ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ (48)
(ثم يأتي من بعد ذلك) السبع السنين المخصبة (سبع شداد) أي سبع سنين مجدبة ممحلة شديدة يصعب أمرها على الناس وهي تأويل السبع العجاف والسبع اليابسات.
(يأكلن ما قدمتم لهن) من تلك الحبوب المتروكة في سنابلها في السنين المخصبات، وإسناد الأكل إلى السنين مجازي تطبيقاً بين المعبر والمعبر به كما في نهاره صائم.(6/348)
وفيه تلويح بأنه تأويل الأكل العجاف السمان واللام في لهن ترشيح لذلك فكأن ما ادخر في السنابل من الحبوب شيء قد هيء وقدم لهن كالذي يقدم للنازل وإلا فهو في الحقيقة مقدم للناس فيهن والمعنى يأكل الناس فيهن أو يأكل أهلهن ما قدمتم أي ما أدخرتم لهن (إلا قليلا مما تحصنون) أي مما تحبسون من الحب لتزرعوا به لأن في استيفاء البذر تحصين الأقوات.
وقال أبو عبيدة: معناه تحرزون وقيل تدخرون وقيل تخزنون والمعنى واحد والإحصان الإحراز وهو إبقاء الشيء في الحصن بحيث يحفظ ولا يضيع، أخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عكرمة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لقد عجبت من يوسف عليه السلام وكرمه وصبره والله يغفر له حين سئل عن البقرات العجاف والسمان ولو كنت مكانه ما أخبرتهم حتى اشترط عليهم أن يخرجوني ولقد عجبت من يوسف عليه السلام وصبره وكرمه والله يغفر له حين أتاه الرسول ولو كنت مكانه لبادرتهم الباب ولكنه أراد أن يكون له العذر " (1)
_________
(1) وهو حديث مرسل وقد أورده ابن كثير في تفسيره 2/ 481.(6/349)
ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49) وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (50) قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (51) ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ (52) وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (53)(6/350)
ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49)
(ثم يأتي من بعد ذلك) السنين المجدبات (عام) سنة وهذه بشارة منه لهم زائدة على تعبير الرؤيا ولعله علم ذلك بالوحي أو بأن انتهاء الجدب بالخصب على العادة الإلهية حيث يوسع على عباده بعد تضييقه عليهم (فيه يغاث الناس) من الإغاثة أو الغوث وهو الفرج وزوال الهم والكرب والغيث المطر وقد غاث الغيث الأرض أي أصابها وغاث الله البلاد يغيثها غوثاً أمطرها فمعنى يغاث الناس يمطرون.
(وفيه يعصرون) الأشياء التي تعصر كالعنب والسمسم والزيتون، وقيل أراد حلب الألبان، وقيل معناه ينجون مأخوذ من العصرة وهي المنجاة، قال أبو عبيدة: والعصر بالتحريك الملجأ والمنجى واعتصرت بفلان التجأت به وقرئ بتاء الخطاب ويعصرون بضم الياء وفتح الصاد ومعناه يمطرون ومنه قوله تعالى (وأنزلنا من المعصرات ماء ثجاجاً) قال ابن عباس: يصيبهم فيه غيث يعصرون فيه العنب والزبيب ومن كل الثمرات ويحتلبون وعنه قال: أخبرهم بشيء لم يسألوه عنه كان الله قد علمه إياه وفيه يعصرون السمسم دهناً والعنب خمراً والزيتون زيتاً والمراد كثرة الخير والنعم على الناس وكثرة الخصب في الزرع والثمار.(6/350)
وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (50)
(وقال الملك) في الكلام حذف قبل هذا والتقدير فذهب الرسول إلى الملك فأخبره بما أخبره به يوسف عليه السلام من تعبير الرؤيا وقال الملك لمن بحضرته (أئتوني به) أي بيوسف عليه السلام رغب إلى رؤيته ومعرفة حاله بعد أن علم بفضله ما علمه من وصف الرسول له ومن تعبيره لرؤياه (فلما جاءه) أي إلى يوسف عليه السلام (الرسول) واستدعاه إلى حضرة الملك وأمره بالخروج من السجن وهذه هي المرة الثانية من مجيء الرسول إليه في السجن.
(قال) يوسف عليه السلام للرسول قاصداً إظهار براءته (ارجع إلى ربك) أي سيدك (فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن) أمره بأن يسأل الملك عن ذلك وتوقف عن الخروج من السجن ولم يسارع إلى إجابة الملك ليظهر للناس براءة ساحته ونزاهة جانبه وأنه ظلم بكيد امرأة العزيز ظلماً بيناً. قال ابن عباس: أراد يوسف عليه السلام العذر قبل أن يخرج من السجن ولقد أعطى عليه السلام من الحلم والصبر والإناة ما تضيق الأذهان عن تصوره.
ولهذا ثبت في الصحيح من قوله صلى الله عليه وسلم: (ولو لبثت في السجن ما لبث يوسف عليه السلام لأجبت الداعي) (1) يعني الرسول الذي جاء يدعوه إلى الملك، قال ابن عطية: كان هذا الفعل من يوسف عليه السلام أناة وصبراً وطلباً لبراءة ساحته وذلك أنه خشي أن يخرج وينال من الملك مرتبة ويسكت عن أمر ذنبه فيراه الناس بتلك العين يقولون هذا الذي راود امرأة العزيز.
وفيه دليل على أن الاجتهاد في نفي التهم واجب وجوب اتقاء الوقوف في مواقفها وإنما قال فاسأله ما بال النسوة وسكت عن امرأة العزيز رعاية لذمام الملك العزيز أو خوفاً منه من كيدها وعظم شرها وذكر السؤال عن تقطيع الأيدي ولم يذكر مراودتهن له تنزيهاً منه عن نسبة ذلك إليهن ولذلك لم ينسب
_________
(1) مسلم 151 - البخاري 1593.(6/351)
المراودة فيما تقدم إلى امرأة العزيز إلا بعد أن رمته بدائها وانسلت وقد اكتفى هنا بالإشارة الإجمالية بقوله:
(إن ربي بكيدهن عليم) فجعل علم الله سبحانه بما وقع عليه من الكيد منهن مغنياً عن التصريح وقيل المراد بالرب هنا الملك وجعله رباً لنفسه لكونه مربياً له والأول أولى وفيه تعظيم كيدهن والوعيد لهن على كيدهن.(6/352)
قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (51)
(قال ما خطبكن إذ روادتن يوسف عن نفسه) مستأنفة كأنه قيل فماذا قال الملك بعد أن أبلغه الرسول ما قال يوسف عليه السلام والخطب الشأن العظيم الذي يحق له أن يخاطب فيه صاحبه خاصة وإنما يخطب في الأمور العظام قال الأزهري: تقول هذا خطب جليل وخطب يسير والمعنى ما شأنكن وكانت النسوة أربعين كما تقدم وقد تقدم معنى المراودة وإنما نسب إليهن المراودة لأن كل واحدة منهن وقع منها ذلك كما تقدم.
ومن جملة من شمله خطاب الملك امرأة العزيز أو أراد بنسبة ذلك إليهن وقوعه منهن في الجملة كما كان من امرأة العزيز تحاشياً عن التصريح منه بنسبة ذلك إليها لكونها امرأة وزيره وهو العزيز فأجبن عليه بقولهن (قلن حاش لله) أي معاذ الله تنزيهاً له عن أن يتصف بالعجز عن خلق بشر عفيف مثل هذا.
(ما علمنا عليه من سوء) أي من أمر سيء ينسب إليه من خيانة في شيء من الأشياء وغير ذلك ولما علمت زليخا أن هذه المناظرات والتفحصات إنما هي بسببها فعند ذلك كشفت الغطاء وصرحت بما هو الواقع.
و (قالت امرأة العزيز) منزهة لجانبه مقرة على نفسه بالمراودة له (الآن حصحص الحق) أي تبين وظهر بعد خفائه وأصله حص فقيل حصحص كما قيل في كبوا كبكبوا قاله الزجاج، واصل الحص استئصال الشيء يقال حص(6/352)
شعره إذا استأصله والمعنى أنه انقطع الحق عن الباطل بظهوره وبيانه، وقيل هو مشتق من الحصة والمعنى بانت حصة الباطل.
قال الخليل: معناه ظهر الحق بعد خفائه، وقال ابن عباس: تبين، وعن مجاهد وقتادة والضحاك وابن زيد والسدي مثله.
ثم لما علمت أن يوسف عليه السلام راعى جانبها حيث قال: ما بال النسوة ولم يذكرها مع أن الفتن كلها إنما نشأت من جهتها، كافأته على ذلك باعترافها بأن الذنب منها وأوضحت ذلك بقولها (أنا روادته عن نفسه) ولم تقع منه المراودة لي أصلاً (وإنه لمن الصادقين) فيما قاله من تنزيه نفسه ونسبة المراودة إليها وأرادت بالآن زمان تكلمها بهذا الكلام فأخبر الرسول يوسف عليه السلام بجواب النسوة المذكورة فقال(6/353)
ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ (52)
(ذلك) أي الحادثة الواقعة منه وهي تثبته وتأنيه، ذهب أكثر المفسرين إلى أن هذا الكلام من كلام يوسف عليه السلام.
قال الفراء: ولا يبعد وصل كلام إنسان بكلام إنسان آخر إذا دلت القرينة الصارفة لكل منهما إلى ما يليق به. وهذه هي المرة الثالثة من مرات مجيء الرسول ليوسف عليه السلام في السجن، والمعنى فعلت ذلك (ليعلم) العزيز (أني لم أخنه) في أهله (بالغيب) والمعنى بظهر الغيب، أي وهو غائب عني أو وأنا غائب عنه. قال الزمخشري: أي مكان الغيب وهو الخفاء والاستتار وراء الأبواب السبعة المغلقة.
قيل أنه قال ذلك وهو في السجن بعد أن أخبره الرسول بما قالته النسوة وما قالته امرأة العزيز، وقيل أنه قال ذلك وقد صار عند الملك والأول أولى. وذهب الأقلون من المفسرين إلى إن هذا كلام امرأة العزيز، والمعنى ذلك القول الذي قلته في تنزيهه والإقرار على نفسي بالمراودة ليعلم يوسف عليه السلام إني لم أخنه فأنسب إليه ما لم يكن منه وهو غائب عني أو أنا غائبة عنه.(6/353)
(وأن الله لا يهدي كيد الخائنين) أي لا يثبته ولا ينفذه ولا يمضيه ولا يسدده، أو لا يهديهم في كيدهم حتى يوقعوه على وجه يكون له ما يثبت به ويدوم وإذا كان من قول يوسف عليه السلام ففيه تعريض بامرأة العزيز حيث وقع منه الكيد له والخيانة لزوجها، وتعريض بالعزيز حيث ساعدها على حبسه بعد أن علم براءته ونزاهته، ولعل المراد منه إني لو كنت خائناً لما خلصني الله من هذه الورطة، وحيث خلصني منها ظهر إني كنت بريئاً مما نسبوني إليه، ثم تواضع لله تعالى وتبارك فقال:(6/354)
وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (53)
(وما أبرئ نفسي) وهذا إن كان من كلام يوسف عليه السلام فهو من باب الهضم للنفس وعدم التزكية لها مع أنه قد علم هو وغيره من الناس أنه بريء وظهر ذلك ظهور الشمس وأقرت به المرأة التي ادعت عليه الباطل، ونزهته النسوة اللاتي قطعن أيديهن، وإن كان من كلام امرأة العزيز فهو واقع على الحقيقة لأنها قد أقرت بالذنب واعترفت بالمراودة وبالافتراء على يوسف عليه السلام.
وقد قيل أن هذا من قول العزيز وهو بعيد جداً، ومعناه وما أُبرّئ نفسي من سوء الظن بيوسف عليه السلام والمساعدة على حبسه بعد أن علمت برائته.
(إن النفس لأمارة بالسوء) أي إن هذا الجنس من الأنفس البشرية شأنه الأمر بالسوء لميله إلى الشهوات وتأثيرها بالطبع وصعوبة قهرها وكفها عن ذلك (إلا ما رحم ربي) أي إلا من رحم من النفوس فعصمها عن أن تكون أمارة بالسوء أو إلا وقت رحمة ربي وعصمته لها.
وقيل الاستثناء منقطع والمعنى لكن رحمة ربي هي التي تكفها عن أن تكون أمارة بالسوء (إن ربي غفور رحيم) تعليل لما قبلها. أي إن من شأنه كثرة المغفرة لعباده والرحمة لهم.(6/354)
وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ (54) قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55) وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (56) وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (57) وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (58) وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (59)(6/355)
وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ (54)
(وقال الملك ائتوني به أستخلصه لنفسي) الملك هو الريان بن الوليد لا العزيز كما تقدم، والمعنى أجعله خالصاً لي دون غيري وقد كان قبل ذلك خالصاً للعزيز، والاستخلاص طلب خلوص الشيء من شوائب الشركه. قال ذلك لما كان يوسف عليه السلام نفيساً، وعادة الملوك أن يجعلوا الأشياء النفيسة خالصة لهم دون غيرهم.
قال ابن عباس: فأتاه الرسول فقال: ألق عنك ثياب السجن والبس ثياباً جدداً وقم إلى الملك، فدعا له أهل السجن ودعا لهم وهو يومئذ ابن ثلاثين سنة، فلما أتاه رآه غلاماً حدثا فقال: أيعلم هذا رؤياي ولم يعلمها السحرة والكهنة، واقعده قدامه وقال: لا تخف، وألبسه طوقاً من ذهب، وثياب حرير، وإعطاه دابة مسروجة مزينة كدابة الملك وضرب الطبل بمصر أن يوسف عليه السلام خليفة الملك.
وعنه قال: قال الملك ليوسف عليه السلام إني أحب إن تخالطني في كل شيء إلا في أهلي وأنا آنف إن تأكل معي، فغضب يوسف عليه السلام فقال: أنا أحق أن آنف أنا ابن إبراهيم خليل الله وأنا ابن إسحاق ذبيح الله وأنا ابن يعقوب نبي الله، وهذه هي المرة الرابعة من مجيء الرسول ليوسف عليه السلام في السجن.(6/355)
(فلما كلمه) في الكلام حذف وتقديره فأتوه به فلما كلمه أي الملك يوسف عليه السلام ويحتمل أن يكون المعنى فلما كلم يوسف عليه السلام الملك، قيل والأول أولى لأن مجالس الملوك لا يتكلم فيها ابتداء إلا هم دون من يدخل عليهم، وقيل الثاني الأولى لقول الملك (قال إنك اليوم لدينا مكين أمين) فإن هذا يفيد أنه لما تكلم يوسف عليه السلام في الملك جاء بما حببه إلى الملك وقربه من قلبه فقال له هذه المقالة، ومعنى مكين أمين ذو مكانة وأمانة بحيث يتمكن مما يريده من الملك يأمنه الملك على ما يطلع عليه من أمره أو على ما يكله إليه من ذلك.
وقيل المكانة المنزلة والجاه، والمعنى قد عرفنا أمانتك ومنزلتك وصدقك وبراءتك مما نُسِبَ إليك، ومكين كلمة جامعة لكل ما يحتاج إليه من الفضائل والمناقب في أمر الدين والدنيا واليوم ليس بمعيار لمدة المكانة والأمانة بل هو آن التكلم، والمراد تحديد مبدئهما احترازاً عن احتمال كونهما بعد حين.
قيل أنه لما وصل إلى الملك أجلسه على سريره وقال له: إني أحب أن أسمع تأويل رؤياي منك، فعبرها له بأكمل بيان وأتم عبارة، فلما سمع الملك منه ذلك قال له: إنك اليوم لدينا مكين أمين.
فلما سمع يوسف عليه السلام منه ذلك(6/356)
قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55)
(قال اجعلني على خزائن الأرض) أي ولني أمر الأرض التي أمرها إليك، وهي أرض مصر، أو اجعلني على حفظ خزائن الأرض وهي الأمكنة التي تخزن فيها الأموال والطعام، جمع خزينة وهي اسم للمكان الذي يخزن فيه الشيء، طلب يوسف عليه السلام منه ذلك ليتوصل به إلى نشر العدل، ورفع الظلم ويتوسل به إلى دعاء أهل مصر إلى الإيمان بالله وترك عبادة الأوثان.
وفيه دليل على أنه يجوز لمن وثق من نفسه إذا دخل في أمر من أمور السلطان أن يرفع منار الحق ويهدم ما أمكنه من الباطل أن يطلب ذلك(6/356)
لنفسه، ويجوز له أن يصف نفسه بالأوصاف التي لها ترغيباً فيما يرومه وتنشيطاً لمن يخاطبه من الملوك بإلقاء مقاليد الأمور إليه وجعلها منوطة به.
ولكنه يعارض هذا الجواز ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم من النهي عن طلب الولاية والمنع من توليه من طلبه أو حرص عليها، وكان يوسف عليه السلام طلبه ابتغاء لوجه الله لا لحب الملك والدنيا وبهذا يجمع بينهما.
(إني حفيظ) وهو الذي يحفظ الشيء أي إني حفيظ لما جعلته إليّ من حفظ الأموال لا أخرجها في غير مخارجها ولا أصرفها في غير مصارفها (عليم) بوجوه جمعها وتفريقها ومدخلها ومخرجها ومصالحها.
عن شيبة بن نعامة الضبي قال: يقول اجعلني على جميع الطعام إني حفيظ لما استودعتني عليم بسنين المجاعة. وقيل حفيظ لما استودعتني عليم لما وليتني، وقيل حفيظ للحساب عليم أعلم لغة من يأتيني.(6/357)
وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (56)
(وكذلك) أي مثل ذلك التمكين العجيب (مكنا ليوسف) أي جعلنا له مكاناً (في الأرض) أي أرض مصر. روي أنها كانت أربعين فرسخا في أربعين والتمكين عبارة عن كمال قدرته ونفوذ أمره ونهيه حتى لا ينازعه منازع فيما يراه ويختاره وصار الملك يصدر عن رأيه ولا يعترض عليه في كل ما رأى وكان في حكم التابع وصار الناس يعملون على أمره ونهيه.
(يتبوأ منها حيث يشاء) أي ينزل منها حيث أراد بعد الضيق والحبس ويتخذه مباءة وهو عبارة عن كمال قدرته كما تقدم وكأنه يتصرف في الأرض التي أمرها إلى سلطان مصر كما يتصرف الرجل في منزله، وفي القصة إن الملك توَّجَهُ وختمه وولاه مكان العزيز وعزله فمات بعد، فزوجه امرأته فوجدها عذراء وولدت له ولدين وأقام العدل بمصر ودانت له الرقاب. قاله السيوطي.(6/357)
وعن ابن زيد أن يوسف عليه السلام تزوج امرأة العزيز فوجدها بكراً، وكان زوجها عنيناً، وقد استدل بهذه الآية على أنه يجوز تولي الأعمال من جهة السلطان الجائر بل الكافر لمن وثق من نفسه بالقيام بالحق، وقد قدمنا الكلام مستوفى على هذا في قوله سبحانه (ولا تركنوا إلى الذين ظلموا) قال مجاهد: ولم يزل يوسف عليه السلام يدعو الملك إلى الإسلام ويتلطف به حتى أسلم الملك وكثير من الناس فذلك قوله (وكذلك مكنا) الخ.
(نصيب برحمتنا من نشاء) من العباد فنرحمه في الدنيا بالإحسان إليه والإنعام عليه وفي الآخرة بإدخاله الجنة وانجائه من النار (ولا نضيع أجر المحسنين) في أعمالهم الحسنة التي هي مطلوبنا منهم، أي لا نضيع ثوابهم فيها ومجازاتهم عليها.(6/358)
وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (57)
(ولأجر الآخرة) أي أجرهم في الآخرة، وأضيف الأجر إلى الآخرة للملابسة واللام للقسم وأجرهم هو الجزاء الذي يجازيهم الله به فيها وهو الجنة التي لا ينفذ نعيمها ولا تنقضي مدتها.
(خير للذين آمنوا) بالله (وكانوا يتقون) الوقوع فيما حرمه عليهم، والمراد بهم المحسنون الذين تقدم ذكرهم، وفيه تنبيه على أن الإحسان المعتد به هو الإيمان والتقوى، وفي الكلام إظهار في مقام الإضمار للتوصل إلى وصفهم بالأيمان والتقوى بعد وصفهم بالإحسان.(6/358)
وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (58)
(وجاء إخوة يوسف) أي جاءوا إلى مصر من أرض كنعان ليمتاروا لما أصابهم القحط وكانوا عشرة، وكان مسكنهم بالعربات من أرض فلسطين، والعربات ثغور الشام وكانوا أهل بادية وشياه.
(فدخلوا عليه) أي على يوسف عليه السلام وهو في مجلس ولايته (فعرفهم) لقوة(6/358)
فهمه وعدم مباينة أحوالهم السابقة لحالهم يومئذ لأنه فارقهم رجالاً قيل بأول نظرة نظر إليهم عرفهم، وقيل لم يعرفهم حتى تعرفوا إليه. قاله الحسن والأول أولى وهو ظاهر النظم القرآني، وبه قال ابن عباس ومجاهد.
(وهم له منكرون) لم يعرفوه لأنهم فارقوه صبياً يباع بالدراهم في أيدي السيارة بعد أن أخرجوه من الجب، ودخلوا عليه الآن وهو رجل عليه أبهة الملك ورونق الرياسة وعنده الخدم والحشم، وقيل أنهم أنكروه لكونه في تلك الحال على هيئة ملك مصر ولبس تاجه وتطوق بطوقه، وقيل كانوا بعيدي العهد منه فلم يعرفوه.
قيل كان بين إن قذفوه بالجب وبين دخولهم عليه مدة أربعين سنة؛ فِلذلك أنكروه، وقيل غير ذلك، وكل واحد من هذه الأسباب مانع من حصول المعرفة فكيف وقد اجتمعت فيه، ولما كان إنكارهم له مستمراً في حالتي المحضر والمغيب أخبر عنه بالجملة الاسمية بخلاف عرفانه عليه السلام.(6/359)
وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (59)
(ولما جهزهم بجهازهم) المراد به هنا أنه أعطاهم ما طلبوه من الميرة وما يصلحون به سفرهم من العدة التي يحتاجها السافر، يقال جهزت القوم تجهيزاً إذا تكلفت لهم جهاز السفر قال الأزهري: القراء كلهم على فتح الجيم والكسر لغة جيدة. وقيل بالعكس.
وفي الآية تضمين ضمن جهز معنى أكرم، أي ولما أكرمهم بجهازهم أي بتحصيله لهم، قيل حمل لكل واحد منهم بعيراً من الطعام وأكرمهم في النزول وأحسن ضيافتهم، وجميع ما فعله يوسف عليه السلام معهم في هذه القصة كان بالوحي كما قاله بعض المفسرين.
(قال ائتوني بأخ لكم من أبيكم) يعني أخاه بنيامين الذي تقدم ذكره،(6/359)
وهو أخو يوسف لأبيه وأمه، ولم يقل بأخيكم بالإضافة مبالغة في عدم تعرفه بهم، ولذلك فرقوا بين مررت بغلامك وبغلام لك، فإن الأول يقتضي عرفانك بالغلام وأن بينك وبين مخاطبك نوع عهد، والثاني لا يقتضي ذلك قاله الكرخي، أو أتى باللام لأنه كان أخاهم لأبيهم لا لأمهم وهذا أحسن من الأول.
ولعله عليه السلام إنما قاله لما قيل من أنهم سألوه عليه السلام حملاً زائداً على المعتاد لبنيامين فأعطاهم ذلك وشرطهم أن يأتوا به، لا لما قيل من أنه لما رأوه وكلموه بالعبرية.
قال لهم: من أنتم فإني أنكركم؟
فقالوا له: نحن قوم من أهل الشام رعاة أصابنا الجهد فجئنا نمتار.
فقال لهم: لعلكم جئتم عيوناً.
فقالوا: معاذ الله نحن أخوة بنو أب واحد وهو شيخ كبير صديق نبي من الأنبياء اسمه يعقوب.
قال: كم أنتم؟
قالوا: كنا اثني عشر فذهب أخ لنا إلى البرية فهلك وكان أحبنا إلى أبينا.
فقال: كم أنتم هاهنا؟
قالوا: عشرة.
قال: فأين الحادي عشر؟
قالوا: هو عند أبيه يتسلى به عن الهالك.(6/360)
قال: فمن يشهد لكم أنكم لست عيوناً وأن ما تقولون حق؟
قالوا: نحن ببلاد لا يعرفنا فيها أحد فيشهد لنا.
قال: فدعوا بعضكم عندي رهينا وأتوني بأخيكم من أبيكم وهو يحمل رسالة من أبيكم حتى أصدقكم، فاقترعوا فأصاب القرعة شمعون فخلفوه عنده إذ لا يساعده ورود الأمر بالإتيان به عند التجهيز ولا الحث عليه بإيفاء الكيل ولا الإحسان في الإنزال ولا الاقتصار على منع الكيل على تقدير عدم الإتيان به ولا جعل بضاعتهم في رحالهم لأجل رجوعهم ولا عدتهم بالإتيان به بطريق المراودة ولا تعليلهم عند أبيهم إرسال أخيهم بمنع الكيل من غير ذكر الرسالة، على أن استبقاء شمعون لو وقع لكان ذلك طامة ينسى عندها كل قيل وقال.
ثم قال لهم (ألا ترون أني أوف الكيل) أي أتممه وجاء بصيغة الاستقبال مع كونه قال لهم هذه المقالة بعد تجهيزهم للدلالة على أن ذلك عادته المستمرة وغرضه ترغيبهم في العود إليه مرة أخرى، ثم أخبرهم بما يزيدهم وثوقاً به وتصديقاً لقوله فقال:
(وأنا خير المنزلين) أي والحال أنا خير لمن نزل بي كما فعلته بكم من حسن الضيافة وحسن الإنزال، قال الزجاج: قال يوسف عليه السلام ذلك حين أنزلهم وأحسن ضيافتهم، وقال ابن عباس: أنا خير من يضيف بمصر، قال الرازي: وهذا الكلام يضعف قول من يقول من المفسرين أنه اتهمهم ونسبهم إلى أنهم جواسيس ومن يشافههم بهذا الكلام فلا يليق به أن يقول لهم ألا ترون الخ، وأيضاً يبعد من يوسف عليه السلام مع كونه صديقاً أن يقول لهم ذلك مع أنه يعرف براءتهم من هذه التهمة لأن البهتان لا يليق بالصديق.(6/361)
فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلَا تَقْرَبُونِ (60) قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ (61) وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (62) فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (63) قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (64)
ثم توعدهم إذا لم يأتوه به فقال(6/362)
فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلَا تَقْرَبُونِ (60)
(فإن لم تأتوني) إذا عدتم مرة أخرى (به) أي بأخيكم الذي من أبيكم (فلا كيل لكم عندي) أي فلا أبيعكم شيئا فيما بعد فضلاً عن إيفائه، وأما في الحال فقد أوفاهم كيلهم، وهذا نهاية التخويف لأنهم كانوا محتاجين إلى تحصيل الطعام ولا يمكن إلا من عنده فإذا منعهم من العود فقد ضيق عليهم.
(ولا تقربون) أي لا تدخلوا بلادي فضلاً أن أحسن إليكم، وقيل معناه لا أنزلكم عندي كما أنزلتكم هذه المرة ولم يرد أنهم لا يقربون بلاده والمعنى لا تدنوا مني ولا تقربون مجزوماً على أن لا ناهية أو على أنها نافية وهو معطوف على محل الجزاء داخل في حكمه كأنه قال فإن لم تأتوني به تحرموا ولا تقربوا، فلما سمعوا منه ذلك وعدوه بما طلبه منهم.(6/362)
قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ (61)
(قالوا سنراود عنه أباه) أي سنطلبه منه ونجتهد في ذلك، بما نقدر عليه، وقيل معنى المراودة هنا المخادعة منهم لأبيهم والاحتيال عليه حتى ينتزعوه منه (وإنا لفاعلون) هذه المراودة غير مقصرين فيها، وقيل معناه وإنا لقادرون على ذلك لا نتعانى به ولا نتعاظمه.(6/362)
وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (62)
(وقال) يوسف (لفتيته) أي لغلمانه وأتباعه، قرأ به أهل المدينة وأبو(6/362)
عمرو وعاصم من رواية شعبة وابن عامر، واختار هذه القراءة أبو حاتم والنحاس وغيرهما، وقرأ سائر الكوفيين لفتيانه، واختار هذه القراءة أبو عبيدة وبه قرأ ابن مسعود، قال النحاس لفتيانه مخالف للسواد الأعظم ولا يترك السواد المجمع عليه لهذا الإسناد المنقطع.
وأيضاً فإن فتية أشبه من فتيان لأن فتية عند العرب لأقل العدد، وأمر القليل بأن يجعلوا البضاعة في الرحال أشبه، والجملة مستأنفة جواب سؤال كأنه قيل فما قال يوسف عليه السلام بعد وعدهم له بذلك فأجيب بأنه قال لفتيته.
قال الزجاج: الفتية والفتيان في هذا الموضع المماليك، وقال الثعلبي: هما لغتان جيدتان مثل الصبية والصبيان.
قال الكرخي: وكلاهما جمع فتى كإخوة وإخوان جمع أخ، الأول للقلة والثاني للكثرة قال البيضاوي وهم الكيالون.
(اجعلوا بضاعتهم) المراد بالبضاعة هنا هي التي وصلوا بها من بلادهم ليشتروا بها الطعام وكانت نعالاً وأدماً، وقال ابن عباس: أوراقاً.
(في رحالهم) وكل لكل رحل واحداً من غلمانه يدس فيه البضاعة التي اشتروا بها الطعام الذي في هذا الرحل، والرحال جمع رحل وهي الأوعية التي يحمل فيها الطعام وغيره والمراد به هنا ما يستصحبه الرجل معه من الأثاث.
قال الواحدي: الرحل كل شيء معد للرحيل من وعاء للمتاع ومركب للبعير ومجلس ورسن انتهى. والمراد هنا الأوعية التي يجعلون فيها ما يمتارونه من الطعام.
قال ابن الأنباري: يقال للوعاء رحل وللبيت رحل، فعل يوسف عليه السلام ذلك تفضلاً عليهم، وقيل ليستعينوا بها على الرجوع إليه سريعاً لشراء الطعام، وقيل ليرجعوا إليه مرة أخرى لعلمه أنهم لا يقبلون الطعام إلاًّ بثمن قاله الفراء، وجرى عليه الجلال.(6/363)
وقيل أنه خاف أن لا يكون عند أبيه شيء آخر من المال لأن الزمان كان زمان قحط وشدة وقيل أراد أن يحسن إليهم على وجه لا يلحقهم فيه منة ولا عيب وقيل أراد أن يريهم بره وكرمه وإحسانه إليهم، وقيل أراد أن يكون ذلك عوناً لأبيه ولأخوته على شدة الزمان، وقيل غير ذلك، وقيل أنه استقبح أن يأخذ من أبيه وإخوته ثمن الطعام.
ثم علل يوسف عليه السلام ما أمر به من جعل البضاعة في الرحال وهي معرفتهم لها فقال (لعلهم يعرفونها) أي بضاعتهم (اذا انقلبوا) رجعوا (إلى أهلهم) لأنهم لا يعلمون برد البضاعة إليهم إلا عند تفريغ الأوعية التي جعلوا فيها الطعام وهم لا يفرغونها إلا عند الوصول إلى أهلهم.
ثم علل معرفتهم للبضاعة المردودة إليهم المجعولة في رحالهم بقوله (لعلهم يرجعون) إلينا فإنهم إذا عرفوا ذلك علموا أنهم أخذوا الطعام بلا ثمن وأن ما دفعوه عوضاً عنه قد رجع إليهم وتفضل به من وصلوا إليه عليهم، نشطوا إلى العود ولا سيما مع ما هم فيه من الجدب الشديد والحاجة إلى الطعام وعدم وجوده لديهم، فإن ذلك من أعظم ما يدعوهم إلى الرجوع؛ وبهذا يظهر يوسف عليه السلام لم يرد البضاعة إليهم إلا لهذا المقصود وهو رجوعهم إليه فلا يتم تعليل ردها بغير ذلك.(6/364)
فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (63)
(فلما رجعوا إلى أبيهم) قبل أن يشتغلوا بفتح المتاع (قالوا يا أبانا) قدمنا على خير رجل أنزلنا واكرمنا كرامة عظيمة فقال لهم يعقوب إذا رجعتم إلى ملك مصر فاقرأوا عليه مني السلام وقولوا إن أبانا يدعو لك بما أوليتنا فقالوا (منع منا الكيل) وارادوا بهذا ما تقدم من قول يوسف علية السلام.
(فإن لم تأتوني به فلا كيل لكم عندي) أي منع الكيل في المستقبل بعد هذه المرة وفيه دليل على أن الامتياز مرة بعد مرة معهود فيما بينهم وبينه ولعلهم قالوا له بهذه المقالة قبل أن يفتحوا متاعهم ويعلموا برد بضاعتهم كما يفيد ذلك قوله فيما بعد (فلما فتحوا متاعهم) الآية.(6/364)
ثم ذكروا له ما أمرهم به يوسف عليه السلام فقالوا (فأرسل معنا أخانا) بنيامين إلى مصر (نكتل) بسبب إرساله معنا ما نريده من الطعام وهو مجزوم في جواب الأمر. وأصله نكتيل بوزن نغتنم ووزنه الآن نفتل، وبحسب الأصل نفتعل قرأ سائر الكوفيين بالتحتية، واختار أبو عبيدة قراءة النون قال: ليكونوا كلهم داخلين فيمن يكتال، وزعم أنه إذا كان بالياء كان للأخ وحده أي يكتال أخونا بنيامين واعترضه النحاس بما حاصله إن إسناد الكيل إلى الأخ لا ينافى كونه للجميع والمعنى يكتال بنيامين لنا جميعاً، والقراءتان سبعيتان، قال الزجاج: أي إن أرسلته اكتلنا وإلا منعنا الكيل (وإنا له) أي لبنيامين (لحافظون) من أن يصبه سوء أو مكروه.(6/365)
قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (64)
(قال) يعقوب لما قالوا له هذه المقالة (هل آمنكم عليه إلا كما أمنتكم على أخيه من قبل) مستأنفة كما تقدم نظائر ذلك في مواضع كثيرة، والمعنى أنه لا يأمنهم على بنيامين إلا كما أمنهم على أخيه يوسف عليه السلام وقد قالوا له في يوسف عليه السلام وإنا له لحافظون كما قالوا هنا ثم خانوه في يوسف عليه السلام فهو إن آمنهم في بنيامين خاف أن يخونوه كما خانوه في يوسف عليه السلام.
(فالله خير حافظاً) منصوب على الحالية وقرئ حفظاً على التمييز، ولعل هنا إضماراً والتقدير فتوكل يعقوب على الله ودفعه إليهم وقال فالله خير حافظاً والمعنى أن حفظ الله إياه خير من حفظهم له وإنما أرسله معهم لأنه لم يشاهد فيما بينهم وبين بنيامين من الحقد والحسد مثل ما شاهد بينهم وبين يوسف عليه السلام، أو أن شدة القحط وضيق الوقت أحوجه إلى ذلك.
(وهو أرحم الراحمين) فأرجو أن ينعم عليَّ بحفظه ولا يجمع عليَّ مصيبتين قيل لما وكل يعقوب حفظه إلى الله سبحانه حفظه وأرجعه إليه، ولما قال في يوسف عليه السلام (وأخاف أن يأكله الذئب) وقع له من الامتحان ما وقع، قال كعب: لما قال ذلك قال الله تعالى وعزتي وجلالي لأردن عليك كليهما.(6/365)
وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ (65) قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (66)(6/366)
وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ (65)
(ولما فتحوا) بحضرة أبيهم (متاعهم) أي أوعية الطعام أو ما هو أعم من ذلك مما يطلق عليه اسم المتاع سواء كان الذي فيه طعاماً أو غير طعام (وجدوا بضاعتهم) التي حملوا إلى مصر ليمتاروا بها وهي ثمن الطعام وقد تقدم بيانها (ردت إليهم) وجملة (قالوا يا أبانا) مستأنفة كما تقدم (ما نبغي) ما للاستفهام الإنكاري، والمعنى أي شيء نطلب من هذا الملك بعد أن صنع معنا ما صنع من الإحسان بِرَدِّ البضاعة والإكرام عند القدوم إليه، وتوفير ما أردناه من الميرة، وأرادوا بهذا الكلام تطييب قلب أبيهم.
وقال قتادة: ما نبغي وراء هذا، وقيل أن ما نافية أي ما نبغي في القول وما نزيد فيما وصفنا لك من إحسان الملك إلينا وإكرامه لنا، وقرئ بالفوقية خطابا ليعقوب أي أيُّ شيء تطلب وراء هذا الإحسان أو أي شيء تطلب من الدليل على صدقنا.
ثم برهنوا على ما نفوه من التزيد في وصف الملك بقولهم (هذه بضاعتنا ردت إلينا) فإن من تفضل عليهم برد ذلك حقيق بالثناء عليه منهم، مستحق لما وصفوه به وهي جملة مقررة لما دل عليه الاستفهام من الإنكار لطلب شيء مع كونها قد ردت إليهم.
(ونمير أهلنا) نجلب إليهم الميرة وهي الطعام يقال مار أهله يميرهم إذا حمل لهم الطعام وجلبه من بلد آخر إليهم، والمائر الذي يأتي بالطعام، وقرأ السلمي بضم النون (ونحفظ أخانا) بنيامين مما تخافه عليه (ونزداد) بسبب(6/366)
إرساله معنا (كيل) حمل (بعير) زائد على ما جئنا به هذه المرة لأنه كان يكال لكل رجل ومرّ بعير قال مجاهد حمل حمار وهي لغة، قال أبو عبيدة: يعني أن الحمار يقال له في بعض اللغات بعير.
(ذلك) أي زيادة كيل بعير لاخينا (كيل يسير) يسهل على الملك ولا يمتنع علينا من زيادته له لكونه يسيراً لا يتعاظمه ولا يضايقنا فيه، وقيل أن المعنى ذلك المكيل لأجلنا قليل نريد أن ينضاف إليه حمل بعير لأخينا، واختار الزجاج الأول، وقيل أن هذا من كلام يعقوب جواباً على ما نزله أولاده (ونزداد كيل بعير) يعني إن حمل بعير شيء يسير لا يخاطر لأجله بالولد وهو ضعيف لأن جواب يعقوب هو:(6/367)
قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (66)
(قال لن أرسله معكم حتى تؤتون) أي تعطوني (موثقاً) ما أثق به وأركن إليه (من) جهة (الله) سبحانه وهو الحلف به والموثق العهد المؤكد باليمين، وقيل هو المؤكد بإشهاد الله عليه، واللام في (لتأتنني به) جواب القسم أي تحلفو بالله لتردن بنيامين أي لتأتُنَّني به، والاستثناء بقوله (إلا أن يحاط بكم) مفرغ من أعم الأحوال لأن لتأتنني به وإن كان كلاماً مثبتاً فهو في معنى النفي فكأنه قال: لا تمنعون من إتياني به على حال إلا حال الإحاطة بكم أو من أعم العلل أي لعلة من العلل إلا لعلة الإحاطة بكم، والإحاطة مأخوذة من أحاطه العدو ومن أحاط به العدو فقد غلب أو هلك.
تقول العرب: أحيط بفلان إذا هلك أو قارب هلاكه، فأخذ يعقوب عليهم العهد بأن يأتوه ببنْيامين إلا أن يغلبوا عليه أو يهلكوا دونه جميعاً فيكون ذلك عذراً لهم عنده.
(فلما آتوه موثقهم) أي أعطوه ما طلبه منهم من اليمين والعهد (قال: الله على ما نقول وكيل) أي قال يعقوب: الله على ما قلناه من طلبي الموثق منكم وإعطائكم لي ما طلبته منكم مطلع رقيب لا يخفى عليه منه خافية فهو المعاقب لمن خاس في عهده وفجر في الحلف به، أو موكول إليه القيام بما شهد عليه منا.(6/367)
وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (67) وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (68) وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (69)(6/368)
وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (67)
(وقال يا بني لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة) لما تجهز أولاد يعقوب للسير إلى مصر خاف عليهم أبوهم أن تصيبهم العين لكونهم كانوا ذوي جمال ظاهر، وثياب حسنة مع كونهم أولاد رجل واحد، فنهاهم أن يدخلوا مجتمعين من باب واحد، لأن في ذلك مظنة لإصابة العين لهم والعين حق فأمرهم أن يدخلوا من أبواب متفرقة، وكان لمدينة مصر يومئذ أربعة أبواب، وقال السدي؛ أراد الطرق لا الأبواب ولم يأمرهم بالتفرق في الكرة الأولى لأنهم كانوا مجهولين في الكرة الأولى.
ولم يكتف بقوله (لا تدخلوا من باب واحد) من قوله (وادخلوا من أبواب متفرقة) لأنهم لو دخلوا من بابين مثلاً كانوا قد امتثلوا النهي عن الدخول من باب واحد، ولكنه لما كان في الدخول من بابين مثلاً نوع اجتماع يخشى معه أن تصيبهم العين، أمرهم أن يدخلوا من أبواب متفرقة.
قال النخعي: أحب يعقوب أن يلقى أخاه في خلوة، قيل وكان قد علم أن ملك مصر هو ولده يوسف عليه السلام إلا أن الله لم يأذن له في إظهاره ذلك، فلما بعث أبناءه إليه قال لهم ذلك القول، والأول أولى، أعني أنه خاف عليهم العين، وبه قال ابن عباس ومجاهد وقتادة وجمهور المفسرين.(6/368)
وقد أنكر بعض المعتزلة كأبي علي الجبائي وأتباعه أن للعين تأثيراً إنكاراً بليغاً ولم يذكروا في إنكاره شبهة فضلاً عن حجة، وليس هذا بمستنكر من هؤلاء فقد صار دفع أدلة الكتاب والسنة بمجرد الاستبعادات العقلية دأبهم وديدنهم، وأي مانع من إصابة العين بتقدير الله سبحانه لذلك.
وقد وردت الأحاديث الصحيحة بأن العين حق وأصيب بها جماعة في عصر النبوة منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأعجب من إنكار هؤلاء لما وردت به نصوص هذه الشريعة ما يقع من بعضهم من الإزراء على من يعمل بالدليل المخالف لمجرد الاستبعاد العقلي، والتنطع في العبارات كالزمخشري في تفسيره فإنه في كثير من المواطن لا يقف على دفع دليل الشرع بالاستبعاد الذي يدعيه على العقل حتى يضم إلى ذلك الوقاحة في العبارة على وجه يوقع المقصرين في الأقوال الباطلة والمذاهب الزائفة.
وبالجملة فقول هؤلاء مدفوع بالأدلة المتكاثرة وإجماع من يعتد به من هذه الأمة سلفاً وخلفاً، وبما هو مشاهد في الوجود، فكم من شخص من هذا النوع الإنساني وغيره من أنواع الحيوان هلك بهذا السبب، وقد اختلف العلماء فيمن عرف بالإصابة بالعين، فقال قوم يمنع من الاتصال بالناس دفعاً لضرره بحبس أو غيره من لزوم بيته، وقيل ينفى، وأبعد من قال أنه يقتل إلا إذا كان يتعمد ذلك ويتوقف إصابته على اختياره وقصده ولم ينزجر عن ذلك فإنه إذا قتل كان له حكم القاتل.
ثم قال يعقوب لأولاده (وما أغني عنكم من الله من شيء) أي لا أدفع عنكم ضرراً ولا أجلب إليكم نفعاً بتدبيري هذا بل ما قضاه الله عليكم فهو واقع لا محالة قال الزجاج وابن الأنباري: لو سبق في علم الله أن العين تهلكهم مع الاجتماع لكان تفرقهم كاجتماعهم.(6/369)
وقال آخرون: ما كان يغني عنهم يعقوب شيئاً قط حيث أصابهم ما أصابهم مع تفرقهم من إضافة السرقة إليهم، قال أبو السعود: ولم يرد عليه السلام إلغاء الحذر بالمرة، كيف لا وقد قال تعالى (ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة) وقال تعالى (خذوا حذركم) بل أراد بيان أن ما وصاهم به ليس مما يستوجب المراد لا محالة بل هو تدبير في الجملة، وإنما التأثير وترتب المنفعة عليه من العزيز القدير، وأن ذلك ليس بمدافعة للقدر بل هو استعانة بالله وهرب منه إليه. ثم صرح يعقوب بأنه لا حكم إلا لله سبحانه فقال (إن الحكم إلا لله) وحده لا لغيره ولا يشاركه فيه مشارك (عليه) لا على غيره (توكلت) أي اعتمدت ووثقت في كل إيراد وإصدار (وعليه) لا على غيره (فليتوكل المتوكلون) على العموم ويدخل فيه أولاده دخولاً أولياً.(6/370)
وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (68)
(ولما دخلوا) المدينة (من حيث أمرهم أبوهم) أي من الأبواب المتفرقة ولم يجتمعوا داخلين من باب واحد، وجواب لما (ما كان يغني عنهم) ذلك الدخول أو رأي يعقوب واتباعهم له (من الله) أي من جهته (من شيء) من الأشياء مما قدره الله عليهم، أي الذي أراد وقوعه فقد نسبوا للسرقة وأخذ منهم بنيامين، وتضاعفت المصيبة على يعقوب لأن الحذر لا يدفع القدر.
والاستثناء بقوله (إلا حاجة في نفس يعقوب قضاها) منقطع، والمعنى ولكن حاجة كانت في نفسه وهي شفقته عليهم ومحبته لسلامتهم أظهرها ْيعقوب لهم ووصاهم بها غير معتقد إن للتدبير الذي دبره لهم تأثيراً في دفع ما قضاه الله عليهم، وقيل أنه خطر ببال يعقوب أن الله إذا رآهم مجتمعين مع ما يظهر فيهم من كمال الخلقة وسيما الشجاعة أوقع بهم حسداً وحقداً وخوفاً منهم فأمرهم بالتفرق لهذه العلة.
وقد اختار هذا النحاس وقال لا معنى للعين هنا؛ وفيه أن هذا لو كان السبب لأمرهم بالتفرق لم يخص النهي عن ذلك بالاجتماع عند الدخول من(6/370)
باب واحد لأن هذا الحسد أو الخوف يحصل باجتماعهم داخل المدينة كما يحصل باجتماعهم عند الدخول من باب واحد، وقيل أن الفاعل في قضاها ضمير يعود إلى الدخول لا إلى يعقوب؛ والمعنى ما كان الدخول يغني عنهم من جهة الله شيئاً ولكنه قضى ذلك الدخول حاجة في نفس يعقوب لوقوعه حسب إرادته.
(وإنه) أي وإن يعقوب (لذو علم) جليل (لما علمناه) أي لتعليمنا بالوحي ونصب الأدلة حيث لم يعتقد إن الحذر يدفع القدر وأن التدبير له حظ من التأثير حتى يتبين الخلل في رأيه عند تخلف الأثر، وعلم أن ما قضاه الله سبحانه فهو كائن لا محالة وقيل غير ذلك، وهذا أولى، وفي تأكيد الجملة بإن واللام وتنكير العلم وتعليله بالتعليم المسند إلى ذاته سبحانه من الدلالة على جلالة شأن يعقوب عليه السلام وعلو مرتبة علمه وفخامته ما لا يخفى (ولكن أكثر الناس لا يعلمون) بذلك كما ينبغي، وقيل لا يعلمون أن الحذر مندوب إليه وإن كان لا يغني من القدر شيئاً والسياق يدفعه، وقيل المراد بأكثر الناس المشركون.(6/371)
وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (69)
(ولما دخلوا على يوسف) أي في محل حكمه (آوى) ضم (إليه أخاه) بنيامين، قيل أنه أمر بإنزال كل اثنين في منزل، فبقي أخوه منفرداً فضمه إليه (وقال إني أنا أخوك) يوسف قال له ذلك سراً من دون أن يطلع عليه إخوته.
(فلا تبتئس) أي فلا تحزن، والابتئاس اجتلاب الحزن والبؤس والضر والشدة (بما كانوا يعملون) إخوتك من الأعمال الماضية التي عملوها: وقيل أنه لم يخبره بأنه يوسف عليه السلام بل قال له إني أنا أخوك مكان أخيك يوسف عليه السلام فلا تحزن بما كنت تلقاه منهم من الجفاء حسداً وبغياً.(6/371)
فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ (70) قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَاذَا تَفْقِدُونَ (71) قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ (72) قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ (73) قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ (74) قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (75)
وقيل أنه أخبره بما سيدبره معهم من جعل السقاية في رحله فقال لا أبالي فدس الصاع في رحله وهو المراد بالسقاية في قوله(6/372)
فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ (70)
(فلما جهزهم بجهازهم جعل السقاية) وأصلها المشربة التي كان الملك يشرب بها جعلت صاعاً يكال به. وقيل كانت تسقى بها الدواب ويكال بها الحب، وقيل كانت من فضة، وقيل من ذهب، وقيل من زبرجد، وقيل مرصعة بالجوهر؛ وقيل غير ذلك، وقد تقدم تفسير الجهاز والرحل.
وعبر بالفاء هنا إشارة إلى طلب سرعة سيرهم وذهابهم لبلادهم لأن الغرض منه قد حصل، وقد عرفت حالهم بخلاف المرة الأولى كان المطلوب طول مدة إقامتهم ليتعرف الملك حالهم.
والمعنى أنه جعل السقاية التي هي الصواع (في رحل أخيه) الذي هو الوعاء الذي يجعل فيه ما يشتريه من الطعام من مصر (ثم) بعد ذلك (أذن) نادى (مؤذن) منادٍ وأعلم معلم، والأذان في اللغة الإعلام، وكان ذلك النداء مع رفع الصوت مراراً كثيرة بدليل التفعيل بعد انفصالهم عن مجلس يوسف عليه السلام حتى انطلقوا وخرجوا من العمارة، ثم أرسل خلفهم من استوقفهم وحبسهم كما يشير له التعبير بثم التي للتراخي بل قيل أنهم وصلوا إلى بلبيس وردوا من عندها.(6/372)
(أيتها العير) قال الزجاج: معناه يا أصحاب العير، أي الإبل فهو مجاز مرسل علاقته المجاورة كما قاله السمين، وفي المصباح العير بالكسر اسم للإبل التي تحمل الميرة في الأصل ثم غلب على كل قافلة، انتهى.
وكل ما امتير عليه من الإبل والحمير والبغال فهو عير، قاله الهيثم، وقيل قافلة الحمير. وقال أبو عبيدة: العير الإبل المرحولة المركوبة، ثم كثر ذلك في الاستعمال حتى قيل لكل قافلة عير لأنه يعير أي يذهب ويجيء.
(إنكم لسارقون) نسبة السرقة إليهم على حقيقتها لأن المنادي غير عالم بما دبره يوسف عليه السلام. وقيل أن المعنى أن حالكم حال السارقين من كون الصواع صار لديكم من غير رضاً من الملك، وليس في القرآن ما يدل على أنهم قالوا ذلك بأمر يوسف عليه السلام، وهو الأقرب إلى ظاهر الحال؛ لأنهم طلبوا السقاية فلم يجدوها ولم يكن هناك أحد غيرهم، وغلب على ظنهم أنهم هم الذين أخذوها فقالوا ذلك بناء على غلبة ظنهم؛ وقيل غير ذلك وهذا أولى.(6/373)
قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَاذَا تَفْقِدُونَ (71)
(قالوا) أي إخوة يوسف عليه السلام (وأقبلوا عليهم) أي حال كونهم مقبلين على من نادى منهم المنادي من أصحاب الملك، أي التفتوا إليهم وخاطبوهم بقوله (ماذا تفقدون) أي ما الذي فقدتموه، والفقد غيبة الشيء عن الحس بحيث لا يعرف مكانه، يقال فقدت الشيء إذا عدمته بضياع أو نحوه، فكأنهم قالوا ماذا ضاع عليكم وما استفهامية وصيغة المستقبل لاستحضار الصورة.(6/373)
قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ (72)
(قالوا) في جوابهم (نفقد صواع الملك) وقرئ بالغين المعجمة وقرئ صوع وصياع وصاع، وقال الزجاج: الصواع الصاع بعينه وهو يذكر ويؤنث وهو السقاية، قال ابن عباس: كل شيء شربت منه فهو صواع وقيل الصواع(6/373)
الذي يكال به وجمعه أصوع والصواع لغة فيه وجمعه صيعان وفيه قراءات كثيرة وهي ثمانية كلها لغات في هذا الحرف، والمراد هنا آلة الكيل سماها تارة كذا وتارة كذا وإنما اتخذ هذا الإناء مكيالاً لعزة ما يكال به في ذلك الوقت.
(ولمن جاء به حمل بعير) من الطعام جعلاً له لا على نية تحقيق الوعد لجزمهم بامتناع (وجود) الشرط وعزمهم على ما لا يخفى من أخذ من وجد في رحله، وهذا قول المؤذن وحده فهو الذي كفر وضمن والبعير الجمل، وفي لغة بعض العرب أنه الحمار؛ والمراد بالحمل هاهنا ما يحمله البعير من الطعام.
ثم قال المنادي (وأنا به) أىِ بحمل البعير الذي جعل لمن جاء بالصواع قبل التفتيش للأوعية (زعيم) كفيل، قاله ابن عباس أي بلسان أهل اليمن.
وعن سعيد بن جبير ومجاهد وقتادة والضحاك مثله، ولعل القائل بفقد صواع الملك هو المنادي، وإنما نسب القول إلى الجماعة لكونه واحداً منهم، ثم رجع الكلام إلى نسبة القول إلى المنادي وحده لأنه القائل بالحقيقة وهذه الآية تدل على أن الكفالة كانت صحيحة في شرعهم في ذلك الزمان.(6/374)
قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ (73)
(قالوا تالله لقد علمتم ما جئنا لنفسد في الأرض) التاء بدل من واو القسم عند الجمهور، وقيل من الباء وقيل أضل بنفسها وأياً ما كان ففيه التعجب، ولا تدخل إلا على هذا الاسم الشريف دون سائر أسمائه سبحانه وقد دخل نادراً على الرب وعلى الرحمن، والكلام على هذا مستوفى في علم الإعراب.
وجعلوا المقسم عليه هو علم يوسف وأصحابه بنزاهة جانبهم وطهارة ذيلهم عن التلوث بقذر الفساد في الأرض الذي من أعظم أنواعه السرقة لأنهم قد شاهدوا منهم في قدومهم عليه المرة الأولى وهذه المرة من التعفف والزهد عما هو دون السرقة بمراحل ما يستفاد منه العلم الجازم بأنهم ليسوا ممن يتجارى على هذا النوع العظيم من أنواع الفساد، ولو لم يكن من ذلك إلا ردهم(6/374)
لبضاعتهم التي وجدوها في رحالهم لكفى، والمراد بالأرض هنا أرض مصر.
ثم أكدوا هذه الجملة التي اقسموا بالله عليها بقولهم: (وما كنا سارقين) لزيادة التبري مما قذفوهم به والتنزه عن هذه النقيصة الخسيسة الرذيلة الشنعاء.(6/375)
قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ (74)
(قالوا فما جزاؤه) هذه جملة مستأنفة كما تقدم غير مرة في نظائرها، والقائلون هم أصحاب يوسف عليه السلام أو المنادي منهم وحده كما مر، والضمير في جزاؤه للصواع على حذف مضاف أي فما جزاء سرقة الصواع عندكم أو الضمير للسارق.
(إن كنتم كاذبين) فيما تدعونه لأنفسكم من البراءة عن السرقة؛ وذلك بأن يوجد الصواع معكم.
فأجاب إخوة يوسف عليه السلام(6/375)
قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (75)
(قالوا جزاؤء) أي جزاء سرقة الصواع أو جزاء سارق الصواع والتقدير جزاء السرقة للصواع أخذ (من وجد في رحله) واسترقاقه، وتكون جملة (فهو جزاؤه) لتأكيد الجملة الأولى وتقريرها.
قال الزجاج: هو زيادة في البيان أي جزاؤه أخذ السارق فهو جزاؤه لا غير.
قال المفسرون: وكان حكم السارق في آل يعقوب أن يسترقّ سنة ثم يخلى سبيله فلذلك استفتوهم في جزائه.
(كذلك) أي مثل ذلك الجزاء الكامل (نجزي الظالمين) لغيرهم من الناس بسرقة أمتعتهم، وهذه الجملة مؤكدة لما قبلها إذا كانت من كلام إخوة يوسف عليه السلام، ويجوز أن تكون من كلام أصحاب يوسف أي كذلك نحن نجزي الظالمين بالسرق.(6/375)
فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (76) قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ (77) قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (78) قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ (79)
ثم لما ذكروا جزاء السارق أرادوا أن يفتشوا أمتعتهم حتى يتبين الأمر فأقبل يوسف عليه السلام على ذلك(6/376)
فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (76)
(فبدأ بأوعيتهم) يعني بتفتيش أوعية إخوته العشرة وقيل أن المنادي وأصحابه هم الذين تولوا تفتيشهم وهم الذين استخرجوا الصواع من رحل بنيامين (قبل) تفتيش (وعاء أخيه) بنيامين دفعاً للتهمة ورفعاً لما دبره من الحيلة.
(ثم استخرجها) أي السقاية أو الصواع لأنه يذكر ويؤنث (من وعاء أخيه) فنكس إخوة يوسف عليه السلام رؤوسهم من الحياء ولاموا بنيامين فأخذوه وردوه إلى يوسف عليه السلام.
(كذلك) أي مثل ذلك الكيد العجيب (كدناه) أي دبرنا قاله القتيبي أو أردنا قاله ابن الأنباري (ليوسف) يعني علمناه إياه وأوحينا إليه واللام زائدة وإليه نحا السيوطي.
وفي أبي السعود: ما يقتضي أن اللام للتعليل أي صنعنا له ودبرنا لأجل تحصيل غرضه من المقدمات التي رتبها من دس الصواع وما يتلوه والكيد مبدؤه(6/376)
السعي في الحيلة والخديعة ونهايته إلقاء المخدوع من حيث لا يشعر في أمر مكروه لا سبيل إلى دفعه، وهو محمول في حق الله سبحانه على النهاية لا على البداية.
وقال ابن الأعرابي: الكيد التدبير بالباطل وبالحق، وقيل الكيد هنا جزاء الكيد يعني كما فعلوا بيوسف عليه السلام في الابتداء فعلنا بهم وقيل غير ذلك والأول أولى، وفي الآية دليل على جواز التوصل إلى الأغراض الصحيحة بما صورته صورة الحيلة والمكيدة إذا لم يخالف ذلك شرعاً ثابتاً.
(ما كان) يوسف عليه السلام (ليأخذ أخاه) بنيامين (في دين الملك) أي ملك مصر وفي شريعته التي كان عليها بل كان دينه وقضاؤه أن يضرب السارق ويغرم ضعف ما سرقه دون الاستعباد سنة كما هو دين يعقوب وشريعته؛ وحاصله أن يوسف ما كان يتمكن من إجراء حكم يعقوب على أخيه مع كونه مخالفاً لدين الملك وشريعته لولا ما كاد الله له ودبره وأراده حتى وجد السبيل إليه، وهو ما أجراه على ألسن إخوته من قولهم أن جزاء السارق الاسترقاق، فكان قولهم هذا هو بمشيئة الله وتدبيره.
وهذه الجملة تعليل لما صنعه الله من الكيد ليوسف عليه السلام أو تفسير له يعني أن ذلك الأمر كله كان إلهاماً من أمر الله ليوسف عليه السلام وإخوته حتى جرى الأمر على وفق المراد وهو معنى قوله (إلا أن يشاء الله) أي إلا حال مشيئته وإذنه بذلك وإرادته له والاستثناء منقطع، إذ الأخذ بدين الملك لا يشمل المراد به، فالمعنى ولكن أخذه بشريعة يعقوب.
(نرفع درجات من نشاء) بضروب العلوم والمعارف والعطايا والكرامات كما رفعنا درجة يوسف عليه السلام بذلك؛ والآية على أن العلم أشرف المقامات وأعلى الدرجات لأن الله تعالى مدح يوسف عليه السلام ورفع درجته(6/377)
على أخوته بالعلم، وقرئ درجات بالإضافة والتنوين وهما سبعيتان.
(وفوق كل ذي علم) ممن رفعه الله بالعلم من المخلوقين (عليم) أرفع رتبة منه وأعلى درجة لا يبلغون مداه ولا يرتقون شأوه، وقيل معنى ذلك أن فوق كل أهل العلم عليم إلى أن ينتهي العلم إلى الله وهو سبحانه فوق كل عالم.
عن سعيد بن جبير قال: كنا عند ابن عباس فحدث بحديث؛ فقال رجل عنده وفوق كل ذي علم عليم، فقال ابن عباس: بئس ما قلت؛ الله العليم الخبير وهو فوق كل عالم.
وعن محمد بن كعب: سأل رجل علياً كرم الله وجهه عن مسئلة فقال فيها، فقال الرجل: ليس هكذا ولكن كذا وكذا، فقال عليّ: أصبت واخطأت وفوق كل ذي علم عليم.
وعن عكرمة قال: علم الله فوق كل عالم، قال ابن الأنباري: يجب أن يتهم العالم نفسه ويستشعر التواضع لمواهب ربه ولا يطمع نفسه بالغلبة لأنه لا يخلو عالم عن عالم فوقه، وفي الآية دليل على أن إخوة يوسف عليه السلام كانوا علماء. وكان يوسف عليه السلام أعلم منهم.(6/378)
قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ (77)
(قالوا إن يسرق) أي بنيامين الصواع (فقد سرق أخ له من قبل) يعنون يوسف عليه السلام وكان غرضهم من هذا الكلام إنا لسنا على طريقته ولا على سيرته، بل هذا وأخوه كانا على هذه الطريقة لأنهما من أم أخرى غير أمنا، وقال الخفاجي: أتوا بكلمة إن لعدم تحققهم له بمجرد خروج السقاية من رحله، وأما قولهم إن ابنك سرق فبناء على الظاهر، ويسرق لحكاية الحال الماضية.(6/378)
والمعنى إن كان سرق فليس ببدع لسبق مثله من أخيه، والعرق نزاع، وقيل أنهم جزموا بذلك وإن لمجرد الشرط انتهى.
وقد اختلف المفسرون في هذه السرقة التي نسبوها إلى يوسف عليه السلام، ما هي فقيل أنه كان ليوسف عليه السلام عمة هي أكبر من يعقوب وكانت عندها منطقة إسحاق لكونها أسن أولاده وكانوا يتوارثونها فيأخذها الأكبر سناً من ذكر أو أنثى، وكانت قد حضنت يوسف عليه السلام وأحبته حباً شديداً، فلما ترعرع قال لها يعقوب سلمي يوسف إليّ فأشفقت من فراقه واحتالت في بقائه لديها فجعلت المنطقة تحت ثيابه وحزمته بها، ثم قالت قد سرقت منطقة إسحاق فانظروا من سرقها، فبحثوا عنها فوجدوها مع يوسف عليه السلام فأخذته عندها كما هو شرع الأنبياء في ذلك الوقت من آل إبراهيم. ذكره محمد بن إسحاق، وقد سبق بيان شريعتهم في السرقة.
وقيل أن يوسف أخذ صنماً كان لجده أبي أمه فكسره، وألقاه على الطريق تغييراً للمنكر فعيره بذلك إخوته، وقد روى معناه عن ابن عباس مرفوعاً. وعن سعيد بن جبير وقتادة مثله غير مرفوع، وقد روي نحوه عن جماعة من التابعين، وحكى عن الزجاج أنه كان صنماً من ذهب، وقيل من فضة، وقال عطية سرق في صباه ميلين من ذهب.
وعن ابن عباس سرق مكحلة لخالته، وقيل كان في النزل دجاجة فأعطاها لسائل، قاله سفيان بن عيينة، وقيل كان يخبأ الطعام من المائدة للفقراء. قال ابن الأنباري: وليس في هذه الأفعال كلها ما يوجب السرقة ولكنها تشبهها فعيروه بها عند الغضب.
وحكى الواحدي عن الزجاج قال: الله أعلم أسرق أخ له أم لا، وحكى القرطبي في تفسيره عنه أنه قال؛ كذبوا عليه فيما نسبوه إليه.(6/379)
قلت وهذا أولى فما هذه الكذبة بأول كذباتهم، وقد قدمنا ما يدفع قول من قال أنهم قد كانوا أنبياء عند صدور هذه الأمور منهم، وفي البحر لابن المنير أن ما ذكر في تفسير السرقة تكلف لا يسوغ نسبة مثله إلى بيت النبوة ولا إلى أحد من الأشراف فالواجب تركه، وإليه ذهب مكي وفسره بعضهم بإن يسرق فقد سرق مثله من بني آدم، وذكر له نظائر في الحديث، قال الخفاجي وهو كلام حقيق بالقبول.
قال الزجاج وغيره الضمير في (فأسرَّها) يعود إلى الكلمة أو الجملة كأنه قيل فأسر الجملة (يوسف في نفسه ولم يبدها لهم) ثم فسرها بقوله (قال أنتم شر مكاناً) وقد رد أبو علي الفارسي هذا فقال: أن هذا النوع من الإضمار على شريطة التفسير غير مستعمل؛ وعلى هذا يكون في الكلام رجوع الضمير على متأخر لفظاً ورتبة. وفيه أيضاً إطلاق الكلمة على الكلام، والأول سائغ في مقام التفسير كما هنا. والثاني سائغ في اللغة.
وقيل الضمير عائد إلى الإجابة أي أسر يوسف عليه السلام إجابتهم في ذلك الوقت إلى وقت آخر. وقيل أسر في نفسه قولهم إن يسرق الخ. وهذا هو الأولى ويكون معنى ولم يبدها لهم أنه لم يبد لهم هذه المقالة التي أسرها في نفسه بإن يذكر لهم صحتها وبطلانها.
وجملة: قال أنتم شر مكاناً مفسرة على القول الأول ومستأنفة على القولين الأخيرين كأنه قيل فماذا قال يوسف عليه السلام لما قالوا هذه المقالة، أي أنتم شر موضعاً ومنزلاً ممن نسبتموه إلى السرقة ورميتموه بها وهو بريء فإنكم قد فعلتم ما فعلتم من إلقاء يوسف عليه السلام في الجب والكذب على أبيكم وغير ذلك من أفاعيلكم، ولم يكن من يوسف عليه السلام سرقة حقيقية.
ثم قال (والله أعلم بما تصفون) من الباطل بنسبة السرقة إلى يوسف(6/380)
عليه السلام وأنه لا حقيقة لذلك. ثم أرادوا أن يستعطفوه ليطلق لهم أخاه بنيامين ويكون معهم ويرجعون به إلى أبيهم لما تقدم من أخذه الميثاق عليهم بأن يردوه إليه(6/381)
قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (78)
(قالوا يا أيها العزيز إن له) أي لبنيامين هذا (أباً) متصفاً بكونه (شيخاً كبيراً) في السن لا يستطيع فراقه ولا يصبر عنه ولا يقدر على الوصول إليه، وقيل كبيراً في القدر لأنه نبي من أولاد الأنبياء وفيه بعد ظاهر، والأول أولى (فخذ أحدنا مكانه) يبقى لديك فإن له منزلة في قلب أبيه ليست لواحد منا، فلا يتضرر بفراق أحدنا كما يتضرر بفراق بنيامين.
ثم عللوا ذلك بقولهم (إنا نراك من المحسنين) إلى الناس كافة، وإلينا خاصة فأتم إحسانك إلينا بإجابتنا إلى هذا المطلب، فأجاب عليهم يوسف و(6/381)
قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ (79)
(قال معاذ الله) أي نعوذ بالله معاذاً فهو مصدر، والمستعيذ بالله هو المستعصم به (أن) أي من أن (نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده) وهو بنيامين لأنه الذي وجد الصواع في رحله فقد حل لنا استعباده بفتواكم التي أفتيتمونا بقولكم (جزاؤه من وجد في رحله فهو جزاؤه) ولم يقل " من سرق " تحرزاً عن الكذب لأنه يعلم أن أخاه ليس بسارق.
وفيه جواز التوصل إلى الأغراض بالحيل إذا لم تخالف شريعة ولا هدمت أصلاً، ولعل الله أمر يوسف عليه السلام بذلك تشديداً للمحنة على يعقوب، ونهاه عن العفو والصفح وأخذ البدل كما أمر صاحب موسى بقتل من لو بقي لطغى وكفر، قاله ابن عادل في اللباب في علوم الكتاب. وجزم صاحب الكشاف بأن هذه الواقعة كانت بوحي كما مر مراراً (إنا إذاً) أي إذا أخذنا غير من وجدنا متاعنا عنده (لظالمون) في دينكم وما تقتضيه فتواكم.(6/381)
فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (80) ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ (81) وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (82) قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (83)(6/382)
فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (80)
(فلما استيأسوا منه) أي يئسوا من يوسف وإجابته إياهم وإسعافهم منه إلى مطلبهم الذي طلبوه، والسين والتاء للمبالغة، قاله الزمخشري والبيضاوي. قال ابن إسحاق أي أيسوا منه ورأوا شدته في أمره.
قال أبو عبيدة: استيأسوا أي استيقنوا أن الأخ لا يرد عليهم، وقيل أيسوا من أخيهم أن يرد إليهم، والأول أولى.
(خلصوا نجياً) أي انفردوا عن الناس واعتزلوا مجلسه وانحازوا على حدة حال كونهم متناجين متحدثين فيما بينهم ليس فيهم غيرهم في التشاور في أمر هذه القضية وهو مصدر يقع على الواحد والجمع كقوله (وقربناه نجياً).
قال الزجاج: معناه انفردوا وليس معهم أخوهم متناجين فيما يعملون به في ذهابهم إلى أبيهم من غير أخيهم، وقال قتادة وحدهم.
(قال كبيرهم) قيل هو روبيل لأنه الأسن وهو الذي كان نهاهم عن قتله وكان أكبر القوم في الميلاد قاله قتادة، وقيل كبيرهم في العقل والعلم لا في السن وقيل يهوذا لأنه الأوفر عقلاً.
وقيل شمعون لأنه رئيسهم (ألم تعلموا أن أباكم قد أخذ عليكم موثقاً)(6/382)
أي عهدا (من الله) في حفظ ابنه ورده إليه، ومعنى كونه من الله أنه بإذنه ذكره النحاس وغيره.
(ومن قبل ما فرطتم في يوسف) أي وألم تعلموا أن تفريطكم في أمر يوسف عليه السلام كائن من قبل تفريطكم في بنيامين أو من قبل أخذكم العهد في شأنه، على أن ما مصدرية، ويجوز أن تكون زائدة والأول أولى، والمعنى قصرتم في شأنه ولم تحفظوا عهد أبيكم فيه.
(فلن أبرح الأرض) يقال برح براحاً وبروحاً أي زال فإذا دخله النفي صار مثبتاً أي لن أبرح من أرض مصر بل ألزمها ولا أفارقها ولا أزال مقيماً فيها على أن أبرح هنا تامة (حتى يأذن لي أبي) في مفارقتها والخروج منها بالعود إليه وإنما قال ذلك لأنه يستحي من أبيه أن يأتي إليه بغير ولده الذي أخذ عليهم الميثاق بإرجاعه إليه إلا أن يحاط بهم كما تقدم.
(أو يحكم الله لي) بمفارقتها والخروج منها، وقيل المعنى أو يحكم الله لي بخلاص أخي من الأسر حتى يعود إلى أبي وأعود معه، وقيل المعنى أو يحكم الله لي بالنصر على من أخذ أخي فأجازيه وأخذ أخي منه أو أعجز فأنصرف بعد ذلك قال مجاهد: أقاتل بسيفي حتى أقتل، وعن أبي صالح نحوه (وهو خير الحاكمين) لأن أحكامه لا تجري إلا على ما يوافق الحق ويطابق الصواب ومراده بهذا الكلام الالتجاء إلى الله في إقامة عذره إلى والده يعقوب.
ثم قال كبيرهم مخاطباً لهم(6/383)
ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ (81)
(ارجعوا إلى أبيكم فقولوا يا أبانا إن ابنك سرق) على البناء للفاعل وذلك لأنهم قد شاهدوا استخراج الصواع من وعائه؛ وقرئ على البناء للمفعول.
قال الزجاج: إن سرق يحتمل معنيين أحدهما علم منه السرق والآخر اتهم بالسرق أمرهم بهذه المقالة مبالغة في إزالة التهمة عن أنفسهم عند أبيهم لأنهم كانوا متهمين عنده بسبب وقعة يوسف عليه السلام.
(وما شهدنا إلا بما علمنا) من استخراج الصواع من وعائه، وقيل(6/383)
المعنى ما شهدنا عند يوسف عليه السلام بأن السارق يسترق إلا بما علمنا من شريعتك وشريعة آبائك (وما كنا للغيب حافظين) حتى يتضح لنا هل الأمر على ما شاهدناه أو على خلافه فإن الغيب لا يعلمه إلا الله فلعل الصواع دس في رحله ونحن لا نعلم بذلك.
وقيل المعنى ما كنا وقت أخذنا له منك ليخرج معنا إلى مصر للغيب حافظين بأنه سيقع منه السرق الذي افتضحنا به، وقيل الغيب هو الليل ومرادهم أنه سرق وهم نيام وقيل مرادهم أنه فعل ذلك وهو غائب عنهم فخفى عليهم فعله. قال عكرمة: ما كنا نعلم أن ابنك يسرق وعن قتادة نحوه، وقال ابن عباس: ما كنا لليله ونهاره ومجيئه وذهابه حافظين.(6/384)
وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (82)
(واسأل) أهل (القرية التي كنا فيها) أي قولوا لأبيكم اسأل القرية أي مصر، قاله قتادة وابن عباس، وقيل هي قرية من قرى مصر نزلوا فيها وامتاروا منها وجرى فيها حديث السرقة والتفتيش، قال المفسرون: المراد أهلها، وقيل المعنى واسأل القرية نفسها، وإن كانت جماداً فأنك نبي الله والله سبحانه سينطقها فتجيبك.
ومما يؤيد هذا أنه قال سيبويه: لا يجوز كلم هنداً وأنت تريد غلام هند؛ قيل والأول أولى لأن مثل هذا النوع من المجاز مشهور في كلام العرب، وتعقبه الحافظ ابن القيم في البدائع وقال إنما يضمر المضاف حيث يتعين ولا يصح الكلام إلا بتقديره للضرورة كما إذا قيل أكلت الشاة فإن المفهوم من ذلك أكلت لحمها فحذف المضاف لا يلبس ونظائره كثيرة وليس منه قوله تعالى (واسأل القرية) وإن كان أكثر الأصوليين يمثلون به فإن القرية اسم للسكان في مسكن مجتمع فإنما تطلق القرية باعتبار الأمرين كالكأس لما فيه الشراب، والذنوب للدلو الملآن ماء والخوان للمائدة إذا كان عليها طعام ونظائره.
ثم لكثرة استعمالهم هذه اللفظة ودورانها في كلامهم أطلقوها على السكان تارة وعلى المسكن تارة بحسب سياق الكلام وسباقه، وإنما يفعلون(6/384)
هذا حيث لا لبس، فلا إضمار في ذلك ولا حذف فتأمل هذا الموضع الذي خفي على القوم مع وضوحه انتهى.
(والعير التي أقبلنا فيها) أي أصحابها وكانوا قوماً معروفين من جيران يعقوب من كنعان، حمل العير هنا إلى الدواب نفسها وهذا هو المعنى الحقيقي لها فاحتاج إلى تقدير المضاف وفيما سبق على المعنى المجازي وهو نفس أصحابها فاستغنى عن تقدير المضاف.
(وإنا لصادقون) فيما قلنا، جاءوا بهذه الجملة مؤكدة هذا التأكيد لأن ما قد تقدم منهم مع أبيهم يعقوب يوجب كمال الريبة في خبرهم هذا عند السامع، وهذا آخر الكلام الذي علمه لهم أخوهم الكبير.
فلما قالوا هذا ليعقوب(6/385)
قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (83)
(قال بل سولت) زينت أو خيلت (لكم أنفسكم أمراً) لا أصل له، والأمر هنا قولهم (إن ابنك سرق) وما سرق في الحقيقة وقيل المراد بالأمر إخراجهم بنيامين والمضي به إلى مصر طلباً للمنفعة فعاد ذلك بالمضرة، وقيل هذا الأمر فتياهم بأن السارق يؤخذ بسرقته، والإضراب هنا هو باعتبار ما أثبتوه من البراءة لأنفسهم لا باعتبار أصل الكلام فإنه صحيح والجملة مستأنفة مبنية على سؤال مقدر كغيرها.
(فصبر جميل) أي فأمري صبر أو فصبر جميل أجمل بي وأولى لي، والصبر الجميل هو الذي لا يبوح صاحبه بالشكوى بل يفوض أمره إلى الله ويسترجع، وقد ورد أن الصبر عند أول الصدمة.
(عسى الله أن يأتيني بهم جميعاً) أي بيوسف عليه السلام وأخيه بنيامين، والأخ الثالث الباقي بمصر وهو كبيرهم كما تقدم، وإنما قال هكذا على سبيل حسن الظن بالله عز وجل لأنه قد كان عنده أن يوسف عليه السلام لم يمت وأنه باق على الحياة وإن غاب عنه خبره، وإذا اشتد البلاء وعظم كان أسرع إلى الفرج قال تعالى (سيجعل الله بعد عسر يسراً) (إنه هو العليم) بحالي (الحكيم) فيما يقضي به.(6/385)
وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (84) قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ (85) قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (86) يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ (87)(6/386)
وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (84)
(وتولى) أي أعرض (عنهم) وقطع الكلام معهم حين بلغوه خبر بنيامين (و) لما ساء حزنه واشتد بلاؤه وبلغ جهده وهاج غمه (قال يا أسفا على يوسف) قال الزجاج الأصل يا أسفي فأبدل من الياء ألفا لخفة الفتحة، والأسف شدة الجزع، وقيل شدة الحزن.
عن ابن عباس أي يا حزناً، وعن قتادة مثله، وعن مجاهد يا جزعاً.
قال يعقوب هذه المقالة لما بلغ منه الحزن غاية مبالغة بسبب فراقه ليوسف عليه السلام وانضمام فراقه لأخيه بنيامين وبلوغ ما بلغه من كونه أسيراً عند ملك مصر، فتضاعفت أحزانه وهاج عليه الوجد القديم بما أثاره من الخبر الأخير.
وقد روي عن سعيد بن جبير أن يعقوب لم يكن عنده ما ثبت في شريعتنا من الاسترجاع والصبر على المصائب، ولو كان عنده ذلك لما قال يا أسفاً على يوسف عليه السلام يعني إن الاسترجاع خاص بهذه الأمة، ومعنى المناداة للأسف طلب حضوره كأنه قال تعال يا أسفي وأقبل عَليّ وفيه شكوى إلى الله لا منه.
(وابيضت عيناه من الحزن) أي انقلب سواد عينه بياضاً من كثرة(6/386)
البكاء قيل أنه زال إدراكه بحاسة البصر بالمرة، قال مقاتل: لم يبصر شيئاً ست سنين، والتزمه بعضهم بناء على جواز مثل هذا على الأنبياء بعد التبليغ.
وقيل كان يدرك إدراكاً ضعيفاً، قال بعض أهل اللغة الحزن بالضم والسكون البكاء وبفتحتين ضد الفرح، وقال أكثر أهل اللغة هما لغتان بمعنى، والبكاء بالمد رفع الصوت وبالقصر نزول الدمع من غير صوت وهو المناسب هنا وهو أحد قولين والذي جرى عليه المصباح والقاموس أنه لا فرق بينهما في أن كُلاًّ يستعمل في كليهما.
وقد قيل في توجيه ما وقع من يعقوب عليه السلام من هذا الحزن العظيم المفضي إلى ذهاب بصره كُلاًّ أو بعضاً أنه إنما وقع منه ذلك لأنه علم أن يوسف عليه السلام حيّ فخاف على دينه مع كونه بأرض مصر وأهلها حيئنذ كفار، وقيل أن مجرد الحزن ليس بمحرم وإنما المحرم ما يفضي منه إلى الوله وشق الثياب والتكلم بما لا ينبغي.
قال أبو السعود: وفيه دليل على جواز التأسف والبكاء عند النوائب فإن الكف من ذلك مما لا يدخل تحت التكليف فإنه قل من يملك نفسه عند الشدائد ولقد بكى رسول الله صلى الله عليه وسلم على ولده إبراهيم وقال: تدمع العين ويحزن القلب ولا نقول ما يسخط الرب وإنّا عليك يا إبراهيم لمحزونون انتهى.
ويؤيد هذا قوله (فهو كظيم) أي مكظوم فإن معناه أنه مملوء من الحزن ممسك له لا يبثه ومنه كظم الغيظ وهو إخفاؤه فالمكظوم المسدود عليه طريق حزنه من كظم السقاء إذا سده على ما فيه والكظم بالفتح مخرج النفس، يقال أخذ بأكظامه، وقيل الكظيم بمعنى الكاظم أي المشتمل على حزنه الممسك له ومنه والكاظمين الغيظ.(6/387)
وقال الزجاج: معنى كظيم محزون، وعن ابن عباس قال: كظيم حزين، وعن قتادة قال؛ كظم على الحزن وحزنه في جوفه فلم يقل إلا خيراً، وعن عطاء الخراساني، قال مكروب، وعن عكرمة مثله، وعن الضحاك الكظيم الكمد، وعن مجاهد نحوه.
قال الحسن: كان بين خروج يوسف عليه السلام من حجر أبيه إلى يوم التقيا ثمانون سنة ولم تجف فيها عينا يعقوب، وما على وجه الأرض يومئذ أكرم على الله منه والله أعلم.(6/388)
قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ (85)
(قالوا تالله تفتؤ تذكر يوسف) أي لا تفتؤ فحذف حرف النفي لعدم اللبس قال الفراء: أن لا مضمرة، قال النحاس: والذي قاله صحيح، وعن الخليل وسيبويه مثل قول الفراء، قال الكسائي: فتأت وفتيت أفعل كذا أي مازلت، وعن ابن عباس تفتأ أي لا تزال تذكر يوسف عليه السلام ولا تفتر عن حبه.
(حتى تكون حرضاً) أي دنفاً من المرض، قاله ابن عباس، وقال قتادة: هرماً، والحرض مصدر يستوي فيه الواحد والجمع والمذكر والمؤنث والصفة المشبهة حرض بكسر الراء كدنف ودنف، وأصل الحرض الفساد في الجسم أو العقل من الحزن أو العشق أو الهرم، حكى ذلك عن أبي عبيدة وغيره، وقيل الحرض ما دون الموت، وقيل الحارض البالي الدائر، وقال الفراء: الحارض الفاسد الجسم والعقل وكذا الحرض.
وقال المؤرج: هو الذائب من الهم، ويقال رجل محرض، قال النحاس: وحكى أهل اللغة أحرضه الهم إذا أسقمه، ورجل حارض أي أحمق، وقال الأخفش الحارض الذاهب، وقال ابن الأنباري: هو الهالك، وفي المصباح حرض حرضاً من باب تعب أشرف على الهلاك.(6/388)
والأولى تفسير الحرض هنا بغير الموت والهلاك من هذه المعاني المذكورة لقوله (أو تكون من الهالكين) أي من الميتين، قاله مجاهد، وغرضهم منع يعقوب من البكاء والحزن والأسف شفقة عليه وإن كانوا هم سبب أحزانه ومنشأ همومه وغمومه.(6/389)
قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (86)
(قال إنما أشكو بثي وحزني) بضم الحاء وسكون الزاي وقرئ بفتحهما (إلى الله) هذه الجملة مستأنفة كأنه قيل فما قال يعقوب لما قالوا له ما قالوا، والبث ما يرد على الإنسان من الأشياء التي تعظم حزن صاحبها حتى لا يقدر على إخفائها كذا قال أهل اللغة وهو مأخوذ من بثثته أي فرقته، فسميت المصيبة بثاً مجازاً. قال ابن قتيبة البث أشد الحزن.
وقد ذكر المفسرون أن الإنسان إذا قدر على كتم ما نزل به من المصائب كان ذلك حزناً وهماً، وإن لم يقدر على كتمه وذكره لغيره كان ذلك بثاً، فالبث على هذا أعظم الحزن وأصعبه، وقيل البث الهم وقيل الحاجة وعلى هذا يكون عطف الحزن على البث واضح المعنى، وأما على تفسير البث بالحزن العظيم فكأنه قال: إنما أشكو حزني العظيم وما دونه من الحزن القليل إلى الله لا إلى غيره من الناس ولا إليكم.
وعن مسلم بن يسار يرفعه قال: من بث لم يصبر، ثم قرأ هذه الآية. أخرجه ابن جرير وعبد الرزاق. قال ابن عباس: بثي همي.
(وأعلم من الله) أي من لطفه وإحسانه وثوابه على المصيبة (ما لا تعلمون) أنتم وأنه يأتي بالفرج من حيث لا أحتسب، وقيل أراد علمه بأن يوسف عليه السلام حي لكنه لم يعرف أين هو، وقيل أراد علمه بأن رؤياه صادقة وأني لأسجد له، قاله ابن عباس، وقيل أعلم من إجابة المضطرين إلى الله ما لا تعلمون.(6/389)
يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ (87)
(يا بني اذهبوا فتحسسوا) التحسس بمهملات طلب الشيء بالحواس مأخوذ من الحس أو من الإحساس، أي اذهبوا فتعرفوا (من) خبر (يوسف وأخيه) بالحاسة كالبصر والسمع وتطلبوه، وقرئ بالجيم وهو أيضاً التطلب وقيل بالحاء في الخير وبالجيم في الشر ومنه الجاسوس، ومن هنا بمعنى عن لأنه لا يقال تحسست من فلان بل عن فلان أو هي للتبعيض أي تحسسوا خبراً من أخبارهما ولم يقل أخويه لأنه كان يعلم أن الثالث مقيم بمصر فليس حاله مجهولاً عنده بخلافهما.
(ولا تيأسوا من روح الله) أي لا تقنطوا من فرجه وتنفيسه ورحمته.
قال الأصمعي: الروح ما يجده الإنسان من نسيم الهواء فيسكن إليه، والتركيب يدل على الحركة والهزة، فكل ما يهتز الإنسان بوجوده ويلتذ به فهو روح.
وحكى الواحدي عنه أيضاً الروح الاستراحة من غم القلب.
وقال أبو عمرو: الروح الفرج. وعن ابن زيد قال: من فرج الله يفرج عنكم الغم الذي أنتم فيه.
وقال ابن عباس: الروح الرحمة، يعني أنه استعير الروح للرحمة، وقيل أنه مصدر بمعنى الرحمة.
(إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرين) لكونهم لا يعلمون بقدرة الله سبحانه وعظيم صنعه وخفيِّ ألطافه، والمؤمن يصبر عند البلاء وينتظر الفرج والرحمة فينال به خيراً ويحمد الله عند الرخاء، والكافر بضد ذلك.(6/390)
فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (88) قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ (89) قَالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (90) قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ (91) قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (92)(6/391)
فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (88)
(فلما دخلوا عليه) أي على يوسف عليه السلام والتقدير فذهبوا كما أمرهم أبوهم إلى مصر ليتحسسوا من يوسف عليه السلام وأخيه، فلما دخلوا على يوسف عليه السلام (قالوا يا أيها العزيز) أي الملك الممتنع القادر، وكان العزيز لقب ملك مصر يومئذ (مسنا وأهلنا الضر) أي الجوع والحاجة.
قال قتادة: الضر في المعيشة وعدلوا إلى الشكوى لأن التحسس يتوصل إلى مطلوبه بجميع الطرق، والاعتراف بالعجز وضيق اليد وشدة الحاجة مما يرقق القلب، فقالوا نختبره بهذه الأمور فإن رق قلبه لنا ذكرنا المقصود، وإلا شكونا. وفيه دليل على أنه يجوز الشكوى عند الضرورة إذا خاف من إصابته على نفسه، كما يجوز للعليل أن يشكو إلى الطبيب ما يجده من العلة.
وعبارة أبي السعود وإنما لم يبدءوا بما أمروا به استجلاباً للرأفة والشفقة ليبعثوا بما قدموا من رقة الحال رقة القلب والحنو انتهى. وهذه المرة التي دخلوا فيها مصر هي المرة الثالثة كما يفيده ما تقدم من سياق الكتاب العزيز.
(وجئنا ببضاعة مزجاة) البضاعة هي القطعة من المال يقصد بها شراء(6/391)
شيء يقال أبضعت الشيء واستبضعته إذا جعلته بضاعة، وفي المثل كمستبضع التمر إلى هجر، والإزجاء السوق بدفع.
وقال الواحدي الإزجاء في اللغة السوق والدفع قليلاً قليلاً، ومنه قوله تعالى (ألم تر أن الله يزجي سحاباً) والمعنى أنها بضاعة تدفع ولا يقبلها التجار.
قال ثعلب: البضاعة المزجاة الناقصة غير التامة. قال أبو عبيد: إنما قيل للدراهم الرديئة مزجاة لأنها مردودة مدفوعة غير مقبولة.
قال ابن عباس: دراهم مزجاة أي كأسدة، وعنه أيضاً مزجاة رثة المتاع خلقة الحبل والغرارة والشيء، وأيضاً الورق الزيوف التي لا تنفق حتى يوضع منها.
وفي القاموس زجاه ساقه ودفعه ومزجاة قليلة أو لا يتم صلاحها، وفي المصباح زجيته بالتثقيل دفعته برفق.
واختلف في هذه البضاعة ما هي، فقيل كانت قديداً وحيساً، وقيل صوف وسمن؛ وقيل الحبة الخضراء والصنوبر، وقيل دراهم رديئة زيوف، وقيل المنعال والأدم، ثم طلبوا منه بعد أن أخبروه بالبضاعة التي معهم أن يوفي لهم الكيل أي يجعله تاماً لا نقص فيه وأن يتصدق عليهم فقالوا:
(فأوف لنا الكيل وتصدق علينا) إما بزيادة يزيدها لهم على ما يقابل بضاعتهم أو بالإغماض عن رداءة البضاعة التي جاءوا بها وأن يجعلها كالبضاعة الجيدة في إيفاء الكيل لهم بها، وبهذا قال أكثر المفسرين، وقد قيل كيف يطلبون التصدق عليهم وهم أنبياء والصدقة محرمة عليهم. وأجيب باختصاص ذلك بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
وقال ابن جريج: معنى قولهم أردد علينا أخانا. وبه قال الضحاك. وقال ابن الأنباري وكان الذي يسألونه من المسامحة يشبه الصدقة لا نفس الصدقة.(6/392)
(إن الله يجزي المتصدقين) بما يجعله لهم من الثواب الأخروي أو التوسيع عليهم في الدنيا قال الضحاك: ولم يقولوا أن الله يجزيك لأنهم لم يعلموا أنه مؤمن ولما قالوا ذلك لم يتمالك يوسف عليه السلام أن عرفهم نفسه حيث(6/393)
قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ (89)
(قال هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه) الاستفهام للتوبيخ والتقريع، وقد كانوا عالمين بذلك ولكنه أراد ما ذكرناه ويستفاد منه تعظيم الواقعة لكونه في قوة ما أعظم الأمر الذي ارتكبتم من يوسف عليه السلام وأخيه، وما أقبح ما أقدمتم عليه، كما يقال للمذنب هل تدري من عصيت، والذي فعلوه بيوسف عليه السلام هو ما تقدم مما قصه الله سبحانه علينا في هذه السورة.
وأما ما فعلوا بأخيه فقال جماعة من المفسرين هو ما أدخلوه عليه من الغم بفراق أخيه يوسف عليه السلام وما كان يناله منهم من الاحتقار والإهانة ولم يستفهم عما فعلوا بأبيهم يعقوب مع أنه قد ناله منهم ما قصه الله فيما سبق من صنوف الأذى.
قال الواحدي؛ ولم يذكر أباه يعقوب مع عظم ما دخل عليه من الغم بفراقه تعظيماً له ورفعاً من قدره، وعلما بأن ذلك كان بلاء له من الله عز وجل ليزيد في درجته عنده تعالى.
(إذ أنتم جاهلون) نفى عنهم العلم وأثبت لهم صفة الجهل لأنهم لم يعملوا بما يقتضيه العلم، وقيل أنه أثبت لهم صفة الجهل لقصد الاعتذار عنهم وتخفيف الأمر عليهم، فكأنه قال إنما اقدمتم على ذلك الفعل القبيح المنكر وقت عدم علمكم بما فيه من الإثم وقصور معارفكم عن عاقبته وما يترتب عليه، أو أراد أنهم عند ذلك في أوان الصبا وزمان الصغر اعتذاراً لهم ودفعاً لما يدهمهم من الخجل والحيرة مع علمه وعلمهم بأنهم كانوا في ذلك الوقت كباراً، وهذا الآية تصديق لقوله تعالى (وأوحينا إليه لتنبئنهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون).(6/393)
قَالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (90)
(قالوا أئنك لأنت يوسف) قرئ بالاستفهام التقريري وبدونه، وكان(6/393)
ذلك منهم على طريق التعجب والاستغراب.
وقيل سبب معرفتهم له بمجرد قوله (ما فعلتم بيوسف وأخيه) أنهم لما قال لهم ذلك تنبهوا وفهموا أنه لا يخاطبهم بمثل هذا إلا هو، وقيل إنه لما قال لهم هذه المقالة وضع التاج عن رأسه فعرفوه، وقيل إنه تبسم فعرفوا ثناياه.
(قال أنا يوسف) أجابهم بالاعتراف بما سألوه عنه، قال ابن الأنباري: أظهر الاسم فقال أنا يوسف ولم يقل أنا هو تعظيماً لما وقع له من ظلم إخوته، كأنه قال أنا المظلوم المستحل منه المحرم المراد قتله، فاكتفى بإظهار الاسم عن هذه المعاني وقال (وهذا أخي) مع كونهم يعرفونه ولا ينكرونه لأن قصده وهذا أخي المظلوم كظلمي (قد منَّ الله علينا) بالخلاص عما ابتلينا به، وقيل منَّ الله علينا بكل خير في الدنيا والآخرة وقيل بالجمع بيننا بعد التفرق وقيل بالسلامة في ديننا ودنيانا ولا مانع من إرادة جميع ذلك.
(إنه من يتق ويصبر) قرئ بالجزم على أن من شرطية وقرئ بإثبات الياء في يتقي وقيل من موصولة لا شرطية وهو بعيد والمعنى من يفعل التقوى أو يفعل ما يتقيه من الذنوب ويصبر على المصائب، وقيل يتقي الزنا ويصبر على العزوبة، وقيل يتقي المعصية ويصبر على السجن، وقيل يتقي الله بأداء فرائضه ويصبر عما حرم الله، وقيل يتقي الفحشاء ويصبر على الطاعة والعموم أولى، ولا وجه لتخصيص نوع دون نوع.
(فإن الله لا يضيع أجر المحسنين) على العموم فيدخل فيه ما يفيده السياق دخولاً أولياً وجاء بالظاهر وكان المقام مقام المضمر أي أجرهم للدلالة على أن الموصوفين بالتقوى موصوفون بصفة الإحسان.(6/394)
قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ (91)
(قالوا تالله لقد آثرك) اختارك وفضلك (الله علينا) بما خصك به من صفات الكمال أو بالعلم والعقل أو بالملك قاله الضحاك أو بالصبر قاله أبو صالح أو بالحلم والصفح أو بالحسن، وقيل بالنبوة وقيل بسائر الفضائل التي أعطاها الله له دون إخوته، واللفظ أوسع من ذلك ويدخل فيه ما ذكر دخولاً(6/394)
أولياً، وهذا اعتراف منهم بفضله وعظيم قدره قيل ولا يلزم من ذلك أن لا يكونوا أنبياء، فإن درجة الأنبياء متفاوتة قال الله تعالى (تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض) ويستعار آثر للفضل والإيثار للتفضيل.
(وإن كنا لخاطئين) أي وإن الشأن كذلك، قال أبو عبيدة: خطأ وأخطأ واحد، وقال الأزهري: المخطئ من أراد الصواب فصار إلى غيره. ومنه قولهم المجتهد يخطئ ويصيب والخاطئ من تعمد ما لا ينبغي، قالوا هذه المقالة المتضمنة للاعتراف بالخطأ والذنب استجلابا لعفوه واستجذاباً لصفحه، وقيل آثر لفظ خاطئين على مخطئين موافقة لرؤوس الآي.(6/395)
قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (92)
(قال لا تثريب) التثريب التعيير والتوبيخ أي لا لوم (عليكم اليوم) قال الأصمعي: ثربت عليه قبحت عليه فعله، وقال الزجاج: المعنى لا إفساد لا بيني وبينكم من الحرمة وحق الأخوة ولكم عندي الصفح والعفو، وأصل التثريب الإفساد وهي لغة أهل الحجاز، وقال ابن الأنباري: معناه قد انقطع عنكم توبيخي عند اعترافكم بالذنب.
قال ثعلب: ثرب فلان على فلان إذا عدد عليه ذنوبه وأصل التثريب من الثرب وهو الشحم الذي هو غاشية الكرش، ومعناه إزالة التثريب كما أن التجليد والتقريع إزالة الجلد والقرع أي لا تثريب مستقر أو ثابت عليكم.
وقد جوز الأخفش الوقف على (عليكم) فيكون اليوم متعلقاً بالفعل الذي بعده وقد ذكر مثل هذا ابن الأنباري عن عكرمة قال لا تثريب لا تعيير، وأخرج أبو الشيخ عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة التفت إلى الناس فقال ماذا تقولون وماذا تظنون فقالوا: ابن عم كريم فقال لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم (1).
ثم دعا لهم بقوله (يغفر الله لكم) على تقدير الوقف على اليوم وهو بمنزلة التعليل أو أخبرهم بأن الله قد غفر لهم ذلك اليوم على تقدير الوقف على
_________
(1) أنظر كامل القصة في سيرة ابن هشام 4/ 54، 55؛ طبعة مصطفى البابي الحلبي بمصر 1355هـ، 1936م.(6/395)
عليكم (وهو أرحم الراحمين) يرحم عباده رحمة لا يتراحمون بها فيما بينهم فيجازي محسنهم ويغفر لمسيئهم.
قال عطاء الخراساني: طلب الحوائج إلى الشباب أسهل منها عند الشيوخ ألم تر إلى قول يوسف عليه السلام (لا تثريب عليكم اليوم) وقال يعقوب (سوف أستغفر لكم ربي).
أقول وفي هذا الكلام نظر فإنهم طلبوا من يوسف عليه السلام أن يعفو عنهم لقولهم (لقد آثرك الله علينا) فقال (لا تثريب عليكم اليوم) لأن مقصودهم صدور العفو منه عنهم وطلبوا من أبيهم يعقوب أن يستغفر الله لهم وهو لا يكون إلا بطلب ذلك منه إلى الله عز وجل وبين المقامين فرق، فلم يكن وعد يعقوب لهم بخلاً عليهم بسؤال الله لهم ولا سيما إذا صح ما تقدم من أنه أخر ذلك إلى وقت الإجابة فإنه لو طلبه لهم في الحال لم يحصل له علم بالقبول.
وأخرج الحكيم الترمذي وأبو الشيخ عن وهب بن منبه قال: لما كان من أمر إخوة يوسف عليه السلام ما كان كتب يعقوب إلى يوسف عليه السلام وهو لا يعلم أنه يوسف عليه السلام بسم الله الرحمن الرحيم من يعقوب بن إسحاق ابن إبراهيم إلى عزيز آل فرعون سلام عليك فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو: أما بعد فإنّا أهل بيت مولع بنا أسباب البلاء كان جدي إبراهيم خليل الله ألقي في النار في طاعة ربه فجعلها الله عليه برداً وسلاماً، وأمر الله جدي أن يذبح له أبي (1) ففداه الله بما فداه، وكان لي ابن وكان أحب الناس إليَّ ففقدته فأذهب حزني عليه نور بصري وكان له أخ من أمه كنت إذا ذكرته ضممته إلى صدري فأذهب على بعض وجدي وهو المحبوس عندك في السرقة وإني أخبرك لم أسرق، ولم ألد سارقاً، فلما قرأ يوسف عليه السلام الكتاب بكى وصاح وقال:
_________
(1) الصحيح والقول الراجح أن الذبيح هو نبي الله إسماعيل وهو الابن الأكبر للخليل صلى الله عليه وسلم.(6/396)
اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (93) وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ (94) قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ (95)(6/397)
اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (93)
(اذهبوا بقميصي) الباء للتعدية أو اذهبوا معكم قميصي و (هذا) نعت له أو بيان أو بدل قيل هو القميص الذي ألبسه الله إبراهيم لما ألقي في النار وكساه إبراهيم إسحاق وكساه إسحاق يعقوب، وكان يعقوب أدرج هذا القميص في قصب وعلقه في عنق يوسف عليه السلام لما كان يخاف عليه من العين، فأخبر جبريل يوسف أن يرسل به إلى يعقوب ليعود عليه بصره لأن فيه ريح الجنة لا يقع على سقيم إلا شفي، ولا مُبْتَلَى إلا عوفي.
قال ابن عباس: ولو علم إخوته إذ ألقوه في الجب لأخذوه فلما أراد الله أن يرد يوسف عليه السلام على يعقوب وكان بين رؤياه وتعبيره أربعون سنة أمر البشير أن يبشره من ثمان مراحل فوجد يعقوب ريحه، وليس يقع شيء من الجنة على عاهة من عاهات الدنيا إلا أبرأها بإذن الله.
(فألقوه على وجه أبي يأت بصيرا) المعنى يصير بصيراً على أن يأت هي التي من أخوات كان، قال الفراء: يرجع بصيراً، وقال السدي: يعود بصيراً ويشهد له (فارتد بصيراً) قيل كان ذلك بوحي الله وقيل بعث إليه قميصه ليزول بكاؤه وينشرح صدره، قال يهوذا أنا أحمل قميص الشفاء كما ذهبت بقميص الجفاء قيل حمله وهو حاف حاسر من مصر إلى كنعان وبينهما مسيرة ثمانين فرسخاً وقيل معناه يأت إليّ إلى مصر وهو بصير قد ذهب عنه العمى.
ويؤيده قوله (وأتوني بأهلكم أجمعين) أي جميع من شمله لفظ الأهل(6/397)
من النساء والذراري، قيل كانوا نحو سبعين وقيل ثلاثة وتسعين.(6/398)
وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ (94)
(ولما فصلت العير) أي خرجت منطلقة من عريش مصر أو من مصر إلى الشام، يقال فصل فصولاً وفصلته فصلاً لازم ومتعد. ويقال فصل من البلد فصولاً إذا انفصل عنه وخرج منه وجاوز حيطانه.
(قال أبوهم) يعقوب لمن عنده في أرض كنعان من أهله (إني لأجد ريح يوسف) أي أدركها بحاسة الشم أي أشمها أي ريح الجنة من قميص يوسف عليه السلام، فالإضافة لأدنى ملابسة.
قيل إنها هاجت ريح فصفقت القميص ففاحت روائح الجنة في الدنيا فحملت ريح القميص إلى يعقوب مع طول المسافة فأخبرهم بما وجد. قال ابن عباس: وجد ريحه من مسيرة ثمانية أيام، وقيل من مسيرة عشرة أيام؛ وقيل من مسيرة ثمانين فرسخاً.
ثم قال (لولا أن تفندون) أي لولا إن تنسبوني إلى الفند وهو ذهاب العقل من الهرم، يقال أفند الرجل إذا خرف وتغير عقله قاله مجاهد، وقال أبو عبيدة: لولا أن تسفهون فجعل الفند السفه.
وقال الزجاج وابن عباس: لولا أن تجهلون فجعل الفند الجهل، وقال أبو عمرو الشيباني: التفنيد التقبيح، وقيل هو الكذب، قاله ابن عباس، وقال ابن الأعرابي: لولا أن تضعفوا رأي. وروى مثله عن أبي عبيدة، وقال الأخفش: التفنيد اللوم وضعف الرأي.
وكل هذه المعاني راجع إلى التعجيز وتضعيف الرأي، يقال فنده تفنيداً إذا أعجزه التعجيز وأفند إذا تكلم بالخطأ، والفند الخطأ من الكلام. وعن الربيع(6/398)
قال: لولا أن تحمقون، أخبرهم يعقوب بأن الصَّبا قد حملت إليه ريح حبيبه وأنه لولا ما يخشاه من التفنيد لما شك في ذلك:
فإن الصبا ريح إذا ما تنفست ... على نفس مهموم تجلت همومها
إذا قلت هذا حين أسلو يهيجني ... نسيم الصبا من حيث ما يطلع الفجر
ولقد تهب لي الصبا من أرضها ... فيلذ مسّ هبوبها ويطيب
قيل أن ريح الصبا استأذنت ربها في أن تأتي يعقوب بريح يوسف عليه السلام قبل أن يأتيه البشير.
قال أهل المعاني: إنّ الله أوصل إليه ريح يوسف عليه السلام عند انقضاء مدة المحنة من المكان البعيد، ومنع من وصول خبره إليه مع قرب إحدى البلدتين من الأخرى في مدة ثمانين سنة، وذلك يدل على أن كل سهل فهو في مدة المحنة صعب، وكل صعب فهو في زمان الإقبال سهل.(6/399)
قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ (95)
(قالوا) أي قال الحاضرون عنده من أهله (تالله إنك) يا يعقوب (لفي ضلالك) ذهابك (القديم) عن طريق الصواب الذي كنت عليه قديماً من إفراط حبك ليوسف عليه السلام ورجاء لقائه على بعد العهد لا تنساه ولا تفتر عنه، ولسان حال يعقوب يقول لهم:
لا يعرف الشوق إلا من يكابده ... ولا الصبابة إلا من يعانيها
لا تعذل المشتاق في أشواقه ... حتى تكون حشاك في أحشائه
وقيل الضلال الجنون قاله سعيد بن جبير، وقيل أنك في محبتك القديمة، قاله مجاهد، وقال ابن عباس: في خطئك القديم، قالوا له ذلك لأنه لم يكن قد بلغهم قدوم البشير وكان عندهم أن يوسف قد مات وهلك.(6/399)
فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (96) قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ (97) قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (98) فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ (99) وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100)(6/400)
فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (96)
(فلما أن جاء البشير) بين يدي العير قال ابن عباس: البشير البريد، وعن الضحاك مثله، قال المفسرون البشير هو يهوذا بن يعقوب قال لأخيه أنا جئته بالقميص ملطخاً بالدم فأعطني اليوم قميصك لأخبره أنك حي فأفرحه كما أحزنته وبه قال سفيان.
(ألقاه على وجهه) أي ألقى البشير قميص يوسف عليه السلام على وجه يعقوب أو ألقاه يعقوب على وجه نفسه (فارتد) الارتداد انقلاب الشيء إلى حال قد كان عليها، والمعنى عاد (بصيراً) ورجع إلى حالته الأولى من صحة بصره وقوته وسروره. وعن الحسن قال: لما أن جاء البشير إلى يعقوب فألقى عليه القميص قال على أي دين خلفت يوسف؟ قال على الإسلام، قال الآن تمت النعمة.
(قال) يعقوب لمن كان عنده من أهله الذين قال لهم إني لأجد ريح يوسف عليه السلام (ألم أقل لكم) هذا القول فقلتم ما قلتم، ويكون قوله (إني أعلم من الله مما لا تعلمون) كلاماً مبتدأً لا يتعلق بالقول، ويجوز أن(6/400)
تكون الجملة مقول القول ويريد بذلك إخبارهم بما قاله لهم سابقاً إنما أشكو بثي وحزني إلى الله، والمعنى أعلم من الله ما لا تعلمون من حياة يوسف عليه السلام وأن الله يجمع بيننا.(6/401)
قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ (97)
(قالوا يا أبانا استغفر لنا ذنوبنا إنا كنا خاطئين) طلبوا منه أن يستغفر لهم واعترفوا بالذنب؛ وفي الكلام حذف والتقدير لما رجعوا من مصر ووصلوا إلى أبيهم، قالوا هذا القول اعتذاراً عما حصل منهم فوعدهم بما طلبوه منه و(6/401)
قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (98)
(قال سوف أستغفر لكم ربي) قال الزجاج أراد يعقوب أن يستغفر لهم في وقت السحر لأنه أخلق بإجابة الدعاء لا أنه بخل عليهم بالاستغفار. قاله ابن مسعود.
وقال ابن عباس: أخرهم إلى السحر، وكان يصلي لأن دعاء السحر مستجاب. وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عنه أيضاً قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم في قصة " هو قول أخي يعقوب لبنيه سوف أستغفر لكم ربي، يقول حتى تأتي ليلة الجمعة (1) ".
قيل أخره إلى ليلة الجمعة لأنها اشرف الأوقات، وقيل أخره إلى أن يستحل لهم من يوسف عليه السلام ولم يعلم أنه قد عفا عنهم أو ليعرف حالهم في صدق التوبة، وجملة (إنه هو الغفور الرحيم) تعليل لما قبلها.
_________
(1) ابن كثير 2/ 490.(6/401)
فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ (99)
(فلما دخلوا على يوسف) لعل في الكلام محذوفاً مقدراً وهو فرحل يعقوب وأولاده وأهله إلى مصر فلما دخلوا على يوسف عليه السلام وهم يومئذ اثنان وسبعون ما بين رجل وامرأة.
وقال مسروق: كانوا ثلاثة وسبعين، قيل وكان دخولهم يوم عاشوراء،(6/401)
وكانوا حين خرجوا من مصر مع موسى ستمائة ألف وخمسمائة وبضعة وسبعين رجلاً سوى الذرية والهرمى، وكانت الذرية ألف ألف ومائتي ألف، قاله القرطبي، فقد بورك فيهم كثيراً حتى بلغوا هذا العدد في مدة موسى مع أن بينه وبين يوسف عليه السلام أربعمائة سنة كما في التحبير.
قال أبو هريرة: دخل يعقوب مصر في ملك يوسف عليه السلام وهو ابن مائة وثلاثين سنة وعاش في ملكه ثلاثين سنة ومات يوسف عليه السلام وهو ابن مائة وعشرين سنة، قال أبو هريرة: وبلغني أنه كان عمر إبراهيم خليل الله مائة وخمسة وتسعين سنة.
(آوى إليه أبويه) أي ضمهما وأنزلهما عنده، قال المفسرون المراد بالأبوين هنا يعقوب وزوجته خالة يوسف عليه السلام لأن أمه قد ماتت في ولادتها لأخيه بنيامين، وقيل أحيى الله له أمه تحقيقاً للرؤيا حتى سجدت له، وبه قال قتادة وسفيان بن عيينة.
قال الخازن: والأول هو المعتمد وهذا مبني على أنه تزوج راحيل في حياة أختها ليا، قال الحفناوي وهذا قول ضعيف وأن الراجح أن ليا ماتت قبل أن يتزوج راحيل، وعلى هذا فلعله كانت لهما أخت ثالثة تزوجها يعقوب بعدهما وأدركت هذه القضية انتهى، وقيل كانت أمه باقية فلا حاجة إلى التأويل وهو الأولى بظاهر النظم القرآني.
(وقال ادخلوا مصر) أي للإقامة بها (إن شاء الله آمنين) على أنفسكم وأهليكم مما تكرهونه من القحط وأصناف المكاره، وقد كانوا فيما مضى يخافون ملوك مصر ولا يدخلونها إلا بجوار منهم، وقيل والتقييد بالمشيئة عائد إلى الدخول مع الأمن ولا مانع من عوده إلى الجميع لأن دخولهم لا يكون إلا بمشيئة الله سبحانه كما أنهم لا يكونون آمنين إلا بمشيئته.(6/402)
وقيل أن التقيد بالمشيئة راجع إلى قوله عليه السلام: سوف أستغفر لكم ربي، وهو بعيد جداً وظاهر النظم القرآني أن يوسف عليه السلام قال لهم هذه المقالة أعني ادخلوا مصر قبل دخولهم، وقد قيل في توجيه ذلك أنه تلقاهم إلى خارج مصر فوقف منتظراً لهم في مكان أو خيمة فدخلوا عليه فآوى إليه أبويه وقال ادخلوا مصر، فلما دخلوا مصر دخلوا عليه دخولاً آخر في المكان الذي له بمصر فهذا الدخول غير الأول.
ولمصر فضائل كثيرة ذكرها المقريزي في الخطط منها أن الله عز وجل ذكرها في كتابه العزيز بضعاً وعشرين مرة تارة بصريح الذكر وتارة إيماء وقال ابن عباس سميت مصر بالأرض كلها في عشرة مواضع من القرآن وقد جاء في فضل مصر أحاديث أوردها المقريزي في تاريخه، ومن أراد أن يذكر الفردوس أو ينظر إلى مثلها في الدنيا فلينظر إلى أرض مصر حين يخضر زرعها وتنور ثمارها ومن شاء أن يطلع على مواقع مصر ومجرياتها فعليما أن ينظر في الخطط وفي حسن المحاضرة للسيوطي.(6/403)
وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100)
(ورفع أبويه على العرش) أي أجلسهما معه على السرير الذي يجلس عليه كما هي عادة الملوك قال ابن عباس: العرش السرير والرفع النقل إلى العلو (وخروا) أي الأبوان والإخوة (له) أي ليوسف عليه السلام (سجداً) وكان ذلك جائزاً في شريعتهم منزلاً منزل التحية، وقيل لم يكن ذلك سجوداً بل هو مجرد ايماء وانحناء وكانت تلك تحيتهم وهو يخالف معنى خروا له سجداً فإن الخرور في اللغة المقيد بالسجود لا يكون إلا بوضع الوجه على الأرض.
وقيل الضمير في له راجع إلى الله سبحانه أي وخروا لله سجداً وهو بعيد جداً وقيل أن الضمير ليوسف عليه السلام واللام للتعليل أي وخروا لأجله وفيه أيضاً بعد، قال عدي بن حاتم في الآية كانت السجدة تحية من كان قبلكم فأعطاكم الله السلام مكانها، وعن قتادة نحوه، وعن ابن زيد قال ذلك سجود تشرفة كما(6/403)
سجدت الملائكة تشرفة لآدم وليس سجود عبادة وكان ذلك بأمر الله لتحقيق رؤياه.
(وقال) يوسف عليه السلام (يا أبت هذا تأويل رؤياي) التي تقدم ذكرها (من قبل) أي من قبل هذا الوقت في حال الصغر (قد جعلها ربي حقاً) أي صدقاً بوقوع تأويلها في اليقظة على ما دلت عليه قيل وكان بين الرؤيا والتأويل أربعون سنة أو ثمانون أو ست وثلاثون أو اثنتان وعشرون، وقيل خمس وثلاثون، وقيل سبعون حكى هذه الأقوال كلها ابن الجوزي والله أعلم كم كان بينهما.
(وقد أحسن بي) الأصل أن يتعدى فعل الإحسان بإلى وقد يتعدى بالباء كما في قوله وبالوالدين إحساناً ويقال بي وإليّ بمعنى واحد، وقيل أنه ضمن أحسن معنى لطف أي لطف بي محسناً (إذ أخرجني من السجن) بعدما ابتليت به، ولم يذكر إخراجه من الجب، لأن في ذكره نوع من تثريب وتخجيل للإخوة وقد قال (لا تثريب عليكم اليوم) وقد تقدم سبب سجنه ومدة بقائه فيه.
وقد قيل إن وجه عدم ذكر إخراجه من الجب أن المنة كانت في إخراجه من السجن أكبر من المنة في إخراجه من الجب لأن دخوله الجب كان بحسد إخوته ودخوله السجن بسبب تهمة المرأة فإخراجه من السجن كان لزوال التهمة عنه، وكان ذلك من أعظم نعمه سبحانه عليه وفيه بعد وضعف، وقيل لأن إخراجه من السجن كان سبباً لوصوله إلى الملك، أو لأن مصيبة السجن عنده كانت أعظم لطول مدتها ولمصاحبة الأوباش وأعداء الدين فيه بخلاف مصيبة الجب لقصر مدتها ولكون المؤنس له فيها جبريل عليه السلام وغيره من الملائكة.
(وجاء بكم من البدو) أي البادية أي أرض كنعان بالشام وكانوا أهل(6/404)
مواشي وبرية فسكنوا البادية، وقيل أن يعقوب عليه السلام تحول إلى البادية بعد النبوة لأن الله لم يبعث نبياً من البادية وأن المكان الذي كان فيه يعقوب يقال له بدا وفيه نظر والبدو هو البسيط من الأرض والبدو خلاف الحضر والبادية خلاف الحاضرة، قال الخفاجي البادية والبدو بمعنى، قيل سميت به لأن ما فيها يبدو للناظر لعدم ما يواريه.
(من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي) أي بعد أن أفسد بيننا وحمل بعضنا على بعض يقال نزغه إذا نخسه وأصله من نخس الدابة ليقوى مشيها وأحال يوسف ذنب إخوته على الشيطان تكرماً منه وتأدبا (إنّ ربي لطيف) قال الأزهري: هو من أسماء الله تعالى معناه الرفيق بعباده يقال لطف فلان بفلان يلطف إذا رفق به.
وقال عمرو بن أبي عمرو: اللطيف الذي يوصل إليك أَرَبَكَ (1) في لطف، قال الخطابي؛ اللطيف هو البر بعباده الذي يلطف بهم من حيث لا يعلمون ويسبب لهم مصالحهم من حيث لا يحتسبون، وقيل اللطيف العالم بدقائق الأمور، قال قتادة: لطف بيوسف عليه السلام وصنع له حين أخرجه من السجن وجاء بأهله من البدو ونزع من قلبه نزع الشيطان وتحريشه على إخوته.
(لما يشاء) أي لأجل ما يشاء حتى يجيء على وجه الصواب (إنه هو العليم) بأموره (الحكيم) في أفعاله.
_________
(1) الإرْبَةُ، والَأرَبُ: الحاجة (مجمل اللغة لابن فارس/93؛ تحقيق زهير عبد المحسن سلطان، طبعة مؤسسة الرسالة - بيروت 1406 هـ، 1986 م.)(6/405)
رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101) ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (102) وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (103) وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (104) وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ (105) وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106)
ولما أتمّ الله نعمته على يوسف عليه السلام بما خلصه من المحن العظيمة، وبما خوله من الملك وعلمه من العلم، تاقت نفسه إلى الخير الأخروي الدائم الذي لا ينقطع فقال(6/406)
رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101)
(رب قد آتيتني من الملك) من للتبعيض أي بعض الملك لأنه لم يؤت كل الملك، إنما أوتي ملكاً خاصاً وهو ملك مصر في زمن خاص، وقيل زائدة، وقيل لبيان الجنس، والملك عبارة عن الاتساع في الشيء المقدور لمن له السياسة والتدبير ولم يملك جميع أقطار الأرض إلا أربعة: اثنان مسلمان إسكندر وسليمان، وإثنان كافران بختنصر وشداد بن عاد.
قلت وسيملك خامس وهو عيسى بن مريم حين ينزل من السماء إلى الأرض كما وردت به الأحاديث الصحيحة.
(وعلمتني من تأويل الأحاديث) أي بعضها لأنه لم يعط جميع علم التأويل سواء أريد به مطلق العلم والفهم أو مجرد تأويل الرؤيا، وقيل من للجنس كما في قوله تعالى فاجتنبوا الرجس من الأوثان وقيل زائدة كما تقدم.
(فاطر السماوات والأرض) أي يا فاطرهما أو منتصب بإضمار أعني أو على أنه صفة لرب أو بدل أو بيان، والفاطر الخالق والمنشئ والمخترع والمبدع(6/406)
(أنت ولي) أي ناصري ومتولي أموري (في الدنيا والآخرة) تتولاني فيهما.
(توفني مسلماً) أي على الإسلام لا يفارقني حتى أموت، قيل إنه دعا بذلك مع علمه بأن كل نبي لا يموت إلا مسلماً إظهاراً للعبودية والافتقار وشدة الرغبة في طلب سعادة الخاتمة وتعليماً لغيره، وهذه حالة زائدة على الإسلام الذي هو ضد الكفر؛ والمطلوب هاهنا هو الإسلام بهذا المعنى، قاله الرازي والخطيب والكرخُي.
قال ابن عباس: ما سأل نبي الوفاة غير يوسف عليه السلام اشتاق إلى لقاء الله واحب أن يلحق به وبآبائه، فدعا الله أن يتوفاه (و) قال (ألحقني بالصالحين) من النبيين من آبائي وغيرهم فأظفر بثوابهم منك ودرجاتهم عندك، قال الضحاك: يعني إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب، وقال عكرمة: يعني أهل الجنة.
قيل إنه لما دعا بهذا الدعاء توفاه الله عز وجل ولم يأت عليه أسبوع بعد هذا الدعاء، قيل كان عمره عند أن أَلقي في الجب سبع عشرة سنة، وكان في العبودية والسجن والملك ثمانين سنة إلى قدوم أبيه يعقوب، ثم عاش بعد اجتماع شملهم حتى كمل عمره المقدار الذي سيأتي وتوفاه الله.
وليس في اللفظ ما يدل أنه طلب الوفاة في الحال ولهذا ذهب الجمهور إلى أنه لم يتمن الموت بهذا الدعاء في الحال وإنما دعا ربه أن يتوفاه على دين الإسلام ويلحقه بالصالحين من عباده عند حضور أجله.
وقد عاش بعد ذلك سنين كثيرة وولد له من امرأة العزيز ثلاثة أولاد إفراثيم وميشا ورحمة امرأة أيوب، ولما مات دفنوه في أعلى النيل في صندوق من رخام وقيل من حجارة المرمر لتعم البركة جانبيه، فسبحان من لا انقضاء لملكه، فبقي أربعمائة سنة إلى أن أخرجه موسى وحمله معه حتى دفنه بقرب آبائه بالشام في الأرض المقدسة فهو الآن هناك.(6/407)
ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (102)
(ذلك) المذكور من أمر يوسف أي قصته وما جرى له مع إخوته وما(6/407)
صار إليه من الملك بعد الرق (من أنباء الغيب) أخباره (نوحيه إليك) خبر ثان، قال الزجاج: ويجوز أن يكون (ذلك) بمعنى الذي أي الذي من أنباء الغيب نوحيه إليك والمعنى الإخبار من الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم بأن هذا الذي قصه عليه من أمر يوسف وإخوته من الأخبار التي كانت غائبة عنه فأوحاه الله إليه وأعلمه به، ولم يكن عنده قبل الوحي شيء من ذلك.
وفيه تعريض ساطع بكفار قريش لأنهم كانوا مكذبين له صلى الله عليه وسلم بما جاء به جحوداً وعناداً وحسداً مع كونهم يعلمون حقيقة الحال، ودليل قاطع على صحة نبوته صلى الله عليه وسلم لأنه كان أمياً بحتاً لم يقرأ الكتب ولم يلق العلماء ولم يسافر إلى غير بلده الذي نشأ فيه، ومع ذلك أتى بهذه القصة الطويلة على أحسن تركيب وأفصح عبارة فعلم إن إتيانه بها بوحي من الله سبحانه وتعالى.
(وما كنت لديهم) أي لدى إخوة يوسف وهو تعليل لكل من الخبرين (إذ أجمعوا أمرهم) إجماع الأمر العزم عليه أي إذ عزموا جميعاً على إلقائه في الجب (وهم) أي بنو يعقوب في تلك الحالة (يمكرون) بيوسف عليه السلام في هذا الفعل الذي فعلوه به ويبغونه الغوائل أو يمكرون بيعقوب حين جاءوه بقميص ملطخاً بالدم وقالوا أكله الذئب.
وإذا لم يكن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لديهم عند أن فعلوا ذلك انتفى علمه بذلك مشاهدة ولم يكن بين قوم لهم علم بأحوال الأمم السالفة، ولا خالطهم ولا خالطوه، فانتفى علمه بذلك بطريق الرواية عن الغير، فلم يبق بعلمه بذلك طريق إلا مجرد الوحي من الله سبحانه فهذا يستلزم الإيمان بما جاء به.
فلما لم يؤمن بذلك من عاصره من الكفار قال الله سبحانه ذاكراً لهذا(6/408)
وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (103)
(وما أكثر الناس ولو حرصت) على هدايتهم وبالغت في ذلك (بمؤمنين) بالله لتصميمهم على الكفر الذي هو دين آبائهم، يقال حرص يحرص مثل ضرب(6/408)
يضرب وفي لغة ضعيفة مثل حمد يحمد، والحرص طلب الشيء باجتهاد والاسم الحرص بكسر وحرص حرصاً من باب تعب لغة إذا رغب رغبة مذمومة.
وقال الزجاج: معناه ما أكثر الناس بمؤمنين ولو حرصت على أن تهديهم، لأنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء، قال ابن الأنباري: أن قريشاً واليهود سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن قصة يوسف وإخوته فشرحها شرحاً شافياً وأتى بها على وفق ما عندهم في التوراة، وهو يأمل أن يكون ذلك سبباً لإسلامهم، فخالفوا ظنه ولم يسلموا فحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم لذلك فعزاه الله بقوله وما أكثر الناس. الآية.(6/409)
وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (104)
(وما تسألهم عليه) أي على القرآن وما تتلوه عليهم منه أو على الإيمان وحرصك على وقوعه منهم أو على ما تحللهم به من هذا الحديث (من أجر) من مال يعطونك إياه ويجعلونه لك كما يفعله أحبارهم (إن هو) أي القرآن أو الحديث الذي حدثتهم به (إلا ذكر للعالمين) كافة قاطبة لا يختص بهم وحدهم وهذا كالتعليل لما قبله لأن الوعظ العام ينافي أخذ الأجر من البعض.(6/409)
وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ (105)
(وكأين من آية) قال الخليل وسيبويه إن كأين أصلها (أي) دخل عليها كاف التشبيه لكنه انمحى عن الحرفين المعنى الإفرادي وصار المجموع باسم واحد بمعنى كم الخبرية التكثيرية والأكثر إدخال من في مميزة وهو تمييز عن الكاف لا عن أي كما في مثلك رجلاً.
والمعنى كم من آية كائنة (في السماوات) من كونها منصوبة بغير عمد مزينة بالكواكب النيرة السيارة والثوابت (والأرض) من جبالها وقفارها وبحارها ونباتها وحيواناتها تدلهم على توحيد الله سبحانه، وأنه الخالق لذلك والرازق له المحيي المميت.
قال الضحاك: كم من آية في السماء، يعني شمسها وقمرها، ونجومها وسحابها، وفي الأرض ما فيها من الخلق والأنهار والجبال والمدائن والقصور(6/409)
ولكن أكثر الناس (يمرون عليها) أي على هذه الأيات غير متأملين لها ولا متفكرين فيها ولا ملتفتين إلى ما تدل عليه من وجود خالقها وأنه المتفرد بالألوهية مع كونهم مشاهدين لها، وفي مصحف عبد الله يمشون عليها، والمراد ما يرون فيها من آثار الأمم الهالكة وغير ذلك من الآثار والعبر.
(وهم عنها معرضون) وإن نظروا إليها بأعيانهم فقد أعرضوا عما هو الثمرة للنظر بالحدقة وهي التفكر والاعتبار والاستدلال.(6/410)
وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106)
(وما يؤمن) أي ما يصدق (أكثرهم) أي أكثر الناس (بالله) من كونه الخالق الرازق المحيي المميت (إلا وهم مشركون) بالله يعبدون معه غيره.
أقول إن إيضاح ما تضمنه هذه الآية يتوقف على إيضاح ما ذكره أهل التفاسير المعتبرة وينحصر ذلك في وجوه اثني عشر، وينضم إلى ذلك ما ذكرته أنا فيكون الوجوه ثلاثة عشر.
الوجه الأول: أن أهل الجاهلية كانوا يقرون بأن الله سبحانه خالقهم ورازقهم ويعبدون غيره من أصنامهم وطواغيتهم، قال تعالى: (ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله، ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله) لكنهم كانوا يثبتون له شركاء فيعبدونهم ليقربوهم إلى الله كما قالوا (ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى) ومثل هؤلاء الذين اتخذوا أحبارهم أرباباً من دون الله والمعتقدون في الأموات بأنهم يقدرون على ما لا يقدر عليه إلا الله سبحانه كما يفعله كثير من عباد القبور.
فهذا الإقرار الصادر منهم بأن الله عز وجل خالقهم ورازقهم هو يصدق عليه أنه إيمان بالمعنى الأعم أي تصديق لا بالمعنى الأخص أعني إيمان المؤمنين، فهذا الإيمان الصادر منهم واقع في حال الشرك فقد آمنوا حال كونهم مشركين، وإلى هذا الوجه ذهب جمهور المفسرين، ولكنهم لم يذكروا ما ذكرناه(6/410)
هاهنا من تقريره بكونه إيماناً بالمعنى الأعم ولا بد من ذلك حتى يستقيم الكلام ويصدق عليه مسمى الإيمان.
الوجه الثاني: أن المراد بالآية المنافقون لأنهم كانوا يظهرون الإيمان ويبطنون الشرك فما كانوا يؤمنون ظاهراً إلا وهم مشركون باطناً. وروي هذا عن الحسن البصري.
الوجه الثالث: أنهم أهل الكتاب يؤمنون بكتابهم ويقلدون علماءهم في الكفر بغيره ويقولون المسيح ابن الله وعزير ابن الله، فهم يؤمنون بما أنزل الله على أنبيائهم حال كونهم مشركين.
الوجه الرابع: أن المقصود بذلك ما كان يقع في تلبية العرب من قولهم لبيك لا شريك لك إلا شريكاً هو لك، فقد كانوا في هذه التلبية يؤمنون بالله وهم مشركون. روي نحو ذلك عن ابن عباس.
الوجه الخامس: أن المراد بهذه الآية المراؤون من هذه الأمة لأن الرياء هو الشرك المشار إليه بقوله صلى الله عليه وسلم: " الشرك أخفى في أمتي من دبيب النمل " (1) فالمراؤون آمنوا بالله حال كونهم مشركين بالرياء. وأخرج أحمد في السند من حديث محمود بن لبيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " أن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر، قالوا وما الشرك الأصغر يا رسول الله؟ قال الرياء (2)، يقول الله يوم القيامة: إذا جزى الناس بأعمالهم اذهبوا إلى الذين كنتم تراؤون في الدنيا فانظروا هل تجدون عندهم جزاء ".
الوجه السادس: أن المراد بالآية من نسي ربه في الرخاء وذكره عند الشدائد روى ذلك عن عطاء، وفيه أنه لا يصدق على ذلك أنه آمن بالله حال كونه مشركاً إلا أن يجعل مجرد نسيان الذكر والدعاء عند الرخاء شركاً مجازاً كأنه بنسيانه وتركه للدعاء قد عبد إلهاً آخر وهو بعيد، على أنه لا يمكن
_________
(1) صحيح الجامع الصغير/3624.
(2) أحمد بن حنبل 5/ 428 - 429.(6/411)
اجتماع الأمرين لأنه حال الذكر والدعاء غير متصف بالنسيان وترك الذكر، وقد تقرر أن الحال قيد في عاملها إلا أن يعتبر بما كان عليه الشيء فإن ذلك أحد العلاقات المصححة للتجوز، ويدل عليه قوله تعالى: (فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون).
الوجه السابع: أن المراد من أسلم من المشركين فإنه كان مشركاً قبل إيمانه حكم بذلك الحاكم في تفسيره وتقريره أنه ما يؤمن أحدهم بالله إلا وقد كان مشركاً قبل إيمانه والكلام فيه كالكلام في الوجه الذي قبله، والجواب الجواب.
الوجه الثامن: أن المراد بالشرك هاهنا ما يعرض من الخواطر والأحوال حال الإيمان، قاله الواسطي كما حكاه عنه البقاعي، وفيه أن هذه الخواطر والأحوال إن كانت مما يصدق عليه الشرك الأكبر أو الأصغر فذاك وإن كانت خارجة عن ذلك فهو فاسد.
الوجه التاسع: أنهم الذين يشبهون الله بخلقه، رواه الكشاف عن ابن عباس وتقريره أنهم آمنوا بالله حال تشبيههم له بما يكون شركاً أو يؤول إلى الشرك.
الوجه العاشر: هو ما تقوله القدرية من إثبات القدرة للعبد حكاه النسفي في مدارك التنزيل. وتقريره أنهم آمنوا بالله حال إثباتهم ما هو مختص به لغيره وهو شرك أو منزل منزلة الشرك.
الوجه الحادي عشر: ما قاله محيي الدين بن عربي في تفسيره أن أكثر الناس إنما يؤمنون بغير الله ويكفرون بالله دائماً، ففي بعض الأحيان يشركون الله سبحانه مع ذلك الإله الذي هم مؤمنون به فلا يؤمن أكثرهم بالله إلا حال كونه مشركاً، وفيه أن ظاهر النظم القرآني أن الإيمان بالله والشرك بتشريك غيره معه لا يكون إلا بتشريكه مع غيره وبين المعنيين فرق.
الوجه الثاني عشر: ذكره ابن كثير في تفسيره، وهو أن ثمة شركاً خفياً(6/412)
لا يشعر به غالب الناس ممن يفعله، كما روى عن حذيفة أنه دخل على مريض يزوره فرأى في عضده سيراً فقطعه وانتزعه ثم قال: " وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون " وفي الحديث الذي رواه الترمذي وحسنه عن ابن عمر مرفوعاً " من حلف بغير الله فقد أشرك " (1).
وأخرج أحمد وأبو داود من حديث ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن الرقى والتمائم والتولة شرك " (2) وفي لفظ لهما: الطيرة شرك وما منا الا. ولكن الله يذهبه بالتوكل.
وروى أحمد في المسند عن عدي بن عبد الرحمن قال دخلت على عبد الله ابن حكيم وهو مريض فقيل له لو تعلقت فقال أتعلق شيئاً، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من تعلق شيئاً وكل إليه " (3)، ورواه النسائي عن أبي هريرة.
وفي المسند عن عقبة: بن عامر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من علق تميمة فقد أشرك " (4) وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول الله (أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملاً أشرك فيه غيري تركته وشركه) (5).
وروى أحمد وغيره من حديث غيره؛ وفي المسند أيضاً من ردته الطيرة من حاجة فقّد أشرك قالوا يا رسول الله ما كفارة ذلك قال أن يقول أحدهم: " اللهم لا خير إلا خيرك ولا طير إلا طيرك ولا إله غيرك " (6).
وأخرج أحمد من حديث أبي موسى قال خطبنا رسول الله صلى الله عليه
_________
(1) صحيح الجامع الصغير/6080.
(2) صحيح الجامع الصغير/1628.
(3) ابن كثير 2/ 494.
(4) صحيح الجامع الصغير 6270.
(5) مسلم 2985.
(6) صحيح الجامع الصغير 6140.(6/413)
وسلم ذات يوم فقال يا أيها الناس اتقوا هذا الشرك فإنه أخفى من دبيب النمل، ثم قالوا له كيف نجتنبه وهو أخفى من دبيب النمل؟ قال قولوا: " اللهم إنا نعوذ بك أن نشرك بك شيئاً نعلمه ونستغفرك لما لا نعلمه " وقد روي من حديث غيره (1).
إذا عرفت ما تضمنته كتب التفسير من الوجوه التي ذكرناها وعرفت تقريرها على الوجه الذي قررناه فاعلم أن هذه الأقوال إنما هي اختلاف في سبب النزول وأما النظم القرآني فهو صالح لحمله على كل ما يصدق عليه مسمى الإيمان مع وجود مسمى الشرك، والاعتبار بما يفيده اللفظ لا بخصوص السبب كما هو مقرر في مواطنه.
فيقال مثلاً في أهل الشرك أنه ما يؤمن أكثرهم بأن الله هو الخالق الرازق إلا وهو مشرك بالله بما يعبده من الأصنام، ويقال فيمن كان واقعاً في شرك من الشرك الخفي وهو من المسلمين أنه ما يؤمن بالله إلا وهو مشرك بذلك الشرك الخفي، ويقال مثلاً في سائر الوجوه بنحو هذا على التقرير الذي قررناه سابقاً، وهذا يصلح أن يكون وجهاً مستقلاً وهو أوجهها وأرجحها فيما أحسب وإن لم يذكره أحد من المفسرين.
فما قيل من أنه يشكل وجود اتصافهم بالإيمان في حال تلبسهم بالشرك استشكال واقع موقعه، وسؤال حال محله، وجوابه قد ظهر مما سبق فإنه يقال مثلاً إن أهل الجاهلية كان إيمانهم المجامع للشرك هو مجرد الإقرار بأن الله هو الخالق الرازق وهو لا ينافي ما هم عليه من الشرك.
وكذلك يقال إن أهل الإسلام كان شرك من وقع منهم في شيء من الشرك الخفي الأصغر غير مناف لوجود الإيمان منهم لأن الشرك الأصغر لا يخرج به فاعله عن مسمى الإيمان ولهذا كانت كفارته أن يتعوذ بالله من أن يشرك وأن يقول في الطيرة اللهم لا طير إلا طيرك ولا إله غيرك.
_________
(1) أحمد بن جنبل 4/ 402.(6/414)
أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (107) قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ (109) حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (110)
فقد صح بهذا أنه اجتمع الإيمان الحقيقي والشرك الخفي في بعض المؤمنين، واجتمع الإيمان بالمعنى الأعم والشرك الحقيقي في أهل الجاهلية، وكذا يقال في أهل الكتاب أنه اجتمع فيهم الإيمان بما أنزل الله على أنبيائهم والإشراك بجعل بعض المخلوقين أبناء لله عز وجل وهكذا في بقية الوجوه.(6/415)
أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (107)
(أفأمنوا أن تأتيهم غاشية من عذاب الله) الاستفهام للإنكار والغاشية ما يغشاهم ويغمرهم من العذاب كقوله يوم يغشاهم العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم وقيل هي الساعة، وقيل الصواعق والقوارع، وقيل وقيعة تغشاهم، قاله قتادة، وقيل نقمة تشملهم ولا مانع من الحمل على العموم.
(أو تأتيهم الساعة بغتة) أي فجأة من غير سابقه علامة والنصب على الحال قال المبرد جاء عن العرب حال بعد نكرة وهو قولهم وقع أمر بغتة يقال بغتهم الأمر بغتاً وبغتة إذا فاجأهم.
