناية عن الذبح لأنه لا ينفك عنه تنبيهاً على أن المقصود مما يتقرب به إلى الله تعالى أن يذكر اسمه (في أيام معلومات) هي أيام النحر كما يفيد ذلك قوله الآتي (على ما رزقهم من بهيمة الأنعام) وبه قال ابن عمر والصاحبان، وقيل عشر ذي الحجة وهو قول أكثر المفسرين والشافعي وأبي حنيفة.
قال ابن عباس: الأيام المعلومات أيام العشر، وعنه قال: يوم النحر وثلاثة أيام بعده، وعنه قال: أيام التشريق؛ وعنه قال: قبل يوم التروية(9/41)
بيوم، ويوم التروية، ويوم عرفة، وقد تقدم الكلام في الأيام المعلومات والمعدودات في البقرة فلا نعيده؛ والكلام في وقت ذبح الأضحية معروف في كتب الفقه وشروح الحديث.
(على) ذبح (ما رزقهم من بهيمة الأنعام) هي الأنعام فالإضافة في هذا كالإضافة في قولهم مسجد الجامع وصلاة الأولى والبهيمة مبهمة في كل ذات أربع في البر والبحر، فبينت بالأنعام، وهي الإبل والبقر والضأن والمعز التي تنحر في يوم العيد وما بعده من الهدايا والضحايا (فكلوا منها) أي من لحومها والأمر هنا للندب عند الجمهور، وذهبت طائفة إلى أن الأمر للوجوب، وهذا التفات من الغيبة إلى الخطاب.
(وأطعموا البائس الفقير) البائس ذو البؤس، وهو شدة الفقر فذكر الفقير بعده لمزيد من الإيضاح، وقال ابن عباس: البائس، الزّمِن (1) الذي لا شيء له والأمر هنا للوجوب؛ وقيل للندب.
_________
(1) الزَمن بزاي مشددة مفتوحة بعدها ميم مكسورة وهو ذو العاهة.(9/42)
ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29)
(ثم) أي بعد حلهم خروجهم من الإحرام وبعد الإتيان بما عليهم من النسك (ليقضوا تفثهم) المراد بالقضاء هنا هو التأدية أي ليؤدوا إزالة وسخهم لأن التفث هو الوسخ والدرن، والشعث والقذارة من طول الشعر والأظفار، وقد أجمع المفسرون كما حكاه النيسابوري على هذا.
قال الزجاج: إن أهل اللغة لا يعرفون التفث، وقال أبو عبيدة: لم يأت في الشعر ما يحتج به في معنى. التفث، وقال المبرد: أصل التفث في اللغة كل قاذورة تلحق الإنسان، وقيل قضاؤه ادهانه لأن الحاج مغبر شعث لم يدهن، ولم يستحد فإذا قضى نسكه وخرج من إحرامه حلق شعره ولبس ثيابه فهذا هو قضاء التفث قال الزجاج: كأنه خروج من الإحرام إلى الإحلال.
وعن ابن عمر قال: التَفثُ المناسك كلها، وعن ابن عباس نحوه،(9/42)
وعنه قال: التفث حلق الرأس والأخذ من العارضين ونتف الابط وحلق العانة والوقوف بعرفة، والسعي بين الصفا والمروة، ورمي الجمار، وقص الأظفار، وقص الشوارب والذبح.
(وليوفوا) بالتخفيف والتشديد (نذورهم) أي ما ينذرون به من البر في حجهم، والأمر للوجوب، وقيل المراد بالنذر هنا أعمال الحج، أو الهدايا والضحايا (وليطوفوا بالبيت العتيق) هذا الطواف هو طواف الإفاضة الواجب ووقته يوم النحر بعد الرمي والحلق.
قال ابن جرير: لا خلاف في ذلك بين المتأولين والعتيق القديم كما يفيده قوله سبحانه: (إنّ أول بيت وضع للناس) الآية، وقد سمي العتيق لأن الله أعتقه من أن يتسلط عليه جبار، فكم من جبار سار إليه ليهدمه فمنعه الله منه، وقيل لأن الله يعتق فيه رقاب المذنبين من العذاب.
وقيل لأنه أعتق من غرق الطوفان فإنه رفع في أيامه، وقيل لأنه لم يملك قط وقيل العتيق الكريم، وقد ورد في وجه تسمية البيت بالعتيق آثار عن جماعة من الصحابة، وهو مطاف أهل الغبراء، كما أن العرش مطاف أهل السماء، فإن الطالب إذا هاجته معية الطرب، وجذبته جواذب الطلب، جعل يقطع مناكب الأرض مراحل، ويتخذ مسالك المهالك منازل فإذا عاين البيت لم يزده التسلي به إلا اشتياقاً، ولم يفده باستلام الحجر إلا احتراقاً فيرده الأسف لهفان ويردده الكهف حوله في الدوران.
وورد في فضل الطواف أحاديث ليس هذا موضع ذكرها.(9/43)
ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30)
(ذلك) أي الأمر ذلك، وهذا وأمثاله يطلق ويذكر للفصل بين الكلامين أو بين طرفي كلام واحد كما يقدم الكاتب جملة من كلامه في بعض المعاني، ثم إذا أراد الخوض في معنى آخر قال هذا، وقد كان كذا، قاله أبو حيان في البحر، أو المعنى. افعلوا ذلك، والمشار إليه هو ما سبق من أعمال الحج (ومن يعظم حرمات الله) جمع حرمة، وهي ما لا يحل انتهاكه.(9/43)
قال الزجاج: الحرمة ما وجب القيام به، وحرم التفريط فيه وهي في هذه الآية ما نهى عنها، ومنع من الوقوع فيها كالجدال والجماع والصيد، والظاهر من الآية عموم كل حرمة في الحج وغيره، كما يفيده اللفظ، وإن كان السبب خاصاً وتعظيمها ترك ملابستها.
قال مجاهد: الحرمة مكة والحج والعمرة وما نهى الله عنه من معاصيه كلها، وقيل هي البيت الحرام، والمشعر الحرام والمسجد الحرام والبلد الحرام، والشهر الحرام، وتعظيمها القيام بمراعاتها وحفظ حرمتها، وقيل هي مناسك الحج، وتعظيمها إقامتها وإتمامها.
(فهو) أي فالتعظيم (خير له) من التهاون بشيء منها (عند ربه) يعني في الآخرة، وقيل إن صيغة التفضيل هنا لا يراد بها معناها الحقيقي، بل المراد أن ذلك التعظيم خير ينتفع به أي قربة وطاعة يثاب عليها عند الله فهو عدة بخير.
(وأحلت لكم الأنعام) أن تأكلوها بعد الذبح وهي الإبل والبقر والغنم كما تقدم (إلا ما يتلى عليكم) تحريمه في الكتاب العزيز من المحرمات وهي الميتة وما ذكر معها في آية المائدة فالاستثناء منقطع لما ذكر في آية المائدة بما ليس من جنس الأنعام كالدم ولحم الخنزير، ويجوز أن يكون متصلاً بأن يصرف إلى ما يحرم من بهيمة الأنعام بسبب عارض كالموت ونحوه، وقيل وجه الانقطاع أنه ليس في الأنعام محرم، قاله الشهاب والسمين، وقيل في قوله: (إلا ما يتلى عليكم غير محلي الصيد وأنتم حرم).
(فاجتنبوا الرجس من الأوثان) الرجس: القذر والوسخ وعبادة الأوثان قذر معنوي والوثن التمثال وأصله من وثن الشيء أي أقام في مقامه وسمى الصليب وثناً لأنه ينصب ويركز في مقامه فلا يبرح عنه، والمراد اجتناب عبادة الأوثان وسماها رجساً لأنها سبب الرجس، وهو العذاب، وقيل جعلها سبحانه رجساً حكماً والرجس النجس وليست النجاسة وصفاً ذاتياً لها، ولكنها(9/44)
وصف شرعي فلا تزول إلا بالإيمان كما أنها لا تزول النجاسة الحسية إلا بالماء، قال الزجاج: (مِن) هنا لتخليص جنس من أجناس أي فاجتنبوا الرجس الذي هو وثن.
وقال ابن عباس: يقول اجتنبوا طاعة الشيطان في عبادة الأوثان (واجتنبوا قول الزور) الذي هو الباطل وسمي زوراً لأنه مائل عن الحق، ومنه قوله تعالى: (تزاور عن كهفهم) وقوله: (مدينة زوراء) أي مائلة، والمراد هنا قول الزور على العموم فهو تعميم بعد تخصيص، فإن عبادة الأوثان رأس الزور، والمشرك زاعم أن الوثن تحق له العبادة فأعظمه الشرك بالله بأي لفظ كان.
وقال الزجاج: المراد هنا تحليلهم بعض الأنعام وتحريمهم بعضها، وقولهم: هذا حلال وهذا حرام، وقيل المراد به شهادة الزور، وقال ابن عباس: يعني الافتراء على الله والتكذيب به وقيل هو قول المشركين في تلبيتهم لبيك لا شريك لك إلا شريكاً هو لك تملكه وما ملك
أخرج أحمد والترمذي وابن المنذر وغيرهم عن أيمن بن حريم قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيباً فقال: " يا أيها الناس عدلت شهادة الزور شركاً بالله ثلاثاً، ثم قرأ هذه الآية (1)، قال أحمد: غريب ولا نعرف لأيمن بن حريم سماعاً من النبي صلى الله عليه وسلم، وقد ثبت في الصحيحن وغيرهما من حديث أبي بكرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ ثلاثاً، قلنا بلى يا رسول الله، قال الإشراك بالله، وعقوق الوالدين وكان متكئاً فجلس فقال وقول الزور ألا وشهادة الزور، فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت " (2).
_________
(1) الترمذي كتاب الشهادات باب 3.
(2) مسلم 87 - البخاري 1291.(9/45)
حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ (31) ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (32) لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (33) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34)(9/46)
حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ (31)
(حنفاء لله) أي مستقيمين على الحق أو مائلين إلى الحق مسلمين عادلين عن كل دين سوى دينه، ولفظ حنفاء من الأضداد يقع على الاستقامة، ويقع على الميل، وقيل معناه حجاجاً قاله ابن عباس.
وعن أبي بكر الصديق نحوه ولا وجه لهذا (غير مشركين به) شيئاً من الأشياء كما يفيده الحذف من العموم تأكيد لما قبله، وهما حالان من الواو في اجتنبوا، والأولى مؤسسة، والثانية مؤكدة، قيل أن أهل الجاهلية كانوا يحجون مشركين، فلما أظهر الله الإسلام قال الله للمسلمين: حجوا الآن غير مشركين به.
(ومن يشرك بالله) مبتدأة مؤكدة لما قبلها من الأمر بالاجتناب، والغرض بهذا ضرب المثل لمن يشرك بالله، والمعنى أن بعد من أشرك به عن الحق والإيمان (فكأنما خر) أي كبعد من سقط (من السماء) إلى الأرض، أي انحط من أوج الإيمان إلى حضيض الكفر.
(فتخطفه الطير) يقال خطفه يخطفه إذا سلبه، ومنه قوله: (يخطف أبصارهم) أي تخطف لحمه وتسلبه وتقطعه بمخالبها وتذهب به، وقرئ بتشديد الطاء وفتحها وبكسر الخاء والطاء وبكسر التاء مع كسرهما.
(أو تهوي به الريح) أي تقذفه وترمي به (في مكان سحيق) يقال(9/46)
سحق يسحق سحقاً فهو سحيق إذا بعد، أي بعيد فلا يصل إليه أحد بحال، قاله الزجاج وقيل شبه حال المشرك بحال الهاوي من السماء لأنه لا يملك لنفسه حيلة حتى يقع حيث تسقطه الريح، فهو هالك لا محالة، إما باستلاب الطير لحمه أو بسقوطه في المكان السحيق.
قال الزمخشري: يجوز في هذا التشبيه أن يكون من المركب والمفرق، فإن كان تشبيهاً مركباً فكأنه قال: من أشرك بالله فقد أهلك نفسه إهلاكاً ليس بعده هلاك، بأن صور حاله بصورة حال من خر من السماء فاختطفته الطير متفرقاً موزعاً في حواصلها، وعصفت به الريح حتى هوت به في بعض الأماكن البعيدة وإن كان مفرقاً، فقد شبه الإيمان في علوه بالسماء، والذي ترك الإيمان وأشرك بالله بالساقط من السماء والأهواء المردية بالطير المختطفة، والشيطان الموقع في الضلال بالريح التي تهوي بما عصفت به في بعض المهاوي المتلفة.(9/47)
ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (32)
(ذلك ومن يعظم شعائر الله) جمع شعيرة أو شعارة بالكسر بوزن قلادة وهي كل شيء فيه لله شعار، ومنه شعار القوم في الحرب وهو علامتهم التي يتعارفون بها، ومنه إشعار البُدُن وهو الطعن في جانبها الأيمن، فشعائر الله أعلام دينه، وتدخل فيها الهدايا في الحج دخولاً أولياً.
وعن ابن عباس في الآية قال: الشعار البدن والاستسمان والاستحسان والاستعظام وينبغي للإنسان أن يترك المشاحة في ثمنها.
روي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أهدى مائة بدنة فيها جمل لأبي جهل في أنفه برة من ذهب، وأن عمر أهدى نجيبة طلبت منه بثلاثمائة دينار.
(فإنها) الضمير يرجع إلى الشعائر بتقدير مضاف محذوف، أي فإن تعظيم الشعائر (من تقوى القلوب) أي مبتدأ وناشئ من أفعال القلوب التي هي من التقوى، وإنما ذكر القلوب لأنها مراكز التقوى(9/47)
لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (33)
(لكم فيها) أي في(9/47)
الشعائر على العموم أو على الخصوص وهي البدن كما يدل عليه السياق واجبة أو مندوبة.
(منافع) ومنها الركوب والدر والنسل والصوف والوبر وغير ذلك مما لا يضرها (إلى أجل مسمى) وهو وقت نحرها، وقيل إلى أن تسمى بدناً، قاله ابن عباس، وعن مجاهد نحوه، وقال: في ظهورها وألبانها وأوبارها وأشعارها وأصوافها منافع إلى أن تسمى هدياً، فإذا سميت هدياً ذهبت المنافع.
(ثم محلِها) أي حيث يحل نحرها حين تسمى (إلى البيت العتيق) المعنى أنها تنتهي إلى البيت وما يلية من الحرم، فمنافعهم الدنيوية المستفادة منها مستمرة إلى وقت نحرها، ثم تكون منافعها بعد ذلك دينية.
وقيل إن محلها هاهنا مأخوذ من إحلال الحرام، والمعنى أن شعائر الحج كلها من الوقوف بعرفة ورمي الجمار والسعي ينتهي إلى طواف الإفاضة بالبيت، فالبيت على هذا مراد بنفسه. قال عكرمة: إذا دخلت الحرم فقد بلغت محلها.(9/48)
وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34)
(ولكل أمة) هي الجماعة المجتمعة على مذهب واحد (جعلنا منسكاً) مصدر من نسك ينسك إذا ذبح القربان، والذبيحة نسيكة، قال الأزهري: إن المراد بالمنسك في الآية موضع النحر، ويقال منسِك بكسر السين وفتحها لغتان. قال الفراء المنسك في كلام العرب الموضع المعتاد في خير أو شر، وقال ابن عرفة: منسكاً أي مذهباً من طاعة الله.
وروي عن الفراء أن المنسك العيد، وبه قال ابن عباس وقيل هو الحج. وقال مجاهد في الآية: إهراق الدماء، وعن عكرمة قال: ذبحاً، وعن(9/48)
زيد بن أسلم قال: مكة، لم يجعل الله لأمة قط منسكاً غيرها، والأول أولى لقوله:
(ليذكروا اسم الله) والمعنى جعلنا لكل أهل دين من الأديان أو لجماعة مسلمة سلفت قبلكم ذبحاً يذبحونه ودماً يريقونه أو متعبداً أو طاعة أو عيداً أو حجاً يحجونه ليذكروا اسم الله وحده ويجعلوا نسكهم خاصاً به (على) ذبح (ما رزقهم من بهيمة الأنعام) سماها بهيمة لأنها لا تتكلم، وقيد بالأنعام لأن القربان لا يكون إلا من الأنعام دون غيرها وإن أجاز أكله، وفي القاموس البهيمة كل ذات أربع قوائم ولو في الماء، أو كل حي لا يميز، والجمع بهائم، والأبهم الأعجم، واستبهم استعجم فلم يقدر على الكلام.
وفي الآية دليل على أن المقصود من الذبح المذكور هو ذكر اسم الله عليه، وقد وردت أحاديث في الأضحية ليس هذا موضع ذكرها. ثم أخبرهم سبحانه بتفرده بالإلهية وأنه لا شريك له فقال:
(فإلهكم إله واحد) الفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها، ثم أمرهم بالإسلام والانقياد لطاعته وعبادته فقال: (فله أسلموا) أي انقادوا وأخلصوا وأطيعوا وتقديم الظرف على الفعل للقصر، والفاء كالفاء التي قبلها.
(وبشر المخبتين) من عباده، أي المتواضعين الخاشعين المخلصين. وقال مجاهد: أي المطمئنين، وقال عمرو بن أوس: هم الذين لا يظلمون الناس، وإذا ظلموا لم ينتصروا، وهو مأخوذ من الخبت وهو المنخفض من الأرض، والمعنى بشّرهم يا محمد بما أعد الله لهم من جزيل ثوابه وجليل عطائه، ولا يخفى حسن التعبير بالمخبتين هنا من حيث إن نزول الخبت مناسب للحجاج لما فيهم من صفات المتواضعين، كالتجرد عن اللباس وكشف الرأس والغربة عن الأوطان، ولذا وصف سبحانه هؤلاء المخبتين بقوله:(9/49)
الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (35) وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (36) لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (37) إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38)(9/50)
الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (35)
(الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم) أي خافت وحذرت مخالفته وحصول الوجل منهم عند الذكر له سبحانه دليل على كمال يقينهم وقوة إيمانهم (والصابرين على ما أصابهم) من البلايا والمصائب والمحن في طاعة الله (والمقيمي الصلاة) وصفهم بإقامة الصلاة، أي الإتيان بها في أوقاتها على وجه الكمال لأن السفر مظنة التقصير فيها، ثم وصفهم سبحانه بقوله:
(ومما رزقناهم ينفقون) أي يتصدقون به وينفقونه في وجوه البر ويضعونه في مواضع الخير، والمراد صدقة التطوع، ويعلم منه أنهم كانوا يتصدقون الصدقة الواجبة بالأولى.(9/50)
وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (36)
(والبُدن) قرئ بضم الباء وسكون الدال وبضمهما وهما لغتان، وهذا الاسم خاص عند الشافعي بالابل، وسميت بدنة لأنها تبدن، والبدانة السمن. وقال أبو حنيفة ومالك: إنه يطلق على الإبل والبقر، والأول أولى لا سيأتي من الأوصاف التي هي ظاهرة في الابل، ولما تفيده كتب اللغة من اختصاص هذا الاسم بالابل.
قال ابن لقيمة: فكلام الشافعية موافق لكلام الأزهري، وكلام الحنفية موافق لكلام الصحاح. وقال ابن كثير في تفسيره: واختلفوا في صحة إطلاق(9/50)
البَدَنَةْ على البقرة على قولين: أصحهما أنه يطلق عليها ذلك شرعاً (1)، كما صح في الحديث قال ابن عمر: لا نعلم البدن إلا من الإبل والبقر. وقال أيضاً: البدن ذات الجوف وعن مجاهد قال: ليس البدن إلا من الإبل وعن عطاء نحو ما قال ابن عمر، وبه قال سعيد بن المسيب والحسن. وقيل لا تسمى الغنم بدنة لصغرها.
(جعلناها لكم من شعائر الله) أي من أعلام الشريعة التي شرعها الله تعالى وإضافتها إلى اسمه تعظيم لها، وقيل لأنها تشعر، وهو أن تطعن بحديدة في سنامها فيعلم بذلك أنها هدي، وقد تقدم بيانه قريباً.
(لكم فيها خير) أي منافع دينية ودنيوية كما تقدم، وهي جملة مستأنفة، مقررة لما قبلها أو حالية. قاله السمين.
(فاذكروا اسم الله عليها) أي على نحرها بأن تقولوا عند ذبحها: الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر، اللهم منك وإليك (صواف) أي أنها قائمات قد صفت قوائمها لأنها تنحر قائمة معقولة وقرئ صوافي أي خوالص لله لا يشركون به في التسمية على نحرها أحداً وواحد صواف صافة وهي قراءة الجمهور، وواحد صوافي صافية. وفي قراءة ابن مسعود صوافن بالنون جمع صافنة، وهي التي قد رفعت إحدى يديها بالعقل لئلا تضطرب، ومنه قوله تعالى: (الصافنات الجياد)، وأصل هذا الوصف في الخيل، يقال صفن الفرس فهو صافن إذا قام على ثلاث قوائم وثنى الرابعة.
قال ابن عباس في الآية: إذا أردت أن تنحر البدنة فأقمها على ثلاث قوائم معقولة ثم قل بسم والله أكبر.
وفي الصحيحين وغيرهما عنه أنه رأى رجلاً قد أناخ بدنته وهو ينحرها ْفقال ابعثها قياماً مقيدة سنة محمد صلى الله عليه وسلم، وكون قيامها سنّة إنما
_________
(1) ابن كثير 3/ 221.(9/51)
هو على سبيل الندب، ويجوز نحرها وذبحها مضجعة على جنبها كالبقر.
(فإذا وجبت جنوبها) الوجوب السقوط، يقال وجبت الشمس أي سقطت ووجب الجدار سقط، ومنه الواجب الشرعي كأنه سقط علينا ولزمنا، أي فإذا سقط جنبها بعد نحرها على الأرض، وذلك عند خروج روحها فهو كناية عن الموت، وجمع الجنوب مع أن البعير إذا خر يسقط على أحد جنبيه، لأن ذلك الجمع في مقابلة جمع البدن.
(فكلوا منها) إن شئتم، ذهب الجمهور إلى أن هذا الأمر للندب (وأطعموا القانع والمعتر) هذا الأمر قيل هو للندب كالأول، وبه قال مجاهد والنخعي وابن جرير وابن سريج.
وقال الشافعي وجماعة: هو للوجوب، واختلف في القانع من هو؟ فقيل هو السائل؛ يقال قنع الرجل بفتح النون يقنع بكسرها إذا سأل، وقيل هو المتعفف عن السؤال المستغنى ببلغة، ذكر معناه الخليل وبه قال ابن عباس، قال ابن السكيت: من العرب من ذكر القنوع بمعنى القناعة، وهي الرضا والتعفف وترك المسألة، وبالأول قال زيد بن أسلم وابنه وسعيد بن جبير والحسن، وبالثاني قال عكرمة وقتادة.
وقال ابن عمر وابن عباس: القانع الذي يقنع بما آتيته. وأما المعتر فقال محمد بن كعب القرظي ومجاهد وإبراهيم والكلبي والحسن: أنه الذي يتعرض من غير سؤال وقيل هو الذي يعتريك ويسألك، وقال مالك: أحسن ما سمعت أن القانع: الفقير والمعتر الزائر. وروي عن ابن عباس أن كليهما الذي لا يسأل ولكن القانع الذي يرضى بما عنده ولا يسأل، والمعتر الذي يتعرض لك ولا يسألك وقرأ الحسن والمعتري ومعناه كمعنى المعتر، يقال اعتره واعتراه وعره وعراه إذا تعرض لما عنده أو طلبه. ذكره النحاس.
قال ابن عباس: المعتر السائل، وعنه الذي يعترض، وعنه القانع الذي يجلس في بيته، وعنه أنه سئل عن هذه الآية فقال: أما القانع فالقانع(9/52)
بما أرسلت إليه في بيته، والمعتر الذي يعتريك. وعنه قال: القانع الذي يسأل والمعتر الذي يتعرض ولا يسأل.
وقيل القانع المسكين، والمعتر الذي ليس بمسكين، وقيل القانع جارك الذي ينظر ما دخل عليك، والمعتر الذي يعتر ببابك ويريك نفسه، وقد روي عن التابعين في تفسير هذه الآية أقوال مختلفة، والمرجع المعنى اللغوي لا سيما مع الاختلاف بين الصحابة ومن بعدهم في تفسير ذلك.
(كذلك) أي مثل ذلك التسخير البديع المفهوم من قوله صواف (سخرناها) أي ذللنا البدن (لكم) فصارت تنقاد لكم إلى مواضع نحرها فتنحرونها وتنتفعون بها بعد أن كانت مسخرة للحمل عليها والركوب على ظهورها والحلب لها ونحو ذلك (لعلكم تشكرون) هذه النعمة التي أنعم الله بها عليكم.(9/53)
لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (37)
(لن ينال الله) أي لن يصعد ولا يرفع إليه ولا يبلغ رضاه لا يقع موقع القبول منه (لحومها) التي تتصدقون بها (ولا دماؤها) التي تنصب عند نحرها من حيث أنها لحوم ودماء.
(ولكن يناله) أي يبلغ إليه (التقوى منكم) أي تقوى قلوبكم ويصل إليه إخلاصكم له في العمل الصالح وإرادتكم بذلك وجهه مع الإيمان، فإن ذلك هو الذي يقبله الله ويجازي عليه.
وقيل المراد أصحاب اللحوم والدماء، أي لن يرضى المضحون والمتقربون إلى ربهم باللحوم والدماء ولكن بالتقوى.
قال الزجاج: أعلم الله أن الذي يصل إليه تقواه وطاعته فيما يأمر به. وحقيقة معنى هذا الكلام تعود إلى القبول، وذلك أن ما يقبله الإنسان يقال قد ناله ووصل إليه، فخاطب الله الخلق كعادتهم في مخاطباتهم.
قال ابن عباس: " كان المشركون إذا ذبحوا استقبلوا الكعبة بالدماء، فينضحون بها نحو الكعبة، فأراد المسلمون أن يفعلوا ذلك، فأنزل الله (لن(9/53)
ينال الله لحومها ولا دماؤها)، وعن ابن جريج نحوه.
(كذلك سخرها لكلم) كرر هذا للتذكير (لتكبروا الله) هو قول الناحر الله أكبر عند النحر فذكر في الآية الأولى الأمر بذكر اسم الله عليها، وذكر هنا للتكبير للدلالة على مشروعية الجمع بين التسمية والتكبير وقيل المراد بالتكبير وصفه سبحانه بما يدل على الكبرياء.
ومعني (على ما هداكم) على ما أرشدكم إليه من علمكم بكيفية التقرب بها و (ما) مصدرية أو موصولة (وبشر المحسنين) قيل المراد بهم المخلصون، وقيل الموحدون، والظاهر أن المراد بهم كل من يصدر منه من الخير ما يصح به إطلاق اسم المحسن عليه.(9/54)
إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38)
(إن الله يدافع) وقرئ يدفع وصيغة المفاعلة هنا مجردة عن معناها الأصلي وهو وقوع الفعل من الجانبين كما تدل عليه القراءة الأخرى وقد ترد هذه الصيغة ولا يراد بها معناها الأصلي كثيراً مثل عاقبت اللص ونحو ذلك، وقد قدمنا تحقيقه وقيل إن إيراد هذه الصيغة هنا للمبالغة، وقيل للدلالة على تكرر الواقع.
(عن الذين آمنوا) أي يدافع عن المؤمنين غوائل المشركين، وقيل يعلي حجتهم وقيل يوفقهم، وقال أبو حيان: لم يذكر الله ما يدفعه عنهم ليكون أفخم وأعظم وأعم، والجملة مستأنفة لِيُبيَن هذه المزية الحاصلة للمؤمنين من رب العالمين وأنه المتولي للمدافعة عنهم.
(إن الله لا يحب كل خوان كفور) مقررة لمضمون الجملة الأولى، فإن المدافعة من الله لهم عن عباده المؤمنين مشعرة أثم إشعار بأنهم مبغضون إلى الله غير محبوبين له.
قال الزجاج: من ذكر غير اسم الله وتقرب إلى الأصنام بذبيحته فهو خوّان كفور وإيراد صيغتي المبالغة للدلالة على أنهم كذلك في الواقع لا لإخراج من خان دون خيانتهم أو كفر دون كفرهم.(9/54)
أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (41)(9/55)
أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39)
(أذن للذين يقاتلون) قرئ أذن مبنياً للمفعول وللفاعل وكذلك يقاتلون وعلى كلا القراءتين فالإذن من الله سبحانه لعباده المؤمنين بأنهم إذا صلحوا للقتال أو قاتلهم المشركون قاتلوهم، قال المفسرون: كان مشركو مكة يؤذون أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بألسنتهم وأيديهم فيشكون ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول لهم: " اصبروا فإني لم أؤمر بالقتال " حتى هاجر فأنزل الله هذه الآية بالمدينة، وهي أول آية نزلت في القتال بعدما نهى عنه في نيف وسبعين آية، وقيل نزلت في قوم بأعيانهم خرجوا مهاجرين من مكة إلى المدينة فاعترضهم مشركو مكة، فأذن الله في قتال الذين يمنعونهم من الهجرة.
وهذه الآية مقررة أيضاً لمضمون قوله: (إن الله يدافع) فإن إباحة القتال لهم هي من جملة دفع الله عنهم، والباء في (بأنهم ظلموا) للسببية أي بسبب ما كان يقع عليهم من المشركين من سب وضرب وطرد ثم وعدهم الله سبحانه النصر على المشركين على طريق الرمز والكناية كما وعد بدفع أذى الكفار عنهم فقال:(9/55)
(وإن الله على نصرهم لقدير) وفيه تأكيد لما مر من المدافعة أيضاً، أخرج أحمد والترمذي وحسّنه والنسائي وابن ماجة، عن ابن عباس قال: لما أخرج النبي صلى الله عليه وسلم من مكة.
قال أبو بكر: أخرجوا نبيهم إنا لله وإنا إليه راجعون؛ ليهلكن القوم فنزلت: (أذن للذين يقاتلون) الخ، وقد روي نحو هذا عن جماعة من التابعين، ثم وصف هؤلاء المؤمنين بقوله:(9/56)
الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40)
(الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق) المراد بالديار مكة (إلا أن يقولوا).
قال سيبويه: هو استثناء منقطع أي لكن لقولهم: (ربنا الله) أي أخرجوا بغير حق يوجب إخراجهم لكن لقولهم: ربنا الله وحده، وقال الفراء والزجاج: هو استثناء متصل والتقدير: الذين أخرجوا من ديارهم بلا حق إلا بأن يقولوا ربنا الله فيكون مثل قوله سبحانه: (وما تنقمون منا إلا أن آمنا بآيات ربنا).
(ولولا دفع الله الناس) وقرئ دفاع (بعضهم) بدل بعض من الناس (ببعض لهدمت) بالتشديد للتكثير وبالتخفيف أي لخربت باستيلاء أهل الشرك على أهل الملل؛ وتكرر الهدم لكثرة المواضع (صوامع) للرهبان ومعابدهم المتخذة في الصحراء، وقيل صوامع الصابئين وهي جمع صومعة وهي بناء مرتفع محدب يقال: صمع الثريدة إذا رفع رأسها ورجل أصمع القلب أي حاد الفطنة والأصمع من الرجال الحديد القول، وقيل الصغير الأذن ثم استعمل في المواضع التي يؤذن عليها في الإسلام.
(وبيع) جمع بيعة وهي كنيسة النصارى في البلد، وقيل مساجد اليهود (وصلوات) هي كنائس اليهود وقيل النصارى، وقد ذكر ابن عطية في صلوات تسع قراءات وهي جمع صلاة وسميت الكنيسة صلاة لأنها يصلى فيها، وقيل هي كلمة معربة أصلها بالعبرانية صلوتاً قاله السمين، ومعناه في لغتهم المصلى فلا يكون مجازاً، قاله الشهاب.(9/56)
(ومساجد) للمسلمين، وقدمت الصوامع والبيع والصلوات على المساجد لكونها أقدم بناء وأسبق وجوداً أو ليكون فيه الانتقال من شريف إلى أشرف، والظاهر من الهدم معناه الحقيقي كما ذكره الزجاج وغيره.
وقيل المعنى المجازي هو تعطيلها من العبادة، والمعنى لولا ما شرعه الله للأنبياء والمؤمنين من قتال الأعداء بعضهم ببعض، وإقامة الحدود لاستولى أهل الشرك وذهبت مواضع العبادة من الأرض، وقيل المعنى لولا هذا الدفع لهدمت في زمن موسى الكنائس، وفي زمن عيسى الصوامع والبيع، وفي زمن محمد صلى الله عليه وسلم المساجد.
قال ابن عطية: هذا أصوب ما قيل في تأويل هذه الآية فعلى هذا إنما دفع عنهم حين كانوا على الحق قبل التحريف وقبل النسخ، وقيل المعنى ولولا دفع الله ظلم الظلمة بعدل الولاة، وقيل لولا دفع الله العذاب بدعاء الأخيار.
وعن علي قال: إنما أنزلت هذه الآية في أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، والمعنى: لولا دفع الله بأصحاب محمد عن التابعين لهدمت. الآية؟ قال أبو حيان: أجرى الله العادة في الأمم بذلك بأن ينتظم به الأمر وتقوم الشرائع وتصان المتعبدات من الهدم وأهلها من القتل والشتات ويؤيد ذلك قوله تعالى: (وقتل داود جالوت)، ثم قال: ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض.
(يذكر فيها اسم الله) ذكراً أو وقتاً (كثيراً) والجملة صفة للمساجد، وقيل لجميع المذكورات الأربع لأن كل واحد منها جمع (ولينصرن الله) اللام هي جواب لقسم محذوف أي والله لينصرن الله (من ينصره) أي دينه وأولياءه ومعنى نصره تعالى هو أن يظفر أولياءه بأعدائهم ويكون النصر بالتجليد في القتال وبإيضاح الأدلة والبينات وبالإعانة على المعارف والطاعات.(9/57)
(إن الله لقوي) على نصر أوليائه (عزيز) على انتقام أعدائه والقوي القادر على الشيء والعزيز الجليل الشريف قاله الزجاج، وقيل الممتنع الذي لا يرام ولا يدافع ولا يمانع(9/58)
الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (41)
(الذين إن مكناهم في الأرض) بنصرهم على عدوهم، قيل المراد بهم المهاجرون والأنصار والتابعون لهم بإحسان، وقيل أهل الصلوات الخمس وقيل ولاة العدل وقيل غير ذلك وهو إخبار من الله بالغيب عما ستكون عليه سيرتهم إن مكن لهم في الأرض.
وعن عثمان: هذا والله ثناء قبل بلاء يريد أن الله أثنى عليهم قبل أن يحدثوا من الخير ما أحدثوا، فتباً لمن يطعن بهم من أهل البدع والرفض بعد ذلك وتعساً لهم.
(أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر) هذا جواب الشرط وفيه إيجاب الأمر بالمعروف، على من مكنه الله في الأرض وأقدره على القيام بذلك، وقد تقدم تفسير الآية (ولله عاقبة الأمور) أي مرجعها إلى حكمه وتدبيره دون غيره.
وعن زيد بن أسلم في قوله: (الذين إن مكناهم في الأرض) قال: أرض المدينة (أقاموا الصلاة) قال: المكتوبة (وآتوا الزكاة) قال: المفروضة (وأمروا بالمعروف) قال: بلا إله إلا الله، (ونهوا عن المنكر) قال: عن الشرك بالله (ولله عاقبة الأمور) قال: وعند الله ثواب ما صنعوا، وقد أنجز الله تعالى وعده بأن سلط المهاجرين والأنصار على صناديد العرب وأكاسرة العجم وقياصرتهم وأورثهم أرضهم وديارهم.
وعن عثمان بن عفان قال: فينا نزلت هذه الآية أُخرجنا من ديارنا بغير حق ثم مُكِّنَّا في الأرض فأقمنا الصلاة وآتينا الزكاة، وأمرنا بالمعروف ونهينا عن المنكر فهي لي ولأصحابي.(9/58)
وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ (42) وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (43) وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (44) فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (45) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (47)(9/59)
وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ (42)
(وإن يكذبوك فقد كذبت قبلهم قوم نوح وعاد) قوم هود (وثمود) قوم صالح(9/59)
وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (43)
(وقوم إبراهيم وقوم لوط وأصحاب مدين) هم قوم شعيب هذه تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتعزية له متضمنة للوعد له بإهلاك المكذبين له، كما أهلك سبحانه المكذبين لمن كان قبله وفيه إرشاد له صلى الله عليه وسلم إلى الصبر على قومه والاقتداء بمن قبله من الأنبياء في ذلك، وقد تقدم ذكر هذه الأمم وما كان منهم ومن أنبيائهم وكيف كانت عاقبتهم.
والمعنى فأنت يا أشرف الخلق لست بأوحدي في التكذيب، فإن هؤلاء قد كذبوا رسلهم قبل قومك فتسل بهم، قاله الخطيب، وتأنيث قوم باعتبار المعنى وهو الأمة أو قبيلة واستغنى في عاد وثمود عن ذكر قوم لاشتهارهم بهذا الاسم الأخصر، والأصل في التعبير العلم ولا علم لغيرهما فلهذا لم يقل: قوم هود وقوم صالح ولم يقل قوم شعيب لأن قومه يشملون أصحاب مدين وأصحاب الأيكة،(9/59)
وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (44)
وأصحاب مدين سابقون على أصحاب الأيكة في التكذيب له، فخصوا في الذكر بسبقهم في التكذيب وإنما غير النظم في قوله:(9/59)
(وكُذِّب موسى) فجاء بالفعل مبنياً للمفعول، ولم يقل وقوم موسى لأن قوم موسى لم يكذبوه، وإنما كذبه غيرهم من القبط (فأمليت للكافرين) أي أخرت عنهم العقوبة وأمهلتهم، والفاء لترتيب الإمهال على التكذيب وفيه وضع الظاهر موضع الضمر زيادة في التشنيع عليهم، والنداء عليهم بصفة الكفر.
(ثم أخذتهم) أي أخذت كل فريق من المكذبين السبعة بالعذاب بعد انقضاء مدة الإمهال (فكيف كان نكير) هذا الاستفهام للتقرير أي فانظر كيف كان إنكاري وتغييري ما كانوا فيه من النعم، وحمل الاستفهام على التعجب أوضح قال أبو حيان: ويصحب هذا الاستفهام معنى التعجب، فكأنه قيل ما أشد ما كان إنكاري عليهم والنكير اسم من المنكر ومصدر بمعنى الإنكار.
قال الزجاج: أي ثم أخذتهم فأنكرت أبلغ إنكار، قال الجوهري: النكير والإنكار تغيير المنكر، فالمراد بالإنكار التغيير للضد بالضد، كالحياة بالموت، والعمارة بالخراب وليس بمعنى الإنكار اللساني والقلبي وأثبت ياء نكير حيث وقع في القرآن ورش في الوصل، وحذفها في الوقف، والباقون يحذفونها وصلاً ووقفاً، ثم ذكر سبحانه كيف عذب أهل القرى المكذبة فقال:(9/60)
فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (45)
(فكأين من قرية أهلكناها) أي أهلها وقد تقدم الكلام على هذا التركيب في آل عمران (وهي ظالمة) المراد بنسبة الظلم إليها نسبته إلى أهلها، أي وأهلها ظالمون (فهي خاوية) الخوي بمعنى السقوط، أي فهي ساقطة (على عروشها) أي سقوفها، وذلك بسبب تعطل سكانها حتى تهدمت فسقطت حيطانها فوق سقوفها، وإسناد السقوط على العروش إليها(9/60)
لتنزيل الحيطان منزلة كل البنيان لكونها عمدة فيه، وقد تقدم تفسير هذه الآية في البقرة. قال قتادة: " خربة ليس فيها أحد ".
(وبئر) أي ومن أهل بئر (معطلة) هكذا قال الزجاج، يقال بأرت الأرض أي حفرتها، ومنه التأبير وهو شق كيزان طلع الإناث وذر طلع المذكور فيه، والبئر فعل بمعنى مفعول، وهي مؤنثة وقد تذكر على معنى القليب، والمراد بالمعطلة المتروكة. وقيل الخالية عن أهلها لهلاكهم؛ وقيل الغائرة، وقيل معطلة من الدلاء والأرشية. قال قتادة: عطلها أهلها وتركوها. وقال ابن عباس: التي تركت لا أهل لها.
(وقصر مشيد) هو المرفوع البنيان كذا قال قتادة والضحاك. وعن قتادة أيضاً: شيّدوه وحصّنوه فهلكوا وتركوه، وقال سعيد بن جبير وعطاء وعكرمة ومجاهد وابن عباس: المراد بالمشيد المجصص مأخوذ من الشيد وهو الجص، وقيل المشيد الحصين، قاله الكلبي.
وقال الجوهري: المشيد المعمول بالشيد، والشيد بالكسر كل شيء طليت به الحائط من جص أو بلاط وبالفتح المصدر، تقول شاده يشيده جصصه والمشيد بالتشديد المطول. قال الكسائي للواحد من قوله تعالى: (في بروج مشيدة) وإنما بني هنا من شاده، وفي النساء من شيَّده لأنه هنا وقع بعد جمع فناسب التكثير، وهنا وقع بعد مفرد فناسب التخفيف، ولأنه رأس آية وفاصلة. والمعنى وكم من قصر مشيد معطل مثل البئر المعطلة، ومعنى التعطيل في القصر هو أنه معطل من أهل أو من آلاته أو نحو ذلك.
قال القرطبي في تفسيره: ويقال أن هذه البئر والقصر بحضرموت معروفان، فالقصر مشرف على قلة جبل (1) لا يرتقي إليه بحال، والبئر في سفحه لا تقر الريح شيئاً سقط فيها إلا أخرجته. وحكى الثعلبي وغيره أن
_________
(1) قُلة جبل بضم القاف أعلى الجبل.(9/61)
البئر كان بعدن من اليمن في بلد الحضر، وأصحاب القصر الحضر وأصحاب البئر ملوك البدو.
وحكى الثعلبي وغيره أيضاً أن البئر كان بعدن من اليمن في بلد يقال له حضور أنزل بها أربعة آلاف ممن آمن بصالح ونجوا من العذاب ومعهم صالح، فمات صالح فسمّي المكان حضرموت، لأن صالحاً لما حضره مات فبنوا حضوراً؛ وقعدوا على هذه البئر وامّروا عليهم رجلاً منهم، فأقاموا دهراً وتناسلوا حتى كثروا وعبدوا الأصنام وكفروا، فأرسل الله إليهم نبياً يقال له حنظلة بن صفوان وكان حمالاً فيهم فقتلوه في السوق، فأهلكهم الله وعطلت بئرهم وخربت قصورهم ثم ذكر قصة طويلة.
وقال بعد ذلك: وأما القصر المشيد فقصر بناه شداد بن عاد بن إرم لم يبن في الأرض مثله فيما ذكروا وزعموا، وحاله أيضاً كحال هذه البئر المذكورة في إيحاشه بعد الإنس وإقفاره بعد العمران وأن أحداً لا يستطيع أن يدنو منه على أميال لما يسمع فيه من عزيف الجن والأصوات المنكرة بعد النعيم والعيش الرغد وبهاء الملك وانتظام الأهل كالسلك، فبادوا وما عادوا، فذكرهم الله سبحانه في هذه الآية موعظة وعبرة.
قال: وقيل إنهم الذين أهلكهم بختنصر على ما تقدم في سورة الأنبياء في قوله: (وكم قصمنا من قرية)، فتعطلت بئرهم وخرت قصورهم. إهـ.
وقال النسفي: والأظهر أن البئر والقصر على العموم. ثم أنكر الله سبحانه على أهل مكة عدم اعتبارهم بهذه الآثار قائلاً:(9/62)
أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46)
(أفلم يسيروا في الأرض) حثاً لهم على السفر ليروا مصارع تلك الأمم فيعتبروا، ويحتمل أن يكونوا قد سافروا ولم يعتبروا، فلهذا أنكر عليهم كما في قوله: (وإنكم لتمرون عليهم مصبحين وبالليل أفلا تعقلون)؛ وعلى هذا(9/62)
فالاستفهامٍ ليس على حقيقته (فتكون لهم قلوب) تفريع على المنفي فهو منفي أيضاً.
(يعقلون بها) ما يجب أن يعقل من التوحيد ونحوه، والعقل هنا بمعنى العلم، والمعنى أنهم بسبب ما شاهدوا من العبر تكون لهم قلوب يعقلون بها ما يجب أن يتعقلوه؛ وأسند التعقل إلى القلوب لأنها محل العقل كما أن الآذان محل السمع وقيل إن العقل محله الدماغ، ولا مانع من ذلك فإن القلب هو الذي يبعث على إدراك العقل وإن كان محله خارجاً عنه. وقد اختلف علماء العقول في محل العقل وماهيته اختلافاً كثيراً لا حاجة إلى التطويل بذكره.
(أو آذان يسمعون بها) ما يجب أن يسمعوه مما تلاه عليهم أنبياؤهم من كلام الله، وما نقله أهل الأخبار إليهم من أخبار الأمم المهلكة وما نزل بالمكذبين (فإنها لا تعمى الأبصار) قال الفراء: الهاء عماد، يجوز أن يقال فإنه وهي قراءة ابن مسعود والمعنى واحد، التذكير على الخبر والتأنيث على الأبصار، أو القصة أي فإن الأبصار لا تعمى، أو فإن القصة لا تعمى الأبصار، أي أبصار العيون (ولكن تعمى القلوب التي في الصدور) أي ليس الخلل في مشاعرهم، وإنما أصابت الآفة عقولهم باتباع الهوى والانهماك في التقليد، أي لا تدرك عقولهم مواطن الحق ومواضع الاعتبار.
قال الفراء والزجاج: إن قوله التي في الصدور من التوكيد الذي تزيده العرب في الكلام، كقوله عشرة كاملة، ويقولون بأفواههم ويطير بجناحيه، ثم حكى سبحانه عن هؤلاء ما كانوا عليه من التكذيب والاستهزاء فقال:(9/63)
وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (47)
(ويستعجلونك) أي يطلبون عجلتك (بالعذاب) لأنهم كانوا منكرين لمجيئه أشد إنكار، فاستعجالهم له هو على طريقة الاستهزاء والسخرية، وكأنهم كانوا يقولون ذلك عند سماعهم لما يقوله الأنبياء عن الله(9/63)
سبحانه من الوعد منه عز وجل بوقوعه عليهم وحلوله بهم، ولهذا قال: (ولن يخلف الله وعده) قال الفراء: في هذه الآية وعيد لهم بالعذاب في الدنيا والآخرة. وذكر الزجاج وجهاً آخر فقال: أعلم أن الله لا يفوته شيء، وإن يوماً عنده وألف سنة في قدرته واحد، ولا فرق بين وقوع ما يستعجلون به من العذاب وتأخره في القدرة، إلا أن الله تفضل بالإمهال انتهى.
والمعنى والحال أنه لا يخلف وعداً أبداً، وقد سبق الوعد فلابد من مجيئه حتماً أو الجملة اعتراضية مبينة لما قبلها. قال المحلي: أنجزه يوم بدر، أي أنزل العذاب بهم في الدنيا فقتل منهم سبعون وأسر منهم سبعون.
(وإن يوماً) من أيام عذابهم (عند ربك) في الآخرة (كألف سنة مما تعدون) أي من سني الدنيا، والجملة مستأنفة مسوقة لبيان حالهم في الاستعجال وخطابهم في ذلك لبيان كمال حكمه لكون المدة القصيرة عنده كالمدة الطويلة عندهم كما في قوله: (إنهم يرونه بعيداً ونراه قريباً). قال الفراء: هذا وعيد لهم بامتداد عذابهم في الآخرة أي يوم من أيام عذابهم في الآخرة في الثقل والاستطالة كألف سنة. وقيل المعنى وإن يوماً من الخوف والشدة في الآخرة كألف سنة من سني الدنيا فيها خوف وشدة، وكذلك يوم النعيم قياساً، واقتصر في التشبيه على الألف لأن الألف منتهى العدد بلا تكرار.
وقرئ يعدون بالتحتية لقوله ويستعجلونك، وبالفوقية على الخطاب، واختار الأولى أبو عبيدة والثانية أبو حاتم.
وعن ابن عباس قال: إن يوماً من الأيام الستة التي خلق الله فيها السماوات والأرض كألف سنة، وعن عكرمة قال: هو يوم القيامة، وعنه قال: الدنيا جمعة من جمع الآخرة سبعة آلاف سنة، وقد مضى منها ستة آلاف.(9/64)
وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ (48) قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (49) فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (50) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (51) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52)
وأخرج ابن عدي والديلمي عن أنس مرفوعاً نحوه، وتمام البحث في مدة الدنيا ماضيها وباقيها في كتابنا لقطة العجلان مما تمس إلى معرفته حاجة الإنسان:(9/65)
وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ (48)
(وكأين من قرية أمليت لها وهي ظالمة ثم أخذتها) أي أهلها، هذا إعلام منه سبحانه أنه أخذ قوماً بعد الاملاء والتأخير، قيل وتكرير هذا مع ذكره قبله للتأكيد وليس بتكرار في الحقيقة، لأن الأول سيق لبيان الإهلاك مناسباً لقوله: (فكيف كان نكير). والثاني سيق لبيان الإملاء مناسباً لقوله: (ولن يخلف الله وعده وإن يوماً عند ربك كألف سنة) فكأنه قيل: وكم من أهل قرية كانوا مثلكم ظالمين قد أمهلتهم حيناً ثم أخذتهم بالعذاب، والمرجع للكل إلى حكمي. (و) جملة (إليَّ المصير) تذييل لتقرير ما قبلها(9/65)
قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (49)
(قل يا أيها الناس إنما أنا لكم نذير مبين، فالذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة ورزق كريم) أمره سبحانه أن يخبر الناس بأنه نذير لهم بين يدي الساعة مبين لهم ما نزل إليهم،(9/65)
فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (50)
فمن آمن وعمل صالحاً فاز بالمغفرة وستر الذنوب، ومن كان على خلاف ذلك فهو في النار. والرزق الكريم الجنة، والكريم من كل نوع ما يجمع فضائله ويجوز كمالاته.(9/65)
وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (51)
(والذين سعوا في آياتنا) أي اجتهدوا في إبطالها حث قالوا القرآن شعر أو سحر أو أساطير الأولين.
(معاجزين) يقال عاجزه سابقه، لأن كل واحد منهما في طلب إعجاز(9/65)
الآخر فإذا سبقه قيل أعجزه وعجزه، قاله الأخفش. وقيل معناه ظانين ومقدرين أن يعجز الله سبحانه ويفوتوه فلا يعذبهم، قاله الزجاج. وقيل معاندين قاله الفراء وقال ابن عباس: مراغمين ومشاقين.
(أولئك أصحاب الجحيم) أي النار الموقدة(9/66)
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52)
(وما أرسلنا من قبلك) من لابتداء الغاية، وهذا شروع في تسلية ثانية لرسول الله صلى الله عليه وسلم بعد التسلية الأولى.
(من رسول ولا نبي) من زائدة لتأكيد النفي، وفيه دليل بين على ثبوت التغاير بين الرسول والنبي.
وسئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الأنبياء فقال: " مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً، فقيل فكم الرسل منهم؟ فقال: ثلثمائة وثلاثة عشر " (1)، والفرق بينهما أن الرسول الذي أرسل إلى الخلق بإرسال جبريل إليه عياناً ومحاورته شفاهاً، والنبي الذي يكون وحيه إلهاماً أو مناماً.
وقيل الرسول من بعث بشرع وأمر بتبليغه، والنبي من أمر أن يدعو إلى شريعة من قبله ولم ينزل عليه كتاب ولا بد لهما جميعاً من المعجزة الظاهرة، وقرأ ابن مسعود ولا نبي ولا محدث، وعن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف مثله، وزاد فنسخت محدث، قال: والمحدثون صاحب يس ولقمان ومؤمن آل فرعون وصاحب موسى.
(إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته) معنى تمنى تشهى وهيأ في نفسه ما يهواه، قال الواحدي، قال المفسرون: معنى تمنى تلا، قال جماعة المفسرين، في سبب نزول هذه الآية: أنه صلى الله عليه وسلم لما شق عليه إعراض قومه عنه تمنى في نفسه أن لا ينزل عليه شيء ينفرهم عنه لحرصه على إيمانهم، فكان ذات يوم جالساً في ناد من أنديتهم، وقد نزل عليه سورة
_________
(1) الإمام أحمد 5/ 266.(9/66)
(والنجم إذا هوى) فأخذها يقرأها عليهم حتى بلغ قوله: أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى. وكان ذلك التمني في نفسه، فجرى على لسانه مما ألقاه الشيطان عليه: تلك الغرانيق (1) العلى، وإن شفاعتهن لترتجى، فلما سمعت قريش ذلك فرحوا، ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في قراءته حتى ختم السورة، فلما سجد في آخرها سجد معه جميع من في النادي من المسلمين والمشركين فتفرقت قريش مسرورين بذلك وقالوا قد ذكر محمد آلهتنا بأحسن الذكر، فأتاه جبريل فقال ما صنعت؟ تلوت على الناس ما لم آتك به عن الله، فحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم وخاف خوفاً شديداً فأنزل الله هذه الآية، هكذا قالوا.
ولم يصح شيء من هذا ولا ثبت بوجه من الوجوه؛ ومع عدم صحته بل بطلانه فقد دفعه المحققون بكتاب الله سبحانه، حيث قال الله تعالى: (ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين، ثم لقطعنا منه الوتين)، وقوله: (وما ينطق عن الهوى).
وقوله: (ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم) فنفى المقاربة للركون فضلاً عن الركون.
قال البزار: هذا حديث لا نعلمه يروى عن النبي (- صلى الله عليه وسلم -) بإسناد متصل.
_________
(1) هذه الرواية أدخلها على الإسلام يهودي تجلى الغموض عنه وإن وثقه بعض الناس؛ فإن هذه الرواية تشجب هذا التوثيق وتحجبه؛ ذلك أن ابن سعد في الطبقات يرويها عن رجل يدعى عبد الله بن حنطب ليس له صحبة، والطبري يرويها عن محمد بن كعب القرظي، كان أبوه من سبي بني قريظة، وأن النبي صلى الله عليه وسلم أطلقه لأنه رآه دون البلوغ، فتزوج وخلّف محمداً هذا وقد ولد بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم.
ومن هنا ندرك أن هذه الرواية لم يجرؤ واحد على إسنادها لأحد الصحابة رضوان الله عليهم، وربما تكون قد دست من طريق بني قريظة وكان إرسالهم إياها عن طريق ابن حنطب وابن كعب. ويأتي بعد هذا ابن السائب الكلبي والواقدي فيرويانها عن ابن عباس؛ وحسبك فهما كذابان بالإجماع.(9/67)
وقال البيهقي: هذه القصة غير ثابتة من جهة النقل، ثم أخذ يتكلم أن رواة هذه القصة مطعون فيهم.
وقال إمام الأئمة ابن خزيمة: إن هذه القصة من وضع الزنادقة، قال القاضي عياض في الشفاء: إن الأمة أجمعت -فيما طريقه البلاغ- أنه معصوم فيه من الأخبار عن شيء بخلاف ما هو عليه قصداً ولا عمداً ولا سهواً ولا غلطاً.
قال الرازي: هذه القصة باطلة موضوعة، لا يجوز القول بها، قال تعالى: (وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى) وقال تعالى: (سنقرئك فلا تنسى) ولا شك أن من جوز على الرسول تعظيم الأوثان فقد كفر، لأن من المعلوم بالضرورة أن أعظم سعيه كان في نفي الأوثان، ولو جوزنا ذلك لارتفع الأمان عن شرعه وجوزنا في كل واحد من الأحكام والشرائع أن يكون كذلك أي مما ألقاه الشيطان على لسانه، ويبطل قوله تعالى: (بلغ ما أنزل إليك من ربك، وإن لم تفعل فما بلغت رسالته) فإنه لا فرق عند العقل بين النقصان من الوحي وبين الزيادة فيه.
فبهذه الوجوه النقلية والعقلية عرفنا على سبيل الإجمال أن هذه القصة موضوعة انتهى ملخصاً، قال ابن كثير: قد ذكر كثير من المفسرين هاهنا قصة الغرانيق، وما كان من رجوع كثير من المهاجرين إلى أرض الحبشة ظناً منهم أن مشركي قريش قد أسلموا، ولكنها من طرق كلها مرسلة ولم أرها مسندة من وجه صحيح، والحاصل أن جميع الروايات في هذا الباب إما مرسلة أو منقطعة لا تقوم الحجة بشيء منها، وقد أسلفنا عن الحفاظ في هذا البحث ما فيه كفاية.
وفي الباب روايات من أحب الوقوف على جميعها فلينظرها في الدر المنثور للسيوطي، ولا يأتي التطويل بذكرها هنا بفائدة فقد عرّفناك أنها جميعها لا تقوم بها الحجة، لأنه لم يروها أحد من أهل الصحة، ولا أسندها ثقة بسند صحيح، أو سليم متصل، وإنما رواها المفسرون، والمؤرخون المولعون بكل(9/68)
غريب؛ الملفقون من الصحف كل صحيح وسقيم، وقد دل على ضعف هذه القصة اضطراب رواتها وانقطاع سندها واختلاف ألفاظها.
والذي جاء في الصحيح من حديث ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ والنجم فسجد فيها وسجد من كان معه غير أن شيخاً من قريش أخذ كفاً من حصى أو تراب فرفعه إلى جبهته، قال عبد الله: فلقد رأيته بعد قتل كافراً، أخرجه البخاري ومسلم (1).
وصح من حديث ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سجد بالنجم وسجد معه المسلمون والمشركون والجن والإنس رواه البخاري، فهذا الذي جاء في الصحيح لم يذكر فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر تلك الألفاظ ولا قرأها والذي ذكره الفسرون عن ابن عباس في هذه القصة فقد رواه عنه الكلبي وهو ضعيف جداً، بل متروك لا يعتمد عليه، وكذا أخرجه النحاس بسند آخر فيه الواقدي فهذا توهين هذه القصة.
وقد أجابوا عنه من حيث المعنى بوجوه أخرى يطول ذكرها بلا فائدة زائدة وقد استوفاها الخازن في تفسيره، والنسفي في المدارك ونبه الحافظ ابن حجر على ثبوت أصلها في الجملة، وقال إن ثلاثة أسانيد منها على شرط الصحيح لكنها مراسيل، وإذا تقرر لك بطلان ذلك عرفت أن معنى. تمنى قرأ وتلا كما قدمنا من حكاية الواحدي لذلك عن المفسرين.
قال البغوي: إن أكثر المفسرين قالوا معنى تمنى تلا، وقرأ كتاب الله ومعنى ألقى الشيطان في أمنيته أي في تلاوته وقراءته، قال ابن جرير: هذا القول أشبه بتأويل الكلام، ويؤيد هذا ما تقدم في تفسير قوله: (لا يعلمون الكتاب إلا أماني) وقيل معنى تمنى حدّث، ومعنى في أمنيته في حديثه، روي هذا عن ابن عباس، وقيل معنى تمنى قال، فحاصل معنى الآية أن الشيطان أوقع في مسامع المشركين ذلك من دون أن يتكلم به رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا جرى على لسانه فتكون هذه الآية تسلية لرسول الله (- صلى الله عليه وسلم -).
_________
(1) مسلم 576 - البخاري 588.(9/69)
أي لا يهولك ذلك ولا يحزنك فقد أصاب مثل هذا من قبلك من المرسلين والأنبياء وعلى تقدير أن معنى تمنى حدّث نفسه كما حكاه الفراء والكسائي فإنهما قالا: يقال تمنى إذا حدث نفسه، فالمعنى أنه إذا حدث نفسه بشيء تكلم به الشيطان وألقاه في مسامع الناس من دون أن يتكلم به رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا جرى على لسانه.
قال ابن عطية: لا خلاف أن القاء الشيطان إنما هو لألفاظ مسموعة وقعت بها الفتنة، قال القاضي عياض: وهذا أحسن الوجوه وهو الذي يظهر ترجيحه، وكذا استحسن ابن العربي هذا التأويل، وقال في أمنيته في تلاوته، وقد قيل في تأويل الآية: إن المراد بالغرانيق الملائكة ويرد بقوله الآتي: (فينسخ الله ما يلقي الشيطان) أي يبطله، وشفاعة الملائكة غير باطلة.
وقيل إن ذلك جرى على لسانه سهواً ونسياناً وهما مجوزان على الأنبياء، ويرد بأن السهو والنسيان فيما طريقه البلاغ غير جائز، كما هو مقرر في مواطنه، قال الضحاك: يعني بالتمني التلاوة، والقراءة فينسخ الله أي جبريل بأمر الله ما ألقى الشيطان على لسان النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال مجاهد: إذا تمنى أي تكلم وأمنيته كلامه، فأخبر تعالى في هذه الآية أن سنة الله في رسله إذا قالوا قولاً زاد الشيطان فيه من قبل نفسه فهذا نص في أن الشيطان زاد في قول النبي صلى الله عليه وسلم لا أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله لأنه معصوم، وقد شبق إلى ذلك الطبري مع جلالة قدره وسعة علمه وشدة ساعده في النظر فصوب هذا المعنى قاله الحافظ في الفتح؛ ثم لما سلاه سبحانه بهذه التسلية وأنها قد وقعت لمن قبله من الرسل والأنبياء بين سبحانه أنه يبطل ذلك ولا يثبته ولا يستحر تغرير الشيطان فقال:
(فينسخ الله ما يلقي الشيطان) أي يبطله ويجعله ذاهباً غير ثابت (ثم يحكم الله آياته) أي يثبتها (والله عليم حكيم) أي كثير العلم والحكمة في كل أقواله وأفعاله.(9/70)
لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (53) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (54) وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (55)(9/71)
لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (53)
(ليجعل ما يلقى الشيطان فتنة) تعليل أي ذلك الإلقاء الذي يلقيه الشيطان ضلالة ومحنة وبلية (للذين في قلوبهم مرض) أي شكل ونفاق (والقاسية قلوبهم) هم المشركون فإن قلوبهم لا تلين للحق أبداً ولا ترجع إلى الصواب بحال ثم سجل سبحانه على هاتين الطائفتين بأنهم ظالمون فقال:
(وإن الظالمين لفي شقاق بعيد) أي عداوة شديدة ووصف الشقاق بالبعد مبالغة والموصوف به حقيقة من قام به ولما بين سبحانه أن ذلك الإلقاء كان فتنة في حق أهل النفاق والشك والشرك بين أنه في حق المؤمنين العالمين بالله العارفين به سبب لحصول العلم لهم بأن القرآن حق وصدق، فقال:(9/71)
وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (54)
(وليعلم الذين أوتوا العلم) أي التوحيد والقرآن والتصديق بنسخ الله ما يشاء (أنه الحق من ربك) أي: الحق النازل من عنده، وقيل الضمير في (أنه) راجع إلى تمكين الشيطان من الإلقاء لأنه مما جرت به عادته مع أنبيائه؛ ولكنه يرد هذا قوله: (فيؤمنوا به) فإن المراد الإيمان بالقرآن أي يثبتوا على الإيمان به.
(فتخبت له قلوبهم) أي تخشع وتسكن وتنقاد، فإن الإيمان به وإخبات القلوب له لا يمكن أن يكونا لتمكين من الشيطان بل للقرآن (وإن(9/71)
الله لهادي الذين آمنوا) في أمور دينهم (إلى صراط مستقيم) أي طريق صحيح قويم، لا عوج به وقرئ لهادٍ بالتنوين.(9/72)
وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (55)
(ولا يزال الذين كفروا في مرية منه) أي في شك من القرآن؛ وقيل من الدين الذي يدل عليه ذكر الصراط المستقيم، وقيل من الرسول وقيل من إلقاء الشيطان فيقولون ما باله ذكر الأصنام بخير، ثم رجع عن ذلك؛ وقرئ مُرية بضم الميم، وهما لغتان مشهورتان، وظاهر كلام أبي البقاء أنهما قراءتان، قال السمين: ولا أحفظ الضم هنا.
(حتى تأتيهم الساعة) أي القيامة أو الموت (بغتة) أي فجأة (أو يأتيهم عذاب يوم عقيم) وهو يوم القيامة لأنه لا يوم بعده فكان بهذا الاعتبار عقيماً وهو في اللغة من لا يكون له ولد، ولما كانت الأيام تتوالى جعل ذلك كهيئة الولادة، ولما لم يكن بعد ذلك اليوم يوم وصف بالعقم، وقيل يوم حرب يقتلون فيه كيوم بدر، قاله ابن عباس، وعن أبيّ بن كعب نحوه، وعن سعيد بن جبير وعكرمة مثله.
وعن مجاهد قال: يوم القيامة لا ليلة له، وعن الضحاك وسعيد مثله أيضاً؛ وقيل إن اليوم وصف بالعقم لأنه لا رأفة فيه ولا رحمة فكأنه عقيم من الخير، ومنه قوله تعالى: (فأرسلنا عليهم الريح العقيم) أي التي لا خير فيها ولا تأتي بمطر وفيه استعارة بالكناية بأنه شبه اليوم المنفرد عن سائر الأيام، والزمان الذي لا خير فيه بالنساء العقم تشبيهاً مضمراً في النفس، وإثبات العقم تخييل؛ فإن الأيام بعضها نتائج لبعض، فكل يوم يلد مثله.(9/72)
الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (56) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (57) وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (58) لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ (59)(9/73)
الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (56)
(الملك يومئذ) أي السلطان الظاهر والاستيلاء التام يوم القيامة والتنوين عوض عن الجملة أي يوم يؤمنون أو يوم تزول مريتهم (لله) سبحانه وحده لا منازع له فيه ولا مدافع له عنه (يحكم) أي يفصل (بينهم) مستأنفة أو هي حالية، ثم فسر هذا الحكم بقوله:
(فالذين آمنوا وعملوا الصالحات) كائنون (في جنات النعيم) مستقرون في أرضها منغمسون في نعيمها فضلاً من الله(9/73)
وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (57)
(والذين كفروا وكذبوا بآياتنا) أي جمعوا بين الكفر بالله والتكذيب بآياته (فأولئك لهم عذاب) متصف بأنه (مُهين) للمعذّبين بالغ منهم المبلغ العظيم بسبب كفرهم.(9/73)
وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (58)
(والذين هاجروا في سبيل الله) أفرد سبحانه المهاجرين بالذكر تخصيصاً لهم بمزيد الشرف وتفخيماً لشأنهم، قال بعض المفسرين: هم الذين هاجروا من مكة إلى المدينة، وقال بعضهم: الذين هاجروا من الأوطان في سرية أو عسكر ولا يبعد حمل ذلك على الأمرين، والكل في سبيل الله وطاعته.
(ثم قتلوا) وقرئ مشدداً على التكثير (أو ماتوا) في حال المهاجرة (ليرزقنهم الله) جواب قسم محذوف (رزقاً) أي مرزوقاً (حسناً) أو مصدر مؤكد وفيه دليل على وقوع الجملة القسمية خبراً للمبتدأ ومن يمنعه، فقوله مرجوح والرزق الحسن هو نعيم الجنة الذي لا ينقطع، وقيل هو الغنيمة(9/73)
لأنه حلال، وقيل هو العلم والفهم كقول شعيب: ورزقني منه رزقاً حسناً، والتسوية في الوعد بالرزق لا يدل على تفضيل في قدر المعطي ولا تسوية، فإن يكن تفضيل فمن دليل آخر، والمقرر في كتب الفروع أن المقتول أفضل لأنه شهيد.
وقد أخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه، عن سلمان الفارسي أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " من مات مرابطاً أجرى الله عليه مثل ذلك الأجر وأجرى عليه الرزق وأمن من الفتانين، اقرأوا إن شئتم والذين هاجروا -إلى قوله- حليم ".
قلت: ويؤيد. هذا قوله سبحانه: (ومن يخرج من بيته مهاجراً إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله).
(وإن الله لهو خير الرازقين) أي أفضلهم فإنه سبحانه يرزق بغير حساب بمحض الإحسان، وكل رزق يجري على يد العباد بعضهم لبعض فهو منه سبحانه لا رازق سواه ولا معطي غيره، والجملة تذييل مقررة لما قبلها.
ولما ذكر الرزق أعقبه بذكر المسكن بقوله:(9/74)
لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ (59)
(ليدخلنهم مدخلاً يرضونه) مستأنفة أو بدل من جملة ليرزقنهم الله، قرئ مُدخلاً بفتح الميم وبضمها وهو اسم مكان أريد به الجنة أو مصدر ميمي مؤكد للفعل المذكور، وقد مضى الكلام على مثل هذا في سورة سبحان، وفي هذا من الامتنان عليهم والتبشير لهم ما لا يقادر قدره، فإن المدخل الذي يرضونه هو الأوفق لنفوسهم والأقرب إلى مطلبهم على أنهم يرون في الجنة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وذلك هو الذي يرضونه وفوق الرضا.
(وإن الله لعليم) بدرجات العاملين ومراتب استحقاقهم. وقيل بأحوال من قضى نحبه مجاهداً، وآمال من مات وهو ينتظر معاهداً (حليم) عن تفريط المفرطين منهم بإمهال من قاتلهم معانداً لا يعاجلهم بالعقوبة.(9/74)
ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (60) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (61) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (62) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (63) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (64)(9/75)
ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (60)
(ذلك) أي ما تقدم أو الأمر ذلك وما بعده مستأنف. وقال الزجاج: أي الأمر ما قصصنا عليكم من إنجاز الوعد للمهاجرين خاصة إذا قُتلوا أو ماتوا، فهو على هذا خبر مبتدأ محذوف.
(ومن عاقب بمثل ما عوقب به) أي من جازى الظالم بمثل ما ظلمه، والعقاب مأخوذ من التعاقب وهو مجيء الشيء بعد غيره، وحينئذ يسمى الابتداء عقاباً باسم الجزاء مشاكلة كقوله: (وجزاء سيئة سيئة مثلها) وقوله: (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم)، أو من قبيل تسمية السبب باسم المسبب، والعقوبة في الأصل إنما تكون بعد فعل تكون جزاء عنه؛ والمراد بالمثلية أنه اقتصر على المقدار الذي ظلم به ولم يزد عليه.
عن ابن جريج قال: تعاون المشركون على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فأخرجوه فوعده الله أن ينصره، وهو في القصاص أيضاً (ثم بغى عليه) أي أن الظالم له في الابتداء عاوده بالمظلمة بعد تلك المظلمة الأولى.
وقيل المراد بهذا البغي هو ما وقع من المشركين من إزعاج المسلمين من أوطانهم بعد أن كذبوا نبيهم وآذوا من آمن به. وقيل المعنى ثم كان المجازي(9/75)
مبغياً عليه، أي مظلوماً، ومعنى (ثم) تفاوت الرتبة، لأن الابتداء بالقتال معه نوع ظلم، كما قيل في أمثال العرب: البادئ أظلم. وقيل إن هذه الآية مدنية، وهي في القصاص والجراحات.
(لينصرنّه الله) اللام جواب قسم محذوف، أي والله لينصرن الله المبغي عليه على الباغي (إنّ الله لعفوّ غفور) أي لكثير العفو والغفران للمؤمنين فيما وقع منهم من الذنوب أو القتال في الشهر الحرام وقيل العفو والغفران لما وقع من المؤمنين من ترجيح الانتقام على العفو.(9/76)
ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (61)
(ذلك بأن الله يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل) إشارة إلى ما تقدم من نصر الله سبحانه للمبغي عليه والباء للسببية، أي ذلك النصر بسبب أنه سبحانه قادر، ومن كمال قدرته إيلاج الليل في النهار والنهار في الليل. قاله الرازي. وقال البيضاوي: قادر على تقليب الأمور بعضها على بعض، جارية عادته على المداولة بين الأشياء المتعاندة، وعبر عن الزيادة بالإيلاج لأن زيادة أحدهما تستلزم نقصان الآخر.
وقيل يجعل ظلمة الليل مكان ضياء النهار، وذلك بغيبوبة الشمس، ويجعل ضياء النهار مكان ظلمة الليل بطلوع الشمس، فالمراد تحصيل أحد العرضين في محل الآخر، وقد مضى في آل عمران معنى هذا الإيلاج.
(وإن الله سميع) يسمع كل مسموع لا يشغله سمع عن سمع (بصير) يبصر كل مبصر، أو سميع للأقوال وإن اختلفت في النهار الأصوات بفنون اللغات، بصير بما يفعلون لا يستتر عنه شيء بشيء في الليالي وإن توالت الظلمات فلا يعزب عنه مثقال ذرة(9/76)
ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (62)
(ذلك) إشارة إلى ما تقدم من اتصافه سبحانه بكمال القدرة الباهرة والعلم التام (بأن الله هو الحق) أي هو سبحانه ذو الحق فدينه حق وعبادته حق ونصره لأوليائه على أعدائه حق ووعده حق، فهو عز وجل في نفسه وأفعاله وصفاته كلها حق.
(وأن ما يدعون من دونه الباطل) قرئ بالفوقية على الخطاب(9/76)
للمشركين وبالتحتية على الخبر وهما سبعيتان، والمعنى أن الذي يدعونه إلهاً وهي الأصنام هو الباطل الذي لا ثبوت له ولا لكونه إلهاً، أي المعدوم في حد ذاته والباطل ألوهيته، والباطل الزائل.
وقال مجاهد: الباطل هنا الشيطان (وأن الله هو العلي) أي العالي على كل شيء بقدرته وذاته، المتقدس عن الأشباه والانداد المتصف بصفات الكمال المتنزه عما يقوله الظالمون والمعطلون (الكبير) أي ذو الكبرياء الذي يصغر كل شيء سواه، هو عبارة عن كمال ذاته وعظيم قدرته وسلطانه وتفرده بالإقية، ثم ذكر سبحانه دليلاً بيناً على كمال قدرته فقال:(9/77)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (63)
(ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء) الاستفهام للتقرير كما قاله الخليل وسيبويه، قال الخليل: المعنى الم تعلم أنه أنزل من السماء مطراً فكان كذا وكذا، ذكر هنا ستة أشياء أولها إنزال الماء الناشئ منه اخضرار الأرض كما قال: (فتصبح الأرض مخضرة) قال الفراء: أي ذات خضرة كما تقول مبقلة ومسبعة، أي ذات بقل وسباع وهو عبارة عن استعجالها إثر نزول الماء بالنبات واستمرارها كذلك عادة. وصيغة الاستقبال لاستحضار صورة الاخضرار مع الإشعار بتجدد الإنزال واستمراره. وهذا المعنى لا يحصل إلا بالمستقبل، والرفع هنا متعين لأنه لو نصب لانعكس المعنى المقصود من الآية فينقلب إلى نفي الاخضرار، والمقصود إثباته.
قال ابن عطية: هذا لا يكون بعد الاخضرار في صباح ليلة المطر إلا بمكة وتهامة، والظاهر أن المراد بالاخضرار اخضرار الأرض في نفسها، لا باعتبار النبات فيها، كما في قوله: (فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت)، والمراد بقوله: (إن الله لطيف) أي يصل علمه إلى كل دقيق وجليل، وقيل لطيف بأرزاق عباده، وقيل باستخراج النبات.
(خبير) أي أنه ذو خبرة بتدبير عباده وما يصلح لهم، وقيل خبير بما
ينطوون عليه من القنوط عند تأخير المطر. وقيل خبير بحاجتهم وفاقتهم.(9/77)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (65) وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ (66) لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ (67) وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (68) اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (69)
والثاني قوله:(9/78)
لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (64)
(له ما في السماوات وما في الأرض) خلقاً وملكاً وتصرفاً وعبيداً، وكلهم محتاجون إلى رزقه (وإن الله لهو الغني) فلا يحتاج إلى شيء (الحميد) أي المستوجب للحمد في كل حال.(9/78)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (65)
(ألم تر أن الله سخر لكم ما في الأرض) هذه نعمة أخرى ثالثة ذكرها الله سبحانه فأخبر عباده بأنه سخر لهم وذلل ما يحتاجون إليه من الدواب والشجر والأنهار والحجر. والحديد والنار لما يراد منها، والحيوان للأكل والركوب والحمل عليه والنظر إليه وجعله لمنافعهم (و) سخر لكم (الفلك) أي السفن في حال جريها.
(تجري في البحر بأمره) أي بتقديره وإذنه، فلولا أن الله سخرها لكانت تغوص أو تقف، وهذه نعمة رابعة. والنعمة الخامسة قوله: (ويمسك السماء) كراهة (أن تقع على الأرض) وذلك بأنه خلقها على صفة مستلزمة للإمساك لأن النعم المتقدمة لا تكمل إلا به، والسماء جرم ثقيل، وما كان كذلك لا بد له من السقوط لولا مانع يمنع منه، وهو القدرة، فأمسكها الله بقدرته لئلا تسقط فتبطل النعم التي امتن بها علينا.
(إلا بإذنه)، أي بإرادته ومشيئته، وذلك يوم القيامة، والظاهر أنه استثناء مفرغ من أعم الأحوال وهو لا يقع في الكلام الموجب إلا أن قوله:(9/78)
(ويمسك السماء أن تقع على الأرض) في قوة النفي، أي لا يتركها تقع في حالة من الأحوال إلا في حالة كونها ملتبسة بمشيئته تعالى فالباء للملابسة.
(إن الله بالناس لرءوف رحيم) أي كثير الرأفة والرحمة حيث سخر هذه الأمور لعباده، وهيأ لهم أسباب المعاش، وأمسك السماء أن تقع على الأرض فتهلكهم، تفضلاً منه على عباده وإنعاماً عليهم، ثم ذكر سبحانه نعمة أخرى سادسة فقال:(9/79)
وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ (66)
(وهو الذي أحياكم) بعد إن كنتم جماداً، بل لم تكونوا شيئاً (ثم يميتكم) عند انقضاء أعماركم (ثم يحييكم) عند البعث للحساب والعقاب (إن الإنسان لكفور) أي لكثير الجحود لنعم الله عليه مع كونها ظاهرة غير مستترة ولا ينافي هذا خروج بعض الأفراد عن هذا الجحد، لأن المراد وصف جميع الجنس بوصف من يوجد فيه ذلك من أفراده مبالغة وعن الحسن في قوله (كفور)، قال: يعد المصيبات وينسى النعم. ثم عاد سبحانه إلى بيان أمر التكاليف مع الزجر لمعاصري رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من أهل الأديان عن منازعته فقال:(9/79)
لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ (67)
(لكل أمة جعلنا منسكاً) أي لكل قرن من القرون الماضية والباقية وضعنا شريعة خاصة بحيث لا تتخطى أمة منهم شريعتها المعينة لها إلى شريعة أخرى؛ لا استقلالاً ولا اشتراكاً. وقيل عيداً. وقيل موضع قربان يذبحون فيه. وقيل موضع عبادة.
(هم ناسكوه) الضمير لكل أمة، أي تلك الأمة هي العاملة به لا غيرها، فكانت التوراة منسك الأمة التي كانت من مبعث موسى إلى مبعث عيسى، والإنجيل منسك الأمة التي كانت من مبعث عيسى إلى مبعث محمد صلى الله عليه وسلم؛ والقرآن منسك المسلمين إلى يوم القيامة، والمنسك مصدر لا اسم مكان كما يدل عليه هم ناسكوه، ولم يقل ناسكون فيه. وقيل هو الذبائح ولا وجه للتخصيص ولا اعتبار بخصوص السبب.
(فلا ينازعنك في الأمر) الفاء لترتيب النهي على ما قبله والضمير(9/79)
راجع إلى الأمم الباقية آثارهم. يعني قد عينا لكل أمة شريعة، ومن جملة الأمم هذه الأمة المحمدية وذلك موجب لعدم منازعة من بقي منهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم ومستلزم لطاعتهم إياه في أمر الدين، والنهي إما على حقيقته أو كناية عن نهيه عن الالتفات إلى نزاعهم له.
قال الزجاج: إنه نهي له صلى الله عليه وسلم عن منازعتهم، أي لا تنازعهم أنت كما تقول لا يخاصمك فلان، أي لا تخاصمه، وكما تقول لا يضاربنك فلان، أي لا تضاربه، وذلك أن المفاعلة تقتضي العكس ضمناً ولا يجوز لا يضربنك فلان وأنت تريد لا تضربه.
وحكي عن الزجاج أنه قال في معنى الآية: فلا ينازعنك، أي فلا يجادلنك؛ قال ودل على هذا وإن جادلوك. وقرئ فلا ينزعنك في الأمر أي لا يستخفنك ولا يغلبنك عن دينك. وقرأ الجمهور فلا ينازعنك من المنازعة كما تقدم.
وقال ابن عباس: هم ناسكوه أي ذابحوه فلا ينازعنك في الأمر أي في الذبح، وعن عكرمة ومجاهد نحوه، وعن مجاهد قال: قول أهل الشرك، أما ما ذبح الله بيمينه فلا تأكلوه، وأما ما ذبحتم بأيديكم فهو حلال.
(وادع) هؤلاء المنازعين أو ادع الناس على العموم (إلى) دين (ربك) وتوحيده والإيمان به (إنك لعلى هدى) أي طريق (مستقيم) لا اعوجاج فيه(9/80)
وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (68)
(وإن جادلوك) أي وأن أبوا إلا الجدال بعد البيان لهم وظهور الحجة عليهم.
(فقل الله أعلم بما تعملون) فكل أمرهم إلى الله، وقل لهم هذا القول المشتمل على الوعيد(9/80)
اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (69)
(الله يحكم بينكم) أي بين المسلمين والكافرين (يوم القيامة فيما كنتم فيه تختلفون) من أمر الدين فيتبين حينئذ الحق من الباطل، وفي هذه الآية تعليم لهذه الأمة بما ينبغي لهم أن يجيبوا به من أراد الجدال بالباطل.(9/80)
أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (70) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (71) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (72) يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73)
وقيل إنها منسوخة بآية السيف وهذا إنما يصح إذا كان المراد من قوله: (وإن جادلوك) الكف عن قتالهم وهو غير متعين؛ بل يصح أن يكون المعنى: فاترك جدالهم وفوض الأمر إلى الله فيكون هذا وعيداً لهم على أعمالهم، وهذا المعنى لا تنسخه آية السيف، بل هو باق بعد مشروعية القتال لعدم المنافاة.(9/81)
أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (70)
(ألم تعلم)؟ مستأنفة مقررة لمضمون ما قبلها، والاستفهام للتقرير أي قد علمت يا محمد وتيقنت (أن الله يعلم ما في السماء والأرض) ومن جملة ذلك ما أنتم عليه من الاختلاف (إن ذلك) الذي في السماء والأرض من معلوماته (في كتاب) أي مكتوب عنده في أم الكتاب.
أخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس قال: خلق الله اللوح المحفوظ مسيرة مائة عام، وقال للقلم قبل أن يخلق الخلق وهو على عرشه: اكتب، قال: ما أكتب؟ قال: علمي في خلقي إلى يوم تقوم الساعة، فجرى القلم بما هو كائن في علم الله إلى يوم القيامة، فذلك قوله سبحانه(9/81)
للنبي صلى الله عليه وسلم: (ألم تعلم أن الله يعلم ما في السماء والأرض) يعني ما في السماوات السبع والأرضين السبع، إن ذلك العلم في كتاب، يعني في اللوح المحفوظ، مكتوب قبل أن يخلق السماوات والأرضين.
(إن ذلك) يعني إن الحكم منه سبحانه بين عباده فيما يختلفون فيه (على الله يسير) أي هين أو أن إحاطة علمه بما في السماء والأرض جملة وتفصيلاً يسير عليه، وأن تعذر على الخلق.(9/82)
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (71)
(ويعبدون من دون الله ما لم ينزل به سلطاناً) هذا حكاية لبعض فضائحهم أي أنهم يعبدون أصناماً: لم يتمسكوا في عبادتها بحجة نيرة من الله سبحانه فهو نفي للدليل السمعي (وما ليس لهم به علم) من دليل عقلي يدل على جواز ذلك بوجه من الوجوه (وما للظالمين) بالإشراك (من نصير) ينصرهم ويدفع عنهم عذاب الله، وقد تقدم الكلام على هذه الآية في آل عمران.(9/82)
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (72)
(وإذا تتلى عليهم آياتنا) من القرآن (بينات) أي حال كونها واضحات ظاهرات الدلالة (تعرف في وجوه الذين كفروا المنكر) أي الأمر الذي ينكر وهو غضبهم وعبوسهم عند سماعها أو المراد بالمنكر الإنكار أي تعرف في وجوههم إنكارها والمنكر مصدر، وقيل هو التجبر والترفع وهذا من إيقاع الظاهر موقع المضمر للشهادة عليهم بوصف الكفر.
(يكادون يسطون) السطو: الوثب والبطش، والسطوة شدة البطش، يقال سطا به يسطو إذا بطش به بضرب أو شتم أو أخذ باليد، وأصل السطو: القهر، وقال ابن عباس: أي يبطشون (بالذين يتلون عليهم آياتنا) هم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله تعالى عنهم، والجملة مستأنفة؛ كأنه قيل ما ذلك المنكر الذي يعرف في وجوههم؟(9/82)
فقيل: يكادون يسطون، وهكذا ترى أهل البدع المضلة إذا سمع الواحد منهم ما يتلوه العالم عليهم من آيات الكتاب العزيز أو من السنة الصحيحة، مخالفاً لما اعتقده من الباطل والضلالة رأيت في وجهه من المنكر ما لو تمكن من أن يسطو بذلك العالم لفعل به ما لا يفعله بالمشركين.
وقد رأينا وسمعنا من ذلك من أهل البدع ما لا يحيط به الوصف والله ناصر الحق ومظهر الدين، ومدحض الباطل، ودامغ البدع وحافظ المتكلمين بما أخذه عليهم المبينين للناس ما نزل إليهم وهو حسبنا ونعم الوكيل؛ ثم أمر رسوله أن يرد عليهم فقال:
(قل أفأنبئكم) أي أخبركم (بشر من ذلكم) الذي فيكم من الغيظ على من يتلو عليكم آيات الله ومقاربتكم للوثوب وهو (النار) التي (وعدها الله الذين كفروا) وقيل المعنى أفأخبركم بشر مما يلحق تالي القرآن منكم من الأذى والتوعد لهم والتوثب عليهم، وقرئ النار بالحركات الثلاث (وبئس المصير) أي الموضع الذي يصيرون إليه وهو النار.(9/83)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73)
(يا أيها الناس ضرب مثل) هذا متصل بقوله: (ويعبدون من دون الله)، وإنما قال ضرب مثل لأن حجج الله عليهم بضرب الأمثال لهم أقرب إلى أفهامهم، قال ابن عباس: نزلت في صنم، قال الأخفش: ليس ثَمَّ مثل وإنما المعنى ضربوا لي مثلاً؛ قال النحاس: المعنى ضرب الله عز وجل لما يعبدونه من دونه مثلاً، قال: وهذا من أحسن ما قيل فيه أي بين الله لكم شبهاً ولمعبودكم، وقال القتيبي: معنى ضرب مثل أي عبدت آلهة لم تستطع أن تخلق ذباباً، وأصل المثل جملة من الكلام متلقاة بالرضاء والقبول مسيرة في الناس مستغربة عندهم وجعلوا مضربها مثلاً لموردها، ثم قد يستعيرونها للقصة أو الحالة أو الصفة المستغربة لكونها مماثلة لها في الغرابة كهذه القصة المذكورة في هذه الآية.(9/83)
(فاستمعوا له) أي لضرب هذا المثل وتدبروه حق تدبره، فإن الاستماع بلا تدبر وتعقل لا ينفع، والمعنى أن الكفار جعلوا لله مثلاً لعبادتهم غيره فكأنه قال: جعلوا لي شبيهاً في عبادتي فاستمعوا خبر هذا الشبه، ثم بين حالها وصفتها فقال:
(إن الذين تدعون من دون الله) المراد بهم الأصنام التي كانت حول الكعبة وغيرها، وقيل المراد بهم السادة الذين صرفوهم عن طاعة الله، لكونهم أهل الحل والعقد فيهم؛ وقيل الشياطين الذين حملوهم على معصية الله، والأول أوفق بالمقام وأظهر في التمثيل.
(لن يخلقوا ذباباً) واحداً مع ضعفه وصغره وقلته وهو اسم للواحد يطلق على الذكر والأنثى وجمع القلة إذبة والكثرة ذبان بالكسر مثل غراب وأغربة وغربان وبالضم كقضبان.
وقال الجوهري: الذباب معروف، الواحد ذبابة، وسمي ذباباً لأنه كلما ذب لاستقذاره آب لاستكباره و (لن) لتأكيد النفي المستقبل وتأكيده هنا للدلالة على أن خلق الذباب منهم مستحيل، كأنه قال: محال أن يخلقوا.
وتخصيص الذباب لمهانته واستقذاره، والمعنى لن يقدروا على خلقه مع كونه صغير الجسم حقير الذات وهو أجهل الحيوانات، لأنه يرمي نفسه في المهلكات، ومدة عيشه أربعون يوماً، وأصل خلقته من العفونات ثم يتوالد بعضه من بعض يقع روثه على الشيء الأبيض فيرى أسود، وعلى الأسود فيرى أبيض.
(ولو اجتمعوا له) أي لخلق الذباب، والتقدير لن يخلقوه على كل حال، ولو في هذه الحالة المقتضية لجمعهم، فكأنه تعالى قال: إن هذه الأصنام إن اجتمعت لا تقدر على خلق ذبابة على ضعفها فكيف يليق بالعاقل(9/84)
جعلها معبوداً كما أشار إليه في التقرير، ثم بين سبحانه كمال عجزهم وضعف قدرتهم فقال:
(وإن يسلبهم الذباب شيئاً لا يستنقذوه منه) أي إذا أخذ واختطف منهم هذا الخلق الأقل الأرذل شيئاً من الأشياء بسرعة لا يقدرون على تخليصه منه؛ لكمال عزهم وفرط ضعفهم، والاستنقاذ والانقاذ التخليص، وإذا عجزوا عن خلق هذا الحيوان الضعيف، وعن استنقاذ ما أخذه منهم فهم عن غيره مما هو أكبر منه جرماً وأشد منه قوة وأعجز وأضعف، قال عكرمة: أي لا تستنقذ الأصنام ذلك الشيء، ثم عجب سبحانه من ضعف الأصنام والذباب فقال:
(ضعف الطالب والمطلوب) فالصنم كالطالب من حيث إنه يطلب خلق الذباب أو يطلب استنقاذ ما سلبه منه، والمطلوب الذباب وهذا كالتسوية بينهم وبين الذباب في الضعف ولو حققت وجدت الطالب أضعف فإن الذباب حيوان وهو جماد وهو غالب وذاك مغلوب، وقيل الطالب عابد الصنم والمطلوب الصنم قال ابن عباس: الطالب آلهتهم والمطلوب الذباب، ثم بين سبحانه أن المشركين الذين عبدوا من دون الله آلهة عاجزة إلى هذه الغاية في العجز ما عرفوا الله حق معرفته فقال:
(ما قدروا الله حق قدره) أي ما عظموه حق تعظيمه، ولا عرفوه حق معرفته حيث جعلوا هذه الأصنام شركاء له مع كون حالها هذا الحال، وقد(9/85)
مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (74) اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (75) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (76) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (77) وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78)
تقدم في الأنعام(9/86)
مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (74)
(إن الله لقوي) على خلق كل شيء (عزيز) غالب لا يغالبه أحد بخلاف آلهة المشركين، فإنها جماد لا يعقل ولا ينفع ولا يضر ولا يقدر على شيء، ثم أراد سبحانه أن يرد عليهم ما يعتقدونه في النبوات والإلهيات فقال:(9/86)
اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (75)
(الله يصطفي من الملائكة رسلاً) كجبريل وإسرافيل وميكائيل وعزرائيل (1) والحفظة (و) يصطفي أيضاً رسلاً (من الناس) وهم الأنبياء فيرسل الملك إلى النبي والنبي إلى الناس أو يرسل الملك بقبض أرواح مخلوقاته أو لتحصيل ما ينفعه أو لإنزال العذاب عليهم.
أخرج الحاكم وصححه عن عكرمة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله اصطفى موسى بالكلام وإبراهيم بالخلة " (2)؛ وأخرج عن
_________
(1) لعل المصنف يريد بعزرائيل ملك الموت، ولم يثبت من طريق صحيح تسمية ملك الموت عزرائيل- المطيعي.
(2) المستدرك كتاب التاريخ 2/ 575.(9/86)
أنس، وصححه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " موسى بن عمران صفي الله " (1) قال المحلي: نزل لما قال المشركون: (أأنزل عليه الذكر من بيننا) أي وليس بأكبرنا ولا أشرفنا، والقائل هو الوليد بن المغيرة، ووجه مناسبة هذه الآية لما قبلها أنه لما ذكر ما يتعلق بالإلهيات ذكر هاهنا ما يتعلق بالنبوءات، وقال الرازي: وجه المناسبة أنه لما أبطل فيما قبلها عبادة الأوثان أبطل هاهنا عبادة الملائكة.
(إن الله سميع) لأقوال عباده (بصير) بمن يختاره من خلقه
_________
(1) المستدرك كتاب التاريخ 2/ 576.(9/87)
يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (76)
(يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم) أي ما قدموا من الأعمال، وما يتركونه من الخير والشر، كقوله تعالى: (ونكتب ما قدموا وآثارهم) وقيل ما مضى ولم يأت وقيل ما عملوا وما سيعملونه أو أمر الدنيا وأمر الآخرة.
(وإلى الله) لا إلى غيره (ترجع الأمور) لما تضمن ما ذكره من أن الأمور ترجع إليه، الزجر لعباده عن معاصيه، والحض لهم على طاعاته، صرح بالمقصود فقال:(9/87)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (77)
(يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا) أي صلوا الصلاة التي شرعها الله لكم، لأن الصلاة لا تكون إلا بالركوع والسجود، وخص، الصلاة لكونها أشرف العبادات، ثم عمم فقال: (واعبدوا ربكم) أي افعلوا جميع أنواع العبادة التي أمركم الله بها، وقيل وحّدوه (وافعلوا الخير) أي ما هو خير وهو أعم من الطاعة الواجبة والمندوبة وقيل المراد بالخير هنا المندوبات ثم علل ذلك بقوله:
(لعلكم تفلحون) أي إذا فعلتم هذه كلها رجوتم الفلاح، وفي هذا إشارة إلى أن دخول الجنة ليس مرتباً على هذه الأعمال مثلاً، بل هذه الأمور كلفنا الله بها شرعاً، وأما قبولها فشيء آخر يتفضل الله به علينا، وهذه الآية(9/87)
من مواطن سجود التلاوة عند الشافعي ومن وافقه، لا عند أبي حنيفة ومن قال بقوله، وقد تقدم أن هذه السورة فضلت بسجدتين وهذا دليل على ثبوت السجود عند تلاوة هذه الآية.
وقد اختلف في عدة سجود التلاوة فذهب أكثر أهل العلم إلى أنها أربع عشرة سجدة، لكن الشافعي رحمه الله تعالى قال: في الحج سجدتان، وأسقط سجدة ص، وقال أبو حنفية: في الحج سجدة، وأثبت سجدة ص، وقيل خمس عشرة سجدة، وقال قوم: ليس في المفصل سجدة، فعلى هذا تكون إحدى عشرة سجدة، وسجود التلاوة سنة عند الشافعي؛ وواجب عند أبي حنيفة، ودلائل الأقوال مبسوطة في مواطنها، ثم أمرهم بما هو سنة الدين وأعظم أعماله فقال:(9/88)
وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78)
(وجاهدوا في الله) أي في ذاته من أجله، والمراد به الجهاد الأكبر وهو الغزو للكفار ومدافعتهم إذا غزوا بلاد المسلمين، وقيل المراد بالجهاد هنا امتثال ما أمرهم الله به في الآية المتقدمة، وامتثال جميع ما أمر به ونهى عنه على العموم.
ومعنى (حقَّ جهاده) المبالغة في الأمر بهذا الجهاد باستفراغ الطاقة لأنه أضاف الحق إلى الجهاد، والأصل إضافة الجهاد إلى الحق أي جهاداً خالصاً لله فعكس ذلك لقصد المبالغة وأضاف الجهاد إلى الضمير اتساعاً أو لاختصاصه به سبحانه من حيث كونه مفعولاً له، ومن أجله، وقيل المراد بحق جهاده هو أن لا يخافوا في الله لومة لائم، وقيل المراد به استفراغ ما في وسعهم في إحياء دين الله وقال مقاتل والكلبي: إن الآية منسوخة بقوله تعالى: (فاتقوا الله ما استطعتم) كما أن قوله: (اتقوا الله حق تقاته) منسوخ بذلك، ورد ذلك بأن التكليف مشروط بالقدرة فلا حاجة إلى المصير إلى النسخ.
عن عبد الرحمن بن عوف قال: قال لي عمر: ألسنا كنا نقرأ فيما نقرأ (وجاهدوا في الله حق جهاده) في آخر الزمان، كما جاهدتم في أوله؟ قلت بلى(9/88)
ومتى هذا يا أمير المؤمنين؟ قال: إذا كانت بنو أمية الأمراء وبنو المغيرة الوزراء.
وأخرج الترمذي وصححه وابن حبان عن فضالة بن عبيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " المجاهد من جاهد نفسه في طاعة الله " (1)، ثم عظم سبحانه شأن المكلفين بقوله: (هو اجتباكم) أي اختاركم لدينه وفيه تشريف لهم عظيم، ثم لما كان في التكليف مشقة على النفس في بعض الحالات قال:
(وما جعل عليكم في الدين من حرج) أي من ضيق وشدة، وقد اختلف العلماء في هذا الحرج الذي رفعه الله فقيل هو ما أحله الله من النساء مثنى وثلاث ورباع وملك اليمين، وقيل المراد قصر الصلاة والإفطار للمسافر والصلاة بالإيماء على من لا يقدر على غيره وإسقاط الجهاد عن الأعرج والأعمى والمريض وأكل الميتة عند الضرورة واغتفار الخطأ في تقديم الصيام وتأخيره لاختلاف الأهلة وكذا في الفطر والأضحى، وقيل المعنى أنه سبحانه ما جعل عليهم حرجاً بتكليف ما يشق عليهم، ولكن كلفهم بما يقدرون عليه، ورفع عنهم التكاليف التي فيها حرج فلم يتعبدهم بها كما تعبد بها بني إسرائيل.
وقيل المراد بذلك أنه جعل لهم من الذنب مخرجاً بفتح باب التوبة، وقبول الاستغفار والتكفير فيما شرع فيه الكفارة، والأرش أو القصاص في الجنايات ورد المال أو مثله، أو قيمته في الغصب ونحوه؛ فليس في دين الإسلام ما لا يجد العمد فيه سبيلاً إلى الخلاص من الذنوب ومن العقاب، وقيل المراد بالدين التوحيد ولا حرج فيه، بل فيه تخفيف فإنه يكفِّر ما قبله من الشرك وإن امتد ولا يتوقف الإتيان به على زمان أو مكان معين.
_________
(1) الترمذي كتاب فضائل الجهاد الباب 2 أحمد بن حنبل 6/ 20 - 22.(9/89)
وفي القرطبي. قال العلماء: رفع الحرج إنما هو لمن استقام على منهاج الشرع؛ وأما السُّرّاق وأصحاب الحدود فعليهم الحرج وهم جاعلوه على أنفسهم بمفارقتهم الدين، وليس في الشرع أعظم حرجاً من إلزام ثبات رجل لاثنين في سبيل الله، لكنه مع صحة اليقين وجودة العزم ليس بحرج، انتهى.
والمعنى الأول أولى، والظاهر أن الآية أعم من هذا كله فقط حط سبحانه ما فيه مشقة من التكاليف على عباده إما بإسقاطها من الأصل وعدم التكليف بها كما كلف بها غيرهم أو بالتخفيف، وتجويز العدول إلى بدل لا مشقة فيه أو بمشروعية التخلص عن الذنب بالوجه الذي شرعه الله، وما أنفع هذه الآية وأجل موقعها وأعظم فائدتها، ومثلها قوله سبحانه: (فاتقوا الله ما استطعتم) وقوله: (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) وقوله: (ربنا ولا تحمل علينا إصراً كما حملته على الذين من قبلنا، ربنا ولا تحمِّلنا ما لا طاقة لنا به) وفي الحديث الصحيح أنه سبحانه قال: " قد فعلت " كما سبق بيانه في تفسير هذه الآية والأحاديث في هذا كثيرة.
وعن عائشة أنها سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - عن هذه الآية فقال: " الضيق ". وقال أبو هريرة لابن عباس: أما علينا في الدين من حرج في أن نسرق أو نزني؟ قال: بلى؛ قال: فما هذه الآية؟ قال: الإصر الذي كان على بني إسرائيل وضع عنكم، وعن ابن عباس كان يقول: وما جعل عليكم في الدين من حرج، توسعة الإسلام وما جعل الله من التوبة والكفارات، وعنه قال: هذا في هلال رمضان إذا شك فيه الناس، وفي الحج إذا شكوا في الأضحى، وفي الفطر وأشباهه، وعنه سئل عن الحرج فقال: ادع لي رجلاً من هذيل فجاءه فقال: ما الحرج فيكم؟ قال: الحرجة من الشجر التي ليس فيها مخرج، فقال ابن عباس: الذي ليس له مخرج، وفي لفظ قال الهذيلي: الشيء الضيق قال: هو ذاك، وعن عمر بن الخطاب قرأ هذه الآية ثم قال: ادع لي رجلاً من بني مدلج وقال: ما الحرج فيكم؟ قال: الضيق.(9/90)
(ملة إبيكم إبراهيم) أي وسع عليكم دينكم توسعة ملة أبيكم قاله الزمخشري وقال الزجاج: المعنى اتبعوا ملة أبيكم، وبه قال الحوفي، واتّبعه أبو البقاء، وقال الفراء: كملة أبيكم، وقيل التقدير وافعلوا الخير كفعل أبيكم إبراهيم فأقام الملة مقام الفعل وقيل النصب على الإغراء وقيل على الاختصاص أي أعني بالدين ملة أبيكم، وإنما جعله سبحانه أباهم لأنه أبو العرب قاطبة، ولأن لى عند غير العرب الذين لم يكونوا من ذريته حرمة عظيمة كحرمة الأب على الابن لكونه أباً لنبيهم صلى الله عليه وسلم، قال السديّ: ملة أبيكم أي دين أبيكم.
(هو سماكم المسلمين من قبل) أي قبل نزول القرآن في الكتب المتقدمة، قال ابن عباس: الله عز وجل سماكم، وروي نحوه عن جماعة من التابعين، وأخرج أحمد والبخاري في تاريخه، والترمذي وصححه والنسائي والبيهقي وغيرهم، عن الحرث الأشعري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من دعا بدعوى الجاهلية فإنّه من جثيِّ جهنم " قال رجل: يا رسول الله وإن صام وصلى؟ قال: " نعم فادعوا بدعوة الله التي سماكم بها المسلمين والمؤمنين عباد الله " (1)، وقيل إن الكناية راجعة إلى إبراهيم يعني إبراهيم سماكم المسلمين في أيامه من قبل هذا الوقت وهو قوله: (ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك) فاستجاب الله دعاءه فينا.
(وفي هذا) أي في حكمه أن من اتبع محمداً (- صلى الله عليه وسلم -) فهو مسلم، قال النحاس: وهذا القول مخالف لقول علماء الأمة، وقيل أي في القرآن يعني فضلكم على سائر الأمم وسماكم بهذا الاسم الأكرم، ثم علل سبحانه ذلك بقوله: (ليكون الرسول شهيداً عليكم) يوم القيامة بتبليغه إليكم
_________
(1) الترمذي كتاب الأدب الباب 78.(9/91)
(وتكونوا) أنتم (شهداء على الناس) أن رسلهم قد بلغتهم، فإن تسمية الله أو إبراهيم لهم حكم بإسلامهم وعدالتهم وهو سبب لقبول شهادة الرسول الداخل فيهم دخولاً أولياً وقبول شهادتهم على الأمم، قاله الشهاب، وقد تقدم بيان معنى هذه الآية في البقرة، ثم أمرهم بما هو أعظم الأركان الإسلامية فقال:
(فأقيموا الصلاة) بواجباتها وداوموا عليها (وآتوا الزكاة) بشرائطها وتخصيص الخصلتين بالذكر لمزيد شرفهما (واعتصموا بالله) أي اجعلوه عصمة لكم مما تحذرون والتجئوا إليه في جميع أحوالكم ولا تطلبوا ذلك إلا منه، وقيل الاعتصام هو التمسك بالكتاب والسنة، وقيل تمسكوا بدين الله، وقيل ثقوا به تعالى في مجامع أموركم (هو مولاكم) أي ناصركم ومتولي أموركم دقيقها وجليلها (فنعم المولى) هو (ونعم النصير) أي الناصر لكم هو يعني لا مماثل له في الولاية لأموركم، والنصرة على أعدائكم.(9/92)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
سورة المؤمنون
(وهي مكية وآياتها مائة وثماني عشرة)
قال القرطبي: كلها مكيّة في قول الجميع. أي بلا خلاف وآياتها مائة وتسع آية عند البصريين، ومائة وثماني عشرة آية عند الكوفيين وسبب هذا اختلافهم في قوله: (ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ)، هل هو آية أو بعض آية. وقد أخرج أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجه وغيرهم عن عبد الله بن السائب قال: صلى النبي صلى الله عليه وسلم بمكة الصبح، فاستفتح سورة المؤمنين حتى إذا جاء ذكر موسى وهارون. أو ذكر عيسى أخذته سلعة فركع (1). وأخرج البيهقي من حديث أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لما خلق الجنة قال لها تكلمي، فقالت: قد أفلح المؤمنون " وقد ورد في فضائل العشر الآيات من أول هذه السورة ما سيأتي قريباً.
_________
(1) مسلم 455.(9/93)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (4) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (7) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (8) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (9) أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10)(9/95)
قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1)
(قد أفلح المؤمنون) قال الفراء: قد لتأكيد فلاحهم، وإفادة ثبوت ما كان يتوقع الثبوت من قبل، أو لتقريب الماضي من الحال، ألا تراهم يقولون: قد قامت الصلاة قبل حال قيامها. والمعنى أن الفلاح قد حصل لهم وأنهم عليه في الحال، والفلاح الظفر بالمراد، والفوز بالمرام والنجاة عن المكروه. وقيل البقاء في الخير، ويقال أفلح إذا دخل في الفلاح؛ ويقال أفلحه إذا أصاره إلى الفلاح وقد تقدم معنى الفلاح في البقرة.
وقرئ أُفلح بناء للمفعول، وقرئ أفلحوا على الإبهام والتفسير، أو على لغة أكلوني البراغيث.
وقد أخرج أحمد والترمذي والنسائي وغيرهم عن عمر بن الخطاب قال: كان إذا أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم الوحي يسمع عند وجهه كدوي النحل فأنزل الله عليه يوماً، فمكثنا ساعة فسرّى عنه فاستقبل القبله فقال: " اللهم زدنا ولا تنقصنا وأكرمنا ولا تهنا وأعطنا ولا تحرمنا وآثرنا ولا تؤثر علينا وارضنا وارض عنا "، ثم قال: " لقد أنزل عليّ عشر آيات من أقامهن دخل الجنة " ثم قرأ قد أفلح المؤمنون، حتى ختم العشر، وفي إسناده يونس ابن سليم (1).
_________
(1) الترمذي كتاب التفسير سورة 23/ 1.(9/95)
قال النسائي: لا نعرفه، وعن يزيد بن بابنوس قال: قلنا لعائشة: كيف كان خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت كان خلقه القرآن، ثم قالت تقرأ سورة المؤمنين، اقرأ قد أفلح المؤمنون -حتى بلغ العشر- فقالت هكذا كان خلق رسول الله " - صلى الله عليه وسلم - " ثم وصف هؤلاء المؤمنين بقوله:(9/96)
الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2)
(الذين هم في صلاتهم خاشعون) وما عطف عليه، والخشوع منهم من جعله من أفعال القلوب، كالخوف والرهبة، ومنهم من جعله من أفعال الجوارح كالسكون وترك الالتفات والعبث، وهو في اللغة السكون والتواضع والخوف والتذلل. وقد اختلف الناس في الخشوع هل هو من فرائض الصلاة أو من فضائلها؟ على قولين. قيل الصحيح الأول وقيل الثاني، وادعى عبد الواحد بن يزيد إجماع العلماء على أنه ليس للعبد إلا ما عقل من صلاته.
حكاه النيسابوري في تفسيره قال: ومما يدل على صحة القول قوله تعالى: (أفلا يتدبرون القرآن) والتدبر لا يتصور بدون الوقوف على المعنى، وكذا قال: (أقم الصلاة لذكري) والغفلة تضاد الذكر، ولهذا قال: (ولا تكن من الغافلين) وقوله: (حتى تعلموا ما تقولون) نهى للسكران والمستغرق في هموم الدنيا بمنزلته.
أخرج البيهقي عن محمد بن سيرين قال: " نبئت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى رفع بصره إلى السماء فنزلت (الذين هم في صلاتهم خاشعون) وزاد عبد الرزاق عنه فأمره بالخشوع فرمى ببصره نحو مسجده.
وأخرج الحاكم وصححه والبيهقي في سننه عن أبي هريرة كان إذا صلى رفع بصره إلى السماء فنزلت هذه الآية فطأطأ رأسه.
وعن علي قال: الخشوع في القلب وأن تلين كنفك للمرء المسلم وأن لا تلتفت في صلاتك. وقال ابن عباس: خاشعون، خائفون ساكنون، وقيل(9/96)
خاضعون بالقلب ساكنون بالجوارح فلا يلتفون يميناً ولا شمالاً، وهذا من فروض الصلاة عند الغزالي. وذهب بعضهم إلى أنه ليس بواجب لأن اشتراط الخضوع والخشوع مخالف لإجماع الفقهاء فلا يلتفت إليه، وقد ورد في مشروعية الخشوع في الصلاة والنهي عن الالتفات وعن رفع البصر إلى السماء أحاديث معروفة في كتب الحديث.(9/97)
وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3)
(والذين هم عن اللغو معرضون) قال الزجاج: اللغو هو كل باطل ولهو وهزل ومعصية وما لا يجمل من القول والفعل، وقد تقدم تفسيره في البقرة. وقال الضحاك: إن اللغو هنا الشرك. وقال الحسن: إنه المعاصي كلها، وقيل هو معارضة الكفار بالسب والشتم. وقال ابن عباس: اللغو الباطل. وقيل المراد باللغو كل ما كان حراماً أو مكروهاً أو مباحاً لم تدع إليه ضرورة ولا حاجة.
والمعنى أن لهم من الجد ما شغلهم عن الهزل، وفي وصفهم بالخشوع أولاً وبالإعراض ثانياً جمع لهم الفعل والترك الشاقين على الأنفمس اللذين هما قاعدتا بناء التكليف، ومعنى إعراضهم عنه تجنبهم له وعدم التفاتهم إليه، وظاهره اتصافهم بصفة الإعراض عن اللغو في كل الأوقات، فيدخل وقت الصلاة في ذلك دخولاً أولياً، كما تفيده الجملة الأسمية.(9/97)
وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (4)
(والذين هم للزكاة فاعلون) أي يؤدونها، فعبر عن التأدية بالفعل لأنها مما يصدق عليه الفعل، أو المراد بالزكاة هنا المصدر لأنه الصادر عن الفاعل. وقيل يجوز أن يراد بها العين على تقدير مضاف، أي والذين هم لتأدية الزكاة فاعلون، أي دائمون.(9/97)
وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5)
(والذين هم لفروجهم حافظون) الفرج يطلق على فرج الرجل والمرأة، فهو اسم سوأتهما، والمراد بحفظهما لها أنهم ممسكون لها بالعفاف عما(9/97)
لا يحل لهم، قيل والمراد هنا الرجال خاصة دون النساء بدليل قوله:(9/98)
إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6)
(إلا على أزواجهم) الخ للإجماع على أنه لا يحل للمرأة أن يطأها من تملكه.
قال الفراء: (على) بمعنى من، وقيل إن الاستثناء من نفي الإرسال المفهوم من الحفظ، أي لا يرسلونها على أحد إلا على أزواجهم، وقيل يلامون على كل مباشرة إلا على ما أحل لهم فإنهم غير ملومين عليه، ودل على المحذوف ذكر اللوم في آخر الآية.
وقيل المعنى إلا والين على أزواجهم وقوامين عليهن، من قولهم: كان فلان على فلانة فمات عنها فخُلِّف عليها فلان (1) قاله الزمخشري، والمعنى أنهم لفروجهم حافظون في جميع الأحوال إلا في حال تزوّجهم أو تسريهم، وجملة (أو ما ملكت أيمانهم) في محل جر، والمراد بذلك الإماء، وعبر عنهن بـ (ما) التي لغير العقلاء لأنه اجتمع فيهن الأنوثة المنبئة عن قصور العقل وجواز البيع والشراء فيهن كسائر السلع؛ فأجراهن بهذين الأمرين مجرى غير العقلاء، ولهذا تباع كما تباع البهائم، والمراد الإماء والجواري.
(فإنهم غير ملومين) في إتيانهن بجماع أو غيره تعليل للاستثناء مما لا يجب عليهم حفظ فروجهم منه.
_________
(1) فلان نائب فاعل لبناء خلف للمجهول.(9/98)
فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (7)
(فمن ابتغى وراء) أي سوى (ذلك) من الزوجات وملك اليمين وقال الزجاج: ما بعد ذلك (فأولئك هم العادون) أي المجاوزون إلى ما لا يحل لهم فسمى سبحانه من نكح ما لا يحل عادياً. وقد دلت هذه الآية على تحريم نكاح المتعة. وعن القاسم بن محمد أنه سئل عن المتعة فقال: إني لأرى تحريمها في القرآن ثم تلا هذه الآية واستدل بها بعض أهل العلم على تحريم الاستمناء لأنه من الوراء لما ذكر، فهو حرام عند الجمهور؛ وقد جمع شيخنا الشوكاني في ذلك رسالة سماها بلوغ المنى في حكم الاستمنا، وذكر فيها أدلة(9/98)
المنع والجواز وترجيح الراجح منهما(9/99)
وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (8)
(والذين هم لأماناتهم) قرئ بالجمع، وقرأ ابن كثير بالإفراد، والأمانة ما يؤتمنون عليه.
(وعهدهم) هو ما يعاهدون عليه من جهة الله سبحانه، أو من جهة عباده وقد جمع العهد والأمانة كل ما يتحمله الإنسان من أمر الدين والدنيا، فلا يرد ما يقال: كيف حكم على الموصوفين بالصفات السبعة بالفلاح مع أنه تعالى لم يتمم ذكر العبادات الواجبة كالصوم والحج؛ والأمانة أعم من العهد، فكل عهد أمانة (راعون) أي حافظون، والراعي القائم على الشيء بحفظ وإصلاح كراعي الغنم(9/99)
وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (9)
(والذين هم على صلواتهم) قرأ الجمهور بالجمع، ومن قرأ بالإفراد فقد أراد اسم الجنس. وهو في معنى الجمع.
(يحافظون) المحافظة على الصلاة إقامتها والمحافظة عليها في أوقاتها وإتمام ركوعها وسجودها وقراءتها والمشروع من أذكارها.
عن ابن مسعود أنه قيل له: إن الله يكثر ذكر الصلاة في القرآن الذين هم على صلاتهم دائمون؛ والذين هم على صلاتهم يحافظون. قال ذلك على مواقيتها، قالوا: ما كنا نرى ذلك إلا على تركها؛ قال: تركها كفر، وقد وصفهم أولاً بالخشوع في الصلاة وآخراً بالمحافظة عليها فليس في الآية تكرار، والطهارات دخلت في جملة المحافظة على الصلوات لكونها من شرائطها، ثم مدح سبحانه هؤلاء فقال:(9/99)
أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10)
(أولئك هم الوارثون) أي الأحقّاء بأن يسمَّوا بهذا الاسم دون غيرهم، لأن ضمير الفصل يدل على التخصيص، والحصر إضافي لا حقيقي، لأنه ثبت أن الجنة يدخلها الأطفال والمجانين والولدان والحور، ويدخلها الفساق من أهل القبلة بعد العفو، ولقوله تعالى: (ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) قاله الكرخي، ثم بين الموروث بقوله:(9/99)
الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (11) وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14) ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ (15) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ (16) وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ (17)(9/100)
الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (11)
(الذين يرثون الفردوس) لغة رومية معربة، وقيل فارسية، وقيل حبشية، وقيل عربية، وهو أوسط الجنة وأعلى الجنان، كما صح تفسيره بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمعنى أن من عمل بما ذكر في هذه الآيات فهو الوارث الذي يرث من الجنة ذلك المكان، وهذا بيان لما يرثونه وتقييد للوراثة بعد إطلاقها وتفسير لها بعد إبهامها، وتفخيم لها ورفع لمحلها: وهي استعارة لاستحقاقهم الفردوس بأعمالهم حسبما يقتضيه الوعد الكريم للمبالغة فيه.
وقيل المعنى أنهم يرثون من الكفار منازلهم فيها حيث فرقوها على أنفسهم، لأنه سبحانه خلق لكل إنسان منزلاً في الجنة ومنزلاً في النار. وعن أبي هريرة قال: يرثون مساكنهم ومساكن إخوانهم التي أعدت لهم لو أطاعوا الله. وعنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما منكم من أحد إلا وله منزلان، منزل في الجنة ومنزل في النار، فإذا مات ودخل النار ورث أهل الجنة منزله، فذلك قوله: (أولئك هم الوارثون) (1) أخرجه ابن ماجة وسعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر والبيهقي وغيرهم،
_________
(1) ابن ماجة كتاب الزهد الباب 39.(9/100)
وأخرجه الترمذي وقال حسن صحيح، وعبد بن حميد عن أنس فذكر قصة، وفيها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " الفردوس ربوة الجنة وأوسطها وأفضلها " (1).
ويدل على هذه الوراثة المذكورة هنا قوله تعالى: (تلك الجنة التي نورث من عبادنا من كان تقياً)، وقوله: (تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون) وشهد لحديث أبي هريرة هذا ما في صحيح مسلم عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " يجىء يوم القيامة ناس من المسلمين بذنوب أمثال الجبال فيغفرها الله لهم: ويضعها على اليهود والنصارى " (2)، وفي لفظ له قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا كان يوم القيامة دفع الله إلى كل مسلم يهودياً أو نصرانياً فيقول: هذا فكاكك من النار " (3).
(هم فيها خالدون) حالية أو مستأنفة لا محل لها، ومعنى الخلود أنهم يدومون فيها لا يخرجون منها ولا يموتون فيها وتأنيث الضمير مع أنه راجع إلى الفردوس لأنه بمعنى الجنة، ولا حث الله سبحانه عباده على العبادة، ووعدهم الفردوس على فعلها وتضمن ذلك المعاد الأخروي عاد إلى تقرير المبدإ ليتمكن ذلك في نفوس المكلفين، فإن الابتداء في العادة أصعب من الإعادة لقوله: وهو أهون عليه، وجملة ما ذكره من الدلائل أنواع أربعة.
الأول: الاستدلال بتقلب الإنسان في أطوار الخلقة وهي تسعة آخرها تبعثون.
الثاني: خلق السماوات بقوله: (ولقد خلقنا فوقكم سبع طرائق).
الثالث: إنزال الماء بقوله: (وأنزلنا من السماء ماء).
_________
(1) الترمذي كتاب التفسير سورة 23/ 2 - أحمد بن حنبل 3/ 260.
(2) مسلم 2767.
(3) مسلم 2767.(9/101)
الرابع: الاستدلال بأحوال الحيوانات بقوله: (وإن لكم في الأنعام لعبرة)، وأحوال الحيوان أربعة مذكورة في الآية فقال.(9/102)
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12)
(ولقد) أي والله لقد (خلقنا الإنسان) أي الجنس لأنهم مخلوقون في ضمن خلق أبيهم آدم، وقيل المراد به آدم (من سلالة) فعالة من السل وهو استخراج الشيء من الشيء، والسلالة الخلاصة لأنها تسل من بين الكدر، وقيل إنما سمي التراب الذي خلق آدم منه سلالة لأنه سلّ من كل تربة، يقال: سلك الشعرة من العجين، والسيف من الغمد، فانسل فالنطفة سلالة، والولد سليل وسلالة أيضاً.
وقيل السلالة الطين إذا عصرته انسل من بين أصابعك فالذي يخرج هو السلالة قاله الكلبي، وعن ابن عباس قال: السلالة صفو الماء الرقيق الذي يكون منه الولد وعن ابن مسعود قال: إنَّ النطفة إذا وقعت في الرحم طارت في شعر وظفر، فيمكث أربعين يوماً ثم ينحدر في الرحم فيكون علقة وللتابعين في تفسير السلالة أقوال قد قدمنا الإشارة إليها أي سلالة كائنة.
(من طين) من للبيان، والمعنى أنه سبحانه خلق جوهر الإنسان أولاً من طين لأن الأصل آدم وهو من طين خالص وأولاده من طين ومني(9/102)
ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13)
(ثم جعلناه) أي الجنس باعتبار أفراده الذين هم بنو آدم، أو جعلنا نسله على حذف مضاف إن أريد بالإنسان آدم (نطفة) قد تقدم تفسير النطفة في سورة الحج، وكذلك تفسير العلقة والمضغة.
(في قرار مكين) المراد به الرحم وعبر عنها بالقرار الذي هو مصدر مبالغة واختلاف العواطف بـ (ثم) والفاء لتفاوت الاستحالات يعني أن بعضها مستبعد حصوله مما قبله وهو المعطوف بـ (ثم) فجعل الاستبعاد عقلاً أو رتبة بمنزلة التراخي، والبعد الحسي لأن حصول النطفة من أجزاء ترابية غريب جداً وكذا جعل النطفة البيضاء دماً أحمر بخلاف جعل الدم لحماً مشابهاً(9/102)
له في اللون والصورة وكذا تصليبها حتى تصير عظماً، لأنه قد يحصل ذلك بالمكث فيما يشاهد، وكذا مدَّ لحم المضغة عليه ليستره، فسقط ما قيل: إن الوارد في الحديث أن مدة كل استحالة أربعون يوماً، وذلك يقتضي عطف الجميع بـ (ثم) إن نظر لآخر المدة وأولها أو يقتضي العطف بالفاء إن نظر لآخرها فقط.(9/103)
ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14)
(ثم خلقنا النطفة علقة) أي أنه سبحانه أحال النطفة البيضاء علقة حمراء (فخلقنا العلقة مضغة) أي قطعة لحم غير مخلقة (فخلقنا المضغة) أي غالبها أو كلها، قولان حكاهما أبو السعود (عظاماً) أي متصلبة لتكون عموداً للبدن على أشكال مخصوصة.
(فكسونا العظام لحماً) من بقية المضغة أو مما أنبت الله سبحانه على كل عظم لحماً على المقدار الذي يليق به ويناسبه (ثم أنشأناه خلقاً آخر) مبايناً للخلق الأول أي نفخنا فيه الروح بعد أن كان جماداً، قاله ابن عباس، وبه قال مجاهد وعكرمة والشعبي والحسن وأبو العالية والربيع بن أنس والسدي والضحاك وابن زيد واختاره ابن جرير.
وقيل أخرجناه إلى الدنيا، وقيل هو نبات الشعر وقيل خروج الأسنان قاله ابن عباس، وقيل تكميل القوى المخلوقة فيه، وقيل كمال بابه، وقيل إن ذلك تصريف أحواله بعد الولادة من الاستهلال إلى الرضاع إلى القعود والقيام إلى المشي إلى الفطام إلى أن يأكل ويشرب إلى أن يبلغ الحلم، ويتقلب في البلاد إلى ما بعدها، والصحيح أنه عام في هذا؛ وفي غيره من النطق والإدراك وحسن المحاولة وتحصيل المعقولات إلى أن يموت، قال الكرخي: المعنى حولنا النطفة عن صفاتها إلى صفة لا يحيط بها وصف الواصفين.
(فتبارك الله) أي استحق التعظيم والثناء، وقيل مأخوذ من البركة(9/103)
أي كثر خيره وبركته (أحسن الخالقين) أي المصورين والخلق في اللغة التقدير، يقال خلقت الأديم إذا قسته لتقطع منه شيئاً؛ فمعناه أتقن الصانعين المقدرين خلقاً في الظاهر، وإلا فالله خالق الكل.
عن صالح أبي الخليل: قال لما نزلت هذه الآية على النبي صلى الله عليه وسلم إلى قوله: (ثم أنشأناه خلقاً آخر)، قال عمر رضي الله عنه: فتبارك الله أحسن الخالقين قال: " والذي نفسي بيده ختمت بالذىِ تكلمت به يا عمر ".
وعن أنس قال: قال عمر: وافقت ربي في أربع قلت: يا رسول الله لو صلينا خلف المقام؟ فأنزل الله: (واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى)، وقلت: يا رسول الله لو اتخذت على نسائك حجاباً؟ فإنه يدخل عليك البر والفاجر فأنزل الله: (وإذا سألتموهن متاعاً فاسألوهن من وراء حجاب)، وقلت لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم: لتنتهن أو ليبدلنه الله أزواجاً خيراً منكن فنزلت (عسى ربه إن طلقكن) الآية، ونزلت (ولقد خلقنا الإنسان من سلالة) إلى قوله: (ثم أنشأناه خلقاً آخر) فقلت: فتبارك الله أحسن الخالقين، أخرجه الطيالسي وابن أبي حاتم وابن مردويه وابن عساكر.
وعن زيد بن ثابت قال: أملى رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية (ولقد خلقنا الإنسان) الآية، فقال معاذ بن جبل: فتبارك الله أحسن الخالقين، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له معاذ: مم ضحكت يا رسول الله؟ قال: " بها ختمت "، وفي إسناده جعفر الجعفي وهو ضعيف جداً، قال ابن كثير: وفي خبره هذا نكارة شديدة، وذلك أن هذه السورة مكية وزيد بن ثابت إنما كتب الوحي بالمدينة، وكذلك إسلام معاذ إنما(9/104)
كان بالمدينة والله تعالى أعلم (1).
_________
(1) ابن كثير 3/ 242.(9/105)
ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ (15)
(ثم إنكم بعد ذلك) أي الأمور المتقدمة (لميتون) أي لصائرون إلى الموت لا محالة(9/105)
ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ (16)
(ثم إنكم يوم القيامة تبعثون) من قبوركم إلى المحشر للحساب والجزاء والعقاب.(9/105)
وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ (17)
(ولقد خلقنا فوقكم سبع طرائق) اللام جواب قسم محذوف، والجملة مبتدأة مشتملة على بيان خلق ما يحتاجون إليه، بعد بيان خلق أنفسهم، والمراد بالفوق جهة العلو من غير اعتبار فوقية لهم، لأن تلك النسبة إنما تعرض لهم بعد خلقهم، ووقت خلق السماوات لم نكن مخلوقين، ولم تكن هي فوقنا، بل خلقنا بعد، قاله الحفناوي.
والطرائق هي السماوات، قال الخليل والفراء والزجاج: سميت طرائق لأنها طورق بعضها فوق بعض، كمطارقة المنعل، وكل ما فوقه مثله، فهو طريقه، قاله البيضاوي، قال أبو عبيدة: طارقت الشيء جعلت بعضه فوق بعض، والعرب تسمي كل شيء فوق شيء طريقة، وقيل لأنها طرائق الملائكة في العروج والهبوط والطيران، قاله الرازي، وقيل لأنها طرائق الكواكب ومتقلباتها.
(وما كنا عن الخلق غافلين) المراد بالخلق هنا المخلوق أي: وما كنا عن هذه السبع الطرائق وحفظها عن أن تقع على الأرض بغافلين، وقال أكثر المفسرين: المراد الخلق كلهم بل حفظنا السماوات عن أن تسقط وحفظنا من في الأرض أن تسقط السماء عليهم فتهلكهم أو تميد بهم الأرض أو يهلكون بسبب من الأسباب المستأصلة لهم، ويجوز أن يراد نفي الغفلة عن القيام بمصالحهم وما يعيشهم ونفي الغفلة عن ضظهم وعن أعمالهم وأقوالهم.(9/105)
وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ (18) فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (19) وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ (20) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (21) وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (22) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (23)(9/106)
وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ (18)
(وأنزلنا من السماء ماء) هذا من جملة ما امتنّ الله سبحانه به على خلقه، والمراد بالماء ماء المطر، فإن به حياة الأرض وما فيها من الحيوان، ومن جملة ذلك ماء الأنهار النازل من السماء، والعيون والآبار المستخرجة من الأرض، فإنّ أصلها من ماء السماء، وقيل ماء أي عذباً، وإلا فالأجاج ثابت في الأرض مع القحط، والعذب يقل مع القحط، وفي الأحاديث أن الماء كان موجوداً قبل خلق السماوات والأرض، ثم جعل الله منه في السماء ماء وفي الأرض ماء كذا في البحر.
و (من) ابتدائية وتقديمها على المفعول الصريح للاعتناء بالمقدم والتشويق إلى المؤخر والعدول عن الإضمار لأن الإنزال لا يعتبر فيه عنوان كونها طرائق بل مجرد كونها بصفة العلو.
(بقدر) أي: بتقدير منّا لاستجلاب منافعهم، ودفع مضارهم أو بمقدار ما يكون به صلاح الزرائع والثمار والشرب، فإنه لو كثر لكان به هلاك ذلك، ومثله قوله تعالى (وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم).
(فأسكناه في الأرض) أي جعلناه ساكناً مستقراً ثابتاً فيها، بعضه على ظهرها، وبعضه في بطنها، ينتفعون به وقت حاجتهم إليه كالماء الذي يبقى في(9/106)
المستنقعات والغدران ونحوها عند انقطاع المطر، وأخرج ابن مردويه والخطيب قال السيوطي بسند ضعيف: عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " أنزل الله من الجنة إلى الأرض خمسة أنهار سيحون وهو نهر الهند وجيحون وهو نهر بلخ ودجلة والفرات وهما نهرا العراق، والنيل وهو نهر مصر، أنزلها الله من عين واحدة من عيون الجنة من أسفل درجة من درجاتها على جناحي جبريل، فاستودعها الجبال وأجراها في الأرض وجعلها منافع للناس في أصناف معايشهم فذلك قوله: (وأنزلنا من السماء ماء بقدر فأسكناه في الأرض) فإذا كان عند خروج يأجوج ومأجوج أرسل الله جبريل فرفع من الأرض القرآن والعلم والحجر الأسود من ركن البيت ومقام إبراهيم وتابوت موسى بما فيه وهذه الأنهار الخمسة فيرفع كل ذلك إلى السماء فذلك قوله: (وإنا على ذهاب به لقادرون) فإذا رفعت هذه الأشياء من الأرض فقد أهلها خير الدنيا والآخرة ".
قال البغوي: رواه الحسن بن سفيان بالإجازة عن سعيد بن سابق السكندري عن مسلمة بن علي (1) عن مقاتل بن حيان عن عكرمة عن ابن عباس، والمعنى كما قدرنا على إنزاله فنحن قادرون على أن نذهب به بوجه من الوجوه، إما بالإفساد وإما بالتصعيد وإما بالتعميق والتغوير في الأرض، ولهذا التنكير حسن موقع لا يخفى، وفي هذا تهديد شديد لما يدل عليه من قدرته سبحانه على إذهابه وتغويره حتى يهلك الناس بالعطش وتهلك مواشيهم. ومثله قوله: (قل أرأيتم إن أصبح ماؤكم غوراً فمن يأتيكم بماء معين)، ثم بين سبحانه ما يتسبب عن إنزال الماء فقال:
_________
(1) مسلمة بن عُلَيّ بضم العين وفتح اللام وتشديد الياء شامي واهي الحديث، قال البخاري منكر الحديث، وقال النسائي متروك، والحديث ساقه ابن عدي بإسناده في الضعفاء ونبه دحيم بأنه ليس بشيء، وقال أبو حاتم لا يشتغل به. وقال ابن عدي: عامة أحاديثه غير محفوظة، أما مقاتل بن حيان وهو من رجال مسلم وإن لم يرو له البخاري فقد قال وكيع: ينسب إلى الكذب، وكان أحمد بن حنبل لا يعبأ بمقاتل بن حيان ولا بمقاتل بن سليمان، وقال ابن خزيمة: لا أحتج بمقاتل بن حيان. قلت: ومن ثم لا يعتد بهذا الحديث. " المطيعي ".(9/107)
فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (19)
(فأنشأنا) أي أوجدنا (لكم به) أي بذلك الماء (جنات من نخيل وأعناب) إنما أفردهما بالذكر لكثرة منافعهما فإنهما يقومان مقام الطعام والإدام والفواكه رطباً ويابساً. وقيل اقتصر سبحانه عليهما لأنهما الموجودان في الطائف والمدينة وما يتصل بذلك، كذا قال ابن جرير. وقيل لأنهما أشرف الأشجار ثمرة وأطيبها منفعة وطعماً ولذة.