(وهم لا يشعرون) بإتيانها قيل تهيج الصيحة بالناس وهم في أسواقهم غير مستعدين لها.(6/415)
قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108)
(قل) يا محمد للمشركين (هذه) الدعوة التي أدعو إليها والطريقة(6/415)
التي أنا عليها (سبيلي) طريقي وسنتي وفسر ذلك بقوله: (أدعو إلى الله على بصيرة) أي على حجة واضحة والبصيرة المعرفة التي يتميز بها الحق من الباطل (أنا ومن اتبعني) أي ويدعو إليها من اتبعني واهتدى بهدي، قال الفراء: والمعنى ومن اتبعني يدعو إلى الله كما أدعو.
وفي هذا دليل على أن كل متبع لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حق عليه أن يقتدي به في الدعاء إلى الله أي الدعاء إلى الإيمان به وتوحيده والعمل بما شرعه لعباده، قال ابن الأنباري: ويجوز أن يتم الكلام عند قوله أدعو إلى الله، ثم ابتدأ فقال على بصيرة أنا ومن اتبعني، قال قتادة على بصيرة أي على هدى.
(و) أسبح (سبحان الله) أي وأنزه تنزيهاً له عما لا يليق بجلاله من جميع النقائص والشركاء والأضداد والأنداد (وما أنا من المشركين) بالله الذين يتخذون من دونه أنداداً.(6/416)
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ (109)
(وما أرسلنا من قبلك) هذا رد على من قال لولا أنزل عليه ملك أي لم نبعث من الأنبياء إلى من قبلهم (إلا رجالاً) لا ملائكة أي ليسوا من أهل السماء كما قلتم، قاله ابن عباس، فكيف ينكرون إرسالنا إياك، وتدل الآية على أن الله سبحانه لم يبعث نبياً من السماء ولا من الجن، وهذا يرد على من قال إن في النساء أربع نبيات حواء وآسية وأم موسى ومريم.
وقد كان بعثة الأنبياء من الرجال دون النساء أمراً معروفاً عند العرب حتى، قال قيس بن عاصم في سجاح المتنبئة:
أضحت نبيتنا انثى فطيف بها ... وأصبحت أنبياء الله ذكرانا
فلعنة الله والأقوام كلهم ... على سجاح ومن باللوم أغرانا
(نوحي إليهم) نوحي إليك، وقرئ بالياء مبنياً للمفعول (ومن أهل القرى) أي المدائن والأمصار دون أهل البادية لغلبة الجفاء والقسوة على البدو(6/416)
ولكون أهل الأمصار أتم عقلاً وأكمل حلماً وأحسن علماً وأجل فضلاً.
قال قتادة: ما نعلم إن الله أرسل رسولاً قط إلا من أهل القرى لأنهم كانوا أعلم وأحلم من أهل المعمور، وقال الحسن: لم يبعث نبي من بدو ولا من الجن ولا من النساء.
(أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم) أفلم يسر هؤلاء المشركون المنكرون لنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم فينظروا إلى مصارع الأمم الماضية فيعتبروا بهم وما حل بهم من عذاب الله حتى ينزعوا عما هم فيه من التكذيب. قال الحسن: أي كيف عذب الله قوم نوح وقوم لوط وقوم صالح والأمم التي عذبها.
(ولدار) الساعة (الآخرة) أو الحالة الآخرة أو الحياة الآخرة على حذف الموصوف. وقال الفراء: أن الدار هي الآخرة، وأضيف الشيء إلى نفسه لاختلاف اللفظ كيوم الجمعة وصلاة الأولى ومسجد الجامع، والكلام في ذلك مبين في كتب الإعراب، والمراد بهذه الدار الجنة، وقرئ للدار الآخرة (خير) من دار الدنيا (للذين اتقوا أفلا تعقلون) على الخطاب، وقرئ بالتحتية أي يتفكرون ويعتبرون بهم فيؤمنوا.(6/417)
حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (110)
(حتى) غاية لمحذوف دل عليه الكلام، وتقديره وما أرسلنا من قبلك يا محمد إلا رجالاً ولم نعاجل أممهم الذين لم يؤمنوا بما جاءوا به بالعقوبة حتى (إذا استيأس الرسل) عن النصر بعقوبة قومهم، أو حتى إذا استيأسوا من إيمان قومهم لإنهماكهم في الكفر، وقدره القرطبي إلا رجالاً ثم لم نعاقب أمتهم حتى إذا، وقدره ابن الجوزي إلا رجالاً فدعوا قومهم فكذبوهم وطال دعاؤهم وتكذيب قومهم حتى إذا، وقدره الزمخشري إلا رجالاً فتراخى نصرهم حتى؛ وأحسنها ما قدمته. وقال الواحدي: حتى هنا من حروف الابتداء يستأنف بعدها.(6/417)
(وظنوا أنهم قد كذبوا) قرأ جماعة من الصحابة وتابعيهم والكسائي والفراء بالتخفيف مبنياً للمفعول، أي ظن القوم أن الرسل قد كذبوهم فيما أخبروا به من العذاب ولم يصدقوا.
وقيل المعنى ظن القوم أن الرسل قد كذبوا فيما ادعوا من النصر، وقيل المعنى وظن الرسل أنها قد كذبتهم أنفسهم حين حدثتهم بأنهم ينصرون عليهم أو كذبهم رجاؤهم النصر، وقرأ الباقون كذبوا بالتشديد.
والمعنى عليها واضح، أي ظن الرسل بأن قومهم قد كذبوهم فيما وعدوهم به من العذاب، ويجوز في هذا أن يكون فاعل ظن القوم المرسل إليهم على معنى أنهم ظنوا أن الرسل قد كذبوا فيما جاءوا به من الوعد والوعيد، وقرأ مجاهد وحميد قد كذبوا بالتخفيف معروفاً على معنى وظن قوم الرسل أن الرسل قد كذبوا. وقد قيل أن الظن في هذه الآية بمعنى اليقين لأن الرسل قد تيقنوا أن قومهم كذبوهم، وليس ذلك مجرد ظن منهم، والذي ينبغي أن يفسر الظن باليقين في مثل هذه الصورة، ويفسر بمعناه الأصلي فيما يحصل فيه مجرد ظن فقط من الصور السابقة، وقد أطال الخازن والخفاجي في بيان معنى هذه الآية بما ليس في ذكره كثير فائدة وفيما ذكرناه مقنع وبلاغ.
(جاءهم نصرنا) أي فجاء الرسل نصر الله سبحانه فجأة أو جاء قوم الرسل الذين كذبوهم نصر الله لرسله بإيقاع العذاب على المكذبين.
وأخرج البخاري وغيره من طريق عروة أنه سأل عائشة عن قول الله سبحانه حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا قال: قلت أكذبوا أم كذبوا يعني هل هذه الكلمة مخففة أومشددة؟ فقالت بل كذبوا تعني بالتشديد، قلت والله لقد استيقنوا أن قومهم كذبوهم فما هو بالظن، قالت أجل لعمري لقد استيقنوا بذلك فقلت لعلها وظنوا أنهم قد كذبوا مخففة، قالت معاذ الله لم(6/418)
تكن الرسل لتظن ذلك بربها قلت فما هذه الآية قالت هم أتباع الرسل الذين آمنوا بهم وصدقوهم وطال عليهم البلاء واستأخر عنهم النصر حتى إذا استيأس الرسل ممن كذبهم من قومهم وظنت الرسل أن أتباعهم قد كذبوهم جاءهم نصر الله عند ذلك.
وقال ابن عباس: كذبوا مخففة يقول اخلفوا وكانوا بشراً حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله، قال عروة: عن عائشة أنها خالفت ذلك وأبته وقالت: والله ما وعد الله رسوله من شيء إلا علم أنه سيكون قبل أن يموت، ولكنه لم يزل البلاء بالرسل حتى ظنوا أن من معهم من المؤمنين قد كذبوهم، وكانت تقرأها مثقلة.
وعن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ (وظنوا أنهم قد كذبوا) مخففة أخرجه ابن مردويه من طريق عكرمة، وعن ابن عباس أيضاً أنه كان يقرأ قد كذبوا مخففة وقال: يئس الرسل من قومهم أن يستجيوا لهم وظن قومهم أن الرسل قد كذبوهم بما جاؤهم به جاؤوهم نصرنا أي الرسل، وبها قرأ ابن مسعود قال: استيأس الرسل من إيمان قومهم أن يؤمنوا بهم وظن قومهم حين إبطاء النصر أنهم قد كذبوا، وقال حفظت عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في سورة يوسف أنهم قد كذبوا مخففة، وللسلف في هذا كلام يرجع إلى ما ذكرناه من الخلاف عن الصحابة.
(فنجى من نشاء) من عبادنا عند نزول العذاب بالكافرين والذين نجاهم الله هم الرسل ومن آمن معهم وهلك المكذبون (ولا يرد بأسنا) أي عذابنا عند نزوله (عن القوم المجرمين) المشركين. قال ابن عباس: وذلك أن الله بعث الرسل يدعون قومهم فأخبروهم أن من أطاع الله نجا، ومن أعرض عُذب وغوى، وفيه بيان من يشاء الله نجاته من العذاب وهم من عدا هؤلاء المجرمين.(6/419)
لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111)
لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111)
(لقد كان في قصصهم) أي قصص الرسل ومن بعثوا إليهم من الأمم أو في قصص يوسف عليه السلام وإخوته وأبيه قاله مجاهد (عبرة) هي الفكرة والبصيرة المخلصة من الجهل والحيرة، وقيل هي نوع من الاعتبار وهي العبور من الطرف المعلوم إلى الطرف المجهول (لأولي الألباب) هم ذوو العقول السليمة الذين يعتبرون بعقولهم فيدرون ما فيه مصالح دينهم.
وإنما كان هذا القصص عبرة لما اشتمل عليه من الإخبارات المطابقة للواقع مع بعد المدة بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين الرسل الذين قص حديثهم ومنهم يوسف عليه السلام وإخوته وأبوه مع كونه لم يطلع على أخبارهم ولا اتصل بأحبارهم، وعبارة الكرخي وجه الاعتبار بقصصهم أنه قال في أول السورة (نحن نقص عليك أحسن القصص) ثم قال هاهنا لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب وذلك تنبيه على أن حسن هذه القصة إنما هو لأجل حصول العبرة منها ومعرفة الحكمة والقدرة.
(ما كان) هذا المقصوص الذي يدل عليه ذكر القصص أو القرآن المشتمل على ذلك المتقدم ذكره في قوله إنا أنزلناه قرآناً عربياً (حديثاً يفترى) قال قتادة: الفرية الكذب (ولكن تصديق الذي بين يديه) من الكتب المنزلة كالتوراة والإنجيل والزبور، وقيل هو تصديق ذلك كله ويشهد عليه أن جميعه حق من عند الله.
(وتفصيل كل شيء) من الشرائع المجملة المحتاجة إلى تفصيلها لأن الله(6/420)
سبحانه لم يفرط في الكتاب من شيء من الأحكام والحدود والقصص والمواعظ والأمثال وغير ذلك.
وقيل تفصيل كل شيء من قصة يوسف عليه السلام مع إخوته وأبيه وقيل وليس المراد به ما يقتضيه من العموم بل المراد به الأصول والقوانين وما يؤول إليها، قال قتادة: فصل الله بين حلاله وحرامه وطاعته ومعصيته، وقيل ما من شيء من أمر ديني إلا وله مستند في القرآن بواسطة أو بغير واسطة.
(وهدى) في الدنيا يهتدي به كل من أراد الله هدايته (ورحمة) في الآخرة يرحم الله بها عباده العاملين بما فيه بشرط الإيمان الصحيح ولهذا قال (لقوم يؤمنون) أي يصدقون به وبما تضمنه من الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله وشرائعه وقدره، وأما من عداهم فلا ينتفع به ولا يهتدي بما اشتمل عليه من الهدى فلا يستحق ما يستحقونه.(6/421)
خاتمة الجزء السادس
تم بعون الله الجزء السادس من فتح البيان في مقاصد القرآن ويليه الجزء السابع وأوله تفسير سورة الرعد.
المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (1)(6/423)
فتحُ البيان في مقاصد القرآن
تفسِير سَلفي أثري خالٍ منَ الإِسرَائيليّاتِ والجَدليَّاتِ المذهبية والكلامية يغني عَن جميع التفاسِير وَلا تغني جميعُهَا عَنه
تأليف: السيد الإمام العلامة الملك المؤيد من الله الباري آبي الطيب صديق بن حسن بن علي الحسين القنوجي النجاري 1248 - 1307 هـ
عني بطبعهِ وقدّم له وراجعه: خادم العلم عَبد الله بن إبراهيم الأنصَاري
الجزء السابع
المَكتبة العصريَّة
صَيدَا - بَيروت(7/1)
جَمِيع الحُقُوق محفُوظَة
1412 هـ - 1992 م
شركة أبناء شريف الأنصاري للطباعة والنشر والتوزيع
المَكتبة العصريَّة للطبَاعة والنّشْر
الدار النموذجية ــ المكتبة العصرية
بَيروت - صَ. ب 8355 - تلكس LE 20437 SCS
صَيدَا - صَ. ب 221 - تلكس LE 29198(7/2)
فتح البيان في مقاصد القرآن(7/3)
الجزء السابع
بسم الله الرحمن الرحيم
أوله تفسير سورة الرعد وتبدأ بقوله تعالى:
المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (1)
- سورة إبراهيم
- سورة الحجر
- سورة الإسراء إلى آخرها(7/5)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الرعد
(وهي ثلاث وقيل أربع أو خمس أو ست وأربعون آية)
وقد وقع الخلاف هل هي مكيّة أو مدنيّة، وممن ذهب إلى الأول سعيد بن جبير والحسن وعكرمة وعطاء وجابر وابن زيد، وإلى الثاني ابن الزبير والكلبي ومقاتل، والقول الثالث أنها مدنيّة إلا آيتين فإنهما نزلتا بمكة وهما قوله تعالى: (ولو أن قرآنا سيرت به الجبال) وقيل قوله: (ولا يذل الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة) وقيل هو الذي يريكم البرق -إلى قوله- له دعوة الحق. وعن جابر بن زيد كان يستحب إذا حضر الميت أن يقرأ عنده سورة الرعد فإن ذلك يخفف عن الميت وأنه أهون لقبضه وأيسر لشأنه.(7/7)
بسم الله الرحمن الرحيم
المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (1) اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (2) وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (3) وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (4)(7/9)
المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (1)
(المر) قد تقدم الكلام في الحروف الواقعة في أوائل السور بما يغني عن الإعادة، قال ابن عباس: المعنى أنا الله أرى؛ وقال مجاهد فواتح يفتتح بها كلامه والحق أن الله تعالى أعلم بمراده أو هو اسم للسورة والتقدير هذه السورة اسمها هذا.
(تلك) أي آيات هذه السورة، وقيل إشارة إلى ما قص عليه من أنباء الرسل وقيل إلى آيات القرآن وعليه جرى الزمخشري وجمهور المفسرين (آيات الكتاب) والمراد بالكتاب السورة أي تلك آيات السورة الكاملة العجيبة الشأن والإضافة بمعنى من، وقال مجاهد: الكتاب التوراة والإنجيل.
(الذي أنزل إليك من ربك) المراد به القرآن كله، قال قتادة وغيره أي هو (الحق) البالغ في اتصافه بهذه الصفة لاشك فيه (ولكن أكثر الناس) يعني مشركي مكة (لا يؤمنون) بهذا الحق الذي أنزل الله إليك، قال الزجاج: لما ذكر أنهم لا يؤمنون ذكر الدليل الذي يوجب التصديق بالخالق فقال:(7/9)
اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (2)
(الله الذي رفع السماوات بغير عمد) العمد الأساطين والدعائم جمع عماد أي على غير قياس والقياس أن يجمع على عمد بضم العين والميم، وقيل إن عمداً جمع عماد في المعنى أي أنه اسم جمع لا جمع صناعي وهو صادق بأن لا عماد أصلا وهذا هو أصح القولين أي قائمات بغير عمد تعتمد عليها، وقيل لها عمد ولكن لا نراها، وهذا قول مجاهد وعكرمة، قال الزجاج: العمد قدرته التي يمسك بها السماوات وهي غير مرئية لنا، وقرئ عمد على أنه جمع عمود يعمد به أي يسند إليه.
وجملة (ترونها) مستأنفة استشهاد على رؤيتهم لها كذلك، وقيل هي صفة لعمد، وهو أقرب مذكور ورجحه الزمخشري، وقيل في الكلام تقديم وتأخير والتقدير رفع السماوات ترونها بغير عمد، ولا ملجئ إلى مثل هذا التكلف، قال ابن عباس: وما يدريك لعلها بعمد لا ترونها وقال يقول لها عمد، ولكن لا ترونها يعني الإعماد.
قال إياس بن معاوية: السماء مقببة على الأرض مثل القبة، وبه قال الحسن وقتادة وجمهور المفسرين، وعن ابن عباس قال: السماء على أربعة أملاك كل زاوية موكل بها ملك، قال السمين في هذا الكلام وجهان:
أحدهما: انتفاء العمد والرؤية جميعاً أي لا عمد فلا رؤية يعني لا عمد لها فلا ترى، وإليه ذهب الجمهور.
والثاني: أن لها عمداً ولكن غير مرئية.
(ثم) هنا لمجرد العطف لا للترتيب لأن الاستواء عليه غير مرتب على رفع السماوات (استوى على العرش) استواء يليق به هذا مذهب السلف، وقال المعتزلة استولى عليه بالحفظ والتدبير أو استوى أمره وأقبل على خلق العرش، وقد تقدم الكلام على هذا مستوفى، والحق أن الاستواء على العرش صفة الله سبحانه بلا كيف كما هو مقرر في موضعه من علم الكلام (وسخر(7/10)
الشمس والقمر) أي ذللهما لما يراد منهما من منافع الخلق ومصالح العباد فالحركة المستمرة على حد من السرعة تنفع في حدوث الكائنات وبقائها (كل) من الشمس والقمر (يجري لأجل مسمى) أي إلى وقت معلوم معين وهو فناء الدنيا وزوالها وقيام الساعة التي تتكور عندها الشمس وينخسف القمر وتنكدر النجوم وتنتثر، وقيل المراد بالأجل المسمى درجاتهما ومنازلهما التي ينتيهان إليها لا يجاوزانها وهي سنة للشمس وشهر للقمر لا يختلف جري واحد منهما قيل وهذا هو الحق في تفسير الآية.
(يدبر الأمر) أي أمر العالم العلوي والسفلي يعني يقضيه ويمضيه وحده، قاله مجاهد، والمعنى يصرفه على ما يريد وهو أمر ملكوته وربوبيته يدبره على أكمل الأحوال وأتم الأفعال لا يشغله شأن عن شأن، وقيل يدبر الأمر بالإيجاد والإعدام والإحياء والإماتة، ولا وجه للتخصيص بشيء دون شيء فإن اللفظ أوسع من ذلك، قال الكرخي: وحمل التدبير على العموم أولى من حمله على نوع من أحوال العالم كما جرى عليه جمع من المفسرين، وهذا التدبير والإنفاذ والإمضاء هو من فوق العرش وهو ظاهر نظم القرآن الكريم.
(يفصل) أي يبين (الآيات) الدالة على كمال قدرته وربوبيته ومنها ما تقدم من رفع السماء بغير عمد وتسخير الشمس والقمر وجريهما لأجل مسمى والمراد بهذا تنبيه العباد على أن من قدر على هذه الأشياء فهو قادر على البعث والإعادة ولهذا قال (لعلكم) عند مشاهدة هذه الآيات (بلقاء ربكم توقنون) لا تشكون فيه ولا تمترون في صدقه.
ولما ذكر الدلائل السماوية أتبعها بذكر الدلائل الأرضية فقال(7/11)
وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (3)
(وهو الذي مد الأرض) على وجه الماء، قال الفراء: بسطها طولاً وعرضاً لتثبت عليها الأقدام ويتقلب عليها الحيوان، وقال الأصم: أن المدّ هو البسط إلى ما(7/11)
لا يدرك منتهاه زاد الكرخي: فقوله مد الأرض يشعر بأنه تعالى جعل الأرض حجماً عظيماً لا يقع البصر على منتهاه انتهى.
قيل وهذا المد الظاهر للبصر لا ينافي كرويتها في نفسها لتباعد أطرافها، وبه قال أهل الهيئة (1)، والله أخبر أنه مد الأرض وأنه دحاها وبسطهما وأنه جعلها فراشاً وكل ذلك يدل على كونها مسطحة كالأكف، وهو أصدق قيلاً وأبين دليلاً من أصحاب الهيئة.
وفي الجامع الصغير حديث رواه البيهقي عن ابن عباس ولفظه: أول بقعة وضعت من الأرض موضع البيت ثم مدت منها الأرض، وأن أول جبل وضعه الله على وجه الأرض أبو قبيس ثم مدت منه الجبال (1).
وعن ابن عمرو قال: الدنيا مسيرة خمسمائة عام، أربعمائة عام خراب ومائة عمران، في أيدي المسلمين من ذلك مسيرة سنة، وقد روي عن جماعة من السلف في ذلك تقريرات لم يأت عليها دليل يصح.
وعن علي بن أبي طالب قال: لما خلق الله الأرض قمصت وقالت: أي رب تجعل عليّ بني آدم يعملون عليّ الخطايا ويجعلون عليّ الخبث فأرسل الله فيها من الجبال ما ترون وما لا ترون فكان إقرارها كاللحم ترجرج.
(وجعل فيها) جبالاً (رواسي) أي ثوابت تمسكها عن الاضطراب وأحدها راسية لأن الأرض ترسو بها أي تثبت والرسو الثبوت (وأنهاراً) أي مياهاً جارية في الأرض فيها منافع الخلق، أو المراد جعل فيها مجاري الماء.
(ومن كل الثمرات) متعلق بجعل في قوله (جعل فيها زوجين اثنين) أي اثنينية حقيقية وهما الفردان اللذان كل منهما زوج الآخر، وأكد به الزوجين لئلا يفهم أن المراد بذلك الشفعان إذ يطلق الزوج على المجموع، ولكن اثنينية ذلك اثنينية اعتبارية، أي جعل من كل نوع من أنواع ثمرات الدنيا صنفين،
_________
(1) ضعيف الجامع الصغير/2131.(7/12)
إما في اللونية كالبياض والسواد ونحوهما أو في الطعمية كالحلو والحامض ونحوهما أو في القدر كالصغر والكبر أو في الكيفية كالحر والبرد وما أشبه ذلك، ويجوز أن يتعلق بجعل الأول ويكون الثاني استئنافاً لبيان كيفية ذلك الجعل، قاله أبو السعود.
قال الفراء: يعني بالزوجين هنا الذكر والأنثى من كل صنف، ومثله عن مجاهد والأول أولى.
(يغشى الليل النهار) أي يلبسه مكانه فيصير أسوداً مظلماً بعدما كان أبيضاً منيراً أشبه إزالة نور الجو بالظلمة بتغطية الأشياء الحسية بالأغطية التي تسترها أي يستر النهار بالليل، والتركيب وإن احتمل العكس أيضاً بالحمل على تقديم المفعول الثاني على الأول فإن ضوء النهار أيضاً ساتر لظلمة الليل إلا أن الأنسب بالليل أن يكون هو الغاشي.
وعدَّ هذا في تضاعيف الآيات السفلية وإن كان تعلقه بالآيات العلوية ظاهراً باعتبار ظهوره في الأرض فإن الليل إنما هو ظلها وفيما فوق موقع ظلها لا ليل أصلاً، ولأن الليل والنهار لهما تعلق بالثمرات من حيث العقد والإنضاج على أنهما أيضاً زوجان متقابلان مثلها، وقرئ يغشى من التغشية، وقد سبق تفسير هذا في الأعراف.
(إن في ذلك) المذكور من مد الأرض وإثباتها بالجبال وما جعله الله فيها من الثمرات المتزاوجة وتعاقب النور والظلمة (لآيات) بينة (لقوم يتفكرون) أي للناظرين المتفكرين المعتبرين فيستدلون بالصنعة على الصانع وبالسبب على المسبب والفكر هو تصرف القلب في طلب الأشياء.
وقال صاحب المفردات: الفكر قوة مطرقة للعلم إلى المعلوم والتفكر جريان تلك القوة بحسب نظر العقل، وذلك للإنسان دون الحيوان ولا يقال(7/13)
إلا فيما يمكن أن يكون له صورة في القلب، ولهذا روى تفكروا في آلاء الله ولا تفكروا في الله إذ الله منزه عن أن يوصف بصورة.(7/14)
وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (4)
(وفي الأرض قطع متجاورات) أي بقاع مختلفة، وهذا كلام مستأنف مشتمل على ذكر نوع آخر من أنواع الآيات، قيل وفي الكلام حذف، أي قطع متجاورات وغير متجاورات كما في قوله (سرابيل تقيكم الحر) أي والبرد، وقيل المتجاورات المدن وما كان عامراً، وغير المتجاورات الصحاري وما كان غير معمور.
وقيل معنى متجاورات متدانيات ترابها واحد وماؤها واحد وفيها زرع وجنات ثم تتفاوت في الثمار فيكون البعض حلواً والبعض حامضاً، والبعض طيباً والبعض غير طيب، والبعض يصلح فيه نوع والبعض الآخر نوع آخر.
وعن ابن عباس قال: يريد الأرض الطيبة العذبة التي يخرج نباتها بإذن ربها تجاورها السبخة القبيحة المالحة التي لا يخرج منها نباتها وهما أرض واحدة وماؤها شيء واحد، ملح أو عذب ففضلت أحداهما على الأخرى قال قتادة: قرئ متجاورات قريب بعضها من بعض.
وقال ابن عباس: الأرض تنبت حلواً والأرض تنبت حامضاً وهي متجاورات تسقى بماء واحد، وقيل متلاصقات فمنها طيب وسبخ، وقليل الريع وكثيره، وهو من دلائل قدرته تعالى سبحانه.
(و) في الأرض (جنات) أي بساتين وعلى النصب تقديره جعل فيها جنات، والجنة كل بستان ذي شجر من نخيل وأعقاب وغير ذلك، سمي جنة لأنه يستر بأشجاره الأرض وإليه الإشارة بقوله (من أعناب) جمع عنب (وزرع ونخيل) ذكر سبحانه الزرع بين الأعناب والنخيل لأنه يكون في الخارج كثيراً كذلك، ومثله في قوله سبحانه جعلنا لأحدهما جنتين من أعناب(7/14)
وحففناهما بنخل وجعلنا بينهما زرعاً، والنخل والنخيل بمعنى والواحد نخلة، لكن النخل يذكر ويؤنث والنخيل مؤنث لا غير.
(صنوان وغير صنوان) قرئ بالرفع في الأربعة عطفاً على جنات وبالجر عطفاً على أعناب وبضم الصاد وكسرها وهما لغتان والأولى لغة قيس وتميم والثانية لغة العامة وقرئ بفتحها وهو اسم جمع لا جمع تكسير لأنه ليس من أبنية فعلان بالفتح، ونظير صنوان بالفتح سعدان، قال أبو عبيدة جمع صنو، وهو أن يكون الأصل واحداً ثم يتفرع فيصير نخيلاً ثم يحمل.
وهذا قول جميع أهل اللغة والتفسير، فالصنوان جمع صنو وهي النخلات يجمعها أصل واحد وتتشعب فروعها، فالصنو المفرد واحد هذه النخلات، قال ابن الأعرابي: الصنو المثل. ومنه قوله صلى الله عليه وسلم " عم الرجل صنو أبيه " (1) فمعنى الآية على هذا أن أشجار النخيل قد تكون متماثلة وقد لا تكون.
قال في الكشاف: جمع صنو وهي النخلة لها رأسان وأصلها واحد، وقيل الصنوان المجتمع وغير الصنوان المتفرق. قال النحاس: وهو كذلك في اللغة، يقال للنخلة إذا كانت فيها نخلة أخرى أو أكثر صنوان. والصنو المثل ولا فرق بين التثنية والجمع إلا بكسر النون في المثنى وبما يقتضيه الإعراب في الجمع.
عن البراء بن عازب قال: الصنوان ما كان أصله واحداً وهو متفرق وغير الصنوان التي تنبت وحدها، وفي لفظ الصنوان النخلة في النخلة ملتصقة وغير الصنوان النخل المتفرق. وعن ابن عباس: هي مجتمع النخل في أصل واحد وغيرها المتفرق، وفي السمين والصنو الفرع يجمعه، وفرعاً آخر أصل
_________
(1) صحيح الجامع الصغير/3979.(7/15)
واحد والمثل، وفي المختار إذا خرج نخلتان أو ثلاث من أصل واحد فكل واحدة منهن صنو، والاثنتان صنوان بكسر النون والجمع صنوان برفعها.
(يسقى) بالتحتية أي يسقى ذلك كله، يعني أشجار الجنة وزروعها (بماء واحد) والماء جسم رقيق مائع به حياة كل نام، وقيل في حده هو جوهر سيال به قوام الأرواح، وقرئ تسقى بالفوقية بإرجاع الضمير إلى جنات. وقال أبو عمرو: التأنيث أحسن لقوله:
(ونفضل بعضها على بعض الأكل) أي في الطعم ما بين الحلو والحامض وغير ذلك من الطعام ولم يقل بعضه، قرئ بالنون على تقدير ونحن نفضل، وقرئ بالياء، ومتى قرئ الأول بالتاء جاز في الثاني الياء والنون، ومتى قرئ الأول بالياء تعين في الثاني النون لا غير، فالقراءات ثلاثة لا أربعة كما توهم وكلها سبعية.
قال الكرخي: قرئ بالتحتية ليطابق قوله يدبر وقرئ بنون العظمة وأنت خبير بأن القراء يتبعون فيما اختاروه من القراءات الأثر لا الرأي فإنه لا مدخل له فيها.
أخرج الترمذي وحسنه والبزار وابن جرير وابن المنذر عن أبي هريرة عن
النبي صلى الله عليه وسلم في الآية قال " الدقل والفارسي والحلو الحامض " (1)، وقال مجاهد هذا كمثل بني آدم صالحهم وخبيثهم، وأبوهم واحد، وعن ابن عباس قال: هذا حامض وهذا حلو، وهذا دقل وهذا فارسي.
والأكل بضمتين وإسكان الثاني للتخفيف المأكول والمراد به ما يؤكل منها وهو الثمر والحب، فالثمر من النخيل والأعناب والحب من الزرع، كأنه قال
_________
(1) الترمذي كتاب التفسير/سورة 13.(7/16)
ونفضل الحب والثمر بعضها على بعض طعماً وشكلا ورائحة وقدراً وحلاوة وحموضة وغضاضة وغير ذلك من الطعوم، وفضلها أيضاً في غير ذلك كاللون والنفع والضر وإنما اقتصر على الأكل لأنه أعظم المنافع.
(إن في ذلك) المذكور (لآيات) دلالات على بديع صنعه وعظيم قدرته فإن القطع المتجاورة والجنات المتلاصقة المشتملة على أنواع النبات مع كونها تسقى بماء واحد وتتفاضل في الثمرات في الأكل فيكون طعم بعضها حلو والآخر حامضاً وهذا في غاية الجودة، وهذا ليس بجيد، وهذا فائق في حسنه، وهذا غير فائق مما يقطع من تفكر واعتبر ونظر نظر العقلاء أن السبب المقتضى لاختلافها ليس إلا قدرة الصانع الحكيم جل سلطانه وتعالى شأنه، لأن تأثير الاختلاف فيما يخرج منها ويحصل من ثمراتها لا يكون في نظر العقلاء إلا للسببين. إما اختلاف المكان الذي هو المنبت أو اختلاف الماء الذي تسقى به، فإذا كان المكان متجاوراً وقطع الأرض متلاصقة والماء الذي تسقى به واحداً لم يبق سبب للاختلاف في نظر العقل إلا تلك القدرة الباهرة والصنع العجيب.
(لقوم يعقلون) أي يعملون على قضية العقل وما يوجبه غير مهملين لما يقتضيه من التفكر في المخلوقات والاعتبار في العبر الموجودات، أي يستعملون عقولهم بالتفكر فيها، خص هذا بالعقل والأول بالتفكر لأن الاستدلال باختلاف النهار أسهل، ولأن التفكر في الشيء سبب لتعقله والسبب مقدم على المسبب، فناسب تقديم التفكر على التعقل.
قال الحسن: هذا مثل ضربه الله لقلوب بني آدم، فالناس خلقوا من آدم فينزل عليهم من السماء تذكرة فترق قلوب قوم وتخشع وتخضع، وتقسو قلوب قوم فتلهو ولا تسمع. وقال أيضاً: والله ما جالس القرآن أحد إلا قام من عنده بزيادة أو نقصان، قال الله تعالى (وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خساراً).(7/17)
وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (5) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ (6) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ (7) اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ (8)(7/18)
وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (5)
(وإن تعجب) يا محمد من تكذيبهم لك بعدما كنت عندهم من الصادقين (فعجب) أي فأعجب منه (قولهم) أي تكذيبهم بالبعث، والله تعالى لا يجوز عليه التعجب لأنه تغير النفس بشيء تخفى أسبابه، وذلك في حق الله تعالى محال، قاله القرطبي.
وقيل العجب تغير النفس برؤية المستبعد في العادة وإنما ذكر ذلك ليعجب منه رسوله واتباعه.
قال الزجاج: أي هذا موضع عجب أيضاً أنهم أنكروا البعث وقد بين لهم من خلق السماوات والأرض ما يدل على أن البعث أسهل في القدرة وقد تقرر في النفوس أن الإعادة أهون من الإبداء فهذا موضع التعجيب، وقيل الآية في منكري الصانع مع الأدلة الواضحة بأن المتغير لا بدّ له من مغير فهو محل التعجب.
والأول أولى لقوله (أئذا كنا تراباً أئنّا لفي خلق جديد) والجملة في محل الرفع أو النصب والعجب على الأول كلامهم وعلى الثاني تكلمهم بذلك أو لا يرون أنه خلقهم من نطفة، فالخلق منها أشد من الخلق من تراب وعظام، والعامل في إذا نبعث أو نعاد، والاستفهام منهم للإنكار المفيد لكمال(7/18)
الاستبعاد، وفي هذا الاستفهام المكرر اختلف القراء اختلافاً منتشراً وهو في أحد عشر موضعاً في تسع سور من القرآن ولا بدّ من تعيينها.
فأولها هنا.
والثاني والثالث في الإسراء بلفظ واحد (أئذا كنا عظاماً ورفاتاً أئنا لمبعوثون خلقاً جديداً).
والرابع: في المؤمنون (أئذا متنا وكنا تراباً وعظاماً أئنا لمبعوثون).
والخامس: في النمل (أئذا كنا تراباً وآباؤنا أئنا لمخرجون).
والسادس: في العنكبوت (أئنكم لتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين) (أئنكم لتأتون الرجال).
والسابع: في ألم السجدة (أئذا ضللنا في الأرض أئنا لفي خلق جديد).
والثامن والتاسع: في الصافات (أئذا متنا وكنا تراباً وعظاماً أئنا لمبعوثون) وأئنا لمدينون.
والعاشر: في الواقعة مثل الصافات.
والحادي عشر: في النازعات (أئنا لمردودون في الحافرة * أئذا كنا عظاماً نخرة). فهذه هي المواضع المختلف فيها ثم الوجه في قراءة من استفهم في الأول والثاني المبالغة في الإنكار فأتى به في الجملة الأولى وأعاد في الثانية تأكيداً له، والوجه في قراءة من أتى به مرة واحدة حصول المقصود، لأن كل جملة مرتبطة بالأخرى فإذا أنكر في إحداهما حصل الإنكار في الأخرى، ذكره السمين، وتقديم الظرف في قوله (لفي خلق) لتأكيد الإنكار بالبعث.
وكذلك تكرير الهمزة في قوله أئنا، والمعنى أي نعاد خلقاً جديداً بعد(7/19)
الموت كما كنا قبله؛ ولم يعلموا أن القادر على إنشاء الخلق وما تقدم على غير مثال قادر على إعادتهم.
ثم لما حكى الله سبحانه ذلك عنهم حكم عليهم بأمور ثلاثة:
الأول: (أولئك الذين كفروا بربهم) أي أولئك المنكرون لقدرته سبحانه على البعث هم المتمادون في الكفر الكاملون فيه، وفيه دليل على كفر منكري البعث.
(و) الثاني (أولئك الأغلال في أعناقهم) الأغلال جمع غل بالضم وهو طوق من حديد يجعل في العنق أو تشد به اليد إلى العنق، أي يغلون بها يوم القيامة كما يقاد الأسير ذليلاً بالغل، وقيل الأغلال أعمالهم السيئة التي هي لازمة لهم لزوم الأطواق للأعناق (و) الثالث (أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) لا ينفكون عنها بحال من الأحوال، وفي توسيط ضمير الفصل دلالة على تخصيص الخلود بمنكري البعث.(7/20)
وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ (6)
(ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة) نزل في استعجالهم العذاب استهزاء والسيئة العقوبة المهلكة، والحسنة العافية والسلامة، قالوا هذه المقالة لفرط إنكارهم وشدة تصميمهم.
(وقد خلت من قبلهم المثلات) جمع مثلة كسمرة وهي العقوبة الفاضحة، سميت بذلك لما بين العقاب والمعاقب عليه وهو الذنب من المماثلة في أن كُلاًّ منهما مذموم.
قال ابن الأنباري: المثلة العقوبة التي تبقى في المعاقب شيئاً بتغيير بعض خلقه من قولهم مثل فلان بفلان إذا شأن خلقه بقطع أنفه وسمل عينيه وبقر بطنه، وقرئ بفتح الميم وإسكان الثاء تخفيفاً لثقل الضمة، قيل وهي لغة الحجاز، وفي لغة تميم بضم الميم والثاء جميعاً، واحدتها على لغتهم مثلة، مثل غرفة وغرفات، وقرئ بفتحهما.(7/20)
وقيل المثلة نقمة تنزل بالإنسان فيجعل مثالاً يرتدع غيره به. قال قتادة: المثلات العقوبات، يعني وقائع الله في الأمم فيمن خلا قبلكم. وقال ابن عباس: المثلات ما أصاب القرون الماضية من العذاب، والمعنى أن هؤلاء يستعجلونك بإنزال العقوبة بهم وقد مضت من قبلهم عقوبات أمثالهم من المكذبين فما لهم لا يعتبرون بهم ويحذرون من حلول ما حل بهم.
وهذا الاستعجال من هؤلاء هو على طريقة الاستهزاء كقولهم اللهم أن كان هذا هو الحق من عندك الآية (وإن ربك لذو مغفرة) أي لذو تجاوز عظيم، والمراد بها الإمهال وتأخير العذاب (للناس على) أي مع (ظلمهم) باقترافهم الذنوب ووقوعهم في المعاصي إن تابوا عن ذلك ورجعوا إلى الله سبحانه، والجار والمجرور في محل نصب على الحال أي حال كونهم ظالمين.
وفي الآية بشارة عظيمة ورجاء كبير، لأن من المعلوم أن الإنسان حال اشتغاله بالظلم لا يكون تائباً فيجوز العفو قبل التوبة ولهذا قيل إنها في عصاة الموحدين خاصة.
وقيل المراد بالمغفرة هنا تأخير العقاب إلا الآخرة كما تقدم ليطابق ما حكاه الله من استعجال الكفار للعقوبة، وكما يفيده قوله تعالى (وإن ربك لشديد العقاب) فيعاقب من يشاء من العصاة المكذبين من الكافرين عقاباً شديداً على ما تقتضيه مشيئته في الدار الآخرة فتأخير ما استعجلوه ليس للإهمال.
عن سعيد بن المسيب قال: لما نزلت هذه الآية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لولا عفو الله وتجاوزه ما هنأ لأحد العيش، ولولا وعيده وعقابه لاتكل كل أحد " (1).
_________
(1) ابن كثير 501.(7/21)
وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ (7)
(ويقول الذين كفروا) من أهل مكة (لولا) هلا (أنزل عليه) أي على(7/21)
محمد صلى الله عليه وسلم (آية من ربه) غير ما قد جاء به من الآيات كالعصا واليد والناقة، وهؤلاء القائلون هم المستعجلون للعذاب وإنما عدل عن الإضمار إلى الوصول ذماً لهم بكفرهم بآيات الله التي تخر لها الجبال حيث لم يرفعوا لها رأساً ولم يعدوها من جنس الآيات، وهذا مكابرة من الكفار وعناد وإلا فقد أنزل الله على رسوله من الآيات ما يغني البعض منه.
قال الزجاج: طلبوا غير الآيات التي أتى بها فالتمسوا مثل آيات موسى وعيسى فقال الله تعالى (إنما أنت منذر) تنذرهم بالنار وليس إليك من الآيات من شيء وفيه إزالة لرغبته صلى الله عليه وسلم في حصول مقترحهم، فإنه كان شديد الرغبة في إيجاب مقترحاتهم لشدة التفاته إلى إيمانهم، قاله الخطيب.
وجاء في إنما أنت بصيغة الحصر لبيان أنه صلى الله عليه وسلم مرسل لإنذار العباد وبيان ما يحذرون عاقبته وليس عليه غير ذلك، وقد فعل ما هو عليه وأنذر أبلغ إنذار، ولم يدع شيئاً مما يحصل به ذلك إلا أتى به وأوضحه وكرره فجزاه الله عن أمته خيراً.
(ولكل قوم هاد) أي نبي يدعوهم إلى ما فيه هدايتهم، ورشادهم بما يعطيه من الآيات لا بما يقترحون وإن لم تقع الهداية لهم بالفعل ولم يقبلوها، وآيات الرسل مختلفة، هذا يأتي بآياته أو آيات لم يأت بها الآخر بحسب ما يعطيه الله منها، ومن طلب من بعضهم ما جاء به البعض الآخر فقد بلغ في التعنت إلى مكان عظيم فليس المراد من الآيات إلا الدلالة على النبوة لكونها معجزة خارجة عن القدرة البشرية، وذلك لا يختص بفرد منها ولا بأفراد معينة. قال الرازي: فهذا هو الوجه الذي قرره القاضي، وهو الوجه الصحيح الذي يبقى الكلام معه منتظما. انتهى.
وقيل أن المعنى ولكل قوم هاد هو الله سبحانه عز وجل فإنه القادر على ذلك وليس على أنبيائه إلا مجرد الإنذار. قال ابن عباس: هاد أي داع،(7/22)
وقال مجاهد: المنذر محمد صلى الله عليه وسلم، ولكل قوم هاد نبي يدعوهم إلى الله، وعن سعيد بن جبير ومجاهد وابن عباس نحوه، وعنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المنذر وهو الهادي. أخرجه ابن مردويه، وعن عكرمة وأبي الضحى نحوه.
وقيل الهادي هو العمل الصالح، وقيل الهادي هو القائد إلى الخير لا إلى الشر وهو يعم الرسل وأتباعهم إلى آخر الدهر.
وعن ابن عباس قال: لما نزلت هذه الآية وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على صدره فقال: أنا المنذر، وأومأ بيده إلى منكب عليّ فقال (أنت الهادي يا عليّ بك يهتدي المهتدون من بعدي (1))، أخرجه ابن جرير وأبو نعيم في المعرفة، والديلمي وابن عساكر وابن النجار، قال ابن كثير في تفسيره، وهذا الحديث فيه نكارة شديدة.
وجملة
_________
(1) ابن كثير/502.(7/23)
اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ (8)
(الله يعلم ما تحمل كل أنثى) مستأنفة مسوقة لبيان إحاطته سبحانه بالعلم وعلمه بالغيب الذي هذه الأمور منه، وقيل الاسم الشريف خبر، أي لكل قوم هاد هو الله، وجملة (يعلم ما تحمل كل أنثى) تفسير لهاد، وهذا بعيد جداً، والعلم هنا متعد لواحد بمعنى العرفان وما موصولة، أي يعلم الذي تحمله كل أنثى في بطنها من علقة أو مضغة أو ذكر أو أنثى أو صبيح أو قبيح أو سعيد أو شقي أو طويل أو قصير، أو تام أو ناقص، أو استفهامية، أي يعلم أي شيء في بطنها وعلى أي حال هو؛ أو مصدرية، أي يعلم حملها.
(وما تغيض الأرحام وما تزداد) وما في الموضعين محتملة للأوجه المتقدمة وغاض وازداد سمع تعديهما ولزومهما ولك أن تدعي حذف العائد على القول بتعديهما وأن تجعل ما مصدرية على القول بلزومهما، والغيض النقص وعليه(7/23)
أكثر المفسرين أي يعلم الذي تغيضه الأرحام أي تنقصه، ويعلم ما تزداده لا يخفى عليه شيء من ذلك ولا من أوقاته وأحواله فقيل المراد نقص خلقة الحمل وزيادته كنقص أصبع أو زيادتها.
وقيل أن المراد نقص مدة الحمل عن تسعة أشهر أو زيادتها، وقيل إذا حاضت المرأة في حال حملها كان ذلك نقصا في ولدها، قاله ابن عباس وإذا لم تحض يزداد الولد وينمو فالنقصان نقصان خلقة الولد بخروج الدم والزيادة تمام خلقه باستمساك الدم، وقال سعيد بن جبير: الغيض ما تنقصه الأرحام من الدم، والزيادة ما تزداده منه، وقال الضحاك: ما تغيض السقط وما تزداد، ما زادت في الحمل على ما غاضت حتى ولدته تماما؛ وذلك أن من النساء من تحمل عشرة أشهر، ومنهن من تحمل تسعة أشهر ومنهن من تنقص، فذلك الغيض والزيادة التي ذكر الله وكل ذلك يعلمه الله.
وقال مجاهد: الغيض خروج الدم؛ والزيادة استمساكه؛ ومدة الحمل أكثرها عند قوم سنتان، وبه قالت عائشة وأبو حنيفة، وقيل أن الضحاك ولد لسنتين، وقيل أكثرها أربع سنين، وإليه ذهب الشافعي وقيل خمس سنين، وبه قال مالك وأقلها ستة أشهر، وقد يولد لهذه المدة ويعيش.
(وكل شيء) من الأشياء التي من جملتها الأشياء المذكورة (عنده) سبحانه (بمقدار) هو القدر الذي قدره الله وهو معنى قوله سبحانه (إنا كل شيء خلقناه بقدر) أي كل الأشياء عند الله سبحانه جارية على قدره الذي قد سبق وفرغ منه لا يخرج عن ذلك شيء، وهذا مذهب السلف، وقال الكرخي: هذه عندية علم، أي يعلم كيفية كل شيء وكميته على الوجه المفصل المبين.
ويحتمل أن يكون المراد بالعندية أنه تعالى خصص كل حادث بوقت معين وحالة معينة بمشيئته الأزلية وإرادته السرمدية، ويدخل في هذه الآية أفعال العباد وأحوالهم وخواطرهم وهي من أدل الدلائل على بطلان قول المعتزلة.(7/24)
عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ (9) سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ (10) لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ (11) هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ (12) وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ (13)(7/25)
عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ (9)
(عالم الغيب والشهادة) أي عالم كل غائب عن الحس وكل مشهود حاضر أو كل معدوم وموجود، وقال الضحاك: عالم السر والعلانية ولا مانع من حمل الكلام على ما هو أعم من ذلك (الكبير المتعال) أي العظيم الذي كل شيء دونه المتعالي عما يقوله المشركون أو المستعلى على كل شيء بقدرته وعظمته وقهره أو المتعالي عن الخلق باستوائه على عرشه ومباينته عن خلقه وهو الأولي.
ثم لما ذكر سبحانه أنه يعلم تلك المغيبات لا يغادر شيئاً منها بين أنه عالم بما يسرونه في أنفسهم وما يجهرون به لغيره تعالى وأن ذلك لا يتفاوت عنده فقال(7/25)
سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ (10)
(سواء منكم من أسر القول ومن جهر به) فهو يعلم ما أسره الإنسان كعلمه بما جهر به من خير أو شر أي سواء ما أضمرته القلوب أو نطقت به الألسن، وسر من أسر، وجهر من جهر.
(ومن هو مستخف بالليل) أي مستتر في الظلمة الكائنة في الليل المتواري عن الأعين يقال خفى الشيء واستخفى أي استتر وتوارى (وسارب بالنهار).(7/25)
قال الكسائي: سرب يسرب سراباً وسروباً إذا ذهب، وقال القتيبي: أي متصرف في حوائجه بسرعة من قولهم أسرب الماء.
قال الأصمعي: حل سربه أي طريقته، والسرب بالكسر النفس يقال هو واسع السرب أي رخى البال والسرب بفتحتين بيت في الأرض لا منفذ له وهو الوكر.
وقال الزجاج: معنى الآية الجاهر بنطقه والمضمر في نفسه، والظاهر في الطرقات والمستخفي في الظلمات، علم الله فيهم جميعاً سواء وهذا الصق بمعنى الآية كما تفيده المقابلة بين المستخفي والسارب، فالمستخفي المستتر، والسارب البارز الظاهر، ولنعم ما قاله بعضهم:
يا من ترى مدَّ البعوض جناحها ... في ظلمة الليل البهيم الأليل
وترى عروق نياطها في نحرها ... والمخ في ذاك العظام النحل
اغفر لعبد تاب من فرطاته ... ما كان منه في الزمان الأول
وقيل مستخف راكب رأسه في المعاصي، وسارب ظاهر بالنهار بالمعاصي.
وعن ابن عباس: قال هو صاحب ريبة مستخف بالليل، وإذا خرج بالنهار أرى الناس أنه بريء من الإثم.(7/26)
لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ (11)
(له) الضمير راجع إلى (من) في قوله (من أسر القول ومن جهر به ومن هو مستخف) أي لكل من هؤلاء (معقبات) هي المتناوبات التي يخلف كل واحد منها صاحبه ويكون بدلاً منه وهم الحفظة من الملائكة تعتقبه في قول عامة المفسرين؛ قال الزجاج: المعقبات ملائكة يأتي بعضهم بعقب بعض قيل هم خمسة بالليل وخمسة بالنهار.
وفي الخطيب أنهم عشرون لكل إنسان عشرة بالليل وعشرة بالنهار، وهو(7/26)
الذي في شرح الجوهرة، وإنما قال معقبات مع كون الملائكة ذكوراً لأن الجماعة من الملائكة يقال لها معقبة ثم جمع معقبة على معقبات ذكر معناه الفراء كما قيل أبناوات سعد، ورجالات بكر.
وقيل أنث لكثرة ذلك منهم نحو نسابة وعلامة، قال الجوهري: والتعقب العود بعد البدء قال الله تعالى (ولى مدبراً ولم يعقب) وقرئ معاقيب جمع معقب وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار ويجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر "، الحديث بطوله أخرجه الشيخان (1)، وقال ابن عباس هذه للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة.
قلت العموم أولى ويدخل فيه سبب النزول دخولاً أولياً.
(من بين يديه ومن خلفه) أي من بين يدي من له المعقبات؛ والمراد أن الحفظة من الملائكة يتعاقبون من جميع جوانبه، وقيل المراد بالمعقبات الأعمال ومعنى من بين يديه ومن خلفه ما تقدم منها وما تأخر (يحفظونه من) أجل (أمر الله) وقيل يحفظونه من بأس الله إذا أذنب بالاستمهال له والاستغفار حتى يتوب، وقيل يحفظون عليه الحسنات والسيئات، وقيل من شر طوارق الليل والنهار.
قال الفراء في هذا قولان:
أحدهما: أنه على التقديم والتأخير أي له معقبات من أمر الله يحفظونه من بين يديه ومن خلفه.
والثاني: أن كون الحفظة يحفظونه هو مما أمر الله به، قال الزجاج: المعنى حفظهم إياه من أمر الله أي مما أمرهم به لا أنهم يقدرون أن يدفعوا أمر الله قال ابن الأنباري: وفي هذا قول آخر وهو أن من بمعنى الباء أي يحفظونه بأمر
_________
(1) مسلم/632 - البخاري/359.(7/27)
الله وإعانته واستظهره السفاقسي، وقيل أن من بمعنى عن أي يحفظونه عن أمر الله بمعنى من عند الله لا من عند أنفسهم كقوله (أطعمهم من جوع) أي عن جوع.
وقيل يحفظونه عن ملائكة العذاب وقيل يحفظونه من الجن والأنس فهي على بابها، واختار ابن جرير أن المعقبات المواكب والحراس والجلاوزة بين أيدي الأمراء في حول السلطان على معنى أن ذلك لا يدفع عنه القضاء.
وقال ابن عباس: ذلك الحفظ من أمر الله بأمر الله وبإذن الله، لأنه لا قدرة للملائكة ولا لأحد من الخلق أن يحفظ أحداً من أمر الله ومما قضاه الله عليه إلا بأمره وإذنه، وعن قتادة مثله.
وعنه أيضاً قال: وليّ السلطان يكون عليه الحراس يحفظونه من بين يديه ومن خلفه يقول يحفظونه من أمري، فإني إذا أردت بقوم سوءاً فلا مرد له، وقال أيضاً الملوك يتخذون الحرس يحفظونهم من أمامهم وعن خلفهم وعن شمالهم يحفظونهم من القتل، ألم تسمع أن الله يقول (إذا أراد الله بقوم سوءاً فلا مرد له) أي إذا أراد سوءاً لم تغن الحرس عنه شيئاً.
وعن عكرمة قال: هؤلاء الأمراء، وعن ابن عباس قال: هم الملائكة تعقب بالليل تكتب على ابن آدم ويحفظونه من بين يديه ومن خلفه، فإذا جاء قدر الله خلوا عنه.
وعن علي قال: ليس من عبد إلا ومعه ملائكة يحفظونه من أن يقع عليه حائط أو يتردى في بئر أو يأكله سبع أو يغرق أو يحرق، فإذا جاء القدر خلوا بينه وبين القدر، وقد ورد في ذكر الحفظة الموكلين بالإنسان أحاديث كثيرة مذكورة في كتب الحديث.
(إن الله لا يغير ما بقوم) من النعمة والعافية (حتى يغيروا ما(7/28)
بأنفسهم) من طاعة الله والحالة الجميلة بالحالة القبيحة؛ والمعنى أنه لا يسلب قوماً نعمة أنعم بها عليهم حتى يغيروا الذي بأنفسهم من الخير والأعمال الصالحة، أو يغيروا الفطرة التي فطرهم الله عليها، قيل وليس المراد أنه لا ينزل بأحد من عباده عقوبة حتى يتقدم له ذنب، بل قد تنزل المصائب بذنوب الغير، كما في الحديث أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سائل فقال: أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم إذا كثر الخبث (1).
(وإذا أراد الله بقوم سوءاً) أي هلاكاً وعذاباً (فلا مرد) أي فلا راد (له) وقيل المعنى إذا أراد بقوم سوءاً أعمى قلوبهم حتى يختاروا ما فيه البلاء (وما لهم من دونه من وال) يلي أمرهم ويلتجئون إليه فيدفع عنهم ما ينزل بهم من الله سبحانه من العقوبات، أو من ناصر ينصرهم يمنعهم من عذاب الله.
والمعنى أنه لا راد لعذاب الله ولا ناقض لحكمه.
ولما خوف سبحانه عباده بإنزال ما لا مرد له أتبعه بأمور ترجى من بعض الوجوه وتخاف من بعضها، وهي البرق والسحاب والرعد والصاعقة، وقد مر في أول البقرة تفسير هذه الألفاظ وأسبابها فقال
_________
(1) مسلم 2880 - البخاري1582.(7/29)
هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ (12)
(هو الذي يريكم البرق) هو لمعان يظهر من خلال السحاب.
وعن علي بن أبي طالب قال: البرق مخاريق من نار بأيدي ملائكة السحاب يزجرون به السحاب. وروي عن جماعة من السلف ما يوافق هذا ويخالفه.
(خوفاً وطمعاً) أي لتخافوا خوفاً ولتطمعوا طمعاً، وقيل النصب على العلة بتقدير إرادة الخوف والطمع أو على الحالية من البرق أو من المخاطبين(7/29)
بتقدير ذوي خوف، وقيل غير ذلك مما لا حاجة إليه، قيل والمراد بالخوف هو الحاصل من الصواعق وبالطمع هو الحاصل بالمطر.
وقال الزجاج: الخوف للمسافر لما يتأذى به من المطر، والطمع للحاضر لأنه إذا رأى البرق طمع في المطر الذي هو سبب الخصب، قال قتادة: خوفاً للمسافر يخاف أذاه ومشقته، وطمعاً للمقيم يطمع في رزق الله ويرجو بركة المطر ومنفعته وعن الحسن خوفاً لأهل البحر وطمعاً لأهل البر. وعن الضحاك قال: الخوف ما يخاف من الصواعق والطمع الغيث.
(وينشئ السحاب الثقال) التعريف للجنس والواحدة سحابة والثقال جمع ثقيلة والسحاب الغيم المنسحب في الهواء، والمراد أن الله سبحانه يجعل السحاب التي ينشئها ثقالاً بما يجعله فيها من الماء.(7/30)
وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ (13)
(ويسبح الرعد) نفسه متلبساً (بحمده) وليس هذا بمستبعد، ولا مانع من أن ينطقه الله بذلك (وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم) وأما على تفسير الرعد بملك من الملائكة فلا استبعاد بذلك ويكون ذكره على الإنفراد مع ذكر الملائكة بعده لزيد خصوصية له وعناية به، والمسموع لنا منه هو نفس صوته إذا سبح التسبيح المذكور.
وقيل هو صوت الآلة التي يضرب بها السحاب أي الصوت الذي يتولد عنه الضرب، وقيل المراد ويسبح سامعو الرعد، أي يقولون سبحان الله وبحمده، والأول أولى.
أخرج أحمد عن شيخ من بني غفار قد صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: أن الله ينشئ السحاب فينطق أحسن النطق ويضحك أحسن الضحك (1)، وقيل والمراد بنطقها الرعد وبضحكها البرق، وقد ثبت عند أحمد والترمذي والنسائي في
_________
(1) صحيح الجامع الصغير 1916.(7/30)
اليوم والليلة والحاكم في مستدركه من حديث ابن عمر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا سمع الرعد والصواعق قال: اللهم لا تقتلنا بغضبك، ولا تهلكنا بعذابك وعافنا قبل ذلك (1).
وأخرج العقيلي وضعَّفه وابن مردويه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ينشئ الله السحاب ثم ينزل فيه الماء فلا شيء أحسن من ضحكه ولا شيء أحسن من نطقه، ومنطقه الرعد وضحكه البرق (2).
وأخرج ابن مردويه عن جابر بن عبد الله أن خزيمة بن ثابت وليس بالأنصاري سأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن منشأ السحاب فقال: أن ملكاً موكلاً يلم القاصية ويلحم الدانية، بيده مخراق فإذا رفع برقت وإذا زجر رعدت، وإذا ضرب صعقت.
وعن ابن عباس قال: أقبلت يهود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: أخبرنا ما هذا الرعد؟ قال: ملك من ملائكة الله سبحانه موكل بالسحاب بيده مخراق من نار يزجر به السحاب يسوقه حيث أمره الله، قالوا: فيما هذا الصوت الذي يُسمع؟ قال: صوته، قالوا: صدقت، أخرجه الترمذي وغيره (3).
وأخرج البخاري في الأدب المفرد وابن أبي الدنيا في المطر وابن جرير عن ابن عباس أنه كان إذا سمع صوت الرعد قال سبحان الذي سبحت له، وقال إن الرعد ملك ينعق بالغيث كما ينعق الراعي بغنمه، وقد روي نحو هذا عنه من طرق وعن أبي هريرة أن الرعد صوت الملك، وعن ابن عمر نحوه.
_________
(1) المستدرك كتاب الأدب 4/ 286.
(2) أحمد بن حنبل 5/ 435.
(3) الترمذي كتاب التفسير سورة 13 - أحمد بن حنبل 1/ 274.(7/31)
وعن ابن عباس قال: الرعد ملك اسمه الرعد وصوته هذا تسبيحه، فإذا اشتد زجره احتك السحاب واضطرم من خوفه فتخرج الصواعق من بينه. وعن أبي عمران الجوني قال: أن بحوراً من نار دون العرش تكون منها الصواعق. وعن السدي قال: الصواعق نار.
وتسبح (الملائكة من خيفته) سبحانه أي هيبته وجلاله، وقيل من خيفة الرعد، وقد ذكر جماعة من المفسرين أن هؤلاء الملائكة هم أعوان الرعد وأن الله سبحانه جعل له أعواناً.
(ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء) من خلقه فيهلكه، وسياق هذه الأمور هنا للغرض الذي سيقت له الآيات التي قبلها وهو الدلالة على كمال قدرته، والصواعق جمع صاعقة وهي العذاب النازل من البرق، وقيل هي الصوت الشديد النازل من الجو ثم يكون فيه نار أو عذاب أو موت وهي في ذاتها شيء واحد، وهذه الأشياء تنشأ منها.
قال الكرخي: وأمر الصاعقة عجيب جداً لأنها نار تتولد في السحاب وإذا نزلت من السحاب فربما غاصت في البحر وأحرقت الحيتان. قال محمد ابن علي الباقر: الصاعقة تصيب المسلم وغير المسلم ولا تصيب الذاكر.
(وهم) أي الكفار المخاطبون في قوله، وهو الذي يريكم البرق (يجادلون في) شأن (الله) فينكرون البعث تارة ويستعجلون بالعذاب أخرى ويكذبون الرسل ويعصون الله، وقيل الضمير راجع إلى من وأعاد عليها الضمير جمعاً باعتبار معناها، ثم المجادلة المفاوضة على سبيل المنازعة والمغالبة، وأصله من جدلت الحبل إذا أحكمت فتله والجملة مستأنفة.
(وهو شديد المحال) أي المماحلة والمكايدة لأعدائه من محل بفلان إذا كاده وعرَّضه للهلاك ومنه تمحَّل إذا تكلف استعمال الحيلة، ولعل أصله المحل بمعنى القحط، والجملة حالية من الجلالة الكريمة ويضعف استئنافها.
قال ابن الأعرابي: المحال المكر والمكر من الله التدبير بالحق، وقال(7/32)
النحاس: المكر من الله إيصال المكروه إلى من يستحقه من حيث لا يشعر، وقال الأزهري: المحال فعال من المحل بمعنى القوة والشدة والميم أصلية وماحلت فلاناً محالاً أينا أشد، وقال أبو عبيدة المحال العقوبة والمكروه.
قال الزجاج: يقال ماحلته محالاً إذا قاويته حتى يتبين أيكما أشد والمحل في اللغة الشدة، قال ابن قتيبة: أي شديد الكيد وأصله مفعل من الحول أو الحيلة جعل الميم كميم المكان وأصله من الكون ثم يقال تمكنت فاعل على غير قياس ويعضده أنه قرئ بفتح الميم على أنه مفعل من حال يحول إذا احتال.
قال الأزهري: غلط ابن قتيبة إن الميم فيه زائدة بل هي أصلية وإذا رأيت الحرف على مثال فعال أوله ميم مكسورة فهي أصلية مثل مهاد وملاك ومراس وغير ذلك من الحروف، وفي القاموس المحال ككتاب الكيد وروم الأمر بالحيل والتدبير والقدرة والجدال والعذاب والعقاب والعداوة والمعادلة كالمماحلة والقوة والشدة والهلاك والإهلاك.
ومحل به مثلث الحاء محلاً ومحالاً كاده بسعاية إلى السلطان وماحله مماحلة ومحالاً قاواه حتى يتبين أيهما أشد انتهى. وللصحابة والتابعين في تفسير المحال هنا أقوال ثمانية:
الأول: العداوة.
الثاني: الحول.
الثالث: الأخذ، وبه قال ابن عباس.
الرابع: الحقد.
الخامس: القوة.
السادس: الغضب.
السابع: الهلاك.
الثامن: الحيلة.(7/33)
لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (14) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (15) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (16)(7/34)
لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (14)
(له دعوة الحق) الإضافة للملابسة أي الدعوة الملابسة للحق المختصة به التي لا مدخل للباطل فيها بوجه من الوجوه كما يقال كلمة الحق والمعنى أنها دعوة مجابة واقعة في موقعها لا كدعوة من دونه، وقيل الحق هو الله سبحانه، والمعنى أن لله سبحانه دعوة المدعوّ الحق وهو الذي يسمع فيجيب، وقيل المراد بدعوة الحق هاهنا كلمة التوحيد والإخلاص، والمعنى لله من خلقه أن يوحدوه ويخلصوا له، وقيل معنى كونها له تعالى أنه شرعها وأمر بها وجعلها افتتاح الإسلام بحيث لا يقبل بدونها، وقيل دعوة الحق دعاؤه سبحانه عند الخوف فإنه لا يدعى فيه سواه كما قال تعالى (ضل من تدعون إلا إياه) وقيل الدعوة العبادة فإن عبادة الله هي الحق والصدق.
(و) الآلهة (الذين يدعون) بالياء متواترة وبالتاء شاذة لا من السبعة
ولا من العشرة وعليها فيقرأ كباسط بالتنوين ويكون في قوله الآتي لا يستجيبون
التفات (من دونه) أي غير الله عز وجل وهم الأصنام (لا يستجيبون) أي
لا يجيبون (لهم بشيء) مما يطلبونه منهم كائناً ما كان (إلا كباسط كفيه إلى
الماء) أي استجابة كاستجابة الماء لمن بسط كفيه إليه من بعيد فإنه لا يجيبه لأنه
جماد لا يشعر بحاجته إليه، ولا يقدر أن يجيب دعاءه ولا يدري أنه طلب منه(7/34)
(ليبلغ فاه) بارتفاعه من البئر إليه ولهذا قال (وما هو) أي الماء (ببالغه) أي ببالغ فيه.
وقيل وما الفم ببالغ الماء إذ كل واحد منهما لا يبلغ الآخر على هذه الحال، وقيل وما باسط كفيه إلى الماء ببالغ الماء ذكره السمين، والأول أولى.
أعلم الله سبحانه أن دعاءهم الأصنام كدعاء العطشان إلى الماء يدعوه إلى بلوغ فمه وما الماء ببالغه، وقيل أنه كباسط كفيه إلى الماء ليقبض عليه فلا يحصل في كفه شيء منه، وقد ضرب العرب لمن سعى فيما لا يدركه مثلاً بالقبض على الماء، وقال الفراء: أن المراد بالماء هنا ماء البئر لأنها معدن للماء وأنه شبهه بمن مدَّ يديه إلى البئر بغير رشا.
ضرب الله سبحانه هذا مثلاً لمن يدعو غيره من الأصنام، عن عليّ قال: كان الرجل العطشان يمد يده إلى البئر ليرتفع الماء إليه وما هو ببالغه، وعن ابن عباس قال: هذا مثل المشرك الذي عبد مع الله غيره فمثله كمثل الرجل العطشان الذي ينظر إلى خياله في الماء من بعيد وهو يريد أن يتناوله ولا يقدر عليه.
(وما دعاء الكافرين) أي عبادتهم الأصنام أو حقيقة الدعاء والأول هو الظاهر، والثاني قول ابن عباس: (إلا في ضلال) أي يضل عنهم ذلك الدعاء إذا احتاجوا إليه لأن أصواتهم محجوبة عن الله تعالى فلا يجدون منه شيئاً ولا ينفعهم بوجه من الوجوه بل هو ضائع ذاهب.(7/35)
وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (15)
(ولله يسجد من في السماوات والأرض) إن كان المراد بالسجود معناه الحقيقي وهو وضع الجبهة على الأرض للتعظيم مع الخضوع والتذلل فذلك ظاهر في المؤمنين والملائكة ومسلمي الجن، وأما في الكفار فلا يصح تأويل(7/35)
السجود بهذا في حقهم فلا بد أن يحمل السجود المذكور في الآية على معنى حق لله السجود ووجب حتى يتناول السجود بالفعل وغيره أو يفسر السجود بالانقياد لأن الكفار وإن لم يسجدوا لله سبحانه فهم منقادون لأمره وحكمه فيهم بالصحة والمرض والحياة والموت، والفقر والغنى، وجاء بمن تغليباً للعقلاء على غيرهم، ولكون سجود غيرهم تبعاً لسجودهم.
ومما يؤيد حمل السجود على الانقياد ما يفيده تقديم لله على الفعل من الاختصاص فإن سجود الكفار لأصنامهم معلوم ولا ينقادون لهم كانقيادهم لله في الأمور التي يقرون على أنفسهم بأنها من الله كالخلق والحياة والموت وغير ذلك.
وأيضاً يدل على إرادة هذا المعنى قوله (طوعاً وكرهاً) فإن الكفار ينقادون كرهاً كما ينقاد المؤمنون طوعاً، وهما منتصبان على المصدرية أي انقياد طوع وانقياد كره، أو على الحال أي طائعين وراضين وكارهين غير راضين، قال الفراء: الآية خاصة بالمؤمنين فإنهم يسجدون طوعاً وبعض الكفار يسجدون إكراهاً بالسيف، وخوفاً كالمنافقين فالآية محمولة على هؤلاء.
وقيل الآية في المؤمنين فمنهم من يسجد طوعاً لا يثقل عليه السجود ومنهم من يثقل عليه لأن التزام التكليف مشقة، ولكنهم يتحملون المشقة إيماناً بالله وإخلاصاً له أو المراد بالسجود هو الاعتراف بالعظمة والعبودية وكل من فيهما من ملك وإنس وجن فإنهم يقرون له بالعبودية والتعظيم، ويدل عليه قوله تعالى (ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله) والأول أولى.
(وظلالهم) جمع ظل والمراد به من له ظل منهم كالإنسان لا الجن ولا الملك إذ لا ظل لهما والمعنى سجوده حقيقة تبعاً لصاحبه حيث صار لازماً لا(7/36)
ينفك عنه، قال الزجاج: جاء في التفسير أن الكافر يسجد لغير الله فظله يسجد لله وقال ابن الأنباري ولا يبعد أن يخلق الله تعالى للظلال عقولاً وأفهاماً تسجد بها لله سبحانه كما جعل للجبال أفهاماً حتى اشتغلت بتسبيحه، فظل المؤمن يسجد لله طوعاً وظل الكافر يسجد لله كرهاً.
وقيل المراد بالسجود ميلان الظلال من جانب إلى جانب آخر وطولها تارة وقصرها أخرى بسبب ارتفاع الشمس ونزولها والأول أولى.
(بالغدو والآصال) أي البكر والعشايا وخصهما بالذكر لأنه يزداد ظهور الظلال فيهما وهما ظرف للسجود المقدر، أي ويسجد ظلالهم في هذين الوقتين، وقيل لأنهما طرفا النهار فيدخل وسطه فيما بينهما، والغدو بالضم من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس والغدوة والغداة أول النهار، وقيل إلى نصف النهار.
والآصال جمع أصيل وهو العشية والآصال العشايا جمع عشية وهي ما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس، وقد تقدم تفسير الغدو والآصال في الأعراف أيضاً. وفي معنى هذه الآية قوله سبحانه (أو لم يروا إلى ما خلق الله من شيء يتفيأ ظلاله عن اليمين والشمائل سجداً لله وهم داخرون) قيل وهذه السجدة من عزائم سجود التلاوة، فيسن للقارئ والمستمع أن يسجد عند قراءته واستماعه لهذه السجدة.(7/37)
قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (16)
(قل من رب السماوات والأرض) أي خالقهما ومتولي أمورهما، أمر الله سبحانه رسوله أن يسأل الكفار مَنْ ربهما؛ سؤال تقرير، ثم لما كانوا يقرون بذلك ويعترفون به كما حكاه الله سبحانه في قوله (ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم) وقوله (ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله) أمر رسوله صلى الله عليه وآله وسلم أن يجيب فقال (قل(7/37)
الله) فكأنه حكي جوابهم وما يعتقدونه لأنهم ربما تلعثموا (1) في الجواب حذراً مما يلزمهم.
ثم أمره بأن يلزمهم الحجة ويبكتهم فقال (قل أفاتخذتم) الاستفهام للإنكار، أي إذا كان رب السماوات والأرض هو الله كما تقرون بذلك وتعترفون به كما حكاه سبحانه عنكم بقوله (قل من رب السماوات السبع ورب العرش العظيم سيقولون الله) فما بالكم اتخذتم لأنفسكم بعد إقراركم هذا (من دونه أولياء) عاجزين (لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضرا) يضرون به غيرهم أو يدفعونه عن أنفسهم فكيف ترجون منهم النفع والضر وهم لا يملكونهما لأنفسهم.
ثم ضرب الله سبحانه لهم مثلاً وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقوله لهم فقال (قل هل يستوي الأعمى) في دينه وهو الكافر (والبصير) فيه وهو الموحد، فإن الأول جاهل لما يجب عليه وما يلزمه والثاني عالم بذلك. قال ابن عباس يعني المؤمن والكافر.
(أم هل) أم هذه هي النقطعة فتقدر ببل. والهمزة عند الجمهور، وببل وحدها عند بعضهم، وقد تقوى بهذه الآية من يرى تقديرها ببل فقط بوقوع هل بعدها، وأجيب بأن هل هنا بمعنى قد وإليه ذهب جماعة، وقيل استفهامية للتقريع والتوبيخ وهو الظاهر (تستوي) قرئ بالتاء والياء والوجهان واضحان (الظلمات) أي الكفر (والنور) أي الإيمان، أي كيف يكونان مستويين وبينهما من التفاوت ما بين الأعمى والبصير، وما بين الظلمات والنور، ووحد النور وجمع الظلمات لأن طريق الحق واحدة لا تختلف، وطرائق الباطل كثيرة غير منحصرة.
_________
(1) لعثم فيه لعثمة، وتلعثم تمكث وتوقف وتأنى أو نكص عنه وتبصره. انتهى قاموس.(7/38)
(أم) هي المنقطعة التي بمعنى بل والهمزة أي بل أ (جعلوا لله شركاء) والاستفهام لإنكار الوقوع قال إبن الأنباري: معناه أجعلوا لله شركاء (خلقوا كخلقه) أي مثل خلق الله، يعني سماوات وأرضاً وشمساً وقمراً، وجبالاً وبحاراً وجناً وإنساً.
(فتشابه الخلق عليهم) أي فتشابه خلق الشركاء بخلق الله عندهم، وهذا كله في حيز النفي كما علمت، أي ليس الأمر كذلك حتى يشتبه الأمر عليهم، بل إذا فكروا بعقولهم وجدوا الله هو المتفرد بالخلق وسائر الشركاء لا يخلقون شيئاً. والمعنى أنهم لم يجعلوا لله شركاء متصفين بأنهم خلقوا كخلقه فتشابه بهذا السبب الخلق عليهم حتى يستحقوا بذلك العبادة منهم. بل إنما جعلوا له شركاء الأصنام ونحوها بمحض سفه وجهل. وهي بمعزل أن تكون كذلك لأنه لم يصدر عنها فعل ولا خلق ولا أثر البتة.
ثم أمره الله سبحانه وتعالى بأن يوضح لهم الحق ويرشدهم إلى الصواب فقال (قل الله خالق كل شيء) كائناً ما كان ليس لغيره في ذلك مشاركة بوجه من الوجوه فلا شريك له في العبادة، قال الزجاج: والمعنى أنه خالق كل شيء مما يصح أن يكون مخلوقاً، ألا ترى أنه تعالى شيء وهو غير مخلوق (وهو الواحد) أي المنفرد بالربوبية مقول القول أو مستأنفه (القهار) لما عداه فكل ما عداه مربوب مقهور مغلوب.(7/39)
أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ (17) لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (18)
ثم ضرب سبحانه مثلاً آخر للحق وذويه وللباطل ومنتحليه، فقال(7/40)
أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ (17)
(أنزل من السماء ماء) مطراً يعني من جهتها والتنكير للتكثير أو للنوعية (فسالت أودية) جمع واد وهو كل منفرج بين جبلين أو نحوهما يسيل الماء فيه بكثرة فاتسع فيه واستعمل للماء الجاري فيه وتنكيرها لأن المطر يأتي على تناوب بين البقاع وإذا نزل لا يعم جميع الأرض ولا يسيل في كل الأودية بل ينزل في أرض دون أرض ويسيل في واد دون واد.
قال أبو علي الفارسي: لا نعلم فاعلاً جمع على أفعلة إلا هذا، وكأنه حمل على فعيل مثل جريب وأجربة كما أن فعيلاً حمل على فاعل فجمع على أفعال مثل يتيم وأيتام وشريف وأشراف كأصحاب وأنصار في صاحب وناصر.
قال وفي قوله أودية توسع أي سال ماؤها قال ومعنى (بقدرها)
بقدر مائها لأن الأودية ما سالت بقدر أنفسها، قال الواحدي: والقدر مبلغ الشيء والمعنى بقدرها من الماء فإن صغر الوادي قل الماء وإن اتسع كثر، قال ابن عباس: الصغير قدر صغره، والكبير قدر كبره، ونحوه قال ابن جريج وقال في الكشاف بمقدارها الذي يعرف الله أنه نافع للممطور عليهم غير ضار، وقيل بمقدار ملئها أي ما يملؤها كل واحد بحسبه صغراً وكبراً، والباء للملابسة.
قال ابن الأنباري: شبه نزول القرآن الجامع للهدى والبيان بنزول المطر(7/40)
إذ نفْع نزول القرآن يعم كعموم نفع نزول المطر، وشبه الأودية بالقلوب إذ الأودية يستكن فيها الماء كما يستكن القرآن والإيمان في قلوب المؤمنين.
(فاحتمل السيل) احتمل بمعنى حمل فافتعل بمعنى المجرد وإنما نكر الأودية وعرف السيل لأن المطر ينزل على المناوبة والسيل قد فهم من الفعل قبله وهو فسالت (زبداً رابياً) الزبد هو الأبيض المرتفع المنتفخ على وجه السيل ويقال له الغُثاء والرغوة وكذلك ما يعلو عن القدر عند غليانها، وقيل الزبد وضر الغليان والوضر بفتحتين وسخ الدسم ونحوه وهو مجاز عما يعلو الماء من الغُثاء والرابي العالي المرتفع فوق الماء، قال الزجاج: هو الطافي فوق الماء، وقال غيره هو الزائد بسبب انتفاخه من ربا يربو إذا زاد.
والمراد من هذا تشبيه الكفر بالزبد الذي يعلو الماء فإنه يضمحل ويعلق بجنبات الوادي وتدفعه الرياح، فكذلك يذهب الكفر ويضمحل، وعن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " إن مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضاً فكانت منها طائفة طيبة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكان منها أجادب أمسكت الماء نفع الله بها الناس فشربوا منها وسقوا ووعوا وأصاب طائفة منها أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماءً ولا تنبت كلأ فذلك مثل من فقه في دين ونفعه ما بعثني الله به فتعلم وعلم ومثل من لم يرفع بذلك رأساً ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به (1)، أخرجه البخاري ومسلم.
وقد تم هنا المثل الأول ثم شرع سبحانه في ذكر المثل الثاني فقال (ومما يوقدون عليه في النار) مِن لابتداء الغاية أي ومنه ينشأ زبد مثل زبد الماء أو للتبعيض بمعنى وبعضه زبد مثله والضمير للناس أضمر مع عدم سبق الذكر لظهوره؛ هذا على قراءة التحتية واختاره أبو عبيدة، وقرئ بالفوقية على الخطاب والمعنى ومما توقدون عليه في النار فيذوب من الأجسام المتطرفة
_________
(1) مسلم/2282 البخاري/68.(7/41)
الذائبة، وفي المصباح وقدت النار وقداً من باب وعد ووقوداً والوقود بالفتح الحطب وأوقدتها إيقاداً ومنه على الاستعارة كلما أوقدوا ناراً للحرب، والوقد بفتحتين النار نفسها والموقد موضع الوقود.
(ابتغاء) أي لطلب اتخاذ (حلية) بتزينون بها ويتجملون كالذهب والفضة (أو) لطلب (متاع) آخر يتمتعون به من الأواني والآلات المتخذة من الحديد والصفر والنحاس والرصاص (زبد مثله) المراد بالزبد هنا الخبث فإنه يعلو فوق ما أذيب من تلك الأجسام كما يعلو الزبد على الماء فالضمير في مثله يعود إلى زبداً رابياً وزبد مبتدأ وخبره مما توقدون، ووجه المماثلة أن كلا منهما ناش من الاكدار.
(كذلك) الضرب البديع (يضرب) أي يبين (الله) المثل (الحق) أي الإيمان (و) المثل (الباطل) أي الكفر فالحق هو الماء والجوهر الصافي الثابت والباطل هو الزبد الطافي الذي لا ينتفع به ثم شرع في تتميم المثل فقال:
(فأما الزبد) بقسميه (فيذهب جفاء) باطلاً مرمياً به يقال جفأ الوادي غثاء جفأ إذا رمى به أي يرميه الماء إلى الساحل ويرميه الكير فلا ينتفع به والجفاء بمنزلة الغثاء وكذا قال أبو عمرو بن العلاء، وحكى أبو عبيدة أنه سمع رؤبة يقرأ (جفالاً) قال أبو عبيدة أجفلت القدر إذا قذفت بزبدها وأجفلت الريح السحاب إذا قطعته، قال أبو حاتم لا يقرأ بقراءة رؤبة لأنه كان يأكل الفار.
والمعنى يذهب باطلاً ضائعاً أي أن الباطل وأن علا في وقت فإنه يضمحل ويذهب، وقيل الجفاء المتفرق قاله ابن الأنباري يقال جفأت الريح السحاب أي قطعته وفرقته ووجه المماثلة بين الزبدين في الزبد الذي يحمله السيل والزبد الذي يعلو الأجسام المتطرقة إن تراب الأرض لما خالط الماء وحمله معه صار زبداً رابياً فوقه وكذلك ما يوقد عليه في النار حتى يذوب من الأجسام(7/42)
المتطرقة فإن أصله من المعادن التي تنبت في الأرض فيخالطها التراب فإذا أذيبت صار ذلك التراب الذي خالطها خبثاً مرتفعاً فوقها.
(وأما ما ينفع الناس) منها وهو الماء الصافي والجوهر الجيد من هذه الأجسام المذابة والذائب الخالص من الخبث (فيمكث في الأرض) أي يثبت فيها ويبقى ولا يذهب، أما الماء فإنه يسلك في عروق الأرض فينتفع الناس به، وأما ما أذيب من تلك الأجسام فإنه يصاغ حلية وأمتعة.
وهذان مثلان ضربهما الله سبحانه للحق والباطل يقول إن الباطل وإن ظهر على الحق في بعض الأحوال وعلاه فإن الله سبحانه سيمحقه ويبطله، ويجعل العاقبة للحق وأهله كالزبد الذي يعلو الماء فيلقيه الماء ويضمحل، وكخبث هذه الأجسام فإنه وأن علا عليها فإن الكير يقذفه ويدفعه فهذا مثل الباطل.
وأما الماء الذي ينفع الناس وينبت المراعي فيمكث في الأرض وكذلك الصفو من هذه الأجسام فإنه يبقى خالصاً لا شوب فيه وهو مثل الحق.
قال الزجاج: فمثل المؤمن واعتقاده ونفع الإيمان كمثل هذا الماء المنتفع به في نبات الأرض وحياة كل شيء، وكمثل نفع الفضة والذهب وسائر الجواهر لأنها كلها تبقى منتفعاً بها، ومثل الكافر وكفره كمثل الزبد الذي يذهب جفاء، وكمثل خبث الحديد وما تخرجه النار من وسخ الفضة والذهب الذي لا ينتفع به، وقد حكينا عن ابن الأنباري فيما تقدم أنه شبه نزول القرآن إلى آخر ما ذكرناه فجعل ذلك مثلاً ضربه الله للقرآن.
(كذلك) الضرب العجيب (يضرب الله الأمثال) في كل باب لكمال العناية بعباده واللطف بهم في الإرشاد والهداية، وفيه تفخيم لشأن هذا التمثيل وتأكيد لقوله: (كذلك يضرب الله الحق والباطل) إما باعتبار ابتناء هذا على التمثيل الأول أو بجعل ذلك إشارة إليهما جميعاً.
ثم بيَّن سبحانه من ضرب له مثل الحق ومثل الباطل من عباده، فقال(7/43)
فيمن ضرب له مثل الحق(7/44)
لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (18)
(للذين استجابوا لربهم) خبر مقدم، أي أجابوا دعوته إذ دعاهم إلى توحيده وتصديق أنبيائه والعمل بشرائعه.
(الحسنى) مبتدأ مؤخر، أي المثوبة الحسنى وهي الجنة، وبه قال جمهور المفسرين، وقيل الحسنى هي المنفعة العظمى الخالصة الخالية عن شوائب المضرة والانقطاع والأول أولى. وهو قول ابن عباس. وقال سبحانه فيمن ضرب له مثل الباطل:
(والذين لم يستجيبوا له) أي لدعوته إلى ما دعاهم إليه وهم الكفار الذين استمروا على كفرهم وشركهم وما كانوا عليه، والموصول مبتدأ أخبر عنه بثلاثة أخبار، الأول الجملة الشرطية وهي (لو أن لهم ما في الأرض جميعاً) من أصناف الأموال التي يتملكها العباد ويجمعونها بحيث لا يخرج عن ملكهم منها شيء (ومثله معه) أي مثل ما في الأرض جميعاً كائناً معه ومنضماً إليه (لافتدوا به) أي بمجموع ما ذكر وهو ما في الأرض ومثله، والمعنى ليخلصوا به مما هم فيه من العذاب الكبير والهول العظيم، ثم بين سبحانه ما أعد لهم فقال:
(أولئك) يعني الذين لم يستجيبوا وهو خبر ثان للموصول (لهم سوء الحساب) من إضافة الصفة للموصوف أي الحساب السيء، وهو أن يحاسب الرجل بذنبه كله ولا يغفر له منه شيء.
قال الزجاج: لأن كفرهم أحبط أعمالهم، وقال غيره هو المناقشة فيه، وفي الحديث " من نوقش الحساب عذب " (1) (ومأواهم جهنم) أي مرجعهم إليها (وبئس المهاد) أي المستقر الذي يستقرون فيه أو الفراش الذي يفرش لهم في جهنم، والمخصوص بالذم محذوف وهو خبر ثالث للموصول المتقدم.
_________
(1) صحيح الجامع الصغير/6454.(7/44)
أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (19) الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ (20) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ (21) وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (22) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23)(7/45)
أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (19)
(أفمن يعلم) الهمزة للإنكار على من يتوهم المماثلة بين من يعلم وبين من هو أعمى لا يعلم ذلك ولا يؤمن به (أنما أنزل إليك من ربك الحق) أي ما أنزل الله سبحانه إلى رسوله صلى الله عليه وسلم من الحق الذي لا شك فيه ولا شبهة وهو القرآن (كمن هو أعمى) فإن الحال بينهما متباعد جداً كالتباعد الذي بين الماء والزبد وبين الخبيث والخالص من تلك الأجسام.
قيل نزل في حمزة وأبي جهل، ومع هذا فالأولى حمل الآية على العموم وإن كان السبب خاصاً، والمعنى لا يستوي من يبصر الحق ويتبعه ومن لا يبصره ولا يتبعه، وعن قتادة قال: هؤلاء قوم انتفعوا بما سمعوا من كتاب الله وعقلوه ووعوه وهؤلاء كمن هو أعمى عن الحق فلا يبصره ولا يعقله (إنما يتذكر أولو الألباب) أي إنما يقف على تفاوت المنزلتين وتباين الرتبتين أو يتعظ أهل العقول الصحيحة.
ثم وصفهم بالأوصاف المادحة فقال(7/45)
الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ (20)
(الذين يوفون بعهد الله) أي بما عقدوه من العهود فيما بينهم وبين ربهم أو فيما بينهم وبين العباد (ولا ينقضون الميثاق) الذي وثقوه على أنفسهم وأكدوه بالإيمان ونحوها، وهذا تعميم بعد التخصيص لأنه يدخل تحت الميثاق كل ما أوجبه العبد على نفسه كالنذور ونحوها.(7/45)
ويجوز أن يكون الأمر بالعكس فيكون من التخصيص بعد التعميم على أن يراد بالعهد جميع عهود الله، وهي أوامره ونواهيه التي وصى بها عباده على ألسنة الرسل في الكتب الإلهية ويدخل في ذلك الالتزامات التي يلزم بها العبد نفسه ويراد بالميثاق ما أخذه الله على عباده حين أخرجهم من صلب آدم في عالم الذر المذكور في قوله سبحانه (وإذ أخذ ربك من بني آدم) الآية بأن يؤمنوا إذا وجدوا في الخارج ولا يكفروا، قال قتادة: أن الله ذكر الوفاء بالعهد والميثاق في بضع وعشرين آية من القرآن.(7/46)
وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ (21)
(والذين يصلون ما أمر به أن يوصل) ظاهره شمول كل ما أمر الله بصلته ونهى عن قطعه من حقوق الله وحقوق عباده، ومنه الإيمان بجميع الكتب والرسل ولا يفرق بين أحد منهم، ويدخل تحت ذلك صلة الأرحام دخولاً أولياً ويدخل فيه وصل قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ووصل قرابة المؤمنين الثابتة بسبب الإيمان (إنما المؤمنون إخوة) بالإحسان إليهم على حسب الطاقة ونصرتهم والذب عنهم والشفقة عليهم وإفشاء السلام وعيادة المرضى.
ومنه مراعاة حق الأصحاب والخدم والجيران والرفقاء في السفر إلى غير ذلك وقد قصره كثير من المفسرين على صلة الرحم، واللفظ أوسع من ذلك.
أخرج الخطيب وابن عساكر عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن البر والصلة ليخففان سوء الحساب يوم القيامة " ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم والذين يصلون ما أمر الله -إلى- ويخافون سوء الحساب وقد ورد في صلة الرحم وتحريم قطعها أحاديث كثيرة.
(ويخشون ربهم) خشية تحملهم على فعل ما وجب واجتناب ما لا يحل والخشية خوف يشوبه تعظيم وإجلال، وأكثر ما يكون ذلك عن علم بما يخشى منه (ويخافون سوء الحساب) وهو الإستقصاء فيه والمناقشة للعبد، فمن نوقش(7/46)
الحساب عذب ومن حق هذه الخيفة أن يحاسبوا أنفسهم قبل أن يحاسبوا.(7/47)
وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (22)
(والذين صبروا) قيل مستأنف وقيل معطوف على ما قبله والتعبير عنه بلفظ الماضي للتنبيه على أنه ينبغي تحققه والمراد بالصبر الصبر على الإتيان بما أمر الله به واجتناب ما نهى عنه. وقيل على الرزايا والمصائب، وقيل عن الشهوات والمعاصي والأولى حمله على العموم (ابتغاء وجه ربهم) أي ثوابه ورضاه معناه أن يكون خالصاً له لا شائبة فيه لغيره كأن يصبر ليقال ما أكمل صبره وأشد قوته على تحمل النوازل أو لأجل أن لا يعاب على الجزع أو لأجل أن لا يشمت به الأعداء.
(وأقاموا الصلاة) أى فعلوها في أوقاتها على ما شرعه الله سبحانه في أذكارها وأركانها مع الخشوع والإخلاص والمراد بها الصلوات المفروضة وقيل أعم من ذلك (وأنفقوا) في الطاعة (مما رزقناهم) أي بعضه (سراً وعلانية) المراد بالسر صدقة النفل والعلانية صدقة الفرض، وقيل السر لمن لم يعرف بالمال ولا يتهم بترك الزكاة والعلانية لمن كان يعرف بالمال أو يتهم بترك الزكاة والحمل على العموم أولى.
(ويدرؤون بالحسنة السيئة) أي يدفعون سيئة من أساء إليهم بالإحسان إليه كما في قوله تعالى ادفع بالتي هي أحسن، أو يدفعون بالعمل الصالح السيء فيمحوه أو يدفعون الشر بالخير أو المنكر بالمعروف أو الظلم بالعفو أو الذنب بالتوبة أو الحرمان بالإعطاء أو القطع بالوصل أو الهرب بالإنابة ولا مانع من حمل الآية على جميع هذه الأمور.
(أولئك) الموصوفون بالصفات المتقدمة (لهم عقبى الدار) العقبى مصدر كالعاقبة والإضافة على معنى في، أي العقبى المحمودة فيها قال الخطيب العقبى الانتهاء الذي يؤدي إليه الابتداء من خير أو شر، والمراد بالدار الدنيا وعقباها الجنة، وقيل المراد دار الآخرة وعقباها الجنة للمطيعين والنار للعصاة.(7/47)
جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23)
(جنات عدن يدخلونها) أي لهم جنات عدن والعدن أصله الإقامة ثم(7/47)
صار علماً لجنة من الجنان واسم المكان معدن مثال مجلس لأن أهله يقيمون عليه الصيف والشتاء أو لأن الجوهر الذي خلقه الله فيه عدن به، قال القشيري: وجنات عدن وسط الجنة وقصبتها وسقفها عرش الرحمن ولكن في صحيح البخاري وغيره إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة وفوقه عرش الرحمن ومنه تفجر أنهار الجنة (1).
وعن ابن مسعود قال: جنات عدن بطنان الجنة أي وسطها، وعن الحسن إن عمر قال لكعب: ما عدن قال هو قصر في الجنة لا يدخله إلا نبي أو صديق أو شهيد أو حكم عدل.
وأخرج ابن مردويه عن علي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: جنة عدن قضيب غرسه الله بيده ثم قال له كن فكان (2).
(ومن صلح) أي آمن في الدنيا، قاله مجاهد (من آبائهم) أي أصولهم وهي تشمل الآباء والأمهات ومن لبيان الجنس (وأزواجهم) اللاتي متن في عصمتهم (وذرياتهم) أي ويدخلها هؤلاء الفرق الثلاث وإن لم تعمل بأعمالهم تكرمة لهم قاله ابن عباس ورجحه الواحدي.
قال الرازي: وليس فيه ما يدل على التمييز بين زوجة وزوجة ولعل الأولى من مات عنها أو ماتت عنه، وذكر الصلاح دليل على أنه لا يدخل الجنة إلا من كان كذلك من قرابات أولئك، ولا ينفع مجرد كونه من الآباء أو الأزواج أو الذرية بدون صلاح.
(والملائكة يدخلون عليهم) في قدر كل يوم وليلة ثلاث مرات للتهنئة، وقيل بل هو في أول دخولهم. قاله السيوطي في الجمل والتقييد بهذا لم نره لغيره من المفسرين. بل في كلام غيره ما يدل على عدمه (من كل باب) أي من جميع أبواب القصور والمنازل التي يسكنونها أو من كل باب من أبواب الجنة أو من كل باب من أبواب التحف والهدايا من الله سبحانه.
_________
(1) البخاري، كتاب التوحيد 22 - كتاب الجهاد 4.
(2) الترمذي، كتاب الجنة، الباب 4.(7/48)
سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (24) وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (25) اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ (26) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ (27) الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28)(7/49)
سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (24)
(سلام عليكم) أي قائلين سلام عليكم، فأضمر القول هنا لدلالة الكلام عليه أي سلمتم من الآفات أو دامت لكم السلامة، وقيل دعاء لهم من الملائكة، أي سلمكم الله تعالى (بما صبرتم) أي بسبب صبركم في الدنيا على الآفات وهو متعلق بالسلام، أي إنما حصلت لكم هذه السلامة بواسطة صبركم أو متعلق بعليكم أو بمحذوف، أي هذه الكرامة بسبب صبركم وبدل ما احتملتم من مشاق الصبر (فنعم عقبى الدار) أي نعم ما أعقبكم الله من الدنيا الجنة.
أخرج أحمد والبزار وابن جرير وابن أبي حاتم وابن حبان وأبو الشيخ وابن مردويه والحاكم وصححه وأبو نعيم في الحلية والبيهقي في شعب الإيمان عن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أول من يدخل الجنة من خلق الله فقراء المهاجرين الذين تسد بهم الثغور، وتتقى بهم المكاره، ويموت أحدهم وحاجته في صدره لا يستطيع لها قضاء، فيقول الله لمن يشاء من ملائكته ائتوهم فحيوهم، فتقول اللائكة ربنا نحن سكان سمائك وخيرتك من خلقك أفتأمرنا إن نأتي هؤلاء فنسلم عليهم؟.
قال الله: إن هؤلاء عبادي كانوا يعبدوني ولا يشركون بي شيئا وتسد(7/49)
بهم الثغور وتتقى بهم المكاره، ويموت أحدهم وحاجته في صدره لا يستطيع لها قضاء، فتأتيهم الملائكة عند ذلك فيدخلون عليهم من كل باب قائلين لهم سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار " (1).
وفي القرطبي عن عبد الله بن سلام وعلي بن الحسين: إذا كان يوم القيامة نادى مناد ليقم أهل الصبر، فيقوم ناس من الناس فيقال لهم انطلقوا إلى الجنة فتلقاهم الملائكة فتقول إلى أين؟ فيقولون إلى الجنة، قالوا: قبل الحساب؟ قالوا: نعم، فيقولون: من أنتم، فيقولون: نحن أهل الصبر، قالوا: وما كان صبركم؟ قالوا: صبرنا أنفسنا على طاعة الله، وصبرناها عن معاصي الله، وصبرناها على البلاء والمحن في الدنيا.
قال علي بن الحسين: فتقول لهم الملائكة: سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار أي نعم عاقبة الدار التي كنتم فيها وعملتم فيها ما أعقبكم هذا الذي أنتم فيه، فالعقبى على هذا اسم والدار هي الدنيا.
وقال أبو عمران الجوني: أي الجنة عن النار بضم الجيم، وعنه الجنة عن الدنيا وبالجملة فقد جاء سبحانه بهذه الجملة المتضمنة لمدح ما أعطاهم من عقبى الدار المتقدم ذكرها للترغيب والتشويق.
ثم أتبع أحوال السعداء بأحوال الأشقياء فقال:
_________
(1) أحمد بن حنبل 2/ 168.(7/50)
وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (25)
(والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه) من بعد ما أوثقوه به من الاعتراف والقبول بقولهم بلى (ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل) من الإيمان والرحم وغير ذلك، وقد مر تفسير عدم النقض وعدم القطع فعرف منهما تفسير النقض القطع ولم يتعرض(7/50)
لنفي الخشية والخوف عنهم وما بعدهما من الأوصاف المتقدمة لدخولها في النقض والقطع (ويفسدون في الأرض) بالكفر وارتكاب المعاصي والإضرار بالأنفس والأموال.
(أولئك) الموصوفون بهذه الصفات الذميمة (لهم) بسبب ذلك (اللعنة) أي الطرد والإبعاد من رحمة الله سبحانه (ولهم سوء الدار) أي سوء عاقبة دار الدنيا وهي النار أو عذاب جهنم فإنها دارهم.(7/51)
اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ (26)
(الله يبسط الرزق) أي يوسعه (لمن يشاء) أي لمن كان كافراً استدراجاً (ويقدر) أي ويقتره على من كان مؤمناً إبتلاء وامتحاناً وتكفيراً لذنوبه ولا يدل البسط على الكرامة، ولا القبض على الإهانة، ومعنى يقدر يضيق، ومنه ومن قدر عليه رزقه، أي ضيق، وقيل معنى يقدر يعطي بقدر الكفاية، وقرأ السبعة يقدر بكسر الدال وهو أفصح، واستعمل بالضم أيضاً على ما في المصباح، ومعنى الآية إنه الفاعل لذلك وحده القادر عليه دون غيره.
(وفرحوا) أي مشركو مكة (بالحياة الدنيا) فرح بطر لا فرح سرور والفرح لذة تحصل في القلب عند حصول المشتهى وجهلوا ما عند الله، والجملة مستأنفة لبيان قبح أفعالهم مع ما وسعه عليهم، وفيه دليل على أن الفرح بالدنيا والركون إليها حرام.
قيل وفي هذه الآية تقديم وتأخير، والتقدير ويفسدون في الأرض وفرحوا بالحياة الدنيا، والأولى أولى لأنه ماض وما قبله مستقبل، وقيل العطف على ينقضون ولا يصح لأنه يستلزم تخلل الفاصل بين أبعاض الصلة.
(وما الحياة الدنيا في الآخرة) أي بالنسبة إليها وفي جنبها ففي هنا(7/51)
للمقايسة وهي الداخلة بين مفضول سابق وفاضل لاحق وليست ظرفاً للحياة ولا للدنيا لأنهما لا يكونان في الآخرة (إلا متاع) أي ما هي إلا شيء يستمتع به. وقيل المتاع واحد الأمتعة كالقصعة والسكرجة ونحوهما، وقيل المعنى شيء قليل ذاهب، من متع النهار إذا ارتفع فلا بدّ من زوال، وقيل زاد كزاد الراكب يتزودونه منها إلى الآخرة. وقال عبد الرحمن بن سابط: كزاد الراعي يزوده أهله الكف من التمر أو الشيء من الدقيق أو الشيء يشرب عليه اللبن.
وعن ابن عباس قال: كان الرجل يخرج في الزمان الأول في إبله أو غنمه فيقول لأهله متعوني فيمتعونه فلقة الخبز أو التمر، فهذا مثل ضربه الله للدنيا.
وأخرج الترمذي وصححه عن ابن مسعود قال: نام رسول الله صلى الله عليه وسلم على حصير فقام وقد أثر في جنبه، فقلنا يا رسول الله لو اتخذنا لك، فقال: " ما لي وللدنيا ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها " (1).
واخرج مسلم والترمذي والنسائي وابن ماجة عن المستورد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما الدنيا في الآخرة إلا كمثل ما يجعل أحدكم إصبعه هذه في اليم فلينظر بم يرجع " وأشار بالسبابة (2).
_________
(1) الترمذي كتاب الزهد باب 44.
(2) مسلم 2858.(7/52)
وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ (27)
(ويقول الذين كفروا) أي المشركون من أهل مكة (لولا) هلا (أنزل عليه) أي على محمد (آية) أي معجزة، مثل معجزة موسى وعيسى عليهما السلام (من ربه) كالعصا واليد والناقة، وقد تقدم تفسير هذا قريبا وتكرر في مواضع.(7/52)
(قل إن الله يضل من يشاء) أمره الله سبحانه أن يجيب عليهم بهذا وهو أن الضلال بمشيئة الله سبحانه من شاء أن يضله كما ضل هؤلاء القائلون (لولا أنزل عليه آية من ربه) ولا ينفعه نزول الآيات وكثرة المعجزات إن لم يهده الله عز وجل وإن أنزلت كل آية فإن ذلك في أقصى مراتب المكابرة والعناد وشدة الشكيمة والغلو في الفساد فلا سبيل له إلى الاهتداء.
(ويهدي إليه) أي إلى الحق أو إلى الإسلام أو إلى جنابه عز وجل (من أناب) أي رجع إلى الله بالتوبة والاقلاع عما كان عليه، وأصل الإنابة الدخول في نوبة الخير. كذا قال النيسابوري.(7/53)
الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28)
(الذين آمنوا) منصوب على البدل من أناب، والمعنى أنهم هم الذين هداهم الله وأنابوا إليه: أو خبر مبتدأ محذوف، أي هم الذين آمنوا (وتطمئن قلوبهم بذكر الله) أي تسكن عن القلق والاضطراب وتستأنس بذكره سبحانه بألسنتهم كتلاوة القرآن والتسبيح والتحميد والتكبير والتوحيد أو بسماع ذلك من غيرهم عبر بالمضارع لأن الطمأنينة تتجدد بعد الإيمان حيناً بعد حين، قاله الشهاب. وقال الكرخي المضارع قد لا يلاحظ فيه زمان معين من حال أو استقبال فيدل إذ ذاك على الاستمرار ومنه الآية أهـ.
قال في الجمل: وهذا ينفع في مواضع كثيرة وقد سمى الله سبحانه القرآن ذكراً قال (وهذا ذكر مبارك أنزلناه) وقال (إنا نحن نزلنا الذكر).
قال الزجاج: أي إذا ذكر الله وحده آمنوا به غير شاكين بخلاف من وصف بقوله (وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة).
وقيل الذكر هنا الطاعة وقيل بوعد الله وقيل بالحلف بالله فإذا حلف(7/53)
خصمه بالله سكن قلبه، قاله السدي، وقيل بذكر رحمته، وقيل بذكر دلائله الدالة على توحيده، وقال قتادة هشت إليه واستأنست به، وقال مجاهد بمحمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه ولا مانع من حمل الآية على جميعها.
(ألا بذكر الله) وحده دون غيره من الأمور التي تميل إليها النفوس من الدنيويات (تطمئن القلوب) والنظر في مخلوقات الله سبحانه وبدائع صنعه وإن كان يفيد طمأنينة في الجملة لكن ليست كهذه الطمأنينة وكذلك النظر في المعجزات من الأمور التي لا يطيقها البشر فليس إفادتها للطمأنينة كإفادة ذكر الله، فهذا وجه ما يفيده هذا التركيب من القصر.
وأما قوله تعالى في الأنفال (إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم) والوجل ضد الاطمئنان فالمعنى أنهم إذا ذكروا العقوبات وجلوا وإذا ذكروا المثوبات سكنوا.
أخرج أبو الشيخ عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه حين نزلت هذه الآية: هل تدرون ما معنى ذلك؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: من أحب الله ورسوله وأحب أصحابي.
وأخرج ابن مردويه عن عليّ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزلت هذه الآية قال ذلك من أحب الله ورسوله وأحب أهل بيته صادقاً غير كاذب وأحب المؤمنين شاهداً وغائباً ألا بذكر الله يتحابون.(7/54)
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ (29) كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ (30)(7/55)
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ (29)
(الذين آمنوا وعملوا الصالحات) مبتدأ خبره جملة (طوبى لهم) وجاز الابتداء بطوبى إما لأنها علم لشيء بعينه وإما لأنها نكرة في معنى الدعاء كسلام عليك وويل له، قال أبو عبيدة والزجاج: وأهل اللغة طوبى فعلى من الطيب فهو يائي وأصله طيبي، قال ابن الأنباري: وتأويلها الحال المستطابة، وقيل طوبى شجرة في الجنة. وقيل هي الجنة وقيل هي البستان بلغة الهند وقيل هي اسم الجنة بالحبشية وقيل معناه حسنى لهم وقيل خير لهم وقيل كرامة لهم وقيل غبطة لهم قال النحاس: وهذه الأقوال متقاربة، واللام في لهم للبيان مثل سقياً لك ورعياً لك.
قال الأزهري: تقول طوبى لك وطوباك لحن لا تقوله العرب وهو قول أكثر النحويين وقيل هو مصدر من طاب كبشرى ورجعى وزلفى فالمصدر قد يجيء على وزن فعلى ومعناه أصبت خيراً وطيباً، وقيل هي شجرة في جنة عدن تظلل الجنان كلها، وقال ابن عباس: طوبى لهم فرح لهم وقرة أعين، وقال عكرمة: نعمى لهم، وقد روي عن جماعة من السلف نحو ما قدمنا ذكره من الأقوال.
والأرجح تفسير الآية بما روي مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم كما أخرجه أحمد وابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه والبيهقي عن عتبة بن عبد قال: جاء إعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله في الجنة فاكهة قال: " نعم فيها شجرة تدعى طوبى " الحديث.(7/55)
وأخرج أحمد وأبو يعلى وابن جرير وابن أبي حاتم وابن حبان والخطيب في تاريخه عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن رجلاً قال يا رسول الله طوبى لمن رآك وآمن بك قال: " طوبى لمن آمن بي ورآني ثم طوبى ثم طوبى ثم طوبى لمن آمن بي ولم يرني، فقال رجل: وما طوبى؟ قال: شجرة في الجنة مسيرة مائة عام ثياب أهل الجنة تخرج من أكمامها " (1) وفي الباب أحاديث وآثار عن السلف.
وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة سنة اقرأوا إن شئتم وظل ممدود " وفي بعض الألفاظ إنها شجرة الخلد وفي بعضها شجرة غرسها الله بيده (2).
(وحسن مآب) من آب إذا رجع أي ولهم حسن مرجع وهو الدار الآخرة وهي الجنة قال السدي حسن منقلب وعن الضحاك مثله.
_________
(1) أحمد بن حنبل 3/ 71.
(2) مسلم 2826 - البخاري 1539.(7/56)
كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ (30)
(كذلك) أي مثل ذلك الإرسال العظيم الشأن المشتمل على المعجزة الباهرة (أرسلناك) يا محمد إرسالاً له شأن، وقيل شبه الإنعام على من أرسل إليه محمد صلى الله عليه وسلم بالإنعام على من أرسل إليه الأنبياء قبله، وقيل كما هدى الله من أناب كذلك أرسلناك.
وقال ابن عطية الذي يظهر لي أن المعنى كما أجرينا العادة بأن الله يضل ويهدي لا بالآيات المقترحة فكذلك أيضاً فعلنا في هذه الأمة أرسلناك إليها بوحي لا بالآيات المقترحة، وقال أبو البقاء: كذلك الأمر كذلك، وقال الحوفي: أي كفعلنا الهداية والإضلال، والإشارة بذلك إلى ما وصف به نفسه من أن الله(7/56)
يضل من يشاء ويهدي من يشاء وكل ذلك فيه تكلف وبعد، والأول أظهر وأولى.
(في أمة) أي قرن (قد خلت) مضت (من قبلها) أي قبل الأمة (أمم) قرون أو في جماعة من الناس كثيرة قد مضت من قبلها جماعات (لتتلو) لتقرأ (عليهم الذي أوحينا إليك) أي القرآن (و) الحال أن (هم يكفرون) أو استئناف وهم عائد على أمة من حيث المعنى، ولو عاد على لفظها لقيل وهي تكفر، وقيل على أمة، وعلى أمم، وقيل على الذين قالوا لولا أنزل (بالرحمن) أي بالكثير الرحمة لعباده، ومن رحمته لهم إرسال الرسل إليهم وإنزال الكتب عليهم كما قال سبحانه (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين).
عن قتادة قال: ذكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم زمن الحديبية حين صالح قريشاً كتب في الكتاب: " بسم الله الرحمن الرحيم، فقالت قريش أما الرحمن فلا نعرفه، وكان أهل الجاهلية يكتبون باسمك اللهم، فقال أصحابه دعنا نقاتلهم، فقال: لا ولكن اكتبوا كما يريدون " (1) وعن ابن جريج في هذه الآية نحوه وقيل حيث قالوا لما أمروا بالسجود له وما الرحمن كما ذكر في سورة الفرقان بقوله (وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن) فهذه الآية متقدمة على ما هنا في النزول وإن تأخرت عنها في المصحف والتلاوة، وقيل غير ذلك، (قل هو ربي) مستأنفة بتقدير سؤال كأنهم قالوا وما الرحمن؟ فقال سبحانه: قل يا محمد هو ربي، أي الرحمن الذي أنكرتم معرفته ربي وخالقي.
(لا إله إلا هو) أي لا يستحق العبادة له والإيمان به سواه (عليه توكلت) في جميع أموري (وإليه) لا إلى غيره (متاب) أي توبتي قاله مجاهد، وفيه تعريض بالكفار وحث لهم على الرجوع إلى الله والتوبة من الكفر والدخول في الإسلام.
_________
(1) انظر تمام القصة في سيرة ابن هشام 24.(7/57)
وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (31) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ (32) أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33)(7/58)
وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (31)
(ولو أن قرآنا سيرت به) أي بإنزاله وقراءته (الجبال) عن محل استقرارها وانتقلت عن أماكنها وأذهبت عن وجه الأرض، قيل هذا متصل بقوله (لولا أنزل عليه آية من ربه) وإن جماعة من الكفار سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسير لهم جبال مكة حتى تتفسح فإنها أرض ضيقة فأمره الله سبحانه بأن يجيب عليهم بهذا الجواب المتضمن لتعظيم شأن القرآن وفساد رأي الكفار حيث لم يقنعوا به وأصروا على تعنتهم وطلبهم ما لو فعله الله سبحانه لم يبق ما تقتضيه الحكمة الإلهية من عدم إنزال الآيات التي يؤمن عندها جميع العباد.
(أو قطعت به الأرض) أي صدعت وشققت حتى صارت قطعاً متفرقة من خشية الله عند قراءته وجعلت أنهاراً أو عيوناً (أو كلم به الموتى) أي صاروا أحياء بقراءته عليهم فكانوا يفهمونه عند تكليمهم به كما يفهمه الأحياء وقد اختلف في جواب لو فقيل لكان هذا القرآن، وقيل لكفروا بالرحمن أي لو فعل بهم هذا وقيل لما آمنوا كما سبق في قوله (وما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله).
وقيل التقدير وهم يكفرون بالرحمن لو أن قرآنا إلخ وكثيراً ما تحذف(7/58)
العرب جواب لو إذا دل عليه سياق الكلام وتذكير كلَّم خاصة دون الفعلين قبله لأن الموتى تشتمل على المذكر الحقيقي والتغليب له فكان حذف التاء أحسن، والجبال والأرض ليستا كذلك قاله الكرخي.
قال ابن عباس: قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم إن كان كما تقول فأرنا أشياخنا الأول من الموتى نكلمهم وافسح لنا هذه الجبال فنزلت هذه الآية، وعن عطية العوفي قال: قالوا لمحمد صلى الله عليه وسلم لو سيرت لنا جبال مكة حتى تتسع فنحرث فيها أو قطعت لنا الأرض كما كان سليمان عليه السلام يقطع لقومه بالريح أو أحييت لنا كما كان يحيي عيسى الموتى لقومه فأنزل الله هذه الآية.
(بل لله الأمر جميعاً) أي لو إن قرآنا فعل به ذلك لكان هذا القرآن ولكن لم يفعل بل فعل ما عليه الشأن الآن فلو شاء أن يؤمنوا لآمنوا وإذا لم يشأ أن يؤمنوا لم ينفع تسيير الجبال وسائر ما اقترحوه من الآيات، فالإضراب متوجه إلى ما يؤدي إليه كون الأمر لله سبحانه ويستلزمه من توقف الأمر على ما تقتضيه حكمته ومشيئته ويدل على أن هذا هو المعنى المراد من ذلك قوله.
(أفلم ييأس الذين آمنوا) قال الكلبي: بمعنى ألم يعلم وهي لغة النخع قال في الصحاح، وقيل هي لغة هوازن، وبهذا قال جماعة من السلف، قال أبو عبيدة: أفلم يعلموا ويتبينوا قال الزجاج: وهو مجاز لأن اليائس من الشيء عالم بأنه لا يكون نظيره استعمال الرجاء في معنى الخوف والنسيان في الترك لتضمنهما إياهما.
وقرأ جماعة من الصحابة والتابعين أفلم يتبين بطريق التفسير فمعنى الآية على هذا أفلم يعلموا (أن) أي أنه (لو يشاء الله لهدى الناس جميعاً) من غير أن يشاهدوا الآيات ولكن لم يفعل ذلك لعدم تعلق المشيئة باهتدائهم، وكلمة لو تفيد انتفاء الشيء لانتفاء غيره؛ والمعنى أنه تعالى لم يهد جميع الناس الذين(7/59)
آمنوا من إيمان هؤلاء الكفار لعلمهم أن الله تعالى لو أراد هدايتهم لهداهم لأن المؤمنين تمنوا نزول الآيات التي اقترحها الكفار طمعاً في إيمانهم.
قال ابن عباس: لا يصنع من ذلك إلا ما يشاء ولم يكن ليفعل وقال ييأس يعلم وعن ابن زيد نحوه وعن أبي العالية، قد يئس الذين آمنوا أن يهدوا ولو شاء لهدى الناس جميعاً وفيه دلالة على أن الله لم يشأ هداية جميع الخلائق.
(ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة) هذا وعيد للكفار على العموم ولكفار مكة على الخصوص أي لا يزال تصيبهم بسبب ما صنعوا من الكفر والتكذيب للرسل والأعمال الخبيثة داهية تفجؤهم وتهلكهم وتستأصلهم يقال قرعه الأمر إذا أصابه والجمع قوارع والأصل في القرع الضرب والقارعة الشديدة من شدائد الدهر وهي الداهية، والمعنى أن الكفار لا يزالون كذلك حتى تصيبهم نازلة وداهية مهلكة من قتل أو أسر أو جدب أو حرب أو نحو ذلك من العذاب وقد قيل أن القارعة النكبة، وقيل الطلائع والسرايا قاله ابن عباس ولا يخفى إن القارعة تطلق على ما هو أعم من ذلك.
(أو تحل) القارعة (قريباً من دارهم) فيفزعون منها ويشاهدون من آثارها ما ترجف له قلوبهم وترعد منه بوادرهم، وقيل أن الضمير في تحل للنبي صلى الله عليه وسلم، والمعنى أو تحل أنت يا محمد مكاناً قريباً من دارهم محاصراًً لهم آخذاً بمخانقهم كما وقع منه صلى الله عليه وآله وسلم لأهل الطائف والأول أبين وأظهر.
(حتى يأتي وعد الله) وهو موتهم أو قيام الساعة عليهم، فإنه إذا جاء وعد الله المحتوم وحل بهم من عذابه ما هو الغاية في الشدة، وقيل المراد بوعد الله هنا الإذن منه بقتال الكفار والنصر والفتح وظهور رسول الله صلى الله عليه وسلم ودينه، وقال ابن عباس: فتح مكة وكان في الثامنة وحج في العاشرة ولم يحج غيرها والأول أولى (إن الله لا يخلف الميعاد) فما جرى به وعده فهو كائن(7/60)
لا محالة(7/61)
وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ (32)
(ولقد استهزئ برسل) التنكير للتكثير أي برسل كثيرة (من قبلك) كما استهزئ بك وهذا تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم.
(فأمليت للذين كفروا) الإملاء الإمهال مدة طويلة من الزمان في دعةٍ وأمن، وقد مر تحقيقه في آل عمران (ثم أخذتهم) في الدنيا بالعذاب الذي أنزلته بهم من القحط والقتل والأسر وفي الآخرة بالنار.
(فكيف كان عقاب) الاستفهام للتقريع والتهديد، أي فكيف كان عقابي لهؤلاء الكفار الذين استهزؤوا بالرسل فأمليت لهم ثم أخذتهم هل كان ظلماً لهم أو كان عدلاً؟ أي هو واقع موقعه فكذلك أفعل بمن استهزأ بك.
ثم استفهم سبحانه استفهاماً آخر للتوبيخ والتقريع يجرى مجرى الحجاج للكفار واستركاك صنعهم والإزراء عليهم فقال(7/61)
أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33)
(أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت) القائم الحفيظ والمتولي للأمور، وأراد سبحانه نفسه فإنه المتولي لأمور خلقه المدبر لأحوالهم بالآجال والأرزاق وإحصاء الأعمال على كل نفس من الأنفس كائنة ما كانت، والجواب محذوف، أي أفمن هو بهذه الصفة كمن ليس بهذه الصفة من معبوداتكم التي لا تنفع ولا تضر.
قال الفراء: كأنه في المعنى أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت كشركائهم الذين اتخذوهم من دون الله، والمراد من الآية إنكار المماثلة بينهما، وقيل المراد بالقائم الملائكة الموكلون ببني آدم والأول أولى، وبه قال ابن عباس، وقال عطاء: الله قائم بالقسط والعدل على كل نفس.
(و) قد (جعلوا لله شركاء) استئناف وهو الظاهر جيء به للدلالة على الخبر المحذوف كما تقدم، وقيل الواو للحال وأقيم الظاهر مقام المضمر تقريراً للإلهية وتصريحاً بها، وقيل عطف على استهزئ أي ولقد استهزؤوا وجعلوا،(7/61)
وقال أبو البقاء: معطوف على كسبت أي وجعلهم لله شركاء والأول أولى.
(قل سموهم) أي عينوا حقيقتهم من أي جنس ومن أي نوع أي وما أسماؤهم، وفي هذا تبكيت لهم وتوبيخ، لأنه إنما يقال هكذا في الشيء المستحقر الذي لا يستحق أن يلتفت إليه فيقال سمه إن شئت، يعني أنه أحقر من أن يسمى وقيل أن المعنى صفوهم وبينوا أوصافهم بما يستحقون ويستأهلون به، ثم انظروا هل هي أهل لأن تعبد، وقيل المعنى سموهم بالآلهة كما تزعمون فيكون ذلك تهديداً لهم.
(أم تنبئونه) أي بل أتنبئون الله (بما لا يعلم في الأرض) من الشركاء الذين تعبدونهم مع كونه العالم بما في السماوات والأرض، وإنما خص الأرض بنفي الشريك عنها وإن لم يكن له شريك في غير الأرض أيضاً لأنهم ادعوا له شريكاً فيها (أم) أي بل أتسمونهم شركاء (بظاهر من القول) من غير أن يكون له حقيقة كتسمية الزنجي كافوراً.
وقيل المعنى قل لهم أتنبئون الله بباطن لا يعلمه أم بظاهر يعلمه، فإن قالوا بباطن لا يعلمه فقد جاءوا بدعوى باطلة، وإن قالوا بظاهر يعلمه فقل لهم سموهم فإذا سموا اللات والعزى ونحوهما فقل لهم إن الله لا يعلم لنفسه شريكاً، وقيل المعنى أم بزائل من القول باطل، قاله مجاهد، وقيل بكذب من القول، وقيل بظن باطل لا حقيقية له في الباطن، وقيل المعنى بحجة من القول ظاهرة على زعمهم قال الطيبي في هذه الآية احتجاج بليغ مبني على فنون من علم البيان.
أولها: أفمن هو قائم الخ احتجاج عليهم وتوبيخ لهم على القياس الفاسد لفقد الجهة الجامعة لها.
ثانيها: وجعلوا لله شركاء وفيه وضع المظهر موضع المضمر للتنبيه على أنهم جعلوا شركاء لمن هو فرد واحد لا يشاركه أحد في اسمه.(7/62)
ثالثها: قل سموهم أي عينوا اسماءهم فقولوا فلان وفلان فهو إنكار لوجودها على وجه برهاني، كما تقول إن كان الذي تدعيه موجوداً فسمه، لأن المراد بالاسم العلم.
رابعها: أم تنبئونه بما لا يعلم، احتجاج من باب نفي الشيء، أعني المعلوم بنفي لازمه وهو العلم وهو كناية.
خامسها: أم بظاهر من القول احتجاج من باب الاستدراج والهمزة للتقرير لبعثهم على التفكير، المعنى أتقولون بأفواهكم من غير روية وأنتم ألبَّاء فتفكروا فيه لتقفوا على بطلانه.
سادسها: التدريج في كل من الإضرابات على ألطف وجه، وحيث كانت الآية مشتملة على هذه الأسأليب البديعة مع اختصارها كان الاحتجاج المذكور منادياً على نفسه بالإعجاز وإنه ليس من كلام البشر. أهـ.
(بل) إضراب عن محاجتهم بالكلية، فكأنه قيل دع ذا فإنه لا فائدة فيه لأنه (زين للذين كفروا) قرأ ابن عباس زين على البناء للفاعل على أن الذي زين لهم ذلك هو (مكرُهم) وقرأ غيره على البناء للمفعول، والمزين هو الله سبحانه أو الشيطان بإلقاء الوسوسة، ويجوز أن يسمى المكر كفراً لأن مكرهم برسول الله صلى الله عليه وسلم كان كفراً، وأما معناه الحقيقي فهو الكيد أو التمويه بالأباطيل، أي كيدهم للإسلام بشركهم.
(وصدوا عن السبيل) أي صدهم الله أو صدهم الشيطان، وقرئ بالبناء للفاعل، أي صدوا غيرهم عن الإيمان، قراءتان سبعيتان، وقد يستعمل صد لازماً بمعنى أعرض.
(ومن يضلل الله) أي يجعله ضالاً ويقتضي مشيئته إضلاله (فما له من هاد) يهديه إلى الخير، وقرأ الجمهور هاد من دون إثبات الياء على اللغة الكثيرة الفصيحة وقرئ بإثباتها على اللغة القليلة وهما سبعيتان.(7/63)
لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ (34) مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ (35) وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ (36)
ثم بين سبحانه ما يستحقونه فقال(7/64)
لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ (34)
(لهم عذاب في الحياة الدنيا) بما يصابون به من القتل والأسر وأنواع المحن (ولعذاب الآخرة أشق) عليهم من عذاب الحياة الدنيا وأشد وأغلظ، لأن المشقة غلظ الأمر على النفس وشدته، مما يكاد يصدع القلب من شدته فهو من الشق الذي هو الصدع (وما لهم من الله من واق) يقيهم عذابه ولا عاصم يعصمهم منه.
ثم لما ذكر سبحانه ما يستحقه الكفار من العذاب في الأولى والأخرى ذكر ما أعده للمؤمنين فقال(7/64)
مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ (35)
(مثل الجنة) أي صفتها العجيبة الشأن التي هي في الغرابة كالمثل، قال ابن قتيبة: المثل الشبه في أصل اللغة، ثم قد يصير بمعنى صورة الشيء وصفته، يقال مثلت لك كذا أي صورته ووصفته، فأراد هنا بمثل الجنة صورتها وصفتها وجريان الأنهار من تحتها كالتفسير للمثل.
قال سيبويه: وتقديره فيما قصصنا عليك مثل الجنة، وقال الفراء المثل مقحم للتأكيد والمعنى الجنة.
(التي وعد المتقون تجري من تحتها الأنهار) والعرب تفعل ذلك كثيراً، وقال الخليل وغيره: أن مثل الجنة مبتدأ والخبر تجري، وقال الزجاج: أنه تمثيل للغائب بالشاهد ومعناه مثل الجنة جنة تجري من تحتها الأنهار. وقال عكرمة: نعت الجنة ليس للجنة مثل، وقيل أن فائدة الخبر ترجع إلى قوله.(7/64)
(أكلها) أي ما يؤكل فيها (دائم) أي لا ينقطع أبداً ولا يفنى، ومثله قوله تعالى (لا مقطوعة ولا ممنوعة) قال إبراهيم التيمي: لذاتها دائمة في أفواههم، وقيل دائم بحسب نوعه، فكل شيء أكل يتجدد غيره لا بحسب شخصه إذ عين المأكول لا ترجع (وظلها) كذلك دائم لا يتقلص ولا ينسخه الشمس لأنه ليس في الجنة شمس ولا قمر ولا ظلمة بل ظل ممدود لا ينقطع ولا يزول.
وفي الآية رد على جهم وأصحابه فإنهم يقولون إن نعيم الجنة يفنى وينقطع، وفيها دليل على أن حركات أهل الجنة لا تنتهي إلى سكون دائم كما يقوله أبو الهذيل واستدل عبد الجبار المعتزلي بهذه الآية على أن الجنة لم تخلق بعد، ويرده قوله تعالى (أعدت للمتقين) إلى غير ذلك من الآيات والأخبار الصحيحة.
(تلك) الجنة الموصوفة بالصفات المتقدمة وهو مبتدأ خبره (عقبى) أي عاقبة (الذين اتقوا) المعاصي أي مآلهم ومنتهى أمرهم (وعقبى الكافرين النار) ليس لهم عاقبة ولا منتهى إلا ذلك.(7/65)
وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ (36)
(والذين آتيناهم الكتاب) أي التوراة والإنجيل (يفرحون بما أنزل إليك) يا محمد وهم أهل الكتابين مطلقاً أو من أسلم منهم لكون ذلك موافقاً لما في كتبهم مصدقاً له.
وعلى الأخير يكون المراد بقوله (ومن الأحزاب من ينكر بعضه) من لم يسلم من اليهود والنصارى، وعلى الأول يكون المراد به المشركين من أهل مكة ومن يماثلهم أو يكون المراد به بعض أهل الكتابين أي من أحزابهما، فإنهم أنكروه لما اشتمل عليه من كونه ناسخاً لشرائعهم فيتوجه فرح من فرح به منهم إلى ما هو موافق لما في الكتابين، وإنكار من أنكر منهم إلى ما خالفهما.
وقيل المراد بالكتاب القرآن والمراد بمن يفرح به المسلمون والمراد(7/65)
بالأحزاب المتحزبون على رسول الله صلى الله عليه وسلم من المشركين واليهود والنصارى، والمراد بالبعض الذي أنكروه ما خالف ما يعتقدونه على اختلاف اعتقادهم.
واعترض على هذا بأن فرح المسلمين بنزول القرآن معلوم فلا فائدة في ذكره واجيب عنه بأن المراد زيادة الفرح والاستبشار بما يتجدد من الأحكام والتوحيد والنبوة والحشر بعد الموت، وقال كثير من المفسرين إن عبد الله بن سلام والذين آمنوا معه من أهل الكتاب ساءهم قلة ذكر الرحمن في القرآن مع كثرة ذكره في التوراة فأنزل الله (قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن) ففرحوا بذلك.
قال قتادة: الذين يفرحون أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فرحوا بكتاب الله وصدقوا به وبرسله، والأحزاب اليهود والنصارى والمجوس، وقال ابن زيد: هؤلاء من آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل الكتاب يفرحون بذلك ومنهم من يؤمن به ومنهم من لا يؤمن به.
ثم لما بين ما يحصل بنزول القرآن من الفرح للبعض والإنكار للبعض صرح بما عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأمره أن يقول لهم ذلك فقال (قل إنما أمرت أن أعبد الله) وحده (ولا أشرك به) بوجه من الوجوه أي قل لهم يا محمد ذلك إلزاماً للحجة ورداً للإنكار إنما أمرت فيما أنزل إليّ بعبادة الله وتوحيده وهذا أمر اتفقت عليه الشرائع وتطابقت على عدم إنكاره جميع الملل المقتدية بالرسل.
(إليه) أي إلى الله لا إلى غيره (أدعو) أو إلى ما أجمرت به وهو عبادة الله وحده والأول أولى لقوله (وإليه مآب) فإن الضمير لله سبحانه أي إليه وحده لا إلى غيره مرجعي يوم القيامة للجزاء، قال قتادة: إليه مصير كل عبد.(7/66)
وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَمَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا وَاقٍ (37) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ (38) يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ (39)
ثم ذكر بعض فضائل القرآن وأوعد على الإعراض عن اتباعه مع التعريض لرد ما أنكروه من اشتماله على نسخ بعض شرائعهم فقال:(7/67)
وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَمَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا وَاقٍ (37)
(وكذلك) الإنزال البديع (أنزلناه) أي القرآن مشتملاً على أصول الشرائع وفروعها.
وقيل المعنى وكما أنزلنا الكتب على الرسل بلغاتهم ولسانهم كذلك أنزلنا عليك القرآن بلسان العرب (حكماً عربياً) يريد بالحكم ما فيه من الأحكام والنقض والإبرام أو أنزلناه حكمة عربية مترجمة بلسان العرب ولغتها ليسهل عليها فهمها وحفظها وتحكم بها بين الناس فيما يقع لهم من الحوادث الفرعية وإن خالفت ما في الكتب القديمة إذ لا يجب عليك توافق الشرائع.
(ولئن) اللام هي الموطئة للقسم (اتبعت أهواءهم) التي يطلبون منك موافقتهم عليها كالاستمرار منك على التوجه إلى قبلتهم وعدم مخالفتك لشيء مما يعتقدونه (بعدما جاءك من العلم) الذي علمك الله إياه (مالك) ساد مسد جواب القسم والشرط (من الله) أي من جنابه (من ولي) يلي أمرك وينصرك (ولا واق) يقيك من عذابه والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم تعريض لأمته لأن من هو أرفع منزلة وأعظم قدراً وأعلى رتبة إذا حذر كان غيره ممن هو دونه بطريق الأولى.(7/67)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ (38)
(ولقد أرسلنا رسلاً من قبلك وجعلنا لهم أزواجاً وذرية) أي أن الرسل الذين أرسلناهم من جنس البشر لهم أزواج من النساء ولهم ذرية توالدوا منهم(7/67)
ومن أزواجهم ولم نرسل الرسل من الملائكة الذين لا يتزوجون ولا يكون لهم ذرية.
وفي هذا رد على من كان ينكر على رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوجه بالنساء أي أن هذا شأن رسل الله المرسلين قبل هذا الرسول فما بالكم تنكرون عليه ما كانوا عليه فإنه قد كان لسليمان ثلثمائة امرأة وسبعمائة سرية فلم يقدح ذلك في نبوته وكان لأبيه داود مائة امرأة وكانوا ينكحون ويأكلون ويشربون فكيف يجعل هذا قادحاً في نبوتك.
وعن الحسن عن سمرة قال: " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التبتل " (1) أخرجه ابن ماجة والطبراني وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه وعن سعد بن هشام قال: دخلت على عائشة وقلت: إني أريد أن أتبتل. قالت: لا تفعل أما سمعت الله يقول (ولقد أرسلنا رسلاً) الآية أخرجه ابن أبي حاتم وابن مردويه.
وقد ورد في النهي عن التبتل والترغيب في النكاح ما هو معروف وقد كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم سبعة أولاد أربع اناث وثلاثة ذكور وكانوا في الترتيب في الولادة هكذا القاسم فزينب فرقية ففاطمة فأم كلثوم فعبد الله ويلقب بالطيب والطاهر فإبراهيم وكلهم من خديجة إلا إبراهيم فمن مارية القبطية وماتوا جميعاً في حياته إلا فاطمة فعاشت بعده ستة أشهر.
(وما كان) أي لم يكن (لرسول) من الرسل (أن يأتي بآية) من الآيات (إلا بإذن الله) سبحانه فإن شاء أظهر وإن شاء لم يظهرها وليس ذلك إلى الرسول لأن الرسل مربوبون ومقهورون ومغلوبون محكوم عليهم متصرف فيهم بتدبير أمرهم.
(لكل أجل كتاب) أي لكل أمر مما قضاه الله أو لكل وقت من
_________
(1) أحمد بن حنبل 3/ 158 - 245 - 5/ 17 - 6/ 125 - 157 - 253.(7/68)
الأوقات التي قضى الله بوقوع أمر فيها كتاب الله يكتبه على عباده ويحكم به فيهم، وقال الفراء: فيه تقديم وتأخير، والمعنى لكل كتاب أجل أي لكل أمر كتبه الله أجل مؤجل ووقت معلوم كقوله سبحانه (لكل نبأ مستقر) وليس الأمر على إرادة الكفار واقتراحاتهم بل على حسب ما يشاؤه الله ويختاره، وفيه رد لاستعجالهم الآجال والأعمار وإتيان المعجزات والعذاب، فقد كان يخوفهم بذلك فاستعجلوه عناداً فرد الله عليهم ذلك.
والمراد بالأجل هنا أزمنة الموجودات فلكل موجود زمان يوجد فيه محدود لا يزاد عليه ولا ينقص، والمراد بالكتاب صحف الملائكة التي تنسخها من اللوح المحفوظ أو اللوح نفسه.(7/69)
يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ (39)
(يمحو الله ما يشاء ويثبت) أي يمحو من ذلك الكتاب ويثبت ما يشاء منه يقال محوت الكتاب محواً إذا أذهبت أثره، قرئ مخففاً ومشدداً وعن مجاهد قال: قالت قريش حين أنزل هذه الآية ما نراك يا محمد تملك من شيء ولقد فرغ الأمر فأنزلت هذه الآية تخويفاً لهم ووعيداً لهم أي إنا إن شئنا أحدثنا له من أمرنا ما شئنا ويحدث الله في كل رمضان فيمحو ما يشاء ويثبت من أرزاق الناس ومصائبهم ما يعطيهم وما يقسم لهم.
وقال ابن عباس: ينزل الله في كل شهر رمضان إلى سماء الدنيا فيدبر أمر السنة إلى السنة فيمحو ما يشاء ويثبت إلا الشقاوة والسعادة والحياة والموت، وعنه قال: هو الرجل يعمل الزمان بطاعة الله ثم يعود لمعصية الله فيموت على ضلالة فهو الذي يمحو، والذي يثبت الرجل يعمل بمعصية الله، وقد سبق له خير حتى يموت على طاعة الله وقال أيضاً: هما كتابان يمح الله ما يشاء من أحدهما ويثبت.
وظاهر النظم القرآني العموم في كل شيء مما في الكتاب فيمحو ما يشاء محوه من شقاوة أو سعادة أو رزق أو عمر أو خير أو شر ويبدل هذا بهذا ويجعل هذا مكان هذا، لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، وإلى هذا ذهب عمر بن(7/69)
الخطاب وابن مسعود وابن عباس وأبو وائل وقتادة والضحاك وابن جريج وغيرهم، وقيل الآية خاصة بالسعادة والشقاوة.
وقيل يمحو ما يشاء من ديوان الحفظة، وهو ما ليس فيه ثواب ولا عقاب ويثبت ما فيه الثواب والعقاب.
وقيل يمحو ما يشاء من الرزق، وقيل من الأجل، وقيل من الشرائع فينسخه ويثبت ما يشاء فلا ينسخه، وقيل يمحو ما يشاء من ذنوب عباده ويترك ما يشاء وقيل يمحو ما يشاء من الذنوب بالتوبة ويترك ما يشاء منها مع عدم التوبة.
وقيل يمحو الآباء ويثبت الأبناء.
وقيل يمحو القمر ويثبت الشمس كقوله (فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة) وقيل يمحو ما يشاء من الأرواح التي يقبضها حال النوم فيميت صاحبه ويثبت ما يشاء فيرده إلى صاحبه.
وقيل يمحو ما يشاء من القرون ويثبت ما يشاء منها.
وقيل يمحو الدنيا ويثبت الآخرة، وقيل غير ذلك مما لا حاجة إلى ذكره والأول أولى كما يفيده ما في قوله ما يشاء من العموم مع تقدم ذكر الكتاب في قوله لكل أجل كتاب ومع قوله (وعنده أم الكتاب) أي جملة الكتاب قاله ابن عباس.
والمعنى أصله وهو اللوح المحفوظ، والأم أصل الشيء والعرب تسمى
كل ما يجري مجرى الأصل للشيء أماً له ومنه أم الرأس للدماغ وأم القرى لمكة، فالمراد من الآية أنه يمحو ما يشاء مما في اللوح المحفوظ فيكون كالعدم ويثبت ما يشاء مما فيه فيجري فيه قضاؤه وقدره على حسب ما يقتضيه مشئيته.