(لكم فيها) أي في هذه الجنات (فواكه كثيرة) تتفكهون بها (ومنها تأكلون) وتطعمون منها شتاء وصيفاً. وقيل: المعنى ومن هذه الجنات وجوه أرزاقكم ومعاشكم، كقولهم فلان يأكل من حرفة كذا، وهو بعيد. وقيل المعنى أن لكم فيها فواكه من غير العنب والنخيل. وقيل المعنى لكم في هذين النوعين خاصة فواكه، لأن فيهما أنواعاً مختلفة متفاوتة في الطعم واللون.
وقد اختلف أهل الفقه في لفظ الفاكهة على ماذا يطلق اختلافاً كثيراً، وأحسن ما قيل أنها تطلق على الثمرات التي يأكلها الناس، وليس بقوت لهم ولا طعام ولا إدام واختلف في البقول هل تدخل الفاكهة أم لا؟.(9/108)
وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ (20)
(وشجرة) قال الواحدي: والمفسرون كلهم يقولون: إن المراد بهذه الشجرة شجرة الزيتون، وخصت بالذكر لأنها لا يتعاهدها. أحد بالسقي، وهي التي يخرج الدهن منها، وهي أول شجرة نبتت بعد الطوفان، تعمر في الأرض كثيراً حتى قال بعضهم أنها تعمر ثلاثة آلاف سنة على ما ذكره الخازن، فذكرها الله سبحانه امتناناً منه على عباده بها، ولأنها أكرم الشجر وأعمها نفعاً وأكثرها بركة (تخرج من طور سيناء) خصت به مع أنها تخرج من غيره أيضاً لأن أصلها منه ثم نقلت إلى غيره، ذكره زكريا، وهو جبل ببيت القدس، والطور الجبل في كلام العرب، وقيل هو مما عرب من كلام العجم.
واختلف في معنى سيناء، فقيل هو الحسن باللغة الشبطية، وقيل(9/108)
بالحبشيَّة، وقيل بالسريانية، ومعناه الجبل الملتف بالأشجار، وقيل كل جبل فيه أشجار مثمرة يسمى سيناء وسينين.
وقيل هو من السنا وهو الارتفاع، وقيل هو المبارك. وذهب الجمهور إلى أنه اسم للجبل، كما تقول جبل أحد، وقيل هو جبل فلسطين، وقيل هو اسم المكان الذي فيه هذا الجبل. وقيل سيناء اسم حجر بعينه، أضيف الجبل إليه لوجوده عنده. وقيل هو كل جبل يحمل الثمار. وقرئ سيناء بفتح السين وبكسرها ولم يصرف لأنه جعل اسماً للبقعة، وزعم الأخفش أنه أعجمي.
قال ابن عباس: هو الجبل الذي نودي منه موسى.
(تنبت بالدهن) قال ابن عباس: هو الزيت يؤكل منه ويدهن به، وقرئ بفتح التاء وضم الباء، وبضم التاء وكسر الباء من الثلاثي والرباعي، والمعنى على الأولى أنها تنبت في نفسها متلبسة بالدهن؛ وعلى الثانية الباء بمعنى مع فهي للمصاحبة قال أبو علي الفارسي: التقدير تنبت جناها، ومعه الدهن. وقيل الباء زائدة قاله أبو عبيدة.
وقال الفراء والزجاج: إنّ نبت وأنبت بمعنى؛ والأصمعي ينكر أنبت، وقرئ تُنبَت بضم التاء وفتح الباء. قال الزجاج؛ وابن جنيّ: أي تنبت ومعها الدهن. وقرأ ابن مسعود: تخرج بالدهن، وقرئ تنبت الدهن بحذف حرف الجر وقرئ بالدهان، والدهن عصارة كل شيء ذي دسم: قاله السمين.
(وصبغ للآكلين) أي تنبت بالشيء الجامع بين كونه دهناً يدهن به وكونه صبغاً يؤتدم به، وقرئ صباغ مثل لبس ولباس، وكل إدام يؤتدم به فهو صبغ وصباغ، وأصل الصبغ ما يلون به الثوب، وشبّه الإدام به لأن الخبز يكون بالأدام كالمصبوغ به، جعل الله سبحانه في هذه الشجرة المباركة أدماً وهو الزيتون ودهناً وهو الزيت.(9/109)
وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (21)
(وإن لكم في الأنعام لعبرة) هذه من جملة النعم التي امتن الله بها عليهم، وقد تقدم تفسير الأنعام في سورة النحل، وهي الإبل والبقر والغنم.
قال النيسابوري: ولعل القصد بالأنعام هنا إلى الإبل خاصة لأنها هي المحمول عليها في العادة، ولأنه قرنها بالفلك، وهي سفائن البر، كما أن الفلك سفائن البحر. قال ذو الرمة:
سفائن برّ تحت خدّي زمامها
وبين سبحانه أنها عبرة وعظة لأنها مما يستدل بخلقها وأفعالها على عظم القدرة الإلهية، وخصها بالعبرة دون النبات لأن العبرة فيها أظهر، ثم فصل سبحانه ما في هذه الأنعام من النعم بعد ما ذكره من العبرة فيها للعباد فقال: (نسقيكم) بضم النون وفتحها.
(مما في بطونها) يعني اللبن المتكوّن في بطونها المنصب إلى ضروعها من بين فرث ودم، فإن في انعقاد ما تأكله من العلف واستحالته إلى هذا الغذاء اللذيذ والمشروب النفيس أعظم عبرة للمعتبرين وأكبر موعظة للمتعظين، وقرئ بالفوقية على أن الفاعل هو الأنعام، وذكره هنا بلفظ الجمع لأنه راجع للأنعام مراداً بها الجمع، وفي النحل قال: مما في بطونه بالإفراد نظراً إلى أن الأنعام اسم مفرد، ذكره زكريا في متشابه القرآن.
وقال الكرماني: إن ما في النحل مراد به بعض الأنعام وهو الإناث، فأتى بالضمير مفرداً مذكراً، والمراد منه هنا الكل الشامل للإناث والمذكور، بدليل العطف في قوله الآتي: (ولكم فيها منافع)، فإن هذا لا يخص الإناث، وهذا العطف لم يذكر في النحل، ثم ذكر ما فيها من المنافع إجمالاً فقال: (ولكم فيها) أي في ظهورها وألبانها وأولادها وأصوافها وأشعارها وهي حية (منافع كثيرة) ثم ذكر منفعة خاصة فقال: (ومنها تأكلون) بعد الذبح، لما في الأكل من عظيم الانتفاع لهم، وكذلك ذكر الركوب عليها لما فيه من المنفعة العظيمة فقال:(9/110)
وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (22)
(وعليها) أي وعلى الأنعام فإن أريد بها(9/110)
الإبل والبقر والغنم فالمراد وعلى بعض الأنعام وهو الإبل خاصة، وإن أريد بها الإبل خاصة فالمعنى واضح، ثم لما كانت الأنعام غالب ما يكون الركوب عليها في البر ضم إليها ما يكون الركوب عليه في البحر فقال:
(وعلى الفلك تحملون) تتميماً للنعمة وتكميلاً للمنّة. ولما ذكر سبحانه الفلك أتبعه بذكر نوح لأنه أول من صنعه، وذكر ما صنعه قوم نوح معه بسبب إهمالهم للتفكر في مخلوقات الله سبحانه والتذكر لنعمه عليهم فقال:(9/111)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (23)
(ولقد أرسلنا نوحاً إلى قومه) وفي ذلك تعزية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتسلية له ببيان أن قوم غيره من الأنبياء كانوا يصنعون مع أنبيائهم ما يصنعه قومه معه، واللام جواب قسم محذوف والواو للاستئناف، وهذا شروع في خمس قصص هذا أولها؛ والثانية قصة هود أولها (ثم أنشأنا من بعدهم قرناً آخرين) والثالثة قوله (ثم أنشأنا من بعدهم قروناً آخرين) والرابعة قصة موسى وهارون المذكورة بقوله (ثم أرسلنا موسى وأخاه) والخامسة قصة عيسى وأمه المذكورة بقوله: (وجعلنا ابن مريم وأمّه آية).
ثم إن اسم نوح يشكر، ونوح لقبه على ما قاله الرازي، أو عبد الله على ما قاله السيوطي، وعاش نوح من العمر ألف سنة وخمسين كما مرّ مراراً، وقدمت قصته لتتصل بقصة آدم المذكورة للمناسبة بين نوح وآدم من حيث أنه آدم الثاني، لانحصار النوع الإنساني بعده في نسله.
(فقال يا قوم اعبدوا الله) وحده وأطيعوه ولا تشركوا به شيئاً كما يستفاد من الآيات الآخرة؛ وجملة (ما لكم من إله غيره) واقعة موقع التعليل لما قبلها؛ أي ما لكم في الوجود إله غيره سبحانه، ومن زائدة.
(أفلا تتقون) تخافون أن تتركوا عبادة ربكم الذي لا يستحقها غيره وليس لكم إله سواه. وقيل المعنى أفلا تخافون أن يرفع عنكم ما خوّلكم من النعم ويسلبها عنكم؟ وقيل المعنى أفلا تقون أنفسكم عذابه الذي تقتضيه ذنوبكم بعبادتكم غيره؟.(9/111)
فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ (24) إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ (25) قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (26) فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (27)(9/112)
فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ (24)
(فقال الملأ) أي الأشراف (الذين كفروا) به (من قومه) لأتباعهم وحاصل ما ذكروه من الشبه خمسة: أولاها قولهم (ما هذا إلا بشر مثلكم) أي من جنسكم في البشرية لا فرق بينه وبينكم (يريد) أي يطلب (أن يتفضل عليكم) بأن يسودكم ويتشرف حتى تكونوا تابعين له منقادين لأمره، ثم صرحوا بأن البشر لا يكون رسولاً فقالوا:
(ولو شاء الله) إرسال رسول (لأنزل) أي لأرسل ملائكة رسلاً، وهي الشبهة الثانية، وإنما عبر بالإنزال عن الإرسال لأن إرسالهم إلى العباد يستلزم نزولهم إليهم. وقيل معناه لو شاء أن لا يعبد غيره لأنزل (ملائكة) لا بشراً (ما سمعنا بهذا) أي بمثل دعوى هذا المدعي للنبوة من البشر، أو بمثل كلامه، وهو الأمر بعبادة الله وحده، أو ما سمعنا ببشر يدعي هذه الدعوة، وقيل الباء زائدة، وهذه هي الشبهة الثالثة، والعجب منهم أنهم رضوا بالألوهية للحجر ولم يرضوا بالنبوة للبشر (في آبائنا الأولين) أي في الأمم الماضية قبل هذا، قالوا هذا اعتماداً منهم على التقليد واعتصاماً بحبله، ولم يقنعوا بذلك حتى ضموا إليه الكذب البحت والبهت الصراح فقالوا:(9/112)
إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ (25)
(إن هو إلا رجل به جنة) أي حالة جنون لا يدري ما يقول، وهي(9/112)
الشبهة الرابعة (فتربصوا به حتى حين) أي انتظروا به حتى يستبين أمره بأن يفيق من جنونه فيترك هذه الدعوى أو حتى يموت فتستريحوا منه، وهي الشبهة الخامسة ولم يتعرض لردها لظهور فسادها.
قال الفراء: ليس يريد بالحين هنا وقتاً بعينه، إنما هو كقولهم: دعه إلى يوم ما، فلما سمع عليه السلام كلامهم وعرف تماديهم على الكفر وإصرارهم عليه.(9/113)
قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (26)
(قال رب انصرني) عليهم فانتقم منهم بما تشاء وكيف تريد (بما كذبون) أي بسبب تكذيبهم إياي(9/113)
فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (27)
(فأوحينا إليه) أي أرسلنا إليه رسولاً من السماء (أن اصنع الفلك) أن مفسرة لما في الوحي من معنى القول، فلا حاجة إلى جعلها مصدرية، والفلك السفينة (بأعيننا) أي بمرأى منا أو متلبساً بحفظنا وكلاءتنا، وقيل بعلمنا لئلا يتعرض له أحد ولا يفسد عليه عمله، والأولى أولى، وجمع الأعين للمبالغة، وإن كانت العادة أن الرائي له عينان فقط، وقد تقدم معنى هذا في هود.
(ووحينا) أي بأمرنا لك وتعليمنا إياك لكيفية صنعها، قيل وقد صنعها في عامين وجعل طولها ثلثمائة ذراع، وعرضها خمسين، وارتفاعها ثلاثين، وجعلها ثلاث طبقات السفلى للسباع والهوام، والوسطى للدواب والأنعام، والعليا للإنس كما مر (فإذا جاء أمرنا) الفاء لترتيب مضمون ما بعدها على ما قبلها من صنع الفلك، والمراد بالأمر الأمر بالعذاب (وفار التنور) أي أن مجيء الأمر هو فور التنور، أي تنور آدم الذي تخبز فيه حواء الصائر إلى نوح وكان من حجارة وقيل التنور وجه الأرض، واختلف في مكانه، فقيل في مسجد الكوفة، وقيل بالشام وقيل بالهند، والمعنى إذا وقع ذلك.(9/113)
(فاسلك) أي فأدخل (فيها) يقال سلك في كذا أي دخله؛
وأسلكته أدخلته. وقال ابن عباس أجعل معك في السفينة (من كل زوجين اثنين) قرئ كلٍ بالتنوين وبالإضافة، ومعنى الأولى من كل أمة زوجين، ومعنى الثانية من كل زوجين وهما أمة الذكر والأنثى اثنين، أي من غير البشر، وإلا فإنه أدخل فيها من البشر سبعين أو ثمانين فأدخل من هذا النوع زيادة على اثنين.
(وأهلك) أي واسلك فيها أهلك، أي زوجتك وأولادك (إلا من سبق عليه القول) أي الوعد الأزليّ بإهلاكه منهم كإبنه كنعان وأمه (ولا تخاطبني في الذين ظلموا) بالدعاء لهم بإنجائهم (إنهم مغرقون) تعليل للنهي عن المخاطبة أي إنهم مقضي عليهم بالإغراق لظلمهم، ومن كان هكذا فهو لا يستحق الدعاء له(9/114)
فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (28)
(فإذا استويت) أي علوت (أنت) واعتدلت (ومن معك) من أهلك وأتباعك (على الفلك) راكبين عليه (فقل) وكان الظاهر أن يقال، فقولوا أي أنت ومن معك، وإنما أفرد نوحاً بالأمر بالدعاء المذكور إظهاراً لفضله وإشعاراً في دعائه مندوحة عن دعائهم:
(الحمد لله الذي نجانا من القوم الظالمين) أي حال بيننا وبينهم وخلصنا منهم كقوله: (فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين) وقد تقدم تفسير هذه القصة في سورة هود على التمام والكمال، وإنما جعل سبحانه استواءهم على السفينة نجاة من الغرق جزماً لأنه قد سبق في علمه أن ذلك سبب نجاتهم من الظلمة وسلامتهم من أن يصابوا بما أصيبوا به من العذاب، ثم أمره أن يسأل ربه ما هو أنفع له وأتم فائدة فقال:(9/114)
فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (28) وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (29) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ (30) ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ (31) فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (32) وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (33) وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ (34) أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (35)(9/115)
وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (29)
(وقل رب أنزلني منزلاً مباركاً) أي أنزلني في السفينة قرئ منزلاً بضم الميم وفتح الزاي على أنه مصدر وبفتح الميم وكسر الزاي على أنه اسم مكان فعلى الأولى التقدير أنزلني إنزالاً مباركاً وعلى الثانية أنزلني مكاناً مباركاً، قال الجوهري: المنزل بفتح الميم والزاي النزول وهو الحلول تقول: نزلت نزولاً ومنزلاً.
عن مجاهد قال: قال الله تعالى لنوح حين أنزل من السفينة، وقيل أمره الله سبحانه بأن يقول هذا القول عند دخول السفينة، وقيل عند خروجه منها وأراد بالبركة النجاة من الغرق وكثرة النسل بعد الإنجاء، والآية تعليم من الله لعباده إذا ركبوا ثم نزلوا أن يقولوا هذا القول.
قال الواحدي: قال المفسرون: إنه أمر أن يقول عند استوائه على الفلك الحمد لله وعند نزوله منها: (رب أنزلني منزلاً مباركاً وأنت خير المنزلين) هذا ثناء منه على الله عز وجل أثر دعائه له.(9/115)
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ (30)
(إن في ذلك) أي ما تقدم مما قصه الله علينا من أمر نوح عليه السلام والسفينة وهلاك الكفار (لآيات) أي دلالات على كمال قدرته(9/115)
سبحانه وعلامات يستدل بها على عظيم شأنه (وإن كنا لمبتلين) أي لمختبرين قوم نوح بإرساله إليهم ووعظه أو لمختبرين لهم بإرسال الرسل إليهم ليظهر المطيع والعاصي من الناس أو الملائكة، وقيل المعنى أنه يعاملهم سبحانه معاملة المختبر لأحوالهم تارة بالإرسال وتارة بالعذاب لينظر من يعتبر ويذكر كقوله: (ولقد تركناها آية فهل من مذكر).(9/116)
ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ (31)
(ثم أنشأنا من بعدهم) أي من بعد إهلاكهم (قرناً) أي قوماً (آخرين) قال أكثر المفسرين: إن هؤلاء هم عاد قوم هود لمجيء قصتهم على أثر قصة نوح في غير هذا الموضع؛ ولقوله في الأعراف (واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح) وقيل هم ثمود لأنهم الذين أهلكوا بالصيحة، وقد قال سبحانه في هذه القصة (فأخذتهم الصيحة)، وقيل هم أصحاب مدين قوم شعيب، لأنهم ممن أهلك بالصيحة.(9/116)
فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (32)
(فأرسلنا فيهم رسولاً منهم) عدّي فعل الإرسال بـ (في) مع أنه يتعدى بإلى للدلالة على أن الرسول المرسل إليهم نشأ فيهم وبين أظهرهم يعرفون مكانه ومولده ليكون سكونهم إلى قوله أكثر من سكونهم إلى من يأتيهم من غير مكانهم، وقيل وجه التعدية بفي أنه ضمن معنى القول، والأول أولى، لأن تضمين أرسلنا معنى قلنا: لا يستلزم تعديته بفي.
(أن اعبدوا الله) أن مفسرة لأرسلنا أي قلنا لهم على لسان الرسول هذا القول (ما لكم من إله غيره) تعليل للأمر بالعبادة (أفلا تتقون)؟، عذابه الذي يقتضيه شرككم.(9/116)
وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (33)
(وقال الملأ من قومه) أي قادتهم وأشرافهم، ثم وصف الملأ بالكفر والتكذيب فقال: (الذين كفروا وكذبوا بلقاء الآخرة) أي بما في الآخرة من الحساب والعقاب أو بالمصير إليها أو كذبوا بالبعث.(9/116)
(وأترفناهم في الحياة الدنيا) أي وسعنا لهم نعم الدنيا فبطروا بسبب ما صاروا فيه من كثرة المال ورفاهة العيش حتى وصفوا رسولهم بمساواتهم في البشرية وفي الأكل والشرب فقالوا: (ما هذا إلا بشر مثلكم يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون) منه. قاله الفراء.
وقيل (ما) مصدرية فلا تحتاج إلى عائد، وذلك يستلزم عندهم أنه لا فضل له عليهم، وهذه شبهة أولى تنتهي عند قوله: لخاسرون.(9/117)
وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ (34)
(ولئن أطعتم بشراً مثلكم) فيما ذكر من الأوصاف (إنكم إذاً) أي إذا أطعتموه (لخاسرون) أي مغبونون بترككم آلهتكم واتباعكم إياه من غير فضيلة له عليكم ومن حمقهم أنهم أبوا اتباع مثلهم وعبدوا أعجز منهم.(9/117)
أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (35)
(أيعدكم أنكم إذا مِتّم) الهمزة للإنكار، والجملة مستأنفة مقررة لما
قبلها من تقبيح اتباعهم له بإنكار وقوع ما يدعوهم إلى الإيمان به واستبعاده،
قرئ بكسر اليم من (مِتم) من مات يمات كخاف يخاف وبضمها من مات يموت كقال يقول (وكنتم) أي كان بعض أجزائكم (تراباً و) بعضها (عظاماً) نخرة لا لحم فيها، ولا أعصاب عليها، قيل وتقديم التراب لكونه أبعد في عقولهم، وقيل المعنى كان متقدموكم تراباً ومتأخروكم عظاماً.
(أنكم مخرجون) أي مبعوثون من قبوركم أحياء كما كنتم للسؤال والحساب والثواب والعقاب وثنى أنكم للتأكيد؛ وحسن ذلك طول الفصل بين الأولى والثاني بالظرف، وإليه ذهب الجرمي والمبرد والفراء وقيل بدل من الأولى وإليه ذهب سيبويه.(9/117)
هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ (36) إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (37) إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ (38) قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (39) قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ (40) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (41) ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُونًا آخَرِينَ (42) مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (43)(9/118)
هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ (36)
(هيهات هيهات) أي بعد، وقال ابن عباس: بعيد بعيد، قال ابن الأنباري: وفي هيهات عشر لغات، ثم سردها وهي مبينة في علم النحو، وقد قرئ ببعضها قال سليمان الجمل: فيه لغات كثيرة تزيد على أربعين، ثم ذكر منها مشهورها، وما قرئ به تركناها لقلة الفائدة هنا، هو اسم فعل ماض بمعنى مصدر والغالب في الاستعمال أن تستعمل هذه الكلمة مكررة، والثانية توكيد لفظي للأولى وليست المسئلة من التنازع، واللام في (لما توعدون) لبيان المستبعد كما في قوله (هيت لك)، كأنه قيل لماذا هذا الاستبعاد؟ فقيل لما توعدون.
والمعنى بعد إخراجكم للوعد الذي توعدون، هذا على أن (هيهات) اسم فعل وقال الزجاج: هو في تقدير المصدر أي البعد لما توعدون أو بعد لما توعدون على قراءة من نوّن، ثم بين سبحانه إترافهم بأنهم قالوا:(9/118)
إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (37)
(إنّ هي) أي ما الحياة (إلا حياتنا الدنيا) لا الحياة الآخرة التي تعدنا بها فأقيم الضمير مقام الأولى لدلالة الثانية عليها، حذراً من التكرار وإشعاراً بإغنائها عن التصريح كما في هي النفس تتحمل ما حملت، وهي العرب تقول ما شاءت، وحيث كان الضمير بمعنى الحياة الدالة على الجنس كانت (إن) النافية بمنزلة لا النافية للجنس، وجملة:(9/118)
(نموت ونحيا) مفسرة لما ادعوه من قصرهم حياتهم على حياة الدنيا، وقيل يموت الآباء ويحيا الأبناء، وقيل يموت قوم ويحيا قوم، أو يموت بعض، ويولد بعض، وينقرض قرن، فيأتي آخر وفيه تقديم وتأخير أي نحيا ونموت وبه قرأ أبيّ وابن مسعود، ثم صرحوا بنفي البعث، وأن الوعد به منه افتراء على الله فقالوا:
(وما نحن بمبعوثين) بعد الموت(9/119)
إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ (38)
(إن هو إلا رجل افترى على الله كذباً) أي ما هو فيما يدعيه من النبوة والبعث إلا مفترياً يكذب على الله (وما نحن له بمؤمنين) أي بمصدقين له فيما يقوله.(9/119)
قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (39)
(قال) نبيهم لما علم بأنهم لا يصدقون البته (رب انصرني) عليهم وانتقم لي منهم (بما كذبون) أي بسبب تكذيبهم إياي(9/119)
قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ (40)
(قال) الله سبحانه مجيباً لدعائه واعداً له بالقبول لما دعا به (عما قليل) من الزمان وفي معناه عن قريب و (عن) بمعنى بعد و (ما) مزيدة بين الظرف للتوكيد لقلة الزمان، كما في قوله: (فبما رحمة من الله).
(ليصبحن نادمين) على ما وقع منهم من التكذيب والعناد، والإصرار على الكفر، ثم أخبر سبحانه بأنهم أخذتهم الصيحة، وحاق بهم عذابه، ونزل عليهم سخطه فقال:(9/119)
فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (41)
(فأخذتهم الصيحة).
قال المفسرون: صاح بهم جبريل صيحة واحدة مع الريح التي أهلكهم الله بها فماتوا جميعاً، وقيل الصيحة هي نفس العذاب والهلاك الذي نزل بهم (بالحق) أي كائنة بالعدل من الله فماتوا، يقال: فلان يقضي بالحق أي بالعدل، ثم أخبر سبحانه عما صاروا إليه بعد العذاب النازل بهم فقال:
(فجعلناهم غثاء) أي كغثاء السيل قيل الغثاء الجفاء، وقال(9/119)
الزجاج: هو البالي من ورق الشجر إذا جرى السيل فخالط زبده، وقيل كل ما يلقيه السيل، والقدر مما لا ينتفع به، وبه يضرب المثل في ذلك ولامه واو، لأنه من غثا الوادي يغثوا غثواً، وكذلك غثت القدر، وقال المحلي: هو نبت يبس، وعنه: هو العشب إذا يبس، والمعنى صيرناهم هلكى فيبسوا كما يبس الغثاء، وقال ابن عباس: جعلوا كالشيء الميت البالي من الشجر.
(فبعداً للقوم الظالمين) أي بعدوا بعداً، أو ألزمنا بعداً فهو إخبار أو دعاء واللام لبيان من قيل له ذلك، كما في سقياً له وجدعاً له، قاله الزمخشري، وقال الحوفي: متعلق ببعداً، وهذا مردود لأنه لا يحفظ حذف هذه اللام، ووصول المصدر إلى مجرورها البتة، ولذلك مَنعوا الاشتغال في قوله: (فتعساً لهم)، وهو من المصادر المنصوبة بأفعال لا يستعمل إظهارها، ووضع الظاهر موضع المضمر للتعليل.(9/120)
ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُونًا آخَرِينَ (42)
(ثم أنشأنا من بعدهم قروناً آخرين) أي مع رسلهم بعد إهلاكهم، قيل هم قوم صالح ولوط وشعيب ويونس وأيوب وغيرهم كما وردت قصتهم على هذا الترتيب في الأعراف وهود، وقيل هم بنو إسرائيل وكان فيهم الرسل قبل موسى، والقرون، الأمم، ولعل وجه الجمع هنا للقرون، والإفراد فيما سبق قريباً أنه أراد هاهنا أمماً متعددة، وهناك أمة واحدة، ثم بين سبحانه كمال علمه وقدرته في شأن عباده فقال:(9/120)
مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (43)
(ما تسبق من أمة أجلها وما يستأخرون) أي ما يتقدم كل طائفة مجتمعة في قرن آجالها المكتوبة لها في الهلاك ولا يتأخر عنها، ومثل ذلك قوله تعالى: (فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون)، ذكر الضمير بعد تأنيثه رعاية المعنى لأن أمة بمعنى قوم، ثم بين سبحانه أن رسله كانوا بعد هذه القرون متواترين وأن شأن أممهم كان واحداً في التكذيب لهم فقال:(9/120)
ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (44) ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (45) إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ (46) فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ (47) فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ (48) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (49) وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ (50)(9/121)
ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (44)
(ثم أرسلنا رسلنا تترا) يعني إرسال كل رسول متأخر عن إنشاء القرن الذي أرسل إليه لا على معنى أن إرسال الرسل جميعاً متأخر عن إنشاء تلك القرون جميعاً ومعنى تترا تتواتر واحداً بعد واحد ويتبع بعضهم بعضاً من الوتر وهو الفرد، قال الأصمعي: واترت كتبي عليه أتبعت بعضها بعضاً إلا أن بين كل واحد منها وبين الآخر مهلة، وقال غيره: المتواترة المتتابعة بغير مهلة؛ والأول أولى لأن ما كان بدونها، قيل مداركة ومواصلة، كما في القاموس لا تترا، وقرئ تتراً بالتنوين على أنه مصدر، قال النحاس: وعلى هذا يجوز تِترا بكسر التاء لأن معنى ثم أرسلنا واترنا، وقرئ بألف من غير تنوين كشبعى ودعوى فألفه للتأنيث، أو في موضع الحال أي متواترين.
قال ابن عباس: بعضهم على إثر بعض، أي غير متواصلين، لأن بين كل رسولين زمناً طويلاً.
(كلما جاء أمةً رسولُها كذبوه) مستأنفة مبينة لمجيء كل رسول لأمته على أن المراد بالمجيء التبليغ (فاتبعنا) الأمم والقرون (بعضهم بعضاً) أي في الهلاك بما نزل بهم من العذاب (وجعلناهم أحاديث) أي سمراً وقصصاً وأخباراً يسمع بها ويتعجب منها ويتحدث من بعدهم بأمرهم وشأنهم، جمع أحدوثة وهي ما يتحدث به الناس، كالأعاجيب جمع أعجوبة، وهي ما(9/121)
يتعجب الناس منه، أو جمع حديث على غير قياس، وفي السمين ولكنه شاذ.
وقال الأخفش: إنما يقال ذلك في الشر ولا يقال في الخير، كما يقال صار فلان حديثاً، أي عبرة، وكما قال سبحانه في آية أخرى (فجعلناهم أحاديث ومزقناهم كل ممزق).
قلت: وهذه الكلية غير مسلمة، فقد يقال صار فلان حديثاً حسناً، وقد شذت العرب في ألفاظ فجمعوها على صيغة أفاعيل كأباطيل وأقاطيع. وقال الزمخشري: الأحاديث تكون اسم جمع للحديث. ومنه أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأفاعيل ليس من أبنية اسم الجمع، وإنما ذكره أصحابنا فيما شذ من الجموع، كقطيع وأقاطيع، وإذا كان عباديد قد حكموا عليه بأنه جمع تكسير مع أنهم لم يلفظوا له بواحد فأحرى أحاديث، وقد لفظ له بواحد وهو حديث، فاتضح أنه جمع تكسير لا اسم جمع لما ذكرنا.
(فبعداً لقوم) دعاء عليهم (لا يؤمنون) وصفهم هنا بعدم الإيمان، وفيما سبق قريباً بالظلم لكون كل من الوصفين صادراً عن كل طائفة من الطائفتين، أو لكون هؤلاء لم يقع منهم إلا مجرد عدم التصديق، وأولئك ضموا إليه تلك الأقوال الشنيعة التي هي أشد الظلم وأفظعه، ثم حكى سبحانه ما وقع من فرعون وقومه عند إرسال موسى وهارون إليهم فقال:(9/122)
ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (45)
(ثم أرسلنا موسى وأخاه هارون) متلبسين (بآياتنا) هي التسع المتقدم ذكرها غير مرة، ولا يصح عد فلق البحر منها هنا، لأن المراد الآيات التي كذبوا بها واستكبروا عنها (وسلطان مبين) المراد به الحجة الواضحة البينة، قيل هي الآيات التسع نفسها، والعطف من باب:
إلى الملك القرم وابن الهمام
وقيل أراد العصا لأنها أم الآيات فيكون من باب عطف جبريل على الملائكة وقيل المراد بالآيات الدلائل التي كانت لهما، وبالسلطان المبين التسع(9/122)
الآيات(9/123)
إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ (46)
(إلى فرعون وملئه) أي الأشراف منهم كما سبق بيانه غير مرة (فاستكبروا) أي طلبوا الكبر وكلفوه، وتعظموا عن الإيمان فلم ينقادوا للحق (وكانوا قوماً عالين) قاهرين للناس أو لبني إسرائيل بالبغي والظلم، مستعلين عليهم متطاولين كبراً وعناداً وتمرداً.(9/123)
فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ (47)
(فقالوا أنؤمن لبشرين)؟ يعنون بهما موسى وهارون (مثلنا) الاستفهام للإنكار، أي كيف نصدق من كان مثلنا في البشرية، والبشر يطلق على الواحد، كقوله بشراً سوياً، كما يطلق على الجمع، كقوله: (فإما ترينّ من البشر أحداً)، فتثنيته هنا هي باعتبار المعنى الأول ويطلق على المثنى والمذكر والمؤنث، وأفرد المثل لأنه في حكم المصدر يجري مجراه في الإفراد والتذكير ولا يؤنث أصلاً، وقد يطابق ما هو له تثنية، كقوله: (يرونهم مثليهم رأي العين)، وجمعاً كقوله: (ثم لا يكونوا أمثالكم).
(وقومهما) أي بنو إسرائيل (لنا عابدون) أي أنهم مطيعون لنا، منقادون لما نأمرهم به كانقياد العبيد. قال المبرّد: العابد المطيع الخاضع. قال أبو عبيدة: العرب تسمي كل من دان (1) الملك عابداً له، وقيل يحتمل أنه كان يدعي الإلهية فدعا الناس إلى عبادته فأطاعوه، وتقديم الظرف لرعاية الفواصل والجملة حالية
_________
(1) دانه أطاعه، فهو يتعدى ويلزم. " المطيعي ".(9/123)
فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ (48)
(فكذبوهما) أي فأصروا على تكذيبهما (فكانوا من المهلكين) بالغرق في البحر. ثم حكى سبحانه ما جرى على قوم موسى بعد إهلاك عدوهم فقال:(9/123)
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (49)
(ولقد آتينا موسى الكتاب) يعني التوراة، وخص موسى بالذكر لأن التوراة أنزلت عليه في الطور، وكان هارون خليفته في قومه (لعلهم) أي لعل قوم موسى (يهتدون) بها إلى الحق ويعملون بما فيها من الشرائع، فجعل سبحانه إيتاء موسى إياها إيتاء لقومه، لأنها وإن كانت منزلة على موسى فهي لإرشاد قومه. وقيل المعنى آتينا قوم موسى الكتاب.
وقيل ضمير (لعلهم) يرجع إلى فرعون وملته، وهو وَهْمٌ، لأن(9/123)
موسى لم يؤت التوراة إلا بعد هلاك فرعون وقومه، كما قال سبحانه: (ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الأولى)، ثم أشار سبحانه إلى قصة عيسى إجمالاً فقال:(9/124)
وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ (50)
(وجعلنا ابن مريم وأمّه آية) أي علامة تدل على عظيم قدرتنا وبديع صنعنا وقد تقدم الكلام على هذا في آخر سورة الأنبياء في تفسير قوله سبحانه: (وجعلناها وابنها آية للعالمين).
قال قتادة: (آية) أي ولدته من غير أب وفحل، وخلق من غير نطفة. وعن الربيع بن أنس قال: (آية) أي عبرة، ولم يقل آيتين لأن الأعجوبة فيهما واحدة أو المراد ابن مريم آية وأمه آية، فحذفت الأولى لدلالة الثانية عليها.
(وآويناهما) أي أسكناهما وأنزلناهما وأوصلناهما وجعلناهما يأويان (إلى ربوة) بفتح الراء وضمها قراءتان سبعيتان، قيل هي أرض دمشق، وبه قال عبد الله بن سلام وسعيد بن المسيب ومقاتل. وقيل بيت المقدس، قاله قتادة وكعب. وقيل أرض فلسطين، قاله السدي. قال ابن عباس: الربوة المستوية، وهي المكان المرتفع من الأرض، وهو أحسن ما يكون فيه النبات، وأنبئنا أنه دمشق. وقيل هو أعلى مكان من الأرض فيزيد على غيره في الارتفاع ثمانية عشر ميلاً، فهو أقرب بقاع الأرض إلى السماء. وعن مرة البهزي قال: " سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " الربوة الرملة " أخرجه الطبراني وابن أبي حاتم وابن جرير وغيرهم.
وعن أبي هريرة قال: هي الرملة من فلسطين، وقيل مصر، وسبب الإيواء أنها فرّت بابنها إليها لأن ملك ذلك الزمان كان أراد أن يقتل عيسى، فهربت به إلى تلك الربوة ومكثت بها اثنتي عشرة سنة، حتى هلك ذلك الملك.
(ذات قرار) أي مستوى مستقر ليستقر عليه ساكنوه. وقال ابن عباس: أي ذات خصب. وقيل ذات ثمار (و) ماء (معين) قال(9/124)
يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51) وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (52) فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (53) فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (54) أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ (56) إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ (59) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60)
الزجاج والفراء: هو الماء الجاري في العيون، فالميم على هذا زائدة كزيادتها في منبع. وقيل هو فعيل بمعنى مفعول. قال علي بن سليمان الأخفش: يقال معن الماء إذا جرى، فهو معين وممعون. وكذا قال ابن الأعرابي. وقيل هو مأخوذ من الماعون وهو النفع.
قال ابن عباس المعين الماء الجاري، وقيل الذي تراه العيون وهو النهر الذي قال الله (قد جعل ربك تحتك سرياً).(9/125)
يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51)
(يا أيها الرسل كلوا) قال الزجاج: هذه مخاطبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال ابن جرير: إن الخطاب لعيسى. قال الفراء. هو كما تقول للرجل الواحد كفوا عنا، وقيل إن هذه المقالة خوطب بها كل نبي في زمانه، لأن هذه طريقتهم التي ينبغي لهم الكون عليها. فيكون المعنى: وقلنا يا أيها الرسل خطاباً لكل واحد على انفراده لاختلاف أزمنتهم. ويدخل تحته عيسى دخولاً أولياً، فهذه حكاية لرسول الله صلى الله عليه وسلم على وجه الإجمال لما خوطب به كل رسول في عصره جيء بها إثر حكاية إيواء عيسى وأمه، إلى الربوة إيذاناً بأن ترتيب مبادي التنعم لم يكن من خصائصه عليه السلام، بل إباحة الطعام شرع قديم جرى عليه جميع الرسل، ووصّوْا به، أي وقلنا لكل رسول من الرسل كلوا (من الطيبات) وهو ما يستطاب(9/125)
ويستلذ وقيل هي الحلالات، وقيل هي ما جمع الوصفين المذكورين. ثم بعد أن أمرهم بالأكل من الطيبات أمرهم بالعمل الصالح فقال:
(واعملوا) عملاً (صالحاً) وهو ما كان موافقاً للشرع، فعبر عن تلك الأوامر المتعددة المتعلقة بالرسل بصيغة الجمع عند الحكاية إجمالاً للإيجاز، وفيه من الدلالة على بطلان ما عليه الرهبان من رفض الطيبات ما لا يخفى، ثم علل هذا الأمر بقوله:
(إني بما تعملون عليم) لا يخفى عليّ شيء منه وإني مجازيكم على حسب أعمالكم إن خيراً فخير وإن شراً فشر، وهو تخويف للرسل، والمقصود أممهم. أخرج أحمد ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يا أيها الناس إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال: يا أيها الرسل كلوا " الآية. وقال: (يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم) ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر؛ ومطعمه حرام ومشربه حرام، وملبسه حرام وغذي بالحرام، يمد يديه إلى السماء: يا رب يا رب، فأنىَّ يستجاب لذلك (1) " وعن حفص الفزاري قال: ذلك عيسى ابن مريم، كان يأكل من غزل أمه وهو مرسل لأن حفصاً تابعي.
_________
(1) مسلم 1015.(9/126)
وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (52)
(وإن هذه أمتكم أمة واحدة) هذا من جملة ما خوطب به الأنبياء، والمعنى واعلموا أن هذه ملتكم وشريعتكم -أيها الرسل- ملة واحدة وشريعة متحدة، يجمعها أصل هو أعظم ما بعث الله به أنبياءه وأنزل فيه كتبه، وهو دعاء جميع الأنبياء إلى عبادة الله وحده لا شريك له. والمراد بها على هذه(9/126)
العقائد، إذ هي التي اتحدت في كل الشرائع، أما الأحكام الفرعية فقد اختلفت باختلاف الشرائع، وقيل المعنى أن هذا الذي تقدم ذكره هو دينكم وملتكم فالزموه. على أن المراد بالأمة هنا الدين كما في قوله: (إنا وجدنا آباءنا على أمة).
وقال الخليل: أي أنا عالم بأن هذا دينكم الذي أمرتكم أن تؤمنوا به. قال الفراء: " واعلموا أن هذه أمتكم " وقال سيبويه " فاتقون لأن أمتكم أمة واحدة " وإنما أشير إليها بـ (هذه) هذه للتنبيه على كمال ظهور أمرها في الصحة والسداد وانتظامها بسبب ذلك في سلك الأمور المشاهدة، والفاء في (وأنا ربكم فاتقون) لترتيب الأمر بالتقوى على ما قبله من كونه ربكم المختص بالربوبية، أي لا تفعلوا ما يوجب العقوبة عليكم مني بأن تشركوا بي غيري، أو تخالفوا ما أمرتكم به أو نهيتكم عنه: ثم ذكر سبحانه ما وقع من الأمم من مخالفتهم لما أمرهم به الرسل فقال:(9/127)
فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (53)
(فتقطعوا أمرهم بينهم زبراً) الفاء لترتيب عصيانهم على ما سبق من الأمر بالتقوى، والضمير يرجع إلى ما يدل عليه لفظ الأمة. والمعنى أنهم جعلوا دينهم مع اتحاده قطعاً متفرقة وأدياناً مختلفة. قال المبرد: زبراً فرقاً وقطعاً مختلفة، وأحدها زبور؛ وهي الفرقة والطائفة، ومثله الزبرة وجمعها زبر بالضم والفتح قيل معنى زبراً كتباً، فوصف سبحانه الأمم بأنهم اختلفوا، فاتبعت فرقة التوراة وفرقة الزبور وفرقة الإنجيل؛ ثم حرفوا وبدلوا، وفرقة مشركة اتبعوا ما رسمه لهم آباؤهم من الضلال، قرئ زبراً بضم الباء؛ وقرئ بفتحها؛ أي قطعاً كقطع الحديد (كل حزب بما لديهم فرحون) أي كل فريق من هؤلاء المختلفين بما عندهم من الدين معجبون مسرورون، لاعتقادهم أنهم على الحق.(9/127)
فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (54)
(فذرهم في غمرتهم) أي اتركهم في جهلهم فليسوا بأهل للهداية ولا(9/127)
يضيق صدرك بتأخير العذاب عنهم، فلكل شيء وقت شبه سبحانه ما هم فيه من الجهل بالماء الذي يغمر من دخل فيه، والغمرة في الأصل ما يغمرك ويعلوك، وأصلها الستر، والغمر الماء الكثير لأنه يغطي الأرض، وغمر الرداء هو الذي يشمل الناس بالعطاء، ويقال للحقد الغمر، والمراد هنا الحيرة والغفلة والضلالة، والآية خارجة مخرج التهديد لهم، والتسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم لا مخرج الأمر له صلى الله عليه وسلم بالكف عنهم، بل نهى له عن الاستعجال بعذابهم، والجزع من تأخيره.
ومعنى (حتى حين) حتى يحضر وقت عذابهم بالقتل، أو حتى يموتوا
على الكفر فيعذبون بالنار(9/128)
أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (55)
(أيحسبون) الهمزة للإنكار، والجواب عنه
مقدر، يدل عليه قوله الآتي: بل لا يشعرون (أنما نمدهم به من مال
وبنين) أي ما نعطيهم في هذه الدنيا من الأموال والبنين، ونجعله مدداً
لهم.(9/128)
نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ (56)
(نسارع لهم في الخيرات) أي فيما فيه خيرهم وإكرامهم، قال الزجاج: المعنى نسارع لهم به في الخيرات فحذفت به و (ما) في (أنما) موصولة والرابط هو هذا المحذوف، وقال الكسائي: إن (أنما) هو حرف واحد فلا تحتاج إلى رابط، وقرئ يسارع بالتحتية على أن فاعله هو الإمداد أو يسارع الله لهم، وقرئ بالنون، قال الثعلبي: وهذه هي الصواب لقوله: (نمدهم) وهذه الآية حجة على المعتزلة في مسألة الأصلح، لأنهم يقولون: إن الله لا يفعل بأحد من الخلق إلا ما هو أصلح له في الدين، وقد أخبر أن ذلك ليس بخير لهم في الدين ولا أصلح.
(بل لا يشعرون) عطف على مقدر ينسحب إليه الكلام أي إضراب انتقالي عن الحسبان المستفهم عنه، استفهام تقريع، والمعنى كلا لا نفعل(9/128)
ذلك، بل هم لا يشعرون بشيء أصلاً كالبهائم التي لا تفهم ولا تعقل، فإن ما خوّلناهم من النعم وأمددناهم به من الخيرات، إنما هو استدراج لهم واستجرار إلى زيادة الإثم ليزدادوا إثماً، كما قال سبحانه (إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً) وهم يحسبونه مسارعة لهم في الخيرات، ولما نفى سبحانه الخيرات الحقيقية عن الكفرة المتنعمين أتبع ذلك بذكر من هو أهل للخيرات عاجلاً وآجلاً فوصفهم بصفات أربع.
الأولى قوله:(9/129)
إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57)
(إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون) الإشفاق الخوف تقول أنا مشفق من هذا الأمر أي خائف، قيل الاشفاق هو الخشية فظاهر ما في الآية هو التكرار، وأجيب بحمل الخشية على العذاب أي من عذاب ربهم خائفون ولو من غير فعل خطيئة، وبه قال الكلبي ومقاتل، وأجيب أيضاً بحمل الاشفاق على ما هو أثر له وهو الدوام على الطاعة أي دائمون على طاعته وأجيب أيضاً بأن الاشفاق كمال الخوف فلا تكرار، وقيل هو تكرير للتأكيد كما أشار إليه في التقرير وفيه نظر.
والصفة الثانية قوله:(9/129)
وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58)
(والذين هم بآيات ربهم يؤمنون) قيل المراد بالآيات هي التنزيلية، وقيل هي التكوينية؛ وقيل مجموعهما، قيل وليس المراد بالإيمان بها هو التصديق بوجودها فقط، فإن ذلك معلوم بالضرورة ولا يوجب المدح؛ بل المراد التصديق بكونها دلائل وأن مدلولها حق.
والصفة الثالثة قوله:(9/129)
وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ (59)
(والذين هم بربهم لا يشركون) معه غيره أي يتركون الشرك تركاً كلياً ظاهراً وباطناً.
والصفة الرابعة قوله:(9/129)
وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60)
(والذين يؤتون) أي يعطون (ما آتوا) أي ما أعطوا (وقلوبهم وجلة) أي خائفة أشد الخوف من أجل ذلك الإعطاء يظنون أن ذلك لا ينجيهم من عذاب الله، والجملة حالية.(9/129)
قال الزجاج: قلوبهم وجلة من (أنهم إلى ربهم راجعون) وسبب الوجل هو أن يخافوا أن لا يقبل منهم ذلك على الوجه المطلوب لا مجرد رجوعهم إليه سبحانه، وقيل المعنى أن من اعتقد الرجوع إلى الجزاء والحساب، وعلم أن المجازي والمحاسب هو الرب الذي لا تخفى عليه خافية لم يخل من وجل، وقرئ (يأتون ما أتوا) مقصوراً من الإتيان.
قال الفراء: ولو صحت لم تخالف قراءة الجماعة لأن من العرب من يلزم في الهمز الألف في كل الحالات، قال النحاس: ومعناها يعملون ما عملوا يفعلون ما فعلوا من الطاعات.
أخرج الترمذي وابن ماجه والحاكم وصححه وغيرهم عن عائشة قالت: قلت يا رسول الله، قول الله (والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة) أهو الرجل يسرق ويزني ويشرب الخمر؟ وهو مع ذلك يخاف الله؛ قال: " لا، ولكنه الرجل يصوم ويتصدق ويصلي وهو مع ذلك يخاف الله أن لا يتقبل منه " (1).
وعن ابن عباس قال: يعطون ما أعطوا ويعملون خائفين، وعن ابن عمر قال: الزكاة، وعن عائشة قالت: هم الذين يخشون الله ويطيعونه.
وأخرج البخاري في تاريخه والدارقطني والحاكم وصححه وغيرهم، عن عبيد بن عمير أنه سأل عائشة كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ هذه الآية (والذين يؤتون ما آتوا، والذين يؤتون ما أتوا) قالت: أيتهما أحب إليك؟ وقلت والذي نفسي بيده لأحدهما أحب إليّ من الدنيا وما فيها جميعاً، قالت أيتهما قلت الذين يأتون ما أتوا، فقالت أشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرؤها كذلك، وكذلك أنزلت ولكن الهجاء حرف، وفي إسناده إسماعيل بن علي وهو ضعيف.
_________
(1) المستدرك كتاب التفسير 2/ 394.(9/130)
أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ (61) وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (62) بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ (63) حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ (64) لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لَا تُنْصَرُونَ (65) قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ (66) مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ (67)(9/131)
أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ (61)
(أولئك) أي المتصفون بهذه الصفات (يسارعون في الخيرات) أي يبادرون بها ويرغبون في الطاعات أشد الرغبة، قال الفراء والزجاج: ينافسون فيها، وقيل يسابقون وقرئ يسرعون (وهم لها سابقون) اللام للتقوية أي هم سابقون إياها، وقيل اللام بمعنى إلى كما في قوله: (إن ربك أوحى لها) أي إليها وقيل هم سابقون الناس لأجلها، والأظهر أن الضمير يعود على الخيرات لتقدمها في اللفظ، وقيل يعود على الجنة، وقيل على السعادة.
قال ابن عباس: أي سبقت لهم السعادة من الله، ثم لما انجر الكلام إلى ذكر أعمال المكلفين ذكر لها حكمين: الأول قوله:(9/131)
وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (62)
(ولا نكلف نفساً إلا وسعها) قد تقدم بيان هذا في آخر سورة البقرة، وفي تفسير الوسع قولان، الأول: أنه الطاقة، كما فسره بذلك أهل اللغة الثاني: أنه دون الطاقة؛ وبه قال مقاتل والضحاك والكلبي والمعتزلة قالوا: إن الوسع إنما سمي وسعاً لأنه يتسع على فاعله فعله، ولا يضيق عليه، فمن لم يستطع الجلوس فليومئ إيماء ومن لم يستطع الصوم فليفطر وهذه جملة مستأنفة للتحريض على ما وصف به السابقون من فعل الطاعات المؤدي إلى نيل الكرامات ببيان سهولته، وكونه غير خارج عن حد الوسع والطاقة، وأن ذلك عادة الله سبحانه في تكليف عباده، وهو رد على من جوز تكليف ما لا يطاق.
(و) جملة (لدينا كتاب ينطق بالحق) من تمام ما قبلها من نفي(9/131)
التكليف بما فوق الوسع، والمراد بالكتاب صحائف الأعمال أي عندنا كتاب قد أثبت فيه أعمال كل واحد من المكلفين على ما هي عليه، يظهر به الحق المطابق للواقع من دون زيادة ولا نقص، ومثله قوله سبحانه (هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق إنّا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون) وفي هذا تهديد للعصاة، وتأنيس للمطيعين من الحيف والظلم، وقيل المراد بالكتاب اللوح المحفوظ، فإنه قد كتب فيه كل شيء، وقيل المراد القرآن، والأول أولى، وفي هذه الآية تشبيه للكتاب ممن يصدر عنه البيان بالنطق بلسانه، فإن الكتاب يعرب عما فيه؛ كما يعرب الناطق المحق ..
والمعنى ينطق متلبساً بالحق، وجملة (وهم لا يظلمون) مبينة لما قبلها من تفضله تعالى وعدله في جزاء عباده أي النفوس العاملة لا يظلمون شيئاً منها بنقص ثواب أو بزيادة عقاب، ومثله قوله سبحانه: (ووجدوا ما عملوا حاضراً ولا يظلم ربك أحداً) والجمع باعتبار عموم النفس لوقوعها في سياق النفي ثم أضرب سبحانه عن هذا فقال:(9/132)
بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ (63)
(بل قلوبهم في غمرة) أي بل قلوب الكفار في غمرة غامرة لها (من هذا) الكتاب الذي ينطق بالحق أو عن الأمر الذي عليه المؤمنون يقال غمره الماء إذا غطاه، ونهر غمر يغطّي من دخله، والمراد بها هنا الغطاء والغفلة أو الحيرة والعمى والجهالة، قال ابن عباس: يعني بالغمرة الكفر والشك.
(ولهم) أي للكفار (أعمال من دون ذلك) قال ابن عباس: يقول أعمال سيئة دون الشرك منها إقامة إمائهم في الزنا، وقال قتادة ومجاهد: أي لهم خطايا لا بد أن يعملوها من دون الحق.
وقال الحسن وابن زيد: لهم أعمال سيئة لم يعملوها من دون ما هم عليه لا بد أن يعملوها فيدخلون النار، والمراد بال (دون) الغير أي الضد(9/132)
أي أن لهم أعمالاً مضادة ومخالفة لأوصاف المؤمنين، وقيل الإشارة بقوله: ذلك إما إلى أعمال المؤمنين، أو إلى أعمال الكفار أي لهم أعمال من دون أعمال المؤمنين، التي ذكرها الله، أو من دون أعمال الكفار التي تقدم ذكرها من كون قلوبهم في غفلة عظيمة مما ذكر، وهي فنون كفرهم ومعاصيهم التي من جملتها ما سيأتي من طعنهم في القرآن.
قال الواحدي: إجماع المفسرين وأصحاب المعاني على أن هذا إخبار عما سيعملونها من أعمالهم الخبيثة؛ التي كتبت عليهم لا بد لهم أن يعملوها وجملة (هم لها عاملون) مقررة لما قبلها أي واجب عليهم أن يعملوها فيدخلوا بها النار لما سبق لهم في الأزل من الشقاوة لا محيص لهم عن ذلك أي مستمرون عليها؛ ثم رجع سبحانه إلى وصف الكفار فقال:(9/133)
حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ (64)
(حتى) ابتدائية أو حرف جر أو غائية عاطفة، أقوال (إذا أخذنا مترفيهم بالعذاب إذا هم يجأرون) مبينة لما قبلها، والضمير راجع إلى ما تقدم ذكره من الكفار، والمراد بالمترفين المتنعمون منهم وهم الذين أمدهم الله بما تقدم ذكره من المال والبنين أو المراد بهم الرؤساء منهم، والمراد بالعذاب هو عذابهم بالسيف يوم بدر، أو بالجوع بدعاء النبي (- صلى الله عليه وسلم -) عليهم حيث قال: " اللهم اشدد وطأتك على مضر، واجعلها عليهم سنين كسني يوسف " (1).
وقيل المراد عذاب الآخرة ورجح هذا بأن ما يقع منهم من الجؤار إنما يكون عند عذاب الآخرة لأنه الاستغاثة بالله، ولم يقع منهم ذلك يوم بدر ولا في سني الجوع، ويجاب عنه بأن الجؤار في اللغة الصراخ والصياح.
قال الجوهري: الجؤار مثل الخوار، يقال: جأر الثور يجأر أي صاح وقد وقع منهم ومن أهلهم وأولادهم عند أن عذبوا بالسيف يوم بدر، وبالجوع
_________
(1) مسلم 675 - البخاري 483.(9/133)
في سني الجوع، وليس الجؤار هنا مقيداً بالجؤار الذي هو التضرع بالدعاء حتى يتم ما ذكره هذا القائل وجملة (إذا هم يجأرون) جواب الشرط وإذا هي الفجائية والمعنى حتى إذا أخذنا مترفيهم بالعذاب فأجاءوا الصراخ.
قال ابن عباس: يجأرون يستغيثون أي بربهم، ويلتجئون إليه في كشف العذاب عنهم، ومع ذلك لا ينفعهم، ولذلك أخبر سبحانه أنه يقال لهم حينئذ على جهة التبكيت(9/134)
لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لَا تُنْصَرُونَ (65)
(لا تجأروا اليوم) فالقول مضمر والجملة مسوقة لتبكيتهم وإقناطهم وقطع أطماعهم. وخصص سبحانه المترفين مع أن العذاب لاحق بهم جميعاً واقع على مترفيهم وغير مترفيهم لبيان أنهم بعد النعمة التي كانوا فيها صاروا إلى حالة تخالفها وتباينها، فانتقلوا من النعيم التام إلى الشقاء الخالص، وخص اليوم بالذكر للتهويل والمعنى لا تصيحوا ولا تضجوا ولا تضجروا ولا تجزعوا ولا تستغيثوا. والجؤار الصراخ باستغاثة. وفي القاموس جأر كمنع جأراً وجؤاراً رفع صوته بالدعاء وتضرع واستغاث، والبقرة والثور صاحا، والنبات طال، والأرض طال نبتها.
(إنكم منا لا تنصرون) تعليل للنهي عن الجؤار، والمعنى إنكم من عذابنا لا تمنعون ولا ينفعكم جزعكم. وقيل المعنى لا يلحقكم من جهتنا نصرة تمنعكم مما دهمكم من العذاب، ثم عدد الله سبحانه عليهم قبائحهم توبيخاً لهم فقال:(9/134)
قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ (66)
(قد كانت آياتي) أي القرآن (تتلى عليكم) في الدنيا (فكنتم على أعقابكم تنكصون) أي ترجعون وراءكم. قال ابن عباس: تدبرون؛ وأصل النكوص أن يرجع القهقرى؛ أي إلى جهة الخلف، وهو أقبح المشيات لأنه لا يرى ما وراءه، وهو هنا استعارة للإعراض عن الحق، وقرأ علي بن أبي طالب على أدباركم بدل على أعقابكم.(9/134)
مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ (67)
(مستكبرين به) أي بالبيت العتيق. وقيل بالحرم، والذي سوغ(9/134)
الإضمار قبل الذكر اشتهارهم بالاستكبار به وافتخارهم بولايته والقيام به، وكانوا يقولون لا يظهر علينا أحد لأنا أهل الحرم وخدامه، وإلى هذا ذهب جمهور المفسرين، وقيل الضمير عائد إلى القرآن، والمعنى أن سماعه يحدث لهم كبراً وطغياناً فلا يؤمنون به، قال ابن عطية: وهذا قول جيد، وقال النحاس: القول الأول أولى، وبينه بما ذكرناه، فعلى الأول يكون به متعلقاً بمستكبرين؛ وعلى الثاني بقوله:
(سامراً) لأنهم كانوا يجتمعون حول البيت بالليل يسمرون، وكان عامة سمرهم ذكر القرآن والطعن فيه؛ والسامر كالحاضر، والحاج والراكب والغائب في الإطلاق على الجمع قال الواحدي: السامر الجماعة يسمرون بالليل، أي يتحدثون وقيل مأخوذ من السمر، وهو سهر الليل. وقال الراغب: السامر الليل المظلم، وقرئ سمراً وسماراً: ورويت هذه عن ابن عباس. قال: الراغب ويقال سامر وسمار وسمر وسامرون. ويجوز أن يتعلق (به) بقوله:
(تهجرون) والهجر -بالفتح- الهذيان، أي يهذون في شأن القرآن؛ أو من الهجر -بالضم- وهو الفحش، وقرئ تُهْجِرون من أهجر، أي افحش في منطقه، ومن هجّر بالتشديد، ومن الهجران وهو الترك. ومن الهجر بسكون الجيم وهو القطع والصد، أي تهجرون آيات الله ورسوله وتزهدون فيهما فلا تصلونهما، وقرئ بالتحتية وفيه التفات.
قال ابن عباس: تسمرون حول البيت وتقولون هجراً، وكانت قريشاً يتحلقون حلقاً يتحدثون حول البيت، وعنه قال: كان المشركون يهجرون برسول الله صلى الله عليه وسلم في القول بسمرهم، وعنه قال: إنما كره السمر حين نزلت هذه الآية. أخرجه النسائي.(9/135)
أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (68) أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (69) أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (70) وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ (71) أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (72) وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (73) وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ (74)(9/136)
أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (68)
(أفلم يدبّروا القول) بين سبحانه أن سبب إقدامهم على الكفر هو أحد هذه الأمور الأربعة:
الأول: عدم التدبر في القرآن، فإنهم لو تدبروا معانيه لظهر لهم صدقه وآمنوا به وبما فيه، والهمزة للإنكار والفاء للعطف على مقدر، أي فعلوا ما فعلوا فلم يتدبروا، والمراد بالقول القرآن. ومثله (أفلا يتدبرون القرآن).
والثاني قوله: (أم جاءهم ما لم يأت آباءهم الأولين) أم هي المنقطعة، أي بل أجاءهم من الكتاب فكان ذلك سبباً لاستكبارهم للقرآن، والمقصود تقرير أنه لم يأت آباءَهم الأولين رسول فلذلك أنكروه ومثله قوله: (لتنذر قوماً ما أنذر آباؤهم). وقيل إنه أتى آباءهم الأقدمين رسل، أرسل الله إليهم كما هي سنة الله سبحانه في إرسال الرسل إلى عباده، فقد عرف هؤلاء ذلك، فكيف كذبوا هذا القرآن؟ وقيل المعنى أم جاءهم من الأمن من عذاب الله ما لم يأت آباءهم الأولين كإسماعيل ومن بعده.
والثالث قوله:(9/136)
أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (69)
(أم لم يعرفوا رسولهم فهم له منكرون) وفي هذا إضراب وانتقال من التوبيخ بما تقدم إلى التوبيخ بوجه آخر، أي بل ألم يعرفوه بالأمانة والصدق فأنكروه، ومعلوم أنهم قد عرفوه بذلك، عن أبي صالح قال: عرفوه ولكنهم حسدوه.(9/136)
والرابع قوله:(9/137)
أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (70)
(أم يقولون به جنة) هذا أيضاً انتقال من توبيخ إلى توبيخ أي بل أيقولون به جنون؟ مع أنهم قد علموا أنه أرجح الناس عقلاً وأثقبهم ذهناً وأوجههم لباً، ولكنه جاء بما يخالف هواهم، فدفعوه وجحدوه تعصباً وحمية، وسيأتي خامس في قوله، (أم تسألهم خرجاً)، ثم أضرب سبحانه عن ذلك كله فقال: (بل جاءهم بالحق) أي ليس الأمر كما زعموا في حق القرآن والرسول، بل جاءهم متلبساً بالحق، والحق هو الدين القويم، أو القرآن المشتمل على التوحيد وشرائع الإسلام، وعن أبي صالح قال: الحق هو الله عز وجل.
(وأكثرهم للحق كارهون) لما جبلوا عليه من التعصب والانحراف عن الصواب والبعد عن الحق، فلذلك كرهوا هذا الحق الواضح الظاهر، والمراد بالحق هنا أعم من الأول؛ فلذلك أتى به مظهراً في مقام المضمر، وظاهر النظم القرآني أنّ أقلهم كانوا لا يكرهون الحق ولكنهم لم يظهروا الإيمان خوفاً من الكارهين له أو لقلة فطنتهم وعدم فكرتهم لا لكراهة الحق.(9/137)
وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ (71)
(ولو اتبع الحق أهواءهم) مستأنفة لبيان أنه لو جاء الحق على ما يهوونه ويريدونه من الشريك والولد لله تعالى لكان ذلك مستلزماً للفساد العظيم وخروج نظام العالم عن الصلاح بالكلية، وهو معنى قوله: (لفسدت السماوات والأرض) قال ابن جريج ومقاتل والسدي: الحق هو الله؛ والمعنى لو جعل الله مع نفسه كما تحبون شريكاً لفسدت هي (ومن فيهن) وقال الفراء والزجاج: الحق القرآن، أي لو نزل القرآن بما يحبون من الشرك لفسد نظام العالم، وقيل المعنى لو كان الحق ما يقولون من اتخاذ الآلهة مع الله لأختلفت الآلهة، ومثل ذلك قوله: (لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا) لوجود التمانع في الشيء عادة عند تعدد الحاكم وقد ذهب إلى القول الأول الأكثرون، ولكنه يرد عليه أن المراد بالحق هنا هو الحق المذكور قبله، من قوله: (بل جاءهم بالحق)، ولا يصح أن يكون المراد به هنالك الله(9/137)
سبحانه، فالأولى تفسير الحق هنا وهناك بالصدق الصحيح من الدين الخالص من شرع الله، والمعنى ولو ورد الحق متابعاً لأهوائهم موافقاً لفاسد مقاصدهم لحصل الفساد، والمراد بمن في السماوات والأرض ما فيهما من المخلوقات وخص العقلاء بالذكر لأن غيرهم تبع.
وقرأ ابن مسعود: وما بينهما، وسبب فساد المكلفين من بني آدم ظاهر، وهو ذنوبهم التي من جملتها الهوى المخالف للحق، وأما فساد ما عداهم فعلى وجه التبع لأنهم مدبرون في الغالب بذوي العقول، فلما فسدوا فسدوا، ثم ذكر سبحانه أن نزول القرآن عليهم من جملة الحق فقال:
(بل أتيناهم بذكرهم) إضراب وانتقال عن قوله: (وأكثرهم للحق كارهون) أي كيف يكرهون الحق مع أن القرآن أتاهم بتشريفهم وتعظيمهم، فاللائق بهم الانقياد، فالمراد بالذكر هنا القرآن، أي أتيناهم بالكتاب الذي هو فخرهم وشرفهم لأن الرسول منهم والقرآن بلغتهم؛ ومثله قوله: (وإنه لذكر لك ولقومك) وحاصل المعنى بل أتيناهم بفخرهم وشرفهم الذي كان يجب عليهم أن يقبلوه، ويقبلوا عليه وقال قتادة: المعنى بذكرهم الذي ذكر فيه ثوابهم وعقابهم. وقيل المعنى بذكر ما لهم به حاجة من أمر الدين.
وقرئ أتيتهم بتاء التكلم وأتيتهم بتاء الخطاب، أي أتيتهم يا محمد، وقرئ بذكراهم، ونذكرهم بصيغة التكلم من التذكير، وقيل الذكر هو الوعظ، وقيل الذي كانوا يتمنونه، ويقولون لو أن عندنا ذكراً من الأولين وقال ابن عباس: أتيناهم بينّا لهم.
(فهم) بما فعلوا من الاستكبار والنكوص (عن ذكرهم) المختص بهم (معرضون) بسوء اختيارهم لا يلتفتون إليه بحال من الأحوال، وأتى بذكرهم مظهراً للتوكيد والتشنيع عليهم، وفي هذا التركيب ما يدل على أن إعراضهم مختص بذلك لا يتجاوزه إلى غيره؛ ثم بين سبحانه أن دعوة نبيه صلى الله عليه وسلم ليست مشوبة بأطماع الدنيا فقال:(9/138)
أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (72)
(أم) منقطعة، والمعنى لكنهم يزعمون أنك (تسألهم خرجاً) تأخذه على الرسالة، والخرج الأجر والجعل، فتركوا الإيمان بك وبما جئت به لأجل ذلك مع أنهم يعلمون أنك لم تسألهم ذلك ولا طلبته منهم (فخراج) أي فرزق (ربّك) الذي يرزقك في الدنيا وأجره الذي يعطيك في الآخرة (خير) لك وقرئ خراجاً، والخرج هو الذي يكون مقابلاً للدخل، يقال لكل ما تخرجه إلى غيرك خرجاً، والخراج غالب في الضريبة على الأرض. قال المبرّد: الخرج المصدر والخراج الاسم.
وقال أبو عمرو بن العلاء: الخراج ما لزمك والخرج ما تبرعت به، وروي عنه أيضاً الخرج من الرقاب والخراج من الأرض، فالخرج أخص من الخراج، تقول خراج القرية وخرج الكوفة، فزيادة اللفظ لزيادة المعنى.
(وهو خير الرازقين) أي أفضل المعطين، والجملة مقررة لما قبلها من كون خراجه سبحانه خيراً، ثم لما أثبت سبحانه لرسوله من الأدلة الواضحة المقتضية لقبول ما جاء به ونفي عنه أضداد ذلك قال:(9/139)
وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (73)
(وإنّك لتدعوهم إلى صراط مستقيم) أي إلى طريق واضحة تشهد العقول بأنها مستقيمة غير معوجة، والصراط في اللغة الطريق، فسمي الدين طريقاً لأنها تؤدى إليه، ثم وصفهم سبحانه بأنهم على خلاف ذلك فقال:(9/139)
وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ (74)
(وإنّ الذين لا يؤمنون بالآخرة عن الصراط لناكبون) يقال نكب عن الطريق ينكب نكوباً إذا عدل عنه ومال إلى غيره، والنكوب والنكب العدول والميل، ومنه النكباء للريح بين ريحين، سميت بذلك لعدولها عن المهاب، والمعنى أن هؤلاء الموصوفين بعدم الإيمان بالآخرة، أي البعث والثواب والعقاب، لعادلون عن صراط أو عن جنس الصراط، ثم بين سبحانه أنهم مصرّون على الكفر لا يرجعون عنه بحال فقال:(9/139)
وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (75) وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ (76) حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (77) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (78) وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (79) وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (80) بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ (81)(9/140)
وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (75)
(ولو رحمناهم وكشفنا ما بهم من ضر) أي من قحط وجدب (للجوا في طغيانهم) أي لتمادوا في ضلالهم، وأصل اللجاج التمادي في العناد، ومنه اللَّجة بالفتح لتردد الصوت؛ ولجة البحر تردد أمواجه، ولجة الليل تردد ظلامه وقيل المعنى لو رددناهم إلى الدنيا ولم ندخلهم النار وامتحناهم للجوا في طغيانهم (يعمهون) أي يترددون ويتذبذبون ويخبطون.(9/140)
وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ (76)
(ولقد أخذناهم بالعذاب) تأكيد للشرطية مسوق لتقريرها، والعذاب قيل هو الجوع الذي أصابهم في سني القحط، وقيل المرض وقيل القتل يوم بدر، واختاره الزجاج. وقيل الموت، وقيل المراد من أصابه العذاب من الأمم الخالية.
(فما استكانوا) أي ما خضعوا ولا تذللوا (لربهم) بل أقاموا على ما كانوا فيه من التمرد على الله والانهماك في معاصيه (وما يتضرعون) أي وما يخشعون لله في الشدائد عند إصابتها لهم ولا يدعونه لرفع ذلك.
أخرج النسائي والطبراني والحاكم وصححه وغيرهم عن ابن عباس قال: جاء أبو سفيان إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: " يا محمد أنشدك الله والرحم فقد أكلنا العلهز " يعني الوبر بالدم، فأنزل الله (ولقد أخذناهم(9/140)
بالعذاب) إلى آخر الآية (1)، وأصل الحديث في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا على قريش حين استعصوا فقال: " اللهم أعني عليهم بسبع كسبع يوسف " الحديث (2)، وأخرج البيهقي وغيره عن ابن عباس أن ابن أثال الحنفي لما أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أسير فخلى سبيله لحق باليمامة فحال بين أهل مكة وبين الميرة من اليمامة حتى أكلت قريش العلهز، فجاء أبو سفيان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " أليس تزعم أنك بعثت رحمة للعالمين؟ قال: بلى قال: فلقد قتلت الآباء بالسيف والأبناء بالجوع " فأنزل الله هذه الآية.
وعن علي بن أبي طالب في الآية قال: " أي لم يتواضعوا في الدنيا ولم يخضعوا ولو خضعوا لله لاستجاب لهم ".
_________
(1) المستدرك كتاب التفسير 2/ 394.
(2) البخاري كتاب الدعوات باب 58 - الترمذي تفسير سورة 44/ 1.(9/141)
حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (77)
(حتى) ابتدائية (إذا فتحنا عليهم باباً ذا عذاب شديد) قيل هو عذاب الآخرة، وقيل قتلهم يوم بدر بالسيف. قاله ابن عباس. وقيل القحط الذي أصابهم. وقيل فتح مكة. وقيل قيام الساعة (إذا هم فيه مبلسون) أي متحيرون لا يدرون ما يصنعون، والإبلاس التحير والأياس من كل خير. وقرئ مبلَسون بفتح اللام من أبلسه أي أدخله في الإبلاس والبلاس، مثل سلام المسح وهو فارسي معرب، وأبلس أيس، وقد تقدم في الأنعام.(9/141)
وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (78)
(وهو الذي أنشأ لكم السمع والأبصار والأفئدة) امتنّ الله سبحانه عليهم ببعض النعم التي أعطاهم، والمقصود به التقريع والتوبيخ بالنسبة للكافرين وتذكير النعم بالنسبة للمؤمنين وهي نعمة السمع والبصر والفؤاد(9/141)
فصارت هذه الأمور معهم ليسمعوا المواعظ وينظروا العبر ويتفكروا بالأفئدة فلم ينتفعوا بشيء من ذلك لإصرارهم على الكفر وبعدهم عن الحق ولم يشكروه على ذلك ولهذا قال:
(قليلاً ما تشكرون) أي شكراً قليلاً حقيراً غير معتدّ به باعتبار تلك النعم الجليلة، وقيل المعنى أنهم لا يشكرونه ألبتّة لا أن لهم شكراً قليلاً، كما يقال لجاحد النعمة ما أقل شكره أي لا يشكر، ومثل هذه الآية قوله: (فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم) وفيه تنبيه على أن من لم يعمل هذه الأعضاء فيما خلقت له فهو بمنزلة عادمها.(9/142)
وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (79)
(وهو الذي ذرأكم في الأرض) أي بثّكم فيها بالنسل كما تبث الحبوب، وقد تقدم تحقيقه (وإليه تحشرون) أي تجمعون يوم القيامة بعد تفرقكم(9/142)
وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (80)
(وهو الذي يحيي) النسم بالإنشاء ونفخ الروح في المضغة (ويميت) النسم بالإفناء على جهة الانفراد والاستقلال، وفي هذا تذكير بنعمة الحياة وبيان الانتقال منها إلى الدار الآخرة.
(وله اختلاف الليل والنهار) خلقاً وإيجاداً، قال الفراء: هو الذي جعلهما مختلفين يتعاقبان، ويختلفان في السواد والبياض، وقيل اختلافهما نقصان أحدهما وزيادة الآخر، وقيل تكرارهما يوماً بعد يوم وليلة بعد ليلة.
(أفلا تعقلون) كنه قدرته وتتفكرون في ذلك، ثم بين سبحانه أنه لا شبهة لهم في إنكار البعث إلا التشبث بحبل التقليد المبني على مجرد الاستبعاد فقال:(9/142)
بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ (81)
(بل قالوا مثل ما قال الأولون) أي آباؤهم والموافقون لهم في دينهم من قوم نوح، وهود وصالح وغيرهم، ثم بين ما قاله الأولون فقال:(9/142)
قَالُوا أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (82) لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (83) قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (85) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (87) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (89)(9/143)
قَالُوا أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (82)
(قالوا أئذا متنا وكنا تراباً وعظاماً أئنا لمبعوثون)؟ فهذا مجرد استبعاد لم يتعلقوا فيه بشيء من الشبه، ثم كملوا ذلك القول بقولهم:(9/143)
لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (83)
(لقد وعدنا نحن وآباؤنا هذا من قبل) أي وعدنا هذا البعث الآن ووعده آباؤنا الكائنون من قبلنا فلم نصدقه كما لم يصدقوه ثم صرحوا بالتكذيب، وفرّوا إلى مجرد الزعم الباطل فقالوا:
(إن هذا إلا أساطير الأولين) أي ما هذا إلا أكاذيب الأولين التي سطروها في الكتب جمع أسطورة كأحدوثة، والأساطير: الأباطيل والترهات والكذب، وقيل جمع أسطار وهو جمع سطر، والأول أوفق، والمعنى لم نر هذا الوعد شيئاً، وإنا رأيناه أساطير الأولين، ثم أمر الله سبحانه نبيه (- صلى الله عليه وسلم -) أن يسأل أهل مكة عن أمور لا عذر لهم من الاعتراف فيها فقال:(9/143)
قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84)
(قل لمن الأرض ومن فيها) المراد بمن الخلق جميعاً وعبر عنهم بمن تغليباً للعقلاء و (لمن) خبر مقدم والأرض مبتدأ مؤخر (إن كنتم تعلمون) شيئاً من العلم، وجواب الشرط محذوف أي فأخبروني، وفي هذا تلويح بجهلهم وفرط غباوتهم.(9/143)
سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (85)
(سيقولون لله) أي لا بد أن يقولوا ذلك لأنه معلوم ببداهة العقل وهذا إخبار من الله بما يقع منهم في الجواب قبل وقوعه، ثم أمره سبحانه أن(9/143)
يقول لهم بعد اعترافهم (قل أفلا تذكرون) ترغيباً لهم في التدبر وإمعان النظر والفكر فإن ذلك مما يقودهم إلى اتباع الحق وترك الباطل، لأن من قدر على ذلك ابتداء قدر على إحياء الموتى.(9/144)
قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86)
(قل من رب السماوات السبع ورب العرش العظيم * سيقولون لله) جاء سبحانه باللام نظراً إلى معنى السؤال، فإن قولك: مَن ربّه؟ ولمن هو؟ في معنى واحد كقولك: مَن رب هذه الدار؟ فيقال: زيد؛ ويقال لزيد، وقرئ الله بغير لام نظراً إلى لفظ السؤال، وهذا أوضح من الأولى، ولكنه يؤيدها أنها مكتوبة في جميع المصاحف باللام بدون الألف.(9/144)
سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (87)
(قل أفلا تتقون) عبادة غيره أو تحذرون عقابه أو قدرته على البعث، فلا تشركوا به، وفيه تنبيه على أن اتقاء عذاب الله لا يحصل إلا بترك عبادة الأوثان، والاعتراف بجواز الإعادة، فهذا الختم أبلغ من ختم الآية الأولى لاشتماله على الوعيد الشديد، ولما ذكر الأرض أولاً والسماء ثانياً، عمم الحكم هاهنا فقال:(9/144)
قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88)
(قل من بيده ملكوت كل شيء)؟ الملكوت الملك وزيادة التاء للمبالغة نحو جبروت ورحموت ورهبوت، وقال مجاهد: يعني خزائن كل شيء (وهو يجير) أي أنه يغيث غيره إذا شاء ويمنعه (ولا يجار عليه) أي لا يمنع أحد أحداً من عذاب الآخرة؛ ولا يقدر على نصره وإغاثته، يقال: أجرت فلاناً إذا استغاث بك فحميته. وأجرت عليه إذا حميت عنه؛ والمعنى يحمي ولا يحمى عليه (إن كنتم تعلمون) فأجيبوا:(9/144)
سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (89)
(سيقولون لله) قرئ باللام نظراً إلى معنى السؤال كما سلف، وقرئ بغير لام نظراً إلى لفظ السؤال (قل فأنى تسحرون)؟ قال الفراء والزجاج: أي تصرفون عن الحق وتخدعون، والمعنى كيف يخيل إليكم الحق باطلاً؟ والصحيح فاسداً، والخادع لهم هو الشيطان أو الهوى أو كلاهما، ثم بين الله سبحانه أنه قد بالغ في الاحتجاج عليهم فقال:(9/144)
بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (90) مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (91) عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (92) قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ (93) رَبِّ فَلَا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (94) وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ (95) ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ (96) وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ (97)(9/145)
بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (90)
(بل أتيناهم بالحق) أي بالأمر الواضح الذي يحق اتباعه (وإنهم لكاذبون) فيما ينسبونه إلى الله تعالى من الولد والشريك، ثم نفاهما عن نفسه فقال:(9/145)
مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (91)
(ما اتخذ الله من ولد) لأنه منزه عن النوع والجنس وولد الرجل من جنسه (وما كان معه من إله) شريك في الألوهية، ومن في الموضعين زائدة لتوكيد النفي، ثم بين سبحانه ما يستلزمه ما يدعيه الكفار من إثبات الشريك فقال: (إذاً لذهب كل إله بما خلق) وفي الكلام حذف أي لو كان مع الله آلهة أخرى لانفرد كل إله بخلقه واستبد به وامتاز ملكه عن ملك الآخر، ووقع بينهم التطالب والتحارب والتغالب.
(ولعلا بعضهم على بعض) أي ولغلب القوي على الضعيف وقهره وأخذ ملكه كعادة الملوك من بني آدم، وحينئذ فذلك الضعيف المغلوب لا يستحق أن يكون إلهاً، وإذا تقرر عدم إمكان المشاركة في ذلك وأنه لا يقوم به إلا واحد؛ تعين أن يكون هذا الواحد هو الله سبحانه، وهذا الدليل كما دل على نفي الشريك فإنه يدل على نفي الولد لأن الولد ينازع أباه في ملكه، ثم نزّه سبحانه نفسه فقال:(9/145)
(سبحان الله عما يصفون) من الشريك والولد، وإثبات ذلك لله عز وجل(9/146)
عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (92)
(عالم الغيب والشهادة) أي هو مختص بعلم ما غاب وما شوهد، وأما غيره سبحانه فهو وإن علم الشهادة لا يعلم الغيب، وهذا دليل آخر على الوحدانية بواسطة مقدمة أخرى كأنه قيل الله علمهما وغيره لا يعلمهما فغيره ليس بإله وهذا من قبيل الشكل الثاني، وقرئ بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هو الله، وقرئ بالجر على أنه صفة لله عز وجل أو بدل منه، وروي عن يعقوب أنه كان يخفض إذا وصل ويرفع إذا ابتدأ.
(فتعالى) الله (عما يشركون) عطف على معنى ما تقدم؛ كأنه قال: علم الغيب فتعالى، أو أقول: فتعالى، والمعنى أنه سبحانه متعال متعال عن أن يكون له شريك في الملك.(9/146)
قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ (93)
(قل رب إمّا تريني ما يوعدون) أي إن كان ولا بد أن تريني العذاب المستأصل لهم(9/146)
رَبِّ فَلَا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (94)
(رب فلا تجعلني في القوم الظالمين) قال الزجاج: أي إن أنزلت بهم النقمة يا رب، فاجعلني خارجاً عنهم يعني إن النداء معترض، وذكر الرب مرتين قبل الشرط وبعده مبالغة في التضرع والابتهال، وأمره الله أن يسأله أن لا يجعله في القوم الظالمين مع أن الأنبياء لا يكونون معهم أبداً تعليماً له صلى الله عليه وسلم من ربه كيف يتواضع ويهضم نفسه أو لكون شؤم الكفر قد يلحق من لم يكن من أهله كقوله: (واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصّة) ثم لما كان المشركون ينكرون العذاب ويسخرون من النبي صلى الله عليه وسلم إذا ذكر لهم ذلك أكد سبحانه وقوعه بقوله:(9/146)
وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ (95)
(وإنّا على أن نريك ما نعدهم لقادرون) يعني أن الله سبحانه قادر على أن يرى رسوله عذابهم ولكنه يؤخره لعلمه بأن بعضهم سيؤمن أو لكون الله سبحانه لا يعذبهم والرسول فيهم، وقيل قد أراه الله سبحانه ذلك يوم بدر ويوم فتح مكة ثم أمره سبحانه بالصبر إلى أن ينقضي الأجل المضروب فقال:(9/146)
ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ (96)
(ادفع بالتي هي أحسن السيئة) أي ادفع بالخصلة التي هي أحسن من غيرها وهي الصفح والإعراض عما يفعله الكفار من الخصلة السيئة وهي الشرك، قيل وهذه الآية منسوخة بآية السيف وقيل هي في حق هذه الأمة فيما بينهم منسوخة في حق الكفار.
قال مجاهد: أي أعرض عن أذاهم إياك، وقال عطاء: ادفع بالسلام وعن أنس قال: هو قول الرجل لأخيه ما ليس فيه فيقول: إن كنت كاذباً فأنا أسأل الله أن يغفر لك وإن كنت صادقاً فأنا أسأل الله أن يغفر لي.
(نحن أعلم بما يصفون) إياك به مما أنت على خلافه أو بما يصفون من الشرك والتكذيب وفي هذا وعيد لهم بالعقوبة، ثم علمه سبحانه ما يقويه على ما أرشده إليه من العفو والصفح ومقابلة السيئة بالحسنة فقال:(9/147)
وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ (97)
(وقل رب أعوذ بك) أي أعتصم (من همزات الشياطين) جمع همزة وهي في اللغة الدفعة باليد أو بغيرها؛ يقال همزة ولمزة ونخسة أي دفعة، وقيل الهمز كلام من وراء القفا، واللمز المواجهة، والمراد بها هنا خطراته التي يخطرها بقلب الإنسان ووساوسه، وقيل نفخهم ونفثهم، والجمع للمرات أو لتنوع الوساوس، أو لتعدد المضاف إليه، وفي الآية إرشاد لهذه الأمة إلى التعوذ من الشيطان، ومن همزات الشياطين؛ وهي سورات الغضب التي لا يملك الإنسان فيها نفسه.(9/147)
وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (98) حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100) فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ (101) فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (102) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (103) تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ (104) أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (105)(9/148)
وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (98)
(وأعوذ بك رب أن يحضرون) أمره الله سبحانه أن يتعوذ بالله من حضور الشياطين بعد ما أمره أن يتعوذ من همزاتهم؛ وأُعيد كل من العامل والنداء مبالغة ولزيادة اعتناء بهذه الاستعاذة، والمعنى وأعوذ بك أن يكونوا معي في حال من الأحوال فإنهم إذا حضروا الإنسان لم يكن عمل إلا الوسوسة، والإغراء على الشر، والصرف عن الخير، وفي قراءة أُبيّ " وقل رب عائذاً بك ".
وأخرج أحمد وأبو داود والترمذي وحسنه والنسائي والبيهقي، عن عمرو ابن شعيب عن أبيه عن جده قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا كلمات نقولهن عند النوم من الفزع: " بسم الله أعوذ بكلمات الله التامة من غضبه وعقابه وشر عباده، ومن همزات الشياطين وأن يحضرون " قال: فكان ابن عمرو يعلمها من بلغ من أولاده أن يقولها عند نومه، ومن كان منهم صغيراً - لا يغفل أن يحفظها كتبها له، فعلقها في عنقها (1) وفي إسناده محمد ابن إسحاق وفيه مقال معروف وأخرج أحمد عن الوليد بن الوليد أنه قال: يا رسول الله إني أجد وحشة قال: " إذا أخذت مضجعك فقل أعوذ بكلمات الله التامة من غضبه وعقابه وشر عباده ومن همزات الشياطين وأن يحضرون،
_________
(1) أبو داوود كتاب الطب 19 - الترمذي كتاب الدعوات 90.(9/148)
فإنّه لا يحضرك وبالحري لا يضرك " (1).
_________
(1) الإمام أحمد 2/ 161.(9/149)
حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99)
(حتى إذا جاء أحدَهم الموتُ) حتى هي الابتدائية دخلت على الشرطية، وهي مع ذلك غاية لما قبلها متعلقة بقوله لكاذبون. وقيل بيصفون والمراد بمجيء الموت مجيء علاماته، أي رأس مقعده من النار ومقعده من الجنة لو آمن (قال) أي ذلك الأحد الذي حضره الموت تحسراً وتحزناً على ما فرط منه.
(رب ارجعون) أي ردوني إلى الدنيا، وإنما قال بضمير الجماعة لتعظيم المخاطب، وقيل هو على معنى تكرير الفعل، أي ارجعني ارجعني ارجعني، قاله أبو البقاء، ومثله قوله تعالى: (ألقيا في جهنم) قال المازني: معناه ألق ألق، وهكذا قيل في قول امرئ القيس:
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل
ومثله قول الحجاج: يا حرسي اضربا عنقه. وقول الآخر:
ألا فارحمون يا إله محمد
وقيل إنهم لما استغاثوا بالله قال قائلهم: رب؛ ثم رجع إلى مخاطبة الملائكة فقال: ارجعون(9/149)
لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100)
(لعلي أعمل) عملاً (صالحاً) في الدنيا إذا رجعت إليها من الإيمان وما يتبعه من أعمال الخير.
أخرج ابن أبي الدنيا وابن أبي حاتم عن أبي هريرة قال: إذا أدخل الكافر في قبره فيرى مقعده من النار، قال: (رب ارجعون) أتوب وأعمل صالحاً، فيقال له قد عمّرت ما كنت معمِّراً، فيضيق عليه قبره، فهو فالمنهوش ينازع ويفزع، تهوي إليه حيات الأرض وعقاربها.
وعن ابن جريج قال: زعموا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعائشة: " إن المؤمن إذا عاين الملائكة، قالوا: نرجعك إلى الدنيا؟(9/149)
فيقول: إلى دار الهموم والأحزان؟ بل قدما إلى الله، وأما الكافر فيقولون له: نرجعك؟ فيقول رب ارجعون لعلي أعمل صالحاً، وهو مرسل.
وعن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا حضر الإنسان الوفاة يجمع له كل شيء يمنعه عن الحق فيجعل بين عينيه، فعند ذلك يقول رب ارجعون " الآية.
وعن ابن عباس في قوله: (أعمل صالحاً) قال: أقول لا إله إلا الله (فيما تركت) أي في الموضع الذي ضيعت أو منعت، وقيل خلفت من التركة وهو الدنيا لأنه ترك الدنيا وصار إلى العقبى. قال قتادة: ما تمنى أن يرجع إلى أهله وعشيرته ولا ليجمع الدنيا ويقضى الشهوات، ولكن تمنى أن يرجع فيعمل بطاعة الله، فرحم الله امْرءاً عمل فيما تمناه الكافر إذا رأى العذاب. ولما تمنى أن يرجع ليعمل، رد الله عليه ذلك بقوله:
(كلاّ إنها كلمة هو قائلها) فجاء بكلمة الردع والزجر، والضمير في (إنها) يرجع إلى قوله: (رب ارجعون) أي أن هذه الكلمة هو قائلها لا محالة لا يخليها ولا يسكت عنها لاستيلاء الحسرة والندم عليه، وليس الأمر كما يظنه من أنه يجاب إلى الرجوع إلى الدنيا؛ أو المعنى أنه لو أجيب إلى ذلك لما حصل منه الوفاء كما في قوله: (ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه) وقيل إن الضمير في (هو) يرجع إلى الله، أي لا خلف في خبره، وقد أخبرنا بأنه لا يؤخر نفساً إذا جاء أجلها.
(ومن ورائهم) أي من أمامهم وبين أيديهم، والضمير للأحد والجمع باعتبار المعنى لأنه في حكم كلهم، كما أن الأفراد في الضمائر الأول باعتبار اللفظ (برزخ) هو الحاجز بين الشيئين. قاله الجوهري، واختلف في معنى الآية فقال الضحاك ومجاهد وابن زيد: حاجز بين الموت والبعث. وقال(9/150)
الكلبي: هو الأجل بين النفختين وبينهما أربعون سنة. وقال السدي: هو الأجل، وقيل: بينهم وبين الرجوع إلى الدنيا.
(إلى يوم يبعثون) أي يوم القيامة، وهو اقناط كلي عن الرجوع إلى الدنيا لما علم أنه لا رجعة يوم البعث إلى الدنيا، وإنما الرجوع فيه إلى حياة تكون في الآخرة. عن عائشة قالت: ويل لأهل المعاصي من أهل القبور، تدخل عليهم في قبورهم حيات سود، حية عند رأسه وحية عند رجليه، تقرضانه حتى تلتقيا في وسطه، فذلك العذاب في البرزخ الذي قال الله (ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون).(9/151)
فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ (101)
(فإذا نفخ في الصور) قيل هذه هي النفخة الأولى، قاله ابن عباس. وقيل الثانية قاله ابن مسعود وهذا أولى. وهي النفخة التي بين البعث والنشور. وقيل المعنى فإذا نفخ في الأجساد أرواحها، على أن الصور جمع صورة لا القرن وقد قرئ بها وبضم الصاد وسكون الواو، والقرن الذي ينفخ فيه (فلا أنساب بينهم يومئذ) يتفاخرون بها أو تنفعهم لزوال التراحم والتعاطف، أي لا يذكرونها لما هم فيه من فرط الحيرة واستيلاء الدهشة، وهو جمع نسب وهو القرابة.
(ولا يتساءلون) أي لا يسأل بعضهم بعضاً عنها، فإن لهم إذ ذاك شغلاً شاغلاً. ومنه قوله: (يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه) وقوله: (ولا يسأل حميم حميماً) ولا ينافي هذا ما في الآية الأخرى من قوله: (وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون) فإن ذلك محمول على اختلاف المواقف يوم القيامة فالإثبات باعتبار بعضها والنفي باعتبار بعض آخر، كما قررناه في نظائر هذا، مما أثبت تارة ونفي أخرى.
وعن ابن عباس في الآية قال: حين ينفخ في الصور فلا يبقى حي إلا الله. وعنه أنه سئل عن هذه الآية. وقوله: (وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون) قال: إنها مواقف، فأما الموقف الذي لا أنساب بينهم ولا(9/151)
يتساءلون فعند الصعقة الأولى لا أنساب بينهم فيها إذا صعقوا، فإذا كانت النفخة الآخرة فإذا هم قيام يتساءلون وعنه أنه سئل عن الآيتين فقال: هذا في النفخة الأولى حين لا يبقى على الأرض شيء، وذاك لما دخلوا الجنة أقبل بعضهم على بعض يتساءلون وعن ابن مسعود قال: إذا كان يوم القيامة جمع الله الأولين والآخرين، وفي لفظ يؤخذ بيد العبد أو الأمة يوم القيامة على رؤوس الأولين والآخرين، ثم يناد مناد ألا إن هذا فلان بن فلان فمن كان له حق قبله فليأت إلى حقه.
وأخرج أحمد والطبراني والحاكم والبيهقي في سننه عن المسور بن مخرمة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الأنساب تنقطع يوم القيامة غير نسبي وسببي وصهري " (1).
وأخرج البزار والطبراني وأبو نعيم والحاكم والضياء في المختارة عن عمر ابن الخطاب قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " كل سبب ونسب منقطع يوم القيامة إلا سببي ونسبي " (2).
وأخرج ابن عساكر عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كل نسب وصهر ينقطع يوم القيامة إلا نسبي وصهري " (3) وأخرج أحمد عن أبي سعيد الخدري قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على المنبر: " ما بال رجال يقولون إن رحم رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تنفع قومه، بلى والله إن رحمي موصولة في الدنيا والآخرة، وإني أيها الناس فرط لكم " (4).
_________
(1) الإمام أحمد 4/ 323 - 4/ 332.
(2) صحيح الجامع الصغير 4403.
(3) صحيح الجامع الصغير 4440.
(4) أحمد بن حنبل 3/ 18 - 3/ 39.(9/152)
فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (102)
(فمن ثقلت موازينه) أي موزوناته من أعماله الصالحة، فالموازين(9/152)
جمع موزون ويجوز كونه جمع ميزان ومع وحدته جمعه لتعدد الموزون (فأولئك هم المفلحون) أي الفائزون بمطالبهم المحبوبة الناجون من الأمور التي يخافونها.(9/153)
وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (103)
(ومن خفت موازينه) وهي أعماله الصالحة (فأولئك الذين خسروا أنفسهم) أي ضيعوها وتركوا ما ينفعها (في جهنم خالدون) قد تقدم الكلام على هذه الآية مستوفى فلا نعيده.(9/153)
تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ (104)
(تلفح وجوههم النار) أي تحرقها مستأنفة أو حالية أو خبر لأولئك. واللفح أشد النفح لأنه الإصابة بشدة، والنفح الإصابة مطلقاً، كما في قوله تعالى: (ولئن مستهم نفحة من عذاب ربك)، وقيل اللفح الإحراق، يقال: لفحته النار إذا أحرقته، ولفحته بالسيف إذا ضربته، وخص الوجوه لأنها أشرف الأعضاء وقيل تسفع. قال ابن عباس: تلفح تنفخ.
أخرج ابن مردويه والضياء عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) في الآية: " تلفحهم لفحة فتسيل لحومهم على أعقابهم " وعن أبي مسعود قال: لفحتهم لفحة فما أبقت لحماً على عظم إلا ألقته على أعقابهم.
(وهم فيها كالحون) حالية، والكالح الذي قد شمرت شفتاه. وبدت أسنانه قاله الزجاج، ودهر كالح أي شديد. قال أهل اللغة: الكلوح تكشر في عبوس وبابه خضع، ومنه كلوح الأسد أي تكشيره عن أنيابه، وقيل الكلوح تقطب الوجه، وكلح الرجل يكلح كلوحاً وكلاحاً وعن ابن مسعود قال: كلوح الرأس النضج بدت أسنانهم وتقلصت شفاههم، وعن ابن عباس قال: كالحون أي عابسون وعن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم في الآية قال: " تشويهِ النار فتتقلص شفته العليا حتى تبلغ وسط رأسه وتسترخي شفته السفلى، حتى تضرب سرته " أخرجه الترمذي (1)، وقال:
_________
(1) الترمذي جهنم باب 5 - تفسير سورة 23 - 4.(9/153)
قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ (106) رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ (107) قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ (108) إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (109) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (110) إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ (111)
حديث حسن صحيح غريب، وقد ورد في صفة أهل النار وما يقولونه وما يقال لهم أحاديث كثيرة معروفة(9/154)
أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (105)
(ألم تكن آياتي تتلى عليكم)؟ في الدنيا، يعني قوارع القرآن وزواجره تخوفون بها، ويقال لهم ذلك توبيخاً وتقريعاً (فكنتم بها تكذبون) وتزعمون أنها ليست من الله تعالى.(9/154)
قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ (106)
(قالوا ربنا غلبت علينا شقوتنا) مستأنفة والمعنى غلبت علينا لذاتنا وشهواتنا فسمي ذلك شقوة لأنه يؤول إلى الشقاء وقرئ شقاوتنا، وبها قرأ ابن مسعود والحسن، وهما مصدران بمعنى سوء العاقبة، والشقاء ضد السعادة والشدة والعسر (وكنا قوماً ضالين) بسبب ذلك عن الهدى، فإنهم ضلوا عن الحق والصواب بتلك الشقوة، ثم طلبوا ما لا يجابون إليه فقالوا:(9/154)
رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ (107)
(ربنا أخرجنا منها) أي من النار (فإن عدنا) إلى ما كنا عليه من الكفر والتكذيب وعدم الإيمان (فإنّا ظالمون) لأنفسنا بالعود إلى ذلك.(9/154)
قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ (108)
(قال) تعالى لهم بلسان مالك بعد قدر الدنيا مرتين. قيل هو سبعة آلاف سنة بعدد الكواكب السيارة، وقيل إثنا عشرة ألف سنة بعدد البروج، وقيل ثلثمائة ألف سنة وستون بعدد أيام السنة. ذكره القرطبي في التذكرة، والتحقيق فيه ما ذكرناه في لقطة العجلان (اخسئوا فيها) أي اسكتوا في جهنم سكوت هوان قال المبرد: الخسء إبعاد بمكروه، وقال الزجاج: تباعدوا تباعد سخط، وأبعدوا بُعد الكلب، فالمعنى أبعدوا في جهنم، كما(9/154)
يقال للكب اخسأ، أي ابعد، وخسأت الكلب طردته.
(ولا تكلمون) في إخراجكم من النار ورجوعكم إلى الدنيا، أو في رفع العذاب عنكم. وقيل المعنى لا تكلمون رأساً قال الحسن: هو آخر كلام يتكلم به أهل النار وما بعد ذلك إلا الزفير والشهيق وعواء كعواء الكلاب، ثم علل ذلك بقوله:(9/155)
إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (109)
(إنه) تعليل لما قبلها من الزجر عن دعائهم بالخروج منها (كان فريق من عبادي) وهم المؤمنون، وقيل الصحابة المهاجرون ومنهم بلال وصهيب وعمار وخباب.
(يقولون ربنا آمنا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الراحمين) ومحط التعليل قوله:(9/155)
فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (110)
(فاتخذتموهم سخرياً) بكسر السين وبضمها سبعيتان وفرق بينهما أبو عمرو فجعل الكسر من جهة الهزء، والضم من جهة السخرية قال النحاس: ولا يعرف هذا الفرق الخليل ولا سيبويه ولا الكسائي ولا الفراء.
وحكي عن الكسائي أن الكسر بمعنى الاستهزاء والسخرية بالقول، والضم بمعنى التسخير والاستبعاد بالفعل.
(حتى أنسوكم ذكري) أي اتخذتموه سخرياً إلى هذه الغاية فإنهم نسوا ذكر الله لشدة اشتغالهم بالاستهزاء (وكنتم منهم تضحكون) في الدنيا، والمعنى حتى نسيتم ذكري باشتغالكم بالسخرية والضحك، فنسب ذلك إلى عباده المؤمنين لكونهم السبب(9/155)
إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ (111)
(إِني جزيتهم اليوم بما صبروا) مستأنفة لتقرير ما سبق لبيان حسن حالهم، والباء للسببية.
(أنهم هم الفائزون) بفتح الهمزة مفعول ثان لجزيتهم وقرئ بكسرها على الاستئناف. والمعنى جزيتهم بصبرهم الفوز بالجنة. قال الله عز وجل تذكيراً لهم بأن ما ظنوه طويلاً دائماً فهو قليل بالإضافة إلى ما أنكروه، وقرئ قل على صيغة الأمر، والمعنى قل يا محمد للكفار، أو يكون أمراً للملك بسؤالهم، أو التقدير قولوا، فأخرج الكلام مخرج الأمر للواحد، والمراد الجماعة(9/155)
قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (112) قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ (113) قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (114) أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116) وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (117) وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (118)(9/156)
قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (112)
(كم لبثتم في الأرض) التي طلبتم الرجوع إليها، والغرض من هذا السؤال التبكيت والتوبيخ لأنهم كانوا ينكرون اللبث في الآخرة أصلاً، ويحتمل أن يكون السؤال عن جميع ما لبثوا في الحياة الدنيا وفي القبور.
وقيل هو سؤال عن مدة لبثهم في القبور لقوله: (في الأرض) ولم يقل على الأرض، ورد بمثل قوله تعالى: (ولا تفسدوا في الأرض) (عدد سنين) أي لبثتم كم عدداً من السنين -بفتح النون على أنها نون الجمع- ومن العرب من يخفضها وينونها.(9/156)
قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ (113)
(قالوا لبثنا يوماً أو بعض يوم) استقصروا مدة لبثهم وشكوا في ذلك لعظم ما هم فيه من العذاب الشديد. وقيل إن العذاب رفع عنهم بين النفختين فنسوا ما كانوا فيه من العذاب في قبورهم، وقيل أنساهم الله ما كانوا فيه من العذاب من النفخة الأولى إلى النفخة الثانية، ثم لما عرفوا ما أصابهم من النسيان لشدة ما هم فيه من الهول العظيم أحالوا على غيرهم فقالوا:
(فاسأل العادّين) جمع عادّ من العدد، أي المتمكنين من معرفة العدد، وهم الملائكة لأنهم الحفظة العارفون بأعمال العباد وأعمارهم، وقيل(9/156)
المعنى فاسئل الحاسبين العارفين بالحساب من الناس.(9/157)
قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (114)
(قال إن لبثتم إلا قليلاً) قرئ على الخبر وقرئ قل كما في الآية الأولى، وقد تقدم توجيه القراءتين أي ما لبثتم في الأرض إلا زمناً قليلاً أو لبثاً قليلاً، قال تعالى ذلك بلسان مالك تصديقاً لهم وتقريعاً وتوبيخاً (لو أنكم كنتم تعلمون) شيئاً من العلم، والجواب محذوف أي لعلمتم اليوم قلة فيكم في الأرض، أو في القبور أو فيهما فكل ذلك قليل بالنسبة إلى لبثهم في النار، ثم زاد في توبيخهم على تماديهم في الغفلة، وتركهم النظر الصحيح فيما يدل على حقية البعث والقيامة فقال:(9/157)
أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115)
(أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً) لا لحكمة، والهمزة للتوبيخ والتقرير والفاء للعطف على مقدر أي ألم تعلموا شيأ فحسبتم أو أغفلتم وتلاهيتم وتعاميتم فحسبتم والمعنى عابثين أو لأجل العبث، قال بالأول سيبويه وقطرب وبالثاني أبو عبيدة، والعبث في اللغة اللعب وما لا فائدة فيه، يقال: عبث يعبث عبثاً، فهو عابث أي لاعب وأصله من قولهم: عبثت الأقط أي خلطته، والمعنى أفحسبتم أنا خلقناكم للإهمال كما خلقت البهائم ولا ثواب ولا عقاب.
(وأنكم إلينا لا ترجعون) بالبعث والنشور فيجازيكم بأعمالكم؛ قرئ ترجعون مبنياً للفاعل وللمفعول، وقدم إلينا على الفعل لأجل الفواصل، ثم نزه سبحانه نفسه فقال:(9/157)
فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116)
(فتعالى الله) أي تنزه عن الأولاد والشركاء أو عن أن يخلق شيئاً عبثاً أو عن جميع ذلك وهو (الملك) الذي يحق له الملك على الإطلاق إيجاداً وإعداماً بدءاً وإعادة وإحياء وإماتة وعقاباً وإثابة، وكل ما سواه مملوك له بالذات مقهور لملكوته مالك بالعرض من وجه دون وجه وفي حال دون حال(9/157)
(الحق) في جميع أفعاله وأقواله وهذا استعظام له تعالى ولشؤونه.
(لا إله إلا هو رب العرش الكريم) فكيف لا يكون إلهاً ورباً لما هو دون العرش الكريم وما تحته من المخلوقات وما أحاط به من الموجودات كائناً ما كان ووصف العرش بالكريم لنزول القرآن أو الرحمة أو الخير منه أو باعتبار من استوى عليه كما يقال بيت كريم إذا كان ساكنوه كراماً، أو لنسبته إلى أكرم الأكرمين من حيث أنه أعظم مخلوقاته وقرئ الكريم بالرفع على أنه نعت لرب.
أخرج الحكيم الترمذي وأبو يعلى وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن السني في عمل اليوم والليلة وابن مردويه وأبو نعيم في الحلية، عن ابن مسعود أنه قرأ في أذن مصاب: أفحسبتم حتى ختم السورة فبرئ فقال رسول الله صلى الله " بماذا قرأت في أذنه؟ " فأخبره فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " والذي نفسي بيده لو أن رجلاً موقناً قرأ بها على جبل لزال ".
وأخرج ابن السني وابن منده وأبو نعيم قال السيوطي بسند حسن عن إبراهيم التيمي قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية وأمرنا أن نقول إذا أمسينا وأصبحنا، أفحسبتم الخ فقرأناها فغنمنا وسلمنا، ثم زيف ما عليه أهل الشرك توبيخاً لهم وتقريعاً فقال:(9/158)
وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (117)
(ومن يدع مع الله إلهاً آخر) يعبده مع الله أو يعبده وحده (لا برهان له به) صفة كاشفة لقوله (إلهاً) لا مفهوم لها أو هي صفة لازمة جيء بها للتأكيد كقوله يطير بجناحيه، والبرهان الحجة الواضحة والدليل أفلح فيه مراعاة معنى (من) وفيه الإظهار في مقام الإضمار للنداء عليهم يستحقه وجملة لا برهان له به معترضة بين الشرط والجزاء، وقيل إن جواب الشرط قولُهُ لا برهان له به.(9/158)
(إنه) قرئ بالكسر على الاستئناف المفيد للعلة وبالفتح على التعليل (لا يفلح الكافرون) قرئ من أفلح، وقرئ بفتح الياء مضارع فلح بمعنى أفلح فيه مراعاة معنى (من) وفيه الإظهار في مقام الإضمار للنداء عليهم بهذا الوصف القبيح جعل فاتحة السورة (قد أفلح المؤمنون) وخاتمتها (إنه لا يفلح الكافرون) فشتان ما بين الفاتحة والخاتمة، ثم ختم هذه السورة بتعليم رسوله (- صلى الله عليه وسلم -) أن يدعوه بالمغفرة والرحمة فقال:(9/159)
وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (118)
(وقل رب اغفر وارحم وأنت خير الراحمين) أمره سبحانه بالاستغفار لتقتدي به أمته وقيل أمره بالاستغفار لأمته وقد تقدم بيان كونه أرحم الراحمين وفي الرحمة زيادة على المغفرة، وهي إيصال الإحسان زيادة على غفر الذنب، وأيضاً الغفران قد يكون من غير إحسان الذي هو معنى الرحمة، ووجه اتصال هذا بما قبله أنه سبحانه لما شرح أحوال الكفار أمر بالانقطاع إليه والالتجاء إلى كفرانه ورحمته، لأن رحمته إذا أدركت أحداً أغنته عن رحمة غيره ورحمة غيره لا تغنيه عن رحمته.(9/159)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة النور
(هي مدنية وآياتها أربع وستون آية)
وبه قال ابن عباس وابن الزبير وعن عائشة قال: " لا تنزلوهن الغرف ولا تعلموهن الكتابة يعني النساء (1) وعلموهن الغزل وسورة النور "
أخرجه البيهقي والحاكم وابن مردويه، وعن مجاهد مرفوعاً قال: " علموا رجالكم سورة المائدة وعلموا نسائكم سورة النور " رواه البيهقي وابن المنذر وسعيد بن جبير وهو مرسل.
_________
(1) لم يصح في خطر تعليم الكتابة للنساء حديث، ومن الثابت أن بعض نساء السلف كن عالمات فقيهات، والتاريخ يحفظ لنا أسماء الكثيرات.
" المطيعي "(9/161)
بسم الله الرحمن الرحيم
سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (1) الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (2) الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (3) وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4)(9/163)
سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (1)
(سورة) هي في اللغة اسم للمنزلة الشريفة ولذلك سميت السورة من القرآن سورة، ومنه قول زهير:
ألم تر أن الله أعطاك سورة ... ترى كل ملك دونها يتذبذب
أي: منزلة وقرئ بالرفع، وفيه وجهان، أحدهما: إن يكون خبراً لمبتدأ محذوف، والتقدير هذه سورة ورجحه الزجاج والفراء والمبرد، قالوا: لأنها نكرة ولا يبتدأ بها في كل موضع، والثاني: إن يكون مبتدأ؛ وجاز الابتداء بالنكرة لكونها موصوفة بقوله:
(أنزلناها) والخبر: الزانية والزاني وإلى هذا نحا ابن عطية، والمعنى السورة المنزلة المفروضة كذا وكذا إذ السورة عبارة عن آيات مسرودة لها مبدأ ومختتم، وهذا معنى صحيح ولا وجه لما قاله الأولون وقيل التقدير فمما أوحينا إليك سورة وَرُدَّ بأن مقتضى المقام بيان شأن هذه السورة الكريمة لا بيان أن في جملة ما أوحي إلى النبي صلى الله عليه وسلم سورة شأنها كذا وكذا، وقرئ بالنصب أي: اتل سورة أو اقرأ أو أنزلنا سورة أو دونك سورة، قاله الزمخشري ورده أبو حيان وقيل أنزلنا الأحكام حال كونها سورة من سور القرآن.(9/163)
(وفرضناها) قرئ بالتخفيف والتشديد، ومعنى المشدد قطعناها في الإنزال نجماً نجماً، والفرض القطع والتشديد للتكثير أو للمبالغة أو لتأكيد الإيجاب أو لكثرة الفرائض فيها كالزنا والقذف اللعان والاستئذان وغض البصر وغير ذلك.
ومعنى المخفف أوحيناها وجعلناها مقطوعة، وقيل ألزمناكم العمل بها وقيل قدرنا ما فيها من الحدود والفرض التقدير، ومنه أن الذي فرض عليك القرآن، وقيل بيناها قاله ابن عباس، وقيل أوجبنا ما فيها من الأحكام إيجاباً قطعياً وفيه من الإيذان بغاية وكادة الفرضية ما لا يخفى.
(وأنزلنا فيها آيات بينات) أي أنزلنا في غصونها وتضاعيفها آيات واضحة الدلالة على مدلولها وتكرير (أنزلنا) لكمال العناية بإنزال هذه السورة وشأنها لما اشتملت عليه من الأحكام المفروضة.
قال الرازي: ذكر الله في أول السورة أنواعاً من الأحكام والحدود، وفي آخرها دلائل التوحيد فقوله: (فرضناها) إشارة إلى الأحكام وقوله هذا إلى ما بين فيها من دلائل التوحيد ويؤيده قوله:
(لعلكم تذكرون) فإن الأحكام لم تكن معلومة حتى نؤمر بتذكرها، أما دلائل التوحيد، فقد كانت كالمعلومة لهم لظهورها، فأمروا بتذكرها، قيل والمعنى تتعظون.
وقيل قوله:(9/164)
الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (2)
(الزانية والزاني) تفصيل ما أجمل من الآيات البينات، والزنا هو وطء الرجل للمرأة في فرجها من غير نكاح ولا شبهة نكاح وقيل هو إيلاج فرج في فرج مشتهى طبعاً محرم شرعاً و (الزانية) هي المرأة المطاوعة للزنا، الممكنة منه، كما تنبئ عنه الصيغة المكرهة، وكذلك (الزاني) وتقديم الزانية على الزاني لأنها الأصل في الفعل لكون الداعية فيها أوفر، ولولا تمكينها منه لم يقع، قاله أبو السعود؛ إنما قدمت المرأة هنا وأخرت في آية حد السرقة لأن الزنا إنما يتولد بشهوة الوقاع، وهي في المرأة أقوى وأكثر،(9/164)
والسرقة إنما تتولد من الجسارة والقوة والجرأة، وهي في الرجل أقوى وأكثر، قاله الكرخي.
وقيل وجه تقديم الزانية على الزاني هاهنا أن الزنا في ذلك الزمان كان في النساء أكثر حتى كان لهن رايات تنصب على أبوابهن ليعرفهن من أراد الفاحشة منهن، وقيل لأن العار فيهن أكثر، إذ موضوعهن الحجبة والصيانة فقدم ذكر الزانية تغليظاً واهتماماً.
(فاجلدوا) الجلد الضرب، يقال: جلده إذا ضرب جلده، مثل بطنه إذا ضرب بطنه ورأسه إذا ضرب رأسه، ودخول الفاء لتضمن المبتدأ معنى الشرط على مذهب الأخفش، وعلى مذهب سيبويه التقدير فيما يتلى عليكم حكم الزانية؛ ثم بين ذلك بقوله: (فاجلدوا) والخطاب في هذه الآية الكريمة للأئمة ومن قام مقامهم، وقيل للمسلمين أجمعين لأن إقامة الحدود واجبة عليهم جميعاً، والإمام ينوب عنهم إذ لا يمكنهم الاجتماع على إقامة الحدود.
(كل واحد منهما مائة جلدة) هو حد الزاني الحر البالغ البكر، وكذلك الزانية، وثبت بالسنة زيادة على هذا الجلد وهو تغريب عام وبه قال الشافعي، وقال أبو حنيفة: التغريب إلى رأي الإمام، والحديث يرده، وقال مالك: يجلد الرجل ويغرب، وتجلد المرأة ولا تغرب، وأما المملوك والمملوكة فجلد كل واحد منهما خمسين جلدة لقوله سبحانه: (فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب) وهذا نص في الإماء وألحق بهن العبيد لعدم الفارق.
وأما من كان محصناً من الأحرار فعليه الرجم بالسنة الصحيحة المتواترة؛ وبإجماع أهل العلم، بل وبالقرآن المنسوخ لفظه، الباقي حكمه وهو الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتّة، وزاد جماعة من أهل العلم مع الرجم جلد مائة، وقد أوضح الشوكاني ما هو الحق في ذلك في شرحه للمنتقى، وقد مضى الكلام في(9/165)
حد الزنا مستوفى، وهذه الآية ناسخة لأية الحبس وآية الأذى اللتين في سورة النساء، وزاد النسفي والتغريب منسوخ بالآية، وليس بصحيح فقد أثبتته السنة الصحيحة كما أشرنا إليه.
(ولا تأخذكم) بالتأنيث مراعاة للفظ، وبالياء لأنه مجازي، وللفصل بالمفعول والجار (بهما رأفة) يقال رأف يرأف رأفة، على وزن فعلة، ورأفة على وزن فعالة، مثل النشأة والنشاءة، وكلاهما بمعنى الرقة والرحمة. وقيل هي أرق الرحمة وأشدها.
(في دين الله) أي في طاعته وحكمه، كما في قوله: ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك، أي لا يأخذكم الدين في استيفاء الحدود فتعطلوها، وهذا قول مجاهد وعكرمة وعطاء وسعيد بن جبير والنخعي والشعبي. وقيل تخففوا الضرب، وهو قول سعيد بن المسيب والحسن.
قال الزهري: يجتهد في حد الزنا والفرية، أي القذف، ويخفف في حد الشرب. وقيل يجتهد في حد الزنا ويخفف دون ذلك في حد القذف ودونه في حد الشرب، ثم قال: مثبتاً للمأمورين ومهيجاً لهم.
(إن كنتم تؤمنون بالله وباليوم الآخر) أي إن كنتم تصدقون بالتوحيد والبعث الذي فيه جزاء الأعمال لا تعطلوا الحدود، وفي إلهاب الغضب لله ولدينه، وذلك لأن الإيمان بهما يقتضي التجلد في طاعة الله وفي إجراء أحكامه، وذكر اليوم الآخر لتذكير ما فيه من العقاب في مقابلة المسامحة في الحدود وتعطيلها، والحاصل أن الواجب على المؤمنين أن يتصلبوا في دين الله ويستعملوا الحث والمتانة ولا يأخذهم اللين والهوان في استيفاء حدود الله، وكفى برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أسوة في ذلك حيث قال: " لو سرقت فاطمة بنت محمد لقطعت يدها " (1).
_________
(1) مسلم 1688 - البخاري 1287.(9/166)
(وليشهد عذابهما) أي لتحضر الجلد إذا أقيم عليهما زيادة في التنكيل بهما وشيوع العار عليهما واشتهار فضيحتهما (طائفة من المؤمنين) ندباً، والطائفة الفرقة التي تكون حافة حول الشيء من الطوف، وأقلها ثلاثة، لأنه أقل الجمع، وقيل اثنان. قاله عكرمة. وقيل واحد. قاله مجاهد. وقيل أربعة لأنهم عدد شهود الزنا. وقيل عشرة.
قال ابن عباس: الطائفة الرجل فما فوقه، ولا يجب على الإمام حضور رجم، ولا على الشهود، لأنه صلى الله عليه وسلم أمر برجم ماعز والغامدية ولم يحضر رجمهما، وإنما خص المؤمنين بالحضور لأن ذلك أفضح، والفاسق بين صلحاء قومه أخجل، وتسمية الجلد عذاباً دليل على أنه عقوبة، ثم ذكر سبحانه شيئاً يختص بالزاني والزانية فقال:(9/167)
الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (3)
(الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك) يعني أن الغالب أن المائل إلى الزنا لا يرغب في نكاح الصوالح، والثانية لا يرغب فيها الصلحاء، فإن المشاكلة علة الألفة والتضامّ، والمخالفة سبب للنفرة والافتراق وقد اختلف أهل العلم في معنى هذه الآية على أقوال: الأول: إن المقصود منها تشنيع الزنا وتشنيع أهله، وأنه محرم على المؤمنين، ويكون معنى (الزاني لا ينكح إلا زانية) الوطء لا العقد، أي الزاني لا يزني إلا بزانية والزانية لا تزني إلا بزان، وزاد ذكر المشركة والمشرك، لكون الشرك أعم في المعاصي من الزنا.
وردّ هذا الزجاج وقال: لا يعرف النكاح في كتاب الله إلا بمعنى التزويج، ويردّ هذا الرد بأن النكاح بمعنى الوطء ثابت في كتاب الله سبحانه. ومنه قول: (حتى تنكح زوجاً غيره) فقد بينه النبي صلى الله عليه وسلم بأن المراد به الوطء. ومن جملة القائلين بأن معنى الآية الزاني لا يزني إلا بزانية سعيد بن جبير وابن عباس وعكرمة، كما حكاه ابن جرير عنهم وعن ابن(9/167)
عباس قال: ليس هذا بالنكاح ولكن الجماع، لا يزني بها حين تزني إلا زانٍ أو مشرك.
الثاني: إن الآية هذه نزلت في امرأة خاصة فتكون. خاصة بها، كما قال الخطابي عن ابن عمرو، قال: كانت امرأة يقال لها أم مهزول وكانت تسافح وتشترط أن ينفق عليها، فأراد رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتزوجها فأنزل الله هذه الآية، أخرجه أحمد والنسائي والحاكم وصححه وغيرهم.
الثالث: أنها نزلت في رجل من المسلمين فتكون خاصة به، قاله مجاهد. وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: كان رجل يقال له مرثد يحمل الأسارى من مكة حتى يأتي بهم المدينة؛ وكانت امرأة بغي بمكة يقال لها عناق وكانت صديقة له وذكر قصة فيها فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله أنكح عناقاً؟ فلم يرد عليّ شيئاً. حتى نزلت (الزاني لا ينكح إلا زانية) الآية فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يا مرثد، الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين فلا تنكحه " ا (1)، أخرجه أبو داود والترمذي وحسنه والنسائي والحاكم وصححه والبيهقي وغيرهم.
الرابع: أنها نزلت في أهل الصفة فتكون خاصة بهم قاله أبو صالح.
الخامس: إن المراد بالزاني والزانية المحدودان. حكاه الزجاج وغيره عن الحسن قال: وهذا حكم من الله، فلا يجوز لزان محدود أن يتزوج إلا محدودة، وروي نحوه عن إبراهيم النخعي، وبه قال بعض أصحاب الشافعي. قال ابن العربي: وهذا لا يصح نظراً، كما لا يثبت نقلاً.
السادس: إن هذه الآية منسوخة بقوله سبحانه: (وأنكحوا الأيامى
_________
(1) أبو داوود كتاب النكاح باب 4.(9/168)
منكم) قال النحاس: وهذا القول عليه أكثر العلماء، والسابع أن هذا الحكم مؤسس على الغالب العام، والمعنى أن غالب الزناة لا يرغب إلا في الزواج بزانية مثله، وغالب الزواني لا يرغبن إلا في الزواج بزان مثلهن. قال الكرخي: إن الفاسق الخبيث الذي من شأنه الزنا لا يرغب في نكاح المرأة الصالحة، وإنما يرغب في نكاح فاسقة مثله أو في مشركة؛ والفاسقة لا ترغب في نكاح الرجل الصالح بل تنفر عنه، وإنما ترغب فيمن هو من جنسها من الفسقة والمشركين، فهذا على الأعم الأغلب، كما يقال: لا يفعل الخير إلا الرجل التقي، وقد يفعل الخير من ليس بتقي، فكذا هاهنا والفرق بين قوله: (الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة) وقوله: (والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك) أن الكلام يدل على أن الزاني لا يرغب إلا في نكاح الزانية بخلاف الزانية فقد ترغب في نكاح غير الزاني؛ فلا جرم بين ذلك بالكلام الثاني، والمقصود زجر المؤمنين عن نكاح الزواني بعد زجرهم عن الزنا، وهذا أرجح الأقوال، وسبب النزول يشهد له كما تقدم.
وعن شعبة مولى ابن عباس قال: " كنت مع ابن عباس فأتاه رجل فقال: إني كنت أتبع امرأة فأصبت منها ما حرم الله عليّ، وقد رزقني الله منها توبة فأردت أن أتزوجها فقال الناس: (الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة) فقال ابن عباس: ليس هذا موضع هذه الآية، إنّها كن نساء بغايا متعاليات، يجعلن على أبوابهن رايات يأتيهن الناس، يعرفن بذلك، فأنزل الله هذه الآية. تزوجها فما كان فيها من إثم فعليّ.
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا ينكح الزاني المجلود إلا مثله " أخرجه أبو داود وابن المنذر والحاكم وابن أبي حاتم وغيرهم (1). وعن علي أن رجلاً تزوج امرأة ثم إنه زنى
_________
(1) أبو داوود كتاب النكاح باب 4 - الإمام أحمد 2/ 324.(9/169)
فأقيم عليه الحد، فجاءوا به إلى عليّ ففرق بينه وبين امرأته، وقال: لا تتزوج إلا مجلودة مثلك.
وعن مجاهد قال: " كن نساء في الجاهلية بغيات، فكانت منهن امرأة جميلة تدعى أم جميل، فكان الرجل من المسلمين يتزوج إحداهن لتنفق عليه من كسبها فنهى الله سبحانه أن يتزوجهن أحد من المسلمين ". وهو مرسل.
وعن ابن عباس أنها نزلت في بغايا معلنات كن في الجاهلية وكن زواني مشركات فحرم الله نكاحهن على المؤمنين. وعنه قال كانت بغايا في الجاهلية، بغايا آل فلان وبغايا آل فلان فقال الله: (الزاني لا ينكح إلا زانية) فأحكم الله ذلك في أمر الجاهلية وروي نحو هذا عن جماعة من التابعين، وعن الضحاك قال: إنما عني بذلك الزنا ولم يعن به التزويج.
وعن ابن عباس في هذه الآية قال: " الزاني من أهل القبلة لا يزني إلا بزانية مثله من أهل القبلة، أو مشركة من غير أهل القبلة، والزانية من أهل القبلة لا تزني إلا بزان مثلها من أهل القبلة، أو مشرك من غير أهل القبلة، وحرم الزنا على المؤمنين.
وقد اختلف في جواز تزوج الرجل بامرأة قد زنى هو بها؛ فقال الشافعي وأبو حنيفة بجواز ذلك، وروي عن ابن عباس وعمر وابن مسعود وجابر أنه لا يجوز، قال ابن مسعود: " إذا زنى الرجل بالمرأة ثم نكحها بعد ذلك فهما زانيان أبداً " وبه قال مالك.
(وحرم ذلك) أي الزنا أو نكاح الزواني لما فيه من التشبه بالفسقة والتعرض للتهمة والطعن في النسب والتسبب لسوء المقالة وغير ذلك من المفاسد، ومجالسة الخطائين كم فيها من التعرض لاقتراف الآثام فكيف بمزاوجة البغايا والقحاب وقيل هو مكروه فقط؛ وعبر بالتحريم عن كراهة التنزيه مبالغة في الزجر.
(على المؤمنين) الأخيار الأبرار فعلى المؤمن أن لا يدخل نفسه تحت(9/170)
هذه العادة ويتصون عنها، وقدمت الزانية على الزاني أولاً ثم قدم عليها ثانياً، لأن تلك الآية سيقت لعقوبتهما على ما جنيا، والمرأة هي المادة التي منها نشأت تلك الجناية، لأنها لو لم تطمع الرجل ولم تومض له ولم تمكنه لم يطمع ولم يتمكن، فلما كانت أصلاً في ذلك بدئ بذكرها. وأما الثانية فمسوقة لذكر النكاح والرجل أصل فيه لأنه الخاطب ومنه بدئ الطلب.(9/171)
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4)
(والذين يرمون) استعار الرمي للشتم بفاحشة الزنا لكونه جناية بالقول ويسمى هذا الشتم بهذه الفاحشة الخاصة قذفاً، أي يشتمون (المحصنات) أي النساء العفيفات بالزنا، وكذا المحصنين، وإنما خصهن بالذكر لأن قذفهن أشنع، والعار فيهن أعظم، ويلحق الرجال بالنساء في هذا الحكم بلا خلاف بين علماء هذه الأمة، وقد جمع الشوكاني في ذلك رسالة رد بها على بعض المتأخرين من علماء القرن الحادي عشر لما نازع في ذلك.
وقيل إن الآية تعم الرجال والنساء، والتقدير الأنفس المحصنات، ويؤيد هذا قوله في آية أخرى: (والمحصنات من النساء)، فإن البيان بكونهن من النساء يشعر بأن لفظ المحصنات يشمل غير النساء وإلا لم يكن للبيان كثير معنى؛ وقيل أراد بالمحصنات الفروج؛ كما قال: (والتي أحصنت فرجها)، فتتناول الآية الرجال والنساء؛ وقيل إن لفظ المحصنات وإن كان للنساء لكنه هاهنا يشمل النساء والرجال تغليباً، وفيه أن تغليب النساء على الرجال غير معروف في لغة العرب، وقد مضى في سورة النساء ذكر الإحصان وما يحتمله من المعاني؛ وللعلماء في الشروط المعتبرة في المقذوف والقاذف أبحاث مطولة مستوفاة في كتب الفقه، منها ما هو مأخوذ من دليل ومنها ما هو مجرد رأي بحت.
قرئ المحصنات بفتح الصاد وكسرها، وذهب الجمهور من العلماء أنه لا حد على من قذف كافراً أو كافرة. وقال الزهري وسعيد بن المسيب وابن أبي ليلى: يجب عليه الحد. وذهب الجمهور أيضاً إلى أن العبد يجلد أربعين جلدة.(9/171)
(وقالوا) أي قال المؤمنون عند سماع الإفك (هذا إفك مبين) أي كذب بين ظاهر مكشوف لا حقيقة له، وقوله: (لولا جاءوا عليه) من تمام ما يقوله المؤمنون، أي هلا جاء الخائضون في الإفك (بأربعة شهداء) يشهدون على ما قالوا.
(فإذا لم يأتوا بالشهداء فأولئك) أي الخائضون في الإفك (عند الله) أي في حكمه وقضائه الأزلي، أو شرعه المؤسس على الدلائل الظاهرة المتقنة (هم الكاذبون) أي القاذفون الكاملون في الكذب، وهذا من باب الزواجر (ولولا فضل الله عليكم ورحمته في الدنيا والآخرة) هذا خطاب للسامعين، وفيه زجر عظيم (ولولا) هذه لامتناع الشيء لوجود غيره. والمعنى لولا أني قضيت عليك بالفضل في الدنيا بالنعم التي من جملتها الإمهال للتوبة، والرحمة في الآخرة بالعفو.
(لمسّكم فيما أفضتم) أي بسبب ما أفضتم (فيه) من حديث الإفك، والإبهام لتهويل أمره، يقال: أفاض في الحديث واندفع، وخاض بمعنى (عذاب عظيم) أي لعاجلتكم بالعقاب على ما خضتم فيه من حديث الإفك: وقيل المعنى لولا فضل الله عليكم لمسكم العذاب في الدنيا والآخرة معاً، ولكن برحمته ستر عليكم في الدنيا ويرحم في الآخرة من أتاه تائباً.
(إذ تلقونه بألسنتكم) من التلقي، والأصل تتلقونه.
قال مقاتل ومجاهد: المعنى يرويه بعضكم عن بعض. قال الكلبي: وذلك أن الرجل منهم يلقى الرجل فيقول بلغني كذا وكذا ويتلقونه تلقياً.
قال الزجاج: معناه يلقيه بعضكم إلى بعض، وقرئ الإلقاء ومعناها واضح، وقرئ بفتح التاء وكسر اللام وضم القاف، وهي مأخودة من قول العرب: ألق (1) الرجل يَلَق ولقا إذا كذب، قال ابن سيده: جاءوا بالمتعدي
_________
(1) الصحيح ولق يلق ولقاً وهي في الصحاح في مادة الواو، وفي القاموس في باب القاف فصل الواو ففاؤها واو وليس ألفاً.
" المطيعي "(9/172)
شاهداً على غير المتعدي.
قال ابن عطية: وعندي أراد يلقون فيه، فحذف حرف الجر فاتصل الضمير.
وقال الخليل وأبو عمر: وأصل الولق الإسراع يقال جاءت الإبل تلق أي تسرع، وعن ابن جرير مثله وزاد الولق هو الإسراع بالشيء بعد الشيء كعدد في إثر عدد وكلام في إثر كلام، وقرئ تألقونه من الألق وهو الكذب؛ وقرئ يلقونه وهو مضارع ولق بكسر اللام والتلقي والتلقف والتلقن معان متقاربة خلا أن في الأول معنى الاستقبال، وفي الثاني معنى الخطف، والأخذ بسرعة، وفي الثالث معنى الحذق والمهارة؛ وقال الراغب: في التلقن الحذق في التناول، وفي التلقف الاحتيال فيه.
(وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم) معناه أن قولهم هذا مختص بالأفواه من غير أن يكون واقعاً في الخارج معتقداً في القلوب، وقيل إن ذكر الأفواه للتأكيد كما في قوله: يطير بجناحيه ونحوه.
(وتحسبونه) أي الحديث الذي وقع الخوض فيه والإذاعة له (هيناً) أي شيئاً يسيراً لا يلحقكم فيه إثم (هو عند الله عظيم) ذنبه وعقابه والجملة في محل الحال؛ قيل جزع بعضهم عند الموت فقيل له في ذلك فقال أخاف ذنباً لم يكن مني على بال وهو عند الله عظيم.
(ولولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا) هذا عتاب لجميع المؤمنين أي هلا إذ سمعتم حديث الإفك قلتم تكذيباً للخائضين فيه المفترين له بمجرد أول السماع: ما ينبغي لنا ولا يمكننا أن نتكلم بهذا الحديث، ولا يصدر ذلك منا بوجه من الوجوه (سبحانك هذا بهتان عظيم) التعجب من أولئك الذين جاؤا بالإفك وأصله التنزيه لله سبحانه ثم كثر حتى استعمل في كل متعجب منه، والبهتان هو أن يقال في الإنسان ما ليس فيه أي(9/173)
هذا كذب عظيم لكونه قيل في أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها وصدوره مستحيل شرعاً من مثلها، ثم وعظ سبحانه الذين خاضوا في الإفك فقال:
(يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبداً) أي ينصحكم أو يحرج الله عليكم، قاله ابن عباس أو يحرم عليكم أو ينهاكم كراهة أن تعودوا أو من أن تعودوا أو في أن تعودوا لمثل هذا القذف؛ أو استماع حديثه مدة حياتكم (إن كنتم مؤمنين) عائد إلى جميع الجمل التي قبله وتارة إلى بعضها لا تقوم به حجة ولا يصلح للاستدلال فإنه قد يكون ذلك لدليل، كما وقع هنا من الإجماع واتفاق الأئمة الأربعة على عدم رجوع هذا الاستثناء إلى جملة الجلد، فالقاذف يجلد عند الجميع سواء تاب أو لم يتب ومما يؤيد ما قررناه ويقويه أن المانع عن قبول الشهادة وهو الفسق المتسبب عن القذف قد زال فلم يبق ما يوجب الرد للشهادة.
واختلف العلماء في صورة توبة القاذف، فقال عمر بن الخطاب والشعبي والضحاك وأهل المدينة: إن توبته لا تكون إلا بأن يكذب نفسه في ذلك القذف الذي وقع منه، وأقيم عليه الحد بسببه، وقالت فرقة منهم مالك وغيره: إن توبته تكون بأن يحسن حاله ويصلح عمله ويندم على ما فرط منه ويستغفر الله من ذلك ويعزم على ترك العود إلى مثله وإن لم يكذب نفسه ولا رجع عن قوله، وقد أجمعت الأمة على أن التوبة تمحو الذنب ولو كان كفراً فتمحو ما هو دون الكفر بالأولى وحكى هذا الإجماع القرطبي.
قال أبو عبيد: الاستثناء يرجع إلى الجمل السابقة وليس من رمي غيره بالزنا بأعظم جرماً من مرتكب الزنا، والزاني إذا تاب قبلت شهادته لأن التائب من الذنب كمن لا ذنب له، وإذا قبل الله التوبة من العبد كان العباد بالقبول أولى، مع أن مثل هذا الاستثناء موجود في مواضع من القرآن، منها قوله (إنما جزاء الذين يحاربون الله) إلى قوله:(9/174)
إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)
(إلا الذين تابوا) ولا(9/174)
شك أن هذا الاستثناء يرجع إلى الجميع، قال الزجاج: وليس القاذف بأشد جرماً من الكافر فحقه إذا تاب وأصلح أن تقبل شهادته قال وقوله: (أبداً) أي ما دام قاذفاً كما يقال: لا تقبل شهادة الكافر أبداً، فإن معناه ما دام كافراً انتهى.
وعن ابن عباس في الآية قال: تاب الله عليهم من الفسوق، وأما الشهادة فلا تجوز وعن عمر بن الخطاب أنه قال لأبي بكرة: إن تبت قبلت شهادتك وعنه قال: توبتهم إكذابهم أنفسهم، فإن أكذبوا أنفسهم قبلت شهادتهم، وعن ابن عباس أيضاً قال: من تاب وأصلح فشهادته في كتاب الله تقبل.
وفي الباب روايات عن التابعين وقصة المغيرة في خلافة عمر مروية من طرق معروفة، وأخرج البخاري والترمذي وابن ماجة عن ابن عباس أن هلال بن أمية قذف امرأته عند النبي صلى الله عليه وسلم بشريك بن سحماء، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " البينة وإلا حد في ظهرك "، فقال: يا رسول الله إذا رأى أحدنا على امرأته رجلاً ينطلق يلتمس البينة؟ فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقول: " البينة وإلا حد في ظهرك "، فقال هلال: والذي بعثك بالحق إني لصادق، ولينزلن الله ما يبرئ ظهري من الحد ونزل جبريل فأنزل عليه(9/175)
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6)
(والذين يرمون أزواجهم) حتى بلغ (إن كان من الصادقين) فانصرف النبي صلى الله عليه وسلم فأرسل إليهما فجاء هلال فشهد، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: " الله يعلم أن أحدكما لكاذب فهل منكما تائب؟ " ثم قامت فشهدت فلما كانت عند الخامسة وقفوها وقالوا أنها موجبة، فتلكأت ونكصت حتى ظننا أنها ترجع، ثم قالت: لا أفضح قومي سائر اليوم، فمضت فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " أبصروها فإن جاءت به أكحل العينين سابغ الأليتين خدلج (1) الساقين فهو لشريك بن سحماء
_________
(1) خدلج: ممتلىء لحماً.(9/175)
فجاءت به كذلك فقال النبي (- صلى الله عليه وسلم -) " لولا ما مضى من كتاب الله لكان لي ولها شأن " (1).
وأخرج هذه القصة أبو داود الطيالسي وعبد الرزاق وأحمد وعبد بن حميد وأبو داود وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه، عن ابن عباس مطولة وأخرجها البخاري ومسلم وغيرهما، ولم يسمّوا الرجل ولا المرأة.
وفي آخر القصة أن النبي (- صلى الله عليه وسلم -) قال له: " اذهب فلا سبيل لك عليها " فقال: يا رسول الله مالي؟ قال: لا مال لك إن كنت صدقت عليها فهو بما استحللت من فرجها وإن كنت كذبت عليها فذاك أبعد لك منها ".
وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن سهل بن سعد قال: جاء عويمر إلى عاصم بن عدي فقال: سل رسول الله صلى الله عليه وسلم أرأيت رجلاً وجد مع امرأته رجلاً فقتله أيقتل به؟ أم كيف يصنع؟ فسأل عاصم رسول الله صك الله عليه وسلم فعاب رسول الله صلى الله عليه وسلم السائل، فقال: عويمر والله لآتين رسول الله صلى الله عليه وسلم ولأسألنه فوجده قد أنزل عليه فدعا بهما فلاعن بينهما قال عويمر: إن انطلقت بها يا رسول الله لقد كذبت عليها ففارقتها قبل أن يأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم فصارت سنة للمتلاعنين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أبصروها فإن جاءت به أسحم أدعج العينين عظيم الأليتين، فلا أراه إلا قد صدق، وإن جاءت به أحيمر كأنه وحرة فلا أراه إلا كاذباً، فجاءت به مثل المنعت المكروه " (2).
وفي الباب أحاديث كثيرة وفيما ذكرنا كفاية، وأخرج عبد الرزاق عن عمر بن الخطاب وعلي وابن مسعود قالوا: لا يجتمع المتلاعنان أبداً، ثم ذكر سبحانه بعد ذكره لحكم القذف على العموم حكم نوع من أنواع القذف وهو قذف الزوج للمرأة التي تحته بعقد النكاح فقال:
_________
(1) البخاري تفسير سورة 24/ 3 - الترمذي تفسير سورة 24/ 3.
(2) أبو داوود كتاب الطلاق باب 27.(9/176)
إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6) وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (7) وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (8) وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (9) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (10) إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ (11)
(والذين يرمون أزواجهم) جمع زوج بمعنى الزوجة فإن حذف التاء منها أفصح من إثباتها إلا في الفرائض، ولم يقيد هنا بالمحصنات إشارة إلى أن اللعان يشرع في قذف المحصنة وغيرها فهو في قذف المحصنة يسقط الحد عن الزوج وفي قذف غيرها يسقط التعزير كأن كانت ذمية أو أمة أو صغيرة تحتمل الوطء بخلاف قذف الصغيرة التي لا تحتمله، وبخلاف قذف الكبيرة التي ثبت زناها ببينة أو إقرار، فإن الواجب في قذفهما التعزير لكنه لا يلاعن لدفعه كما في كتب الفروع وقد وقع قذف الزوجة بالزنا لجماعة من الصحابة كهلال بن أمية وعويمر العجلاني وعاصم بن عدي.
(ولم يكن لهم شهداء) يشهدون بما رموهن به من الزنا (إلا أنفسهم) بالرفع على البدل من شهداء، ولم يذكر الزمخشري غيره، وقيل إنه نعت له على أن إلا بمعنى غير وبالنصب على الاستثناء على الوجه المرجوح، ولا مفهوم لهذا القيد، بل يلاعن ولو كان واجداً للشهود الذين يشهدون بزناها لنفي ولد ولدفع العقوبة حداً أو تعزيراً.
(فشهادة أحدهم) أي الشهادة التي تزيل عنه حد القذف أو فالواجب شهادة أحدهم أو فشهادة أحدهم كائنة أو واجبة، وقيل فعليهم أن يشهد(9/177)
أحدهم (أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين) فيما رماها به من الزنا وهي المشهود به.(9/178)
وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (7)
(و) الشهادة (الخامسة أنّ لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين) فيما رماها به من الزنا. قرأ الجمهور (أن) بالتشديد ونافع بتخفيفها.(9/178)
وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (8)
(ويدرأ) أي يدفع (عنها) أي عن المرأة (العذاب) الدنيوي وهو الحد، والمعنى أنه يدفع عن المرأة الحد (أن تشهد) أي شهادتها (أربع شهادات بالله إنه) أي الزوج (لمن الكاذبين) فيما رماني به من الزنا(9/178)
وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (9)
(و) تشهد الشهادة (الخامسة أن غضب الله عليها إن كان) الزوج (من الصادقين) فيما رماها به من الزنا، وتخصيص الغضب بالمرأة للتغليظ عليها لكونها أصل الفجور ومادته ولأن النساء يكثرن اللعن في العادة ومع استكثارهن منه لا يكون له في قلوبهن كبير موقع بخلاف الغضب.(9/178)
وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (10)
(ولولا فضل الله عليكم) فيه التفات عن الغيبة، والخطاب لكل من الفريقين أي القاذفين والمقذوفات، ففي الكلام تغليب صيغة المذكور على صيغة الأناث؛ حيث لم يقل عليكم وعليكن (ورحمته) لنال الكاذب منهما عذاب عظيم قاله الزجاج أو لعاجلكم بالعقوبة، ولكنه ستر عليكم ودفع عنكم الحد باللعان أو لفضحكم، فجواب (لو) محذوف، ثم بين سبحانه كثير توبته على من تاب، وعظيم حكمته البالغة فقال:
(وأنّ الله تواب) أي يعود على من تاب إليه ورجع عن معاصيه بالتوبة عليه والمغفرة له في ذلك وغيره (حكيم) فيما شرع لعباده من اللعان، وفرض عليهم من الحدود.(9/178)
إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ (11)
(إن الذين جاءوا بالإفك) هذا شروع في الآيات المتعلقة بالإفك، وهي ثمانية عشر تنتهي بقوله: (أولئك مبرءون) والإفك أسوأ الكذب وأفحشه وأقبحه وهو مأخوذ من أفك الشيء إذا قلبه عن وجهه، فالإفك هو الحديث المقلوب، لكونه مصروفاً عن الحق، وقيل هو البهتان.(9/178)
وأجمع المسلمون على أنّ المراد بما في الآية ما وقع من الإفك على عائشة أم المؤمنين، وإنما وصفه الله بأنه إفك لألن المعروف من حالها رضي الله عنها خلاف ذلك. قال الواحدي: ومعنى القلب في هذا الحديث الذي جاء به أولئك النفر أن عائشة كانت تستحق الثناء بما كانت عليه من الحصانة والشرف والعقل والديانة وعلو النسب والسبب والعفة لا القذف، فالذين رموها بالسوء قلبوا الأمر عن وجهه فهو إفك قبيح وكذب ظاهر.
(عصبة منكم) العصبة الجماعة من العشرة إلى الأربعين، والمراد بهم هنا عبد الله بن أبيّ رأس المنافقين وزيد بن رفاعة وحسان بن ثابت ومسطح بن أثاثة وحمنة بنت جحش ومن ساعدهم. وقيل العصبة من الثلاثة إلى العشرة. وقيل من عشرة إلى خمسة عشر، وأصلها في اللغة الجماعة الذين يتعصب بعضهم لبعض.
وقد أخرج البخاري ومسلم وأهل السنن وغيرهم حديث عائشة الطويل في سبب نزول هذه الآيات بألفاظ متعددة وطرق مختلفة، حاصله أن سبب النزول هو ما وقع من أهل الإفك الذين تقدم ذكرهم في شأن عائشة، وذلك أنها خرجت من هودجها تلتمس عقداً لها انقطع من جزع، فرحلوا وهم يظنون أنها في هودجها فرجعت وقد ارتحل الجيش والهودج معهم، فأقامت في ذلك المكان ومرّ بها صفوان بن المعطل وكان متأخراً عن الجيش فأناخ راحلته وحملها عليها، فلما رأى ذلك أهل الإفك قالوا ما قالوا، فبرأها الله مما قالوا: هذا حاصل القصة مع طولها وتشعب أطرافها فلا نطول بذكر ذلك.
وجملة (لا تحسبوه شراً لكم) إن كانت خبراً لـ (إن) فظاهر، وإن كان الخبر (عصبة) فهي مستأنفة خوطب بها النبي صلى الله عليه وسلم وعائشة وأبو بكر وصفوان بن المعطل الذي قذف مع عائشة أم المؤمنين وتسلية لهم، والضمير المنصوب للإفك، والشر ما زاد ضره على نفعه.
(بل هو خير لكم) الخير ما زاد نفعه على ضره، وأما الخير الذي لا(9/179)
شر فيه فهو الجنة، والشر الذي لا خير فيه فهو النار. ووجه كونه خيراً لهم أنه يحصل لهم به الثواب العظيم مع بيان براءة أم المؤمنين عائشة، وصيرورة قصتها هذه شرعاً عاماً، وهذا غاية الشرف والفضل، وفيه تهويل الوعيد لمن تكلم فيهم، والثناء على من ظن بهم خيراً.
(لكل امرئ منهم) أي من العصبة الكاذبة (ما اكتسب من الإثم) بسبب تكلمه بالإفك (والذي تولى) أي تحمل (كبره) أي معظمه (منهم) فبدأ بالخوض فيه وأشاعه وهو ابن أبيّ، قرأ جماعة بضم الكاف. قال الفراء: وهو وجه جيد، لأن العرب تقول: فلان تولى عظم كذا وكذا، أي أكبره. وقرئ بكسرها. قيل هما لغتان. وقيل هو بالضم معظم الإفك وبالكسر البداءة به، وقيل هو بالكسر الإثم.
فالمعنى أن الذي تولى معظم الإفك من العصبة (له عذاب عظيم) في الدنيا أو في الآخرة أو فيهما، واختلف في هذا الذي تولى كبره من عصبة الإفك من هو منهم، فقيل هو عبد الله بن أُبي، وقيل هو حسان والأول هو الصحيح، وقد روى محمد بن إسحاق وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم جلد في الإفك رجلين وامرأة، وهم مسطح بن أثاثة وحسان بن ثابت وحمنة بنت جحش، وقيل جلد عبد الله بن أبيّ وحسان وحمنة ولم يجلد مسطحاً لأنه لم يصرح بالقذف، ولكن كان يسمع ويشيع من غير تصريح، وقيل لم يجلد أحداً منهم.
قال القرطبي: المشهور من الأخبار والمعروف عند العلماء أن الذين حُدّوا حسان ومسطح وحمنة ولم يسمع بحد لعبد الله بن أُبَيّ.
ويؤيد هذا ما في سنن أبي داود عن عائشة قالت: لما نزل عذرى قام النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك وتلا القرآن، فلما نزل من المنبر أمر بالرجلين والمرأة فضربوا حدّهم، وسماهم حسان ومسطح وحمنة، واختلفوا في وجه تركه صلى الله عليه وسلم لجلد عبد الله بن أبيّ، فقيل لتوفير العذاب(9/180)
العظيم له في الآخرة؛ وحد من عداه ليكون ذلك تكفيراً لذنبهم. كما ثبت صلى الله عليه وآله وسلم في الحدود أنه قال: " إنها كفارة لمن أقيمت عليه ".
وقيل ترك حده تألفاً لقومه واحتراماً لابنه، فإنه كان من صالحي المؤمنين وإطفاء لثائرة الفتنة، فقد كان ظهرت مباديها من سعد بن عبادة ومن معه، كما في صحيح مسلم.
وأخرج البخاري وابن المنذر والطبراني وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن الزهري قال: كنت عند الوليد بن عبد الملك فقال: الذي تولى كبره منهم عليّ فقلت: لا، حدثني سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير وعلقمة بن وقاص وعبد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، كلهم سمع عائشة تقول: الذي تولى كبره منهم عبد الله بن أُبيّ قال: فقال لي فما كان جرمه؟ قلت حدثني شيخان من قومك: أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف وأبو بكر ابن عبد الرحمن بن الحرث بن هشام أنهما سمعا عائشة تقول: كان مسيئاً في أمري.
وقال يعقوب بن شيبة (1) في مسنده: دخل سليمان بن يسار على هشام ابن عبد الملك فقال له: يا سليمان الذي تولى كبره من هو؟ قال ابن أُبَيّ. قال كذبت هو عليّ، قال: أمير المؤمنين أعلم بما يقول، فدخل الزهري فقال: يا ابن شهاب من الذي تولى كبره؟ فقال: ابن أبيّ، قال: كذبت، هو عليّ، قال: أنا أكذب، لا أبا لك والله لو نادى مناد من السماء أن الله قد أحل الكذب ما كذبت. حدثني عروة وسعيد وعبد الله وعلقمة عن عائشة: أن الذي تولى كبره عبد الله بن أبي.
وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن مسروق قال: " دخل حسان ابن ثابت على عائشة فشبب. وقال:
_________
(1) عبد الله بن محمد بن أبي شيبة.(9/181)
لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ (12) لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ (13) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (14) إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15) وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ (16) يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (17) وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (18)
حصان رزان ما تزن بريبة ... وتصبح غرثى من لحوم الغوافل
قالت: لكنك لست كذلك، قلت: تدعين مثل هذا يدخل عليك؟ وقد أنزل الله فيه (والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم) فقالت: وأي عذاب أشد من العمى، ثم صرف سبحانه الخطاب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه إلى المؤمنين بطريق الالتفات فقال:(9/182)
لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ (12)
(لولا) تحضيضية، أي هلا (إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيراً تأكيداً للتوبيخ والتقريع ومبالغة في معاتبتهم وشروعاً في توبيخهم وتعييرهم وزجرهم بتسعة زواجر. الأول هذا؛ والثاني(9/182)
لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ (13)
(لولا جاءوا عليه)، والثالث(9/182)
وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (14)
(ولولا فضل الله). والرابع(9/182)
إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15)
(إذ تلقونه)، والخامس(9/182)
وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ (16)
(ولولا إذ سمعتموه)، والسادس(9/182)
يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (17)
(يعظكم الله)، والسابع (إن الذين يحبون) والثامن (ولولا فضل الله عليكم) والتاسع (يا أيها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان -إلى سميع عليم-).
ومعنى الآية كان ينبغي للمؤمنين حين سمعوا مقالة أهل الإفك أن يقيسوا ذلك على أنفسهم، فإن كان ذلك يبعد فيهم فهو في أم المؤمنين أبعد.(9/182)
وقيل كان ينبغي لكم بمجرد سماعه أن تحسنوا الظن في أم المؤمنين، فضلاً عن أن تتمادوا في سماعه؛ فضلاً أن تصرّوا عليه بعد السماع.
قال الحسن: معنى بأنفسهم بأهل دينهم لأن المؤمنين كنفس واحدة في اشتراك الكل في الإيمان، ألا ترى إلى قوله: (ولا تقتلوا أنفسكم)؟.
قال الزجاج: وكذلك يقال للقوم الذين يقتل بعضهم بعضاً أنهم يقتلون أنفسهم. قال المبرد: ومثله قوله تعالى: (فاقتلوا أنفسكم) قال النحاس: معنى (بأنفسهم) بإخوانهم. وقيل بأبناء جنسهم، فأوجب الله سبحانه على المسلمين إذا سمعوا رجلاً يقذف أحداً ويذكره بقبيح لا يعرفونه به أن ينكروا عليه ويكذبوه وإنما عدل عن الخطاب إلى الغيبة وعن الضمير إلى الظاهر ولم يقل ظننتم بأنفسكم خيراً، وقلتم ليبالغ في التوبيخ بطريق الالتفات وليدل التصريح بلفظ الإيمان على أن الاشتراك فيه يقتضي أن لا يصدق مؤمن على أخيه ولا مؤمنة على أختها قول عائب ولا طاعن، وهذا من الأدب الحسن الذي قل القائم به والحافظ له، وليتك تجد من يسمع فيسكت ولا يشيع ما يسمعه بإخوانه، وكفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما سمع.
قال العلماء: في الآية دليل على أن درجة الإيمان والعفاف لا يزيلها الخبر المحتمل وإن شاع.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وغيرهم عن بعض الأنصار أن امرأة أبي أيوب قالت له حين قال أهل الإفك ما قالوا: ألا تسمع ما يقول الناس في عائشة؟ قال: بلى وذلك الكذب، أكنت أنت فاعلة ذلك يا أم أيوب؟ قالت: لا والله، قال: فعائشة خير منك وأطيب، إنما هذا كذب وإفك باطل، فلما نزل القرآن ذكر الله من قال من الفاحشة ما قال من أهل الإفك، ثم قال: (لولا إذ سمعتموه) الآية، أي كما قال أبو أيوب وصاحبته.(9/183)
وقال ابن مسعود وعمر بن عبد العزيز وقبيصة: يجلد ثمانين قال القرطبي: وأجمع العلماء على أن الحر لا يجلد للعبد إذا افترى عليه لتباين مرتبتهما.
وقد ثبت في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم: " أن من قذف مملوكه بالزنا أقيم عليه الحد يوم القيامة إلا أن تكون كما قال " (1) وشرائط الإحصان خمسة: الإسلام والعقل والبلوغ والحرية والعفة من الزنا؛ والمحصن كالمحصنة في وجوب حد القذف؛ وبسط الكلام في هذا في كتب الفروع. ثم ذكر سبحانه شرطاً لإقامة الحد على من قذف المحصنات فقال:
(ثم لم يأتوا بأربعة شهداء) يشهدون عليهن بوقوع الزنا منهن برؤيتهم. ولفظ (ثم) يدل على أنه يجوز أن تكون شهادة الشهود في غير مجلس القذف. وبه قال الجمهور. وخالف في ذلك مالك. وظاهر الآية أنه يجوز أن تكون الشهود مجتمعين ومفترقين، وخالف في ذلك الحسن ومالك، وإذا لم يكمل الشهود أربعة كانوا قذفة يحدون حد القذف.
وقال الحسن والشعبي: إنه لا حد على الشهود ولا على المشهود عليه. وبه قال أحمد وأبو حنيفة ومحمد بن الحسن، ويرد ذلك ما وقع في خلافة عمر رضي الله عنه من جلده للثلاثة الذين شهدوا على المغيرة بالزنا، ولم يخالف في ذلك أحد في الصحابة. وقد اختلف في إعراب (شهداء) على أقوال، ثم بين الله سبحانه ما يجب على القاذف فقال:
(فاجلدوهم) أي كل واحد منهم (ثمانين جلدة) الجلد الضرب كما تقدم والمجالدة المضاربة في الجلود أو بالجلود، ثم استعير للضرب بالعصا والسيف وغيرهما، وقد تقدم بيان الجلد قريباً.
(ولا تقبلوا لهم شهادة) أي فاجمعوا لهم بين الأمرين، الجلد وترك
_________
(1) مسلم 1660 - البخاري 2520.(9/184)
قبول الشهادة في شيء لأنهم قد صاروا بالقذف غير عدول بل فسقة كما حكم الله به عليهم في آخر هذه الآية. ومعنى (أبداً) ما داموا في الحياة، ثم بين سبحانه حكمهم بعد صدور القذف منهم وإصرارهم عليه وعدم رجوعهم إلى التوبة فقال:
(وأولئك هم الفاسقون) لإتيانهم كبيرة، وهذه الجملة مستأنفة مقررة لمضمون ما قبلها، والفسق هو الخروج عن الطاعة ومجاوزة لحد المعصية، وفيه دليل على أن القذف من الكبائر لأن اسم الفسق لا يقع إلا على صاحب كبيرة، ثم بين الله سبحانه أن هذا التأييد لعدم قبول شهادتهم هو مع عدم التوبة فقال:
(إلا الذين تابوا من بعد ذلك) أي من بعد اقترافهم لذنب القذف (وأصلحوا) أعمالهم التي من جملتها ذنب القذف ومداركة ذلك بالتوبة والانقياد للحد (فإنّ الله غفور رحيم) يغفر ذنوبهم ويرحمهم، وقد اختلف أهل العلم في هذا الاستثناء هل يرجع إلى الجملتين قبله؟ وهي عدم قبول الشهادة، والحكم عليهم بالفسق، أم إلى الجملة الأخيرة وهذا الاختلاف بعد اتفاقهم على أنه لا يعود إلى جملة الجلد بل يجلد التائب كالمصرّ وبعد إجماعهم أيضاً على أن الاستثناء يرجع إلى جملة الحكم بالفسق فمحل الخلاف هل يرجع إلى جملة عدم قبول الشهادة أم لا؛ فقال الجمهور: إن هذا الاستثناء يرجع إلى الجملتين، فإذا تاب القاذف قبلت شهادته وزال عنه الفسق لأن سبب ردها هو ما كان متصفاً به من الفسق بسبب القذف فإذا زال بالتوبة بالإجماع كانت الشهادة مقبولة.
وقال القاضي شريح وإبراهيم النخعي والحسن البصري وسعيد بن جبير ومكحول وابن زيد وسفيان الثوري وأبو حنيفة: إن هذا الاستثناء يعود إلى جملة الحكم بالفسق لا إلى جملة عدم قبول الشهادة فيرتفع بالتوبة عن القاذف(9/185)
وصف الفسق ولا تقبل شهادته أصلاً.
وذهب الشافعي والضحاك إلى التفصيل فقالا: لا تقبل شهادته وإن تاب. إلا أن يعترف على نفسه بأنه قد قال البهتان فحينئذ نقبل شهادته، وقول الجمهور هو الحق لأن تخصيص التقييد بالجملة الآخرة، دون ما قبلها مع كون الكلام واحداً في واقعة شرعية من متكلم واحد خلاف ما تقتضيه لغة العرب، وأولوية الجملة الأخيرة المتصلة بالقيد بكونه قيداً لها لا تنفي كونه قيداً لا قبلها، غاية الأمر أن تقييد الأخيرة بالقيد المتصل بها أظهر من تقييد ما قبلها به، ولهذا كان مجمعاً عليه وكونه أظهر لا ينافي كونه فيما قبلها ظاهر.
وقد أطال أهل الأصول الكلام في القيد الواقع بعد جمل، كلا هو معروف عند من يعرف ذلك الفن، والحق هو هذا، والاحتجاج بما وقع تارة من القيود فإن الإيمان يقتضي عدم الوقوع في مثله ما دمتم أحياء، وفيه تهييج عظيم وتقريع بالغ.(9/186)
وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (18)
(ويبين الله لكم الآيات) في الأمر والنهي لتعملوا بذلك وتتأدبوا بآداب الله وتنزجروا عن الوقوع في محارمه (والله عليم) بما تبدونه وما تخفونه أو بأمر عائشة وصفوان (حكيم) في تدبيراته لخلقه أو في حكمه ببراءتهما ثم هدد سبحانه القاذفين ومن أراد أن يتسامع الناس بعيوب المؤمنين وذنوبهم فقال:(9/186)
إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (19) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (20) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (21)(9/187)
إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (19)
(إنّ الذين يحبون أن تشيع الفاحشة) هي فاحشة الزنا، والقول السيئ، أي يحبون أن تفشوا الفاحشة وتنتشر من قولهم شاع الشيء يشيع شيوعاً وشيعاً وشيعاناً إذا ظهر وانتشر، والمراد بشيوعها شيوع خبرها. قال علي بن أبي طالب: قائل الفاحشة والذي شيع بها في الإثم سواء.
(في الذين آمنوا) أي المحصنين العفيفين أو كل من اتصف بصفة الإيمان (لهم عذاب أليم في الدنيا) بإقامة الحد عليهم (والآخرة) بعذاب النار (والله يعلم) جميع المعلومات (وأنتم لا تعلمون) إلا ما علمكم به وكشفه لكم. ومن جملة ما يعلمه الله عظم ذنب القذف وعقوبة فاعله.(9/187)
وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (20)
(ولولا فضل الله عليكم ورحمته وأن الله رؤوف رحيم) لعاجلكم بالعقوبة ومن رأفته لعباده أن لا يعاجلهم بذنوبهم، ومن رحمته لهم أن يتقدم إليهم بمثل هذا الإعذار والإنذار وهو تكرير لما تقدم تذكيراً للمنة منه سبحانه على عباده بترك المعاجلة لهم.(9/187)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (21)
(يا أيها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان) جمع خطوة وهي ما بين القدمين والخَطوة بالفتح المصدر أي لا تتبعُوا مسألك الشيطان ومذاهبه وآثاره ولا تسلكوا طرائفه التي يدعوكم إليها، قرأ الجمهور: خطوات بفتح الخاء والطاء وقرئ بضم الخاء والطاء وبإسكان الطاء وهما سبعينان.(9/187)
(ومن يتبع خطوات الشيطان) جواب الشرط محذوف تقديره فقد غوى وقيل جزاء الشرط محذوف أقيم مقامه ما هو علة له أعني قوله: (فإنه يأمر بالفحشاء والمنكر) أي فقد ارتكب الفحشاء والمنكر لأنّ دأبه أن يستمر آمراً لغيره بهما أو صار فيه خاصية الشيطان وهي الأمر بهما، والفحشاء ما أفرط قبحه، والمنكر ما ينكره الشرع، وضمير إنه للشيطان، وقيل للشأن والأولى أن يكون عائداً إلى (من) لأن من اتبع الشيطان صار مقتدياً به في الأمر بالفحشاء والمنكر والآية عامة في حق كل واحد، لأن كل مكلف ممنوع من ذلك.
(ولولا فضل الله عليكم ورحمته) قد تقدم بيانه، وجواب لولا هو قوله: (ما زكى منكم من أحد أبداً) أي لولا التفضل والرحمة من الله ما طهر أحد منكم نفسه من دنسها ما دام حياً قرئ زكى مخففاً ومشدداً أي ما طهره الله، وقال مقاتل: ما صلح، والأولى تفسير زكى بالتطهر والتطهير وهو الذي ذكره ابن قتيبة، وعن ابن عباس قال: ما اهتدى أحد من الخلائق لشيء من الخير، والآية على العموم وقيل خاصة بالذين خاضوا في الإفك وأنهم طهروا وتابوا غير عبد الله فإنه استمر على الشقاوة حتى هلك، والأول أولى.
(ولكن الله يزكي من يشاء) من عباده بالتفضل عليهم والرحمة لهم (والله سميع) لما يقولونه (عليم) بجميع المعلومات، وفيه حث بالغ على الإخلاص، وتهييج عظيم لعباده التائبين، ووعيد شديد لمن يتبع الشيطان ويحب أن تشيع الفاحشة في عباد الله المؤمنين ولا يزجر نفسه بزواجر الله سبحانه.(9/188)
وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (22) إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (23) يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (25)(9/189)
وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (22)
(ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة) لا ناهية والفعل مجزوم بحذف الياء لأنه معتل بها أي لا يحلف ووزنه يفتعل من الأليّة كهدية، يقال أليّة وألايا مثل هدية وهدايا، وهي اليمين يقال ائتلى يأتلي بوزن انتهى ينتهي إذا حلف، ومنه قوله سبحانه: (للذين يؤلون من نسائهم) وقالت فرقة: هو من ألوت في كذا إذا قصرت ومنه لم آل جهداً أي لم أقصر وكذا منه قوله تعالى: (لا يألونكم خبالاً) والأول أولى بدليل سبب النزول، قال ابن عباس: لا تقسموا أن لا تنفعوا أحداً.
أخرج ابن المنذر عن عائشة قالت: كان مسطح بن أثاثة ممن تولى كبره من أهل الإفك، وكان قريباً لأبي بكر، وكان في عياله فحلف أبو بكر أن لا ينيله خيراً أبداً فأنزل الله هذه الآية، قالت فأعاده أبو بكر إلى عياله وقال: لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيراً منها إلا تحللتها وأتيت الذي هو خير، وقد روي هذا من طرق عن جماعة من التابعين.
وعن ابن عباس في الآية قال: كان ناس من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد رموا عائشة بالقبيح وأفشوا ذلك وتكلموا فيها، فأقسم ناس من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - منهم أبو بكر أن لا يتصدقوا على رجل تكلم بشيء من هذا ولا يَصِلُوه فقال: لا يقسم أولوا الفضل منكم والسعة أن لا يصلوا أرحامهم،(9/189)
وأن لا يعطوهم من أموالهم، كالذي كانوا يفعلون قبل ذلك، فأمر الله أن يغفر لهم ويعفي عنهم.
(أن يؤتوا) قال الزجاج أي على أن لا يؤتوا فحذف (لا) وقال أبو عبيدة: لا حاجة إلى إضمار لا، والمعنى: لا يحلفوا على أن لا يحسنوا إلى المستحقين للإحسان من (أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله) الجامعين لتلك الأوصاف، وعلى الوجه الآخر يكون المعنى: لا يقصروا في أن يحسنوا إليهم وإن كانت بينهم وبينهم شحناء لذنب اقترفوه، وقرئ بتاء الخطاب على الالتفات. ثم علمهم سبحانه أدباً آخر فقال:
(وليعفوا) عن ذنبهم الذي أذنبوه عليهم، وجناتهم التي اقترفوها، من عفا الربع أي درس، والمراد محو الذنب حتى يعفو كما يعفو أثر الربع (وليصفحوا) بإغضاء عن الجاني والإغماض عن جنايته، والإعراض عن لومه، فإن العفو أن يتجاوز عن الجاني، والصفح أن يتناسى جرمه. وقيل: العفو بالفعل والصفح بالقلب، وقرئ في الفعلين جميعاً بالفوقية ثم ذكر سبحانه ترغيباً عظيماً لمن عفا وصفح فقال:
(ألا تحبون أن يغفر الله لكم) بسبب عفوكم وصفحكم عن الفاعلين للإساءة عليكم، قال أبو بكر: بلى أنا أحب أن يغفر الله لي، ورجع إلى مسطح ما كان ينفقه عليه (والله غفور رحيم) أي كثير المغفرة والرحمة لعباده مع كثرة ذنوبهم، فكيف لا يقتدي العباد بربهم في العفو والصفح عن المسيئين إليهم؟.(9/190)
إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (23)
(إن الذين يرمون) بالزنا (المحصنات) العفائف قد مر تفسيرها، وذكرنا أن الإجماع على أن حكم المحصنين من الرجال حكم المحصنات من النساء في حد القذف (الغافلات) أي اللاتي غفلن عن الفاحشة بحيث لا(9/190)
تخطر ببالهن ولا يفطن لها، وفي ذلك من الدلائل على كمال النزاهة، وطهارة الجيب ما لم يكن في المحصنات، وقيل: هنّ السليمات الصدور، النقيات القلوب، اللاتي ليس فيهن دهاء ولا مكر، لأنهن لم يجربن الأمور، ولم يرزن الأحوال فلا يفطن لما تفطن له المجربات العرافات، وكذلك البله من الرجال الذين غلبت عليهم سلامة الصدور، وحسن الظن بالناس، لأنهم أغفلوا أمر دنياهم فجهلوا حذق التصرف فيها، وأقبلوا على آخرتهم فشغلوا نفوسهم بها.
(المؤمنات) بالله ورسوله، وقد اختلف في هذه الآية هل هي خاصة أو عامة، فقال سعيد بن جبير: هي خاصة فيمن رمى عائشة، وقال مقاتل: هي خاصة بعبد الله بن أُبي، رأس المنافقين وقال الضحاك، والكلبي: هي في عائشة وسائر أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - دون سائر المؤمنين والمؤمنات، فمن قذف إحدى أمهات المؤمنين فهو من أهل هذه الآية. قال الضحاك: ومن أحكام هذه الآية، أنه لا توبة لمن رمى إحدى أزواجه - صلى الله عليه وسلم -، ومن قذف غيرهن فقد جعل الله له التوبة، كما تقدم في قوله (إلا الذين تابوا)، وقيل إن هذه الآية خاصة بمن أصرّ على القذف، ولم يتب، وقيل إنها خاصة بمشركي مكة، لأنهم كانوا يقولون للمرأة إذا خرجت مهاجرة إِنما خرجت لتفجر.
وقيل إنها تعمّ كل قاذف ومقذوف من المحصنات والمحصنين، واختاره
النحاس وهو الموافق لما قرره أهل الأصول، من أن الاعتبار بعموم اللفظ لا
بخصوص السبب. قال أهل العلم: إن كان المراد بهذه الآية المؤمنين من القذفة فالمراد باللعنة في قوله: (لعنوا في الدنيا والآخرة) الإبعاد عن الثناء الحسن على ألسنة أهل الإيمان، وضرب الحد، وهجر سائر المؤمنين لهم، وزوالهم عن رتبة العدالة، واستيحاش أهل الإيمان منهم، وإن كان المراد بها ْمن قذف عائشة خاصة. كانت هذه الأمور في جانب عبد الله بن أبيّ رأس المنافقين، وإن كانت في مشركي مكة، فإنهم ملعونون في الدنيا والآخرة.(9/191)
(ولهم عذاب عظيم) على ذنب عظيم، وجملة(9/192)
يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24)
(يوم تشهد عليهم ألسنتهم) مقررة لما قبلها، مبينة لحلول وقت ذلك العذاب بهم، وتعيين اليوم لزيادة التهويل بما فيه من العذاب، الذي لا يحيط به وصف، قرئ تشهد بالفوقية، وبالتحتية، وهما سبعيتان، والمعنى تشهد ألسنة بعضهم على بعض في ذلك اليوم، وقيل تشهد عليهم ألسنتهم في ذلك اليوم بما تكلموا به.
(وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون) أي: بما عملوا في الدنيا من قول أو فعل، وأن الله سبحانه ينطقها بالشهادة عليهم، والمشهود به محذوف. وهو ذنوبهم التي اقترفوها، أي تشهد هذه عليهم بذنوبهم التي اقترفوها ومعاصيهم التي عملوها.
أخرج الطبراني، وأبو يعلى، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، عن أبي سعيد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " إذا كان يوم القيامة عرف الكافر بعمله فجحد وخاصم، فيقال احلفوا فيحلفون. ثم يصمتهم الله وتشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم، ثم يدخلهم النار "، وقد روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من طريق جماعة من الصحابة ما يتضمن شهادة الجوارح على العصاة.(9/192)
يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (25)
(يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق) أي يوم تشهد عليهم جوارحهم بأعمالهم القبيحة يعطيهم الله جزاءهم عليها موفراً. فالمراد بالدين هنا الجزاء بالحق الثابت الذي لا شك في ثبوته، قرئ يوفيهم من أوفى مخففاً، ومن وفّى مشدداً، وقرئ الحقُ بالرفع على أنه نعت لله، وروي ذلك عن ابن مسعود رضي الله عنه، وبالنصب على أنه نعت لدينهم، قال أبو عبيدة: ولولا كراهة خلاف الناس لكان الوجه الرفع، ليكون نعتاً لله عز وجل، وليكون موافقاً(9/192)
لقراءة أُبي، وذلك أن جرير بن حازم قال: رأيت في مصحف أبيّ: يوفيهم الله الحق دينهم، قال النحاس: وهذا الكلام من أبي عبيدة غير مرضي، لأنه احتج بما هو مخالف للسواد الأعظم، ولا حجة أيضاً فيه، لأنه لو صح أنه في مصحف أبيّ كذلك، لجاز أن يكون دينهم بدلاً من الحق وعن ابن عباس قال: دينهم أي حسابهم، وكل شيء في القرآن الدين فهو الحساب وأخرج الطبراني وغيره عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قرأ يومئذ يوفيهم الله الحق دينهم.
(ويعلمون أنّ الله هو الحق المبين) أي يعلمون عند معاينتهم لذلك، ووقوعه على ما نطق به الكتاب العزيز، أن الله هو الحق الثابت في ذاته وصفاته، وأفعاله (المبين) المظهر للأشياء كما هي في أنفسها، وإنما سمي سبحانه الحق لأن عبادته هي الحق دون عبادة غيره؛ وقد سمي بالحق أي الموجود لأن نقيضه الباطل، وهو المعدوم، وتفسيره بظهور ألوهيته تعالى وعدم مشاركة الغير له فيها، وعدم قدرة ما سواه على الثواب والعقاب، ليس له كثير مناسبة للمقام، ولم يغلظ الله سبحانه وتعالى؛ في القرآن في شيء من المعاصي تغليظه في إفك عائشة. فأوجز في ذلك وأشبع، وفصل وأجمل، وأكد وكرر؛ وما ذلك إلا ما روي عن ابن عباس من أذنب ذنباً ثم تاب منه قبلت توبته إلا من خاض في أمر عائشة، وهذا منه تعظيم ومبالغة في أمر الإفك.
ولقد برأ الله تعالى أربعة بأربعة، برأ يوسف بشاهد من أهلها، وموسى بالحجر الذي ذهب بثوبه، ومريم بإنطاق ولدها، وعائشة بهذه الآي العظام في كتابه المعجز؛ المتلو على وجه الدهر، بهذه المبالغات؛ فانظر كم بينها وبين تبرئة أولئك حيث لم يرض لها ببراءة صبي ولا نبي. حتى برأها بكلامه من القذف والبهتان؛ وما ذاك إلا لإظهار علو منزلة رسوله. والتنبيه على أنافة محله صلى الله عليه وآله وأصحابه أجمعين.(9/193)
الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (26) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27) فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (28) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (29) قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30)
ثم ختم سبحانه الآيات الواردة في أهل الإفك بكلمة جامعة فقال:(9/194)
الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (26)
(الخبيثات) من النساء (للخبيثين) من الرجال أي مختصات بهم لا يكدن يتجاوزنهم إلى غيرهم، كلام مستأنف مؤسس على قاعدة السنة الإلهية الجارية فيما بين الخلق. على موجب أن الله تعالى ملكاً يسوق الأهل إلى أهلها (و) كذا (الخبيثون للخبيثات) أي مختصون بهن لا يتجاوزنهن لأن المجانسة من دواعي الانضمام.
(و) هكذا (الطيبات للطيبين والطيبون للطيبات) قال مجاهد، وسعيد بن جبير وعطاء وأكثر المفسرين: المعنى الكلمات الخبيثات من القول للخبيثين من الرجال، والخبيثون من الرجال للخبيثات من الكلمات، والكلمات الطيبات من القول للطيبين من الناس، والطيبون من الناس للطيبات من الكلمات، وعن ابن عباس مثله، وزاد نزلت في الذين قالوا في زوجة النبي - صلى الله عليه وسلم - ما قالوا من البهتان، وعن قتادة نحوه، وكذا روي عن جماعة من التابعين قال النحاس: وهذا أحسن ما قيل. قال الزجاج: ومعناه لا يتكلم بالخبيثات إلا الخبيث من الرجال والنساء، ولا يتكلم بالطيبات إلا(9/194)
الطيب من الرجال والنساء، وهذا ذم للذين قذفوا عائشة، بالخبث، ومدح للذين برءوها.
وقيل: إن هذه الآية مبنية على قوله: (الزاني لا ينكح إلا زانية) فالخبيثات الزواني، والطيبات العفائف، وكذا الخبيثون والطيبون، وعن ابن زيد قال: نزلت في عائشة حين رماها المنافقون بالبهتان، والفرية فبرأها الله من ذلك، وكان ابن أبيّ هو الخبيث؛ وكان هو أولى بأن تكون له الخبيثة، ويكون هو لها، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم طيباً فكان أولى أن تكون له الطيبة، وكانت عائشة الطيبة، وكانت أولى بأن يكون لها الطيب.
(أولئك مبرءون مما يقولون) الإشارة إلى الطيبين والطيبات، أي هم مبرءون مما يقوله الخبيثون والخبيثات، وقيل الإشارة إلى أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - وقيل: إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وعائشة وصفوان بن المعطل، وقيل إلى عائشة وصفوان فقط، قال الفراء: وجمع كما قال: فإن كان له إخوة، والمراد أخوان، قال ابن زيد: هاهنا برئت عائشة.
(لهم مغفرة) عظيمة لما لا يخلو عنه البشر من الذنوب (ورزق كريم) هو رزق الجنة، روي أن عائشة كانت تفتخر بأشياء لم تعطها امرأة غيرها، منها أن جبريل أتى بصورتها في خرقة حرير، وقال هذه زوجتك، ومنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يتزوج بكراً غيرها، وقبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حجرها وفي يومها. ودفن في بيتها، وكان ينزل عليه الوحي وهي معه في اللحاف، ونزلت براءتها من السماء، وأنها ابنة الصديق وخليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وخلقت طيبة، ووعدت مغفرة ورزقاً كريماً.
وكان مسروق إذا حدث عن عائشة يقول: حدثتني الصديقة ابنة الصديق حبيبة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، المبرأة من السماء؛ وقال حسان معتذراً في حقها:(9/195)
حصان، رزان، ما تزن بريبة ... وتصبح غرثى من لحوم الغوافل
حليلة خير الناس، ديناً ومنصباً ... نبي الهدى، والمكرمات الفواضل
عقيلة حي من لؤي بن غالب ... كرام المساعي مجدها غير زائل
مهذبة، قد طيب الله خيمها ... وطهرها من كل شين وباطل
ولما فرغ سبحانه من ذكر الزجر عن الزنا والقذف شرع في ذكر الزجر عن دخول البيوت بغير استئذان لما في ذلك من مخالطة الرجال بالنساء فربما يؤدي إلى أحد الأمرين المذكورين، وأيضاً فإن الإنسان يكون في بيته ومكان خلوته على حالة قد لا يحب أن يراه عليها غيره، فنهى الله سبحانه عن دخول بيوت الغير فقال:(9/196)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27)
(يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم) أي التي لستم تملكونها ولا تسكنونها، وليس لكم عليها يد شرعية أما المكتري. والمستعير، فكل منهما يدخل بيته، والمعنى لا تدخلوها إلى غاية هي قوله: (حتى تستأنسوا) الاستئناس: الاستعلام، والاستخبار أي حتى تستعلموا من في البيت والمعنى حتى تعلموا أن صاحب البيت قد علم بكم، وتعلموا أنه قد أذن بدخولكم فإذا علمتم ذلك دخلتم، ومنه قوله (فإن آنستم منها رشداً) أي علمتم. قال الخليل: الاستئناس الاستكشاف من أنس الشيء إذا أبصره كقوله (إني آنست ناراً) أي أبصرت.
وقال ابن جرير: إنه بمعنى تؤنسوا أنفسكم، قال ابن عطية وتصريف الفعل يأبى أن يكون من أنس ومعنى كلام ابن جرير هذا أنه من الاستئناس الذي هو خلاف الاستيحاش لأن الذي يطرق باب غيره لا يدري أيؤذن له أم لا؟ فهو كالمستوحش حتى يؤذن له فإذا أذن له استأنس. فنهى سبحانه عن دخول تلك البيوت حتى يؤذن للداخل وقيل: هو من الإنس وهو أن يتعرف هل ثَمَّ إنسان أم لا؟ قال الواحدي: قال جماعة المفسرين: حتى تستأذنوا(9/196)
ويؤيده ما حكاه القرطبي عن ابن عباس وأُبي وسعيد بن جبير أنهم قرءوا حتى تستأذنوا، قال ما لك فيما حكاه عنه ابن وهب: الاستئناس فيما نرى والله أعلم - الاستئذان؛ وعن ابن عباس قال: أخطأ الكاتب: حتى تستأذنوا.
(وتسلموا على أهلها) وفي مصحف عبد الله حتى تسلموا على أهلها، وتستأذنوا؛ وعن عكرمة نحوه: أخرج ابن أبي شيبة؛ والطبراني وغيرهما عن أبي أيوب قال: قلت يا رسول الله أرأيت قول الله حتى تستأنسوا أو تسلموا على أهلها، هذا التسليم قد عرفناه فما الاستئناس. قال: " يتكلم الرجل بتسبيحة وتكبيرة وتحميدة؛ ويتنحنح؛ فيؤذن أهل البيت " قال ابن كثير: هذا حديث غريب (1).
وأخرج الطبراني عن أبي أيوب أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " الاستئناس أن تدعو الخادم حتى يستأنس أهل البيت، الذين تسلم عليهم " وفي الصحيحين وغيرهما من حديث سهل بن سعد قال: اطلع رجل من جحر في حجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - ومعه مدرى يحك بها رأسه قال: " لو أعلم أنك تنظر لطعنت بها في عينيك، إنما جعل الاستئذان من أجل النظر " (2) وفي لفظ: إنما جعل الإذن من أجل البصر، وعن أنس قال: قال رجل من المهاجرين: لقد طلبت عمري كله في هذه الآية فما أدركتها: إن أستأذِنَ على بعض إخواني فيقول: إرجع فأرجع وأنا مغتبط لقوله (وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا هو أزكى لكم).
وعن ابن عباس قال: نسخ واستثنى من ذلك. فقال (ليس عليكم جناح أن تدخلوا بيوتاً غير مسكونة فيها متاع لكم) أخرج أحمد والبخاري في الأدب وأبو داود والترمذي والنسائي والبيهقي من طريق كلدة أن صفوان بن
_________
(1) ابن كثير 3/ 280.
(2) مسلم 2156 - البخاري 2300.(9/197)
أمية بعثه في الفتح بِلِبَأَ (1) وضَغابيس (2). والنبي - صلى الله عليه وسلم - بأعلى الوادي قال: فدخلت عليه ولم أسلم ولم أستأذن، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " أرجع فقل: السلام عليكم أأدخل؟ " قال الترمذي حسن غريب لا نعرفه إلا من حديثه.
وأخرج أحمد والبخاري في الأدب؛ وأبو داود والبيهقي في السنن من طريق ربعي قال: حدثنا رجل من بني عامر استأذن على النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو في بيت فقال: أألج؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لخادمه أخرج إلى هذا فعلمه الإستئذان. فقل له: قل السلام عليكم أأدخل؟.
وأخرج ابن جرير عن عمر بن سعيد الثقفي نحوه مرفوعاً. ولكنه قال أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لأمة له يقال لها روضة: " قومي إلى هذا فعلميه " واختلفوا هل يقدم الاستئذان على السلام؟ أو العكس؟ فقيل: يقدم الاستئذان فيقول أأدخل سلام عليكم؟ لتقديم الاستئناس في الآية على السلام. وقال الأكثرون: إنه يقدم السلام على الاستئذان فيقول: السلام عليكم أأدخل؟ وهو الحق لأن البيان منه - صلى الله عليه وسلم - للآية كان هكذا: وقيل: إن وقع بصره على إنسان قدّم السلام: وإلا قدم الاستئذان.
(ذلكم) أي الاستئناس والتسليم أي دخولكم مع الاستئذان والسلام (خير لكم) من التهجم بغير إذن ومن الدخول بغتة (لعلكم تذكّرون) أنّ الاستئذان خير لكم، وهذه الجملة متعلقة بمقدر أي: أمرتم بالاستئذان والمراد بالتذكر الاتعاظ، والعمل بما أمروا به.
_________
(1) ألِلّبَأ: هو أول ما يُحلَب عند الولادة، ولَبَأَتِ الشاة ولدَها أرضعته اللّبَأ (النهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير 4/ 221، تحقيق محمود محمد الطناحي، طبعة عيسى البابي الحلبي بالقاهرة).
(2) الضغابيس: صغار القِثّاء، وأحدها ضُغبوس، وقيل هي نبتٌ ينبت في أصول الثُمام، يُشبه الهِليون، يُسلَق بالخل والزيت ويؤكل (النهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير 3/ 89).(9/198)
فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (28)
(فإن لم تجدوا فيها) أي في البيوت التي لغيركم (أحداً) ممن يستأذن عليه، ويصلح للإذن، أو كان ولكنه لم يأذن أو لم يكن فيها أحد أصلاً (فلا(9/198)
تدخلوها حتى يؤذن لكم) بدخولها من جهة من يملك الإذن فإن المانع من الدخول ليس الاطلاع على العورات فقط، بل وعلى ما يخفيه الناس عادة مع أن التصرف في ملك الغير بغير إذنه محظور، واستثنى ما إذا عرض فيه حرق أو غرق أو كان فيه منكر ونحوه وعن مجاهد قال: المعنى فإن لم تجدوا فيها أحداً، أي لم يكن فيها متاع. وضعفه ابن جرير. وهو حقيق بالضعف فإن المراد بالأحد المذكور أهل البيوت الذين يأذنون للغير بدخولها لامتاع الداخلين إليها.
(وإن قيل لكم) أي: إن قال لكم أهل البيت: (ارجعوا فارجعوا) ولا تعاودوهم بالاستئذان مرة أخرى ولا تنتظروا بعد ذلك أن يؤذن لكم بعد أمرهم لكم بالرجوع. ولا تقفوا على الباب ملازمين، ثم بين سبحانه أن الرجوع أفضل من الإلحاح وتكرير الاستئذان، والقعود على الباب، والإصرار على الانتظار، فقال:
(هو) أي الرجوع (أزكى لكم) أي: أفضل وأطهر من التدنس بالمشاحة على الدخول ومن اللج والعناد والوقوف على الأبواب، لما في ذلك من سلامة الصدر، والبعد من الريبة، والفرار من الدناءة والرذالة، وإذا حضر أحد إلى الباب فلم يستأذن وقعد على الباب منتظراً جاز وكان ابن عباس يأتي دور الأنصار لطلب الحديث فيقعد على الباب ولا يستأذن حتى يخرج إليه الرجل فيراه ويقول: يا ابن عم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لو أخبرتني بمكانك؟ فيقول هكذا أمرنا أن نطلب العلم (والله بما تعملون عليم) لا تخفى عليه من أعمالكم خافية، ومنه الدخول بإذن وغير إذن.(9/199)
لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (29)
(ليس عليكم جُناح) في الدخول بغير استئذان (أن تدخلوا بيوتاً غير مسكونة) أي البيوت التي ليست بموضوعة لسكنى طائفة مخصوصة، بل كانت موضوعة ليدخلها كل من له حاجة تقصد منها، وقد اختلف الناس في المراد(9/199)
بهذه البيوت فقال محمد بن الحنفية وقتادة ومجاهد هي الفنادق التي في الطرق السابلة الموضوعة لابن السبيل، يأوي إليها.
وقال ابن زيد، والشعبي: هي حوانيت القيساريات وبيوت التجار، وحوانيتهم في الأسواق والرُّبَط، قال الشعبي: لأنهم جاءوا بيوعهم فجعلوها فيها، وقالوا للناس: هلم وقال عطاء: المراد بها الخرب التي يدخلها الناس للبول والغائط ففي هذا أيضاً متاع، وقيل هي بيوت مكة، روي ذلك عن محمد بن الحنفية أيضاً، وهو موافق لقول من قال: إن الناس شركاء فيها ولكن قد قيد سبحانه هذه البيوت المذكورة هنا بأنها غير مسكونة.
(فيها متاع لكم) المتاع: النفعة عند أهل اللغة فيكون معنى الآية فيها منفعة لكم، كاستكنان من الحر، والبرد، وإيواء الرحال: والسلع، والشراء، والبيع، ومنه قوله: ومتعوهن. وقولهم: أمتع الله بك، وقد فسر الشعبي المتاع في كلامه المتقدم بالأعيان التي تباع، قال جابر ابن زيد: وليس المراد بالمتاع الجهاز، ولكن ما سواه من الحاجة. قال النحاس: وهو حسن موافق للغة.
(والله يعلم ما تبدون وما تكتمون) أي ما تظهرون، وما تخفون، وفيه وعيد لمن لم يتأدب بآداب الله في دخول بيوت الغير، ويدخل الخربات، والدور الخالية من أهل الريبة، ولما ذكر سبحانه حكم الاستئذان أتبعه بذكر حكم النظر على العموم فقال:(9/200)
قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30)
(قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم) فيندرج تحته غض البصر من المستأذن كما قال صلى الله عليه وآله وسلم: " إنما جعل الإذن من أجل البصر " (1)، وخص المؤمنين مع تحريمه على غيرهم لكون قطع ذرائع الزنا التي
_________
(1) مسلم 2156 - البخاري 2300.(9/200)
منها النظر هم أحق بها من غيرهم، وأولى بذلك ممن سواهم، وقيل: إن في الآية دليلاً على أن الكفار غير مخاطبين بالشرعيات كما يقوله بعض أهل العلم، وفي الكلام حذف، والتقدير: قل للمؤمنين غضوا يغضوا، ومعنى غض البصر إطباق الجفن على العين بحيث يمنع الرؤية، و (من) هي التبعيضية، وإليه ذهب الأكثرون وعليه اقتصر القاضي كالكشاف، وبينوه بأن المعنى غض البصر عما يحرم، والاقتصار به على ما يحل.
وقيل وجه التبعيض أنه يعفى للناظر، أول نظرة تقع من غير قصد، وقال الأخفش: إنها زائدة، وأنكر ذلك سيبويه. وقيل: إنها لبيان الجنس قاله أبو البقاء، واعترض عليه بأنه لم يتقدم مبهم حتى يكون مفسراً بـ (من) وقيل إنها لابتداء الغاية، قاله ابن عطية، وعليه اقتصر أبو حيان في النهر، وقيل: الغض: النقصان، يقال: غض فلان من فلان، أي: وضع منه. فالبصر إذاً لم يمكن من عمله فهو مغضوض منه، ومنقوص، فتكون (من) صلة للغض، وليست لمعنى من تلك المعاني الأربعة، وفي هذه الآية دليل على تحريم النظر إلى غير من يحل النظر إليه.
قال ابن عباس: يغضوا أبصارهم يعني. من شهواتهم، مما يكره الله. وأخرج أبو داود، والترمذي، والبيهقي في سننه، عن بريدة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " لا تتبع النظرة النظرة فإن الأولى لك وليست لك الأخرى " (1).
وفي مسلم، وأبي داود، والترمذي، والنسائي، عن جرير البجلي قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن نظرة الفجأة فأمرني أن أصرف (2). وفي الصحيحين؛ وغيرهما؛ من حديث أبي سعيد قال: قال
_________
(1) أبو داوود كتاب النكاح باب 43 - الترمذي كتاب الأدب 28.
(2) مسلم 2159 - الترمذي كتاب الأدب باب 28.(9/201)
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " إياكم والجلوس على الطرقات "! قالوا: يا رسول الله ما لنا بد من مجالسنا نتحدث فيها! فقال: " إن أبيتم فأعطوا الطريق حقه ". قالوا: وما حقه يا رسول الله؟ قال: " غض البصر؛ وكف الأذى؛ ورد السلام؛ والأمر بالمعروف؛ والنهي عن المنكر " (1).
(ويحفظوا فروجهم) أي يجب عليهم حفظها عما يحرم عليهم ولا يحل لهم. وقيل المراد ستر فروجهم عن أن يراها من لا تحل له رؤيتها، ولا مانع من إرادة المعنيين، فالكل يدخل تحت حفظ الفرج، وقيل وجه المجيء بمن في الأبصار دون الفروج أنه موسع في النظر فإنه لا يحرم منه إلا ما استثنى، ألا ترى أن المحارم لا بأس بالنظر إلى شعورهن وصدورهن؟ وكذا الإماء المستعرضات للبيع بخلاف حفظ الفرج، فإنه مضيق فيه. فإنه لا يحل منه إلا ما استثنى.
وقيل الوجه أن غض البصر كلِّه كالمتعذر، بخلاف حفظ الفرج، فإنه ممكن على الإطلاق قال أبو العالية: كل ما في القرآن من حفظ الفرج فهو عن الزنا إلا ما في هذا الموضع فإنه أراد به الإستتار حتى لا يقع بصر الغير عليه.
(ذلك) أي ما ذكر من الغض والحفظ (أزكى) أي أطهر (لهم) من دنس الريبة، وأطيب من التلبس بهذه الدنيئة (إن الله خبير بما يصنعون) لا يخفى عليه شيء من صنعهم، فيجازيهم عليه، وفي ذلك وعيد لمن لم يغض بصره ويحفظ فرجه.
_________
(1) مسلم 2121 - البخاري 1217.(9/202)
وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31)
وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31)
(وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن) خص سبحانه الإناث بهذا الخطاب على طريق التأكيد لدخولهن تحت خطاب المؤمنين تغليباً كما في سائر الخطابات القرآنية وظهر التضعيف في يغضضن، ولم يظهر في يغضوا لأن لام الفعل من الأول متحركة، ومن الثاني ساكنة، وهما في موضع جزم جواباً للأمر. وبدأ سبحانه بالغض في الموضعين قبل حفظ الفرج. لأن النظر وسيلة إلى عدم حفظ الفرج. والوسيلة مقدمة على المتوسل إليه.
وعن مقاتل قال: بلغنا. والله أعلم، أن جابر بن عبد الله الأنصاري حدث أن أسماء بنت يزيد كانت في نخل لها لبني حارثة. فجعل النساء يدخلن عليها غير متزرات فيبدو ما في أرجلهن. يعني الخلاخل، وتبدو صدورهن وذوائبهن فقالت أسماء ما أقبح هذا! فأنزل الله في ذلك وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن الآية.
وبالجملة أمر الله سبحانه المؤمنين والمؤمنات بغض الأبصار. فلا يحل للرجل أن ينظر إلى المرأة، ولا للمرأة أن تنظر إلى الرجل، فإن علاقتها به كعلاقته بها وقصدها منه كقصده منها، وقال مجاهد: إذا أقبلت المرأة جلس إبليس على رأسها فزينها لمن ينظر، وإذا أدبرت جلس على عجيزتها فزينها لمن(9/203)
ينظر، وقد اشتملت هذه الآية الكريمة على خمسة وعشرين ضميراً للإناث ما بين مرفوع ومجرور ولم يوجد لها نظير في القرآن في هذا الشأن.
(و) كذلك (يحفظن فروجهن) أي يجب عليهن حفظ فروجهن على الوجه الذي تقدم في حفظ الرجال لفروجهم، أخرج البخاري وأهل السنن وغيرهم عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده قال: قلت يا رسول الله عوراتنا ما نأتي منها وما نذر؟ قال: " احفظ عورتك إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك " قلت: يا نبي الله إذا كان القوم بعضهم في بعض؟ قال: " إن استطعت أن لا يراها أحد فلا يرينها قلت: إذا كان أحدنا خالياً؟ قال: فالله أحق أن يستحيا منه من الناس " (1).
وفي الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " كتب على ابن آدم حظه من الزنا أدرك ذلك لا محالة، فزنا العين النظر وزنا اللسان النطق، وزنا الأذنين السماع، وزنا اليدين البطش، وزنا الرجلين الخطو، والنفس تتمنى، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه " (2).
وأخرج الحاكم وصححه عن حذيفة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " النظرة سهم من سهام إبليس مسمومة، فمن تركها من خوف الله أثابه الله إيماناً يجد حلاوته في قلبه "، والأحاديث في هذا الباب كثيرة (3).
(ولا يبدين زينتهن) أي ما يتزين به من الحلية وغيرها مثل الخلخال والخضاب في الرجل والسوار في المعصم والقرط في الأذن والقلائد في العنق فلا يجوز للمرأة إظهارها ولا يجوز للأجنبي النظر إليها ثم استثنى سبحانه من هذا النهي فقال:
_________
(1) الترمذي كتاب الأدب باب 22، 39 - الإمام أحمد 5/ 4.
(2) مسلم 2657 - البخاري 2372.
(3) المستدرك كتاب الرقاق 4/ 314.(9/204)
(إلا ما ظهر منها) أي ما جرت العادة والجبلة على ظهوره واختلف الناس في ظاهر الزينة ما هو؟ فقال ابن مسعود وسعيد بن جبير: هو الثياب وزاد سعيد الوجه وقال عطاء والأوزاعي: الوجه والكفان وقال ابن عباس وقتادة والمسور بن مخرمة: هو الكحل والخاتم والسوار والخضاب في الكف إلى نصف الساق ونحو ذلك فإنه يجوز للمرأة أن تبديه وقال ابن عطية: إن المرأة لا تبدي شيئاً من الزينة وتخفي كل شيء من زينتها، ووقع الاستثناء فيما يظهر منها بحكم الضرورة ولا يخفى عليك أن ظاهر النظم القرآني النهي عن إبداء الزينة إلا ما ظهر منها كالجلباب والخمار ونحوهما مما في الكف والقدمين من الحلية ونحوها.
وإن كان المراد بالزينة مواضعها، كان الاستثناء راجعاً إلى ما يشق على المرأة ستره كالكفين والقدمين ونحو ذلك وهكذا إذا كان النهي عن إظهار الزينة يستلزم النهي عن إظهار مواضعها بفحوى الخطاب فإنه يحمل الاستثناء على ما ذكرناه في الموضعين وأما إذا كانت الزينة تشمل مواضع الزينة وما تتزين به النساء فالأمر واضح والاستثناء يكون من الجميع.