وهذا لا ينافي ما ثبت عنه صلى الله عليه وآله وسلم من قوله " جف القلم بما هو كائن " (1) وذلك لأن المحو والإثبات هو من جملة ما قضاه الله
_________
(1) المعنى جزء من حديث طويل من حديث رسول الله: يا غلام احفظ الله يحفظك ....(7/70)
سبحانه، وقيل أن أم الكتاب هو علم الله تعالى بما خلق وما هو خالق.
قال ابن عباس: أن لله لوحاً محفوظاً مسيرته خمسمائة عام من درة بيضاء له دفتان من ياقوتة والدفتان لوحان لله فيه في كل يوم ثلاثمائة وستون لحظة يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب.
وعن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله ينزل في ثلاث ساعات تبقين من الليل فيفتح الذكر في الساعة الأولى منها ينظر في الذكر الذي لا ينظر فيه أحد غيره فيمحو الله ما يشاء ويثبت " الحديث أخرجه الطبراني وابن أبي حاتم وغيرهما.
ْوأخرج الطبراني بإسناد قال السيوطي ضعيف عن ابن عمر سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " يمحو الله ما يشاء ويثبت إلا الشقاوة والسعادة والحياة والممات " وعن ابن عباس قال " لا ينفع الحذر من القدر ولكن الله يمحو بالدعاء ما يشاء من القدر " (1).
وقال قيس بن عباد: العاشر من رجب هو يوم يمحو الله فيه ما يشاء. وعن عمر بن الخطاب أنه قال وهو يطوف بالبيت: اللهم إن كنت كتبت عليَّ شقوة أو ذنباً فامحه، فإنك تمحو ما تشاء وتثبت وعندك أم الكتاب، واجعله سعادة ومغفرة. وعن ابن مسعود نحوه.
وقيل أم الكتاب الذكر قاله ابن عباس، وقد استدلت الرافضة على مذهبهم في البدء بهذه الآية، وهو أن يعتقد شيئاً ثم يظهر له أن الأمر بخلاف ما اعتقده وقالوا إنه جائز على الله، وهو ظاهر الفساد لأن علمه سبحانه صفة قديمة أزلية لا يتطرق إليه التغيير والتبديل والمحو والإثبات من معلوماته الأزلية وليسا من البدء في شيء وقد علم ما هو خالق وما خلقه وما هم يعملون.
_________
(1) أحمد بن حنبل 5/ 234.(7/71)
وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ (40) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (41) وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ (42) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ (43)(7/72)
وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ (40)
(وإما نرينك) ما زائدة وأصله وأن نرك (بعض الذي نعدهم) به من العذاب في حياتك كما وعدناهم بذلك بقولنا (لهم عذاب في الحياة الدنيا) وبقولنا (ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة)، والمراد أريناك ما نعدهم قبل موتك، وجواب الشرط محذوف، أي فذاك شافيك من أعدائك ودليل على صدقك.
(أو نتوفينك) أي أو توفيناك قبل إراءتك لذلك، وجوابه أيضا محذوف أي فلا تقصير منك ولا لوم عليك، وقوله (فإنما عليك البلاغ) تعليل لهذا المحذوف، والبلاغ اسم أقيم مقام التبليغ، أي ليس عليك إلا تبليغ أحكام الرسالة ولا يلزمك حصول الإجابة منهم لما بلغته إليهم.
(وعلينا الحساب) أي محاسبتهم إذا صاروا إلينا يوم القيامة بأعمالهم ومجازاتهم عليها وليس ذلك عليك؛ وهذا تسلية من الله سبحانه لرسوله صلى الله عليه وسلم وإخبار له أنه قد فعل ما أمره الله به وليس عليه غيره، وأن من لم يجب دعوته ويصدق نبوته فالله سبحانه محاسبه على ما اجترم واجترى عليه من ذلك.(7/72)
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (41)
(أولم يروا) يعني أهل مكة والاستفهام للإنكار والواو للعطف على مقدر يقتضيه المقام أي أأنكروا نزول ما وعدناهم أو أشكوا أو ألم ينظروا، وفي ذلك(7/72)
لم يروا (أنا نأتي الأرض) أي أرض الكفر كمكة (ننقصها من أطرافها) بالفتوح على المسلمين منها شيئاً فشيئاً بما ينقص من أطراف المشركين ويزيد في أطراف المؤمنين.
قال الزجاج: أعلم الله أن بيان ما وعد المشركين من قهرهم قد ظهر، يقول أو لم يروا أنا فتحنا على المسلمين من الأرض ما قد تبين لهم فكيف لا يعتبرون وهذا قول قتادة وجماعة من المفسرين، وقيل أن معنى الآية ننقصها بموت العلماء والصلحاء. وقال ابن عباس: موت علمائها وفقائها وذهاب خيار أهلها. وعن مجاهد نحوه.
قال القشيري: وعلى هذا فالأطراف الأشراف، وقد قال ابن الأعرابي: الطرف الرجل الكريم، قال القرطبي: وهذا القول بعيد لأن مقصود الآية أنا أريناهم النقصان في أمرهم ليعلموا أن تأخير العقاب عنهم ليس عن عجز إلا أن يحمل على فوت أحبار اليهود والنصارى.
قال الواحدي؛ التفسير الأول أولى لأن هذا القول وإن صح فلا يليق بهذا الموضع وبه قال الرازي، وقيل المراد خراب الأرض المعمورة حتى يكون العمران في ناحية منها. قاله ابن عباس وبه قال مجاهد وعكرمة والشعبي وعطاء وجماعة من المفسرين أي نخربها ونهلك أهلها أفلا تخافون أن يفعل بكم ذلك.
وقيل المراد بالآية هلاك من هلك من الأمم، وقيل المراد جور ولاتها حتى تنقص. وقال ابن عباس: نقصان أهلها وبركتها. وعنه إنما تنقص الأنفس والثمرات، وأما الأرض فلا تنقص.
(والله يحكم) ما يشاء في خلقه فيرفع هذا ويضع هذا، ويحصي هذا ويميت هذا ويغني هذا ويفقر هذا، وفي الالتفات من التكلم إلى الغيبة وبناء الحكم على الاسم الشريف والعلم الجليل من الدلالة على الفخامة وتربية المهابة وتحقيق مضمون الخبر بالإشارة إلى العلة ما لا يخفى على ذي بصيرة.(7/73)
(لا معقب لحكمه) أي لا راد لقضائه، والمعقب الذي يكر على الشيء فيبطله وحقيقته الذي يقفيه بالرد والإبطال. قال الفراء: معناه لا راد لحكمه.
قال: والمعقب الذي يتبع الشيء فيستدركه ولا يستدرك أحد عليه، ومنه قيل لصاحب الحق معقب لأنه يتعقب غريمه بالطلب، يعني أنه حكم للإسلام بالإقبال وعلى الكفر بالإدبار، وذلك كائن لا يمكن تغييره، ومحل (لا) مع المنفي النصب على الحال، أي يحكم نافذاً حكمه خالياً من الدافع والمعارض والمنازع لا يتعقب أحد حكمه سبحانه بنقض ولا تغيير. قال ابن زيد: ليس أحد يتعقب حكمه فيرده كما يتعقب أهل الدنيا بعضهم حكم بعض فيرده.
(وهو سريع الحساب) أي الانتقام فيحاسبهم بعد زمن قليل في الآخرة بعدما عذبهم بالقتل وأخرجهم من ديارهم في الدنيا فلا تستبطئ عقابهم فإنه آت لا محالة وكل آت قريب، وقد تقدم الكلام في معناه قبل هذا، والمعنى فيجازي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته على السرعة.(7/74)
وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ (42)
(وقد مكر الذين من قبلهم) أي قد مكر الكفار الذين من قبل كفار مكة بمن أرسله الله إليهم من الرسل فكادوهم وكفروا بهم، والمكر إيصال المكروه إلى الإنسان الممكور به من حيث لا يشعر، مثل مكر نمرود بإبراهيم وفرعون بموسى ويهود بعيسى؛ وهذا تسلية من الله سبحانه لرسوله صلى الله عليه وسلم حيث أخبره أن هذا ديدن الكفار من قديم الزمان مع رسل الله سبحانه ثم أخبره بأن مكرهم هذا كالعدم ولا تأثير له وأن المكر كله لله لا اعتداد بمكر غيره فقال (فَلِلَّه المكر جميعاً) يعني عند الله جزاء مكرهم وفيه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم وأمان له من مكرهم. وقال الواحدي: يعني جميع مكر الماكرين له ومنه أي هو من خلقه وإرادته، فالمكر جميعاً مخلوق له بيده الخير والشر وإليه النفع والضر، والمعنى أن المكر لا يضر إلا بإذنه وإرادته فإثباته لهم باعتبار الكسب ونفيه عنهم باعتبار الخلق.(7/74)
ثم فسر سبحانه هذا المكر الثابت له دون غيره فقال (يعلم ما تكسب كل نفس) من خير وشر، فيجازيها على ذلك ومن علم ما تكسب كل نفس وأعد لها جزاءها كان المكر كله له لأنه يأتيهم من حيث لا يشعرون (وسيعلم الكفار) جميعهم وقرئ الكافر على التوحيد أي جنس الكافر وقيل المراد بالكافر أبو جهل (لمن عقبى الدار) أي العاقبة المحمودة من الفريقين في دار الدنيا أو في دار الآخرة أو فيهما.(7/75)
وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ (43)
(ويقول الذين كفروا) أي المشركون أو جميع الكفار خطاباً وشفاهاً لك (لست) يا محمد (مرسلاً) إلى الناس من عند الله فأمره الله سبحانه بأن يجيب عليهم فقال (قل كفى بالله شهيداً بيني وبينكم) فهو يعلم صحة رسالتي وصدق دعواي ويعلم كذبكم (و) كذا يعلم ذلك (من عنده علم الكتاب) أي علم جنس الكتاب السماوي كالتوراة والإنجيل فإن أهلهما العالمين بهما كانوا يعلمون صحة رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وقد أخبر بذلك من أسلم منهم كعبد الله بن سلام وسلمان الفارسي وكعب الأحبار وتميم الداري ونحوهم وقد كان المشركون من العرب يسألون أهل الكتاب ويرجعون إليهم فأرشدهم الله سبحانه في هذه الآية إلى أن أهل الكتاب يعلمون ذلك.
وقيل المراد بالكتاب القرآن ومن عنده علم منه هم المسلمون فأنهم يشهدون أيضاً على نبوته أو المراد من عنده علم اللوح المحفوظ وهو الله سبحانه قاله مجاهد وبه قال الحسن ومثله عن ابن عمر بسند ضعيف واختار هذا الزجاج، وقال لأن الأشبه أن الله لا يستشهد على خلقه بغيره.
عن جندب قال: جاء عبد الله بن سلام حتى أخذ بعضادتي باب المسجد ثم قال: أنشدكم بالله أتعلمون إني الذي أنزلت فيه ومن عنده علم الكتاب قالوا اللهم نعم، وعن ابن عباس هم أهل الكتاب من اليهود والنصارى يشهدون بالحق ويعرفونه منهم ابن سلام والجارود، وعن الشعبي ما نزل في(7/75)
ابن سلام شيء من القرآن، وعن سعيد بن جبير أنه سئل عن الآية أهو ابن سلام فقال: كيف وهذه السورة مكيّة وعبد الله أسلم بالمدينة، وعنه قال هو جبريل.
وهذه السورة مدارها كما في الكشف على حقية الكتاب المجيد واشتماله على ما فيه صلاح الدارين وأن السعيد من تمسك بحبله والشقي من أعرض عنه إلى آخر ما فصله.
وهنا أقول ما قاله الخفاجي اللهم اجعلنا ممن تمسك بعروته الوثقى، واهتدى بهداه حتى لا يضل ولا يشقى ببركة من أنزل عليه صلى الله عليه وسلم، ثم أقول يا بركة النبي تعالي وانزلي ثم لا ترتحلي (1).
_________
(1) هذا الدعاء غير معهود من المؤلف، وفي النفس منه شيء.(7/76)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة إبراهيم عليه السلام
هي مكيّة قاله ابن عباس والزبير والحسن وعكرمة وجابر بن زيد وقتادة إلا آيتين منها، وقيل إلا ثلاث آيات نزلت في الذين حاربوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهي قوله (ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا) - إلى قوله - (فإن مصيركم إلى النار)، وعن ابن عباس قال: هي مكيّة سوى آيتين منها نزلتا في قتلى بدر من المشركين وهي اثنتان وخمسون آية.(7/77)
بسم الله الرحمن الرحيم
الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1) اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (2) الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (3) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (4)(7/79)
الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1)
(الر) قد تقدم الكلام في أمثال هذا وبيان قول من قال أنه متشابه وبيان قول من قال إنه غير متشابه (كتاب) خبر مبتدأ محذوف أي هذا القرآن (أنزلناه إليك) يا محمد (لتخرج الناس) بدعائك إياهم إلى اتباع ما تضمنه الكتاب من التوحيد وغيره واللام في لتخرج للغرض والغاية والتعريف في الناس للجنس والمعنى أنه صلى الله عليه وسلم يخرج الناس بالكتاب المشتمل على ما شرعه الله لهم من الشرائع مما كانوا فيه.
(من الظلمات) أي من ظلمات الكفر والجهل والضلالة (إلى) ما صاروا إليه من (النور) أي نور الإيمان والعلم والهداية.
قال الرازي: فيه دليل على أن طريق الكفر والبدعة كثيرة، وطريق الحق ليس إلا واحداً لأنه عبر عنها بالظلمات وهي صيغة جمع وعبر عن الحق بالنور وهو لفظ مفرد جعل الكفر بمنزلة الظلمات والإيمان بمنزلة النور على طريق الاستعارة وقيل أن الظلمة مستعارة للبدعة والنور مستعار للسنة وقيل من الشك إلى اليقين، ولا مانع من إرادة جميع هذه الأمور وأسند الفعل إلى النبي صلى الله عليه وسلم لأنه الداعي والهادي والمنذر.(7/79)
(بإذن ربهم) أي بأمره وعلمه وتيسيره وتسهيله، قال الزجاج؛ أي بما أذن لك من تعليمهم ودعائهم إلى الإيمان (إلى صراط العزيز الحميد) بدل من قوله إلى النور بتكرير العامل كما يقع مثله كثيراً أي لتخرج الناس من الظلمات إلى صراط العزيز الحميد وهو طريقة الله الواضحة التي شرعها الله لعباده وأمرهم بالمصير إليها والدخول فيها.
ويجوز أن يكون مستأنفاً كأنه قيل ما هذا النور الذي أخرجهم إليه فقيل صراط العزيز الحميد لأنه نور في نفسه طريق للخلود في الجنة المؤبد، وإضافة الصراط إلى الله تعالى لأنه المظهر له وأفهم بتخصيص الوصفين أنه لا يزل سالكه ولا يخيب قاصده، والعزيز هو القادر الغالب الغني عن جميع الحاجات، والحميد هو الكامل في استحقاق الحمد.(7/80)
اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (2)
(الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض) قرأ الجمهور بالجر على أنه عطف بيان لكونه من الأعلام الغالبة فلا يصح وصف ما قبله به لأن العلم لا يوصف به، وقيل يجوز أن يوصف به من حيث المعنى وقرأ نافع وابن عامر بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هو الله المتصف بملك ما فيهما خلقاً وملكاً وعبيداً وكان يعقوب إذا وقف على الحميد رفع وإذا وصل خفض، قال ابن الأنباري: من خفض وقف على وما في الأرض.
ثم توعد من لا يعترف بربوبيته فقال (وويل للكافرين من عذاب شديد) معدّ لهم في الآخرة، وقد تقدم بيان معنى الويل وأصله النصب كسائر المصادر ثم رفع للدلالة على الثبات، قال الزجاج: هي كلمة تقال للعذاب والهلكة فدعا سبحانه وتعالى بذلك على من لم يخرج من الكفار بهداية رسول الله صلى الله عليه وسلم بما أنزله الله عليه مما هو فيه من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان، قيل والويل هو نقيض لو أل أي النجاة وقيل الويل واد في جهنم، ومن بيانية وقيل الويل بمعنى التأوه فمن للتعدية أي يولولون ويضجون(7/80)
من العذاب الشديد الذي صاروا فيه قائلين يا ويلاه.
ثم وصف هؤلاء الكفار بقوله(7/81)
الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (3)
(الذين يستحبون الحياة الدنيا) أي يؤثرونها لمحبتهم لها (على الآخرة) الدائمة والنعيم الأبدي.
(ويصدون) أي يصرفون الناس (عن سبيل الله) أي عن دينه الذي شرعه لعباده (ويبغونها) أي السبيل (عوجا) أي يطلبون لها زيغاً وميلاً وعدولاً وانحرافاً عن الحق لموافقة أهوائهم وقضاء حاجاتهم وأغراضهم، وقيل الهاء راجعة إلى الدنيا أي يطلبونها على سبيل الميل عن الحق، والميل إلى الحرام والعوج بكسر العين في المعاني وبفتحها في الأعيان وقد سبق تحقيقه، واجتماع هذه الخصال نهاية الضلال، ولهذا وصف ضلالهم بالبعد عن الحق فقال:
(أولئك) يعني من هذه صفته (في ضلال بعيد) عن طريق الحق، أي بالغ في ذلك غاية الغايات القاصية أو ذي بعد أو فيه بعد لأن الضال قد يضل ويبعد عن الطريق مكاناً قريباً وقد يضل بعيداً، والبعد وإن كان من صفة الضال لكنه يجوز وصف الضلال به مجازاً لقصد المبالغة كجد جدّه وداهية دهياء.
ثم لما منّ على المكلفين بإنزال الكتاب وإرسال الرسول ذكر من كمال تلك النعمة أن ذلك المرسل بلسان قومه فقال:(7/81)
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (4)
(وما أرسلنا من رسول إلا) متلبساً (بلسان قومه) متكلماً بلغتهم لأنه إذا كان كذلك فهم عنه المرسل إليهم ما يقوله لهم ويدعوهم إليه وسهل عليهم ذلك بخلاف ما لو كان بلسان غيرهم فإنهم لا يدرون ما يقول ولا يفهمون ما يخاطبهم به حتى يتعلموا ذلك اللسان دهراً طويلاً ومع ذلك فلا بد أن يصعب عليهم فهم ذلك بعض صعوبة، ولهذا علّل سبحانه ما امتن به على العباد بقوله:(7/81)
(ليبين) أي ليوضح (لهم) ما أمرهم الله به من الشريعة التي شرعها لهم ووحد اللسان لأن المراد بها اللغة. عن ابن عباس أن الله فضل محمداً على أهل السماء وعلى الأنبياء. قيل ما فضله على أهل السماء؟ قال: إن الله قال لأهل السماء (ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم) وقال لمحمد صلى الله عليه وسلم ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر. فكتب له براءة من النار. قيل فما فضله على الأنبياء؟ قال: إن الله يقول (وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه) وقال لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم (وما أرسلناك إلا كافة للناس) فأرسله إلى الإنس والجن.
وقال عثمان بن عفان: نزل القرآن بلسان قريش. وعن مجاهد مثله، وقد قيل في هذه الآية إشكال لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أرسل إلى الناس جميعاً بل إلى الجن والإنس ولغاتهم متباينة وألسنتهم مختلفة وأجيب بأنه صلى الله عليه وسلم وإن كان مرسلاً إلى الثقلين كما مر، لكن لما كان قومه العرب وكانوا أخص به وأقرب إليه، كان أرساله بلسانهم أولى من أرساله بلسان غيرهم وهم يبينونه لمن كان على غير لسانهم ويوضحونه حتى يصير فاهماً له كفهمهم إياه.
ولو نزل القرآن بجميع لغات من أرسل إليهم وبينه رسول الله صلى الله عليه وسلم لكل قوم بلسانه، لكان ذلك مظنةً للاختلاف، وفتحاً لباب التنازع، لأن كل أمة قد تدعي من المعاني في لسانها ما لا يعرفه غيرها، وربما كان ذلك أيضاً مفضياً إلى التحريف والتصحيف بسبب الدعاوى الباطلة التي يقع فيها المتعصبون.
قال في الجمل والأولى أن يحمل القوم على من أرسل إليهم الرسول أياً كان وهم بالنسبة لغير سيدنا محمد خصوص عشيرة رسولهم، وبالنسبة إليه كل من أرسل إليه من سائر القبائل وأصناف الخلق وهو صلى الله عليه وسلم كان يخاطب كل قوم بلغتهم، وإن لم يثبت أنه تكلم باللغة التركية لأنه لم يتفق أنه خاطب أحداً من أهلها، ولو خاطبه لكلمه بها، تأمل انتهى.(7/82)
(فيضل الله من يشاء) إضلاله فيه التفات عن التكلم إلى الغيبة (ويهدي من يشاء) هدايته، والجملة مستأنفة.
قال الفراء: إذا ذكر فعل وبعده فعل آخر فإن لم يكن النسق مشاكلاً للأول فالرفع على الاستئناف هو الوجه، يعني لا يجوز نصبه عطفاً على ما قبله لأن المعطوف كالمعطوف عليه في المعنى، والرسل أرسلت للبيان لا للضلال.
وقال الزجاج: ولو قرئ بنصبه على أن اللام لام العاقبة جاز، والمعنى على الأول وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم تلك الشرائع باللغة التي ألفوها وفهموها، ومع ذلك فإن المضل والهادي هو الله عز وجل، والبيان لا يوجب حصول الهداية إلا إذا جعله الله سبحانه واسطة وسبباً، وتقديم الإضلال على الهداية لأنه متقدم عليها إذ هو إبقاء على الأصل، والهداية إنشاء ما لم يكن.
(وهو العزيز) الذي لا يغالبه مغالب في ملكه (الحكيم) الذي تجري أفعاله على مقتضى الحكمة في صنعه.(7/83)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (5) وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (6)
ثم لما بيَّن أن المقصود من بعثة نبينا صلى الله عليه وسلم هو إخراج الناس من الظلمات إلى النور؛ أراد أن يبين أن الغرض من إرسال الأنبياء لم يكن إلا ذلك وخص موسى بالذكر لأن أمته أكثر الأمم المتقدمة على هذه الأمة المحمدية فقال(7/84)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (5)
(ولقد أرسلنا موسى) متلبساً (بآياتنا) التسع الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم والعصا ويده والسنين ونقص من الثمرات، قاله مجاهد وعطاء وعبيد بن عمير.
(أن أخرج قومك من الظلمات إلى النور) المعنى قلنا لموسى أخرج، لأن الإرسال فيه معنى القول أو بأن أخرج بني إسرائيل بعد ملك فرعون من الكفر أو الجهل الذي قالوا بسببه اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة إلى الإيمان أو العلم (وذكرهم بأيام الله) أي بوقائعه.
قال ابن السكيت: العرب تقول الأيام في معنى الوقائع، يقال فلان عالم بأيام العرب أي بوقائعها.
وقال الزجاج: بنعم الله عليهم وبنقم أيام الله التي انتقم فيها من قوم نوح وعاد وثمود، والمعنى عظهم بالترغيب والترهيب والوعد والوعيد. وأخرج النسائي والبيهقي وغيرهما عن أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال(7/84)
" ذكرهم بنعم الله وآلائه " وبه قال ابن عباس.
وقال الربيع بوقائع في القرون الأولى، ويترجح تفسير أيام الله ببلائه ونعمه وفي تفسير ابن جرير بأيام الله، أي بأنواع عقوباته الفائضة ونعمه الباطنة التي أفاضها على القرون السالفة واللاحقة فمن أحاط علمه بذلك عظم خوفه، وفي القاموس وأيام الله نعمه ويوم أيوم شديد، وآخر يوم في الشهر، وفي المختار وربما عبروا عن الشدة باليوم.
(إن في ذلك) التذكير بأيام الله أو في نفس أيام الله (لآيات) أي لدلالات عظيمة دالة على التوحيد وكمال القدرة (لكل صبار) كثير الصبر على المحن والمنح (شكور) كثير الشكر للنعم التي أنعم الله بها عليه لأنه إذا سمع بما نزل على من قبله من البلاء وأفيض عليهم من النعماء اعتبر وتنبه لما يجب عليه من الصبر والشكر وقيل المراد بذلك كل مؤمن، وعبر عنه بالوصفين لأنهما ملاك الإيمان وعنوان المؤمن، وقدم الصبار على الشكور لكون الشكر عاقبة الصبر.
قال قتادة في الآية: نعم العبد عبد إذا ابتلى صبر، وإذا أعطى شكر، وإنما خص الصبار والشكور وإن كان فيها عبرة للكافة لأنهم المنتفعون بها دون غيرهم.(7/85)
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (6)
(وإذ قال موسى) أي اذكر وقت قول موسى (لقومه) والمعنى اذكر يا محمد لقومك ما ذكر لعلهم يعتبرون (اذكروا نعمة الله) أي انعامه (عليكم إذ أنجاكم) أي وقت إنجائه لكم (من آل فرعون يسومونكم) أي يبغونكم، يقال سامه ظلماً أي أولاه ظلماً، وأصل السوم الذهاب في طلب الشيء.(7/85)
(سوء العذاب) مصدر ساء يسوء والمراد جنس العذاب السيئ وهو استعبادهم واستعمالهم في الأعمال الشاقة.
(ويذبحون أبناءكم) المولودين لقول بعض الكهنة أن مولوداً يولد في بني إسرائيل يكون سبب ذهاب ملك فرعون، وعطف (يذبحون) على (يسومونكم سوء العذاب) وإن كان التذبيح من جنس سوء العذاب إخراجاً له عن مرتبة العذاب المعتاد حتى كأنه جنس آخر لما فيه من الشدة ومع طرح الواو كما في الآية الأخرى يكون التذبيح تفسيراً لسوء العذاب.
(ويستحيون نساءكم) أي يتركونهن في الحياة لإهانتهن وإذلالهن، ولذلك عدَّ من جملة البلاء، وزاد الكرخي كانوا يستخدمونهن بالاستعباد ويفردونهن عن الأزواج وذلك من أعظم المضار.
(وفي ذلكم) أي في إنجائكم أو في أفعالهم المذكورة (بلاء) أي ابتلاء لكم بالتنعم أو بالعذاب، فالله تعالى يختبر عباده تارة بالنعم وتارة بالشدائد، كما قال (وبلوناهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون) (من ربكم عظيم) وقد تقدم تفسير هذه الآيات في البقرة مستوفى.(7/86)
وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ (7) وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (8) أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (9)(7/87)
وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ (7)
(وإذ تأذن) بمعنى أذن قاله الفراء، قال في الكشاف: ولا بد في تفعل من زيادة معنى ليس في أفعل، وكأنه قيل واذ آذن (ربكم) إيذاناً بليغاً تنتفي عنده الشكوك وتنزاح الشبه، والمعنى وإذ تأذن ربكم فقال لئن شكرتم، وأجرى تأذن مجرى قال لأنه ضرب من القول انتهى، وهذا من قول موسى لقومه، أي واذكروا حين تأذن ربكم.
وقيل هو من قول الله سبحانه أي أذكر يا محمد إذ تأذن ربكم وقرئ وإذ قال ربكم والمعنى واحد كما تقدم واللام في.
(لئن شكرتم) هي الموطئة للقسم والخطاب لبني إسرائيل وقوله (لأزيدنكم) سادّ مسد جوابي الشرط والقسم والمعنى لئن شكرتم إنعامي عليكم بما ذكر وما خولتكم من نعمة الإنجاء وغيرها من النعم بالإيمان الخالص والعمل الصالح لأزيدنكم نعمة إلى نعمة تفضلاً مني، وقيل من طاعتي قاله الحسن؛ وقيل من الثواب والأول أظهر فالشكر سبب المزيد.
قال الربيع: أخبرهم موسى عن ربه أنهم إن شكروا النعمة زادهم من فضله وأوسع لهم من الرزق وأظهرهم على العالم، وقال سفيان الثوري في الآية: لا تذهب أنفسكم إلى الدنيا فإنها أهون عند الله من ذلك ولكن يقول لئن شكرتم لأزيدنكم من طاعتي.(7/87)
(ولئن كفرتم إن عذابي لشديد) لمن كفر نعمتي فلا بد أن يصيبكم منه ما يصيب وهو ساد مسد الجوابين أيضاً، وقيل الجواب محذوف أي ولئن كفرتم ذلك وجحدتموه لأعذبنكم، دل عليه إن عذابي لشديد وإنما حذف هنا وصرح به في جانب الوعد لأن من عادة الكرام التصريح بالوعد والتعريض بالوعيد فما ظنك بأكرم الأكرمين.(7/88)
وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (8)
(وقال موسى إن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعاً) أي وجميع الخلق من الثقلين نعمته تعالى ولم تشكروها وجواب الشرط محذوف أي فما أضررتم بالكفر إلا أنفسكم حيث حرمتموها من مزيد الإنعام وعرضتموها للعذاب الشديد (فإن الله) سبحانه (لغني) عن شكركم لا يحتاج إليه ولا يلحقه بذلك نقص (حميد) أي مستوجب للحمد لذاته لكثرة إنعامه وإن لم تشكروه أو يحمده غيركم من الملائكة وتنطق بنعمه ذرّات الكائنات.
ولعله عليه السلام إنما قال هذا عندما عاين منهم دلائل العناد ومخائل الإصرار على الكفر والفساد وتيقن أنه لا ينفعهم الترغيب ولا التعريض بالترهيب.
أخرج البخاري في تاريخه والضياء في المختار عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من ألهم خمسة لم يحرم خمسة " وفيها من ألهم الشكر لم يحرم الزيادة. وعن أبي هريرة مرفوعاً " من أعطى الشكر لم يمنع الزيادة " أخرجه الحكيم الترمذي في النوادر، ولا وجه لتقييد الزيادة بالزيادة في الطاعة بل الظاهر من الآية العموم كما يفيده جعل الزيادة جزاء الشكر، فمن شكر الله على ما رزقه وسَّع الله عليه في رزقه ومن شكر الله على ما أقدره(7/88)
عليه من طاعته زاده من طاعته ومن شكره على ما أنعم من الصحة زاده الله صحة إلى غير ذلك.(7/89)
أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (9)
(ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم) استفهام تقرير يحتمل أن يكون هذا خطاباً من موسى لقومه فيكون داخلاً تحت التذكير بأيام الله ويحتمل أن يكون من كلام الله سبحانه ابتداء خطاباً لقوم موسى وتذكيراً لهم بالقرون الأولى وإخبارهم ومجيء رسل الله إليهم، ويحتمل أنه ابتداء خطاب من الله تعالى لقوم محمد صلى الله عليه وسلم تحذيراً لهم عن مخالفته والنبأ الخبر والجمع الأنباء.
(قوم نوح وعاد وثمود) بدل من الموصول أو عطف بيان (والذين من بعدهم) أي من بعد هؤلاء الأمم الماضية الثلاثة (لا يعلمهم) أي لا يحصى عددهم ومقاديرهم ولا يحيط بهم علماً (إلا الله) سبحانه والجملة معترضة وعدم العلم من غير الله إما أن يكون راجعاً إلى صفاتهم وأحوالهم وأخلاقهم ومدد أعمارهم أي هذه الأمور لا يعلمها إلا الله ولا يعلمها غيره أو يكون راجعاً إلى ذواتهم أي أنه لا يعلم ذوات أولئك الذين من بعدهم إلا الله سبحانه ولم يبلغنا خبرهم أصلاً.
وعن ابن مسعود أنه كان يقرأ والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله ويقول كذب النسابون، وعن عمرو بن ميمون مثله، وعن أبي مجلز قال: قال رجل لعلي بن أبي طالب أنا أنسب الناس قال إنك لا تنسب الناس، فقال بلى، فقال له عليّ أرأيت قوله عاداً وثمود وأصحاب الرس وقروناً بين ذلك كثيراً قال أنا أنسب ذلك الكثير قال أرأيت قوله والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله، فسكت، وعن عروة بن الزبير قال: ما وجدنا أحداً يعرف ما وراء معدَّ بن عدنان، وعن ابن عباس قال: ما بين عدنان وإسماعيل ثلاثون أباً لا يعرفون.(7/89)
(جاءتهم رسلهم بالبينات) أي المعجزات الظاهرة والدلالات الباهرة والشرائع الواضحة مستأنف وهذا في المعنى تفسير لنبأ الذين من قبلهم (فردوا أيديهم) أي جعلوا أيدي أنفسهم (في أفواههم) ليعضوها غيظاً مما جاءت به الرسل كما في قوله تعالى (عضوا عليكم الأنامل من الغيظ) لأن الرسل جاءتهم بتسفيه أحلامهم وشتم أصنامهم.
وقيل أن المعنى أنهم أشاروا بأصابعهم إلى أفواههم لما جاءتهم الرسل بالبينات أي اسكتوا واتركوا هذا الذي جئتم به تكذيباً لهم ورداً لقولهم، وقيل المعنى أنهم أشاروا إلى ألسنتهم وما يصدر عنها من قولهم إنا كفرنا بما أرسلتم به أي لا جواب لكم سوى هذا الذي قلناه لكم بألسنتنا هذه، قيل وضعوا أيديهم على أفواههم استهزاء وتعجباً كما يفعله من غلبه الضحك من وضع يده على فيه.
وقيل المعنى ردوا على الرسل قولهم وكذبوهم بأفواههم، فالضمير الأول للرسل، والثاني للكفار، وقيل جعلوا أيديهم في أفواه الرسل رداً لقولهم؛ فالضمير الأول على هذا للكفار، والثاني للرسل، وقيل معناه أومأوا إلى الرسل أن اسكتوا، وقيل أخذوا أيدي الرسل ووضعوها على أفواه الرسل ليسكتوهم ويقطعوا كلامهم، والمراد بهما على هذا هاتان الجارحتان المعلومتان.
وقيل أن الأيدي هنا النعم أي ردوا نعم الرسل بأفواههم أي بالنطق والتكذيب، والمراد بالنعم هنا ما جاءوهم به من الشرائع، وقال أبو عبيدة ونعم ما قال هو ضرب مثل أي لم يؤمنوا ولم يجيبوا، والعرب تقول للرجل إذا أمسك عن الجواب وسكت قد رد يده في فيه، وهكذا قال الأخفش.
واعترض على ذلك القتيبي فقال: لم يسمع أحد من العرب يقول رد يده في فيه إذا ترك ما أمر به، وإنما المعنى عضوا على الأيدي حنقاً وغيظاً، وهذا هو القول الذي قدمناه على جميع هذه الأقوال، وبه قال ابن مسعود وهو(7/90)
أقرب التفاسير للآية إن لم يصح عن العرب ما ذكره الأخفش وأبو عبيدة، فإن صح ما ذكراه فتفسير الآية به أقرب.
(وقالوا) أي الكفار للرسل (إنا كفرنا بما أرسلتم به) من البينات على زعمكم (وإنا لفي شك) عظيم (مما تدعوننا إليه) من الإيمان بالله وحده وترك ما سواه (مريب) أي موجب للريب، يقال أربته إذا فعلت أمراً أوجب ريبة وشكاً، والريب قلق النفس وعدم سكونها وأن لا تطمئن إلى شيء.
وقد قيل كيف صرحوا بالكفر ثم بنوا أمرهم على الشك وأجيب بأنهم أرادوا أنّا كافرون برسالتكم وإن نزلنا عن هذا المقام فلا أقل من أنّا نشك في صحة نبوتكم ومع كمال الشك لا مطمع في الاعتراف بنبوتكم، وقيل كانوا فرقتين إحداهما جزمت بالكفر، والأخرى شكت، وقيل أن كفرهم بالمعجزات وشكهم في التوحيد فلا تخالف.(7/91)
قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (10) قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11)(7/92)
قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (10)
(قالت رسلهم) جملة مستأنفة كأنه قيل فماذا قالت لهم الرسل فأجيب بأنهم قالوا منكرين عليهم ومتعجبين من مقالتهم الحمقاء (أفي الله شك) والاستفهام للتقريع والتوبيخ والإنكار أي أفي وحدانيته سبحانه شك وهي في غاية الوضوح والجلاء ثم إن الرسل ذكروا بعد إنكارهم على الكفار ما يؤكد ذلك الإنكار من الشواهد الدالة على عدم الشك في وجوده سبحانه ووحدانيته فقالوا (فاطر السماوات والأرض) أي خالقهما ومخترعهما ومبدعهما وموجدهما وما فيهما بعد العدم.
(يدعوكم) إلى الإيمان به وتوحيده أو إلى الإيمان بإرساله إيانا لا أنا ندعوكم إليه من تلقاء أنفسنا كما يوهمه قولكم مما تدعوننا إليه (ليغفر لكم من ذنوبكم) أي لأجل غفران ذنوبكم إذا آمنتم وصدقتم أو اللام للتعدية كقولك دعوتك لزيد.
قال أبو عبيدة: من صلة زائدة في الإيجاب، ووجه ذلك قوله في موضع آخر (إن الله يغفر الذنوب جميعًا) وأجازه الأخفش وقال سيبويه: هي للتبعيض ويجوز أن يذكر البعض ويراد منه الجميع.
وقيل التبعيض على حقيقته ولا يلزم من غفران جميع الذنوب لأمة محمد صلى الله عليه وسلم غفران جميعها لغيرهم، وبهذه الآية احتج من جوز زيادة (من) في الإثبات، وجمهور البصريين لا يجوزون زيادتها إلا في النفي إذا(7/92)
جرت نكرة ومن ثم جعلها بعضهم للبدل وقال ليست بزائدة ولا تبعيضية أي لتكون المغفرة بدلاً من عقوبة الذنوب، ويحتمل أن يضمن يغفر معنى يخلص أي يخلصكم من ذنوبكم ويكون مقتضاه غفران جميع الذنوب وهو أولى من دعوى زيادته (ويؤخركم) بلا عذاب (إلى أجل) أي وقت (مسمى) عنده سبحانه وهو الموت فلا يعذبكم في الدنيا.
(قالوا إن) أي ما (أنتم إلا بشر مثلنا) في الهيئة والصورة، تأكلون وتشربون كما نأكل ونشرب، فلا فضل لكم علينا ولستم ملائكة (تريدون أن تصدونا) وصفوهم بالبشر أولاً ثم بإرادة الصدّ لهم (عما كان يعبد آباؤنا) أي آباؤهم ثانياً أي تريدون أن تصرفونا عن معبودات آبائنا من الأصنام ونحوها (فأتونا) إن كنتم صادقين بأنكم مرسلون من عند الله (بسلطان مبين) أي حجة ظاهرة واضحة تدل على صحة ما تدعونه من المزية أو النبوة وقد جاؤوهم بالسلطان المبين والحجة الظاهرة ولكن هذا نوع من تعنتاتهم ولون من تلوناتهم.(7/93)
قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11)
(قالت لهم رسلهم) مسلمين مشاركتهم في الجنس (إن نحن إلا بشر مثلكم) أي في الصورة والهيئة كما قلتم لا ننكر ذلك (ولكن الله يمن) ويتفضل (على من يشاء من عباده) بالنبوة والرسالة، وقيل بالتوفيق والهداية جعلوا الموجب لاختصاصهم بالنبوة فضل الله تعالى وفيه دليل على أن النبوة أمر وهبي لا كسبي كما يزعمه المتفلسفة والحكماء.
(وما كان) أي ما صح (لنا) ولا استقام (أن نأتيكم بسلطان) أي بحجة من الحجج، وقيل المراد بالسلطان هنا هو ما يطلبه الكفار من الآيات على سبيل التعنت، وقيل أعم من ذلك فإن ما شاء الله كان وما لم يشأه لم يكن (إلا بإذن الله) أي بمشيئته وإرادته وليس ذلك في قدرتنا، وقيل بأمره لنا بالإتيان أي إذنه لنا فيه والأول أولى.
(وعلى الله) وحده (فليتوكل المؤمنون) في دفع شرور أعدائهم عنهم وفي(7/93)
وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (12) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ (14) وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (15) مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ (16)
الصبر على معاداتهم وهذا أمر منهم للمؤمنين بالتوكل على الله دون من عداه وكان الرسل قصدوا بهذا الأمر للمؤمنين الأمر لهم أنفسهم قصداً أولياً ولهذا قالوا:(7/94)
وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (12)
(وما لنا) أي وأيُّ مانع وعذر لنا في (أن لا نتوكل على الله) سبحانه في دفع شروركم عنا، فيه التفات عن الغيبة إلى التكلم والاستفهام للإنكار (وقد هدانا سبلنا) بضم الباء وسكونها سبعيتان، أىِ والحال إنه قد فعل بنا ما يوجب التوكل عليه ويستدعيه من هدايتنا إلى الطريق الموصل إلى رحمته وهو ما شرعه لعباده وأوجب عليهم سلوكه وعرفنا طريق النجاة وبين لنا الرشد.
وحيث كانت أذية الكفار مما يوجب القلق والاضطراب القادح في التوكل قالوا على سبيل التوكيد القسمي مظهرين لكمال العزيمة (و) الله (لنصبرن على ما آذيتمونا) من وقوع التكذيب لنا منكم والعناد والاقتراحات الباطلة وغير ذلك مما لا خير فيه وما مصدرية أو موصولة اسمية (وعلى الله) وحده دون من عداه (فليتوكل المتوكلون) قيل المراد بالتوكل الأول استحداثه وإنشاؤه، وبهذا السعي في بقائه وثبوته فالتوكلان مختلفان.
وقيل معنى الأول إن الذين يطلبون المعجزات يجب عليهم أن يتوكلوا في حصولها على الله سبحانه لا علينا، فإن شاء سبحانه أظهرها وإن شاء لم(7/94)
يظهرها. ومعنى الثاني إبداء التوكل على الله في دفع شر الكفار وسفاهتهم.(7/95)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13)
(وقال الذين كفروا) هم طائفة من المتمردين عن إجابة الرسل (لرسلهم) واللام في (لنخرجنكم) هي الموطئة للقسم، أي والله لنخرجنكم (من أرضنا أو لتعودن في ملتنا) لم يقنعوا برد ما جاءت به الرسل وعدم امتثالهم لما دعوهم إليه حتى اجترؤوا عليهم بهذا وخيروهم بين الخروج من أرضهم أو العود في ملتهم الكفرية.
وقد قيل أن (أو) بمعنى حتى أو بمعنى إلا أن كما قاله بعض المفسرين، ورد بأنه لا حاجة إلى ذلك بل أو على بابها للتخيير بين أحد الأمرين، قيل والعود هنا بمعنى الصيرورة، أي لتصيرن داخلين في ديننا أي في الشرك لعصمة الأنبياء عن أن يكونوا على ملة الكفر قبل النبوة وبعدها، وقيل إن الخطاب للرسل ولمن آمن بهم فغلب الرسل على أتباعهم، وقد تقدم تفسير الآية في سورة الأعراف (فأوحى إليهم) أي إلى الرسل بعد هذه المخاطبات والمحاورات (ربهم لنهلكن الظالمين) الكافرين(7/95)
وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ (14)
(ولنسكننكم الأرض) أي أرض هؤلاء الكفار الذين توعدوكم بما توعدوكم من الإخراج أو العود.
(من بعدهم) أي بعد هلاكهم، ومثل هذه الآية قوله سبحانه (وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها) وقال (وأورثكم أرضهم وديارهم).
عن ابن عباس قال: كانت الرسل والمؤمنون يستضعفهم قومهم ويقهرونهم ويكذبونهم ويدعونهم إلى أن يعودوا في ملتهم، فأبى الله لرسله والمؤمنين أن يعودوا في ملة الكفر، وأمرهم أن يتوكلوا على الله وأمرهم أن يستفتحوا على الجبابرة ووعدهم أن يسكنهم الأرض من بعدهم، فأنجز لهم ما وعدهم واستفتحوا كما أمرهم الله أن يستفتحوا.
وعن قتادة قال: وعدهم النصر في الدنيا والجنة في الآخرة، فبيّنَ الله(7/95)
من يسكنها من عباده فقال (ولمن خاف مقام ربه جنتان) وإن لله مقاماً هو قائمه، وأن أهل الإيمان خافوا ذلك المقام فنصبوا ودأبوا الليل والنهار.
(ذلك) أي ما تقدم من إهلاك الظالمين وإسكان المؤمنين في مساكنهم (لمن خاف مقامي) أي موقفي، وذلك يوم الحساب فإنه موقف الله سبحانه، والمقام بفتح الميم مكان الإقامة وبالضم فعل الإقامة، وقيل إن المقام هنا مصدر بمعنى القيام، أي لمن خاف قيامى عليه ومراقبتي له كقوله تعالى (أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت) وقال الأخفش مقامي بمعنى عذابي.
(وخاف وعيد) أي خشي وعيدي بالعذاب، وقيل بالقرآن وزواجره، وقيل هو نفس العذاب الموعود للكفار، والوعيد اسم من الوعد، وهذه الآية تدل على أن الخوف من الله غير الخوف من وعيده لأن العطف يقتضي التغاير، قاله الكرخي.(7/96)
وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (15)
(واستفتحوا) أي استنصروا بالله على أعدائهم أو سألوا الله القضاء بينهم من الفتاحة وهي الحكومة بين الخصمين، ومن الأول قوله (إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح) ومن الثاني قوله (ربنا افتح بيننا وبين قومنا) أي احكم، والضمير في استفتحوا للرسل، وقيل للكفار وقيل للفريقين وقيل لقريش لأنهم في سني الجدب استمطروا فلم يمطروا، وهو على هذا مستأنف والأول أولى، وقرئ استفتحوا بكسر التاء الثانية على لفظ الأمر، أمراً للرسل بطلب النصرة فنصروا وسعدوا وربحوا.
(وخاب) أي خسر وقيل هلك (كل جبار) هو المتكبر الذي لا يرى لأحد عليه حقاً، هكذا حكاه النحاس عن أهل اللغة.
وقيل من تجبر بنفسه بادعاء منزلة عالية لا يستحقها، وهو صفة ذم في(7/96)
حق الإنسان، وقيل الذي لا يرى فوقه أحداً. وقيل المتعظم في نفسه المتكبر على أقرانه والمعاني متقاربة (عنيد) هو المعاند للحق والمجانب له قاله مجاهد، وهو مأخوذ من العقد وهو الناحية، أي آخذ في ناحية معرضاً.
قال الزجاج: العنيد الذي يعدل عن القصد، وبمثله قال الهروي. وقال أبو عبيد: هو الذي عند وبغى وقال ابن كيسان: هو الشامخ بأنفه، وقيل المراد به العاصي، وقيل الذي أبي أن يقول لا إله إلا الله. قاله قتادة، وقيل العنيد الناكب عن الحق. قاله إبراهيم النخعي، وقال مقاتل: المتكبر، وقال ابن عباس: هو المعرض عن الحق.
وقيل هو المعجب بما عنده، وقيل هو الذي يعاند ويخالف، ومعنى الآية أنه خسر وهلك من كان متصفاً بهذه الصفة.(7/97)
مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ (16)
(من ورائه) أي من بعده (جهنم) والمراد بعد هلاكه على أن وراء هنا بمعنى بعد: ومثله قوله تعالى (ومن ورائه عذاب غليظ) أي من بعده، كذا قال الفراء. وقيل من ورائه أي من أمامه قال أبو عبيدة: هو من أسماء الأضداد لأن أحدهما ينقلب إلى الآخر، ومنه قوله تعالى (وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصباً) أي أمامهم، وبه قال قطرب.
وقال الأخفش: هو كما يقال هذا الأمر من ورائك أي سوف يأتيك وأنا من وراء فلان أي في طلبه.
وقال النحاس: من ورائه أي من أمامه، وليس من الأضداد، ولكنه من توارى أي استتر فصارت جهنم من ورائه لأنها لا ترى وحكى مثله ابن الأنباري وقال ثعلب: هو اسم لما توارى عنك سواء كان خلفك أو قدامك.
(ويسقى من ماء صديد) أي يلقى فيها ويسقى، والصديد ما يسيل من جلود أهل النار ولحومهم واشتقاقه من الصد لأنه يصد الناظرين عن رؤيته وهو دم مختلط بقيح يسيل من جلد الكافر ولحمه.(7/97)
يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ (17) مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (18) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (19)
وقال عكرمة: هو القيح والدم. وقال محمد بن كعب القرظي: هو ما يسيل من فروج الزناة يسقاه الكافر والصديد صفة لماء أو بدل منه، وقيل عطف بيان له(7/98)
يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ (17)
(يتجرعه) التجرع التحسي أي يتحساه مرة بعد مرة لا مرة واحدة لمرارته وحرارته ونتنه وكراهته، وقيل يكلف تجرعه ويقهر عليه ولم يذكر الزمخشري غيره، وقيل إنه دال على المهلة أي يتناوله شيئاً فشيئاً. وقيل أنه بمعنى جرعه المجرد (ولا يكاد يسيغه) يقال ساغ الشراب في الحلق يسوغ سوغاً إذا كان سهلاً، والمعنى لا يقارب أن يسيغه ويبتلعه فكيف يكون الإساغة بل يغص به بعد اللتيا واللتي فيشربه جرعة بعد جرعة فيطول عذابه بالحرارة والعطش تارة، ويشربه على هذه الحالة أخرى، فإن السوغ انحدار الشراب في الحلق بسهولة وقبول نفس ونفيه لا يوجب نفي ما ذكر جميعاً.
وقيل لا يكاد يدخله في جوفه، وعبر عنه بالإساغة لما أنها المعهودة في الأشربة وقيل أنه يسيغه بعد شدة وإبطاء كقوله (وما كادوا يفعلون) أي يفعلون بعد إبطاء كما يدل عليه قوله تعالى في آية أخرى (يصهر به ما في بطونهم) قيل كاد صلة، وقال الزمخشري للمبالغة؛ وقيل معناه لا يجيزه.
أخرج أحمد والترمذي واستغربه والنسائي وابن أبي الدنيا وأبو يعلى وابن مردويه والبيهقي وأبو نعيم في الحلية وصححه عن أبي أمامة عن النبي صلى الله(7/98)
عليه وسلم في الآية قال: " يقرب إلى فيه فيكرهه فإذا أدنى منه شوى وجهه ووقعت فروة رأسه، فإذا شربه قطع أمعاءه حتى تخرج من دبره " يقول الله (وسقوا ماء حميماً فقطع إمعاءهم) وقال: (وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه بئس الشراب وساءت مرتفقاً).
(ويأتيه الموت) أي أسبابه (من كل مكان) أي من كل جهة من الجهات من قدامه ومن خلفه ومن فوقه ومن تحته وعن يمينه وعن شماله، أو من كل موضع من مواضع بدنه.
وقال الأخفش: المراد بالموت هنا البلايا التي تصيب الكافر في النار، سماها موتا لشدتها.
وقال ابن عباس: يعني أنواع العذاب وليس منها نوع إلا الموت يأتيه منه لو كان يموت، ولكنه لا يموت لأن الله يقول لا يقضى عليهم فيموتوا.
وقال ميمون بن مهران: المعنى من كل عظم وعرق وعصب. وعن محمد بن كعب نحوه، وعن إبراهيم التيمي قال: من موضع كل شعرة في جسده.
(وما هو بميت) أي والحال أنه لم يمت حقيقة فيستريح. وقيل تعلق نفسه في حنجرته فلا تخرج من فيه فيموت، ولا ترجع إلى مكانها من جوفه فيحيا، ومثله قوله (لا يموت فيها ولا يحيى).
وقيل المعنى وما هو بميت لتطاول شدائد الموت به وامتداد سكراته عليه، والأولى تفسير الآية بعدم الموت حقيقة لما ذكرنا من قوله سبحانه (لا يموت فيها(7/99)
ولا يحيى) وقوله (لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها).
(ومن ورائه) أي من أمامه أو من بعده أو من بين يديه، قاله البيضاوي. وقيل الضمير عائد على كل جبار كما في السمين (عذاب غليظ) أي شديد يستقبل في كل وقت عذاباً أشد مما هو عليه، قيل هو الخلود في النار، قال إبراهيم التيمي وقيل حبس الأنفاس، قاله فضيل بن عياض.(7/100)
مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (18)
(مثل الذين كفروا بربهم) كلام مستأنف منقطع عما قبله، قال سيبويه: تقديره فيما يتلى عليكم مثل الذين، والمثل مستعار للقصة التي فيها غرابة. وقال الزجاج والفراء: التقدير مثل اعمال الذين. وروي عنه أنه قال بالغاء مثل، وقيل مستأنفة على تقدير سؤال سائل يقول مثلهم فقيل:
(أعمالهم) الصالحة. كالصدقة وصلة الأرحام وفك الأسير وإقراء الضيف وبر الوالدين ونحو ذلك أو عبادتهم الأصنام في عدم الانتفاع بها أو الأعمال التي أشركوا فيها غير الله تعالى.
(كرماد) أي باطلة غير مقبولة، والرماد ما يبقى بعد احتراق الشيء، وهو ما يسقط من الحطب والفحم بعد احتراقه بالنار وجمعه في الكثرة على رمد؛ وفي القلة على أرمد.
(اشتدت به الريح) حملته بشدة وسرعة فنسفته وطيَّرته ولم تبق منه شيئاً (في يوم عاصف) العصف شدة الريح وصف به زمانها مبالغة كما يقال يوم حار ويوم بارد والبرد والحر فيهما لا منهما والإسناد فيه تجوز، ووجه الشبه أن الريح العاصفة تطير الرماد وتفرق أجزاءه بحيث لا يبقى له أثر، فكذلك كفرهم أبطل أعمالهم واحبطها بحيث لا يبقى لها أثر.
وقد بيَّن محصله بقوله (لا يقدرون مما كسبوا) من تلك الأعمال الباطلة(7/100)
(على شيء) منها ولا يرون له أثراً في الآخرة يجازون به ويثابون عليه، جميع ما عملوه في الدنيا باطل ذاهب كذهاب الريح بالرماد عند شدة هبوبها وهو فذلكة التمثيل. وعن ابن عباس: لا يقدرون على شيء من أعمالهم ينفعهم كما لا يقدر على الرماد إذا أرسل في يوم عاصف.
(ذلك) أي ما دل عليه التمثيل من هذا البطلان لأعمالهم وذهاب أثرها (هو الضلال) الهلاك (البعيد) عن طريق الحق المخالف لمنهج الثواب أو عن فعل الثواب، ولما كان هذا خسراناً لا يمكن تداركه ولا يرجى عوده سماه بعيداً(7/101)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (19)
(ألم تر أن الله خلق السماوات والأرض) الرؤية هنا هي القلبية والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم تعريضاً لأمته أو الخطاب لكل من يصلح له " بالحق " أي بالوجه الصحيح الذي يحق أن يخلقها عليه ليستدل بها على كمال قدرته لا باطلاً ولا عبثاً والباء للمصاحبة.
ثم بيَّن كمال قدرته سبحانه واستغنائه عن كل أحد من خلقه فقال: (إن يشأ يذهبكم) أيها الناس (ويأت بخلق جديد) سواكم فيعدم الموجودين ويوجد المعدومين؛ ويهلك العصاة، ويأتي بمن يطيعه من خلقه، لأن القادر لا يصعب عليه شيء وأنه قادر لذاته لا اختصاص له بمقدور دون مقدور، والمقام يحتمل أن يكون هذا الخلق الجديد من نوع الإنسان، ويحتمل أن يكون من نوع آخر.(7/101)
وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (20) وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ (21) وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (22)(7/102)
وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (20)
(وما ذلك) أي الإذهاب والإتيان بإعدام الموجود وإيجاد المعدوم (على الله بعزيز) أي بممتنع ومتعذر لأنه سبحانه قادر على كل شيء، وفيه أن الله تعالى هو الحقيق بأن يرجى ثوابه ويخاف عقابه، فلذلك أتبعه بذكر أحوال الآخرة فقال(7/102)
وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ (21)
(وبرزوا لله جميعاً) أي الخلائق من قبورهم يوم القيامة، والبروز الظهور والبراز بالفتح المكان الواسع لظهوره، ومنه امرأة برزة أي تظهر للرجال، وبرز حصل في البراز أي الفضاء، وذلك بأن يظهر بذاته كلها، فمعنى برزوا ظهروا من قبورهم.
وعبر بالماضي عن المستقبل تنبيهاً على تحقيق وقوعه كما هو مقرر في علم المعاني وإنما قال وبرزوا لله مع كونه سبحانه عالماً بهم لا يخفى عليه شيء من أحوالهم برزوا أو لم يبرزوا لأنهم كانوا يستترون عن العيون عند فعلهم للمعاصي ويظنون أن ذلك يخفى على الله تعالى، فالكلام خارج على ما يعتقدونه.
(فقال الضعفاء للذين استكبروا) أي قال الاتباع الضعفاء في الرأي للرؤساء الأقوياء المتكبرين بما هم فيه من الرياسة (إنا كنا لكم تبعاً) في الدنيا(7/102)
في الدين والاعتقاد فكذبنا الرسل وكفرنا بالله متابعة لكم، والتبع جمع تابع مثل خادم وخدم وحارس وحرس وراصد ورصد، أو مصدر وصف به للمبالغة أو على تقدير ذوي تبع.
قال الزجاج: جمعهم في حشرهم فاجتمع التابع والمتبوع فقال الضعفاء للذين استكبروا من أكابرهم وقادتهم عن عبادة الله إنا كنا لكم تبعاً.
(فهل أنتم) في هذا اليوم، والاستفهام للتوبيخ (مغنون) أي دافعون (عنا) يقال أغنى عنه إذا دفع عنه الأذى وأغناه إذا أوصل إليه النفع (من عذاب الله من شيء) أي بعض الشيء الذي هو عذاب الله، فمن الأولى للبيان والثانية للتبعيض قاله الزمخشري، وقيل هما للتبعيض معاً قاله في الكشاف أيضاً وقيل الأولى تتعلق بمحذوف والثانية مزيدة.
(قالوا) أي قال المستكبرون مجيبين عن قول المستضعفين (لو هدانا الله) إلى الإيمان في الدنيا (لهديناكم) إليه ولكن لما أضلنا وضللنا دعوناكم إلى الضلالة وأضللناكم واخترنا لكم ما اخترناه لأنفسنا، والجملة مستأنفة كأنه قيل كيف أجابوا، وقيل المعنى لو هدانا الله إلى طريق الجنة لهديناكم إليها، وقيل لو نجانا الله من العذاب لنجيناكم منه.
(سواء علينا أجزعنا أم صبرنا) أي مستو علينا الجزع والصبر، والجزع أبلغ من الحزن لأنه يصرف الإنسان عما هو بصدده وبقطعه عنه والهمزة وأم لتأكيد التسوية كما في قوله تعالى (سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم).
(ما لنا من محيص) أي منجاة ومهرب من العذاب من الحيص وهو العدول على جهة الفرار يقال حاص فلان عن كذا أي فرَّ وزاغ يحييص حيصاً وحيوصاً وحيصاناً.(7/103)
والمعنى ما لنا وجه نتباعد به عن النار، ويجوز أن يكون هذا من كلام الفريقين وإن كان الظاهر أنه من كلام المستكبرين، وفي مجيء كل جملة مستقلة من غير عاطف دلالة على أن كُلاًّ من المعاني مستقل بنفسه كاف في الأخبار، وقال زيد بن أسلم: جزعوا مائة سنة وصبروا مائة سنة.
وأخرج الطبراني وابن أبي حاتم وابن مردويه عن كعب بن مالك يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال " يقول أهل النار هلموا فلنصبر فيصبرون خمسمائة عام، فلما رأوا ذلك لا ينفعهم قالوا هلموا فلنجزع فبكوا خمسمائة عام، فلما رأوا ذلك لا ينفعهم قالوا سواء علينا أجزعنا أم صبرنا مالنا من محيص ".
والظاهر أن هذه المراجعة كانت بينهم بعد دخولهم النار كما في قوله تعالى (وإذ يتحاجون في النار فيقول الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعاً فهل أنتم مغنون عنا نصيباً من النار قال الذين استكبروا إنا كل فيها إن الله قد حكم بين العباد).(7/104)
وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (22)
(وقال الشيطان) للفريقين (لما قضي الأمر) أي دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار على ما سيأتي بيانه في سورة مريم (إن الله وعدكم وعد الحق) فصدق في وعده وهو وعده سبحانه بالبعث والحساب ومجازاة المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته.
قال الفراء: وعد الحق هو من إضافة الشيء إلى نفسه كقولهم مسجد الجامع؛ وقال البصريون وعدكم وعد اليوم الحق.
(ووعدتكم) وعداً باطلاً بأنه لا بعث ولا حساب ولا جنة ولا نار(7/104)
(فأخلفتكم) ما وعدتكم به من ذلك (وما كان لي عليكم من سلطان) أي تسلط عليكم بإظهار حجة على ما وعدتكم به وزينته لكم.
(إلا أن دعوتكم) أي مجرد دعائي لكم إلا الغواية والضلال بلا حجة ولا برهان ودعوته لهم ليست من جنس السلطان حتى يستثنى منه بل الاستثناء منقطع أي لكن دعوتكم وقيل المراد بالسلطان هنا القهر أي ما كان لي عليكم من قهر يضطركم إلا إجابتي وقيل هذا الاستثناء هو من باب " تحية بينهم ضرب وجيع " مبالغة في نفيه للسلطان عن نفسه كأنه قال إنما يكون لي عليكم سلطان إذا كان مجرد الدعاء من سلطان وليس منه قطعاً.
(فاستجبتم لي) أي فسارعتم إلى إجابتي (فلا تلوموني) بما وقعتم فيه بسبب وعدى لكم بالباطل وإخلافي هذا الموعد فإن من صرح بالعداوة لا يلام بأمثال ذلك (ولوموا أنفسكم) باستجابتكم لي بمجرد الدعوة التي لا سلطان عليها ولا حجه فإن من قبل المواعيد الباطلة والدعاوي الزائغة عن طريق الحق فعلى نفسه جنى ولمارنه قطع ولا سيما ودعوتي هذه الباطلة وموعدى الفاسد وقعا معارضين لوعد الله لكم وهو الحق ودعوته لكم إلا دار السلام مع قيام الحجة التي لا تخفى على عاقل ولا تلتبس إلا على مخذول.
وقريب من هذا من يقتدي بآراء الرجال المخالفة لما في كتاب الله ولما في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم ويؤثرها على ما فيهما فإنه قد استجاب للباطل الذي لم تقم عليه حجة، ولا دل عليه برهان، وترك الحجة والبرهان خلف ظهره كما يفعله كثير من المقتدين بالرجال المقلدين لهم، المتنكبين عن طريق الحق بسوء اختيارهم، اللهم غفراً.
(ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخيّ) يقال صرخ فلان إذا استغاث يصرخ صراخاً وصرخاً واستصرخ بمعنى صرخ والمصرخ المغيث والمستصرخ(7/105)
المستغيث، يقال استصرخني فأصرخته والصريخ صوت المستصرخ والصريخ أيضا الصارخ وهو المغيث والمستغيث وهو من أسماء الأضداد كما في الصحاح.
قال ابن الأعرابي: الصارخ المستغيث والمصرخ المغيث، ومعنى الآية ما أنا بمغيثكم ومنقذكم مما أنتم فيه من العذاب، وما أنتم بمغيثي ولا منقذي مما أنا فيه وفيه إرشاد لهم إلى أن الشيطان في تلك الحالة مبتلى بما ابتلوا به من العذاب، محتاج إلى من يغيثه ويخلصه مما هو فيه فكيف يطمعون في إغاثة من هو محتاج إلى من يغيثه.
قال ابن عباس: المعنى ما أنا بنافعكم وما أنتم بنافعي، وقال الشعبي في هذه الآية: خطيبان يقومان يوم القيامة إبليس وعيسى؛ فأما إبليس فيقوم في حزبه فيقول القول المذكور في الآية، وأما عيسى فيقول (ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم وكنت عليهم شهيداً ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد) وقال قتادة: المعنى ما أنا بمعينكم. (إني كفرت بما أشركتمون من قبل) قد ذهب جمهور المفسرين إلى أن ما مصدرية أي بإشراككم أياي مع الله في الطاعة لأنهم كانوا يطيعونه في أعمال الشر، كما يطاع الله في أعمال الخير، فالإشراك استعارة بتشبيه الطاعة به وتنزيلها منزلته، أو لأنهم لما أشركوا الأصنام ونحوها بإيقاعه لهم في ذلك فكأنهم أشركوه وقيل موصولة على معنى إني كفرت بالذي أشركتمونيه وهو الله عز وجل، ويكون هذا حكاية لكفره بالله عند أن أمره بالسجود لآدم.
ولما كشف لهم القناع بأنه لا يغنى عنه من عذاب الله شيئاً ولا ينصرهم بنوع من أنواع النصر، صرح لهم بأنه كافر بإشراكهم له مع الله في الربوبية من قبل هذا الوقت الذي قال لهم الشيطان فيه هذه المقالة، وهو ما كان منهم في الدنيا من جعله شريكاً.(7/106)
ولقد قام لهم الشيطان في هذا اليوم مقاماً يقصم ظهورهم ويقطع قلوبهم، فأوضح لهم:
أولا أن مواعيده التي كان يعدهم بها في الدنيا باطلة معارضة لوعد الحق من الله سبحانه، وأنه أخلفهم ما وعدهم من تلك المواعيد ولم يف لهم بشيء منها.
ثم أوضح لهم ثانيا بأنهم قبلوا قوله بما لا يوجب القبول، ولا يتفق على عقل عاقل لعدم الحجة التي لا بد للعاقل منها في قبول قول غيره.
ثم أوضح لهم ثالثاً بأنه لم يكن منه إلا مجرد الدعوة العاطلة عن البرهان الخالية عن أيسر شيء مما يتمسك به العقلاء.
ثم نعى عليهم رابعاً ما وقعوا فيه ودفع لومهم له وأمرهم بأن يلوموا أنفسهم لأنهم هم الذين قبلوا الباطل البحت الذي لا يلتبس بطلانه على من له أدنى عقل.
ثم أوضح لهم خامساً بأنه لا نصر عنده ولا إغاثة ولا يستطيع لهم نفعاً ولا يدفع عنهم ضراً بل هو مثلهم في الوقوع في البلية والعجز عن الخلوص عن هذه المحنة.
ثم صرح لهم سادساً بأنه قد كفر بما اعتقدوه فيه وأثبتوه له، فتضاعفت عليهم الحسرات وتوالت عليهم المصائب.
وإذا كان جملة (إن الظالمين لهم عذاب أليم) من تتمة كلامه كما ذهب إليه البعض فهو نوع سابع من كلامه الذي خاطبهم به. فأثبت لهم الظلم ثم ذكر ما هو جزاؤهم عليه من العذاب الأليم لا على قول من قال إنه ابتداء كلام من جهة الله سبحانه وتعالى.(7/107)
وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ (23) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25)
ولما أخبر سبحانه بحال أهل النار أخبر بحال أهل الجنة فقال(7/108)
وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ (23)
(وأدخل) قراءة الجمهور على البناء للمفعول وقرئ بالبناء على الفاعل أي وأنا أدخل (الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار) ثم ذكر سبحانه خلودهم في الجنات وعدم انقطاع نعيمهم فقال (خالدين فيها) ثم ذكر أن ذلك (بإذن ربهم) أي بتوفيقه ولطفه وهدايته، هذا على القراءة الأولى وفيه تعظيم لذلك الأجر، وأما على الثانية فيكون بإذن ربهم متعلقاً بقوله.
(تحيتهم فيها) أي تحية الملائكة في الجنة (سلام) بإذن ربهم، وقد تقدم تفسير هذا في سورة يونس.
ولما ذكر سبحانه مثل أعمال الكفار وأنها كرماد اشتدت به الريح، ثم ذكر نعيم المؤمنين وما جازاهم الله به من إدخالهم الجنة خالدين فيها وتحية الملائكة لهم، ذكر تعالى هاهنا مثلا للكلمة الطيبة وهي كلمة الإسلام أي لا إله إلا الله أو ما هو أعم من ذلك من كلمات الخير، وذكر مثلاً للكلمة الخبيثة وهي كلمة الشرك أو ما هو أعم من ذلك من كلمات الشر، فقال مخاطباً لرسوله صلى الله عليه وسلم أو لمن يصلح للخطاب:(7/108)
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24)
(ألم تر) بعين قلبك فتعلم علم يقين بإعلامي إياك (كيف ضرب الله مثلاً) أي اختار مثلاً وضعه في موضعه اللائق به، والمثل قول سائر يشبه فيه حال الثاني بالأول (كلمة طيبة) وهي قول لا إله إلا الله عند الجمهور أو كل(7/108)
كلمة حسنة كالتسبيحة والتحميدة والاستغفار والتوبة والدعوة. قاله الزمخشري (كشجرة طيبة) أي طيبة الثمر نعت لكلمة وبه بدأ الزمخشري، أو خبر مبتدأ محذوف، أي هي قاله ابن عطية.
ثم وصف الشجرة بقوله (أصلها ثابت) أي راسخ آمن من الانقلاع بسبب تمكنها من الأرض بعروقها (وفرعها في السماء) أي في أعلاها ذاهب إلى جهة السماء مرتفع في الهواء. ثم وصفها سبحانه بأنها(7/109)
تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25)
(تؤتى أكلها) أي ثمرها (كل حين) أي كل وقت والحين في اللغة: الوقت يطلق على القليل والكثير، واختلفوا في مقداره كما سيأتي (بإذن ربها) أي بإرادته ومشيئته وأمره، قيل وهي النخلة كذلك كلمة الإيمان ثابتة في قلب المؤمن وعمله يصعد إلى السماء وتناله بركته وثوابه كل وقت.
وأخرج أحمد وابن مردويه، قال السيوطي بسند جيد عن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " هي التي لا تنقص ورقها النخلة ".
وأخرج البخاري وغيره من حديث ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوماً لأصحابه " أي شجرة من الشجر لا يطرح ورقها مثل المؤمن؟ قال فوقع الناس في شجر البوادي ووقع في قلبي أنها النخلة فاستحييت حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم هي النخلة " (1) وفي لفظ للبخاري " أخبروني عن شجرة كالرجل المسلم لا يتحات ورقها وتؤتى أكلها كل حين " فذكر نحوه (2).
وفي لفظ لابن جرير وابن مردويه من حديث ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " هل تدرون ما الشجرة الطيبة ثم قال هي النخلة " وروى نحو هذا جماعة من الصحابة والتابعين، وقيل غيرها؛
_________
(1) مسلم 2811 - البخاري 54.
(2) البخاري كتاب الأدب باب 89.(7/109)
والمراد تؤتى أكلها كل ساعة من الساعات من ليل أو نهار، في جميع الأوقات من غير فرق بين شتاء وصيف، قاله ابن عباس.
وقيل المراد في أوقات مختلفة من غير تعيين، وقيل كل غدوة وعشية، وقيل الحين هنا سنة كاملة لأن النخلة تثمر في كل سنة مرة، وقيل كل شهر، وقيل كل ستة أشهر قاله ابن عباس وسعيد بن جبير وقتادة والحسن يعني من وقت طلعها إلى حين صرامها، وقال علي بن أبي طالب ثمانية أشهر، وقيل أربعة أشهر من حين ظهور حملها إلى إدراكهما، وقال سعيد بن المسيب شهران.
قال النحاس: وهذه الأقوال متقاربة غير متناقضة لأن الحين عند جميع أهل اللغة إلا من شذّ منهم بمعنى الوقت يقع لقليل الزمان وكثيره. وقد ورد الحين في بعض المواضع يراد به أكثر كقوله (هل أتى على الإنسان حين من الدهر) وقد تقدم بيان أقوال العلماء في الحين في سورة البقرة. وقال الزجاج: الحين الوقت طال أم قصر.
عن ابن عباس في قوله تعالى (تؤتي أكلها كل حين) قال يكون أخضر ثم يكون أصفر، وعنه قال كل حين جداد النخل، وقد روي عن جماعة من السلف في هذا أقوال كثيرة.
ووجه الحكمة في تمثيل الإيمان بالشجر على الإطلاق أن الشجرة لا تسمى شجرة إلا بثلاثة أشياء عرق راسخ وأصل ثابت وفرع نابت، وكذلك الإيمان لا يتم إلا بثلاثة أشياء تصديق بالقلب وقول باللسان وعمل بالأبدان والأركان وقيل غير ذلك؛ وعن ابن عباس: الكلمة الطيبة شهادة أن لا إله إلا الله والشجرة الطيبة المؤمن، وأصلها الثابت قول لا إله إلا الله ثابت في القلب وفرعها في السماء يقول يرفع بها عمل المؤمن إلى السماء، وقد روي نحو هذا عن جماعة من التابعين ومن بعدهم.
(ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون) أحوال المبدأ والمعاد(7/110)
وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ (26) يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ (27) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ (28) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ (29) وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (30)
وبدائع صنعه سبحانه الدالة على وجوده ووحدانيته، وفي ضرب الأمثال زيادة تذكير وتفهيم وتصوير للمعاني وتقريب لها من الحس ومواعظ لمن تذكر واتعظ.(7/111)
وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ (26)
(ومثل كلمة خبيثة) قد تقدم تفسيرها وتغيير الأسلوب حيث لم يقل وضرب الله مثلاً كلمة خبيثة للإيذان بأن ذلك غير مقصود بالضرب والبيان (كشجرة) أي كمثل شجرة (خبيثة) قيل هي شجرة الحنظل وقيل هي شجرة الثوم وقيل الكمأة، وقيل الطحلبة، وقيل هي كشوث بالضم وآخره مثلثة وهي شجرة لا ورق لها ولا عروق في الأرض.
(اجتثت) أي استؤصلت واقتلعت وقطعت من أصلها، قال المؤرج أخذت جثتها وهي نفسها وذاتها والجثة شخص الإنسان قاعداً ونائماً يقال جثه قلعه واجتثه اقتلعه كأنها اجتثت وكأنها غير ثابتة بالكلية وكأنها ملقاة على وجه الأرض ومعنى (من فوق الأرض) أنه ليس لها أصل راسخ وعروق متمكنة من الأرض.
(ما لها) أي لهذه الشجرة (من قرار) أي من استقرار، وقيل من ثبات لأنها ليس لها أصل ثابت تغوص في الأرض بل عروقها في وجهها ولا فرع لها صاعد إلى السماء بل ورقها يمتد على الأرض كشجرة البطيخ وثمرها رديء كما أن الكافر وكلمته لا حجة له ولا ثبات فيه ولا خير يأتي منه أصلاً. ولا يصعد(7/111)
له قول طيب ولا عمل صالح وفي الحقيقة تسميتها شجرة مجاز لأن الشجر ما له ساق والنجم ما لا ساق له وهي من النجم فتسميتها شجرة للمشاكلة.
قال ابن عباس: الكلمة الخبيثة الشرك والشجرة الخبيثة الكافر يعني الشرك ليس له أصل يأخذ به الكافر ولا برهان ولا يقبل الله مع الشرك عملاً، وقد روى نحو هذا عن جماعة من التابعين ومن بعدهم.(7/112)
يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ (27)
(يثبت الله) راجع للمثل الأول (الذين آمنوا بالقول الثابت) أي بالحجة الواضحة عندهم وهي الكلمة الطيبة المتقدم ذكرها، وقد ثبت في الصحيح أنها كلمة الشهادة يقولها المؤمن إذا قعد في قبره قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: " فذلك قوله تعالى يثبت الله " الآية (1) وقيل معنى تثبيت الله لهم هو أن يدوموا عليه (في الحياة الدنيا) ويستمروا حتى إذا فتنوا في دينهم لم يزالوا كما ثبت الذين فتنهم أصحاب الأخدود وغير ذلك.
(وفي الآخرة) أي في القبر بتلقين الجواب وتمكين الصواب، قاله الجمهور وقيل يوم القيامة عند البعث والحساب، وقيل المراد بالحياة الدنيا وقت المسألة في القبر وفي الآخرة وقت المسألة يوم القيامة والمراد أنهم إذا سئلوا عن معتقدهم ودينهم أوضحوا ذلك بالقول الثابت من دون تلعثم (2) ولا تردد ولا جهل، كما يقول من لم يوفق لا أدري فيقال له لا دريت ولا تليت.
وأخرج البخاري ومسلم وأهل السنن وغيرهم عن البراء بن عازب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " المسلم إذا سئل في القبر يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله " فذلك قوله (يثبت الله الذين آمنوا) الآية (3)، وعن البراء قال " إذا جاء الملكان إلى الرجل في القبر فقالا من ربك فقال ربي الله، وقالا وما دينك قال ديني الإسلام، وقالا من نبيك قال نبي محمد صلى
_________
(1) النسائي كتاب الجنائز باب 114.
(2) التلعثم، التوقف أهـ، قاموس أهـ منه.
(3) مسلم 2871 - البخاري 725.(7/112)
الله عليه وسلم فذلك التثبيت في الحياة الدنيا " (1) وعن ابن عباس نحوه، وعن أبي سعيد قال في الآخرة القبر، وأخرج ابن مردويه عن عائشة قالت: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم " هذا في القبر ".
وأخرج البزار عنها أيضا قالت: قلت يا رسول الله تبتلى هذه الأمة في قبورها فكيف بي وأنا امرأة ضعيفة؟ قال (يثبت الله الذين آمنوا) الآية.
وعن عثمان بن عفان قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه وقال " استغفروا لأخيكم واسألوا له التثبيت فإنه الآن يسأل " (2) أخرجه أبو داود، وقد وردت أحاديث كثيرة في سؤال الملائكة للميت في قبره وفي جوابه عليهم وفي عذاب القبر وفتنته، وليس هذا موضع بسطها وهي معروفة، نسأل الله التثبيت في القبر وحسن الجواب وتسهيله بفضله إنه على كل شيء قدير وبالإجابة جدير.
(ويضل الله الظالمين) راجع للمثل الثاني، أي يضلهم عن حجتهم التي هي القول الثابت فلا يقدرون على التكلم في قبورهم ولا عند الحساب، كما أضلهم عن اتباع الحق في الدنيا، قيل والمراد بالظالمين هنا الكفرة، وقيل كل من ظلم نفسه ولو بمجرد الإعراض عن البينات الواضحة فإنه لا يثبت في مواقف الفتن ولا يهتدي إلى الحق.
(ويفعل الله ما يشاء) من التثبيت للمؤمنين والخذلان للظالمين لا راد لحكمه ولا اعتراض عليه. قال الفراء: أي لا تنكر له قدرة ولا يسأل عما يفعل والإظهار في محل الإضمار في الموضعين لتربية المهابة.
_________
(1) أبو داود كتاب السنة باب 24 - الترمذي تفسير سورة 14.
(2) أبو داود كتاب الجنائز الباب 69.(7/113)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ (28)
(ألم تر) هذا خطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم أو لكل من يصلح له تعجيباً مما صنع الكفرة من الأباطيل التي لا تكاد تصدر عمن له أدنى(7/113)
إدراك وذلك بتكذيبهم محمداً صلى الله عليه وسلم حين بعثه الله منهم وأنعم عليهم به، وقيل إنهم بدلوا نفس النعمة كفراً.
فالتبديل على الأول تغيير في الوصف والنعمة باقية لكنها موصوفة بالكفران وعلى الثاني تغيير في الذات والنعمة زائلة مبدلة بالكفر، فإنهم لما كفروها سلبت عنهم، فصاروا تاركين لها محصلين للكفر بدلها، ولفظ ابن عباس هم كفار أهل مكة، أخرجه البخاري والنسائي وبه قال جمهور المفسرين.
قيل نزلت في الذين قاتلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر، قال عليّ: هم الفجار من قريش كفيتهم يوم بدر، أخرجه النسائي. وقد روى عنه في تفسير هذه الآية من طرق نحو هذا، وعن عمر بن الخطاب قال: هم الأفجران من قريش بنو المغيرة وبنو أمية، فأما بنو المغيرة فكفيتموهم يوم بدر، وأما بنو أمية فمتعوا إلى حين، وعن عليّ نحوه أيضاً، وعن ابن عباس قال: هم جبلة بن الأيهم والذين اتبعوه من العرب فلحقوا بالروم، أخرجه ابن أبي حاتم وفيه نظر فإن جبلة وأصحابه لم يسلموا إلا في خلافة عمر بن الخطاب؛ وقيل أنها عامة في جميع المشركين.
(وأحلوا) أي أنزلوا (قومهم) بسبب ما زينوه لهم من الكفر (دار البوار) وهي جهنم قيل هم قادة قريش أحلوهم يوم بدر دار الهلاك وهو القتل الذي أصيبوا به والأول أولى لقوله.(7/114)
جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ (29)
(جهنم) فإنه عطف بيان لدار البوار يقال بار الشيء يبور بوراً بالضم هلك وبار الشيء بواراً كسد على الإستعارة لأنه إذا ترك صار غير منتفع به فأشبه الهالك من هذا الوجه (يصلونها) مستأنفة لبيان كيفية حلولهم فيها أي داخلين فيها مقاسين لحرها (وبئس القرار) أي قرارهم فيها أو بئس المقر جهنم فالمخصوص بالذم محذوف.(7/114)
وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (30)
(وجعلوا لله أنداداً) أي أمثالاً وأشباهاً أي شركاء في الربوبية أو في التسمية وهي الأصنام، قال قتادة: يعني أشركوا بالله وليس له تعالى شريك ولا ند ولا شبيه تعالى عن ذلك علواً كبيراً فسَّر بغير قراءة حفص فهي بضم الياء أما هنا ففسرها على الفتح فجعل الأصل قراءة والقراءة أصلاً (ليضلوا) بفتح الياء أنفسهم (عن سبيله) أي عن سبيل الله، اللام للعاقبة بطريق الاستعارة التبعية أي ليتعقب جعلهم لله أنداداً ضلالهم لأن العاقل لا يريد ضلال نفسه.
وحسن استعمال لام العاقبة هنا لأنها تشبه الغرض والغاية من جهة حصولها في آخر المراتب والمشابهة أحد الأمور المصححة للمجاز، وقرئ بضم الياء أي ليوقعوا قومهم في الضلال عن سبيل الله، فهذا هو الغرض من جعلهم لله أنداداً والقراءتان سبعيَّتان، ثم هددهم سبحانه فقال لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم (قل تمتعوا) في الدنيا بما أنتم فيه من الشهوات وما زينته لكم أنفسكم من كفران النعم وإضلال الناس أياماً قلائل.
وفي التهديد بصيغة الأمر إيذان بأن المهدد عليه كالمطلوب لإفضائه إلى المهدد به (فإن مصيركم) أي مردكم ومرجعكم في الآخرة (إلى النار).
ولما كان هذا حالهم وقد صاروا لفرط تهالكهم عليه وإنهماكهم فيه لا يقلعون عنه ولا يقبلون فيه نصح الناصحين، جعل الأمر بمباشرته مكان النهي عن قربانه إيضاحاً لما تكون عليه عاقبتهم وأنهم لا محالة صائرون إلى النار فلا بد لهم من تعاطي الأسباب المقتضية لذلك، فجملة فإن مصيركم إلى النار تعليل للأمر بالتمتع وفيه من التهديد ما لا يقادر قدره، أو المعنى فإن دمتم على ذلك فإن مصيركم إلى النار والأول أولى والنظم القرآني عليه أدل كما يقال لمن سعى في مخالفة السلطان اصنع ما شئت من المخالفة فإن مصيرك إلى السيف.(7/115)
قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ (31) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ (32) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ (33) وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (34)(7/116)
قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ (31)
(قل لعبادي) بثبوت الياء مفتوحة وبحذفها لفظاً لا خطاً، والقراءتان سبعيتان ويجريان في خمس مواضع من القرآن، هذا وقوله في سورة الأنبياء (إن الأرض يرثها عبادي الصالحون) وقوله في العنكبوت (يا عبادي الذين آمنوا) وقوله في سبأ (وقليل من عبادي الشكور) وفي سورة الزمر (قل يا عبادي الذين أسرفوا).
(الذين آمنوا يقيموا الصلاة وينفقوا مما رزقناهم) لما أمره بأن يقول للمبدلين نعمة الله كفراً الجاعلين له أنداداً ما قاله لهم، أمره سبحانه أن يقول للطائفة المقابلة لهم وهي طائفة المؤمنين هذا القول، والمقول محذوف دل عليه المذكور، أي قل لهم أقيموا الصلاة الواجبة، وإقامتها إتمام أركانها، وأنفقوا أي أخرجوا الزكاة المفروضة، وقيل أراد به جميع الإنفاق في جميع وجوه الخير والبر، والحمل على العموم أولى ويدخل فيه الزكاة دخولاً أولياً.
(سراً وعلانية) قال الفراء: أي مسرين ومعلنين أو إنفاق سر وعلانية أو وقت سر وعلانية فالانتصاب على الحال أو المصدر أو الظرف. قال الجمهور السر ما خفي والعلانية ما ظهر، وقيل السر التطوع والعلانية الفرض، وقد تقدم بيان هذا عند تفسير قوله (إن تبدو الصدقات فنعما هي).
(من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلال) قال أبو عبيدة: البيع(7/116)
هاهنا الفداء والخلال المخالة وهو مصدر. قال الواحدي: هذا قول جميع أهل اللغة.
وقال أبو علي الفارسي: جمع خلة مثل قلة وقلال وبرمة وبرام وعلبة وعلاب، والمعنى أن يوم القيامة لا بيع فيه حتى يفتدي المقصر في العمل نفسه من عذاب الله بدفع عوض عن ذلك، وليس هناك مخالة حتى يشفع الخليل لخليله وينقذه من العذاب.
فأمرهم سبحانه بالإنفاق في وجوه الخير مما رزقهم الله سبحانه ما داموا في الحياة الدنيا، قادرين على إنفاق أموالهم من قبل أن يأتي يوم القيامة فإنهم لا يقدرون على ذلك، بل لا مال لهم إذ ذاك، فالجملة لتأكيد مضمون الأمر بالإنفاق مما رزقهم الله، وممكن أن يكون فيها أيضاً تأكيد لمضمون الأمر بإقامة الصلاة، وذلك لأن تركها كثيراً ما يكون بسبب الاشتغال بالبيع ورعاية حقوق الأخلاء.
قيل هذه الآية الدالة على نفي الخلة محمولة على نفيها بسبب ميل الطبيعة وشهوة النفس، والآية الدالة على حصول الخلة وثبوتها كقوله سبحانه في الزخرف (الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين) محمولة على الخلة الحاصلة بسبب محبة الله، ألا تراه أثبتها للمتقين فقط ونفاها عن غيرهم.
وقيل أن ليوم القيامة أحوالاً مختلفة؛ ففي بعضها يشتغل كل خليل عن خليله وفي بعضها يتعاطف الأخلاء بعضهم على بعض إذا كانت تلك المخالة لله تعالى في محبته، وقد تقدم تفسير البيع والخلال.(7/117)
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ (32)
(الله الذي خلق السماوات والأرض) أي أبدعهما واخترعهما على غير مثال سبق وخلق ما فيهما من الأجرام العلوية والسفلية، وإنما بدأ بذكر خلقهما لأنهما أعظم المخلوقات الشاهدة الدالة على وجود الصانع الخالق القادر المختار، ذكر لهذا الموصول سبع صلات تشتمل على عشرة أدلة: على وحدانية الله تعالى وعلمه وقدرته.(7/117)
(وأنزل من السماء ماء) المراد بالسماء هنا جهة العلو فإنه يدخل في ذلك الفلك عند من قال إن ابتداء المطر منه، ويدخل فيه السحاب عند من قال إن ابتداء المطر منها، ويدخل فيه الأسباب التي تثير السحاب كالرياح، قيل أن المطر ينزل من السماء إلى السحاب ومن السحاب إلى الريح، ومن الريح إلى الأرض، وتنكير الماء هنا للنوعية أي نوعاً من أنواع الماء وهو ماء المطر.
(فأخرج به) أي بذلك الماء (من الثمرات) المتنوعة (رزقاً لكم) أي لبني آدم يعيشون به، ومن للبيان كقولك انفقت من الدراهم وقيل للتبعيض لأن الثمرات منها ما هو رزق لبني آدم ومنها ما هو ليس برزق لهم وهو ما لا يأكلونه ولا ينتفعون به، والثمر اسم يقع على ما يحصل من الشجر وقد يقع على الزرع أيضاً كقوله تعالى (كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده) وقيل المراد به ما يشمل المطعوم والملبوس.
(وسخر لكم الفلك) أي السفن الجارية على الماء فجرت على إرادتكم لأجل الانتفاع بها في جلب ذلك الرزق الذي هو الثمرات وغيرها من بلد إلى بلد آخر، فاستعملتموها في مصالحكم، ولذا قال (لتجري في البحر) كما تريدون على ما تطلبون بالركوب والحمل ونحو ذلك (بأمره) أي بأمر الله ومشيئته وإذنه، وقد تقدم تفسير هذا في البقرة.
(وسخر لكم الأنهار) بكل فائدة قاله مجاهد: أي ذللها لكم بالركوب عليها والإجراء لها إلى حيث تريدون، وهو من أعظم نعم الله على عباده.(7/118)
وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ (33)
(وسخر لكم الشمس والقمر) لتنتفعوا بهما وتستضيئوا بضوئهما (دائبين) الدؤوب مرور الشيء في العمل على عادة جارية، والدأب العادة المستمرة دائما على حالة واحدة، ودأب في السير دوام عليه، ودأب في عمله جد وتعب، وبابه قطع وخضع فهو دائب بالألف لا غير، والدائبان الليل والنهار، والدأب بسكون الهمزة العادة والشأن، وقد يحرك.
ومعنى دائبين يجريان دائما في إصلاح ما يصلحانه من النبات والحيوان(7/118)
وإزالة الظلمة لأن الشمس سلطان النهار، وبها يعرف فصول السنة، والقمر سلطان الليل وبه يعرف انقضاء الشهور، وكل ذلك بتسخير الله عز وجل وإنعامه على عباده، وقيل دائبين في السير امتثالاً لأمر الله.
قال ابن عباس: دؤبهما في طاعة الله، والمعنى يجريان إلى يوم القيامة ولا يفتران ولا ينقطع سيرهما في فلكهما، وهو السماء الرابعة للشمس، وسماء الدنيا للقمر إلى آخر الدهر، وهو انقضاء عمر الدنيا وذهابها (وسخر لكم الليل والنهار) يتعاقبان، فالنهار لسعيكم في أمور معاشكم وما تحتاجون إليه من أمور دنياكم، والليل لتسكنوا فيه كما قال سبحانه (ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله) ولم يقتصر على النعم المتقدمة بل.(7/119)
وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (34)
(وآتاكم من كل) نوع وصنف (ما سألتموه) قال الأخفش: أي أعطاكم من المنافع والمرادات ما لا يأتي على بعضها العد والحصر، وقيل المعنى من كل ما سألتم ومن كل ما لم تسألوه قاله ابن الأنباري: لأن نعمه علينا أكثر من أن تحصى؛ وقيل من زائدة وبه قال الأخفش، أي آتاكم كل ما سألتموه، وقيل للتبعيض أي بعض ما سألتموه، وهو رأي سيبويه.
قال عكرمة: أي من كل شيء رغبتم إليه فيه، وعن مجاهد مثله، وعن الحسن من كل الذي سألتموه، وقرئ (من كل) بتنوين، وعلى هذا ما نافية حرفية، أي آتاكم من جميع ذلك حال كونكم غير سائلين له، أو مصدرية أو موصولة اسمية.
(وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها) أي وإن تتعرضوا لتعداد النعم التي أنعم الله تعالى بها عليكم إجمالاً فضلاً عن التفصيل لا تطيقوا إحصاءها بوجه من الوجوه ولا تقوموا بحصرها على حال من الأحوال.
وفي السمين: النعمة هنا بمعنى النعم به، وأصل الإحصاء أن الحاسب إذا بلغ عقداً معيناً من عقود الأعداد وضع حصاة ليحفظه بها.(7/119)
ومن المعلوم أنه لو رام فرد من أفراد العباد أن يحصي ما أنعم الله به عليه في خلق عضو من أعضائه أو حاسة من حواسه لم يقدر على ذلك قط ولا أمكنه أصلاً فكيف بما عدا ذلك من النعم في جميع ما خلقه الله في بدنه فكيف بما عدا ذلك من النعم الواصلة إليه في كل وقت على تنويعها واختلاف أجناسها، اللهم إنا نشكرك على كل نعمة أنعمت بها علينا مما لا يعلمه إلا أنت، ومما علمناه شكراً لا يحيط به حصر ولا يحصره عد، وعدد ما شكرك الشاكرون بكل لسان في كل زمان.
قال سليمان التيمي: إن الله أنعم على العباد على قدره وكلفهم الشكر على قدرهم وعن بكر بن عبد الله المزني قال: يا ابن آدم إن أردت أن تعلم قدر ما أنعم الله عليك فغمض عينيك.
وعن أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه قال: من لم يعرف نعمة الله عليه إلا في مطعمه ومشربه فقد قل علمه وحضر عذابه، وعن أبي أيوب القرشي قال: قال داود عليه السلام: رب أخبرني ما أدنى نعمتك عليَّ؟ فأوحى إليه يا داود فتنفس فتنفس، فقال هذا أدنى نعمتي عليك.
(إن الإنسان لظلوم) لنفسه بإغفاله لشكر نعم الله عليه، وقيل الظلوم الشاكر لغير من أنعم عليه فيضع الشكر في غير موضعه، وظاهره شمول كل إنسان، وقال الزجاج: أن الإنسان اسم جنس يقصد به الكافر خاصة، كما قال إن الإنسان لفي خسر، وقيل يريد أبا جهل والأول أولى.
(كفار) أي شديد كفران نعم الله عليه جاحد لها غير شاكر لله سبحانه عليها كما ينبغي ويجب عليه. عن عمر بن الخطاب قال: اللهم اغفر لي ظلمي وكفري، فقال قائل يا أمير المؤمنين هذا الظلم فما بال الكفر، قال إن الإنسان لظلوم كفار، وقيل ظلوم في الشدة يشكو ويجزع، كفار في النعمة يجمع ويمنع.(7/120)
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ (35) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (36) رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37)(7/121)
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ (35)
(وإذ قال إبراهيم) أي واذكر وقت قوله، ولعل المراد بسياق ما قاله إبراهيم عليه السلام في هذا الموضع بيان كفر قريش بالنعم الخاصة بهم، وهي إسكانهم مكة بعدما بين كفرهم بالنعم العامة. وقيل إن ذكر قصة إبراهيم هاهنا لمثال الكلمة الطيبة، وقيل لقصد الدعاء إلى التوحيد وإنكار عبادة الأصنام. وهذه القصة كانت بعدما وقع له من الإلقاء في النار؛ وفي تلك لم يسأل ولم يدع بل اكتفى بعلم الله بحاله وفي هذه قد دعا وتضرع؛ ومقام الدعاء أجل وأعلى من مقام تركه اكتفاء بعلم الله كما قاله العارفون. فيكون إبراهيم قد ترقى وانتقل من طور إلى طور من أطوار الكمال.
(رب اجعل هذا البلد) أي مكة (آمناً) أي ذا أمن إلى قرب القيامة وخراب الدنيا، وقدَّم طلب الأمن على سائر المطالب المذكورة بعده لأنه إذا انتفى الأمن لم يفرغ الإنسان لشيء آخر من أمور الدنيا والدين، وقد تقدم تفسير مثل هذه الآية في البقرة عند قوله تعالى (رب اجعل هذا بلداً آمنا) والفرق بين ما هنا وما هنالك أن المطلوب هاهنا مجرد الأمن للبلد، والمطلوب هنالك البلدية والأمن.
وفي الجمل فسر الشارح البلد هنا بمكة، وفي سورة البقرة بالمكان فيقتضي أن هذا الدعاء وقع مرتين مرة قبل بنائها ومرة بعده، ولذلك كتب(7/121)
الكرخي هناك ما نصه نكر البلد هنا وعرفه في إبراهيم لأن الدعوة هنا كانت قبل جعل المكان بلداً فطلب من الله أن يجعل ويصير بلداً آمناً وثم كانت بعد جعله بلداً انتهى.
وقال الزمخشري: سأل في الأول أن يجعله من جملة البلاد التي يأمن أهلها ولا يخافون، وفي الثاني أن يخرجه من صفة كان عليها من الخوف إلى ضدها من الأمن كأنه قال هو بلد مخوف فاجعله آمنا انتهى.
قلت والمعاني متقاربة والمراد من الدعاء جعل مكة آمنة من الخراب، وهذا موجود بحمد الله ولم يقدر أحد على تخريبها وأن أغار جماعة من الجبابرة عليها وأخافوا أهلها، وقيل هو عام مخصوص بقصة ذي السويقتين من الحبشة على ما في الصحيحين فلا تعارض بين النصين.
أو المراد جعل أهل هذا البلد آمنين، وهذا الوجه عليه أكثر المفسرين وغيرهم، وهذا الأمن حاصل بحمد الله بمكة وحرمها إلى الآن قال السيوطي: وقد أجاب الله دعاءه فجعله حرماً لا يسفك فيه دم إنسان ولا يظلم فيه أحد ولا يصاد صيده ولا يختلى خلاه.
(واجنبني وبني أن نعبد الأصنام) يقال جنبته كذا وأجنبته أي باعدته عنه ثلاثياً ورباعياً وهي لغة نجد، وجنبه إياه مشدداً وهي لغة الحجاز وهو المنع وأصله من الجانب كأنه سأله أن يبعده عن جانب الشرك بألطاف منه وأسباب خفية والمعنى باعدني وباعد بني عن عبادة الأصنام قيل أراد بنيه من صلبه وكانوا ثمانية، وقيل أراد من كان موجوداً حال دعوته من بنيه وبني بنيه، وقيل أراد جميع ذريته ما تناسلوا.
قيل ويؤيد ذلك ما قيل من أنه لم يعبد أحد من أولاد إبراهيم صنماً، والصنم هو التمثال الذي كانت تصنعه أهل الجاهلية من الأحجار ونحوها(7/122)
فيعبدونه، والتأييد هذا يستقيم على القولين الأولين، وأما القول الثالث فلا يستقيم فقريش من أولاد إسماعيل وقد عبدوا الأصنام بلا شك، وقال الواحدي: المعنى وبني الذين أذنت لي في الدعاء لهم، وقد كان من بنيه من عبد الصنم، فيكون هذا الدعاء من العام المخصوص.
وقيل هذا مختص بالمؤمنين من أولاده بدليل قوله في آخر الآية فمن تبعني فإنه مني وذلك يفيد أن من لم يتبعه على دينه فليس منه، وعن مجاهد قال: فاستجاب الله لإبراهيم دعوته في ولده فلم يعبد أحد من ولده صنماً بعد دعوته، واستجاب الله له وجعل هذا البلد آمناً ورزق أهله الثمرات وجعله إماماً وجعل من ذريته من يقيم الصلاة ويقبل دعاءه فأراه مناسكه وتاب عليه، قيل هو دعاء لنفسه في مقام الخوف أو قصد به الجمع بينه وبين بنيه ليستجاب لهم ببركته والمراد طلب الثبات والدوام على ذلك.(7/123)
رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (36)
(رب إنهن أضللن كثيراً من الناس) أسند الإضلال إلى الأصنام مع كونها جمادات لا تعقل لأنها سبب لضلالهم فكأنها أضلتهم، وهذه الجملة تعليل لدعائه لربه وإعادة النداء لتأكيد النداء وكثرة الابتهال والتضرع وهذا التركيب مجاز كقولهم فتنتهم الدنيا وغرتهم وإنما فتنوا بها واغتروا بسببها.
(ثم قال: (فمن تبعني) أي من تبع ديني من الناس فصار مسلماً موحداً (فإنه مني) أي من أهل ديني جعل أهل ملته كنفسه مبالغة.
(ومن عصاني) فلم يتابعني ولم يدخل في ملتي (فإنك غفور رحيم) قادر على أن تغفر له قيل قال هذا قبل أن يعلم أن الله لا يغفر أن يشرك به كما وقع منه الاستغفار لأبيه وهو مشرك قاله ابن الأنباري، قيل المراد عصيانه هنا فيما دون الشرك قاله مقاتل، وقيل أن هذه المغفرة مقيدة بالتوبة من الشرك، قاله السدي، وقيل تغفر له بأن تنقله من الكفر إلى الإيمان والإسلام وتهديه إلى الصواب والأول أولى:
ثم قال(7/123)
رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37)
(ربنا إني أسكنت من ذريتي) قال الفراء: من للتبعيض أي(7/123)
بعض ذريتي، وقال ابن الأنباري: أنها زائدة أي أسكنت ذريتي والأول أولى لأنه إنما أسكن إسماعيل وهو بعض ولده وأمه هاجر (بواد) هو المنخفض بين الجبلين (غير ذي زرع) أي لا زرع فيه قط وهو وادي مكة أو لا يصلح للإنبات لأنه أرض حجرية لا تنبت شيئاً نفى أن يكون إسكانهم لأجل الزراعة (عند بيتك المحرم) أي الذي كان قبل الطوفان، وأما وقت دعائه فلم يكن، وإنما كان تلاًّ من الرمل، وأما البيت فقد رفع إلى السماء من حين الطوفان ولو جعل التجوز باعتبار ما يؤول لكان صحيحاً أيضاً يعني أنه سيعمره أو بيتك الذي جرى في سابق علمك أنه سيحدث في هذا المكان.
وسمي محرماً لأن الله حرَّم التعرض له والتهاون به وجعل ما حوله حرماً لمكانه أو لأنه حرم على الطوفان أي منع منه كما سمي عتيقاً لأنه أعتق منه، وقيل أنه محرَّم على الجبابرة، وقد تقدم في سورة المائدة ما يغني عن الإعادة.
أخرج الواقدي وابن عساكر من طريق عامر بن سعد عن أبيه قال كانت سارة تحت إبراهيم فمكثت تحته دهراً لا ترزق منا ولداً فلما رأت ذلك وهبت له هاجر، أَمَة لها قبطية فولدت له إسماعيل فغارت من ذلك سارة ووجدت في نفسها وعتبت على هاجر فحلفت أن يقطع منها ثلاثة أطراف فقال لها إبراهيم: هل لك أن تبري يمينك قالت: كيف أصنع قال: اثقبي أذنيها واخفضيها والخفض هو الختان، ففعلت ذلك بها فوضعت هاجر في أذنيها قرطين فازدادت بهما حسناً فقالت سارة: أراني إنما زدتها جمالاً فلم تضارُّه على كونه معها ووجد بها إبراهيم وجداً شديداً فنقلها إلى مكة فكان يزورها في كل يوم من الشام على البراق من شغفه بها وقلة صبره عنها.
ثم قال (ربنا ليقيموا الصلاة) اللام لام كي أي ما أسكنتهم بهذا الوادي الخالي من كل مرتفق ومرتزق إلا لإقامة الصلاة فيه متوجهين إليه متبركين به، وخصها دون سائر العبادات لمزيد فضلها، ولعل تكرير النداء(7/124)
وتوسيطه لإظهار العناية الكاملة بهذه العبادة وللإشعار بأنها المقصودة بالذات من إسكانهم ثَمَّ (1) والمقصود من الدعاء توفيقهم لها، وقيل اللام لام الأمر والمراد الدعاء لهم بإقامة الصلاة كأنه طلب منهم الإقامة وسأل من الله أن يوفقهم لها أثبت أن الإقامة عنده للعبادة وقد نفى كونها للكسب فجاء الحصر.
(فاجعل أفئدة) الأفئدة جمع فؤاد وهو القلب عبر به عن جميع البدن لأنه أشرف عضو فيه، وقيل هو جمع وفد والأصل أوفده فكأنه قال واجعل وفوداً (من الناس تهوي إليهم) من للتبعيض، وقيل زائدة ولا يلزم منه أن يحج اليهود والنصارى لدخولهم تحت لفظ الناس، لأن المطلوب توجيه قلوب الناس إليهم للسكون معهم والجلب إليهم لا توجيهها إلى الحج، ولو كان هذا مراداً لقال تهوي إليه، وقيل من للابتداء كقوله القلب مني سقيم تريد قلبي، ومعنى تهوي إليهم تنزع إليهم؛ وقيل تسرع وتميل وتحن إليهم لزيارة بيتك لا لذواتهم وأعيانهم.
وفي هذا بيان أن حنين الناس إليهم إنما هو لطلب حج البيت لا لأعيانهم، يقال هوى نحوه إذا مال وهوت الناقة تهوي هوياً فهي هاوية إذا عدت عدواً شديداً كأنها تهوي في بئر، ويحتمل أن يكون المعنى تجيء إليهم أو تسرع إليهم وقيل تحن وتطير وتشتاق إليهم، وأصله أن يتعدى باللام وإنما تعدى بإلى لأنه ضمن معنى تميل.
قال السدي: أي أمل قلوبهم إلى هذا الموضع، وقيل تريدهم، قاله الفراء وقيل تنحط إليهم وتنحدر وتنزل، وهذا قول أهل اللغة والمعاني
_________
(1) بفتح الثاء أي هناك.(7/125)
متقاربة، قال ابن عباس: لو قال أفئدة الناس لازدحمت عليه فارس والترك والروم والهند، ولحج اليهود والنصارى والناس كلهم، ولكنه قال (أفئدة من الناس) فخص به المؤمنين أخرجه البيهقي بسند حسن وفيه دعاء للمؤمنين بأن يرزقهم حج البيت ودعاء لسكان مكة من ذريته بأنهم ينتفعون بمن يأتي إليهم من الناس لزيارة البيت فقد جمع إبراهيم في هذا الدعاء من أمر الدين والدنيا ما ظهر بيانه وعمت بركته.
(وارزقهم) أي ذريتي الذين أسكنتهم هنالك أو إياهم ومن يساكنهم من الناس (من) أنواع (الثمرات) التي تنبت فيه كما رزقت سكان القرى ذوات الماء والزرع فيكون المراد عمارة قرى بقرب مكة لتحصل تلك الثمار أو المراد جلب الثمرات إلى مكة بطريق النقل والتجارة لقوله تعالى (تجبى إليه ثمرات كل شيء) وهذا أولى (لعلهم يشكرون) نعمتك التي أنعمت بها عليهم.
قال محمد بن مسلم: إن إبراهيم لما دعا للمحرم نقل الله الطائف من فلسطين، وعن الزهري قال: إن الله نقل قرية من قرى الشام فوضعها بالطائف لدعوة إبراهيم، وأما إجابة قوله فاجعل أفئدة ... الخ فقد حصلت بجرهم، وقد استمر قصد الحجاج والعمار لهذا البيت كل عام إلى آخر الزمان.(7/126)
رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (38) الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ (39) رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ (40) رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ (41) وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ (42)(7/127)
رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (38)
(ربنا إنك تعلم ما نخفي وما نعلن) أي ما نكتمه وما نظهره، لأن الظاهر والمضمر بالنسبة إليه سبحانه سيان لا تفاوت فيهما، قيل والمراد هنا بما نخفي ما يقابل ما نعلن فالمعنى ما نظهره وما لا نظهره، وقدم الإخفاء على الإعلان للدلالة على أنهما مستويان في علم الله سبحانه، وظاهر النظم القرآني عموم كل ما يظهره وما لا يظهره من غير تقييد بشيء معين من ذلك.
وقيل المراد ما يخفيه إبراهيم من وجده بإسماعيل وأمه حيث أسكنهما بواد غير ذي زرع، وما يعلنه من ذلك، وقيل ما يخفيه إبراهيم من الوجد ويعلنه من البكاء والدعاء والمجيء بضمير الجماعة يشعر بأن إبراهيم لم يرد نفسه فقط بل أراد جميع العباد، فكان المعنى أن الله سبحانه يعلم بكل ما يظهره العباد وبكل ما لا يظهرونه.
(وما يخفى على الله من شيء في الأرض ولا في السماء) قال جمهور المفسرين هو من كلام الله سبحانه تصديقاً لما قاله إبراهيم من أنه سبحانه يعلم بما يخفيه العباد وما يعلنونه، فقال سبحانه ما يخفى عليه شيء من الأشياء الموجودة كائناً ما كان، وإنما ذكر السماوات والأرض لأنهما المشاهدتان للعباد، وإلا فعلمه سبحانه محيط بكل ما هو داخل في العالم وكل ما هو خارج عنه لا تخفى عليه خافية قيل ويحتمل أن يكون هذا من قول إبراهيم تحقيقاً لقوله(7/127)
الأول وتعميماً بعد التخصيص، فإن قيل بالأول فهو اعتراض بين كلامي إبراهيم، وإن قيل بالثاني ففيه وضع الظاهر موضع المضمر.
ثم حمد الله سبحانه على بعض نعمه الواصلة إليه فقال(7/128)
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ (39)
(الحمد لله الذي وهب لي على الكبر) أي على كبر سني وسن امرأتي (إسماعيل وإسحاق) قيل ولد له إسماعيل وهو ابن تسع وتسعين سنة وولد له إسحاق وهو ابن مائة واثنتا عشرة سنة وقيل على هنا بمعنى مع أي مع كبري ويأسي عن الولد.
عن سعيد بن جبير قال: بشر إبراهيم بعد سبع عشرة ومائة سنة وهبة الولد في هذا السن من أعظم المنن لأنه سن اليأس فلهذا شكر الله على هذه المنة، وهذا قاله إبراهيم في وقت آخر لا عقيب ما تقدم من الدعاء، لأن الظاهر أنه دعا بذلك الدعاء المتقدم أول ما قدم بهاجر وابنها وهي ترضعه ووضعها عند البيت؛ وإسحاق لم يولد في ذلك الوقت، قال الكرخي: وزمان الدعاء والحمد مختلف، فإن الدعاء في طفولية إسماعيل ولم يكن إسحاق حينئذ.
(إن ربي لسميع الدعاء) أي لمجيب الدعاء من قولهم سمع كلامه إذا إجابه واعتد به وعمل بمقتضاه، وهو من إضافة الصفة المتضمنة للمبالغة إلى المفعول، والمعنى إنك لكثير إجابة الدعاء لمن يدعوك وكان إبراهيم قد دعا ربه فسأله الولد بقوله (رب هب لي من الصالحين) فلما استجاب الله دعاءه قال الحمد لله الخ.
ثم سأل الله سبحانه بأن يجعله مقيم الصلاة محافظاً عليها غير مهمل لشيء منها فقال(7/128)
رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ (40)
(رب اجعلني مقيم الصلاة) أي ممن يقيمها بأركانها ويحافظ عليها في أوقاتها، ثم قال (ومن ذريتي) أي اجعلني واجعل بعض ذريتي مقيمين للصلاة وإنما خص البعض من ذريته لأنه علم أن منهم من لا يقيمها(7/128)
كما ينبغي؛ ثم سأل الله سبحانه أن يتقبل دعاءه على العموم فقال (ربنا وتقبل دعاء) ويدخل في ذلك دعاؤه في هذا المقام دخولاً أولياً قيل والمراد بالدعاء هنا العبادة، فيكون المعنى وتقبل عبادتي التي أعبدك بها.
ثم طلب من الله سبحانه أن يغفر له ما وقع منه مما يستحق أن يغفره الله وإن لم يكن كبيراً لما هو معلوم من عصمة الأنبياء عن الكبائر. فقال التجاء إلى الله وقطعاً للطمع من كل شيء إلا من فضله وكرمه، واعترافاً بالعبودية لله والاتكال على رحمته.(7/129)
رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ (41)
(ربنا اغفر لي ولوالديّ) قيل إنه دعا لهما بالمغفرة قبل أن يعلم أنهما عدوان لله سبحانه وقيل بشرط الإسلام، وقيل كانت أمه مسلمة والأول أولى، وقيل أراد بوالديه آدم وحواء وفيه بعد؛ وقرئ شاذّاً ولولديّ -يعني إسماعيل وإسحاق- وأنكرها الجحدري بأن في مصحف ولأبوي، فهي مفسرة لقراءة العامة.
(وللمؤمنين) ظاهره شمول كل مؤمن سواء كان من ذريته أو لم يكن منهم.
وقيل أراد المؤمنين من ذريته فقط والأول أولى. والله تعالى لا يرد دعاء خليله، ففيه بشارة عظيمة لجميع المؤمنين والمؤمنات بالمغفرة اللهم اغفر لي مغفرة ظاهرة وباطنة لا تغادر ذنباً، وإني من ذرية خليلك إبراهيم فاغفر لي ولمن أخلفه من المؤمنين.
(يوم يقوم الحساب) أي يوم يثبت حساب المكلفين في المحشر، استعير له لفظ يقوم الذي هو حقيقة في قيام الرجل للدلالة على أنه في غاية الاستقامة. وقيل إن المعنى يوم يقوم الناس للحساب، وقيل يبدو ويظهر فيه الحساب والأول أولى.(7/129)
وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ (42)
(ولا تحسبن) بفتح السين وكسرها قراءتان سبعيتان، أي لا تظنن(7/129)
(الله غافلاً عما يعمل الظالمون) خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وهو تعريض لأمته فكأنه قال ولا تحسب أمتك يا محمد، ويجوز أن يكون خطاباً لكل من يصلح له من المكلفين وإن كان الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم من غير تعريض لأمته، فمعناه التثبيت على ما كان عليه من عدم الحسبان كقوله (ولا تكونن من المشركين) ونحوه، وقيل المراد ولا تحسبنه يعاملهم معاملة الغافل عما يعملون، ولكن معاملة الرقيب عليهم؛ أو يكون المراد بالنهي عن الحسبان الإيذان بأنه عالم بذلك لا تخفى عليه منه خافية.
قال ميمون بن مهران في الآية: هي تعزية للمظلوم ووعيد للظالم، وعن سفيان بن عيينة نحوه، والغفلة معنى يمنع الإنسان من الوقوف على حقائق الأمور، وقيل حقيقة الغفلة سهو يعتري الإنسان من قلة التحفظ والتيقظ؛ وفيه تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وإعلام للمشركين بأن تأخير العذاب عنهم ليس للرضا بأفعالهم بل سنة الله سبحانه في إمهال العصاة.
(إنما يؤخرهم) أي يؤخر جزاءهم وعذابهم ولا يؤاخذهم بظلمهم، وهذه الجملة استئناف وقع تعليلاً للنهي السابق (ليوم) أي لأجل يوم فاللام للعلة وقيل بمعنى إلى التي للغاية (تشخص فيه الأبصار) أي أبصارهم فلا تقر في أماكنها، قال الفراء: المعنى ترفع فيه أبصار أهل الموقف ولا تغمض من هول ما تراه في ذلك اليوم.
شخوص البصر حدة النظر وعدم استقراره في مكانه، يقال شخص سمعه وبصره وأشخصهما صاحبهما وشخص بصره أي لم يطرف جفنه، ويقال شخص من بلده أي بعد، والشخص سواد الإنسان المرئي من بعيد، والمراد أن الأبصار بقيت مفتوحة لا تتحرك من شدة الحيرة والدهشة. قال قتادة: شخصت فيه والله أبصارهم فلا ترتد إليهم، قيل أل للعهد وقيل لو حمل على العموم كان أبلغ في التهويل وأسلم من التكرير.(7/130)
مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ (43) وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ (44) وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ (45) وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ (46) فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (47)(7/131)
مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ (43)
(مهطعين) أي مسرعين قاله قتادة وزاد في الجمل إلى الداعي وهو إسرافيل وقيل هو جبريل والنافخ إسرافيل. قال الشهاب: وهو الأصح كما دلت عليه الآثار وقيل المهطع الذي يديم النظر. قاله مجاهد.
قال أبو عبيدة: قد يكون الوجهان جميعاً، يعني الإسراع مع إدامة النظر، وقيل المهطع الذي لا يرفع رأسه وقال ثعلب: المهطع الذي ينظر في ذل وخضوع وقيل هو الساكت، قال النحاس: والمعروف في اللغة أهطع إذا أسرع، وبه قال أبو عبيدة، قال ابن عباس: يعني بالإهطاع النظر من غير أن يطرف.
(مقنعي رؤوسهم) اقناع الرأس رفعه، واقنع صوته إذا رفعه، وقال ابن عباس: الإقناع رفع الرأس، والمعنى أنهم يومئذ رافعون رؤوسهم إلى السماء ينظرون إليها نظر فزع وذل ولا ينظر بعضهم إلى بعض، وقيل أن إقناع الرأس نكسة، وقيل يقال أقنع إذا رفع رأسه وأقنع رأسه إذا طأطأه ذلة وخضوعاً، والآية محتملة للوجهين، قال المبرد: والقول الأول أعرف في اللغة.(7/131)
(لا يرتد إليهم طرفهم) أي لا ترجع إليهم أبصارهم من شدة الخوف، وأصل الطرف تحريك الأجفان، وسميت العين طرفاً لأنه يكون لها، وقال ابن عباس: يعني شاخصة أبصارهم قد شغلهم ما بين أيديهم (وأفئدتهم هواء) الهواء في اللغة الجوف الخالي الذي لم تشغله الإجرام، والمعنى أن قلوبهم خالية عن العقل والفهم لما شاهدوا من الفزع والحيرة والدهش وجعلها نفس الهواء مبالغة ومنه قيل للأحمق والجبان قلبه هواء أي لا رأي فيه ولا قوة.
وقيل معنى الآية أنها خرجت قلوبهم عن مواضعها فصارت في الحناجر لا تخرج من أفواههم ولا تعود إلى أماكنها، وقيل هواء بمعنى مترددة تهوي في أجوافهم ليس لها مكان تستقر فيه، وقيل المعنى أن أفئدة الكفار في الدنيا خالية عن الخير. قال ابن عباس: ليس فيها شيء من الخير فهي كالخربة، قال قتادة: ليس فيها شيء خرجت من صدورهم فنشبت في حلوقهم، وعن مرة قال: منخرقة لا تعي شيئاً، وقيل المعنى وأفئدتهم ذات هواء.
ومما يقارب معنى هذه الآية قوله تعالى (وأصبح فؤاد أم موسى فارغاً) أي خالياً من كل شيء إلا من همّ موسى عليه السلام، والحاصل أن القلوب يومئذ زائلة عن أماكنها والأبصار شاخصة والرؤوس مرفوعة إلى السماء من هول ذلك اليوم وشدته.(7/132)
وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ (44)
(وأنذر الناس) هذا رجوع إلى خطاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره الله سبحانه بأن ينذرهم، والمراد الناس على العموم، وقيل المراد كفار مكة وقيل الكفار على العموم والأول أولى لأن الإنذار كما يكون للكافر يكون أيضاً للمسلم، ومنه قوله تعالى (إنما تنذر من اتبع الذكر).
(يوم يأتيهم العذاب) أي يوم القيامة، قاله مجاهد، أي خوفهم يوم إتيان العذاب، وإنما اقتصر على ذكر إتيان العذاب فيه مع كونه يوم إتيان(7/132)
الثواب أيضاً لأن المقام مقام تهديد، وقيل المراد به يوم موتهم فإنه أول أوقات إتيان العذاب، وقيل المراد يوم هلاكهم بالعذاب العاجل.
(فيقول الذين ظلموا) المراد بهم هنا هم الناس، أي فيقولون، والعدول إلى الإظهار مكان الإضمار للإشعار بأن الظلم هو العلة فيما نزل بهم. هذا إذا كان المراد بالناس هم الكفار، وعلى تقدير كون المراد بهم من يعم المسلمين فالمعنى فيقول الذين ظلموا منهم وهم الكفار (ربنا أخرنا) أي أمهلنا (إلى أجل قريب) أي أمد من الزمان معلوم غير بعيد (نجب دعوتك) لعبادك على ألسن أنبيائك إلى توحيدك.
(ونتبع الرسل) المرسلين منك إلينا فنعمل بما بلغوه إلينا من شرائعك ونتدارك ما فرط منا من الإهمال، وإنما جمع الرسل لأن دعوتهم إلى التوحيد متفقة فاتباع واحد منهم اتباع لجميعهم، وهذا منهم سؤال للرجوع إلى الدنيا لما ظهر لهم الحق في الآخرة (ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه).
ثم حكى الله سبحانه ما يجاب به عنهم عند أن يقولوا هذه المقالة فقال (أولم تكونوا أقسمتم من قبل ما لكم من زوال) أي فيقال لهم هذا القول توبيخاً وتقريعاً من قبل الله أو الملائكة والاستفهام تقريري.
قال ابن عباس: من زوال عما أنتم فيه إلى ما تقولون، وقال السدي: بعث بعد الموت، أي ألم تكونوا أقسمتم من قبل هذا اليوم ما لكم من زوال من دار الدنيا، وقيل أنه لا قسم منهم حقيقة وإنما كان لسان حالهم ذلك لاستغراقهم في الشهوات وإخلادهم إلى الحياة الدنيا.
وقيل قسمهم هذا هو ما حكاه الله عنهم في قوله (وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت) وجواب القسم (ما لكم من زوال) وإنما جاء بلفظ الخطاب في ما لكم لمراعاة أقسمتم، ولولا ذلك لقال ما لنا من زوال.(7/133)
وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ (45)
(وسكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم) أي استقررتم، يقال سكن الدار وسكن فيها، وهي بلاد ثمود ونحوهم من الكفار الذين ظلموا أنفسهم بالكفر بالله والعصيان له.
وقال الحسن: عملتم بمثل أعمالهم (وتبين لكم) بمشاهدة الآثار وتواتر الأخبار (كيف فعلنا بهم) من العقوبة والعذاب الشديد بما فعلوا من الذنوب وكيف منصوب بما بعده من الفعل، وليس الجملة فاعلاً لتبين كما قاله بعض الكوفيين بل فاعله ما دلت هي عليه دلالة واضحة، أي فعلنا العجيب بهم، وقيل فاعله مضمر لدلالة الكلام عليه، أي حالهم وخبرهم وهلاكهم (وضربنا لكم الأمثال) في كتب الله وعلى ألسن رسله ايضاحاً لكم وتقريراً وتكميلاً للحجة عليكم(7/134)
وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ (46)
(وقد مكروا) أي فعلنا بهم ما فعلنا، والحال أنهم قد مكروا في رد الحق وإثبات الباطل.
(مكرهم) العظيم الذي استفرغوا فيه وسعهم، وقيل المراد كفار قريش الذين مكروا برسول الله صلى الله عليه وسلم حين هموا بقتله ونفيه كما ذكر في سورة الأنفال والأول أولى.
(وعند الله مكرهم) أي علمه أو جزاؤه أو مكتوب مكرهم فهو مجازيهم أو عند الله مكرهم الذي يمكرهم به، على أن يكون المكر مضافاً إلى المفعول.
وقيل المراد ما وقع من النمرود حيث حاول الصعود إلى السماء فاتخذ لنفسه تابوتاً وربط قوائمه بأربعة نسور، وروي عن عليّ بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه بأطول من هنا، وروي نحو هذه القصة لبختنصر وللنمرود من طرق ذكرها في الدر المنثور، واستبعدها بعض أهل العلم، وقال إن الخطر فيه عظيم، ولا يكاد عاقل أن يقدم على مثل هذا الأمر العظيم الذي ذكروه وليس فيه خبر صحيح يعتمد عليه، ولا مناسبة لهذه القصة بتأويل الآية البتة.
(وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال) وقرئ كاد موضع كان وقرئ(7/134)
لتزول بفتح اللام على أنها لام الابتداء، وقرأ الجمهور بكسرها على أنها لام الجحود، قال ابن جرير: والمختارة هي الأخيرة وإن هي الخفيفة من الثقيلة واللام هي الفارقة وزوال الجبال مثل لعظم مكرهم وشدته أي وأن الشأن كان مكرهم معداً لذلك.
قال الزجاج: وإن كان مكرهم يبلغ في الكيد إلى إزالة الجبال، فإن الله ينصر دينه، وعلى قراءة الجمهور يحتمل وجهين:
أحدهما: أن تكون إن هي المخففة من الثقيلة والمعنى كما مر.
والثاني: أن تكون نافية واللام المكسورة لتأكيد النفي كقوله: (وما كان الله ليضيع إيمانكم) والمعنى ومحال أن تزول الجبال بمكرهم على أن الجبال مثل لآيات الله وشرائعه الثابتة على حالها مدى الدهور المشبهة بها في القرار والبقاء، وقال ابن عباس: مكرهم شركهم والمراد بالجبال هنا قيل حقيقتها، وقيل المراد بالمكر كفرهم، ويناسبه (تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هداً).(7/135)
فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (47)
(فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله) المعنى مخلف رسله وعده، قال القتيبي: هو من المقدم الذي يوضحه التأخير، والمؤخر الذي يوضحه التقديم، وسواء في ذلك مخلف وعده رسله ومخلف رسله وعده، وقال الزمخشري: قدم الوعد ليعلم أنه لا يخلف الوعد أصلاً كقوله (إن الله لا يخلف الميعاد) ثم قال (رسله) ليؤذن أنه إذا لم يخلف وعده أحداً وليس من شأنه إخلاف المواعيد فكيف يخلفه رسله الذين هم خيرته وصفوته، والمراد بالوعد هنا هو ما وعدهم سبحانه بقوله (إنا لننصر رسلنا) وكتب الله لأغلبن أنا ورسلي.
(إن الله عزيز) غالب لا يغالبه أحد (ذو انتقام) ينتقم من أعدائه لأوليائه والجملة تعليل للنهي، وقد مر تفسيره في أول آل عمران، قال قتادة: عزيز والله في أمره يملي وكيده متين ثم إذا انتقم انتقم بقدرة.(7/135)
يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (48) وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (49) سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ (50) لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (51) هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (52)
(يوم) أي اذكر وارتقب يوم(7/136)
يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (48)
(تبدل الأرض) المشاهدة (غير الأرض) والتبديل قد يكون في الذات كما في بدلت الدراهم بالدنانير وقد يكون في الصفات كما في بدلت الحلقة خاتماً، والآية تحتمل الأمرين وبالثاني قال الأكثر (والسماوات) أي وتبدل السماوات غير السماوات لدلالة ما قبله عليه على الاختلاف الذي مر، وتقديم تبديل الأرض لقربانها ولكون تبديلها أعظم أثراً بالنسبة إلينا.
أخرج مسلم وغيره من حديث ثوبان قال جاء رجل من اليهود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أين يكون الناس يوم تبدل الأرض غير الأرض؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " في الظلمة دون الجسر " (1).
وأخرج مسلم أيضا وغيره من حديث عائشة قالت: أنا أول من سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية، قلت: أين الناس يومئذ قال: " على الصراط " (2) والصحيح على هذا إزالة عين هذه الأرض.
وأخرج البزار وابن المنذر والطبراني في الأوسط، والبيهقي وابن عساكر وابن مردويه عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قول الله (يوم تبدل الأرض غير الأرض) قال: " أرض بيضاء كأنها فضة لم
_________
(1) مسلم 315.
(2) مسلم 2791.(7/136)
يسفك فيها دم حرام ولم يعمل بها خطيئة " قال البيهقي: والموقوف أصح، وفي الباب روايات، وقد روي نحو ذلك عن جماعة من الصحابة.
وثبت في الصحيحين من حديث سهل بن سعد قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " يحشر الناس يوم القيامة على أرض بيضاء عفراء كقرصة نقى " (1) وفيهما أيضاً عن حديث أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " تكون الأرض يوم القيامة خبزة واحدة يتكفؤها الجبار بيده " (2) الحديث.
وقد أطال القرطبي في بيان ذلك في تفسيره وفي تذكرته، وحاصله أن هذه الأحاديث نص في أن الأرض والسماوات تبدل وتزال ويخلق الله أرضاً أخرى تكون عليها الناس بعد كونهم على الجسر، وهو الصراط لا كما قال كثير من الناس إن تبديل الأرض عبارة عن تغيير صفاتها وتسوية آكامها ونسف جبالها ومد أرضها.
ثم قال وذكر شبيب بن إبراهيم في كتاب الإفصاح أنه لا تعارض بين هذه الآثار، وأنهما تبدلان كرتين: أحداهما هذه الأولى قبل نفخة الصعق، والثانية إذا وقفوا في المحشر، وهي أرض عفراء من فضة لم يسفك عليها دم حرام ولا جرى عليها ظلم ويقوم الناس على الصراط على متن جهنم، ثم ذكر في موضع آخر من التذكرة ما يقتضي إن الخلائق وقت تبديل الأرض تكون في أيدي الملائكة رافعين لهم عنها.
قال في الجمل: فتحصل من مجموع كلامه إن تبديل هذه الأرض بأرض
_________
(1) مسلم 2790 - البخاري 2499.
(2) مسلم 2792 - البخاري 2448.(7/137)
أخرى من فضة يكون قبل الصراط وتكون الخلائق إذ ذاك مرفوعة في أيدي الملائكة وأن تبديل الأرض بأرض من خبز يكون بعد الصراط وتكون الخلائق إذ ذاك على الصراط، وهذه الأرض خاصة بالمؤمنين عند دخولهم الجنة.
(وبرزوا) أي العباد أو الظالمون كما يفيده السياق أي ظهروا من قبورهم ليستوفوا جزاء أعمالهم وهذه هي علة الخروج أو ظهر من أعمالهم ما كانوا يكتمونه، والتعبير عن المستقبل بالماضي للتنبيه على تحقق وقوعه كما في قوله ونفخ في الصور (لله الواحد القهار) المنفرد بالألوهية الكثير القهر لمن عانده.(7/138)
وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (49)
(وترى) التعبير بالمضارع لاستحضار الصورة (المجرمين) أي المشركين (يومئذ) أي يوم القيامة (مقرنين) أي مشدودين (في الأصفاد) إما بجعل بعضهم مقروناً مع بعض، قاله ابن قتيبة أي بحسب مشاركتهم في العقائد والأعمال كقوله (وإذا النفوس زوجت) أو قرنوا مع الشياطين كما في قوله نقيض له شيطاناً فهو له قرين أو مع ما اكتسبوا كن العقائد الزائغة والملكات الباطلة أو جعلت أيديهم مقرونة إلى أرجلهم، قاله ابن زيد.
والمقرن من جمع في القرن وهو الحبل الذي يربط به والأصفاد الأغلال والقيود قاله قتادة، يقال صفدته صفداً أي قيدته، والاسم الصفد بفتحتين فإذا أردت التكثير قلت صفدته، ويقال صفدته وأصفدته إذا أعطيته، قال ابن عباس: الكبول، وعنه يقول في وثاق، قال سعيد بن جبير: السلاسل.(7/138)
سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ (50)
(سرابيلهم) هي القمص، قاله السدي. وعن ابن زيد مثله واحِدُها سربال يقال سربلته أي ألبسته السربال (من قطران) هو قطران الإبل الذي تهنأ به قاله الحسن، أي قمصناهم من قطران تطلى به جلودهم حتى يعود ذلك الطلاء كالسرابيل، وخص القطران لسرعة اشتعال النار فيه ولذعه مع نتن(7/138)
رائحته ووحشة لونه، وقال جماعة هو النحاس المذاب، وبه قال عمر وابن عباس.
قال عكرمة: هذا القطران يطلى به حتى يشتعل ناراً، وقال سعيد بن جبير: القطر الصفر، والآن الحار وعن عكرمة نحوه، والقطران فيه لغات بفتح القاف وكسر الطاء وهي قراءة العامة وبزنة سكران وبزنة سرحان وهو ما يستخرج من شجر فيطبخ ويطلى به الإبل ليذهب جربها لحدته.
وقيل هو دهن ينحلب من شجر الأبهل والعرعر والتوت كالزفت تدهن به الإبل إذا جربت وهو الهناء، ولو أراد الله المبالغة في إحراقهم بغير ذلك لقدر ولكنه حذرهم بما يعرفون.
وأخرج مسلم وغيره عن أبي مالك الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " النائحة إذا لم تتب قبل موتها تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جرب " (1).
(وتغشى) أي تعلو (وجوههم النار) وتضربها وتخللها وقلوبهم أيضاً، وخص الوجوه لأنها أشرف ما في البدن وفيها الحواس المدركة.
_________
(1) مسلم، 934.(7/139)
لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (51)
(ليجزي) أي يفعل ذلك بهم ليجزي (الله) متعلق ببرزوا والجمل التي بينهما اعتراض كما في السمين (كل نفس ما كسبت) من المعاصي أي جزاء موافقاً لما كسبت من خير أو شر (إن الله سريع الحساب) لا يشغله عنه شيء ولا حساب عن حساب، بل يحاسب جميع الخلق في قدر نصف نهار من أيام الدنيا لحديث بذلك وقد تقدم تفسيره.(7/139)
هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (52)
(هذا بلاغ) أي هذا الذي أنزل إليك تبليغ وكفاية في الموعظة والتذكير ومبلغ وموصل للناس إلى مراتب السعادة، قيل أن الإشارة إلى ما ذكره سبحانه هنا من قوله (ولا تحسبن الله غافلاً) إلى (سريع الحساب) أي هذا فيه كفاية من غير ما انطوت عليه السورة، وقيل الإشارة إلى جميع السورة، وقيل إلى القرآن وبه قال ابن زيد، وفيه من المحسنات رد العجز على الصدر فقد افتتحت هذه السورة بقوله (كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور).
(للناس) أي للكفار أو لجميع الناس على ما قيل في قوله وأنذر الناس، أي أنزل لتبليغهم إلى ما فيه رشدهم ونفعهم أي لإيصالهم إلى الخير (ولينذروا به) أي بالقرآن، قاله ابن زيد، وقرئ بفتح التحتية والذال المعجمة، يقال نذرت بالشيء أنذر إذا علمت به واستعددت له.
(وليعلموا) بالأدلة التكوينية المذكورة سابقاً أو بالقرآن بما فيه من الحجج (إنما هو إله واحد) لا شريك له (وليذكر أولوا الألباب) أي وليتعظ أصحاب العقول السليمة والأفهام الصحيحة.
وهذه اللامات متعلقة بمحذوف، والتقدير وكذلك أنزلنا أو متعلقة بالبلاغ المذكور أي كفاية لهم في أن ينصحوا وينذروا ويعلموا بما أقام الله من الحجج والبراهين وحدانيته سبحانه، وأنه لا شريك له، وليتعظ بذلك أرباب العقول التي تعقل وتدرك.(7/140)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الحجر
مكيّة بالاتفاق والإجماع كما قال القرطبي، وعن ابن عباس وابن الزبير مثله، وهي تسع وتسعون آية، والحجر واد بين المدينة والشام.(7/141)
بسم الله الرحمن الرحيم
الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (1) رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ (2) ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (3) وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ (4) مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (5) وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6) لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (7) مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ (8) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)(7/143)
الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (1)
(الر) قد تقدم الكلام عليه في محله مستوفى مراراً (تلك) أي ما تضمنته السورة من الآيات (آيات الكتاب) التعريف للتفخيم وقيل هو للجنس، والمراد جنس الكتب المنزلة المتقدمة. قال مجاهد: يعني التوراة والإنجيل، وقيل المراد به هذه السورة والإضافة بمعنى من وقيل المراد القرآن، ولا يقدح في هذا ذكر القرآن بعد الكتاب فقد قيل إنه جمع له بين الاسمين عطفاً للتغاير اللفظي لأجل التعدد في الاسم بزيادة صفة.
(وقرآن مبين) أي الكامل الظاهر رشده وهداه وخيره وتنكير القرآن للتفخيم(7/143)
رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ (2)
(ربما يود الذين كفروا) قرئ ربما بالتخفيف والتشديد، وهما لغتان. قال أبو حاتم: أهل الحجاز يخففون وتميم وربيعة يثقلون، وأصلها أن تستعمل في القليل وقد تستعمل في الكثير.
قال الكوفيون: أي يود الكفار في أوقات كثيرة، وقيل هي هنا للتقليل لأنهم ودوا ذلك في بعض المواضع لا في كلها لشغلهم بالعذاب، وقيل إن هذا التقليل أبلغ في التهديد فإن الأهوال تدهشهم فلا يفيقون حتى يتمنوا ذلك إلا في أحيان قليلة. وقيل معناه يكفيك قليل الندم في كونه زاجراً لك عن الفعل؛ فكيف بكثيره.(7/143)
قيل وما هنا لحقت رب لتهيأ للدخول على الفعل وقيل نكرة بمعنى شيء وإنما دخلت رب هنا على المستقبل مع كونها لا تدخل إلا على الماضي لأن المترقب في أخباره سبحانه كالواقع المتحقق، فكأنه قيل ربما ود الذين كفروا بهذا الكتاب والقرآن، فهذا مرتبط بما قبله.
(لو كانوا مسلمين) أي منقادين لحكمه مذعنين له من جملة أهله، وكانت هذه الودادة منهم عند موتهم أو يوم القيامة، والمراد أنه لما انكشف لهم الأمر واتضح بطلان ما كانوا عليه من الكفر، وأن الدين عند الله سبحانه هو الإسلام لا دين غيره، حصلت منهم هذه الودادة التي لا تسمن ولا تغني من جوع بل هي لمجرد التحسر والتندم ولوم النفس على ما فرطت في جنب الله.
وقيل كانت هذه الودادة منهم عند معاينة حالهم وحال المسلمين، وقيل عند خروج عصاة الموحدين من النار، والظاهر أن هذه الودادة كائنة منهم في كل وقت مستمرة في كل لحظة بعد انكشاف الأمر لهم، ولو مصدرية أو امتناعية وجوابها محذوف أي لسروا بذلك أو تخلصوا مما هم فيه والأول أولى.
والتعبير عن متمناهم بالغيبة نظراً للإخبار عنهم، ولو نظر لصدوره منهم لقيل لو كنا.
عن ابن عباس وابن مسعود وناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: ود المشركون يوم بدر حين ضربت أعناقهم فعرضوا على النار أنهم كانوا مؤمنين بمحمد صلى الله عليه وسلم. وعن ابن مسعود قال: هذا في الجهنمين إذا رأوهم يخرجون من النار.
وعن ابن عباس قال: لا يزال الله يشفع ويدخل ويشفع ويرحم حتى يقول: من كان مسلماً فليدخل الجنة، فذلك قوله ربما يود الذين كفروا.(7/144)
وعن ابن عباس وأنس أنهما تذاكرا هذه الآية فقالا: حيث يجمع الله من أهل الخطايا من المشركين والمسلمين في النار، فيقول المشركون ما أغنى عنكم ما كنتم تعبدون، فيغضب الله لهم فيخرجهم بفضله ورحمته، أخرجه البيهقي في البعث وابن المبارك في الزهد.
وأخرج الطبراني في الأوسط بسند قال السيوطي صحيح عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " إن ناساً من أمتي يعذبون بذنوبهم فيكونون في النار ما شاء الله أن يكونوا ثم يعيرهم أهل الشرك فيقولون ما نرى ما كنتم فيه من تصديقكم نفعكم، فلا يبقى أحد إلا أخرجه الله من النار. ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية " وفي الباب أحاديث مرفوعة عن جمع من الصحابة في تعيين هذا السبب في نزول هذه الآية.(7/145)
ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (3)
(ذرهم يأكلوا ويتمتعوا) هذا تهديد لهم أي خل هؤلاء الكفرة ودعهم عما أنت بصدده من الأمر لهم والنهي فهم لا يرعوون أبداً ولا يخرجون من باطل: ولا يدخلون في حق بل مرهم بما هم فيه من الاشتغال بالأكل والتمتع بزهرة الحياة الدنيا من إلهاء العمل لهم عن اتباعك فإنهم كالأنعام التي لا تهتم إلا بذلك ولا تشتغل بغيره وهذا الأمر لا يستعمل له ماض إلا قليلا استغناء عنه بترك بل يستعمل منه المضارع نحو ونذرهم في طغيانهم، ومن مجيء الماضي قوله صلى الله عليه وسلم: " ذروا الحبشة ما وذرتكم " وترك ووذر يكونان بمعنى صير أي ذرهم مهملين أي أترك كفار مكة والعموم أولى.
(ويلههم الأمل) أي يشغلهم طول الأمل والعمر وبلوغ الوطر واستقامة الحال عن الإيمان والأخذ بطاعة الله تعالى، يقال ألهاه كذا أي شغله ولهى هو(7/145)
عن الشيء يلهي والمعنى يشغلهم الأمل عن اتباع الحق، وما زالوا في الآمال الفارغة والتمنيات الباطلة حتى أسفر الصبح لذى عينين وانكشف الأمر، ورأوا العذاب يوم القيامة فعند ذلك يذوقون ما صنعوا وأكثر ما يستعمل الأمل فيما يستبعد حصوله والأفعال الثلاثة مجزومة على أنها جواب الأمر، وهذه الآية منسوخة بآية السيف.
(فسوف يعلمون) عاقبة أمرهم وسوء صنيعهم، وفيه من التهديد والزجر ما لا يقادر قدره وفيه تنبيه على أن إيثار التلذذ والتنعم وما يؤدي إليه طول الأمل ليس من أخلاق المؤمنين، قال بعض أهل العلم ذرهم تهديد، وفسوف يعلمون تهديد آخر فمتى يهنأ العيش بين تهديدين.
قال عليّ بن أبي طالب: إنما أخشى عليكم اثنتين طول الأمل واتباع الهوى فإن الأول ينسي الآخرة والثاني يصد عن الحق.(7/146)
وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ (4)
(وما أهلكنا من قرية) من القرى بنوع من أنواع العذاب في حال من الأحوال (إلا ولها) أي ولتلك القرية (كتاب معلوم) أي أجل مؤقت مقدر لهلاكها لا تتقدم عليه ولا تتأخر عنه معلوم غير مجهول ولا منسي، فلا يتصور التخلف عنه بوجه من الوجوه والواو فيها أوجه:
أحدها: وهو الظاهر أنها واو الحال.
والثاني: أنها مزيدة.
الثالث: أنها داخلة على الجملة الواقعة صفية تأكيداً، وبه قال الزمخشري.(7/146)
مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (5)
(ما تسبق من أمة) من الأمم (أجلها) المضروب لها المكتوب في اللوح المحفوظ والمعنى أنه لا يأتي هلاكها قبل مجيء أجلها قيل من زائدة، وقيل على(7/146)
بابها لأنها تفيد التبعيض في هذا الحكم فيكون ذلك في إفادة عموم النفي آكد (وما يستأخرون) عنه، والسين زائدة فيكون مجيء هلاكهم بعد مضي الأجل المضروب له.
وإيراد الفعل على صيغة جمع المذكر للحمل على المعنى مع التغليب ولرعاية الفواصل ولذلك حذف الحار والمجرور، والجملة مبينة لما قبلها فكأنه قيل إن هذا الإمهال لا ينبغي أن يغتر به العقلاء فإن لكل أمة وقتا معيناً في نزول العذاب لا يتقدم ولا يتأخر، وقال الزهري: نرى أنه إذا حضره أجله فإنه لا يؤخر ساعة ولا يقدم، وأما ما لم يحضر أجله فإن الله يؤخر ما يشاء ويقدم ما يشاء.
قلت وكلام الزهري هذا لا حاصل له ولا مفاد فيه، وقد تقدم تفسير الأجل في أول سورة الأنعام.
ثم لما فرغ من تهديد الكفار شرع في بيان بعض عتوهم في الكفر وتماديهم في الغيّ مع تضمنه لبيان كفرهم بمن أنزل عليه الكتاب بعد بيان كفرهم بالكتاب فقال:(7/147)
وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6)
(وقالوا يا أيها الذي نزل عليه الذكر) أي قال كفار مكة مخاطبين لرسول الله صلى الله عليه وسلم ومتهكمين به حيث أثبتوا له إنزال الذكر عليه مع إنكارهم لذلك في الواقع أشد إنكار ونفيهم له أبلغ نفي (إنك) بسبب هذه الدعوى التي تدعيها من كونك رسولاً لله مأموراً بتبليغ أحكامه (لمجنون) فإنه لا يدعي مثل هذه الدعوى العظيمة عندهم من كان عاقلاً فقولهم هذا لمحمد صلى الله عليه وسلم هو كقول فرعون إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون.(7/147)
لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (7)
(لو ما) حرف تحضيض مركب من لو المفيدة للتمني (ومن ما) المزيدة(7/147)
فأفاد المجموع الحث على الفعل الداخلة هي عليه، قال الفراء: الميم في لو ما بدل من اللام في لولا، وقال الكسائي لولا ولو ما سواء في الخبر والاستفهام، قال النحاس: لوما ولولا وهلا واحد والمعنى هلا.
(تأتينا بالملائكة) ليشهدوا على صدقك، وقيل المعنى لوما تأتينا بالملائكة فيعاقبونا على تكذيبنا لك (إن كنت من الصادقين) في قولك وادعائك الرسالة والحاصل أنهم قالوا مقالتين تعنتا، الأولى يا أيها الذي إلخ، والثانية لو ما تأتينا فقال الله سبحانه مجيباً على الكفار لما طلبوا إتيان الملائكة إليهم وراداً عليهم المقالتين على سبيل اللف والنشر المشوش.(7/148)
مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ (8)
(ما ننزل) نحن الملائكة (إلا) تنزيلاً متلبساً (بالحق) الذي يحق عنده تنزيلنا لهم فيما تقتضيه الحكمة الإلهية والمشيئة الربانية، وليس هذا الذي اقترحتموه مما يحق عنده تنزيل الملائكة، وهذا رد للثانية وقرئ من الإنزال، وقيل معنى بالحق بالرسالة، وقيل بالقرآن وقيل بالعذاب قاله مجاهد، وقيل وقت الموت.
(وما كانوا إذاً منظرين) قال السدي: أي وما كانوا لو نزلت الملائكة منظرين من أن يعذبوا فالجملة المذكورة جزاء للجملة الشرطية المحذوفة.
قال صاحب النظم إذن مركبة من إذ وإن وهي اسم بمنزلة حين ثم ضم إليها أن فصار إذ أن ثم استثقلوا الهمزة فحذفوها فصار إذن، ومجيء لفظة إن دليل على إضمار فعل بعدما، والتقدير وما كانوا إذ كان ما طلبوا.
ثم أنكر سبحانه على الكفار استهزاءهم برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقولهم المذكور فقال سبحانه(7/148)
إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)
(إنا نحن نزلنا الذكر) الذي أنكروه ونسبوك بسببه إلى الجنون وهو القرآن واعتقدوا أنه مختلق من عندك.(7/148)
(وإنا له لحافظون) عن كل ما لا يليق به من تصحيف وتحريف وزيادة ونقصان ونحو ذلك، فالقرآن العظيم محفوظ من هذه الأشياء كلها لا يقدر واحد من جميع الخلق من الإنس والجن أن يزيد فيه أو ينقص منه حرفاً واحداً أو كلمة واحدة.
وهذا مختص بالكتاب العزيز بخلاف سائر الكتب المنزلة فإنه قد دخل على بعضها تلك الأشياء، ولما تولى الله حفظ ذلك الكتاب بقي مصوناً على الأبد محروساً من الزيادة والنقصان وغيرهما، وفيه دليل على أنه منزل من عنده آية إذ لو كان من البشر لتطرق إليه الزيادة والنقصان كما يتطرق إلى كل كلام سواه. وقيل المعنى نزله محفوظاً من الشياطين. وقيل حفظه بأن جعله معجزة باقية إلى آخر الدهر، وقيل حفظه من المعارضة فلم يقدر أحد من الخلق أن يعارض ولو بأقصر آية.
وقيل أعجز الله الخلق عن إبطاله وإفساده بوجه من الوجوه فقيض له العلماء الراسخين يحفظونه ويذبون عنه إلى آخر الدهر لأن دواعي جماعة من الملاحدة واليهود متوفرة على إبطاله وإفساده فلم يقدروا على ذلك بحمد الله ومن أسباب حفظه حدوث العلوم الكثيرة الآلية التي تذب عن الدخول في أبواب إفساده وإبطاله وتحريفه وتصحيفه وزيادته ونقصانه كالصرف والنحو والمعاني والبيان وأصول الحديث والفقه والتفسير وغير ذلك مما له مدخل في هذا الشأن.
وأخرج مسلم عن عياض عن النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه تعالى " نزلت عليك قرآناً لا يغسله الماء " (1).
_________
(1) مسلم 2865.(7/149)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ (10) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (11) كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (12) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (13) وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (14) لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (15) وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ (16) وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (17) إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ (18)
وأيضاً في الآية وعيد شديد للمكذبين به المستهزئين برسول الله صلى الله عليه وسلم، وقيل الضمير في له لرسول الله صلى الله عليه وسلم والأول أولى بالمقام. قال الخطابي: إنما لم يجمع رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن في المصحف لما كان يترقبه من ورود ناسخ لبعض أحكامه وتلاوته، فلما انقضى نزوله بوفاته صلى الله عليه وسلم ألهم الله تعالى الخلفاء الراشدين ذلك وفاء بوعده الصادق بضمان حفظه على هذه الأمة، فكان ابتداء ذلك على يد الصديق رضي الله عنه بمشورة عمر رضي الله عنه، انتهى. ذكره السيوطي في الإتقان، وقد بسطنا الكلام على جمع القرآن في رسالتنا المسماة بالأكسير في أصول التفسير فليرجع إليه. ثم ذكر سبحانه أن عادة أمثال هؤلاء الكفار مع أنبيائهم كذلك تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:(7/150)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ (10)
(ولقد أرسلنا) رسلاً كائنة (من قبلك) وحذف المفعول لدلالة الإرسال عليه (في شيع الأولين) أي في أممهم وأتباعهم وسائر فرقهم وطوائفهم.
قال الفراء: الشيع الأمة التابعة بعضهم بعضاً فيما يجمعون عليه، وأصله من شاعه إذا تبعه، وهم القوم المجتمعة المتفقة كلمتهم، وشيعة الرجل أتباعه، وقيل الشيعة من يتقوى بهم الإنسان.(7/150)
وفي المصباح: الشيعة الأتباع والأنصار وكل قوم اجتمعوا على أمر فهم شيعة، ثم صارت الشيعة اسماً لجماعة مخصوصة والجمع شيع والأشياع جمع الجمع وإضافته إلى الأولين من إضافة الصفة إلى الموصوف عند بعض النحاة أو من حذف المضاف إليه عند آخرين منهم، أي في شيع الأمم الأولين، وفي البيضاوي من قبيل إضافة الموصوف لصفته كقوله حق اليقين.(7/151)
وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (11)
(وما) كان (يأتيهم) أي الشيعة (من رسول) من الرسل (إلا كانوا به يستهزئون) كما يفعله هؤلاء الكفار مع محمد صلى الله عليه وسلم.(7/151)
كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (12)
(كذلك) أي مثل ذلك الذي سلكناه في قلوب أولئك المستهزئين برسلهم (نسلكه) أي الذكر (في قلوب المجرمين) فالإشارة إلى ما دل عليه الكلام السابق من إلقاء الوحي مقروناً بالاستهزاء، والسلك إدخال الشيء في الشيء كالخيط في المخيط قاله الزجاج، والسلوك النفاذ في الطريق، قال والمعنى كما فعل بالمجرمين الذين استهزؤوا نسلك الضلال في قلوب المجرمين، وقال ابن عباس الشرك نسلكه في قلوب المشركين. وعن قتادة مثله.
وفيه رد على القدرية والمعتزلة وهي أبين في ثبوت القدر لمن أذعن للحق ولم يعاند، قال الواحدي: أضاف الله سبحانه إلى نفسه إدخال الكفر في قلوب الكفار وحسن ذلك منه، فمن آمن بالقرآن فليستحسنه. وقال الرازي: احتجوا بهذه الآية على أنه تعالى يخلق الباطل والضلال في قلوب الكفار.(7/151)
لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (13)
(لا يؤمنون به) أي بالذكر الذي أنزلناه أو بمحمد صلى الله عليه وسلم حال من ضمير نسلكه أو مستأنفة لبيان ما قبلها، وقيل أن الضمير في نسلكه للاستهزاء وفي به للذكر وهو بعيد، والأولى أن الضميرين للذكر (وقد خلت سنة الأولين) أي مضت طريقتهم التي سنها الله في إهلاكهم حيث فعلوا ما فعلوا من التكذيب والاستهزاء.(7/151)
وقال قتادة: مضت وقائع الله فيمن خلا من الأمم فاحذروا أن يصيبكم مثل ما أصابهم من العذاب، وقال الزجاج: قد مضت سنة الله فيهم بأن سلك الكفر والضلال في قلوبهم.
ثم حكى الله سبحانه إصرارهم على الكفر وتصميمهم على التكذيب والاستهزاء فقال(7/152)
وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (14)
(ولو فتحنا عليهم) أي على هؤلاء المعاندين لمحمد صلى الله عليه وسلم المكذبين له المستهزئين به (باباً من السماء) من أبوابها المعهودة ومكناهم من الصعود إليه (فظلوا فيه) أي في ذلك الباب، يقال ظل فلان يفعل كذا إذا فعله بالنهار.
(يعرجون) يصعدون بآلة أو بغير آلة حتى يشاهدوا ما في السماء من عجائب الملكوت التي لا يجحدها جاحد ولا يعاند عند مشاهدتها معاند، وقيل الضمير في فظلوا للملائكة، أي فظل الملائكة يعرجون في ذلك الباب والكفار يشاهدونهم وينظرون صعودهم من ذلك الباب. قاله ابن عباس.(7/152)
لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (15)
(لقالوا) أي الكفار لفرط عنادهم وزيادة عتوهم (إنما سكرت أبصارنا) قرئ مشدداً ومخففاً وهم سبعيتان وهو من سكر الشراب أو من السكر وهو سدها عن الإحساس، قاله مجاهد، يقال سكر النهر إذا سده وحبسه عن الجري. وعن قتادة نحوه. قال أبو عمرو بن العلاء: سكرت غشيت وغطت، وبه قال أبو عبيد وأبو عبيدة.
وروي عنه أيضا أنه من سكر الشراب أي غشيهم ما غطى أبصارهم كما غشى السكران ما غطى عقله، وعلى التخفيف بمعنى سحرت، وقيل أصله من السكور يقال سكرت عينه إذا تحيرت وسكنت عن النظر، قال النحاس: وهذه الأقوال متقاربة والتشديد لأجل التكثير والمبالغة، قال ابن عباس قريش تقوله.(7/152)
(بل نحن) أضربوا عن قولهم سكرت أبصارنا، ثم ادعوا أنهم (قوم مسحورون) أي سحرهم محمد صلى الله عليه وسلم، وفي هذا بيان لعنادهم العظيم الذي لا يقلعهم عنه شيء من الأشياء كائناً ما كان، فإنهم إذا رأوا آية توجب عليهم الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله نسبوا إلى أبصارهم أن إدراكها غير حقيقي لعارض السكر أو أن عقولهم قد سحرت فصار إدراكهم غير صحيح، ومن بلغ في التعنت إلى هذا الحد فلا تنفع فيه موعظة ولا يهتدي بآية. وفي كلمتي الحصر والإضراب دلالة على البت بأن ما يرونه لا حقيقة له، بل هو باطل خيل إليهم بنوع من السحر.
ولما ذكر سبحانه كفر الكافرين وعجزهم وعجز أصنامهم ذكر قدرته الباهرة وخلقه البديع ليستدل بذلك على وحدانيته فقال:(7/153)
وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ (16)
(ولقد جعلنا) الجعل إن كان بمعنى الخلق فقوله (في السماء بروجاً) متعلق به، وإن كان بمعنى التصيير فهو خبره، والبروج في اللغة القصور والمحال والطرق والمنازل، والمراد بها هنا منازل الشمس والقمر والنجوم السيارة السبعة وهي الاثنا عشر المشهورة، كما يدل على ذلك التجربة.
والعرب تعد المعرفة بمواقع النجوم ومنازلها من أجل العلوم ويستدلون بها على الطرقات والأوقات والخصب والجدب، وقالوا الفلك إثنا عشر برجاً وأسماء هذه البروج: الحمل الثور الجوزاء السرطان الأسد السنبلة الميزان العقرب القوس الجدي الدلو الحوت، كل ثلاثة منها على طبيعة عنصر من العناصر الأربعة عند المشتغلين بهذا العلم، ويسمون الحمل والأسد والقوس مثلثة نارية، والثور والسنبلة والجدي مثلثة أرضية، والجوزاء والدلو والميزان هوائية، والسرطان والعقرب والحوت مائية.
وهذه البروج مقسومة على ثمانية وعشرين منزلاً، لكل برج منزلان(7/153)
وثلث منزل، وتلك البروج منازل الكواكب السبعة السيارة المريخ وله الحمل والعقرب، والزهرة ولها الثور والميزان، وعطارد وله الجوزاء والسنبلة، والقمر وله السرطان، والشمس ولها الأسد، والمشتري وله القوس والحوت، وزحل وله الجدي والدلو، ذكره السيوطي وهي مقسومة على ثلثمائة وستين درجة لكل برج منها ثلاثون درجة تقطعها الشمس في كل سنة مرة وبها تتم دورة الفلك ويقطعها القمر في ثمانية وعشرين يوماً.
وأصل البروج الظهور، ومنه تبرج المرأة بإظهار زينتها، وقال الحسن وقتادة البروج النجوم، وسميت بذلك لظهورها وارتفاعها، وقيل السبعة السيارة منها، قاله أبو صالح.
وقيل هي قصور وبيوت في السماء فيها حرس، قاله عطية. وقال مجاهد: البروج الكواكب.
(وزيناها) أي السماء بالشمس والقمر والنجوم والبروج (للناظرين) إليها أو للمتفكرين المعتبرين المستدلين بها على توحيد خالقها وصانعها إذا كان من النظر وهو الاستدلال، أي بأبصارهم أو بصائرهم، وفي السمين النظر عينيّ، وقيل قلبيّ وحذف متعلقه ليعم.(7/154)
وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (17)
(وحفظناها) أي السماء بالشهب (من) دخول (كل شيطان رجيم) قال أبو عبيدة الرجيم المرجوم بالنجوم كما في قوله (رجوماً للشياطين) والرجم في اللغة هو الرمي بالحجارة، ثم قيل للعن والطرد والإبعاد رجم، لأن الرمي بالحجارة يوجب هذه المعاني وقال قتادة: الرجيم الملعون.(7/154)
إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ (18)
(إلا) أي لكن (من استرق السمع) من غير دخول، وهذا وجه الانقطاع، والسمع بمعنى المسموع وذلك أن الشياطين يركب بعضهم بعضاً(7/154)
حتى يبلغوا إلى السماء فيسترقوا السمع من الملائكة، وقيل الاستثناء متصل، أي إلا من استرق فإنها لا تحفظ منه.
قال أبو السعود: محله النصب على المتصل إن فسر الحفظ بمنع الشياطين من التعرض لها على الإطلاق والوقوف على ما فيها في الجملة أو المنقطع إن فسر ذلك بالمنع من دخولها والتصرف فيها انتهى. قال ابن عباس: أراد أن يخطف السمع كقوله إلا من خطف الخطفة.
(فأتبعه شهاب مبين) والمعنى حفظنا السماء من الشياطين أن تسمع شيئاً من الوحي وغيره إلا من استرق السمع فإنه تتبعه وتلحقه الشهب فتقتله أو تخبله أو تحرقه أو تثقبه، ومعنى فأتبعه تبعه ولحقه أو أدركه والشهاب الكوكب نفسه أو النار المشتعلة الساطعة منه كما في قوله بشهاب قبس.
وصنيع البيضاوي يقتضي أن الشهاب بمعنى الشعلة هو الحقيقة والكثير وبمعنى الكوكب هو القليل، وسمي الكوكب شهاباً لبريقه شبه بشهاب النار وانفصاله منها، والمبين الواضح الظاهر للمبصرين يرونه لا يلتبس عليهم. قال القرطبي: واختلف في الشهاب هل يقتل أم لا، فقال ابن عباس: يجرح ويحرق ويخبل ولا يقتل، يقال خبلته خبلاً من باب ضرب إذا أفسدت عضواً من أعضائه أو أذهبت عقله، والخبال بالفتح يطلق على الفساد والجنون.
وقال الحسن وطائفة يقتل. فعلى هذا القول في قتلهم بالشهب قبل إلقاء السمع إلى الجن قولان:
أحدهما: أنهم يقتلون قبل إلقائهم ما استرقوه من السمع إلى غيرهم فلا تصل أخبار السماء إلى غير الأنبياء ولذلك انقطعت الكهانة.
والثاني: أنهم يقتلون بعد إلقائهم ما استرقوه من السمع إلى غيرهم من الجن قال ذكره الماوردي ثم قال: والقول الأول أصح.(7/155)
قال: واختلف هل كان رمى بالشهب قبل المبعث فقال الأكثرون نعم: وقيل لا، وإنما ذلك بعد المبعث، قال الزجاج: والرمي بالشهب من آيات النبي صلى الله عليه وسلم مما حدث بعد مولده لأن الشعراء في القديم لم يذكروه في أشعارهم والجمع بين هذين القولين إن الرمي بالنجوم كان موجوداً قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم فلما بعث شدد ذلك وزيد في حفظ السماء وحراستها صوناً لأخبار الغيوب.
وعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعاناً لقوله كالسلسلة على صفوان فإذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير، فيسمعها مسترقو السمع ومسترقو السمع هكذا بعضهم فوق بعض ووصف سفيان بكفه فحرفها (1) وبدد بين أصابعه فيسمع الكلمة فيلقيها إلى من تحته، ثم يلقيها الآخر إلى من تحته حتى يلقيها على لسان الساحر أو الكاهن فربما أدركه الشهاب قبل أْن يلقيها وربما ألقاها قبل أن يدركه فيكذب معها مائة كذبة فيقال له أليس قد قال لنا كذا وكذا فيصدق بتلك الكلمة التي سعت من السماء " أخرجه البخاري (2).
قال كثير من أهل العلم: نحن نرى انقضاض الكواكب فيجوز أن يكون ذلك كما نرى ثم تصير ناراً إذا أدرك الشيطان ويجوز أن يقال يرمون بشعلة من نار الهواء فيخيل إلينا أنه نجم يسري.
_________
(1) أي أمالها انتهى مجمع البخار.
(2) البخاري كتاب التوحيد الباب 32 - كتاب التفسير سورة 15/ 1 سورة 34/ 1 الترمذي تفسير سورة 34/ 2.(7/156)
وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (19) وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ (20) وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (21) وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ (22) وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ (23) وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (24)(7/157)
وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (19)
(والأرض) نصب على اشتغال ولم يقرأ بغيره لأنه أرجح من حيث العطف على جملة فعلية قبلها (مددناها) أي بسطناها وفرشناها على وجه الماء كما في قوله والأرض بعد ذلك دحاها وفي قوله والأرض فرشناها فنعم الماهدون وفيه رد على من زعم أنها كالكرة (وألقينا) أي جعلنا ووضعنا (فيها رواسي) أي جبالاً ثابتة لئلا تتحرك بأهلها جمع راسية كما في المختار، وقد تقدم بيان ذلك في سورة الرعد (وأنبتنا فيها من) تبعيضية وهو الصحيح أو مزيدة عند الكوفيين والأخفش (كل شيء موزون) أي مقدر معلوم فعبر عن ذلك بالوزن لأنه مقدار تعرف به الأشياء، وقيل موزون مقسوم وقيل معدود.
والمقصود من الإنبات الإنشاء والإيجاد، قال ابن زيد: الأشياء توزن، وقيل الضمير راجع إلى الجبال أي أنبتنا في الجبال من كل شيء موزون من الذهب والفضة والنحاس والكحل والرصاص ونحو ذلك، وقيل موزون بميزان الحكمة ومقدر بقدر الحاجة، وقيل الموزون هو المحكوم بحسنه كما يقال كلام موزون أي حسن وخص ما يوزن لانتهاء الكيل إلى الوزن.(7/157)
وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ (20)
(وجعلنا لكم فيها) أي في الأرض (معايش) تعيشون بها من المطاعم والمشارب جمع معيشة وهي ما يعيش به الإنسان مدة حياته في الدنيا، وقيل هي الملابس، وقيل هي التصرف في أسباب الرزق مدة الحياة، قال الماوردي: وهو الظاهر.(7/157)
قلت: والأول أظهر قال النسفي هي بياء صريحة بخلاف الخبائث ونحوها فإن تصريح الياء فيها خطأ انتهى. وقرئ بالهمز على التشبيه بشمائل، وقد ذكر في الأعراف وهي شاذة وقراءة الجمهور بالياء لأنها في المفرد أصلية لأن مفرده معيشة من العيش فالياء أصلية والمد في المفرد لا يقلب همزاً في الجمع إلا إذا كان زائداً في المفرد قاله في الجمل.
(ومن لستم له برازقين) عطف على معايش أو على محل لكم وهم المماليك والعبيد والخدم والدواب والأولاد الذين رازقهم في الحقيقة هو الله وإن ظن بعض العباد أنه الرازق لهم باعتبار استقلاله بالكسب، وهذا في غاية الامتنان والمعنى على الثاني وجعلنا لمن لستم له برازقين فيها معايش، وهم من تقدم ذكره ويدخل في ذلك الدواب على اختلاف أجناسها، وقيل أراد الوحش قاله منصور. وقال مجاهد: الأنعام، وقيل الطيور، ومنه قوله (وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها).(7/158)
وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (21)
(وإن من شيء إلا عندنا خزائنه) إن هي النافية ومن مزيدة للتأكيد، وهذا التركيب عام لوقوع النكرة في حيز النفي مع زيادة من ومع لفظ شيء المتناول لكل الموجودات الصادق على كل فرد منها، فأفاد ذلك أن جميع الأشياء عند الله خزائنها لا يخرج منها شيء، والخزائن جمع خزانة وهي المكان الذي يحفظ فيه نفائس الأمور، وذكر الخزائن تمثيل لاقتداره على كل مقدور.
والمعنى أن كل الممكنات مقدورة ومملوكة لله تعالى يخرجها من العدم إلى الوجود بمقدار كيف شاء، وقال جمهور المفسرين إن المراد بما في الآية هو المطر لأنه سبب الأرزاق والمعايش، وعن ابن مسعود وابن عباس: ما نقص المطر منذ أنزله الله ولكن تمطر أرض أكثر مما تمطر أخرى، ثم قرأ وما ننزله الآية.
قال ابن الخطيب: وتخصيص قوله هذا بالمطر تحكم محض لأن قوله وإن من شيء يتناول جميع الأشياء إلا ما خصه الدليل، وقيل الخزائن المفاتيح أي ما من شيء إلا عندنا في السماء مفاتيحه والأولى ما ذكرناه من العموم لكل(7/158)
موجود بل قد يصدق الشيء على المعدوم على الخلاف المعروف في ذلك، وقيل في العرش تمثال جميع ما خلق الله في البر والبحر وهو تأويل هذه الآية.
وأخرج البزار وأبو الشيخ عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " خزائن الله الكلام فإذا أراد شيئاً قال له كن فكان " (1)
(وما ننزله) من السماء إلى الأرض أو نوجده للعباد (إلا بقدر) أي بمقدار (معلوم) والمعنى أن الله سبحانه لا يوجد للعباد شيئاً من تلك الأشياء المذكورة إلا متلبساً ذلك الإيجاد بمقدار معين حسبما تقتضيه مشيئته على مقدار حاجة العباد إليه كما قال تعالى (ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض ولكن ينزل بقدر ما يشاء) وقد فسر الإنزال بالإعطاء وبالانشاء وبالإيجاد والمعنى متقارب.
_________
(1) ضعيف الجامع الصغير 2824.(7/159)
وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ (22)
(وأرسلنا الرياح) جمع ريح وهو جسم لطيف منبث في الجو سريع المرور (لواقح) أي حوامل لأنها تحمل السحاب أي تقله وتصرفه ثم تمر به فتنزله، قال تعالى (إذا أقلت سحاباً ثقالاً) أي حملت وناقة لاقح إذا حملت الجنين في بطنها قاله الأزهري، وبه قال الفراء وابن قتيبة، وقيل لواقح بمعنى ملقحة، قال ابن الأنباري: تقول العرب أبقل النبت فهو باقل أي مبقل والمعنى أنها تلقح الشجر أي تقويها، وقيل معنى لواقح ذوات لقح، قال الزجاج: معناه ذوات لقحة لأنها تعصر السحاب وتدره كما تدر اللقحة، يقال رامح أي ذو رمح ولابن أي ذو لبن وتامر أي ذو تمر.
قال أبو عبيدة: لواقح بمعنى ملاقح ذهب إلى أنها جمع ملقحة، وفي هذه الآية تشبيه الرياح التي تحمل الماء بالحامل ولقاح الشجر بلقاح الحمل، قال ابن مسعود: يرسل الله الريح فتحمل الماء فتلقح به السحاب فتدر كما تدر اللقحة، ثم تمطر، وعن ابن عباس نحوه، وعن عبيد بن عمير قال: يبعث الله المبشرة فتقم الأرض قماً، ثم يبعث الله المثيرة فتثير السحاب فتجعله(7/159)
كسفاً ثم يبعث الله المؤلفة فتؤلف بينه فتجعله ركاماً ثم يبعث الله اللواقح فتلقحه فتمطر.
وأخرج ابن جرير وابن أبي الدنيا وأبو الشيخ والديلمي بسند ضعيف عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " ريح الجنوب من الجنة وهي الريح اللواقح التي ذكر الله في كتابه " (1) قال أبو بكر بن عياش لا تقطر قطرة من السماء إلا بعد أن تعمل الرياح الأربع فيها فالصبا تهيج السحاب والشمال تجمعه والجنوب تدره والدبور تفرقه.
(فأنزلنا من السماء) أي من السحاب وكل ما علاك فأظلك فهو سماء، وقيل من جهة السماء (ماء) المراد هنا ماء المطر (فأسقيناكموه) أي جعلنا ذلك المطر لسقياكم ولشرب مواشيكم وأرضكم؛ قال أبو علي: يقال سقيته الماء إذا أعطيته قدر ما يروي وأسقيته نهراً أي جعلته شرباً له، وعلى هذا فأسقيناكموه أبلغ من سقيناكموه، وقيل سقى وأسقى بمعنى واحد.
(وما أنتم له بخازنين) بل نحن الخازنون له، فنفى عنهم سبحانه ما أثبته لنفسه في قوله (وإن من شيء إلا عندنا خزائنه) وقيل إن المعنى ما أنتم له بخازنين بعد أن أنزلناه عليكم، أي لا تقدرون على حفظه في الآبار والغدران والعيون، بل نحن الحافظون له فيها ليكون ذخيرة لكم عند الحاجة إليه.
_________
(1) ضعيف الجامع الصغير والأحاديث الضعيفة 3652.(7/160)
وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ (23)
(وإنا لنحن نحيي ونميت) أي نوجد الحياة في المخلوقات ونسلبها عنها متى شئنا، وأن واللام تفيدان الحصر، يعني لا يقدر على ذلك سوانا وبيدنا إحياء الخلق وإماتتهم؛ والغرض من ذلك الاستدلال بهذه الأمور على كمال قدرته عز وجل وإنه القادر على البعث والنشور والجزاء لعباده على حسب ما يستحقونه وتقتضيه مشيئته، ولهذا قال (ونحن الوارثون) أي للأرض ومن عليها لأنه سبحانه هو الباقي بعد فناء خلقه، الحي الذي لا يموت، الدائم(7/160)
الذي لا ينقطع وجوده ومصير الخلق إليه، ولله ميراث السماوات والأرض.(7/161)
وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (24)
(ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد علمنا المستأخرين) المراد علمنا من تقدم ولادة وموتاً ومن تأخر فيهما؛ وقيل من تقدم طاعة ومن تأخر فيها، وقيل من تقدم في صف القتال ومن تأخر، وقيل المستقدمون هم الأمم المتقدمون على أمة محمد صلى الله عليه وسلم من لدن آدم والمستأخرون هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم إلى يوم القيامة.
وقيل المستقدمون من قتل في الجهاد والمستأخرون من لم يقتل. وقيل من خلق ومن لم يخلق بعد، وقيل من أسلم أولاً ومن يسلم آخراً، واللفظ أوسع من ذلك، واللام في الموضعين هي الموطئة للقسم. وأخرج أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجة وابن خزيمة وابن حبان والحاكم وصححه عن ابن عباس قال: كانت امرأة تصلي خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم حسناء من أحسن النساء، فكان بعض القوم يتقدم حتى يكون في الصف الأول لئلا يراها، ويستأخر بعضهم حتى يكون في الصف المؤخر فإذا ركع نظر من تحت إبطيه؛ فأنزل الله هذه الآية، وقد رواه عبد الرزاق وابن المنذر من قول أبي الجوزاء عن ابن عباس. قال الترمذي وهذا أشبه أن يكون أصح.
وقال ابن كثير: في هذا الحديث نكارة شديدة وعن ابن عباس قال: المستقدمين الصفوف المتقدمة والمستأخرين الصفوف المؤخرة، وقد وردت أحاديث كثيرة في أن خير صفوف الرجال أولها، وشرها آخرها، وخير صفوف النساء آخرها وشرها أولها وعن مقاتل وعطاء إن الآية في صفوف القتال. وقال الحسن المستقدمين في طاعة الله والمستأخرين في معصية الله.
وعن ابن عباس يعني بالمستقدمين من مات والمستأخرين من هو حي لم يمت، وقال أيضاً المستقدمين آدم ومن مضى من ذريته، والمستأخرين في أصلاب الرجال، وعن قتادة نحوه.(7/161)
وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (25) وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (26) وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ (27) وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (28) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (29) فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30) إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (31)(7/162)
وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (25)
(وإن ربك هو يحشرهم) أي هو المتولي لذلك القادر عليه دون غيره كما يفيده ضمير الفصل من الحصر، وفيه أنه سبحانه يجازي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته لأنه الأمر المقصود من الحشر.
(إنه حكيم) يجري الأمور على ما تقتضيه حكمته البالغة (عليم) أحاط علمه بجميع الأشياء لا يخفى عليه شيء منها، ومن كان كذلك فله القدرة البالغة على كل شيء مما وسعه علمه وجرى فيه حكمه سبحانه لا إله إلا هو.(7/162)
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (26)
(ولقد خلقنا الإنسان) أي آدم عليه السلام لأنه أصل هذا النوع (من) لابتداء الغاية أو للتبعيض (صلصال) أي طين يابس إذا نضب عنه الماء تشقق فإذا حرك تقعقع، وإذا نقرته سمعت له صلصلة. أي صوتاً.
قال أبو عبيدة: هو الطين المخلوط بالرمل الذي يتصلصل إذا حرك، فإذا طبخ بالنار فهو الفخار، وهذا قول أكثر المفسرين وقال الكسائي هو الطين المنتن مأخوذ من قول العرب صل اللحم، وأصل إذا أنتن مطبوخاً كان أو نيئاً.
وهذا الطور آخر أطوار آدم الطينية. وأول ابتدائه أنه كان تراباً متفرق الأجزاء ثم بل فصار طيناً ثم أنتن وأسود فصار حمأً مسنوناً أي متغيراً ثم يبس فصار صلصالاً، وعلى هذه الأطوار والأحوال تتخرج الآيات الواردة في أطواره(7/162)
الطينية كآية خلقه من تراب وآية بشراً من طين، وهذه الآية التي نحن فيها. (من) ابتدائية (حمأ مسنون) الحمأ الطين الأسود المتغير أو الطين الأسود من غير تقييد بالمتغير.
قال ابن السكيت: تقول منه حمأت البئر حمأً بالتسكين إذا نزعت حمأها؛ وحميت البئر حمأً بالتحريك كثرت حمأتها، وأحميتها أحماء ألقيت فيها الحمأة. قال أبو عبيدة: الحمأة سكون الميم مثل الحمأة يعني بالتحريك، والجمع حمأ مثل تمرة وتمر والحمأ مصدر مثل الهلع والجزع ثم سمي به. والمسنون قال الفراء: هو المتغير وأصله من سننت الحجر على الحجر إذا حككته وما يخرج بين الحجرين يقال له السنانة والسنين، ويقال أسن الماء إذا تغير؛ ومنه قوله (لم يتسنه) وقوله (من ماء غير آسن) وكلا الاشتقاقين يدل على التغيير لأن ما يخرج بين الحجرين لا يكون إلا منتناً.
وقال أبو عبيدة: المسنون المصبوب وهو من قول العرب سننت الماء على الوجه أذا صببته والسن الصب.
وقال سيبويه: المسنون المصور مأخوذ من سنة الوجه وهي صورته، وقال الأخفش: المسنون المنصوب القائم. من قولهم وجه مسنون إذا كان فيه طول، والحاصل على هذه الأقوال أن التراب لما بُل صار طيناً فلما أنتن صار حمأً مسنوناً فلما يبس صار صلصالاً، فأصل الصلصال هو الحمأ المسنون، ولهذا وصف بهما، وعن ابن عباس قال: خلق الإنسان من ثلاث: من طين لازب وصلصال وحمأ مسنون، فالطين اللازب اللازم الجيد والصلصال المدقق الذي يصنع منه الفخار، والحمأ المسنون الطين الذي فيه الحمأة.
وقال أيضا الصلصال الماء يقع على الأرض الطيبة ثم يحسر عنها فتشقق ثم تصير مثل الخزف الرقاق، وعنه قال: الصلصال هو التراب اليابس الذي يبل بعد يبسه، وقال أيضاً طين خلط برمل. وقال أيضاً الذي إذا ضربته صلصل، وعنه قال الطين تعصر بيدك فتخرج الماء من بين أصابعك، وقال(7/163)
حمأ مسنون من طين رطب وقال من طين منتن.(7/164)
وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ (27)
(والجان) منصوب على الاشتغال وهو أبو الجن عند جمهور المفسرين، وقال الحسن وعطاء وقتادة ومقاتل هو أبليس أبو الشياطين وسمي جاناً لتواريه عن الأعين، يقال جن الشيء إذا ستره، فالجان يستر نفسه عن أعين بني آدم، وهما نوعان يجمعهما وصف الاستتار عنا.
وفي الجن مسلمون وكافرون، وهم يأكلون ويشربون ويحيون ويموتون كبني آدم، وأما الشياطين فليس منهم مسلمون ولا يموتون إلا إذا مات أبليس أبوهم. ذكره الخازن.
قال ابن عباس: الجان مسيخ الجن كالقردة والخنازير مسيخ الإنس، وقيل كان إبليس من حي الملائكة يسمون الجان، خلقوا من نار السموم، وخلقت الجن الذين ذكروا في القرآن من مارج من نار وخلقت الملائكة من النور.
(خلقناه من قبل) أي من قبل خلق آدم (من نار السموم) وهي الريح الحارة النافذة في المسام لشدة لطفها وقوة حرارتها يكون بالنهار، وقد يكون بالليل، كذا قال أبو عبيدة.
وقال أبو صالح: السموم نار لا دخان لها والصواعق تكون منها، وهي نار تكون بين السماء وبين الحجاب، فإذا أحدث الله أمراً أخرقت الحجاب فهوت إلى ما أمرت به، فالهدة التي تسمعون خرق ذلك الحجاب. قاله الخطيب.
وقيل السموم نار جهنم، وقيل هي جزء من سبعين جزءاً من السموم التي خلق منها الجان، قاله ابن مسعود، وفي السمين: السموم ما يقتل من إفراط الحر من شمس أو ريح أو نار لأنها تدخل في المسام، وقيل السموم ما كان ليلاً والحرور ما كان نهاراً، وقيل هو من باب إضافة الموصوف لصفته.
وذكر خلق الجان والإنسان في هذا الموضع للدلالة على كمال القدرة الإلهية وبيان أن القادر على النشأة الأولى قادر على النشأة الأخرى. قال ابن عباس: من نار السموم من أخس النار الحارة التي تقتل، وعن ابن مسعود قال: السموم التي(7/164)
خلق منها الجان جزء من سبعين جزءاً من نار جهنم، وأخرجه ابن مردويه عنه مرفوعاً.(7/165)
وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (28)
(و) اذكر (إذ قال ربك للملائكة) بين سبحانه بعد ذكره لخلق الإنسان ما وقع له عند خلقه، وقد تقدم تفسير ذلك في البقرة (إني خالق بشراً) مأخوذ من البشرة وهي ظاهر الجلد (من صلصال) قد تقدم تفسيره قريباً مستوفى وكذا تفسير (من حمأ مسنون(7/165)
فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (29)
فإذا سويته) أي سويت خلقه وعدلت صورته الإنسانية وخلقته البشرية وأكملت أجزاءه وأتممت خلقه، أو سويت أجزاء بدنه بتعديل لبائعه.
(ونفخت فيه من روحي) النفخ إجراء الريح في تجاويف جسم آخر صالح لإمساكها والامتلاء بها، فمن قال إن الروح جسم لطيف كالهواء فمعناه ظاهر، ومن قال إنه جوهر مجرد غير متحيز ولا حال في متحيز فمعنى النفخ عنده تهيؤ البدن لتعلق النفس الناطقة به، ومن زائدة أو تبعيضية. قال النيسابوري: ولا خلاف في أن الإضافة في روحي للتشريف والتكريم، مثل ناقة الله وبيت الله.
قال القرطبي: والروح جسم لطيف أجرى الله العادة بأن يخلق الحياة في البدن مع ذلك الجسم وحقيقته إضافة خلق إلى خالق، فالروح خلق من خلقه أضافه إلى نفسه تشريفاً وتكريماً، قال ومثله روح منه، وقد تقدم في النساء.
قال أبو السعود: وليس ثمة نفخ ولا منفوخ فيه وإنما هو تمثيل لإفاضة ما به الحياة بالفعل على المادة القابلة لها فإذا أكملت استعداده وأفضت عليه ما يحبى به من الروح التي هي من أمري.
(فقعوا له ساجدين) الفاء تدل على أن سجودهم واجب عليهم عقب التسوية والنفخ من غير تراخ وهو أمر بالوقوع، من وقع يقع أي أسقطوا وخروا، وفيه دليل على أن المأمور به هو السجود الحقيقي أي وضع الجبهة على الأرض لا مجرد الانحناء كما قال السيوطي، وهذا السجود هو سجود تحية وتكريم لا سجود عبادة، ولله أن يكرم من يشاء من مخلوقاته كيف يشاء بما يشاء. وقيل كان السجود لله تعالى وكان آدم قبله لهم تشريفاً له، وهذا وإن كان معنى صحيحاً لكن يخالفه(7/165)
ظاهر النظم القرآني. والأولى ما دل عليه ظاهر اللفظ فالأول أولى والخطاب للملائكة الذين قال الله لهم إني خالق بشراً.(7/166)
فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30)
(فسجد الملائكة كلهم أجمعون) عند أمر الله سبحانه لهم بذلك من غير تراخ، قال المبرد: قوله كلهم أزال احتمال أن بعض الملائكة لم يسجد، فظهر أنهم بأسرهم سجدوا، ثم عند هذا بقي احتمال وهو أنهم هل سجدوا دفعة واحدة أو سجد كل واحد في وقت؟ فلما قال (أجمعون) ظهر أن الكل سجدوا دفعة واحدة، وهو إيضاح لما سبق، وقيل قوله أجمعون توكيد بعد توكيد، ورجح هذا الزجاج.
قال النيسابوري: وذلك لأن أجمع معرفة فلا يقع حالاً، ولو صح أن يكون حالاً لكان منتصباً، قال الكرخي: فيه تأكيدان لزيادة تمكين المعنى وتقريره في الذهن ولا يكون تحصيلاً للحاصل؛ لأن نسبة أجمعون إلى كلهم كنسبة كلهم إلى أصل الجملة، أو أجمعون يفيد معنى الاجتماع. وقيل هما تأكيدان للمبالغة وزيادة الاعتناء.
ثم استثنى إبليس من الملائكة فقال(7/166)
إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (31)
(إلا إبليس) قيل هذا الاستثناء متصل لكونه كان من جنسن الملائكة ولكنه (أبى أن يكون مع الساجدين) استكباراً واستعظاماً لنفسه وحسداً لآدم فحقت عليه كلمة الله وقيل أنه لم يكن من الملائكة ولكنه كان معهم وبينهم فغلب اسم الملائكة عليه وأمر بما أمروا به فكان الاستثناء بهذا الاعتبار متصلاً.
زاد أبو السعود إما لأنه كان جنياً مفرداً مغموراً بألوف من الملائكة فعد منهم تغليباً، وإما لأن من الملائكة جنساً يتوالدون وهو منهم، وقيل أن الاستثناء منقطع منفصل بناء على عدم كونه منهم وعدم تغليبهم عليه، أي ولكن إبليس أبى من السجدة، وقد تقدم الكلام في هذا في سورة البقرة.
وهذه الحملة على الأول استئناف مبين لكيفية عدم السجود المفهوم من الاستثناء لأن مطلق عدم السجود قد يكون مع التردد، فبيَّن سبحانه أنه كان على وجه الإباء والاستكبار.(7/166)
قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (32) قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (33) قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (34) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (35) قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (36) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (37) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (38) قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40) قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ (42)(7/167)
قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (32)
(قال يا إبليس) مستأنفة أيضاً، وهذا الخطاب له ليس للتشريف والتكريم بل على سبيل الإهانة والإذلال والتقريع والتوبيخ، وظاهره يقتضي أن الله تعالى تكلم مع إبليس بغير واسطة، لأنه قال في الجواب (لم أكن لأسجد لبشر خلقته) فقوله (خلقته) خطاب الحضور لا خطاب الغيبة، فقول بعض المتكلمين أنه تعالى أوصل هذا الخطاب إلى أبليس على لسان بعض رسله ضعيف.
قيل معنى (مالك) أيُّ غرض لك وأي سبب حملك على (أن لا تكون مع الساجدين) لآدم مع الملائكة، وهم في الشرف وعلو المنزلة والقرب من الله بالمنزلة التي قد علمتها، وعلى هذا فليست لا زائدة وإليه مال البيضاوي، وقيل زائدة بدليل ما في سورة (ص) ما منعك أن تسجد.(7/167)
قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (33)
(قال لم أكن لأسجد لبشر خلقته) مستأنفة كالتي قبلها، أي لا ينبغي لي ولا يصح مني ولا يليق بحالي؛ فاللام لتأكيد النفي جعل العلة لترك سجوده كون آدم بشراً مخلوقاً (من صلصال من حمأ مسنون) زعماً منه أنه مخلوق من عنصر نار، وهي أشرف من عنصر آدم عليه السلام وهو الطين المتغير المنتن لأنها نيرة والطين كثيف مظلم.(7/167)
وفيه إشارة إجمالية إلى كونه خيراً منه وقد صرح بذلك في موضع آخر فقال (أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين) وقال في موضع آخر (أأسجد لمن خلقت طيناً) ولم يدر الخبيث أن الفضل فيما فضله الله تعالى، قال الكرخي: وحاصل كلامه أن كونه بشراً يشعر بكونه جسماً كثيفاً وهو كان روحانياً لطيفاً فكأنه يقول البشر الجسماني الكثيف أدوَن حالاً من الروحاني اللطيف فكيف يسجد الأعلى للأدنى.
وأيضاً فآدم مخلوق من صلصال تولد من حمأ مسنون، وهذا الأصل في غاية الدناءة وأصل إبليس هي النار وهي أشرف العناصر، فكان أصل إبليس أشرف من أصل آدم والأشرف يقبح أن يؤمر بالسجود للأدون، فهذا مجموع شبه إبليس فأجاب الله سبحانه عليه بقوله:(7/168)
قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (34)
(قال فاخرج منها) أي فحيث عصيت وتكبرت فاخرج منها (فإنك رجيم) والضمير في منها قيل عائد إلى الجنة، وقيل إلى السماء، وقيل إلى زمرة الملائكة، والرجيم المرجوم بالشهب، وقيل معناه ملعون أي مطرود، لأن من يطرد يرجم بالحجارة.
وفي القاموس الرجم اللعن والشتم والطرد والهجران؛ وفي المصباح الرجم بفتحتين الحجارة والرجم القبر سمي بذلك لما يجتمع عليه من الأحجار ورجمته رجماً من باب قتل ضربته بالرجم.(7/168)
وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (35)
(وإن عليك اللعنة) أي الطرد والإبعاد من رحمة الله سبحانه مستمراً عليك لازماً لك (إلى يوم الدين) وهو يوم القيامة والجزاء، وقيل هو ملعون في السماوات والأرض وجعل يوم الدين غاية للعنة لا يستلزم انقطاعها في ذلك الوقت لأن المراد دوامها من غير انقطاع وذكر يوم الدين للمبالغة كما في قوله تعالى (ما دامت السماوات والأرض) أو أن المراد أنه في يوم الدين وما بعده يُعَذَّب بما هو أشد من اللعن من أنواع العذاب بما ينسى اللعن معه فكأنه لا يجد له ما كان يجده قبل أن يمسه العذاب.(7/168)
قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (36)
(قال رب فانظرني) أي أخرني وأمهلني ولا تمتني (إلى يوم يبعثون) أي آدم وذريته طلب أن يبقى حياً إلى هذا اليوم؛ لأنه لما سمع ذلك علم أن الله قد أخر عذابه إلى الدار الآخرة وكأنه طلب أن لا يموت أبداً لأنه إذا أخر موته إلى ذلك اليوم وأمهل إلى يوم البعث الذي هو وقت النفخة الثانية لا يموت بعد ذلك الانقطاع الموت من حين النفخة الأولى فهو يوم لا موت فيه.
وفي البيضاوي أراد بهذا السؤال أن يجد فسحة في الإغواء ونجاة عند الموت إذ لا موت بعد وقت البعث، فأجابه إلى الأول دون الثاني، وقيل أنه لم يطلب أن لا يموت بل طلب أن يؤخر عذابه إلى يوم القيامة ولا يعذب في الدنيا.(7/169)
قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (37)
(قال فإنك من المنظرين) لما سأل الإنظار أجابه الله سبحانه إلى ما طلبه، وأخبره بأنه من جملة المنظرين ممن أخر آجالهم من مخلوقاته أو من جملة من أخر عقوبتهم بما اقترفوا ولم يكن إجابة الله إياه في الإمهال إكراماً له بل زيادة في بلائه وشقائه وعذابه.
ثم بيَّن سبحانه الغاية التي امهله إليها فقال(7/169)
إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (38)
(إلى يوم الوقت المعلوم) الذي عينت وهو يوم القيامة فإن يوم الدين، ويوم يبعثون، ويوم الوقت المعلوم، كلها عبارات عن القيامة وسمي معلوماً لأن ذلك لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى فهو معلوم عنده، وقيل أن جميع الخلائق تموت فيه، فهو معلوم بهذا الاعتبار وقيل المراد بالوقت المعلوم هو الوقت القريب من البعث فعند ذلك يموت.
وقال ابن عباس: هو النفخة الأولى يموت فيها إبليس وبين النفختين أربعون سنة، وهي مدة موته.(7/169)
قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39)
(قال رب بما أغويتني) الباء للقسم وما مصدرية أي أقسم بإغوائك إياي واختار البيضاوي في الأعراف كونها للسببية، ونقل كونها للقسم بصيغة التمريض لأنه وقع في مكان آخر قال فبعزتك والقصة واحدة إلا أن أحدهما أقسام بصفة ذاته، والثاني إقسام بفعله والفقهاء قالوا الإقسام بصفات الذات صحيح، واختلفوا في القسم بصفات الأفعال ومنهم من فرق بينهما، ولأن جعل الإغواء(7/169)
مقسما به غير متعارف، قاله الكرخي.
قلت: وإقسامه هنا بإغواء الله له لا ينافي اقسامه في موضع آخر بعزة الله التي هي سلطانه وقهره لأن الإغواء هو من جملة ما يصدق عليه العزة، وقال أهل العراق الحلف بصفة الذات كالقدرة والعظمة والعزة يمين، والحلف بصفة الفعل كالرحمة والسخط ليس بيمين، قيل والأصح أن الأيمان مبنية على العرف فما تعارف الناس الحلف به يكون يميناً وما لا فلا.
وجواب القسم (لأزينن لهم) أي لذرية آدم وإن لم يجر لهم ذكر للعلم بهم (في الأرض) أي ما داموا في الدنيا والتزيين منه إما بتحسين المعاصي لهم وإيقاعهم فيها أو بشغلهم بزينة الدنيا وحبها عن فعل ما أمرهم الله به فلا يلتفتون إلى غيرها.
(ولأغوينهم أجمعين) أي لأضلنهم عن طريق الهدى وأوقعهم في طريق الغواية وأحملهم عليها بالقاء الوسوسة في قلوبهم، وذلك أن إبليس لما علم أنه يموت على الكفر غير مغفور له حرص على إضلال الخلق بالكفر وإغوائهم، وفي الآية حجة على المعتزلة في خلق الأفعال وحملهم على التسبب عدول عن الظاهر.(7/170)
إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40)
(إلا عبادك منهم المخلصين) أي الذين استخلصتهم من العباد أو الذين أخلصوا لك العبادة والطاعة فلم يقصدوا بها غيرك، وإنما استثناهم لأنه علم أن كيده ووسوسته لا تعمل فيهم ولا يقبلون منه وحقيقة الإخلاص فعل الشيء خالصاً لله عن شائبة الغير.(7/170)
قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41)
(قال) الله تعالى (هذا صراط عليّ مستقيم) لا عوج فيه والمعنى حق عليّ أن أراعيه وأحفظه وهو أن لا يكون لك على عبادي سلطان، فالكلام على التشبيه عند أهل السنة كما في قوله تعالى (وكان حقاً علينا نصر المؤمنين) إذ لا تجب رعاية الأصلح عندنا، وقيل قال الكسائي هذا على الوعيد والتهديد كقولك لمن تهدده: طريقك عليّ ومصيرك إليّ وكقوله (إن ربك لبالمرصاد) فكان معنى هذا الكلام هذا طريق مرجعه إليّ فأجازي كلا بعمله.(7/170)
وقيل (عليّ) هنا بمعنى (إليّ) وقيل المعنى على أن أدل على الصراط المستقيم بالبيان والحجة، وقيل بالتوفيق والهداية، وقيل عائد إلى الإخلاص أي أن الإخلاص طريق عليَّ وإليّ يؤدي إلى كرامتي ورضواني.
وقال أبو السعود: والأظهر أن ذلك رد لما وقع في عبارة إبليس حيث قال (لأقعدن لهم صراطك المستقيم، ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم) الآية، وقرأ عليّ على أنه صفة مشبهة ومعناه رفيع.(7/171)
إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ (42)
(إن عبادي ليس لك عليهم سلطان) المراد بالعباد هنا هم المخلصون، والمراد أنه لا تسلط أنت عليهم بإيقاعهم في ذنب يهلكون به ولا يتوبون منه، فلا ينافي هذا ما وقع من آدم وحواء أو نحوهما فإنه ذنب مغفور لوقوع التوبة عنه قال أهل المعاني معنى (عليهم) على قلوبهم، وقال سفيان بن عيينة: معناه ليس لك عليهم قوة وقدرة على أن تلقيهم في ذنب يضيق عنه عفوي، وهؤلاء خاصته أي الذين هداهم واجتباهم من عباده.
(إلا من اتبعك) استثنى سبحانه من عباده هؤلاء وهم المتبعون لإبليس (من الغاوين) عن طريق الحق الواقعين في الضلال وهو موافق لما قاله إبليس اللعين من قوله (لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصون).
ويمكن أن يقال بين الكلامين فرق، فكلام الله سبحانه فيه نفي سلطان إبليس على جميع عباده إلا من اتبعه من الغاوين، فيدخل في ذلك المخلصون وغيرهم ممن لم يتبع إبليس، وكلام إبليس اللعين يتضمن إغواء الجميع إلا المخلصين، فدخل فيهم من لم يكن مخلصاً ولا تابعاً لإبليس غاوياً.
والحاصل أن بين المخلصين والغاوين التابعين لإبليس طائفة لم تكن مخلصة ولا غاوية تابعة لإبليس، وقد قيل أن الغاوين المتبعين لإبليس هم المشركون ويدل على ذلك قوله تعالى (إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون) قال أبو السعود: وفيه مع كونه تحقيقاً لما قاله اللعين تفخيم لشأن المخلصين، وبيان لمنزلتهم، ولانقطاع مخالب الإغواء عنهم وإن إغواءه للغاوين ليس بطريق السلطان بل بطريق اتباعهم له بسوء اختيارهم.(7/171)
وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (43) لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (44) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (45) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ (46) وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (47) لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ (48) نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ (50) وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ (51) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (52)
ثم قال الله تعالى متوعداً لأتباع إبليس(7/172)
وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (43)
(وإن جهنم لموعدهم) أي موعد المتبعين الغاوين (أجمعين) تأكيد للضمير أو حال(7/172)
لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (44)
(لها سبعة أبواب) يدخل أهل النار منها وإنما كانت سبعة لكثرة أهلها (لكل باب منهم) أي من الأتباع الغواة (جزء مقسوم) أي نصيب وقدر معلوم متميز عن غيره. والجزء بعض الشيء، وجزأته جعلته أجزاء، والمراد هنا بالجزء الحزب والطائفة والفريق وقيل المراد بالأبواب الأطباق طبق فوق طبق.
قال ابن جريج: النار سبع دركات وهي: جهنم ثم لظى ثم الحطمة ثم السعير ثم سقر ثم الجحيم ثم الهاوية. فأعلاها لعصاة الموحدين، والثانية لليهود، والثالثة للنصارى، والرابعة للصابئين والخامسة للمجوس، والسادسة للمشركين، والسابعة للمنافقين، فجهنم أعلى الطبقات ثم ما بعدها تحتها، ثم كذلك، كذا قيل.
والمعنى أن الله تعالى يجزئ أتباع إبليس سبعة اجزاء فيدخل كل جزء وقسم دركة من النار، والسبب فيه أن مراتب الكفر والمعاصي مختلفة، فلذلك اختلفت مراتبهم في النار.
قال الخطيب: تخصيص هذا العدد لأن أهلها سبع فرق، وقيل جعلت(7/172)
سبعة على وفق الأعضاء السبعة من العين والإذن واللسان والبطن والفرج واليد والرجل لأنها مصادر السيئات فكانت مواردها الأبواب السبعة.
ولما كانت هي بعينها مصادر الحسنات بشرط النية والنية من أعمال القلب زادت الأعضاء واحداً فجعلت أبواب الجنان ثمانية، انتهى.
أقول: الحكمة في تخصيص هذا العدد لا تنحصر فيما ذكر، بل الأولى تفويضها إلى جاعلها وهو الله سبحانه، إلا أن يرد خبر صحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيجب المصير إليه.
وعن عليّ رضي الله عنه قال: أطباق جهنم سبعة بعضها فوق بعض، فيملأ الأول ثم الثاني ثم الثالث حتى تملأ كلها.
وأخرج البخاري في تاريخه والترمذي واستغربه عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لجهنم سبعة أبواب؛ باب منها لمن سل السيف على أمتي " (1) وأخرج ابن مردويه والخطيب في تاريخه عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " في الآية جزء أشركوا بالله وجزء شكوا في الله وجزء غفلوا عن الله " وقد وردت في صفة النار وأهوالها أحاديث وآثار كثيرة ليس هذا موضع استقرائها (2)
_________
(1) الترمذي، كتاب التفسير، سورة 15/ 2 - أحمد بن حنبل 29/ 94.
(2) وللمفسر كتاب جيد في التخويف من النار نشرته مطبعة الإمام.(7/173)
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (45)
(إن المتقين) أي الذين اتقوا الشرك بالله سبحانه كما قاله جمهور الصحابة والتابعين وهو الصحيح، وقيل هم الذين اتقوا جميع المعاصي، وبه قال الجبائي وجمهور المعتزلة والأول أولى، وأجمعت الأمة على أن التقوى عن الكفر شرط في حصول الحكم بدخول الجنة، وليس من شرط صدق الوصف بكونه متقياً أن يكون آتياً بجميع أنواع التقوى لأن الآتي بفرد واحد من أفراد التقوى يكون آتياً بالتقوى كما أن الضارب هو الآتي بالضرب ولو مرة واحدة والقاتل هو الآتي بالقتل ولو مرة واحدة وكل فرد من أفراد الماهية يجب أن يكون مشتملاً على تلك الماهية، وبهذا التحقيق استدلوا على أن الأمر لا يفيد التكرار.(7/173)
(في جنات) هي البساتين (وعيون) هي الأنهار الجارية أي مستغرقون فيهما والتركيب يحتمل أن يكون لجميعهم جنات وعيون أو لكل واحد منهم جنات وعيون أي عدة منهما كقوله تعالى (ولمن خاف مقام ربه جنتان) أو لكل واحد منهم جنة وعين تجري في قصوره ودوره فينتفع بها هو ومن يختص به من حوره وولدانه، قال الرازي: يحتمل أن يكون منها ما ذكره الله تعالى في قوله (مثل الجنة التي وعد المتقون فيها أنهار من ماء غير آسن) الآية ويحتمل أن يكون المراد من هذه العيون منابع مغايرة لتلك الأنهار.(7/174)
ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ (46)
(ادخلوها) أي قيل لهم ادخلوها وقرئ على أنه فعل مبني للمفعول أي أدخلهم الله إياها، وقد قيل إنهم إذا كانوا في جنات وعيون فكيف يقال لهم بعد ذلك ادخلوها على قراءة الجمهور فإن الأمر لهم بالدخول يشعر بأنهم لم يكونوا فيها، وأجيب بأن المعنى إنهم لما صاروا في الجنات فإذا انتقلوا من بعضها إلى بعض يقال لهم عند الوصول إلى التي أرادوا الانتقال إليها ادخلوها، والقائل هو الله تعالى أو بعض ملائكته.
(بسلام آمنين) أي بسلامة من جميع الآفات وأمن من المخافات أو من زوال هذا النعيم أو مسلمين على بعضهم بعضاً أو مسلماً عليهم من الملائكة أو من الله عز وجل.
وقال الضحاك: أمنوا الموت فلا يموتون ولا يكبرون ولا يسقمون ولا يعرون ولا يجوعون.(7/174)
وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (47)
(ونزعنا ما في صدورهم من غل) هو الحقد والعداوة والشحناء والبغضاء والحسد وكل ذلك مذموم داخل في الغل لأنها كامنة في القلب، وقد مر تفسيره في الأعراف، وعن الحسن البصري عن عليّ: فينا والله أهل الجنة نزلت وعنه قال نزلت في ثلاثة أحياء من العرب بني هاشم وبني تميم وبني عدي، وفي أبي بكر وعمر، وعنه قال: إني لأرجو أن أكون أنا وعثمان والزبير وطلحة فيمن قال الله (ونزعنا ما في صدورهم من غل) وعن ابن(7/174)
عباس قال: نزلت في عشرة أبي بكر وعمر وعثمان وعليّ وطلحة والزبير وسعد وسعيد وعبد الرحمن بن عوف وابن مسعود، وفي الباب روايات.
(إخواناً) حال مقدرة قاله أبو البقاء يعني من فاعل ادخلوها ولا حاجة إليه بل هي حال مقارنة من ضمير صدورهم، والمعنى حال كونهم إخوة في الدين بالتعاطف والمحبة والمودة والمخالطة، وليس المراد منه إخوة النسب، يروى أن المؤمنين يحبسون على باب الجنة فيقتص بعضهم من بعض ثم يؤمر بهم إلى الجنة وقد نقيت قلوبهم من الغل والغش والحقد والحسد وصاروا إخواناً حال كونهم (على سرر) من ذهب مكلّلة بالزبرجد والدر والياقوت.
قال أبو البقاء: يجوز أن يتعلق بنفس إخواناً لأنه بمعنى متصافين أي متصافين على سرر، وفيه نظر من حيث تأويل جامد بمشتق بعيد منه والسرر جمع سرير، وهو مثل ما بين صنعاء إلى الجابية، وقيل هو المجلس العالي الرفيع المهيأ للسرور ومنه قولهم سر الوادي لأفضل موضع منه.
(متقابلين) أي ينظر بعضهم إلى وجه بعض. قال مجاهد: لا يرى بعضهم قفا بعض، وعن ابن عباس نحوه فإذا اجتمعوا وتلاقوا ثم أرادوا الانصراف يدور سرير كل واحد منهم به بحيث يصير راكبه مقابلاً بوجهه لمن كان عنده، وقفاه إلى الجهة التي يسير لها السرير، وهذا أبلغ في الإنس والإكرام.
وأخرج الطبراني والبغوي وابن أبي حاتم وغيرهم عن زيد بن أبي أوفى قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فتلا هذه الآية قال: " المتحابون في الله في الجنة ينظر بعضهم إلى بعض ".(7/175)
لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ (48)
(لا يمسهم فيها) أي في الجنة مستأنفة أو حالية (نصب) أي تعب(7/175)
وإعياء لعدم وجود ما يتسبب عنه ذلك في الجنة لأنها نعيم خالص، ولذة محضة تحصل لهم بسهولة وتوافيهم مطالبهم بلا كسب ولا جهد، بل بمجرد خطور شهوة الشيء بقلوبهم يحصل ذلك الشيء عندهم صفواً عفواً قال السدي النصب المشقة والأذى (وما هم منها) أي من الجنة (بمخرجين) أبداً، وهذا نص من الله الكريم في كتابه العزيز على خلود أهل الجنة في الجنة والمراد منه خلود بلا زوال وبقاء بلا فناء وكمال بلا نقصان وفوز بلا حرمان، وفي هذا الخلود الدائم وعلمهم به تمام اللذة وكمال النعيم، فإن علم من هو في نعمة ولذة بانقطاعها وعدمها بعد حين موجب لتنغص نعيمه وتكدر لذته.
ثم قال سبحانه بعد أن قص علينا ما للمتقين عنده من الجزاء العظيم والأجر الجزيل(7/176)
نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49)
(نبئ عبادي أني) بفتح الياء فيهما وسكونهما فيهما سبعيتان أي أخبر يا محمد كل من كان معترفاً بعبوديتي وهذا كما يدخل فيه المؤمن المطيع كذلك يدخل فيه المؤمن العاصي (أنا الغفور الرحيم) أي أنا الكثير المغفرة لذنوبهم الكثير الرحمة لهم كما حكمت به على نفسي إن رحمتي سبقت غضبي (1) اللهم اجعلنا من عبادك الذين تفضلت عليهم بالمغفرة وأدخلتهم تحت أوسع الرحمة.
أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن مصعب بن ثابت قال: مرّ النبي صلى الله عليه وسلم على ناس من أصحابه يضحكون فقال: " اذكروا الجنة واذكروا النار " فنزلت هذه الآية.
وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله خلق الرحمة يوم خلقها مائة رحمة فأمسك عنده تسعة وتسعين رحمة وأرسل في خلقه كلهم رحمة واحدة فلو يعلم الكافر كل
_________
(1) مسلم 2751 - البخاري 1509.(7/176)
الذي عند الله من رحمته لم ييأس من الرحمة، ولو يعلم المؤمن بكل الذي عند الله من العذاب لم يأمن من النار (1).
ثم إن الله سبحانه لما أمر رسوله أن يخبر عباده بهذه البشارة العظيمة أمره بأن يذكر لهم شيئاً مما يتضمن التخويف والتحذير حتى يجتمع الرجاء والخوف ويتقابل التبشير والتحذير ليكونوا راجين خائفين فقال
_________
(1) لم يوجد بهذا اللفظ عند مسلم وورد ما جاء في حديثين مختلفين 2752 - 2755 وأخرجه البخاري في كتاب الرقاق باب 19.(7/177)
وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ (50)
(وأن عذابي هو العذاب الأليم) أي الكثير الإيلام.
وعند أن جمع الله لعباده بين هذين الأمرين من التبشير والتحذير، صاروا في حالة وسطاً بين اليأس والرجاء وخير الأمور أوسطها، وهي القيام على قدمي الرجاء والخوف، وبين حالتي الإنس والهيبة، وقيل لو يعلم العبد قدر عفو الله لما تورع عن حرام ولو يعلم قدر عذابه لما أقدم على ذنب.
وفي هذه الآية لطائف منها أنه أضاف العباد إلى نفسه بقوله (نبئ عبادي) وهذا تشريف لهم وتعظيم كما أضاف في قوله (أسرى بعبده ليلاً) ولم يزد عليه ومنها أنه أكد ذكر الرحمة والمغفرة بمؤكدات ثلاثة:
أولها: قوله (أني).
وثانيها: (أنا).
وثالثها: التعريف في (الغفور الرحيم). وهذا يدل على تغليب جانب الرحمة والمغفرة، ولم يقل في ذكر العذاب أني أنا المعذب ولم يصف نفسه بذلك بل قال على سبيل الإخبار (أن عذابي هو العذاب الأليم).
ومنها أنه أمر رسوله أن يبلغ عباده هذا المعنى، فكأنه أشهد رسوله على نفسه في التزام المغفرة والرحمة.
ثم أتبع ذلك بقصص الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ليكون سماعها(7/177)
مرغباً في العبادة الموجبة للفوز بدرجات السعداء، ومحذراً عن المعصية الموجبة لاستحقاق دركات الأشقياء وذكر هنا أربع قصص: قصة إبراهيم ثم قصة لوط ثم قصة شعيب ثم قصة صالح، وسيأتي تفصيلها. وافتتح من ذلك بقصة إبراهيم عليه الصلاة والسلام فقال:(7/178)
وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ (51)
(ونبئهم عن ضيف إبراهيم) أي أخبرهم بما جرى على إبراهيم من الأمر الذي اجتمع فيه له الرجاء والخوف والتبشير الذي خالطه نوع من الوجل ليعتبروا بذلك ويعلموا أنها سنة الله في عباده؛ وأيضاً لما اشتملت القصة على إنجاء المؤمنين وإهلاك الظالمين كان في ذلك تقرير لكونه الغفور الرحيم، وأن عذابه هو العذاب الأليم.
وأصل الضيف الميل، يقال أضفت إلى كذا إذا ملت إليه، والضيف من مال إليك نزولاً بك، وصارت الضيافة متعارفة في القرى، وهو في الأصل مصدر ولذلك وحد، وإن كانوا جماعة ملائكة اثني عشر أو عشرة أو ثلاثة منهم جبريل على صورة غلمان حسان أرسلهم الله إليه ليبشروه بالولد ويهلكوا قوم لوط عليه السلام، وقد مر تفسير القصة مفصلاً في سورة هود عليه السلام، وسمي الضيف ضيفاً لإضافته إلى المضيف، وقد يجمع فيقال أضياف وضيوف وضيفان(7/178)
إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (52)
(إذ دخلوا) أي أذكر لهم وقت دخولهم (عليه فقالوا سلاماً) أي هذا اللفظ قالوه تحية لإبراهيم.
وفي الشهاب يجوز أن يكون سلاماً منصوباً بفعل مقدر أي سلمنا أو نسلم سلاماً، ويجوز نصبه بقالوا، ولم تذكر هنا تحية إبراهيم لهم، وقد ذكرت في سورة هود فالقصة هنا مختصرة.
(قال إنا منكم وجلون) أي خائفون فزعون، وإنما قال هذا بعد أن قرب إليهم العجل فرآهم لا يأكلون منه كما تقدم في سورة هود، فلما رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم وأوجس منهم خيفة. وقيل أنكر السلام منهم لأنه لم يكن في بلادهم، وقيل أنكر دخولهم عليه بغير استئذان.(7/178)
قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (53) قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (54) قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ (55) قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ (56) قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (57) قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (58) إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (59) إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ (60) فَلَمَّا جَاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (61)(7/179)
قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (53)
(قالوا) أي الملائكة (لا توجل) أي لا تخف، قاله عكرمة، وقرئ
لا تأجل وتوجل من أوجله أي أخافه (إنا نبشرك بغلام عليم) مستأنفة لتعليل النهي عن الوجل لأن المبشر لا يخاف منه، والعليم كثير العلم، وقيل هو الحليم كما وقع في موضع آخر من القرآن. وهذا الغلام هو إسحاق كما تقدم في هود، ولم يسمه هنا ولا ذكر التبشير بيعقوب اكتفاء بما سلف.(7/179)
قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (54)
(قال أبشرتموني) قرئ بألف الاستفهام وبغيرها (على أن مسني الكبر) أي مع حالة الكبر والهرم (فبم تبشرون) استفهام إنكار أو تعجب كأنه عجب من حصول الولد له مع ما قد صار إليه من الهرم الذي جرت العادة بأنه لا يولد لمن بلغ إليه، والمعنى فبأى شيء تبشرون، فإن البشارة بما لا يكون عادة لا تصح(7/179)
قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ (55)
(قالوا بشرناك بالحق) أي بما يكون لا محالة، أو باليقين الذي لا لبس فيه ولا خلف فيه فإن ذلك وعد الله وهو لا يخلف الميعاد ولا يستحيل عليه شيء، فإنه القادر على كل شيء.
(فلا تكن من القانطين) أي الآيسين من ذلك الذي بشرناك به فإنه تعالى قادر على أن يخلق بشراً من غير أبوين فكيف من شيخ فإن وعجوز عاقر، وكان تعجب إبراهيم باعتبار العادة دون القدرة ولذلك:(7/179)
قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ (56)
(قال ومن يقنط من رحمة ربه) قرئ بفتح النون من يقنط وبكسرها(7/179)
وهما لغتان سبعيتان، وحكى فيه ضم النون شاذاً، والقنوط اليأس وبابه جلس ودخل وطرب وسلم فهو قانط وقنوط.
(إلا الضالون) أي المكذبون أو المخطئون الذاهبون عن طريق الصواب والمعرفة فلا يعرفون سعة رحمة الله تعالى وكمال علمه وقدرته، كما قال الله تعالى إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون، أي إني إنما استبعدت الولد لكبر سني لا لقنوطي من رحمة ربي.
ثم سألهم عما لأجله أرسلهم الله سبحانه(7/180)
قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (57)
(قال فما خطبكم أيها المرسلون) الخطب الأمر الخطير والشأن العظيم، أي فما أمركم وشأنكم وما الذي جئتم به غير ما قد بشرتموني به، وكان قد فهم أن مجيئهم ليس لمجرد البشارة بل لهم شأن آخر لأجله أرسلوا لأنهم كانوا عدداً والبشارة لا تحتاج إلى عدد، ولذلك اكتفى بالواحد في بشارة زكريا ومريم عليهما السلام، أو لأنهم بشروه في تضاعيف الحال لازالة الوجل، ولو كانت البشارة تمام المقصود لابتدأوه بها.(7/180)
قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (58)
(قالوا إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين) أي إلى قوم لهم إجرام، فيدخل تحت ذلك الشرك وما هو دونه، وهؤلاء القوم هم قوم لوط عليه السلام، ثم استثنوا منهم من ليسوا بمجرمين فقالوا:(7/180)
إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (59)
(إلا آل لوط) وهو استثناء متصل لأنه من الضمير المستكن في مجرمين بمعنى أجرموا كلهم إلا آل لوط فإنهم لم يجرموا، ولو كان من قوم لكان منقطعاً لكونهم قد وصفوا بكونهم مجرمين، وليس آل لوط مجرمين البتة، ويجب فيه على هذا النصب.
ثم ذكروا ما سيختص به آل لوط من الكرامة لعدم دخولهم مع القوم في إجرامهم فقالوا (إنا لمنجوهم) أي آل لوط (أجمعين) وهم أتباعه وأهل بيته ودينه لايمانهم، قرئ من التنجية والإنجاء ومعناهما التخليص مما وقع فيه غيرهم وهذا الكلام استئناف إخبار بنجاتهم بكونهم لم يجرموا ويكون الإرسال(7/180)
حينئذ شاملاً للمجرمين ولآل لوط لإهلاك أولئك وإنجاء هؤلاء على تقدير الاتصال، وعلى أنه منقطع، جرى هذا الكلام مجرى خبر، لكن في اتصاله بآل لوط لأن المعنى لكن آل لوط ننجيهم.(7/181)
إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ (60)
(إلا امرأته) فليست ممن ننجيه بل ممن نهلكه لكفرها، وهذا الاستثناء من الضمير في لمنجوهم إخراجاً لها من التنجية، وقيل من آل لوط باعتبار ما حكم لهم به من التنجية، والمعنى أنها من الهالكين لأن الاستثناء من النفي إثبات ومن الإثبات نفي، ومنعه الزمخشري وقال: كيف يكون استثناء من استثناء، وقد اختلف الحكمان.
(قدرنا أنها لمن الغابرين) أي قضينا وحكمنا أنها من الباقين في العذاب مع الكفرة، والغابر الباقي والماضي، وهو من الاضداد وبابه دخل.
قال الزجاج: معنى قدرنا دبرنا وهو قريب من معنى قضينا، وأصل التقدير جعل الشيء على مقدار الكفاية، وقرئ قدرنا بالتخفيف وبالتشديد.
قال الهروي: هما بمعنى وقيل ضمن قدرنا معنى العلم فلذلك علق باللام مع كون التعليق من خصائص أفعال القلوب فكسرت إن.
وقيل هذا لا يصلح علة لكسرها إنما يصلح علة لتعليقها الفعل قبلها فقط، والعلة في كسرها وجود اللام ولولاها لفتحت، وإنما أسند التقدير إلى الملائكة مع كونه من فعل الله سبحانه مجازاً لما لهم من القرب عند الله، أو أنهم رسل الله وواسطة بينه وبين خلقه.(7/181)
فَلَمَّا جَاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (61)
(فلما جاء آل لوط المرسلون) مستأنفة لبيان إهلاك من يستحق الهلاك وتنجية من يستحق النجاة، وفي الكلام حذف، أي فخرجوا من عند إبراهيم وسافروا من قريته إلى قرية لوط، وكان بينهما أربعة فراسخ، ولفظة آل زائدة بدليل ولقد جاءت رسلنا لوطاً.(7/181)
قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (62) قَالُوا بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (63) وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (64) فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (65) وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (66) وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (67) قَالَ إِنَّ هَؤُلَاءِ ضَيْفِي فَلَا تَفْضَحُونِ (68) وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ (69) قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ (70) قَالَ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (71)(7/182)
قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (62)
(قال) لوط مخاطباً لهم (إنكم قوم منكرون) لا أعرفكم بل أنكركم وأخاف أن تصيبوني بمكروه ولا أعرف غرضكم ولا من أي القبائل أنتم.(7/182)
قَالُوا بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (63)
(قالوا بل جئناك بما كانوا فيه يمترون) أي بالعذاب الذي كانوا يشكون فيه فالإضراب هو عن مجيئهم بما ينكره، كأنهم قالوا ما جئناك بما خطر ببالك من المكروه، بل جئناك بما فيه سرورك وهو عذابهم الذي كنت تحذرهم منه وهم يكذبونك فيه قبل مجيئه.(7/182)
وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (64)
(وأتيناك) متلبسين (بالحق) أي باليقين الذي لا مرية فيه ولا تردد أو متلبساً أنت به لإبصارك له، وهو العذاب النازل بهم لا محالة (وإنا لصادقون) في ذلك الخبر الذي أخبرناك.
وقد تقدم تفسير قوله(7/182)
فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (65)
(فأسر بأهلك بقطع من الليل) في سورة هود أي سر في جزء من الليل بهم، وهم بنتاه، فلم يخرج من قريته إلا هو وبنتاه، وفي القرطبي في سورة هود: فخرج لوط وطوى الله له الأرض في وقته حتى نجا ووصل إلى إبراهيم (واتبع أدبارهم) أي كن من ورائهم وامش خلفهم تذودهم لئلا يتخلف منهم أحد فيناله العذاب، أو لأجل أن تطمئن عليهم وتعرف أنهم ناجون.
(ولا يلتفت منكم أحد) أي أنت ولا أحد منهم فيرى ما نزل بهم من(7/182)
العذاب فيشتغل بالنظر في ذلك ويتباطأ عن سرعة السير والبعد عن ديار الظالمين وقيل معنى لا يلتفت لا يتخلف (وأمضوا حيث تؤمرون) أي إلى الجهة التي أمركم الله سبحانه بالمضي إليها وهي جهة الشام وقيل مصر، وقيل قرية من قرى لوط، وقيل أرض الخليل عليه الصلاة والسلام وقيل الأردن، وزعم بعضهم إن حيث هنا ظرف زمان مستدلاً بقوله (بقطع من الليل) ثم قال (وامضوا حيث تؤمرون) أي في ذلك الزمان، وهو ضعيف، ولو كان كما قال لكان التركيب وامضوا حيث أمرتم، على أنه لو جاء التركيب هكذا لم يكن فيه دلالة(7/183)
وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (66)
(وقضينا إليه) أي أوحينا إلى لوط عليه السلام (ذلك الأمر) هو إهلاك قومه ثم فسره بقوله:
(أن دابر هؤلاء مقطوع) الدابر هو الآخر، أي أن آخر من يبقى منهم يهلك (مصبحين) أي حال كونهم داخلين في وقت الصبح، ومثله (فقطع دابر القوم الذين ظلموا) وقدره الفراء وأبو عبيدة إذا كانوا مصبحين، قال الكرخي: فإن كان تفسير معنى فصحيح، وأما الإعراب فلا ضرورة تدعو إليه، قال ابن عباس: يعني استئصال هلاكهم.
ثم ذكر سبحانه ما كان من قوم لوط عند وصول الملائكة إلى قريتهم فقال(7/183)
وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (67)
(وجاء أهل المدينة) أي أهل مدينة قوم لوط وهي سذوم بسين مهملة فذال معجمة على وزن فعول، وأخطأ من قال بمهملة مدينة من مدائن قوم لوط كما سبق وتقدم أن هذا المجيء قبل قول الملائكة (فأسر بأهلك) فما في سورة هود على الترتيب الواقعي، وما هنا على خلافه، والواو لا تفيد ترتيباً.
قال الكرخي: ذكر القصة في هود بترتيب الوقوع، وهنا أخر ذكر مجيئهم عن قول الرسل، بل جئناك مع تقدمه ليستقل الأول ببيان كيفية نصرة الصابرين، والثاني بتساوي الأمم (يستبشرون) أي مستبشرين بأضياف لوط طمعاً في ارتكاب الفاحشة منهم، والاستبشار إظهار الفرح والسرور.(7/183)
قَالَ إِنَّ هَؤُلَاءِ ضَيْفِي فَلَا تَفْضَحُونِ (68)
(قال) لهم لوط (إن هؤلاء ضيفي) وحد الضيف لأنه مصدر كما تقدم، والمراد أضيافي، وسماهم ضيفاً لأنه رآهم على هيئة الأضياف، وقومه رأوهم مرداً حسان الوجوه في غاية الحسن ونهاية الجمال، فلذلك طمعوا فيهم (فلا تفضحون) يقال فضحه يفضحه فضيحة وفضحاً إذا أظهر من أمره ما يلزمه العار بإظهاره.
وفي المختار فضحه فافتضح، أي كشف مساويه وبابه قطع، والاسم الفضيحة والفضوح أيضًا بضمتين، والمعنى لا تفضحوني عندهم بتعرضكم لهم بالفاحشة فيعلمون إني عاجز عن حماية من نزل بي، أو لا تفضحوني بفضيحة ضيفي، فإن من فعل ما يفضح الضيف فقد فعل مايفضح المضيف.(7/184)
وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ (69)
(واتقوا الله) في أمرهم من ركوب الفاحشة (ولا تخزون) يجوز أن يكون من الخزي وهو الذل والهوان، أي لا تذلوني، ويجوز أن يكون من الخزاية وهي الحياء والخجل، وقد تقدم تفسير ذلك في سورة هود.(7/184)
قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ (70)
(قالوا) أي قوم لوط مجيبين له (أوَ لم ننهك عن العالمين) الاستفهام للإنكار والواو للعطف على مقدر، أي ألم نتقدم إليك وننهك عن أن تكلمنا في شأن أحد من الناس إذا قصدناه بالفاحشة، وقيل نهوه عن ضيافة غرباء الناس قال قتادة: يقولون أو لم ننهك إن تضيف أحداً أو تؤويه في قريتنا، ويجوز حمل مما في الآية على مما هو أعم من ذلك.(7/184)
قَالَ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (71)
(قال هؤلاء بناتي) فتزوجوهن حلالاً إن أسلمتم ولا تركبوا الحرام، وقيل أراد ببناته نساء قومه لكون النبي بمنزلة الأب لقومه أو إنه كان في شريعته يحل تزوج الكافر بالمسلمة، والأول أولى وقد تقدم تفسير هذا في هود (إن كنتم فاعلين) ما عزمتم عليه من فعل الفاحشة بضيفي أو ما أمركم به.(7/184)
لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (73) فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (74) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (75) وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ (76) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (77) وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ (78)(7/185)
لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72)
(لعمرك) العمر والعمر بالفتح والضم واحد لكنهم خصوا القسم بالمفتوح لإيثار الأخف فإنه كثير الدور على ألسنتهم؛ ذكر ذلك الزجاج وهو اسم لمدة عمارة بدن الإنسان بالحياة والروح وعيشه والبقاء مدة حياته في الدنيا، والمعنى لعمرك قسمي أو يميني فحذف الخبر لدلالة الكلام عليه.
قال القاضي عياض: اتفق أهل التفسير في هذا أنه قسم من الله جل جلاله بمدة حياة محمد صلى الله عليه وسلم. وكذا حكى إجماع المفسرين على هذا المعنى أبو بكر بن العربي فقال: قال المفسرون بأجمعهم: أقسم الله تعالى هاهنا بحياة محمد صلى الله عليه وسلم تشريفاً له، قال أبو الجوزاء: ما أقسم الله سبحانه بحياة أحد غير محمد صلى الله عليه وسلم لأنه أكرم البرية عنده.
وعن ابن عباس قال: ما خلق الله وما ذرأ وما برأ نفساً أكرم عليه من محمد صلى الله عليه وسلم، وما سمعت الله أقسم بحياة أحد غيره قال (لعمرك) الآية يقول وحياتك يا محمد وعمرك وبقائك في الدنيا وعيشك بها.
وعن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ما حلف الله بحياة أحد إلا بحياة محمد صلى الله عليه وسلم قال (لعمرك) الآية " أخرجه ابن مردويه، كذا في الدر المنثور للسيوطي.(7/185)
قال ابن العربي: ما الذي يمنع أن يقسم الله سبحانه بحياة لوط ويبلغ به من التشريف ما شاء، وكل ما يعطيه الله سبحانه للوط من فضل يؤتى ضعفه من شرف لحمد صلى الله عليه وسلم لأنه أكرم على الله منه، أو لا تراه سبحانه أعطى إبراهيم الخلة وموسى التكليم وأعطى ذلك لمحمد صلى الله عليه وسلم، قال فإذا أقسم الله سبحانه بحياة لوط فحياة محمد صلى الله عليه وسلم أرفع، قال القرطبي: ما قاله حسن فإنه يكون قسمه سبحانه بحياة محمد صلى الله عليه وسلم كلاماً معترضاً في قصة لوط عليه السلام.
فإن قيل قد أقسم الله سبحانه بالتين والزيتون وطور سينين ونحو ذلك فما فيها من فضل، وأجيب بأنه ما من شيء أقسم الله به إلا وفي ذلك دلالة على فضله على جنسه، وقيل الإقسام منه سبحانه بالتين والزيتون وطور سينين والنجم والضحى والشمس والليل ونحو ذلك هو على حذف مضاف هو المقسم به، أي وخالق التين وكذلك ما بعده، وفي قوله (لعمرك) أي وخالق عمرك.
وذكر صاحب الكشاف وأتباعه أن هذا القسم هو من الملائكة على إرادة القول، أي قالت الملائكة للوط لعمرك، ثم قال: وقيل الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه أقسم بحياته وما أقسم بحياة أحد قط كرامة له. انتهى.
وقد كره كثير من العلماء القسم بغير الله سبحانه، وجاءت بذلك الأحاديث الصحيحة في النهي عن القسم بغير الله فليس لعباده أن يقسموا بغيره وهو سبحانه يقسم بما شاء من مخلوقاته لا يسأل عما يفعل وهم يسألون.
(إنهم لفي سكرتهم يعمهون) أي أنهم لفي غوايتهم وشدة غِلمَتهم التي أزالت عقولهم وتمييزهم بين خطئهم والصواب الذي يشار به إليهم(7/186)
يتحيرون، جعل الغواية لكونها تذهب بعقل صاحبها كما تذهب به الخمر سكرة، والضمير لقريش على أن القسم بمحمد صلى الله عليه وسلم، والجملة اعتراض، أو لقوم لوط على أن القسم بلوط، قال قتادة: أي في ضلالهم يلعبون، وقال الأعمش لفي غفلتهم يترددون، وعمه من باب تعب كما في المختار.(7/187)
فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (73)
(فأخذتهم الصيحة) العظيمة أو صيحة جبريل والصيحة العذاب، قال ابن جريج: الصيحة مثل الصاعقة وكل شيء أهلك به قوم فهو صاعقة وصيحة (مشرقين) أي حال كونهم داخلين في وقت الشروق، يقال أشرقت الشمس أي أضاءت وشرقت إذا طلعت، وقيل هما لغتان بمعنى واحد، وأشرق القوم إذا دخلوا في وقت شروق الشمس، وقيل أراد شروق الفجر، وقيل أول العذاب كان عند شروق الفجر حين أصبحوا وامتد تمامه إلى طلوع الشمس حين أشرقوا، فلذلك قال أولاً مقطوع مصبحين وقال هاهنا مشرقين(7/187)
فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (74)
(فجعلنا) مرتب على أخذ الصيحة (عاليها) أي عالي المدينة أو عالي قرى قوم لوط (سافلها) وقال الزمخشري الضمير لقرى، ورجح الأول بأنه تقدم ما يعود إليه لفظاً بخلاف الثاني، والمراد بعاليها وجه الأرض وما عليه رفعها جبريل إلى السماء من الأرض السفلى وأسقطها مقلوبة إلى الأرض، وكانت أربعة قرى فيها أربعمائة ألف مقاتل.
(وأمطرنا عليهم) أي على من كان خارجاً عن قراهم بأن كان غائباً في سفر أو غيره (حجارة من سجيل) أي من طين متحجر طبخ بالنار، وقد تقدم الكلام مستوفى على هذا في سورة هود.(7/187)
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (75)
(إن في ذلك) المذكور من قصتهم وبيان ما أصابهم (لآيات للمتوَسِّمين) أى للمتفكرين الناظرين في الأمر يستدلون بها، وقال أبو عبيدة للمتبصرين، وقال قتادة: للمعتبرين، وقيل للمتأملين كأنهم يعرفون باطن الشيء بسمة ظاهرة وقال مجاهد للمتفرسين.(7/187)
وأخرج البخاري في التاريخ والترمذي وابن جرير وابن أبي حاتم وابن السني وأبو نعيم وابن مردويه والخطيب عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله، ثم قرأ (إن في ذلك لآيات للمتوسمين) " (1) والفراسة على نوعين:
أحدهما: ما يوقعه الله في قلوب الصلحاء فيعلمون بذلك أحوال الناس بإصابة الحدس والنظر والظن والتثبت.
والثاني: ما يحصل بدلائل التجارب والأخلاق، وللناس في هذا العلم تصانيف قديمة وحديثة، وقال ثعلب: الواسم الناظر إليك من فرقك إلى قدمك، والمعنى متقارب، وأصل التوسم التثبت والتفكر تفعل مأخوذ من الوسم وهو التأثير بحديدة في جلد البعير أو البقر، وقيل أصله استقصاء التعرف يقال توسمت أي تعرفت مستقصياً وجوه التعرف، وقيل هو من الوسم بمعنى العلامة.
_________
(1) الترمذي كتاب التفسير سورة 15/ 6.(7/188)
وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ (76)
(وإنها لبسبيل مقيم) يعني قرى قوم لوط أو مدينتهم على طريق ثابت أو الباء بمعنى (في) وهي الطريق من المدينة إلى الشام فإن السالك في هذه الطريق يمر بتلك القرى ويشاهدها ويرى أثر عذاب الله وغضبه لأنه لم يدثر ولم يخف ولم يزل، وعن ابن عباس معنى لبسبيل لبهلاك، وعن مجاهد لبطريق معلم ليس يخفى وعن قتادة لبطريق واضح.(7/188)
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (77)
(إن في ذلك) المذكور من المدينة أو القرى أو ما أنزل بهم من العذاب (لآية للمؤمنين) يعتبرون بها فإن المؤمنين بالله والأنبياء والمرسلين من العباد هم الذين يعتبرون بما يشاهدونه من الآثار ويعرفون إن ذلك إنما كان لانتقام(7/188)
الله من الجهال لأجل مخالفتهم، وأما الذين لا يؤمنون فيحملونه على حوادث العالم وحصول القرانات الكوكبية والاتصالات الفلكية.
وجمع الآيات أولاً باعتبار تعدد ما قص من حديث لوط وضيف إبراهيم وتعرض قوم لوط لهم وما كان من إهلاكهم وقلب المدائن على من فيها وإمطار الحجارة على من غاب عنها، وحدها ثانياً باعتبار وحدة قرية قوم لوط المشار إليها بقوله (وأنها لبسبيل مقيم) فلا يرد كيف جمع الآية أولاً ووحدها ثانياً والقصة واحدة.(7/189)
وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ (78)
(وإن كان أصحاب الأيكة) شروع في قصة شعيب وذكرت هاهنا مختصرة وسيأتي بسطها في سورة الشعراء، والأيكة الغيضة وهي جماع الشجر ومجمع الشيء والجمع الأيك، وفي الأصل اسم للشجر الملتف، والمراد بها هنا البقعة التي فيها شجر مزدحم، ففي الكلام مجاز من إطلاق الحال على المحل، ويروى إن شجرهم كان دوماً وهو المقل.
فالمعنى وإن كان أصحاب الشجر المجتمع وأرباب بقعة الأشجار باعتبار إقامتهم فيها وملازمتهم لها (لظالمين) بتكذيبهم شعيباً، واقتصر الله سبحانه هنا على وصفهم بالظلم، وقد فصل ذلك الظلم فيما سبق، واللام فيه للتأكيد وقيل الأيكة اسم القرية التي كانوا فيها، قال أبو عبيدة: أيكة وليكة مدينتهم كمكة وبكة، وأصحابها هم قوم شعيب، وقد تقدم خبرهم.
وقد أخرج ابن مردويه وابن عساكر عن ابن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " إن مدين وأصحاب الأيكة أمتان بعث الله إليهما شعيباً "، وعن ابن عباس قال: " أصحاب الأيكة هم قوم شعيب " والأيكة ذات آجام وشجر كانوا فيها.(7/189)
فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ (79) وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (80) وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا فَكَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (81) وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ (82) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ (83)(7/190)
فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ (79)
(فانتقمنا منهم) أي أهلكناهم بالعذاب وذلك أن الله سلط عليهم شدة الحر سبعة أيام حتى أخذ بأنفاسهم وقربوا من الهلاك فبعث الله سبحانه لهم سحابة كالظلة فالتجؤوا إليها واجتمعوا تحتها للتظلل يلتمسون الروح، فبعث ناراً فأحرقتهم جميعاً.
(وإنهما) الضمير يرجع إلى مدينة قوم لوط ومكان أصحاب الأيكة أي وإن المكانين (لبإمام مبين) أي لبطريق واضح ظاهر، قاله ابن عباس، وقيل يعود على الخبرين خبر إهلاك قوم لوط وخبر إهلاك قوم شعيب، وقيل يعود على أصحاب الأيكة وأصحاب مدين لأنه مرسل إليهما فذكر أحدهما مشعر بالآخر وأرجح الأقوال هو الأول.
والإمام اسم لما يؤتم به ومن جملة ذلك الطريق التي تسلك، قال الفراء والزجاج، سمي الطريق إماماً لأنه يؤتم به ويتبع، وقال ابن قتيبة: لأن المسافر يأتم به حتى يصل إلى الموضع الذي يريده، وقيل الضمير للأيكة، ومدين لأن شعيباً كان ينسب إليهما.
ثم إن الله سبحانه ختم القصص بقصة ثمود فقال(7/190)
وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (80)
(ولقد كذب أصحاب الحجر) قال قتادة: هم أصحاب الوادي وكانوا ثمود قوم صالح، والحجر اسم لديار ثمود قاله الأزهري وهى ما بين مكة وتبوك، وقال ابن جرير: هي أرض بين الحجاز والشام وآثارها موجودة باقية يمر عليها ركب الشام إلى الحجاز وبالعكس.(7/190)
وإنما قال الله سبحانه (المرسلين) ولم يرسل إليهم إلا صالحاً لأن من كذب واحداً من الرسل فقد كذب الباقين لكونهم متفقين في الدعوة إلى الله، وقيل كذبوا صالحاً ومن تقدمه من الأنبياء، وقيل كذبوا صالحاً ومن معه من المؤمنين.(7/191)
وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا فَكَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (81)
(وآتيناهم آياتنا) المنزلة على نبيهم ومن جملتها الناقة فإن فيها آيات جمة كخروجها من الصخرة ودنوّ نتاجها عند خروجها وعظمها وكثرة لبنها وإنما إضاف الآيات إليهم وإن كانت لصالح لأنه مرسل إليهم بهذه الآيات (فكانوا عنها) أي عن الآيات (معرضين) أي غير معتبرين بها ولا ملتفتين إليها بل تاركين لها، ولهذا عقروا الناقة وخالفوا ما أمرهم به نبيهم، قال الكرخي: وذلك يدل على أن النظر والاستدلال واجب وأن التقليد مذموم.(7/191)
وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ (82)
(وكانوا ينحتون) النحت في كلام العرب البري والنجر، نحته ينحته بالكسر نحتاً أي براه وفي التنزيل أتعبدون ما تنحتون أي تنجرون وكانوا يتخذون لأنفسهم (من الجبال بيوتاً) بضم الباء وكسرها سبعيتان أي يخرقونها في الجبال (آمنين) أي حال كونهم آمنين من الخراب ونقب اللصوص لها لشدة إحكامها أو من أن يقع عليهم الجبل أو السقف، قاله الفراء، وقيل آمنين من الموت وقيل من العذاب ركوناً منهم على قوتها ووثاقتها.
وقال بعضهم المراد أنهم يتخذون بيوتاً في الجبال بنقرها وقطع الصخر منها بالمعاويل حتى تصير مساكن من غير بنيان.(7/191)
فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ (83)
(فأخذتهم الصيحة) أي العذاب وهو الرجفة أو الزلزلة الشديدة من الأرض (مصبحين) أي داخلين في وقت الصبح، وقد تقدم ذكر الصيحة في الأعراف وفي هود وتقدم أيضاً قريباً.(7/191)
فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (84) وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (85) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (86) وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (87) لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (88) وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (89) كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (90) الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (91)(7/192)
فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (84)
(فما أغنى) أي لم يدفع (عنهم) شيئاً من عذاب الله (ما كانوا يكسبون) من الأموال والحصون في الجبال أو من الشرك والأعمال الخبيثة.
أخرج البخاري وغيره عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحاب الحجر: " لا تدخلوا على هؤلاء القوم إلا أن تكونوا باكين فإن لم تكونوا باكين فلا تدخلوا عليهم أن يصيبكم مثل ما أصابهم " (1) وأخرج ابن مردويه عنه قال نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم عام غزوة تبوك بالحجر عند بيوت ثمود فاستقى الناس من مياه الآبار التي كانت تشرب منها ثمود وعجنوا منها ونصبوا القدور باللحم فأمرهم بإهراق القدور وعلفوا العجين الإبل ثم ارتحل على البئر التي كانت تشرب منها الناقة ونهاهم أن يدخلوا على القوم الذين عذبوا فقال إني أخشى أن يصيبكم مثل الذي أصابهم فلا تدخلوا عليهم " (2).
_________
(1) مسلم 2980 - البخاري 284.
(2) مسلم 2981 - البخاري 1595.(7/192)
وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (85)
(وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا) متلبسة (بالحق) وهو ما فيهما من الفوائد والمصالح، ولذلك اقتضت الحكمة إهلاك أمثال هؤلاء دفعاً(7/192)
لفسادهم وإرشاداً لمن بقي إلى الصلاح، وقيل المراد بالحق مجازاة المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته كما في قوله سبحانه (ولله ما في السماوات وما في الأرض ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى) وقيل المراد بالحق الزوال لأنها مخلوقة وكل مخلوق زائل.
(وإن الساعة لآتية) وعند إتيانها ينتقم الله ممن يستحق العذاب، ويحسن إلى من يستحق الإحسان، وفيه وعيد للعصاة وتهديد، ثم أمر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يصفح عن قومه فقال (فاصفح الصفح الجميل) أي تجاوز عنهم واعف عفواً حسناً، وقيل فأعرض عنهم إعراضاً جميلاً ولا تعجل عليهم بالانتقام وعاملهم معاملة الصفوح الحليم.
قال عليّ: الصفح الجميل الرضا بغير عتاب؛ وعن ابن عباس مثله وعن مجاهد قال: هذه الآية قبل القتال: وعن عكرمة مثله، يعني هذا منسوخ بآية السيف وفيه بعد، لأن الله أمر نبيه أن يظهر الخلق الحسن وأن يعاملهم بالعفو والصفح الخالي من الجزع والخوف والأمر بالصفح الجميل لا ينافي قتالهم.(7/193)
إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (86)
(إن ربك هو الخلاق) أي الخالق للخلق جميعاً (العليم) بأحوالهم وبالصالح والطالح منهم.(7/193)
وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (87)
(ولقد آتيناك سبعاً من المثاني) من للتبعيض أو للبيان على اختلاف الأقوال في المراد، ذكر معنى ذلك الزجاج فقال: هي للتبعيض إذا أردت بالسبع الفاتحة أو الطوال، وللبيان إذا أردت الاسباع؛ واختلف أهل العلم فيها ماذا هي، فقال جمهور المفسرين أنها الفاتحة.
قال الواحدي: وأكثر المفسرين على أنها فاتحة الكتاب، وهو قول عمر وعلي وابن مسعود والحسن ومجاهد وقتادة والربيع والكلبي، وزاد القرطبي أبا هريرة وأبا العالية، وزاد النيسابوري الضحاك. وسعيد بن جبير، وقد روي ذلك من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم كما سيأتي بيانه فتعين المصير إليه.(7/193)
وقيل هي السبع الطوال: البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والأنعام والأعراف والسابعة الأنفال والتوبة لأنهما كسورة واحدة إذ ليس بينهما تسمية روي هذا عن ابن عباس.
وقيل السابعة هي سورة يونس، وقيل المراد بها السبعة الأحزاب فإنها سبع صحائف: وقيل هي السور التي دون الطوال وفوق المفصل وهي التين.
والمثاني جمع مثناة من التثنية وهي التكرير أو جمع مثنية. وقال الزجاج: يثنى بما يقرأ بعدها معها؛ فعلى القول الأول يكون وجه تسمية الفاتحة مثاني أنها تثنى أي تكرر في كل صلاة، وعلى القول بأنها السبع الطوال فوجه التسمية أن العبر والأحكام والحدود كررت فيها، وعلى القول بأنه السبعة الأحزاب يكون وجه التسمية هو تكرير ما في القرآن من القصص ونحوها.
وقد ذهب إلى أن المراد بالسبع المثاني القرآن كله الضحاك وطاووس وأبو مالك وهو رواية عن ابن عباس، واستدلوا بقوله تعالى (كتاباً متشابهاً مثاني) وقيل المراد بالسبع المثاني أقسام القرآن: وهي الأمر والنهي والتبشير والإنذار وضرب الأمثال وتعريف النعم، وأنباء القرون الماضية، قاله زياد بن أبي مريم. ولا يخفى عليك أن تسمية الفاتحة مثاني لا يستلزم نفي تسمية غيرها بهذا الاسم، وقد تقرر أنها المرادة بهذه الآية فلا يقدح في ذلك صدق وصف المثاني على غيرها (والقرآن العظيم) المراد به سائر القرآن؛ قاله ابن مسعود، فيكون من عطف العام على الخاص لأن الفاتحة بعض من القرآن؛ وكذلك أن أريد بالسبع المثاني السبع الطوال لأنها بعض من القرآن إن أريد به القدر المشترك الصادق على الكل والبعض أو من عطف الكل على البعض إن أريد به المجموع الشخصي.
وأما إذا أريد بها السبعة الأحزاب أو جميع القرآن أو أقسامه من باب عطف أحد الوصفين على الآخر.
ومما يقوي كون السبع المثاني هي الفاتحة أن هذه السورة مكيّة وأكثر(7/194)
السبع الطوال مدنية؛ وكذلك أكثر القرآن وأكثر أقسامه، وظاهر قوله (ولقد آتيناك) الخ أنه قد تقدم إيتاء السبع على نزول هذه الآية.
وقد ثبت في صحيح البخاري من حديث أبي سعيد بن المعلى أنه قال له النبي صلى الله عليه وسلم: ألا أعلمك أفضل سورة قبل أن أخرج من المسجد؛ فذهب النبي صلى الله عليه وسلم ليخرج فذكرت فقال " الحمد لله رب العالمين هي السبع المثاني والقرآن العظيم " (1).
وأخرج البخاري أيضاً من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أم القرآن هي السبع المثاني والقرآن العظيم " (2).
فوجب بهذا المصير إلى القول بأنها فاتحة الكتاب، ولكن تسميتها بذلك لا ينافي تسمية غيرها به كما قدمنا، وعن الضحاك قال: المثاني القرآني يذكر الله القصة الواحدة مراراً، وعن زياد بن أبي مريم في الآية قال: أعطيتك سبعة أجزاء: مُرْ، وأنْهَ، وبشِّر، وأنذر، واضرب الأمثال، واعدد النعم، واتل نبأ القرآن.
ثم لما بيَّن الله لرسوله صلى الله عليه وسلم ما أنعم به عليه من هذه النعمة الدينية نفره الله عن اللذات العاجلة الزائلة فقال
_________
(1) البخاري التفسير سورة 1/ 1 - 15/ 3. الترمذي كتاب ثواب القرآن الباب1.
(2) البخاري، كتاب فضائل القرآن، الباب 9 - الترمذي، كتاب ثواب القرآن، باب1.(7/195)
لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (88)
(لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجاً منهم) أي لا تطمح ببصرك إلى زخارف الدنيا طموح رغبة فيها وتمن لها؛ قال الواحدي: إنما يكون ماداً عينيه إلى الشيء إذا أدام النظر نحوه وإدامة النظر إليه تدل على استحسانه وتمنيه.
وقال بعضهم: المعنى لا تحسدن أحداً على ما أوتي من الدنيا، ورد بأن الحسد منهى عنه مطلقاً، وإنما قال في هذه السورة لا تمدن بغير واو؛ لأنه لم يسبقه طلب بخلاف ما في سورة طه.(7/195)
وعن ابن عباس قال: في قوله لا تمدن عينيك نهى الرجل أن يتمنى مال صاحبه والأزواج الأصناف قاله ابن قتيبة. وقال الجوهري: الأزواج القرناء؛ وقيل يعني اليهود والنصارى والمجوس. وعن مجاهد في قوله أزواجاً منهم، قال الأغنياء الأمثال والأشباه.
وعن سفيان بن عيينة قال: من أعطي القرآن فمد عينيه إلى شيء مما صغر القرآن فقد خالف القرآن ألم تسمع قوله (ولقد آتيناك سبعاً من المثاني) إلى قوله (ورزق ربك خير وأبقى) وقد فسر ابن عيينة أيضاً الحديث الصحيح " ليس منا من لم يتغن بالقرآن " (1) فقال إن المعنى لم يستغن به.
ثم لما نهاه عن الالتفات إلى أموالهم وأمتعتهم نهاه عن الالتفات إليهم فقال (ولا تحزن عليهم) حيث لم يؤمنوا وصمموا على الكفر والعناد. وقيل المعنى لا تحزن على ما متعوا به في الدنيا وفاتك من مشاركتهم فيها فإن لك الآخرة؛ والأول أولى.
روى البغوي بسنده عن أبي هريرة قال؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا تغبطن فاجراً بنعمته فإنك لا تدري ما هو لاق بعد موته إن له عند الله قاتلاً لا يموت، قيل وما هو؟ قال النار " (2).
وعنه عند مسلم مرفوعاً " انظروا إلى من هو أسفل منكم ولا تنظروا إلى من هو فوقكم فهو أجدر أن لا تزدروا نعمة الله عليكم " (3) قال عوف: كنت أصحب الأغنياء فما كان أحداً أكثر هماً مني، كنت أرى دابة خيراً من دابتي وثوباً خيراً من ثوبي، فلما سمعت هذا الحديث صحبت الفقراء فاسترحت.
ثم لما نهاه عن أن يمد عينيه إلى أموال الكفار وأن يحزن عليهم وكان ذلك يستلزم التهاون بهم وبما معهم أمره أن يتواضع للمؤمنين فقال (واخفض
_________
(1) البخاري، كتاب التوحيد، باب 44 - أبو داود، كتاب الوتر، الباب 20.
(2) مشكاة المصابيح 5248.
(3) مسلم 2963 - البخاري 2434.(7/196)
جناحك للمؤمنين) خفض الجناح كناية عن التواضع ولين الجانب، ومنه قوله سبحانه (واخفض لهما جناح الذل) وأصله أن الطائر إذا ضم فرخه إلى نفسه بسط جناحه ثم قبضه على الفرخ، فجعل ذلك وصفاً لتواضع الإنسان لأتباعه، ويقال فلان خافض الجناح أي وقور ساكن، والجناحان من ابن آدم جانباه، ومنه واضمم يدك إلى جناحك.(7/197)
وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (89)
(وقل إني أنا النذير المبين) أي المنذر المظهر لقومه ما يصيبهم من عذاب الله(7/197)
كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (90)
(كما أنزلنا على المقتسمين) عذاباً، أي إني أنا النذير لكم من عذاب مثل عذاب المقتسمين الذي أنزلناه عليهم كقوله تعالى (أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود) وقيل أن الكاف زائدة، وقيل متعلق بمحذوف والتقدير أنزلنا إليك إنزالاً مثل ما أنزلنا. قاله الكرخي.
وقيل هو متعلق بقوله (ولقد آتيناك) أي أنزلنا عليك مثل ما أنزلنا على أهل الكتاب وهم المقتسمون قاله الزمخشري، والأولى أن يتعلق بقوله (إني أنا النذير المبين) لأنه في قوة الأمر بالإنذار.
وقد اختلف في المقتسمين من هم على أقوال سبعة، فقال مقاتل والفراء: هم ستة عشر رجلاً بعثهم الوليد بن المغيرة أيام الموسم فاقتسموا أعقاب مكة وأنقابها وفجاجها، يقولون لمن دخل مكة لا تغتروا بهذا الخارج فينا فإنه مجنون، وربما قالوا ساحر، وربما قالوا شاعر، وربما قالوا كاهن، فقيل لهم المقتسمون لأنهم اقتسموا هذه الطرق.
وقيل إنهم قوم من قريش اقتسموا كتاب الله فجعلوا بعضه شعراً وبعضه سحراً وبعضه كهانة وبعضه أساطير الأولين، قاله قتادة، وقيل هم أهل الكتاب وسموا مقتسمين لأنهم كانوا يقسمون القرآن استهزاء فيقول بعضهم هذه السورة لي وهذه لك، روي هذا عن ابن عباس، وقيل أنهم اقتسموا كتابهم وفرقوه وبددوه وحرفوه.(7/197)
وقيل المراد قوم صالح تقاسموا على قتله فسموا مقتسمين كما قال تعالى (تقاسموا بالله لنبيتنه وأهله).
قلت: وفي هذا الوجه قرب من حيث المقاسمة وبعد من حيث وصفهم بجعلهم القرآن عضين، وأما الأوجه الآخرة فهي مستقيمة، وقيل تقاسموا أيماناً تحالفوا عليها قاله الأخفش، وقيل أنهم العاص بن وائل وعتبة وشيبة ابنا ربيعة وأبو جهل بن هشام وأبو البختري والنضر بن الحرث وأمية بن خلف وشيبة بن الحجاج؛ ذكره الماوردي.(7/198)
الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (91)
(الذين جعلوا القرآن عضين) جمع عضة وأصلها عضوة فعلة من عضى الشاة إذا جعلها أعضاء وأجزاء فيكون المعنى على هذا: الذين جعلوه أجزاء متفرقة بعضه شعر وبعضه سحر وبعضه كهانة ونحو ذلك، وقيل مأخوذ من عضهته إذا بهته فالمحذوف منه الهاء لا الواو، وجمعت العضة على المعنيين جمع العقلاء، وقيل معنى عضين إيمانهم ببعض الكتاب وكفرهم ببعض، وقيل العضة والعضين في لغة قريش السحر وهم يقولون للساحر عاضه وللساحرة عاضهة.
وفي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن العاضهة والمستعضهة وفسر بالساحرة والمستسحرة، والمعنى أنهم أكثروا البهت على القرآن وسموه سحراً وكذباً وأساطير الأولين، ونظير عضة في النقصان شفة والأصل شفهة وكذلك سنة أصلها سنهة، قال الكسائي: العضة الكذب والبهتان، وجمعها عضون وقال الفراء: أنه مأخوذ من العضاة وهي شجرة تؤذي وتجرح كالشوك، ويجوز أن يراد بالقرآن التوراة والإنجيل لكونهما مما يقرأ ويراد بالمقتسمين هم اليهود والنصارى، أي جعلوهما أجزاء متفرقة وهو أحد الأقوال المتقدمة.(7/198)
فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93) فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94) إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (95) الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (96) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (98) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99)(7/199)
فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92)
(فوربك) أقسم الله سبحانه بنفسه الكريمة وربوبيته العظيمة (لنسألنهم) أي هؤلاء الكفرة (أجمعين) يوم القيامة سؤال توبيخ(7/199)
عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93)
(عما كانوا يعملون) في الدنيا من الأعمال التي يحاسبون عليها ويسألون عنها، وقيل إن المراد سؤالهم عن كلمة التوحيد.
وقد أخرج الترمذي وأبو يعلى وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم في الآية قال عن قول لا إله إلا الله، وروي عن أنس موقوفاً، وعن ابن عمر مثله، والعموم يفيد ما هو أوسع من ذلك.
وقيل أن المسؤولين هاهنا هم جميع المؤمنين والعصاة والكفار، ويدل عليه قوله: (ثم لتسألن يومئذ عن النعيم) وقوله: (وقفوهم إنهم مسؤولون) وقوله (إن إلينا إيابهم، ثم إن علينا حسابهم) وممكن أن يقال إن قصر هذا السؤال على المذكورين في السياق وصرف العموم إليهم لا ينافي سؤال غيرهم.(7/199)
فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94)
(فاصدع بما تؤمر) قال الزجاج: يقول أظهر ما تؤمر به من الشرائع أخذاً من الصديع وهو الصبح انتهى. وأصل الصدع الفرق والشق يقال صدعته فانصدع أي انشق وتصدع القوم أي تفرقوا، ومنه يومئذ يصدعون أي يتفرقون، قال الفراء: أراد فاصدع بالأمر أي أظهر دينك، فـ (ما) مع الفعل على هذا بمنزلة المصدر، وقال ابن الأعرابي معناه اقصد، وقيل فرق(7/199)
جمعهم وكلمتهم بأن تدعوهم إلى التوحيد فإنهم يتفرقون، والأولى أن الصدع الإظهار كما قاله الزجاج والفراء وغيرهما.
قال الواحدي: قال المفسرون أي اجهر بالأمر أي بأمرك بعد إظهار الدعوة وما زال النبي صلى الله عليه وسلم مستخفياً حتى نزلت هذه الآية فخرج هو وأصحابه وقال ابن عباس هذا أمر من الله لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم بتبليغ رسالته قومه وجميع من أرسل إليه، واصدع بمعنى أمضه وأعلن.
ثم أمره الله سبحانه بعد أمره بالصدع بالإعراض وعدم الالتفات إلى المشركين فقال (وأعرض عن المشركين) أي لا تبال بهم ولا تلتفت إليهم إذا لاموك على إظهار الدعوة.
قال ابن عباس نسخه قوله تعالى (واقتلوا المشركين) وليس للنسخ وجه لأن معنى الإعراض ترك المبالاة بهم والالتفات إليهم، فلا يكون منسوخاً.
ثم أكد هذا الأمر وثبت قلب رسوله صلى الله عليه وسلم بقوله(7/200)
إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (95)
(إنا كفيناك المستهزئين) مع أنهم كانوا من أكابر الكفار وأهل الشوكة فيهم، فإذا كفاه الله أمرهم بقمعهم وتدميرهم كفاه أمر من هو دونهم بالأولى، وهؤلاء المستهزئون كانوا خمسة من رؤساء أهل مكة الوليد بن المغيرة والعاص بن وائل والأسود بن المطلب والأسود بن عبد يغوث والحرث بن الطلاطلة، كذا قال القرطبي ووافقه غيره من المفسرين.
وقد أهلكهم الله جميعاً يوم بدر، وكفاه أمرهم في يوم أحد، وقد روي هذا عن جماعة من الصحابة مع زيادة في عددهم ونقص على طول في ذلك.
ثم وصف هؤلاء المستهزئين بالشرك فقال(7/200)
الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (96)
(الذين يجعلون مع الله إلهاً آخر) فلم يكن ذنبهم مجرد الاستهزاء بل لهم ذنب آخر وهو الشرك بالله سبحانه ثم توعدهم فقال (فسوف يعلمون) كيف عاقبتهم في الآخرة وما يصيبهم من عقوبة الله سبحانه.(7/200)
ثم ذكر تسلية أخرى لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد التسلية الأولى بكفايته شرهم ودفعه مكرهم فقال(7/201)
وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97)
(ولقد نعلم إنك يضيق صدرك بما يقولون) الأقوال الكفرية المتضمنة للطعن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسحر والجنون والكهانة والكذب وقد كان يحصل ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم بمقتضى الجبلة البشرية والمزاج الإنساني وإن كان مفوضاً جميع أموره لربه.
ثم أمره سبحانه بأن يفزع لكشف ما نابه من ضيق الصدر إلى تسبيح الله سبحانه وحمده فقال(7/201)
فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (98)
(فسبح بحمد ربك) أي افزع إلى الله فيما نابك وافعل التسبيح المتلبس بالحمد أو فنزهه عما يقولون حامداً له على أن هداك للحق (وكن من الساجدين) أي من المصلين فإنك إذا فعلت ذلك كشف الله همك وأذهب غمك وشرح صدرك، وفي الكلام مجاز ثم أمره بعبادة ربه فقال:(7/201)
وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99)
(واعبد ربك) من عطف العام على الخاص أي دم على عبادته إلى غاية هي قوله (حتى يأتيك اليقين) قال الواحدي: قال جماعة المفسرين يعني الموت " لأنه موقن به متيقن الوقوع والنزول، لا يشك فيه أحد.
وقال أبو حيان: أن اليقين من أسماء الموت وبنزوله يزول كل شك، ووقَّت العبادة بالموت إعلاماً بأنها ليست لها نهاية دون الموت، فلا يرد ما قيل أي فائدة لهذا التوقيت مع أن كل أحد يعلم أنه إذا مات سقطت عنه العبادات.
وإيضاح الجواب أن المراد واعبد ربك في جميع زمان حياتك ولا تخل لحظة من لحظات الحياة من العبادة والله أعلم بمراده.
قال الزجاج: المعنى اعبد ربك أبداً لأنه لو قيل أعبد ربك بغير توقيت لجاز إذا عبد الإنسان مرة أن يكون مطيعاً فإذا قال حتى يأتيك اليقين فقد أمره بالإقامة على العبادة أبداً ما دام حياً، ومثله قوله تعالى في سورة مريم (وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حياً) وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة.(7/201)
أخرج سعيد بن منصور وابن المنذر والحاكم في التاريخ وابن مردويه والديلمي عن أبي مسلم الخولاني قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أوحي إلي أن اجمع المال وكن من التاجرين، ولكن أوحي إليّ أن سبح بحمد ربك وكن من الساجدين واعبد ربك حتى يأتيك اليقين " وروي بطرق كثيرة.(7/202)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة النحل
(مائة وثمان وعشرون آية)
وهي مكية كلها في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر بن عبد الله، وروي عن ابن عباس وأبي الزبير أنها نزلت بمكة سوى ثلاث آيات من آخرها فإنهن نزلن بين مكة والمدينة في منصرف رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - من أحد وهي قوله تعالى: (ولا تشتروا بعهد الله ثمنا قليلاً) إلى قوله (تعملون) وقال قتادة هي مكية إلا خمس آيات وهي قوله: (والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا) وقوله: (ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا) وقوله: (وإن عاقبتم) إلى آخر السورة، وزاد مقاتل قوله: (من كفر بالله من بعد إيمانه) الآية (وضرب الله مثلاً قرية)، وحكى الأصم عن بعضهم أنها كلها مدنية، والأول أولى وتسمى هذه سورة النعم بسبب ما عدد الله فيها من النعم.(7/203)
بسم الله الرحمن الرحيم
أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (1) يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ (2) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (3) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (4) وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (5) وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (6) وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (7)(7/205)
أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (1)
(أتى أمر الله) أي جاء ودنا وقرب عقابه للمشركين بالقتل بالسيف، والتعبير بالماضي لتحقق وقوعه، وقال جماعة من المفسرين الأمر القيامة، قال الزجاج: هو ما وعدهم به من المجازاة على كفرهم، ولما نزلت هذه الآية قال النبي صلى الله عليه وسلم " بعثت أنا والساعة كهاتين ويشير بأصبعيه يمدهما " أخرجاه في الصحيحين من حديث سهل بن سعد.
وقيل أن المراد بالأمر حكمه بذلك وقد وقع وأتى، فأما المحكوم به فإنه لم يقع لأنه سبحانه حكم بوقوعه في وقت معين فقبل مجيء ذلك الوقت لا يخرج إلى الوجود وقيل المراد بإتيانه إتيان مباديه ومقدماته، وقال الضحاك: يعني الأحكام والحدود والفرائض.
(فلا تستعجلوه) أي فلا تطلبوا حضوره قبل ذلك الوقت فإنه واقع لا محالة ولا خير لكم فيه ولا خلاص لكم منه، وقد كان المشركون يستعجلون العذاب كما قال النضر بن الحرث (اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء) الآية. والمعنى قَرَب أمر الله فلا تستعجلوه(7/205)
وقوعاً، وقد كان استعجالهم على طريقة الاستهزاء من دون استعجال على الحقيقة، وفي نهيهم عن الاستعجال تهكم بهم.
(سبحانه وتعالى عما يشركون) أي تنزه الله وترفع عن إشراكهم أو عن أن يكون له شريك، وشركهم هاهنا هو ما وقع منهم من استعجال العذاب وقيام الساعة استهزاء وتكذيباً، فإنه يتضمن وصفهم له سبحانه بأنه لا يقدر على ذلك وإنه عاجز عنه، والعجز وعدم القدرة من صفات المخلوق لا من صفات الخالق فكان ذلك شركاً.
وهذه الجملة تنازع فيها العاملان، وفيه التفات من الخطاب إلى الغيبة تحقيراً لشأنهم وحطاً لدرجتهم عن رتبة الخطاب، وفي قراءة سبعية بالتاء وما مصدرية فلا عائد لها عند الجمهور أو موصولة كما قاله السمين، أي عما يشركونه به و (ما) عبارة عن الأصنام.(7/206)
يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ (2)
(ينزل الملائكة) قرئ بالياء التحتية والفاعل هو الله سبحانه، وقرئ تنزل من التفعل والأصل تتنزل، فالفعل مستند إلى الملائكة، وقرئ تنزل على البناء للمفعول وننزل بالنون، والمراد بالملائكة هنا جبريل، وعبر عنه بالجمع تعظيماً له (بالروح) هو الوحي قاله ابن عباس، ومثله يلقي الروح من أمره، وسمي الوحي روحاً لأنه يحيى قلوب المؤمنين، فإن من جملة الوحي القرآن، وهو نازل من الدين منزلة الروح من الجسد، وبه قال الحسن.
فالتعبير بالروح عن الوحي على طريق الاستعارة التصريحية بجامع أن الروح به إحياء البدن والوحي به إحياء القلوب من الجهالات. وقيل المراد أرواح الخلائق وقيل الرحمة وقيل الهداية لأنها تحيا بها القلوب كلما تحيا الأبدان بالأرواح قال الزجاج: الروح ما كان فيه من الله حياة بالإرشاد إلى أمره.
وقال أبو عبيدة: الروح هنا جبريل، ويكون الباء على هذا بمعنى مع.
وعن ابن عباس قال: الروح أمر من أمر الله وخلق من خلق الله وصورهم على صورة بني آدم وما ينزل من السماء ملك إلا ومعه واحد من(7/206)
الروح، ثم تلا (يوم يقوم الروح والملائكة صفاً). ومن في (من أمره) بيانية أي ناشئاً ومبتدئاً من أمره أو صفة للروح أو متعلق بينزل (على من يشاء من عباده) يعني من يصطفيه للنبوة والرسالة وتبليغ الوحي إلى الخلق وهم الأنبياء؛ ووجه اتصال هذه الجملة بما قبلها أنه صلى الله عليه وسلم لما أخبرهم عن الله أنه قد قرب أمره ونهاهم عن الاستعجال ترددوا في الطريق التي علم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، فأخبر أنه علم بها
بالوحي على ألسن رسل الله سبحانه من ملائكته.
(أن أنذروا) قال الزجاج أي ينزلهم بأن أنذروا أو المعنى بأن الشأن أقول لكم أنذروا أي أعلموا الناس. وعبارة البيضاوي وأن مفسرة لأن الروح بمعنى الوحي الدال على القول أو مصدرية في موضع الجر بدلاً من الروح، أو النصب بنزع الخافض أو مخففة من الثقيلة.
(أنه لا إله إلا أنا) أي مروهم بتوحيدي واعلموهم ذلك مع تخويفهم لأن في الإنذار تخويفاً وتهديداً والضمير في أنه للشأن (فاتقون) رجوع إلى مخاطبتهم بما هو المقصود، والخطاب للمستعجلين على طريق الالتفات وهو تحذير لهم من الشرك بالله والفاء فصيحة.
وفي الشهاب إذا كان الإنذار بمعنى التخويف فالظاهر دخول فاتقون في المنذر به لأنه هو المنذر به في الحقيقة؛ وإذا كان بمعنى الإعلام فالمقصود بالإعلام هو الجملة الأولى، وهذا متفرع عليها انتهى. وفيه تنبيه على الأحكام الفرعية بعد التنبيه على الأحكام العلمية بقوله أنه لا إله إلا الله، فقد جمعت هذه الآية بين الأحكام الأصلية والفرعية.
ثم إنه سبحانه لما أرشدهم إلى توحيده ذكر دلائل التوحيد فقال(7/207)
خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (3)
(خلق السماوات والأرض) أي أوجدهما على هذه الصفة التي هما عليها (بالحق) أي للدلالة على قدرته ووحدانيته، وقيل المراد بالحق هنا الفناء والزوال (تعالى) الله (عما يشركون) أي تقدس وترفع عن إشراكهم أو عن شريكه الذي يجعلونه شريكاً له، وقيل عما يشركونه من الأصنام أو منهما أي السماوات(7/207)
والأرض.
ثم لما كان نوع الإنسان أشرف أنواع المخلوقات السفلية قدمه وخصه بالذكر فقال(7/208)
خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (4)
(خلق الإنسان) وهو اسم لجنس هذا النوع (من نطفة) أي من جماد يخرج من حيوان وهو المني فقلبه أطواراً إلى أن كملت صورته ونفخ فيه الروح وأخرجه من بطن أمه إلى هذه الدار فعاش فيها ومن لابتداء الغاية وانتهاؤها محذوف كما قرره الكرخي والنطفة القطرة من الماء يقال نطف رأسه ماء أي قطر، وقيل هي الماء الصافي ويعبر بها عن ماء الرجل والمرأة جمعها نطف ونطاف ولا يستعمل للنطفة فعل من لفظها.
(فإذا هو) بعد خلقه على هذه الصفة (خصيم) كثير الخصومة والمجادلة والمعنى أنه كالمخاصم لله سبحانه في قدرته (مبين) ظاهر الخصومة وواضحها، وقيل يبين عن نفسه ما يخاصم به من الباطل والمبين هو المفصح عما في ضميره بمنطقه ومثله قوله تعالى (أولم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين) قيل نزلت في أبىّ بن خلف والأولى أنها عامة في كل ما يقع من الخصومة في الدنيا ويوم القيامة فإنه لا اعتبار بخصوص السبب إذا اقتضى المقام العموم كما تقرر.
قال الكرخي أن هذه ذكرت لتقرير الاستدلال على وجود الصانع الحكيم لا لتقرير وقاحة الناس وتماديهم في الغي والكفر.
ثم عقب ذكر خلق الإنسان بخلق الأنعام لما فيها من النفع لهذا النوع والامتنان بها أكمل من الامتنان بغيرها فقال(7/208)
وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (5)
(والأنعام خلقها) وهي الإبل والبقر والغنم ويدخل في الغنم المعز وأكثر ما يقال نعم وأنعام للإبل، ويقال للمجموع ولا يقال للغنم مفردة، وقال الجوهري: والنعم واحد الأنعام وأكثر ما يقع هذا الاسم على الإبل.
ثم لما أخبر سبحانه بأنه خلقها لبني آدم بين المنفعة التي فيها لهم، قال الواحدي تم الكلام عند هذا ثم ابتدأ فقال (لكم فيها دفء) ويجوز أن يكون تمامه عند قوله لكم. والأول أولى وأحسن والدفء السخانة وهو ما(7/208)
استدفئ به من أصوافها وأوبارها وأشعارها، قال ابن عباس: دفء الثياب أي من الأكسية والأردية قال بعض المفسرين أن في الآية التفاتاً من الغيبة في الإنسان إلى الخطاب في لكم فيقتضي أن المخاطب مطلق بني آدم المندرجين تحت الإنسان.
(ومنافع) أي ما ينتفعون به من الأطعمة والأشربة، قاله ابن عباس وهي درها وركوبها ونتاجها والحراثة ونحو ذلك، وقد قيل أن الدفء النتاج واللبن قال في الصحاح الدفء نتاج الإبل وألبانها وما ينتفع به منها، ثم قال والدفء أيضًا السخونة، وعلى هذا فإن أريد بالدفء المعنى الأول فلا بد من حمل المنافع على ما عداه مما ينتفع به منها وأن حمل على المعنى الثاني كان تفسير المنافع بما ذكرناه واضحاً، وقيل المراد بالمنافع النتاج خاصة، وقيل الركوب.
(ومنها) أي من لحومها وشحومها (تأكلون) وخص هذه المنفعة بالذكر مع دخولها تحت المنافع لأنها أعظمها، وقيل خصها لأن الانتفاع بلحمها وشحمها تعدم عنده عينها بخلاف غيره من المنافع التي فيها، وتقديم الظرف المؤذن بالاختصاص للإشارة إلى أن الأكل منها هو الأصل وغيره نادر فالأكل من غيرها كالدجاج والبط والأوز وصيد البر والبحر يجري مجرى التفكه به، وقيل تقديم الظرف للفاصلة لا للحصر.
ولما كانت منفعة اللباس أكثر وأعظم من منفعة الأكل قدمه على الأكل(7/209)
وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (6)
(ولكم فيها) مع ما تقدم ذكره (جمال) هو ما يتجمل به ويتزين والحسن والمعنى هنا لكم فيها تجمل وتزين عند الناظرين إليها (حين تريحون وحين تسرحون) أي في هذين الوقتين وهما وقت ردها من مراعيها ووقت تسريحها إليها فالرواح والإراحة رجوعها بالعشي وردها من المراعي والسراح مسيرها إلى مراعيها بالغداة.
يقال سرحت الإبل أسرحها سرحاً وسروحاً إذا غدوت بها إلى المرعى وقدم الإراحة على التسريح مع أنه خلاف الواقع لأن منظرها عند الإراحة أجمل وذواتها أحسن لكونها في تلك الحالة قد نالت حاجتها من الأكل والشرب(7/209)
فعظمت بطونها وانتفخت ضروعها فيفرح أهلها بها بخلاف تسريحها إلى المرعى فإنها تخرج جائعة البطون ضامرة الضروع.
وخص هذين الوقتين لأنهما وقت نظر الناظرين إليها لأنها عند استقرارها في الحظائر لا يراها أحد، وعند كونها في مراعيها هي متفرقة غير مجتمعة كل واحد منها يرعى في جانب، وأكثر ما تكون هذه الراحة أيام الربيع إذا سقط الغيث ونبت العشب والكلأ وخرجت العرب للنجعة، وأحسن ما تكون النعم في هذا الوقت فإنه يسمع للإبل رغاء وللبقر خوار وللشياه ثغاء يجاوب بعضها بعضاً.(7/210)
وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (7)
(وتحمل) أي الأنعام والمراد بها هنا الإبل خاصة (أثقالكم) جمع ثقل وهو متاع المسافر من طعام وغيره، وسمي ثقلاً لأنه يثقل الإنسان حمله، وقيل المراد أبدانهم (إلى بلد) غير بلدكم (لم تكونوا بالغيه) أي واصلين إليه لو لم يكن معكم إبل تحمل أثقالكم (إلا بشق الأنفس) لبعده عنكم وعدم وجود ما يحمل ما لا بد لكم منه في السفر، وظاهره يتناول كل بلد بعيد من غير تعيين، وقيل المراد بالبلد مكة، قاله ابن عباس، وقيل اليمن ومصر والشام لأنها متاجر العرب، وشق الأنفس مشقتها، قرئ بكسر الشين وبفتحها.
قال الجوهري: الشق المشقة، ومنه قوله تعالى (إلا بشق الأنفس) وحكى أبو عبيدة فتح الشين وهما بمعنى، ويجوز أن يكون المفتوح مصدراً من شققت عليه أشق شقاً والمكسور بمعنى النصف، يقال أخذت شق الشاة وشقة الشاة، ويكون المعنى على هذا لم تكونوا بالغيه إلا بذهاب نصف الأنفس من التعب.
قد امتن الله سبحانه على عباده بخلق الأنعام على العموم ثم خص الإبل بالذكر لما فيها من نعمة حمل الأثقال دون البقر والغنم، والاستثناء من أعم العام أي لم تكونوا بالغيه بشيء من الأشياء إلا بشق الأنفس، قال ابن عباس: لو تكلفتموه لم تطيقوه إلا بجهد شديد (إن ربكم لرءوف رحيم) حيث رحمكم بخلق هذه الحوامل وتيسير هذه المصالح.(7/210)
وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (8) وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (9) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (10) يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (11)(7/211)
وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (8)
(والخيل والبغال والحمير) أي وخلق لكم هذه الثلاثة الأصناف، وسميت الخيل خيلاً لاختيالها في مشيها وواحد الخيل خائل كضائن واحد الضأن، وقيل اسم جنس لا واحد له من لفظه بل من معناه وهو الفرس، والبغال جمع بغل وهو المتولد من الخيل والحمير والحمير جمع حمار.
ثم علَّل سبحانه خلق هذه الأنواع الثلاثة بقوله (لتركبوها) وهذه العلّة هي باعتبار معظم منافعها لأن الانتفاع بها في غير الركوب معلوم كالتحميل عليها (وزينة) عطف على محل لتركبوها لأنها في محل نصب على أنه علة لخلقها، ولم يقل لتتزينوا بها حتى يطابق لتركبوها، لأن الركوب فعل المخاطبين والزينة فعل الزائن وهو الخالق.
والتحقيق فيه أن الركوب هو المعتبر في المقصود بخلاف الزينة فإنه لا يلتفت إليه أهل الهمم العالية لأنه يورث العجب، فكأنه سبحانه قال خلقتها لتركبوها فتدفعوا بواسطتها عن أنفسكم ضرر الإعياء والمشقة، وأما التزين بها فهو حاصل في نفس الأمر ولكنه غير مقصود بالذات.
وقد استدل بهذه الآية القائلون بتحريم لحوم الخيل قائلين بأن التعليل(7/211)
بالركوب يدل على أنها مخلوقة لهذه المصلحة دون غيرها، قالوا ويؤيد ذلك إفراد هذه الأنواع الثلاثة بالذكر وإخراجها عن الأنعام، فيفيد ذلك اتحاد حكمها في تحريم الأكل، قالوا ولو كان أكل الخيل جائزًا لكان ذكره والامتنان به أولى من ذكر الركوب لأنه أعظم فائدة منه.
وقد ذهب إلى هذا مالك وأبو حنيفة وأصحابهما والأوزاعي ومجاهد وأبو عبيد وغيرهم، وذهب الجمهور من الفقهاء والمحدثين وغيرهم إلى حل لحوم الخيل، وهو قول الحسن وشريح وعطاء وسعيد بن جبير، وإليه ذهب الشافعي وأحمد وإسحاق، ولا حجة لأهل القول الأول في التعليل بقوله لتركبوها، لأن ذكر ما هو الأغلب من منافعها لا ينافي غيره، ولا نسلم أن الأكل أكثر فائدة من الركوب حتى يذكر ويكون ذكره أقدم من ذكر الركوب.