قال القرطبي في تفسيره: الزينة على قسمين خلقية ومكتسبة فالخلقية وجهها فإنه أصل الزينة والمكتسبة ما تحاوله المرأة في تحسين خلقها كالثياب والحلى والكحل والخضاب ومنه قوله تعالى: (خذوا زينتكم) وعن ابن مسعود قال: الزينة السوار والدملج والخلخال والقرط والقلادة إلا ما ظهر منها قال: الثياب والجلباب وعنه قال: الزينة زينتان زينة ظاهرة وزينة باطنة لا يراها إلا الزوج فأما الزينة الظاهرة فالثياب وأما الزينة الباطنة فالكحل والسوار والخاتم وفي لفظ فالظاهرة منها الثياب وما خفي الخلخالان والقرطان والسواران.
وعن ابن عباس في الآية قال: الكحل والخاتم والقرط والقلادة وعنه قال: هو خضاب الكف والخاتم وعن ابن عمر قال: الزينة الظاهرة الوجه(9/205)
والكفان وقال ابن عباس: إلا ما ظهر منها أي وجهها وكفاها والخاتم وعنه قال: رقعة الوجه وباطن الكف وعن عائشة أنها سئلت عن الزينة الظاهرة فقالت: القلب والفتخ وضمت طرف كمها.
وأخرج أبو داود والبيهقي وابن مردويه عن عائشة أن أسماء بنت أبي بكر دخلت على النبي - صلى الله عليه وسلم - وعليها ثياب رقاق فأعرض عنها وقال: " يا أسماء إن المرأة إذا بلغت المحيض لم يصلح أن يرى منها إلا هذا وأشار إلى وجهه وكفه " (1). وهذا مرسل لأنه من طريق خالد بن دريك عن عائشة ولم يسمع منها وإنما رخص في هذا القدر للمرأة أن تبديه من بدنها لأن المرأة لا تجد بداً من مزاولة الأشياء بيديها ومن الحاجة إلى كشف وجهها خصوصاً في الشهادة والمحاكمة والنكاح وتضطر إلى المشي في الطرقات وظهور قدميها وخاصة الفقيرات منهن قال المحلى: فيجوز نظره أي نظر ما ظهر منها لأجنبي إن لم يخف فتنة في أحد وجهين، والثاني يحرم لأنه مظنه الفتنة ورجح حسماً للباب انتهى أي باب النظر عن تفاصيل الأحوال كالخلوة بالأجنبية.
(وليضربن بخمرهنّ على جيوبهنّ) الخُمُر جمع خمار وهو ما تغطي به المرأة رأسها ومنه اختمرت المرأة وتخمرت والجيوب جمع جيب وهو موضع القطع من الدرع والقميص مأخوذ من الجوب وهو القطع وقيل المراد بالجيب هنا محله وهو العنق وإلا فهو في الأصل طوق القميص وعدي الضرب بـ (على) لتضمينه معنى الإلقاء والباء زائدة أو تبعيضية.
وقال المفسرون: إن نساء الجاهلية كن يسدلن خمرهن من خلفهن وكانت جيوبهن من قدام واسعة فكان ينكشف نحورهن وقلائدهن فأمرن أن يضربن مقانعهن على الجيوب ليستر بذلك ما كان يبدو منها، وفي لفظ الضرب مبالغة في الإلقاء الذي هو الإلصاق وقرئ خمرهن بتحريك الميم وبكسرها وكثير من متقدمي النحويين لا يجوزون الكسر قال الزجاج: يجوز أن تبدل من
_________
(1) أبو داوود كتاب اللباس باب 31.(9/206)
الضمة كسرة وأما ما روي عن حمزة من الجمع بين الضم والكسرة فمحال لا يقدر الإنسان أن يتكلم به إلا على الإيماء.
وقد فسر الجمهور الجيوب بما قدمنا، وهو المعنى الحقيقي وقال مقاتل: إن معنى (على جيوبهن) على صدورهن، فالمضاف محذوف، أي على مواضع جيوبهن، وقد أخرج البخاري في صحيحه وأبو داود، والنسائي والبيهقي وغيرهم في سننهم، عن عائشة قالت: رحم الله النساء المهاجرات الأولات، لما أنزل الله (وليضربن بخمرهن على جيوبهن) شققن أكثف مروطهن فاختمرن به، وأخرج الحاكم وصححه، وابن جرير وغيرهما عنها بلفظ أخذ النساء أزرهن فشققنها من قبل الحواشي فاختمرن بها.
(ولا يبدين زينتهن) أي مواضع الزينة الباطنة، وهي ما عدا الوجه والكفين، كالصدر والساق والرأس ونحوها، قال الخطيب: أي الزينة الخفية التي لم يبح لهن كشفها في الصلاة، ولا للأجانب وقال أبو السعود: كرر النهي لاستثناء بعض مواضع الرخصة باعتبار الناظر، بعد ما استثنى بعض موارد الضرورة باعتبار المنظور فقال:
(إلا لبعولتهن) أي لا يدعن الجلباب والخمار إلا لأزواجهن، والبعل هو الزوج والسيد في كلام العرب، وقدم البعول لأنهم المقصودون بالزينة، ولأن كل بدن الزوجة والسرية حلال لهم، ومثله قول سبحانه (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ) [المؤمنون: 5 - 6] ثم لما استثنى الله سبحانه الزوج أتبعه باستثناء ذوي المحارم فقال:
(أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ) فجوز للنساء أن يبدين الزينة الباطنة لهؤلاء لكثرة المخالطة الضرورية بينهم وبينهن وعدم خشية الفتنة من قبلهم، لما في الطباع من النفرة عن مماسة القرائب وقد روي عن الحسن والحسين رضي الله(9/207)
عنهما أنهما كانا لا ينظران إلى أمهات المؤمنين، ذهاباً منهما إلى أن أبناء البعولة لم يذكروا في الآية التي في أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهي قوله (لا جناح عليهن في آبائهن)، والمراد بأبناء بعولتهن ذكور أولاد الأزواج ويدخل في قوله (أو أبنائهن) أولاد الأولاد وإن سفلوا أو أولاد بناتهن وإن سفلوا وكذا آباء البعولة وآباء الآباء، وآباء الأمهات، وإن علوا وكذلك أبناء البعولة وإن سفلوا وكذلك أبناء الإخوة والأخوات.
وذهب الجمهور إلى أن العم والخال كسائر المحارم في جواز النظر إلى ما يجوز لهم وقال الشعبي وعكرمة: ليس العم والخال من المحارم قال الكرخي: وعدم ذكر الأعمام والأخوال لما أن الأحوط أن يتسترن منهم حذراً من أن يصفوهن لأبنائهم والمعنى أن سائر القرابات تشترك مع الأب والابن في المحرمية إلا ابني العم والخال وهذا من الدلالات البليغة في وجوب الاحتياط عليهن في النسب، وليس في الآية ذكر الرضاع وهو كالنسب.
(أو نسائهن) أي: المختصات بهن من جهة الاشتراك في الإيمان، الملابسات لهن بالخدمة أو الصحبة، ويخرج من ذلك نساء الكفار من أهل الذمة وغيرهم، فلا يحل لهن أن يبدين زينتهن لهن، لأنهن لا يتحرجن عن وصفهن للرجال، وفي هذه المسألة خلاف بين أهل العلم، قال ابن عباس: هن المسلمات لا تبديها ليهودية ولا نصرانية، وهو النحر، والقرط، والوشاح وما يحرم أن يراه إلا محرم.
وأخرج سعيد بن منصور، والبيهقي، وابن المنذر، عن عمر بن الخطاب أنه كتب إلى أبي عبيدة: أما بعد فإنه بلغني أن نساء من نساء المؤمنين يدخلن الحمامات، مع نساء أهل الشرك، فإنه من قبلك عن ذلك، فإنه لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن ينظر إلى عورتها إلا أهل ملتها.
(أو ما ملكت أيمانهن) فيجوز لهم نظرهن، إلا ما بين السرة والركبة، فيحرم نظره لغير الأزواج، قاله المحلي: وظاهر الآية يشمل العبيد(9/208)
والإماء، من غير فرق بين أن يكونوا مسلمين، أو كافرين. وبه قال جماعة من أهل العلم، وإليه ذهبت عائشة، وأم سلمة، وابن عباس، ومالك. وقال سعيد ابن المسيب: لا تغرنكم هذه الآية إنما عني بها الإماء، ولم يعن بها العبيد، وكان الشعبي يكره أن ينظر المملوك إلى شعر مولاته، وهو قول عطاء، ومجاهد، والحسن، وابن سيرين وروي عن ابن مسعود، وبه قال أبو حنيفة، وابن جريج وقال ابن عباس: لا بأس أن يرى العبد شعر سيدته.
وأخرج البيهقي، وأبو داود، وغيرهما، عن أنس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أتى فاطمة رضي الله تعالى عنها بعبد قد وهب لها، وعلى فاطمة ثوب إذا قنع به رأسها لم يبلغ رجليها، وإذا غطت به رجليها لم يبلغ رأسها، فلما رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما تلقى، قال: " إنه ليس عليك بأس إنما هو أبوك، وغلامك " وهو ظاهر القرآن (1).
وأخرج عبد الرزاق، وأحمد، عن أم سلمة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: " إذا كان لإحداكن مكاتب وكان له ما يؤدي فلتحتجب منه (2) " قال سليمان الجمل عن شيخه: فيجوز لهن أن يكشفن لهم ما عدا ما بين السرة والركبة، ويجوز للعبيد أيضاً أن ينظروا له، وأن يكشفوا لهن من أبدانهم، ما عدا ما بين السرة والركبة، لكن بشرط العفة، وعدم الشهوة من الجانبين.
(أو التابعين غير أولى الإربة من الرجال) أصل الإربة، والإرب، والمأربة الحاجة، والجمع مآرب، أي: حوائج، ومنه قوله سبحانه: (ولي فيها مآرب أخرى) قيل: المراد بغير أولى الإربة من الرجال الحمقاء الذين لا حاجة لهم في النساء، وقيل. البله، وقيل: العنين، وقيل: الخصي، وقيل: المخنث، وقيل: الشيخ الكبير، وقيل: هو المجبوب، ولا وجه لهذا
_________
(1) أبو داوود وكتاب اللباس باب 32.
(2) أبو داوود كتاب العتق الباب 1 - أحمد بن حنبل 6/ 289 - 308 - 311.(9/209)
التخصيص، بل المجبوب الذي بقي أنثياه، والخصي الذي بقي ذكره، والعنين والمخنث، وهو المتشبه بالنساء، والشيخ الهرم كالفحل. كذا أطلق الأكثرون.
وقال في الشامل: لا يحل للخصي النظر إلى أن يكبر ويهرم وتذهب شهوته، وكذا المخنث، وبه قال شيخه القاضي أبو الطيب، وأطلق أبو مخلد البصري في الخصي، والمخنث، وجهين، والمراد بالآية ظاهرها، وهم من يتبع أهل البيت في فضول الطعام، ولا حاجة له في النساء، ولا يحصل منه ذلك في حال من الأحوال، فيدخل في هؤلاء من هو بهذه الصفة، ويخرج من عداه. قال ابن عباس في الآية: هذا الذي لا تستحي منه النساء، وعنه قال: هذا الرجل يتبع القوم وهو مغفل في عقله لا يكترث للنساء، وعنه قال: كان الرجل يتبع الرجل في الزمان الأول لا يغار عليه، ولا ترهب المرأة أن تضع خمارها عنده، وهو الأحمق الذي لا حاجة له في النساء، وعنه قال: هو المخنث الذي لا يقوم زبّه.
وأخرج مسلم وأبو داود، والنسائي، والبيهقي، وغيرهم، عن عائشة قالت: كان رجل يدخل على أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم مخنث، فكانوا يدعونه من غير أولى الإربة فدخل النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوماً، وهو عند بعض نسائه، وهو ينعت امرأة، قال: إذا أقبلت أقبلت بأربع، وإذا أدبرت بثمان. قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: " ألا أرى هذا يعرف ما هاهنا لا يدخلَنَّ عليكم " فحجبوه (1).
(أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء) الطفل يطلق على المفرد، والمثنى والمجموع. أو المراد به هنا الجنس، الموضوع وضع الجمع، بدلالة وصفه. بوصف الجمع، وفي مصحف أبي: أو الأطفال. على الجمع قاله ابن قتيبة، قيل: معناه لم يبلغوا حد الشهوة، قاله الفراء، والزجاج، يقال: ظهرت على كذا إذا غلبته، وقهرته، والمعنى: لم يطلعوا
_________
(1) مسلم 2181 - أبو داوود - كتاب اللباس باب 33.(9/210)
على عورات النساء، ويكشفوا عنها للجماع، أو لم يبلغوا حد الشهوة للجماع، وقيل: لم يعرفوا العورة من غيرها من الصغر، وقيل: لم يبلغوا، وأن القدرة على الوطء، من: ظهر على فلان، إذا قوي عليه، وقيل: لم يحتلم.
قرأ الجمهور: عورات بسكون الواو، تخفيفاً لحرف العلة، وهي لغة جمهور العرب وعامتها وقرئ بفتحها، وهي لغة هذيل بن مدركة، والعورات جمع عورة، وهي ما يريد الإنسان ستره من بدنه، وغلب في السوأتين. واختلف العلماء في وجوب ستر ما عدا الوجه والكفين من الأطفال فقيل لا يلزم، لأنه لا تكليف عليه، وهو الصحيح، وقيل: يلزم، لأنها قد تشتهي المرأة، وهكذا اختلف في عورة الشيخ الكبير، الذي قد سقطت شهوته، والأولى بقاء الحرمة، كما كانت، فلا يحل النظر إلى عورته، ولا يحل له أن يكشفها، وقد اختلف العلماء في حد العورة.
قال القرطبي: أجمع المسلمون على أن السوأتين عورة من الرجل، والمرأة، وأن المرأة كلها عورة إلا وجهها ويديها، على خلاف في ذلك. وقال الأكثر: إن عورة الرجل من سرته إلى ركبته. قال ابن عباس: الزينة التي تبديها لهؤلاء قرطها وقلادتها، وسوارها، فأما خلخالها، ومعضدها، ونحرها، وشعرها!، فإنها لا تبديها إلا لزوجها، ومجموع هذه المستثنيات اثنا عشر نوعاً.
(ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن) أي: لا تضرب المرأة برجلها إذا مشت ليسمع صوت خلخالها من يسمعه من الرجال فيعلمون أنها ذات خلخال، فإن ذلك مما يورث الرجال ميلاً إليهن، ويوهم أن لهن ميلاً إلى الرجال وهذا سد لباب المحرمات وتعليم للأحوط وإلا فصوت النساء ليس بعورة عند الشافعي، فضلاً عن صوت خلخالهن وقال الزجاج: وسماع هذه الزينة أشد تحريكاً للشهوة من إبدائها قال ابن عباس في الآية: وهو أن(9/211)
تقرع الخلخال بالآخر عند الرجال أو تكون في رجلها خلاخل، فتحركهن عند الرجال، فنهى الله عن ذلك، لأنه من عمل الشيطان. وسماع صوت الزينة كإظهارها ومنه سمي صوت الحلى وسواساً فنبه به على أن الذي لأجله نهى عنه به ما عليهن من الحلي وغيره.
وفي القرطبي من فعل ذلك منهن فرحاً بحليهن فهو مكروه، ومن فعل ذلك منهن تبرجاً وتعرضاً للرجال فهو حرام مذموم وكذلك من ضرب بنعله الأرض من الرجال فعل ذلك عجباً حرم فإن العجب كبيرة، وإن فعل ذلك تبرجاً لم يحرم انتهى.
ثم أرشد سبحانه عباده إلى التوبة عن المعاصي فقال:
(وتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون) مما وقع لكم من النظر الممنوع منه ومن غيره وفيه الأمر بالتوبة ولا خلاف بين المسلمين في وجوبها وأنها فرض من فرائض الدين. قيل العبد لا يخلو عن سهو ويقصر في أوامره ونواهيه، وإن اجتهد فلذا وصاهم جميعاً بالتوبة، وقد تقدم الكلام على التوبة في سورة النساء.
وقيل إن المراد بالتوبة هنا هي عما كانوا يعملونه في الجاهلية، والأول أولى لما تقرر في السنة أن الإسلام يجبُّ ما قبله، وقد ورد أحاديث في الأمر بالتوبة والاستكثار منها قيل وأحوج الناس إلى التوبة من توهّم أنه ليس له حاجة إلى التوبة، وظاهر الآية يدل على أن العصيان لا ينافي الإيمان ثم ذكر ما يرغبهم في التوبة فقال (لعلكم تفلحون) أي تفوزون بسعادة الدنيا والآخرة أو تنجون من ذلك لقبول التوبة منه وفي الآية تغليب المذكور على الإناث.
ولما أمر سبحانه بغض الأبصار وحفظ الفروج أرشد بعد ذلك إلى ما يحل للعباد من النكاح الذي يكون به قضاء الشهوة وسكون دواعي الزنا، ويسهل بعده غض البصر عن جميع المحرمات. وحفظ الفرج عما لا يحل فقال:(9/212)
وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (32) وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (33)(9/213)
وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (32)
(وأنكحوا الأيامى منكم) الأيّم بالتشديد التي لا زوج لها ومن ليس له زوجة فيشمل الرجل والمرأة غير المتزوجين والجمع أيامى والأصل أيايم قال أبو عمرو والكسائي: اتفق أهل اللغة على أن الأيم في الأصل هي المرأة التي لا زوج لها بكراً كانت أو ثيباً قال أبو عبيدة: يقال رجل أيم وامرأة أيم وأكثر ما يكون في النساء وهو كالمستعار في الرجال والخطاب في الآية للأولياء والسادة.
وقيل للأزواج والأول أرجح وفيه دليل على أن المرأة لا تنكح نفسها. وعن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل ثلاثاً " (1) أخرجه أبو داود والترمذي وعندهما عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا نكاح إلا بولي " (2) وقد خالف في ذلك أبو حنيفة فجوز للمرأة تزويج نفسها واختلف أهل العلم في هذا النكاح هل هو مباح؟ أو مستحب؟ أو واجب؟ فذهب إلى الأول الشافعي وغيره وإلى الثاني مالك وأبو حنيفة وإلى الثالث بعض أهل
_________
(1) الترمذي كتاب النكاح باب 14 - ابن ماجة كتاب النكاح باب 15.
(2) الترمذي كتاب النكاح باب 14 - أبو داوود كتاب النكاح باب 19.(9/213)
العلم على تفصيل لهم في ذلك فقالوا: إن خشي على نفسه الوقوع في المعصية وجب عليه، وإلا فلا.
والظاهر أن القائلين بالإباحة والاستحباب لا يخالفون في الوجوب مع الخشية وبالجملة فهو مع عدمها سنة من السنن المؤكدة لقوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح بعد ترغيبه في النكاح ومن رغب عن سنتي فليس مني ولكن مع القدرة عليه وعلى مؤنه، وعن ابن مسعود قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحسن للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء " أخرجه البخاري ومسلم (1).
قال ابن عباس: أمر الله سبحانه بالنكاح ورغبهم فيه وأمرهم أن يزوجوا أحرارهم وعبيدهم، ووعدهم في ذلك الغنى كما سيأتي. وعن أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه قال: أطيعوا الله فيما أمركم من النكاح ينجز لكم ما وعدكم من الغنى، وعن قتادة قال: ذكر لنا أن عمر بن الخطاب قال: ما رأيت كرجل لم يلتمس الغنى في الباءة وقد وعد الله فيها ما وعد فقال (إن يكونوا فقراء) الآية وعن ابن مسعود نحوه.
وعن عائشة قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " أنكحوا النساء يأتينكم بالمال " أخرجه البزار والدارقطني وأخرجه أبو داود في مراسيله عن عروة مرفوعاً. وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " ثلاثة حق على الله عونهم الناكح يريد العفاف، والمكاتب يريد الأداء والغازي في سبيل الله " (2). وقد ورد في الترغيب في مطلق النكاح أحاديث كثيرة ليس هذا موضع ذكرها والمراد بالأيامى هاهنا الأحرار والحرائر وأما المماليك فقد بين ذلك بقوله:
(والصالحين من عبادكم وإمائكم) وقرئ عبيدكم والصلاح هو
_________
(1) مسلم 1400 - البخاري 967.
(2) الترمذي فضائل الجهاد باب 20 - النسائي كتاب النكاح باب 5.(9/214)
الإيمان وقيل القيام بحقوق النكاح حتى يقوم العبد بما يلزم بها وتقوم الأمة بما يلزم للزوج، أو المراد بالصلاح أن لا تكون صغيرة لا تحتاج إلى النكاح، وخص الصالحين بالذكر ليحصن دينهم ويحفظ عليهم صلاحهم، ولأن الصالحين منهم هم الذين مواليهم يشفقون عليهم وينزلونهم منزلة الأولاد في المودة، وكانوا مظنة التوصية والاهتمام بهم، ومن ليس بصالح فحاله على العكس من ذلك، وذكر سبحانه الصلاح في المماليك دون الأحرار لأن الغالب في الأحرار الصلاح بخلاف المماليك.
وفيه دليل على أن المملوك لا يزوج نفسه وإنما يزوجه ويتولى تزويجه مالكه وسيده، وقد ذهب الجمهور إلى أنه يجوز للسيد أن يكره عبده وأمته على النكاح وقال مالك لا يجوز، ثم رجع سبحانه إلى الكلام في الأحرار فقال:
(إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله) أي لا تمتنعوا من تزويج الأحرار بسبب فقر الرجل والمرأة أو أحدهما مالاً فإنهم إن يكونوا فقراء يغنهم الله سبحانه ويتفضل عليهم بذلك، فإن في فضل الله غنية عن المال فإنه غاد ورائح، قال الزجاج: حث الله على النكاح وأعلم أنه سبب لنفي الفقر ولا يلزم أن يكون هذا حاصلاً لكل فقير إذا تزوج فإن ذلك مقيد بالمشيئة، وقد يوجد في الخارج كثير من الفقراء لا يحصل لهم الغنى إذا تزوجوا، وقيل المعنى أنه يغنيهم بغنى النفس أي القناعة، وقيل المعنى أن يكونوا فقراء إلى النكاح يغنهم الله من فضله بالحلال ليتعففوا عن الزنا، والوجه الأول أولى ويدل عليه قوله سبحانه: (وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء) فيحمل المطلق هنا على المقيد هناك.
وقيل هو اجتماع الرزقين رزق الزوج والزوجة، وقيل إنَّ الله وعد الغنى بالنكاح وبالتفرق وهو قوله: (وإن يتفرقا يغن الله كلاً من سعته) وجملة (والله واسع عليم) مقررة لما قبلها ومؤكدة والمراد أنه سبحانه ذو سعة لا ينقص من سعة ملكه غنى من يغنيه من عباده، عليم بمصالح خلقه، يغني من يشاء ويفقر من يشاء ثم(9/215)
ذكر سبحانه حال العاجزين عن النكاح بعد بيان جواز مناكحتهم إرشاداً لهم إلى ما هو الأولى فقال:(9/216)
وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (33)
(وليستعفف الذين لا يجدون نكاحاً) يقال استعف إذا طلب أن يكون عفيفاً أي ليطلب العفة عن الزنا والحرام من لا يجد سبب نكاح وهو المال، وقيل النكاح هنا ما ينكح به المرأة من المهر والنفقة كاللحاف اسم لما يلتحف به واللباس اسم لما يلبس قال ابن عباس: ليتزوج من لا يجد فإن الله سيغنيه، وقيد سبحانه هذا النهي بتلك الغاية وهي:
(حتى يغنيهم الله من فضله) أي يرزقهم رزقاً يستغنون به ويتمكنون بسببه من النكاح، وفي هذه الآية ما يدل على تقييد الجملة الأولى وهي (إن يكونوا فقراء يغنهم الله) بالمشيئة كما ذكرنا، فإنه لو كان وعداً -حتماً لا محالة في حصوله- لكان الغنى والزواج متلازمين، وحينئذ لا يكون للأمر بالاستعفاف مع الفقر كثير فائدة فإنه يستغني عند تزوجه لا محالة فيكون في تزوجه مع فقره تحصيل للغنى، إلا أن يقال إن الأمر بالاستعفاف للعاجز عن تحصيل مبادئ النكاح، ولا ينافي ذلك وقوع الغنى له من بعد أن ينكح، فإنه قد صدق عليه أنه لم يجد نكاحاً إذا كان غير واجد لأسبابه، التي يتحصل بها وأعظمها المال.
وانظر كيف رتب هذه الأوامر فأمر أولاً بما يعصم من الفتنة ويبعد عن مواقعة المعصية وهو غض البصر، ثم بالنكاح المحصن المغني عن الحرام، ثم بعزة النفس الأمارة بالسوء عن الطموح إلى الشهوة عند العجز عن النكاح إلى أن يقدر عليه، ثم لما رغب سبحانه في تزويج الصالحين من العبيد والإماء أرشد المالكين إلى طريقة يصير بها المملوك من جملة الأحرار فقال:
(والذين يبتغون الكتاب مما ملكت إيمانكم) من العبيد والإماء، والكتاب مصدر كاتب كالمكاتبة، يقال كاتب يكاتب كتاباً، ومكاتبة، كما يقال: قاتل يقاتل قتالاً، ومقاتلة، وقيل: الكتاب هاهنا اسم عين للكتاب الذي يكتب فيه(9/216)
الشيء، وذلك لأنهم كانوا إذا كاتبوا العبد كتبوا عليه وعلى أنفسهم بذلك كتاباً، فيكون المعنى: الذين يطلبون كتاب المكاتبة ومعناها في الشرع أن يكاتب الرجل عبده على مال يؤديه منجماً، فإذا أداه فهو حر. عن عبد الله بن صبيح عن أبيه قال: كنت مملوكاً لحويطب بن عبد العزى، فسألته الكتابة فأبى، فنزلت هذه الآية.
وظاهر قوله (فكاتبوهم) أن العبد إذا طلب المكاتبة من سيده، وجب عليه أن يكاتبه بالشرط المذكور بعده، وهو (إن علمتم فيهم خيراً) الخير هو القدرة على أداء ما كوتب عليه، وإن لم يكن له مال، وقيل هو المال فقط كما ذهب إليه مجاهد والحسن، وعطاء، والضحاك، وطاووس، ومقاتل وروي عن علي، وابن عباس، وعنه أيضاً أمانة ووفاء، وعنه قال: إن علمت مكاتبك يقضيك، وعنه قال: حيلة ولا تلقوا مؤونتهم على المسلمين، وذهب إلى الأول ابن عمر، وابن زيد، واختاره مالك، والشافعي والفراء والزجاج.
قال الفراء: يقول إن رجوتم عندهم وفاء، وتأدية للمال وقال الزجاج: لما قال: (فيهم) كان الأظهر الاكتساب والوفاء وأداء الأمانة وقال النخعي: إن الخير الدين، والأمانة، وروي مثل هذا عن الحسن. وقال عبيدة السلماني: إقامة الصلاة قال الطحاوي: وأقول من قال إنه المال لا يصح عندنا، لأن العبد مال لمولاه، فكيف يكون له مال، قال: والمعنى عندنا إن علمتم فيهم الدين والصدق.
قال أبو عمرو بن عبد البر: من لم يقل إن الخير هنا المال أنكر أن يقال إن علمتم فيهم مالاً، وإنما يقال علمت فيه الخير والصلاح والأمانة، ولا يقال علمت فيه المال، هذا حاصل ما وقع من الاختلاف بين أهل العلم، في الخير المذكور في هذه الآية وإذا تقرر لك هذا فاعلم أنه قد ذهب إلى ظاهر ما يقتضيه الأمر المذكور في الآية من الوجوب عكرمة وعطاء ومسروق، وعمرو(9/217)
ابن دينار، والضحاك، وأهل الظاهر، فقالوا: يجب على السيد أن يكاتب مملوكه إذا طلب منه ذلك، وعلم فيه خيراً، وقال الجمهور من أهل العلم، لا يجب ذلك، وتمسكوا بالإجماع على أنه لو سأل العبد سيده أن يبيعه من غيره لم يجب عليه ذلك، ولم يجبر عليه، فكذا الكتابة لأنها معاوضة.
ولا يخفاك أنه حجة واهية، وشبهة داحضة، والحق ما قاله الأولون وبه قال عمر وابن عباس واختاره ابن جرير عن أنس بن مالك قال: سألني سيرين المكاتبة فأبيت عليه، فأتى عمر بن الخطاب فأقبل علي بالدرة وقال: كاتبه وتلا (فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيراً) فكاتبته قال ابن كثير إن إسناده صحيح.
وعن يحيى بن كثير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " إن علمتم فيهم حرفة، ولا ترسلوهم كلاًّ على الناس ". أخرجه أبو داود في المراسيل، والبيهقي في سننه. ولا تجوز الكتابة على أقل من نجمين عند الشافعي، وجوزها أبو حنيفة إلى نجم واحد، وقيل: إن الأمر مطلق، فيجوز حالاً، ومؤجلاً، ومنجماً، وغير منجم. ثم أمر سبحانه الموالي بالإحسان إلى المكاتبين فقال:
(وآتوهم من مال الله الذي آتاكم) ففي هذه الآية الأمر للمالكين بإعانة المكاتبين على مال الكتابة، إما بأن يعطوهم شيئاً من المال أو بأن يحطوا عنهم مما كوتبوا عليه. وظاهر الآية عدم تقدير ذلك بمقدار، وقيل: الثلث، وقيل الربع، وقيل: العشر. ولعل وجه تخصيص الموالي بهذا الأمر هو كون الكلام فيهم، وسياق الكلام معهم، فإنهم هم المأمورون بالكتابة.
وقال الحسن والنخعي وبريدة: إن الخطاب بقوله: (وآتوهم) لجميع الناس. وقال زيد بن أسلم: إن الخطاب للولاة بأن يعطوا المكاتبين من مال الصدقة حظهم، كما في قوله سبحانه: (وفي الرقاب)، وللمكاتب(9/218)
أحكام معروفة إدا وفى ببعض مال الكتابة. قال ابن عباس: أي: ضعوا عنهم من مكاتبتهم، وعن نافع قال: كان ابن عمر يكره أن يكاتب عبده إذا لم تكن له حرفة، ويقول: تطعمني من أوساخ الناس وعن ابن عباس في الآية قال: أمر الله المؤمنين أن يعينوا في الرقاب.
وعن علي ابن أبي طالب: أمر الله السيد أن يدع للمكاتب الربع من ثمنه، وهذا تعليم من الله ليس بفريضة، ولكن فيه أجراً. وقال صاحب الجمل: إن الأمر للوجوب. وعن بريدة في الآية قال: حث الناس على أن يعطوه، ثم إنه سبحانه لما أرشد الموالي إلى نكاح الصالحين من المماليك، نهى المسلمين عما كان يفعله أهل الجاهلية من إكراه إمائهم على الزنا فقال:
(ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء) المراد بالفتيات هنا الإماء وإن كان الفتى والفتاة قد يطلقان على الأحرار في مواضع أخر، والفتى: الشاب، والفتاة: الشابة، والبِغاء بالكسر والمد، مصدر بغت المرأة تبغي بغاء، إذا زنت، وفجرت، وهذا مختص بزنا النساء، فلا يقال: للرجل إذا زنى: إنه بغى. قاله الأزهري. والجمع: البغايا، والبغيّ القينة، وإن كانت عفيفة، لثبوت الفجور لها في الأصل، قاله الجوهري، ولا يراد به الشتم لأنه اسم جعل كاللقب. والأمة تباغي، أي: تزاني، وشرط الله سبحانه هذا النهي بقوله:
(إن أردن تحصناً) لأن الإكراه لا يتصور، ولا يكون إلا عند إرادتهن للتحصن، فإن من لم ترد التحصن لا يصح أن يقال لها مكرهة على الزنا، والمراد بالتحصن هنا التعفف والتزوج، وقيل: إن هذا القيد راجع إلى الأيامى. قال الزجاج، والحسن بن الفضل: في الكلام تقديم، وتأخير، أي: وأنكحوا الأيامى منكم، والصالحين من عبادكم وإمائكم، إن أردن تحصناً. وقيل: إن هذا الشرط ملغى، وقيل: إن هذا الشرط باعتبار ما(9/219)
عليه، فإنهم كانوا يكرهونهن، وهن يردن التعفف، وليس لتخصيص النهي بصورة إرادتهن التعفف عن الزنا، وقيل: إن هذا الشرط خرج مخرج الغالب لأن الغالب أن الإكراه لا يكون إلا عند إرادة التحصن، فلا يلزم منه جواز الإكراه عند عدم إرادة التحصن، وهذا الوجه أقوى هذه الوجوه.
فإن الأمة قد تكون غير مريدة للحلال، ولا للحرام، كما فيمن لا رغبة لها في النكاح، والصغيرة، فتوصف بأنها مكرهة على الزنا مع عدم إرادتها للتحصن، فلا يتم ما قيل من أنه لا يتصور الإكراه إلا عند إرادة التحصن إلا أن يقال إن المراد بالتحصن هنا مجرد التعفف، وإنه لا يصدق على من كانت تريد الزواج أنها مريدة للتحصن، وهو بعيد. فقد قال الحبر ابن عباس: إن المراد بالتحصن: التعفف، والتزوج، وتابعه على ذلك غيره.
أخرج مسلم، وسعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، وغيرهم، عن جابر بن عبد الله قال: كان عبد الله بن أُبيّ يقول لجارية له: اذهبي فابغينا شيئاً، وكانت كارهة، فأنزل الله هذه الآية. وذكر مسلم في صحيحه عن جابر أن جارية لعبد الله بن أبي يقال لها. مسيكة، وأخرى يقال لها: أميمة، وكان يريدهما على الزنا فشكتا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فأنزل الله هذه الآية.
وأخرج البزار، وغيره، عن أنس نحو حديث جابر الأول، وعن علي ابن أبي طالب قال: كان أهل الجاهلية يبغين (1) إماؤهم فنهوا عن ذلك في الإسلام، وعن ابن عباس قال: كانوا في الجاهلية يكرهون إماءهم على الزنا يأخذون أجورهن فنزلت الآية، وقد ورد النهي منه صلى الله عليه وآله وسلم عن مهر البغي، وكسب الحجام، وحلوان الكاهن، ثم علل سبحانه هذا النهي بقوله:
_________
(1) يبغين إماؤهم هو وجه صحيح في جمع الفعل قبل.(9/220)
(لتبتغوا عرض الحياة الدنيا) وهو ما تكسبه الأمة بفرجها، وهذا التعليل خارج مخرج الغالب، والمعنى: إن هذا الغرض هو الذي كان يحملهم على إكراه الإماء على البغاء في الغالب، لأن إكراه الرجل لأمته على البغاء، لا لفائدة له أصلاً، لا يصدر مثله عن العقلاء، فلا يدل هذا التعليل على أنه يجوز له أن يكرهها، إذا لم يكن مبتغياً بإكراهها عرض الحياة الدنيا، وقيل إن هذا التعليل للإكراه هو باعتبار أن عادتهم كانت كذلك، لا أنه مدار للنهي عن الإكراه لهن، وهذا يلاقي المعنى الأول، ولا يخالف.
(ومن يكرههن فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم) هذا مقرر لما قبله، ومؤكد له، والمعنى أن عقوبة الإكراه راجعة إلى المكرِهين لا إلى المكرهات، كما تدل عليه قراءة ابن مسعود وغيره، فإن الله غفور رحيم لهن. قيل وفي هذا التفسير بعد، لأن المكرهة على الزنا غير آثمة، وأجيب بأنها وإن كانت مكرهة فربما لا تخلو في تضاعيف الزنا عن شائبة مطاوعة، إما بحكم الجبلة البشرية، أو بكون الإكراه قاصراً عن حد الإلجاء المزيل للاختيار بالمرة، وإما لغاية تهويل أمر الزنا وحث المكرهات على التثبت في التجافي عنه والتشديد في تحذير المكرهين، ببيان أنهن حيث كن عرضة للعقوبة، لولا أن تداركتهن المغفرة والرحمة مع قيام العذر في حقهن، فما حال من يكرههن في استحقاق العقاب، وقيل: إن المعنى غفور رحيم لهم، إما مطلقاً أو بشرط التوبة، ولما فرغ سبحانه من بيان تلك الأحكام شرع في وصف القرآن بصفات ثلاث فقال:(9/221)
وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (34) اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35) فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (36)(9/222)
وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (34)
(ولقد أنزلنا إليكم آيات مبينات ومثلاً من الذين خلوا من قبلكم وموعظة للمتقين) فالأولى أنه آيات بينات أي واضحات في أنفسهن تصدقها الكتب المتقدمة والعقول المستقيمة، أو موضحات ومبينات فيدخل فيها الآيات المذكورة في هذه السورة دخولاً أولياً، والصفة الثانية كونه مثلاً من الذين خلوا من قبل هؤلاء. أي خبراً عجيباً كائناً من جهة أمثال الذين مضوا من القصص العجيبة، والأمثال المضروبة لهم في الكتب السابقة.
فإن العجب من قصة عائشة هو كالعجب من قصة يوسف ومريم، وما اتهما به ثم تبين بطلانه وبراءتهما سلام الله عليهما، والصفة الثالثة كونه موعظة ينتفع بها المتقون خاصة، فإن الله قد ختم على قلوب غيرهم، وجعل على أبصارهم غشاوة عن سماع المواعظ، والاعتبار بقصص الذين خلوا، وفهم ما تشتمل عليه الآيات البينات، ثم أردف الله وصف القرآن بكونه سبحانه في غاية الكمال ونهاية الجمال، فقال:(9/222)
اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35)
(الله نور السماوات والأرض) مستأنفة لتقرير ما قبلها، قال البيضاوي: النور في الأصل كيفية تدركها الباصرة أولاً، وتدرك بواسطتها سائر المبصرات كالكيفية الفائضة من النيرين على الأجرام الكثيفة المحاذية(9/222)
لهما، وهو بهذا المعنى لا يصح إطلاقه على الله تعالى، إلا بتقدير مضاف أي ذو نور السماوات كقولك زيد عدل.
أو يكون المراد المبالغة في وصفه سبحانه بأنه نور لكمال جلاله وظهور عدله وبسطة أحكامه، كما يقال فلان نور البلد، وقمر الزمن، وشمس العصر، قيل ومعنى النور في اللغة الضياء. وهو الذي يبين الأشياء وُيري الأبصار حقيقة ما تراه فيجوز إطلاق النور على الله على طريقة المدح. ولكونه أوجد الأشياء المنورة، وأوجد أنوراها. ويدل عليه قراءة زيد بن علي وأبي جعفر وعبد العزيز المكي: الله نَوَّرَ السماوات والأرض على صيغة الفعل الماضي. وفاعله ضمير يرجع إلى الله والسماوات مفعوله فمعنى الله نورهما أنه سبحانه صيرهما منيرتين باستقامة أحوال أهلهما وكمال تدبيره عز وجل لمن فيهما كما يقال الملك نور البلد، وهكذا قال الحسن ومجاهد والأزهري والضحاك والقرظي وابن عرفة، وابن جرير وغيرهم.
وقال هشام الجواليقي وطائفة من المجسمة: إنه سبحانه نور لا كالأنوار وجسم لا كالأجسام. وقال ابن عباس وأنس في الآية: الله هادي السماوات والأرض فهم بنوره إلى الحق يهتدون وبهدايته من حيرة الضلالة ينجون، وقيل نور السماء بالملائكة ونَوَّرَ الأرض بالأنبياء، وقيل مزين السماء والأرض زين السماء بالشمس والقمر والنجوم وزين الأرض بالأنبياء والعلماء والمؤمنين ويقال زين الأرض بالنبات والأشجار، وقيل معناه أن الأنوار كلها منه وقد يذكر هذا اللفظ على طريق المدح كما قال الشاعر.
إذا سار عبد الله من مرو ليلة فقد سار عنها نورها وجمالها وعن ابن عباس يدبر الأمر فيهما نجومهما وشمسهما وقمرهما، (مثل نوره) مبتدأ، وخبره (كمشكاة) أي صفة نوره الفائض عنه الظاهر على الأشياء كمشكاة، وهذه الجملة إيضاح لما قبلها وتفسير فلا محل لها، وثم مضاف محذوف أي كمثل مشكاة وهي الكوة في الحائط التي لا منفذ لها كذا حكاه الواحدي عن جميع المفسرين وحكاه القرطبي عن جمهورهم.(9/223)
قيل هي لغة حبشية، وقيل عربية ورسمت بالواو كالصلاة والزكاة، وأصل المشكاة الوعاء يجعل فيه الشيء، وقيل هي عمود القنديل الذي يجعل فيه الفتيلة، وقيل هي الانبوبة وسط الفتيل، وقيل هي الحديدة أو الرصاصة التي يوضع فيها الزيت، وقيل هي العمود الذي يوضع على رأسه المصباح، وقيل ما يعلق فيه القنديل من الحديدة وقال مجاهد: هي القنديل والأول أولى.
ووجه تخصيص المشكاة أنها أجمع للضوء الذي يكون من مصباح أو غيره، وعن ابن عباس قال في الآية: مثل نوره أي هداه في قلب المؤمن كمشكاة يقول موضع الفتيلة، وفي إسناده مقال وعن أبيّ بن كعب قال: هو المؤمن الذي قد جعل الإيمان، والقرآن في صدره فضرب الله مثله فقال: (الله نور السماوات والأرض مثل نوره) وبدأ بنور نفسه ثم ذكر نور المؤمن فصدر المؤمن المشكاة وعن ابن عباس: مثل نوره الذي أعطى المؤمن كمشكاة، وفي قراءة أبيّ مثل نور المؤمن وفي لفظ نور من آمن به كمشكاة، وعن ابن عباس أيضاً: مثل نور من آمن بالله كمشكاة وهي الكوة وعنه قال: هي خطأ من الكاتب هي أعظم من أن يكون نوره مثل نور المشكاة بل مثل نور المؤمن كالمشكاة وقيل المعنى مثل نور الله عز وجل في قلب المؤمن وهي النور الذي يهتدى به وقيل أراد بالنور القرآن، وقيل أراد محمداً - صلى الله عليه وسلم -، وقيل هو الطاعة سمى الله طاعته نوراً، وأضاف هذه الأنوار إلى نفسه تشريفاً وتفضيلاً، وقيل مثل نوره أي صفة دلائله التي يقذفها في قلب المؤمن والدلائل تسمى نوراً قاله القرطبي.
واختلفوا في هذا التشبيه هل هو مركب؟ أو غير مركب؟ وقيل ليس فيه مقابلة جزء من المثال بجزء من الممثل به بل وقع التشبيه فيه لجملة بجملة.
(فيها مصباح) هو السراج الضخم، وأصله من الضوء (المصباح في زجاجة) واحدة الزجاج يعني القنديل قال الزجاج: النور في الزجاج وضوء النار أبين منه في كل شيء وضوءه يزيد في الزجاج، ووجه ذلك أن الزجاج جسم شفاف. يظهر فيه النور أكمل ظهور ثم وصف الزجاجة فقال:(9/224)
(الزجاجة كأنها) والنور فيها (كوكب دري) منسوب إلى الدر لكون الصفاء والحسن والإشراق فيه ما يشابه الدر، وقال الضحاك: الكوكب الدري الزهرة، وقرئ درىء بكسر الدال أخذوه من درات النجوم تدرأ إذا اندفعت، قاله أبو عمرو، وقرئ بضم الدال مهموزاً، وأنكره الفراء والزجاج والمبرد. وقال أبو عبيد: إن ضممت الدال وجب أن لا يهمز، لأنه ليس في كلام العرب. والدراري هي المشهورة من الكواكب، كالمشتري والزهرة والمريخ، وما يضاهيها من الثوابت.
وقال أُبيّ: دري أي مضيء من الدرء بمعنى الدفع لدفعه الظلام. ثم وصف المصباح بقوله: (يوقد) وقد قرئ بالتاء على أن الضمير راجع إلى الزجاجة دون المصباح. وقرئ بالتحتية وتخفيف القاف. وضم الدال. وقرئ توقد على أنه فعل ماض. من التفعل. والضمير في هاتين راجع إلى المصباح. قال النحاس: وهاتان متقاربتان لأنهما جميعاً للمصباح. وهو أشبه بهذا الوصف لأنه الذي ينير ويضيء وإنما الزجاجة وعاء له وقرئ على أنه فعل مضارع وأصله تتوقد.
(من شجرة) أي ابتداء إيقاد المصباح منها، وقيل يوقد من زيت شجرة (مباركة) أي كثيرة المنافع والبركة، وقيل المنماة. قال أُبَيّ: أصل المبارك الإخلاص لله وحده وعبادته لا شريك له (زيتونة) الزيتون من أعظم الثمار نماء. قيل ومن بركتها أن أغصانها تورق من أسفلها إلى أعلاها. وهي إدام ودهان. ودباغ ووقود وليس فيها شيء إلا وفيه منفعة. وهي أصفى الأدهان وأضوءها.
وقيل إنها أول شجرة نبتت بعد الطوفان ونبتت في منازل الأنبياء. ودعا لها سبعون نبياً بالبركة، منهم إبراهيم، ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم، وهي شجرة (1) لا يسقط ورقها. وعن أسيد بن ثابت. أو أبي أسيد الأنصاري
_________
(1) قد ورد في البخاري مرفوعاً عن ابن عمر صريحاً أن الشجرة التي لا يسقط ورقها هي النخلة. ولا يمنع هذا من مشاركة شجرة الزيتون لها في هذه الصفة.(9/225)
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " كلوا الزيت، وادهنوا به. فإنه من شجرة مباركة " أخرجه الترمذي (1).
(لا شرقية ولا غربية) صفة لشجرة ودخلت (لا) لتفيد النفي، وقرئ بالرفع أي لا هي شرقية ولا هي غربية، وقد اختلف المفسرون في معنى هذا الوصف فقال عكرمة، وقتادة، وغيرهما: إن الشرقية هي التي تصيبها الشمس إذا شرقت، ولا تصيبها إذا غربت، لأن لها ستراً، والغربية هي التي تصيبها إذا غربت، ولا تصيبها إذا شرقت، وهذه الزيتونة هي في صحراء، أو في منكشف من الأرض بحيث لا يسترها، ولا يواريها عن الشمس شيء لا في حال شروقها، ولا في حال غروبها، وما كانت من الزيتون هكذا فثمرها أجود، وأنضج، وزيتها أصفى.
وقيل: إن المعنى أنها شجرة في دوحة، قد أحاطت بها، فهي غير منكشفة من جهة الشرق ولا من جهة الغرب حكى هذا ابن جرير عن ابن عباس قال ابن عطية: وهذا لا يصح عنه، لأن الشجرة التي بهذه الصفة يفسد جناها، وذلك مشاهد في الوجود. ورجح القول الأول الفراء، والزجاج. وقال الحسن: ليست هذه الشجرة من شجر الدنيا، وإنما هو مثل ضربه الله لنوره، ولو كانت في الدنيا لكانت إما شرقية وإما غربية.
قال الثعلبي: فقد أفصح القرآن بأنها من شجر الدنيا، لأن قوله زيتونة بدل من قوله: شجرة. قال ابن زيد: إنها من شجر الشام. فإن الشام لا شرقي. ولا غربي. والشام هي الأرض المباركة، وشجرها أفضل، وقيل: معناه أنها ليست في مقناة لا تصيبها الشمس، ولا في مضحاة لا يصيبها الظل، فهي لا تضرها شمس ولا ظل، وقيل: معناها أنها معتدلة ليست في شرق يضرها الحر، ولا في غرب يضرها البرد. قال أُبي. فمثله كمثل شجرة التفت بها الشجر، فهي خضراء ناعمة، لا تصيبها الشمس على أي حال
_________
(1) الترمذي كتاب الأطعمة باب 43 - الإمام أحمد 3/ 497.(9/226)
كانت، لا إذا طلعت، ولا إذا غربت، فكذلك هذا المؤمن، قد أجير من أن يظله شيء من الفتن، ثم وصف الزيتونة بوصف آخر فقال:
(يكاد) أي: يقرب (زيتها يضيء) من صفائه (ولو لم تمسسه نار) قرئ بالفوقية لأن النار مؤنثة، قال أبو عبيد: إنه لا يعرف إلا هذه القراءة، وقرأ ابن عباس بالتحتية، لكون تأنيثها غير حقيقي. والمعنى أن هذا الزيت في صفائه وإنارته يكاد يضيء بنفسه من غير أن تمسه النار أصلاً.
(نور) أي هو نور كائن (على نور) صفة لنور مؤكدة له، وقيل نور الله أي هداه للمؤمنين نور على نور الإيمان. وقال مجاهد: والمراد النار على الزيت، وقال الكلبي: المصباح نور، والزجاجة نور، وقيل نور بالزيت مع نور بالنار. وقال السدي: نور الإيمان، ونور القرآن. وقيل نور متضاعف من غير تحديد، لتضاعفه بحد معين، وتحديد مراتب تضاعف ما مثل به من نور المشكاة بما ذكر، لكونه أقصى مراتب تضاعفه عادة.
وعن ابن عباس أن اليهود قالوا لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم: كيف يخلص نور الله من السماء، فضرب الله مثل ذلك لنوره، فقال: (الله نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكاة)، وهي كوة البيت، (فيها مصباح)، وهو السراج، يكون في الزجاجة وهو مثل ضربه الله لطاعته، فسمى طاعته نوراً، ثم سماها أنواعاً شتى، (لا شرقية ولا غربية). قال: وهي وسط الشجر لا تنالها الشمس إذا طلعت، ولا إذا غربت، وذلك أجود الزيت يكاد زيتها يضيء بغير نار (نور على نور) يعني بذلك إيمان العبد وعمله، (يهدي الله لنوره من يشاء)، وهو مثل المؤمن.
وعن ابن عمر قال: المشكاة جوف محمد صلى الله عليه وآله وسلم، والزجاجة قلبه، والمصباح الذي في قلبه، والشجرة إبراهيم، لا شرقية ولا غربية، لا يهودية ولا نصرانية، ثم قرأ (ما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً ولكن كان حنيفاً مسلماً) الآية. وعن شمر بن عطية قال: جاء(9/227)
ابن عباس إلى كعب الأحبار فقال: حدثني عن قول الله يعني هذه الآية قال: مثل نور محمد صلى الله عليه وآله وسلم ككوة ضربها الله مثلاً لفمه، فيها مصباح والمصباح قلبه، والزجاجة صدره، كأنها كوكب دري، شبه صدر محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالكوكب الدري، ثم رجع المصباح إلى قلبه؛ فقال يوقد من شجرة إلى قوله يكاد قال: يكاد محمد صلى الله عليه وآله وسلم يبين للناس ولو لم يتكلم أنه نبي كما يكاد الزيت أن يضيء ولو لم تمسسه نار.
قال ابن العربي: قال ابن عباس: هذا مثل نور الله، وهداه، في قلب المؤمن، كما يكاد الزيت الصافي يضيء قبل أن تمسسه النار، فإن مسته النار زاد ضوؤه، كذلك قلب المؤمن، يكاد يعمل بالهدى قبل أن يأتيه العلم؛ فإذا جاء العلم زاد هدى على هدى، ونوراً على نور، كقلب إبراهيم من قبل أن تجيئه المعرفة، قال: هذا ربي من قبل أن يخبره أحد بأن له رباً، فلما أخبره الله أنه ربه زاد هدى، إذ قال له ربه: أسلم، قال: أسلمت لرب العالمين.
وأقول: إن تفسير النظم القرآني بهذا، ونحوه، مما تقدم عن أُبيّ ابن كعب، وابن عباس، وابن عمر رضي الله تعالى عنهم ليس على ما يقتضيه لغة العرب، ولا ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما يجوز العدول عن المعنى العربي إلى هذه المعاني، التي هي شبيهة بالألغاز والتعمية، ولكن هؤلاء الصحابة ومن وافقهم ممن جاء بعدهم استبعدوا تمثيل نور الله سبحانه بنور المصباح في المشكاة، ولهذا قال ابن عباس: هو أعظم من أن يكون نوره مثل نور المشكاة. كما قدمنا عنه. ولا وجه لهذا الاستبعاد، فإنا قد قدمنا في أول البحث ما يرفع الإشكال ويوضح ما هو المراد على أحسن وجه، وأبلغ أسلوب، وعلى ما تقتضيه لغة العرب، ويفيده كلام الفصحاء، فلا وجه للعدول عن الظاهر، لا من كتاب. ولا من سنة، ولا من لغة.
وأما ما حكي عن كعب الأحبار في هذا كما قدمنا فإن كان هو سبب(9/228)
عدول أولئك الصحابة الأجلاء عن الظاهر في تفسير الآية، فليس مثل كعب رحمه الله، ممن يقتدي به في مثل ذلك، وقد نبهناك -فيما سبق- أن تفسير الصحابي إذا كان مستنده الرواية عن أهل الكتاب -كما يقع ذلك كثيراً- فلا تقوم به الحجة ولا يسوغ لأجله العدول عن التفسير العربي، نعم، إن صحت قراءة أُبيّ بن كعب، كانت هي المستندة لهذه التفاسير المخالفة للظاهر، وتكون كالزيادة المبينة للمراد، وإن لم تصح، فالوقوف على ما تقتضيه قراءة الجمهور من السبعة، وغيرهم، ممن قبلهم، وممن بعدهم هو المتعين.
(يهدي الله لنوره) هداية خاصة، موصلة إلى المطلوب، وليس المراد بالهداية هنا مجرد الدلالة قال ابن عباس: لنوره لدين الإسلام، وهو نور البصيرة (من يشاء) من عباده لأن الأسباب دون مشيئته لاغية إذ بها تمامها (ويضرب الله الأمثال للناس) أي يبين الأشياء بأشباهها ونظائرها، تقريباً لها إلى الأفهام، وتسهيلاً لإدراكها، لأن إبراز المعقول في هيئة المحسوس وتصويره بصورته يزيده وضوحاً وبياناً.
(والله بكل شيء عليم) لا يغيب عنه شيء من الأشياء معقولاً، كان أو محسوساً، ظاهراً كان، أو باطناً. ومنه ضرب الأمثال.(9/229)
فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (36)
(في بيوت) أي: ذلك المصباح يوقد في بيوت، وقيل: متعلق بما قبله، أي كمشكاة في بعض بيوت الله، وهي المساجد، كأنه قيل: مثل نوره كما يرى في المسجد نور المشكاة من صفتها كيت وكيت، وقيل: صفة لزجاجة. وقال ابن الأنباري: سمعت أبا العباس يقول: هو حال للمصباح، والزجاجة، والكوكب، كأنه قيل: وهي في بيوت، وعلى هذه الأقوال لا يوقف على (عليم) وقيل: متعلق بما بعده، وهو يسبح الآتي، أي: يسبح رجال في بيوت، وعلى هذا يكون قولها فيها؛ تكريراً للتوكيد، والتذكير، والإيذان بأن التقديم للاهتمام، لا لقصر التسبيح على الوقوع في البيوت فقط.(9/229)
وقيل: متعلق بمحذوف، أي: سبّحوه في بيوت، وعلى هذين القولين يوقف على (عليم) فهذه ستة أوجه ذكرها السمين، وغيره. وقيل: إنه منفصل عما قبله، كأنه قال تعالى: الله في بيوت أذن الله أن ترفع. قال الحكيم الترمذي: وبذلك جاءت الأخبار أنه من جلس في المسجد فإنما يجالس ربه، وقد قيل على تقدير تعلقه بمشكاة أو بمصباح، أو بيوقد، ما الوجه في توحيد المصباح، والمشكاة، وجمع البيوت، ولا تكون المشكاة الواحدة، ولا المصباح الواحد إلا في بيت واحد. وأجيب بأن هذا من الخطاب، الذي يفتح أوله بالتوحيد. ويختم بالجمع، كقوله سبحانه: (يا أيها النبي إذا طلقتم النساء) ونحوه.
وقيل معنى في بيوت في كل واحد من البيوت فكأنه قال: في كل بيت، أو في كل واحد من البيوت، واختلف الناس في البيوت على أقوال الأول أنها جميع المساجد، وهو قول مجاهد، والحسن وغيرهما. قال ابن عباس: بيوت الله في الأرض تضيء لأهل السماء كما تضيء النجوم لأهل الأرض. الثاني أن المراد بها بيوت بيت المقدس، روي ذلك عن الحسن، الثالث أنها بيوت النبي - صلى الله عليه وسلم - روي هذا عن مجاهد، الرابع: هي البيوت كلها قاله عكرمة. الخامس: أنها المساجد الأربعة الكعبة، ومسجد قبا، ومسجد المدينة، ومسجد بيت المقدس، قاله ابن زيد والقول الأول أظهر لقوله: (يسبح له فيها بالغدو والآصال) والباء من بيوت تضم وتكسر كل ذلك ثابت في اللغة، ومعنى:
(أذن الله) أمر وقضى ومعنى (أن ترفع) تبنى قاله مجاهد وعكرمة وغيرهما ومنه قوله سبحانه، (وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت). وقال الحسن البصري: وغيره معنى ترفع تعظم فلا يذكر فيها الخنا من القول، ويرفع شأنها وتطهر من الأنجاس والأقذار، ورجحه الزجاج، وقيل المراد بالرفع هنا مجموع الأمرين.
(و) معنى (يذكر فيها اسمه) كل ذكر لله عز وجل، وقيل هو التوحيد، وقيل المراد تلاوة القرآن، والأول أولى، وفي القرطبي قد كره بعض(9/230)
أصحابنا تعليم الصبيان في المساجد، لأنهم لا يتحرزون عن الأقذار والأوساخ فيؤدي ذلك إلى عدم تنظيف المساجد. وقد ورد في تعظيم المساجد وتنزيهها عن القذر واللغو وتنظيفها وتطييبها أحاديث ليس هذا موضوع ذكرها.
(يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال) قرئ يسبح مبنياً للفاعل وللمفعول، فعلى الثانية يكون رجال مرفوعاً بفعل مقدر كأنه قيل من يسبحه؟ فقيل يسبحه رجال وعلى الأولى يكون رجال فاعل يسبح وقرئ تسبح بالفوقية وكسر الموحدة وعلى هذا يكون الفاعل أيضاً رجال، وإنما أنث الفعل لكون جمع التكسير يعامل معاملة المؤنث في بعض الأحوال.
واختلف في هذا التسبيح ما هو؟ فالأكثرون حملوه على الصلاة المفروضة قالوا: الغدوة صلاة الصبح، والآصال صلاة الظهر والعصر والعشاءين لأن اسم الآصال يشملها، والمعنى يصلي له فيها بالغداة صلاة الصبح. وبالآصال صلاة الظهر والعصر، والعشائين، وإنما وحد الغدو، لأن صلاته واحدة، وفي الآصال صلوات، والآصال جمع أصل جمع أصيل، وهو العشي، وقيل صلاة الصبح والعصر.
وقيل المراد صلاة الضحى، قاله ابن عباس وعنه في الآية قال: هي المساجد تكرم، وينهى عن اللغو فيها، ويذكر فيها اسم الله، يتلى فيها كتابه، يسبح له فيها بالغدو والآصال، صلاة الغداة، وصلاة العصر، وهما أول ما فرض الله من الصلاة فأحب أن يذكرهما ويذكر بهما عباده، وعنه قال: إن صلاة الضحى لفي القرآن، وما يغوص عليها إلا غواص في هذه الآية، وقيل المراد بالتسبيح هنا معناه الحقيقي، وهو تنزيه الله سبحانه عما لا يليق به في ذاته وصفاته وأفعاله، ويؤيد هذا ذكر الصلاة والزكاة، بعده وهذا أرجح مما قبله، لكونه المعنى الحقيقي مع وجود دليل، يدل على خلاف ما ذهب إليه الأولون وهو ما ذكرناه، قيل: خص الرجال بالذكر في هذه المساجد لأن النساء ليس عليهن حضور المساجد لجمعة ولا لجماعة.(9/231)
رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37) لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (38) وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (39)(9/232)
رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37)
(لا تلهيهم تجارة ولا بيع) هذه صفة لرجال، أي لا يشغلهم التجارة في السفر، والبيع في الحضر، وخص التجارة بالذكر لأنها أعظم ما يشتغل به الإنسان، وقال الفراء، التجارة لأهل الجلب، والبيع ما باعه الرجل على يديه، وخص قوم التجارة هاهنا بالشراء لذكر البيع بعدها، وبمثل قول الفراء، قال الواقدي فقال التجار هم الجلاب المسافرون، والباعة هم المقيمون.
ومعنى (عن ذكر الله) هو ما تقدم في قوله: (يذكر فيها اسمه)، أي باللسان والقلب، وقيل المراد الأذان، وقيل ذكره بأسمائه الحسنى، أي يوحدونه ويمجدونه، وقيل المراد الصلاة، ويرده ذكر الصلاة بعد الذكر هنا.
وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه، عن أبي هريرة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الآية قال: " هم الذين يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله " وأخرج ابن مردويه والديلمي، عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: " الذين يبتغون من فضل الله ".
وعن ابن عباس قال: كانوا رجالاً يبتغون من فضل الله يشترون ويبيعون فإذا سمعوا النداء بالصلاة ألقوا ما في أيديهم، وقاموا إلى المسجد فصلوا، وعنه في الآية قال: ضرب الله هذا المثل قوله: (كمشكاة) لأولئك القوم الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله، وكانوا أتجر الناس وأبيعهم ولكن لم تكن تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وعنه قال: عن ذكر الله عن شهود الصلاة، وعن ابن عمر أنه كان في السوق، فأقيمت الصلاة(9/232)
فأغلقوا حوانيتهم ثم دخلوا المسجد فقال ابن عمر: فيهم نزلت (رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله).
وعن ابن مسعود أنه رأى ناساً من أهل السوق سمعوا الأذان فتركوا أمتعتهم فقال: هؤلاء الذين قال الله فيهم (لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله) وأخرج البيهقي، وابن أبي حاتم وغيرهما، عن أسماء بنت يزيد قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " يجمع الله يوم القيامة الناس في صعيد واحد يسمعهم الداعي وينفذهم البصر، فيقوم مناد فينادي أين الذين كانوا يحمدون الله في السرّاء والضرّاء؟ فيقومون -وهم قليل- فيدخلون الجنة بغير حساب ثم يعود فينادي أين الذين كانت تتجافى جنوبهم عن المضاجع؟ فيقومون -وهم قليل- فيدخلون الجنة بغير حساب، ثم يعود فينادي ليقم الذين كانوا لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله فيقومون -وهم قليل- فيدخلون الجنة بغير حساب ثم يقوم سائر الناس فيحاسبون " (1) وأخرجه الحاكم وصححه وابن مردويه عن جمقبة بن عامر مرفوعاً نحوه.
(وإقام الصلاة) أي إقامتها لمواقيتها من غير تأخير، وأدائها في وقتها جماعة لأن مؤخر الصلاة عن وقتها لا يكون من مقيمي الصلاة، وحذفت التاء لأن الإضافة تقوم مقامها في ثلاث كلمات جمعها الشاعر في قوله:
ثلاثة تحذف تاآتها ... مضافة عند جميع النحاة
وهي إذا شئت أبو عذرها ... وليت شعري وإقام الصلاة
وقيل الرابع عد الأمر، أي عدة الأمر، وقيل في توجيه حذفها غير ذلك وقد احتاج من حمل ذكر الله على الصلاة المفروضة أن يحمل إقام الصلاة على تأديتها في أوقاتها فراراً من التكرار ولا ملجئ إلى ذلك؛ بل يحمل الذكر على معناه الحقيقي كما قدمنا.
(وإيتاء الزكاة) المفروضة؛ وقيل المراد طاعة الله والإخلاص إذ ليس لكل مؤمن مال (يخافون يوماً) أي يوم القيامة والنصب على أنه مفعول
_________
(1) الحاكم، كتاب التفسير 2/ 399.(9/233)
للفعل لا ظرف له يعني أن هؤلاء الرجال -وإن بالغوا في ذكر الله تعالى والطاعات- فإنهم مع ذلك وجلون خائفون لعلمهم بأنهم ما عبدوا الله حق عبادته، ثم وصف هذا اليوم بقوله:
(تتقلب فيه القلوب) أي تضطرب وتتحول من الهول والفزع. وقيل المراد انتزاعها من أماكنها إلى الحناجر فلا ترجع إلى أماكنها ولا تخرج (و) تشخص (الأبصار) من هول ذلك اليوم، وقيل المراد بتقلبها هو أن تصير عمياً بعد أن كانت مبصرة، وقيل المراد بتقلب القلوب أنها تكون متقلبة بين الطمع في النجاة والخوف من الهلاك؛ وأما تقلب الأبصار فهو نظرها من أي ناحية يؤخذون وإلى أي ناحية يصيرون، وقيل المراد تحول قلوبهم وأبصارهم عما كانت عليه من الشك إلى اليقين ومثله قوله: (فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد) فما كان يراه في الدنيا غياً يراه في الآخرة رشداً؛ وقيل المراد التقلب على جمر جهنم وقيل غير ذلك.(9/234)
لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (38)
(ليجزيهم الله أحسن ما عملوا) اللام لام العاقبة والصيرورة لا لام العلة الباعثة أي يفعلون ما يفعلون من التسبيح، والذكر وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة ليجزيهم الله أحسن جزاء أعمالهم حسبما وعدهم، من تضعيف ذلك إلى عشرة أمثاله وإلى سبعمائة ضعف، وقيل: المراد بما في هذه الآية ما يتفضل به سبحانه عليهم، زيادة على ما يستحقونه، والأول أولى لقوله:
(ويزيدهم من فضله) فإن المراد به التفضل عليهم بما فوق الجزاء الموعود به، أي يتفضل بأشياء لم توعد لهم بخصوصياتها أو بمقاديرها، ولم يخطر ببالهم كيفياتها، ولا كمياتها، بل إنما وعدت بطريق الإجمال في مثل قوله تعالى: (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة)، وقوله عليه السلام حكاية عنه عز وجل: " أعددت لعبادي الصالحين، ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر " (1) غير ذلك من المواعيد الكريمة التي من جملتها قوله تعالى:
_________
(1) مسلم 2824 - البخاري 1534.(9/234)
(والله يرزق من يشاء بغير حساب) فإنه تذييل مقرر للزيادة، ووعد كريم بأنه تعالى يعطيهم غير أجور أعمالهم، من الخيرات بما لا يفي به الحساب والمعنى من غير أن يحاسبه على ما أعطاه، أو أن إعطاءه سبحانه لا نهاية له. قال الكرخي: وضع الموصول موضع ضمير (هم) للتنبيه بما في حيز الصلة على أن مناط الرزق المذكور محض مشيئته تعالى لا أعمالهم المحكية وذلك تنبيه على كمال قدرته، وكمال جوده، وسعة إحسانه، ولما ذكر سبحانه حال المؤمنين، وما يؤول إليه أمرهم ذكر مثلاً للكافرين فقال:(9/235)
وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (39)
(والذين كفروا أعمالهم) التي هي من أعمال الخير، كالصدقة، والعتق والوقف، والصلاة، وفك العاني، وعمارة البيت، وسقاية الحاج (كسراب) هو ما يرى في المفاوز من لمعان الشمس عند اشتداد حر النهار، على صورة الماء في ظن ما يراه، وسمي سراباً لأنه يسرب، أي: يجري كالماء؛ يقال: سرب الفحل، أي مضى، وسار في الأرض ويسمى الآل وقيل الآل هو الذي يكون ضحى، كالماء إلا أنه يرتفع عن الأرض. حتى يصير كأنه بين السماء والأرض (بقيعة) أي فيها فالباء بمعنى في، وهو جمع قاع وهو الموضع المنخفض الذي يستقر فيه الماء مثل جيرة وجار قاله الهروي.