وأيضاً لو كانت هذه الآية تدل على تحريم الخيل لدلت على تحريم الحمر الأهلية وحينئذ لا يكون ثم حاجة لتجديد التحريم لها عام خيبر، وقد قدمنا أن هذه السورة مكيّة.
والحاصل أن الأدلة الصحيحة قد دلت على حل أكل لحوم الخيل، فلو سلمنا أن في هذه الآية متمسكاً للقائلين بالتحريم لكانت السنة المطهرة الثابتة رافعة لهذا الاحتمال، ودافعة لهذا الاستدلال، وقد أوضح الشوكاني هذه المسألة في مؤلفاته بما لا يحتاج الناظر فيه إلى غيره.
وقد ورد في حل أكل لحوم الخيل أحاديث منها ما في الصحيحين وغيرهما من حديث أسماء قالت: نحرنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فرساً فأكلناه (1).
وأخرج أبو عبيد وابن شيبة والترمذي وصححه والنسائي وابن المنذر وابن أبي حاتم عن جابر قال: أطعمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لحوم
_________
(1) مسلم 1942 البخاري/2202.(7/212)
الخيل ونهانا عن لحوم الحمر الأهلية (1) وأخرج أبو داود نحوه من حديثه أيضًا وهما على شرط مسلم.
وثبت أيضًا في الصحيحين من حديث جابر قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لحوم الحمير الأهلية وأذن في الخيل (2).
وأما ما أخرجه أبو عبيد وأبو داود والنسائي من حديث خالد بن الوليد قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل كل ذي ناب من السباع وعن لحوم الخيل والبغال والحمير، ففي إسناده صالح بن يحيى بن أبي المقدام وفيه مقال، ولو فرضنا أن الحديث صحيح لم يقو على معارضة أحاديث الحل، على أنه يمكن أن هذا الحديث المصرح بالتحريم متقدم على يوم خيبر فيكون منسوخاً.
(ويخلق مالا تعلمون) من الأشياء العجيبة والغريبة مما لا يحيط علمكم به من المخلوقات غير ما قد عدده هاهنا، وقيل المراد من أنواع الحشرات والهوام في أسافل الأرض وفي البحر مما لم يره البشر ولم يسمعوه، وقيل هو ما أعده الله لعباده في الجنة وفي النار مما لم تره عين ولم تسمع به أذن ولا خطر على قلب بشر وقيل هو خلق السوس في النبات والدود في الفواكه؛ وقيل عين تحت العرش وقيل نهر من النور وقيل أرض بيضاء.
ولا وجه للاقتصار في تفسير هذه الآية على نوع من هذه الأنواع بل المراد أنه سبحانه يخلق ما لا يعلم به العباد، فيشمل كل شيء لا يحيط علمهم به، والتعبير هنا بلفظ المستقبل لاستحضار الصورة، لأنه سبحانه قد خلق ما لم يعلم به العباد ولا يأتي عليه الحصر والعد.
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن مما خلق الله أرضاً من لؤلؤة بيضاء، ثم ساق من أوصافها ما يدل
_________
(1) الترمذي كتاب الصيد باب 9 - أبو داوود كتاب الأطعمة باب 25.
(2) مسلم 1941 - البخاري 1909.(7/213)
على أن الحديث موضوع ثم قال في آخره فذلك قوله ويخلق ما لا تعلمون ".(7/214)
وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (9)
(وعلى الله قصد السبيل) القصد مصدر بمعنى الفاعل فالمعنى وعلى الله هداية قاصد الطريق المستقيم بموجب وعْدِه المحتوم وتفضله الواسع، وقيل هو على حذف مضاف، والتقدير وعلى الله بيان قصد السبيل، والسبيل الإسلام وبيانه بإرسال الرسل وإنزال الكتب وإقامة الحجج والبراهين، والقصد في السبيل هو كونه موصلاً إلى المطلوب فالمعنى وعلى الله بيان الطرق الموصلة إلى المطلوب.
(ومنها) الضمير راجع إلى السبيل بمعنى الطريق لأنها تذكر وتؤنث أو لأنها في معنى سبل فأنِّث على معنى الجمع؛ وقيل راجع إليها بتقدير مضاف أي ومن جنس السبيل (جائر) مائل عن الحق والجور العدول عن الاستقامة، وقيل أن الطريق كناية عن صاحبها، والمعنى ومنهم جائر عن سبيل الحق أي عادل عنه فلا يهتدي إليه، قيل وهم أهل الأهواء المختلفة، وقيل أهل الملل الكفرية. فقصد السبيل هو دين الإسلام والجائر منها دين اليهودية والنصرانية وسائر ملل الكفر.
وقيل قصد السبيل السنة المطهرة والجائر البدع المحدثة المضلة. قال ابن عباس: على الله أن يبين الهدى والضلالة ومنها جائر، قال السبل المتفرقة، وقال قتادة: وعلى الله بيان حلاله وحرامه وطاعته ومعصيته ومنها جائر، قال من السبل ناكب عن الحق. وعن عليّ كان يقرأ ومنكم جائر.
(ولو شاء لهداكم أجمعين) أي ولو شاء أن يهديكم جميعاً هداية موصلة إلى الطريق الواضح الصحيح والمنهج الحق الصريح لفعل ذلك ولكنه لم يشأ بل اقتضت مشيئته سبحانه إراءة الطريق والدلالة عليها كما قال وهديناه النجدين، وأما الإيصال إليها بالفعل فذلك يستلزم أن لا يوجد في العباد كافر، ولا من يستحق النار من المسلمين وقد اقتضت المشيئة الربانية بكون البعض مؤمناً والبعض كافراً كما نطق بذلك القرآن في غير موضع.(7/214)
ولما استدل سبحانه على وجوده وكمال قدرته وبديع صنعته بعجائب أحوال الحيوانات أراد أن يذكر الاستدلال على المطلوب بغرائب أحوال النبات فقال(7/215)
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (10)
(هو الذي أنزل من) جهة (السماء) وهي السحاب (ماءً) أي نوعاً من أنواع الماء وهو المطر (لكم منه شراب) هو اسم لما يشرب كالطعام لما يطعم، والمعنى أن الماء النازل من السماء قسمان، قسم يشربه الناس ومن جملته ماء الآبار والعيون فإنه من المطر لقوله فسلكه ينابيع في الأرض (و) قسم يحصل (منه شجر) ترعاه المواشي.
قال الزجاج: كل ما نبت من الأرض فهو شجر لأن التركيب يدل على الاختلاط، ومنه تشاجر القوم إذا اختلط أصوات بعضهم بالبعض، ومعنى الاختلاط حاصل في العشب والكلأ وفيما له ساق. وقال ابن قتيبة: المراد من الشجر في الآية الكلأ، وقيل الشجر كل ما له ساق لقوله تعالى (والنجم والشجر يسجدان) والعطف يقتضي التغاير، فلما كان النجم ما لا ساق له وجب أن يكون الشجر ما له ساق، وأجيب بأن عطف الجنس على النوع جائز.
(فيه تسيمون) أي في الشجر ترعون مواشيكم، يقال سامت السائمة تسوم سوماً رعت فهي سائمة، واسمتها أي أخرجتها إلى الرعي فأنا مسيم وهي مسامة وسائمة، وأصل السوم الإبعاد في المرعى، قال الزجاج: أخذ من السومة وهي العلامة لأنها تؤثر في الأرض علامات برعيها.
وهذه الآية مبنية على مكارم الأخلاق، وهو أن يكون اهتمام الإنسان بمن يكون تحت يده أكمل من اهتمامه بنفسه. وأما الآية الأخرى (كلوا وارعَوا أنعامكم) فمبنية على قوله صلى الله عليه وسلم " ابدأ بنفسك ثم بمن تعول "(7/215)
يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (11)
(ينبت) الله (لكم به) أي بذلك الماء الذي أنزله من السماء؛ وهذا استئناف أخبار عن منافع الماء وقدم (الزرع) لأنه أصل الأغذية التي يعيش بها الناس، وهو الحب الذي يقتات به كالحنطة والشعير وما أشبههما.(7/215)
(و) ذكر (الزيتون) بعد الزرع لكونه فاكهة من وجه وإداماً من وجه لكثرة ما فيه من الدهن والبركة وهو جمع زيتونة ويقال للشجرة نفسها زيتونة (1) (و) ذكر (النخيل) لكونه غذاء وفاكهة وهو مع العنب أشرف الفواكه (و) جمع (الأعناب) لاشتمالها على الأصناف المختلفة، وهي شبه النخلة في المنفعة من التفكه والتغذية.
ثم أشار إلى سائر الثمرات إجمالاً فقال (ومن كل الثمرات) كما أجمل الحيوانات التي لم يذكرها فيما سبق بقوله ويخلق ما لا تعلمون ومن تبعيضية إذ كلها إنما يوجد في الجنة وما أنبتت الأرض بعض من كلها للتذكرة.
(إن في ذلك) الإنزال والإنبات (لآية) عظيمة دالة على كمال القدرة والتفرد بالربوبية (لقوم يتفكرون) في مخلوقات الله ولا يهملون النظر في مصنوعاته، وقد ذكر لفظ الآية في هذه السورة سبع مرات خمس بالإفراد واثنتان بالجمع قال الكرماني: ما جاء الإفراد فلوحدة المدلول وهو الله تعالى، وما جاء منها بلفظ الجمع فلمناسبة مسخرات انتهى.
وختم هذه الفاصلة بالتفكر لأن النظر في ذلك يعني إنبات النبات بالماء يحتاج إلى مزيد تأمل واستعمال فكر، ألا ترى أن الحبة الواحدة إذا وضعت في الأرض ومر عليها مقدار من الزمان مع رطوبة الأرض فإنها تنتفخ وينشق أعلاها فتصعد منه شجرة إلى الهواء وأسفلها تغوص منه عروق في الأرض ثم ينمو الأعلى ويقوى وتخرج منه الأوراق والأزهار والأكمام والثمار المشتملة على أجسام مختلفة الطباع والطعوم والألوان والروائح والأشكال والمنافع.
ومن تفكر في ذلك علم أن من هذه أفعاله وآثاره لا يمكن أن يشبهه شيء في شيء من صفات الكمال فضلاً عن أن يشاركه أخس الأشياء في أخص صفاته التي هي الألوهية واستحقاق العبادة تعالى عن ذلك علواً كبيراً ذكره الخازن وأبو السعود.
_________
(1) وقد ذكر ابن القيم رحمه الله في كتبه فوائد جمة للزيتون.(7/216)
وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (12) وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (13) وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (14) وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (15)(7/217)
وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (12)
(وسخر لكم الليل والنهار) معنى تسخيرهما للناس تصييرهما نافعين لهم بحسب ما تقتضيه مصالحهم وتستدعيه حاجاتهم يتعاقبان دائما كالعبد الطائع لسيده لا يخالف ما يأمر به ولا يخرج عن إرادته ولا يهمل السعي في نفعه (و) كذا الكلام في تسخيره (الشمس والقمر و) قوله: (النجوم) قرأ حفص عن عاصم برفعه على أنه مبتدأ وخبره (مسخرات) أي مذللات مقهورات (بأمره) تعالى تجري على نمط متحد يستدل بها العباد على مقادير الأوقات ويهتدون بها ويعرفون أجزاء الزمان ولا تصرف لها في نفسها فضلاً عن غيرها، وفيه رد على الفلاسفة والمنجمين لأنهم يعتقدون أن هذه النجوم هي الفعالة المتصرفة في العالم السفلي فأخبر سبحانه أنها مذللات تحت قهره وإرادته.
(إن في ذلك) التسخير وما بعده (لآيات لقوم يعقلون) أي يعملون عقولهم في هذه الآيات الدالة على وجود الصانع وتفرده وعدم وجود شريك له وختم الفاصلة الثانية بالعقل لأن الآثار العلوية أظهر دلالة على القدرة الباهرة وأبين شهادة للكبرياء والعظمة، وجمع الآيات ليطابق قوله مسخرات، وقيل أن(7/217)
وجه الجمع هو إن كُلاًّ من تسخير الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم آية في نفسها بخلاف ما تقدم من الإنبات فإنه آية واحدة، ولا يخلو كل هذا عن تكلف والأولى أن يقال أن هذه المواضع التي أفرد الآية في بعضها وجمعها في بعضها كل واحد منها يصلح للجمع باعتبار وللإفراد باعتبار فلم يجرها على طريقة واحدة افتناناً وتنبيهاً على جواز الأمرين وحسن كل واحد منهما.(7/218)
وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (13)
(وما ذرأ) أي خلق (لكم في الأرض) يقال ذرأ الله الخلق يذرؤهم ذرأً فهو ذارئ ومنه الذرية، وهي نسل الثقلين، وقد تقدم تحقيق هذا أي وسخر لكم ما ذرأ في الأرض من الدواب والأنعام والأشجار والثمار فالمعنى أنه سبحانه سخر لهم تلك المخلوقات السماوية والمخلوقات الأرضية (مختلفاً ألوانه) أي هيئاته ومناظره فإن ذرء هذه الأشياء على اختلاف الألوان والأشكال مع تساوي الكل في الطبيعة الجسمية آية عظيمة دالة على وجود الصانع سبحانه وتفرده، قال قتادة: مختلفاً في الدواب والشجر والثمار نعم من الله متظاهرة فاشكروها لله.
(إن في ذلك) التسخير لهذه الأمور مع اختلاف طبائعها وأشكالها مع اتحاد موادها (لآية) واضحة (لقوم يذكرون) فإن من تذكر اعتبر ومن اعتبر استدل على المطلوب، قيل وإنما خص المقام الأول بالتفكر لإمكان إيراد الشبهة، وخص الثاني بالعقل لذكره بعد إماطة الشبهة وإزاحة العلة، فمن لم يعترف بعدها بالواحدانية فلا عقل له، وخص الثالث بالتذكر لمزيد الدلالة فمن شك بعد ذلك فلا حس له، وفي هذا من التكلف ما لا يخفى.
والأولى أن يقال هنا كما قلنا فيما تقدم في أفراد الآية في البعض وجمعها في البعض الآخر، وبيانه أن كُلاًّ من هذه المواضع الثلاثة يصلح لذكر التفكر ولذكر التعقل ولذكر التذكر لاعتبارات ظاهرة غير خفية فكان في التعبير في كل موضع بواحد منها افتنان حسن لا يوجد في التعبير بواحد منها في جميع المواضع الثلاثة.(7/218)
وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (14)
(وهو الذي سخر البحر) امتن الله سبحانه بتسخير البحر بإمكان(7/218)
الركوب عليه واستخراج ما فيه من صيد وجواهر لكونه من جملة النعم التي أنعم الله بها على عباده مع ما فيه من الدلالة على وحدانية الرب سبحانه وكمال قدرته، وقد جمع الله سبحانه لعباده في هذا المقام بين التذكير لهم بآياته الأرضية والسماوية والبحرية فأرشدهم إلى النظر، والاستدلال بالآيات المتنوعة المختلفة الأمكنة إتماماً للحجة وتكميلاً للإنذار وتوضيحاً لمنازع الاستدلال ومناطات البرهان، ومواضع النظر والاعتبار.
ثم ذكر العلة في تسخير البحر فقال (لتأكلوا منه لحماً طرياً) المراد به السمك ووصفه بالطراوة للإشعار بلطافته والإرشاد إلى المسارعة بأكله لكونه مما يفسد بسرعة، قال قتادة: يعني حيتان البحر، وقال السدي: وما فيه من الدواب وبدأ بذكر الأكل لأنه أعظم المقصود وبه قوام البدن.
وتسميته لحماً هو مذهب المالكية بخلاف الشافعية والحنفية وعلى هذا فلو حلف لا يأكل لحماً لا يحنث بأكل السمك ولإظهار قدرته في خلقه عذباً طرياً في ماء ملح؛ والطراوة ضد اليبوسة أي غضا جدداً؛ ويقال طريت كذا أي جددته وأطريت فلانا مدحته بأحسن ما فيه ويقال بالغت في مدحه وجاوزته.
(وتستخرجوا منه) أي من البحر وهو الملح فقط (حلية) أي لؤلؤاً ومرجاناً كما في قوله سبحانه (يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان) والحلية اسم لما يتحلى به واصلها الدلالة على الهيئة كالعمة وفي المصباح حلى الشيء بعيني وبصدري من باب تعب حلا وحسن عندي وأعجبني، وحليت المرأة حلياً ساكن اللام لبست الحلي وجمعه حلي، والأصل على فعول مثل فلس وفلوس والحلية بالكسر الصفة والجمع حلى مقصور وتضم الحاء وتكسر وحلية السيف زينته.
قال ابن فارس: ولا تجمع وتحلت المرأة لبست الحلي أو اتخذته وحليتها بالتشديد ألبستها الحلي أو اتخذته لها لتلبسه وحليت السويق جعلت فيه شيئاً حلواً حتى حلا.(7/219)
وظاهر قوله (تلبسونها) أنه يجوز للرجال أن يلبسوا اللؤلؤ والمرجان أي يجعلونهما حلية لهم كما يجوز للنساء ولا حاجة لما تكلفه جماعة من المفسرين في تأويل قوله تلبسونها بقولهم تلبسها نساؤهم لأنهن من جملتهم أو لكونهن يلبسنها لأجلهم.
وليس في الشريعة المطهرة ما يقتضي منع الرجال من التحلي باللؤلؤ والمرجان ما لم يستعمله على صفة لا يستعمله عليها إلا النساء خاصة فإن ذلك ممنوع قد ورد الشرع بمنعه من جهة كونه تشبهاً بهن لا من جهة كونه حلية لؤلؤ أو مرجان؛ وعن أبي جعفر قال: ليس في الحلي زكاة ثم قرأ هذه الآية أخرجه أبي شيبة.
أقول وفي هذا الاستدلال نظر والذي ينبغي التعويل عليه إن الأصل البراءة من الزكاة حتى يرد الدليل بوجوبها في شيء من أنواع المال فتلزم، وقد ورد في الذهب والفضة ما هو معروف ولم يرد في الجواهر على اختلاف أصنافها ما يدل على وجوب الزكاة فيها.
(وترى الفلك مواخر فيه) أي ترى السفن شواق للماء تدفعه بصدورها، قال عكرمة ومخر السفينة شقها الماء بصدرها، قال الجوهري: مخر السابح إذا شق الماء بصدره ومخر الأرض شقها للزراعة، وقيل مواخر جواري قاله ابن عباس وأصل المخر الجري.
في المختار مخرت السفينة من باب قطع ودخل إذا جرت تشق الماء مع صوت وقيل معترضة، وقيل تذهب وتجيء، قال الضحاك: السفينتان تجريان بريح واحدة مقبلة ومدبرة وقيل مواقر أي مملوءة متاعاً وقال أبو عبيدة: صوائح وقيل ملججة (1) قال ابن جرير: الماخر في اللغة صوت هبوب الريح عند شدتها ولم يقيد بكونه في الماء.
(ولتبتغوا من فضله) أي لتنتفعوا بذلك ولتبتغوا أو فعل ذلك لتبتغوا
_________
(1) يقال لججت السفينة أي خاضت اللجة أهـ صحاح.(7/220)
أي لتتجروا فيه فيحصل لكم الربح من فضل الله سبحانه، قال السدي: هي التجارة (ولعلكم تشكرون) أي إذا وجدتم فضله عليكم وإحسانه إليكم اعترفتم بنعمته عليكم فشكرتم ذلك باللسان والأركان، قيل ولعل وجه تخصيص هذه النعمة بالتعقيب بالشكر من حيث إن فيها قطعاً لمسافة طويلة مع أحمال ثقيلة من غير مزاولة أسباب السفر بل من غير حركة أصلاً مع أنها في تضاعيف المهالك.
ويمكن أن يضم إلى ما ذكر من قطع المسافة على الصفة المذكورة ما اشتمل عليه البحر من كونه فيه أطيب مأكول وأنفس ملبوس وكثرة النعم مع نفاستها وحسن موقعها من أعظم الأسباب المستدعية للشكر الموجبة له.
ثم أردف هذه النعم الموجبة للتوحيد المفيدة للاستدلال على المطلوب بنعمة أخرى وآية كبرى فقال(7/221)
وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (15)
(وألقى في الأرض رواسي) أي جبالاً ثابتة يقال رسا يرسو إذا ثبت وأقام (أن تميد بكم) أي كراهة أن تميد بكم على ما قاله البصريون أو لئلا تميد بكم على ما قاله الكوفيون والميد الاضطراب يميناً وشمالاً يقال ماد الشيء يميد ميداً تحرك ومادت الأغصان تمايلت وماد الرجل تبختر قال قتادة: حتى لا تميد بكم كانوا على الأرض تمور بهم لا تستقر فأصبحوا صبحاً وقد جعل الله سبحانه الجبال وهي الرواسي أوتاداً في الأرض.
(و) جعل فيها (أنهاراً) لأن الإلقاء هنا بمعنى الجعل والخلق كقوله (وألقيت عليك محبة مني) وذكر الأنهار عقب الجبال لأن معظم عيون الأنهار وأصولها تكون من الجبال قال السيوطي كالنيل ولم يذكر في المثال غير هذا لأنه من أهل مصر.
(و) جعل فيها (سبلاً) وأظهرها وبينها لأجل أن تهتدوا بها في أسفاركم إلى مقاصدكم من بلد إلى بلد ومن مكان إلى مكان وهي الطرق، وقال السدي: هي الطرق في الجبال (لعلكم تهتدون) بتلك السبل إلى ما تريدون فلا تضلون أو إلى توحيد ربكم.(7/221)
وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (16) أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (17) وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (18) وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (19) وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (20) أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (21) إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (22)(7/222)
وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (16)
(و) جعل فيها (علامات) هي معالم الطرق جمع علامة وفي المصباح أعلمت على كذا بالألف من الكتاب وغيره جعلت عليه علامة وأعلمت الثوب جعلت له علماً من طراز وغيره وهو العلامة وجمع العلم أعلام مثل سبب وأسباب وجمع العلامة علامات وعلمت له علامة بالتشديد وضعت له أمارة يعرف بها، والمعنى أنه سبحانه جعل للطرق علامات يهتدون بها.
(وبالنجم) المراد به الجنس (هم يهتدون) به في سفرهم ليلاً؛ وقرأ ابن وثاب وبالنجم بضمتين والمراد النجوم فقصره أو هو جمع نجم كسقف وسقف وقيل المراد بالنجم هنا الجدي والفرقدان، قاله الفراء. وقيل الثريا وبنات نعش وقيل العلامات الجبال، وقيل هي النجوم لأن من النجوم ما يهتدى به ومنها علامة لا يهتدى بها.
وذهب الجمهور إلى أن المراد في الآية الاهتداء في الأسفار، وقيل هو الاهتداء إلى القبلة، ولا مانع من حمل ما في الآية على ما هو أعم من ذلك.
قال الأخفش: تم الكلام عند قوله (وعلامات) وقوله (وبالنجم) الخ كلام منفصل عن الأول.
قال السدي: علامات النهار الجبال وعلامات الليل النجوم. وقال ابن عباس: معالم الطرق بالنهار الجبال ويهتدون بالنجم بالليل، قال قتادة: إنما(7/222)
خلق الله النجوم لثلاثة أشياء. لتكون زينة للسماء ومعالم الطرق ورجوماً للشياطين، فمن قال غير هذا فقد تكلف ما لا علم له به.
ثم لما عدد الآيات الدالة على الصانع ووحدانيته وكمال قدرته أراد أن يوبخ أهل الشرك والعناد فقال(7/223)
أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (17)
(أفمن يخلق) هذه المخلوقات العجيبة العظيمة والمصنوعات الغريبة الجليلة ويفعل هذه الأفاعيل العجيبة المرئية بالعيان (كمن لا يخلق) شيئاً منها ولا يقدر على إيجاد واحد منها، وهي هذه الأصنام التي يعبدونها ويجعلونها شركاء لله سبحانه.
وأطلق عليها لفظ (من) إجراء لها مجرى أولي العلم جرياً على زعمهم بأنها آلهة أو مشاكلة لقوله (أفمن يخلق) لوقوعها في صحبته أو هو من عكس التشبيه. وفي هذا الاستفهام من التقريع والتوبيخ للكفار ما لا يخفى، وما أحقهم بذلك فإنهم جعلوا بعض المخلوقات شريكاً لخالقه، تعالى الله عما يشركون.
(أفلا تذكرون) مخلوقات الله الدالة على وجوده وتفرده بالربوبية وبديع صنعته فتستدلون بها على ذلك، فإنها لوضوحها يكفي في الاستدلال بها مجرد التذكر لها لا يحتاج إلى دقيق الفكر والنظر، قال قتادة في الآية: الله هو الخالق الرازق، وهذه الأوثان التي تعبد من دون الله تخلق ولا تخلق شيئاً، ولا تملك لأهلها ضراً ولا نفعاً.
ثم لما فرغ من تعديد الآيات التي هي بالنسبة إلى المكلفين نعم قال(7/223)
وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (18)
(وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها) ولو اجتهدتم في ذلك وأتعبتم نفوسكم لا تقدرون عليه فضلاً عن أن تطيقوا القيام بحقها من أداء الشكر وهذا تذكير إجمالي بنعمه تعالى، وقد مر تفسير هذا في سورة إبراهيم.
قال العقلاء: إن كل جزء من أجزاء الإنسان لو ظهر فيه أدنى خلل(7/223)
وأيسر نقص لنغص النعم على الإنسان وتمنى أن ينفق الدنيا لو كانت في ملكه حتى يزول عنه ذلك الخلل، فهو سبحانه يدبر بدن هذا الإنسان على الوجه الملائم له، مع أن الإنسان لا علم له بوجود ذلك، فكيف يطيق حصر نعم الله عليه أو يقدر على إحصائها أو يتمكن من شكر أدناها.
يا ربنا هذه نواصينا بيدك خاضعة لعظم نعمك معترفة بالعجز عن تأدية الشكر لشيء منها لا تحصى ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك، ولا نطيق التعبير بالشكر لك، فتجاوز عنا واغفر لنا واسبل ذيول سترك على عوراتنا فإنك إن لا تفعل ذلك نهلك بمجرد التقصير في شكر نعمك فكيف بما قد فرط منا من التساهل في الائتمار بأوامرك والانتهاء عن مناهيك، وما أحسن ما قال من قال:
العفو يرجى من بني آدم ... فكيف لا يرجى من الرب
وما أحسن ما ختم به هذا الامتنان الذي لا يلتبس على إنسان مشيراً إلى عظيم غفرانه وسعة رحمته فقال (إن الله لغفور رحيم) أي كثير المغفرة والرحمة لا يؤاخذكم بالغفلة عن شكر نعمه والقصور عن إحصائها والعجز عن القيام بأدناها. ومن رحمته إدامتها عليكم وإدرارها في كل لحظة وعند كل نفس تتنفسونه وحركة تتحركون بها اللهم إني أشكرك عدد ما شكرك وسيشكرك الشاكرون بكل لسان في كل زمان، فلقد خصصتني بنعم لم أرها على كثير من خلقك من إنسان وحيوان وإن رأيت منها شيئاً على بعض خلقك لم أر عليه بقيتها فإني أطيق شكرك وكيف أستطيع تأدية أدنى شكر أدناها فكيف أستطيع أعلاها، فكيف أستطيع شكر نوع من أنواعها.
ثم بين لعباده أنه عالم بجميع ما يصدر منهم لا يخفى عليه خافية فقال(7/224)
وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (19)
(والله يعلم ما تسرون) أي ما تضمرونه من العقائد والأعمال (وما تعلنون)(7/224)
أي وما تظهرونه منها، وحذف العائد لمراعاة الفواصل، أي يستوي بالنسبة إلى علمه المحيط سركم وعلنكم، وفيه وعيد وتعريض وتوبيخ وتنبيه على أن الإله يجب أن يكون عالماً بالسر والعلانية لا كالأصنام التي تعبدونها فإنها جمادات لا شعور لها بشيء من الظواهر فضلاً عن الضمائر والسرائر فكيف تعبدونها، وقراءة التحتية شاذة فيهما كما نبه عليه السمين.
ثم شرع سبحانه في تحقيق كون الأصنام التي أشار إليها بقوله كمن لا يخلق عاجزة عن أن يصدر منها خلق شيء فلا تستحق عبادة فقال(7/225)
وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (20)
(والذين يدعون) بالياء والتاء سبعيتان، أي الآلهة الذين يدعوهم الكفار (من دون الله) سبحانه صفتهم هذه الصفات الثلاثة المذكورة المنافية للألوهية، وهي أنهم (لا يخلقون شيئاً) من المخلوقات أصلاً لا كبيراً ولا صغيراً ولا جليلاً ولا حقيراً.
(وهم يُخلقون) أي وصفهم أنهم يخلقون فكيف يتمكن المخلوق من أن يخلق غيره؛ ففي هذه الآية زيادة بيان لأنه أثبت لهم صفة النقصان بعد أن سلب عنهم صفة الكمال بخلاف قوله (أفمن يخلق كمن لا يخلق) فإنه اقتصر على مجرد سلب صفة الكمال.
ثم ذكر صفة أخرى من صفاتهمٍ فقال(7/225)
أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (21)
(أموات) يعني أن هذه الأصنام أجسادها جمادات ميتة لا حياة بها أصلاً، فزيادة قوله (غير أحياء) لبيان أنها ليست كبعض الأجساد التي تموت بعد ثبوت الحياة لها بل لا حياة لهذه أصلاً فكيف يعبدونها وهم أفضل منها لأنهم أحياء (وما يشعرون) أي الآلهة (أيان يبعثون) أي الكفار الذين يعبدون الأصنام؛ والمعنى ما تشعر هذه الجمادات من الأصنام أيان يبعث عبدتهم من الكفار، ويكون هذا على طريقة التهكم لهم لأن شعور الجماد مستحيل بما هو من الأمور الظاهرة فضلاً عن الأمور التي لا يعلمها إلا الله سبحانه.(7/225)
وقيل معناه ما تشعر هذه الأصنام أيان تبعث ومتى يبعثها الله، وبه بدأ القاضي تبعاً للكشاف، ويؤيد ذلك ما روي أن الله يبعث الأصنام ويخلق لها أرواحاً معها شياطينها فيؤمر بكلها إلى النار، ويدل على هذا قوله (إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم).
وقيل قد تم الكلام عند قوله (وهم يخلقون) ثم ابتدأ فوصف المشركين بأنهم أموات غير أحياء وما يشعرون أيان يبعثون، فيكون الضميران على هذا للكفار وعلى القول بأن الضميرين أو أحدهما للأصنام يكون التعبير عنها مع كونها لا تعقل بما هو للعقلاء جرياً على اعتقاد من يعبدها بأنها تعقل، وأيان بفتح الهمزة وكسرها لغتان.
وفي الآية قول آخر وهو أن أيان ظرف لقوله(7/226)
إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (22)
(إلهكم إله واحد) يعني أن الإله يوم القيامة واحد ولم يدع أحد تعدد الآلهة في ذلك اليوم بخلاف أيام الدنيا فإنه قد وجد فيها من ادعى ذلك، وعلى هذا فقد تم الكلام على قوله يشعرون، إلا أن هذا القول مخرج لأيان عن موضوعها، وهو إما الشرط وإما الاستفهام إلى محض الظرفية بمعنى وقت مضاف للجملة بعده، والظاهر تفسيره بمتى يبعثون كما في الكشاف وغيره.
ولما زيف سبحانه طريقة عبدة الأصنام صرح بما هو الحق في نفس الأمر وهو وحدانيته سبحانه وهو نتيجة ما قبله، ثم ذكر ما لأجله أصر الكفار على شركهم فقال (فالذين لا يؤمنون بالآخرة قلوبهم منكرة) جاحدة للوحدانية لا يؤثر فيها وعظ ولا ينجع فيها تذكير (وهم مستكبرون) عن قبول الحق متعظمون عن الإذعان للصواب مستمرون على الجحد.(7/226)
لَا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (23) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (24) لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (25) قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (26)(7/227)
لَا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (23)
(لا جرم) قال الخليل: هي كلمة تحقيق ولا يكون إلا جواباً أي حقاً، قلت لا نافية وجرم بمعنى بد، وهذا بحسب الأصل، وأما الآن فقد ركبت لا مع جرم تركيب خمسة عشر وجعلا بمعنى كلمة واحدة، وتلك الكلمة مصدر أو فعل معناه حق وثبت.
وقوله (إن الله) فاعل لا جرم وقد مر تحقيق الكلام في لا جرم بأبسط من هذا قال أبو مالك لا جرم، يعني الحق، وقال الضحاك لا كذب (يعلم ما يسرون) من أقوالهم وأفعالهم (وما يعلنون) من ذلك (إنه لا يحب المستكبرين) أي لا يحب هؤلاء الذين يستكبرون عن توحيد الله والاستجابة لأنبيائه، والجملة تعليل لما تضمنه الكلام المتقدم.
أخرج مسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجة وغيرهم عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر، ولا يدخل النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان "، فقال رجل يا رسول الله الرجل يحب أن يكون ثوبه حسناً ونعله حسناً؛ فقال: " إن الله جميل يحب الجمال؛ الكبر من بطر الحق وغمطُ الناس " (1).
_________
(1) مسلم 91.(7/227)
وفي ذم الكبر ومدح التواضع أحاديث كثيرة، وكذلك في إخراج محبة حسن الثوب وحسن المنعل ونحو ذلك من الكبر أحاديث كثيرة، فقد روي عن الحسين بن علي أنه مرّ بمساكين قد قدموا كسراً لهم وهم يأكلون فقالوا الغذاء يا أبا عبد الله فنزل وجلس معهم وقال إنه لا يحب المستكبرين ثم أكل فلما فرغوا قال: قد أجبتكم فأجيبوني فقاموا معه إلى منزله فأطعمهم وسقاهم وأعطاهم فانصرفوا.
قال العلماء؛ كل ذنب يمكن ستره وإخفاؤه إلا التكبر فإنه فسق يلزمه الإعلان وهو أصل العصيان كله، وفي الحديث الصحيح " أن المتكبرين أمثال الذر يوم القيامة تطؤهم الناس بأقدامهم لتكبرهم " (1) أو كما قال صلى الله عليه وسلم " تصغر لهم أجسامهم في المحشر حين يضرهم تصغيرها وتعظم لهم في النار حين يضرهم عظمها " ذكره القرطبي.
والحاصل أن النبي صلى الله عليه وسلم قد بينَّ ماهية الكبر أنه بطر الحق وغمط الناس، فهذا هو الكبر المذموم، وقد ساق صاحب الدر المنثور عند تفسيره لهذه الآية أحاديث كثيرة ليس هذا مقام إيرادها، بل المقام مقام ذكر ما له علاقة بتفسير الكتاب العزيز. ثم شرع في ذكر شيء من قبائح المشركين فقال
_________
(1) الترمذي كتاب القيامة باب 47 - الإمام أحمد 2/ 179.(7/228)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (24)
(وإذا قيل لهم) أي وإذا قال لهؤلاء الكفار المنكرين المستكبرين قائل (ماذا) أي أيّ شيء أو ما الذي (أنزل ربكم) قيل القائل النضر بن الحرث وكانت عنده كتب التواريخ ويزعم أن حديثه أجمل وأتم مما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، والآية نزلت فيه فيكون هذا القول منه على طريق التهكم.
وقيل القائل هو من يفد عليهم أو بعضهم لبعض، وقيل القائل(7/228)
المسلمون. فأجاب المشركون المنكرون المستكبرون (قالوا أساطير الأولين) بالرفع أي ما تدعون أيها المسلمون أساطير الأوائل وأحاديثهم وأباطيلهم، أو أن المشركين أرادوا السخرية بالمسلمين فقالوا المنزل عليكم أساطيرهم، وعلى هذا فلا يرد ما قيل من أن هذا لا يصلح أن يكون جواباً من المشركين وإلا لكان المعنى الذي أنزله ربنا أساطير الأولين والكفار لا يقرون بالإنزال، ووجه عدم وروده هو ما ذكرناه.
وقيل هو كلام مستأنف أي ليس ما تدعون إنزاله أيها المسلمون منزلاً بل هو أساطير الأولين، والأساطير الأباطيل والترهات التي يتحدث الناس بها عن القرون الأولى وليس من كلام الله في شيء ولا مما أنزله أصلاً في زعمهم، وهي جمع أسطورة كأحاديث وأضاحيك وأعاجيب جمع أحدوثة وأضحوكة وأعجوبة.(7/229)
لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (25)
(ليحملوا) أي قالوا هذه المقالة لكي يحملوا (أوزارهم كاملة يوم القيامة) لم يكفر منها شيء لعدم إسلامهم الذي هو سبب لتكفير الذنوب، وقيل أن اللام هي لام العاقبة لأنهم لم يصفوا القرآن بكونه أساطير لأجل أن يحملوا الأوزار ولكن لما كان عاقبتهم ذلك حسن التعلل به كقوله ليكون لهم عدواً وحزناً، وقيل هي لام الأمر.
قال الرازي في الآية: وهذا يدل على أنه تعالى قد يسقط بعض العقاب عن المؤمنين إذ لو كان هذا المعنى حاصلاً في حق الكل لم يكن لتخصيص هؤلاء الكفار بهذا التكميل فائدة. (ومن أوزار الذين يضلونهم) أي ويحملون بعض أوزار الذين أضلوهم لأن " من سن سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها " (1) كما ورد في
_________
(1) مسلم 1017.(7/229)
الحديث وقيل من للجنس لا للتبعيض أي يحملون كل أوزار الذين يضلونهم قاله الواحدي.
(بغير علم) حال من الفاعل والمعنى أن الرؤساء يضلون الناس جاهلين غير عالمين بما يدعونهم إليه ولا عارفين بما يلزمهم من الآثام، وقيل إنه حال من المفعول أي يضلون من لا يعلم أنهم ضلال قاله الزمخشري وعليه جرى القاضي وفائدتها الدلالة على أن جهلهم لا يعذرهم إذ كان عليهم أن يبحثوا ويميزوا بين الحق والباطل ولا يقنعوا بالتقليد البحت العمى.
ورجح الأول بأنه من المحدث عنه والمسند إليه الإضلال على جهة الفاعلية والمعنى أنهم يقدمون على الإضلال جهلاً منهم بما يستحقونه من العذاب الشديد في مقابلته ومثل هذه الآية قوله (وليحملن أثقالهم وأثقالاً مع أثقالهم) وقوله (ولنحمل خطاياكم).
وقد تقدم في الأنعام الكلام على قوله (ولا تزر وازرة وزر أخرى) فمعناه وزراً لا مدخل لها فيه ولا تعلق له بها بتسبب ولا غيره، قال ابن عباس: يحملون مع ذنوبهم ذنوب الذين يضلونهم بغير علم، وعن مجاهد نحوه وزاد لا يخفف ذلك عمن أطاعكم من العذاب شيئاً.
(ألا ساء ما يزرون) أي بئس شيئاً يزرونه ويحملونه، وفي ذلك وعيد وتهديد لهم، ثم حكى سبحانه حال أضرابهم من المتقدمين فقال:(7/230)
قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (26)
(قد مكر الذين من قبلهم) ذهب أكثر المفسرين إلى إن المراد به نمروذ ابن كنعان حيث بنى بناء عظيماً ببابل طوله في السماء خمسة آلاف ذراع؛ وقيل فرسخان ورام الصعود إلى السماء ليقاتل أهلها فأهب الله الريح فخرَّ ذلك البناء عليه وعلى قومه فهلكوا، وكان أعظم أهل الأرض تجبراً في زمن إبراهيم(7/230)
عليه السلام ونمروذ بضم النون والذال المعجمة وهو ممنوع من الصرف للعلمية والعجمة.
والأولى أن الآية عامة في جميع المبطلين الماكرين الذين يحاولون إلحاق الضر بالمحقين المؤمنين، ومعنى المكر هنا الكيد والتدبير الذي لا يطابق الحق، وفي هذا وعيد للكفار المعاصرين له صلى الله عليه وسلم بأن مكرهم سيعود عليهم كما عاد مكر من قبلهم على أنفسهم.
(فأتى الله) أي أتى أمر الله وهو الريح التي أخربت (بنيانهم) قال المفسرون أرسل الله ريحاً فألقت رأس الصرح في البحر وخر عليهم الباقي بالزلزلة من أسفله فأهلكهم وهم تحته (من القواعد).
قال الزجاج: أي من الأساطين، وقيل من أصوله وأساسه بكسر الهمزة جمع أس وأما بالفتح فجمعه أسس بضمتين قيل لما سقط تبلبلت ألسن الناس بالفزع فتكلموا يومئذ بثلاث وسبعين لساناً فلذلك سميت بابل.
وكان لسان الناس قبل ذلك السريانية هكذا ذكره البغوي وفي هذا نظر لأن صالحاً كان قبلهم وكان يتكلم بالعربية، وكان أهل اليمن عرباً منهم جرهم الذي نشأ إسماعيل بينهم وتعلم منهم العربية وكان قبائل من العرب قديمة قبل إبراهيم كل هؤلاء عرب، والمعنى أنه أتاها أمر الله من جهة قواعدها فزعزعها.
(فخرَّ عليهم السقف) بفتح السين وضمها مع سكون القاف وبضمها وضم القاف أي أنه سقط عليهم السقف لأنه بعد سقوط قواعد البناء يسقط جميع ما هو معتمد عليها قال ابن الأعرابي وإنما قال (من فوقهم) ليعلمك أنهم كانوا حالين تحته والعرب تقول خر علينا سقف ووقع علينا حائط إذا كان(7/231)
يملكه وإن لم يكن وقع عليه فجاء بقوله (من فوقهم) ليخرج هذا الشك الذي في كلام العرب فقال من فوقهم أي عليهم وقع وكانوا تحته فهلكوا وما افلتوا وقيل هو للتأكيد لأن السقف لا يخر إلا من فوق، وقيل أن المراد بالسقف السماء أي أتاهم العذاب من السماء التي فوقهم.
وقد اختلف في هؤلاء الذين خرَّ عليهم السقف فقيل هو نمروذ بن كنعان حين بنى الصرح، قاله ابن عباس، وعن مجاهد نحوه، وقيل أنه بختنصر وأصحابه، وقيل هم المقتسمون الذين تقدم ذكرهم في سورة الحجر.
وقيل المعنى على العموم يعني أنهم لما رتبوا منصوبات ليمكروا بها على أنبياء الله وأهل الحق من عباده أهلكهم الله وجعل هلاكهم مثل هلاك قوم بنوا بنياناً وثيقاً شديداً ودعموه بالأساطين فانهدم ذلك البنيان وسقط عليهم فأهلكهم، فهو مثل ضربه لمن مكر بآخر فأهلكه الله بمكره ومنه المثل السائر على ألسنة الناس من حفر بئراً لأخيه أوقعه الله فيه، وهذا ما اختاره القاضي كالكشاف، والأول أولى، ومع ذلك العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، قال قتادة: أتاها أمر الله من أصلها فخرَّ عليهم السقف من فوقهم والسقف أعالي البيوت فائتفكت بهم بيوتهم فأهلكهم الله ودمرهم.
(وأتاهم العذاب) أي الهلاك (من حيث لا يشعرون) به بل من حيث أنهم في أمان لا يخطر العذاب ببالهم.(7/232)
ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ (27) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (29) وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ (30)
ثم بينَ سبحانه أن عذابهم غير مقصور على عذاب الدنيا فقال(7/233)
ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ (27)
(ثم يوم القيامة يخزيهم) أي الكفار بإدخالهم النار ويفضحهم بذلك ويذلهم ويهينهم عطف على مقدر، أي هذا عذابهم في الدنيا ثم يوم القيامة يخزيهم (ويقول) الله لهم مع ذلك توبيخاً وتقريعاً (أين شركائي) كما تزعمون وتدعون.
ثم وصف هؤلاء الشركاء بقوله (الذين كنتم تشاقون) قرأ نافع بكسر النون على الإضافة والباقون بفتحها أي تخاصمون الأنبياء والمؤمنين (فيهم) والمعنى على قراءة الكسر تخاصمونني وتعادونني وتخالفونني، وقد ضعف أبو حاتم هذه القراءة والمشاقة عبارة عن كون كل واحد من الخصمين في شق غير شق صاحبه والمعنى ما لهم لا يحضرون معكم ادعوهم فليدفعوا عنكم هذا العذاب النازل بكم.
(قال الذين أوتوا العلم) وهم في الموقف قيل هم العلماء قالوا لأممهم الذين كانوا يعظونهم ولا يلتفتون إلى وعظهم وكان هذا القول منهم على طريق الشماتة وقيل هم الأنبياء، وقيل الملائكة والظاهر الأول لأن ذكرهم بوصف العلم يفيد وصف يذكرون به هو أشرف من هذا الوصف وهو كونهم أنبياء أو كونهم ملائكة ولا يقدح في هذا جواز الإطلاق لأن المراد الاستدلال على الظهور فقط.(7/233)
(إن الخزي اليوم) أي الذل والهوان والفضيحة يوم القيامة (والسوء) أي العذاب (على الكافرين) مختص بهم يقولونه شماتة بهم.(7/234)
الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28)
(الذين تتوفاهم) بالتاء والياء وهما سبعيتان لكنه مع الياء يقرأ بالإمالة في الموضعين والتذكير على أن الملائكة ذكور والتأنيث لأن لفظ الجمع مؤنث (الملائكة) وهم ملك الموت عزرائيل وأعوانه (ظالمي أنفسهم) بالكفر وقد تقدم تفسيره.
(فألقوا السلم) أي أقروا بالربوبية وانقادوا عند الموت ومعناه الاستسلام قاله قطرب، وقيل معناه المسالمة أي سالموا وتركوا المشاقة قاله الأخفش، وقيل معناه الإسلام أي أقروا بالإسلام وتركوا ما كانوا فيه من الكفر (ما كنا نعمل من سوء) تفسير للسَّلم على أن يكون المراد بالسلم الكلام الدال عليه.
ويجوز أن يكون المراد بالسوء هنا الشرك ويكون هذا القول منهم على وجه الجحود والكذب أو من شدة الخوف ومن لم يجوّز الكذب على أهل القيامة حمله على أنهم أرادوا أنهم لم يعملوا سوءاً في اعتقادهم وعلى حسب ظنونهم، ومثله قوله (والله ربنا ما كنا مشركين).
فلما قالوا هذا أجاب عليهم أهل العلم بقولهم (بلى) كنتم تعملون السوء (إن الله عليم بما) أي بالذي (كنتم تعملون) فيجازيكم عليه ولا ينفعكم هذا الكذب شيئاً. وقال عكرمة عنى بذلك ما حصل من الكفار يوم بدر.(7/234)
فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (29)
(فادخلوا أبواب جهنم) يقال لهم ذلك عند الموت وقد تقدم ذكر الأبواب وإن جهنم درجات بعضها فوق بعض، أي ليدخل كل صنف إلى الطبقة التي هو موعود بها، وإنما قيل لهم ذلك لأنه أعظم في الخزي والغم، وفيه دليل على أن الكفار بعضهم أشد عذاباً من بعض.
(خالدين فيها) حال مقدرة لأن خلودهم مستقبل (فلبئس مثوى(7/234)
المتكبرين) هي فالمخصوص بالذم محذوف، والمراد بتكبرهم هنا هو تكبرهم عن الإيمان والعبادة كما في قوله: إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون.
ثم اتبع أوصاف الأشقياء بأوصاف السعداء فقال(7/235)
وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ (30)
(وقيل للذين اتقوا) وهم المؤمنون (ماذا أنزل ربكم قالوا خيراً) أي أنزل خيراً، ورفع الأول ونصب هذا فرقاً بين جواب المقر وجواب الجاحد (للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة) قيل هذا من كلام الله عز وجل، وقيل هو حكاية لكلام الذين اتقوا فيكون هذا بدلاً من خير. قاله الزمخشري. وعلى الأول يكون كلاماً مستأنفاً مسوقاً لمدح المتقين.
والمعنى للذين أحسنوا أعمالهم بالإيمان في الدنيا مثوبة حسنة مضاعفة من الواحد إلى العشرة إلى السبعمائة إلى أضعاف كثيرة. وقال قتادة: أحسنوا أي آمنوا بالله وكتبه ورسله، وأمروا بطاعة الله وحثوا عباد الله على الخير ودعوهم إليه.
قال الضحاك: هي النصر والفتح، وقال مجاهد: هي الرزق الحسن. وقيل الحياة الطيبة وهي استحقاق المدح والثناء أو فتح أبواب المشاهدات والمكاشفات. قاله الكرخي.
(ولدار الآخرة) أي مثوبتها وهي الجنة (خير) مما أوتوا في الدنيا (ولنعم دار المتقين) دار الآخرة فحذف المخصوص بالمدح لدلالة ما قبله عليه(7/235)
جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ (31)
(جنات عدن) أي بساتين إقامة من عدن بالمكان إذا أقام به. قيل يجوز أن يكون هو المخصوص بالمدح فيجيء فيها ثلاثة أوجه: رفعها بالابتداء والجملة المتقدمة خبرها، أو رفعها خبراً لمبتدأ مضمر أو رفعها بالابتداء والخبر محذوف وهو أضعفها، ويجوز أن يكون جنات عدن خبر مبتدأ مضمر لا على ما تقدم بل يكون المخصوص محذوفاً تقديره ولنعم دارهم هي جنات، وقدره الزمخشري ولنعم دار المتقين دار الآخرة ويجوز أن يكون مبتدأ والخبر الجملة من قوله يدخلونها، ويجوز أن يكون الخبر مضمراً تقديره لهم جنات دل عليه قوله للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة. قاله السمين.(7/235)
جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ (31) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (32) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (33) فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (34)
(يدخلونها) أي تلك الجنات ولا يرحلون عنها ولا يخرجون منها (تجري من تحتها) أي من تحت دور أهلها وقصورهم ومساكنهم (الأنهار لهم فيها) أي في الجنات (ما يشاءون) أي ما يقع عليه مشيئتهم صفواً عفواً يحصل لهم بمجرد ذلك، وهذه الحالة لا تحصل إلا في الجنة، وذلك يدل على أن الإنسان لا يجد كل ما يريد في الدنيا.
(كذلك) أي الأمر كذلك أو مثل ذلك الجزاء (يجزي الله المتقين) المراد بهم كل من يتقي الشرك وما يوجب النار من المعاصي(7/236)
الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (32)
(الذين تتوفاهم) أي تقبض أرواحهم (الملائكة طيبين) حال من المفعول أو الفاعل مقارنة أو مقدرة، وفيه أقوال، أي طاهرين من شوائب الشرك والكفر والنفاق، أو صالحين، أو زاكية أفعالهم وأقوالهم، أو من ظلم أنفسهم بالمعاصي. قاله البيضاوي. أو طيبين الأنفس ثقة بما يلقونه من ثواب الله، أو طيبة نفوسهم بالرجوع إلى الله، أو طيبين الوفاة أي هي عليهم سهلة لا صعوبة فيها.
وقال مجاهد: طيبين أحياء وأمواتاً قدر الله لهم ذلك، أو فرحين ببشارة الملائكة إياهم بالجنة أو طيبين بقبض أرواحهم لتوجه نفوسهم بالكلية إلى حضرة القدس وقيل طيبين كلمة جامعة لكل معنى حسن حملاً لها على العموم فدخل فيه جميع ما ذكر.(7/236)
(يقولون) أي قائلين لهم يعني الملائكة حال مقارنة إن كان القول واقعاً منهم في الدنيا أو مقدرة إن كان واقعاً في الآخرة.
(سلام عليكم) معناه يحتمل وجهين:
أحدهما: أن يكون السلام إنذاراً لهم بالوفاة.
الثاني: أن يكون تبشيراً لهم بالجنة لأن السلام أمان، وفي الكرخي يقولون لهم عند الموت سلام عليكم أي لا يلحقكم بعد مكروه، فهي حال مقارنة.
واستشهد له في الدر المنثور بما أخرجه مالك وابن جرير والبيهقي وغيرهم عن محمد بن كعب القرظي قال: إذا أشرف العبد المؤمن على الموت جاءه ملك فقال: السلام عليك يا ولي الله، الله يقرأ عليك السلام وبشره بالجنة ونحوه في الكشاف وقال أبو حيان: الظاهر أن السلام إنما هو في الآخرة، ولذلك جاء بعده ادخلوا الجنة فهو من قول خزنة الجنة، وعليه فهي حال مقدرة.
(ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون) أي بسبب عملكم، قيل يحتمل هذا وجهين الأول: يكون تبشيراً بدخول الجنة عند الموت، والثاني: أن يكون ذلك لهم في الآخرة. ولا ينافي هذا دخول الجنة بالتفضل كما في الحديث الصحيح " سددوا وقاربوا واعلموا أنه لن يدخل أحد الجنة بعمله "، قيل ولا أنت يا رسول الله؟ قال: " ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته " (1) وقد قدمنا البحث عن هذا.
_________
(1) مسلم 2818 ومن لفظ اعملوا وفي آخر أبشروا بدل اعملوا - البخاري 2427.(7/237)
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (33)
(هل ينظرون) هذا جواب شبهة أخرى لمنكري النبوة فإنهم طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن ينزل عليهم ملكاً من السماء يشهد على صدقه في ادعاء النبوة فقال: هل ينظرون في تصديق نبوتك (إلا أن تأتيهم) بالتاء والياء سبعيتان (الملائكة) شاهدين بذلك.
ويحتمل أن يقال أنهم لما طعنوا في القرآن بأنه أساطير الأولين أوعدهم الله بقوله: هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة لقبض أرواحهم (أو يأتي أمر ربك) أي عذابه في الدنيا المستأصل لهم، أو المراد بأمر الله القيامة، والمراد بكونهم ينظرون أنهم ينتظرون إتيان الملائكة أو إتيان أمر الله على التفسير الآخر إنهم قد فعلوا فعل من وجب عليه العذاب وصار منتظراً له.
وليس المراد أنهم ينتظرون ذلك حقيقة فإنهم لا يؤمنون بذلك ولا يصدقونه قيل أو مانعه خلو فإن كلاًّ من الموت والعذاب يأتيهم، وإن اختلف الوقت. وإنما عبر بأو دون الواو إشارة إلى كفاية كل واحد من الأمرين في تعذيبهم كما أفاده أبو السعود.
(كذلك) أي مثل فعل هؤلاء من الإصرار على الكفر والتكذيب والاستهزاء (فعل الذين من قبلهم) من طوائف الكفار فأتاهم أمر الله فهلكوا (وما ظلمهم الله) بتدميرهم بالعذاب فإنه أنزل بهم ما استحقوه بكفرهم (ولكن كانوا أنفسهم يظلمون) بما ارتكبوه من القبائح وفيه أن ظلمهم مقصور عليهم باعتبار ما يؤول إليه(7/238)
فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (34)
(فأصابهم سيئات ما عملوا) أي أجزيَة أعمالهم السيئة أو جزاء سيئات أعمالهم معطوف على فعل الذين من قبلهم وما بينهم اعتراض (وحاق) أي نزل (بهم) على وجه الإحاطة والحيق لا يستعمل إلا في الشر، قاله البيضاوي فلا يقال حاقت به النعمة بل النقمة. قاله الشهاب (ما) أي العذاب الذي (كانوا به يستهزئون) أو عقاب استهزائهم.(7/238)
وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (35) وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (36) إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (37)(7/239)
وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (35)
(وقال الذين أشركوا) هذا نوع آخر من كفرهم الذي حكاه الله تعالى عنهم والمراد بالذين أشركوا هنا أهل مكة (لو شاء الله) عدم عبادتنا لشيء غيره (ما عبدنا من دونه من شيء) أي لحصل ذلك، جئت أو لم تجىء، ولو شاء منا الكفر لحصل جئت أو لم تجىء، وإذا كان كذلك فالكل من عند الله فلا فائدة في بعثة الرسل إلى الأمم، ومن الأولى بيانية والثانية زائدة لتأكيد الاستغراق.
(نحن) تأكيد لضمير عبدنا لا لتصحيح العطف لوجود الفواصل وإن كان محسناً له (ولا آباؤنا) الذين كانوا على ما نحن عليه الآن من الكفر والشرك بالله.
قال الزجاج: أنهم قالوا هذا على وجه الاستهزاء، ولو قالوه عن اعتقاد لكانوا مؤمنين انتهى. وقد مضى الكلام على مثل هذا في سورة الأنعام.
(ولا حرّمنا من دونه من شيء) من السوائب والوصائل والبحائر ونحوها ومقصودهم بهذا القول المعلق بالمشيئة الطعن في الرسالة، أي لو كان ما قاله الرسول حقاً من المنع من عبادة غير الله والمنع من تحريم ما لم يحرمه الله حاكياً ذلك عن الله لم يقع منا ما يخالف ما أراده منا فأنه قد شاء الله ذلك وما شاء كان وما لم يشأ لم يكن؛ فلما وقع منا العبادة لغيره وتحريم ما لم يحرمه،(7/239)
كان ذلك دليلاً على أن ذلك هو المطابق لمراده والموافق لمشيئته، مع أنهم في الحقيقة لا يعترفون بذلك ولا يقرون به، لكنهم قصدوا ما ذكرنا من الطعن على الرسل، والظاهر أن من الأولى والثانية هاهنا زائدتان، أي ولا حرمنا شيئاً حال كوننا دونه أي دون الله، أي مستقلين بتحريمه. قاله الحفناوي.
(كذلك فعل الذين من قبلهم) من طوائف الكفر فإنهم أشركوا بالله وحرموا ما لم يحرمه وجادلوا رسلهم بالباطل واستهزؤوا بهم ثم قال (فهل على الرسل) الذين يرسلهم الله إلى عباده بما شرعه لهم من الشرائع التي رأسها توحيده وترك الشرك به (إلا البلاغ المبين) إلى من أرسلوا إليهم، بما أمروا بتبليغه بلاغاً واضحاً يفهمه المرسل إليهم ولا يلتبس عليهم والبلاغ مصدر بمعنى الإبلاغ ثم إنه سبحانه أكد هذا وزاده إيضاحاً فقال:(7/240)
وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (36)
(ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً) كما بعثنا في هؤلاء لإقامة الحجة عليهم وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً وأن في قوله (أن اعبدوا الله) إما مصدرية أي بعثنا بأن اعبدوا الله وحده أو مفسرة لأن في البعث معنى القول والوجهان حكاهما السمين وغيره.
(واجتنبوا الطاغوت) أي اتركوا كل معبود دون الله كالشيطان والكاهن والصنم، وكل من دعا إلى الضلال وهو من الطغيان يذكر ويؤنث، ويقع على الواحد كقوله يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به وعلى الجمع كقوله تعالى أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم، والجمع طواغيت والتقدير واجتنبوا عبادتها فالكلام على حذف المضاف.
(فمنهم) أي فمن هذه الأمم التي بعث الله إليها برسله (من هدى الله) أي أرشده إلى دينه وتوحيده وعبادته واجتناب الطاغوت فآمن (ومنهم من حقت عليه الضلالة) أي وجبت وثبتت بالقضاء السابق في الأزل لإصراره على الكفر والعناد فلم يؤمن.
قال الزجاج: إعلم أنه بعث الرسل بالأمر بالعبادة وهو من وراء(7/240)
الضلال والهداية، ومثل هذه الآية قوله تعالى (فريقاً هدى وفريقاً حق عليهم الضلالة).
وفي هذه الآية التصريح بأن الله أمر جميع عباده بعبادته واجتناب الشيطان وكل ما يدعو إلى الضلال، وأنهم بعد ذلك فريقان فمنهم من هدى ومنهم من حقت عليه الضلالة فكان في ذلك دليل على أن أمر الله سبحانه لا يستلزم موافقة إرادته فإنه يأمر الكل بالإيمان، ولا يريد الهداية إلا البعض إذ لو أرادها للكل لم يكفر أحد، وهذا معنى ما حكيناه عن الزجاج هنا.
(فسيروا في الأرض) سير المعتبرين المتفكرين لتعرفوا مآل من كذب الرسل وهو خراب منازلهم بالعذاب والهلاك وفي الفاء إشعار بوجوب المبادرة إلى النظر والاستدلال (فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين) رسلهم من الأمم السابقة عند مشاهدتكم لآثارهم كعاد وثمود أي كيف ما آخر أمرهم إلى خراب الديار بعد هلاك الأبدان بالعذاب.
ثم خصص الخطاب برسوله صلى الله عليه وآله وسلم مؤكداً لما تقدم فقال(7/241)
إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (37)
(إن تحرص) يا محمد (على هداهم) أي تطلب بجهدك ذلك وقد أضلهم الله لا تقدر على ذلك، وفي المصباح حرص عليه حرصاً من باب ضرب إذا اجتهد والاسم الحرص بالكسر وحرص على الدنيا وحرص حرصاً من باب تعب لغة إذا رغب رغبة مذمومة.
وفي السمين قراءة العامة إن تحرص بكسر الراء مضارع حرص بفتحها وهي اللغة العالية لغة الحجاز وقرئ بكسر الراء مضارع حرص بكسرها وهي لغة لبعضهم.
(فإن الله) تعليل للجواب (لا يهدي من يضل) قرئ يهدي بفتح حرف المضارعة على أنه فعل مستقبل مسند إلى الله سبحانه أي فإن الله لا يرشد من أضله وقرئ بضم حرف المضارعة على أنه مبني للمجهول على أنه لا يهديه هاد كائناً من كان وهما سبعيتان، فهذه الآية كقوله في الآية الأخرى(7/241)
(من يُضلل الله فلا هادي له) وقال الفراء: على القراءة الأولى معنى لا يهدي لا يهتدي كقوله تعالى (أم من لا يهدى إلا أن يهدى) بمعنى يهتدي.
قال النحاس: حكى عن المبرد معنى لا يهدي من يضل من علم ذلك منه وسبق له عنده (وما لهم من ناصرين) ينصرونهم على الهداية لمن أضله الله أو ينصرونهم بدفع العذاب عنهم ومن زائدة.
ثم ذكر عناد قريش وإنكارهم للبعث فقال(7/242)
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (38)
(وأقسموا بالله) أي حلفوا وسمى الحلف قسماً لأنه يكون عند انقسام الناس إلى مصدق ومكذب.
(جهد أيمانهم) أي جاهدين غاية اجتهادهم فيها وذلك أنهم كانوا يقسمون بآياتهم وآلهتهم فإذا كان الأمر عظيماً أقسموا بالله، والجهد بفتح الجيم المشقة وبضمها الطاقة وانتصابه على المصدرية وظاهره أنه استئناف إخبار وجعله الزمخشري نسقاً على وقال الذين أشركوا.
(لا يبعث الله من يموت) من عباده زعموا أن الله سبحانه عاجز عن بعث الأموات، عن أبي العالية قال: كان لرجل من المسلمين على رجل من المشركين دين فأتاه يتقاضاه فكان مما يتكلم به والذي أرجوه بعد الموت أنه لكذا وكذا فقال له الشرك إنك لتزعم أنك تبعث من بعد الموت فأقسم بالله جهد يمينه لا يبعث الله من يموت فأنزل الله سبحانه هذه الآية، وعن عليّ قال نزلت فيَّ.
(بلى وعداً عليه حقاً) هذا إثبات لما بعد النفي أي بلى يبعثهم ووعداً مصدر مؤكد لما دل عليه بلى وهو يبعثهم لأن البعث وعد من الله والتقدير وعد البعث وعداً عليه وحقه حقاً لا خلف فيه (ولكن أكثر الناس لا يعلمون) إن ذلك يسير عليه سبحانه غير عسير إما لعدم علمهم بأنه من مواجب الحكمة التي جرت عادته بمراعاتها وإما لقصور نظرهم بالمألوف فيتوهمون امتناع البعث.(7/242)
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (38) لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ (39) إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (40) وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (42) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43)(7/243)
لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ (39)
(ليبين) أي ليظهر (لهم) وهو غاية لما دل عليه بلى من البعث والضمير في لهم راجع إلى من يموت (الذي يختلفون فيه) أي الأمر الذي وقع الخلاف بينهم فيه وبيانه إذ ذاك يكون بما جاءتهم به الرسل ونزلت عليهم فيه كتب الله، وقيل ليبين متعلق بقوله ولقد بعثنا (وليعلم الذين كفروا) بالله سبحانه وأنكروا البعث (أنهم كانوا كاذبين) في جدالهم وإنكارهم البعث بقولهم لا يبعث الله من يموت.(7/243)
إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (40)
(إنما قولنا لشيء إذا أردناه إن نقول له كن فيكون) جملة مستأنفة لبيان كيفية الإبداء والإعادة مسوقة لهذا المقصد بعد بيان سهولة البعث عليه سبحانه، قال الزجاج: أعلمهم بسهولة خلق الأشياء عليه فأخبر أنه متى أراد الشيء كان وهذا كقوله (فإذا قضى أمراً يقول له كن فيكون) قال ابن الأنباري: أوقع لفظ الشيء على المعلوم عند الله تعالى قبل الخلق لأنه بمنزلة ما قد وجد وشوهد، قال الزجاج: أن معنى لشيء لأجل شيء فجعل اللام سببية وليس بواضح.
وقيل هي لام التبليغ، قاله أبو السعود أي أيُّ شيء كان مما عز وهان كما في قولك قلت له قم فقام، وهذا الكلام من باب التمثيل على معنى أنه لا(7/243)
يمتنع عليه شيء وأن وجوده عند إرادته كوجود المأمور به عند أمر الأمير المطاع إذا ورد على المأمور المطيع، وليس هناك قول ولا مقول له، ولا أمر ولا مأمور، ولا كاف ولا نون حتى يقال إنه يلزم منه أحد محالين إما خطاب المعدوم أو تحصيل الحاصل.
قلت: هكذا قال أكثر المفسرين وهو يخالف ظاهر النظم القرآني والحق ما دلت عليه الآية من القول وهو على حقيقته وأنه جرت العادة الإلهية وقد مضى تفسير ذلك في سورة البقرة مستوفى، وفي الآية الكريمة من الفخامة والجزالة ما يحار فيه العقول والألباب.(7/244)
وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41)
(والذين هاجروا) قد تقدم معنى الهجرة في سورة النساء وهي ترك الأهل والأوطان أي انتقلوا من مكة إلى المدينة لإقامة دين الله تعالى ومعنى (في الله) في شأن الله سبحانه وفي رضاه، وقيل في دين الله، وقيل في بمعنى لام التعليل أي الله (من بعد ما ظُلموا) أي عُذبوا وأهينوا، وقد اختلف في سبب نزول الآية فقيل نزلت في صهيب وبلال وخباب وعمار واعترض بأن السورة مكيّة وذلك يخالف قوله (والذين هاجروا) وأجيب بأنه يمكن أن تكون هذه الآية من جملة الآيات المدنية في هذه السورة كما قدمنا في عنوانها.
وقيل نزلت في أبي جندل بن سهيل، وقيل نزلت في أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم لما ظلمهم المشركون بمكة وأخرجوهم حتى لحق طائفة منهم بالحبشة ثم بوّأهم الله المدينة بعد ذلك فجعلها لهم دار هجرة وجعل لهم أنصاراً من المؤمنين.
(لنبوّأنهم في الدنيا حسنة) قيل المراد نزولهم المدينة قاله ابن عباس والحسن والشعبي وقتادة، وقيل المراد الرزق الحسن قاله مجاهد، وقيل النصر على عدوّهم، قاله الضحاك، وقيل ما استولوا عليه من فتوح البلاد وصار لهم فيها من الولايات، وقيل ما بقي لهم فيها من الثناء وصار لأولادهم من الشرف ولا مانع من حمل الآية على جميع هذه الأمور والمعنى لنبوّأنهم مباءة(7/244)
حسنة أو تبوئة حسنة فحسنة صفة مصدر محذوف.
(ولأجر الآخرة) أي جزاء أعمالهم الكائن في الآخرة وهو النعيم الكائن في الجنة التي هي المراد بالآخرة (أكبر) وأعظم من أن يعلمه أحد من خلق الله قبل أن يشاهده ومنه قوله تعالى وإذا رأيت ثَمَّ رأيت نعيماً وملكاً كبيراً (لو كانوا) أي هؤلاء الظلمة (يعلمون) ذلك، وقيل أن الضمير راجع إلى المؤمنين المهاجرين أي لو رأوا ثواب الآخرة وعاينوه لعلموا أنه أكبر من حسنة الدنيا وهو إسكانهم المدينة.(7/245)
الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (42)
(الذين صبروا) على أذى المشركين أو على مفارقة الوطن والهجرة أو على الجهاد وبذل الأنفس والأموال في سبيل الله واللفظ أعم من ذلك (وعلى ربهم) وحده خاصة (يتوكلون) في جميع أمورهم معرضين عما سواه والصبر مبدأ السلوك إلى الله تعالى والتوكل هو آخر الطريق ومنتهاه والظاهر والله أعلم أن المعنى على المضيّ والتعبير بصيغة المضارع لاستحضار صورة توكلهم البديعة، وفيه ترغيب لغيرهم في طاعة الله عز وجل وجواب الموصول محذوف أي فيرزقهم من حيث لا يحتسبون.(7/245)
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43)
(وما أرسلنا من قبلك) رد على قريش حيث زعموا أن الله سبحانه أجل من أن يرسل رسولاً من البشر فرد الله عليهم بأن هذه عادته وسنته أن لا يرسل (إلا رجالاً) من البشر (نوحي إليهم) وزعم أبو عليّ الجبائي إن معنى الآية أن الله سبحانه لم يرسل إلى الأنبياء بوحيه إلا من هو على صورة الرجال من الملائكة ويرد عليه أن جبريل كان يأتي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على صور مختلفة.
ولما كان كفار مكة مقرّين بأن اليهود والنصارى هم أهل العلم بما أنزل الله في التوراة والإنجيل صرف الخطاب إليهم وأمرهم أن يرجعوا إلى أهل الكتاب فقال (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) أي فاسألوا أيها المشركون إن شككتم فيما ذكر مؤمني أهل الكتاب فإنهم سيخبرونكم بأن جميع الأنبياء كانوا بشيراً أو اسألوا أهل الكتاب من غير تقييد بمؤمنيهم كما يفيده(7/245)
الظاهر فإنهم كانوا يعترفون بذلك ولا يكتمونه، وقيل المعنى فاسألوا أهل القرآن.
عن سعيد بن جبير قال: نزلت في عبد الله بن سلام ونفر من أهل التوراة، وقد استدل مجوز والتقليد بهذه الآية وقالوا أمر سبحانه من لا علم له أن يسأل من له علم والجواب أن هذه الآية الشريفة واردة في سؤال خاص خارج عن محل النزاع كما يفيده السياق المذكور قبل هذا اللفظ الذي استدلوا به وبعده، وبه قال ابن جرير والبغوي وأكثر المفسرين، واستوفاه السيوطي في الدر المنثور، وهذا هو المعنى الذي يفيده السياق والسباق.
وعلى فرض أن المراد السؤال العام فالمأمور بسؤالهم هم أهل الذكر، والذكر هو كتاب الله وسنة رسوله لا غيرهما، ولا أظن مخالفاً يخالف في هذا لأن هذه الشريعة المطهرة هي إما من الله عز وجل وذلك هو القرآن الكريم أو من رسوله صلى الله عليه وسلم وذلك هو السنة المطهرة ولا ثالث لذلك.
وإذا كان المأمور بسؤالهم هم أهل القرآن والحديث فالآية الكريمة حجة على المقلدة لا لهم، لأن المراد أنهم يسألون أهل الذكر فيخبرونهم به، فالجواب من المسؤولين أن يقولوا قال الله كذا وقال رسوله صلى الله عليه وسلم كذا فيعمل السائلون بذلك، وهذا هو غير ما يريده المقلد المستدل بها فإنه إنما استدل بها على جواز ما هو فيه من الأخذ بأقوال الرجال من دون سؤال عن الدليل فإن هذا هو التقليد ولهذا رسموه بأنه قبول قول الغير من دون مطالبة بحجه.
فحاصل التقليد أن المقلد لا يسأل عن كتاب الله ولا عن سنة رسوله صلى الله عليه وسلم بل يسأل عن مذهب إمامه فقط فإذا جاوز ذلك إلى السؤال عن الكتاب والسنة فليس بمقلد، وهذا يسلمه كل مقلد ولا ينكره.(7/246)
بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44) أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (45) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (46) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (47) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ (48)
وإذا تقرر أن المقلد إذا سأل أهل الذكر عن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم لم يكن مقلداً علمت أن هذه الآية الشريفة على تسليم أن السؤال ليس عن الشيء الخاص الذي يدل عليه السياق، بل عن كل شيء من الشريعة كما يزعمه المقلد تدفع في وجهه وترغم أنفه وتكسر ظهره، فإن معنى هذا السؤال الذي شرعه الله تعالى هو السؤال عن الحجة الشرعية وطلبها من العالم فيكون هو راوياً وهذا السائل مُستَروياً، والمقلد يقر على نفسه بأنه يقبل قول العالم ولا يطالبه بالحجة، فالآية هي دليل الاتباع لا دليل التقليد.
وبهذا ظهر لك أن هذه الحجة التي احتج بها المقلد هي حجة داحضة على فرض أن المراد المعنى الخاص وهي عليه لا له على فرض أن المراد المعنى العام.(7/247)
بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44)
(بالبينات والزبر) فيه ستة أوجه:
أحدها: ما تقديره أي رجالاً متلبسين بالبينات وهو وجه حسن. ذكره الزمخشري ولا محذور فيه.
الثاني: ما أرسلناهم بهما ذكره الحوفي والزمخشري وغيرهما وبه بدأ في الكشاف.
الثالث: تقديره ما أرسلنا بهما إلا رجالاً حكاه ابن عطية.(7/247)
الرابع: أنه متعلق بنوحي كما تقول أوحي إليه بحق. ذكره الزمخشري وأبو البقاء.
الخامس: أنه منصوب بتقدير أعني والباء زائدة.
السادس: أنه متعلق بمحذوف كأنه قيل بم أرسلوا، فقيل أرسلوا بهما، كذا قدّره الزمخشري.
قال السمين: وهو أحسن من تقدير أبي البقاء يعني لموافقته للدال عليه لفظاً ومعنى، والبينات الحجج الواضحة والبراهين الساطعة، والزبر الكتب والصحف وقد تقدم الكلام على هذا في آل عمران.
(وأنزلنا إليك) يا محمد صلى الله عليه وسلم (الذكر) أي القرآن، وسماه ذكراً لأن فيه مواعظ وتنبيها للغافلين، ثم بيَّن الغاية المطلوبة من الإنزال فقال (لتبين للناس) جميعاً (ما نزل إليهم) في هذا الذكر من الأحكام الشرعية والوعد والوعيد وبيان الكتاب يطلب من السنة والمبين لذلك المجمل هو الرسول صلى الله عليه وسلم.
ولهذا قيل متى وقع تعارض بين القرآن والحديث وجب تقديم الحديث لأن القرآن مجمل والحديث مبين بدلالة هذه الآية، والمبين مقدم على المجمل، وقيل المحكم مبين والمتشابه مجمل بطلب بيانه من السنة، فهذه الآية محمولة على ما أجمل فيه دون المحكم المبين المفسر (ولعلهم يتفكرون) أي إرادة أن يتأملوا ويعملوا أفكارهم فيتعظوا ويعملوا به.(7/248)
أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (45)
(أفأمن الذين مكروا) الاستفهام للتوبيخ والفاء للعطف على مقدر ينسحب عليه النظم الكريم (السيئات) أي المكرات السيئات ولم يذكر الزمخشري غيره، أو المعنى عملوا أو فعلوا السيئات أو أمن الماكرون للعقوبات السيئات أو مكروا بالسيئات.
قال مجاهد: يعني نمروذ بن كنعان وقومه وعن قتادة قال: مكرهم الشرك. وقال الضحاك: تكذيبهم الرسل وعملهم بالمعاصي، أو هو سعيهم(7/248)
في أذى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأذى أصحابه على وجه الخفية واحتيالهم في إبطال الإسلام وكيد أهله في دار الندوة من تقييده أو قتله أو إخراجه كما ذكر في الأنفال.
(أن) أي أفأمنوا من أن (يخسف الله بهم الأرض) كما خسف بقارون وقرون من قبلهم، يقال خسف المكان يخسف خسوفاً ذهب في الأرض وخسف الله به الأرض خسوفاً أي غاب به فيها، ومنه قوله فخسفنا به وبداره الأرض وخسف هو في الأرض وخسف به.
(أو يأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون) به أي حال غفلتهم عنه ومن جهة لا تخطر ببالهم كما فعل بقوم لوط وغيرهم؛ وقيل يريد يوم بدر فإنهم أهلكوا في ذلك اليوم ولم يكن في حسبانهم.(7/249)
أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (46)
(أو يأخذهم في تقلبهم) ذكر المفسرون فيه وجوهاً، فقيل المراد في أسفارهم ومتاجرهم، فإنه سبحانه قادر على أن يهلكهم في السفر كما يهلكهم في الحضر، وهم لا يفوتونه بسبب ضربهم في الأرض وبعدهم عن الأوطان، والتقلب الحركة إقبالاً وإدباراً.
وقيل المراد في حال تقلبهم في قضاء أوطارهم بوجوه الحيل فيحول الله بينهم وبين مقاصدهم وحيلهم، وقيل في حال تقلبهم في الليل على فرشهم، وقيل في اختلافهم، وقيل في حال إقبالهم وإدبارهم، وذهابهم ومجيئهم بالليل والنهار والتقلب بالمعنى الأول مأخوذ من قوله لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد وبالمعنى الثاني مأخوذ من قوله وقلبوا لك الأمور.
(فما هم بمعجزين) أي بفائتين ولا ممتنعين ولا سابقين(7/249)
أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (47)
(أو يأخذهم على) حال (تخوّف) وتوقع للبلايا بأن يكونوا متوقعين للعذاب حذرين منه غير غافلين عنه فهو خلاف ما تقدم من قوله، أو يأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون.(7/249)
وقال ابن الأعرابي: على تنقص من الأموال والأنفس والثمرات حتى يهلكهم كلهم. قال الواحدي قال عامة المفسرين، معنى على تخوف على تنقص إما بقتل أو بموت يعني بنقص من أطرافهم ونواحيهم يأخذهم الأول فالأول حتى يأتي الأخذ على جميعهم قال والتخوف التنقص، يقال هو يتخوف المال أي ينتقصه ويأخذ من أطرافه. انتهى.
يقال تخوفه الدهر وتخونه بالفاء والنون تنقصه، قال الهيثم بن عدي: التخوف بالفاء التنقص لغة لأزد شنوءه. وقال ابن قتيبة: هذه لغة هذيل وقيل على تخوف على عجل، قاله الليث بن سعد، وقيل على تقريع بما قدموه من ذنوبهم، روي ذلك عن ابن عباس، وقيل على تخوف أن يعاقب ويتجاوز. قاله قتادة.
وعن ابن عباس على أثر موت صاحبه: وعنه أيضاً وتنقص من أعمالهم. وعن عمر أنه سألهم عن هذه الآية فقالوا: ما نرى إلا أنه عند تنقص ما يردوه من الآيات، فقال عمر: ما أرى إلا أنه على ما يتنقصون من معاصي الله، فخرج رجل ممن كان عند عمر فلقى أعرابياً فقال: يا فلان ما فعل ربك؟ قال قد تخيفته يعني تنقصته، فرجع إلى عمر فأخبره فقال قد رأيته ذلك.
وعبارة البيضاوي روي أن عمر قال على المنبر: ما تقولون فيها؟ فسكتوا، فقام شيخ من هذيل فقال: هذه لغتنا التخوف التنقص، فقال: هل تعرف العرب ذلك في أشعارها؟ فقال: نعم، قال شاعرنا أبو بكر يصف ناقته:
تخوف الرحل منها تامكا قردا ... كما تخوف عود النبعة السفن
فقال عمر: عليكم بديوانكم لا تضلوا، قالوا: وما ديواننا. قال شعر الجاهلية فإن فيه تفسير كتابكم ومعاني كلامكم أهـ.(7/250)
قال الشهاب: الرحل رحل الناقة والتامك السنام المشرف والقرد هو المرتفع أو المتراكم، والنبع شجر يتخذ منه القسيّ، والسفن هنا المبرد والقدوم يصف ناقته بأنها أثر الرحل في سنامها، فأكله وانتقصه كما ينتقص المبرد العود. انتهى.
وعن مجاهد قال: على تخوف يأخذهم بنقص بعضهم بعضاً وقال الضحاك والكلبي: هو من الخوف يعني يهلك طائفة فيتخوف الآخرون أن يصيبهم ما أصابهم؛ والحاصل أنه سبحانه خوفهم بخسف يحصل في الأرض أو بعذاب ينزل من السماء، أو بآفات تحدث دفعة، أو بآفات تحدث قليلاً قليلاً إلى أن يأتي الهلاك على آخرهم.
ثم إنه سبحانه ختم الآية بقوله (فإن ربكم لرؤوف رحيم) لا يعاجل بالعذاب بل يمهل رأفة بكم ورحمة لكم مع استحقاقكم للعقوبة.
ثم لما خوف سبحانه الماكرين بما خوف أتبعه ذكر ما يدل على كمال قدرته في تدبير العالم العلوي والسفلي ومكانهما مصدراً بالاستفهام الإنكاري فقال:(7/251)
أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ (48)
(أو لم يروا) بالتحتية بإرجاع الضمير إلى ماكري السيئات وقرئ بالفوقية على أنه خطاب لجميع الناس وهذه الرؤية لما كانت بمعنى النظر وصلت بإلى لأن المراد منها الاعتبار والاعتبار لا يكون إلا بنفس الرؤية التي يكون معها النظر إلى الشيء ليتأمل أحواله ويتفكر فيه ويعتبر به.
(إلى ما خلق الله) ما مبهمة مفسرة بقوله (من شيء) له ظل وهي الأجسام فهو عام أريد به الخاص وخرج به الملك والجن (يتفيأ ظلاله) أي تميل وتدور وتنتقل من جانب إلى جانب وتكون أول النهار على حال وتتقلص ثم تعود في آخر النهار على حالة أخرى قال الأزهري: تفيؤ الظلال رجوعها بعد انتصاف النهار فالتفيؤ لا يكون إلا بالعشي وما انصرفت عنه الشمس والقمر، والذي يكون بالغداة هو الظل وهو ما لم تنله.(7/251)
وقال ثعلب: أخبرت عن أبي عبيدة أن رؤبة قال: كل ما كانت عليه الشمس فزالت عنه فهو فيء وما لم تكن عليه الشمس فهو ظل، وفي السمين التفيؤ تفعل من فاء يفيء إذا رجع وفاء قاصر فإذا أريد تعديته عدَّى بالهمزة كقوله ما أفاء الله على رسوله أو بالتضعيف نحو فيأ الله الظل فتفيأ وتفيأ مطاوع فيأ فهو لازم.
واختلف في الفيء فقيل هو مطلق الظل سواء كان قبل الزوال أو بعده وهو الموافق لمعنى الآية هاهنا، وقيل ما كان قبل الزوال فهو ظل فقط وما كان بعده فهو ظل وفيء فالظل أعم، وقيل بل يختص الظل بما قبل الزوال والفيء بما بعده والظلال جمع ظل وهو مضاف إلى مفرد لأنه واحد يراد به الكثرة.
(عن اليمين والشمائل) أي عن جهة أيمانها وعن شمائلها أي عن جانبي كل واحد منها استعارة أو مجاز من إطلاق المقيد على المطلق، قال أبو السعود: استعير لهما ذلك من يمين الإنسان وشماله، وقيل المراد باليمين يمين الفلك وهو جهة. المشرق لأن الكواكب منه تظهر آخذة في الارتفاع والسطوع ومن الشمائل شماله وهي جهات المغرب المقابل له فإن الظلال في أول النهار تبتدئ من الشرق واقعة على الربع الغربي من الأرض وعند الزوال تبتدئ من الغرب واقعة على الربع الشرقي منها. قال الفراء: وحد اليمين لأنه أراد واحداً من ذوات الإظلال وجمع الشمال لأنه أراد كلها لأن ما خلق الله لفظ مفرد ومعناه جمع.
وقال الواحدي: وحد اليمين والمراد به الجمع ايجازاً في اللفظ كقوله ويولون الدبر، وبه قال الزمخشري ودلت الشمائل على أن المراد بها الجمع، وقيل أن العرب إذا ذكرت صيغتي جمع عبرت عن أحدهما بلفظ الواحد كقوله وجعل الظلمات والنور، وختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم.
وقيل المراد باليمين النقطة التي هي مشرق الشمس وأنها واحدة(7/252)
والشمائل عبارة عن الانحراف في تلك الأظلال بعد وقوعها على الأرض وهي كثيرة، قيل إذا طلعت الشمس من المشرق وأنت متوجه إلى القبلة كان ظلك عن يمينك فإذا استوت الشمس في وسط السماء كان ظلك في خلفك فإذا مالت إلى الغروب كان ظلك عن يسارك.
وقال قتادة والضحاك: أما اليمين فأول النهار وأما الشمال فآخر النهار دائماً وإنما عبر عن المشرق باليمين لأن أقوى جانبي الإنسان يمينه؛ ومنه تظهر الحركة القوية والشمائل جمع شمال على غير قياس والقياس أشمل كذراع وأذرع.
(سجداً) جمع ساجد كشاهد وشهد وراكع وركع أي حال كون الظلال ساجدة (لله) قال الزجاج يعني أن هذه الأشياء مجبولة على الطاعة وقال أيضاً سجود الجسم انقياده وما يرى فيه من أثر الصنعة.
قال مجاهد: إذا زالت الشمس سجد كل شيء لله، وقيل أن الظلال ملتصقة بالأرض كالساجد عليها فلما كانت يشبه شكلها شكل الساجدين أطلق الله عليها هذا اللفظ (وهم) أي والحال أن الظلال (داخرون) أي خاضعون صاغرون والدخور الصغار والذي يقال دخر الرجل فهو داخر وادخره الله ولما وصفها بالطاعة والانقياد لأمره وذلك صفة من يعقل عبر عنها بلفظ من يعقل.(7/253)
وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (49) يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (50) وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (51) وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ (52) وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ (53) ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (54)(7/254)
وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (49)
(ولله) وحده لا لغيره (يسجد) أي يخضع وينقاد والسجود على نوعين: سجود طاعة وعبادة وسجود إنقياد وخضوع كسجود الإنسان وسجود الظلال والآية تحتمل النوعين (ما في السماوات) جميعاً (وما في الأرض من دابة) أي حيوان جسماني ونسمة تدب وتتحرك على الأرض والمراد به كل دابة: قال الأخفش هو كقولك ما أتاني من رجل مثله وما أتاني من الرجال مثله.
وقد دخل في عموم ما فيهما جميع الأشياء الموجودة فيهما، قال قتادة: لم يدع شيئاً من خلقه إلا عبده له طائعاً أو كارهاً، وعن الحسن قال: يسجد من في السماوات طوعاً ومن في الأرض طوعاً وكرهاً وإنما خص الدابة بالذكر لأنه قد علم من قوله أو لم يروا إلى ما خلق الله من شيء انقياد الجمادات ومن بيانية بياناً لما في الشقين أو بيانا لما الثانية فقط.
(و) عطف (الملائكة) على ما قبلهم عطف خاص على عام تشريفاً لهم وتعظيماً لدخولهم في المعطوف عليه، وقيل أفرد الملائكة لأنهم أولو أجنحة يطيرون بها أو تكون في السماء خلق يدبون (وهم) أي والحال أنهم (لا يستكبرون) عن عبادة ربهم، والمراد الملائكة ويحتمل أن تكون الجملة مستأنفة وفي هذا رد على قريش حيث زعموا أن الملائكة بنات الله، والمعنى يسجد لله(7/254)
ما في السماوات وما في الأرض والملائكة وهم جميعاً لا يستكبرون عن السجود.(7/255)
يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (50)
(يخافون) أي حال كونهم خائفين (ربهم من فوقهم) أو جملة مستأنفة لبيان نفي استكبارهم ومن آثار الخوف عدم الاستكبار أي يخافون عذاب ربهم كائناً من فوقهم أو يخافون ربهم حال كونه من فوقهم عالياً عليهم علو الرتبة والمكانة والقدرة بائناً عنهم بالاستواء على العرش، وقيل معناه يخافون الملائكة فيكون على حذف المضاف أي يخافون ملائكة ربهم كائنين من فوقهم وهو تكلف لا حاجة إليه.
وإنما اقتضى مثل هذه التأويلات البعيدة المحاماة على مذاهب قد رسخت في الأذهان وتقررت في القلوب قيل وهذه المخافة هي مخافة الإجلال واختاره الزجاج فقال: يخافون ربهم خوف مجلين ويدل على صحة هذا المعنى قوله وهو القاهر فوق عباده وقوله إخباراً عن فرعون وإنا فوقهم قاهرون.
(ويفعلون ما يؤمرون) به من طاعة الله يعني الملائكة أو جميع من تقدم ذكره وحمل هذه الجملة على الملائكة أولى لأن في مخلوقات الله من يستكبر عن عبادته ولا يخافه ولا يفعل ما يؤمر به كالكفار والعصاة الذين لا يتصفون بهذه الصفات وإبليس وجنوده، وهذه السجدة من عزائم سجود القرآن فيسن للقارئ والمستمع أن يسجد عند قراءتها وسماعها.
ولما بيَّن سبحانه أن مخلوقاته السماوية والأرضيّة منقادة له خاضعة لجلاله أتبع ذلك بالنهي عن الشرك بقوله(7/255)
وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (51)
(وقال الله لا تتخذوا إلهين اثنين إنما هو إله واحد) فنهى سبحانه عن اتخاذ إلهين ثم أثبت أن الإلهية منحصرة في إله واحد وهو الله سبحانه وقد قيل أن التثنية في الإلهين قد دلت على الاثنينية والإفراد في إله قد دل على الوحدة فما وجه وصف إلهين باثنين ووصف إله بواحد فقيل في(7/255)
الجواب أن في الكلام تقديماً وتأخيراً والتقدير لا تتخذوا اثنين إلهين وفيه عد.
وقال أبو البقاء: هو مفعول ثان وهذا كالغلط إذ لا معنى لذلك البتة، وقيل أن التكرير لأجل المبالغة في التنفير عن اتخاذ الشريك، وقيل أنه تأكيد لإلهين وعليه أكثر الناس، وكلام الزمخشري هنا يفهم منه إنه ليس بتأكيد، وقيل أن فائدة زيادة اثنين هي أن يعلم أن النهي راجع إلى التعدد لا إلى الجنسية وفائدة زيادة واحد دفع توهم أن المراد إثبات الإلهية دون الواحدية مع أن الإلهية له سبحانه مسلمة في نفسها وإنما خلاف المشركين في الواحدية.
ثم نقل الكلام سبحانه من الغيبة إلى التكلم على طريقة الالتفات لزيادة الترهيب فقال: (فإياي فارهبون) أي إن كنتم راهبين شيئاً فإياي فارهبون لا غيري فالتركيب أفاد الحصر، وقيل التقدير إياي ارهبوا فارهبون وقدره ابن عطية: ارهبوا إياي فارهبون.
قال الشيخ: وهو ذهول عن القاعدة النحوية وقد يجاب عنه والرهب مخافة مع حزن واضطراب وقد مر هذا في أول البقرة.
ثم لما قرر سبحانه وحدانيته وأنه الذي يجب أن يخص بالرهبة منه والرغبة إليه ذكر أن الكل في ملكه وتحت تصرفه فقال(7/256)
وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ (52)
(وله ما في السماوات والأرض) ملكاً وخلقاً وعبيداً والجملة مقررة لما تقدم في قوله ولله يسجد ما في السماوات وما في الأرض إلخ .. وتقديم الخبر لإفادة الاختصاص والتفت فيه من التكلم إلى الغيبة والجملة معطوفة على قوله إنما هو إله واحد أو على الخبر أو مستأنف.
(وله الدين واصباً) أي ثابتاً واجباً دائما لا يزول والدين هو الطاعة والإخلاص، قال الفراء: واصباً معناه دائماً. وروي عنه أيضاً الواصب الخالص والأول أولى ومنه قوله سبحانه ولهم عذاب واصب أي دائم.(7/256)
وقال الزجاج: أي طاعته واجبة أبداً ففسر الواصب بالواجب، وقال ابن قتيبة في تفسير الواصب: أي ليس أحد يطاع إلا انقطع ذلك بزوال أو بهلكة غير الله تعالى فإن الطاعة تدوم له ففسر الواصب بالدائم وإذا دام الشيء دواماً لا ينقطع فقد وجب وثبت، يقال وصب الشيء يصب وصوباً فهو واصب إذا دام ووصب الرجل على الأمر إذا واظب عليه.
وقيل الوصب التعب والإعياء أي حب طاعة الله سبحانه وإن تعب العبد فيها وهو غير مناسب لما في الآية، قال مجاهد الدين الإخلاص وواصباً دائماً، وقال أبو صالح: يعني لا إله إلا الله.
وعن ابن عباس: دائماً واجباً، وفي البيضاوي: واصباً لازماً، وقال الشهاب: الوصب ورد في كلامهم بمعنى اللزوم والدوام، وفي القاموس وصب يصب دام وثبت كأوصب وعلى الأمر واظب وأحسن القيام عليه، وفي المصباح وصب الشيء وصوباً دام ووصب الدين وجب.
والاستفهام في قوله (أفغير الله تتقون) للتقريع والتوبيخ أو للتعجب والإنكار والفاء للتعقيب، والمعنى إذا كان الدين أي الطاعة واجباً له دائماً لا ينقطع كان المناسب لذلك تخصيص التقوى به وعدم إيقاعها لغيره فكيف يعقل أن يكون للإنسان رغبة أو رهبة في غير الله.
ثم امتن سبحانه عليهم بأن جميع ما هم متقلبون فيه من النعم هو منه لا من غيره فقال:(7/257)
وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ (53)
(وما بكم من نعمة فمن الله) أي ما يلابسكم من النعم على اختلاف أنواعها فهي منة سبحانه، والنعمة إما دينية وهي معرفة الحق لذاته ومعرفة الخير لأجل العمل به وإما دنيوية نفسانية أو بدنية أو خارجية كالسعادات المالية وغيرها، وكل واحدة من هذه جنس تحته أنواع لا حصر لها والكل من الله سبحانه فعلى العاقل أن لا يشكر إلا إياه، وما موصولة متضمنة(7/257)
لمعنى الشرط باعتبار الإخبار دون الحصول، والفاء زائدة أو شرطية، وإليه نحا الفراء وتبعه الحوفي وأبو البقاء.
ثم بين تلون الإنسان بعد استغراقه في بحر النعم فقال: (ثم إذا مسكم الضر) أي الشدة والأمراض والأسقام أو أي ضر كان، والضر المرض والبلاء والحاجة والقحط وكل ما يتضرر به الإنسان (فإليه) سبحانه لا إلى غيره (تجأرون) تتضرعون وتستغيثون وتضجون في كشفه فلا كاشف له إلا هو، يقال جأر يجأر جؤراً إذا رفع صوته بالدعاء في تضرع.
قال مجاهد: تتضرعون بالدعاء وقال السدي: تضجون بالدعاء، وفي القاموس جأر جأراً وجؤراً بوزن غراب رفع صوته بالدعاء وتضرع واستغاث، والبقرة والثور صاحا والنبات طال والأرض طال نبتها.(7/258)
ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (54)
(ثم إذا كشف الضر عنكم) أي إذا رفع عنكم ما نزل بكم من الضر (إذا فريق) أي جماعة (منكم بربهم) الذي رفع الضر عنهم (يشركون) فيجعلون منه إلهياً آخر من صنم أو نحوه، إذا الأولى شرطية والثانية فجائية جوابها، وفي الآية دليل على أن إذا الشرطية لا تكون معمولة لجوابها، لأن ما بعد إذا الفجائية لا يعمل فيما قبلها.
والآية مسوقة للتعجب من فعل هؤلاء حيث يضعون الإشراك بالله الذي أنعم عليهم بكشف ما نزل بهم من الضر مكان الشكر له، وهذا المعنى قد تقدم في الأنعام ويونس، ويأتي إن شاء الله تعالى في سبحان.
قال الزجاج: هذا خاص بمن كفر وقابل كشف الضر عنه بالجحود والكفر، وعلى هذا فيكون من في منكم للتبعيض حيث كان الخطاب للناس جميعاً والفريق هم الكفرة، وإن كان الخطاب موجهاً إلى الكفار فمن للبيان، وبه قال الزمخشري كأنه قيل إذا فريق كافر وهم أنتم. قاله السمين.(7/258)
لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (55) وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (56) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ (57) وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58) يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (59) لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (60)
واللام في(7/259)
لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (55)
(ليكفروا) لام كي لكي يكفروا يعني إشراكهم سبب كفرهم وقيل إنها لام الصيرورة، أي صار أمرهم إلى ذلك، وقيل أنها لام الأمر وإليه نحا الزمخشري. وقيل إنها لام العاقبة، أي فعاقبة إشراكهم بالله غيره كفرهم (بما آتيناهم) من نعمة وهي كشف الضر عنهم حتى كأن هذا الكفر منهم الواقع في موضع الشكر الواجب عليهم غرض لهم ومقصد من مقاصدهم، وهذا غاية في العتو والعناد ليس وراءها غاية.
ثم قال سبحانه على سبيل التهديد والترهيب ملتفتاً من الغيبة إلى الخطاب (فتمتعوا) بما أنتم فيه من ذلك (فسوف تعلمون) عاقبة أمركم وما يحل بكم في هذه الدار وما تصيرون إليه في الدار الآخرة. قال الحسن هذا وعيد.
ثم حكى سبحانه نوعاً آخر من قبائح أعمالهم فقال(7/259)
وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (56)
(ويجعلون لما لا يعلمون نصيباً مما رزقناهم) أي يقع منهم هذا الجعل بعدما وقع منهم الجؤار إلى الله سبحانه في كشف الضر عنهم وما تعقب كشفه عنهم من الكفر منهم بالله والإشراك به ومع ذلك يجعلون لما لا يعلمون حقيقته من الجمادات والشياطين نصيبا من أموالهم يتقربون به إليه.
وقيل المعنى إنهم أي الكفار يجعلون للأصنام وهم لا يعلمون شيئاً(7/259)
لكونهم جمادات، وأجراها مجرى العقلاء جرياً على اعتقاد الكفار فيها، وحاصل المعنى ويجعل هؤلاء الكفار للأصنام التي لا تعقل شيئاً نصيباً من أموالهم التي رزقهم الله إياها. قال مجاهد: يعلمون أن الله خلقهم ويضرهم وينفعهم، ثم يجعلون لما لا يعلمون إنه يضرهم وينفعهم نصيباً مما رزقناهم.
وقال قتادة: هم مشركو العرب جعلوا لأوثانهم وشياطينهم مما رزقهم الله وجزءوا من أموالهم جزءاً فجعلوه لهم، وعن السدي قال: هو قولهم هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا.
(تالله لتسألن) أقسم بنفسه على نفسه أنه يسألهم يوم القيامة، وهذا رجوع من الغيبة إلى الخطاب، وهو من بديع الكلام وبليغه، وهذا السؤال سؤال تقريع وتوبيخ (عما كنتم تفترون) أي تختلقونه من الكذب على الله سبحانه في الدنيا.(7/260)
وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ (57)
(ويجعلون لله البنات) هذا نوع آخر من فضائحهم وقبائحهم، وقد كانت خزاعة وكنانة تقول الملائكة بنات الله، فنزه (سبحانه) نفسه عما نسبه إليه هؤلاء الجفاة الذين لا عقول لهم صحيحة ولا أفهام مستقيمة. قال ابن عباس: يقول تجعلون لي البنات ترتضونهن لي ولا ترتضونهن لأنفسكم، وذلك إنهم كانوا في الجاهلية إذا ولد للرجل منهم جارية أمسكها على هوان أو دسها في التراب وهي حية، إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل، وفي هذا التنزيه تعجيب من حالهم (ولهم ما يشتهون) أي ويجعلون لأنفسهم ما يشتهونه من البنين، والجملة مستأنفة أو في محل النصب على الحال من الواو في يجعلون هذا.
ثم ذكر سبحانه كراهتهم للإناث التي جعلوها لله سبحانه فقال(7/260)
وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58)
(وإذا بشر أحدهم بالأنثى) أي إذا أخبر أحدهم بولادة بنت له (ظل) صار (وجهه(7/260)
مسوداً) أي متغيراً، وليس المراد السواد الذي هو ضد البياض، بل المراد به الكناية عن الانكسار والتغير بما يحصل من الغم والحزم والغيظ والكراهة، والعرب تقول لكل من لقي مكروهاً قد اسود وجهه غماً وحزناً. قاله الزجاج.
وقال الماوردي: بل المراد سواد اللون حقيقة، قال وهو قول الجمهور والأول أولى، فإن المعلوم بالوجدان أن من غضب وحزن واغتم لا يحصل في لونه إلا مجرد التغير وظهور الكآبة والانكسار لا السواد الحقيقي.
(وهو كظيم) أي ممتلئ من الغم غيظاً وحنقاً، يقال كظمت الغيظ كظماً وكظوماً ما أمسكت على ما في نفسك منه على صفح أو غيظ، وربما قيل كظمت على الغيظ وكظمني الغيظ فأنا كظيم ومكظوم، وكظم البعير كظوماً لم يجتر، قال الأخفش: هو الذي يكظم غيظه ولا يظهره، وقيل أنه المغموم الذي يطبق فاه من الغم، مأخوذ من الكظامة وهو سد فم البئر. قاله علي بن عيسى، وقد تقدم في سورة يوسف.(7/261)
يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (59)
(يتوارى) أي يتغيب ويختفي (من القوم من سوء ما بشر به) أي من سوء الحزن والعار والحياء الذي يلحقه بسبب حدوث البنت له، تعلق هنا جارّان بلفظ واحد لاختلاف معناهما، فإن الأولى للابتداء والثانية للعلة، أي من أجل سوء وسوؤها من حيث كونها يخاف عليها الزنا، ومن حيث كونها لا تكتسب ومن حيث غير ذلك.
(أيمسكه على هون) قال اليزيدي: الهون الهوان بلغة قريش، وكذا حكى عن الكسائي، وحكى عنه أيضاً أنه البلاء والمشقة. وقال الفراء: الهون القليل بلغة تميم. وعن الأعمش: أنه قرأ أيمسكه على سوء (أم يدسه في التراب) أي يخفيه فيه بالوأد كما كانت تفعله العرب، والدس إخفاء الشيء في الشيء فلا يزال الذي بشر بحدوث الأنثى متردداً بين هذين الأمرين،(7/261)
والتذكير في يمسكه ويدسه مع كونه عبارة عن الأنثى لرعاية اللفظ، وقرأ الجحدري أم يدسها ويلزمه أن يقرأ أيمسكها، وقيل دسها إخفاؤها عن الناس حتى لا تعرف كالمدسوس لإخفائه عن الأبصار.
(ألا ساء ما يحكمون) حيث أضافوا البنات التي يكرهونها إلى الله سبحانه، وأضافوا البنين المحبوبين عندهم إلى أنفسهم، ومثله قوله تعالى (ألكم الذكر وله الأنثى تلك إذاً قسمة ضيزى) قال السدي: بئسما حكموا بقول شيء لا يرضونه لأنفسهم فكيف يرضونه لي.(7/262)
لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (60)
(للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء) أي لهؤلاء الذين وصفهم الله سبحانه بهذه القبائح الفظيعة صفة السوء من الجهل والكفر بالله، وقيل هو وصفهم لله سبحانه بالصاحبة والولد، وقيل هو حاجتهم إلى الولد ليقوم مقامهم ووأد البنات لدفع العار وخشية الإملاق، وقيل العذاب والنار (ولله المثل الأعلى) هي أضداد صفة المخلوقين من الغنى الكامل والجود، الشامل والعلم الواسع أو التوحيد وإخلاص العبادة، أو أنه خالق رازق قادر مجاز منزه عن الولد. وقيل شهادة أن لا اله إلا الله، قاله قتادة.
وقيل: الله نور السماوات والأرض مثل نوره. الآية: وقيل: ليس كمثله شيء، قاله ابن عباس (وهو العزيز) الذي لا يغالب فلا يضره نسبته إليه ما لا يليق به (الحكيم) في أقواله وأفعاله.(7/262)
وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (61) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ (62) تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63) وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (64) وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (65)
ثم لما حكى سبحانه عن القوم عظم كفرهم بين سعة كرمه وحلمه حيث لم يعاجلهم بالعقوبة فقال(7/263)
وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (61)
(ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم) المراد بالناس هنا الكفار أو جميع العصاة والباء للسببية (ما ترك عليها) أي على الأرض وإن لم تذكر فقد دل عليها ذكر الناس أو الدابة (من دابة) قط بل أهلكها بالمرة شؤم ظلم الظالمين فإن الجميع مستقرون على الأرض، والمراد بالدابة الكافر وقيل كل ما دب.
وقد قيل على هذا كيف يعم بالهلاك وفيهم من لا ذنب له، وأجيب بأن إهلاك الظالم انتقاماً منه وإهلاك غيره إن كان من أهل التكليف فلأجل توفير أجره، وإن كان من غيرهم فبشؤم ظلم الظالمين ولله الحكمة البالغة لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، ومثل هذا قوله واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة.
وفي معنى هذه الآية أحاديث منها ما عند مسلم وغيره من حديث ابن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إذا أراد الله بقوم(7/263)
عذاباً أصاب العذاب من كان فيهم ثم بعثوا على نياتهم " (1) وكذلك حديث الجيش الذي يخسف بهم في البيداء، وفي آخره أنهم يبعثون على نياتهم (2)، وقد قدمنا عند تفسير قوله سبحانه (واتقوا فتنة) الآية تحقيقاً حقيقاً بالمراجعة له.
قال سعيد بن جبير: ما ترك عليها من دابة: ما سقاهم المطر، وعن السدي نحوه، أي يمسك المطر بسبب ظلمهم وانقطاعه يوجب انقطاع النسل وقيل لو أهلك الآباء بكفرهم لم تكن الأبناء، وذلك يستلزم أن لا يبقى في العالم أحد من الناس؛ وقال قتادة: قد فعل ذلك في زمن نوح، أهلك الله ما على الأرض من دابة إلا ما حمل في سفينته.
وهذا إيذان بأن ما أتوه من القبائح فقد تناهى إلى أمد لا غاية وراءه؛ وعن ابن مسعود قال: ذنوب ابن آدم قتلت الجعل في جحره. ثم قال أي والله زمن غرق قوم نوح. وعنه قال: كاد الجعل أن يعذب في جحره بذنب ابن آدم، ثم قرأ هذه الآية. وعن أنس نحوه.
وعن أبي هريرة أنه سمع رجلاً يقول: إن الظالم لا يضر إلا نفسه. قال أبو هريرة بلى والله إن الحبارى لتموت هزالاً في وكرها من ظلم الظالم.
(ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى) معلوم معين عنده تعالى وهو منتهى حياتهم وانقضاء أعمارهم أو أجل عذابهم، وفي هذا التأخير حكمة بالغة، منها الإعذار إليهم وإرخاء العنان معهم، ومنها حصول من سبق في علمه من أولادهم.
(فإذا جاء أجلهم) الذي سماه لهم (لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون) أي حقت عليهم كلمة الله سبحانه في ذلك الوقت من دون تقدم عليه ولا تأخر عنه والساعة المدة القليلة، وقد تقدم تفسير هذا وتحقيقه.
_________
(1) مسلم 2879 بلفظ " ثم بعثوا على أعمالهم " - البخاري 2558.
(2) مسلم 2882 - البخاري كتاب البيوع باب ما ذكر في الأسواق.(7/264)
ثم ذكر نوعاً آخر من جهلهم وحمقهم فقال(7/265)
وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ (62)
(ويجعلون لله ما يكرهون) أي ينسبون إليه سبحانه ما يكرهون نسبته إلى أنفسهم من البنات والشريك في الرياسة وإهانة الرسل وهو تكرير لما تقدم لقصد التأكيد والتقرير أو لزيادة التوبيخ والتقريع، قال الضحاك: أي يجعلون لي البنات ويكرهون ذلك لأنفسهم.
ثم ذكر الله سبحانه نوعاً آخر من قبائحهم فقال (وتصف ألسنتهم الكذب) والذي تصفه ألسنتهم من الكذب هو قولهم (أن لهم) الخصلة أو العاقبة (الحسنى) قال الزجاج: يصفون أن لهم مع قبح قولهم من الله الجزاء الحسن أي الجنة كقوله ولئن رجعت إلى ربي إن لي عنده الحسنى، وقرئ الكذب بضمتين على أنه صفة للألسن وهو جمع كذب فيكون المفعول على هذا أن لهم الحسنى، قال مجاهد: قول كفار قريش لنا البنون وله البنات وعن قتادة نحوه.
ثم رد الله سبحانه عليهم بقوله: (لا جرم) تركيب مزجي من لفظ لا ولفظ جرم ومعناه الفعل أي ثبت أو المصدر أي حقاً (أن لهم) مكان ما جعلوه لأنفسهم من الحسنى (النار) الموقدة والعذاب الدائم (وأنهم مفرطون) بفتح الراء تخفيفاً أي مقدمون إلى النار.
قال ابن الأعرابي وأبو عبيدة: أي متروكون منسيون في النار وبه قال مجاهد وعن سعيد بن جبير نحوه، وبه قال الكسائي والفراء فيكون مشتقاً من أفرطت فلاناً خلفي إذا خلفته ونسيته.
وقال قتادة والحسن: معجلون إليها مقدمون في دخولها من أفرطته أي قدمته في طلب الماء والفارط هو الذي يتقدم إلى الماء والفراط المتقدمون في طلبه والوراد المتأخرون، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم " أنا فرطكم على(7/265)
الحوض " (1) أي متقدمكم، وقرئ مفرطون بكسر الراء وتخفيفها وهي قراءة ابن مسعود وابن عباس ومعناه مسرفون في الذنوب والمعاصي يقال أفرط فلان على فلان إذا أربى عليه وقال له أكثر مما قال من الشر.
وقرئ مفرطون بكسر الراء وتشديدها أي مضيعون أمر الله فهو من التفريط في الواجب.
ثم بين سبحانه أن مثل صنيع قريش قد وقع من سائر الأمم فقال مسلياً لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيما كان يناله من الغم بسبب جهالات القوم
_________
(1) مسلم 249.(7/266)
تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63)
(تالله لقد أرسلنا إلى أمم من قبلك) رسلاً (فزين لهم الشيطان أعمالهم) الخبيثة من الكفر فكان شأنهم مع رسلهم التكذيب والمزين هو الله سبحانه والشيطان إنما له الوسوسة فقط فمن أراد الله شقاوته سلطه عليه حتى يقبل وسوسته (فهو وليهم اليوم) لفظ اليوم المعرف بأل إنما يستعمل حقيقة في الزمان الحاضر المقارن للتكلم كالآن، وحينئذ فلفظ اليوم في الآية يحتمل أن يكون عبارة عن زمان الدنيا فيكون المعنى هو قرينهم في الدنيا.
ويحتمل أن يكون عبارة عن يوم القيامة وما بعده فيكون للحال الآتية ويكون الوليّ بمعنى الناصر والمراد نفي الناصر عنهم على أبلغ الوجوه لأن الشيطان لا يتصور منه النصرة أصلاً في الدار الآخرة وإذا كان الناصر منحصراً فيه لزم أن لا نصرة من غيره.
ويحتمل أن يراد باليوم بعض زمان الدنيا وهو على وجهين: الأول: أن يراد البعض الذي قد مضى وهو الذي وقع فيه التزيين من الشيطان للأمم الماضية فيكون على طريق الحكاية للحال الماضية. الثاني: أن يراد البعض الحاضر وهو وقت نزول الآية والمراد تزيين الشيطان لكفار قريش فيكون الضمير في وليهم لكفار قريش أي فهو ولي هؤلاء اليوم، أو على حذف(7/266)
مضاف أي فهو ولي أمثال أولئك الأمم اليوم ومن كان الشيطان وليه وناصره فهو مخذول مغلوب مقهور وإنما سماه ولياً لهم لطاعتهم إياه (ولهم عذاب أليم) في الآخرة وهو عذاب النار.
ثم ذكر سبحانه أنه ما هلك من هلك إلا بعد إقامة الحجة عليهم وإزاحة العلة منهم فقال:(7/267)
وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (64)
(وما أنزلنا عليك الكتاب) هذا خطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم والمراد بالكتاب القرآن والاستثناء في (إلا) مفرغ من أعم الأحوال أي ما أنزلنا عليك لحال من الأحوال ولا لعلة من العلل (إلا لتبين لهم) أي للناس وإنما جر هذا باللام لاختلاف فاعله مع فاعل الفعل فإن المنزل هو الله والمبين هو النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإنما نصب اللذان بعده لاتحاد فاعلهما مع فاعل الفعل لأن الهادي والراحم هو الله كما أنه المنزل (الذي اختلفوا فيه) من التوحيد والشرك والجبر والقدر وأحوال البعث وإثبات المعاد وسائر الأحكام الشرعية.
(وهدى) عطف على لنبين (ورحمة لقوم يؤمنون) بالله سبحانه ويصدقون ما جاءت به الرسل ونزلت به الكتب لأنهم هم المنتفعون.
ثم عاد سبحانه إلى تقرير وجوده وتفرده بالإلهية بذكر آياته العظام وبيناته الفخام فقال(7/267)
وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (65)
(والله أنزل من السماء) أي من السحاب أو من جهة العلو كما مر (ماء) أي نوعاً من أنواع الماء (فأحيا به الأرض بعد موتها) أي أحياها بالنبات والزرع بعد أن كانت يابسة لا حياة بها.
(إن في ذلك) الإنزال والإحياء (لآية) أي علامة دالة ودلالة واضحة على وحدانيته وعلى بعثه للخلق ومجازاتهم (لقوم يسمعون) كلام الله سماع تدبر وإنصاف ويفهمون ما يتضمنه من العبر ويتفكرون في خلق السماوات والأرض، فالمراد سمع القلوب لا سمع الآذان لأن من لم يسمع بقلبه فكأنه لم يسمع وكأنه أصم.(7/267)
وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ (66) وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (67) وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68)(7/268)
وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ (66)
(وإن لكم في الأنعام لعبرة) الأنعام هي الإبل والبقر والغنم ويدخل في الغنم المعز والعبرة أصلها تمثيل الشيء بالشيء ليعرف حقيقته بطريق المشاكلة ومنه فاعتبروا يا أولي الأبصار والظاهر أن في سببية أي بسبب الأنعام، وقال أبو بكر الوراق: العبرة في الأنعام تسخيرها لإربابها وطاعتها لهم.
والظاهر أن العبرة هي قوله (نسقيكم مما في بطونه) فتكون الجملة مستأنفة لبيان العبرة قرئ من سقى يسقي ومن أسقى يسقي قيل هما لغتان وقرئ بالتاء على أن الضمير راجع إلى الأنعام وبالتحتية على إرجاع الضمير إلى الله سبحانه وهما ضعيفان وجميع القراء على القراءتين الأوليين والفتح لغة قريش والضم لغة حمير.
وقيل أن بين سقى وأسقى فرقاً فإذا كان الشراب من يد الساقي إلى فم المسقى فيقال سقيته وإن كان بمجرد عرضه عليه وتهيئته له قيل أسقاه ومن تبعيضية أو ابتدائية والضمير في بطونه راجع إلى الأنعام، قال سيبويه: العرب تخبر عن الأنعام بخبر الواحد، وقال الزجاج: لما كان لفظ الجمع يذكر ويؤنث فيقال هو الأنعام وهي الأنعام جاز عود الضمير بالتذكير.
وقال الكسائي: معناه مما في بطون ما ذكرنا فهو على هذا عائد إلى المذكور، قال الفراء وهو صواب، وقال المبرد: هذا فاش في القرآن كثير مثل قوله للشمس (هذا ربي) يعني هذا الشيء الطالع وكذلك (إني مرسلة إليهم(7/268)
بهديَّةٍ) ثم قال (فلما جاء سليمان) ولم يقل جاءت لأن المعنى جاء الشيء
الذي ذكرنا انتهى.
ومن ذلك قوله (إن هذه تذكرة فمن شاء ذكره) وحكى الكسائي أن المعنى مما في بطون بعضه وهي الإناث لأن الذكور لا ألبان لها، وبه قال أبو عبيدة، وحكى عن الفراء أنه قال: النعم والإنعام واحد يذكر ويؤنث ولهذا تقول العرب هذه نعم وارد فرجع الضمير إلى لفظ النعم الذي هو بمعنى الإنعام وهو كقول الزجاج، ورجحه ابن العربي فقال: إنما يرجع التذكير إلى معنى الجمع والتأنيث إلى معنى الجماعة فذكره هنا باعتبار لفظ الجمع وأنثه في سورة المؤمنين باعتبار لفظ الجماعة (من بين فرث ودم) الفرث الزبل الذي ينزل إلى الكرش، فإذا خرج منه لم يسم فرثاً بل يسمى روقاً وهو ثفل الكرش يقال أفرثت الكرش إذا أخرجت ما فيها.
وقال البيضاوي: الفرث الأشياء المأكولة المنهضمة بعض الانهضام في الكرش والمعنى أن الشيء الذي تأكله يكون منه ما في الكرش وهو الفرث ويكون منه الدم فيكون أسفله فرثاً وأعلاه دما وأوسطه.
(لبناً) فيجري الدم في العروق واللبن في الضروع ويبقى الفرث في الكرش كما هو فسبحان من هذه بعض حكمته (خالصاً) من حمرة الدم وقذارة الفرث بعد أن جمعهما وعاء واحدٌ وذلك إن الحيوان إذا أكل العلف طبخه الكرش ثم انقسم إلى أقسام ثلاثة ثفل وفوقه اللبن وفوقه الدم ثم تسلط الكبد عليها فترسل الدم إلى العروق واللبق إلى الضروع ويبقى الثفل في الكرش حتى ينزل إلى الخارج والحاصل أن الله تعالى خلق اللبن في مكان وسط بين الفرث والدم (سائغاً للشاربين) أي لذيذاً هنيئاً لا يغص به من شربه يقال ساغ الشراب يسوغ سوغاً أي سهل مدخله في الحلق وفي ذلك عبرة لمن اعتبر.(7/269)
وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (67)
(ومن ثّمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكراً) قال ابن جرير التقدير ومن ثمرات النخيل والأعقاب ما تتخذون فحذف ما، ودل على حذفه قوله منه: وقيل التقدير وإن لكم من ثمرات النخيل والأعناب لعبرة، وقيل نسقيكم مما في بطونه ومن ثمرات النخيل وقيل نسقيكم من ثمرات النخيل قدره الزمخشري ويكون على هذا تتخذون منه سكراً بياناً للإسقاء وكشفاً عن حقيقته.
وقيل تقديره ومن ثمرات النخيل والأعناب ثمر تتخذون منه سكراً ويكون تكرير منه للتأكيد وإنما ذكر الضمير في منه لأنه يعود إلى المذكور أو إلى المضاف المحذوف وهو العصير كأنه قال من عصير ثمرات تتخذون منه والسكر بفتحتين ما يسكر من الخمر، وقيل إنه من أسماء الخمر وقيل أنه في الأصل مصدر سمى به الخمر.
(ورزقاً حسناً) هو جميع ما يؤكل من هاتين الشجرتين كالتمر والزبيب والخل والدبس، قال ابن عباس: السكر ما حرم من ثمرتهما والرزق الحسن ما حل وعنه قال السكر الحرام، والرزق زبيبه وخله وعنبه ومنافعه، وأيضاً قال السكر النبيذ والرزق الزبيب فنسختها آية إنما الخمر والميسر، وعنه قال فحرم الله بعد ذلك السكر مع تحريم الخمر لأنه منه ثم قال (ورزقاً حسناً) فهو الحلال من الخل والزبيب والنبيذ أو أشباه ذلك فأقرّه الله وجعله حلالاً للمسلمين.
وعن ابن عمر أنه سئل عن السكر فقال: الخمر بعينها وعن ابن مسعود قال: السكر الخمر وبالجملة فقد كان نزول هذه الآية قبل تحريم الخمر وبه جزم السيوطي اعتماداً على قولهم في السورة أنها مكية إلا ثلاث آيات من آخرها، والمائدة مدنية وتحريم الخمر فيها وهي آخر القرآن نزولاً كما ثبت في الحديث.(7/270)
وقيل أن السكر الخل بلغة الحبشة والرزق الطعام من الشجرتين، وقيل السكر العصير الحلو الحلال، وسمي سكراً لأنه قد يصير مسكراً إذا بقي فإذا بلغ الإسكار حرم والقول الأول أولى وعليه الجمهور، وقد صرح أهل اللغة بأن السكر اسم للخمر ولم يخالف في ذلك إلا أبو عبيدة فإنه قال السكر الطعم.
ورجح هذا ابن جرير فقال: أن السكر ما يطعم من الطعام ويحل شربه من ثمار النخيل والأعناب وهو الرزق الحسن فاللفظ مختلف والمعنى واحد مثل (إنما أشكو بثي وحزني إلى الله).
قال الزجاج: قول أبي عبيدة هذا لا يعرف وأهل التفسير على خلافه. وقد حمل السكر جماعة من الحنفية على ما لا يسكر من الأنبذة وعلى ما ذهب ثلثاه بالطبخ قالوا وإنما يمتن الله على عباده، بما أحله لا بما حرمه عليهم، وهذا مردود بالأحاديث الصحيحة المتواترة على فرض تأخره عن آية تحريم الخمر.
(إن في ذلك) المذكور من إخراج اللبن واتخاذ السكر والرزق من الثمرات (لآية لقوم يعقلون) أي لدلالة لمن يستعمل العقل ويعمل بما يقتضيه عند النظر في الآيات التكوينية.(7/271)
وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68)
(وأوحى ربك إلى النحل) قد تقدم الكلام في الوحي وأنه يكون بمعنى الإلهام وهو ما يخلقه في القلب ابتداء من غير سبب ظاهر، ومنه قوله سبحانه: (ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها) ومن ذلك إلهام البهائم لفعل ما ينفعها وترك ما يضرها، والخطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم أو لكل فرد من الناس ممن له عقل وتفكر يستدل به على كمال قدرة الله ووحدانيته وأنه الخالق لجميع الأشياء المدبر لها بلطيف حكمته وقدرته.(7/271)
وقرئ النحل بفتح الحاء، قال الزجاج: وسمي نحلاً لأن الله سبحانه نحله العسل الذي يخرج منه، قال الجوهري: والنحل والنحلة الدبر يقع على الذكر والأنثى وقيل اسم جنس يفرق بينه وبين واحده بالتاء ويذكر ويؤنث، والنحل بالضم مصدر قولك نحلته من العطية أنحله نحلاً، والنحلى العطية على فعل.
(أن اتخذي من الجبال بيوتاً) أي بأن اتخذي على أن (أن) هي المصدرية، ويجوز أن تكون تفسيرية لأن في الإيحاء معنى القول، وبهذا قال الزمخشري وغيره ومن منع وهو أبو عبد الله الرازي قال: لا نسلم انها مفسرة، كيف وقد انتفى شرط التفسير بأن المراد من الإيحاء هو الإلهام اتفاقاً، وليس فيه معنى القول وحينئذ فهي مصدرية، كأنه قيل أوحى ربك باتخاذ بعض الجبال بيوتاً ورده في الغني بأن الإلهام فيه معنى القول من حيث الدلالة على المعنى.
وأنث الضمير في اتخذي لكونه أحد الجائزين كما تقدم أو للحمل على المعنى أو لكون النحل جمعاً وأهل الحجاز يؤنثون النحل، والمعنى سخرها لما خلقها له وألهمها رشدها وقدر في نفسها هذه الأعمال العجيبة التي يعجز عنها العقلاء من البشر، وذلك أن النحل تبني بيوتاً على شكل مسدس من أضلاع متساوية لا يزيد بعضها على بعض بمجرد طباعها، ولو كانت البيوت مدورة أو مثلثة أو مربعة أو غير ذلك من الأشكال لكان فيها فرج خالية ضائعة، ولما حصل المقصود فألهمها الله تعالى أن تبنيها على هذا الشكل المسدس الذي لا يحصل فيه خلل ولا فرجة خالية.
وألهمها أيضًا أن يجعلوا عليهم أميراً كبيراً نافذ الحكم فيهم، وهم يطيعونه ويمتثلون أمره ويكون هذا الأمير أكبرهم جثة وأعظمهم خلقة ويسمى يعسوب النحل يعني ملكهم، كذا حكاه الجوهري.(7/272)
وألهمها أيضًا أن جعلوا على باب كل خلية بواباً لا يمكن غير أهلها من الدخول إليها؛ وألهمها أيضًا أنها تخرج من بيوتها فتدور وترعى ثم ترجع إلى بيوتها ولا تضل عنها، ولما امتاز هذا الحيوان الضعيف بهذه الخواص العجيبة الدالة على مزيد الذكاء والفطنة دل ذلك على الإلهام الإلهي.
ومن في من الجبال (و) كذا في (من الشجر و) كذا في (مما يعرشون) للتبعيض، أي مساكن توافقها وتليق بها في كوى الجبال وتجويف الشجر وفي العروش التي يعرشها بنو آدم من الأجباح (1) والحيطان وغيرها، وأكثر ما يستعمل فيما يكون من الخشب، يقال عرش يعرش بكسر الراء وضمها وهما سبعيتان وبابه نصر وضرب كما في المختار.
والظاهر أن من في (مما) بمعنى في إذ لا معنى لكونها تبنى من بناء الناس بل الظاهر أنها تبنى في بنائهم ويكون المراد من بنائهم الكوارة ومن بنائها بيتها الذي تمج فيه العسل، فإن من المشاهد أنها تبني لها بيتاً داخل الخلية من الشمع ثم تمج فيه العسل شيئاً فشيئاً.
والظاهر أن (من) في الموضعين الأولين بمعنى في أيضًا كما صرح به الشهاب ويكون المراد ببيوتها ما تبنيه من الشمع كما تقدم، فالشمع تارة تبنيه في الجبال وتارة في الأشجار، وهذا في النحل الوحشيّ، وتارة تبنيه في الخلايا، وهذا في النحل الأهلي فإن النحل قسمان كما ذكره الخازن.
_________
(1) الجبح ويثلث خلية العسل الجمع أجبح وأجباح. أهـ قاموس.(7/273)
ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (69) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (70)(7/274)
ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (69)
(ثم كلي من كل الثمرات) من للتبعيض لأنها تأكل النور من الأشجار فإذا أكلتها (فاسلكي) أي فادخلي (سبل ربك) أي الطرق التي فهمك الله وعلمك وأضافها إلى الرب لأنه خالقها وملهم النحل أن تسلكها؛ أي ادخليها لطلب الرزق في الجبال وخلال الشجر، أو اسلكي ما أكلت في سبل ربك أي في مسالكه التي يستحيل فيها بقدرته النور المر عسلاً من أجوافك أو إذا أكلت الثمار في الأمكنة البعيدة فاسلكي إلى بيوتك راجعة سبل ربك لا تضلين فيها.
(ذللاً) حال من السبل وهي جمع ذلول أي مذللة غير متوعرة، واختار هذا الزجاج وابن جرير، وقيل حال من النحل، يعني مطيعة للتسخير وإخراج العسل من بطونها. واختار هذا ابن قتيبة.
قال مجاهد: طرقاً لا يتوعر عليها مكان سلكته، وعن قتادة قال مطيعة .. قال السدي ذليلة (يخرج من بطونها) مستأنفة عدل به عن خطاب النحل تعديداً للنعم وتعجيباً لكل سامع وتنبيهاً على العبر وإرشاداً إلى الأيات العظيمة الحاصلة من هذا الحيوان الضعيف الشبيه بالذباب.
(شراب) المراد به في الآية هو العسل قاله ابن عباس (مختلف ألوانه) يعني أن بعضه أبيض وبعضه أحمر وبعضه أزرق وبعضه أصفر باختلاف ذوات النحل وألوانها ومأكولاتها، وذلك على قدر ما تأكل من الثمار والإزهار ويستحيل في بطونها عسلاً. وفي هذا دليل على قدرته.(7/274)
وفي البيضاوي مختلف ألوانه بسبب اختلاف سن النحل أو الفصل قال الشهاب: فالأبيض لفَتيِّها والأصفر لكهلها والأحمر لمسنها، ولا يخفى إنه مما لا دليل عليه. انتهى. وجمهور المفسرين على أن العسل يخرج من أفواه النحل ويسيل كاللعاب وقيل من أسفلها، وقيل لا يدري من أين يخرج منها.
(فيه) أي في الشراب الخارج من بطون النحل وهو العسل، وإلى هذا ذهب الجمهور (شفاء للناس) قال مجاهد: العسل فيه الشفاء وفي القرآن. وقال الفراء وابن كيسان وجماعة من السلف أن الضمير راجع إلى القرآن، ويكون التقدير فيما قصصنا عليكم من الآيات والبراهين شفاء للناس، ولا وجه للعدول عن الظاهر ومخالفة المرجع الواضح والسياق البين.
وعن ابن مسعود قال: أن العسل شفاء من كل داء والقرآن شفاء لما في الصدور وعنه مرفوعاً قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " عليكم بالشفاءين العسل والقرآن " (1) وقد وردت أحاديث في كون العسل شفاء؛ منها ما أخرجه البخاري من حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " الشفاء في ثلاثة: في شرطة محجم أو شربة عسل أو كية بنار، وأنا أنهي أمتي عن الكي " (2).
وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما من حديث أبي سعيد أن رجلاً أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن أخي استطلق بطنه، استطلاقاً، قال اذهب فاسقه عسلاً، فذهب فسقاه ثم جاء فقال: مما زاده إلا استطلاقاً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: صدق الله وكذب بطن أخيك، اذهب فاسقه عسلاً، فذهب فسقاه فبرأ (3).
_________
(1) ابن ماجة كتاب الطب الباب السابع.
(2) البخاري كتاب الطب باب 3 رقم 2250 مسلم 2205.
(3) مسلم 2217. البخاري 2251.(7/275)
وقد اختلف أهل العلم هل هذا الشفاء الذي جعله الله في العسل عام لكل داء أو خاص ببعض الأمراض، فقالت طائفة هو على العموم في كل حال ولكل أحد؛ وقالت طائفة إن ذلك خاص ببعض الأمراض ولا يقتضي العموم في كل علة وفي كل إنسان، وليس هذا بأول لفظ خصص، فالقرآن مملوء منه، ولغة العرب يأتي فيها العام كثيراً بمعنى الخاص، والخاص بمعنى العام.
ومما يدل على هذا أن العسل نكرة في سياق الإثبات فلا يكون عاماً باتفاق أهل اللسان ومحققي أهل الأصول، وتنكيره إن أريد به التعظيم لا يدل إلا على أن فيه شفاء عظيماً لمرض أو أمراض لا لكل مرض، فإن تنكير التعظيم لا يفيد العموم.
والظاهر المستفاد من التجربة ومن قوانين علم الطب أنه إذا استعمل مفرداً كان دواء لأمراض خاصة، وأن خلط مع غيره كالمعاجين ونحوها كان مع ما خلط به دواء لكثير من الأمراض.
قلت وحديث البخاري أن أخي استطلق بطنه الحديث أوضح دليل على ما ذهبت إليه طائفة من تعميم الشفاء، لأن قوله صلى الله عليه وسلم صدق الله أي أنه شفاء، فلو كان لبعض دون بعض لم يكرر الأمر بالسقيا.
وقد اعترض على هذا الحديث بعض الملحدين ومن في قلبه مرض بكونه خلاف ما أجمع عليه الأطباء من أن العسل مسهل فكيف يوصف لمن به الإسهال وأجاب عنه الخازن على الطريق الجاري على صناعة الطب وأورده الشيخ سليمان الجمل ثم قال: ولسنا نقصد الاستظهار لتصديق الحديث بقول الأطباء بل لو كذبوه لكذبناهم وكفرناهم بذلك انتهى.
وعن ابن عمر أنه كان لا يشكو قرحة ولا شيئاً إلا جعل عليه عسلا حتى الدمل إذا خرج طلى عليه العسل، وعن أبي وجرة أنه كان يكتحل(7/276)
بالعسل ويستنشق ويتداوى به ذكره القرطبي، وفي الباب آثار عن جماعة من السلف.
وقال البيضاوي: شفاء للناس إما بنفسه كما في الأمراض البلغمية أو مع غيره كما في سائر الأمراض إذ قلما يكون معجون إلا والعسل جزء منه، وقيل أن هذا القول خرج مخرج الأغلب وأنه في الأغلب فيه شفاء ولم يقل أنه شفاء لكل الناس ولكل داء لكنه في الجملة دواء، وأن نفعه أكثر من مضرته ومنافعه كثيرة جداً، قال السدي: شفاء للأوجاع التي شفاؤها فيه، وبالجملة فهو من أعظم الأغذية وأنفع الأدوية وقليلاً ما يجتمع هذان الأمران في غيره.
(إن في ذلك) المذكور من أمر النحل (لآية لقوم يتفكرون) أي يعملون أفكارهم عند النظر في صنيع الله سبحانه وعجائب مخلوقاته فإن أمر النحل من أعجبها وأغربها وأدقها وأحكمها، ومن تدبر اختصاص النحل بتلك العلوم الدقيقة والأفعال العجيبة حق التدبر علم قطعاً أنه لا بدّ له من خالق قادر حكيم يلهمها ذلك ويحملها عليه.
ولما ذكر سبحانه بعض أحوال الحيوان وما فيها من عجائب الصنعة الباهرة وخصائص القدرة القاهرة أتبعه بعجائب خلق الإنسان وما فيه من العبر فقال(7/277)
وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (70)
(والله خلقكم) ولم تكونوا شيئاً (ثم يتوفاكم) عند إنقضاء آجالكم إما صبياناً وإما شباباً وإما كهولاً (ومنكم من يرد إلى أرذل العمر) أي أضعفه وأردأه وأخسه وهو الهرم يقال رذل يرذل رذالة والأرذل والرذالة أردأ الشيء وأخسه وأحقره وأوضعه.
قال النيسابوري: أن العقلاء ضبطوا مراتب عمر الإنسان في أربع: أولها: سن النشوء والنماء وهو من أول العمر إلى بلوغ ثلاث وثلاثين سنة وهو غاية سن الشباب وبلوغ الأشد.
وثانيها: سن الوقوف وهو من ثلاث وثلاثين إلى أربعين سنة وهو غاية القوة وكمال العقل.(7/277)
وثالثها: سن الكهولة وهو من الأربعين إلى الستين وهذه المرتبة تسرع الإنسان إلى النقص لكنه يكون النقص خفياً لا يظهر.
ورابعها: سن الشيخوخة والانحطاط من الستين إلى آخر العمر وفيها يتبين النقص ويكون الهرم والخرف.
قال على أرذل العمر خمس وسبعون سنة وقيل ثمانون وقيل تسعون سنة قاله قتادة ومثل هذه الآية قوله تعالى (لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ثم رددناه أسفل سافلين) وعن السدي قال: هو الخرف، وعن عكرمة قال: من قرأ القرآن لم يرد إلى أرذل العمر؛ وعن طاووس العالم: لا يخرف وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في الصحيح وغيره أنه كان يتعوذ بالله أن يرد إلى أرذل العمر (1).
ثم علّل سبحانه رد من يرده إلى أرذل العمر بقوله (لكيلا) اللام لام التعليل وكي حرف مصدر ونصب ولا نافية، وقيل اللام هنا للصيرورة والعاقبة (يعلم بعد علم) كان حصل له (شيئاً) منه لا كثيراً ولا قليلاً أو شيئاً من المعلومات إذا كان العلم هنا بمعنى المعلوم، وقيل المراد بالعلم هنا العقل؛ وقيل المراد لئلا يعلم زيادة على علمه الذي قد حصل له قبل ذلك، وقيل لكي يصير كالصبي الذي لا عقل له.
وقال الزجاج: المعنى وإن منكم من يكبر حتى يذهب عقله خرفاً فيصير بعد أن كان عالماً جاهلاً ليريكم الله من قدرته أنه كما قدر على إماتته وإحيائه قادر على نقله من العلم إلى الجهل وأنه قادر على إحيائه بعد إماتته فيكون ذلك دليلاً على صحة البعث بعد الموت.
(إن الله عليم) بحكم التحويل إلى الأرذل من الأكمل أو إلى الإفناء من الإحياء (قدير) على تبديل ما يشاء من الأشياء وعلى ما يريد.
_________
(1) مسلم 2706 - البخاري 1350.(7/278)
وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (71) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (72)
ثم لما بيّنَ سبحانه خلق الإنسان وتقلبه في أطوار العمر ذكر طرفاً من أحواله لعله يتذكر عند ذلك فقال(7/279)
وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (71)
(والله فضل بعضكم على بعض في الرزق) فمنكم غني وفقير ومالك ومملوك، أي فجعلكم متفاوتين فيه فوسع على بعض عباده وبسط حتى جعل له من الرزق ما يكفي ألوفاً مؤلفة من بني آدم، وضيقه على بعض عباده وقتر حتى صار لا يجد القوت إلا بسؤال الناس والتكفف لهم، وكثَّر لواحد وقلَّل على واحد، وذلك لحكمة بالغة تقصر عقول العباد عن تعقلها والاطلاع على حقيقة أسبابها.
وكما جعل التفاوت بين عباده في المال جعله بينهم في العقل والعلم والفهم والخلق والخلق والجهل وقوة البدن وضعفه والحسن والقبح والصحة والسقم وغير ذلك من الأحوال، وعن ابن عباس في الآية قال: لم يكونوا ليشركوا عبيدهم في أموالهم ونسائهم فكيف يشركون عبيدي معي في سلطاني، وعن مجاهد قال: هذا مثل لآلهة الباطل مع الله، وقيل معنى الآية أن الله سبحانه أعطى الموالي أفضل مما أعطى مماليكهم بدليل قوله.