وقال أبو عبيدة: قيعة وقاع واحد، حكاه النحاس قال الجوهري: القاع المستوى من الأرض والجمع أقوع وأقواع وقيعان صارت الواو ياء لكسرة ما قبلها، والقيعة مثل القاع قال: وبعضهم يقول هو جمع والقاع ما انبسط من الأرض واتسع ولم يكن فيه نبت وفيه يكون السراب، وقرئ بقيعاه بهاء مدورة كما يقال رجل عزهاه، وقيعات بتاء مبسوطة وقيل الألف متولدة من إشباع العين على الأولى وجمع قيعة على الثاني.
(يحسبه الظمآن ماء) الظمآن العطشان، وقرئ الظمآن بغير همز،
والمشهور عنهم الهمز، وتخصيص الظمآن بالحسبان مع كون الريان يراه كذلك. لتحقيق التشبيه، المبني على الطمع، ولأنه أحوج إليه من غيره، فالتشبيه به أتم.(9/235)
(حتى إذا جاءه) أي: إذا جاء العطشان ذلك الذي حسبه ماء، أو جاء موضعه (لم يجده شيئاً) مما قدره، وحسبه، وظنه، ولا من غيره. والمعنى أن الكفار يعولون على أعمالهم، التي يظنونها من الخير، ويطمعون في ثوابها، فإذا قدموا على الله سبحانه، لم يجدوا منها شيئاً، لأن الكفر أحبطها، ومحا أثرها.
عن ابن عباس قال: هو مثل ضربه الله، كرجل عطش، فاشتد عطشه، فرأى سراباً، فحسبه ماء، فطلبه، فظن أنه قدر عليه، حتى أتى، فلما أتاه، لم يجده شيئاً، وقبض عند ذلك، يقول الكافر كذلك، إذا أتاه الموت، لم يجد عمله، يغني عنه شيئاً، ولا ينفعه، إلا كما نفع السراب العطشان.
(ووجد الله عنده) بالمرصاد، وقيل وجد وعد الله بالجزاء، على عمله. وقيل وجد أمر الله عند حشره، وقيل حكمه، وقضاءه، عند المجيء. وقيل قدم على الله. وقيل عند العمل، والمعنى متقارب (فوفاه حسابه) أي أعطاه، وافياً، كاملاً، حساب عمله المذكور، وجزاءه. فإن اعتقاده لنفعه بغير إيمان، وعمله بموجبه، كفر على كفر، موجب للعقاب قطعاً. وإفراد الضميرين الراجعين إلى الذين كفروا، إمّا لإرادة الجنس، كالظمآن الواقع في التمثيل، وإما للحمل على كل واحد منهم، وكذا إفراد ما يرجع إلى أعمالهم.
(والله سريع الحساب) لعباده من آمن منهم، ومن كفر. عن السدي، عن أبيه، عن أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: إن الكفار يبعثون يوم القيامة ورداً عطاشاً، فيقولون أين الماء؟ فيمثل لهم السراب، فيحسبونه ماء، فينطلقون إليه فيجدون الله عنده، فيوفيهم حسابهم، والله سريع الحساب. أخرجه ابن أبي حاتم، وعبد بن حميد، وابن المنذر. وفي إسناده السدي عن أبيه، وفيه مقال. معروف.(9/236)
أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ (40) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (41) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (42) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ (43)(9/237)
أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ (40)
(أو كظلمات) معطوف على (كسراب) ضرب الله سبحانه مثلاً آخر، لأعمال الكفار أي: كما أنها تشبه السراب الموصوف بتلك الصفات، فهي أيضاً تشبه الظلمات. قال الزجاج: أعلم الله سبحانه أن أعمال الكفار إن مثلت بما يوجد، فمثلها كمثل السراب، وإن مثلت بما يرى فهي كهذه الظلمات التي وصفت. وقال أيضاً: إن شئت مثلت بالسراب، وإن شئت مثلت بهذه الظلمات، فـ (أو) للإباحة والتخيير، حسبما تقدم من القول في (أو كصيّب).
قال الجرجاني: الآية الأولى في ذكر أعمال الكفار، والثانية في ذكر كفرهم، ونسق الكفر على أعمالهم، لأنه أيضاً من أعمالهم. قال القشيري: فعند الزجاج التمثيل وقع لأعمال الكفار، وعند الجرجاني لكفر الكفار، وقيل (أو) للتقسيم باعتبار وقتين، فإنها كالسراب في الدنيا، وكالظلمات في الآخرة. وقيل: أو للتنويع، يعني أن أعمالهم إن كانت حسنة فهي كسراب، وإن كانت سيئة فهي كظلمات.
(في بحر لجيّ) معظم الماء، والجمع: لجج، وهو الذي لا يدرك(9/237)
عمقه، ثم وصف سبحانه هذا البحر بصفة أخرى فقال: (يغشاه) أي: يعلو هذا البحر (موج) فيستره، ويغطيه بالكلية، والموج: ما ارتفع من الماء، ثم وصف هذا الموج بقوله: (من فوقه) أي من فوق هذا الموج (موج) ثان متراكم فيه إشارة إلى كثرة الأمواج، وتراكم بعضها فوق بعض، ثم وصف الموج الثاني فقال:
(من فوقه سحاب) فيجتمع حينئذ جوف البحر وأمواجه والسحاب المرتفعة فوقه، وقيل: إن المعنى، يغشاه موج، من بعده موج، فيكون الموج يتبع بعضه بعضاً، حتى كأن بعضه فوق بعض، والبحر أخوف ما يكون إذا توالت أمواجه، فإذا انضم إلى ذلك وجود السحاب من فوقه، زاد الخوف شدة، لأنها تستر النجوم التي يهتدي بها من في البحر، ثم إذا أمطرت تلك السحاب. وهبت الريح المعتادة، في الغالب عند نزول المطر، تكاثفت الهموم، وترادفت الغموم، وبلغ الأمر إلى الغاية التي ليس وراءها غاية، ولهذا قال سبحانه: (ظلمات بعضها فوق بعض) أي هي ظلمات أو هذه ظلمات، متكاثفة، مترادفة. ففي هذه الجملة بيان لشدة الأمر، وتعاظمه، وبلوغه النهاية القصوى. ووجه الشبه أن الله تعالى ذكر ثلاثة أنواع من الظلمات؛ ظلمة البحر، وظلمة الأمواج، وظلمة السحاب. وكذلك الكافر له ثلاث ظلمات؛ ظلمة الاعتقاد، وظلمة القول؛ وظلمة العمل. وقال أبي ابن كعب: الكافر يتقلب في خمس من الظلمات؛ كلامه ظلمة، وعمله ظلمة، ومدخله ظلمة، ومخرجه ظلمة، ومصيره إلى ظلمات يوم القيامة في النار.
قرئ سحابُ ظلماتٍ بالإضافة ووجهها أن السحاب ترتفع وقت هذه الظلمات، فأضيف إليها لهذه الملابسة، وقرئ بالقطع والتنوين، ومن غرائب التفاسير أنه سبحانه أراد بالظلمات أعمال الكافر، وبالبحر اللجي قلبه، وبالموج فوق الموج ما يغشي قلبه، من الجهل، والشك، والحيرة، وبالسحاب الرين، والختم، والطبع، على قلبه. وهذا تفسير هو عن لغة(9/238)
العرب بمكان بعيد وعن ابن عباس قال: يعني بالظلمات الأعمال. وبالبحر اللجى قلب الإنسان؛ يغشاه موج؛ يعني بذلك الغشاوة التي على القلب؛ والسمع، والبصر، ثم بالغ سبحانه في هذه الظلمات المذكورة بقوله:
(إذا أخرج) أي الناظر، أو الحاضر في هذه الظلمات، أو من ابتلى بها (يده) مع أنها أقرب شيء إليه (لم يكد يراها) أي لم يقرب من رؤيتها، قال الزجاج، وأبو عبيدة: المعنى لم يرها ولم يكد. وقال الفراء: إن كاد زائدة، والمعنى إذا أخرج يده لم يرها، كما تقول: ما كدت أعرفه. وقال المبرد: يعني لم يرها إلا من بعد الجهد لشدة الظلمة. قال النحاس؛ أصح الأقوال في هذا أن المعنى لم يقارب رؤيتها، فإذن لم يرها رؤية بعيدة ولا قريبة.
(ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور) مقررة لما قبلها من كون أعمال الكفرة على تلك الصفة. قال الزجاج: ذلك في الدنيا، والمعنى من لم يهده الله لم يهتد. وقيل: إن المعنى من لم يجعل له نوراً، يمشي به يوم القيامة، فما له من نور، يهتدي به إلى الجنة. وقيل: من لم يجعل له ديناً، وإيماناً فلا دين له. وقيل: المعنى من لم يقدر له الهداية، ولم يوفقه لأسبابها فما له من نور، خلاف الموفق، الذي له نور على نور. والآية عامة في حق جميع الكفار، وقيل خاصة فيمن نزلت فيه، وهو عتبة بن ربيعة، كان يلتمس الدين في الجاهلية، ويلبس المسوح، فلما جاء الإسلام كفر، وعاند والأول أولى.(9/239)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (41)
(ألم تر أن الله يسبح له من في السماوات والأرض)؟ قد تقدم تفسير مثل هذه الآية في تفسير سورة سبحان، والخطاب لكل من له أهلية النظر، أو للرسول - صلى الله عليه وسلم -، وقد علمه من جهة الاستدلال، ومعنى (ألم تر) ألم تعلم؟ والهمزة للتقرير، أي قد علمت علماً يقيناً، شبيهاً بالمشاهدة، والوثاقة بالوحي، وظاهره أنه استعارة، ومقتضى كلام النحويين أن رأى العلمية(9/239)
حقيقة، قاله الشهاب والتسبيح التنزيه في ذاته، وأفعاله، وصفاته، عن كل ما لا يليق به.
ومعنى (من في السماوات والأرض) من هو مستقر فيهما من العقلاء وغيرهم، وتسبيح غير العقلاء ما يسمع من أصواتها، ويشاهد من أثر الصنعة البديعة فيها، وقيل إن التسبيح هنا هو الصلاة من العقلاء، والتنزيه من غيرهم، وقد قيل أن هذه الآية تشكل الحيوانات، والجمادات، وأن آثار الصنعة البديعة الإلهية في الجمادات ناطقة، ومخبرة باتصافه سبحانه، بصفات الجلال، والكمال وتنزهه عن سمات النقص والزوال. وفي ذلك تقريع للكفار وتوبيخ لهم حيث جعلوا الجمادات التي من شأنها التسبيح لله سبحانه شركاء له يعبدونها، كعبادته عز وجل، وبالجملة فإنه ينبغي حمل التسبيح على ما يليق، بكل نوع من أنواع المخلوقات، على طريقة عموم المجاز.
(والطير صافّات) أي باسطات أجنحتها في الهواء، وخص الطير بالذكر مع دخولها تحت من في السماوات والأرض، لعدم استمرار استقرارها في الأرض، وكثرة لبثها في الهواء، وهو ليس من السماء، ولا من الأرض، ولما فيها من الصنعة البديعة، التي يقدر بها تارة على الطيران، وتارة على المشي، بخلاف غيرها من الحيوانات. وذكر حالة من حالات الطير، وهي كون صدور التسبيح منها، حال كونها صافات لأجنحتها، لأن هذه الحالة هي أغرب أحوالها، فإن استقرارها في الهواء مسبحة، من دون تحريك لأجنحتها، ولا استقرار على الأرض من أعظم صنع الله الذي أتقن كل شيء، ثم زاد في البيان فقال:
(كل قد علم صلاته وتسبيحه) أي كل واحد من هذه المسبحات لله، قد علم صلاة المصلي، وتسبيح المسبح. وقيل إن المجنى أن كل مصل، ومسبح؛ قد علم صلاة نفسه، وتسبيح نفسه. قال السمين: وهذا أولى لتوافق الضمائر. قيل والصلاة هنا بمعنى التسبيح، وكرر للتأكيد، والصلاة(9/240)
قد تسمى تسبيحاً. وقيل المراد بها هنا الدعاء، أي علم دعاءه.
وفائدة الإخبار بأن كل واحد قد علم ذلك أن صدور هذا التسبيح هو عن علم قد علّمها الله ذلك؛ وألهمها إليه لا أن صدوره منها على طريقة الاتفاق بلا روية، وفي ذلك زيادة دلالة على بديع صنع الله سبحانه؛ وعظم شأنه من كونه جعلها مسبحة له، عالمة بما يصدر منها، غير جاهلة له وقال السدي: الصلاة للإنسان، والتسبيح لما سوى ذلك من خلقه، وقيل إن ضرب أجنحة الطير صلاته، وصوته تسبيحه؛ أو المعنى كل واحد من هذه المسبحة؛ قد علم الله صلاته له؛ وتسبيحه إياه؛ والأول أرجح؛ لاتفاق القراء على رفع (كل) ولو كان الضمير لله لكان نصب كل أولى، وقيل المعنى علم كل صلاة الله وتسبيحه؛ أي اللذين أمر بهما وبأن يفعلا، كإضافة الخلق إلى الخالق، والأول أولى. وقرئ عُلِم على البناء للمفعول.
(والله عليم بما يفعلون) مقررة لما قبلها، أي لا يخفى عليه طاعتهم، ولا تسبيحهم، ولا يعزب عن علمه شيء. ثم بين سبحانه أن المبدأ منه، والمعاد إليه فقال(9/241)
وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (42)
(ولله) لا لغيره (ملك السماوات والأرض) أي خزائن المطر، والرزق، والنبات، لأنه خالقهما، ولا يملكهما أحد سواه ومن ملك شيئاً فبتمليكه تعالى إياه.
(وإلى الله) لا إلى غيره (المصير) أي الرجوع بعد الموت، وقد تقدم تفسير مثل هذه الآية في غير موضع، ثم ذكر سبحانه دليلاً آخر، من الآثار العلوية، فقال:(9/241)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ (43)
(ألم تر أن الله يزجي سحاباً)؟ الإزجاء السوق قليلاً، قليلاً، والمعنى أنه يسوق السحاب سوقاً رفيقاً إلى حيث يشاء، يقال زجى الشيء تزجية، دفعه برفق، وتزجى بكذا اكتفى به، وأزجى الإبل ساقها. والمزجى الشيء القليل، وبضاعة مزجاة، قليلة، والريح تزجي السحاب. والبقرة تزجي ولدها، أي تسوقه.(9/241)
(ثم يؤلف بينه) أي بين أجزائه فيضم بعضه إلى بعض ويجمعه بعد تفرقه ليقوى، ويتصل، ويكثف، والأصل في التأليف الهمز. وقرئ يؤلف بالواو تخفيفاً والسحاب واحد في اللفظ ولكن معناه جمع ولهذا دخلت (بين) عليه لأن أجزاءه في حكم المفردات له. قال الفراء: إن الضمير في (بينه) راجع إلى جملة السحاب كما تقول الشجر قد جلست بينه لأنه جمع وأفرد الضمير باعتبار اللفظ.
(ثم يجعله ركاماً) أي متراكماً يركب بعضه بعضاً والركم جمع الشيء، يقال ركم الشيء يركمه ركماً، أي جمعه، وألقى بعضه على بعض، وبابه نصر، وارتكم الشيء وتراكم إذا اجتمع والركمة الطين المجموع والركام الرمل المتراكم والسحاب ونحوه (فترى الودق) هو المطر عند جمهور المفسرين يقال ودقت السحاب فهي وادقة، وودق المطر يدق أي قطر يقطر. وقيل إن الودق المطر، ضعيفاً كان، أو شديداً، والرؤية هنا بصرية.
(يخرج من خلاله) أي من فتوقه وفروجه، التي هي مخارج القطر منه، قال كعب (1): إن السحاب غربال المطر، لولا السحاب حين ينزل المطر من السماء، لأفسد ما يقع عليه من الأرض. وقرئ: من خلله على الإفراد، وقد وقع الخلاف في (خلال) هل هو مفرد؟ كحجاب، أو جمع كجبال؟.
(وينزل من السماء) أي: من عال لأن السماء قد يطلق على جهة
العلو (من جبال) أي من قطع عظام تشبه الجبال (فيها من يرد) من
للتبعيض وهو مفعول ينزل قيل: التقدير من برد برداً. وقيل: ينزل من
السماء قدر جبال، أو مثل جبال، من برد إلى الأرض قال الأخفش: إن
(من) زائدة في الموضعين، أي ينزل من السماء برداً، يكون كالجبال.
والحاصل أن من في (من السماء) لابتداء الغاية باتفاق المفسرين،
_________
(1) لقد نبه المؤلف في أكثر من موضع على رفض التلقي عن كعب الأحبار، وهو الحق الذي تجب الصيرورة إليه لأن السحاب هو عين المطر لقوله تعالى: " وهو الذي يرسل الرياح فتثير سحاباً فيرسله إلى بلد ميت " ولا عبرة بما ذهب إليه المصنف في تفسير البقرة من الرد على من قال بأن المطر أبخرة منعقدة من الماء. لأنه مدفوع بالقرآن الكريم وبالحقائق العلمية وهي معجزات التنزيل، المطيعي.(9/242)
بلا خلاف، وفي من جبال ثلاثة أوجه. الأول: أنها لابتداء الغاية، والثاني: أنها للتبعيض. كأنه قال: وينزل بعض جبال، الثالث: أنها زائدة، أي: ينزل من السماء جبالاً، وأما (من) في من برد ففيها أربعة أوجه الثلاثة المتقدمة، والرابع أنها لبيان الجنس، قاله الحوفي، والزمخشري.
أي وينزل من السماء بعض جبال. التي هي البرد. فالمنزل برد، لأن بعض البرد برد.
قال الزجاج: معنى الآية وينزل من السماء من جبال، برد فيها، وذكر أبو البقاء أن التقدير شيئاً من جبال. قيل أن في السماء جبالاً من برد، كما في الأرض جبال من حجر. وقيل: المراد بذكر الجبال الكثرة كما يقال فلان يملك جبالاً من ذهب وفضة.
(فيصيب به) أي بما ينزل من البرد كما في البيضاوي، والخازن (من يشاء) أن يصيبهم من عباده (ويصرفه عمن يشاء) منهم، أو يصيب به مال من يشاء، ويصرفه عن مال من يشاء، وقد تقدم الكلام على مثل هذا في البقرة (يكاد سنا برقه) العامة على قصر سنا، وهو الضوء، وهو من ذوات الواو، يقال سنا يسنو سناً، أي أضاء يضيء، وبالمدّ الرفعة، كذا قال المبرّد، وغيره. قرئ سناء برقه بالمد على المبالغة، في شدة الضوء، والصفاء، فأطلق عليه اسم الرفعة والشرف وقرئ بضم الباء من بُرَقِه، وفتح الراء. وهي على هذه جمع برق. وقال النحاس: البرقة المقدار من البرق. والبرقة الواحدة، والمعنى: يكاد ضوء البرق الذي في السحاب.
(يذهب بالأبصار) من شدة بريقه، وزيادة لمعانه. وهو كقوله: (يكاد البرق يخطف أبصارهم) وقرئ: يذهب، من الإذهاب، ويذهب من الذهاب، والأبصار جمع بصر، أي الناظرة، والباء للإلصاق. وقيل: للتعدية وقيل: هي بمعنى: من، والمفعول محذوف تقديره: يذهب النور من الأبصار، فسبحان من يخرج الماء، والنار، والنور، والظلمة من شيء واحد وقيل: زائدة.(9/243)
يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (44) وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (45) لَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (46) وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47) وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48)(9/244)
يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (44)
(يقلب الله الليل والنهار) أي: يعاقب بينهما، فيأتي بالليل، ويذهب بالنهار، ويأتي بالنهار، ويذهب بالليل. وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: قال الله تعالى: " يؤذيني ابن آدم يسب الدهر، وأنا الدهر، بيدي الأمر أقلب الليل والنهار " أخرجه البخاري ومسلم (1).
وقيل يزيد في أحدهما، وينقص الآخر. وقيل يقلبهما باختلاف ما يقدره فيهما من خير وشر، ونفع وضر. وقيل بالحر والبرد، وقيل المراد بذلك تغيير النهار بظلمة السحاب مرة، وبضوء الشمس أخرى. تغيير الليل بظلمة السحاب تارة، وبضوء القمر أخرى.
(إن في ذلك) إشارة إلى ما تقدم من إزاء السحاب، وإنزال الودق والبرد، وتقليب الجديدين (لعبرة) أي لدلالة واضحة يكون بها الاعتبار (لأولي الأبصار) أي لكل من له بصر يبصر به، فهي براهين لائحة على جوده، ودلائل واضحة على صفاته، لمن نظر وتدبر، ثم ذكر سبحانه دليلاً ثالثاً من عجائب خلق الحيوان، وبديع صنعته فقال:
_________
(1) مسلم 3346 - البخاري 2042.(9/244)
وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (45)
(والله خلق كل دابّة) وقرئ: خالق، والمعنيان صحيحان، والدابة كل ما دب على الأرض من الحيوان. يقال دب يدب فهو دابّ، والهاء(9/244)
للمبالغة، ومعنى (من ماء) من نطفة، وهي المني، كذا قال الجمهور، ثم خالف بين المخلوقات من النطفة فمنها هوام، ومنها بهائم، وقال جماعة: إن المراد الماء المعروف لأن آدم خلق من الماء والطين. قيل وخلق كل دابة من نطفة، إنما هو بحسب الأغلب في خلق حيوانات الأرض المشاهدة، وإلا فالملائكة خلقوا من نور، وهم أكثر المخلوقات عدداً، والجانّ خلقوا من نار، وهم بقدر تسعة أعشار الإنس. كما قيل، وآدم خلق من الطين، وعيسى من الريح، التي نفخها جبريل، في جيب مريم، وخلق الدود من نحو الفاكهة، والعفونات، ثم فصل سبحانه أحوال كل دابة فقال:
(فمنهم من يمشي على بطنه) وهي الحيات، والهوام، والحوت والدود، ونحو ذلك، وسمي الزحف على البطن مشياً، استعارة، كما استعير المشفر للشفة، وبالعكس. كما يقال في الأمر المستمر قد مشى هذا الأمر، وفلان ما يمشي له أمر، أو على طريق المشاكلة لذكر الزاحف مع الماشين (ومنهم من يمشي على رجلين) وهم الإنسان والطير والنعام.
(ومنهم من يمشي على أربع) كالبهائم، وسائر الحيوانات، وقدم ما هو أعرف في القدرة، وهو الماشي بغير آلة المشي من أرجل أو غيرها ثم الماشي على رجلين ثم الماشي على أربع وقال: (من) ولم يقل (ما) تغليباً لمن يعقل، على ما لا يعقل لأن جعل النفيس أصلاً، والخسيس تبعاً أولى. قال ابن عباس: كل شيء يمشي على أربع إلا الإنسان، وأقول هذه الطيور على اختلاف أنواعها، تمشي على رجلين، وهكذا غيرها، كالمنعامة فإنها تمشي على رجلين، وليست من الطير، فهذه الكلية المروية عنه رضي الله تعالى عنه لا تصح، ولم يتعرض سبحانه لما يمشي على أكثر من أربع لقلته. وقيل: لأن المشي على أربع فقط، وإن كانت القوائم كثيرة وقيل: لعدم الاعتداد بما يمشي على أكثر من أربع، ولا وجه يكون لهذا، فإن المراد التنبيه على بديع الصنع، وكمال القدرة، فكيف يقال، لعدم الاعتداد بما يمشي على أكثر من أربع.(9/245)
وقيل: ليس في القرآن ما يدل على عدم المشي على أكثر من أربع لأنه لم ينف ذلك، ولا جاء بما يقتضي الحصر، وفي مصحف أبيّ: ومنهم من يمشي على أكثر، فعم بهذه الزيادة جميع ما يمشي على أكثر من أربع، كالسرطان، والعناكب، والحيوان المعروف بأم أربع وأربعين، وكثير من خشاش الأرض كالعقارب. وقيل: إنما لم يتعرض لهذا القسم لدخوله في قوله:
(يخلق الله ما يشاء) أي: مما ذكر هنا، ومما لم يذكره، كالجمادات مركبها وبسيطها، ناميها وغير ناميها، على اختلاف الصور والأعضاء، والهيئات، والحركات، والطبائع، والقوى، والأفعال، مع اتحاد العنصر بمقتضى مشيئته (إن الله على كل شيء قدير) لا يعجزه شيء، ولا يمنعه مانع، بل الكل من مخلوقاته، داخل تحت قدرته سبحانه.(9/246)
لَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (46)
(لقد أنزلنا آيات مبينات) بكسر الياء وفتحها سبعيتان وكذلك في كل ما جاء في هذا الجمع في القرآن، والمراد بها القرآن، فإنه قد اشتمل على بيان كل شيء، ما فرطنا في الكتاب من شيء، وفيه التفات قد تقدم مثل هذا في غير موضع (والله يهدي من يشاء) بتوفيقه للنظر الصحيح وإرشاده إلى التأمل الصادق (إلى صراط مستقيم) أي طريق مستو لا عوج فيه، فيتوصل بذلك إلى الخير التام، وهو نعيم الجنة، ثم شرع سبحانه في بيان أحوال من لم تحصل له الهداية إلى الصراط المستقيم فقال:(9/246)
وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47)
(ويقولون آمنا بالله وبالرسول وأطعنا) وهؤلاء هم المنافقون، الذين يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر، ويقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم، فإنهم كما حكى الله عنهم هاهنا، ينسبون إلى أنفسهم الإيمان بالله وبالرسول، والطاعة لله ولرسوله نسبة بمجرد اللسان لا عن اعتقاد صحيح. وعن قتادة قال: أناس من المنافقين أظهروا الإيمان والطاعة، وهم في ذلك يصدون عن سبيل الله وطاعته وجهاده مع رسوله.(9/246)
(ثم يتولى) أي يعرض (فريق منهم) أي من هؤلاء المنافقين القائلين هذه المقالة (من بعد ذلك) أي من بعد ما صدر عنهم مما نسبوه إلى أنفسهم من دعوى الإيمان والطاعة ثم حكم عليهم سبحانه وتعالى بعدم الإيمان فقال (وما أولئك) القائلون بهذه المقالة (بالمؤمنين) على الحقيقة الموافق قلوبهم لألسنتهم فيشمل الحكم بنفي الإيمان جميع القائلين. ويندرج تحتهم من تولى اندراجاً أولياً.
وقيل إن الإشارة بقوله (أولئك) راجع إلى من تولى، والأول أولى والكلام مشتمل على حكمين، الحكم الأول على بعضهم بالتولي، والحكم الثاني على جميعهم بعدم الإيمان، وقيل أراد بمن تولى من تولى عن قبول حكمه صلى الله عليه وآله وسلم، وقيل أراد بذلك رؤساء المنافقين، وقيل أراد بتولي هذا الفريق رجوعهم إلى الباقين، ولا ينافي ما تحتمله هذه الآية باعتبار لفظها ورودها على سبب خاص، ثم وصف هؤلاء المنافقين بأن فريقاً منهم يعرضون عن إجابة الدعوة إلى الله وإلى رسوله في خصومتهم فقال:(9/247)
وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48)
(وإذا دعوا إلى الله ورسوله) المبلغ عنه (ليحكم بينهم) أي الرسول فالضمير راجع إليه. لأنه المباشر للحكم. وإن كان الحكم في الحقيقة لله سبحانه ومثل ذلك قوله تعالى: والله ورسوله أحق أن يرضوه (إذا فريق منهم معرضون) إذا هي الفجائية، أي فاجأ فريق منهم الإعراض عن المحاكمة إلى الله والرسول، أو عن الإجابة، والمجيء إليه. وهذا هو شأن مقلدة المذاهب بعينه اليوم (1)، يعرضون عن إجابة الداعي إلى الله ورسوله، وعن التحاكم إليهما، أي إلى كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم.
ثم ذكر سبحانه أن إعراضهم إنما هو إذا كان الحق عليهم، وأما إذا كان لهم فإنهم يذعنون لعلمهم بأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يحكم إلا بالحق فقال:
_________
(1) قياس مع الفارق ولا يجوز تشبيه المؤمنين بالمنافقين.(9/247)
وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (50) إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (52) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لَا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (53)(9/248)
وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49)
(وإن يكن لهم الحق) أي إذا كان الحكم لهم على غيرهم (يأتوا إليه مذعنين) مطيعين منقادين لحكمه طلباً لحقهم، لا رضاء بحكم رسولهم. قال الزجاج: الإذعان الإسراع مع الطاعة، يقال: أذعن لي بحقي، أي طاوعني لما كنت ألتمس منه، وصار يسرع إليه، وبه قال مجاهد. وقال الأخفش وابن الأعرابي: مذعنين مقرين وقال النقاش: خاضعين. والمعنى أنهم لمعرفتهم أنه ليس معك إلا الحق المر، والعدل البحت، يمتنعون عن المحاكمة إليك، إذا ركبهم الحق، لئلا تنتزعه من أحداقهم، بقضائك عليهم لخصومهم، وإن ثبت لهم الحق على خصم أسرعوا إليك، ولم يرضوا إلا بحكومتك لتأخذ لهم ما وجب لهم في ذمة الخصم.
ثم قسم الأمر في إعراضهم عن حكومته إذا كان الحق عليهم فقال:(9/248)
أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (50)
(أفي قلوبهم مرض) هذه الهمزة للتوبيخ والتقريع لهم، والمرض النفاق أي أكان هذا الإعراض منهم بسبب النفاق الكائن في قلوبهم وقيل مرض أي كفر وميل إلى الظلم (أم ارتابوا) وشكوا في أمر نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - وعدله في الحكم، أو رأوا منه تهمة فزال ثقتهم ويقينهم به.
(أم يخافون أن يخيف الله عليهم ورسوله) في الحكومة، والحيف الميل(9/248)
في الحكم يقال حاف في قضيته أي جار فيما حكم به، ثم أضرب عن ضرب
هذه الأمور التي صدرها بالاستفهام الإنكاري فقال (بل أولئك هم الظالمون) أي ليس ذلك لشيء مما ذكر بل لعنادهم وظلمهم فإنه لو كان الإعراض لشيء مما ذكر لما أتوا إليه مذعنين إذا كان الحق لهم.
وقيل إضراب عن القسمين الأخيرين، لتحقق القسم الأول، ووجه التقسيم أن امتناعهم إما لخلل فيهم أو في الحاكم، والثاني إما أن يكون محققاً عندهم، أو متوقعاً، وكلاهما باطل لأن منصب نبوته، وفرْط أمانته صلى الله عليه وآله وسلم يمنعه، فتعين الأول. وظلمهم يعم خلل عقيدتهم، وميل نفوسهم إلى الحيف. وضمير الفصل لنفي ذلك عن غيرهم، سيما المدعو إلى حكمه. قاله البيضاوي.
وفي هذه الآية دليل على وجوب الإجابة إلى القاضي العالم بحكم الله العادل في حكمه لأن العلماء ورثة الأنبياء، والحكم من قضاة الإسلام العالمين بحكم الله العارفين بالكتاب والسنة العادلين في القضاء، هو حكم بحكم الله ورسوله، الداعي إلى التحاكم إليهم قد دعا إلى الله وإلى رسوله أي إلى حكمهما.
قال ابن خواز منداد: واجب على كل من دعى إلى مجلس الحاكم أن يجيب ما لم يعلم أن الحاكم فاسق قال القرطبي: في هذه الآية دليل على وجوب إجابة الداعي إلى الحاكم لأن الله سبحانه ذم من دعى إلى رسوله ليحكم بينه وبين خصمه، فأعرض بأقبح ذم، فقال (أفي قلوبهم مرض) الآية انتهى فإن كان القاضي مقصراً لا يعلم بأحكام الكتاب والسنة، ولا يعقل حجج الله، ومعاني كلامه وكلام رسوله بل كان جاهلاً جهلاً بسيطاً.
وهو من لا علم له بشيء من ذلك، أو جهلاً مركباً، وهو من لا علم عنده بما ذكرنا، ولكنه قد عرف بعض اجتهادات المجتهدين، واطلع على شيء من علم الرأي، فهذا في الحقيقة جاهل، وإن اعتقد أنه يعلم بشيء من العلم فاعتقاده باطل.(9/249)
فمن كان من القضاة هكذا فلا تجب الإجابة إليه، لأنه ليس ممن يعلم بحكم الله ورسوله حتى يحكم به بين المتخاصمين إليه بل هو من قضاة الطاغوت وحكام الباطل، فإن ما عرفه من علم الرأي إنما رخص في العمل به للمجتهد الذي هو منسوب إليه عند عدم الدليل من الكتاب والسنة، ولم يرخص فيه لغيره ممن يأتي بعده، وإذا تقدر لديك هذا، وفهمته حق فهمه، علمت أن التقليد والانتساب إلى عالم من العلماء دون غيره .. والتعبد بجميع ما جاء به من رواية ورأى وإهمال ما عداه، من أعظم ما حدث في هذه الملة الإسلامية من البدع المضلة والفواقر الموحشة، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وقد أوضحت هذا في كتابي الجنة وأوضحه الشوكاني في القول المفيد، وأدب الطلب وغيره في غيرهما فمن أراد أن يقف على حقيقة هذه البدعة التي طبقت الأقطار الإسلامية فليرجع إليها، وعن الحسن في الآية قال: إن الرجل كان يكون بينه وبين الرجل خصومة أو منازعة. على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فإذا دعي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو محق أذعن وعلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سيقضي له بالحق. وإذا أراد أن يظلم فدعى إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أعرض. وقال: انطلق إلى فلان فأنزل الله سبحانه (وإذا دعوا إلى الله ورسوله) إلى قوله: (هم الظالمون) فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " من كان بينه وبين أخيه شيء فدعاه إلى حكم من حكام المسلمين فلم يجب فهو ظالم لا حق له " أخرجه عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
قال ابن كثير: (1) بعد أن ساق هذا المتن ما لفظه وهذا حديث غريب وهو مرسل: وقال ابن العربي: هذا حديث باطل فأما قوله فهو ظالم فكلام صحيح وأما قوله فلا حق له فلا يصح ويحتمل أن يريد أنه على غير الحق انتهى.
وأقول: وأما كون الحديث مرسلاً فظاهر وأما ما دعوى كونه باطلاً فمحتاجة إلى برهان فقد أخرجه ثلاثة من أئمة الحديث كما ذكرنا ويبعد كل
_________
(1) ابن كثير 3/ 298.(9/250)
البعد أن يتفقوا على ما هو باطل وليس في إسناده عند ابن أبي حاتم كذاب ولا وضاع ويشهد له ما أخرجه الطبراني عن الحسن عن سمرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " فمن دعي إلى سلطان فلم يجب فهو ظالم لا حق له " انتهى، ولا يخفاك أن قضاة العدل، وحكام الشرع الذين هم على الصفة التي قدمنا لك قريباً. هم سلاطين الدين المترجمون عن الكتاب والسنة، المبينون للناس ما نزل إليهم. ثم لما ذكر ما كان عليه أهل النفاق، أتبعه بما يجب على المؤمنين أن يفعلوه إذا دعوا إلى حكم الله ورسوله، فقال:(9/251)
إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51)
(إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله) أي: إلى كتاب الله العزيز وسنة رسوله المطهرة (لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا) أي هذا القول، لا قولاً آخر، وهذا وإن كان على طريقة الخبر، فليس المراد به ذلك، بل المراد به تعليم الأدب الشرعي عند هذه الدعوة من أحد المتخاصمين للآخر، والمعنى أنه ينبغي للمؤمنين أن يكونوا هكذا، إذا سمعوا الدعاء المذكور، قابلوه بالطاعة والإذعان والإجابة. قال مقاتل وغيره: يقولون: سمعنا قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأطعنا أمره، وإن كان ذلك فيما يكرهونه ويضرهم.
وقد قدمنا الكلام على الدعوة إلى الله ورسوله للحكم بين المتخاصمين،
وذكرنا من تجب الإجابة إليه من القضاة، ومن لا تجب، وهذه الآية على
إيجازها حاوية لكل ما ينبغي للمؤمنين أن يفعلوه. ثم أثنى سبحانه عليهم
بقوله:
(وأولئك) المؤمنون الذين قالوا هذا القول (هم المفلحون) أي: الناجون الفائزون بخيري الدنيا والآخرة، ثم أردف الثناء عليهم بثناء آخر فقال:(9/251)
وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (52)
(وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ) هذه الجملة مقررة لما قبلها، من حسن حال المؤمنين، وترغيب من عداهم إلى الدخول في عدادهم والمتابعة لهم في طاعة الله ورسوله، في كتابه وسنته والخشية من الله عز وجل فيما مضى والتقوى له فيما يستقبل وفي (وَيَتَّقْهِ) قراءات من الجزم والكسر.(9/251)
(فأولئك) أي: الموصوفون بما ذكر من الطاعة والخشية والتقوى (هم الفائزون) بالنعيم الدنيوي، والآخروي، لا من عداهم. وعن بعض الملوك أنه سأل عن آية كافية فتليت له هذه الآية، وهي جامعة لأسباب الفوز والفلاح الكاملة الشاملة وبالله التوفيق، وهو المستعان. ثم حكى سبحانه عن المنافقين أنهم لما كرهوا حكمه، أقسموا بأنه لو أمرهم بالخروج إلى الغزو لخرجوا، فقال:(9/252)
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لَا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (53)
(وأقسموا بالله جهد أيمانهم) المعنى: يجهدون أيمانهم جهداً ومعناه طاقة ما قدروا أن يحلفوا، مأخوذ من قولهم: جهد نفسه إذا بلغ طاقتها، وأقصى وسعها، وقيل: التقدير مجتهدين في إيمانهم، كقولهم: افعل ذلك جهدك وطاقتك وقد خلط الزمخشري الوجهين فجعلهما واحداً. وقيل: جهد اليمين أن يحلف بالله ولا يزيد على ذلك شيئاً.
(لئن أمرتهم) بالخروج إلى الجهاد (ليخرجن) وليغزون، ولما كانت مقالتهم هذه كاذبة، وأيمانهم فاجرة رد الله عليهم زاجراً فقال: (قل لا تقسموا) أي لا تحلفوا على ما تزعمونه من الطاعة والخروج إلى الجهاد إن أمرتم به. وهاهنا تمّ الكلام ثم ابتدأ فقال:
(طاعة معروفة) أي طاعتهم طاعة معروفة بأنها طاعة نفاقية لم تكن عن اعتقاد، وقيل: طاعة معروفة أولى بكم من أيمانكم. وقيل: لتكن منكم طاعة، أو لتوجد، وفي هذا ضعف لأن الفعل لا يحذف إلا إذا تقدم ما يشعر به، وقيل: أمركم طاعة، بل قال الواسطي: إنه الأولى لأن الخبر محط الفائدة، وعليه فالمعنى: أمركم الذي يطلب منكم طاعة معروفة معلومة، لا يشك فيها ولا يرتاب. وقرئ: طاعةً بالنصب أي أطيعوا طاعة.
(إن الله خبير بما تعلمون) من الطاعة بالقول، وما تشمرونه من المخالفة بالفعل وهذا تعليل لما قبلها من كون طاعتهم طاعة نفاق. ثم أمر الله سبحانه نبيه صلى الله عليه وآله وسلم أن يأمرهم بطاعة الله ورسوله، فقال:(9/252)
قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (54) وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (55) وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (56)(9/253)
قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (54)
(قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول) طاعة ظاهرة وباطنة، بخلوص اعتقاد وصحة نية وهذا التكرير منه سبحانه لتأكيد وجوب الطاعة عليهم، فإن قوله: (قل لا تقسموا طاعة معروفة) في حكم الأمر بالطاعة وقيل: إنهما مختلفان فالأول نهى بطريق الرد والتوبيخ، والثاني أمر بطريق التكليف لهم والإيجاب عليهم.
(فإن تولوا) خطاب للمأمورين وفيه رجوع من الخطاب مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى الخطاب لهم لتأكيد الأمر عليهم والمبالغة في العناية بهدايتهم إلا الطاعة والإنقياد.
وجواب الشرط قوله: (فإنما عليه) أي: على النبي (ما حمل) مما أمر به من التبليغ وقد فعل (وعليكم ما حملتم) أي: ما أمرتم به من الطاعة والإجابة، وهو وعيد لهم كأنه قال لهم: فإن توليتم فقد صرتم حاملين للحمل الثقيل، وفيه المشاكلة.
(وإن تطيعوه) فيما أمركم به ونهاكم عنه (وتهتدوا) إلى الحق وترشدوا إلى الخير وتفوزوا بالأجر. قد أخرج مسلم والترمذي وغيرهما عن علقمة بن وائل الحضرمي عن أبيه قال: قدم زيد بن أسلم على رسول الله صلى الله(9/253)
عليه وآله وسلم فقال: أرأيت إن كان علينا أمراء يأخذون منا الحق ولا يعطونا؟ قال: " فإنما عليهم ما حملوا وعليكم ما حملتم " (1). وعن جابر أنه سئل إن كان على إمام فاجر، فلقيت معه أهل ضلالة، أقاتل؟ أم لا؟ قال: قاتل أهل الضلالة أينما وجدتهم.
وعلى الإمام ما حمل وعليكم ما حملتم (و) جملة (ما على الرسول إلا البلاغ المبين) مقررة لما قبلها واللام إما للعهد فيراد بالرسول نبينا صلى الله عليه وآله وسلم وإما للجنس فيراد كل رسول والبلاغ المبين: التبليغ الواضح أو الموضح، والمعنى: إن الرسول قد أدى البلاغ فأدوا أيضاً أنتم ما عليكم من طاعته.
_________
(1) مسلم 1846 - الترمذي كتاب الفتن الباب 30.(9/254)
وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (55)
(وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات) الخطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ولمن معه و (من) للبيان. وقيل: للتبعيض والجملة مقررة لما قبلها، من أن طاعتهم لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سبب لهدايتهم وهذا وعد من الله سبحانه لمن آمن بالله وعمل الأعمال الصالحات بالاستخلاف لهم، كما قال سبحانه.
(ليستخلفنهم في الأرض) بدلاً عن الكفار، وهو وعد يعم جميع الأمة، وقيل هو خاص بالصحابة، ولا وجه لذلك فإن الإيمان، وعمل الصالحات لا يختص بهم. بل يمكن وقوع ذلك من كل واحد من هذه الأمة. ومن عمل بكتاب الله وسنة رسوله فقد أطاع الله ورسوله. واللام في (ليستخلفنهم) جواب لقسم محذوف أو جواب للوعد، وتنزيله منزلة القسم لأنه ناجز لا محالة والمعنى ليجعلنهم فيها خلفاء يتصرفون فيها تصرف الملوك في مملوكاتهم، وقد أبعد من قال إنها مختصة بالخلفاء الأربعة أو بالمهاجرين أو أن المراد بالأرض أرض مكة. وقد عرفت أن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
قال ابن العربي: إنها بلاد العرب والعجم وهو الصحيح لأن أرض مكة(9/254)
محرمة على المهاجرين ففي الحديث لكن البائس سعد بن خولة يرثي له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن توفي بمكة وقال في الصحيح أيضاً يمكث المهاجر بمكة بعد قضاء نسكه ثلاثاً، وظاهر قوله (كما استخلف الذين من قبلهم) كل من استخلفه الله في أرضه فلا يخص ذلك بني إسرائيل ولا أمة من الأمم دون غيرها قرئ على البناء للفاعل والمفعول.
(وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم) معطوفة على ليستخلفنهم داخلة تحت حكمه كائنة من جملة الجواب، والمراد بالتمكين هنا التثبيت والتقرير أي يجعله الله ثابتاً مقرراً ويوسع لهم في البلاد ليملكوها ويظهر دينهم على جميع الأديان، والمراد بالدين هنا الإسلام كما في قوله (ورضيت لكم الإسلام ديناً)، ذكر سبحانه وتعالى الاستخلاف لهم أولاً وهو جعلهم ملوكاً، وذكر التمكين ثانياً فأفاد ذلك أن هذا الملك ليس على وجه العروض والطروّ بل على وجه الاستقرار والثبوت بحيث يكون الملك لهم ولعقبهم من بعدهم.
(وليبدلنّهم من بعد خوفهم أمناً) معطوفة على التي قبلها وقرئ من أبدل ومن بدل وهما لغتان وزيادة البناء تدل على زيادة المعنى فقراءة التشديد أرجح من التخفيف، وزعم ثعلب أن بينهما فرقاً، وأنه يقال بدلته أي غيرته وأبدلته أزلته وجعلت غيره مكانه قال النحاس: وهذا القول صحيح والمعنى أنه سبحانه يجعل لهم مكان ما كانوا فيه من الخوف من الأعداء أمناً ويذهب عنهم أسباب الخوف الذي كانوا فيه بحيث لا يخشون إلا الله سبحانه ولا يرجون غيره.
وقد كان المسلمون قبل الهجرة وبعدها بقليل في خوف شديد من المشركين، لا يخرجون إلا في السلاح، ولا يمسون ولا يصبحون إلى على ترقب لنزول المضرة بهم من الكفار، ثم صاروا في غاية الأمن، والدعة وأذل الله لهم شياطين المشركين وفتح عليهم البلاد ومهد لهم في الأرض ومكنهم منها فللَّه الحمد.(9/255)
وعن البراء قال: فينا نزلت ونحن في خوف شديد، وعن أبي العالية قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بمكة نحواً من عشر سنين يدعون إلى الله وحده وإلى عبادته وحده لا شريك له سراً وهم خائفون، ولا يؤمرون بالقتال حتى أمروا بالهجرة إلى المدينة، فقدموا المدينة فأمرهم الله بالقتال وكانوا بها خائفين، يمسون في السلاح ويصبحون في السلاح، فغبروا بذلك ما شاء الله، ثم أن رجلاً من أصحابه قال: يا رسول الله ما يأتي علينا يوم نأمن فيه ونضع السلاح؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " لن تغبروا إلا يسيراً حتى يجلس الرجل منكم في الملأ العظيم محتبياً ليست فيهم حديدة " فأنزل الله وعد الله الذين آمنوا إلى آخر الآية فأظهر الله نبيه على جزيرة العرب فأمنوا ووضعوا السلاح.
ثم إن الله قبض نبيه فكانوا كذلك آمنين في زمان أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله تعالى عنهم. حتى وقعوا فيما وقعوا وكفروا النعمة فأدخل الله عليهم الخوف الذي كان رفع عنهم واتخذوا الحجر والشرط وغيروا فغير ما بهم. وعن أُبيّ بن كعب قال: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المدينة وآوتهم الأنصار رمتهم العرب عن قوس واحدة كانوا لا يبيتون إلا في السلاح ولا يصبحون إلا فيه. فقالوا: أترون أنا نعيش حتى نبيت آمنين مطمئنين لا نخاف إلا الله، فنزلت هذه الآية، وأنجز الله وعده وأظهرهم على جزيرة العرب وافتتحوا أبعد بلاد المشرق والمغرب ومزقوا ملك الأكاسرة وملكوا خزائنهم واستولوا على الدنيا.
وفي الآية أوضح دليل على صحة خلافة أبي بكر الصديق، والخلفاء الراشدين بعده لأن المستخلفين الذين آمنوا وعملوا الصالحات هم هم وفي أيامهم كانت الفتوحات العظيمة وفتحت كنوز كسرى وغيره من الملوك وحصل الأمن والتمكين وظهور الدين، وعن سفينة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: " الخلافة بعدي ثلاثون سنة ثم تكون ملكاً ثم قال: أمسك خلافة أبي بكر سنتين وخلافة عمر عشر سنين وخلافة عثمان اثنتي(9/256)
عشرة سنة وعلي ستاً قال علي: قلت لحماد القائل لسعيد: أمسك سفينة قال: نعم. أخرجه (1) أبو داود والترمذي.
قلت وفيه إجمال، تفصيله أن خلافة أبي بكر كانت سنتين وثلاثة أشهر وخلافة عمر كانت عشر سنين وستة أشهر وخلافة عثمان اثنتي عشرة سنة وخلافة علي أربع سنين وتسعة أشهر وعلى هذا تكون مدة خلافة الأئمة الأربعة تسعة وعشرين سنة وستة أشهر وكملت ثلاثين سنة بخلافة الحسن وكانت ستة أشهر ثم نزل عنها والله أعلم.
وجملة (يعبدونني) حالية أو مستأنفة مسوقة للثناء عليهم، وفيه أوجه سبعة ذكرها السمين (لا يشركون بي شيئاً) أي يعبدونني غير مشركين بي في العبادة شيئاً من الأشياء. وقيل معناه لا يراؤن بعبادتي أحداً، وقيل معناه لا يخافون أحداً غيري قاله ابن عباس وقيل معناه لا يحبون غيري.
(ومن كفر) هذه النعم (بعد ذلك) الوعد الصحيح، أي: من استمر على الكفر أو من كفر بعد الإيمان (فأولئك هم الفاسقون) أي الكاملون في الفسق وهو الخروج عن الطاعة، والطغيان في الكفر وعن مجاهد قال: الفاسقون العاصون. وعن أبي العالية قال: الكفر بهذه النعمة ليس الكفر بالله، ولذلك قال الفاسقون ولم يقل الكافرون. قال أهل التفسير: أو من كفر بهذه النعمة، وجحد حقها الذين قتلوا عثمان فلما قتلوه غير الله ما بهم من الأمن وأدخل عليهم الخوف حتى صاروا يقتتلون بعد أن كانوا إخواناً والقصة معروفة.
_________
(1) أبو داوود كتاب السنة باب 8 - الترمذي، كتاب الفتن باب 48.(9/257)
وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (56)
(وأقيموا الصلاة) أي فآمنوا واعملوا الصالحات وأقيموا الصلاة (وآتوا الزكاة وأطيعوا الرسول) قد تقدم الكلام على إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وكرر الأمر بطاعة الرسول للتأكيد وخصه بالطاعة لأن طاعته طاعة الله، ولم يذكر ما يطيعونه فيه لقصد التعميم كما يشعر به الحذف على ما تقرر في(9/257)
لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ (57) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (58)
علم المعاني من أن مثل هذا الحذف مشعر بالتعميم (لعلكم ترحمون) أي
افعلوا ما ذكر راجين أن يرحمكم الله سبحانه.(9/258)
لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ (57)
(لا تحسبن) بالفوقية أي لا تحسبن يا محمد وقرئ بالتحتية (الذين كفروا معجزين) فائتين وقال قتادة: سابقين (في الأرض) وقد تقدم تفسيره وتفسير ما بعده (ومأواهم النار) عطف خبر على إنشاء أو على مقدر أي بل هم مقهورون مدركون، ومأواهم (ولبئس المصير) أي المرجع النار ولما فرغ سبحانه من ذكر ما ذكره من دلائل التوحيد رجع إلى ما كان فيه من الاستئذان فذكره هاهنا على وجه أخص فقال.(9/258)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (58)
(يا أيها الذين آمنوا) الخطاب للمؤمنين ويدخل المؤمنات فيه تغليباً كما في غيره من الخطابات، قال العلماء: هذه الآية خاصة ببعض الأوقات واختلفوا في المراد بقوله: (ليستأذنكم) على أقوال أنها منسوخة قاله سعيد بن المسيب وقال سعيد بن جبير: إن الأمر فيها للندب لا للوجوب، وقيل كان ذلك واجباً حيث كانوا لا أبواب لهم، ولو عاد الحال لعاد الوجوب حكاه المهدوي عن ابن عباس، وقيل إن الأمر هاهنا للوجوب وإن الآية حكمة غير منسوخة وإن حكمها ثابت على الرجال والنساء، قال القرطبي: وهو قول أكثر العلماء وقال السلمي: إنها خاصة بالنساء وقال ابن عمر: هي خاصة بالرجال دون النساء، والمراد بقوله.
(الذين ملكت أيمانكم) العبيد والإماء وعن مقاتل بن حيان قال:(9/258)
بلغنا أن رجلاً من الأنصار وأمرأته أسماء بنت مرشدة صنعا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم طعاماً فقالت أسماء: يا رسول الله ما أقبح هذا إنه ليدخل على المرأة وزوجها وهما في ثوب واحد -غلامهما- بغير إذن فأنزل الله في ذلك هذه الآية يعني بها العبيد والإماء، وعن السدي قال: كان أناس من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعجبهم أن يواقعوا نساءهم في هذه الساعات ليغتسلوا ثم يخرجوا إلى الصلاة فأمرهم الله أن يأمروا المملوكين والغلمان أن لا يدخلوا عليهم في تلك الساعات إلا بإذن، فلا يرد كيف أمرهم الله بالاستئذان؟ مع أنهم غير مكلفين ولو كان المقصود أمرهم بالذات لما كان لتخصيص النداء والخطاب بالمؤمنين وجه.
(والذين لم يبلغوا الحلم منكم) أي الصبيان والمراد الأحرار قرئ الحلم بسكون اللام وبضمها قال الأخفش: الحلم من حلم الرجل بفتح اللام ومن الحلم حلم بضم اللام يحلم بكسرها، واتفقوا على أن الاحتلام بلوغ واختلفوا فيما إذا بلغ خمس عشرة سنة ولم يحتلم فقال أبو حنيفة: لا يكون بالغاً حتى يبلغ ثماني عشرة سنة ويستكملها، والجارية سبع عشرة سنة وقال الشافعي وأبو يوسف ومحمد وأحمد في الغلام والجارية بخمس عشرة سنة يصير مكلفاً وتجري عليه الأحكام وإن لم يحتلم.
(ثلاث مرات) أي ثلاثة أوقات في اليوم والليلة، وعبر عن الأوقات بالمرات لأن الأصل وجوب الاستئذان هو بسبب مقارنة تلك الأوقات لمرور المستأذنين بالمخاطبين لا نفس الأوقات، وانتصاب ثلاث مرات على المصدرية أي ثلاث استئذانات، ورجح هذا أبو حيان وقال: لأنك إذا قلت ضربتك ثلاث مرات لا يفهم منه إلا ثلاث ضربات، أو منصوب على الظرفية أي ثلاث أوقات ثم فسر تلك الأوقات بقوله.
(من قبل صلاة الفجر) وذلك لأنه وقت القيام عن المضاجع وطرح(9/259)
ثياب النوم ولبس ثياب اليقظة وربما يبيت عرياناً أو على حالة لا يجب أن يراه غيره فيها (وحين تضعون ثيابكم) التي تلبسونها في النهار (من) شدة حر (الظهيرة) وذلك عند انتصاف النهار فإنهم قد يتجردون عن الثياب لأجل القيلولة (من) للبيان أو بمعنى في أو بمعنى اللام ثم ذكر سبحانه الوقت الثالث فقال:
(ومن بعد صلاة العشاء) وذلك لأنه وقت التجرد عن ثياب اليقظة والخلوة بالأهل والالتحاف بثياب النوم، ثم أجمل سبحانه هذه الأوقات بعد التفصيل بقوله (ثلاث عورات لكم) أي أوقات ثلاث عورات وقيل جعل نفس ثلاث مرات نفس ثلاث عورات مبالغة وقيل هو ثلاث.
وقال أبو حاتم: النصب ضعيف مردود، وقال الفراء: الرفع أحب إلي، قال الكسائي: العورات الساعات التي تكون فيها العورة، قال الزجاج: المعنى ليستأذنكم أوقات ثلاث عورات، وعورات جمع عورة وهي في الأصل الخلل.
ثم غلب في الخلل الواقع فيما يهم حفظه ويتعين ستره أي هي ثلاث أوقات، يختل فيها الستر، وقرئ عَورات بفتح الواو وهي لغة هذيل وتميم. فإنهم يفتحون عين فعلات سواء كان واواً أو ياء. والجملة مستأنفة، مسوقة لبيان علة وجوب الاستئذان.
عن عبد الله بن سويد قال: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن العورات الثلاث فقال: " إذا أنا وضعت ثيابي بعد الظهيرة لم يلج عليَّ أحد من الخدم من الذين لم يبلغوا الحلم، ولا أحد لم يبلغ الحلم من الأحرار إلا بإذن، وإذا وضعت ثيابي بعد صلاة العشاء ومن قبل صلاة الصبح " أخرجه ابن مردويه.
وعن ابن عباس قال: إنه لم يؤمن بها أكثر الناس يعني آية الإذن. وإني لآمر جاريتي هذه، الجارية قصيرة قائمة على رأسه أن تستأذن علي، وعنه(9/260)
قال: ترك الناس ثلاث آيات لم يعملوا بهن هذه الآية والآية التي في سورة النساء (وإذا حضر القسمة) الآية، والآية التي في الحجرات (إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم).
وعنه قال: إذا خلا الرجل بأهله بعد العشاء فلا يدخل عليه صبي ولا خادم إلا بإذنه حتى يصلي الغداة، وإذا خلا بأهله عند الظهر فمثل ذلك. ورخص لهم في الدخول فيما بين ذلك بغير إذن وهو قوله (ليس عليكم ولا عليهم جناح بعدهن) فأما من بلغ الحلم فإنه لا يدخل على الرجل وأهله إلا بإذن على كل حال. وهو قوله:(9/261)
وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (59)
(وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم فليستأذنوا كما استأذن الذين من قبلهم).
وعنه أن رجلاً سأله عن الاستئذان في الثلاث العورات، التي أمر الله بها في القرآن فقال: إن الله ستير يحب الستر، وكان الناس ليس لهم ستور على أبوابهم ولا حجاب في بيوتهم، فربما فجأ الرجل خادمه، أو ولده أو يتيم في حجره، وهو على أهله، فأمرهم الله أن يستأذنوا في تلك العورات التي سمي الله، ثم جاء الله بعد بالستور، فبسط عليهم في الرزق، فاتخذوا الستور واتخذوا الحجال، فرأى الناس أن ذلك قد كفاهم من الاستئذان الذي أمروا به.
وعن ابن عمر في الآية قال: هي على المذكور دون الإناث. ولا وجه هذا التخصيص، فالاطلاع على العورات في هذه الأوقات كما يكرهه الإنسان من الذكور يكرهه من الإناث. وعن السلمي قال: هي في النساء خاصة، والرجال يستأذنون على كل حال بالليل والنهار.
وعن ابن مسعود قال: عليكم إذن على أمهاتكم، وعنه قال: يستأذن الرجل على أبيه وأمه وأخته، أخرجه البخاري في الأدب وعن جابر نحوه،(9/261)
وسئل الشعبي عن هذه الآية أمنسوخة هي؟ قال: لا والله. قال السائل: إن الناس لا يعلمون بها، قال: والله المستعان. وقال سعيد بن جبير: إن ناساً يقولون أن هذه الآية نسخت والله ما نسخت ولكنها مما تهاون به الناس وقال سعيد بن المسبب: إنها منسوخة والأول أولى.
(لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ) أي ليس على المماليك ولا على الصبيان إثم في الدخول بغير استئذان، لعدم ما يوجبه من مخالفة الأمر، والاطلاع على العورات، بعد كل واحدة من هذه العورات الثلاث، وهي الأوقات المتخللة بين كل اثنين منها، والجملة مستأنفة مقررة للأمر بالاستئذان في تلك الأحوال خاصة. وقال أبو البقاء (بعدهن) أي بعد استئذانهم فيهن، ورُدّ بأنه لا حاجة إلى هذا التقدير، الذي ذكره، بل المعنى ليس عليكم جناح ولا عليهم أي العبيد والإماء والصبيان في عدم الاستئذان بعد هذه الأوقات المذكورة.
(طوافون) أي هم طوافون (عليكم) والجملة مستأنفة مبينة للعذر رخص في ترك الاستئذان والمعنى يطوفون عليكم، ومنه الحديث في الهرة إنما هي من الطوافين عليكم أو الطوافات. أي هم خدمكم فلا بأس أن يدخلوا عليكم في غير هذه الأوقات بغير إذن (بعضكم) يطوف. أو طائف (على بعض) والجملة تدل مما قبلها، أو مؤكدة لها، والمعنى أن كلا منكم يطوف على صاحبه، العبيد على الموالي والموالي على العبيد، وإنما أباح سبحانه الدخول في غير تلك الأوقات، الثلاثة بغير استئذان لأنها كانت العادة أنهم لا يكشفون عوراتهم في غيرها.
(كذلك) أي مثل ذلك التبيين (يبين الله لكم الآيات) الدالة على ما شرعه لكم من الأحكام (والله عليم) أي كثير العلم بالمعلومات (حكيم) كثير الحكمة في أفعاله.(9/262)
وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (59) وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (60)
(وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم) بين سبحانه هاهنا حكم الأطفال الأحرار إذا بلغوا الحلم، بعد ما بين فيما مر حكم الأطفال الذين لم يبلغوا الحلم، في أنه لا جناح عليهم في ترك الاستئذان، فيما عدا الأوقات الثلاثة فقال (فليستأذنوا) إذا دخلوا عليكم في جميع الأوقات (كما استأذن الذين من قبلهم) الموصول عبارة عن الذين قيل لهم لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم حتى تستأنسوا الآية، والمعنى استئذاناً كما استأذن الأحرار الكبار الذين أمروا بالاستئذان من غير استثناء.
قال عطاء: واجب على الناس أن يستأذنوا إذا احتلموا، أحراراً كانوا، أو عبيداً. وسئل حذيفة أيستأذن الرجل على والدته؟ قال: نعم. إن لم تفعل رأيت منها ما تكره. وقال الزهري وسعيد بن المسيب: يستأذن الرجل على أمه وفي هذا المعنى نزلت هذه الآية.
(كذلك يبين الله لكم آياته والله عليم) بأمور خلقه فيما يبين من الأحكام (حكيم) بما دبر وشرع من مصالح الأنام(9/263)
وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (60)
(والقواعد من النساء) المراد بهن العجائز اللاتي قعدن عن الحيض، أو عن الاستمتاع، أو عن الولد من الكبر، فلا يلدن ولا يحضن واحدتها قاعد، بلا هاء ليدل حذفها على أنه قعود الكبر، كما قالوا امرأة حامل ليدل حذف الهاء على أنه حمل حبل ويقال قاعدة في بيتها، وحاملة على ظهرها، قال الزجاج: هن اللاتي قعدن عن(9/263)
التزويج وهو معنى قوله:
(اللاتي لا يرجون نكاحاً) أي لا يطمعن فيه لكبرهن، وقال أبو عبيدة: اللاتي قعدن عن الولد وليس هذا بمستقيم، لأن المرأة تقعد عن الولد وفيها مستمتع. وقيل هن العجائز اللواتي إذا رآهن الرجال استقذروهن. فأما من كانت فيها بقية جمال، وهي محل الشهوة فلا تدخل في حكم هذه الآية، ثم ذكر سبحانه حكم القواعد فقال:
(فليس عليهن جناح أن يضعن ثيابهن) التي تكون على ظاهر البدن كالجلباب، والرداء الذي فوق الثياب، والقناع الذي فوق الخمار، ونحوها، لا الثياب إلى العورة الخاصة، والخمار. وإنما جاز لهن ذلك لانصراف الأنفس عنهن، إذ لا رغبة للرجال فيهن، فأباح الله سبحانه لهن ما لم يبحه لغيرهن. وعن ابن عباس في الآية قال: هي المرأة لا جناح عليها أن تجلس في بيتها بدرع وخمار، وتضع عنها الجلباب، ما لم تتبرج بما كرهه الله. وعنه أنه كان يقرأ أن يضعن من ثيابهن، ويقول: هو الجلباب، وعن ابن عمر قال: تضع الجلباب، وعن ابن مسعود مثله، وزاد الرداء، ثم استثنى حالة من حالاتهن فقال:
(غير متبرجات بزينة) أي غير مظهرات للزينة التي أمرن بإخفائها في قوله (ولا يبدين زينتهن) لينظر إليهن الرجال، أو زينة خفية كقلادة، وسوار وخلخال. والتبرج التكشف، والظهور للعيون والتكلف في إظهار ما يخفي وإظهار المرأة زينتها ومحاسنها للرجال، ومنه بروج مشيدة، وبروج السماء. ومنه قولهم سفينة بارجة أي لا غطاء عليها.
(وأن يستعففن) أي وأن يتركن وضع الثياب، ويطلبن العفة عنه، وقرئ بغير السين (خير لهن والله سميع عليم) أي كثير السماع، والعلم بليغهما.(9/264)
لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (61)
لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (61)
(ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج) اختلف أهل العلم في هذه الآية، هل هي محكمة أو منسوخة، قال بالأول جماعة من العلماء وبالثاني جماعة، قيل أن المسلمين كانوا إذا غزوا خلفوا زمناهم وكانوا يدفعون إليهم مفاتيح أبوابهم، ويقولون لهم. قد أحللنا لكم أن تأكلوا مما في بيوتنا، وكانوا يتحرجون من ذلك. وقالوا: لا ندخلها وهم غيب، فنزلت هذه الآية رخصة لهم، فمعنى الآية نفي الحرج عن الزمنى في أكلهم من بيوت أقاربهم، أو بيوت من يدفع إليهم المفتاح، إذا خرج للغزو قال النحاس: وهذا القول من أجل ما روى في الآية لما فيه عن الصحابة والتابعين من التوقيف، وقيل: إن هؤلاء المذكورين كانوا يتحرجون من مؤاكلة الأصحاء، حذاراً من استقذارهم إياهم، وخوفاً من تأذيهم بأفعالهم فنزلت.
وقيل: إن الله رفع الحرج عن الأعمى فيما يتعلق بالتكليف الذي يشترط فيه البصر، وعن الأعرج فيما يشترط في التكليف به القدرة الكاملة على المشي على وجه يتعذر الإتيان به مع العرج، وعن المريض فيما يؤثر المرض في(9/265)
إسقاطه، وقيل؛ المراد بهذا الحرج المدفوع عن هؤلاء، هو الحرج في الغزو أي لا حرج على هؤلاء في تأخرهم عن الغزو، وقيل: كان الرجل إذا أدخل أحداً من هؤلاء الزمنى إلى بيته، فلم يجد شيئاً يطعمهم إياه ذهب بهم إلى بيوت قرابته فيتحرج الزمنى من ذلك فنزلت.
وعن سعيد بن جبير قال: لما نزلت (يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل): قالت الأنصار: ما بالمدينة مال أعز من الطعام؟ كانوا يتحرجون أن يأكلوا مع الأعمى، يقولون: إنه لا يبصر موضع الطعام، وكانوا يتحرجون الأكل مع الأعرج، يقولون: إن الصحيح يسبقه إلى المكان، ولا يستطيع أن يزاحم. ويتحرجون الأكل مع المريض، يقولون لا يستطيع أن يأكل مثل الصحيح، وكانوا يتحرجون أن يأكلوا في بيوت أقاربهم، فنزلت ليس على الأعمى، يعني في الأكل مع الأعمى وعن مقسم نحوه.
وعن مجاهد قال: كان الرجل يذهب بالأعمى، أو الأعرج، أو المريض إلى بيت أمه أو بيت أخيه أو بيت عمه أو بيت عمته أو بيت خاله، أو بيت خالته فكان الزمنى يتحرجون من ذلك يقولون: إنما يذهبون بنا إلا بيوت غيرهم، فنزلت هذه الآية رخصة لهم، وعن عائشة قالت: كان المسلمون يرغبون في النفير مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فيدفعون مفاتيحهم إلى زمناهم، ويقولون لهم: قد أحللنا لكم أن تأكلوا مما احتجتم إليه، فكانوا يقولون: إنه لا يحل لنا أن نأكل إنهم أذنوا لنا من غير طيب نفس، وإنما نحن زمنى، فأنزل الله: (ولا على أنفسكم أن تأكلوا) إلى قوله (أو ما ملكتم مفاتحه) كما سيأتي.
وعن ابن عباس قال: لما نزلت (يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل) قال المسلمون: إن الله قد نهانا أن نأكل أموالنا بيننا(9/266)
بالباطل، والطعام هو أفضل الأموال، فلا يحل لأحد منا أن يأكل عند أحد، فكف الناس عن ذلك، فأنزل الله (ليس على الأعمى حرج)، إلى قوله (أو ما ملكتم مفاتحه) وهو الرجل يوكل الرجل بضيعته. والذي رخص الله أن يأكل من ذلك الطعام والتمر وشرب اللبن وكانوا أيضاً يتحرجون أن يأكل الرجل الطعام وحده حتى يكون معه غيره، فرخص الله لهم فقال ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعاً أو أشتاتاً.
وعن الضحاك قال: كان أهل المدينة قبل أن يبعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يخالطهم في طعامهم أعمى ولا مريض، ولا أعرج، لا يستطيع المزاحمة على الطعام فنزلت رخصة في مؤاكلهم، وعن الزهري أنه سئل عن قوله (ليس على الأعمى حرج)، ما بال الأعمى والأعرج والمريض ذكروا هنا؟ فقال: أخبرني عبيد الله بن عبد الله أن المسلمين كانوا إذا غزوا خلفوا زمناهم وكانوا يدفعون إليهم مفاتيح أبوابهم، يقولون: قد أحللنا لكم أن تأكلوا مما في بيوتنا، وكانوا يتحرجون من ذلك، يقولون لا ندخلها، وهم غيّب، فأنزل الله هذه الآية رخصة لهم.
(ولا على أنفسكم) أي عليكم، وعلى من يماثلكم من المؤمنين،
وهذا ابتداء كلام مستأنف، أي ولا عليكم أيها الناس، والحاصل أن رفع
الحرج عن الأعمى والأعرج، والمريض. إن كان باعتبار مؤاكلة الأصحاء،
أو دخول بيوتهم، فيكون ولا على أنفسكم متصلاً بما قبله، وإن كان رفع الحرج عن أولئك باعتبار التكاليف التي يشترط فيها وجود البصر، وعدم العرج، وعدم المرض، فقوله (ولا على أنفسكم)، ابتداء كلام غير متصل بما قبله.
(أن تأكلوا) أنتم ومن معكم (من بيوتكم) أي البيوت التي فيها متاعكم، وأهلكم، فيدخل بيوت الأولاد، وكذا قال المفسرون لأنها داخلة في(9/267)
بيوتهم، لكون بيت ابن الرجل بيته، فلذا لم يذكر سبحانه بيوت الأولاد وذكر بيوت الآباء، وبيوت الأمهات ومن بعدهم. قال النحاس، وعارض بعضهم هذا، فقال: هذا تحكم على كتاب الله سبحانه، بل الأولى في الظاهر أن يكون الإبن مخالفاً لهؤلاء، ويجاب عن هذه العارضة، بأن رتبة الأولاد بالنسبة إلى الآباء، لا تنقص عن رتبة الآباء بالنسبة إلى الأولاد، بل للآباء خصوصية في أموال الأولاد، لحديث أنت ومالك لأبيك، وحديث ولد الرجل من كسبه.
وقد ذكر سبحانه بيوت الإخوة والأخوات، بل بيوت الأعمام والعمات بل بيوت الأخوال والخالات، فكيف ينفي سبحانه الحرج عن الأكل من بيوت هؤلاء، ولا ينفيه عن بيوت الأولاد أو المعنى من بيوت أزواجكم، لأن بيت المرأة كبيت الزوج، ولأن الزوجين صارا كنفس واحدة، وقيل أراد من أموال عيالكم، والعموم أولى فيشمل الكل.
(أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ) وقد قيد بعض العلماء جواز الأكل من بيوت هؤلاء بالإذن منهم، لأن الإذن ثابت دلالة وقال آخرون: يشترط الإذن قيل هذا إذا كان الطعام مبذولاً، فإن كان محرزاً دونهم، لم يجز لهم كله قال الخطيب: وهؤلاء يكفي فيهم أدنى قرينة، بل ينبغي أن يشترط فيهم أن لا يعلم عدم الرضا بخلاف غيرهم من الأجانب، فلا بد فيهم من صريح الإذن أو قرينة قوية هذا ما ظهر لي، ولم أر من تعرض لذلك، ثم قال سبحانه:
(أو ما ملكتم مفاتحه) أي البيوت التي تملكون التصرف فيها. بإذن أربابها وذلك كالوكلاء، والخزان فيهم فإنهم يملكون التصرف في بيوت من أذن لهم بدخول بيته وإعطائهم مفتاحه، وقيل المراد بها بيوت المماليك، قرئ(9/268)
ملكتم بفتح الميم وتخفيف اللام وبضم الميم وكسر اللام مع تشديدها وقرئ مفاتيحه ومفتاحه على الإفراد، والمفاتح جمع مفتح، والمفاتيح جمع مفتاح.
(أو صديقكم) أي لا جناح عليكم أن تأكلوا من بيوت صديقكم، وإن لم يكن بينكم وبينه قرابة فإن الصديق في الغالب يسمح لصديقه بذلك وتطيب به نفسه والصديق يطلق على الواحد، والجمع ومثله العدو، والخليط والفطين والعشير قال قتادة: إذا دخلت بيت صديقك من غير مؤامرته. ثم أكلت من طعامه بغير إذنه لم يكن بذلك بأس. وعن ابن زيد قال: هذا شيء قد انقطع، إنما كان هذا في أوله، ولم يكن لهم أبواب، وكانت الستور مرخاة فربما دخل الرجل البيت، وليس فيه أحد فربما وجد الطعام، وهو جائع فسوغه الله أن يأكله، وقال: ذهب ذلك اليوم؛ البيوت فيها أهلها فإذا خرجوا أغلقوا.
قال النسفي: فأما الآن فقد غلب الشح على الناس. فلا يؤكل إلا بإذن، انتهى، قال المحلي: المعنى يجوز الأكل من بيوت من ذكر؛ وإن لم يحضروا أي الأصناف الأحد عشر. إذا علم رضاهم به بصريح اللفظ، أو بالقرينة وإن كانت ضعيفة، وخصوا هؤلاء بالذكر، لأن العادة جارية بالتبسط بينهم وقيل إن هذا كان جائزاً في صدر الإسلام ثم نسخ والأول أولى، ثم قال سبحانه
(وليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعاً أو أشتاتاً) أي مجتمعين أو مفترقين جمع شت، وهو المصدر بمعنى التفرق، يقال: شت القوم، أي: تفرقوا، وهذا كلام مستأنف مشتمل على بيان حكم آخر، من جنس ما قبله وقد كان بعض العرب يتحرج أن يأكل وحده، حتى يجد له أكيلاً يؤاكله فيأكل معه وبعض العرب كان لا يأكل إلا مع ضيف. قال قتادة: كان هذا الحي من بني كنانة بن خزيمة يرى أحدهم أن عليه مخزاة أن يأكل وحده، في(9/269)
الجاهلية، حتى إن كان الرجل يسوق الذود الحفل، وهو جائع، حتى يجد من يؤاكله، ويشاربه فأنزل الله هذه الآية.
وعن عكرمة وأبي صالح قالا: كانت الأنصار إذا نزل بهم الضيف لا يأكلون حتى يأكل الضيف معهم فنزلت رخصة لهم وعن ابن عباس قال: خرج الحرث غازياً مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخلف على أهله خالد بن يزيد فحرج أن يأكل من طعامه وكان مجهوداً فنزلت وقد ترجم البخاري في صحيحه باب قوله تعالى هذا، ومقصوده فيما قال أهل العلم في هذا الباب إباحة الأكل جميعاً وإن اختلفت أحوالهم في الأكل فقد سوغ النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك فصار سنة في الجماعات التي تدعى إلى الطعام في النهد والولائم والإملاق في السفر وما ملكت مفاتحه بأمانة أو قرابة أو صداقة فلك أن تأكل مع القريب أو الصديق ووحدك، والنهد ما يجمعه الرفقاء من مال أو طعام على قدر نفقتهم ينفقونه بينهم.
قال ابن دريد: يقال من ذلك تناهد القوم الشيء بينهم قال المزي وفي حديث الحسن: أخرجوا نهدكم فإنه أعظم للبركة وأحسن لأخلاقكم والنهد ما تخرجه الرفقة عند المناهدة وهو استقسام النفقة بالسوية بالسفر وغيره
(فإذا دخلتم بيوتاً) هذا شروع في بيان أدب آخر أدب به عباده أي إذا دخلتم بيوتاً غير البيوت التي تقدم ذكرها (فسلموا على أنفسكم) أي على أهلها الذين هم بمنزلة أنفسكم، وقيل المراد البيوت المذكورة سابقاً وعلى القول الأول فقال الحسن والنخعي: هي المساجد والمراد سلموا على من فيها من صنفكم فإن لم يكن في المساجد فقيل يقول: السلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقيل يقول السلام عليكم مر الملائكة، وقال بالقول الثاني أعني أنها البيوت المذكورة سابقاً جماعة من الصحابة والتابعين، وقيل المراد بالبيوت هنا كل البيوت المسكونة وغيرها فيسلم على أهل المسكونة.(9/270)
وأما غير المسكونة فيسلم على نفسه بأن يقول: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، قال ابن العربي: القول بالعموم في البيوت هو الصحيح ولا دليل على التخصيص، وأطلق القول ليدخل تحت هذا العموم كل بيت كان للغير أو لنفسه فإذا دخل بيتاً لغيره استأذن (تحية) أي فحيوا تحية ثابتة صادرة مشروعة.
(من عند الله) أي من جهته ومن لدنه يعني أن الله حياكم بها، وقال الفراء: إن الله أمركم أن تفعلوها طاعة له، ثم وصف هذه التحية فقال: (مباركة) أي كثيرة البركة والخير دائمتهما يثاب عليها (طيبة) أي تطيب بها نفس المستمع، وقيل حسنة جميلة، وقال الزجاج: أعلم الله سبحانه أن السلام مبارك طيب لما فيه من الأجر والثواب، قال ابن عباس في الآية: وهو السلام لأنه اسم الله وهو تحية أهل الجنة.
وعن جابر بن عبد الله قال: إذا دخلت على أهلك فسلم عليهم تحية من عند الله مباركة طيبة، أخرجه البخاري وغيره، وعن ابن عباس قال: هو المسجد إذا دخلته فقل السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، وعن ابن عمر قال: إذا دخلت البيت غير المسكون أو المسجد فقل: السلام الخ.
(كذلك يبين الله لكم الآيات) أي يفصل لكم معالم دينكم تأكيداً لما سبق، وقد قدمنا أن الإشارة بذلك إلى مصدر الفعل (لعلكم تعقلون) تعليل لذلك التبين برجاء يعقل آيات الله سبحانه وفهم معانيها.(9/271)
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (62) لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63) أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (64)(9/272)
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (62)
(إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله) مستأنفة مسوقة لتقرير ما تقدمها من الأحكام، وإنما من صيغ الحصر، والمعنى لا يتم إيمان ولا يكمل حتى يؤمن بالله ورسوله (وإذا كانوا معه) أي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو صلة ثانية ومحط الكمال (على أمر جامع) أي طاعة يجتمعون عليها نحو الجمعة والجماعة والنحر والفطر والجهاد أو تشاور في أمر وأشباه ذلك.
وسمى الأمر جامعاً مبالغة، وفيه إسناد مجازى لأن الأمر لما كان سبباً في جمعهم نسب الجمع إليه مجازاً، وقرئ على أمر جميع والحاصل أن الأمر الجامع والجميع هو الذي يعم نفعه أو ضرره وهو الأمر الجليل الذي يحتاج إلى اجتماع أهل الرأي والتجارب.
(لم يذهبوا) أي يتفرقوا عنه ولم ينصرفوا عما اجتمعوا له لعروض عذر لهم (حتى يستأذنوه) واعتبار هذا في كمال إيمانهم لأنه كالمصداق لصحته والمميز المخلص فيه عن المنافق، فإن ديدنه وعادته التسلل والفرار، ولتعظم الجرم في الذهاب عن مجلس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بغير إذنه.(9/272)
قال المفسرون: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا صعد المنبر يوم الجمعة وأراد الرجل أن يخرج من المسجد لحاجة أو لعذر لم يخرج حتى يقوم بحيال النبي صلى الله عليه وآله وسلم حيث يراه فيعرف أنه إنما قام ليستأذن فيأذن لمن يشاء منهم قال مجاهد: وإذن الإمام يوم الجمعة أن يشير بيده، قال الزجاج: أعلم الله أن المؤمنين إذا كانوا مع نبيهم فيما يحتاج فيه إلى الجماعة لم يذهبوا حتى يستأذنوه وكذلك ينبغي أن يكونوا مع الإمام لا يخالفونه ولا يرجعون عنه في جمع من جموعهم إلا بإذنه، وللإمام أن يأذن على ما يرى لقوله فأذن لمن شئت منهم قال العلماء: كل أمر اجتمع عليه المسلمون مع الإمام لا يخالفونه ولا يرجعون عنه إلا بإذن.
ثم قال سبحانه مؤكداً على أسلوب أبلغ ومعظماً لهذا الأمر
(إن الذين يستأذنونك أولئك الذين يؤمنون بالله ورسوله) فبين سبحانه أن المستأذنين هم المؤمنون بالله ورسوله، كما حكم أولاً بأن المؤمنين الكاملي الإيمان هم الجامعون بين الإيمان بهما وبين الاستئذان وأن الذاهب بغير إذن ليس كذلك.
(فإذا استأذنوك لبعض شأنهم) أي لأجل بعض الأمور التي يهمهم كما وقع لسيدنا عمر حين خرج مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في غزوة تبوك حيث استأذن الرسول في الرجوع إلى أهله فأذن له النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال له: ارجع فلست بمنافق (فأذن لمن شئت منهم) فإنه يأذن لمن شاء منهم ويمنع من شاء على حسب ما تقتضيه المصلحة التي يراها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفيه رفع شأنه - صلى الله عليه وسلم -.
واستدل به على أن بعض الأحكام مفوض إلى رأيه ومن منع ذلك قيد المشيئة بأن تكون تابعة لعلمه بصدقه، أي فأذن لمن علمت أن له عذراً، ثم أرشده الله سبحانه إلى الاستغفار لهم فقال:
(واستغفر لهم الله) بعد الإذن فيه إشارة إلى أن الاستئذان وإن كان لعذر مسوغ فلا يخلو عن شائبة تأثير أمر الدنيا على الآخرة، لأن اغتنام مجالسه(9/273)
أولى من الاستئذان (إن الله غفور رحيم) أي كثير المغفرة لفرطات العباد والرحمة بالتيسير عليهم، بالغ فيهما إلى الغاية التي ليس وراءها غاية.(9/274)
لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63)
(لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضاً) مستأنفة مقررة لما قبلها أي لا تجعلوا دعوته إياكم كالدعاء من بعضكم لبعض في التساهل في بعض الأحوال عن الإجابة بل أجيبوه فوراً وإن كنتم في الصلاة أو الرجوع بعير استئذان أو رفع الصوت وقال سعيد بن جبير ومجاهد: المعنى قولوا يا رسول الله برفق ولين ولا تقولوا يا محمد بتجهم وعلى هذا جماعة كثيرة وقال قتادة: أمرهم أن يشرفوه ويفخموه، وقيل المعنى لا تتعرضوا الدعاء الرسول عليكم بإسخاطه فإن دعوته موجبة.
وقيل: المعنى يجب عليكم المبادرة لأمره، واختاره أبو العباس، ويؤيده قوله: (فليحذر الذين يخالفون عن أمره) وقيل معناه لا تجعلوا دعاء الرسول ربه مثل ما يدعو صغيركم، وكبيركم وفقيركم، وغنيكم، يسأله حاجة، فربما تجاب دعوته وربما لا تجاب فإن دعوات الرسول مسموعة مستجابة، وعن سعيد بن جبير في الآية قال: يعني كدعاء أحدكم إذا دعا أخاه باسمه، ولكن وقروه، وقولوا له: يا رسول الله؛ يا نبي الله، قال: لا تصيحوا به من بعيد: يا أبا القاسم!! ولكن كما قال الله في الحجرات: (إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله)، والأول أولى.
(قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذاً) أي: يخرجون وينسلون من المسجد في الخطبة واحداً بعد واحد، من غير استئذان، خفية مستترين بشيء، و (قد) للتحقيق، والتسلل: الخروج من البين في خفية. يقال: تسلل فلان من بين أصحابه، إذا خرج من بينهم، واللواذ من الملاوذة، وهو أن تستر بشيء مخافة من يراك؛ وأصله أن يلوذ هذا بذاك وذاك بهذا واللوذ ما يطيف بالجبل، وقيل اللواذ الروغان من شيء إلى شيء في خفية، أي(9/274)
متلاوذين، يلوذ بعضهم ببعض، وينضم إليه، وقيل: يلوذون لواذاً، وقرئ: لَوَاذ بفتح اللام.
وفي الآية بيان ما كان يقع من المنافقين، فإنهم كانوا يتسللون عن صلاة الجمعة متلاوذين ينضم بعضهم إلى بعض استتاراً من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقد كان يوم الجمعة أثقل يوم على المنافقين لما يرون من الاجتماع للصلاة والخطبة، فكانوا يفرون عن الحضور ويتسللون في خفية، ويستتر بعضهم ببعض، وينضم إليه وقيل اللواذ الفرار من الجهاد، وبه قال الحسن عن مقاتل قال: كان لا يخرج أحد لرعاف أو إحداث حتى يستأذن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، يشير إليه بأصبعه التي تلي الإبهام، فيأذن له النبي صلى الله عليه وآله وسلم يشير إليه بيده. وكان من المنافقين من يثقل عليه الخطبة، والجلوس في المسجد فكان إذا استأذن رجل من المسلمين قام المنافق إلى جنبه يستر به حتى يخرج، فأنزل الله هذه الآية، أخرجه أبو داود في مراسيله.
(فليحذر الذين يخالفون عن أمره) الفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها أي: يخالفون أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بترك العمل بمقتضاه، ويذهبون سمتاً خلاف سمته، وعُدِّيَ فعل المخالفة بعن، مع كونه متعدياً بنفسه لتضمينه، معنى الإعراض، أو الصد. وقيل الضمير لله سبحانه لأنه الآمر بالحقيقة. قال أبو عبيدة والأخفش (عن) زائدة هنا، وقال الخليل وسيبويه: ليست بزائدة، بل هي بمعنى: بعد كقوله: (ففسق عن أمر ربه)، أي: بعد أمر ربه، والأولى ما ذكرناه من التضمين.
(أن تصيبهم فتنة) أي: فليحذر المخالفون عن أمر الله، أو أمر رسوله، أو أمرهما جميعاً إصابة فتنة لهم، والفتنة هنا غير مقيدة بنوع من أنواع الفتن، وقيل: هي القتل. وقيل: الزلازل. وقيل: تسلط سلطان جائر. وقيل: الطبع على قلوبهم. وقيل: إسباغ النعم استدراجاً، أو محنة في الدنيا.(9/275)
(أو يصيبهم عذاب أليم) أي: في الآخرة، كما أن الفتنة التي حذرهم من إصابتها لهم هي في الدنيا، وكلمة (أو) لمنع الخلو، قال القرطبي: احتج الفقهاء على أن الأمر للوجوب بهذه الآية، ووجه ذلك أن الله سبحانه حذرهم من مخالفة أمره، وتوعد بالعقاب عليها، بقوله: (أن تصيبهم فتنة) الآية، فيجب امتثال أمره، ويحرم مخالفته، والآية تشمل كل من خالف أمر الله، وأمر رسوله.(9/276)
أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (64)
(ألا إن لله) تنبيه على أن لا يخالفوا أمر من له (ما في السماوات والأرض) من المخلوقات بأسرها فهي ملكه، وخلقه وعبيده (قد يعلم ما أنتم عليه) أيها العباد من الأحوال التي أنتم عليها، فيجازيكم بحسب ذلك، ويعلم هاهنا بمعنى علم، وأدخل قد ليؤكد علمه بما هم عليه من المخالفة عن الدين الحق، ويرجع توكيد العلم إلى توكيد الوعيد.
(ويوم) أي ويعلم يوم (يرجعون إليه) فيجازيهم فيه بما عملوا، وفيه التفات عن الخطاب، وتعليق علمه سبحانه بيوم الرجوع لا بنفس رجوعهم لزيادة تحقق علمه، لأن العلم بوقت وقوع الشيء يستلزم العلم بوقوعه على أبلغ وجه (فينبئهم بما عملوا) من الأعمال التي من جملتها مخالفة الأمر، والظاهر من السياق أن هذا الوعيد للمنافقين.
(والله بكل شيء عليم) لا يخفى عليه شيء من أعمالهم وغيرها، عن عقبة بن عامر قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهو يقرأ هذه الآية في خاتمة سورة النور، وهو جاعل أصبعيه تحت عينيه. يقول: بكل شيء بصير، أخرجه الطبراني وغيره. قال السيوطي بسند حسن.(9/276)
سورة الفرقان
(سبع وسبعون آية)
وهي مكية كلها في قول الجمهور، نزلت قبل الهجرة، وبه قال ابن الزبير وقال القرطبي وقال ابن عباس وقتادة: إلا ثلاث آيات منها، فإنها نزلت بالمدينة وهي (وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ) الآيات.
وأخرج البخاري ومسلم ومالك والشافعي وابن حبان والبيهقي في سننه عن عمر بن الخطاب، قال: سمعت هشام بن حكيم يقرأ سورة الفرقان في حياة رسول الله صلى الله وعليه وآله وسلم، فاستمعت لقراءته. فإذا هو يقرأ على حروف كثيرة لم يقرئه بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فكدت أساوره في الصلاة، فتصبرت حتى سلم، فلببته بردائه. فقلت: من أقرأك هذه السورة التي سمعتك تقرأ؟ قال: أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقلت: كذبت، فإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد أقرأنيها على غير ما قرأت: فانطلقت به أقوده إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقلت: إني سمعت هذا يقرأ سورة الفرقان على حروف لم تقرأنيها؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " أرسله، اقرأ يا هشام "، فقرأ عليه القراءة التي سمعته يقرأ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " كذلك أنزلت "، ثم قال: أقرأ يا عمر، فقرأت القراءة التي أقرأني، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " كذلك أنزلت، إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف، فاقرؤا ما تيسر منه " (1).
_________
(1) مسلم 818 - البخاري 1195.(9/277)
بسم الله الرحمن الرحيم
تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا (1) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا (2) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا (3) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا (4) وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (5)(9/279)
تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا (1)
(تبارك الذي نزّل الفرقان) تكلم سبحانه في هذه السورة على التوحيد لأنه أقدم وأهم، ثم في النبوة لأنها الواسطة ثم في المعاد، لأنه الخاتمة وأصل تبارك مأخوذ من البركة. وهي النماء والزيادة. حسيّة كانت أو عقلية. قال الزجاج: تبارك تفاعل من البركة، وبه قال ابن عباس، قال: ومعنى البركة الكثرة من كل ذي خير، وقال الفراء: إن تبارك وتقدس في العربية واحد. ومعناهما العظمة. وقيل المعنى تبارك عطاؤه، أي زاد وكثر، وقيل دام وثبت.
قال النحاس: وهذا أولاها في اللغة، والاشتقاق من برك الشيء إذا ثبت، ومنه برك الجمل، أي دام وثبت، واعترض ما قاله الفراء بأن التقديس إنما هو من الطهارة، وليس من ذا في شيء. قال العلماء: هذه اللفظة لا تستعمل إلا لله سبحانه، ولا تستعمل إلا بلفظ الماضي. والمعنى تعالى الله عما سواه في ذاته وصفاته، وأفعاله التي من جملتها تنزيل القرآن الكريم المعجز الناطق بعلو شأنه تعالى، وسمو صفاته، وابتناء أفعاله على أساس الحكم والمصالح، وخلوها عن شائبة الخلل بالكلية، والفرقان القرآن وسمي فرقاناً لأنه يفرق بين الحق والباطل بأحكامه أو بين المحقِّ والمبطل.(9/279)
قال قتادة: هو القرآن فيه حلاله وحرامه وشرائعه ودينه وقيل لأنه نزل مفرقاً في أوقات كثيرة، ولهذا قال: (نزّل) بالتشديد لتكثير التفريق.
(على عبده) محمد - صلى الله عليه وسلم - ثم علل التنزيل بقوله، (ليكون للعالمين نذيراً) فإن النذارة هي الغرض المقصود من الإنزال والمراد بالعالمين هنا الإنس والجن لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسل إليهما، قال المحلي: دون الملائكة، ولم يكن غيره من الأنبياء على نبينا وعليهم الصلاة والسلام مرسلاً إلى الثقلين.
والنذير المنذر أي ليكون محمد - صلى الله عليه وسلم - منذراً أي وبشيراً أو ليكون إنزال القرآن منذراً أو ليكون إنزاله إنذاراً أو ليكون محمد - صلى الله عليه وسلم - إنذاراً وجعل الضمير للنبي - صلى الله عليه وسلم - أولى، لأن صدور الإنذار منه حقيقة ومن القرآن مجاز.
والحمل على الحقيقة أولى، أو لكونه أقرب مذكور قال قتادة: بعث الله محمداً - صلى الله عليه وسلم - نذيراً من الله لينذر الناس بأس الله، ووقائعه بمن خلا قبلكم.
وقيل إِنّ رجوع الضمير إلى الفرقان أولى لقوله تعالى: (إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم. ويصح رجوعه للمنزِّل وهو الله وقوله (للعالمين) متعلق بـ (نذيراً) قدم عليه لرعاية الفاصلة. ثم إنه سبحانه وصف ذاته الكريمة بصفات أربع.
الأولى:(9/280)
الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا (2)
(الذي له ملك السماوات والأرض) دون غيره لا استقلالاً، ولا تبعاً فهو المتصرف فيهما، وفيه تنبيه على افتقار الكل إليه في الوجود وتوابعه من البقاء وغيره.
(و) الصفة الثانية: (لم يتخذ ولداً) فيه رد على اليهود والنصارى.
(و): (لم يكن له شريك في الملك) فيه رد على طوائف(9/280)
المشركين من الثنوية والوثنية وعباد الأصنام، وأهل الشرك الخفي. فأثبت له الملك بجميع وجوهه، ثم نفى ما يقوم مقامه فيه، ثم نبه على ما يدل عليه فقال.
(وخلق كل شيء) من الموجودات مما تطلق عليه صفة المخلوق، وهي الصفة الرابعة: (فقدره تقديراً) أي قدر كل شيء مما خلق بحكمته، على ما أراده وهيأه لما يصلح له، وسواه تسوية لا اعوجاج فيه، ولا زيادة على ما تقتضيه الحكمة والمصلحة ولا نقصاً عن ذلك في بأبي الدنيا والدين. وقيل: أحلله إحداثاً مراعى فيه التقدير حسب إرادته، كخلقه الإنسان من مواد مخصوصة وصور وأشكال معينة، فقدره وهيأه لما أراد منه، من الخصائص والأفعال أو فقدره للبقاء إلى أجل مسمى.
قال قتادة: بيّن الله لكل شيء من خلقه صلاحه وجعل ذلك بقدر معلوم. قال الواحدي: قال المفسرون: قدر له تقديراً من الأجل والرزق فجرت المقادير على ما خلق، وقيل أريد بالخلق هنا مجرد الإحداث والإيجاد مجازاً من غير ملاحظة معنى التقدير، وإن لم يخل عنه في نفس الأمر، فيكون المعنى أوجد كل شيء فقدره، لئلا يلزم التكرار هذا أوضح دليل على المعتزلة في خلق أفعال العباد، ثم صرح سبحانه في تزييف مذاهب عبدة الأوثان فقال:(9/281)
وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا (3)
(واتخذوا من دونه) الضمير للكفار، أو المنذرين أو للمشركين، وإن لم يتقدم لهم ذكر لدلالة العالمين، ونفي الشريك، والنذير عليهم أي اتخذ المشركون لأنفسهم متجاوزين الله (آلهة) قال قتادة: هي الأوثان التي تعبد من دون الله (لا يخلقون شيئاً) أي لا يقدرون على خلق شيء من الأشياء وغلب العقلاء على غيرهم لأن في معبودات الكفار الملائكة وعزيراً والمسيح.
(وهم يخلقون) أي يخلقهم الله سبحانه قال قتادة: أي هو الله الخالق(9/281)
الرازق وهذه الأوثان تُخْلَقَ ولا تَخْلُق شيئاً ولا تضر ولا تنفع، وقيل عبر عن الآلهة بضمير العقلاء جرياً على اعتقاد الكفار أنها تضر وتنفع، وقيل المعنى عبدتهم يصورونهم وينحتونهم، ثم لما وصف سبحانه نفسه الكريمة بالقدرة الباهرة وصف الآلهة المشركين بالعجز البالغ فقال:
(ولا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً) أي لا يقدرون على أن يجلبوا لأنفسهم نفعاً ولا يدفعوا عنها ضرراً، وقدم ذكر الضر لأن دفعه أهم من جلب النفع، وإذا كانوا بحيث لا يقدرون على الدفع والنفع فيما يتعلق بأنفسهم فكيف يملكون ذلك لمن يعبدهم وهذا يدل على غاية عجزهم، ونهاية ضعفهم، ثم زاد في بيان عجزهم فنص على هذه الأمور فقال:
(ولا يملكون موتاً ولا حياة ولا نشوراً) أي لا يقدرون على إماتة الأحياء، ولا إحياء الموتى، ولا بعثهم من القبور، لأن النشور هو الإحياء بعد الموت، يقال: أنشر الله الموتى، فنشروا. وقدم الموت لمناسبته للضر المتقدم ولما فرغ سبحانه من بيان التوحيد وتزييف مذاهب المشركين، شرع في ذكر شبه منكري النبوة، فالشبهة الأولى ما حكاه عنه بقوله:(9/282)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا (4)
(وقال الذين كفروا) أي مشركو العرب (إن هذا) أي ما هذا القرآن (إلا إفك) أي كذب (افتراه) أي اختلقه محمد - صلى الله عليه وسلم - (وأعانه عليه) أي على الاختلاق (قوم آخرون) يعنون من اليهود قيل وهم أبو فكيهة يسار مولى الحضرمي، وعداس مولى حويطب بن عبد العزى، وجبر مولى ابن عامر، وكان هؤلاء الثلاثة من اليهود، وقد مر الكلام على مثل هذا في سورة النحل، ثم رد الله سبحانه عليهم فقال:
(فقد جاؤوا ظلماً وزوراً) أي فقد قالوا ظلماً هائلاً عظيماً وكذباً ظاهراً، والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها لكن لا على أنهما أمران متغايران حقيقة(9/282)
بل على أن الثاني هو عين الأول حقيقة، وإنما الترتب بحسب التغاير الاعتباري و (قد) لتحقيق ما جاؤوا به من الظلم والزور، وانتصاب (ظلماً) جاؤوا فإن (قد) لتحقيق ما جاؤوا به من الظلم والزور، وانتصاب (ظلماً) بجاؤوا فإن جاء قد تستعمل استعمال أتى، وتعدى تعديته، وقال الزجاج: الأصل جاؤوا بظلم، وقيل على الحال، وإنما كان ذلك منهم ظلماً لأنهم نسبوا القبيح إلى من هو مبرأ منه. فقد وضعوا الشيء في غير موضعه، وهذا هو الظلم.
وقيل هو جعل الكلام المعجز إفكاً مختلقاً متلفقاً من اليهود، وأما كون ذلك منهم زوراً فظاهر لأنهم قد كذبوا في هذه المقالة، ثم ذكر الشبهه الثانية فقال:(9/283)
وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (5)
(وقالوا أساطير الأولين) أي أحاديثهم، وما سطروه من الأخبار مثل خبر رستم وإسفنديار. قال الزجاج: واحد الأساطير أسطورة، مثل أحاديث وأحدوثة، وقال غيره: جمع أسطار، مثل أقاويل وأقوال (اكتتبها) أي استكتبها أو كتبها لنفسه، أو المعنى جمعها من الكتب، وهو الجمع لأمر الكتابة بالقلم، والأول أولى. ومحل اكتتبها النصب على الحال، أو الرفع على أنه خبر ثان. وقرئ اكتتبها مبنياً للمفعول والمعنى اكتتبها له كاتب، لأنه كان أمياً لا يكتب ولا يقرأ.
(فهي تملى عليه) أي تلقى عليه تلك الأساطير بعد ما اكتتبها ليحفظها من أفواه من يمليها عليه من ذلك المكتتب. لكونه أمياً لا يقدر على أن يقرأها من ذلك المكتوب بنفسه. أو المعنى أراد اكتتابها فهي تملي عليه لأنه يقال أمليت عليه فهو يكتب (بكرة وأصيلاً) أي غدوة وعشياً، كأنهم قالوا: إن هؤلاء يعلمون محمداً - صلى الله عليه وسلم -، طرفي النهار، وقيل معنى بكرة وأصيلاً دائماً في جميع الأوقات فأجاب الله سبحانه عن هذه الشبهة بقوله:(9/283)
قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (6) وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا (7) أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (8) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (9) تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا (10) بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا (11)(9/284)
قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (6)
(قل أنزله الذي يعلم السر في السماوات والأرض) أي ليس ذلك مما يفترى، ويفتعل، بإعانة قوم وكتابة آخرين من الأحاديث الملفقة وأخبار الأولين بل هو أمر سماوي أنزله الذي يعلم كل شيء لا يغيب عنه شيء من الأشياء فلهذا عجزتم عن معارضته ولم تأتوا بسورة مثله، وخص السر للإشارة إلى انطواء ما أنزله سبحانه على أسرار بديعة، لا يبلغ إليها عقول البشر، والسر: الغيب، أي يعلم الغيب الكائن فيهما.
(إنه كان غفوراً رحيماً) تعليل لتأخير العقوبة أي: إنكم، وإن كنتم مستحقين لتعجيل العقوبة بما تفعلونه من الكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والظلم له فإنه لا يعجل عليكم بذلك لأنه كثير المغفرة والرحمة، ثم لما فرغ سبحانه من ذكر ما طعنوا به على القرآن، ذكر ما طعنوا به على الرسول - صلى الله عليه وسلم - فقال:(9/284)
وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا (7)
(وقالوا مال هذا الرسول)؟ في الإشارة هنا تصغير لشأن المشار إليه، وهو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسموه رسولاً استهزاء وسخرية، وحاصل ما ذكر هنا ستة قبائح، والأخيرة هي قوله (إلا رجلاً مسحوراً) وقد ردّ الله عليهم هذه الستة إجمالاً في البعض، وتفصيلاً في البعض، والمعنى، أي شيء. وأي سبب حصل، لهذا الذي يدعى الرسالة حال كونه (يأكل الطعام) كما نأكله.(9/284)
(ويمشي في الأسواق) ويتردد فيها لطلب المعاش كما نتردد، زعموا أنه كان يجب أن يكون الرسول ملكاً مستغنياً عن الطعام، والكسب، والاستفهام للإنكار، وهو يرجع إلى السبب مع تحقق المسبب، وهو الأكل والمشي، ولكنه استبعد تحقق ذلك لانتفاء سببه عندهم، تهكماً واستهزاء، والمعنى: أنه إن صح ما يدعيه من النبوة فما باله يخالف حاله حالنا؟ (لولا) للتحضيض، هذا ما استظهره ابن هشام، بعد نقله عن الهروي أنها للاستفهام أي: هلا.
(أنزل إليه ملك فيكون معه نذيراً) طلبوا أن يكون النبي مصحوباً بملك. يعضده ويساعده، تنزلوا عن اقتراح كون الرسول ملكاً، مستغنياً عن الأكل والكسب، إلى اقتراح أن يكون معه ملك يصدقه، ويشهد له بالرسالة(9/285)
أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (8)
(أو يلقى إليه كنز) تنزلوا من مرتبة نزول الملك معه إلى اقتراح أن يكون معه كنز يلقى إليه من السماء، ليستغني به عن طلب الرزق.
(أو تكون له جنة يأكل منها) قرأ الجمهور بالفوقية، وقرئ بالتحتية لأن تأنيث الجنة غير حقيقي، وقرئ نأكل بالنون، أي: بستان نأكل نحن من ثماره، وبالتحتية، أي: يأكل هو وحده منه، ليكون له بذلك مزية علينا، حيث يكون أكله من جنته: قال النحاس: والقراءتان حسنتان، وإن كانت القراءة بالياء أبين، لأنه قد تقدم ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - وحده، فعود الضمير إليه أبين.
عن ابن عباس قال: إن عتبة بن ربيعة وأبا سفيان بن حرب، والنضر ابن الحرث، وأبا البختري والأسود بن عبد المطلب، وزمعة بن الأسود، والوليد بن المغيرة، وأبا جهل بن هشام، وعبد الله بن أبي أمية، وأمية بن خلف، والعاص بن وائل، ومنبه بن الحجاج، اجتمعوا فقال بعضهم لبعض: ابعثوا إلى محمد وكلموه، وخاصموه، حتى تعذروا منه، فبعثوا إليه، إن أشراف قومك قد اجتمعوا لك ليكلموك.
قال: فجاءهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: يا محمد، إنا بعثنا إليك لنعذر(9/285)
منك، فإن كنت إنما جئت بهذا الحديث تطلب به مالاً، جمعنا لك من أموالنا، وإن كنت تطلب به الشرف. فنحن نسودك، وإن كنت تريد به ملكاً ملكناك فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " ما بي مما تقولون ما جئتكم بما جئتكم به أطلب أموالكم! ولا الشرف فيكم! ولا الملك عليكم، ولكن الله بعثني إليكم رسولاً وأنزل عليّ كتاباً، وأمرني أن أكون لكم بشيراً ونذيراً، فبلغتكم رسالة ربي، ونصحت لكم، فإن تقبلوا مني ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردوه علي أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم " قالوا: يا محمد فإن كنت غير قابل منا شيئاً مما عرضنا عليك، أو قالوا: فإذا لم تفعل هذا، فسل نفسك، وسل ربك، أن يبعث معك ملكاً يصدقك، بما تقول، ويراجعنا عنك، وسله أن يجعل لك جناناً، وقصوراً، من ذهب وفضة، يغنيك عما نراك تبتغي، فإنك تقوم بالأسواق، وتلتمس المعاش، كما نلتمسه، حتى نعرف فضلك، ومنزلتك من ربك، إن كنت رسولاً، كما تزعم.
فقال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " ما أنا بفاعل، ما أنا بالذي يسأل ربه هذا، وما بعثت إليكم بهذا، ولكن الله بعثني بشيراً ونذيراً " فأنزل الله في ذلك هذه الآية أخرجه ابن إسحاق، وابن جرير، وابن المنذر.
(وقال الظالمون) المراد بهم هنا هم القائلون بالمقالات الأول، وإنما وضع الظاهر موضع المضمر مع الوصف بالظلم للتسجيل عليهم به: (إن تتبعون إلا رجلاً مسحوراً) أي مخدوعاً مغلوباً على عقله بالسحر، وقيل ذا سحر، وهي الرئة، أي: بشراً له رئة لا ملكاً، فالمراد بالسحر هنا لازمه، وهو اختلال العقل وقد تقدم بيان مثل هذا في سبحان.(9/286)
انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (9)
(انظر كيف) استعظام للأباطيل التي اجترؤا على التفوه بها، وتعجب منها أي: أنظر كيف (ضربوا لك الأمثال) وقالوا: في حقك تلك الأقاويل العجيبة الخارجة عن العقول، الجارية مجرى الأمثال واخترعوا لك تلك الصفات، والأحوال الشاذة، البعيدة من الوقوع، ليتوصلوا بها إلى تكذيبك والأمثال هي الأقوال النادرة، والاقتراحات الغريبة، وهي ما ذكروه هاهنا من(9/286)
المفتري، والمملى عليه، والمسحور.
(فضلوا) عن الصواب، فلا يجدون طريقاً إليه، ولا وصلوا إلى شيء منه، بل جاؤوا بهذه المقالات الزائفة، التي لا تصدر عن أدنى العقلاء، وأقلهم تمييزاً، ولهذا قال (فلا يستطيعون سبيلاً) يعني لا يجدون إلى القدح في نبوة هذا النبي طريقاً من الطرق.(9/287)
تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا (10)
(تبارك) أي تكاثر خير (الذي إن شاء جعل لك) في الدنيا معجلاً (خيراً من ذلك) الذي اقترحوه من الكنز والبستان، ثم فسر الخير فقال (جنات تجري من تحتها الأنهار) أي في الدنيا لأنه تعالى شاء أن يعطيه إياها في الآخرة (ويجعل لك قصوراً) قد تقرر في علم الإعراب أن الشرط إذا كان ماضياً جاز في جوابه الجزم والرفع فجعل هاهنا في محل جزم ورفع فيجوز فيما عطف عليه أن يجزم كما قرأ الجمهور، وأن يرفع كما قرأ ابن كثير، والقصر البيت من الحجارة، لأن الساكن به مقصور عن أن يوصل إليه. وقيل هو بيت الطين. وبيوت الصوف، والشعر.
عن خيثمة قال: قيل للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: إن شئت أعطيناك من خزائن الأرض ومفاتيحها ما لم يعط نبي قبلك، ولا نعطيها أحداً بعدك، ولا ينقصك ذلك مما لك عند الله شيئاً وإن شئت جمعتها لك في الآخرة، فقال: " اجمعوها لي في الآخرة " فأنزل الله سبحانه هذه الآية أخرجه الفريابي وابن أبي شيبة وابن جرير وغيرهم. ثم أضرب الله سبحانه عن توبيخهم بما حكاه عنهم من الكلام الذي لا يصدر عن العقلاء فقال:(9/287)
بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا (11)
(بل كذبوا بالساعة) أي: بل أتوا بأعجب من ذلك كله، وهو تكذيبهم بالساعة، فلهذا لا ينتفعون بالدلائل، ولا يتأملون فيها، ثم ذكر سبحانه ما أعده لمن كذب بالساعة فقال (وأعتدنا) أي: والحال إنا أعتدنا، وهيأنا وخلقنا (لمن كذب بالساعة سعيراً) قال أبو مسلم: أي جعلناه عتيداً، ومعداً لهم، انتهى. والسعير هي النار المتسعرة المشتعلة، والنار موجودة اليوم(9/287)
إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا (12) وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا (13) لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا (14) قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرًا (15) لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولًا (16)
لهذه الآية، كما أن الجنة كذلك لقوله تعالى (أعدت للمتقين) ووضع الساعة موضع ضميرها للمبالغة في التشنيع وإعداد السعير لهم وإن لم يكن لخصوص تكذيبهم بالساعة بل لأي تكذيب بشيء من الشريعة، لكن الساعة لما كانت هي العلة القريبة لدخولهم السعير، اقتصر على ترتيب الإعداد على التكذيب بها.(9/288)
إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا (12)
(إذا رأتهم) قيل: معناها إذا ظهرت لهم فكانت بمرأى الناظر في البعد، وقيل: المعنى إذا رأتهم خزنتها وقيل: إن الرؤية هنا حقيقية وكذلك التغيظ والزفير، ولا مانع من أن يجعلها الله سبحانه مدركة هذا الإدراك، وهو الأرجح ومعنى (من مكان بعيد) أنها رأتهم وهي بعيدة عنهم، قيل: بينها وبينهم مسيرة خمسمائة عام، وقيل: عام.
وعن ابن عباس قال: من مسيرة مائة عام، وذلك إذا أتى بجهنم تقاد بسبعين ألف زمام، يشد بكل زمام سبعون ألف ملك لو تركت لأتت على كل بر وفاجر، فترى تزفر زفرة لا تبقى قطرة من دمع إلا بدت، ثم تزفر الثانية فتقطع القلوب من أماكنها، وتبلغ القلوب الحناجر.
وعن رجل من الصحابة قال: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: " من يقل عليّ ما لم أقل، أو ادعى إلى غير والديه أو انتمى إلى غير مواليه فليتبوأ بين عيني جهنم مقعداً "، قيل: يا رسول الله وهل لها من عينين؟ قال: " نعم أما سمعتم الله يقول: (إذا رأتهم من مكان بعيد)؟ " أخرجه عبد بن حميد(9/288)
وابن جرير من طريق خالد بن دريك ونحوه عند رزين في كتابه وصححه ابن العربي في قبسه، وله لفظ بمعناه.
وأخرج الترمذي من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " يخرج عنق من النار يوم القيامة له عينان يبصران، وأذنان تسمعان ولسان ينطق، يقول: إني وكلت بثلاث بكل جبار عنيد، وبكل من دعا مع الله إلهاً آخر. وبالمصورين " (1) وفي الباب عن أبي سعيد قال أبو عيسى هذا حديث حسن غريب صحيح.
(سمعوا لها تغيظاً) أي: غلياناً كالغضبان إذا غلى صدره من الغضب، يعني: إن لها صوتاً يدل على التغيظ على الكفار أو لغليانها صوتاً يشبه صوت المغتاط. (وزفيراً) الصوت، أي سمعوا لها صوتاً يشبه صوت المتغيظ وقال قطرب: أراد علموا لها تغيظاً، وسمعوا لها زمراً، وقيل المعنى فيها تغيظاً، وزفيراً للمعذبين، كما قال لهم فيها زفير وشهيق، وفي واللام، متقاربان بأن تقول هذا الله وفي الله
_________
(1) الترمذي كتاب جهنم باب 1 - الإمام أحمد 2/ 336 - 3/ 40.(9/289)
وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا (13)
(وإذا ألقوا منها) أي طرحوا (مكاناً ضيقاً) وصف المكان بالضيق للدلالة على زيادة الشدة، وتناهي البلاد عليهم.
وعن يحيى بن أسيد أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، لما سئل عن هذه الآية قال: " والذي نفسي بيده إنهم ليستكرهون في النار، كما يستكره الوتد في الحائط " وعن ابن عباس " أنه يضيق عليهم كما يضيق الزج في الرمح "
(مقرنين) أي حال كونهم قد قرنت أيديهم إلى أعناقهم بالجوامع مصفدين بالحديد. وقيل: مكتفين. وقيل قرنوا مع الشياطين، أي قرن كل واحد منهم إلى شيطانه، وقد تقدم الكلام على مثل هذا في سورة إبراهيم (دعوا هنالك) أي في ذلك المكان الضيق (ثبوراً) أي هلاكاً، كما قال الزجاج، وقال ابن عباس: ثبوراً، أي ويلاً. وقيل ثبرنا ثبوراً وقيل مفعول(9/289)
له، والمعنى أنهم يتمنون هنالك الهلاك، وينادونه لما حل بهم من البلاء، ويقولون يا ثبوراه. أي إحضر، فهذا أوانك، لكنهم لا يهلكون. وأجيب عليهم بقوله:(9/290)
لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا (14)
(لا تدعوا اليوم ثبوراً واحداً) والقائل لهم هم الملائكة خزنة جهنم، أي اتركوا دعاء ثبوراً واحداً (وادعوا ثبوراً كثيراً) والثبور مصدر يقع على القليل والكثير، فلهذا لم يجمع، ومثله ضربته ضرباً كثيراً، وقعد قعوداً طويلاً، فالكثرة هاهنا هي بحسب كثرة الدعاء المتعلق به، لا بحسب كثرته في نفسه، فإنه شيء واحد، والمعنى لا تدعوا على أنفسكم بالثبور دعاء واحداً، وادعوه أدعية كثيرة. فإن ما أنتم فيه من العذاب أشد من ذلك لطول مدته وعدم تناهيه. وقيل هذا تمثيل وتصوير لحالهم بحال من يقال له ذلك من غير أن يكون هناك قول وهو خلاف ظاهر القرآن.
وقيل إن المعنى أنكم وقعتم فيما ليس ثبوركم فيه واحداً، بل هو ثبور كثير لأن العذاب أنواع كثيرة، كل نوع منها ثبور لشدته أو لأنه يتجدد لقوله تعالى (كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلوداً غيرها ليذوقوا العذاب) أو لأنه ينقطع فهو في كل وقت ثبور، والأولى أن المراد بهذا الجواب عليهم الدلالة على خلود عذابهم وإقناطهم عن حصول ما يتمنونه من الهلاك المنجي لهم مما هم فيه.
أخرج أحمد، والبزار والبيهقي، وغيرهم قال السيوطي بسند صحيح عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " إن أول ما يكسى حلته من النار إبليس فيضعها على حاجبيه ويسحبها من خلفه، وذريته من بعده، وهو ينادي يا ثبوراه، ويقولون: يا ثبورهم. حتى يقف على الناس، فيقول: يا ثبوراه ويقولون: يا ثبورهم، فيقال لهم لا تدعوا اليوم ثبوراً واحداً، وادعوا ثبوراً كثيراً (1) " ثم وبخهم الله سبحانه توبيخاً بالغاً، على لسان رسوله فقال:
_________
(1) الإمام أحمد 3/ 152 - 3/ 153 - 3/ 249.(9/290)
قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرًا (15)
(قل أذلك) أي السعير المتصفة بتلك الصفات العظيمة (خير أم جنة الخلد) وفي إضافة الجنة إلى الخلد إشعار بدوام نعيمها. وعدم انقطاعه. والمجيء بلفظ (خير) هنا مع أنه لا خير في النار أصلاً لأن العرب قد تقول ذلك. ومنه ما حكاه سيبويه عنهم، أنهم يقولون: السعادة أحب إليك أم الشقاوة؟ وقد علم أن السعادة أحب إليه. وقيل ليس هذا من باب التفضيل، وإنما هو كقولك عنده خير قال النحاس وهذا قول حسن.
(التي وعد) أي وعدها (المتقون) فالراجع إلى الموصول محذوف ثم قال سبحانه (كانت) أي تلك الجنة (لهم) أي للمتقين (جزاء) على أعمالهم (ومصيراً) يصيرون إليه وهذا في علم الله، أو في اللوح المحفوظ قبل خلقهم بأزمنة متطاولة، أو قال ذلك لأن ما وعد الله به فهو في تحققه كأنه قد كان.(9/291)
لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولًا (16)
(لهم فيها) أي في الجنة (ما يشاءون) أي ما يشاؤونه من النعم، وضروب الملاذ كما في قوله ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم. ولعله تقصر همم كل طائفة على ما يليق برتبتها، لأن الظاهر أن الناقص لا يدرك شيئاً مما هو للكامل بالتشهي، وفيه تنبيه على أن كل المرادات لا تحصل إلا في الجنة، قال الشهاب: وإنه تعالى لا يلقي في خواطرهم أن ينالوا رتبة من هو أشرف منهم، ولا يتلفتوا إلى حال غيرهم (خالدين) أي في نعيم الجنة ومن تمام النعيم أن يكون دائماً إذ لو انقطع لكان مشوباً بضرب من الغم وقد تقدم تحقيق معنى الخلود.
(كان) أي ما يشاؤونه، وقيل كان الخلود وقيل الوعد المدلول عليه وبقوله (وعد المتقون) (على ربك وعداً مسؤولاً) أي الوعد الحقيقي بأن يسئل وبطلب كما في قوله (ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك)، وقيل إن الملائكة تسأل لهم الجنة كقوله (وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم) وقيل المراد به الوعد الواجب وإن لم يسأل، وقال ابن عباس: يقول تعالى سلوا الذي وعدتكم تنجزوه.(9/291)
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (17) قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا (18) فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلَا نَصْرًا وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا (19) وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا (20)(9/292)
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (17)
(ويوم يحشرهم) أي اذكر، وتعليق التذكير باليوم، مع أن المقصود ذكر ما فيه للمبالغة والتأكيد، كما مر مراراً (وما يعبدون من دون الله) غلب غير العقلاء من الأصنام والأوثان ونحوها على العقلاء من الملائكة والجن والمسيح تنبيهاً على أنها جميعاً مشتركة في كونها غير صالحة لكونها آلهة، أو لأن من يعبد من لا يعقل. أكثر ممن يعبد من يعقل منها. فغلبت اعتباراً بكثرة من يعبدها، وقال مجاهد، وابن جريج: المراد الملائكة والإنس والجن، والمسيح وعزير بدليل خطابهم وجوابهم فيما بعد، وقال الضحاك وعكرمة والكلبي: المراد الأصنام خاصة، وأنها وإن كانت لا تسمع ولا تتكلم، فإن الله سبحانه يجعلها يوم القيامة سامعة ناطقة، وقيل عام و (ما) يتناول العقلاء وغيرهم؛ لأنه أريد به الوصف كأنه قيل ومعبوديهم.
(فيقول) الله تعالى إثباتاً للحجة على العابدين؛ وتقريعاً وتبكيتاً لهم (أأنتم أضللتم عبادي هؤلاء) الاستفهام للتوبيخ والتقريع، والمعنى أن كان ضلالهم بسببكم؛ وبدعوتكم لهم إلى عبادتكم (أم هم ضلوا السبيل) أي طريق الحق بأنفسهم لعدم التفكر فيما يستدل به على الحق والتدبّر فيما يتوصل به إلى الصواب(9/292)
قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا (18)
(قالوا) أي المعبودون مستأنفة جواب سؤال مقدر، ومعنى(9/292)
(سبحانك) التعجب مما قيل لهم، لكونهم ملائكة. أو أنبياء معصومين، أو جمادات لا تعقل، أي تنزيهاً لك.
(ما كان ينبغي) وقرئ مبنياً للمفعول قال ابن خالويه: زعم سيبويه أنها لغة، أي ما صح ولا استقام (لنا أن نتخذ من دونك) أي متجاوزين إياك (من أولياء) فنعبدهم فكيف ندعو عبادك إلى عبادتنا نحن مع كوننا لا نعبد غيرك، والولي يطلق على التابع كما يطلق على المتبوع، هذا معنى الآية على قراءة الجمهور (نتخذ) مبيناً للفاعل وقرئ مبنياً للمفعول. والمعنى أن يتخذنا المشركون أولياء من دونك، وقال أبو عبيدة: لا تجوز هذه القراءة وبه قال أبو عمرو بن العلاء، وعيس بن عمر؛ لأنه سبحانه ذكر (من) مرتين، ولو كانت صحيحة لقال أن نتخذ من دونك أولياء أي لحذفت من الثانية، وقيل إنها زائدة، ثم حكى عنهم سبحانه بأنهم بعد هذا الجواب ذكروا سبب ترك المشركين للإيمان فقال:
(ولكن متعتهم وآباءهم حتى نسوا الذكر) وفي هذا ما يدل على أنهم هم الذين ضلوا السبيل، ولم يضلهم غيرهم، والمعنى ما أضللناهم؛ ولكنك يا رب متعتهم ومتعت آباءهم بالنعم، ووسعت عليهم الرزق، وأطلت لهم العمر، حتى غفلوا عن ذكرك، ونسوا موعظتك، والتدبر لكتابك والنظر في عجائب صنعك، وغرائب مخلوقاتك؛ وجعلوا ذلك ذريعة إلى ضلالهم؛ عكس القضية؛ وقيل المراد بنسيان الذكر هاهنا، هو ترك الشكر.
(وكانوا) هؤلاء الذين أشركوا بك، وعبدوا غيرك في قضائك الأزلي (قوماً بوراً) أي هلكى، قاله ابن عباس مأخوذ من البوار، وهو الهلاك يقال رجل بائر. وقوم بور؛ يستوي فيه الواحد والجماعة. لأنه مصدر يطلق على القليل والكثير، أو جمع بائر، وقيل البوار الفساد، يقال: بارت بضاعته أي فسدت، وأمر بائر، أي فاسد، وهي لغة الأزد. وقيل المعنى الأخير فيهم مأخوذ من بوار الأرض، وهو تعطيلها من الزرع، فلا يكون فيها خير، وقيل إن(9/293)
البوار الكساد. ومنه بارت السلعة إذا كسدت، وهذا كله يرجع إلى معنى الهلاك والفساد ثم يقال للكفار بطريق الخطاب عدولاً عن الغيبة.(9/294)
فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلَا نَصْرًا وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا (19)
(فقد كذبوكم) وفي الكلام حذف، والتقدير فقال الله عند تبري المعبودين مخاطباً للمشركين العابدين لغير الله فقد كذبكم المعبودون، وقرئ مخففاً أي كذبوكم في قولهم (مما تقولون) أي في قولكم أنهم آلهة وهذه المفاجأة بالاحتجاج والإلزام حسنة رائعة، وخاصة إذا انضم إليها الالتفات، وحذف القول، ونظيرها (يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل)، إلى قوله (فقد جاءكم بشير ونذير) وقول القائل:
قالوا خراسان أقصى ما يراد بنا ... ثم القفول فقد جئنا خراسانا
وقال ابن زيد: المعنى قد كذبوكم أيها المؤمنون، هؤلاء الكفار بما جاء به محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعلى هذا فمعنى بما تقولون: بما تقولونه من الحق وقرئ فقد كذبوكم مخففاً، وبما يقولون بالتحتية أي كذبوكم في قولهم.
(فما تستطيعون) أيها الكفار (صرفاً) أي دفعاً للعذاب عنكم بوجه من الوجوه وقيل حيلة (ولا نصراً) أي نصركم، وقرئ بالتحتية فالمعنى فما يستطيع آلهتكم أن يصرفوا عنكم العذاب أو ينصروكم، وقيل المعنى فما يستطيع هؤلاء الكفار لما كذبهم المعبودون صرفاً للعذاب الذي عذبهم الله به ولا نصراً من الله وقال أبو عبيد: المعنى فما يستطيعون لكم صرفاً عن الحق الذي هداكم الله إليه ولا نصراً لأنفسهم بما ينزل بهم من العذاب بتكذيبهم إياكم (ومن يظلم منكم نذقه عذاباً كبيراً) هذا وعيد لكل ظالم ويدخل تحتهم الذين فيهم السياق دخولاً أولياً، والعذاب الكبير عذاب النار، وفسر الخلود فيها، وهو يليق بالمشرك دون الفاسق إلا على قول المعتزلة والخوارج.
وقرئ يذقه بالتحتية وهذه الآية وأمثالها مقيدة بعدم التوبة، وعن الحسن قال: الظلم هو الشرك، وقال ابن جريج: يظلم يشرك ثم يرجع سبحانه إلى(9/294)
خطاب رسوله موضحاً لبطلان ما تقدم من قولهم يأكل الطعام ويمشي في الأسواق فقال:(9/295)
وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا (20)
(وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق) قال الزجاج: الجملة الواقعة بعد إلا صفة لموصوف محذوف والمعنى ما أرسلنا قبلك أحداً منهم إلا آكلين وماشين فأنت مثلهم في ذلك وقد قيل لهم مثل ما قيل لك، وقال الفراء: لا محل لها من الإعراب إنما هي صلة لموصول محذوف والتقدير إلا من أنهم كما في قوله (إلا واردها) أي إلا من يردها، وبه قال الكسائي وقال الزجاج: هذا خطأ لأن من الموصولة لا يجوز حذفها، وقال ابن الأنباري: التقدير إلا وإنهم، وقرئ إنهم بكسر إن لوجود اللام في خبرها وهو مجمع عليه عند النحاة. وقال المبرد: يجوز فيه الفتح، قال النحاس: وأحسبه وهماً. وقرئ يمشون مخففاً ومثقلاً. قال قتادة: يقول إن الرسل قبل محمد - صلى الله عليه وسلم - كانوا بهذه المنزلة يأكلون ويمشون.
(وجعلنا بعضكم لبعض فتنة) هذا الخطاب عام للناس، وفيه تسلية له - صلى الله عليه وسلم - أيضاً، فإنه أشرف الأشراف، وقد ابتلى بأخس الأخساء، وقد جعل سبحانه بعض عبيده فتنة لبعض، فالصحيح فتنة للمريض، والغني فتنة للفقير، وقيل المراد بالبعض الأول كفار الأمم، وبالبعض الثاني الرسل، ومعنى الفتنة الابتلاء، والمحنة. والأول أولى، فإن البعض من الناس ممتحن بالبعض مبتلى به فالمريض يقول لِمَ لم أجعل كالصحيح؟ وكذا صاحب كل آفة، والصحيح مبتلى بالمريض، فلا يضجر منه ولا يحقره، والغني مبتلى بالفقير يواسيه، والفقير مبتلى بالغنى يحسده، ونحوه هذا مثله.
وقيل المراد بالآية أنه كان إذا أراد الشريف أن يسلم، ورأى الوضيع قد أسلم قبله، أنف وقال: لا أسلم بعده فيكون له على السابقة والفضل! فيقيم على كفره. فذلك افتتان بعضهم ببعض، واختار هذا الفراء والزجاج ولا وجه لقصر الآية على هذا، فإن هؤلاء إن كانوا سبب النزول فالاعتبار بعموم(9/295)
اللفظ لا بخصوص السبب. وقال الحسن: في الآية يقول الفقير لو شاء الله جعلني غنياً مثل فلان، ويقول السقيم: لو شاء الله لجعلني صحيحاً مثل فلان ويقول الأعمى: لو شاء الله لجعلني بصيراً مثل فلان.
وعن أبي الدرداء أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: " ويل للعالم من الجاهل وويل للجاهل من العالم، وويل للمالك من المملوك، وويل للمملوك من المالك، وويل للشديد من الضعيف وويل للضعيف من الشديد، وويل للسلطان من الرعية، وويل للرعية من السلطان بعضكم لبعض فتنة، وهو قوله تعالى (وجعلنا بعضكم لبعض فتنة) (1) " أسنده الثعلبي ثم قال سبحانه بعد الإخبار بجعل البعض فتنة للبعض:
(أتصبرون) هذا الاستفهام للتقرير والتقدير: أتصبرون على ما ترون من هذه الحالة الشديدة والابتلاء العظيم فتؤجروا أم لا تصبرون فيزداد غمكم، وعليه جرى الأكثرون وقيل: معنى أتصبرون اصبروا مثل قوله (فهل أنتم منتهون) أي انتهوا، روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: " انظروا إلى من هو أسفل منكم ولا تنظروا إلى من هو فوقكم فهو أجدر أن لا تزدروا نعمة الله عليكم (2) " ثم وعد الله الصابرين بقوله:
(وكان ربك بصيراً) أي بكل من يصبر ومن لا يصبر فيجازي كُلاًّ منهما بما يستحقه (وقال الذين لا يرجون لقاءنا) هذه المقالة من جملة شبههم التي قدحوا بها في النبوة أي وقال: المشركون الذين لا يبالون بلقاء الله وقيل المعنى لا يخافون لقاء ربهم بالشر، وهي لغة تهامة، وأصل اللقاء الوصول إلى الشيء ومنه الرؤية فإنها وصول إلى المرئي، والمراد به الوصول إلى جزائه، ويمكن أن يراد به الرؤية على الأول، قال الفراء: وضع الرجاء موضع الخوف. وقيل: لا يأملون لقاءنا بالخير لكفرهم بالبعث والحمل على المعنى الحقيقي أولى
_________
(1) الأحاديث الضعيفة 6154 - 6155، من حديثين حتى ويل للمملوك من المالك.
(2) مسلم 2963 - البخاري 2434.(9/296)