(فما الذين فُضلوا) أي فما الذين فضلهم الله بسعة الرزق على غيرهم كالموالي والسادة (برادّي رزقهم) الذي رزقهم الله إياه (على ما ملكت أيمانهم) من المماليك (فهم) أي المالكون المماليك (فيه) أي في الرزق (سواء) أي لا يردونه عليهم بحيث يساوونهم فالفاء على هذا للدلالة على أن(7/279)
التساوي مترتب على التَّرادّ أي لا يردونه عليهم رداً مستتبعاً للتساوي، وإنما يردون عليهم منه شيئاً يسيراً.
وهذا مثل ضربه الله سبحانه لعبدة الأصنام كما تقدم والمعنى إذا لم يكونوا عبيدكم معكم سواء ولا ترضون بذلك فكيف تجعلون عبيدي معي سواء، والحال إن عبيدكم مساوون لكم في البشرية والمخلوقية فلما لم تجعلوا عبيدكم مشاركين لكم في أموالكم فكيف تجعلون بعض عباد الله سبحانه شركاء له فتعبدونهم معه أو كيف تجعلون بعض مخلوقاته كالأصنام شركاء له في العبادة ذكر معنى هذا ابن جرير.
ومثل هذه الآية قوله سبحانه (ضرب لكم مثلاً من أنفسكم هل لكم مما ملكت أيمانكم من شركاء فيما زرقناكم) وفي هذه الجملة أوجه (أحدها) تقديره أفهم فيه سواء ومعناه النفي أي ليسوا مستوين فيه (والثاني) أنها إخبار بالتساوي أي إنما هو رزقي أجريته على أيديهم فهم فيه سواء: قال أبو البقاء: إنها واقعة موقع فعل تقديره يستووا، وقيل أن الفاء في " فهم " بمعنى حتى.
(أفبنعمة الله يجحدون) حيث يفعلون ما يفعلون من الشرك. والنعمة هي كونه سبحانه جعل المالكين مفضلين على المماليك وقراءة الغيبة أولى لقرب المخبر عنه، ولأنه لو كان خطاباً لكان ظاهره للمسلمين والاستفهام للإنكار والتوبيخ والتقريع والفاء للعطف على مقدر أي أيشركون به فيجحدون نعمته.
ويكون المعنى على قراءة الخطاب أن المالكين ليسوا برادّي رزقهم على مماليكهم بل أنا الذي أرزقهم وإياهم فلا تظنوا أنهم يعطونهم شيئاً وإنما هو رزقي أجريه على أيديهم جميعاً وهم في ذلك سواء لا مزية لهم على مماليكهم، فيكون المعطوف عليه المقدر فعلا يناسب هذا المعنى كأن يقال ألا تفهمون ذلك فتجحدون نعمة الله.(7/280)
ثم ذكر سبحانه الحالة الأخرى من أحوال الإنسان فقال(7/281)
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (72)
(والله جعل لكم من أنفسكم أزواجاً) قال المفسرون: يعني النساء فإنه خلق حواء من ضلع آدم عليه السلام. قال قتادة: خلق آدم ثم خلق زوجته منه أو المعنى خلق لكم من جنسكم أزواجاً لتستأنسوا بها لأن الجنس يأنس إلى جنسه ويستوحش من غير جنسه، وبسبب هذه الأنسة يقع بين الرجال والنساء ما هو سبب للنسل الذي هو المقصود بالزواج ولم يذكر البنات لكراهيتهم لهن فلم يمتن عليهم ألا بما يحبونه ولهذا قال (وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة) جمع حافد يقال حفد يحفد حفداً وحفوداً إذا أسرع فكل من أسرع في الخدمة فهو حافد ومنه إليك نسعى ونحفد أي نسرع إلى طاعتك.
قال أبو عبيدة: الحفد العمل والخدمة، وهذا أصله في اللغة قال الخليل ابن أحمد: الحفدة عند العرب الخدم والأعوان. وبه قال الحسن وعكرمة والضحاك. وقال الأزهري: قيل الحفدة أولاد الأولاد وروي هذا عن ابن عباس والحفيد ولد الابن ذكراً كان أو انثى وولد البنت كذلك.
وتخصيصه بولد الذكر وتخصيص ولد الأنثى بالسبط عرف طارئ على أصل اللغة، وقيل الحفدة الأختان قاله ابن مسعود وعلقمة وأبو الضحى وسعيد بن جبير وإبراهيم النخعي، وقيل الحفدة الأصهار.
قال الأصمعي: الختن من كان من قبل المرأة كابنها وأخيها وما أشبههما والأصهار منهما جميعا، يقال أصهر فلان إلى بني فلان فهو صاهر، وقيل هم أولاد إمرأة الرجل من غيره وقيل أولاد الرجل الذين يخدمونه وقيل البنات الخادمات لأبيهن.(7/281)
وكل هذه الأقوال متقاربة لأن اللفظ يحتمل الكل بحسب المعنى المشترك؛ ورجح كثير من العلماء أنهم أولاد الأولاد لأنه سبحانه امتن على عباده بأن جعل لهم من الأزواج بنين وحفدة فالحفدة في الظاهر معطوفون على البنين وإن كان يجوز أن يكون المعنى جعل لكم من أزواجكم بنين وجعل لكم حفدة ولكن لا يمتنع على هذا المعنى الظاهر أن يراد بالبنين من لا يخدم وبالحفدة من يخدم الأب منهم أو يراد بالحفدة البنات فقط، ولا يفيد أنهم أولاد الأولاد إلا إذا كان تقدير الآية وجعل لكم من أزواجكم بنين ومن البنين حفدة.
(ورزقكم من الطيبات) التي تستطيبونها وتستلذونها من أنواع الأثمار والحبوب والحيوان والأشربة المستطابة الحلال من ذلك كله، ومن للتبعيض لأن الطيبات لا تكون مجتمعة إلا في الجنة والمرزوق في الدنيا أنموذج منها.
ثم ختم سبحانه الآية بقوله: (أفبالباطل يؤمنون) الاستفهام للإنكار التوبيخي والفاء للعطف على مقدر أي أيكفرون بالله فيؤمنون بالباطل، وفي تقديم بالباطل على الفعل دلالة على أنه ليس لهم إيمان إلا به والباطل هو اعتقادهم في أصنامهم أنها تضر وتنفع، وقيل هو ما زين لهم الشيطان من تحريم البحيرة والسائبة ونحوهما.
(وبنعمة الله) أي ما أنعم به عليهم مما لا يحيط به حصر (هم يكفرون) بإضافتها إلى غيره، وفي تقديم النعمة وتوسيط ضمير الفصل دليل على أن كفرهم مختص بذلك لا يتجاوزه لقصد المبالغة والتأكيد، وعن ابن جريج الباطل هو الشيطان ونعمة الله هو محمد صلى الله عليه وسلم.(7/282)
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ (73) فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (74) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (75) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (76)(7/283)
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ (73)
(ويعبدون من دون الله) داخل تحت الإنكار التوبيخي إنكاراً منه سبحانه عليهم حيث يعبدون الأصنام وهي لا تنفع ولا تضر، ولهذا قال (ما لا يملك لهم رزقاً من السماوات والأرض شيئاً) المعنى أن هؤلاء الكفار يعبدون معبودات لا تملك لهم رزقاً أي رزق كائناً منهما.
عن قتادة قال: هذه الأوثان التي تعبد من دون الله لا تملك لمن يعبدها رزقاً من السماوات والأرض ولا خيراً ولا حياة ولا نشوراً، وفي شيئا ثلاثة أوجه:
أحدها: إنه منصوب على المصدر، أي لا يملك لهم ملكاً، أي شيئاً من الملك.
والثاني: إنه بدل من رزقاً، وهذا غير مفيد، إذ ليس فيه بيان ولا تأكيد.
والثالث: إنه منصوب برزقاً على إنه اسم مصدر وهو يعمل عمل المصدر على خلاف في ذلك، وبه قال الفارسي. ورد عليه ابن الطراوة بأن الرزق اسم المرزوق كالرعي والطحن، ورد عليه بأن الرزق أيضاً مصدر.
(ولا يستطيعون) الضمير راجع إلى (ما) وجمع جمع العقلاء بناء على(7/283)
زعمهم الباطل، والفائدة في نفي الاستطاعة عنهم أن من لا يملك شيئاً قد يكون موصوفاً بإستطاعة التماك بطريق من الطرق، فبيّنَ سبحانه أنه لا يملك ولا يستطيع وقيل الضمير للكفار والمعنى لا يستطيع هؤلاء الكفار مع كونهم أحياء متصرفين فكيف بالجمادات التي لا حياة لها ولا تستطيع التصرف.
ثم نهاهم سبحانه عن أن يشبهوه بخلقه فقال(7/284)
فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (74)
(فلا تضربوا لله الأمثال) فإنه أحد صمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، قاله قتادة، فإن ضارب المثل يشبه حالاً بحال وقصة بقصة.
قال الزجاج: لا تجعلوا لله مثلاً فإنه واحد لا مثيل له، وكانوا يقولون إن إله العالم أجلَّ من أن يعبده الواحد منا فكانوا يتوسلون إلى الأصنام والكواكب كما أن أصاغر الناس يخدمون أكابر حضرة الملك، وأولئك الأكابر يخدمون الملك فنهوا عن ذلك وعلَّل النهي بقوله (إن الله) علم (يعلم) ما عليكم من العبادة (وأنتم لا تعلمون) ما في عبادتها من سوء العاقبة والتعرض لعذاب الله سبحانه أو أنه تعالى يعلم كنه الأشياء وأنتم لا تعلمون فدعوا رأيكم دون نصه.
ويجوز أن يراد فلا تضربوا لله الأمثال فإنه يعلم كيف تضرب الأمثال وأنتم لا تعلمون، أو أنتم لا تعلمون بشيء من ذلك، وفعلكم هذا هو عن توهم فاسد وخاطر باطل وخيال مختل.
وعن ابن عباس قال: يعني اتخاذهم الأصنام، يقول لا تجعلوا معي إلهاً غيري فإنه لا إله غيري، ثم علمهم كيفية ضرب الأمثال في هذا الباب فقال:(7/284)
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (75)
(ضرب الله مثلاً) أي ذكر شيئاً يستدل به على تباين الحال بين جناب الخالق سبحانه وبيَّن ما جعلوه شريكاً له من الأصنام، والمثل في الحقيقة هي حالة للعبد عارضة له وهي المملوكية والعجز عن التصرف، فقوله (عبداً) تفسير للمثل وبدل منه ووصفه بكونه (مملوكاً) لأن العبد والحر مشتركان في(7/284)
كون كل واحد منهما عبداً لله سبحانه ووصفه بكونه (لا يقدر على شيء) لأن المكاتب والمأذون يقدران على بعض التصرفات، فهذا الوصف لتمييزه عنهما، واحتج الفقهاء بهذا علي أن العبد لا يملك شيئاً.
(ومن) أي الذي، وقيل موصوفة، واختاره الزمخشري كأنه قيل وحراً من الأحرار الذين يملكون الأموال ويتصرفون بها كيف شاءوا (رزقناه) ليطابق عبداً (منا) أي من جهتنا (رزقاً حسناً) والمراد به أنه مما يحسن في عيون الناس لكونه رزقاً كثيراً مشتملاً على أشياء مستحسنة نفيسة تروق الناظرين إليها (فهو ينفق منه) في وجوه الخير ويصرف منه إلى أنواع البر والمعروف (سراً وجهراً) أي في حال السر وحال الجهر، والمراد بيان عموم الإنفاق للأوقات وتقديم السر على الجهر مشعر بفضيلته عليه وأن الثواب فيه أكثر.
(هل يستوون) أي الحر والعبد الموصوفان بالصفات المتقدمة، وجمع الضمير لمكان (من) لأنه اسم مبهم يستوي فيه الواحد والاثنان والجمع والمذكر والمؤنث، وقيل إنه أريد بالعبد، والوصول الذي هو عبارة عن الحر الجنس أي من اتصف بتلك الأوصاف من الجنسين، والاستفهام للإنكار أي هل يستوي العبيد والأحرار مع كون كلا الفريقين مخلوقين لله سبحانه من جملة البشر، ومن المعلوم أنهم لا يستوون فكيف يجعلون لله سبحانه شركاء لا يملكون لهم ضراً ولا نفعاً ويجعلونهم مستحقين للعبادة مع الله سبحانه.
وحاصل المعنى إنه كما لا يستوي عندكم عبد مملوك لا يقدر من أمره على شيء ورجل حر قد رزقه الله رزقاً حسناً فهو ينفق منه، كذلك لا يستوي الرب الخالق الرازق والجمادات من الأصنام التي تعبدونهما وهي لا تبصر ولا تسمع ولا تنفع ولا تضر، وقيل المراد بالعبد المملوك في الآية هو الكافر المحروم من طاعة الله وعبوديته، والآخر هو المؤمن. وقال ابن عباس بمعناه بأطول من هذا، والغرض إنهما لا يستويان في الرتبة والشرف.(7/285)
وقال عطاء: هما أبو جهل بن هشام وأبو بكر الصديق رضي الله عنه، وقيل العبد هو الصنم والثاني عابد الصنم، والمراد أنهما لا يستويان في القدرة والتصرف لأن الأول جماد والثاني إنسان.
(الحمد) كله (لله) وحده حمد نفسه لأنه المنعم المستحق لجميع المحامد لا يستحق غيره من العباد شيئاً منه فكيف تستحق الأصنام منه شيئاً ولا نعمة منها أصلاً لا بالأصالة ولا بالتوسط، وقيل أراد الحمد لله على ما أنعم به على أوليائه من نعمة التوحيد، وقيل أراد قل الحمد لله، والخطاب إما لمحمد صلى الله عليه وسلم أو لمن رزقه الله رزقاً حسناً، وقيل إنه لما ذكر مثلاً مطابقاً للغرض كاشفاً عن المقصود قال الحمد لله أي على قوة هذه الحجة.
(بل أكثرهم لا يعلمون) ذلك حتى يعبدوا من تحق له العبادة ويعرفوا المنعم عليهم بالنعم الجليلة، ونفى العلم عنهم إما لكونهم من الجهل بمنزلة لا يفهمون بسببها ما يجب عليهم أو هم يتركون الحق عناداً مع علمهم به فكانوا كمن لا علم له وخص الأكثر بنفي العلم إما لكونه يريد الخلق جميعاً وأكثرهم المشركون أو ذكر الأكثر وهو يريد الكل، أو المراد أكثر المشركين لأن فيهم من يعلم ولا يعمل بموجب العلم.
ثم ذكر سبحانه مثلاً ثانياً ضربه لنفسه ولما يفيض على عباده من النعم الدينية والدنيوية وللأصنام التي هي أموات لا تضر ولا تنفع فقال(7/286)
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (76)
(وضرب الله مثلاً) آخر أوضح مما قبله وأظهر منه (رجلين) بدل من مثل وتفسير له (أحدهما أبكم) أي العييّ المفحم، وقيل، هو الأقطع اللسان الذي لا يحسن الكلام، وقيل هو الذي ولد أخرس، فكل أبكم أخرس، وليس كل أخرس أبكم، وروى ثعلب عن ابن الأعرابي أنه الذي لا يسمع ولا يبصر.
ثم وصف الأبكم فقال (لا يقدر على شيء) من الأشياء المتعلقة بنفسه أو بغيره لعدم فهمه وعدم قدرته على النطق، وهو إشارة إلى العجز التام(7/286)
والنقصان الكامل (وهو كل) أي ثقيل (على مولاه) أي على وليه وقرابته وعيال على من يلي أمره ويعوله ووبال على إخوانه، وقد يسمى اليتيم كَلاًّ لثقله على من يكفله، وفي هذا بيان لعدم قدرته على إقامة مصالح نفسه بعد ذكر عدم قدرته على شيء مطلقاً.
ثم وصفه بصفة رابعة فقال (أينما يوجهه) أي يرسله ويصرفه في طلب الحاجة أو كفاية المهم (لا يأت بخير) قط لأنه عاجز أخرس لا يفهم ولا يعقل ما يقال له ولا يمكنه أن يقول (هل يستوي هو) في نفسه مع هذه الأوصاف التي اتصف بها.
(ومن يأمر) الناس (بالعدل) مع كونه في نفسه ينطق بما يريد النطق به ويفهم ويقدر على التصرف في الأشياء وهو سليم الحواس نفاع ذو كفاية ورشد وديانة (وهو) في نفسه (على صراط مستقيم) أي على دين قويم وسيرة صالحة ليس فيه ميل إلى أحد جانبي الإفراط والتفريط.
وإنما قابل الأوصاف الأول بهذين الوصفين المذكورين للآخر لأن حاصل أوصاف الأول عدم استحقاقه لشيء، وحاصل وصفي هذا أنه مستحق أكمل استحقاق، والمقصود الاستدلال بعدم تساوي هذين الأمرين على امتناع التساوي بينه سبحانه وبين ما يجعلونه شريكاً له، قال ابن عباس: يعني بالأبكم الكافر وبالآمر بالعدل المؤمن.
وهذا المثل في الأعمال، وعلى هذا تكون الآية على العموم في كل مؤمن وكافر، وقيل هي على الخصوص، والذي يأمر بالعدل رسول الله صلى الله عليه وسلم والأبكم هو أبو جهل وقيل الأبكم أبي بن خلف والآمر بالعدل حمزة وعثمان بن مظعون.
وقال ابن عباس: هذه الآية نزلت في عثمان بن عفان ومولى له كافر، وهو أسيد بن أبي العيص كان يكره الإسلام وكان عثمان ينفق عليه ويكفله ويكفيه المؤونة وكان الآخر ينهاه عن الصدقة والمعروف فنزلت فيهما.(7/287)
وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (77) وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78) أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (79)
ولما فرغ سبحانه من ذكر المثلين مدح نفسه بقوله(7/288)
وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (77)
(ولله غيب السماوات والأرض) أي يختص ذلك به لا يشاركه فيه غيره ولا يستقل به، والمراد علم ما غاب عن العباد فيهما، أو أراد بغيبهما يوم القيامة لأن علمه غائب عن العباد ومعنى الإضافة إليهما التعلق بهما، والمراد التوبيخ للمشركين والتقريع لهم، أي أن العبادة إنما يستحقها من كانت هذه صفته لا من كان جاهلاً عاجزاً لا يضر ولا ينفع ولا يعلم بشيء من أنواع العلم.
(وما أمر الساعة) التي هي أعظم ما وقعت فيه المماراة من الغيوب المختصة به سبحانه، وهو إماتة الأحياء وإحياء الأموات من الأولين والآخرين وتبديل صور الأكوان أجمعين، أو المعنى ما أمر قيام الساعة في سرعته وسهولته (إلا كلمح البصر) أي كرجع طرف من أعلى الحدقة إلى أسفلها، وإنما ضرب به المثل لأنه لا يعرف زمان أقل منه، واللمح النظر بسرعة ولا بدّ فيه من زمان تتقلب فيه الحدقة نحو المرئي وكل زمان قابل للتجزئة ولذا قال.
(أو هو) أي بل أمرها (أقرب) منه بأن يكون من زمان نصف تلك الحركة بل في الآن الذي تبتدأ فيه، فإن الله تعالى يحيي الخلق دفعة، وما يوجد دفعة كان في آن أي جزء غير منقسم.
وليس هذا من قبيل المبالغة بل هو كلام في غاية الصدق، لأن مدة ما(7/288)
بين الخطاب وقيام الساعة متناهية، ومنها إلى الأبد غير متناه، ولا نسبة للمتناهي إلى غير المتناهي أو يقال إن الساعة لما كانت آتية ولا بد جعلت في القرب كلمح البصر وقال الزجاج: لم يرد أن الساعة تأتي في لمح البصر، وإنما وصف سرعة القدرة على الإتيان بها لأنه يقول للشيء كن فيكون.
وقيل المعنى هي عند الله كذلك وإن لم تكن عند المخلوقين بهذه الصفة، ومثله قوله سبحانه (إنهم يرونه بعيداً ونراه قريباً) ولفظ (أو) ليس للشك بل للتمثيل أو للتخيير، وقيل دخلت لشك المخاطب، وقيل هي بمنزلة بل (إن الله على كل شيء قدير) ومجيء الساعة بسرعة من جملة مقدوراته.
ثم أنه سبحانه ذكر حالة أخرى للإنسان دالّة على غاية قدرته ونهاية رأفته فقال(7/289)
وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78)
(والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاً) معطوف على قوله والله جعل لكم من أنفسكم أزواجاً منتظم معه في سلك أدلة التوحيد أي أخرجكم من بطون أمهاتكم أطفالاً لا علم لكم بشيء ولا تعلمون شيئا مما أُخذ عليكم من الميثاق وقيل مما قضى به عليكم من السعادة والشقاوة، وقيل شيئاً من منافعكم والأولى التعميم لتشمل الآية هذه الأمور وغيرها اعتباراً بعموم اللفظ فإن شيئاً نكرة واقعة في سياق النفي.
(وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة) أي ركب فيكم هذه الأشياء وليس فيه دلالة على تأخير هذا الجعل عن الإخراج لما أن مدلول الواو هو مطلق الجمع والمعنى جعل لكم هذه الأشياء لتحصلوا بها العلم الذي كان مسلوباً عنكم عند إخراجكم من بطون أمهاتكم وتعملوا بموجب ذلك العلم من شكر النعم وعبادته والقيام بحقوقه.
ونكتة تأخيره أن السمع ونحوه من آلات الإدراك إنما يعتد به إذا أحس وأدرك، وذلك بعد الإخراج وقدم السمع على البصر لأنه طريق تلقي الوحي(7/289)
أو لأن إدراكه أقدم من إدراك البصر والأفئدة جمع فؤاد وهو وسط القلب منزل منه بمنزلة القلب من الصدر، وقد قدمنا الوجه في أفراد السمع وجمع الأبصار والأفئدة وهو أن أفراد السمع لكونه مصدراً في الأصل يتناول القليل والكثير (لعلكم تشكرون) أي لكي تصرفوا كل آلة فيما خلقت له فعند ذلك تعرفون مقدار ما أنعم الله به عليكم فتشكرونه أو أن هذا الصرف هو نفس الشكر.
ثم ذكر سبحانه دليلاً آخر على كمال قدرته فقال(7/290)
أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (79)
(ألم يروا إلى الطير مسخرات) أي ألم ينظروا إليها حال كونها مذللات للطيران، بما خلق الله لها من الأجنحة وسائر الأسباب المؤاتية لذلك كرقة قوام الهواء وإلهامها بسط الجناح وقبضه كما يفعل السابح في الماء (في جو السماء) أي في الهواء المتباعد من الأرض في سمت العلو وإضافته إلى السماء لكونه في جانبها قال كعب أن الطير ترتفع في الجو اثني عشر ميلاً ولا ترتفع فوق ذلك.
(وما يمسكهن) في قبضهن وبسطهن ووقوفهن في الجوّ (إلا الله) سبحانه بقدرته الباهرة فإن ثقل أجسامها ورقة قوام الهواء يقتضيان سقوطها لأنها لم تتعلق بشيء من فوقها ولا اعتمدت على شيء تحتها (إن في ذلك) التسخير على تلك الصفة (لآيات) ظاهرة تدل على وحدانية الله سبحانه وقدرته الباهرة (لقوم يؤمنون) بالله سبحانه وبما جاءت به رسله من الشرائع التي شرعها.(7/290)
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (80) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (81) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (82)(7/291)
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (80)
(والله جعل) أي صيَّر أو خلق (لكم من بيوتكم) التي هي من الحجر والمدر وغيرهما ومن ابتدائية (سكنا) مصدر يوصف به الواحد والجمع وإليه ذهب ابن عطية ومنعه الشيخ ولم يذكر وجه المنع وهو بمعنى مسكون أي تسكنون فيها وتهدأ جوارحكم من الحركة وهذا من جملة تعديد الله نعمه على الإنسان فإن الله سبحانه لو شاء لخلق العبد مضطرباً دائماً كالأفلاك ولو شاء لخلقه ساكناً أبداً كالأرض.
(وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتاً) لا ذكر سبحانه بيوت المدن وهي التي للإقامة الطويلة عقبها بذكر بيوت البادية والرحلة وهي الأنطاع والأدم جعلها بيوتاً كالخيام والقباب والأخبية والفساطين، قال مجاهد وهي خيام العرب وقيل ذلك في بعض الناس كالسودان فإنهم يتخذون خيامهم من الجلود ويجوز أن يتناول المتخذة من الصوف والوبر والشعر فإنها من حيث أنها نابتة على جلودها يصدق عليها أنها من جلودها.
(تستخفونها) أي يخف عليكم حملها في الأسفار وغيرها ولهذا قال (يوم ظعنكم) أي في يوم سيركم ورحيلكم في أسفاركم، والظعن بفتح العين ْوسكونها وهما لغتان قرئ بهما كالنهر والنهر وهو سير أهل البادية للانتجاع(7/291)
والتحول من موضع إلى موضع والظعن الهودج أيضاً، قال ابن عباس: بعض بيوت السيارة بنيانه في ساعة.
(ويوم إقامتكم) أي حضركم والمعنى لا يثقل عليكم حملها في الحالين (و) جعل لكم (من أصوافها وأوبارها وأشعارها) والأنعام تعم الإبل والبقر والغنم كما تقدم والأصواف للغنم والأوبار للإبل والأشعار للمعز وهي من جملة الغنم فيكون ذكر هذه الثلاثة على وجه التنويع كل واحد منهما لواحد من الثلاثة أعني الإبل ونوعي الغنم ولم يذكر القطن والكتان لأنهما لم يكونا ببلاد العرب.
(أثاثاً) هو متاع البيت وأصله الكثرة والاجتماع ومنه شعر أثيث أي كثير مجتمع يقال أث أي كثر وتكاثف، وقيل للمال أثاث إذا كثر، قال الخليل: أثاثاً أي منضماً بعضها إلى بعض من أث إذا كثر.
قال الفراء: لا واحد له (ومتاعاً) هو ما يتمتع به بأنواع التمتع، قال الخليل: الأثاث والمتاع واحد وجمع بينهما لاختلاف لفظيهما وعلى قول أبي زيد الأنصاري أن الأثاث المال أجمع الإبل والغنم والعبيد، والمتاع يكون عطف المتاع على الأثاث من عطف الخاص على العام.
وقيل أن الأثاث ما يكتسي به الإنسان ويستعمله من الغطاء والوطاء، والمتاع ما يفرش في المنازل من الفرش والأكسية ويتزين به، ومعنى (إلى حين) إلى أن تقضوا أوطاركم منه أو إلى أن يبلى ويفنى أو إلى الموت أو إلى القيامة.
ثم لما كان الإنسان قد لا يكون له خيام أو أبنية يستظل بها لفقر أو لعارض آخر فيحتاج إلى أن يستظل بشجر أو جدار أو غمام أو نحو ذلك، نبه سبحانه على ذلك فقال(7/292)
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (81)
(والله جعل لكم مما خلق ظلالاً) أي أشياء تستظلون بها من شدة الحر والبرد كالأشياء المذكورة وهي ظلال الأبنية والجدران والأشجار والحاصل أن الظلال تعم الأشياء التي تظل ثم لما كان(7/292)
المسافر قد يحتاج إلى من يأوي إليه في نزوله وإلى ما يدفع به عن نفسه آفات الحر والبرد نبه سبحانه على ذلك فقال:
(وجعل لكم من الجبال أكنانا) جمع كن وهو ما يستكن به من المطر وشدة الحر والبرد وفي المختار الكن السترة والجمع أكنان والأكنة الأغطية، وقال الكسائي كن الشيء ستره وبابه رد، وفي القاموس الكن بالكسر وقاء كل شيء وستره كالكنة والكنان كسرهما والكن البيت جمعه أكنان وأكنة وكنه كناً وكنونا وأكنه وكننه واكتنه ستره واستكن استتر كاكتن والكنة جناح يخرج من حائط أو سقيفة فوق باب الدار أو ظله هنالك أو مخدع انتهى.
وهي هنا الغيران والأسراب في الجبال ونحوه جعلها الله سبحانه عدة للخلق يأوون إليها ويتحصنون بها ويعتزلون عن الخلق فيها لأن الإنسان غني أو فقير فالغني يستصحب معه الخيام في سفره ليسكن فيها، وإليه الإشارة في الآية المتقدمة، والفقير يسكن في ظلال الأشجار والحيطان والكهوف وإلى هذه الإشارة في هذه الآية وكانت بلاد العرب شديدة الحرارة وحاجتهم إلى الظلال وما يدفع شدة الحر وقوته أكثر فلهذا السبب ذكر الله هذه المعاني في معرض الامتنان عليهم بها لأن النعمة عليهم فيها ظاهرة.
(وجعل لكم سرابيل) جمع سربال وهي القمصان والثياب من الصوف والقطن والكتان وغيرها، قال الزجاج كل ما لبسته فهو سربال (تقيكم الحر) أي تدفع عنكم ضرر الحر والبرد وهو ما عليه أكثر المفسرين من أنه من حذف المعطوف للعلم به.
قال الشهاب في الريحانة في الآية نكتة لطيفة لم ينبهوا عليها وهو أنه إنما اقتصر على الحر لأنه أهم هنا لما عرف من غلبة الحر على ديار العرب ثم إن ما يقي الحر يحصل به برودة في الهواء في الجملة فوقاية الحر إنما هي لتحصيل البرد، وهذا فيه من اللطف ما هو ألطف من النسيم، فلِلَّه در التنزيل فكم فيه من أسرار لا تتناهى انتهى، ونظيره بيدك الخير أي والشر لأن(7/293)
الخير مطلوب العباد من ربهم دون الشر أو لتقدم وقاية البرد في قوله لكم فيها دفء.
(وسرابيل تقيكم بأسكم) وهي الدروع والجواشن وسائر ما يلبس في الحرب من السلاح تتقون بها الطعن والضرب والرمي والمعنى أنها تقيكم البأس الذي يصل من بعضكم إلى بعض في الحرب (كذلك) الإتمام البالغ (يتم نعمته عليكم) فإنه سبحانه قد منَّ على عباده بصنوف النعم المذكورة هنا وبغيرها وهو بفضله وإحسانه سيتم نعمة الدين والدنيا (لعلكم تسلمون) أي إرادة أن تسلموا فإن من أمعن النظر في هذه النعم لم يسعه إلا الإسلام والانقياد للحق.
وقرأ ابن عباس وعكرمة من السلامة من الجراح، وقرأ الباقون من الإسلام قال أبو عبيد: والاختيار قراءة العامة لأن ما أنعم الله به علينا من الإسلام أفضل مما أنعم به من السلامة من الجراح، وقيل الخطاب لأهل مكة أي لعلكم يا أهل مكة تخلصون لله الربوبية والحمل على العموم أولى وأفرد النعمة هنا لأن المراد بها المصدر.(7/294)
فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (82)
(فإن تولوا) أي أعرضوا عن الإسلام ولم يقبلوا ما جئت به فقد تمهد عذرك وفيه التفات وجواب الشرط محذوف أي فلا لوم عليك وهذا تسلية له صلى الله عليه وسلم والتعبير بالتولي إشارة إلى أن الأصل فطرة الإسلام وخلافها عارض متجدد والمعنى أن داموا على التولي لظهور توليهم.
(فإنما عليك البلاغ) لما أرسلت به إليهم وقد فعلت ذلك بهم (المبين) أي الواضح وليس عليك غير ذلك وصرف الخطاب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تسلية له، وهذا قبل الأمر بالقتال فتكون الآية منسوخة الحكم وهو لا يظهر إلا لو قدر جواب الشرط فأعرض عنهم ولا تقاتلهم مع أن أكثر المفسرين قدروه بقولهم فلا عتب عليك ولا مؤاخذة في عدم إيمانهم لأنك بلغت ما أمرت بتبليغه وهدايتهم من الله لا إليك، وهذا لا ينافي أن يكون مأموراً بقتالهم.(7/294)
يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ (83) وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (84) وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذَابَ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (85) وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلَاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُو مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ (86) وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (87)
ثم استأنف لبيان توليهم فقال(7/295)
يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ (83)
(يعرفون نعمة الله) التي عددها في هذه السورة ويعترفون بأنها من عند الله سبحانه (ثم ينكرونها) بما يقع عنهم من أفعالهم القبيحة من عبادة غير الله وبأقوالهم الباطلة حيث يقولون هي من الله ولكنها بشفاعة الأصنام وحيث يقولون أنهم ورثوا تلك النعم من آبائهم وأيضاً لكونهم لا يستعملون هذه النعم في مرضاة الرب سبحانه وفي وجوه الخير التي أمرهم الله بصرفها فيها، وقيل نعمة الله نبوة محمد صلى الله عليه وسلم كانوا يعرفونه صلى الله عليه وسلم ثم ينكرون نبوته.
وقيل هي الإسلام وجيء بثم للدلالة على أن إنكارهم أمر مستبعد بعد حصول المعرفة لأن من عرف النعمة حقه أن يعترف لا أن ينكر (وأكثرهم الكافرون) بالله أو الجاحدون لنعم الله. وعبر هنا بالأكثر عن الكل لأنه قد يذكر الأكثر ويراد به الجميع وإليه أشار في التقرير أو أراد بالأكثر العقلاء دون الأطفال ونحوهم أو أراد كفر الجحود ولم يكن كفر كلهم كذلك بل كان كفر بعضهم كفر جهل وكفر بعضهم بسبب تكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم مع اعترافهم بالله وعدم الجحد لربوبيته ومثل هذه الآية قوله تعالى (وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعلواً فانظر كيف كان عاقبة المفسدين).(7/295)
ولما بين سبحانه من حال هؤلاء أنهم عرفوا نعمة الله ثم أنكروها وإن أكثرهم كافرون أتبعه بأصناف وعيد يوم القيامة فقال(7/296)
وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (84)
(و) اذكر (يوم نبعث) أي نحيي ونخرج (من كل أمة شهيدًا) أو المعنى يوم نبعث وقعوا فيما وقعوا فيه وشهيد كل أمة نبيها يشهد لهم بالإيمان والتصديق وعليهم بالكفر والجحود والتكذيب.
قال ابن عباس: شهيدها نبيها، على أنه قد بلغ رسالات ربه، قال الله (وجئنا بك على هؤلاء شهيداً) قال ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قرأ هذه الآية فاضت عيناه وذلك اليوم هو يوم القيامة.
(ثم لا يؤذن للذين كفروا) في الاعتذار إذ لا حجة لهم ولا عذر كقوله سبحانه (ولا يؤذن لهم فيعتذرون) أو في كثرة الكلام أو في الرجوع إلى دار الدنيا وإلى التكليف أو في حالة شهادة الشهود، بل يسكت أهل الجمع كلهم ليشهد الشهود أو لا يؤذنا لهم في معارضة الشهود بإلقاء معذرة أو ادلاء بحجة بل يشهدون عليهم ويقرونهم على ذلك، وإيراد (ثم) هاهنا للدلالة على أن ابتلاءهم بالمنع عن الاعتذار المنبئ عن الإقناط الكلي أشد من ابتلائهم بشهادة الأنبياء.
(ولا هم يستعتبون) أي لا يطلب منهم العتبى أي الرجوع إلى ما يرضي الله من العبادات، لأن العتاب إنما يطلب لأجل العود إلى الرضاء، فإذا كان على عزم السخط فلا فائدة في العتاب. والمعنى أنهم لا يسترضون أي لا يكلفون أن يرضوا ربهم. لأن الآخرة ليست بدار عمل ولا تكليف، ولا يتركون إلى رجوع الدنيا فيتوبون.
وأصل الكلمة من العتب وهو الموجدة، يقال عتب عليه يعتب إذا وجد عليه وبابه ضرب ونصر، فإذا أفاض عليه ما عاتب فيه عليه، قيل عاتبه فإذا(7/296)
رجع إلى مسرته قيل أعتبه والاسم العتبى وهو رجوع المعتوب عليه إلى ما يرضي العاتب قاله الهروي، فالاستعتاب التعرض لطلب الرضاء، وهذا باب منسد على الكفار في الآخرة.
وفي الخطيب أي لا تزال عتباهم وهي ما يعتبون عليها ويلامون؛ يقال استعتبت فلاناً أي أزلت عتباه، انتهى. واستفعل بمعنى أفعل غير مستنكر.
قال الخليل: العتاب مخاطبة الإدلال ومذاكرة الموجدة، وعاتبه معاتبة وعتاباً واعتبه سره بعدما ساء واستعتب واعتب بمعنى واستعتب أيضاً طلب أن يعتب، أي استرضاه فأرضاه.(7/297)
وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذَابَ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (85)
(وإذا رأى) أي أبصر (الذين ظلموا) أي أشركوا وكفروا (العذاب) الذي يستحقونه بشركهم وهو عذاب جهنم (فلا يخفف) ذلك العذاب (عنهم ولا هم يُنظرون) أي لا يمهلون ولا يؤخرون ليتوبوا إذ لا توبة هنالك.(7/297)
وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلَاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُو مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ (86)
(وإذا رأى الذين أشركوا) يوم القيامة (شركاءهم) مفعول به والإضافة لأدنى ملابسة باعتبار ادعائهم شركتها لله، أي أصنامهم وأوثانهم التي عبدوها في الدنيا لا تقرر من أنهم يبعثون مع المشركين، يقال لهم من كان يعبد شيئاً فليتبعه كما ثبت في الصحيح من قوله صلى الله عليه وسلم.
(قالوا ربنا هؤلاء شركاؤنا الذين كنا ندعو) أي نعبدهم ونتخذهم آلهة (من دونك) ونطيعهم، ولعلهم قالوا ذلك طمعاً في توزيع العذاب بينهم، قالى أبو مسلم الأصفهاني: مقصود المشركين بهذا القول حالة الذنب على تلك الأصنام تعللا بذلك واسترواحاً مع كونهم يعلمون أن العذاب واقع بهم لا محالة. ولكن الغريق يتعلق بكل ما تقع يده عليه.(7/297)
(فألقوا إليهم) أي ألقى أولئك الشركاء من الأصنام والأوثان والشياطين ونحوهم إلى المشركين والكفار (القول) وعن مجاهد قال حدثوهم وقالوا لهم (إنكم) أيها المشركون (لكاذبون) فيما تزعمون من إحالة الذنب علينا الذي هو مقصودكم من هذا القول، أو في تسميتنا آلهة، وما دعوناكم إلى عبادتنا بل عبدتم أهواءكم.
فإن قيل أن المشركين أشاروا إلى الأصنام ونحوها إن هؤلاء شركاؤنا وقد كانوا صادقين في ذلك فكيف كذبتهم الأصنام ونحوها.
فالجواب بأن مرادهم من قولهم هؤلاء شركاؤنا، هؤلاء شركاء الله في المعبودية فكذبتهم الأصنام في دعوى هذه الشركة، والأصنام والأوثان وإن كانت لا تقدر على النطق فإن الله سبحانه ينطقها في تلك الحال لتخجيل المشركين وتوبيخهم. وهذا كما قالت الملائكة بل كانوا يعبدون الجن يعنون أن الجن هم الذين كانوا راضين بعبادتهم لهم. قال الكرخي: أن المثبت لهم هنا النطق بتكذيب المشركين في دعوى عبادتهم لها والمنفي عنهم في الكهف النطق بالإجابة إلى الشفاعة لهم ودفع العذاب عنهم فلا تنافي.(7/298)
وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (87)
(وألقوا إلى الله يومئذ السلم) أي ألقى المشركون يوم القيامة الاستسلام والانقياد لعذاب الله والخضوع لعزته، وبه قال ابن جريج وعن قتادة نحوه، وقيل المعنى استسلم العابد والمعبود وانقادوا لحكمه فيهم، لكن الانقياد في هذا اليوم لا ينفعهم لانقطاع التكليف فيه (وضل عنهم ما كانوا يفترون) أي ضاع وبطل وزال ما افتروا من أن لله سبحانه شركاء وما كانوا يزعمون من شفاعتهم لهم وأن عبادتهم لهم تقربهم إلى الله سبحانه.(7/298)
الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ (88) وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (89) إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90)(7/299)
الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ (88)
(الذين كفروا) في أنفسهم (وصدوا) غيرهم (عن سبيل لله) أي عن طريق الحق وهي طريق الإسلام والإيمان بأن منعوهم من سلوكها وحملوهم على الكفر، وقيل المراد به الصد عن المسجد الحرام والعموم أولى.
(زدناهم عذاباً) لأجل الإضلال لغيرهم (فوق العذاب) الذي استحقوه لأجل ضلالهم، وقيل المعنى زدنا القادة عذاباً فوق عذاب أتباعهم أي أشد منه وقيل أن هذه الزيادة هي إخراجهم من حر النار إلى برد الزمهرير وغير ذلك. وعن ابن مسعود قال: زيدوا عقارب لها أنياب كالنخل الطوال ينهشونهم في جهنم، وروي مثله عن البراء مرفوعاً أخرجه الخطيب وغيره.
وقال سعيد بن جبير: حيات كالبخت وعقارب أمثال البغال تلسع إحداهن اللسعة فيجد صاحبها ألمها أربعين خريفاً، وعن ابن عباس قال: خمسة أنهار من نار صبها الله عليهم يعذبون بعضها بالليل وبعضها بالنهار.
وقد روى ابن مردويه عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " الزيادة خمسة أنهار تجري من تحت العرش على رؤوس أهل النار ثلاثة أنهار على مقدار الليل ونهران على مقدار النهار، فذلك قوله (زدناهم عذاباً فوق العذاب) (بما كانوا يفسدون) بصدهم الناس عن سبيل الله مع ما(7/299)
يستحقونه من العذاب على الكفر.(7/300)
وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (89)
(ويوم نبعث في كل أمة شهيداً) أي نبياً يشهد (عليهم من أنفسهم من) أي جنسهم إتماماً للحجة وقطعاً للمعذرة، وهو أعدل شاهد عليها، وهذا تكرير لما سبق لقصد التأكيد والتهديد.
وقال الخطيب: كرر سبحانه التحذير من ذلك اليوم على وجه يزيد على ما أفهمته الآية السابقة وهو إن الشهادة تقع على الأمم لا لهم وتكون بحضرتهم (وجئنا بك) يا محمد؛ وإيثار لفظ المجيء على البعث لكمال العناية بشأنه عليه الصلاة والسلام، وصيغة الماضي للدلالة على تحقق الوقوع.
(شهيداً) تشهد (على هؤلاء) أي على هذه الأمم، وقيل على أمتك وقومك، هكذا قال الجلال، وسنده قوله سابقاً (ويوم نبعث من كل أمة شهيداً) الخ ومثله في البيضاوي، وفي الشهاب عليه، وقيل الآية مسوقة لشهادته على الأنبياء فتخلوا عن التكرار، ورد بأن المراد بشهادته على أمته تزكيته وتعديله لهم وقد شهدوا على تبليغ الأنبياء، وهذا لم يعلم مما مر وهو الوارد في الحديث، وقد تقدم مثل هذا في البقرة والنساء.
(ونزلنا عليك) في الدنيا (الكتاب) أي القرآن والجملة مستأنفة (تبياناً لكل شيء) أي بياناً له والتاء للمبالغة فالتبيان أخص من مطلق البيان على قاعدة أن زيادة البناء تدل على زيادة المعنى، ونظيره من المصادر التلقاء ولم يأت غيرهما وفي الأسماء كثير نحو التمساح والتمثال.
ومثل هذه الآية قوله سبحانه (ما فرطنا في الكتاب من شيء) ومعنى كونه تبياناً لكل شيء أن فيه البيان البليغ لكثير من الأحكام والإحالة فيها بقي منها على السنة، وأمرهم باتباع رسوله صلى الله عليه وسلم فيما يأتي به من الأحكام وطاعته كما في الآيات القرآنية الدالة على ذلك.(7/300)
وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال " إني أوتيت القرآن ومثله معه " (1). وعن ابن مسعود قال: تبياناً لكل شيء ولكن علمنا يقصر عما بين لنا في القرآن وعنه قال: من أراد العلم فليؤثر القرآن فإن فيه علم الأولين والآخرين.
قال الكرخي: إما بتبيينه في نفس الكتاب أو بإحالته على السنة لقوله تعالى (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) أو بإحالته على الإجماع كما قال تعالى (ويتبع غير سبيل المؤمنين) الآية. أو على القياس كما قال (فاعتبروا يا أولي الأبصار) والاعتبار النظر والاستدلال اللذان يحصل بهما القياس.
فهذه أربعة طرق لا يخرج شيء من أحكام الشريعة عنها وكلها مذكورة في القرآن، فكان تبياناً لكل شيء فاندفع ما قيل، كيف قال الله ذلك ونحن نجد كثيراً من أحكام الشريعة لم يعلم من القرآن نصاً كعدد ركعات الصلاة ومدة المسح والحيض ومقدار حد الشرب ونصاب السرقة وغير ذلك، ومن ثم اختلفت الأمة في كثير من الأحكام. أهـ.
وفي هذا التقرير بحث ونظر ذكر في محله فليراجعه؛ ولذلك قال الشهاب على قول البيضاوي بالإحالة إلى السنة أو القياس وفيه تأمل. انتهى. وقد احتج بهذه الآية جمع من أهل العلم على منع التقليد.
(وهدى) للعباد من الضلالة (ورحمة) لهم (وبشرى للمسلمين) خاصة دون غيرهم، أو يكون الهدى والرحمة والبشرى خاصة لهم لأنهم المنتفعون بذلك. ثم لما ذكر سبحانه أن في القرآن تبيان كل شيء ذكر عقبه آية جامعة لأصول التكليف كلها تصديقاً لذلك فقال.
_________
(1) صحيح الجامع الصغير 2640 - تخريج المشكاة 163.(7/301)
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90)
(إن الله يأمر) أي فيما نزله تبياناً لكل شيء وهدى وبشرى (بالعدل والإحسان) وإيثار صيغة الاستقبال فيه وفيما بعده لإفادة التجدد والاستمرار، وقد اختلف أهل العلم في تفسير العدل والإحسان، فقيل العدل شهادة أن لا إله إلا الله والإحسان أداء الفرائض. وقيل العدل الفرض والإحسان النافلة.
وقيل العدل استواء العلانية والسريرة والإحسان أن تكون السريرة أفضل من العلانية، وقيل العدل التوحيد والإحسان التفضل، وقيل العدل خلع الإنداد والإحسان أن تعبد الله كأنك تراه.
وقيل العدل التوحيد والإحسان الإخلاص، وقيل العدل في الأفعال والإحسان في الأقوال فلا يفعل إلا ما هو عدل ولا يقول إلا ما هو حسن. وقيل غير ذلك مما لا حاجة إلى ذكره، والعدل هو المساواة في كل شيء من غير شطط ولا وكس.
ْوالأولى تفسير العدل بالمعنى اللغوي وهو التوسط بين طرفي الإفراط والتفريط فمعنى أمره سبحانه بالعدل أن تكون عبادة في الدين على حالة متوسطة ليست بمائلة إلى جانب الإفراط وهو الغلو المذموم في الدين ولا إلى جانب التفريط وهو الإخلال بشيء مما هو من أمر الدين اعتقاداً كالتوحيد المتوسط بين التعطيل والتشريك، والقول بالكسب المتوسط بين محض الجبر والقدر، وعملاً كالتعبد بأداء الواجبات المتوسط بين البطالة والترهب وخلقاً كالجود المتوسط بين البخل والتبذير.
وأما الإحسان فمعناه البغوي يرشد إلى أنه التفضل بما لم يجب كصدقة التطوع، ومن الإحسان فعل ما يثاب عليه العبد مما لم يوجبه الله عليه في العبادات وغيرها ولم يذكر متعلقات العدل والإحسان والبغي ليعم جميع ما يعدل فيه ويحسن به وإليه وينبغي فيه وقد صح عن النبي صلى الله عليه وآله(7/302)
وسلم أنه فسر الإحسان بأن يعبد الله العبد حتى كأنه يراه فقال في حديث ابن عمر في الصحيحين " والإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك " (1) وهذا هو المعنى بالإحسان شرعاً.
(وإيتاء ذي القربى) ما تدعو إليه حاجتهم وفي الآية إرشاد إلى صلة الأقارب والأرحام وترغيب في التصدق عليهم، وهو من باب عطف الخاص على العام إن كان إعطاء الأقارب قد دخل تحت العدل والإحسان، وقيل من باب عطف الندوب على الواجب، ومثل هذه الآية قوله (وآت ذا القربى حقه) وإنما خص ذوي القربى لأن حقهم آكد فإن الرحم قد اشتق الله اسمها من اسمه الشريف وجعل صلتها من صلته وقطيعتها من قطيعته فيستحب أن يصلهم من فضل ما رزقه الله فإن لم يكن له فضل فدعاء حسن وتودد.
(وينهى عن الفحشاء) هي الخصلة التزايدة في القبح من قول أو فعل، وقيل هي الزنا وقيل البخل (والمنكر) وهو ما أنكره الشرع بالنهي عنه وهو يعم جميع المعاصي على اختلاف أنواعها، وقيل هو الشرك (والبغي) قيل هو الكبر، وقيل هو الظلم وقيل الحقد وقيل التعدي، وحقيقته تجاوز الحد فيشمل هذه المذكورة ويندرج بجميع أقسامه تحت المنكر وإنما خص بالذكر اهتماماً به لشدة ضرره ووبال عاقبته وهو من الذنوب التي ترجع على فاعلها لقوله سبحانه (إنما بغيكم على أنفسكم) وهذه الآية من الآيات الدالة على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وعن عبد الملك بن عمير أن هذه الآية لما بلغت أكثم بن صيفي حكيم العرب قال إني أراه يأمر بمكارم الأخلاق وينهى عن ملائمها ثم قال لقومه كونوا في هذه الأمر رؤساء ولا تكونوا فيه أذناباً وكونوا فيه أولاً ولا تكونوا فيه آخراً.
_________
(1) مسلم/8.(7/303)
وعن ابن عباس قال: أعظم آية في كتاب الله (الله لا إله إلا هو الحي القيوم) وأجمع آية في كتاب الله للخير والشر التي في النحل (إن الله يأمر بالعدل والإحسان) وأكثر آية في كتاب الله تفويضاً (ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب)، وأشد آية في كتاب الله رجاء (يا عبادي) الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله) الآية.
وعن عكرمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ على الوليد بن المغيرة هذه الآية فقال له: يا ابن أخي أعد عليّ فأعادها عليه فقال له الوليد والله إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة وإن أعلاه لمثمر وإن أسفله لمغدق، وما هو بقول البشر، وعن الحسن أنه قرأ هذه الآية إلى آخرها؛ ثم قال: إن الله عز وجل جمع لكم الخير كله والشر كله في آية واحدة فوالله ما ترك العدل والإحسان من طاعة الله شيئاً إلا جمعه وأمر به، ولا ترك الفحشاء والمنكر والبغي من معصية الله شيئاً إلا جمعه وزجر عنه.
وفي المستدرك عن ابن مسعود وهذه أجمع آية في القرآن للخير والشر، قال البيضاوي: وبسببها أسلم عثمان بن مظعون ولو لم يكن في القرآن غير هذه الآية لصدق عليه أنه تبيان لكل شيء وهدى ورحمة ولعل إيرادها عقب قوله (ونزلنا عليك الكتاب) للتنبيه عليه.
ثم ختم سبحانه هذه الآية بقوله (يعظكم) بما ذكره في هذه الآية مما أمركم به ونهاكم عنه (لعلكم تذكرون) أي إرادة أن تتذكروا ما ينبغي تذكره فتتعظوا بما وعظكم الله به فإنه كاف في باب الوعظ والتذكير.(7/304)
وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (91) وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (92) وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (93)(7/305)
وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (91)
(وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم) خص الله سبحانه الإيفاء من جملة المأمورات التي تضمنها قوله (إن الله يأمر بالعدل والإحسان) وظاهرة العموم في كل عهد يقع من الإنسان من غير فرق بين عهد البيعة وغيره، وخص هذا العهد المذكور في الآية بعض المفسرين بالعهد الكائن في بيعة النبي صلى الله عليه وسلم على الإسلام وهو خلاف ما يفيده العهد المضاف إلى اسم الله سبحانه من العموم الشامل لجميع عهود الله، ولو فرض أن السبب خاص بعهد من العهود لم يكن ذلك موجباً لقصره على السبب فالاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وفسره بعضهم باليمين وهو مدفوع بذكر الوفاء بالإيمان بعده حيث قال سبحانه:
(ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها) أي بعد تشديدها وتغليظها وتوثيقها بزيادة الأسماء والصفات، وقيل أن تأكيد اليمين هو حلف الإنسان على الشيء الواحد مراراً، وحكى القرطبي عن ابن عمر أن التوكيد هو أن يحلف مرتين فإن حلف واحدة فلا كفارة عليه.
وليس المراد اختصاص النهي عن النقض بالإيمان المؤكدة لا بغيرها مما لا تأكيد فيه فإن تحريم النقض يتناول الجميع، ولكن في نقض اليمين المؤكدة من(7/305)
الإثم فوق الإثم الذي في نقض ما لم يؤكد منها، يقال وكد وأكد توكيداً وتأكيداً وهما لغتان.
وقال الزجاج: الأصل الواو والهمزة بدل منها، وقيل ليست الهمزة بدلاً من الواو كما زعمه أبو إسحاق لأن الاستعمالين في المادتين متساويان فليس ادعاء كون أحدهما أصلاً أولى من الآخر وتبع مكي الزجاج في ذلك ثم قال ولا يحسن أن يقال الواو بدل من الهمزة ولذلك تبعه الزمخشري أيضاً.
وهذا العموم مخصوص بما ثبت في الأحاديث الصحيحة من قوله صلى الله عليه وسلم " من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه " (1) حتى بالغ في ذلك صلى الله عليه وسلم فقال " والله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيراً منها إلا أتيت الذي هو خير وكفرت عن يميني " (2) وهذه الألفاظ ثابتة في الصحيحين وغيرهما ويخص أيضاً من هذا العموم يمين اللغو لقوله سبحانه (لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم) ويمكن أن يكون التقييد بالتوكيد هنا لإخراج أيمان اللغو وقد تقدم بسط الكلام على الإيمان في البقرة.
(وقد جعلتم الله عليكم كفيلاً) أي شهيداً إما على التشبيه فهو استعارة أو باستعماله في لازم معناه فهو مجاز مرسل، وقيل حافظاً، وقيل ضامناً وقيل رقيباً لأن الكفيل يراعي حال المكفول له (إن الله يعلم ما تفعلون) من وفاء العهد ونقضه فيجازيكم بحسب ذلك إن خيراً فخير وإن شراً فشر وفيه ترغيب وترهيب.
ثم أكد وجوب الوفاء تحريم النقض فقال
_________
(1) مسلم 1650.
(2) مسلم 1649 - البخاري 1476.(7/306)
وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (92)
(ولا تكونوا) فيما تصنعون(7/306)
من النقض بعد التوكيد (كالتي نقضت غزلها) أي ما غزلته (من بعد قوة) أي إبرام الغزل وإحكامه. عن ابن عباس أن سعيدة الأسدية كانت تجمع الشعر والليف فنزلت فيها هذه الآية، وعن أبي بكر بن حفص مثله وفي الروايتين جميعاً أنها كانت مجنونة، وعن السدي في سبب نزولها قال: كانت امرأة بمكة تسمى خرقاء مبهة كانت تغزل فإذا أبرمت غزلها نقضته.
وعن عبد الله بن كثير معناه، وقيل هي امرأة حمقاء اسمها ريطة بنت سعد بن تيم قرشية فالمشبه به معين على هذا، وفي الكرخي المراد به تشبيه الناقض بمن هذا شأنه من غير تعيين لأن القصد بالأمثال صرف المكلف عن الفعل إذا كان قبيحاً والدعاء إليه إذا كان حسناً، وذلك يتم بدون التعيين إذ لا يلزم في التشبيه أن يكون المشبه به موجوداً في الخارج.
(أنكاثا) جمع نكث بكسر النون ما ينكث فتله ليغزل ثانياً بمعنى منكوث أي منقوض يقال نكث الرجل العهد نكثاً من باب قتل نقضه ونبذه فانتكث، قال ابن قتيبة هذه الآية متعلقة بما قبلها والتقدير وأوفوا بعهد الله ولا تنقضوا الأيمان فإنكم إن فعلتم ذلك كنتم مثل امرأة غزلت غزلاً وأحكمته ثم جعلته أنكاثاً أي أقطاعاً وأجزاء.
(تتخذون أيمانكم دخلاً بينكم) قال الجوهري: الدخل المكر والخديعة، وقال أبو عبيدة: كل أمر لم يكن صحيحاً فهو دخل، وقيل الدخل ما أدخل في الشيء على فساده، وقال الزجاج: غشاً وغلا، وقيل أصل الدخل العيب والعيب ليس من الشيء الذي يدخل فيه (أن تكون أمة) أي بأن تكون جماعة أو لأجل وجدانكم أمة (هي أربى من أمة) جماعة أي أكثر عدداً منها وأوفر مالاً، يقال ربى الشيء يربو إذ كثر، قال الفراء: المعنى لا تغدروا بقوم لقلتهم وكثرتكم أو لقلتكم وكثرتهم وقد عززتموهم بالإيمان قيل وقد كانت قريش إذا رأوا شوكة في أعادي حلفائهم نقضوا عهدهم وحالفوا(7/307)
أعداءهم قاله مجاهد: وقيل هو تحذير للمؤمنين أن يغتروا بكثرة قريش وسعة أموالهم فينقضوا بيعة النبي صلى الله عليه وسلم.
(إنما يبلوكم الله به) أي يختبركم بكونكم أكثر وأوفر لينظر هل تتمسكون بحبل الوفاء أم تنقضون اغتراراً بالكثرة، فالضمير في به راجع إلى مضمون الجملة المتقدمة، أي إنما يبلوكم الله بتلك الكثرة ليعلم ما تصنعون أو إنما يبلوكم الله بما يأمركم وينهاكم.
(وليبين لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون) فيوضح الحق والمحقين ويرفع درجاتهم ويبيّنَ الباطل والمبطلين فينزل بهم من العذاب ما يستحقونه أو يبينِّ لكم ما كنتم تختلفون فيه من البعث والجنة والنار وفي هذا إنذار وتحذير من مخالفة الحق والركون إلى الباطل.
ثم بينَّ سبحانه أنه قادر على أن يجمع المؤمنين والكافرين على الوفاء أو على الإيمان فقال(7/308)
وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (93)
(ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة) متفقة على الحق (ولكن) بحكم الإلهية (يضل من يشاء) بخذلانه إياهم عدلاً منه فيهم (ويهدي من يشاء) بتوفيقه إياهم فضلاً منه عليهم (لا يسأل عما يفعل وهم يُسألون) ولهذا قال (ولنسألن) يوم القيامة سؤال تبكيت لا سؤال استفسار وتفهم وهو المنفي في غير هذه الآية (عما كنتم تعملون) من الأعمال في الدنيا لتجازوا عليها، واللام في ليبين وفي لنسألن هي الموطئة للقسم.(7/308)
وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (94) وَلَا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (95) مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (96) مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97) فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98)
ثم لما نهاهم سبحانه عن نقض مطلق الإيمان نهاهم عن نقض أيمان مخصوصة فقال(7/309)
وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (94)
(ولا تتخذوا أيمانكم دخلاً بينكم) قال الشهاب وغيره: ولما كان اتخاذ الأيمان دخلاً قيداً للمنهى عنه كان منهياً عنه ضمناً فصرح به هنا تأكيداً ومبالغة في قبح المنهى عنه.
قال في الجمل وعلى هذا فهو تأسيس لا تأكيد ولا تكرير، قال أبو حيان: لم يتكرر النهي وإنما الذي سبق إخبار بأنهم اتخذوا أيمانهم دخلاً معللاً بشيء خاص هو إن تكون أمة هي أربى من أمة وجاء النهي بقوله هذا استئنافاً للنهي عن اتخاذ الأيمان دخلاً على العموم، أي في كل حال، فيشمل جميع الصور من الخديعة في المبايعة وقطع الحقوق المالية وغير ذلك.
قال الواحدي: قال المفسرون وهذا في نهي الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نقض العهد على الإسلام ونصرة الدين، واستدلوا على هذا التخصيص بما في قوله فتزل قدم بعد ثبوتها، من المبالغة، وبما في قوله وتذوقوا السوء بما صددتم لأنهم إذا نقضوا العهد مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صدوا غيرهم عن الدخول في الإسلام؛ وعلى تسليم أن هذه(7/309)
الأيمان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم هي سبب نزول هذه الآية، فالاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
(فتزل قدم) أي قدم من اتخذ يمينه دخلاً عن محجة الحق (بعد ثبوتها) عليها ورسوخها فيها؛ قيل وافراد القدم وتنكيرها للإيذان بأن زلل قدم واحدة أية قدم كانت عزت أو هانت محذور عظيم فكيف بأقدام كثيرة، وهذه استعارة للمستقيم الحال يقع في شر عظيم ويسقط فيه، لأن القدم إذا زلت نقلت الإنسان من حال خير إلى حال شر، ويقال لمن أخطأ في شيء زلت به قدمه.
(وتذوقوا السوء) أي العذاب السيء في الدنيا أو في الآخرة أو فيهما (بما صددتم) أي بسبب امتناعكم وصدودكم (عن سبيل الله) وهو الإسلام أو بسبب صدكم لغيركم عن الإسلام، فإن من نقض البيعة وارتد اقتدى به غيره في ذلك فكان فعله سنة سيئة عليه وزرها ووزر من عمل بها، ولهذا قال (ولكم عذاب عظيم) أي متبالغ في العظم، وهو عذاب الآخرة إن كان المراد بما قبله عذاب الدنيا.
ثم نهاهم سبحانه عن الميل إلى عرض الدنيا والرجوع عن العهد لأجله فقال(7/310)
وَلَا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (95)
(ولا تشتروا بعهد الله) الذي تركتموه (ثمناً قليلاً) أي لا تأخذوا في مقابلة عهدكم عوضاً يسيراً حقيراً، وكل عرض دنيوي وإن كان في الصورة كثيراً فهو لكونه ذاهباً زائلاً يسيراً. ولهذا ذكر سبحانه بعد تقليل عرض الدنيا خيرية ما عند الله فقال:
(إنما عند الله) وفي رسم أن هذه اختلاف بين المصاحف العثمانية ففي بعضها وصلها بما، وفي بعضها فصلها عنها كما ذكر ابن الجزري، أي ما عنده من النصر في الدنيا والغنائم والرزق الواسع وما عنده في الآخرة من نعيم الجنة الذي لا يزول ولا ينقطع (هو خير لكم) ثم علل النهي عن أن يشتروا(7/310)
بعهد الله ثمناً قليلاً بقوله (إن كنتم تعلمون) وتميزون بين الأشياء.
ثم ذكر دليلاً قاطعاً على حقارة عرض الدنيا وخيرية ما عند الله فقال(7/311)
مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (96)
(ما عندكم ينفد وما عند الله باق) والنفاد الفناء والذهاب، يقال نفد بكسر العين ينفد بفتحها نفاداً ونفوداً، وأما نفذ بالمعجمة ففعله نفذ بالفتح ينفذ بالضم، ويقال أنفد القوم إذا فنى زادهم، وباق بثبوت الياء وحذفها مع سكون القاف وهما سبعيتان.
ومعلوم لكل عاقل إن ما ينفد ويزول وأن بلغ في الكثرة إلى أي مبلغ فهو حقير يسير، وما كان يبقى ولا يزول فهو كثير جليل أما نعيم الآخرة فظاهر؛ وأما نعيم الدنيا الذي أنعم الله به على المؤمنين فهو وإن كان زائلاً لكنه لما كان متصلاً بنعيم الآخرة كان من هذه الحيثية في حكم الباقي الذي لا ينقطع.
ثم قال (ولنجزين) بالنون ففيه التفات، وقرئ بالياء واللام هي الموطئة للقسم أي والله لنجزين (الذين صبروا) بسبب صبرهم على ما نالهم من مشاق التكليف والفاقة وجهاد الكافرين والصبر على ما ينالهم منهم من الأذى (أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون) من الطاعات، قيل وإنما خص أحسن أعمالهم لأن ما عداه وهو الحسن مباح والجزاء إنما يكون على الطاعة، وقيل المعنى ولنجزينهم بجزاء أشرف وأوفر من أعمالهم، كقوله (من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها).
وقيل (أحسن) هنا ليس للتفضيل بل بمعنى الحسن أو لنجزينهم بحسب أحسن أفراد أعمالهم على معنى لنعطينهم بمقابلة الفرد الأدنى من أعمالهم المذكورة ما نعطيهم بمقابلة الفرد الأعلى منها من الجزاء الجزيل لا إنا نعطي الأجر بحسب أفرادها المتفاوتة في مراتب الحسن بأن نجزي الحسن منها بالأجر الحسن، والأحسن بالأحسن، كذا قيل، وفيه ما لا يخفى من العدة(7/311)
الجميلة باغتفار ما عسى يعتريهم في تضاعيف الصبر من بعض جزع ونظمه في سلك الصبر الجميل.(7/312)
مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97)
(ومن عمل صالحاً) هذا شروع في ترغيب كل مؤمن في كل عمل صالح وتعميم للوعد، والمعنى من عمل صالحاً أي عمل كان (من ذكر أو أنثى) زيادة التمييز بذكر وأنثى مع كون لفظ من شاملاً لهما لقصد التأكيد والمبالغة في تقرير الوعد. وقيل أن لفظ من ظاهر في الذكور فكان في التنصيص على الذكر والأنثى بيان لشموله للنوعين.
(وهو مؤمن) جعل سبحانه الإيمان قيداً في الجزاء المذكور لأن عمل الكافر لا اعتداد به لقوله سبحانه (وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثوراً) ثم ذكر سبحانه الجزاء لمن عمل ذلك العمل الصالح فقال (فلنحيينه حياة طيبة) وقد وقع الخلاف في الحياة الطيبة بماذا تكون، فقيل بالرزق الحلال في هذه الحياة الدنيا وإذا صار إلى ربه جازاه بأحسن ما كان يعمل.
روي ذلك عن ابن عباس وسعيد بن جبير وعطاء والضحاك، وقيل بالقناعة قاله الحسن البصري وزيد بن وهب، ووهب بن منبه، وروي أيضاً عن عليّ وابن عباس قال: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو " اللهم قنعني بما رزقتني وبارك لي فيه واخلف عليً كل غائبة لي بخير ".
وأخرج أحمد ومسلم والترمذي وابن ماجة عن ابن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال " قد أفلح من أسلم ورزق كفافاً وقنعه الله بما آتاه " (1) وأخرج الترمذي والنسائي من حديث فضالة بن عبيد أنه سمع رسول
_________
(1) مسلم 1054.(7/312)
الله صلى الله عليه وسلم يقول " قد أفلح من هدى إلى الإسلام وكان عيشه كفافا وقنع به " (1).
وقيل بالكسب الطيب والعمل الصالح، قاله ابن عباس، وقيل بالتوفيق إلى الطاعة قاله الضحاك، وقيل هي حياة الجنة، روي هذا عن مجاهد وقتادة وغيرهما وحكي عن الحسن أنه قال: لا تطيب الحياة لأحد إلا في الجنة، وقيل الحياة الطيبة هي السعادة، روي ذلك عن ابن عباس، وقيل هي المعرفة بالله، حكي ذلك عن جعفر الصادق رضي الله عنه.
وقال أبو بكر الوراق: هي حلاوة الطاعة، وقال مقاتل: هي العيش في الطاعة وقيل رزق يوم بيوم.
وقال السدي: إنما هي تحصل في القبر لأن المؤمن يستريح بالموت من نكد الدنيا وتعبها، وقال سهل بن عبد الله التستري: هي أن ينزع عن العبد تدبير نفسه ويرد تدبيره إلى الحق، وقيل هي الاستغناء عن الخلق والافتقار إلى الحق.
وأكثر المفسرين على أن الحياة الطيبة هي في الدنيا لا في الآخرة، لأن حياة الآخرة قد ذكرت بقوله (ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون) وقد قدمنا قريباً تفسير الجزاء بالأحسن ووحد الضمير في (لنحيينه) وجمعه في لنجزينهم حملاً على لفظ (من) وعلى معناه.
ثم لما ذكر سبحانه العمل الصالح والجزاء عليه أتبعه بذكر الاستعاذة التي تخلص بها الأعمال الصالحة عن الوساوس الشيطانية فقال
_________
(1) الترمذي كتاب الزهر باب 35 - الإمام أحمد 5/ 255.(7/313)
فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98)
(فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله) الفاء لترتيب الاستعاذة على العمل الصالح، وقيل هذه الآية(7/313)
متصلة بقوله (ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء) والتقدير فإذا أخذت في قراءته فاستعذ بالله.
قال الزجاج وغيره من أئمة اللغة: معناه إذا أردت أن تقرأ القرآن فاستعذ، وهذا على مذهب الأكثرين من الفقهاء والمحدثين من أن الاستعاذة تطلب قبل القراءة، وليس معناه استعذ بعد أن تقرأ القرآن، ومثله إذا أكلت فقل بسم الله.
قال الواحدي: وهذا إجماع الفقهاء أن الاستعاذة قبل القراءة إلا ما روي عن أبي هريرة وابن سيرين ومالك وحمزة من القراء فإنهم قالوا: الاستعاذة بعد القراءة ذهبوا إلى ظاهر الآية، وإليه ذهب جماعة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من الأئمة وداود الظاهري.
وأما مذهب الأكثرين من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من الأئمة وفقهاء الأمصار أنها قبل القراءة كما تقدم، ومعنى فاستعذ بالله اسأله سبحانه أن يعيذك (من الشيطان الرجيم) أي من وساوسه لئلا يوسوسك في القراءة وفيه دليل على أن المصلي يستعيذ في كل ركعة لأن الحكم المترتب على شرط يتكرر بتكرره قياساً، وتعقيبه لذكر العمل الصالح والوعد عليه إيذان بأن الاستعاذة عند القراءة من هذا القبيل.
وتخصيص قراءة القرآن من بين الأعمال الصالحة بالاستعاذة عند إرادتها للتنبيه على أنها لسائر الأعمال الصالحة عند إرادتها أهم لأنه إذا وقع الأمر بها عند قراءة القرآن الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه كانت عند إرادة غيره أولى كذا قيل وتوجيه الخطاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم للإشعار بأن غيره أولى منه بفعل الاستعاذة لأنه صلى الله عليه وآله وسلم إذا أمر بها لدفع وساوس الشيطان مع عصمته، فكيف بسائر أمته، قال السيوطي في الآية، أي قل أعوذ بالله من الشيطان الرجيم انتهى.
وهذا بيان للأفضل وإلا فأصل السنة يحصل بأي صيغة كانت من صيغ الاستعاذة، وقد ذهب الجمهور إلى أن الأمر في الآية للندب، وروي عن(7/314)
إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100) وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101) قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (102) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103)
عطاء الوجوب أخذاً بظاهر الأمر، والضمير في(7/315)
إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99)
(إنه) للشأن أو للشيطان (ليس له سلطان) أي تسلط تعليل لمحذوف هو جواب الأمر تقديره فإن استعذت كفيت شره (على) إغواء (الذين آمنوا) وحكى الواحدي عن جميع المفسرين أنهم فسروا السلطان بالحجة وقالوا المعنى ليس له حجة على المؤمنين في إغوائهم ودعائهم إلى الضلالة.
(وعلى ربهم يتوكلون) أي يفوضون أمورهم إليه في كل قول وفعل فإن الإيمان بالله والتوكل عليه يمنعان الشيطان من وسوسته لهم وإن وسوس لأحد منهم لا تؤثر فيه وسوسته وهؤلاء الجامعون بين الإيمان والتوكل هم الذين قال فيهم إبليس (إلا عبادك منهم المخلصين) وقال الله فيهم (إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين).
ثم حصر سبحانه سلطان الشيطان فقال:(7/315)
إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100)
(إنما سلطانه) أي تسلطه (على) إغواء (الذين يتولونه) أي يتخذونه ولياً ويطيعونه في وساوسه يقال توليته إذا أطعته وتوليت عنه إذا أعرضت عنه وهذا مقابل لقوله وعلى ربهم يتوكلون (والذين هم به) أي بالله والباء للتعدية (مشركون) وقيل الضمير يرجع إلى الشيطان والباء للسببية أي والذين هم من أجله وبسبب وسوسته مشركون بالله وهذا مقابل لقوله على الذين آمنوا.(7/315)
وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101)
(وإذا بدلنا آية مكان آية) (1) هذا شروع منه سبحانه في حكاية شبهة كفرية ودفعها ومعنى التبديل رفع الشيء مع وضع غيره مكانه وتبديل الآية رفعها بأخرى غيرها وهو نسخها بآية سواها قال مجاهد: وهو كقوله (ما ننسخ من آية أو ننسها) الخ .. وقد تقدم الكلام على النسخ في البقرة (والله أعلم بما ينزل) اعتراض دخل في الكلام أي أنه أعلم بما ينزل من الناسخ وبما هو أصلح لخلقه وبما يغير وما يبدل من أحكامه، وهذا نوع توبيخ وتقريع للكفار، وقيل الجملة حالية وليس بظاهر.
وجواب إذا قوله (قالوا) أي كفار قريش الجاهلون للحكمة في النسخ (إنما أنت) يا محمد صلى الله عليه وسلم (مفتر) أي كاذب مختلق على الله فتقول عليه بما لم يقل حيث تزعم أنه أمرك بشيء ثم تزعم أنه أمرك بخلافه فرد الله سبحانه عليهم بما يفيد جهلهم فقال:
(بل أكثرهم لا يعلمون) شيئاً من العلم أصلاً أو لا يعلمون حقيقة القرآن وهو أنه اللفظ المنزل من عند الله على محمد صلى الله عليه وسلم للإعجاز بسورة منه المتعبد بتلاوته أو لا يعلمون بالحكمة في النسخ فإنه مبني على المصالح التي لا يعلمها إلا الله سبحانه فقد تكون في شرع هذا الشيء مصلحة مؤقتة بوقت ثم تكون المصلحة بعد ذلك الوقت في شرع غيره.
وفيه التخفيف على العباد ولو انكشف الغطاء لهؤلاء الكفرة لعرفوا أن ذلك وجه الصواب ومنهج العدل والرفق واللطف.
ثم بينَّ سبحانه لهؤلاء المعترضين على حكمة النسخ الزاعمين أن ذلك لم يكن من عند الله وأن رسوله صلى الله عليه وآله وسلم افتراه فقال
_________
(1) كانت هذه الآية أوضح دليل لنا على وجود النسخ في القرآن حين نشرنا بحثاً وافياً في الموضوع في كتابنا (الإيمان وآثاره والشرك ومظاهره) وذلك عندما أعلن بعض العلماء الذين نحترمهم رأيه في عدم وجود النسخ في القرآن والكتاب عموماً، مهم جداً.(7/316)
قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (102)
(قل نزله) أي القرآن المدلول عليه بذكر الآية (روح القدس) بضم الدال وسكونها سبعيتان والقدس التطهير والطهارة والمعنى نزله الروح المطهر من أدناس البشرية(7/316)
وهو جبريل عليه السلام فهو من إضافة الموصوف إلى الصفة كما يقال حاتم الجود وطلحة الخير (من ربك) أي ابتداء تنزيله من عنده سبحانه (بالحق) أي متلبساً بكونه حقاً ثابتاً لحكمة بالغة.
(ليثبت الذين آمنوا) على الإيمان فيقولون كل من الناسخ والمنسوخ من عند ربنا ولأنهم أيضاً إذا عرفوا ما في النسخ من المصالح ثبتت أقدامهم على الإيمان ورسخت عقائدهم وقرئ من الإثبات (وهدى وبشرى للمسلمين) معطوفان على محل ليثبت أي تثبيتاً لهم وهداية وبشارة وفيه تعريض بحصول أضداد هذه الخصائل لغيرهم.
ثم ذكر سبحانه شبهة أخرى من شبههم فقال(7/317)
وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103)
(ولقد نعلم) علماً مستمراً (أنهم يقولون إنما يعلمه بشر) وليس هو من عند الله كما هو يزعم، واللام هي الموطئة أي والله لقد نعلم أن هؤلاء الكفار يقولون إنما يعلم محمداً القرآن بشر من بني آدم غير ملك.
وقد اختلف أهل العلم في تعيين هذا البشر الذي زعموا عليه ما زعموا فقيل هو غلام الفاكه بن المغيرة واسمه جبر وكان نصرانياً حداداً رومياً فأسلم، وكان قريش إذا سمعوا من النبي صلى الله عليه وآله وسلم أخبار القرون الأولى مع كونه أمياً قالوا إنما يعلمه جبر.
وقيل اسمه عايش أو يعيش عبد لبني الحضرمي وكان يقرأ الكتب الأعجمية، وقيل غلام لبني عامر بن لؤي، وقيل عنوا سلمان الفارسي، وقيل عنوا نصرانياً بمكة اسمه بلعام وكان يقرأ التوراة، وقيل عنوا رجلاً نصرانياً كان اسمه أبا ميسرة يتكلم بالرومية، وفي رواية اسمه عداس وقيل أرادوا بالبشر غلامين اسم أحدهما يسار واسم الآخر جبر، وكانا صيقليَّين يعملان السيوف بمكة، وكانا يقرآن كتاباً لهم، وقيل كانا يقرآن التوراة والإنجيل وكان النبي صلى الله عليه وسلم يمر عليهما ويسمع ما يقرآنه فقال المشركون إنما يتعلم منهما؛ قاله عبد الله بن مسلم الحضرمي.(7/317)
قال النحاس: وهذه الأقوال غير متناقضة لأنه يجوز أنهم زعموا أنهم جميعاً يعلمونه ولكن لا يمكن الجمع باعتبار قول من قال أنه سلمان لأن هذه الآية مكية وهو إنما أتى النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة.
ثم أجاب سبحانه عن قولهم هذا فقال (لسان الذي يلحدون إليه) أي لغته وكلامه (أعجمي) والإلحاد الميل يقال لحد وألحد أي مال عن القصد ومنه لحد القبر لأنه حفرة مائلة عن وسطه، وقد تقدم في الأعراف، والمعنى لسان الذي يميلون إليه ويشيرون ويزعمون أنه يعلمك أعجمي يقال رجل أعجم وامرأة عجماء أي لا يفصحان والعجمة الإخفاء وهي ضد البيان والعرب تسمي كل من لا يعرف لغتهم ولا يتكلم بها أعجمياً.
قال الفراء والراغب: الأعجم الذي في لسانه عجمة وإن كان في العرب والأعجمي هو الذي أصله من العجم، وقال أبو علي الفارسي: العجمي المنسوب إلى العجم الذي لا يفصح سواء كان من العرب أو من العجم وكذلك الأعجم والأعجمي المنسوب إلى العجم وإن كان فصيحاً بالعربية والأعرابي الذي يسكن البادية والعربي الذي يسكن الأمصار من بلاد العرب.
(وهذا) أي القرآن (لسان) أي كلام (عربي مبين) وسماه لساناً لأن العرب تقول للقصيدة والبيت لساناً أو أراد باللسان البلاغة فكأنه قال وهذا قرآن ذو بلاغة عربية وبيان واضح فكيف تزعمون أن بشراً يعلمه من العجم وأين فصاحة هذا القرآن من عجمة هذا الذي تشيرون إليه وقد عجزتم أنتم عن معارضة سورة منه وأنتم أهل اللسان العربي ورجال الفصاحة وقادة البلاغة.
فثبت بهذا أن الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم وحي أوحاه الله إليه، وليس هو من تعليم البشر الذي تشيرون إليه ولا هو آت به من تلقاء نفسه بل هو وحي من الله عز وجل وهاتان الجملتان مستأنفتان سيقتا لإبطال طعنهم ودفع كذبهم.(7/318)
إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ لَا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104) إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ (105) مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (106)
ولما ذكر سبحانه جوابهم وبخهم وهددهم فقال(7/319)
إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ لَا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104)
(إن الذين لا يؤمنون بآيات الله) أي لا يصدقون بها في علم الله (لا يهديهم الله) إلى الحق الذي هو سبيل النجاة وهداية موصلة إلى المطلوب لما علم من شقاوتهم (ولهم) في الآخرة (عذاب أليم) بسبب ما هم عليه من الكفر والتكذيب بآيات الله.
ثم لما وقع منهم نسبة الافتراء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رد عليهم بقوله(7/319)
إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ (105)
(إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله) فكيف يقع الافتراء من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو رأس المؤمنين بها والداعين إلى الإيمان بها وهؤلاء الكفار هم الذين لا يؤمنون بها فهم المفترون للكذب، قال الزجاج: المعنى إنما يفتري الكذب الذين إذا رأوا الآيات التي لا يقدر عليها إلا الله كذبوا بها هؤلاء أكذب الكذبة، ثم سماهم الكاذبين فقال (وأولئك) المتصفون بذلك (هم الكاذبون) أي أن الكذب نعت لازم لهم وعادة من عاداتهم، فهم الكاملون في الكذب إذ لا كذب أعظم من تكذيبهم بآيات الله، وقولهم إنما يعلمه بشر والتأكيد بالتكرار وإن، وغيرهما ردا لقولهم إنما أنت مفتر.(7/319)
مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (106)
(من كفر بالله من بعد إيمانه) أي تلفظ وتكلم بالكفر أو فعل فعل كفر سواء كان مختاراً في ذلك أو مكرهاً عليه فالاستثناء في قوله (إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان) متصل.
وقال القرطبي: أجمع المفسرون وأهل العلم على أن من أكره على الكفر(7/319)
حتى خشي على نفسه القتل أنه لا إثم عليه إن كفر وقلبه مطمئن بالإيمان، ولا تبين منه زوجته ولا يحكم عليه بحكم الكفر.
وحكى عن محمد بن الحسن أنه إذا أظهر الكفر كان مرتداً في الظاهر وفيما بينه وبين الله على الإسلام وتبين منه امرأته ولا يصلى عليه إن مات ولا يرث أباه إن مات مسلماً، وهذا القول مردود على قائله مدفوع بالكتاب والسنة.
وذهب الحسن البصري والأوزاعي والشافعي وسحنون إلى أن هذه الرخصة إنما جاءت في القول وأما في الفعل فلا رخصة مثل أن يكره على السجود لغير الله، ويدفعه ظاهر الآية فإنها عامة فيمن أكره من غير فرق بين القول والفعل كما تقدم، والمعنى إلا من كفر بإكراه والحال أن قلبه مطمئن بالإيمان لم تتغير عقيدته.
أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس قال: لما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يهاجر إلى المدينة قال لأصحابه: " تفرقوا عني فمن كانت به قوة فليتأخر إلى آخر الليل ومن لم تكن به قوة فليذهب أول الليل فإذا سمعتم بي قد استقرت لي الأرض فالحقوا بي ".
فأصبح بلال المؤذن وخباب وعمار وجارية من قريش كانت أسلمت فأخذهم المشركون وأبو جهل فعرضوا على بلال أن يكفر فأبى فجعلوا يضعون درعاً من حديد في الشمس ثم يلبسونها إياه فإذا ألبسوه إياه قال أحد أحد، وأما خباب فجعلوا يجرونه في الشوك، وأما عمار فقال لهم كلمة أعجبتهم تقية، وأما الجارية فوتد لها أبو جهل أربعة أوتاد ثم مدها فأدخل الحربة في قلبها حتى قتلها، ثم خلوا عن بلال وخباب وعمار فلحقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه بأمرهم، واشتد على عمار الذي كان تكلم به، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كيف كان قلبك حين قلت، أكان منشرحا بالذي قلت أم لا؟ " قال: لا. فأنزل الله (إلا من أكره وقلبه مطمئن(7/320)
بالإيمان) وقيل نزلت في أناس من أهل مكة.
وقيل نزلت في جبر مولى عامر بن الحضرمي أكرهه سيده على الكفر، والأول أولى، والحق أن الآية عامة في كل من أكره على الكفر وقلبه مطمئن بالإيمان وإن كان السبب خاصاً، وفيه دليل على أن محل الإيمان هو القلب.
(ولكن) الاستدراك واضح لأن قوله إلا من أكره قد يسبق الوهم إلى الاستثناء مطلقاً فاستدرك هذا، وقوله (مطمئن) لا ينفي ذلك الوهم (من) موصولة أو شرطية والأول أولى.
(شرح بالكفر صدراً) أي اختاره ورضي به وطابت به نفسه (فعليهم) فيه مراعاة معنى (من) ولو راعى لفظها لأفرد وقال فعليه (غضب من الله ولهم عذاب عظيم) في الآخرة.
عن ابن عباس قال: أخذ المشركون عمار بن ياسر فلم يتركوه حتى سب النبي صلى الله عليه وسلم وذكر آلهتهم بخير فتركوه، فلما أتى النبي صلى الله عليه وسلم قال " ما وراءك؟ " قال: شر، ما تركت حتى نلت منك وذكرت آلهتهم بخير، قال: " كيف تجد قلبك؟ " قال: مطمئناً بالإيمان، قال " إن عادوا فعد "، فنزلت (إلا من أكره) الخ. قال: فذاك عمار بن ياسر، ولكن من شرح بالكفر صدراً عبد الله بن أبي سرح (1)، أخرجه البيهقي والحاكم وصححه، وفي الباب روايات مصرحة بأنها نزلت فيه.
وعن محمد بن سيرين قال: نزلت هذه الآية في عياش بن أبي ربيعة وعن ابن عباس قال: هو عبد الله بن أبي سرح الذي كان يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأزله الشيطان فلحق بالكفار، فأمر به النبي صلى الله عليه وسلم أن يقتل يوم فتح مكة، فاستجار له عثمان بن عفان، فأجاره النبي صلى الله عليه وسلم. وعن الحسن وعكرمة مثله، وليس بعد هذا الوعيد العظيم وهو الجمع للمرتدين بين غضب الله وعظيم عذابه وعيد.
_________
(1) المستدرك، كتاب التفسير 2/ 357.(7/321)
ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (107) أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (108) لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (109) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (110)(7/322)
ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (107)
(ذلك) أي الكفر بعد الإيمان أو الوعيد بالغضب والعذاب (بأنهم استحبوا الحياة الدنيا) أي ذلك بسبب تأثيرهم للحياة الدنيا الفانية (على الآخرة) الباقية الدائمة (وأن الله لا يهدي القوم الكافرين) في علمه إلى الإيمان به ولا يعصمهم من الزيغ.
ثم وصفهم بقوله(7/322)
أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (108)
(أولئك) الموصوفون بما ذكر من الأوصاف القبيحة (الذين طبع الله على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم) فلم يفهموا المواعظ ولا سمعوها ولا أبصروا الآيات التي يستدل بها على الحق، وقد سبق تحقيق الطبع في أول البقرة، ثم أثبت لهم صفة نقص غير الصفة المتقدمة فقال (وأولئك هم الغافلون) عما يراد بهم من العذاب في الآخرة، وضمير الفصل يفيد أنهم متناهون في الغفلة إذ لا غفلة أعظم من غفلتهم هذه.(7/322)
لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (109)
(لا جرم) قد تقدم تحقيق الكلام في معناها أي حقاً (أنهم في الآخرة هم الخاسرون) أي الكاملون في الخسران البالغون إلى غاية منه ليس فوقها غاية لمصيرهم إلى النار المؤبدة عليهم، والوجب لخسرانهم أن الله وصفهم بست صفات تقدمت:
الأولى: أنهم استوجبوا غضب الله.
الثانية: أنهم استحقوا عذابه العظيم.(7/322)
الثالثة: أنهم استحبوا الحياة الدنيا.
الرابعة: أنهم حرمهم الله من الهداية.
الخامسة: أنه طبع الله على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم.
السادسة: أنه جعلهم من الغافلين.(7/323)
ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (110)
(ثم إن ربك للذين هاجروا) من دار الكفر إلى دار الإسلام، وخبر (إن) محذوف أي لغفور رحيم؛ وقيل الخبر هو الذين هاجروا، أي إن ربك لهم بالولاية والنصرة لا عليهم وفيه بعد، قال في الكشاف (ثم) هاهنا للدلالة على تباعد حال هؤلاء، يعني الذين نزلت الآية فيهم عن حال أولئك، وهم عمار وأصحابه، ويدل على ذلك ما روي أنها نزلت في ابن أبي السرح.
قال ابن عباس: كان قوم من أهل مكة أسلموا وكانوا يستخفون بالإسلام فنزلت فيهم هذه الآية فكتبوا بذلك إليهم أن الله قد جعل لكم مخرجاً فأخرجوا فأدركهم المشركون فقاتلوهم فنجى من نجى وقتل من قتل.
(من بعد ما فتنوا) أي فتنتهم الكفار بتعذيبهم لهم ليرجعوا في الكفر، وقرئ فتنوا على البناء للفاعل وهي سبعية أيضاً، أي للذين فتنوا المؤمنين وعذبوهم على الإسلام (ثم جاهدوا) في سبيل الله (وصبروا) على ما أصابهم من الكفار وعلى ما يلقونه من مشاق التكليف (إن ربك من بعدها) أي من بعد الفتنة التي فتنوها أو بعد المهاجرة أو الجهاد أو الصبر أو جميع ذلك (لغفور رحيم) أي كثير الغفران والرحمة لهم.
ومعنى الآية على قراءة البناء للفاعل واضح ظاهر، أي إن ربك لهؤلاء الكفار الذين فتنوا من أسلم وعذبوهم ثم جاهدوا وصبروا لغفور رحيم، وأما على قراءة البناء للمفعول وهي قراءة الجمهور فالمعنى أن هؤلاء المفتونين الذين تكلموا بكلمة الكفر مكرهين وصدورهم غير منشرحة للكفر إذا صلحت أعمالهم وجاهدوا في الله وصبروا على المكاره لغفور لهم رحيم بهم.(7/323)
يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (111) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (112) وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (113)
وأما إذا كان سبب الآية هو هذا عبد الله بن أبي سرح الذي ارتد عن الإسلام ثم رجع بعد ذلك إليه، فالمعنى أن هذا المفتون في دينه بالردة إذا أسلم وجاهد وصبر فالله غفور له رحيم به.(7/324)
يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (111)
(يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها) أي تخاصم وتسعى في خلاصها، وقد استشكل إضافة ضمير النفس إلى النفس ولا بد من التغاير بين المضاف والمضاف إليه.
وأجيب بأن المراد بالنفس الأولى جملة بدن الإنسان وبالنفس الثانية الذات فكأنه قيل يوم يأتي كل إنسان يجادل عن ذاته لا يهمه غيرها بل يقول نفسي نفسي ومعنى المجادلة عنها الاعتذار بما لا يقبل منه كقوله (والله ربنا ما كنا مشركين) ونحو ذلك من المعاذير الكاذبة فهو مجادل ومخاصم عن نفسه لا يتفرغ لغيرها يوم القيامة.
(وتوفى كل نفس) جزاء (ما عملت) في الدنيا من خير أو شر (وهم لا يظلمون) من جزاء أعمالهم بل يوفون ذلك كاملاً من غير زيادة أو نقصان(7/324)
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (112)
(وضرب الله مثلاً قرية) قد قدمنا أن ضرب مضمن معنى جعل ولذا عُدِّيَ إلى مفعولين قد اختلف المفسرون هل المراد بهذا القرية قرية معينة أو المراد قرية غير معينة. قال الزمخشري: بل كل قوم أنعم الله عليهم فأبطرتهم النعمة فكفروا وتولوا فأنزل الله بهم نقمته، ونحوه في البيضاوي.(7/324)
قال القرطبي: إنه مثل مضروب لأي قرية كانت على هذه الصفة من سائر القرى فيجوز أن تراد قرية مقدرة على هذه الصفة، ويجوز أن تكون في قرى الأولين قرية كانت هذه حالها فضربها الله مثلاً لمكة إنذاراً من مثل عاقبتها.
وذهب الأكثرون إلى الأول وصرحوا بأنها مكة، وذلك لما دعا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: " اللهم أشدد وطأتك على مضر وأجعلها عليهم سنين كسني يوسف " (1) فابتلوا بالقحط حتى أكلوا العظام، والثاني أرجح لأن تنكير قرية يفيد بذلك، ومكة تدخل في هذا العموم البدلي دخولاً أولياً.
وأيضا يكون الوعيد أبلغ والمثل أكمل وغير مكة مثلها، وعلى فرض إرادتها ففي المثل إنذار لغيرها من مثل عاقبتها. وعن ابن عباس قال: يعني مكة وعن عطية مثله وزاد فقال: ألا ترى أنه قال
_________
(1) مسلم 675 - البخاري 483.(7/325)
وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (113)
(ولقد جاءهم رسول منهم فكذبوه) قال الواقدي: ذكر المشبه به ولم يذكر المشبه لوضوحه عند المخاطبين.
والآية عند عامة المفسرين نازلة في أهل مكة وما امتحنوا به من الخوف والجوع بعد الأمن والنعمة بتكذيبهم النبي صلى الله عليه وسلم فتقدير الآية ضرب الله مثلاً لقريتكم، أي بيَّن الله لها شبهاً، ثم وصف القرية بأنها (كانت آمنة) غير خائفة.
(مطمئنة) غير منزعجة، أي لا يخاف أهلها ولا ينزعجون، وعن ابن شهاب قال القرية التي كانت آمنة مطمئنة هي يثرب.
قلت ولا أدري أي دليل على هذا التعيين ولا أي قرينة قامت له على ذلك ومتى كفرت دار الهجرة ومسكن الأنصار بأنعم الله وأي وقت أذاقها الله(7/325)
لباس الجوع والخوف وهي التي تنفي خبثها كما ينفي الكير خبث الحديد كما صح ذلك عن الصادق المصدوق.
وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال " والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون " (يأتيها رزقها) أي ما يرتزق به أهلها (رغداً) أي واسعاً يقال رغد العيش بالضم رغادة اتسع ولأن فهو رغد ورغيد ورغد ورغد رغداً من باب تعب لغة فهو راغد وهو في رغد من العيش أي رزق واسع، وأرغد القوم بالألف أخصبوا والرغيد الزبد (من كل مكان) من الأمكنة التي يجلب ما فيها إليها أي من نواحيها من البر والبحر.
(فكفرت) أي كفر أهلها (بأنعم الله) التي أنعم بها عليهم وهي جمع نعمة كالأشد جمع شدة، وقيل كالأدرع جمع درع على ترك الاعتداد بالتاء وقيل جمع نعم مثل بؤس وأبؤس ويحتمل أنه جمع نعماء بفتح النون والمد وهي بمعنى النعمة وهذا الكفر منهم هو كفرهم بالله سبحانه وتكذيب رسله.
(فأذاقها الله) أي أهلها (لباس الجوع والخوف) أي أثرهما فقحطوا سبع سنين وسمي ذلك لباساً لأنه يظهر به عليهم من الهزال وشحوبة اللون وسوء الحال ما هو كاللباس فاستعير له اسمه وأوقع عليه الإذاقة وأصلها الذوق بالفم ثم استعيرت لمطلق الإيصال مع إنبائها بشدة الإصابة لما فيها من اجتماع الإدراكين إدراك اللمس والذوق.
روي أن ابن الراوندي الزنديق، قال لابن الأعرابي إمام اللغة والأدب: هل يذاق اللباس؟ فقال له ابن الأعرابي: لا بأس أيها النسناس هب أن محمداً صلى الله عليه وسلم ما كان نبياً أما كان عربياً، كأنه طعن في الآية بأن المناسب أن يقال فكساها الله لباس الجوع أو فأذاقها الله طعم الجوع، فرد عليه ابن الأعرابي.
وقد أجاب علماء البيان هذا أن تجريد الاستعارة وذلك أنه استعار(7/326)
اللباس لما غشي الإنسان من بعض الحوادث كالجوع والخوف لاشتماله عليه اشتمال اللباس على اللابس، ثم ذكر الوصف ملائماً للمستعار له وهو الجوع والخوف لأن إطلاق الذوق على إدراك الجوع والخوف جرى عندهم مجرى الحقيقة فيقولون ذاق فلان البؤس والضر، وأذاقه غيره فكانت الاستعارة مجردة ولو قال فكساها كانت مرشحة قيل وترشيح الاستعارة وإن كان مستحسناً من جهة المبالغة إلا أن للتجريد ترجيحاً من حيث أنه روعي جانب المستعار له فازداد الكلام وضوحاً.
قال الرازي: والحاصل أنه حصل لهم في ذلك الجوع حالة تشبه المذوق، وحالة تشبه الملبوس، فاعتبر الله كلا الاعتبارين فقال فأذاقها، والتقدير: أن الله عرفها لباس الجوع والخوف إلا أنه تعالى عبر عن التعريف بلفظ الإذاقة، وأصل الذوق بالفم ثم قد يستعار فيوضع موضع التعرف والاختيار قال الشاعر:
ومن يذق الدنيا فإني طعمتها ... وسيق إلينا عذبها وعذابها
أو يحمل اللبس على المماسة أي فأذاقها الله مساس الجوع (بما كانوا يصنعون) أي فعلنا بهم ما فعلنا بسبب تكذيبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وخروجه من بين أظهرهم، ولم يقل صنعت لأنه أراد أهل القرية، قال الفراء: كل الصفات أجريت على القرية إلا قوله يصنعون تنبيهاً على أن المراد في الحقيقة أهلها.
(ولقد جاءهم) يعني أهل مكة (رسول منهم) أي من جنسهم يعرفونه ويعرفون نسبه فأمرهم بما فيه نفعهم ونهاهم عما فيه ضررهم (فكذبوه) فيما جاء به (فأخذهم العذاب) النازل بهم من الله سبحانه (وهم) أي والحال أنهم في حال أخذهم العذاب لهم (ظالمون) لأنفسهم بإيقاعها في العذاب الأبدي ولغيرهم بالإضرار لهم وصدهم عن سبيل الله.
وهذا الكلام من تمام المثل الضروب وقيل أن المراد بالعذاب هنا هو الجوع الذي أصابهم، وقيل القتل يوم بدر والأول أولى.(7/327)
فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (114) إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (115) وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (116) مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (117) وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (118)
ثم لما وعظهم الله سبحانه بما ذكره من حال أهل القرية المذكورة أمرهم بأن يأكلوا مما زرقهم الله من الغنائم ونحوها وقال(7/328)
فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (114)
(فكلوا مما رزقكم الله حلالاً طيباً) جاء بالفاء للإشعار بأن ذلك متسبب عن ترك الكفر، والمعنى انكم لما آمنتم وتركتم الكفر فكلوا الحلال الطيب وهو الغنائم واتركوا الخبائث وهي الميتة والدم، قيل الخطاب للمسلمين، وبه قال جمهور المفسرين، وقيل للمشركين من أهل مكة حكاه الواحدي وغيره والأول أولى.
وقيل أن الفاء (فكلوا) داخلة على الأمر بالشكر، وإنما دخلت على الأمر بالأكل لأن الأكل ذريعة إلى الشكر (واشكروا نعمة الله) التي أنعم بها عليكم واعرفوا حقها (إن كنتم إياه تعبدون) ولا تعبدون غيره أو أن صح زعمكم أنكم تقصدون بعبادة الآلهة عبادة الله تعالى.(7/328)
إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (115)
(إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير و) حرم الله (ما أهلَّ) أي ما رفع الصوت (لغير الله به) سواء كان صنماً أو وثناً أو نصباً أو روحاً خبيثاً من جن أو روحاً طيباً من إنس كالنبي والولي والصالح، حياً كان أو ميتاً فهو حرام.(7/328)
وقد ورد في الحديث " ملعون من ذبح لغير الله " (1) سواء سمى الله عند ذبحه أو لم يسم لأن ما اشتهر لغيره سبحانه وتعالى ورفع به الصوت باسم الفلاني لا ينفع بعد ذلك ذكر الله تعالى عند ذبحه لأن هذا الحيوان قد انتسب إلى ذلك الغير، وحدث فيه من الخبث ما زاد على خبث الميتة فإنها لم يذكر عليها اسم الله وهذا الحيوان قد عين روحه لغير خالقه ثم ذبح له وهو الشرك بعينه وحين سرى هذا الخبث وأثر فيه لا يحل بحال وأن ذكر اسم الله عليه كما لو ذبح الكلب أو الخنزير على اسمه سبحانه وتعالى لا يحل.
والسر في ذلك إن نذر الروح لغير خالق الروح لا يجوز وإن كان حكم جميع المأكولات والمشروبات والأموال المنذورة للتقرب إلى غير الله سبحانه هكذا فإنها شرك وحرام، ولكن ثوابها الذي كان يعود إلى الناذر جاز جعله للغير كما جاز للإنسان أن يعطي ماله من شاء بخلاف روح الحيوان فإنه ليس بمملوك للإنسان حتى يعطيه لأحد غير الله، وإنما وجب الأجر في إنفاق المال لأن المال شيء ينتفع به في الحال.
ولما كان الموتى لا ينتفعون بعين المال جعل طريق إيصال النفع إليهم أن تجعل الأموال المعطاة لأهل الاستحقاق لهم فيعود ثوابها إليهم، وأما روح الحيوان فلا يصلح للانتفاع في حياة الإنسان فكيف بعد مماته ومضي الأزمان.
وأما الأضحية عن الميت التي ورد بها الحديث فمعناها أن الأجر الذي كاد يثبت في إزهاق الروح لله سبحانه وتعالى يعطى لذلك الميت لا أنه يذبح لأجله ويرفع به الصوت للتقرب إليه.
وهذه الآية الكريمة جاءت في أربعة مواضع من التنزيل ومعناها ما رفع به الصوت لغير الله لا ما ذبح باسم غير الله، فمن رفع الصوت بحيوان لغيره
_________
(1) أحمد بن حنبل 1/ 217.(7/329)
تعالى ثم ذكر اسم الله عند ذبحه لا ينجع له هذا الذكر شيئاً ولا يأتي بفائدة ولا يعود بعائدة ولا يحل أكله بهذا الذكر عند الذبح. وإنما الإهلال في لغة العرب بمعنى رفع الصوت لا بمعنى الذبح.
كيف ولم يرد به عرف ولا وقع في شعر قط، هذه كتب اللسان العربي ودفاتر اللغات على وجه البسيطة ليس في أحد منها الإهلال بمعنى الذبح، وإنما يقال الإهلال لرؤية الهلال ولبكاء الطفل وللتلبية بالحج لا للذبح، فليس معنى أهللت لله ذبحت له، في القاموس استهل الصبي رفع صوته بالبكاء كأهلَّ وكذا كل متكلم رفع صوته أو خفض، وأهلَّ نظر إلى الهلال والملبي رفع صوته بالتلبية.
وقال الجوهري: استهل الصبي أي صاح عند الولادة وأهلَّ المعتمر إذا رفع صوته بالتلبية وأهل بالتسمية على الذبيحة، وقوله تعالى (وما أهلَّ لغير الله به) أي نودي عليه بغير اسم الله، وأصله رفع الصوت انتهى.
ولو سلم إن معناه ذبح لغير الله فأين هذا من معنى ذبح باسم غير الله حتى تنتهض به الحجة، فالقول بأن الإهلال في هذه الآية ونظائرها بمعنى الذبح وغير الله بمعنى اسم غير الله يقرب بتحريف كلامه سبحانه وتعالى حاشاه عن ذلك.
وقد حكى النظام النيسابوري في تفسيره إجماع أهل العلم على أن ذبيحة المسلم التي قصد بذبحها التقرب إلى غير الله ذبيحة مرتد، وقد صار هو مرتداً أيضاً وكان الكفار في الجاهلية إذا خرجوا من ديارهم رفعوا الأصوات بأسماء الأصنام في الطرق والشوارع وإذا وصلوا إلى مكة المكرمة طافوا الكعبة مع أن طوافهم هذا لم يكن يقبل عند الله ولهذا نزل قوله تعالى: (فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا).
فكذلك فيما نحن فيه إذا رفع أحد الصوت بحيوان أنه لفلان أو لأجله أو(7/330)
يذبح له ثم ذكر عليه اسم الله عند الذبح فهاهنا لا تترتب عليه الحليّة أصلاً، نعم أن يغير النية ويبدل الأمنية ويزيل قصد التقرب به إلى غير الله، ويرفع به الصوت خلاف ما رفع به أولاً ويقول تبت عنه، ثم يذبح ويذكر عليه اسم الله تعالى يحل أكله.
وإذا تقرر لك أن الإهلال بمعنى رفع الصوت في اللغة لا بمعنى الذبح علمت أن الذي فسره بالذبح قد غلط غلطاً بيناً أو تجوّز ولا يصار إلى المجاز إلا عند تعدد الحقيقة أو تأول رفع الصوت بالذبح بناء على سبب النزول وإنما العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
وقد فسرنا الإهلال في البقرة والمائدة والأنعام بما فسر به جمهور المفسرين وهو تسامح سبق به القلم، وإنما الحق في المقام تفسيره برفع الصوت وإلغاء قيد الذبح ليتناول النظم الكريم كل حيوان رفع به الصوت لغير الله سبحانه وتعالى سواء ذبح باسم الله أو باسم غيره، وعليه تدل اللغة العربية وهي الأصل المقدم في تفسير كلام الله العزيز على الجميع ما لم يعارضه نص مقدم أو ناقل مرجح أو دليل مساو، والذي فسرنا به الآية هنا قد فسرها به الشيخ عبد العزيز المحدث الدهلوي رحمه الله في تفسيره وهو الصواب وبالله التوفيق.
ثم ذكر الله سبحانه الرخصة في تناول شيء مما ذكر فقال (فمن اضطر) أي دعته ضرورة المخمصة إلى تناول شيء من ذلك حال كونه (غير باغ) على مضطر آخر (ولا عاد) متعد قدر الضرورة وسد الرمق (فإن الله غفور رحيم) لا يؤاخذه بذلك، وقيل معناه غير باغ على الوالي ولا متعد على الناس بالخروج لقطع الطريق، فعلى هذا لا يباح تناول شيء من المحرمات في سفر المعصية.
ثم زيف طريقة الكفار في الزيادة على هذه المحرمات كالبحيرة والسائبة وفي النقصان عنها كتحليل الميتة والدم فقال:(7/331)
وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (116)
(ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام).(7/331)
قال الكسائي والزجاج (ما) مصدرية، والكذب منتصب بلا تقولوا أي لا تقولوا الكذب لأجل وصف ألسنتكم، ومعناه لا تحللوا، ولا تحرموا لأجل قول تنطق به ألسنتكم من غير حجة، وقيل (ما) موصولة والكذب منتصب بتصف أي لا تقولوا للذي تصف ألسنتكم الكذب فيه؛ فحذف لفظ فيه لكونه معلوماً فيكون هذا حلال وهذا حرام بدلاً من الكذب.
قال مجاهد: في البحيرة والسائبة، وقيل يعني قولهم ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا من غير استناد ذلك الوصف إلى الوحي.
وقيل في الكلام حذف بتقدير القول أي فتقول هذا حلال وهذا حرام أو قائلة هذا حلال وهذا حرام، وقيل لا تقولوا هذا حلال وهذا حرام لوصف ألسنتكم الكذب، وقرئ كذب بضم الثلاثة على أنه نعت للألسنة، وقرئ ككتف نعتاً لما أو بدلاً منها، ولا تقولوا الكذب الذي تصفه ألسنتكم هذا حلال وهذا حرام.
عن أبي نضرة قال: قرأت هذه الآية في سورة النحل فلم أزل أخاف الفتيا إلى يومي هذا.
قلت صدق رحمه الله فإن هذه الآية تتناول بعموم لفظها فتياً من أفتى بخلاف ما في كتاب الله أو في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم كما يقع كثيراً من المؤثرين للرأي المقدمين له على الرواية أو الجاهلين لعلم الكتاب والسنة كالمقلدة وأنهم لحقيقون بأن يحال بينهم وبين فتاواهم ويمنعوا من جهالاتهم، فإنهم أفتوا بغير علم من الله ولا هدى ولا كتاب منير فضلوا وأضلوا فهم ومن يستفتيهم كما قال القائل:(7/332)
كبهيمة عمياء قاد زمامها ... أعمى على عوج الطريق الحائر
وأخرج الطبراني عن ابن مسعود قال: عسى رجل يقول إن الله أمر بكذا أو نهى عن كذا، فيقول الله عز وجل كذبت، أو يقول إن الله حرم كذا أو أحل كذا فيقول الله له كذبت.
(لتفتروا) اللام هي لام العاقبة لا لام الغرض، أي فيتعقب ذلك افتراؤكم (على الله الكذب) بالتحليل والتحريم وإسناد ذلك إليه من غير أن يكون منه.
(إن الذين يفترون على الله الكذب) أي افتراء كان (لا يفلحون) بنوع من أنواع الفلاح والفوز بالمطلوب لا في الدنيا ولا في الآخرة بدليل ما بعده(7/333)
مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (117)
(متاع قليل) قال الزجاج: متاعهم متاع قليل، وقيل لهم متاع قليل (ولهم عذاب أليم) يردون إليه في الآخرة.
ثم خص محرمات اليهود بالذكر فقال(7/333)
وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (118)
(على الذين هادوا) أي على اليهود خاصة دون غيرهم (حرمنا ما قصصنا عليك) بقولنا حرمنا عليهم كل ذي ظفر ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما. الآية.
(من قبل) متعلق بقصصنا أو بحرمنا. قال الحسن: يعني في سورة الأنعام؛ وعن قتادة مثله وقال حيث يقول: (وعلى الذين هادوا -إلى قوله- وإنا لصادقون) وتحريم الشيء إما لضرر فيه وإما لبغي المحرم عليهم، فقوله إنما حرم عليكم الخ، إشارة للقسم الأول وهذا إشارة للقسم الثاني.
(وما ظلمناهم) بذلك التحريم بل جزيناهم ببغيهم (ولكن كانوا أنفسهم يظلمون) حيث فعلوا أسباب ذلك فحرمنا عليهم تلك الأشياء عقوبة لهم. ثم بين سبحانه أن الافتراء على الله سبحانه ومخالفة أمره لا يمنعهم من التوبة وحصول المغفرة فقال:(7/333)
ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (119) إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120) شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (121) وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (122) ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (123)(7/334)
ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (119)
(ثم إن ربك للذين عملوا السوء بجهالة) أي متلبسين بجهالة، أي جاهلين غير عارفين بالله وبعقابه أي غير متدبرين للعاقبة لغلبة الشهوة عليهم، وعن السلف كل من عصى الله فهو جاهل، ولا يصدر العمل السوء إلا من الجاهل بالعاقبة، لأن العاقل لا يرضى بفعل القبيح، وفيه بيان سعة مغفرته ورحمته لأن السوء لفظ جامع لكل فعل قبيح، فيدخل تحته الكفر وسائر المعاصي، وقد تقدم تفسير هذه الآية في سورة النساء.
(ثم تابوا من بعد ذلك) أي من بعد عملهم للسوء، وفيه تأكيد، فإن " ثم " قد دلت على البعدية فأكدها بزيادة ذكر البعدية (وأصلحوا) أعمالهم التي كان فيها فساد بالسوء الذي عملوه؛ ثم كرر ذلك تأكيداً وتقريراً فقال (إن ربك من بعدها) أي من بعد التوبة (لغفور) كثير الغفران (رحيم) أي واسع الرحمة.
ولما فرغ سبحانه من دفع شبه المشركين وإبطال مطاعنهم، وكان إبراهيم عليه السلام من الموحدين، وهو قدوة كثير ممن ذكره الله في آخر هذه السورة قال(7/334)
إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120)
(إن إبراهيم كان أمّة) قال ابن الأعرابي: يقال للرجل العالم أمة، والأمة الرجل الجامع للخير.
قال الواحدي: قال أكثر المفسرين معنى الأمة المعلم للخير وبه قال ابن(7/334)
مسعود، وعلى هذا فمعنى كون إبراهيم أمة أنه كان معلماً للخير أو جامعاً لخصال الخير أو عالماً بما علمه الله من الشرائع.
وقيل أنه كان مؤمناً وحده والناس كلهم كفار، فلهذا المعنى كان أمة وحده ومنه قوله صلى الله عليه وسلم في زيد بن عمرو بن نفيل: " يبعثه الله أمة وحده لأنه كان فارق الجاهلية ". قال مجاهد: قيل بمعنى مأموم أي الذي يؤمه الناس ليأخذوا منه الخير كما قال تعالى (إني جاعلك للناس إماماً). وحكى ابن الجوزي عن ابن الأنباري أنه قال: أن هذا مثل قول العرب فلان رحمة وعلامة ونسابة يقصدون بهذا التأنيث التناهي في المعنى الذي يصفونه به، والعرب توقع الأسماء المبهمة على الجماعة وعلى الواحد، كقوله فنادته الملائكة، وإنما ناداه جبريل وحده، وإنما سمي إبراهيم أمة لأنه اجتمع فيه من صفات الفضل وسمات الخير والأخلاق الحميدة ما اجتمع من أمة.
ليس على الله بمستنكر ... أن يجمع العالم في واحد
(قانتاً لله) أي مطيعاً له قائماً بأوامره. قال ابن مسعود: هو الذي يطيع الله ورسوله. وعن ابن عباس قال: كان على الإسلام ولم يكن في زمانه من قومه أحد على الإسلام غيره فذلك ما قاله الله (كان أمة قانتاً لله).
وعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " ما من عبد تشهد له أمة إلا قبل الله شهادتهم، والأمة الرجل فما فوقه، إن الله يقول إن إبراهيم كان أمة " أخرجه ابن مردويه وقد تقدم معنى القنوت في البقرة.
(حنيفاً) الحنيف المائل عن الأديان الباطلة إلى دين الحق، أي مسلماً(7/335)
مقيماً على دين الإسلام وقد تقدم بيانه في الأنعام (ولم يك من المشركين) بالله كما تزعمه كفار قريش أنه كان على دينهم الباطل، بل كان من الموحدين المخلصين لله تعالى من صغره إلى كبره.(7/336)
شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (121)
(شاكراً لأنعمه) التي أنعم الله بها عليه وإن كانت قليلة، كما يدل عليه جمع القلة، فهو شاكر لما كثر منها بالأولى (أجتباه) أي اختاره للنبوة واختصه بها (وهداه إلى صراط مستقيم) وهو ملة الإسلام ودين الحق.(7/336)
وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (122)
(وآتيناه في الدنيا حسنة) أي خصلة حسنة أو حالة حسنة، قيل هي الولد الصالح وقيل الثناء الجميل وقيل النبوة وقيل الصلاة منا عليه في التشهد، وقيل لسان الصدق وقيل القبول العام في جميع الأمم فإنه يتولاه جميع أهل الأديان ويثنون عليه ولا يكفر به أحد ورزقه أولاداً طيبة وعمراً طويلاً في السعة والطاعة، ولا مانع أن يكون ما آتاه الله شاملاً لذلك كله ولما عداه من خصال الخير، وفيه التفات عن الغيبة ونكتة الالتفات زيادة الاعتناء بشأنه عليه السلام.
(وإنه في الآخرة لمن الصالحين) أي في أعلى مقاماتهم في الجنة، وقيل من بمعنى مع، وهذا حسبما وقع منه السؤال لربه حيث قال (وألحقني بالصالحين واجعل لي لسان صدق في الآخرين واجعلني من ورثة جنة النعيم) اللهم إني أسألك إن تجعلني ممن يصدق عليه هذا الدعاء وإني من ذرية خليلك إبراهيم وما ذلك عليك بعزيز وآتني في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقني عذاب النار إنك أنت التواب الرحيم.
وحاصل ما ذكر من الصفات هنا تسعة بل عشرة إذ قوله سبحانه(7/336)
ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (123)
(ثم أوحينا إليك) يا محمد مع علو درجتك وسمو منزلتك وكونك سيد ولد آدم يرجع لوصف إبراهيم وتعظيمه بأن محمداً أمر باتباعه (أن) مفسرة أو مصدرية (اتبع ملة إبراهيم) أي دينه وأصل الملة اسم لما شرعه الله لعباده على لسان(7/336)
نبي من أنبيائه من أمللت الكتاب إذا أمليته وهو الدين بعينه، لكن باعتبار الطاعة له وتحقيق ذلك أن الوضع الإلهي مهما نسب إلى من يؤديه عن الله تعالى يسمى ملة، ومهما نسب إلى من يقيمه ويعمل به يسمى ديناً.
قال الراغب: الفرق بينهما إن الملة لا تضاف إلا إلى النبي ولا تكاد توجد مضافة إلى الله ولا إلى آحاد الأمة، ولا تستعمل إلا في جملة الشرائع دون آحادها والمراد بملته الإسلام الذي عبر عنه آنفاً بالصراط المستقيم.
وقيل والمراد اتباعه صلى الله عليه وسلم ولملته عليه السلام في التوحيد والدعوة إليه، وقال ابن جرير: في التبري من الأوثان والتدين بدين الإسلام، وقيل في مناسك الحج، وقيل في الأصول دون الفروع. وقال أبو السعود في الأصول والعقائد وأكثر الفروع دون الشرائع المتبدلة بتبدل الإعصار انتهى. وقيل في جميع شريعته إلا ما نسخ، وهذا هو الظاهر.
وفي الكرخي: إنما جاز اتباع الأفضل المفضول لسبقه إلى القول والعمل به، قال القرطبي وفي هذه الآية دليل على جواز اتباع الأفضل للمفضول فيما يؤدي إلى الصواب ولا درك على الفاضل في ذلك، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أفضل الأنبياء عليهم السلام وقد أمر بالاقتداء بالأنبياء مع كونه سيدهم فقال تعالى (فبهداهم اقتده)
(حنيفا) حال من إبراهيم، وجاز مجيء الحال منه لأن الملة كالجزء منه، وقد تقرر في علم النحو أن الحال من المضاف إليه جائز إذا كان يقتضي المضاف العمل في المضاف إليه أو كان جزء أو كالجزء من حيث صحة الاستغناء بالثاني عن الأول، إذ يصح أن يقال أن اتبع إبراهيم حنيفاً.
(وما كان من المشركين) تكرير لما سبق للنكتة التي ذكرناها، أي كرر رداً على زعم المشركين أنهم على دينه.(7/337)
إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (124) ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125) وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (126) وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (127) إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128)(7/338)
إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (124)
(إنما جعل السبت) أي وبال السبت وهو المسخ في زمن داود عليه السلام أو فرض تعظيم السبت وترك الصيد فيه (على الذين اختلفوا فيه) وهم اليهود لا على غيرهم من الأمم.
وقد اختلف العلماء في كيفية الاختلاف الكائن بينهم في السبت، فقالت طائفة أن موسى أمرهم بيوم الجمعة وعينه لهم وأخبرهم بفضيلته على غيره فخالفوه وقالوا أن السبت أفضل، فقال الله له دعهم وما اختاروا لأنفسهم.
وقيل أن الله أمرهم بتعظيم يوم في الأسبوع فاختلف اجتهادهم فيه فعينت اليهود السبت لأن الله سبحانه فرغ فيه من الخلق؛ وعينت النصارى يوم الأحد لأن الله بدأ فيه الخلق، فألزم الله كُلاًّ منهم ما أدى إليه اجتهاده وعين لهذه الأمة الجمعة من غير أن يكلمهم إلى اجتهادهم فضلاً منه ونعمة.
ووجه اتصال هذه الآية بما قبلها أن اليهود كانوا يزعمون أن السبت من شرائع إبراهيم عليه السلام، فأخبر الله سبحانه أنه إنما جعل السبت على الذين اختلفوا فيه ولم يجعله على إبراهيم ولا على غيره، وإنما شرع ذلك لبني إسرائيل بعد مدة طويلة.(7/338)
قال الواحدي: هذا مما أشكل على كثير من المفسرين حتى قال بعضهم معنى الاختلاف في السبت أن بعضهم قال هو أعظم الأيام حرمة وقال آخرون الأحد أفضل؛ وهذا غلط لأن اليهود لم يكونوا فرقتين في السبت وإنما اختار الأحد النصارى بعدهم بزمان طويل.
وعن مجاهد في الآية قال: أراد الجمعة فأخذوا السبت مكانها، وعن أبي مالك وسعيد بن جبير في الآية قالا باستحلالهم إياه، رأى موسى عليه السلام رجلاً يحمل حطباً يوم السبت فضرب عنقه.
وفي الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " نحن الآخرون السابقون يوم القيامة، بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا وأوتيناه من بعدهم، ثم هذا يومهم الذي فرض عليهم يعني الجمعة فاختلفوا فيه فهدانا الله له فالناس لنا فيه تبع، اليهود غداً والنصارى بعد غد " (1) وأخرج مسلم وغيره من حديث حذيفة نحوه. (وإن ربك ليحكم بينهم) أي بين المختلفين فيه (يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون) فيجازى فيه كُلاًّ بما يستحقه ثواباً وعقاباً كما وقع منه سبحانه من المسخ لطائفة منهم والتنجية لأخرى.
ثم أمر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم أن يدعو أمته إلى الإسلام فقال
_________
(1) مسلم 855 - البخاري 177.(7/339)
ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125)
(ادع إلى سبيل ربك) وحذف المفعول للتعميم لكونه بعث إلى الناس كافة أو المعنى افعل الدعاء والأول أولى وكأن المعنى وخاطب الناس في دعائك لهم وسبيل الله هو الإسلام (بالحكمة) أي بالمقالة المحكمة الصحيحة الموضحة للحق المزيلة للشبهة والشك، قيل وهي الحجج القطعيّة المفيدة لليقين وقيل القرآن وقيل النبوة.
(والموعظة الحسنة) وهي المقالة المشتملة على الموعظة الحسنة التي(7/339)
يستحسنها السامع وتكون في نفسها حسنة باعتبار انتفاع السامع بها قيل هي الحجج الظنية الإقناعية الموجبة للتصديق بمقدمات مقبولة قيل وليس للدعوة إلا هاتان الطريقتان.
ولكن الداعي قد يحتاج مع الخصم الألدّ إلى استعمال المعارضة والمناقضة ونحو ذلك من الجدل ولهذا قال سبحانه (وجادلهم بالتي هي أحسن) أي بالطريق التي هي أحسن طرق المجادلة من الرفق واللين من غير فظاظة ولا تعنيف وإيثار الوجه الأيسر والمقدمات التي هي أشهر فإن ذلك أنفع في تسكين شرهم وهو ردّ على من يأبى المناظرة في الدين وإنما أمر سبحانه بالمجادلة الحسنة لكون الداعي محقاً وغرضه صحيحاً وكان خصمه مبطلاً وغرضه فاسداً.
قيل أن الناس خلقوا وجبلوا على ثلاثة أقسام:
الأول: هم العلماء وهم المشار إليهم بقوله: (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة).
والثاني: هم أصحاب النظر السليم والخلقة الأصلية وهم غالب الناس وهم المشار إليهم بقوله (والموعظة الحسنة).
والثالث: هم أصحاب جدال وخصام ومعاندة وهم المشار إليهم بقوله وجادلهم الخ، وقال مجاهد في الآية أعرض عن أذاهم إياك ولا تقصر في تبليغ الرسالة، وعلى هذا فالآية منسوخة بآية السيف، قال بعضهم لا حاجة إلى دعوى النسخ إذ الأمر بالمجادلة ليس فيه تعريض للنهي عن المقاتلة.
(إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله) لما حث سبحانه على الدعوة بالطرق المذكورة بين أن الرشد والهداية ليس إلى النبي صلى الله عليه وسلم وإنما ذلك إلى الله تعالى وهو الأعلم بمن يضل.
(وهو أعلم بالمهتدين) أي بمن يبصر الحق فيقصده غير متنعت، وإنما شرّع لك الدعوة وأمرك بها قطعاً للمعذرة وتتميماً للحجة وإزاحة للشبهة وليس(7/340)
عليك غير ذلك، وفي إيثار الفعلية في الضالين والإسمية في مقابليهم إشارة إلى أنهم غيّروا الفطرة وبدّلوها بإحداث الضلال ومقابلوهم استمروا عليه وتقديم أرباب الضلال لأن الكلام وارد فيهم.
ثم لما كانت الدعوة تتضمن تكليف المدعوين بالرجوع إلى الحق فإن أبوا قوتلوا، أمر الداعي بأن يعدل في العقوبة فقال(7/341)
وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (126)
(وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به) أي بمثل ما فعل بكم لا تجاوزوا ذلك.
قال ابن جرير: نزلت هذه الآية فيمن أصيب بظلامة أن لا ينال من ظالمه إذا تمكن إلا مثل ظلامته لا يتعداها إلى غيرها ونحوه في البيضاوي، وهذا صواب لأن الآية وإن قيل أن لها سبباً خاصاً كما سيأتي فالاعتبار بعموم اللفظ وعمومه يؤدي هذا المعنى الذي ذكره، وسمى سبحانه الفعل الأول الذي هو فعل البادئ بالشر عقوبة مع أن العقوبة ليست إلا فعل الثاني وهو المجازي، للمشاكلة وهي باب معروف وقع في كثير من الكتاب العزيز.
ثم حث سبحانه على العفو فقال (ولئن صبرتم) عن العاقبة بالمثل وعن الانتقام بتركه بالكلية (لهو) بضم الهاء وسكونها قراءتان سبعيتان أي فالصبر (خير للصابرين) من الانتصاف ووضع الصابرين موضع الضمير ثناء من الله عليهم بأنهم صابرون على الشدائد.
وقد ذهب الجمهور إلى أن هذه الآية محكمة لأنها واردة في الصبر عن المعاقبة والثناء على الصابرين على العموم، وفي تعليم حسن الأدب في كيفية استيفاء الحقوق والقصاص وترك التعدي وهو طلب الزيادة، وهذه الأشياء لا تكون منسوخة ولا تدلق لها بالنسخ، وقيل هي منسوخة بآيات القتال وبه قال ابن عباس والضحاك ولا وجه لذلك.
أخرج الترمذي وحسنه والنسائي وابن حبان والطبراني والحاكم وصححه والبيهقي وغيرهم عن أبي بن كعب قال: لما كان يوم أحد أصيب من الأنصار أربعة وستون رجلاً ومن المهاجرين ستة منهم حمزة فمثلوا بهم فقالت الأنصار:(7/341)
لئن أصبنا منهم يوماً مثل هذا لنربين عليهم، فلما كان يوم فتح مكة أنزل الله تعالى (وإن عاقبتم) الآية فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " نصبر ولا نعاقب: كفوا عن القوم إلا أربعة " (1)
وأخرج الطبراني والحاكم وصححه والبيهقي وغيرهم عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم وقف على حمزة حيث استشهد فنظر إلى منظر لم ينظر إلى شيء قط كان أوجع لقلبه منه ونظر إليه قد مثل به فقال " رحمة الله عليك فإنك كنت ما علمت وصولاً للرحم فعولاً للخير، ولولا حزن من بعدك عليك لسرني أن أتركك حتى يحشرك الله من أرواح شتى، أما والله لأمثلن بسبعين منهم مكانك " فنزل جبريل والنبي صلى الله عليه وسلم واقف بخواتيم سورة النحل (وإن عاقبتم) الآية فكفر النبي صلى الله عليه وسلم عن يمينه وأمسك عن الذي أراد وصبر، وعن ابن عباس مرفوعاً نحوه أخرجه الطبراني وابن المنذر وغيرهما (2).
وهذا القول من النبي صلى الله عليه وسلم كأنه كان باجتهاد منه وعليه فلينظر هل قوله تعالى (ولئن صبرتم) الخ نسخ لهذا الاجتهاد أو تنبيه على خطئه تأمل، وعنه قال هذا حين أمر الله نبيه أن يقاتل من قاتله ثم نزلت براءة وانسلاخ الأشهر الحرم فهذا منسوخ.
ثم أمر سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم بالصبر فقال
_________
(1) المستدرك كتاب التفسير 2/ 359.
(2) المستدرك كتاب حمزة 3/ 197.(7/342)
وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (127)
(واصبر) على ما أصابك من صنوف الأذى (وما صبرك إلا بالله) أي بتوفيقه وتثبيته؛ والاستثناء مفرغ من أعم الأشياء أي وما صبرك مصحوباً بشيء من الأشياء إلا بتوفيقه لك، وفيه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم ثم نهاه عن الحزن فقال (ولا تحزن عليهم) أي على الكافرين في إعراضهم عنك واستحقاقهم للعذاب الدائم أو لا تحزن على قتلى أحد فإنهم قد أفضوا إلى رحمة الله.(7/342)
(ولا تك في ضيق) أي ضيق صدر قرئ بفتح الضاد وكسرها وهما سبعيتان قال ابن السكيت هما سواء، وقال الفراء: الضيق بالفتح ما ضاق عنه صدرك وبالكسر ما يكون في الذي يتسع كالدار والثوب وكذا قال الأخفش: وهو من الكلام المقلوب لأن الضيق وصف للإنسان يكون فيه ولا يكون الإنسان فيه وكأنه أراد وصف الضيق بالعظم حتى صار كالشيء المحيط بالإنسان من جميع جوانبه.
وقال هنا: (تك) بحذف النون ليكون ذلك مبالغة في التسلية وأثبتها في النمل على القياس ولأن الحزن ثم دون الحزن هنا وإلى ذلك أشار في التقرير (مما يمكرون) أي من مكرهم بك فيما يستقبل من الزمان و (ما) مصدرية أو بمعنى الذي.
ثم ختم هذه السورة بآية جامعة لجميع المأمورات والمنهيات فقال(7/343)
إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128)
(إن الله مع الذين اتقوا) المعاصي على اختلاف أنواعها، وقيل اتقوا المثلة والزيادة في القصاص وسائر المناهي والعموم أولى وهذه المعية بالعون والفضل والرحمة.
(والذين هم محسنون) بتأدية الطاعات والقيام بما أمروا به منها أو بالعفو عن الجاني، وقيل المعنى محسنون في أصل الانتقام، فيكون الأول إشارة إلى قوله (فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به) والثاني إشارة إلى قوله (ولئن صبرتم لهو خير للصابرين) وقيل الذين اتقوا إشارة إلى التعظيم لأمر الله والذين هم محسنون إشارة إلى الشفقة على عباد الله تعالى.
وعن الحسن قال؛ اتقوا فيما حرم عليهم وأحسنوا فيما افترض عليهم، والعموم أولى، وقيل لهرم بن حيان عند الموت أَوصِ فقال: إنما الوصية في المال ولا مال لي ولكني أوصيك بخواتيم سورة النحل.(7/343)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الإسراء
وتسمى سورة سبحان وسورة الإسراء مائة وإحدى عشرة آية وهي مكية: وبه قال ابن عباس، وعن ابن الزبير مثله إلا ثلاث آيات، قوله: (وإن كادوا ليستفزونك) نزلت حين جاء رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وفد ثقيف وحين قالت اليهود ليست هذه بأرض الأنبياء وقوله: (رب أدخلني مدخل صدق) وقوله: (إن ربك أحاط بالناس) وزاد مقاتل قوله إن الذين أوتوا العلم من قبله وقيل الآيات الثمان.
وعن ابن مسعود قال في هذه والكهف ومريم إنهن من العتاق الأول وهن من تلادي، وعن عائشة قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يقرأ كل ليلة بني إسرائيل والزمر.(7/345)
بسم الله الرحمن الرحيم
سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1) وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا (2) ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا (3)(7/347)
سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1)
(سبحان) هو مصدر سماعي لسبح المشدد أو اسم مصدر، يقال سبح يسبح تسبيحاً وسبحاناً أو مصدر قياسي لسبح المخفف، فإنه يقال سبح في الماء، ومعناه التنزيه والبعد والبراءة لله سبحانه من كل نقص وسوء، وعلى كل فهو علم جنس للتنزيه والتقديس.
وقال سيبويه: العامل فيه فعل لا من لفظه، والتقدير أنزه الله تنزيهاً، فوقع سبحان مكان تنزيهاً فهو على هذا مثل قعد القرفصاء واشتمل الصماء، وقيل هو علم للتسبيح كعثمان للرجل أي أسبح الله سبحان ثم نزل منزلة الفعل وسدّ مسده ودل على التسبيح البليغ والتنزيه الكامل ولذا لا يستعمل إلا فيه تعالى.
(الذي أسرى بعبده) الإسراء قيل هو سير الليل يقال سرى وأسرى كسقى وأسقى لغتان بمعنى سار في الليل وهما لازمان لكن مصدر الأول الإسراء ومصدر الثاني سرى بضم السين كهدى فالهمزة ليست للتعدية إلى المفعول وإنما جاءت التعدية هنا من الباء ومعنى أسرى به صيّره سارياً في الليل، وقيل هو سير أول الليل خاصة.
وإذا كان الإسراء لا يكون إلا في الليل فلا بد للتصريح بذكر الليل بعده من فائدة، فقيل أراد بقوله (ليلاً) تقليل مدة الإسراء وإنه أسرى به في بعض الليل(7/347)
من مكة إلى الشام مسافة أربعين ليلة، ووجه دلالة ليلاً على تقليل المدة ما فيه من التنكير الدال على البعضية بخلاف ما إذا قلت سريت الليل فإنه يفيد استيعاب السير له جميعاً.
وقد استدل صاحب الكشاف على إفادة ليلاً للبعضية بقراءة عبد الله وحذيفة من الليل أي في جزء من الليل، قيل قدر أربع ساعات، وقيل ثلاث وقيل أقل من ذلك، والتقليل والتبعيض متقاربان، فاستعمل في التبعيض ما هو للتقليل وقال الزجاج: معنى الآية سيَّر عبده يعني محمداً صلى الله عليه وسلم ليلاً وعلى هذا معنى أسرى سيَّر فيكون للتقييد بالليل فائدة.
وقد أجمع المفسرون والعلماء والمتكلمون على أن المراد بالعبد محمد صلى الله عليه وسلم لم يختلف أحد من الأمة في ذلك وقال بعبده ولم يقل بنبيه أو برسوله أو بمحمد تشريفاً له صلى الله عليه وسلم.
قال أهل العلم: لو كان غير هذا الاسم أشرف منه لسماه الله سبحانه به في هذا المقام العظيم والحالة العلية.
أصم إذا نوديت باسمي وإنني ... إذا قيل لي يا عبدها لسميع
غيره
لا تدعني إلا بيا عبدها ... فإنه أشرف أسمائي
عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم ليلة سبع عشرة من شهر ربيع الأول قبل الهجرة بسنة. وعن ابن شهاب قال: أسري به إلى بيت المقدس قبل خروجه إلى المدينة بسنة. وعن عروة نحوه. وقال السدي قبل مهاجره بستة عشر شهراً.
(من المسجد الحرام) قال الحسن وقتادة: يعني المسجد نفسه، وهو ظاهر
القرآن، وقال عامة المفسرين أسري به صلى الله عليه وسلم من دار أم هانئ،(7/348)
فحملوا المسجد الحرام على مكة أو الحرم لإحاطة كل واحد منهما بالمسجد الحرام أو لأن الحرم كله مسجد.
وفي حديث مالك بن صعصعة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " بينا أنا في المسجد الحرام في الحجر " وذكر حديث المعراج بكماله ومن ابتدائية ثم ذكر سبحانه الغاية التي أسرى برسول الله صلى الله عليه وسلم إليها فقال (إلى المسجد الأقصى) وهو بيت المقدس، وسمي الأقصى لبعد المسافة بينه وبين المسجد الحرام فهو أبعد بالنسبة إلى من بالحجاز وفي تاريخ القدس أنه سمي به لأنه أبعد المساجد التي تزار من المسجد، وقيل لبعده عن الأقذار والخبائث، وقيل لأنه لم يكن حينئذ وراءه مسجد، وفي ذلك من تربية معنى التنزيه والتعجب ما لا يخفى.
وأول من بناه آدم بعد أن بنى الكعبة بأربعين سنة كما في المواهب. فهو أول مسجد بني في الأرض بعد الكعبة، وتمام حاله في كتابنا لقطة العجلان فيما تمس إلى معرفته حاجة الإنسان.
وكان الإسراء به ببدنه في اليقظة وكان قبلها في المنام كما أنه رأى فتح مكة سنة ست وتحقق منه سنة ثمان، والحكمة في إسرائه إلى بيت المقدس دون العروج به من مكة لأنه محشر الخلائق فيطؤه بقدمه ليسهل على أمته يوم القيامة وقوفهم ببركة أثر قدمه أو لأنه مجمع أرواح الأنبياء، فأراد أن يشرفهم بزيارته صلى الله عليه وآله وسلم، أو ليخبر الناس بصفاته فيصدقوه في الباقي، قاله الكرخي والوجه الأخير أظهر والله أعلم.
ثم وصف السجد الأقصى بقوله (الذي باركنا حوله) بركة دنيوية وهي ليست إلا حول الأقصى، وأما في الداخل فالبركة في كل من المسجدين بل هي في الحرام أتم، وهي كثرة الثواب بالعبادة فيهما، وعبارة الخازن يعني بالثمار والأنهار والأشجار أو بالأنبياء والصالحين لأنه قبلتهم قبل نبينا صلى الله عليه وسلم وسماه(7/349)
مباركاً لأنه مقر الأنبياء ومهبط الملائكة والوحي، وإليه تحشر الخلق يوم القيامة، فقد بارك الله سبحانه حول المسجد الأقصى ببركات الدنيا والآخرة.
قال السدي: المعنى أنبتنا حوله الشجر وجعل الإسراء إليه كالتوطئة لمعراجه إلى السماء.
ثم ذكر العلة التي أسرى به لأجلها فقال (لنريه من آياتنا) أي ما أراه الله سبحانه في تلك الليلة من العجائب التي من جملتها قطع هذه المسافة الطويلة في جزء من الليل، ومن تبعيضية وإنما أتى بها تعظيماً لآيات الله، فإن الذي رآه صلى الله عليه وسلم وإن كان جليلاً عظيماً فهو بعض بالنسبة إلى آيات الله تعالى وعجائب قدرته وجليل حكمته، قاله أبو شامة والرؤية هنا بصرية وقيل قلبية، وإليه نحا ابن عطية.
(إنه) سبحانه (هو السميع) بكل مسموع، ومن جملة ذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم (البصير) بكل مبصر، ومن جملة ذلك ذات رسوله وأفعاله، قيل في هذه الآية أربعة التفاتات، وذلك أنه التفت أولاً من الغيبة في قوله الذي أسرى بعبده إلى التكلم في قوله باركنا حوله.
ثم التفت ثانياً من التكلم في باركنا إلى الغيبة في ليريه على قراءة الحسن بالياء، ثم التفت ثالثاً من هذه الغيبة إلى التكلم في آياتنا، ثم التفت رابعاً من هذا التكلم إلى الغيبة في قوله أنه هو على الصحيح في الضمير (إنه) لله تعالى.
وأما على قول نقله أبو البقاء أن الضمير في أنه هو للنبي صلى الله عليه وسلم فلا يجيء ذلك، ويكون في قراءة العامة التفات واحد وفي قراءة الحسن ثلاثة، وهذا موضع غريب، وأكثر ما ورد الالتفات ثلاث مرات على ما قال الزمخشري في قول امرئ القيس:
تطاول ليلك بالإثمد (الأبيات)(7/350)
وقيل فيها خمسة التفاتات، والخامس الالتفات من قوله أنه هو إلى التكلم في قوله الآتي (وآتينا موسى).
وقد اختلف أهل العلم هل كان الإسراء بجسده صلى الله عليه وسلم مع روحه أو بروحه فقط، فذهب معظم السلف والخلف إلى الأول، وذهب إلى الثاني طائفة من أهل العلم منهم عائشة ومعاوية والحسن وابن إسحاق، وحكاه ابن جرير عن حذيفة بن اليمان.
وذهبت طائفة إلى التفصيل فقالوا كان الإسراء بجسده يقظة إلى بيت المقدس وإلى السماء بالروح، واستدلوا على هذا التفصيل بقوله إلى المسجد الأقصى فجعله غاية للإسراء بذاته صلى الله عليه وسلم فلو كان الإسراء من بيت المقدس إلى السماء وقع بذاته لذكره.
والذي دلت عليه الأحاديث الصحيحة الكثيرة هو ما ذهب إليه معظم السلف والخلف من الإسراء بجسده وروحه يقظة إلى بيت المقدس ثم إلى السماوات ولا حاجة إلى التأويل وصرف هذا النظم القرآني وما يماثله من ألفاظ الأحاديث إلى ما يخالف الحقيقة، ولا مقتضى لذلك إلا مجرد الاستبعاد وتحكيم محض العقول القاصرة عن فهم ما هو معلوم من أنه لا يستحيل عليه سبحانه شيء.
ولو كان ذلك مجرد رؤيا كما يقوله من زعم إن الإسراء كان بالروح فقط وأن رؤيا الأنبياء حق لم يقع التكذيب من الكفرة للنبي صلى الله عليه وسلم عند إخباره لهم بذلك حتى ارتد من ارتد ممن لم يشرح بالإيمان صدراً، فإن الإنسان قد يرى في نومه ما هو مستبعد بل ما هو محال ولا ينكر ذلك أحد.
وأما التمسك لمن قال بأن هذا الإسراء إنما كان بالروح على سبيل الرؤيا بقوله (وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس) فعلى تسليم أن المراد بهذه(7/351)
الرؤيا هو هذا الإسراء فالتصريح الواقع هنا بقوله سبحانه الذي أسرى بعبده ليلاً؛ والتصريح في الأحاديث الصحيحة الكثيرة بأنه أسرى به لا يقصر عن الاستدلال به على تأويل هذه الرؤيا الواقعة في الآية برؤية العين، فإنه قد يقال لرؤية العين رؤيا.
وكيف يصح حمل هذا الإسراء على الرؤيا مع تصريح الأحاديث الصحيحة بأن النبي صلى الله عليه وسلم ركب البراق، وكيف يصح وصف الروح بالركوب، وهكذا كيف يصح حمل الإسراء على الرؤيا مع تصريحه صلى الله عليه وسلم بأنه كان عند أن أسرى به بين النائم واليقظان، فالأولى ما ذهب إليه الجمهور إذ لا فضيلة للحالم ولا مزية للنائم.
وقد اختلف أيضاً في تاريخ الإسراء فروي أن ذلك كان قبل الهجرة إلى المدينة بسنة، وروي أن الإسراء كان قبل الهجرة بأعوام، ووجه ذلك أن خديجة صلت مع النبي صلى الله عليه وسلم وقد ماتت قبل الهجرة بخمس سنين، وقيل بثلاث، وقيل بأربع، ولم تفرض الصلاة إلا ليلة الإسراء وقد استدل بهذا ابن عبد البر على ذلك.
وقد اختلفت الرواية عن الزهري وممن قال بأن الإسراء كان قبل الهجرة بسنة. الزهري في رواية عنه، وكذلك الحربي فإنه قال: أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم ليلة سبع وعشرين من ربيع الأول قبل الهجرة بسنة.
وقال ابن القاسم في تاريخه: كان الإسراء بعد مبعثه بثمانية عشر شهراً، قال ابن عبد البر: لا أعلم أحداً من أهل السير قال بمثل هذا، وروي عن الزهري أنه أسري به قبل مبعثة بسبعة أعوام، وروي عنه أنه قال: كان قبل مبعثه بخمس سنين، وروى يونس عن عروة عن عائشة أنها قالت: توفيت خديجة قبل أن تفرض الصلاة.(7/352)
واعلم أنه قد أطال كثير من المفسرين كابن كثير والسيوطي وغيرهما في هذا الموضع بذكر الأحاديث الواردة في الإسراء على اختلاف ألفاظها وما يتعلق بها من الأحكام وما قال أهل العلم فيه وما ظهر بعد المعراج من الآيات الدالة على صدقه.
وليس في ذلك كثير فائدة فهي معروفة في مواضعها من كتب الحديث، وهكذا أطالوا بذكر فضائل المسجد الحرام والمسجد الأقصى وهو مبحث آخر، والمقصود في كتب التفسير ما يتعلق بتفسير ألفاظ الكتاب العزيز وذكر أسباب النزول وبيان ما يؤخذ منه من المسائل الشرعية، وما عدا ذلك فهو فضل لا تدعو إليه حاجة.(7/353)
وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا (2)
(وآتينا موسى الكتاب) أي التوراة قيل والمعنى كرمنا محمداً بالمعراج وأكرمنا موسى بالكتاب قال الشهاب: عقبت آية الإسراء بهذا استطراداً بجامع أن موسى أعطي التوراة بمسيره إلى الطور وهو بمنزلة معراجه لأنه منح ثمة التكليم وشرف باسم الكليم والواو استئنافية أو عاطفة على جملة سبحان الذي أسرى لا على أسرى بعبده وتكلفة.
(وجعلناه) أي ذلك الكتاب، وقيل موسى (هدى لبني إسرائيل) يهتدون به (أن لا تتخذوا) قرئ بالتحتية ولا نافية وأن مصدرية ولام التعليل مقدرة وبالفوقية ولا ناهية وأن زائدة والمعنى على الأولى آتيناه الكتاب لهداية بني إسرائيل لئلا يتخذوا وعلى الثانية قلنا لهم لا تتخذوا والأولى أن تكون (أن) مفسرة لأن هذا ليس من مواضع زيادة بل ذلك في نحو ولما أن جاءت رسلنا.
(من دوني وكيلاً) أي كفيلاً بأمورهم قاله الفراء، وروي عنه أنه قال كافياً، وقيل معناه متوكلون عليه في أمورهم، وقيل شريكاً ومعنى الوكيل في اللغة من توكل إليه الأمور.(7/353)
ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا (3)
(ذرية من حملنا من نوح) نصب على الاختصاص، وبه بدأ الزمخشري أو النداء أي يا ذرية من حملنا مع نوح كونوا كما كان نوح في العبودية والانقياد وفي كثرة الشكر لله تعالى بفعل الطاعات ذكرهم سبحانه إنعامه عليهم في ضمن إنجاء آبائهم من الغرق، وقيل المعنى ولا تتخذوا ذرية من حملنا مع نوح من دوني وكيلاً كقوله (ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أرباباً) والمراد بالذرية هنا جميع من في الأرض لأنهم من ذرية من كان في السفينة.
وقيل موسى وقومه وهذا هو المناسب لقراءة النصب على النداء والنصب على الاختصاص والرفع على البدل من فاعل لا تتخذوا أو على الخبر فإنها كلها راجعة إلى بني إسرائيل المذكورين، وأما على جعل النصب على أن ذرية هي المفعول الأول لقوله (لا تتخذوا) فالأولى تفسير الذرية بجميع من في الأرض من بني آدم.
أخرج ابن مردويه عن عبد الله بن زيد الأنصاري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ذرية من حملنا مع نوح قال ما كان مع نوح إلا أربعة أولاد حام وسام ويافث وكوش فذلك أربعة أولاد انتسلوا هذا الخلف ". (إنه) أي إن نوحاً (كان عبداً شكوراً) وصفه الله بكثرة الشكر في السراء والضراء وذلك أنه كان لا يأكل ولا يشرب ولا يلبس إلا قال الحمد لله وجعله كالعلة لما قبله إيذاناً بكون الشكر من أعظم أسباب الخير ومن أفضل الطاعات وحثاً لذريته على شكر الله سبحانه.(7/354)
وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4) فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا (5) ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا (6) إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا (7)(7/355)
وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4)
(وقضينا) أي أعلمنا وأخبرنا قاله ابن عباس أو حكمنا وأتممنا وأصل القضاء الأحكام للشيء والفراغ منه، وقيل أوحينا ويدل عليه قوله (إلى بني إسرائيل) ولو كان بمعنى الإعلام والإخبار لقال قضينا بني إسرائيل ولو كان بمعنى حكمنا لقال على بني إسرائيل ولو كان بمعنى أتممنا لقال لبني إسرائيل (في الكتاب) أي التوراة ويكون إنزالها على نبيهم موسى كإنزالها عليهم لكونهم قومه، وقيل المراد بالكتاب اللوح المحفوظ.
(لتفسدن) أي والله لتفسدن (في الأرض) قرئ بفتح الفوقية ومعناها قريب من معنى قراءة الجمهور لأنهم إذا أفسدوا أفسدوا في نفوسهم، والمراد بالفساد مخالفة ما شرعه الله لهم في التوراة والمراد بالأرض أرض الشام وبيت المقدس، وقيل أرض مصر واللام جواب قسم محذوف، قال النيسابوري: أو أجرى القضاء المبتوت مجرى القسم كأنه قيل وأقسمنا لتفسدن.
(مرتين) تثنية مرة وهي الواحدة من المر أي المرور على حد وفعلة لمرة كجلسة وفي القاموس مر مراً ومروراً جاز وذهب كاستمر ومره وبه جاز عليه والمرة الفعلة الواحدة والجمع مر بالضم ومرار بالكسر ومرر كعنب ولقيه ذات مرة لا يستعمل إلا ظرفاً وذات المرار أي مراراً كثيرة وجئته مراً أو مرين أي مرة أو مرتين انتهى.(7/355)
والمرة الأولى قتل شعيا وحبس أرميا ومخالفة أحكام التوراة، والثانية قتل يحيى بن زكريا والعزم على قتل عيسى، وقيل الأولى قتل زكريا والثانية قتل يحيى وذكر ابن إسحاق أن بعض العلماء أخبره أن زكريا مات موتاً ولم يقتل.
قال ابن مسعود: أول الفساد قتل زكريا فبعث الله عليهم ملك النبط، ثم
إن بني إسرائيل تجهزوا فغزوا النبط فأصابوا منهم فذلك قوله (ثم رددنا لكم الكرة عليهم) وعن ابن عباس قال: بعث الله في الأولى جالوت وبعث عليهم في المرة الأخرى بختنصر فعادوا فسلط الله عليهم المؤمنين.
(ولتعلنّ علواً كبيراً) هذه اللام كاللام التي قبلها أي لتستكبرن عن إطاعة الله ولتستعلن على الناس بالظلم والبغي مجاوزين للحد في ذلك وتبغون بغياً عظيماً.(7/356)
فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا (5)
(فإذا جاء وعد) أي وقت وعد (إلَيْهما) أولى المرتين المذكورتين والمراد بالوعد الوعيد والمراد بالوعيد المتوعد به أي حان وقت حلول العقاب الموعود به (بعثنا عليكم عباداً لنا أولي بأس شديد) أي قوة في الحروب وبطش عند اللقاء قيل هو بختنصر وجنوده وقيل جالوت وقيل جند من فارس وقيل جند من بابل وقيل هو سنحاريب من أهل نينوى فقتلوا علماءهم وأحرقوا التوراة وخربوا المسجد وسبوا منهم سبعين ألفاً.
(فجاسوا خلال الديار) أي عاثوا وترددوا يقال جاسوا وهاسوا وداسوا بمعنى ذكره ابن عزيز والقتيبي، قال الزجاج: معناه طافوا هل بقي أحد لم يقتلوه قال: والمجوس طلب الشيء باستقصاء، قال الجوهري: الجوس مصدر قولك جاسوا خلال الديار أي تخللوها كما يجوس الرجل للأخبار أي يطلبها وكذا قال أبو عبيدة.
وقال ابن جرير: ومعنى جاسوا طافوا بين الديار يطلبونهم ويقتلونهم ذاهبين(7/356)
وجائين، وقال الفراء: معناه قتلوهم بين بيوتهم، وقال قطرب: معناه نزلوا، وقرأ ابن عباس فحاسوا بالحاء المهملة، قال أبو زيد: الحوس والمجوس والعوس والهوس الطوف بالليل، وقيل الطوف بالليل هو الحوسان محركاً كذا قال أبو عبيدة، وقال ابن عباس: جاسوا مشوا ومعنى خلال الديار وسط الديار فهو على هذا اسم مفرد بمعنى الوسط ويؤيده قراءة الحسن خلل الديار، والثاني جمع خلل بفتحتين كجبل وجبال وجمل وجمال قاله السمين.
(وكان) ذلك (وعداً مفعولاً) أي كائناً لا محالة لازماً لا خلف فيه(7/357)
ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا (6)
(ثم رددنا لكم الكرّة) أي الدولة والغلبة والرجعة (عليهم) وذلك عند توبتهم قيل وذلك حين قتل داود جالوت وقيل حين قتل بختنصر ووضع رددنا موضع ترد لأنه لم يقع وقت الإخبار لكن لتحققه عبر بالماضي والكرّة في الأصل مصدر كر بكر أي رجع ثم يعبر بها عن الدولة والقهر.
(وأمددناكم بأموال وبنين) بعد نهب أموالكم وسبي أبنائكم حتى عاد أمركم كما كان (وجعلناكم أكثر نفيراً) قال أبو عبيدة: النفير العدد من الرجال فالمعنى أكثر رجالاً من عدوكم والنفير من ينفر مع الرجل من عشيرته يقال نفير ونافر مثل قدير وقادر ويجوز أن يكون النفير جمع نفر وهم المجتمعون للذهاب إلى العدو.(7/357)
إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا (7)
(إن أحسنتم) أفعالكم وأقوالكم على الوجه المطلوب منكم (أحسنتم لأنفسكم) لأن ثواب ذلك عائد عليكم (وإن أسأتم) أعمالكم فأوقعتموها لا على الوجه المطلوب منكم (فلها) أي فعليها إساءتها وإنما عبر بها للمشاكلة قاله الكرماني قال ابن جرير: اللام بمعنى إلى أي فعليها ترجع الإساءة كقوله تعالى (بأن ربك أوحى لها) أي إليها وقيل المعنى فلها الجزاء والعقاب.
وقال الحسين بن الفضل: فلها رب يغفر الإساءة، وقال الكرخي: أجرى اللام على بابها، قال أبو البقاء: وهو الصحيح لأن اللام للاختصاص والعامل(7/357)
مختص بجزاء عمله حسنة وسيئة انتهى. وهذا الخطاب قيل هو لبني إسرائيل الملابسين لما ذكر في هذه الآيات؛ وقيل لبني إسرائيل الكائنين في زمن محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومعناه إعلامهم ما حل بسلفهم فليرتقبوا مثل ذلك؛ وقيل هو خطاب لمشركي قريش.
(فإذا جاء وعد الآخرة) أي حضر وقت ما وعدوا من عقوبة المرة الآخرة والمرة الآخرة هي قتلهم يحيى بن زكريا كما سبق وقصة قتله مستوفاة في الإنجيل واسمه فيه يوحنا قتله ملك من ملوكهم بسبب امرأة حملته على قتله واسم الملك لاخت قاله ابن قتيبة.
وقال ابن جرير: هيردوس فسلط عليهم الفرس والروم فسبوهم وقتلوهم، وقيل هو قصدهم قتل عيسى فخلصه الله منهم ورفعه إليه وجواب إذا محذوف لدلالة جواب إذا الأولى تقديره بعثناهم. (ليسؤوا وجوهكم) أي ليفعلوا بكم ما يسوء وجوهكم حتى تظهر عليكم آثار المساءة وتبين في وجوهكم الكآبة وقيل المراد بالوجوه السادة منهم وقرئ لنسوء بالنون على أن الضمير لله سبحانه، وقرئ لنسوءن بنون التأكيد وقرئ ليسوء بالتحتية وأفراد الضمير لله أو للوعد وقرئ ليسوءوا على أن الفاعل عباد لنا، وفي عود الواو على العباد نوع استخدام إذ المراد بهم أولاً جالوت وجنوده والمراد بهم في ضمن الضمير بختنصر وجنوده.
(وليدخلوا المسجد) أي بيت المقدس ونواحيه فيخربوها (كما دخلوه أول مرة) أي وقت إفسادهم الأول (وليتبروا) أي يدمروا ويهلكوا، قاله ابن عباس، وقال قطرب يهدموا، قال الزجاج: كل شيء كسرته وفتته فقد تبرته (ما علوا) ما غلبوا عليه من بلادكم أو مدة علوهم (تتبيراً) أي تدميراً ذكر المصدر إزالة للشك وتحقيقاً للخبر.(7/358)
عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا (8) إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا (9) وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (10) وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا (11) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا (12)(7/359)
عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا (8)
قال الضحاك: كانت الرحمة التي وعدهم بعث محمد صلى الله عليه وسلم (وإن عدتم) إلى المعصية ثالثاً (عدنا) إلى عقوبتكم، قال أهل السير: ثم أنهم عادوا إلى ما لا ينبغي وهو تكذيب محمد صلى الله عليه وسلم وكتمان ما ورد من نعته في التوراة والإنجيل فعاد الله إلى عقوبتهم على أيدي العرب، فجرى على بني قريظة والنضير وبني قينقاع وخيبر ما جرى من القتل والسبي والإجلاء وضرب الجزية على من بقي منهم وضرب الذلة والمسكنة.
وقال قتادة: فعادوا فبعث الله عليهم محمداً صلى الله عليه وسلم فهم يعطون الجزية عن يد وهم صاغرون، وقد اختلفت الروايات في تعيين الواقع منهم في المرتين وفي تعيين من سلطه الله عليهم وفي كيفية الانتقام منهم ولا يتعلق بذلك كثير فائدة.
(وجعلنا جهنم للكافرين) منهم ومن غيرهم (حصيراً) أي سجناً ومحبساً جعل الله مأواهم فيها قاله ابن عباس، والحصير هو المحبس فهو فعيل بمعنى فاعل أو مفعول، والمعنى أنهم محبوسون في جهنم لا يتخلصون عنها أبداً. قال الجوهري: حصره يحصره حصراً ضيق عليه وأحاط به، ويقال للسجن محصر وحصير، وقيل فراشاً ومهاداً، قاله الحسن، وأراد على هذا بالحصير الحصير الذي يفرشه الناس.(7/359)
إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا (9)
(إن هذا القرآن يهدي) الناس (للتي) أي للطريقة التي (هي أقوم) وأصوب من غيرها من الطرق وهي ملة الإسلام. وقال الزجاج: للحال التي هي أقوم الحالات، وهي توحيد الله والإيمان برسله، وكذا قال الفراء، وقيل للكلمة التي هي أعدل وهي شهادة أن لا إله إلا الله، فبعضهم يصل بهدايته وهم المؤمنون وبعضهم لا يصل وهم الكافرون.
(ويبشر المؤمنين) بما اشتمل عليه من الوعد بالخير آجلاً وعاجلاً (الذين يعملون الصالحات) التي أرشد إلى عملها القرآن (أن لهم) أي بأن لهم (أجراً كبيراً) وهو الجنة(7/360)
وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (10)
(وأن الذين لا يؤمنون بالآخرة) وأحكامها المبينة في القرآن (أعتدنا لهم عذاباً أليماً) وهو عذاب النار فلا يكون ذلك داخلاً في حيز البشارة وعليه جرى السفاقسي والبيضاوي والسيوطي.
والجملة عطف على جملة يبشر بتقدير يخبر، وقيل عطف على قوله (أن لهم أجراً كبيراً) ويراد بالتبشير الإخبار سواء كان بخير أو شر أو معناه الحقيقي ويكون الكلام مشتملاً على تبشير المؤمنين ببشارتين، الأولى ما لهم من الثواب والثانية ما لأعدائهم من العقاب، ولا شك أن ما يصيب عدوهم سرور لهم.(7/360)
وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا (11)
(ويدع) القياس أن تثبت واو يدع لأنه مرفوع، إلا أنه لما وجب سقوطها لفظاً لاجتماع الساكنين سقطت في الخط أيضاً على خلاف القياس، ونظيره سندع الزبانية.
(الإنسان بالشر) المراد بالإنسان هو الجنس لوقوع هذا الدعاء من بعض أفراده، وهو دعاء الرجل على نفسه وماله وولده وعند الضجر بما لا يحب أن يستجاب له نحو اللهم أهلكه اللهم آلعنه ونحو ذلك.
(دعاءه بالخير) أي مثل دعائه لربه بالخير لنفسه ولأهله، كطلب العافية والرزق ونحوهما، فلو استجاب الله دعاؤه على نفسه بالشر لهلك، لكنه لم يستجب تفضلاً منه ورحمة.
ومثل ذلك (ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير) وقد تقدم في(7/360)
سورة يونس أنه يستجاب له بالخير ولا يستجاب له في الشر فراجعه، وقيل المراد بالإنسان القائل هذه المقالة هو الكافر يدعو لنفسه بالشر وهو استعجال العذاب دعاءه بالخير كقوله (اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم).
وقال ابن عباس: قوله اللهم العنه واغضب عليه، وقيل هو أن يدعو في طلب المحظور كدعائه في طلب المباح.
(وكان الإنسان عجولاً) أي مطبوعاً على العجلة يسارع إلى كل ما يخطر بباله لا ينظر إلى عاقبته، ومن عجلته أنه يسأل البشر كما يسأل الخير وقال ابن عباس: ضجراً لا صبر له على سراء ولا ضراء، والمراد بالإنسان الجنس لأن أحداً من الناس لا يعرى عن عجلة، ولو تركها لكان تركها أصلح في الدين والدنيا.
وقيل أشار به إلى آدم عليه السلام حين نهض قبل أن يكمل فيه الروح، فعن سلمان الفارسي قال: أول ما خلق الله من آدم رأسه فجعل ينظر وهو يخلق وبقيت رجلاه، فلما كان بعد العصر قال يا رب أعجل قبل الليل، فذلك قوله (وكان الانسان عجولاً) والمناسب للسياق هو الأول.
ولما ذكر سبحانه دلائل النبوة والتوحيد أكدها بدليل آخر من عجائب صنعه وبدائع خلقه فقال(7/361)
وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا (12)
(وجعلنا الليل والنهار آيتين) وذلك لما فيهما من الإظلام والإنارة مع تعاقبهما وسائر ما اشتملا عليه من العجائب التي تحار في وصفها الأحلام، ومعنى كونهما آيتين أنهما يدلان على وجود الصانع وقدرته وعلى إنفاذ الحكمم بتعاقبهما على نسق واحد مع إمكان غيره؛ وقدم الليل على النهار لكونه الأصل، وثنى الآية هاهنا وأفردها في قوله (وجعلناها وابنها آية) لتباين الليل والنهار من كل وجه ولتكررهما؛ فناسب هنا التثنية بخلاف عيسى مع أمه فإنه جزء منها ولا تكرر فيهما فناسب فيهما الإفراد، قاله الكرخي.(7/361)
(فمحونا آية الليل) أي طمسنا نورها، وقد كان القمر كالشمس في الإنارة والضوء، قيل ومن آثار المحو السواد الذي يرى في القمر؛ وقيل المراد بمحوها أنه سبحانه خلقها ممحوة الضوء مطموسة مظلمة لا يستبين فيه شيء، وليس المراد أنه محاها بعد أن لم تكن كذلك، والفاء تفسيرية لأن المحو المذكور وما عطف عليه ليسا مما يحصل عقب جعل الليل والنهار آيتين بل هما من جملة ذلك الجعل ومتمماته. وعن عليّ قال في الآية: هو السواد الذي في القمر. وعن ابن عباس نحوه.
وأخرج البيهقي وابن عساكر عن سعيد المقبري أن عبد الله بن سلام سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن السواد الذي في القمر فقال " كان شمسين، فالسواد الذي رأيت هو المحو " وعن ابن عباس مرفوعاً نحوه بأطول منه. أخرجه ابن مردويه، قال السيوطي وإسناده واه.
(وجعلنا آية النهار مبصرة) أي مبصراً فيها قال الكسائي وغيره هو من قول العرب: أبصر النهار إذا صار بحالة يبصر بها، وأشار بهذا إلى أن في الكلام مجازاً عقلياً لأن النهار لا يبصر، بل يبصر فيه فهو من إسناد الحديث إلى زمانه، وقيل مبصرة للناس من قولهم أبصره فبصر. فالأول وصف لها بحال أهلها؛ والثاني وصف لها بحال نفسها وإضافة آية إلى النهار بيانية، أي فمحونا الآية التي هي النهار مبصرة، كقولهم نفس الشيء وذاته. وقيل آية النهار الشمس، كما أن آية الليل القمر، فمعنى وجعلنا آية النهار مبصرة، أي جعلنا شمس النهار مضيئة تبصر بها الأشياء رؤية بينة.
(لتبتغوا فضلاً من ربكم) أي لتتوصلوا ببياض النهار إلى التصرف في وجوه المعاش، والمعنى جعلناها لتبتغوا وتطلبوا فضلاً أي رزقاً، إذ غالب تحصيل(7/362)
الأرزاق وقضاء الحوائج يكون بالنهار، ولم يذكر هنا السكون في الليل اكتفاء بما قاله في موضع آخر: (وهو الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصراً).
ثم ذكر مصلحة أخرى في ذلك الجعل فقال: (ولتعلموا عدد السنين والحساب) وهذا متعلق بالفعلين جميعاً، أعني محونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة لتعلموا الخ لا بأحدهما فقط كالأول، إذ لا يكون علم عدد السنين والحساب إلا باختلاف الجديدين ومعرفة الأيام والشهور والسنين، والفرق بين العدد والحساب أن العدد إحصاء ما له كمية بتكرير أمثاله من غير أن يتحصل منه شيء، والحساب إحصاء ما له كمية بتكرير أمثاله من حيث يتحصل بطائفة معينة منها حد معين منه له اسم خاص.
فالسنة مثلاً إن وقع النظر إليها من حيث عدد أيامها فذلك هو العدد، وإن وقع النظر إليها من حيث تحققها وتحصلها من عدة أشهر قد تحصل كل شهر من عدة أيام قد تحصل كل يوم من عدة ساعات قد تحصلت كل ساعة من عدة دقائق فذلك هو الحساب. ولو كانا مثلين لما عرف الليل من النهار ولا استراح حراص المكتسبين والتجار ولتعطلت الأمور ولم يدر الصائم متى يفطر ولم يعرف وقت الحج والصوم والصلاة ولا وقت الزراعة ولا وقت حلول الديون المؤجلة وقال الكرخي لا تكرار إذ العدد موضوع الحساب.
(وكل شيء فصلناه تفصيلاً) أي كل ما تفتقرون إليه في أمر دينكم ودنياكم بيناه تبييناً واضحاً لا يلتبس فهو كقوله (ما فرطنا في الكتاب من شيء) وقوله (ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء) وإنما ذكر المصدر وهو قوله (تفصيلاً) لأجل تأكيد الكلام وتقريره فكأنه قال فصلناه حقاً على الوجه الذي لا مزيد عليه وعند ذلك تنزاح العلل وتزول الأعذار ليهلك من هلك عن بينة ولهذا قال:(7/363)
وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (13) اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا (14) مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15) وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا (16) وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (17)(7/364)
وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (13)
(وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه) قال أبو عبيدة: الطائر عند العرب الحظ ويقال له البخت فالطائر ما وقع للشخص في الأزل بما هو نصيبه من العقل والفهم والعمل والعمر والرزق والسعادة والشقاوة كان طائراً يطير إليه من وكر الأزل وظلمات عالم الغيب طيراناً لا نهاية له ولا غاية إلى أن انتهى إلى ذلك الشخص في وقته المقدر من غير خلاص ولا مناص.
وقال الأزهري: الأصل في هذا أن الله سبحانه لما خلق آدم علم المطيع من ذريته والعاصي فكتب ما علمه منهم أجمعين وقضى بسعادة من علمه مطيعاً وشقاوة من علمه عاصياً فطار لكل منهم ما هو صائر إليه عند خلقه وإنشائه وذلك قوله (وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه) أي ما طار له في علم الله، وقيل أن العرب كانوا إذا أرادوا الإقدام على عمل من الأعمال وأرادوا أن يعرفوا أن ذلك العمل يسوقهم إلى خير أو شر اعتبروا أحوال الطير، فلما كثر ذلك منهم سموا نفس الخير والشر بالطائر تسمية للشيء باسم لازمه.
وفي عنقه عبارة عن شدة اللزوم وكمال الارتباط، قال الزجاج: ذكر العنق عبارة عن اللزوم كلزوم القلادة العنق من بين ما يلبس، قال مجاهد: ما من مولود يولد إلا وفي عنقه ورقة مكتوب فيها شقي أو سعيد.(7/364)
أخرج أحمد وعبد بن حميد وابن جرير بسند حسن عن جابر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " طائر كل إنسان في عنقه " (1)
وقال ابن عباس: طائره سعادته وشقاوته وما قدر الله له وعليه فهو لازمه أينما كان. وعن أنس قال: طائره كتابه فالطائر له تفسيران:
الأول: العمل وما قدر له.
والثاني: الكتاب الحقيقي.
(ونخرج) بنون التعظيم (له يوم القيامة كتاباً يلقاه منشوراً) وقرئ يخرج بالتحتية وبالراء المضمومة على معنى ويخرج له الطائر فيصير كتاباً وقرئ يخرج والفاعل هو الله سبحانه وقرئ على البناء للمفعول أي يخرج له الطائر كتاباً والمعنى مكتوباً فيه أعماله لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها.
قال الحسن: بسطت لك صحيفة ووكل بك ملكان فهما عن يمينك وعن شمالك فأما الذي عن يمينك فيحفظ حسناتك، وأما الذي عن يسارك فيحفظ عليك سيآتك حتى إذا مت طويت صحيفتك وجعلت معك في قبرك حتى تخرج لك يوم القيامة.
وإنما قال سبحانه (يلقاه منشوراً) تعجيلاً للبشرى بالحسنة والتوبيخ على السيئة قال ابن عباس هو عمله الذي أحصي عليه فأخرج له يوم القيامة ما كتب له من العمل فقرأه منشوراً، والمعنى يلقاه الإنسان أو يلقى الإنسان
_________
(1) أحمد بن حنبل 3/ 342 - 349 - 360.(7/365)
اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا (14)
(إقرأ كتابك) أي يقال له أو قائلين له اقرأ قيل يقرأ في ذلك اليوم الكتاب من كان قارئاً ومن لم يكن قارئاً قاله قتادة (كفى بنفسك) أي بشخصك (اليوم عليك حسيباً) أي حاسباً أو كافياً والحسيب بمعنى المحاسب كالشريك والجليس والخليط، قال الحسن لقد عدل عليك من جعلك حسيب نفسك.(7/365)
مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15)
(من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه) بيَّن سبحانه أن ثواب العمل الصالح وعقاب ضده يختصان بفاعلهما لا يتعديان منه إلى غيره فمن اهتدى بفعل ما أمره الله به وترك ما نهاه الله عنه وعمل بما في تضاعيفه من الأحكام فإنما تعود منفعة ذلك إلى نفسه لا تتخطاه إلى غيره ممن لم يهتد.
(ومن ضل) عن طريق الحق فلم يفعل ما أمر به ولم يترك ما نهى عنه (فإنما يضل عليها) أي فإن وبال ضلاله واقع على نفسه لا يجاوزها فكل أحد محاسب عن نفسه مجزيّ بطاعته معاقب بمعصيته، وهذا حاصل ما تقدم من بيان كون القرآن هادياً لأقوم الطريق ولزوم الأعمال لصاحبها.
ثم أكد هذا الكلام بأبلغ تأكيد فقال (ولا تزر وازرة وزر أخرى) الوزر الإثم يقال وزر يزر وزراً ووزرة أي إثماً والجمع أوزار والوزر الثقل ومنه يحملون أوزارهم على ظهورهم أي أثقال ذنوبهم ومعنى الآية لا تحمل نفس حاملة للوزر وزر نفس أخرى حتى تخلص الأخرى عن وزرها وتؤخذ به الأولى وقد تقدم مثل هذا في الأنعام.
قال الزجاج في تفسير هذه الآية: أن الآثم والمذنب لا يؤاخذ بذنب غيره وهذا تحقيق معنى قوله وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه، وأما ما يدل عليه قوله تعالى (من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها ومن يشفع شفاعة سيئة يكن له كفل منها) وقوله تعالى (ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم) من حمل الغير وزر الغير وانتفاعه بحسنته وتضرره بسيئته فهو في الحقيقة انتفاع بحسنة نفسه وتضرر بسيئتها فإن جزاء الحسنة والسيئة اللتين يعملهما العامل لازم له، وإنما الذي يصل إلى من يشفع جزاء شفاعته لا جزاء أصل الحسنة والسيئة.
وكذلك جزاء الضلال مقصور على الضالين وما يحمله المضلون إنما هو جزاء الإضلال وإنما خص التأكيد بالجملة الثانية قطعاً للأطماع الفارغة حيث(7/366)
كانوا يزعمون أنهم إن لم يكونوا على الحق، فالشفاعة على أسلافهم الذين قلدوهم.
أخرج ابن عبد البر في التمهيد عن عائشة قالت: سألت خديجة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أولاد المشركين فقال: " هم من آبائهم " ثم سألته بعد ذلك فقال: " الله أعلم بما كانوا عاملين " ثم سألته بعد ما استحكم الإسلام فنزلت (ولا تزر وازرة) الآية فقال " هم على الفطرة أو قال في الجنة " قال السيوطي وسنده ضعيف.
وقد ثبت في الصحيحين (1) وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل فقيل له: يا رسول الله إنا نصيب في البيات من ذراري المشركين قال " هم منهم " وفي ذلك أحاديث كثيرة وبحث طويل، وقد ذكر ابن كثير في تفسير هذه الآية غالب الأحاديث الواردة في أطفال المشركين ثم نقل كلام أهل العلم في المسألة فليرجع إليه.
(وما كنا معذبين) أحداً (حتى نبعث رسولاً) لما ذكر سبحانه اختصاص المهتدي بهدايته والضال بضلالته وعدم مؤاخذة الإنسان بجناية غيره ذكر أنه لا يعذب عباده إلا بعد الإعذار إليهم بإرسال رسله وإنزال كتبه فبين سبحانه أنه لم يتركهم سدى ولا أخذهم قبل إقامة الحجة عليهم، والظاهر أنه لا يعذبهم لا في الدنيا ولا في الآخرة إلا بعد الإعذار إليهم بإرسال الرسل، وبه قالت طائفة من أهل العلم وذهب الجمهور إلى أن المنفي هنا هو عذاب الدنيا لا عذاب الآخرة؛ وفيه دليل على أن ما وجب إنما وجب بالسمع لا بالعقل.
_________
(1) مسلم 1745 - البخاري 1431.(7/367)
وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا (16)
(وإذا أردنا أن نهلك قرية) اختلف المفسرون في معنى (أمرنا مترفيها) على قولين (الأول) أن المراد به الذي هو نقيض النهي، وعلى هذا اختلفوا في المأمور به فالأكثر على أنه الطاعة والخير.
وقال في الكشاف معناه أمرناهم بالفسق (ففسقوا فيها) وأطال الكلام(7/367)
في تقرير هذا وتبعه المقتدون به في التفسير، وما ذكره هو ومن تابعه معارض بمثل قول القائل: أمرته فعصاني، فإن كل من يعرف اللغة العربية يفهم من هذا أن المأمور به شيء غير المعصية لأن المعصية منافية للأمر مناقضة له.
فكذلك أمرته ففسق يدل على أن المراد به شيء غير الفسق لأن الفسق عبارة عن الإتيان بضد المأمور به فكونه فسقاً ينافي كونه مأموراً به ويناقضه.
والقول الثاني أن معنى أمرنا مترفيها أكثرنا فساقها، قال الواحدي: تقول العرب أمر القوم إذا كثروا وأمرهم الله إذا كثرهم، وقد قرئ أمرنا بتشديد الميم أي جعلناهم أمراء مسلطين، وقرئ آمرنا بالمد والتخفيف أي أكثرنا جبابرتها وأمراءها، قاله الكسائي، وقال أبو عبيدة: آمرته بالمد وأمرته لغتان بمعنى كثرته ومنه الحديث خير المال مهرة مأمورة أي كثيرة النتاج والنسل وكذا قال ابن عزير.
وقرئ أمرنا بالقصر وكسر الميم على معنى فعلنا ورويت هذه القراءة عن ابن عباس قال قتادة والحسن: المعنى أكثرنا وحكى نحوه أبو زيد وأبو عبيدة وأنكره الكسائي، قال لا يقال من الكثرة إلا آمرنا بالمد، قال في الصحاح وقال أبو الحسن أمر ماله بالكسر أي كثر، وأمر القوم أي كثروا، وقرأ الجمهور أمرنا من الأمر ومعناه ما قدمنا في القول الأول.
وقد قيل في تأويل أمرنا بأنه مجاز عن الأمر الحامل لهم على الفسق وهو إدرار النعم عليهم، وقيل المراد قرب إهلاك قرية وهو عدول عن الظاهر بدون ملجىء إليه.
والمراد بالمترفين المنعمون الذين قد أبطرتهم النعمة وسعة العيش، والمفسرون يقولون في تفسير المترفين أنهم الجبارون المتسلطون والملوك الجائرون، قالوا وإنما خصوا بالذكر لأن من عداهم أتباع لهم، وفي القاموس الترفه بالضم النعمة والطعام الطيب والشيء الظريف تخص به صاحبك وترف(7/368)
كفرح تنعم وأترفته النعمة أطغته أو نعمته كتَرَّفَتْه تَتْريفاً والمترف كمكرم المتروك يفعل ما يشاء ولا يمنع والمتنعم لا يمنع من تنعمه وتترف تنعم.
(فحق عليها القول) أي ثبت وتحقق ووجب عليهم العذاب والعقاب بعد ظهور فسقهم وتمردهم في كفرهم (فدمرناها تدميراً) عظيماً لا يوقف على كنهه لشدته وعظيم موقعه وأهلكناها إهلاك استئصال والدمار الهلاك والخراب.
ثم ذكر سبحانه أن هذه عادته الجارية مع القرون الخالية فقال(7/369)
وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (17)
(وكم أهلكنا من القرون) أي كثيراً ما أهلكنا منهم فكم مفعول أهلكنا أي أن من قوم كفروا (من بعد نوح) كعاد وثمود وغيرهم من الأمم الخالية فحل بهم البوار ونزل بهم سوط العذاب وفيه تخويف لكفار مكة، وإنما قال ذلك لأنه أول من كذبه قومه ومن ثم لم يقل من بعد آدم، ومن الثانية لإبتداء الغاية والأولى للبيان فلذلك اتحد متعلقهما.
وقال الحوفي الثانية بدل من الأولى وليس كذلك لاختلاف معنييهما، ثم خاطب رسوله صلى الله عليه وسلم بما هو ردع للناس كافة فقال (وكفى بربك بذنوب عباده خبيراً بصيراً).
قال الفراء: إنما يجوز إدخال الباء في المرفوع إذا كان يمدح به صاحبه أو يذم كقولك كفاك به وأكرم به رجلاً وطاب بطعامك طعاماً ولا يقال قام بأخيك وأنت تريد قام أخوك؛ والمراد بكونه سبحانه خبيراً أنه محيط بحقائق الأشياء ظاهراً وباطناً عالم بجميع المعلومات راء لجميع المرئيات لا تخفى عليه خافية من أحوال الخلق.
وفي الآية بشارة عظيمة لأهل الطاعة وتخويف شديد لأهل المعصية لأن العلم التام والخبرة الكاملة والبصيرة النافذة يقتضي إيصال الجزاء إلى مستحقه بحسب استحقاقه، ولا ينافيه مزيد التفضل على من هو أهل لذلك.(7/369)
مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا (18) وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا (19) كُلاًّ نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا (20) انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا (21) لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا (22)(7/370)
مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا (18)
(من كان يريد العاجلة) هذا تأكيد لما سلف من جملة (كل إنسان ألزمناه طائره) وجملة (من اهتدى) والمراد بالعاجلة المنفعة العاجلة أو الدار العاجلة، والمعنى من كان يريد بأعمال البر أو بأعمال الآخرة ذلك فيدخل تحته الكفرة والفسقة والمراؤون والمنافقون.
(عجلنا له) أي لذلك المريد (فيها) أي في تلك العاجلة قيد المعجل والمعجل له بقيدين؛ الأول قوله (ما نشاء) تعجيله له منها لا ما يشاؤه ذلك المريد، ولهذا ترى كثيراً من هؤلاء المريدين للعاجلة يريدون من الدنيا ما لا ينالون ويتمنون ما لا يصلون إليه، والقيد الثاني قوله (لمن نريد) التعجيل له منهم ما اقتضته مشيئتنا. وقيل الآية في المنافقين كانوا يراءون المسلمين ويغزون معهم ولم يكن غرضهم إلا مساهمتهم في الغنائم ونحوها.
وهذه الآية تقيد الآيات المطلقة كقوله سبحانه (من كان يريد حرث الدنيا نؤته منها) وقوله (من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون).
وقيل قرئ ما يشاء بالتحتية والضمير على هذا لله سبحانه، وفيه بعد لمخالفته لما قبله وهو عجلنا وما بعده وهو لمن نريد.
وقيل الضمير راجع إلى (من) في قوله (من كان يريد) فيكون ذلك مقيداً بقوله لمن نريد، أي عجلنا له ما يشاؤه لكن بحسب إرادتنا، فلا(7/370)
يحصل لمن أراد العاجلة ما يشاؤه إلا إذا أراد الله له ذلك، ثم بعد هذا كله فمن وراء هذه الطلبة الفارغة التي لا تأثير لها إلا بالقيدين المذكورين عذاب الآخرة الدائم ولهذا قال (ثم جعلنا له جهنم) أي بسبب تركه لما أمر به من العمل للآخرة وإخلاصه عن الشوائب جعلنا له عذاب جهنم على اختلاف أنواعه.
(يصلاها) أي يدخل جهنم (مذموماً) ملوماً من الخلق (مدحوراً) أي مطروداً من رحمة الله مبعداً عنها، وفي المختارة دحره يدحره من باب خضع طرده، فهذه عقوبته في الآخرة أنه لا ينال من الدنيا إلا ما قدره الله سبحانه فأين حال هذا الشقي من حال المؤمن النقي، فإنه ينال من الدنيا ما قدره الله له وأراده بلا هلع منه ولا جزع مع سكون نفسه واطمئنان قلبه وثقته بربه، وهو مع ذلك عامل للآخرة منتظر للجزاء من الله سبحانه وهو الجنة ولهذا قال.(7/371)
وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا (19)
(ومن أراد) بأعماله الدار (الآخرة وسعى لها) أي من أجلها، وفائدة اللام اعتبار النية والإخلاص لأنها للاختصاص (سعيها) أي السعي الحقيقي بها اللائق بطالبها، وهو الإتيان بما أمر به وترك ما نهى عنه خالصاً لله غير مشوب وكان الإتيان به على القانون الشرعي من دون ابتداع ولا هوى لا التقرب بما يخترعون بآرائهم.
(وهو مؤمن) بالله إيماناً صحيحاً، لأن العمل الصالح لا يستحق صاحبه الجزاء عليه إلا إذا كان من المؤمنين (إنما يتقبل الله من المتقين) والواو للحال (فأولئك) أي المريدون للآخرة الساعون لها سعيها؛ وفيه مراعاة معنى من بعد مراعاة لفظها وهو مبتدأ وخبره (كان سعيهم مشكوراً) عند الله أي مقبولاً غير مردود؛ وقيل مضاعفاً إلى أضعاف كثيرة.
فقد اعتبر سبحانه في كون السعي مشكوراً أموراً ثلاثة:
الأول: إرادة الآخرة.(7/371)
الثاني: أن يسعى لها السعي الذي يحق لها.
والثالث: أن يكون مؤمناً وفي الخطيب قال بعض السلف الصالح؛ من لم يكن معه ثلاث لم ينفعه عمله: إيمان ثابت ونية صادقة وعمل مصيب، وتلا هذه الآية.
ثم بيَّن سبحانه كمال رأفته وشمول رحمته فقال(7/372)
كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا (20)
(كُلاًّ) أي كل واحد من الفريقين، من يريد الدنيا ومن يريد الآخرة (نمد) أي نزيده من عطائنا على تلاحق من غير انقطاع (هؤلاء وهؤلاء) بدل من المفعول وهو (كُلاًّ) فكأنه قيل نمد هؤلاء وهؤلاء الأول للأول والثاني للثاني فهو لف ونشر مرتب، أي نرزق الكفار والمؤمنين وأهل المعصية وأهل الطاعة، لا نؤثر معصية العاصي في قطع رزقه، وما به الإمداد هو ما عجله لمن يريد الدنيا وما أنعم به في الأولى والأخرى على من يريد الآخرة. وفي قوله (من عطاء ربك) إشارة إلى أن ذلك بمحض التفضل، وهو متعلق بنمد (وما كان عطاء ربك محظوراً) أي ممنوعاً عن أحد، قاله الضحاك.
يقال حظره يحظره حظراً منعه، وكل ما حال بينك وبين شيء فقد حظره عليك، والمراد بالعطاء العطاء في الدنيا كالرزق والجاه إذ لا حظ للكافر في الآخرة.
قال الزجاج: علم الله سبحانه أنه يعطي المسلم والكافر وأنه يرزقهم جميعاً. وقال الحسن: كل يرزقه الله في الدنيا البر والفاجر وقال ابن عباس: يرزق الله من أراد الدنيا ويرزق من أراد الآخرة.(7/372)
انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا (21)
(انظر) يا محمد صلى الله عليه وسلم، ويحتمل أن يكون الخطاب لكل من له أهلية النظر والاعتبار. وهذه الجملة مقررة لما مر من الإمداد وموضحة له، والمعنى انظر (كيف فضلنا) في العطايا العاجلة (بعضهم) أي بعض العباد (على بعض) فمن غني وفقير، وقوي وضعيف، وصحيح ومريض، وعاقل وأحمق، وذلك لحكمة بالغة تقصر العقول عن إدراكها.
(وللآخرة) اللام لام ابتداء أو قسم (أكبر درجات وأكبر تفضيلاً) من(7/372)
الدنيا وذلك لأن نسبة التفاضل في درجات الآخرة إلى التفاضل في درجات الدنيا كنسبة الآخرة إلى الدنيا، وليس للدنيا بالنسبة إلى الآخرة مقدار، فلهذا كانت الآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلاً. وقيل المراد أن المؤمنين يدخلون الجنة والكافرين يدخلون النار، فتظهر فضيلة المؤمنين على الكافرين.
وحاصل المعنى أن التفاضل في الآخرة ودرجاتها فوق التفاضل في الدنيا ومراتب أهلها فيها من بسط وقبض ونحوهما، وثبت في الصحيحين " أن أهل الدرجات العلى ليرون أهل عليين كما ترون الكوكب الغابر في أفق السماء " (1).
ثم لما أجمل سبحانه أعمال البر في قوله وسعى لها سعيها وهو مؤمن أخذ في تفصيل ذلك مبتدئاً بأشرفها الذي هو التوحيد فقال
_________
(1) مسلم 2831 - البخاري 1540.(7/373)
لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا (22)
(لا تجعل) الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، والمراد به أمته تهييجاً وإلهاباً أو لكل مكلف متأهل له صالح لتوجيهه إليه.
وقيل التقدير قل لكل مكلف لا تجعل (مع الله إلهاً آخر فتقعد) النصب على جواب النهي، أي لا يكن منك جعل فقعود، ومعنى تقعد تصير من قولهم شحذ الشفرة حتى قعدت كأنها حربة؛ وإليه ذهب الفراء والزمخشري، وليس المراد حقيقة القعود المقابل للقيام.
وقيل هو كناية عن عدم القدرة على تحصيل الخيرات، فإن السعي فيه إنما يتأتى بالقيام والعجز عنه يلزمه أن يكون قاعداً عن الطلب.
وقيل أن من شأن المذموم المخذول أن يقعد نادماً مفكراً على ما فرط منه فالقعود على هذا حقيقة.
(مذموماً مخذولاً) ونصبهما على خبرية تقعد أو على الحال، أي من غير حمد وبغير ناصر فتصير جامعاً بين الأمرين: الذم لك من الله ومن ملائكته ومن صالحي عباده، والخذلان لك منه سبحانه، أو حال كونك جامعاً بينهما. وحاصل ما ذكر في هذه الآيات من أنواع التكاليف خمسة وعشرون نوعاً بعضهما أصلي وبعضها(7/373)
وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (24) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا (25) وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا (27)
فرعي، وقد ابتدأ بالأصلي في قوله لا تجعل، ثم ذكر عقيبه سائر الأعمال التي يكون من عمل بها ساعياً في الآخرة فقال:(7/374)
وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23)
(وقضى ربك) أي أمر أمراً جزماً وحكماً قطعاً وحتماً مبرماً وعن ابن عباس أنه قرأ ووصى ربك مكان وقضى، وقال التزقت الواو والصاد وأنتم تقرأونها وقضى ولو نزلت على القضاء ما أشرك به أحد، وبه قرأ الضحاك أيضاً أقول إنما يلزم هذا لو كان القضاء بمعنى الفراغ من الأمر، وهو وإن كان أحد معاني مطلق القضاء كما في قوله (قضي الأمر الذي فيه تستفتيان) وقوله (فإذا قضيتم مناسككم) وقوله (فإذا قضيتم الصلاة) ولكنه هاهنا بمعنى الأمر وهو أحد معاني القضاء والأمر لا يستلزم ذلك، فإنه سبحانه قد أمر عباده بجميع ما أوجبه ومن جملة ذلك إفراده بالعبادة وتوحيده، وذلك لا يستلزم أن لا يقع الشرك من المشركين.
ومن معاني مطلق القضاء معان أخر غير هذين المعنيين كالقضاء بمعنى الخلق ومنه (فقضاهن سبع سموات) وبمعنى الإرادة كقوله (إذا قضى أمراً) وبمعنى العهد كقوله (إذ قضينا إلى موسى الأمر) وقد روى عنه أيضاً أنه قال قضى أمر، وقيل أوجب ربك؛ وعن مجاهد قال: عهد ربك.
قال الرازي: هذا القول -أي قول ابن عباس- بعيد جداً لأنه يفتح باب(7/374)
أن التحريف والتغيير قد تطرق إلى القرآن؛ ولو جوَّزنا ذلك لارتفع الأمان على القرآن وذلك يخرجه عن كونه حجة، ولا شك أنه طعن عظيم في الدين.
(أن لا) أي بأن (لا تعبدوا إلا إياه) قاله السيوطي، وقال في الجمل قوله هذا غير سديد حيث أثبت النون بين الهمزة ولا النافية، بقلم الحمرة فيقتضي انها من رسم القرآن مع أنه ليس كذلك، وقد نص في شرح الجزرية أن ما عدا المواضع العشرة يكتب موصولاً أي لا تثبت فيه النون، وقيل أن مفسرة ولا تعبدوا نهي وفيه وجوب عبادة الله والمنع من عبادة غيره؛ وهذا هو الحق.
ثم أردفه بالأمر بين الوالدين فقال (وبالوالدين) أي وقضى بأن تحسنوا بهما أو وأحسنوا بهما (إحساناً) وتبروهما قيل وجه ذكر الإحسان إلى الوالدين بعد عبادة الله سبحانه إنهما السبب الظاهر في وجود المتولد بينهما وفي جعل الإحسان إلى الأبوين قريناً لتوحيد الله وعبادته من الإعلان بتأكد حقهما والعناية بشأنهما مالا يخفى؛ وهكذا جعل سبحانه في آية أخرى شكرهما مقترناً بشكره فقال (أن أشكر لي ولوالديك).
ثم خص سبحانه حالة الكبر بالذكر لكونها إلى البر من الولد أحوج من غيرها فقال (إما يبلغن) إن شرطية وما زائدة والفعل مبني على الفتح لاتصاله بنون التأكيد الثقيلة (عندك الكبر أحدهما أو كلاهما) معنى عندك أن يكونا في كنفك وكفالتك وتوحيد الضمير في عندك ولا تقل وما بعدهما للإشعار بأن كل فرد من الأفراد منهى بما فيه النهي ومأمور بما فيه الأمر.
(فلا تقل لهما أف) جواب الشرط قيل والتقييد بهذا الشرط خرج مخرج الغالب من أن الولد إنما يتهاون بوالديه عند الكبر وإلا فلا يختص بالكبيرين، والمعنى لا تقل لواحد منهما في حالتي الاجتماع والانفراد، وليس المراد حالة الاجتماع فقط.(7/375)
عن الحسين بن عليّ مرفوعاً: لو علم الله شيئاً من الحقوق أدنى من أف لحرمه.
وقال مجاهد: لا تقل لهما أف لما تميط عنهما من الأذى الخلاء والبول كما كانا لا يقولانه فيما كانا يميطان عنك من الخلاء والبول. وفي أف أربعون لغة قاله السمين ثم قال وقد قرئ من هذه اللغات بسبع ثلاث في المتواتر وأربع في الشواذ وقال الفراء: تقول العرب فلان يتأفف من ريح وجدها أي يقول أف أف، وقال الأصمعي: الأف وسخ الأذن والثف وسخ الأظفار، يقال ذلك عند استقذار الشيء ثم كثر حتى استعملوه في كل ما يتأذون به، وعن ابن الأعرابي أن الأف للضجر وقال القتيبي: أصله أنه إذا سقط عليه تراب ونحوه نفخ فيه ليزيله؛ فالصوت الحاصل عند تلك النفخة هو قول القائل أف ثم توسعوا فذكروه عند كل مكروه يصل إليهم، وقال الزجاج معناه النتن. وقال أبو عمرو بن العلاء: الأف وسخ بين الأظفار والثف قلامتها.
والحاصل أنه اسم فعل ينبئ عن التضجر والاستثقال أو صوت ينبئ عن ذلك فنهى الولد عن أن يظهر منه ما يدل على التضجر من أبويه أو الاستثقال لهما وقيل أف مصدر بمعنى تباً وقبحاً وخسراناً والأول أرجح، وبهذا النهي يفهم النهي عن سائر ما يؤذيهما بفحوى الخطاب أو بلحنه كما هو مقرر في الأصول.
(ولا تنهرهما) أي لا تضجرهما عما يتعاطيانه مما لا يعجبك، والنهي والنهر والنهم أخوات بمعنى الزجر والغلظة، يقال نهره وانتهره إذا استقبله بكلام يزجره قال الزجاج: معناه لا تكلمهما ضجراً صائحاً في وجوههما.
(وقل لهما) بدل التأفيف والنهر (قولاً كريماً) أي ليناً لطيفاً جميلاً سهلاً أحسن ما يمكن التعبير عنه من لطف القول وكرامته مع حسن التأدب والحياء والاحتشام.(7/376)
قال محمد بن زبير: يعني إذا دعواك فقل لبيكما وسعديكما. وقيل هو أن يقول يا أماه يا أبتاه ولا يدعوهما بأسمائهما ولا يكنيهما.(7/377)
وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (24)
(واخفض لهما جناح الذل) قال سعيد بن جبير: اخضع لوالديك كما يخضع العبد للسيد الفظ الغليظ، ذكر القفال في معنى خفض الجناح وجهين:
الأول: أن الطائر إذا أراد ضم فراخه إليه للتربية خفض لها جناحه، فلهذا صار خفض الجناح كناية عن حسن التدبير، فكأنه قال للولد اكفل لوالديك بأن تضمهما إلى نفسك لكبرهما وافتقارهما اليوم إليك كما فعلا ذلك بك في حال صغرك وكنت مفتقراً إليهما.
والثاني: أن الطائر إذا أراد الطيران والارتفاع نشر جناحه وإذا أراد النزول خفض جناحه، فصار خفض الجناح كناية بليغة عن التواضع وترك الارتفاع، وفي إضافة الجناح إلى الذل وجهان.
الأول: أنها كإضافة حاتم إلى الجود في قولك حاتم الجود فالأصل فيه الجناح الذليل.
والثاني: سلوك سبيل الاستعارة كأنه تخيل للذل جناحاً ثم أثبت لذلك الجناح خفضاً والذل من ذل يذل ذلاً وذلة ومذلة فهو ذليل، وقرئ بكسر الذال من قولهم دابة ذلول بينة الذل أي منقادة سهلة لا صعوبة فيها.
وقوله (من الرحمة) فيه معنى التعليل أي من أجل فرط الشفقة والعطف عليهما لكبرهما وافتقارهما اليوم لمن كان أفقر خلق الله إليهما بالأمس، قال السمين وفي (من) ثلاثة أوجه:
أحدها: أنها للتعليل.
والثاني: أنها ابتدائية؛ قال ابن عطية: أي أن هذا الخفض يكون ناشئاً من الرحمة المستكنة في النفس.(7/377)
الثالث: أنها نصب على الحال من جناح؛ ثم كأنه قال له سبحانه ولا تكتف برحمتك التي لا دوام لها (و) لكن (قل رب ارحمهما) أي وادع الله لهما ولو خمس مرات في اليوم والليلة أن يرحمهما برحمته الباقية الدائمة وأراد به إذا كانا مسلمين (كما ربياني صغيراً) أي رحمة مثل تربيتهما لي قدره الحوفي أومثل رحمتهما اليّ، قدره أبو البقاء وقيل ليس المراد رحمة مثل الرحمة بل الكاف لاقترانهما في الوجود أي فلتقع هذه كما وقعت تلك والتربية التنمية.
ويجوز أن تكون الكاف للتعليل أي لأجل تربيتهما لي كقوله (واذكروه كما هداكم) ولقد بالغ سبحانه في التوصية بالوالدين مبالغة تقشعر لها جلود أهل العقوق وتقف عندها شعورهم حيث افتتحها بالأمر بتوحيده وعبادته ثم شفعه بالإحسان إليهما ثم ضيق الأمر في مراعاتهما حتى لم يرخص في أدنى كلمة تنفلت من التضجر مع موجبات الضجر ومع أحوال لا يكاد يصبر الإنسان معها وأن يذل ويخضع لهما، ثم ختمها بالأمر بالدعاء لهما والترحم عليهما، وهذه خمسة أشياء كلف الإنسان بها في حق الوالدين، وقد ورد في بر الوالدين أحاديث كثيرة ثابتة في الصحيحين وغيرهما وهي معروفة في كتب الحديث.(7/378)
رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا (25)
(ربكم أعلم بما في نفوسكم) أي بما في ضمائركم من الإخلاص وعدمه في كل الطاعات ومن التوبة من الذنب الذي فرط منكم أو الإصرار عليه ويتدرج تحت هذا العموم ما في النفس من البر والعقوق اندراجاً أولياً، وقيل أن الآية خاصة بما يجب للوالدين من البر ويحرم على الأولاد من العقوق، والأول أولى اعتباراً بعموم اللفظ فلا تخصصه دلالة السياق ولا تقيده.
(إن تكونوا صالحين) أي أبرار مطيعين قاصدين الصلاح والبر والتوبة من الذنب والإخلاص للطاعة (فإنه كان للأوابين) أي الرجاعين عن الذنوب إلى التوبة ومن السيئات إلى الحسنات ومن العقوق إلى البر ومن عدم الإخلاص إلى محض الإخلاص (غفوراً) لما فرط منكم من قول أو فعل أو اعتقاد فلا يضركم ما(7/378)
وقع من الذنب الذي تبتم عنه، فمن تاب تاب الله عليه ومن رجع إلى الله رجع الله إليه.
وقال سعيد بن جبير: يعني البادرة من الولد إلى الوالد أي إن تكن النية صادقة فإنه كان غفوراً للبادرة التي بدرت منه كالفلتة والزلة تكون من الرجل إلى أبويه أو أحدهما وهو لا يضمر عقوقاً، ولا يريد بذلك بأساً، قال سعيد بن المسيب هو العبد يتوب ثم يذنب ثم يتوب ثم يذنب.
وقيل الأواب الذي إذا ذكر خطاياه استغفر منها، وقال عبد بن عمير: هم الذين يذكرون ذنوبهم في الخلاء ثم يستغفرون الله، وهذه الأقوال متقاربة، قال ابن عباس الأوابين المطيعين المحسنين التوابين، وقيل المسبحين وقيل المصلين قال عون العقيلي هم الذين يصلون صلاة الضحى، وقيل من يصلي بين المغرب والعشاء، والأول أولى.
ثم ذكر سبحانه التوصية بغير الوالدين من الأقارب بعد التوصية بهما فقال(7/379)
وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (26)
(وآت ذا القربى حقه) الخطاب إما لرسول الله صلى الله عليه وسلم تهييجاً وإلهاباً لغيره من الأمة أو لكل من هو صالح لذلك من المكلفين كما في قوله وقضى ربك والأمر للوجوب عند أبي حنيفة فعنده يجب على الموسر مواساة أقاربه إذا كانوا محارم كالأخ والأخت وعند غيره للندب فلا يجب عند غيره إلا نفقة الأصول والفروع دون غيرهما من الأقارب.
أقول المراد بذوي القربى أولو القرابة وحقهم هو صلة الرحم التي أمر الله بها والمودة والزيارة وحسن المعاشرة والمؤالفة على السراء والضراء، وكرر الوصية فيها، والخلاف بين أهل العلم في وجوب النفقة للقرابة لبعضهم كالوالدين على الأولاد والأولاد على الوالدين معروف، والذي ينبغي الاعتماد عليه وجوب صلتهم بما تبلغ إليه القدرة وحسبما تقتضيه الحال.(7/379)
قال ابن عباس: أمره بأحق الحقوق وعلمه كيف يصنع إذا كان عنده وكيف يصنع إذا لم يكن عنده.
(و) آت (المسكين وابن السبيل) حقهما من الزكاة وهذا دليل على أن المراد بما يؤتي ذوي القربى من الحق هو تعهدهم بالمال، وعن سفيان في الآية قال: هو أن يصل ذا القرابة ويطعم المسكين ويحسن إلى ابن السبيل، وعن السدي قال: القربى قربى بني عبد المطلب وقرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأقول ليس في السياق ما يفيد هذا التخصيص ولا دل عليه دليل، ومعنى النظم القرآني واضح إن كان الخطاب مع كل من يصلح له من الأمة لأن معناه أمر كل مكلف متمكن من صلة قرابته بأن يعطيهم حقهم وهو الصلة التي أمر الله بها؛ وإن كان الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم فإن كان على وجه التعريض لأمته فالأمر فيه كالأول وإن كان خطاباً له من دون تعريض فأمته أسوته فالأمر له صلى الله عليه وسلم بإيتاء ذي القربى حقه أمر لكل فرد من أفراد أمته، والظاهر أن هذا الخطاب ليس خاصاً بالنبي صلى الله عليه وسلم بدليل ما قبل الآية وهي قوله: (وقضى ربك) وما بعدها وهي قوله:
(ولا تبذر تبذيراً) هو تفريق المال كما يفرق البذر كيفما كان من غير تعمد لمواقعه وهو الإسراف المذموم لمجاوزته للحد المستحسن شرعاً في الإنفاق أو هو الإنفاق في غير الحق وإن كان يسيراً.
قال الشافعي: التبذير إنفاق المال في غير حقه، ولا تبذير في عمل الخير، قال القرطبي: وهذا قول الجمهور، قال أشهب عن مالك: التبذير هو أخذ المال من حقه ووضعه في غير حقه وهو الإسراف وهو حرام لقوله:(7/380)
إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا (27)
(إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين) فإن هذه الجملة تعليل للنهي عن(7/380)
التبذير، والمراد بالأخوة المماثلة التامة وتجنب مماثلة الشيطان ولو في خصلة واحدة من خصاله واجب فكيف فيما هو أعم من ذلك كما يدل عليه إطلاق المماثلة، والإسراف في الإنفاق من عمل الشيطان فإذا فعله أحد من بني آدم فقد أطاع الشيطان واقتدى به، وهذا غاية المذمة لأنه لا شر من الشياطين، والعرب تقول لكل من هو ملازم سنة قوم هو أخوهم.
قال ابن مسعود: التبذير إنفاق المال في غير حقه، وعنه كنا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم نتحدث إن التبذير النفقة في غير حقه، وعن ابن عباس قال: هم الذين ينفقون المال في غير حقه، وعن عليّ قال: ما أنفقت على نفسك وأهل بيتك في غير سرف ولا تبذير وما تصدقت فلك، وما أنفقت رياء وسمعة فذلك حظ الشيطان.
وقيل هو إنفاق المال في العمارة على وجه السرف، وقيل لو أنفق الإنسان ماله كله في الحق لم يكن مبذراً، ولو أنفق درهما أو مداً في باطل كان مبذرًا، قيل إن بعضهم أنفق نفقة في خير فأكثر، فقال له صاحبه لا خير في السرف، فقال لا سرف في الخير، ولا مانع من حمل الآية على الجميع والعموم أولى.
(وكان الشيطان لربه) أي لنعم ربه (كفوراً) أي كثير الكفران جحود النعمة، عظيم التمرد عن الحق، لأنه مع كفره لا يعمل إلا شراً، ولا يأمر إلا بعمل الشر، ولا يوسوس إلا بما خير فيه، وفي هذه الآية تسجيل على المبذرين بمماثلة الشياطين، ثم التسجيل على جنس الشيطان بأنه كفور، فاقتضى ذلك أن المبذر مماثل للشيطان، وكل مماثل للشيطان له حكم الشيطان، وكل شيطان كفور فالمبذر كذلك.
قال الكرخي: وكذلك من رزقه الله جاهاً أو مالاً فصرفه إلى غير مرضاة الله كان كفوراً لنعمة الله لأنه موافق للشيطان في الصفة والفعل.(7/381)
وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا (28) وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا (29) إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (30) وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا (31) وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا (32)(7/382)
وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا (28)
(وإما تعرضن عنهم) أي إن أعرضت عن ذي القربى والمسكين وابن السبيل لأمر اضطرك إلى ذلك الإعراض (ابتغاء رحمة) أي لفقد رزق (من ربك) ولكنه أقام المسبب الذي هو ابتغاء رحمة الله مقام السبب الذي هو فقد الرزق، لأن فقد الرزق مبتغ له (ترجوها) أي ترجو أن يفتح الله به عليك (فقل لهم قولاً ميسوراً) أي قولاً سهلاً ليناً كالوعد الجميل أو الاعتذار المقبول قيل هو أن يقول رزقنا الله وإياكم من فضله. قال الكسائي: يسرت له القول أي ليَّنته وقال الفراء: معنى الآية إن تعرض عن السائل إضاقة وإعساراً فعدهم عدة حسنة، ويجوز أن يكون المعنى وإن تعرض عنهم ولم تنفعهم لعدم استطاعتك فقل لهم قولاً ميسوراً، وليس المراد هنا الإعراض بالوجه، وفي هذه الآية تأديب من الله سبحانه لعباده إذا سألهم سائل ما ليس عندهم كيف يقولون وبما يردون، ولقد أحسن من قال:
أن لا يكن ورق يوماً أجود بها ... للسائلين فإني لين العود
لا يعدم السائلون الخير من خلقي ... إما نوال وإما حسن مردود
ولما ذكر الله سبحانه أدب المنع بعد النهي عن التبذير بيَّن أدب الإنفاق فقال(7/382)
وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا (29)
(ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط) هذا النهي يتناول كل مكلف سواء كان الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم تعرضاً لأمته وتعليماً لهم، أو الخطاب لكل من يصلح له من المكلفين، والمراد النهي للإنسان بأن يمسك إمساكاً يصير به مضيقاً على نفسه وعلى أهله، ولا يوسع في الإنفاق توسيعاً لا حاجة إليه(7/382)
بحيث يكون به مسرفاً، فهو نهي عن جانبي الإفراط والتفريط ويتحصل من ذلك مشروعية التوسط، وهو العدل الذي ندب الله إليه ..
ولا تك فيها مفرطاً أو مفرطاً ... كلا طرفي قصد الأمور ذميم
وقد مثل الله سبحانه في هذه الآية حال الشحيح بحال من كانت يده مغلولة إلى عنقه مضمومة إليه مجموعة معه في الغل بحيث لا يستطيع التصرف بها، ومثل حال من يجاوز الحد في التصرف بحال من يبسط يده بسطاً لا يتعلق بسببه فيها مما يقبض الأيدي عليه ولا يبقى شيئاً في كفه، وفي هذا التصوير مبالغة عظيمة بليغة ثم بين سبحانه غاية الطرفين المنهى عنهما فقال (فتقعد) تصير (ملوماً) مذموماً عند الناس بسبب ما أنت عليه من الشح أو عند الله سبحانه لأن الشح غير مرضي لديه أو عند نفسك وأصحابك أو يلومك سائلوك إذا لم تعطهم.
(محسوراً) بسبب ما فعلته من الإسراف، أي منقطعاً عن المقاصد سبب الفقر والمحسور في الأصل المنقطع عن السير من حسره السفر إذا بلغ منه أي أثر فيه؛ والبعير الحسير هو الذي ذهبت قوته فلا انبعاث به، ومنه قوله تعالى (ينقلب إليك البصر خاسئاً وهو حسير) أي كليل منقطع، وقيل معناه نادماً على ما سلف فجعله هذا القائل من الحسرة التي هي الندامة، وفيه نظر لأن الفاعل من الحسرة حسران ولا يقال محسوراً إلا للملوم.
وفي المختار الحسرة شدة التلهف على الشيء الفائت، تقول حسر على الشيء من باب طرب، وحسره أيضاً فهو حسير، وحسره غيره تحسيراً. وعن سيار أبي الحكم قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بزّ من العراق وكان معطاء كريماً فقسمه بين الناس، فبلغ ذلك قوماً من العرب فقالوا: إنا نأتي النبي صلى الله عليه وسلم فوجدوه قد فرغ منه، فأنزل الله (ولا تجعل يدك) الآية. أخرجه سعيد بن منصور وابن المنذر.
أقول ولا أدري كيف هذا فالآية مكية ولم يكن إذ ذاك عرب يقصدون رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يحمل إليه شيء من العراق ولا مما هو أقرب منه، على(7/383)
أن فتح العراق لم يكن إلا بعد موته صلى الله عليه وسلم.
ثم سلى رسوله والمؤمنين بأن الذي يرهقهم من الإضافة ليس لهوانهم على الله سبحانه ولكن لمشيئة الخالق الرزاق فقال(7/384)
إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (30)
(إن ربك يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر) أي يوسعه على بعض ويضيقه على بعض لحكمة بالغة، لا يكون من وسع له رزقه مكرماً عنده ومن ضيقه عليه هيناً لديه، ويقدر ويقتر مترادفان. قيل ويجوز أن يراد أن البسط والقبض إنما هما من أمر الله الذي لا تفنى خزائنه فأما عباده فعليهم أن يقتصدوا.
وعن الحسن في الآية قال: ينظر له فإن كان الغنى خيراً له أغناه، وإن كان الفقر خيراً له أفقره. ثم علَّل ما ذكره من البسط للبعض والتضييق على البعض بقوله (إنه كان بعباده خبيراً بصيراً) أي يعلم ما يسرون وما يعلنون لا تخفى عليه خافية من ذلك، فهو الخبير بأحوالهم البصير بكيفية تدبيرهم في أرزاقهم، وفي هذه الآية دليل على أنه المتكفل بأرزاق عباده فلذلك قال بعدها:(7/384)
وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا (31)
(ولا تقتلوا أولادكم) خطاب للموسرين بدليل قوله (خشية إملاق) أي فاقة وفقر يقع بكم يقال أملق الرجل إذا لم يبق له إلا الملقات وهي الحجارة العظام الملس، يقال أملق إذا افتقر وسلب الدهر ما بيده، نهاهم الله سبحانه عن أن يقتلوا أولادهم خشية الفقر، وقد كانوا يفعلون ذلك؛ وقد تقدم في سورة الأنعام نهي المعسرين بقوله (ولا تقتلوا أولادكم من إملاق).
وفي الكرخي حاصله أن قتل الأولاد إن كان لخوف الفقر فهو من سوء الظن بالله، وإن كان لأجل الغيرة على البنات فهو سعي في تخريب العالم فالأول ضد التعظيم لأمر الله، والثاني ضد الشفقة على خلق الله وكلاهما مذموم.
ثمّ بيّن أن خوفهم من الفقر حتى يبلغوا بسبب ذلك إلى قتل الأولاد لا وجه له فإن الله سبحانه هو الرازق لعباده يرزق الأبناء كما يرزق الآباء فقال (نحن نرزقهم وإياكم) ولستم لهم برازقين حتى تصنعوا بهم هذا الصنع، ثم علل سبحانه النهي عن قتل الأولاد لذلك بقوله (إن قتلهم كان خطأً(7/384)
كبيراً) قرأ الجمهور بكسر الخاء وسكون الطاء، وقرئ بفتح الخاء والطاء يقال خطئ في دينه خطأ إذا أثم وأخطأ إذا سلك سبيل خطأ عامداً أو غير عامد، قال الأزهري خطئ يخطأ خطأً مثل أثم يأثم إثماً إذا تعمد الخطأ وأخطأ إذا لم يتعمد خطاً والخطأ الإثم يقوم مقام الأخطاء وفيه لغتان القصر وهو الجيد والمد وهو قليل.
وقرأ إبن كثير خطاء بكسر الخاء وفتح الطاء ومد الهمزة، قال النحاس ليس لهذه القراءة وجه وكذلك جعلها أبو حاتم غلطاً.
ولما نهى سبحانه عن قتل الأولاد المستدعي لإفناء النسل ذكر النهي عن الزنا المفضى إلى ذلك لما فيه من اختلاط الأنساب فقال(7/385)
وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا (32)
(ولا تقربوا الزنا) قربت الأمر أقربه من باب تعب وفي لغة من باب قتل قرباناً بالكسر فعلته أو دانيته ومن الأول هذه الآية، ومن الثاني لا تقرب الحمى أي لا تدن منه، وفي النهي عن قربانه بمباشرة مقدماته نهى عنه بالأولى فإن الوسيلة إلى الشيء إذا كان حراماً كان المتوسل إليه حراماً بفحوى الخطاب، والزنافيه لغتان المد والقصر.
ثم علل النهى عن الزنا بقوله (إنه كان فاحشة) أي قبيحاً متبالغاً في القبح مجاوزاً للحد شرعاً وعقلاً (وساء سبيلاً) أي بئس طريقاً طريقه وذلك لأنه يؤدي إلى النار ولا خلاف في كونه من كبائر الذنوب.
وقد ورد في تقبيحه والتنفير عنه من الأدلة ما هو معلوم وهو يشتمل على أنواع من المفاسد منها المعصية وإيجاب الحد على نفسه ومنها اختلاط الأنساب فلا يعرف الرجل ولد من هو ولا يقوم أحد بتربيته، وذلك يوجب ضياع الأولاد وانقطاع النسل، وذلك يوجب خراب العالم.
وعن السدي في الآية قال: يوم نزلت هذه لم تكن حدود فجاءت بعد ذلك الحدود في سورة النور، وعن أبىّ بن كعب قال: ساء سبيلاً إلا من تاب فإن الله كان غفوراً رحيماً فذكر لعمر فأتاه فسأله فقال: أخذتها من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وليس لك عمل إلا الصفق بالبقيع.(7/385)
وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا (33) وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا (34) وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (35) وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36) وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا (37) كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا (38)
ولما فرغ سبحانه من ذكر النهي عن القتل لخصوص الأولاد وعن النهي عن الزنا الذي يفضي إلى ما يفضي إليه قتل الأولاد من اختلاط الأنساب وعدم استقرارها نهى عن قتل الأنفس المعصومة على العموم فقال(7/386)
وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا (33)
(ولا تقتلوا النفس التي حرم الله) أي التي جعلها الله معصومة بعصمة الدين أو عصمة العهد، والأصل في القتل هو الحرمة الغليظة، وحل القتل إنما يثبت بسبب عارض فلما كان كذلك نهى الله عن القتل على حكم الأصل.
ثم استثنى الحالة التي يحصل فيها حل القتل وهي الأسباب العارضة فقال (إلا بالحق) كالردة والزنا من المحصن وكالقصاص من القاتل عمداً عدواناً وما يلتحق بذلك والاستثناء مفرغ أي لا تقتلوها بسبب من الأسباب إلا بسبب متلبس بالحق أو إلا متلبسين بالحق، وقد تقدم الكلام في هذا في الأنعام.
وعن الضحاك قال: نزل هذا بمكة ونبي الله صلى الله عليه وسلم بها وهو أول شيء نزل من القرآن في شأن القتل، كان المشركون من أهل مكة يغتالون أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال الله من قتلكم من المشركين فلا يحملنكم قتله إياكم على أن تقتلوا له أباً أو أخاً أو واحداً من عشيرته وإن كانوا مشركين فلا تقتلوا إلا قاتلكم.(7/386)
وهذا قبل أن تنزل براءة وقبل أن يؤمر بقتال المشركين فذلك قوله (فلا يسرف في القتل أنه كان منصوراً) يقول لا تقتل غير قاتلك وهي اليوم على ذلك الموضع من المسلمين لا يحل لهم أن يقتلوا إلا قاتلهم.
ثم بين حكم بعض المقتولين بغير حق فقال (ومن قتل مظلوماً) أي لا بسبب من الأسباب المسوغة لقتله شرعاً وهو أحد ثلاث كفر بعد إيمان وزناً بعد إحصان وقتل مؤمن معصوم عمداً كما في الحديث (فقد جعلنا لوليه) أي لمن يلي أمره من ورثته إن كانوا موجودين أو لمن له سلطان لم يكونوا موجودين (سلطاناً) أي تسلطاً على القاتل إن شاء قتل وإن شاء عفا وإن شاء أخذ الدية قال ابن عباس: سلطاناً بينة من الله أنزلها يطلبها ولي المقتول القود أو العقل.
ثم لما بيّنَ إباحة القصاص لمن هو مستحق لدم المقتول أو ما هو عوض عن القصاص نهاه عن مجاوزة الحد فقال (فلا يسرف) أي لا يجاوز الولي إباحة الله له (في القتل) فيقتل بالواحد الاثنين أو جماعة أو يمثل بالقاتل أو يعذبه وقرأ الجمهور بالتحتية وقرئ بالفوقية فهو خطاب للقاتل الأول ونهي له عن القتل أي فلا تسرف أيها القاتل المتعدي بالقتل بغير الحق فإن علمك القصاص مع ما عليك من عقوبة الله وسخطه ولعنته.
وقال ابن جرير الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وللأمة من بعده أي لا تقتل يا محمد غير القاتل ولا تفعل ذلك الأئمة بعدك وفي قراءة أبيّ لا تسرفوا قال مجاهد: معنى لا يسرف لا يكثر ولا يقاتل إلا قاتل رحمه، وعن زيد بن أسلم إن الناس في الجاهلية كانوا إذا قتل الرجل من القوم رجلاً لم يرضوا بقتل قاتله حتى يقتلوا به رجلاً شريفاً وإذا كان قتيلهم شريفاً لم يقتلوا قاتله وحده بل قتلوا معه غيره فوعظوا في ذلك بقول الله سبحانه فلا يسرف في القتل.
ثم علَّل النهي عن السرف فقال (إنه) يعني ولي المقتول (كان(7/387)
منصوراً) أي مؤيداً معاناً فإن الله سبحانه قد نصره بإثبات القصاص له أو الدية بما أبرزه من الحجج وأوضحه من الأدلة وأمر أهل الولايات بمعونته والقيام بحقه حتى يستوفيه، ويجوز أن يكون الضمير راجعاً إلى المقتول ظلماً أي أن الله نصره بوليه يعني منصوراً في الدنيا بإيجاب القود على قاتله وفي الآخرة بتكفير خطاياه وإيجاب النار لقاتله قيل وهذه الآية من أول ما نزل من القرآن في شأن القتل لأنها مكيّة كما تقدم.
ولما ذكر سبحانه النهي عن إتلاف النفوس أتبعه بالنهي عن إتلاف الأموال وكان أهمها بالحفظ والرعاية مال الميتيم فقال(7/388)
وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا (34)
(ولا تقربوا مال اليتيم) الخطاب لأولياء اليتيم والنهي عن قربانه مبالغة في النهي عن المباشرة وإتلافه، قال قتادة: كانوا لا يخالطونهم في مال ولا مأكل ولا مركب حتى نزلت وإن تخالطوهم فإخوانكم.
ثم بينَّ سبحانه أن النهي عن قربانه ليس المراد منه النهي عن مباشرته فيما يصلحه ويفسده بل يجوز لولي اليتيم أن يفعل في مال اليتيم ما يصلحه وذلك يستلزم مباشرته فقال (إلا بالتي) أي إلا بالخصلة التي (هي أحسن) من جميع الخصال وهي حفظه وطلب الربح فيه والسعي فيما يزيد به والإنفاق عليه بالمعروف ثم ذكر غاية النهي عن قربان مال اليتيم فقال (حتى يبلغ) أي لا تقربوه حتى يبلغ اليتيم (أشده) فإذا بلغ أشده كان لكم أن تدفعوه إليه أو تتصرفوا فيه بإذنه لأن التصرف له حينئذ.
والأشد مفرد بمعنى القوة، وقيل جمع لا واحد له من لفظه، وقيل جمع شدة بكسر الشين، وقيل جمع شد كذلك، وقيل جمع بفتحها وعلى كل فالمراد به القوة وكمال عقله ورشده بحيث يمكنه القيام بمصالح ماله وإلا لم ينفك عنه الحجر وإن كان الأشد في الأصل عبارة عن بلوغ ثلاث وثلاثين سنة، وقيل هي ثماني عشرة سنة وقيل خمس عشرة سنة وقد تقدم الكلام على هذا مستوفى في الأنعام.(7/388)
(وأوفوا بالعهد) قد تقدم الكلام فيه في غير موضع، قال الزجاج: كل ما أمر الله به ونهى عنه فهو من العهد فيدخل في ذلك ما بين العبد وربه وما بين العباد بعضهم لبعض والوفاء بالعهد هو القيام بحفظه على الوجه الشرعي والقانون المرضي إلا إذا دلّ دليل خاص على جواز النقض.
(إن العهد كان مسؤولاً) عنه فالمسؤول هنا هو صاحبه، وقيل أن العهد يُسأل تبكيتاً لناقضه فيقال فيهم نقض كالموؤودة تُسأل فيم قتلت وإن كان سؤال العهد تخييلاً وتمثيلاً وسؤال الموؤودة تحقيقاً، قال سعيد بن جبير: أن الله يسأل ناقض العهد عن عهده، وعن ابن جريج قال: يسأل عهده من أعطاه إياه.(7/389)
وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (35)
(وأوفوا الكيل) أي أتموه ولا تخسروه خطاب للبائعين (إذا كلتم) أي وقت كيلكم للناس، وأخذ من هذا بعضهم أن أجرة الكيال على البائع لأنها من تمام التسليم وكذلك عليه أجرة النقاد للثمن وهو كذلك كما هو مقرر في الفروع.
(وزنوا بالقسطاس المستقيم) قال الزجاج: هو ميزان العدل، أي ميزان كان صغيراً أو كبيراً من موازين الدراهم وغيرها، وفيه لغتان: ضم القاف وكسرها وقيل هو القبان المسمى بالقرسطون، قاله الضحاك، وقيل هو العدل نفسه، قاله مجاهد وهي لغة الروم قاله ابن جبير، وقيل لغة سريانية ثم عُربت.
ولا يقدح ذلك في عربية القرآن لأن العجمي إذا استعملته العرب وأجرته مجرى كلامهم في الإعراب والتعريف والتنكير ونحوها صار عربياً، والأصح أنه عربي مأخوذ من القسط وهو العدل والتفاوت الحاصل بسبب نقصان الكيل والوزن قليل والوعيد الحاصل عليه شديد عظيم فوجب الاحتراز عنه، وإنما عظم الوعيد فيه لأن جميع الناس محتاجون إلى المعاوضات والبيع والشراء فالشارع بالغ في المنع من التطفيف والنقصان سعياً في إبقاء الأموال على أربابها.(7/389)
(ذلك) أي إيفاء الكيل والوزن بالميزان المستوي (خير) لكم عند الله وعند الناس يتأثر عنه حسن الذكر وترغيب الناس في معاملة من كان كذلك (وأحسن تأويلاً) أي عاقبة من آل إذا رجع.
ثم أمر سبحانه بإصلاح اللسان والقلب فقال(7/390)
وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36)
(ولا تقف ما ليس لك به علم) أي لا تتبع ما لا تعلم، وهو مأخوذ من قولك قفوت فلاناً إذا اتبعت أثره، ومنه قافية الشعر لأنها تقفو كل بيت، ومنه القبيلة المشهورة بالقافة لأنهم يتبعون آثار أقدام الناس. وحكى ابن جرير عن فرقة أنها قالت: قفى وقاف مثل عثى وعاث.
وقال منذر بن سعيد البلوطي: قفى وقاف مثل جذب وجبذ، وقيل مجزوم بحذف الواو من بأبي عدا وسما، أي لا تقل رأيت ولم تر، وسمعت ولم تسمع، وعلمت ولم تعلم.
ومعنى الآية النهي عن أن يقول الإنسان ما لا يعلمه أو يعمل بما لا علم له. وهذه قضية كلية وقد جعلها جماعة من المفسرين خاصة بأمور، فقال ابن عباس: لا تذم أحداً بما ليس لك به علم. وقيل هي في شهادة الزور، قاله محمد بن الحنفية وقيل هي في القذف.
وقال القتيبي: معنى الآية لا تتبع الحدس والظنون، وهذا صواب فإن ما عدا ذلك هو العلم. وقيل المراد بالعلم هنا هو الاعتقاد الراجح المستفاد من مستند قطعياً كان أو ظنياً. قال أبو السعود في تفسيره: واستعماله بهذا المعنى مما لا ينكر شيوعه.
وأقول أن هذه الآية دلت على عدم جواز العمل بما ليس بعلم، ولكنها عامة مخصصة بالأدلة الواردة بجواز العمل بالظن كالعمل بالعام وبخبر الواحد والعمل بالشهادة والاجتهاد في القبلة وفي جزاء الصيد ونحو ذلك فلا يخرج من عمومها ومن عموم أن الظن لا يغني من الحق شيئاً إلا ما قام دليل جواز العمل به.(7/390)
فالعمل بالرأي في مسائل الشرع إن كان لعدم وجود الدليل في الكتاب والسنة فقد رخص فيه النبي صلى الله عليه وسلم كما في قوله لمعاذ لما بعثه قاضياً " بم تقضي؟ " قال: بكتاب الله، قال: " فإن لم تجد؟ " قال: فبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: " فإن لم تجد؟ " قال: أجتهد رأيي (1)، وهو حديث صالح للاحتجاج به، كما أوضح الشوكاني ذلك في بحث مفرد.
وأما التوثب على الرأي مع وجود الدليل في الكتاب أو السنة ولكنه قصر صاحب الرأي عن البحث فجاء برأيه فهو داخل تحت هذا النهي دخولاً أولياً لأنه محض رأي في شرع الله، وللناس عنه غنى بكتاب الله سبحانه وبسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ولم تدع إليه حاجة، على أن الترخيص في الرأي عند عدم وجود الدليل إنما هو رخصة للمجتهد يجوز له أن يعمل به، ولم يدل دليل على أنه يجوز لغيره العمل به وينزل منزلة مسائل الشرع.
وبهذا يتضح لك أتم اتضاح ويظهر لك أكمل ظهور أن هذه الآراء المدونة في الكتب الفروعية ليست من الشرع في شيء والعامل بها على شفا جرف هار، فالمجتهد المستكثر من الرأي قد قفا ما ليس له به علم، والمقلد المسكين العامل برأي ذلك المجتهد قد عمل بما ليس له به علم ولا لمن قلده، ظلمات بعضها فوق بعض وقد قيل أن هذه الآية خاصة بالعقائد ولا دليل على ذلك أصلاً.
ثم علل سبحانه النهي عن العمل بما ليس بعلم بقوله (إن السمع والبصر والفؤاد) أي القلب (كل أولئك) أي كل واحد من الحواس الثلاثة وأجريت مجرى العقلاء لما كانت مسؤولة عن أحوالها شاهدة على أصحابها.
وقال الزجاج: أن العرب تعبر عما لا يعقل وعما يعقل بأولئك والضمير في (كان) يرجع إلى كل وكذا الضمير في (عنه) وقيل الضمير في كان يعود إلى القافي المدلول عليه بقوله لا تقف وقوله عنه في محل رفع لإسناد (مسؤولاً) إليه ورد بما حكاه النحاس من الإجماع على عدم جواز تقديم القائم مقام
_________
(1) الإمام أحمد 5/ 236 - /242.(7/391)
الفاعل إذا كان جاراً ومجروراً.
قيل والأولى أن يقال أنه فاعل مسؤول المحذوف والمذكور مفسر له ومعنى سؤال هذه الجوارح أنه يسأل صاحبها عما استعملها فيه لأنها آلات والمستعمل لها هو الروح الإنساني فإن استعملها في الخير استحق الثواب وأن استعملها في الشر استحق العقاب وهو اختيار الزمخشري، وقيل أن الله سبحانه يُنطق الأعضاء هذه عند سؤالها فتخبر عما فعله صاحبها وعليه جرى القاضي فتسأل توبيخاً لأصحابها وهذا أبلغ مما قبله. وفي الآية دليل على أن العبد مؤاخذ بعزمه على المعصية.(7/392)
وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا (37)
(ولا تمش في الأرض مرحاً) قيل وهو شدة الفرح، وقيل التكبر في المشي وقيل تجاوز الإنسان قدره وقيل الخيلاء في المشي، وقيل البطر والأشر؛ وقيل النشاط والظاهر أن المراد به الخيلاء والفخر، قال الزجاج في تفسير الآية: لا تمش في الأرض مختالاً فخوراً، وذكر الأرض مع أن المشي لا يكون إلا عليها أو على ما هو معتمد عليها تأكيداً وتقريراً ولقد أحسن من قال:
ولا تمش فوق الأرض إلا تواضعاً ... فكم تحتها قوم هم منك أرفع
وإن كنت في عز وحرز ومنعة ... فكم مات من قوم هم منك أمنع
والمرح مصدر وقع حالاً أي ذا مرح أي مارحاً متلبساً بالكبر والخيلاء وفي وضع المصدر موضع الصفة نوع تأكيد وقرئ مرحاً بفتح الراء ومرحاً بكسرها على أنه اسم فاعل.
ثم علل سبحانه هذا النهي فقال (إنك لن تخرق الأرض) يقال خرق الثوب أي شقه وخرق الأرض قطعها، والخرق الواسع من الأرض، والمعنى إنك لن تخرق الأرض بمشيك عليها تكبراً حتى تبلغ آخرها، وفيه تهكم بالمختال المتكبر، وقيل المراد بخرق الأرض نقبها لا قطعها بالمسافة، وقال الأزهري: خرقها قطعها قال النحاس: وهذا بين كأنه مأخوذٌ من الخرق وهو الفتحة الواسعة، ويقال فلان أخرق من فلان أي أكثر سفراً.(7/392)
(ولن تبلغ الجبال طولاً) أي ولن تبلغ قدرتك إلى أن تطاول الجبال حتى يكون عظم جثتك حاملاً لك على الكبر والاختيال فلا قوة لك حتى تخرق الأرض بالمشي عليها. ولا عظم في بدنك حتى تطاول الجبال وتساويها بكبرك، فما الحامل لك على ما أنت فيه وأنت أحقر وأصغر من كل واحد من الجمادين، فكيف يليق بك الكبر.(7/393)
كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا (38)
(كل ذلك) أي جميع ما تقدم ذكره من الأوامر والنواهي الخمس والعشرين أو ما نهى عنه فقط من قوله. ولا تقف ولا تمش (كان سيئه عند ربك) على إضافة سيئ إلى الضمير، ويؤيد هذه القراءة قوله: (مكروهاً) فإن السبي هو المكروه ويؤيدها أيضاً قراءة أبيّ كان سيئاته.
وقرأ نافع وغيره سيئة على أنها واحدة السيئات وانتصابها على خبرية كان ومكروهاً خبر ثان لكان أو بدل من سيئه، ورجح أبو علي الفارسي البدل، وقد قيل في توجيهه بغير هذا مما فيه تعسف لا يخفى، قال الزجاج والإضافة أحسن لأن ما تقدم من الآيات فيها سيئ وحسن فسيئه المكروه ويقوي ذلك التذكير في المكروه.
ومن قرأ بالتنوين جعل (كل ذلك) إحاطة بالنهى عنه دون الحسن، والمعنى كل ما نهى الله عنه كان سيئة وكان مكروهاً، والمكروه على هذا بدل من السيئة وليس بنعت، والمراد بالمكروه عند الله هو الذي يبغضه ولا يرضاه لا أنه غير مراد مطلقاً لقيام الأدلة القاطعة على أن الأشياء واقعة بإرادته سبحانه.
وذكر مطلق الكراهة مع أن في الأشياء المتقدمة ما هو من الكبائر إشعاراً بأن مجرد الكراهة عنده تعالى يوجب انزجار السامع واجتنابه لذلك.
والحاصل أن في الخصال المتقدمة ما هو حسن وهو المأمور به، وما هو مكروه وهو المنهيّ عنه، فعلى قراءة الإضافة تكون الإشارة بقوله (كل ذلك) إلى جميع الخصال، حسنها ومكروهها، ثم الإخبار بأن ما هو سيئ من هذه(7/393)
ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا (39) أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا (40) وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا (41) قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا (42) سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا (43) تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (44)
الأشياء هو المنهى عنه عند الله، وعلى قراءة الإفراد تكون الإشارة إلى المنهيات ثم الإخبار عن هذه المنهيات بأنها سيئة مكروهة عند الله.(7/394)
ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا (39)
(ذلك) إشارة إلى ما تقدم ذكره من قوله لا تجعل مع الله إلى هذه الغاية (مما أوحى إليك ربك) أي من جنسه أو بعض منه، وذكر هنا في ثمان عشرة آية أولها لا تجعل، وذكر في التوراة في عشر آيات (من الحكمة) سمي حكمة لأنه كلام محكم وهو ما علمه من الشرائع أو من الأحكام المحكمة التي لا يتطرق إليها النسخ والفساد، وعند الحكماء إن الحكمة عبارة عن معرفة الحق لذاته والخير للعمل به، قاله البيضاوي فالتوحيد من القسم الأول وباقي التكاليف من القسم الثاني.
(ولا تجعل مع الله إلهاً آخر) كرر سبحانه النهي عن الشرك تأكيداً وتقريراً وتنبيهاً على أنه رأس خصال الدين وعمدته ومبدأ الأمر ومنتهاه، وعلى أنه ملاك الحكمة وأسها. قيل وقد راعى سبحانه في هذا التأكيد دقيقة فرتب على الأول كونه مذموماً مخذولاً، وذلك إشارة إلى حال الشرك في الدنيا؛ ورتب على الثاني ما هو نتيجة في العقبى فقال (فتلقى في جهنم ملوماً) تلوم نفسك (مدحوراً) مبعداً من رحمة الله مطروداً وفي القعود هناك والإلقاء هنا إشارة إلى أن للإنسان في الدنيا صورة اختيار بخلاف الآخرة.(7/394)
أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا (40)
(أفأصفاكم) أي خصكم، قاله أبو عبيدة، وقال الفضل: أخلصكم (ربكم بالبنين واتخذ من الملائكة إناثاً) أي بنات، والخطاب للكفار القائلين بأن الملائكة بنات الله، وفيه توبيخ شديد وتقريع بالغ لما كان يقوله هؤلاء الذين هم كالأنعام بل هم أضل، والفاء للعطف على مقدر كنظائره مما قد كررناه.
(إنكم لتقولون قولاً عظيماً) بالغاً في العظم والجرأة على الله إلى مكان لا يقادر قدره بإضافة الأولاد إليه، وهي خاصة بعض الأجسام لسرعة زوالها، ثم بتفضيل أنفسكم عليه حيث تجعلون له ما تكرهون، ثم يجعل الملائكة الذين هم أشرف الخلق أدونهم.(7/395)
وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا (41)
(ولقد صرفنا في هذا القرآن) أي بيّنا أو كررنا ضروب القول فيه من الأمثال والعبر والحكم والحجج والمواعظ والقصص والأخبار والأوامر والنواهي وغيرها. وقيل في زائدة والتقدير ولقد صرفنا هذا القرآن، والتصريف في الأصل صرف الشيء من جهة إلى جهة والتشديد فيه للتكثير والتكرير، وقيل معنى التصريف المغايرة؛ أي غايرنا بين المواعظ.
ثم علل سبحانه ذلك فقال (ليذكروا) أي ليتعظوا ويعتبروا ويتدبروا بعقولهم ويتفكروا فيه حتى يقفوا على بطلان ما يقولونه (و) الحال أن هذا التصريف والتذكير (ما يزيدهم إلا نفوراً) أي تباعداً عن الحق وغفلة عن النظر في الصواب لأنهم قد اعتقدوا في القرآن أنه حيلة وسحر وكهانة وشعر وهم لا ينزعون عن هذه الغواية ولا وازع لهم يزعهم إلى الهداية، وكان الثوري إذا قرأها يقول: زادني لك خضوعاً ما زاد أعداءك نفوراً.(7/395)
قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا (42)
(قل) لهم في شأن الاستدلال على إبطال التعدد الذي زعموه وإثبات الوحدانية (لو كان معه آلهة كما) أي كوناً مشابهة لما (يقولون) والمراد بالمشابهة الموافقة والمطابقة، قرئ بالتحتية وبالفوقية على الخطاب للقائلين بأن مع الله آلهة أخرى (إذاً) قال الزمخشري: هي دالة على أن ما بعدها وهو (لابتغوا)(7/395)
جواب لمقالة المشركين وجزاء للو (إلى ذي العرش) هو الله سبحانه (سبيلاً) طريقاً للمغالبة والمقاتلة والممانعة ليزيلوا ملكه كما يفعل الملوك بعضهم مع بعض من المقاتلة والمصاولة عند تعددهم.
وقيل معناه إذاً لابتغت الآلهة إلى الله القربة والزلفة عنده لأنهم دونه والمشركون إنما اعتقدوا أنها تقربهم إلى الله، والظاهر المعنى الأول، ومثله معنى قوله تعالى (لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا) وحاصل الدليل أنه قياس استثنائي يستثنى فيه نقيض التالي لينتج نقيض المقدم، وحذف منه كل من الاستثنائية والنتيجة والتقدير لكنهم لم يطلبوا طريقاً لقتاله فلم يكن. هناك تعدد.
ثم نزه تعالى نفسه فقال(7/396)
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا (43)
(سبحانه) والتسبيح التنزيه وقد تقدم مراراً (وتعالى) أي تباعد (عما يقولون) من الأقوال الشنيعة والفرية العظيمة (علواً) أي تعالياً ولكنه وضع العلو موضع التعالي، كقوله والله أنبتكم من الأرض نباتاً (كبيراً) وصف العلو بالكبير مبالغة في النزاهة وتنبيهاً على أن بين الواجب لذاته والممكن لذاته وبين الغنى الطلق والفقير المطلق مباينة لا يعقل الزيادة عليها.
ثم بين سبحانه جلالة ملكه وعظمة سلطانه فقال:(7/396)
تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (44)
(تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن) قال فيهن بضمير العقلاء لإسناده إليها التسبيح الذي هو فعل العقلاء، وقد أخبر سبحانه عن السماوات والأرض بأنها تسبحه، وكذلك من فيها من مخلوقاته الذين لهم عقول وهم الملائكة من الإنس والجن وغيرهم من الأشياء التي لا تعقل.
ففيه دلالة على أن الأكوان بأسرها دالة شاهدة بتلك النزاهة، ولكن المشركين لا يفهمون تسبيحها، فالقصد من هذا توبيخهم وتقريعهم على اتباعهم الشركاء لله مع أن كل شيء ممن عداهم ينزهه عن كل نقص.(7/396)
أخرج سعيد بن منصور وابن أبي حاتم والطبراني وأبو نعيم في الحلية والبيهقي في الأسماء والصفات عن عبد الرحمن بن قرظ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسرى به إلى المسجد الأقصى كان جبريل عن يمينه وميكائيل عن يساره فطارا به حتى بلغ السماوات العلى، فلما رجع قال: " سمعت تسبيحاً في السماوات العلى مع تسبيح كثير، سبحت السماوات العلى من ذي المهابة مشفقات لذي العلو بما علا سبحان العلي الأعلى سبحانه وتعالى ".
وأخرج ابن مردويه عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال وهو جالس مع أصحابه إذ سمع هدة فقال: " أطت السماء، ويحقها أن تئط، والذي نفس محمد بيده ما فيها موضع شبر إلا فيه جبهة ملك ساجد يسبح الله بحمد " (1).
ثم زاد ذلك تعميماً وتأكيداً فقال: (وإن من شيء إلا يسبح) متلبساً (بحمده) فيشمل كل ما يسمى شيئاً كائناً ما كان حتى صرير الباب ونقيض السقف وتسبيحها سبحان الله وبحمده. وقيل أنه يحمل قوله ومن فيهن على الملائكة والثقلين ويحمل قوله وإن من شيء على ما عدا ذلك من المخلوقات.
وقد اختلف أهل العلم في هذا العموم هل هو مخصوص أم لا، فقالت طائفة ليس بمخصوص، وحملوا التسبيح على تسبيح الدلالة لأن كل مخلوق يشهد على نفسه ويدل غيره بأن الله خالق قادر.
وقالت طائفة هذا التسبيح على حقيقته والعموم على ظاهره، والمراد أن كل المخلوقات تسبح لله هذا التسبيح الذي معناه التنزيه، وإن كان البشر لا يسمعون ذلك لكونهم محجوبين عن سماعه ولا يفهمونه لكونه بغير لغاتهم.
_________
(1) أخرجه أبو نعيم في الحلية 6/ 269 بهذا اللفظ وبسند ضعيف.(7/397)
وهذا يقتضي أن تسبيح الجماد بلسان المقال وهو الذي اختاره الخازن وأثبته بأحاديث متعددة، قال في الجمل وهو قريب جداً، ويؤيد هذا قوله سبحانه (ولكن لا تفقهون) بالتاء والياء (تسبيحهم) فإنه لو كان المراد تسبيح الدلالة لكان أمراً مفهوماً لكل أحد.
وأجيب بأن المراد بقوله (لا تفقهون) الكفار الذين يعرضون عن الاعتبار وقالت طائفة: هذا العموم مخصوص بالملائكة والثقلين دون الجمادات، وقيل خاص بالأجسام النامية فيدخل النباتات، كما روى هذا القول عن عكرمة والحسن وخص تسبيح النباتات بوقت نموها لا بعد قطعها.
وقد استدل لذلك بحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر على قبرين وفيه " ثم دعا بعسيب رطب فشقه باثنين وقال أنه يخفف عنهما ما لم ييبسا " (1) ويؤيد حمل الآية على العموم قوله (إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشيّ والإشراق) وقوله (وإن منها لما يهبط من خشية الله) وقوله (وتخر الجبال هداً) ونحو ذلك من الآيات.
وثبت في الصحيح أنهم كانوا يسمعون تسبيح الطعام وهم يأكلون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم (2). وهكذا حديث حنين الجذع، وحديث أن حجراً بمكة كان يسلم جذملى النبي صلى الله عليه وسلم، وكلها في الصحيح.
ومن ذلك تسبيح الحصا في كفه صلى الله عليه وسلم، ومدافعة عموم هذه الآية بمجرد الاستبعادات، ليس دأب من يؤمن بالله سبحانه ويؤمن بما جاء من عنده.
قال السدي: ما اصطيد حوت في البحر ولا طائر يطير إلا بما يضيع من تسبيح الله تعالى.
_________
(1) مسلم 292 البخاري 164.
(2) البخاري كتاب المناقب باب 25 - الإمام أحمد 1/ 460.(7/398)
(إنه كان حليماً غفوراً) فمن حلمه الإمهال لكم وعدم إنزال عقوبته عليكم على غفلتكم وسوء نظركم وجهلكم بالتسبيح، ومن مغفرته لكم أنه لا يؤاخذ من تاب منكم.
أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ في العظمة عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ألا أخبركم بشيء أمر به نوح ابنه أن نوحاً قال لابنه: يا بني آمرك أن تقول سبحان الله فإنها صلاة الخلائق وتسبيح الخلق وبها يرزق الخلق " قال الله تعالى (وإن من شيء إلا يسبح بحمده).
وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " قرصت نملة نبياً من الأنبياء فأمر بقرية النمل فأحرقت فأوحى الله إليه من أجل نملة واحدة أحرقت أمة من الأمم تسبح " (1).
وأخرج النسائي وأبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عمر وقال: نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن قتل الضفدع وقال " نقيقها تسبيح " (2) وأخرج أبو الشيخ في العظمة وابن مردويه عن ابن عباس قال: الزرع يسبح وأجره لصاحبه والثوب يسبح ويقول الوسخ إن كنت مؤمناً فاغسلني إذن، وعنه قال: كل شيء يسبح إلا الكلب والحمار أخرجه أبو الشيخ.
وعن الحسن قال: هذه الآية في التوراة كقدر ألف آية وإن من شيء إلا يسبح بحمده، قال: في التوراة تسبح له الجبال وتسبح له الشجر ويسبح له كذا وكذا، وفي الباب أحاديث وروايات عن السلف فيها تصريح بتسبيح جميع المخلوقات.
_________
(1) مسلم 2241 - البخاري 1434.
(2) صحيح الجامع الصغير 6848 بلفظ " نهى عن قتل الضفدع للدواء " - الروض النضير/265.(7/399)
وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا (45) وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا (46) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (47) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (48) وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (49) قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا (50)
ولما فرغ سبحانه من الإلهيات شرع في ذكر بعض من آيات القرآن وما يقع من سامعيه فقال(7/400)
وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا (45)
(وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة) وهم المنكرون للبعث (حجاباً مستوراً) يحجب قلوبهم عن فهمه والانتفاع به أي أنهم لإعراضهم عن قراءتك وتغافلهم عنك كمن بينك وبينه حجاب يمرون بك ولا يرونك، ذكر معناه الزجاج وغيره ومعنى مستوراً ساتراً.
قال الأخفش: والفاعل قد يكون في لفظ المفعول كما تقول إنك لممشؤوم وميمون وإنا هو شائم ويأمن، وقيل معناه ذا ستر كقولهم سيل مفعم أي ذو إفعام، وقيل هو حجاب لا تراه الأعين فهو مستور عنها، وقيل حجاب من دونه حجاب فهو مستور بغيره، وقيل المراد بالحجاب المستور الطبع والختم؛ قال السيوطي: نزل فيمن أراد الفتك به صلى الله عليه وسلم انتهى. كأبى جهل وأم جميل زوجة أبي لهب.
والمراد بما في الآية مطلق القرآن أو ثلاث آيات مشهورات من النحل والكهف والجاثية وهي في سورة النحل (أولئك الذين طبع الله على قلوبهم وسمعهم) الآية وفي سورة الكهف(7/400)
وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا (46)
(وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه) الآية وفي حم الجاثية (أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم) الآية(7/400)
فكأن الله تعالى يحجبه ببركة هذه الآيات عن عيون المشركين. ذكره الخطيب.
وفي القرطبي (قلت) ويزاد إلى هذه الآيات أول سورة يس إلى قوله (فهم لا يبصرون) فإن في السيرة في هجرة النبي صلى الله عليه وسلم ومقام عليّ في فراشه قال: وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ حفنة من تراب في يده وأخذ الله على أبصارهم فلا يرونه فجعل ينثر ذلك التراب على رؤوسهم وهو يتلو هذه الآيات من يس حتى فرغ ولم يبق منهم رجل إلا وقد وضع على رأسه ترابا ثم انصرف إلى حيث أراد أن ينصرف.
(وجعلنا على قلوبهم أكنة) جمع كنان وهي الأغطية وقد تقدم تفسيره في الأنعام وقيل هو حكاية لما كانوا يقولونه من قولهم قلوبنا غلف وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب (أن يفقهوه) أي كراهة أن يفقهوه أو لئلا يفقهوه أي يفهموا ما فيه من الأوامر والنواهي والحكم والمعاني.
(وجعلنا في آذانهم وقراً) أي صمماً وثقلاً كراهة أن يسمعوه أو لئلا يسمعوه ومن قبائح المشركين أنهم كانوا يحبون أن يذكر آلهتهم كما يذكر الله سبحانه فإذا سمعوا ذكر الله دون ذكر آلهتهم نفروا عن المجلس كما قال تعالى:
(وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده) يقال وحد يحد وحداً وحدة نحو وعد يعد وعداً وعدة فهو مصدر سد مسد الحال أصله يحد وحده بمعنى واحداً، وقال يونس منصوب على الظرف.
(ولوا على أدبارهم نفوراً) هو مصدر بمعنى التولية والتقدير هربوا نفوراً أو نفروا نفوراً، وقيل جمع نافر كقاعد وقعود قاله البيضاوي والشهاب والأول أولى، وقيل المصدر في موضع الحال والمعنى ولوا نافرين، قال ابن عباس: ولوا نفور الشياطين.(7/401)
نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (47)
(نحن أعلم بما) أي بالحال الذي (يستمعون) القرآن (به) أي متلبسين به من اللغو والاستخفاف والهزء بك وبالقرآن، وقيل الباء للسببية أو(7/401)
بمعنى اللام وعبارة الكواشي بما يستمعون به هازئين، وقال الزمخشري: يستمعون بالهزء (إذ يستمعون إليك) ظرف لأعلم وفيه تأكيد للوعيد.
(وإذ هم نجوى) أي ونحن أعلم بما يتناجون به فيما بينهم وقت تناجيهم وقد كانوا يتناجون بينهم بالتكذيب والاستهزاء (إذ) بدل من إذ قبله (يقول الظالمون) أي الوليد بن المغيرة وأصحابه (إن تتبعون) أي يقول كل منهم للآخرين عند تناجيهم ما تتبعون (إلا رجلا مسحوراً) أي سحر به فاختلط عقله وزال عن حد الاعتدال.
قال ابن الأعرابي: المسحور الذاهب العقل الذي افسد من قولهم طعام مسحور إذا أفسد عمله وأرض مسحورة أصابها من المطر أكثر مما ينبغي فأفسدها وقيل هو المخدوع لأن السحر الحيلة والخديعة وذلك لأنهم زعموا أن محمداً صلى الله عليه وسلم كان يتعلم من بعض الناس وكانوا يخدعونه بذلك التعليم.
وقال أبو عبيدة: معنى مسحوراً أن له سحراً أي رئة فهو لا يستغني عن الطعام والشراب فهو مثلكم وتقول العرب للجبان قد انتفخ سحره وكل من كان يأكل من آدمي أو غيره مسحور، قال ابن قتيبة: لا أدري ما حمله على هذا التفسير المستكره مع أن السلف فسروه بالوجوه الواضحة.(7/402)
انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (48)
(انظر كيف ضربوا لك الأمثال) أي قالوا تارة إنك كاهن وتارة ساحر وتارة شاعر وتارة مجنون (فضلوا) عن طريق الصواب في جميع ذلك وحادوا (فلا يستطيعون سبيلاً) إلى الهدى أو الحق أو الطعن الذي تقبله العقول السليمة ويقع التصديق له لا أصل الطعن فقد فعلوا منه ما قدروا عليه وقيل لا يستطيعون مخرجاً لتناقض كلامهم كقولهم ساحر كاهن مجنون شاعر.
ولما فرغ سبحانه من حكاية شبهة القوم في النبوات حكى شبهتهم في أمر المعاد فقال(7/402)
وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (49)
(وقالوا أئذا كنا عظاماً ورفاتاً) الاستفهام للاستنكار والاستبعاد لما بين رطوبة الحي ويبوسة الرميم من المباعدة والمنافاة وتقرير الشبهة أن الإنسان(7/402)
إذا مات جفت عظامه وتناثرت وتفرقت في جوانب العالم واختلطت بسائطها بأمثالها من العناصر فكيف يعقل بعد ذلك اجتماعها بأعيانها ثم عود الحياة إلى ذلك المجموع.
فأجاب سبحانه عنهم كما سيأتي بأن إعادة بدن الميت إلى حال الحياة أمر ممكن ولو فرضتم أن بدنه قد صار أبعد شيء من الحياة ومن رطوبة الحي كالحجارة والحديد فهو كقول القائل أتطمع فيَّ وأنا ابن فلان فيقول كن ابن السلطان أو ابن من شئت فسأطلب منك حقي.
والرفات ما تكسر وبلى من كل شيء كالفتاة والحطام والرضاض قاله أبو عبيدة والكسائي والفراء والأخفش يقول منه رفت الشيء رفتاً أي حطم فهو مرفوت وقيل الرفات الغبار قاله ابن عباس وقيل التراب، قال مجاهد ويؤيده أنه تكرر في القرآن تراباً وعظاماً، وقيل الرفات هو ما بولغ في دقه وتفتيته وهو اسم لأجزاء ذلك الشيء المفتت أي أجزاء متفتتة.
(أئنا لمبعوثون خلقاً جديداً) كرر الاستفهام الدال على الاستنكار والاستبعاد تأكيداً وتقريراً(7/403)
قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا (50)
(قل كونوا حجارة أو حديداً) قال ابن جرير: معناه إن عجبتم من إنشاء الله لكم عظاماً ولحماً فكونوا أنتم حجارة في الشدة أو حديداً في القوة إن قدرتم على ذلك.
وقال علي بن عيسى: معناه أنكم لو كنتم حجارة أو حديداً لم تفوتوا الله عز وجل إذا أرادكم إلا أنه خرج مخرج الأمر لأنه أبلغ من الإلزام.
وقيل معناه لو كنتم حجارة أو حديداً لأعادكم كما بدأكم ولأماتكم ثم أحياكم قال النحاس: وهذا قول حسن لأنهم لا يستطيعون أن يكونوا حجارة أو حديداً وإنما المعنى أنهم قد أقروا بخالقهم وأنكروا البعث فقيل لهم استشعروا أن تكونوا ما شئتم فلو كنتم حجارة أو حديداً لبعثتم كما خلقتم أول مرة فليس المراد الأمر وإنما عبر فيه بمادة الكون لتعبيرهم بها في سؤالهم، قلت وعلى هذا الوجه قررنا جواب الشبهة قبل هذا.(7/403)
أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا (51) يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا (52) وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا (53) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (54)(7/404)
أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا (51)
(أو خلقاً مما يكبر في صدوركم) أي يعظم عندكم مما هو أكبر من الحجارة والحديد مباينة للحياة فإنكم لمبعوثون لا محالة وقيل المراد به السماوات والأرض والجبال لعظمها في النفوس، وقال جماعة من الصحابة والتابعين: المراد به الموت لأنه ليس شيء أكبر في نفس ابن آدم منه.
والمعنى لو كنتم الموت لأماتكم الله ثم بعثكم ولا يخفى ما في هذا من البعد لأن معنى الآية الترقي من الحجارة إلى الحديد ثم من الحديد إلى ما هو أكبر في صدور القوم منه والموت نفسه ليس بشيء يعقل ويحس حتى يقع الترقي من الحديد إليه.
(فسيقولون من يعيدنا) إلى الحياة إذا كنا عظاماً ورفاتاً أو حجارة أو حديداً مع ما بين الحالتين من التفاوت (قل) يعيدكم (الذي فطركم) خلقكم واخترعكم (أول مرة) أي عند ابتداء خلقكم من غير مثال سابق ولا صورة متقدمة فمن قدر على البدء والإنشاء قدر على الإعادة بل هي أهون.
(فسينغضون إليك رؤوسهم) أي يحركونها استهزاء، يقال نغض رأسه ينغض نغضاً ونغوضاً إذا تحرك وانغض رأسه حركه كالمتعجب من الشيء (ويقولون) استهزاء وسخرية (متى هو) أي البعث والإعادة (قل عسى أن يكون قريبًا) أي هو قريب لأن عسى في كلام الله واجب الوقوع ومثله وما يدريك لعل الساعة تكون قريباً وكل ما هو آت قريب.(7/404)
يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا (52)
(يوم يدعوكم) الظرف منتصب بفعل مضمر أي أذكر أو بدل من قريباً أو التقدير يوم يدعوكم كان ما كان والدعاء النداء إلى المحشر بكلام يسمعه الخلائق وقيل هي الصيحة التي يسمعونها فتكون داعية لهم إلى الاجتماع في أرض المحشر وقيل أن المنادي جبريل وإن النافخ إسرافيل وصورة الدعاء والنداء أن يقول أيتها العظام البالية والأوصال المنقطعة واللحوم المتمزقة والشعور المتفرقة إن الله يأمركن أن تجتمعن لفصل القضاء. قاله الجلال المحلى في سورة ق.
(فتستجيبون بحمده) منقادين له حامدين لما فعله بكم وقيل المعنى فتستجيبون والحمد لله أو له الحمد، وقد روي أن الكفار عند خروجهم من قبورهم يقولون سبحانك اللهم وبحمدك. قاله سعيد بن جبير.
وقيل المراد بالدعاء هنا البعث وبالاستجابة أنهم يبعثون، فالمعنى يوم نبعثكم فتبعثون منقادين، والاستجابة موافقة الداعي فيما دعا إليه وهي الإجابة إلا أن الاستجابة تقتضي طلب الموافقة فهي أوكد من الإجابة. وقيل هذا خطاب مع المؤمنين فإنهم يبعثون حامدين. قال ابن عباس: معنى بحمده بأمره. وقال قتادة بمعرفته وطاعته.
(وتظنون) عند البعث (إن لبثتم) إن نافية وهي معلقة للظن عن العمل وقل من يذكر إن النافية في أدوات تعليق هذا الباب أي ما لبثتم في الدنيا أو في قبوركم (إلا) زمناً (قليلاً) وقيل بين النفختين وذلك إن العذاب يكف عن المعذبين بين النفختين وذلك أربعون عاماً ينامون فيها، فلذلك قالوا بعثنا من مرقدنا؛ وقيل أن الدنيا تحقرت في أعينهم وقلت حين رأوا يوم القيامة، لهول ما يرون فقالوا هذه المقالة. قاله قتادة.(7/405)
وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا (53)
(وقل) يا محمد صلى الله عليه وآله وسلم (لعبادي) المؤمنين (يقولوا) عند محاورتهم للمشركين الكلمة (التي هي أحسن) من غيرها من الكلام الخشن كأن يقولوا لهم إنكم من أهل النار فإنه يهيجهم إلى الشر مع أن(7/405)
عاقبتهم مغيبة عنا وهذا كقوله سبحانه (ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن) وقوله (فقولا له قولاً ليناً) لأن المخاشنة لهم ربما تنفرهم عن الإجابة أو تؤدي إلى ما قال سبحانه (ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدواً بغير علم) وهذا كان قبل نزول آية السيف.
وقيل المعنى قل لهم يأمروا بما أمر الله به وينهوا عما نهى الله عنه، وقيل هذه الآية للمؤمنين فيما بينهم خاصة والأول أولى كما يشهد له السبب. قال ابن سيرين: يعني لا إله إلا الله. وعن ابن جريج في الآية قال: يعفون عن السيئة وعن الحسن قال: يقول له يرحمك الله، يغفر الله لك.
(إن الشيطان ينزغ بينهم) بالفساد وإلقاء العداوة والإغراء، فلعل المخاشنة معهم تفضي إلى العناد وازدياد الفساد، قال اليزيدي: نزغ بيننا أي أفسد. وقال غيره: النزغ الإغراء، قال قتادة: نزغ الشيطان تحريشه، وفي القاموس نزغه كمنعه طعن فيه واغتابه وبينهم أفسد وأغوى ووسوس.
(إن الشيطان كان للإنسان عدواً مبيناً) أي متظاهراً بالعداوة ومكاشفاً بها وهو تعليل لما قبله، وقد تقدم مثل هذا في البقرة.(7/406)
رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (54)
(ربكم أعلم بكم) أي بعاقبة أمركم كما يدل عليه قوله (إن يشأ يرحمكم أو أن يشأ يعذبكم) قيل هذا خطاب للمشركين، والمعنى أن يشأ يوفقكم للإسلام فيرحمكم أو يميتكم على الشرك فيعذبكم، وقيل هو خطاب للمؤمنين، أي إن يشأ يرحمكم بأن يحفظكم من الكفار أو يرحمكم بالتوبة والإيمان، وإن يشأ يعذبكم بتسليطهم عليكم، وقيل أن هذا تفسير للكلمة التي هي أحسن.
(وما أرسلناك عليهم وكيلاً) أي ما وكلناك في منعهم من الكفر وقسرهم على الإيمان، وقيل ما جعلناك كفيلاً لهم تؤخذ بهم، قيل نسختها آية القتال.(7/406)
وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (55) قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا (56) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا (57) وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (58) وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا (59)(7/407)
وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (55)
(وربك أعلم بمن في السماوات والأرض) ذاتاً وحالاً واستحقاقاً فيختار منهم لنبوته وولايته من يشاء وهو رد لاستبعاد قريش أن يكون يتيم أبي طالب نبياً، وأن يكون العراة الجوع أصحابه، قاله البيضاوي.
أقول عبر بهذه العبارة حكاية عن الكفار، وإلا فلا يجوز إطلاقها على النبي صلى الله عليه وسلم حتى إنه أفتى بعض المالكية بقتل قائلها كما في الشفاء فكان ينبغي له تركها، وفي هذه الباء قولان أشهرهما أنها تتعلق بأعلم، ولا يلزم من ذلك تخصيص علمه بما فيهما فقط، والثاني أنها متعلقة بيعلم مقدراً، قاله الفارسي محتجاً بأنه يلزم من ذلك تخصيص علمه بما فيهما، وهو وهم لأنه لا يلزم من ذكر الشيء نفي الحكم عما عداه.
وهذا هو الذي يقول الأصوليون أنه مفهوم اللقب، ولم يقل به إلا أبو بكر الدقاق في طائفة قليلة والأصح خلافه، فالجمهور على أن اللقب لا يحتج به، قاله الكرخي وتمام هذا البحث في كتابنا حصول المأمول من علم الأصول فراجعه، وهذه الآية أعم من قوله (ربكم أعلم بكم) لأن هذا يشمل كل ما في السماوات والأرض من مخلوقاته، وذلك خاص ببني آدم أو ببعضهم.(7/407)
وهذا كالتوطئة لقوله (ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض) أي أن هذا التفضيل عن علم منه بمن هو أعلى رتبة وبمن هو دونه وبمن هو يستحق مزيد الخصوصية بتكثير فضائله وفواضله، أي فيخصهم بما شاء على قدر أحوالهم، قيل يعني بالفضائل النفسانية والتبري عن العلائق الجسمانية لا بكثرة الأموال والاتباع حتى داود عليه السلام فإن شرفه بما أوحى إليه من الكتاب كما يأتي لا بما أوتيه من الملك.
وقيل هو إشارة إلى تفيضل رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد تقدم هذا في البقرة، وقد اتخذ الله إبراهيم خليلاً وموسى كليماً وجعل عيسى كلمته وروحه، وجعل سليمان على نبينا وعليهم الصلوات والتسليمات ملكاً عظيماً، وغفر لمحمد صلى الله عليه وسلم ما تقدم من ذنبه وما تأخر وجعله سيد ولد آدم. وفي هذه الآية دفع لما كان ينكره الكفار مما يحكيه رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) من ارتفاع درجته عند ربه عز وجل.
ثم ذكر ما فضل به داود فقال (وآتينا داود زبوراً) أي كتاباً مزبوراً. قال الزجاج أي فلا تنكروا تفضيل محمد صلى الله عليه وسلم وإعطاءه القرآن فقد أعطى الله داود زبوراً، وفيه دلالة على وجه تفضيله وأنه خاتم الأنبياء وأن أمته خير الأمم لأن ذلك مكتوب في الزبور. قال تعالى (ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون) وهم محمد صلى الله عليه وسلم وأمته وإنما خصّ كتاب داود بالذكر لأن اليهود زعمت أنه لا نبي بعد موسى ولا كتاب بعد التوراة فكذبهم الله بقوله هذا.
وتعريف الزبور تارة وتنكيره أخرى، إما لأنه في الأصل فعول بمعنى المفعول أو مصدر بمعناه كالقبول، وإما لأن المراد إيتاء داود زبوراً من الزبر فيه ذكره صلى الله عليه وسلم.
قال قتادة: كنا نحدث أن الزبور دعاء علمه داود وتحميد وتمجيد لله عز وجل ليس فيه حلال ولا حرام ولا فرائض ولا حدود ولا أحكام.(7/408)
وعن الربيع بن أنس قال: الزبور على الله ودعاء وتسبيح.
قلت الأمر كما قاله قتادة والربيع، فإنا وقفنا على الزبور فوجدناه خطباً يخطبها داود عليه السلام ويخاطب بها ربه عند دخوله الكنيسة وجملته مائة وخمسون خطبة كل خطبة تسمى مزموراً بفتح الميم الأولى وسكون الزاي وضم الميم الثانية وآخره راء، ففي بعض هذه الخطب يشكو داود على ربه من أعدائه ويستنصره عليهم، وفي بعضها يحمد الله ويمجده ويثني عليه بسبب ما وقع له من النصر عليهم والغلبة لهم وكان عند الخطبة يضرب بالقيثارة وهي آلة من آلات الملاهي.
وقد ذكر السيوطي في الدر المنثور هاهنا روايات عن جماعة من السلف يذكرون ألفاظاً وقفوا عليها في الزبور ليس لها كثير فائدة فقد أغنى عنها وعن غيرها ما اشتمل عليه القرآن من الواعظ والزواجر.(7/409)
قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا (56)
(قل ادعوا الذين زعمتم من دونه) هذا رد على طائفة من المشركين كانوا يعبدون تماثيل على أنها صور الملائكة وعلى طائفة من أهل الكتاب كانوا يقولون بإلهية عيسى ومريم وعزير فأمر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يقول لهم ادعوا الذين زعمتم أنهم آلهة من دون الله.
وقيل أراد بالذين زعمتم نفراً من الجن عبدهم ناس من العرب وإنما خصصت الآية بمن ذكرنا لقوله الآتي يبتغون إلى ربهم الوسيلة فإن هذا لا يليق بالجمادات روي معنى ذلك عن ابن مسعود، وقال ابن عباس: كان أهل الشرك يعبدون الملائكة والمسيح وعزيراً والشمس والقمر.
(فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلاً) أي لا يستطيعون ذلك والمعبود الحق هو الذي يقدر على كشف الضر وعلى تحويله من حال إلى حال ومن مكان إلى مكان فوجب القطع بأن هذه التي تزعمونها آلهة ليست بآلهة.
ثم إنه سبحانه أكد عدم اقتدارهم ببيان غاية افتقارهم إلى الله في جلب المصالح ودفع المضار فقال(7/409)
أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا (57)
(أولئك الذين يدعون) قرئ بالتحتية على الخبر(7/409)
وقرأ ابن مسعود بالفوقية على الخطاب ولا خلاف في (يبتغون) أنه بالتحتية والضمير في (إلى ربهم) يعود إلى العابدين أو المعبودين (الوسيلة) هي القربة بالطاعة والعبادة أي يتضرعون إلى الله في طلب ما يقربهم إلى ربهم.
أخرج الترمذي وابن مردويه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " سلوا الله لي الوسيلة "، قالوا: وما الوسيلة؟ قال: " القرب من الله ثم قرأ هذه الآية " (1).
(أيهم أقرب) بالوسيلة إلى الله قاله الزجاج أي يتقرب إليه بالعمل الصالح أو يبتغي من هو أقرب إليه تعالى الوسيلة فكيف بمن دونه، وقيل أن يبتغون مضمن معنى يحرصون أي يحرصون أيهم أقرب إليه سبحانه بالطاعة والعبادة.
(ويرجون رحمته) كما يرجوها غيرهم (ويخافون عذابه) كما يخافه غيرهم فكيف يزعمون أنهم آلهة لأن الإله يكون غنياً بالغنى المطلق (إن عذاب ربك كان محذوراً) تعليل لقوله يخافون أي أن عذابه سبحانه حقيق بأن يحذره العباد من الملائكة والأنبياء وغيرهم.
ثم بينَّ سبحانه مآل الدنيا وأهلها فقال
_________
(1) الترمذي كتاب المناقب باب 1 - الإمام أحمد 2/ 265.(7/410)
وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (58)
(وإن) نافية للاستغراق (من) أي ما من (قرية) أي قرية كانت من قرى الكفار (إلا نحن مهلكوها) قال الزجاج: أي ما من أهل قرية إلا سيهلكون إما بموت أو خراب وإما بعذاب يستأصلهم وإنما قال (قبل يوم القيامة) لأن إهلاك يوم القيامة ليس بمختص بالقرى الكافرة بل يعم كل قرية لانقضاء عمر الدنيا (أو معذبوها عذاباً شديداً) بالقتل وأنواع العقاب إذا كفروا وعصوا.
وقيل الإهلاك للصالحة والتعذيب للطالحة والأول أولى لقوله تعالى (وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون) قال ابن مسعود: إذا ظهر الزنا والربا(7/410)
في قرية أذن الله في هلاكها وقد ذكر في المدارك عن مقاتل في تفسير هذه الآية عن كتب الضحاك خراب كل قرية خاصة وبلدة معينة بنوع خاص من العذاب وقسم مخصوص من الهلاك وليس بمرفوع حتى يعتمد عليه أو يصار إليه.
(كان ذلك) المذكور من الإهلاك والتعذيب (في الكتاب) أي اللوح المحفوظ قاله إبراهيم التيمي (مسطوراً) أي مكتوباً والسطر الخط وهو في الأصل مصدر والسطر بالتحريك مثله وجمع السطر أسطاراً وجمع السطر بالسكون أسطر عن عبادة بن الصامت قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " إن أول ما خلق الله القلم فقال له اكتب فقال: ما اكتب؟ قال: اكتب القدر وما هو كائن إلى يوم القيامة إلى الأبد " أخرجه الترمذي. (1)
_________
(1) الترمذي، كتاب القدر، باب 17 - تفسير سورة 68.(7/411)
وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا (59)
(وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون) قال المفسرون: إن أهل مكة سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجعل لهم الصفا ذهباً وأن ينحي عنهم جبال مكة فأتاه جبريل فقال: إن شئت كان ما سأله قومك ولكنهم إن لم يؤمنوا لم يمهلوا وإن شئت استأنيت بهم فأنزل الله هذه الآية روى معنى هذا أحمد والنسائي وغيرهما عن ابن عباس.
وأخرج البيهقي في الدلائل عن الربيع بن أنس قال: قال الناس لرسول الله صلى الله عليه وسلم: لو جئتنا بآية كما جاء بها صالح والنبيون فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " إن شئتم دعوت الله فأنزلها عليكم فإن عصيتم هلكتم " فقالوا: لا نريدها. والمعنى وما منعنا من إرسال الآية التي سألوها إلا تكذيب الأولين فإن أرسلناها وكذب بها هؤلاء عوجلوا ولم يمهلوا كما هو سنة الله سبحانه في عباده فالمنع مستعار للترك والاستثناء مفرغ من أعم(7/411)
الأشياء أي ما تركنا إرسالها لشيء من الأشياء إلا تكذيب الأولين فإن كذب بها هؤلاء كما كذب بها أولئك لحل بهم ما حل بهم لاشتراكهم في الكفر والعناد.
والحاصل أن المانع من إرسال الآية التي اقترحوها هو أن الاقتراح مع التكذيب موجب للهلاك الكلي وهو الاستئصال وقد عزمنا على أن نؤخر أمر من بعث إليهم محمد صلي الله عليه وسلم إلى يوم القيامة وقيل معنى الآية أن هؤلاء الكفار من قريش ونحوهم مقلدون لآبائهم فلا يؤمنون البتة كما لم يؤمن أولئك فيكون إرسال الآيات ضائعاً.
ثم أنه سبحانه استشهد على ما ذكر بقصة صالح وناقته فإنهم لما اقترحوا عليه ما اقترحوا من الناقة وصفتها التي قد بينت في محل آخر وأعطاهم الله ما أقترحوا فلم يؤمنوا استؤصلوا بالعذاب وإنما خص قوم صالح بالاستشهاد لأن آثار إهلاكهم في بلاد العرب قريبة من قريش وأمثالهم يبصرها صادرهم وواردهم فقال: (وآتينا ثمود الناقة) آية (مبصرة) أي ذات إبصار يدركها الناس بأبصارهم كقوله وجعلنا آية النهار مبصرة أو أسند إليها حال من يشاهدها مجازاً أو أنها جعلتهم ذوي إبصار من أبصره إذا جعله بصيراً (فظلموا بها) أي بتكذيبها أو فجحدوا بها أو كفروا بها (1) ظالمين ولم يكتفوا بمجرد الكفر أو الجحد فعاجلناهم بالعقوبة (وما نرسل بالآيات) المقترحة (إلا تخويفاً) من نزول العذاب المستأصل فإن لم يخافوا أنزل أو بغير المقترحة كالمعجزات وآيات القرآن إلا تخويفاً بعذاب الآخرة فإن أمر من بعثت إليهم مؤخر إلى يوم القيامة.
اختلف في تفسير الآيات على وجوه: الأول: أن المراد بها العبر والمعجزات التي جعلها الله على أيدي الرسل من دلائل الإنذار تخويفاً للمكذبين. الثاني: أنها آيات الانتقام تخويفاً من المعاصي. الثالث: تقلب الأحوال من صغر إلى شباب ثم إلى تكهل ثم إلى شيب ليعتبر الإنسان بتقلب أحواله فيخاف عاقبة أمره. الرابع: آيات القرآن. الخامس: الموت الذريع والمناسب للمقام تفسير الآيات المذكورة بالآيات المقترحة كما تقدم.
_________
(1) هذا على تقدير تضمين ظلموا معنى جحدوا أو كفروا أهـ.(7/412)
وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا (60) وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا (61)
ولما ذكر سبحانه الامتناع من إرسال الآيات المقترحة على رسوله صلى الله عليه وسلم للصارف المذكور قوى قلبه بوعد النصر والغلبة فقال(7/413)
وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا (60)
(و) اذكر (إذ قلنا لك إن ربك أحاط بالناس) يعني أنهم في قبضته وتحت قدرته فلا سبيل لهم إلى الخروج مما يريده بهم لإحاطته بهم بعلمه وقدرته وقيل المراد بالناس أهل مكة وإحاطته بهم إهلاكه إياهم أي أن الله سيهلكهم وعبر بالماضي تنبيهاً على تحقيق وقوعه وذلك كما وقع في يوم بدر ويوم الفتح.
وقيل المراد أنه سبحانه عصمه من الناس أن يقتلوه حتى يبلغ رسالة ربه.
(وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس) لما بيّن سبحانه أن إنزال الآيات يتضمن التخويف ضم إليه ذكر آية الإسراء وهي المذكورة في صدر السورة وسماها رؤيا لأنها وقعت بالليل أو لأن الكفرة قالوا لعلها رؤيا وقد قدمنا في صدر السورة وجهاً آخر في تفسير هذه الرؤيا وكانت الفتنة ارتداد قوم كانوا أسلموا حين أخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم أنه أسري به.
وقيل كانت رؤيا نوم وأن النبي صلى الله عليه وسلم رأى أنه يدخل مكة هو وأصحابه وهو يومئذ بالمدينة فسار إلى مكة قبل الأجل فرده المشركون فقال(7/413)
ناس: قد ورد وقد كان حدثنا أنه سيدخلها فكانت رجعته فتنتهم فافتتن المسلمون لذلك فلما فتح الله مكة نزل قوله تعالى (لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق).
وقد تعقب هذا بأن هذه الآية مكية والرؤيا المذكورة كانت بالمدينة، وأجيب بأنه لا يبعد أنه صلى الله عليه وسلم رأى ذلك بمكة ثم كان حقيقة بالمدينة وفيه تكلف.
وقال الخفاجي: بعيد لقلة جدواه، قيل أن هذه الرؤيا هي أنه رأى بني مروان ينزون على منبره نزو القردة فساءه ذلك فقيل إنما هو هي الدنيا أعطوها فسرى عنه وفيه ضعف جداً فإنه لا فتنة للناس في هذه الرؤيا إلا أن يراد بالناس رسول الله صلى الله عليه وسلم وحده ويراد بالفتنة ما حصل من الإساءة لرسول الله صلى الله عليه وسلم أو يحمل على أنه قد كان أخبر الناس بها فافتتنوا.
وقيل أن الله سبحانه أراه في المنام مصارع قريش حتى قال: والله لكأني أنظر إلى مصارع القوم وهو يومئ إلى الأرض ويقول هذا مصرع فلان هذا مصرع فلان فلما سمع ذلك قريش جعلوا رؤياه سخرية.
وقد تعارضت هذه الأسباب ولم يمكن الجمع بينها فالواجب المصير إلى الترجيح والراجح كثرة وصحة هو كون سبب نزول هذه الآية قصة الإسراء فتعين ذلك، قال ابن عباس: رؤيا عين أريها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليلة المعراج وهي ليلة أسرى به إلى بيت المقدس، أخرجه البخاري، وبه قال سعيد بن جبير والحسن ومسروق وقتادة ومجاهد وعكرمة وابن جريج وغيرهم، وقد حكى ابن كثير إجماع الحجة من أهل التأويل على ذلك في الرؤيا وفي تفسير الشجرة الآتية وأنها شجرة الزقوم فلا اعتبار بغيرهم معهم.(7/414)
(والشجرة الملعونة في القرآن) عطف على الرؤيا قيل والتقدير وما جعلنا الرؤيا التي أريناك والشجرة الملعونة في القرآن إلا فتنة للناس قال جمهور المفسرين: هي شجرة الزقوم، وكذا أخرجه أحمد والبخاري والترمذي والنسائي وغيرهم عن ابن عباس والمراد بلعنها لعن آكلها كما قال سبحانه (إن شجرة الزقوم طعام الأثيم) قال الزجاج: أن العرب تقول لكل طعام مكروه ملعون ولأن اللعن هو الإبعاد من الرحمة وهي في أصل الجحيم في أبعد مكان من الرحمة.
ومعنى الفتنة فيها أن أبا جهل وغيره قالوا: زعم صاحبكم أن نار جهنم تحرق الحجر ثم يقول تنبت فيه الشجر فأنزل الله هذه الآية (وما قدروا الله حق قدره) إذ قالوا ذلك فإنه لا يمتنع أن يجعل الله الشجرة من جنس لا تأكله النار، فوبر السمندر وهو دويبة بلاد الترك تتخذ منه مناديل إذا اتسخت طرحت في النار فذهب الوسخ وبقي المنديل سالماً لا تعمل فيه النار، وترى النعامة تبتلع الجمر فلا يضرها، وخلق في كل شجرة ناراً فلا تحرقها فجاز أن يخلق في النار شجرة لا تحرقها وروي أن أبا جهل أمر جارية فأحضرت تمراً وزبداً وقال لأصحابه: تزقموا.
وقال ابن الزبعرى: كثر الله من الزقوم في داركم فإنه التمر والزبد بلغة اليمن، وقيل هي التي تلتوي على الشجرة فتقتلها وهي شجرة الكشوث، وقيل هي الشيطان، وقيل هي اليهود، وقيل بنو أمية.
وعن عائشة أنها قالت لمروان بن الحكم: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لأبيك وجدك إنكم الشجرة الملعونة في القرآن، وفي هذا نكارة.
(ونخوّفهم) بالآيات وبنظائرها، وإيثار صيغة الاستقبال للدلالة على(7/415)
التجدد والاستمرار (فما يزيدهم) التخويف (ألا طغياناً) متجاوزاً للحد متمادياً غاية التمادي (كبيراً) فما يفيدهم إرسال الآيات إلا الزيادة في الكفر؛ فعند ذلك نفعل بهم ما فعلناه بمن قبلهم من الكفار وهو عذاب الاستئصال ولكنا قد قضينا بتأخير العقوبة.
ولما ذكر سبحانه أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان في بلية عظيمة من قومه ومحنة شديدة أراد أن يبين أن جميع الأنبياء على نبينا وعليهم الصلاة والسلام كانوا كذلك حتى إن هذه عادة قديمة سنها إبليس اللعين مع أول الأنبياء، وأيضاً لما ذكر أن الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته. ويخافون عذابه، ذكر هاهنا ما يحقق ذلك فقال:(7/416)
وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا (61)
(وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم) هذه القصة قد ذكرها الله سبحانه في سبعة مواضع: في البقرة والأعراف والحجر وهذه السورة والكهف وطه وص وقد تقدم تفسيرها مبسوطاً.
(فسجدوا إلا إبليس قال أأسجد لمن خلقت طيناً) نصب بنزع الخافض، أي من طين كما صرح به في الآية الأخرى (وخلقته من طين) وذلك أن آدم خلق من تراب الأرض؛ من عذبها وملحها، فمن خلق من العذب فهو سعيد ومن خلق من الملح فهو شقي.
وقال الزجاج: منصوب على الحال أو التمييز وتبعه فيه ابن عطية، ولا يظهر ذلك إذ لم يتقدم إبهام ذات ولا نسبة.(7/416)
قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا (62) قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا (63) وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (64) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا (65)(7/417)
قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا (62)
(قال أرأيتك) أي أخبرني عن (هذا الذي كرمت) أي فضلته (عليَّ) بأمري بالسجود له لم كرمته عليَّ وقد خلقتني من نار، ولم يجبه عن هذا السؤال إهمالاً له وتحقيراً حيث اعترض على مولاه وسأله بلم (لئن أخرتن إلى يوم القيامة) كلام مبتدأ أو اللام موطئة للقسم، وجوابه (لأحتنكن ذريته) أي لأستولين عليهم بالإغواء والإضلال قال الواحدي: أصله من احتناك الجراد الزرع وهو إن تستأصله بإحناكها وتفسده، وهذا هو الأصل؛ ثم سمى الاستيلاء على الشيء وأخذه كله احتناكاً.
وقيل معناه لأسوقنهم وأقودنهم حيث أردت من حنك الدابة إذا جعل الرسن في حنكها، وفي المختار حنك الفرس جعل في فيه الرسن وبابه نصر وضرب والحنك المنقار، يقال أسود مثل حنك الغراب وأسود حانك مثل حالك والحنك ما تحت الذقن من الإنسان، والمعنى الأول أنسب بمعنى هذه الآية.
وقال مجاهد: المعنى لأحتوينهم. وعن ابن زيد قال: لأضلنهم، وإنما أقسم اللعين هذا القسم على أنه سيفعل بذرية آدم ما ذكره لعلم قد سبق إليه من سمع استرقه أو أنه استنبط ذلك من قول الملائكة: أتجعل فيها من يفسد فيها، وقيل علم ذلك من طبع البشر لما ركب فيهم من الشهوات أو ظن ذلك لأنه وسوس لآدم فقبل منه ذلك ولم يجد له عزماً، كما روي عن الحسن أو قاله(7/417)
لما ظنه من قوة نفوذ كيده في بني آدم، وأنه يجري منهم في مجاري الدم، وأنهم بحيث يروج عندهم كيده وينفق لديهم وسوسته، إلا من عصم الله كالأنبياء وصلحاء هذه الأمة وهم المرادون بقوله:
(إلا قليلاً) قيل من كل ألف واحد، وفي معنى هذا الاستثناء قوله تعالى سبحانه (إن عبادي ليس لك عليهم سلطان) ويؤيده ما ذكرناه قوله تعالى (ولقد صدق عليهم إبليس ظنه) فإنه يفيد أنه قال ما قاله هنا إعتماداً على الظن.(7/418)
قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا (63)
(قال) الله تعالى (اذهب) ليس من الذهاب الذي هو ضد المجيء، وإنما معناه امض لشأنك الذي اخترته خذلاناً وتخلية بينه وبين ما سوّلته نفسه، أمره بأوامر خمسة القصد بها التهديد والاستدراج لا التكليف، لأنها كلها معاص والله لا يأمر بها؛ والمعنى اذهب منظراً إلى وقت النفخة الأولى مع أن غرضه الإمهال والإنظار إلى النفخة الثانية، وغرضه بذلك طلب أن لا يموت أصلاً لأنه يعلم أنه لا موت بعد النفخة الثانية.
ثم عقب الذهاب بذكر ما جره سوء اختياره فقال (فمن تبعك) وأطاعك (منهم فإن جهنم جزاؤكم) أي إبليس ومن أطاعه، والخطاب للتغليب لأنه تقدم غائب ومخاطب في قوله (فمن تبعك منهم) فغلب المخاطب أو يكون الخطاب مراداً به من خاصة ويكون ذلك على سبيل الالتفات (جزاء موفوراً) أي وافراً مكملاً، يقال وفرته أفره وفراً، ووفر المال بنفسه يفر وفوراً فهو وافر فهو مصدر.
ثم كرر سبحانه الإمهال لإبليس اللعين فقال:(7/418)
وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (64)
(واستفزز) أي استزعج واستعجل واستزل واستخف (من استطعت) إن تستفزه (منهم) أي من بني آدم، يقال أفزه واستفزه أي أزعجه واستخفه والمعنى استخفهم (بصوتك) داعياً لهم إلى معصية الله، وقيل هو الوسوسة والغناء واللهو واللعب والمزامير (وأجلب) قال الفراء وأبو عبيدة: من الجلبة والصياح أي صح (عليهم)(7/418)
وقال الزجاج: أي اجمع عليهم ما تقدر عليه من مكايدك وحبائلك وأحثهم على الإغواء فالإجلاب الجمع.
وقال ابن السكيت: الإجلاب الإعانة، أي استعن عليهم وتصرف فيهم بكل ما تقدر، والأمر للتهديد كما يقال اجتهد جهدك فسترى ما ينزل بك (بخيلك) أي بركبان جندك؛ والخيل يقع على الفرسان كقوله صلى الله عليه وسلم " يا خيل الله اركبي " ويقع على الأفراس، قاله ابن السكيت، قيل الباء للملابسة أي صح وصوّت عليهم حال كونك متلبساً ومصحوباً بجنودك.
قلت كون الباء للملابسة بعيد من حيث المعنى المراد كما تدل عليه عبارة اللغويين واللائق بها أن تكون زائدة، وقد نص الشهاب على زيادتها، وفي المختار جلب على فرسه يجلب جلباً صاح به من خلفه واستحثه للسبق وكذا أجلب عليه، وهذا يقتضي زيادة الباء، والمعنى حث وأسرع عليهم جندك خيلاً ومشاة لتدركهم وتتمكن منهم فليتأمل (ورجلك) أي مشاتك؛ يقال أن له خيلاً ورجلاً من الجن والإنس، فكل من ركب أو مشى في معصية الله فهو من جند إبليس، والرجل بسكون الجيم جمع راجل، كتاجر وتجر وصاحب وصحب.
وقال أبو زيد: يقال رجل ورجل بمعنى راجل، وقيل اسم لراجل بمعنى الماشي، وقرئ في السبعة بكسر الجيم وهو مفرد بمعنى الجمع فهو بمعنى المشاة، فالخيل والرجل كناية عن جميع مكايد الشيطان أو المراد ضرب المثل كما تقول للرجل المجد في الأمر جئتنا بخيلك ورجلك والحمل على الظاهر أولى.
(وشاركهم في الأموال والأولاد) أما المشاركة في الأموال فهي كل تصرف فيها يخالف وجه الشرع سواء كان أخذاً من غير حق أو وضعاً في غير حق كالغصب والسرقة والربا، ومن ذلك تبتيك آذان الأنعام وجعلها بحيرة وسائبة، والمشاركة في الأولاد دعوى الولد بغير سبب شرعي وتحصيله بالزنا(7/419)
وتسميتهم بعبد اللات والعزى والإساءة في تربيتهم على وجه يألفون فيه خصال الشر وأفعال السوء.
ويدخل فيه ما قتلوا من أولادهم خشية إملاق ووأد البنات وتصيير أولادهم على الملة الكفرية التي هم عليها من الأديان الزائغة والحرف الذميمة والأفعال القبيحة ومن ذلك مشاركة الشيطان للمجامع إذا لم يسم. وعن ابن عباس أنه سأله رجل فقال: إن امرأتي استيقظت وفي فرجها شعلة نار، قال ذلك من وطء الجن.
ثم قال (وعدهم) بأنهم لا يبعثون قاله الزجاج: وقال الفراء: أي قل لهم لا جنة ولا نار، وقيل وعدهم المواعيد الكاذبة الباطلة من النصرة على من خالفهم وشفاعة الآلهة والكرامة على الله بالأنساب الشريفة والاتكال على كرامة الله وتأخير التوبة لطول الأمل وإيثار العاجل على الآجل ونحو ذلك، وهذا على طريق التهديد كقوله (اعملوا ما شئتم).
(وما يعدهم الشيطان إلا غروراً) أي باطلاً اعتراض لبيان مواعيده فإنه وقع بين الجمل التي خاطب الله بها الشيطان وفيه إظهار في مقام الإضمار والإلتفات عن الخطاب إلى الغيبة وكان مقتضى الظاهر أن يقال وما تعدهم إلا غروراً، وأصل الغرور تزيين الخطأ بما يوهم الصواب.(7/420)
إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا (65)
(إن عبادي ليس لك عليهم سلطان) يعني عباده المؤمنين كما في غير هذا الموضع من الكتاب العزيز من أن إضافة العباد إليه يراد بها المؤمنون لما في الإضافة من التشريف وقيل المراد الأنبياء وأهل الصلاح والفضل لأنه لا يقدر على إغوائهم وقيل المراد جميع العباد بدليل الاستثناء بقوله في غير هذا الموضع إلا من اتبعك من الغاوين والمراد بالسلطان التسلط.
(وكفى بربك) الباء زائدة في الفاعل (وكيلاً) يتوكلون عليه فهو الذي يدفع عنهم كيدك ويعصمهم من إغوائك ولهذا قال المحققون: لا حول عن معصية الله إلا بعصمته ولا قوة على طاعته إلا بقوته.(7/420)
رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (66) وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا (67) أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا (68) أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا (69)(7/421)
رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (66)
(ربكم الذي يزجي) الإزجاء السوق والدفع والإجراء والتسيير ومنه قوله تعالى ألم تر أن الله يزجي سحاباً وهذا تعليل لكفايته وبيان لقدرته على عصمة من توكل عليه في أموره وشروع في تذكير بعض النعم عليهم حملاً لهم على الإيمان حتى لا يعبدوا غيره ولا يشركون به أحداً.
والمعنى أن الله سبحانه يسير (لكم الفلك في البحر) بالريح والفلك هنا جمع بمعنى السفائن وقد تقدم والبحر هو الماء الكثير عذباً كان أو مالحاً وقد غلب هذا الاسم على المشهور (لتبتغوا من فضله) أي من رزقه الذي تفضل به على عباده أو من الربح بالتجارة أو أنواع الأمتعة التي لا تكون عندكم ومن زائدة أو للتبعيض.
(إنه كان بكم رحيماً) تعليل ثان لما تقدم أي فهداكم إلى مصالح دنياكم(7/421)
وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا (67)
(وإذا مسَّكم الضُر) يعني خوف الغرق (في البحر ضل من تدعون) من الآلهة وذهب عن خواطركم ولم يوجد لإغاثتكم ما كنتم تدعون من دونه من صنم أو جن أو ملك أو بشر أو حجر في حوادثكم (إلا إياه) وحده فإنكم تعقدون رجاءكم برحمته وإغاثته والاستثناء متصل إن كان المراد بمن جميع الآلهة ومنقطع إن كان المراد بها غيره تعالى.
ومعنى الآية أن الكفار إنما يعتقدون في أصنامهم وسائر معبوداتهم أنها(7/421)
نافعة لهم في غير هذه الحالة، فأما في هذه الحالة فإن كل واحد منهم يعلم بالفطرة علماً لا يقدر على مدافعته أن الأصنام ونحوها لا فعل لها.
(فلما نجاكم) من الغرق وأوصلكم (إلى البر أعرضتم) عن الإخلاص لله وتوحيده ورجعتم إلى دعاء أصنامكم والاستغاثة بها (وكان الإنسان كفوراً) أي كثير الكفران لنعمة الله وهو تعليل لقوله (أعرضتم) والمعنى أنهم عند الشدائد يتمسكون برحمة الله وفي الرخاء يعرضون عنه وترك فيه خطابهم تلطفاً بهم بحيث لم يقل وكنتم كفاراً.
ثم أنكر عليهم سبحانه سوء معاملتهم قائلاً(7/422)
أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا (68)
(أفأمنتم أن يخسف بكم جانب البر) الهمزة للإنكار والتوبيخ والتقريع والفاء عاطفة على مقدر والتقدير أنجوتم من الغرق فأمنتم فحملكم ذلك على الإعراض فبينَّ لهم أنه قادر على إهلاكهم في البر وأن سلموا من البحر لأن الجهات كلها له وفي قدرته براً كان أو بحراً يعني إن كان الغرق في البحر ففي جانب البر ما هو مثله وهو الخسف لأنه يغيب تحت الثرى كما أن الغرق يغيب تحت الماء.
وأصل الخسف أن تنهار الأرض بالشيء يقال: بئر خسيف إذا انهدم أصلها وعين خاسفة، أي غائرة حدقتها في الرأس وخسفت عين الماء إذا غار ماؤها وخسفت الشمس إذا غابت عن الأرض وجانب البر ناحية الأرض وسماه جانباً لأنه يصير بعد الخسف جانباً وأيضاً فإن البحر جانب من الأرض والبر جانب.
وقيل إنهم كانوا على ساحل البحر وساحله جانب البر فكانوا فيه آمنين من مخاوف البحر فحذرهم ما أمنوه من البر كما حذرهم ما خافوه من البحر وقال السمين: المعنى جانب البر الذي أنتم فيه فيلزم من خسفه هلاككم ولولا هذا التقدير لم يكن في التوعد به فائدة انتهى وجملة هذه الأفعال خمسة وكلها(7/422)
تقرأ بالياء ولا التفات حينئذ وبالنون التفاتاً عن الغيبة إلى التكلم والقراءتان سبعيتان.
(أو يرسل عليكم حاصباً) قال أبو عبيدة والقتيبي الحصب الرمي أي ريحاً شديدة حاصبة وهي التي ترمي بالحصباء الصغار؛ وقال الزجاج: الحاصب التراب الذي فيه حصباء، فالحاصب هو ذو الحصباء كاللابن والتامر، وقيل الحاصب حجارة من السماء، قاله قتادة تحصبهم كما فعل بقوم لوط، ويقال للسحابة التي ترمي بالبرد حاصب.
(ثم لا تجدوا لكم وكيلاً) أي حافظاً ونصيراً يمنعكم من بأس الله(7/423)
أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا (69)
(أم) متصلة أي أيّ الأمرين كائن أو منقطعة أي بل (أمنتم أن يعيدكم فيه) أي في البحر بأن يقوي دواعيكم ويوفر حوائجكم إلى ركوبه وجاء بفي ولم يقل إلى البحر للدلالة على استقرارهم فيه (تارة) أي مرة (أخرى) وهو مصدر ويجمع على تيرة وتارات وألفها واو أو ياء.
(فيرسل عليكم قاصفاً من الريح) القاصف الريح الشديدة التي تكسر بشدة من قصف الشيء يقصفه من باب ضرب أي كسره بشدة والقصف الكسر أو هو الريح التي لها قصف أي صوت شديد من قولهم رعد قاصف أي شديد الصوت، وقال ابن عباس: الريح التي تغرق، وقال ابن عمرو: القاصف والعاصف في البحر.
(فيغرقكم) وقرئ بالفوقية على أن فاعله الريح (بما كفرتم) أي بسبب كفركم أو بالسبب الذي كفرتم به وما مصدرية أو بمعنى الذي (ثم لا تجدوا لكم علينا به تبيعاً) أي نصيراً قاله ابن عباس أو ثائراً يطالبنا بما فعلنا انتصاراً لكم قال الزجاج: لا تجدوا من يتبعنا بإنكار ما نزل بكم قال النحاس: وهو من الثأر وكذا يقال لكل من طلب بثأر أو غيره تبيع وتابع.(7/423)
وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا (70) يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (71) وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا (72) وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا (73) وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا (74) إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا (75)(7/424)
وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا (70)
(ولقد كرمنا) هذا إجمال لذكر النعمة التي أنعم الله على (بني آدم) أي كرمناهم جميعاً وهذه الكرامة يدخل تحتها خلقهم على هذه الهيئة الحسنة المعتدلة والطهارة بعد الموت وتخصيصهم بما خصهم به من المطاعم والمشارب والملابس على وجه لا يوجد لسائر أنواع الحيوان مثله.
وحكى ابن جرير عن جماعة أن هذا التكريم هو أنهم يأكلون بأيديهم وسائر الحيوانات تأكل بالفم وكذا حكاه النحاس، وقيل ميَّزهم بالنطق والعقل والتمييز وقيل باعتدال القامة وامتدادها، وقيل بحسن التقويم والتصوير، وقيل أكرم الرجال باللحى والنساء بالذوائب.
وقال ابن جرير: أكرمهم بتسليطهم على سائر الخلق وتسخير سائر الخلق لهم وقيل بالكلام والخط والفهم وقيل بحسن تدبيرهم في أمر المعاش والمعاد وقيل بأن منهم خير أمة أخرجت للناس.
ولا مانع من حمل التكريم على جميع هذه الأشياء وأعظم خصال التكريم العقل فإنه به تسلطوا على جميع الحيوانات وميزوا بين الحسن والقبيح وتوسعوا في المطاعم والمشارب وكسبوا الأموال التي تسببوا بها إلى تحصيل أمور لا يقدر عليها سائر الحيوان، وبه قدروا على تحصيل الأبنية التي تمنعهم مما يخافون،(7/424)
وعلى تحصيل الأكسية التي تقيهم الحر والبرد.
وقيل تكريمهم هو أن جعل محمداً صلى الله عليه وسلم منهم. وأخرج الطبراني والبيهقي في الشعب والخطيب في تاريخه عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما من شيء أكرم على الله يوم القيامة من ابن آدم، قيل يا رسول الله ولا الملائكة قال: ولا الملائكة، الملائكة مجبورون بمنزلة الشمس والقمر.
وأخرج الطبراني عن ابن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن الملائكة قالت يا رب أعطيت بني آدم الدنيا يأكلون فيها ويشربون ويلبسون ونحن نسبح بحمدك ولا نأكل ولا نشرب ولا نلهو فكما جعلت لهم الدنيا فاجعل لنا الآخرة قال لا أجعل صالح ذرية من خلقت بيدي كمن قلت كن فكان ".
(وحملناهم) هذا تخصيص وتأكيد لبعض أنواع التكريم حملهم سبحانه (في البر) على الدواب كالإبل والخيل والبغال والحمير (و) في (البحر) على السفن، وقيل حملناهم فيهما حيث لم تخسف بهم ولم نغرقهم والمعنى جعلناهم قارين فيهما بواسطة أو دونها كما في السباحة في الماء (ورزقناهم من الطيبات) أي لذيذ المطاعم والشارب وسائر ما يستلذونه وينتفعون به.
وقيل المراد الزبد والتمر والحلوى وجعل رزق غيرهم مما لا يخفى، وقيل إن جميع الأغذية إما نباتية كالثمار والحبوب وإما حيوانية كاللحم والسمن واللبن ولا يتغذى الإنسان إلا بأطيب القسمين بعد الطبخ الكامل والنضج التام ولا يحصل هذا لغير الإنسان.
(وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلاً) والأقرب في الفرق بين التكريم والتفضيل أن يقال إن الله كرم الإنسان على سائر الحيوان بأمور خلقية طبعية ذاتية مثل العقل ثم عرفه بواسطته اكتساب العقائد الصحيحة والأخلاق الفاضلة فالأول هو التكريم والثاني هو التفضيل.(7/425)
أجمل سبحانه هذا الكثير ولم يبين أنواعه فأفاد ذلك إن بني آدم فضلهم الله سبحانه على كثير من مخلوقاته لا على الكل، وقد شغل كثير من أهل العلم بما لم تكن إليه حاجة ولا تتعلق به فائدة وهو مسألة تفضيل الملائكة على الأنبياء والأنبياء على الملائكة، ومن جملة ما تمسك به مفضلو الأنبياء عليهم السلام على الملائكة هذه الآية ولا دلالة لها على المطلوب لما عرفت من إجمال الكثير وعدم تبيينه، والتعصب في هذه المسألة هو الذي حمل بعض الأشاعرة على تفسير الكثير هنا بالجميع حتى يتم له التفضيل على الملائكة وهو تعسف لا حاجة إليه.
وتمسك بعض المعتزلة بهذه الآية على تفضيل الملائكة على الأنبياء ولا دلالة لها على ذلك فإنه لم يقم دليل على أن الملائكة من القليل الخارج عن هذا الكثير ولو سلمنا ذلك فليس فيما خرج عن هذا الكثير ما يفيد أنه أفضل من بني آدم بل غاية ما فيه أنه لم يكن الإنسان مفضلاً عليه فيحتمل أن يكون مساوياً للإنسان، ويحتمل أن يكون أفضل منه ومع الاحتمال لا يتم الاستدلال، والتأكيد بقوله (تفضيلاً) يدل على عظم هذا التفضيل وأنه بمكان مكين فعلى بني آدم أن يتلقوه بالشكر ويحذروا من كفرانه.(7/426)
يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (71)
(يوم) أي أذكر يوم (ندعو كل أناس بإمامهم) قال الزجاج: يعني يوم القيامة وقرئ يدعو بالتحتية، ويدعى على المجهول، والأناس فعال بضم الفاء ويجوز حذف الهمزة تخففاً على غير قياس فيبقى ناس ووزنه عال والباء للإلصاق كما تقول أدعوك باسمك.
ويجوز أن تكون متعلقة بمحذوف هو حال والتقدير ندعو كل أناس متلبسين بإمامهم أي يدعون وإمامهم فيهم نحو ركب الأمير بجنوده والأول أولى، والإمام في اللغة كل ما يؤتم به من نبي أو مقدم في الدين أو الكتاب.
وقد اختلف المفسرون في تعيين الإمام الذي يدعى كل أناس به فقال(7/426)
ابن عباس والحسن وقتادة والضحاك: أنه كتاب كل إنسان الذي فيه عمله أي يدعى كل إنسان بكتاب عمله، ويؤيد هذا قوله (فأما من أوتي كتابه) الآية.
وقال ابن زيد: الإمام هو الكتاب المنزل عليهم فيدعى أهل التوراة بالتوراة وأهل الإنجيل بالإنجيل وأهل القرآن بالقرآن، فيقال: يا أهل التوراة يا أهل الإنجيل يا أهل القرآن.
وقال مجاهد وقتادة: إمامهم نبيهم. وعن أنس مثله فيقال: هاتوا متبعي إبراهيم هاتوا متبعي موسى هاتوا متبعي عيسى هاتوا متبعي محمد صلى الله عليه وسلم وعليهم وبه قال الزجاج، وروي عن أبي هريرة مرفوعاً أيضاً فلينظر في سنده.
وقال عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه: المراد بالإمام إمام عصرهم فيدعى أهل كل عصر بإمامهم الذي كانوا يأتمرون بأمره وينتهون بنهيه. وقال الحسن وأبو هريرة وأبو العالية: المراد بإمامهم أعمالهم؛ فيقال مثلاً: أين المجاهدون أين الصابرون أين الصائمون أين المصلون ونحو ذلك.
وقال أبو عبيدة: المراد إمامهم صاحب مذهبهم، فيقال مثلاً: أين التابعون للعالم فلان بن فلان، وهذا من البعد بمكان، وأبعد منه ما قال محمد ابن كعب: بإمامهم بأمهاتهم، على أن إماماً جمع أم كخف وخفاف.
وأيضًا في هذا القول نظر فإن في الحديث الصحيح عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا جمع الله الأولين والآخرين يوم القيامة رفع لكل غادر لواء، فيقال هذه غدرة فلان بن فلان " أخرجه البخاري ومسلم (1).
_________
(1) مسلم 1735 - البخاري 1505.(7/427)
وهذا دليل على أن الناس يدعون بأسمائهم وأسماء آبائهم، ويرد على من قال إنما يدعون بأسماء آبائهم وبأسماء أمهاتهم لأن في ذلك ستراً على آبائهم، ولذا قال الزمخشري: ومن بدع التفاسير أن الإمام جمع أم وأنهم يدعون بأمهاتهم دون آبائهم، وأن الحكمة فيه رعاية حق عيسى وإظهار شرف الحسن والحسين وأن لا يفتضح أولاد الزنا.
قال القرطبي: قيل بمذاهبهم فيدعون بما كانوا يأتمون به في الدنيا ويقلدونه، فيقال يا حنفي، يا شافعي، يا معتزلي، يا قدري، ونحو ذلك. وهذا كالأول بل أبعد منه، وقيل كل خلق حسن يظهر من الإنسان كالعلم والكرم والشجاعة أو قبيح كأضدادها، فالداعي إلى تلك الأفعال خلق باطن هو كالإمام، ذكره الرازي في تفسيره. وعن ابن عباس قال: بإمامهم إمام هدى وإمام ضلالة، وعنه أيضاً بإمام زمانهم وكتاب ربهم وسنة نبيهم وقيل بمعبودهم. وأخرج الترمذي وحسنه البزار وابن أبي حاتم وابن حبان والحاكم وصححه وابن مردويه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الآية أنه قال " يدعى أحدهم فيعطى كتابه بيمينه ويمد له في جسمه ستين ذراعاً ويبيض وجهه ويجعل على رأسه تاج من لؤلؤ يتلألأ فينطلق إلى أصحابه فيرونه من بعيد فيقولون: اللهم ائتنا بهذا وبارك لنا في هذا حتى يأتيهم فيقول أبشروا لكل رجل منكم مثل هذا.
وأما الكافر فيسود وجهه ويمد له جسمه ستين ذراعاً على صورة آدم ويلبس تاجاً من نار فيراه أصحابه فيقولون نعوذ بالله من هذا أو من شر هذا، اللهم لا تأتنا بهذا. قال فيأتيهم فيقولون اللهم أخره، فيقول أبعدكم الله فإن لكلا رجل منكم مثل هذا " (1) قال البزار بعد إخراجه لا يروى إلا من هذا الوجه.
_________
(1) المستدرك كتاب التفسير 2/ 243.(7/428)
(فمن أوتي كتابه بيمينه) من أولئك المدعوين وهم السعداء أولو البصائر وتخصيص اليمين بالذكر للتشريف والتبشير (فأولئك) إشارة إلى من باعتبار معناه. قيل وجه الجمع الإشارة إلى أنهم مجتمعون على شأن جليل أو الإشعار بأن قراءتهم لكتبهم تكون على وجه الاجتماع لا على وجه الانفراد (يقرأون كتابهم) الذي أوتوه (ولا يظلمون فتيلاً) أي لا ينقصون من أجورهم قدر فتيل وهو القشرة التي في شق النواة أو هو عبارة عن أقل شيء، وفي النواة أمور ثلاثة: فتيل وهو الخيط الذي في الحز الكائن فيها طولاً، والقطمير وهو قشرة النواة، والنقير وهو الخيط الذي في النقرة التي في ظهرها.
ولم يذكر أصحاب الشمالي تصريحاً ولكنه ذكر سبحانه ما يدل على حالهم القبيح فقال(7/429)
وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا (72)
(ومن كان) من المدعوين (في هذه) الدنيا (أعمى) أي فاقد البصيرة وهو الذي يعطي كتابه بشماله بدلالة حال ما سبق من الفريق المقابل له، ولعل العدول عن ذكره بذلك العنوان مع أنه الذي يستدعيه حسن المقابلة حسبما هو الواقع في سورة الحاقة وسورة الانشقاق للإيذان بالعلة الموجبة له كما في قوله تعالى (وأما إن كان من المكذبين الضالين) الخ بعد قوله (وأما إن كان من أصحاب اليمين) وللرمز إلى علة حال الفريق الأول، وقد ذكر في أحد الجانبين المسبب وفي الآخر السبب، ودل بالمذكور في كل منهما على المتروك في الآخر تعويلاً على شهادة العقل كما في قوله (وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا راد لفضله) ذكره أبو السعود. قال النيسابوري: لا خلاف أن المراد بهذا العمى، عمى القلب لا عمى البصر.
وأما قوله (فهو في الآخرة) التي لم تعاين ولم تر (أعمى) فيحتمل أن يراد به عمى البصر كقوله (ونحشره يوم القيامة أعمى قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيراً) وفي هذه زيادة العقوبة، ويحتمل أن يراد عمى القلب، وقيل المراد بالآخرة عمل الآخرة فهو في عمل الآخرة أو في أمرها(7/429)
أعمى؛ وقيل المراد من عمى عن النعم التي أنعم الله بها عليه في الدنيا فهو عن نعم الآخرة أعمى.
وقيل من كان في الدنيا التي تقبل فيها التوبة أعمى فهو في الآخرة التي لا توبة فيها أعمى.
وقيل من كان في الدنيا عن حجج الله أعمى فهو في الآخرة أعمى، وقد قيل أن قوله فهو في الآخرة أعمى أفعل تفضيل أي أشد عمى، وهذا مبني على أنه من عمى القلب إذ لا يقال ذلك في عمى العين.
قال الخليلي وسيبويه: لأنه خلقه بمنزلة اليد والرجل فلا يقال ما أعماه كما لا يقال ما أيداه.
وقال الأخفش: لا يقال فيه ذلك لأنه أكثر من ثلاثة أحرف، وقد حكى الفراء عن بعض العرب إنه سمعه يقول ما أسود شعره والبحث مستوفى في النجو (وأضل سبيلاً) من الأعمى لكونه لا يجد طريقاً إلى الهداية بخلاف الأعمى فإنه قد يهتدي في بعض الأحوال.
قال ابن عباس: من كان في الدنيا أعمى عما يرى من قدرتي من خلق السماء والأرض والجبال والبحار والناس والدواب وأشباه ذلك فهو عما وصفت له في الآخرة ولم يره أعمى وأبعد حجة.
ثم لما عدد سبحانه في الآية المتقدمة أقسام النعم على بني آدم أردفه بما يجري مجرى التحذير من الاغترار بوساوس الأشقياء فقال(7/430)
وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا (73)
(وإن كادوا ليفتنونك) المعنى إن الشأن أنهم قد قاربوا أن يخدعوك فاتنين، وأصل الفتنة الاختبار، ومنه فتن الصائغ الذهب ثم استعمل في كل من أزال الشيء عن حده وجهته (عن الذي أوحينا إليك) من الأوامر والنواهي والوعد والوعيد(7/430)
(لتفتري علينا غيره) أي لتتقوّل وتكذب علينا غير الذي أوحينا إليك مما اقترحه علينا كفار قريش ولم نقله.
وذلك لأن في إعطائهم ما سألوه مخالفة لحكم القرآن وافتراء على الله سبحانه من تبديل الوعد بالوعيد وغير ذلك. وعن ابن عباس قال: أن أمية ابن خلف وأبا جهل بن هشام ورجالاً من قريش أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: تعال فتمسح آلهتنا وندخل معك في دينك، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشتد عليه فراق قومه ويحب إسلامهم فرقّ لهم، فأنزل الله هذه الآية، وعن جابر بن عبد الله مثله.
وعن سعيد بن جبير قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستلم الحجر فقالوا: لا ندعك تستلمه حتى تستلم بآلهتنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " وما عليَّ لو فعلت والله يعلم مني خلافه " فأنزل لله (وإن كادوا ليفتنونك) الآية وعن ابن شهاب نحوه.
وعن جبير بن نفير أن قريشاً أتو النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: إن كنت أرسلت إلينا فاطرد الذين اتبعوك من سقاط الناس ومواليهم لنكون نحن أصحابك فركن إليهم، فأوحى الله إليه هذه الآية. وقال الجلال السيوطي وغيره إن ثقيفاً سألوه صلى الله عليه وسلم أن يحرم واديهم وألحوا عليه فنزلت هذه الآية:
(وإذن لاتخذوك خليلاً) أي لو اتبعت أهواءهم لوالوك ووافوك وصافوك مأخوذ من الخلة بفتح الخاء.(7/431)
وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا (74)
(ولولا أن ثبتناك) على الحق وعصمناك من موافقتهم (لقد كدت تركن إليهم) أي لقاربت أن تميل إليهم أدنى ميل والركون هو الميل اليسير، ولهذا(7/431)
قال (شيئاً قليلاً) لكن أدركته صلى الله عليه وسلم العصمة فمنعته من أن يقرب من أدنى مراتب الركون إليهم فضلاً عن نفس الركون، وهذا دليل على أنه صلى الله عليه وسلم ما همّ بإجابتهم، ذكر معناه القشيري وغيره والنظم صريح في أنه لم يركن أي باللازم ولا قارب أي بمنطوق التركيب.
وذلك لأن لولا حرف امتناع لوجود فالترتيب يدل على امتناع القرب من الركون وإذا امتنع القرب منه امتنع هو بالضرورة؛ وقيل المعنى وأن كادوا ليخبرون عنك بأنك ملت إلى قولهم فنسب فعلهم إليه مجازاً واتساعاً كما تقول للرجل كدت تقتل نفسك أي كاد الناس يقتلونك بسبب ما فعلت، ذكر معناه المهدوي، ثم توعده سبحانه في ذلك أشد الوعيد فقال:(7/432)
إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا (75)
(إذاً) أي لو قاربت إن تركن إليهم (لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات) أي مثلي ما يعذب به غيرك ممن يفعل هذا الفعل في الدارين والمعنى عذاباً ضعفاً في الحياة وعذاباً ضعفاً في الممات أي مضاعفاً ثم حذف الموصوف وأقيمت الصفة مقامه وأضيفت وذلك لأن خطأ العظيم عظيم كما قال سبحانه (يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين) وضعف الشيء مثلاه؛ وقد يكون الضعف النصيب كقوله لكل ضعف أي نصيب.
وقال الرازي: حاصل الكلام إنك لو مكنت خواطر الشيطان من قلبك وعقدت على الركون همك لاستحققت تضعيف العذاب عليك في الدنيا والآخرة ولصار عذابك مِثْلَي عذاب المشرك في الدنيا وَمِثْلَيْ عذابه في الآخرة (ثم لا تجدلك علينا نصيراً) ينصرك فيدفع عنك ويمنع منك هذا العذاب.
قال النيسابوري: اعلم أن القرب من الفتنة لا يدل على الوقوع فيها والتهديد على المعصية لا يدل على الإقدام عليها فلا يلزم من الآية طعن في العصمة.(7/432)
وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا (76) سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا (77) أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا (78) وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا (79) وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا (80)(7/433)
وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا (76)
(وإن كادوا ليستفزونك من الأرض ليخرجوك منها) الكلام في هذا كالكلام في إن كادوا ليفتنونك أي وإن الشأن أنهم قاربوا أن يزعجوك بعداوتهم ومكرهم من أرض مكة لتخرج عنها ولكنه لم يقع ذلك منهم بل منعهم الله عنه حتى هاجر بأمر ربه بعد أن هموا به والاستفزاز الإزعاج وقيل إنه أطلق الإخراج على إرادة الإخراج تجوزاً، قال سعيد بن جبير قال المشركون لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كانت الأنبياء تسكن الشام فما لك وللمدينة فهم أن يشخص "، فأنزل الله وإن كادوا الآية.
(وإذن لا يلبثون خلافك) أي لا يبقون بعد إخراجك (إلا) لبثاً أو زمناً (قليلاً) حتى يهلكوا ثم يعاقبون عقوبة تستأصلهم جميعاً.
قال ابن عباس: يعني بالقليل يوم أخذهم ببدر فكان ذلك هو القليل الذي لبثوا بعده، قال ابن الأنباري خلافك بمعنى مخالفتك.
وقال قتادة همَّ أهل مكة بإخراج النبي صلى الله عليه وسلم منها وقد فعلوا بعد ذلك فأهلكهم الله يوم بدر ولم يلبثوا بعده إلا قليلاً وكذلك كانت سنة الله في الرسل إذ فعل بهم قومهم مثل ذلك.(7/433)
سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا (77)
(سنة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا) أي سن الله سنة، قال الفراء: أي يعذبون كسنة من قد أرسلنا، وقيل المعنى سنتنا سنة من قد أرسلنا، وقيل اتبع أنت سنة من، وقال الزجاج: يقول إن سنتنا هذه السنة فيمن أرسلنا قبلك إليهم أنهم إذا أخرجوا نبيهم من بين أظهرهم أو قتلوه أن ينزل العذاب بهم (ولا تجد لسنتنا تحويلاً) أي ما أجرى الله به العادة لم يتمكن من تحويله ولا يقدر على تغييره.
ولما ذكر سبحانه الإلهيات والمعاد والجزاء أردفها بذكر أشرف الطاعات وهي الصلاة فقال(7/434)
أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا (78)
(أقم الصلاة لدلوك الشمس) أجمع المفسرون على أن المراد بها الصلوات المفروضة، وقد اختلف العلماء في الدلوك على قولين: أحدهما: أنه زوال الشمس عن كبد السماء قاله عمر وابنه وأبو هريرة وابن عباس وجابر والحسن والشعبي وعطاء ومجاهد وقتادة والضحاك وأبو جعفر الباقر وأكثر التابعين واختاره ابن جرير.
والقول الثاني: أنه غروب الشمس قاله عليّ وابن مسعود وأبي بن كعب، وروي عن ابن عباس؛ وبه قال النخعي ومقاتل والسدي، قال الفراء: دلوك الشمس من لدن زوالها إلى غروبها، قال الأزهري: معنى الدلوك في كلام العرب الزوال ولذلك قيل للشمس إذا زالت نصف النهار دالكة وقيل لها إذا أفلت دالكة لأنها في الحالتين زائلة قال: والقول عندي أنه زوالها نصف النهار لتكون الآية جامعة للصلوات الخمس.
وأصل هذه المادة أي ما تركب من الدال واللام والكاف يدل على التحول والانتقال ومنه الدلك فإن الدلاك لا تستقر يده ومنه دلوك الشمس ففي الزوال انتقال من وسط السماء إلى ما يليه وكذا كل ما تركب من الدال واللام بقطع النظر عن آخره يدل على ذلك كدلج بالجيم من الدلجة وهي سير الليل والانتقال فيه من مكان إلى مكان آخر ودلح بالحاء المهملة إذا مشى مشياً(7/434)
متثاقلاً ودلع بالعين المهملة إذا أخرج لسانه ودلف بالفاء إذا مشى مشي المقيد أو بالقاف لإخراج الماء من مقره ودله إذا ذهب عقله ففيه انتقال معنوي.
وقال أبو عبيد: دلوكها غروبها ودلكت براح أي غابت وبراح اسم من اسماء الشمس على وزن حذام وقطام وعن ابن عمر قال: دلوك الشمس زياغها بعد نصف النهار، وعن ابن عباس قال: إذا فاء الفيء، وعن عقبة ابن عمرو مرفوعاً قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أتاني جبريل لدلوك الشمس حين زالت فصلى بي الظهر " الحديث أخرجه ابن جرير وعن أبي برزة الأسلمي قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الظهر إذا زالت الشمس ثم تلا (أقم الصلاة لدلوك الشمس).
والحاصل أن اللفظ يجمعهما لأن أصل الدلوك الميل والشمس تميل إذا زالت وإذا غربت والحمل على الزوال أولى القولين لكثرة القائلين به، واذا حملناه عليه كانت الآية جامعة لمواقيت الصلاة كلها كما ذكروا وعلى الثاني يخرج الظهر والعصر وفي هذه اللام وجهان:
أحدهما: أنها بمعنى بعد ومثله قولهم كتبته لثلاث خلون.
والثاني: أنها على بابها أي لأجل دلوك، قال الواحدي: لأنها إنما تجب بزوال الشمس وفيه ثلاثة أقوال أشهرها أنه الزوال وهو نصف النهار، والثاني أنه من الزوال إلى الغروب، والثالث أنه الغروب.
(إلى غسق الليل) أي اجتماع الظلمة قاله ابن عباس، وقال الفراء والزجاج: يقال غسق الليل وأغسق إذا أقبل بظلامه، وقيل مغيب الشفق وهذا يتناول المغرب والعشاء والجاري متعلق بأقم لانتهاء غاية الإقامة أو أقمها(7/435)
ممدودة إليه قاله أبو البقاء وفيه نظر من حيث أنه قدر المتعلق كوناً مقيداً إلا أن يريد تفسير المعنى لا الإعراب.
والغسق دخول أول الليل قاله ابن شميل وقيل هو سواد الليل وظلمته وأصله من السيلان يقال غسقت العين أي سأل دمعها فكأن الظلمة تنصب على العالم وتسيل عليهم ويقال غسق الجرح امتلأ دماً فكأن الظلمة ملأت الوجود، والمراد في قوله من شر غاسق القمر إذا كسف واسود.
وقيل الليل والغساق بالتخفيف والتشديد ما يسيل من صديد أهل النار ويقال غسق الليل واغسق وظلم وأظلم ودجا وأدجى وغبش وأغبش نقله الفراء قاله السمين وقد استدل بهذه الغاية من قال إن صلاة الظهر يتمادى وقتها من الزوال إلى الغروب روى ذلك عن الأوزاعي وأبي حنيفة وجوزه مالك والشافعي في حال الضرورة.
وقد وردت الأحاديث الصحيحة المتواترة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في تعيين أوقات الصلوات فيجب حمل مجمل هذه الآية على ما بينته السنة فلا نطيل بذكر ذلك، ومعنى الآية أقم الصلاة من وقت دلوك الشمس إلى غسق الليل فيدخل فيها الظهر والعصر وصلاتا غسق الليل وهما العشاآن.
ثم قال (وقرآن الفجر) عطف على الصلاة أي أقمه قاله الفراء، وقال الأخفش وتبعه أبو البقاء وعليك قرآن الفجر وأصول البصريين تأبى هذا لأن أسماء الأفعال لا تعمل مضمرة، وقيل الزم قرآن الفجر، قال المفسرون: المراد به صلاة الصبح عبر عنها ببعض أركانها.
قال الزجاج: وفي هذه فائدة عظيمة تدل عليه أن الصلاة لا تكون إلا بقراءة حتى سميت الصلاة قرآنا وهو حجة على الأصم حيث زعم إن القراءة ليست بركن وقد دلت الأحاديث الصحيحة على أنه لا صلاة إلا بفاتحة(7/436)
الكتاب، وفي بعض الأحاديث الخارجة من مخرج حسن وقرآن معها وورد ما يدل على وجوب الفاتحة في كل ركعة أو سميت صلاة الصبح قرآنًا لطول قراءتها، وقد حرره الشوكاني في مؤلفاته تحريراً مجوداً.
ثم علَّل سبحانه ذلك بقوله (إن قرآن الفجر كان مشهوداً) أي تشهده وتحضره ملائكة الليل وملائكة النهار، كما ورد ذلك في الحديث الصحيح الآتي وبذلك قال جمهور المفسرين فينزل هؤلاء ويصعد هؤلاء فهو في آخر ديوان الليل وأول ديوان النهار.
وقال الشهاب أي الكاتبون والحفظة أو يشهده الكثير من المصلين في العادة والأول أولى.
وقد أخرج أحمد والترمذي وصححه والنسائي وابن ماجة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في الآية قال: " تشهده ملائكة الليل وملائكة النهار تجتمع فيها " (1) وهو في الصحيحين عنه مرفوعاً بلفظ يجتمع ملائكة الليل وملائكة النهار في صلاة الفجر (2) ثم يقول أبو هريرة إقرأوا إن شئتم إن قرآن الفجر كان مشهوداً، وفي الباب أحاديث.
قال الرازي: وهذا دليل قاطع قوي على أن التغليس أفضل من التنوير لأن الإنسان إذا شرع فيها من أول الصبح ففي ذلك الوقت ظلمة باقية فتكون ملائكة الليل حاضرين ثم إذا امتدت الصلاة بسبب ترتيل القراءة وتكثيرها زالت الظلمة وظهر الضوء وحضرت ملائكة النهار أما إذا ابتدأ بهذه الصلاة في وقت الأسفار فهناك لم يبق أحد من ملائكة الليل فلا يحصل المعنى المذكور في الآية، فثبت أن قوله يعني هذه الآية دليل على أن الصلاة في أول وقتها أفضل انتهى.
_________
(1) الترمذي تفسير سورة 17/ 5 - الإمام أحمد 2/ 474.
(2) مسلم 632 - البخاري 359.(7/437)
وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا (79)
(ومن الليل فتهجد به) في (من) وجهان أحدهما: أنها متعلقة بتهجد أي تهجد بالقرآن بعض الليل. والثاني: أنها متعلقة بمحذوف أي قم بعد نومك نومة من الليل أو اسهر من الليل ذكرهما الخوفي ومن للتبعيض أي قم بعض الليل والضمير المجرور راجع إلى القرآن من حيث هو لا يقيد إضافته إلى الفجر ففي الكلام استخدام، وقيل التقدير بذلك الوقت والباء بمعنى في، قاله السمين ولو قال من بمعنى في لكان أوضح وما قيل من أنه منتصب على الإغراء والتقدير وعليك بعض الليل فبعيد جداً.
والتهجد مأخوذ من الهجود، وقال أبو عبيدة وابن الأعرابي: هو من الأضداد لأنه يقال هجد الرجل إذا نام وهجد إذا سهر؛ وقال الأزهري: الهجود في الأصل هو النوم بالليل ولكن التفعل فيه لأجل التجنب ومنه تأثم وتحرج أي تجنب الإثم والحرج فالمتهجد من تجنب الهجود فقام بالليل، وروي عنه أيضا المتهجد القائم إلى الصلاة من الليل هكذا حكى عنه الواحدي فقيد التهجد بالقيام من النوم وهكذا قال مجاهد وعلقمة والأسود فقالوا: التهجد بعد النوم، قال الليث: يقال تهجد إذا استيقظ للصلاة.
(نافلة لك) معناها في اللغة الزيادة على الأصل، فالمعنى إنها للنبي صلى الله عليه وسلم نافلة زائدة على الفرائض، والأمر بالتهجد وإن كان ظاهره الوجوب لكن التصريح بكونه نافلة قرينة صارفة للأمر.
وقيل المراد بالنافلة هنا إنها فريضة زائدة على الفرائض الخمس في حقه صلى الله عليه وسلم، ويدفع ذلك التصريح بلفظ النافلة، وقيل كانت صلاة الليل فريضة في حقه صلى الله عليه وسلم ثم نسخ الوجوب فصار قيام الليل تطوعاً وعلى هذا يحمل ما ورد في الحديث أنها عليه فريضة ولأمته تطوع.
قال الواحدي: إن صلاة الليل كانت زيادة للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة لرفع الدرجات لا للكفارات، لأنه قد غفر له من ذنبه ما تقدم وما تأخر،(7/438)
وليس لنا بنافلة لكثرة ذنوبنا إنما نعمل لكفارتها. قال: وهو قول جميع المفسرين.
والحاصل أن الخطاب في هذه الآية وإن كان خاصاً بالنبي صلى الله عليه وسلم في قوله أقم الصلاة فالأمر له أمر لأمته، فهو شرع عام، ومن ذلك الترغيب في صلاة الليل فإنه يعم جميع الأمة والتصريح بكونه نافلة يدل على عدم الوجوب، فالتهجد من الليل مندوب إليه ومشروع لكل مكلف.
وأخرج البيهقي في سننه والطبراني في الأوسط عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ثلاث هن علي فرائض وهن لكم سنة: الوتر والسواك وقيام الليل ".
ثم وعد سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم على إقامة الفرائض والنوافل فقال (عسى أن يبعثك ربك) قد ذكرنا في مواضع أن عسى من الكريم أطماع واجب الوقوع (مقاماً محموداً) نصب على الظرفية أي يبعثك فيقيمك في الآخرة مقاماً محموداً، ويجوز أن يكون حالاً بتقدير مضاف أي ذا مقام محمود، ومعنى كون المقام محموداً أنه يحمده كل من علم به.
وقد اختلف في تعيين هذا المقام على أقوال:
الأول: أنه المقام الذي يقومه النبي صلى الله عليه وسلم للشفاعة يوم القيامة للناس ليريحهم ربهم سبحانه مما هم فيه وهذا القول هو الذي دلت عليه الأدلة الصحيحة في تفسير الآية، وحكاه ابن جرير عن أكثر أهل التأويل. قال الواحدي: وإجماع المفسرين على أن المقام المحمود هو مقام الشفاعة في فصل القضاء.
القول الثاني: إن المقام المحمود إعطاء للنبي صلى الله عليه وسلم لواء(7/439)
الحمد يوم القيامة، ويمكن أن يقال أن هذا لا ينافي القول الأول إذ لا منافاة بين كونه قائماً مقام الشفاعة وبيده لواء الحمد.
الثالث: إن المقام المحمود هو أن الله سبحانه يجلس محمداً صلى الله عليه وسلم معه على كرسيه، حكاه ابن جرير عن فرقة منهم مجاهد، وقد ورد في ذلك حديث وحكى النقاش عن أبي داود السجستاني أنه قال: من أنكر هذا الحديث فهو عندنا متهم، ما زال أهل العلم يتحدثون بهذا الحديث.
قال ابن عبد البر: مجاهد وإن كان أحد الأئمة بالتأويل فإن له قولين مهجورين عند أهل العلم: أحدهما: هذا والثاني: في تأويل وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة قال معناه ينتظر الثواب وليس من النظر. انتهى.
وعلى كل حال فهذا القول غير مناف للقول الأول لإمكان أن يقعده الله سبحانه هذا المقعد ويشفع تلك الشفاعة.
وأخرج الديلمي عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يجلسني معه على السرير " وينبغي الكشف عن إسناد هذا الحديث. وقال ابن مسعود يقعده على العرش، رواه أبو وائل. وعن عبد الله بن سلام قال: يقعد على الكرسي، والأحاديث في الشفاعة كثيرة وأول من أنكرها عمرو بن عبيد وهو مبتدع باتفاق أهل السنة.
الرابع: أنه مطلق في كل مقام يجلب الحمد من أنواع الكرامات ذكره صاحب الكشاف، والمقتدون به في التفسير، ويجاب عنه بأن الأحاديث الصحيحة الواردة في تعيين هذا المقام المحمود متواترة فالمصير إليها متعين، وليس في الآية عموم في اللفظ حتى يقال الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، ومعنى قوله مطلق في كل ما يجلب الحمد أنه عام في كل ما هو كذلك، ولكنه يعبر عن العام بلفظ المطلق كما ذكره في ذبح البقرة، ولهذا قال هنا.(7/440)
وقيل المراد الشفاعة وهي نوع واحد مما يتناوله، يعني لفظ المقام. والفرق بين العموم البدلي والعموم الشمولي معروف فلا نطيل بذكره.
وأخرج أحمد والترمذي وحسنه والبيهقي وغيرهم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وسئل عنه، يعني المقام، فقال " هو المقام المحمود الذي أشفع فيه لأمتي ". (1) وأخرج أحمد وابن جرير وابن أبي حاتم وابن حبان والحاكم وصححه وابن مردويه عن كعب بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " يبعث الناس يوم القيامة فأكون أنا وأمتي على تل ويكسوني ربي حلة خضراء ثم يؤذن لي فأقول ما شاء الله أن أقول فذلك المقام المحمود " (2) والأحاديث في هذا الباب كثيرة جداً ثابتة في الصحيحين وغيرهما فلا نطيل بذكرها، ومن رام الاستيفاء نظر في أحاديث الشفاعة في الأمهات وغيرها.
_________
(1) الإمام أحمد 2/ 441 - 2/ 528.
(2) المستدرك كتاب التفسير 2/ 363.(7/441)
وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا (80)
(وقل رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق) قرئ بضم الميمين وبفتحهما وهما مصدران بمعنى الإدخال والإخراج فهما كالمجرى والمرسى والإضافة إلى الصدق لأجل المبالغة نحو حاتم الجواد، أي إدخالاً يستأهل أن يسمى إدخالاً ولا يرى فيه ما يكره. وقال الواحدي: إضافتهما إلى الصدق مدح لهما وكل شيء أضفته إلى الصدق فهو مدح.
وقد اختلف المفسرون في معنى الآية، فقيل نزلت حين أمر صلى الله عليه وسلم بالهجرة يريد إدخال المدينة والإخراج من مكة، واختاره ابن جرير، وهذا يقتضي أن الآية مكيّة مع أنها آخر الثمان المدنيات، لكن البيضاوي مشى على أن السورة كلها مكيّة. وحكى الاستثناء الذي ذكره الجلال بقيل، وعليه فلا إشكال ومن المعلوم أن إدخاله المدينة بعد إخراجه من مكة وإنما قدمه عليه إهتماماً بشأنه ولأنه هو المقصود.(7/441)
وقيل المعنى أمتني إماتة صدق وابعثني يوم القيامة مبعث صدق، وقيل المعنى أدخلني فيما أمرتني به وأخرجني مما نهيتني عنه. وقيل إدخاله موضع الأمن وإخراجه من بين المشركين، وهو كالقول الأول، وقيل المراد إدخال عز وإخراج نصر.
وقيل أدخلني في الأمر الذي كرّمتني به من النبوة مدخل صدق وأخرجني منه إذا أمتني مخرج صدق؛ وقيل أدخلني القبر عند الموت مدخل صدق وأخرجني منه عند البعث مخرج صدق، وقيل أدخلني حيثما أدخلتني بالصدق وأخرجني بالصدق، وقيل الآية عامة في كل ما تتناوله من الأمور فهي دعاء ومعناها رب أصلح لي وردي في كل الأمور وصدي عنها.
(واجعل لي من لدنك سلطاناً نصيراً) أي حجة ظاهرة قاهرة تنصرني بها على جميع ما خالفني، وقيل اجعل لي من لدنك ملكاً وعزاً قوياً أقيم به دينك وكأنه صلى الله عليه وآله وسلم علم أنه لا طاقة له بهذا الأمر إلا بسلطان فسأل سلطاناً نصيراً، وبه قال الحسن وقتادة واختاره ابن جرير.
وقال ابن كثير: هو الأرجح لأنه لا بد مع الحق من قهر لمن عاداه وناوأه ولهذا يقول تعالى (لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب).
وفي الأثر أن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن أي ليمنع بالسلطان عن ارتكاب الفواحش والآثام ما لا يمنع كثيراً من الناس بالقرآن وما فيه من الوعيد الشديد والتهديد الأكيد وهذا هو الواقع انتهى.
وقيل وعده الله لينزعن ملك فارس والروم وغيرهما فيجعله له وأجاب دعاءه فقال له والله يعصمك من الناس؛ وقال: ليظهره على الدين كله، وقال: وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض. الآية وقد كان كما وعد ولله الحمد.(7/442)
وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا (81) وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا (82) وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا (83) قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا (84) وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85) وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا (86)(7/443)
وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا (81)
(وقل) عند، دخولك مكة يوم الفتح (جاء الحق وزهق الباطل) المراد بالحق الإسلام، وقيل القرآن، وقيل الجهاد، ولا مانع من حمل الآية على جميع ذلك وعلى ما هو حق كائناً ما كان والمراد بالباطل الشرك وقيل الشيطان ولا يبعد أن يحمل على كل ما يقابل الحق من غير فرق بين باطل وباطل، ومعنى زهق بطل واضمحل ومنه زهوق النفس وهو بطلانها وخروجها، ومنه قوله تعالى (وتزهق أنفسهم وهم كافرون).
قال الشاعر:
ألمت فحيَّت ثم قامت فودعت ... فلما تولت كادت النفس تزهق
(إن الباطل كان زهوقاً) أي مضمحلاً زائلاً يعني أن هذا شأنه فهو يبطل ولا يثبت، والحق ثابت دائماً، وذلك أن الباطل وإن كان له دولة وصولة في وقت من الأوقات فهو سريع الذهاب والزوال.
وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن مسعود قال: دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة يوم الفتح وحول البيت ستون وثلاثمائة نصب فجعل يطعنها بعود في يده ويقول جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً وجاء الحق وما(7/443)
يبدئ الباطل وما يعيد حتى سقطت. (1) وفي الباب أحاديث.
_________
(1) مسلم 1781 - البخاري 1222.(7/444)
وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا (82)
(وننزل من القرآن ما هو شفاء) من لابتداء الغاية قاله أبو حيان ويصح أن تكون لبيان الجنس، قاله الزمخشري وابن عطية وأبو البقاء فإن جميع القرآن شفاء وقدم على المبين للاهتمام وأبو حيان ينكر جوازه لأن التي للبيان لا بدّ أن يتقدمها ما تبينه لا أن تتقدم هي عليه فالمختار هو الأول، وقيل للتبعيض وأنكره بعض المفسرين لاستلزامه أن بعضه لا شفاء فيه ورده ابن عطية بأن المبعض هو إنزاله.
واختلف أهل العلم في معنى كونه شفاء على قولين: الأول: أنه شفاء للقلوب بزوال الجهل عنها وذهاب الريب وكشف الغطاء عن الأمور الدالة على الله سبحانه. الثاني: أنه شفاء عن الأمراض الظاهرة بالرقي والتعوذ ونحو ذلك والتبرك بقراءته يدفع كثيراً من الإدواء والأسقام يدل عليه ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في فاتحة الكتاب وما يدريك أنها رقية، ولا مانع من حمل الشفاء على معنيين من باب عموم المجاز أو من باب حمل المشترك على معنييه.
(ورحمة للمؤمنين) لما فيه من العلوم النافعة المشتملة على ما فيه صلاح الدنيا والدين، ولما في تلاوته وتدبره من الأجر العظيم الذي يكون سبباً لرحمة الله سبحانه ومغفرته ورضوانه، ومثل هذه الآية قوله تعالى (قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى).
والحاصل أن القرآن كتاب مشتمل على دلائل المذهب الحق وإبطال المذاهب الفاسدة فهو شفاء لأمراض القلوب وتكفير للذنوب وتفريج للكروب وتطهير للعيوب، وفي الحديث " من لم يستشف بالقرآن فلا شفاه الله ". ثم لما ذكر سبحانه ما في القرآن من المنفعة لعباده المؤمنين ذكر ما فيه لمن(7/444)
عداهم من المضرة عليهم فقال (ولا يزيد) القرآن كله أو كل بعض منه
(الظالمين) الذين وضعوا التكذيب موضع التصديق والشك والارتياب موضع
اليقين والاطمئنان (إلا خساراً) أي هلاكاً لأن سماع القرآن يغيظهم ويحنقهم
ويدعوهم إلى زيادة ارتكاب القبائح تمرداً وعناداً، فعند ذلك يهلكون، وقيل
الخسار النقص كقوله (فزادتهم رجساً إلى رجسهم) قال قتادة: لم يجالس القرآن
أحد إلا قام عنه بزيادة أو نقصان.
ثم نبه سبحانه على قبح بعض ما جبل عليه الإنسان من الطبائع المذمومة فقال(7/445)
وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا (83)
(وإذا أنعمنا على) جنس (الإنسان) بالنعم التي توجب الشكر كالصحة والسعة والغنى والفراغ (أعرض) عن الشكر لله والذكر له (ونأى بجانبه) أي ثنى عطفه متبختراً والنأي البعد والباء للتعدية أو للمصاحبة وهو تأكيد للإعراض لأن الإعراض عن الشيء هو أن يوليه عرض وجهه أي ناحية والنأي بالجانب أن يلوي عنه عطفه ويوليه ظهره.
ولا يبعد أن يراد بالإعراض هنا الإعراض عن الدعاء والابتهال الذي كان يفعله عند نزول البلوى والمحنة به ويراد بالنأي بجانبه التكبر والبعد بنفسه عن القيام بحقوق النعم وقرئ ناء مثل باع على القلب قال مجاهد نأى تباعد.
(وإذا مسه الشر) من شدة أو مرض أو فقر أو نازلة من النوازل (كان يؤوساً) شديد اليأس قنوطاً من رحمة الله، هذا وصف للجنس باعتبار بعض أفراده ممن هو على هذه الصفة، والمعنى أنه إن فاز بالمطلوب الدنيوي وظفر بالمقصود نسي المعبود، وإن فاته شيء من ذلك وتأخرت الإجابة استولى عليه الأسف وغلب عليه القنوط ويئس وكلتا الخصلتين قبيحة مذمومة.
ولا ينافي ما في هذه الآية قوله تعالى (وإذا مسه الشر فذو دعاء عريض) ونظائره فإن ذلك شأن بعض آخر منهم غير البعض المذكور في هذه الآية، ولا يبعد(7/445)
أن يقال لا منافاة بين الآيتين فقد يكون مع شدة يأسه وكثرة قنوطه كثير الدعاء بلسانه.(7/446)
قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا (84)
(قل كل) أي كل أحد (يعمل على شاكلته) التي جبل عليها قال الفراء: الشاكلة الطريقة وقيل الناحية قاله ابن عباس، وقيل الطبيعة وقيل الدين وقيل النية، قاله الحسن وبه فسرها البخاري في كتاب التفسير، وقيل الجبلة، وأحسن ما قيل فيها ما قاله الزمخشري أنها مذهبه الذي يشاكل حاله في الهدى والضلالة من قولهم طريق ذو شواكل، وهي الطرق التي تشعبت منه وهي مأخوذة من الشكل وهو المثل والنظير: يقال لست على شكلي ولا على شاكلتي.
وأما الشكل بالكسر فهو الهيئة يقال جارية حسنة الشكل أو الشاكلة الروح والمعنى أن كل إنسان يعمل على ما يشاكل أخلاقه التي ألفها أو على حسب جوهر نفسه، فإن كانت نفسه شريفة طاهرة صدرت عنه أفعال جميلة وأخلاق زكية، وإن كانت نفسه كدرة خبيثة صدرت عنه أفعال خبيثة فاسدة رديئة وهذا ذمّ للكافر ومدح للمؤمن.
(فربكم أعلم بمن هو أهدى) لأنه الخالق لكم العالم بما جبلتم عليه من الطبائع وما تباينتم فيه من الطرائق فهو الذي يميز بين المؤمن الذي لا يعرض عند النعمة ولا ييأس عند المحنة وبين الكافر الذي شأنه البطر للنعم والقنوط عند النقم وأهدى من اهتدى على حذف الزوائد أو من هدى المتعدي أو من هدى القاصر بمعنى اهتدى و (سبيلاً) تمييز أي أوضح طريقاً وأحسن مذهباً وأشد اتباعاً للحق.
ثم لما انجر الكلام إلى ذكر الإنسان وما جبل عليه، ذكر سبحانه سؤال السائلين لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن الروح فقال(7/446)
وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85)
(ويسألونك عن الروح) قد اختلف الناس في الروح المسؤول عنه، فقيل هو الروح المدبر للبدن الذي تكون به حياته وبهذا قال أكثر المفسرين.(7/446)
قال الفراء: الروح الذي يعيش به الإنسان لم يخبر الله به سبحانه أحداً من خلقه ولم يعط علمه أحداً من عباده.
وقيل الروح المسؤول عنه جبريل، وقيل عيسى وقيل القرآن وقيل ملك من الملائكة عظيم الخلق وقيل خلق كخلق بني آدم، وقال بعضهم هو الدم، ألا ترى الإنسان إذا مات لا يفوت منه شيء إلا الدم، وقال قوم: هو نفس الحيوان بدليل أنه يموت باحتباس النفس، وقال قوم: هو عرض، وقال قوم: هو جسم لطيف يحيا به الإنسان، وقيل الروح معنى اجتمع فيه النور والطيب والعلم والعلوّ والبقاء، والظاهر هو القول الأول.
وسيأتي ذكر سبب نزول هذه الآية وبيان السائلين لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن الروح، ثم الظاهر أن السؤال عن حقيقة الروح لأن معرفة حقيقة الشيء أهم وأقدم من معرفة حال من أحواله.
ثم أمره سبحانه أن يجيب عن السائلين له عن الروح فقال (قل الروح) أظهر في مقام الإضمار إظهاراً لكمال الاعتناء بشأنه (من أمر ربي) من بيانية والأمر بمعنى الشأن والإضافة للاختصاص العلمي لا الإيجادي لاشتراك الكل فيه وفيها من تشريف المضاف ما لا يخفى كما في الإضافة الثانية من تشريف المضاف إليه أي هو من جنس ما استأثر الله بعلمه من الأشياء التي لم يعلم بها عباده.
وأبهم أمر الروح وهو مبهم في التوراة أيضاً، وقيل المعنى من وحيه وكلامه لا من كلام البشر، وفي هذه الآية ما يزجر الخائضين في شأن الروح المتكلفين لبيان ماهيته وإيضاح حقيقته أبلغ زجر ويردعهم أعظم ردع، وقد أطالوا المقال في هذا البحث بما لا يتسع له المقام وغالبه بل كله من الفضول الذي لا يأتي بنفع في دين ولا دنيا.
وقد حكى بعض المحققين أن أقوال المختلفين في الروح بلغت إلى ثمانية(7/447)
عشر مائة قول، فانظر إلى هذا الفضول الفارع والتعب العاطل عن النفع بعد أن علموا أن الله سبحانه قد استأثر بعلمه، ولم يطلع عليه أنبياءه ولا أذن لهم بالسؤال عنه ولا البحث على حقيقته فضلاً عن أممهم المقتدين بهم.
فيالله العجب حيث تبلغ أقوال أهل الفضول والقانعين بالمعقول من المنقول إلى هذا الحد الذي لم تبلغه ولا بعضه في غير هذه المسألة مما أذن الله بالكلام فيه ولم يستأثر بعلمه، وقد عجزت الأوائل عن إدراك ماهيته بعد إنفاق الأعمار الطويلة على الخوض فيه.
والحكمة في ذلك تعجيز العقل عن إدراك معرفة مخلوق مجاور له ليدل على أنه عن إدراك خالقه أعجز، ولذا رد ما قيل في حده قديماً وحديثاً.
ثم ختم سبحانه هذه الآية بقوله (وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً) الخطاب عام لجميع الخلق ومن جملتهم النبي صلى الله عليه وسلم، وقيل هو خطاب لليهود خاصة، والأول أولى، ويدخل فيه اليهود دخولاً أولياً.
والمعنى أن علمكم الذي علمكم الله ليس إلا المقدار القليل بالنسبة إلى علم الخالق سبحانه وأن أوتيتم حظاً من العلم وافراً، بل علم الأنبياء عليهم السلام ليس هو بالنسبة إلى علم الله سبحانه إلا كما يأخذ الطائر في منقاره من البحر كما في حديث موسى والخضر عليهما السلام.
وعبارة الخازن أن القلة والكثرة تدوران مع الإضافة، فوصف الشيء بالقلة بالنسبة إلى ما فوقه وبالكثرة إلى ما تحته. أهـ.
أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن مسعود قال: كنت أمشي مع النبي صلى الله عليه وسلم في خرب المدينة وهو متكئ على عسيب فمر بقوم من اليهود(7/448)
فقال بعضهم لبعض: اسألوه عن الروح، فقال بعضهم: لا تسألوه، فقالوا: يا محمد ما الروح؟ فما زال متكئاً على العسيب فظننت أنه يوحى إليه فقال (ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي) الآية. (1)
وأخرج أحمد والترمذي وصححه النسائي وابن المنذر وابن حبان في العظمة والحاكم وصححه وابن مردويه وأبو نعيم والبيهقي عن ابن عباس قال: قالت قريش لليهود: أعطونا شيئاً نسأل هذا الرجل، قالوا: سلوه عن الروح، فنزلت هذه الآية، قالوا: أوتينا علماً كثيراً وأوتينا التوراة ومن أوتي التوراة فقد أوتي خيراً كثيراً، فأنزل الله (قل لو كان البحر مداداً لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي) الآية، وفي الباب أحاديث وآثار.
ولما بيَّن سبحانه ما آتاهم من العلم إلا قليلاً بين أنه لو شاء أن يأخذ منهم هذا القليل لفعل فقال
_________
(1) مسلم 2794 - البخاري 106.(7/449)
وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا (86)
(ولئن) اللام هي الموطئة الدالة على القسم المقدر، أي والله لئن (شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك) وبقيت كما كنت ما تدري ما الكتاب وهذا جواب القسم وجواب الشرط محذوف، أي ذهبنا به على القاعدة في اجتماع الشرط والقسم من حذف جواب المتأخر استغناء عنه بجواب المتقدم. قال الزجاج: أي لو شئنا لمحوناه من القلوب ومن الكتب حتى لا يوجد له أثر، انتهى. وعبر عن القرآن بالموصول تفخيماً لشأنه (ثم لا تجد لك به) بالقرآن (علينا وكيلاً) أي من يتوكل علينا في رد شيء منه بعد أن ذهبنا به ويتعهد ويلتزم استرداده بعد رفعه كما يلتزم الوكيل ذلك فيما يتوكل عليه.(7/449)
إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا (87) قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88) وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا (89) وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا (92)(7/450)
إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا (87)
(إلا رحمة من ربك) الاستثناء فيه قولان: أحدهما: أنه متصل لأن الرحمة تندرج في قوله وكيلاً، يعني إلا رحمة فإنها إن نالتك فلعلها تسترده عليك.
والثاني: أنه منقطع فمعناه لكن لا نشاء ذلك رحمة من ربك أو لكن رحمة ربك تركته غير مذهوب به، أو لكن أبقيناه إلى قرب قيام الساعة فعند ذلك يرفع، ويقدر إلا بـ (لكن) عند البصريين وببل عند الكوفيين.
وقد أخرج سعيد بن منصور والحاكم وصححه والطبراني والبيهقي وغيرهم عن ابن مسعود قال: إن هذا القرآن سيرفع، قيل كيف يرفع، وقد أثبته الله في قلوبنا وأثبتناه في المصاحف، قال: يسري عليه في ليلة واحدة فلا تترك منه آية في قلب ولا مصحف إلا رفعت فتصبحون وليس فيكم منه شيء، ثم قرأ هذه الآية وقد روي هذا عنه، وعن جمع من الصحابة موقوفاً ومرفوعاً.
(إن فضله كان عليك كبيراً) حيث جعلك رسولاً وأنزل عليك الكتاب وألقى عليك القرآن والعلم وصيرك سيد ولد آدم وختم بك النبيين وأعطاك المقام المحمود وغير ذلك مما أنعم الله به عليك.
ثم احتج سبحانه على المشركين بإعجاز القرآن فقال(7/450)
قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88)
(قل لئن) اللام لام(7/450)
قسم وفيه ما تقدم (اجتمعت الإنس والجن) وكذا الملائكة، وإنما لم يذكروا لأن التحدي ليس معهم والتصدي لمعارضته لا يليق بشأنهم.
(على أن يأتوا بمثل هذا القرآن) المنزل من عند الله الموصوف بالصفات الجليلة من كمال الفصاحة ونهاية البلاغة وحسن النظم وجزالة اللفظ (لا يأتون بمثله) أظهر في مقام الإضمار ولم يكتف بأن يقول لا يأتون به؛ على أن الضمير راجع إلى المثل المذكور لدفع توهم أن يكون له مثل معين، وللإشعار بأن المراد نفي المثل على أي صفة كان، وهو جواب قسم محذوف أو جواب للشرط واعتذروا عن رفعه بأن الشرط ماض والأول أظهر.
ثم أوضح سبحانه عجزهم عن المعارضة سواء كان المتصدي لها أحدهم على الانفراد أو كان المتصدي لها المجموع بالمظاهرة فقال (ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً) أي عوناً ونصيراً في تحقيق ما يتوخونه من الإتيان بمثله، فثبت أنهم لا يأتون بمثله على كل حال مفروض، ولو في هذه الحال المنافية لعدم الإتيان به فضلاً عن غيرها، وفيه حسم لأطماعهم الفارغة في روم تبديل بعض آياته ببعض وقد تقدم وجه الإعجاز في أوائل سورة البقرة.
وفي هذه الآية رد لما قاله الكفار (لو نشاء لقلنا مثل هذا) وإكذاب لهم. عن ابن عباس قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم محمود بن شحان ونعيمان ابن آصي وبحري بن عمرو وسلام بن مشكم، فقالوا: أخبرنا يا محمد بهذا الذي جئت به أحق من عند الله، فإنا لا نراه متناسقاً كما تناسق التوراة، فقال لهم " والله إنكم لتعرفونه أنه من عند الله "، قالوا: إنا نجيئك بمثل ما تأتي به، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
فالقرآن كلام الله في أعلى طبقات البلاغة والفصاحة لا يشبه كلام الخلق وهو(7/451)
غير مخلوق، ولو كان مخلوقاً لأتوا بمثله، وهو معجز في النظم والتأليف والإخبار عن الغيوب.
ثم بينَّ سبحانه أن الكفار مع عجزهم عن المعارضة استمروا على كفرهم وعدم إيمانهم فقال(7/452)
وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا (89)
(ولقد صرفنا للناس في هذا القرآن من كل مثل) أي رددنا القول فيه بوجوه مختلفة زيادة في التقرير والبيان، وكررنا بكل مثل يوجب الاعتبار من الآيات والعبر والترغيب والترهيب والأوامر والنواهي، وأقاصيص الأولين والجنة والنار والقيامة، وقيل من كل معنى هو كالمثل في غرابته وحسنه ووقوعه موقعاً في الأنفس والأول أولى.
(فأبى أكثر الناس) يعني من أهل مكة (إلا كفورًا) فإنهم جحدوا وأنكروا كون القرآن كلام الله بعد قيام الحجة عليهم واقترحوا من الآيات ما ليس لهم وأظهر في مقام الإضمار حيث قال فأبى أكثر الناس تأكيداً وتوضيحاً ولما كان أبى ومؤلاً بالنفي أي ما قبل أو لم يرض صح الاستثناء منه.(7/452)
وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا (90)
(وقالوا) أي قال رؤساء مكة كعتبة وشيبة ابني ربيعة وأبي سفيان والنضر بن الحرث قول المبهوت المحجوج المتحير، ولما تبينَّ إعجاز القرآن وانضمت إليه معجزات أخر وبيِّنات ولزمتهم الحجة وغلبوا أخذوا يتعلَّلون باقتراح الآيات وقالوا (لن نؤمن لك) ثم علقوا نفي إيمانهم بغاية طلبوها فقالوا (حتى تفجر لنا من الأرض) أي مكة (ينبوعاً) عيناً غزيرة من شأنها أن تنبع بالماء، قرئ تفجر مخففاً ومشدداً وهما سبعيتان، ولم يختلفوا في فتفجر الأنهار أنها مشدّدة باتفاق السبعة.
ووجه ذلك أبو حاتم بأن الأولى بعدها ينبوع وهو واحد والثانية بعدها الأنهار وهي جمع، وأجيب عنه بأن الينبوع وإن كان واحداً في اللفظ فالمراد به الجمع، فإن الينبوع العيون التي لا ينضب ماؤها ويرد بأن الينبوع عين الماء والجمع ينابيع، وإنما يقال للعين ينبوع إذا كانت غزيرة من شأنها النبوع من غير انقطاع وهو يفعول(7/452)
من نبع الماء والياء زائدة كيعبوب من عب الماء. قال مجاهد: ينبوعاً عيوناً، وعن السدي الينبوع هو النهر الذي يجري من العين.(7/453)
أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا (91)
(أو تكون لك جنة) أي بستان تستر أشجاره أرضه. وقال ابن عباس: جنة ضيعة، والمعنى هب إنك لا تفجر الأنهار لأجلنا ففجرها من أجلك بأن تكون لك جنة (من نخيل وعنب فتفجر الأنهار) أي تجريها بقوة (خلالها) أي وسط الجنة (تفجيراً) كثيراً وتشقيقاً.(7/453)
أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا (92)
(أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفاً) أي قطعاً قاله ابن عباس، قرأ مجاهد أو تسقط مسند إلى السماء، وقرأ من عداه أو تسقط على الخطاب أي أو تسقط أنت يا محمد السماء، والكسف بفتح السين جمع كسفة، والكسفة القطعة من الشيء، قاله الجوهري، يقال أعطني كسفة من ثوبك والجمع كسف وكسف، أي إسقاطاً مماثلة كما زعمت، يعنون بذلك قول الله سبحانه (إن نشأ نخسف بهم الأرض أو نسقط عليهم كسفاً من السماء).
قال أبو علي: الكسف بالسكون الشيء المقطوع كالطحن للمطحون واشتقاقه على ما قال من كسفت الثوب كسفاً إذا قطعته، وقال الزجاج: من كسفت الشيء إذا غطيته كأنه قيل أو تسقطها طبقاً طبقاً علينا (أو تأتي بالله والملائكة قبيلاً) أي حال كونهما مقابلين بفتح الباء ومرئيين لنا فالقبيل بمعنى المقابل كالعشير بمعنى العاشر.
اختلف المفسرون في معنى (قبيلاً) فقيل معناه معاينة قاله قتادة وابن جريج واختاره أبو علي الفارسي فقال: إذا حملته على العاينة كان القبيل مصدراً كالنكير والنذير وقيل معناه كفيلاً بما تدعيه قاله الضحاك، وقيل شهيداً قاله مقاتل وقيل هو جمع القبيلة أي تأتي بأصناف الملائكة قبيلة قبيلة قاله مجاهد وعطاء.(7/453)
أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا (93) وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا (94) قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا (95) قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (96)(7/454)
أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا (93)
(أو يكون لك بيت من زخرف) أي من ذهب قاله ابن عباس وبه قرأ ابن مسعود وأصله الزينة والمزخرف المزين وزخارف الماء طرائقه وقال الزجاج: هو الزينة فرجع إلى أصل معنى الزخرف وهو بعيد لأنه يصير المعنى أو يكون لك بيت من زينة.
(أو ترقى في السماء) أي حتى تصعد في معارجها والرقي الصعود يقال: رقيت في السلم إذا صعدت من باب تعب وارتقيت مثله ويقال رقي بكسر القاف يرقى بالفتح رقياً على فعول والأصل رقوى وبالكسر في المحسوسات كما هنا وأما في المعاني فهو من باب سعى يقال رقى في الخير والشر، يرقى في الماضي والمضارع، وأما رقى المريض بمعنى عوّذه فهو من باب رمى يقال رقاه يرقيه إذا عوذه وتلا عليه شيئاً من القرآن.
(ولن نؤمن لرقيك) أي لأجل رقيك أو به فاللام للتعليل أو بمعنى الباء وهو مصدر نحو مضى يمضي مضياً وهوى يهوي هوياً (حتى تنزل علينا كتاباً) يصدقك ويدل على نبوتك (نقرؤه) جميعاً أو يقرؤه كل واحد منا، وقيل معناه كتاباً من الله إلى كل واحد منا كما في قوله (بل يريد كل امرئ منهم أن يؤتى صحفاً منشرة).
قال مجاهد: يعنون كتاباً من رب العالمين إلى فلان بن فلان تصبح عند كل رجل صحيفة عند رأسه موضوعة يقرؤها فأمر سبحانه رسوله صلى الله(7/454)
عليه وآله وسلم أن يأتي بما يفيد التعجب من قولهم والتنزيه للرب سبحانه عن اقتراحاتهم القبيحة فقال:
(قل) وفي قراءة سبعية قال (سبحان ربي) تعجب عما تقدم أو عن أن يتحكم عليه أو يشاركه أحد في القدرة (هل كنت إلا بشراً) من البشر لا ملكاً حتى أصعد السماء (رسولاً) كسائر الرسل مأموراً من الله سبحانه بإبلاغكم، فهل سمعتم أيها المقترحون لهذه الأمور أن بشراً قدر على شيء منها، وإن أردتم أني أطلب ذلك من الله سبحانه حتى يظهرها على يدي فالرسول إذا أتى بمعجزة واحدة كفاه ذلك لأن بها يتبين صدقه ولا ضرورة إلى طلب الزيادة وأنا عبد مأمور ليس لي أن أتحكم على ربي بما ليس بضروري ولا دعت إليه حاجة، ولو لزمتني الإجابة لكل متعنت لاقترح كل معاند في كل وقت اقتراحات وطلب لنفسه إظهار آيات فتعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً وتنزه عن تعنتاتهم وتقدس عن اقتراحاتهم.
وقد أعطى النبي صلى الله عليه وسلم من الآيات والمعجزات ما يغني عن هذا كله مثل القرآن وانشقاق القمر ونبع الماء من بين أصابعه وما أشبهها وليست بدون ما اقترحوه، بل أعظم منه ولكن لم يكن قصدهم طلب الدليل بل كانوا متعنتين ثم حكى سبحانه شبهة أخرى قد تكرر في الكتاب العزيز التعرض لإيرادها وردها في غير موضع فقال:(7/455)
وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا (94)
(وما منع الناس أن يؤمنوا) المراد الناس على العموم، وقيل أهل مكة على الخصوص أي ما منعهم الإيمان بالقرآن ونبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم (إذ جاءهم الهدى) أي الوحي من الله سبحانه على رسوله صلى الله عليه وسلم وبين ذلك لهم وأرشدهم إليه أي ما منعهم وقت مجيء الهدى أن يؤمنوا بالقرآن والنبوة (إلا أن قالوا) أي ما منعهم إلا قولهم (أبعث الله بشراً رسولاً) الهمزة للإنكار منهم أن يكون الرسول من جنس البشر.
والمعنى أن هذا الاعتقاد الشامل لهم هو الذي منعهم عن الإيمان(7/455)
بالكتاب وبالرسول وعبر عنه بالقول للإشعار بأنه ليس إلا مجرد قول قالوه بأفواههم.
ثم أمر سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم أن يجيب عن شبهتهم هذه فقال(7/456)
قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا (95)
(قل لو كان) أي لو وجد وثبت (في الأرض) بدل من فيها من البشر (ملائكة يمشون) على الأقدام كما يمشي الإنس (مطمئنين) مستقرين فيها ساكنين بها، قال الزجاج مستوطنين في الأرض أي لا يظعنون عنها إلى السماء ومعنى الطمأنينة السكون فالمراد هاهنا المقام والاستيطان فإنه يقال سكن البلد فلان إذا أقام فيها وإن كان ماشياً متقلباً في حاجاته.
(لنزلنا عليهم من السماء ملكاً رسولاً) حتى يكون من جنسهم وممكنهم مخاطبته والفهم عنه، وفيه إعلام من الله سبحانه بأن الرسل ينبغي أن يكونوا من جنس المرسل إليهم فكأنه اعتبر في تنزيل الرسول من جنس الملائكة أمرين:
الأول: كون سكان الأرض ملائكة.
والثاني: كونهم ماشين على الأقدام غير قادرين على الطيران بأجنحتهم إلى السماء إذ لو كانوا قادرين على ذلك لطاروا إليها وسمعوا من أهلها ما يجب معرفته وسماعه فلا تكون في بعثة الملائكة إليهم فائدة.
ثم ختم الكلام بما يجري مجرى التهديد فقال(7/456)
قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (96)
(قل) لهم يا محمد من جهتك (كفى بالله) وحده (شهيداً) على إبلاغي إليكم ما أمرني به من أمور الرسالة وقال (بيني وبينكم) ولم يقل بيننا تحقيقاً للمفارقة الكلية، وقيل إن إظهار المعجزة على وفق دعوى النبي شهادة من الله له على الصدق ثم علل كونه سبحانه شهيداً كافياً بقوله (إنه كان بعباده خبيراً) أي عالماً بجميع أحوالهم محيطاً بظواهرها وبواطنها (بصيراً) بما كان منها وما يكون وفيه تهديد لهم وتسلية له صلى الله عليه وسلم.(7/456)
وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا (97) ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (98) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لَا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُورًا (99)
ثم بين سبحانه أن الإقرار والإنكار مستندان إلى مشيئته فقال(7/457)
وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا (97)
(ومن يهد الله) أي من يرد الله هدايته (فهو المهتد) إلى الحق أو إلى كل مطلوب وأفرد الضمير حملاً على لفظ من (ومن يضلل) أي يرد إضلاله (فلن يجد) الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم أو لكل من يصلح له (لهم) جمع الضمير حملاً على معنى من (أولياء) ينصرونهم ويهدونهم إلى الحق الذي أضلهم الله عنه أو إلى طريق النجاة (من دونه) أي من دون الله سبحانه.
(ونحشرهم يوم القيامة) ماشين (على وجوههم) هذا الحشر فيه وجهان للمفسرين:
الأول: أنه عبارة عن الإسراع بهم إلى جهنم من قول العرب قد مر القوم على وجوههم إذا أسرعوا.
الثاني: أنهم يسحبون يوم القيامة على وجوههم حقيقة كما يفعل في الدنيا بمن يبالغ في إهانته وتعذيبه، وهذا هو الصحيح لقوله تعالى (يوم يسحبون في النار على وجوههم).
ولما صح في السنة فقد أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أنس قال:(7/457)
قيل يا رسول الله كيف يحشر الناس على وجوههم قال: " الذي أمشاهم على أرجلهم قادر أن يمشيهم على وجوههم " (1).
وأخرج أبو داود والترمذي وحسنه البيهقي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " يحشر الناس يوم القيامة على ثلاثة أصناف: صنف مشاة وصنف ركباناً وصنف على وجوههم "، قيل يا رسول الله كيف يمشون على وجوههم، قال: " إن الذي أمشاهم على أقدامهم قادر على أن يمشيهم على وجوههم أما إنهم يتقون بوجوهم كل حدب وشوك " (2) والحدب ما ارتفع من الأرض وفي الباب أحاديث.
(عمياً وبكماً وصماً) النصب على الحال والأبكم الذي لا ينطق، والأصم الذي لا يسمع أي لا يبصرون ولا ينطقون ولا يسمعون، وهذه هيئة يبعثون عليها في أقبح صورة وأشنع منظر، قد جمع الله لهم بين عمى البصر وعدم النطق وعدم السمع مع كونهم مسحوبين على وجوههم، وقد أثبت الله تعالى لهم الرؤية والكلام والسمع في قوله (ورأى المجرمون النار) وقوله (دعوا هنالك ثبوراً) وقوله (سمعوا لها تغيظاً وزفيراً).
فالمعنى هنا عمياً لا يبصرون ما يسرهم بُكماً لا ينطقون بحجة صماً لا يسمعون ما يلذ مسامعهم وقيل هذا حين يقال لهم اخسؤوا فيها ولا تكلمون وقيل يحشرون على ما وصفهم الله ثم تعاد إليهم هذه الأشياء بعد ذلك ثم من وراء ذلك (مأواهم) أي المكان الذي يأوون إليه (جهنم) مستأنفة أو حال من الضمير، قال ابن عباس: يعني أنهم وقودها.
(كلما خبت) أي سكن لهبها بأن أكلت جلودهم ولحومهم، يقال خبت النار تخبو خبواً إذا خمدت وسكن لهبها زاد السمين فإذا ضعف جمرها خمدت
_________
(1) مسلم 2806 بلفظ: " أليس الذي أمشاه على رجليه في الدنيا، قادراً على أن يمشيه على وجهه يوم القيامة " البخاري 2028.
(2) الترمذي تفسير سورة 17/ 3 - الإمام أحمد 2/ 354.(7/458)
فإذا طفئت بالجملة قيل همدت، وكلاهما من باب قعد، قال ابن قتيبة: معنى (زدناهم سعيراً) تسعراً وهو التلهب والتوقد أي فتعود ملتهبة ومتسعرة فإنهم لما كذبوا بالإعادة بعد الإفناء جزاهم الله بأن لا يزالوا على الإعادة والإفناء.
وقد قيل أن في خبو النار تخفيفاً لعذاب أهلها، فكيف يجمع بينه وبين قوله (لا يخفف عنهم العذاب) وأجيب بأن المراد بعدم التخفيف أنه لا يتخلل زمان محسوس بين الخبو والتسعر، وقيل ضعفت وهدأت من غير أن يوجد نقصان في إيلامهم، لأن الله تعالى قال (لا يفتر عنهم) وقيل معناه أرادت أن تخبو، وقيل معناه كلما نضجت جلودهم واحترقت أعيدوا إلى ما كانوا عليه وزيد في سعير النار لتحرقهم.(7/459)
ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (98)
(ذلك) العذاب المذكور (جزاؤهم) الذي أوجبه الله لهم واستحقوه عنده (بأنهم كفروا بآياتنا) أي بسبب كفرهم بها فلم يصدقوا بالآيات التنزيلية ولا تفكروا في الآيات التكوينية (وقالوا أئذا كنا عظاماً ورفاتاً) الهمزة للإنكار وقد تقدم تفسير هذه الآية في هذه السورة (أئنا لمبعوثون) أي مخلوقون (خلقاً جديداً) مصدر من غير لفظة أو حال أي مخلوقين مستأنفين فجاء سبحانه بحجة تدفعهم عن الإنكار وتردهم عن الجحود فقال:(7/459)
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لَا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُورًا (99)
(أولم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض قادر على أن يخلق مثلهم) أي من هو قادر على خلقها في عظمها وشدتها فهو على إعادة ما هو أدون منه في الصغر والضعف أقدر، وقيل المراد أنه قادر على إفنائهم وإيجاد غيرهم من الإنس قال الكرخي: أراد بمثلهم إياهم فعبر عن خلقهم بلفظ المثل كقول المتكلمين الإعادة مثل الابتداء وذلك أن مثل الشيء مساوٍ له في حاله فجاز أن يعبر عن الشيء نفسه.
يقال مثلك لا يفعل كذا أي أنت لا تفعله، أو أنه تعالى قادر على أن(7/459)
يخلق عبيداً يوحدون ويقرون بكمال حكمته وقدرته، ويتركون هذه الشبهات الفاسدة وعلى هذا فهو كقوله (يأت بخلق) (ويستبدل قوماً غيركم) وعلى القول الأول يكون الخلق بمعنى الإعادة وعلى هذا القول هو على حقيقته، والمعنى قد علموا بدليل العقل أن من قدر على خلق السماوات والأرض فهو قادر على خلق أمثالهم لأنهم ليسوا بأشد خلقاً منها كما قال أأنتم أشد خلقاً أم السماء. قال الواحدي: والأول أشبه.
(وجعل لهم) أي لبعثهم (أجلاً) أي وقتاً محققاً لعذابهم (لا ريب) أي غير مرتاب (فيه) وهو الموت أو القيامة، ويحتمل أن يكون الواو للاستئناف. وقيل في الكلام تقديم وتأخير، أي أولم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض وجعل لهم أجلاً لا ريب فيه قادر على أن يخلق مثلهم (فأبى الظالمون إلا كفروا) أي أبى المشركون إلا جحوداً للأجل وعناداً مع وضوح الدليل.
وفيه وضع الظاهر موضع المضمر للحكم عليهم بالظلم ومجاوزة الحد، ثم لما وقع من هؤلاء الكفار طلب إجراء العيون والأنهار في أراضيهم لتتسع معايشهم بين الله سبحانه أنهم لا يقنعون بل يبقون على بخلهم وشحهم فقال:(7/460)
قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا (100) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا (101) قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا (102) فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا (103) وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا (104)(7/461)
قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا (100)
(قل) لهم شرحاً لحالهم التي يدعون خلافها (لو أنتم تملكون) تقديره لو تملكون أنتم لأن (لو) تدخل على الأفعال دون الأسماء فلا بد من فعل بعدها، وهذا هو الوجه الذي يقتضيه علم الإعراب، وأما ما يقتضيه علم البيان فهو أن في حذف الفعل الذي ارتفع به أنتم وإبراز الكلام في صورة المبتدأ والخبر دلالة على أنهم هم المختصون بالشح المتبالغ فلا ينافي قوله تعالى (لو أن لهم ما في الأرض جميعاً) الآية. لأن ذلك في الآخرة.
(خزائن رحمة ربي) هي خزائن الأرزاق (إذاً لأمسكتم) أي لبخلتم وحبستم في دار الدنيا.
قال الزجاج: أعلمهم الله أنهم لو ملكوا خزائن الأرزاق والنعم لأمسكوا شحاً وبخلاً (خشية الإنفاق) أي خشية أن ينفقوا فيفتقروا. قال أهل اللغة: أنفق وأصرم وأعدم وأقتر بمعنى قل ماله، فيكون المعنى لأمسكتم خشية قلة المال وخوف نفاده وذهابه بالإنفاق (وكان الإنسان قتوراً) أي بخيلاً ممسكاً مضيقاً عليه، يقال قتر على عياله يقتر قتراً وقتوراً ضيق عليهم من النفقة.
وقيل معنى قتوراً قليل المال، والظاهر أن المراد المبالغة في وصفه بالشح(7/461)
لأن الإنسان ليس بقليل المال على العموم بل بعضهم كثير المال إلا أن يراد أن جميع النوع الإنساني قليل المال بالنسبة إلى خزائن الله وما عنده، وقد اختلف في هذه الآية على قولين: أحدهما: أنها نزلت في المشركين خاصة وبه قال الحسن. والثاني: إنها عامة، وهو قول الجمهور وحكاه الماوردي.(7/462)
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا (101)
(ولقد آتينا موسى تسع آيات بيِّنات) أي علامات واضحات دالة على نبوته، قيل ووجه اتصال هذه الآية بما قبلها أن المعجزات المذكورة كأنها مساوية لتلك الأمور التي اقترحها كفار قريش بل أقوى منها فليس عدم الاستجابة لما طلبوه من الآيات إلا لعدم المصلحة في استئصالهم إن لم يؤمنوا بها.
قال أكثر المفسرين: الآيات التسع هي الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم والعصار واليد والسنين ونقص الثمرات، وجعل الحسن مكان السنين ونقص الثمرات البحر والجبل.
وقال محمد بن كعب القرظي: هي الخمس التي في الأعراف والبحر والعصا والحجر والطمس على أموالهم، وقد تقدم الكلام على هذه الآيات مستوفى.
وعن ابن عباس: في تسع آيات مثل ما ذكرناه عن أكثر المفسرين، وعنه قال: يده وعصاه ولسانه والبحر والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم.
وعن صفوان بن عسال: أن يهوديين قال أحدهما لصاحبه انطلق بنا إلى هذا النبي نسأله، فأتياه فسألاه عن هذه الآية فقال: " لا تشركوا بالله شيئاً ولا تزنوا ولا تسرقوا ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا تسرقوا ولا تسحروا ولا تمشوا ببريء إلى السلطان فيقتله، ولا تأكلوا الربا ولا تقذفوا(7/462)
محصنة، أو قال: لا تفروا من الزحف ". شك شعبة وعليكم يا يهود خاصة أن لا تعتدوا في السبت، فقبلا يديه ورجليه وقالا نشهد إنك نبي الله. قال " فما يمنعكما أن تسلما؟ قالا: إن داود دعا الله أن لا يزال في ذريته نبي، وإنا نخاف إن أسلمنا تقتلنا اليهود " (1) أخرجه أحمد والترمذي وصححه والنسائي وابن ماجة والطبراني وابن قانع والبيهقي وغيرهم.
وعلى هذا المراد بالآيات الأحكام العامة الثابتة في كل الشرائع، سميت بذلك لأنها تدل على حال من يتعاطى متعلقاتها في الآخرة من السعادة والشقاوة، وقوله عليكم يا يهود الخ كلام مستأنف زائد على الجواب، ولذلك غير فيه سياق الكلام (فاسأل) يا محمد صلى الله عليه وسلم (بني إسرائيل إذ جاءهم) أي حين جاءهم موسى، وقرئ فسأل أي سأل موسى فرعون أن يخلي بني إسرائيل ويطلق سبيلهم ويرسلهم معه، وعلى الأول السؤال سؤال استشهاد لزيد الطمأنينة والإيقان لأن الأدلة إذا تظافرت كان ذلك أقوى، والمسؤولون مؤمنو بني إسرائيل كعبد الله بن سلام وأصحابه.
(فقال له فرعون) الفاء هي الفصيحة أي فأظهر موسى عند فرعون ما آتيناه من الآيات البيِّنات وبلغه ما أرسل به فقال له فرعون (إني لأظنك يا موسى مسحوراً) المسحور هو الذي سحر فخولط عقله. وقيل هو المخدوع، وقيل هو المطبوب. وقال أبو عبيدة والفراء: هو بمعنى الساحر فوضع المفعول موضع الفاعل
_________
(1) النسائي كتاب التحريم باب 18 - الترمذي تفسير سورة 17/ 15 الإمام أحمد 4/ 240.(7/463)
قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا (102)
(قال) موسى (لقد علمت) يا فرعون (ما أنزل) أي أوجد (هؤلاء) يعني الآيات التسع التي أظهرها؛ وقرئ علمت بضم التاء أيضاً على أنها لموسى، ووجه الأولى أن فرعون كان عالماً بذلك كما قال سبحانه وتعالى (وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعلواً).
قال أبو عبيدة: المأخوذ به عندنا فتح التاء وهو الأصح للمعنى، لأن(7/463)
موسى لا يقول علمت أنا وهو الداعي. وروي نحو هذا عن الزجاج، ووجه الثانية أن فرعون لم يعلم ذلك وإنما علمه موسى.
(إلا رب السماوات والأرض بصائر) أي بيِّنات يبصر بها ودلالات يستدل بها على قدرته ووحدانيته (وإني لأظنك يا فرعون مثبوراً) الظن هنا بمعنى اليقين والثبور الهلاك والخسران أي مخسوراً؛ وقيل مسحوراً وقيل مطبوعاً على الشر وقيل المثبور الملعون؛ وقيل ناقص العقل، وقيل هو الممنوع المصروف من الخير يقال ما ثبرك عن كذا أي ما منعك منه. حكاه أهل اللغة.(7/464)
فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا (103)
(فأراد) فرعون (أن يستفزهم من الأرض) أي يخرج بني إسرائيل وموسى ويزعجهم من أرض مصر بإبعادهم عنها. وقيل أراد أن يقتلهم ويستأصلهم وعلى هذا يراد بالأرض مطلق الأرض، وفي القاموس فز عنى، عدل، وفز فلاناً عن موضعه أزعجه واستفزه استخفه وأخرجه من داره وأفززته أفزعته (فأغرقناه ومن معه جميعاً) أي فعكسنا عليه فكره فوقع عليه وعليهم الهلاك بالغرق ولم يبق منهم أحد ونجى موسى وقومه.(7/464)
وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا (104)
(وقلنا من بعده) أي من بعد إغراقه ومن معه جميعاً (لبني إسرائيل اسكنوا الأرض) أي أرض الشام ومصر التي أراد أن يستفزهم منها (فإذا جاء وعد) الدار (الآخرة) هي القيامة أو الكرّة الآخرة أو الساعة الآخرة وهي النفخة الثانية الموعود بها، وقيل أراد بوعد الآخرة نزول عيسى من السماء (جئنا بكم لفيفاً) أي جميعاً إلى موقف القيامة.
قال الجوهري: اللفيف ما اجتمع من الناس من قبائل شتى، يقال جاء القوم بلفهم ولفيفهم، أي بأخلاطهم، فالمراد هنا جئنا بكم من قبوركم مختلطين من كل موضع قد اختلط المؤمن بالكافر والسعيد بالشقي، قال الأصمعي: اللفيف جمع وليس له واحد وهو مثل الجمع.(7/464)
وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (105) وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا (106) قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا (107) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا (108) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا (109) قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (110) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا (111)(7/465)
وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (105)
(وبالحق أنزلناه وبالحق نزل) الضمير يرجع إلى القرآن، والمعنى وأوحيناه متلبساً بالحق وأنه نزل وفيه الحق، وقيل المعنى ومع الحق أنزلناه، كقولهم ركب الأمير بسيفه أي مع سيفه؛ وبالحق نزل أي بمحمد صلى الله عليه وسلم؛ كما تقول نزلت بزيد. وقال أبو علي الفارسي: الباء في الموضعين بمعنى مع.
وقيل المعنى وبالحق قدرنا أن ينزل وكذلك نزل، أو ما أنزلناه من السماء إلا محفوظاً بالرصد من الملائكة وما نزل على الرسول صلى الله عليه وسلم إلا محفوظاً من تخليط الشياطين والتقديم في الموضعين للتخصيص. وفي الشهاب الحق فيهما ضد الباطل، لكن المراد بالأول الحكمة الإلهية المقتضية لإنزاله وبالثاني ما يشتمل عليه من العقائد والأحكام ونحوها.
(وما أرسلناك إلا مبشراً) لمن أطاع بالجنة (ونذيراً) مخوفاً لمن عصى بالنار والقصر إضافي أي لا هادياً فإن الهدى هدى الله.(7/465)
وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا (106)
(وقرآناً) منصوب بفعل مقدر أي وأتيناك قرآناً، وقيل نصب بفعل مضمر يفسره قوله (فرقناه) بالتخفيف على قراءة الجمهور، أي بيناه وأوضحناه أو فرقنا فيه بين الحق والباطل.(7/465)
وقال الزجاج: فرقه الله في التنزيل ليفهمه الناس. قال أبو عبيدة: التخفيف أعجب إليّ لأن تفسيره بيّناه، وليس للتشديد معنى إلا أنه نزل متفرقاً، ويؤيده ما رواه ثعلب عن ابن الأعرابي أنه قال: فرقت مخففاً بين الكلام وفرقت مشدداً بين الأجسام.
وعن ابن عباس فرقناه مثقلاً وقال: نزل القرآن إلى السماء في ليلة القدر من رمضان جملة واحدة فكان المشركون إذا أحدثوا شيئاً أحدث الله لهم جواباً ففرقه الله في ثلاث وعشرين سنة. وقد روى نحو هذا عنه بطرق، وعن فرقناه فصلناه على مكث بأمد. قال؛ في الجمل وبالتشديد قرأ على وجماعة من الصحابة وغيرهم وفيه وجهان: أحدهما: أن التضعيف للتكثير، أي فرقنا آياته بين أمر ونهي وحكم وأحكام ومواعظ وأمثال وقصص وأخبار ماضية ومستقبلة. والثاني: أنه دال على التفريق والتنجيم. انتهى.
ثم ذكر سبحانه العلة لقوله فرقناه فقال (لتقرأه على الناس على مكث) أي على تطاول في المدة شيئاً بعد شيء على القراءة الثانية أو أنزلناه آية آية وسورة سورة، ومعناه على القراءة الأولى على ترسل وتمهل وتؤدة في التلاوة؛ فإن ذلك أقرب إلى الفهم وأسهل للحفظ، وقد اتفق القراء على ضم الميم في مكث إلا ابن محيصن فإنه قرأ بفتح الميم.
(ونزلناه تنزيلاً) التأكيد بالمصدر للمبالغة والمعنى أنزلناه منجماً مفرقاً في ثلاث وعشرين سنة على حسب الحوادث لما في ذلك من المصلحة، ولو أخذوا بجميع الفرائض في وقت واحد لنفروا ولم يطيقوا.(7/466)
قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا (107)
(قل) يا محمد للكافرين المقترحين للآيات (آمنوا به) أي بالقرآن (أو لا تؤمنوا) فسواء إيمانكم به وامتناعكم عنه لا يزيده ذلك كمالاً ولا ينقصه نقصاناً، وفى هذا وعيد شديد لأمره صلى الله عليه وسلم بالإعراض عنهم واحتقارهم، ثم علل ذلك بقوله (إن الذين أوتوا العلم من قبله) أي أن العلماء الذين قرأوا الكتب السابقة قبل إنزال القرآن وعرفوا حقيقة الوحي(7/466)
وإمارات النبوة وتمكنوا من التمييز بين المحق والمبطل ورأوا نعتك وصفة ما أنزل إليك في تلك الكتب كزيد بن عمرو بن نفيل وورقة بن نوفل وعبد الله بن سلام وسلمان الفارسي وأبي ذر.
وقيل الضمير في قوله من قبله راجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم والأولى ما ذكرناه من رجوعه إلى القرآن لدلالة السياق على ذلك.
(إذا يتلى عليهم) القرآن (يخرون للأذقان سجداً) أي يسقطون على وجوههم ساجدين لله سبحانه، وإنما قيد الخرور وهو السقوط بكونه للأذقان أي عليها لأن الذقن وهو مجتمع اللحيين أول ما يحاذي الأرض، قال الزجاج: لأن الذقن مجتمع اللحيين، وكما يبتدئ الإنسان بالخرور للسجود فأول ما يحاذي الأرض به من وجهه الذقن.
وقيل المراد تعفير اللحية بالتراب فإن ذلك غاية الخضوع وإيثار اللام في للأذقان على (على) للدلالة على الاختصاص فكأنهم خصوا أذقانهم بالخرور. وفي هذا تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وحاصلها أنه إن لم يؤمن به هؤلاء الجهال الذين لا علم عندهم ولا معرفة بكتب الله ولا بأنبيائه فلا تبال بذلك فقد آمن به أهل العلم وخشعوا له وخضعوا له عند تلاوته عليهم خضوعاً ظهر أثره البالغ بكونهم يخرون على أذقانهم سجداً لله.(7/467)
وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا (108)
(ويقولون) في سجودهم (سبحان ربنا) أي تنزيهاً لربنا عما يقوله الجاهلون من التكذيب أو تنزيهاً له عن خلف وعده (إن كان وعد ربنا لمفعولاً) إن هذه هي المخففة من الثقيلة واللام هي الفارقة(7/467)
وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا (109)
(ويخرون للأذقان يبكون) كرر ذلك الخرور للأذقان لاختلاف السبب فإن الأول لتعظيم الله سبحانه وتنزيهه وللسجود والثاني للبكاء بتأثير مواعظ القرآن في قلوبهم ومزيد خشوعهم ولهذا قال (ويزيدهم) أي سماع القرآن أو القرآن بسماعهم له أو البكاء أو السجود أو المتلو لدلالة قوله إذا يتلى (خشوعاً) أي لين قلب ورطوبة عين فالبكاء مستحب عند قراءة القرآن.(7/467)
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " لا يلج النار رجل بكى من خشية الله حتى يعود اللبن في الضرع ولا يجتمع على عبد غبار في سبيل الله ودخان جهنم " أخرجه الترمذي والنسائي (1).
وعن ابن عباس قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " عينان لا تمسهما النار عين بكت من خشية الله وعين باتت تحرس في سبيل الله " أخرجه الترمذي (2).
ثم أراد سبحانه أن يعلم عباده كيفية الدعاء والخشوع فقال
_________
(1) الترمذي كتاب فضائل الجهاد باب 8 - النسائي كتاب الجهاد باب 8.
(2) الترمذي كتاب فضائل الجهاد باب 12.(7/468)
قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (110)
(قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن) ومعناه أنهما مستويان في جواز الإطلاق وحسن الدعاء بهما ولهذا قال (أياً ما تدعوا) أصل الكلام أيا ما تدعوا فهو حسن فوضع موضعه قوله (فله الأسماء الحسنى) للمبالغة وللدلالة على أنه إذا حسنت أسماؤه كلها حسن هذان الاسمان، ومعنى حسن الأسماء استقلالها بنعوت الجلال والإكرام ذكر معنى هذا النيسابوري وتبعه أبو السعود.
قال الزجاج: أعلمهم الله أن دعاءهم الله ودعاءهم الرحمن يرجعان إلى قول واحد وسيأتي ذكر سبب نزول الآية وبه يتضح المراد منها، والحسنى مؤنث الأحسن الذي هو أفعل تفضيل لا مؤنث أحسن المقابل لامرأة حسناء كما في القاموس، عن ابن عباس قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بمكة ذات يوم فقال في دعائه: " يا الله يا رحمن " فقال المشركون: انظروا إلى هذا الصابئ ينهانا أن ندعو إلهين وهو يدعو إلهين فأنزل الله هذه الآية.
وعن إبراهيم النخعي قال: أن اليهود سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرحمن وكان لهم كاهن باليمامة يسمون الرحمن فنزلت الآية وهو مرسل وعن مكحول أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتهجد بمكة ذات ليلة(7/468)
يقول في سجوده: يا رحمن يا رحيم فسمعه رجل من المشركين فلما أصبح قال لأصحابه: أن ابن أبي كبشة يدعو الرحمن الذي باليمن وكان رجل باليمن يقال له رحمن فنزلت.
ثم ذكر كيفية أخرى للدعاء فقال (ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها) أي بقراءة صلاتك على حذف المضاف للعلم بأن الجهر والمخافتة من نعوت الصوت لا من نعوت أفعال الصلاة فهو من إطلاق الكل وإرادة الجزء يقال خفت صوته خفوتاً إذا انقطع كلامه وضعف وسكن وخفت الزرع إذا ذبل وخافت الرجل بقراءته إذا لم يرفع بها صوته.
وقيل معناه لا تجهر بصلاتك كلها ولا تخافت بها كلها والأول أولى، أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن عباس قال: نزلت يعني هذه الآية ورسول الله صلى الله عليه وسلم متوار فكان إذا صلى بأصحابه رفع صوته بالقرآن فإذا سمع ذلك المشركون سبوا القرآن ومن أنزله ومن جاء به فقال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم (ولا تجهر بصلاتك) أي بقراءتك فيسمع المشركون فيسبوا القرآن (ولا تخافت بها) عن أصحابك فلا تسمعهم القرآن حتى يأخذوا عنك الحديث (1).
وعن محمد بن سيرين قال: نبئت أن أبا بكر كان إذا قرأ خفض وكان عمر إذا قرأ جهر فقيل لأبي بكر لمَ تصنع هذا فقال: أنا أناجي ربي وقد عرف حاجتي وقيل لعمر لمَ تصنع هذا قال: أطرد الشيطان وأوقظ الوسنان فلما نزل (ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت) قيل لأبي بكر أرفع شيئاً، وقيل لعمر اخفض شيئاً، وأخرج البخاري ومسلم عن عائشة قالت: إنما نزلت هذه الآية في الدعاء وعنها أنها نزلت في التشهد.
(وابتغ بين ذلك) أي الجهر والمخافتة المدلول عليهما بالفعلين (سبيلاً)
_________
(1) مسلم 446 - البخاري 2020.(7/469)
أي طريقاً متوسطاً بين الأمرين فلا تكن مجاهراً ولا مخافتاً بها وعلى التفسير الثاني يكون معنى ذلك النهي عن الجهر بقراءة الصلوات كلها والنهي عن المخافتة بقراءة الصلوات كلها والأمر بجعل بعض منها مجهوراً به وهو صلاة الليل والمخافتة بصلاة النهار وذهب قوم إلى أن هذه الآية منسوخة بقوله (ادعوا ربكم تضرعاً وخفية).
ولما أمر أن لا يذكر ولا ينادي إلا بالأسماء الحسنى نبه على كيفية الحمد فقال(7/470)
وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا (111)
(وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولداً) كما يقوله اليهود والنصارى ومن قال من المشركين أن الملائكة بنات الله تعالى عن ذلك علواً كبيراً (ولم يكن له شريك في الملك) أي مشارك له في ملكه وألوهيته وربوبيته كما تزعمه الثنوية ونحوهم من الفرق القائلين بتعدد الآلهة (ولم يكن له ولي من الذل) أي لم يحتج إلى موالاة أحد لذل يلحقه فهو مستغن عن الولي والنصير.
قال الزجاج: أي لم يحتج أن ينتصر بغيره وفي التعرض في أثناء الحمد لهذه الصفات الجليلة إيذان بإن المستحق للحمد من له هذه الصفات لأنه القادر على الإيجاد وإفاضة النعم لكون الولد مجبنة مبخلة، ولأنه أيضًا يستلزم حدوث الأب لأنه متولد من جزء من أجزائه والمحدث غير قادر على كمال الأنعام.
والشركة في الملك إنما يتصور لمن لا يقدر على الاستقلال به ومن لا يقدر على الاستقلال عاجز فضلاً عن تمام ما هو فضلاً عن نظام ما هو عليه وأيضاً الشركة موجبة للتنازع بين الشريكين وقد يمنعه الشريك من إفاضة الخير إلى أوليائه ويؤديه إلى الفساد كما قال تعالى (لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا) والمحتاج إلى ولي يمنعه من الذل وينصره على من أراد إذلاله ضعيف لا يقدر على ما يقدر عليه من هو مستغنٍ بنفسه.
(وكبره تكبيراً) أي وعظمه تعظيماً تاماً وصفه بأنه أعظم من كل شيء(7/470)
وعن قتادة قال: ذكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يعلم أهله هذه الآية الحمد لله ... الخ الصغير من أهله والكبير أخرجه ابن جرير، وأخرج عبد الرزاق في المصنف عن عبد الكريم بن أبي أمية قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم الغلام من بني هاشم إذا أفصح سبع مرات الحمد لله إلى آخر السورة وروى الإمام أحمد في مسنده عن معاذ الجهني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول آية العز الحمد لله الذي الخ.(7/471)
خاتمة الجزء السابع
تم بعون الله سبحانه وتعالى الجزء السابع من كتاب فتح البيان في مقاصد القرآن ويليه الجزء الثامن وأوله تفسير سورة الكهف:
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا (1)(7/472)
فتحُ البيان في مقاصد القرآن
تفسِير سَلفي أثري خالٍ منَ الإِسرَائيليّاتِ والجَدليَّاتِ المذهبية والكلامية يغني عَن جميع التفاسِير وَلا تغني جميعُهَا عَنه
تأليف: السيد الإمام العلامة الملك المؤيد من الله الباري آبي الطيب صديق بن حسن بن علي الحسين القنوجي النجاري 1248 - 1307 هـ
عني بطبعهِ وقدّم له وراجعه: خادم العلم عَبد الله بن إبراهيم الأنصَاري
الجزء الثامن
المَكتبة العصريَّة
صَيدَا - بَيروت(8/1)
جَمِيع الحُقُوق محفُوظَة
1412 هـ - 1992 م
شركة أبناء شريف الأنصاري للطباعة والنشر والتوزيع
المَكتبة العصريَّة للطبَاعة والنّشْر
الدار النموذجية ــ المكتبة العصرية
بَيروت - صَ. ب 8355 - تلكس LE 20437 SCS
صَيدَا - صَ. ب 221 - تلكس LE 29198(8/2)
فتح البيان في مقاصد القرآن(8/3)
الجزء الثامن
ويشتمل على تفسير
- سورة الكهف
- سورة مريم
- سورة طه
- سورة الأنبياء(8/5)
سورة الكهف
مائة وإحدى عشرة آية
قال القرطبي: وهي مكية في قول جميع المفسرين، وبه قال ابن عباس وابن الزبير وروي عن فرقة أن أول السورة نزل بالمدينة إلى قوله جرزا والأول أصح وقد ورد في فضلها أحاديث منها ما أخرجه أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم عن أبي الدرداء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " من حفظ عشر آيات من سورة الكهف عصم من فتنة الدجال " (1).
وأخرج مسلم والبخاري وغيرهما عن البراء قال: قرأ رجل سورة الكهف وفي الدار دابة فجعلت تنفر فنظر فإذا ضبابة أو سحابة قد غشيته فذكر ذلك للنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - فقال: " اقرأ فلان فإن السكينة نزلت للقرآن " (2) وهذا الذي كان يقرأ هو أسيد بن حضير كما بينه الطبراني، وفي قراءة العشر الآيات من أولها أو من آخرها أحاديث.
وأخرج الطبراني في الأوسط والحاكم وصححه والبيهقي عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " من قرأ سورة الكهف كانت له نورًا من مقامه إلى مكة ومن قرأ عشر آيات من آخرها ثم خرج الدجال لم يضره " (3).
وأخرج ابن مردويه عن ابن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " من قرأ سورة الكهف في يوم الجمعة سطع له نور من تحت قدمه إلى عنان السماء يضيء له يوم القيامة وغفر له ما بين الجمعتين ".
_________
(1) مسلم 809 - الإمام أحمد 6/ 449 - أبو داود 4323.
(2) مسلم 795 - البخاري 1698.
(3) المستدرك كتاب فضائل القرآن 1/ 565.(8/7)
وعن عائشة قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " ألا أخبركم بسورة ملأ عظمتها ما بين السماء والأرض ولكاتبها من الأجر مثل ذلك ومن قرأها يوم الجمعة غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى وزيادة ثلاثة أيام ومن قرأ الخمس الأواخر منها عند نومه بعثه الله من أي الليل شاء قالوا: بلى يا رسول الله قال: سورة أصحاب الكهف " أخرجه ابن مردويه (1).
وأخرج أيضاً عن عبد الله بن مغفل قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " البيت الذي تقرأ فيه سورة الكهف لا يدخله شيطان تلك الليلة " وفي الباب أحاديث وآثار وفيما أوردناه كفاية مغنية.
_________
(1) ضعيف الجامع 2159 - الأحاديث الضعيفة 2482.(8/8)
بسم الله الرحمن الرحيم
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا (1) قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا (2) مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا (3) وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا (4)(8/9)
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا (1)
(الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب) هل المراد الإعلام بذلك للإيمان به وتكون الجملة خبرية لفظاً ومعنى أو الثناء به، أي إنشاء الثناء بثبوت الحمد لله وتكون الجملة إنشائية لفظاً ومعنى، بمعنى أنها نقلت في العرف للإنشاء أو الإعلام والثناء كلاهما، والجملة مستعملة في الخبر والإنشاء على طريق الجمع بين الحقيقة والمجاز، احتمالات أفيدها الثالث.
وقال الشوكاني رحمه الله: علم عباده كيف يحمدونه على إفاضة نعمه عليهم، ووصفه بالموصول يشعر بعلية ما هو في حيز الصلة لما قبله، ووجه كون إنزال الكتاب وهو القرآن نعمة على رسول الله صلى الله عليه وسلم لكونه اطلع بواسطته على أسرار التوحيد وأحوال الملائكة والأنبياء وعلى كيفية الأحكام الشرعية التي تعبده الله وتعبد أمته بها؛ وكذلك العباد كان إنزال الكتاب على نبيهم نعمة لهم لمثل ما ذكرناه في النبي صلى الله عليه وسلم.
(ولم يجعل له) أي فيه (عوجاً) أي شيئاً من العوج بنوع من أنواع الاختلال في اللفظ والمعنى، والعوج بالكسر في المعاني، أي فيما لا يدرك بالبصر بل بالبصيرة، وبالفتح في الأعيان أي فيما يدرك به، كذا قيل، ويرد عليه قوله سبحانه (لا ترى فيها عوجاً ولا أَمْتاًْ) يعني الجبال وهي من الأعيان. قال الزجاج: المعنى لم يجعل فيه اختلافاً كما قال: (ولو كان من عند غير(8/9)
الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً) والمراد نفي الاختلاف والتناقض عن معانيه؛ وقيل لم يجعله مخلوقاً، والجملة معطوفة على الصلة قبلها أو اعتراضية أو حالية.(8/10)
قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا (2)
(قيماً) القيم المستقيم الذي لا ميل ولا إفراط فيه ولا تفريط، أو القيم بمصالح العباد الدينية والدنيوية، أو القيم على ما قبله من الكتب السماوية مهيمناً عليها يشهد بصحتها، وعلى الأول يكون تأكيداً لما دل عليه نفي العوج، فرُب مستقيم في الظاهر لا يخلو عن أدنى عوج في الحقيقة، أي جعله قيماً عدلاً، قيل في الكلام تقديم وتأخير، والتقدير أنزل على عبده الكتاب قيماً ولم يجعل له عوجاً.
ثم فصل سبحانه ما أجمل في قوله [قَيِّماً] فقال (لينذر) وحذف المنذر للعلم به مع قصد التعميم، والمعنى لينذر الكافرين (بأساً) أي عذاباً (شديداً من لدنه) أي صادراً من عنده نازلاً من لدنه (ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات) قرئ يبشر مشدداً ومخففاً وأجري الموصول على موصوفه المذكور لأن مدار قبول الأعمال هو الإيمان.
(أن لهم أجراً حسناً) هو الجنة قاله السدي حال كونهم(8/10)
مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا (3)
(ماكثين فيه) أي في ذلك الأجر (أبداً) أي مكثاً دائماً لا انقطاع له، وتقديم الإنذار على التبشير لإظهار كمال العناية بزجر الكفار.
ثم كرر الإنذار وذكر المنذر بخصوصه وحذف المنذر به وهو البأس الشديد لتقدم ذكره فقال(8/10)
وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا (4)
(وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولداً) وهم اليهود والنصارى. قال السدي وبعض كفار قريش القائلين بأن الملائكة بنات الله، فذكر سبحانه أولاً قضية كلية وهي إنذار عموم الكفار، ثم عطف عليها قضية خاصة هي بعض جزئيات تلك الكلية تنبيهاً على كونها أعظم جزئياتها، فأفاد ذلك أن نسبة الولد إلى الله سبحانه أقبح أنواع الكفر.(8/10)
مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا (5) فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا (6) إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (7) وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا (8) أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا (9) إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا (10)(8/11)
مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا (5)
(ما لهم به) أي بالولد واتخاذ الله إياه (من علم) ومن مزيدة لتأكيد النفي والجملة مستأنفة، والمعنى ما لهم بذلك علم أصلاً، وانتفاء العلم بالشيء إما للجهل بالطريق الموصل إليه أو لأنه في نفسه محال لا يستقيم تعلق العلم به (ولا لآبائهم) أي ولا لأحد من أسلافهم علم بذلك، بل كانوا في زعمهم هذا على ضلالة وقلدهم أبناؤهم فضلوا جميعاً، وهذا مبالغة في كون تلك المقالة فاسدة باطلة.
(كبرت كلمة) قال الفراء: كبرت تلك الكلمة كلمة. وقال الزجاج: كبرت مقالتهم كلمة، والمراد بهذه الكلمة هي قولهم اتخذ الله ولداً، ومعنى الكلام على التعجب أي ما أكبرها كلمة، ثم وصف الكلمة بقوله (تخرج من أفواههم) وفائدة هذا الوصف استعظام اجترائهم على التفوه بها، وكثيراً ما يوسوس الشيطان في قلوب الناس من المنكرات ما لا يتمالكون أن يتفوهوا به، بل يكظمون عليه فكيف بمثل هذا المنكر.
والخارج من الفم وإن كان مجرد الهواء لكن لما كانت الحروف والأصوات كيفيات قائمة بالهواء أسند إلى الحال ما هو من شأن المحل أو المعنى هذا الذي(8/11)
يقولونه لا تحكم به عقولهم وفكرهم البتة لكونه في غاية الفساد والبطلان، فكأنه يجري على لسانهم على سبيل التقليد.
ثم زاد في تقبيح ما وقع منهم فقال (إن) أي ما (يقولون إلا) قولاً (كذباً) لا مجال للصدق فيه بحال. ثم سلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله(8/12)
فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا (6)
(فلعلك باخع نفسك) قال الأخفش والفراء: البَخْع الجهد، وقال الكسائي: بخعت الأرض بالزراعة إذا جعلتها ضعيفة بسبب متابعة الحراثة، وبخع الرجل نفسه إذا أنهكها وقال أبو عبيدة: معناه مهلك نفسك أو مضعفها أو مهلكها، والمقصود من هذا الترجي النهي، أي لا تبخع نفسك من أجل غمك على عدم إيمانهم، أي لا تغتم لئلا تهلك نفسك.
وفي السمين ولعل قيل للإشفاق على بابها وقيل للاستفهام وهو رأي الكوفيين، وقيل للنهي (على آثارهم) أي على فراقهم من بعد توليهم عنك وإعراضهم أو هلاكهم (إن لم يؤمنوا بهذا الحديث) أي القرآن (أسفاً) أي غيظًا وحزناً. قاله قتادة. وقال مجاهد: جزعاً ونصبه على المفعول له وجواب إن محذوف دل عليه الترجي تقديره فلا تحزن، وهذا عند الجمهور وعند غيرهم هو جواب متقدم.
عن ابن عباس قال: اجتمع عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وأبو جهل والنضر بن الحرث وأمية بن خلف والعاص بن وائل والأسود بن عبد المطلب وأبو البختري في نفر من قريش وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد كبر عليه ما يرى من خلاف قومه إياه وإنكارهم ما جاء من النصيحة فأحزنه حزناً شديداً فأنزل الله سبحانه (فلعلك باخع نفسك). الآية.(8/12)
إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (7)
(إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها) هذه الجملة تعليل للنهي المقصود من الترجي والقصد منه تسلية له صلى الله عليه وسلم وتسكين أسفه وغيظه(8/12)
على عدم إيمانهم لأنه مختبر لأعمال العباد مجازيهم، فكأنه يقول له صلى الله عليه وسلم لا تحزن فإني منتقم منهم لك، وقيل استئناف.
والمعنى إنا جعلنا ما عليها مما يصلح أن يكون زينة لها ولأهلها من الحيوانات والنبات والشجر والأنهار والجماد وغير ذلك من النعم كالذهب والفضة والمعادن كقوله سبحانه (هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً) قال ابن عباس: يعني الرجال والعلماء زينة الأرض، وعن سعيد بن جبير مثله، وقال الحسن: هم الرجال العباد العمال لله بالطاعة.
(لنبلوهم أيهم أحسن عملاً) اللام للغرض أو العاقبة، والمراد بالابتلاء أنه سبحانه يعاملهم معاملة لو كانت تلك المعاملة من غيره لكانت من قبيل الابتلاء والامتحان، قال الزجاج: أيهم رفع بالابتداء إلا أن لفظه لفظ الاستفهام والمعنى لنمتحنن أهذا أحسن عملاً أم ذلك، قال الحسن: أيهم أزهد وأشد للدنيا تركاً، ومثله عن الثوري وقال مقاتل: أيهم أصلح فيما أوتي من المال، وقال قتادة: أيهم أتم عقلاً.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم في التاريخ وابن مردويه عن ابن عمر قال: تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية فقلت: ما معنى ذلك يا رسول الله قال: " ليبلوكم أيكم أحسن عقلاً وأورع عن محارم الله وأسرعكم في طاعة الله "
ثم أعلم سبحانه أنه مبيد لذلك كله ومفنيه فقال(8/13)
وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا (8)
(وإنا لجاعلون) أي مصيرون (ما عليها) من هذه الزينة عند تناهي عمر الدنيا (صعيداً) تراباً قال أبو عبيدة: الصعيد المستوي من الأرض، وقال الزجاج: هو الطريق الذي لا نبات فيه بعد أن كانت خضراء معشبة أي أرضاً ملساء، وقيل فُتَاتاً(8/13)
وهو الذي يضمحل بالريح لا اليابس الذي يرسب، ونظيره (كل من عليها فان) وقوله (فيذرها قاعاً صفصفاً لا ترى فيها عوجاً ولا أمتاً).
والمعنى أنه لا بد من المجازاة بعد إفناء ما على الأرض، وتخصيص الإهلاك بما على الأرض يوهم بقاء الأرض إلا أن سائر الآيات دلت أيضاً على أن الأرض لا تبقى وهو قوله (يوم تبدل الأرض غير الأرض) قال قتادة: الصعيد الجبال التي ليس فيها زرع.
(جرزاً) يابسًا قال الفراء: الجرز الأرض التي لا نبات فيها من قولهم امرأة جَرُوز إذا كانت أكولاً، وسيف جُراز إذا كان مستأصلاً وجرز الجراد والشاة والإبل الأرض إذا أكلت ما عليها، ويقال سنة جُرُز وسنونُ أَجْرَاز لا مطر فيها وأرض جُرُز وأرضون أَجْرَاز لا نبات بها، وجرزاً نعت " لصعيداً " فكأنه مجاز علاقته المجاورة.
وعن الحسن الجرز الخراب، أي نعيدها بعد عمارتها خراباً بإماتة الحيوان وتجفيف النبات والأشجار وغير ذلك. ومعنى النظم القرآني لا تحزن يا محمد بما وقع من هؤلاء من التكذيب فإنا قد جعلنا ما على الأرض زينة لاختبار أعمالهم وإنا لمذهبون ذلك عند انقضاء عمر الدنيا فمجازونهم إن خيراً فخير وإن شراً فشر.(8/14)
أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا (9)
(أم حسبت) أي بل أحسبت أو بل حسبت ومعناها الانتقال من حديث إلى حديث آخر لا لإبطال الأول والإضراب عنه كما هو معني بل في الأصل (إن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجباً) المعنى أن القوم لما تعجبوا من قصة أصحاب الكهف وسألوا عنها الرسول صلى الله عليه وآله وسلم على سبيل الامتحان.
قال سبحانه بل أظننت يا محمد أنهم كانوا عجباً من آياتنا فقط لا تحسب(8/14)
ذلك فإن آياتنا كلها عجب؛ فإن من كان قادراً على جعل ما على الأرض زينة لها للابتلاء ثم جعل ما عليها صعيداً جرزاً كأن لم تغن بالأمس لا تستبعد قدرته ولا حفظه ورحمته بالنسبة إلى طائفة مخصوصة وإن كانت قصتهم خارقة للعادة فإن آيات الله سبحانه كذلك وفوق ذلك.
ومعنى عجباً ذات عجب، والكهف هو الغار الواسع في الجبل، فإن كان صغيراً سمي غاراً والجمع كُهُوف في الكثرة وأَكْهُف في القلة؛ والرقيم قال كعب والسدي: إنه اسم القرية التي خرج منها أصحاب الكهف، وقال سعيد بن جبير ومجاهد: إنه لوح من حجارة أو رصاص رقمت فيه أسماؤهم جعل على باب الكهف ففيه فلان بن فلان من مدينة كذا خرج في وقت كذا من سنة كذا.
قال الفراء: ويروى أنه إنما سمي رقيماً لأن أسماءهم كانت مرقومة والرقم الكتابة. وعن قتادة أن الرقيم دراهمهم التي كانت معهم.
وقال ابن عباس: الرقيم كتاب مرقوم فيه الشرع الذي تمسكوا به من دين عيسى عليه السلام، وقيل أن الرقيم اسم كلبهم قاله أنس، وقيل: هو اسم الوادي الذي كانوا فيه، وقيل اسم الجبل الذي فيه الغار.
قال الزجاج: أعلم الله سبحانه أن قصة أصحاب الكهف ليست بعجيبة من آيات الله لأن خلق السماوات والأرض وما بينهما أعجب من قصتهم، وقال ابن عباس: يقول الذي آتيتك من العلم والسنة والكتاب أفضل من شأن أصحاب الكهف والرقيم.(8/15)
إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا (10)
(إذ أوى الفتية إلى الكهف) أي صاروا إليه ونزلوه وسكنوه والتجأوا إليه وجعلوه مأواهم. يقال أوى إلى منزله من باب ضَرَب (1) إذا نزله بنفسه وسكنه
_________
(1) أي مفتوح العين في الماضي مكسورها في المضارع فيقال أوى يأوي مثل ما يقال ضَرَب يضرِب.(8/15)
والمأوى لكل حيوان مسكنه. والفتية هم أصحاب الكهف جمع فتى وهو الطرئ من الشباب، إظهار في مقام الإضمار للتنصيص على وصفهم وسنهم فكانوا في سن الشباب مُرْداً وكانوا سبعة خرجوا من مدينتهم خائفين على إيمانهم من قومهم الكفار حيث أمروهم بعبادة غير الله وكذلك ملك المدينة أمرهم بما ذكر، واسمه دقيانوس ومدينتهم اسمها أفسوس عند أهل الروم لأنها من مدائنهم واسمها عند العرب طرسوس.
فلما أمروهم بعبادة غير الله ذهب كل واحد منهم إلى بيت أبيه وأخذ منه زاداً ونفقة وخرجوا فارين هاربين حتى أووا إلى كهف في جبل قريب من المدينة فاختفوا فيه وصاروا يعبدون الله ويأكلون ويشربون ويبعثون أحداً منهم خفية ليشتري لهم الطعام من المدينة وهم خائفون من اطلاع أهل المدينة عليهم فيقتلوهم لعدم دخولهم في دينهم، فجلسوا يوماً بعد الغروب يتحدثون فألقى الله عليهم النوم وذلك قوله تعالى(8/16)
فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا (11)
(فضربنا على آذانهم) الخ كما سيأتي تفصيله.
(فقالوا ربنا آتنا من لدنك) أي من عندك (رحمة) التنوين إما للتعظيم أو للتنويع وتقديم من لدنك للاختصاص أي رحمة مختصة بأنها من خزائن رحمتك وجلائل فضلك وهي المغفرة في الآخرة والأمن من الأعداء والرزق في الدنيا (وهيئ لنا من أمرنا رشداً) أي أصلح لنا من قولك هيأت الأمر فتهيأ والمراد بِأَمْرِهِم الأمرُ الذي هم عليه وهو مفارقتهم للكفار، والرشد نقيض الضلال، ومن للابتداء ويجوز أن تكون للتجريد كما في قولك رأيت منك أسداً وتقديم المجرورَيْن للاهتمام بهما أي اجعل أمرنا رشداً أو يسر لنا طريق رضاك.(8/16)
فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا (11) ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا (12) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى (13) وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا (14)
(فضربنا على آذانهم) قال المفسرون: أنَمناهم والمعنى سددنا آذانهم بالنوم الغالب عن سماع الأصوات أي ضربنا على آذانهم الحجاب تشبيها للإنامة الثقيلة المانعة من وصول الأصوات إلى الآذان بضرب الحجاب عليها ففي الكلام تجوز بطريق الاستعارة التبعية، وهذا النوم من جملة الرحمة التي طلبوها فكأنه قال فاستجبنا دعاءهم ومن جملة استجابته أن أنمناهم وقلبناهم في نومهم ذات اليمين وذات الشمال.
(في الكهف سنين عدداً) أي ذوات عدد على أنه مصدراً وبمعنى معدودة على أنه بمعنى المفعول. ويستفاد من وصف السنين بالعدد الكثرة، قال الزجاج: أن الشيء إذا قل مقدار عدده لم يحتج إلى العدد وإن كثر احتاج إلى أن يعدّ وقيل يستفاد منه التقليل لأن الكثير قليل عند الله وإن يوماً عند ربك كألف سنة مما تعدون.(8/17)
ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا (12)
(ثم بعثناهم) أي أيقظناهم من تلك النومة (لنعلم) أي ليظهر معلومنا واللام للعاقبة، وقيل للتعليل وقرئ بالتحتية والفاعل هو الله تعالى ففيه التفات عن التكلم إلى الغيبة، قيل والمراد بالعلم الذي جعل علة للبعث هو الاختبار مجازاً فيكون المعنى بعثناهم لنعامل معاملة من يختبرهم. والَأوْلَى ما ذكرناه من أن المراد به ظهور معلوم الله سبحانه لعباده.
(أيّ الحزبين) من قوم الفتية أهل الهدى وأهل الضلالة فالمراد بالحزبين(8/17)
الفريقان من المؤمنين والكافرين المختلفين في مدة لبثهم، وقيل المراد نفس أصحاب الكهف لا أهل المدينة اختلفوا بعد انتباههم كم لبثوا، وقيل المراد بالحزبين الملوك الذين تداولوا المدينة ملكاً بعد ملك وأصحاب الكهف، وقيل أن أصحاب الكهف حزب وأصحابهم حزب، وقال الفراء: أن طائفتين من المسلمين في زمان أصحاب الكهف اختلفوا في مدة لبثهم.
(أحصى) أي أضبط (لما لبثوا أمداً) وكأنه وقع بينهم تنازع في مدة لبثهم في الكهف فبعثهم الله ليتبين لهم ذلك ويظهر من ضبط الحساب ممن لم يضبطه، قال ابن جريج: إنهم كتبوا اليوم الذي خرجوا فيه والشهر والسنة وما مصدرية أي أحصى لِلبُثْهِم أو بمعنى الذي واللام زائدة، وقيل على بابها من العلة أي لأجل قاله أَبُو الْبَقَاء، وما بمعنى الذي والأمد الغاية.
وقيل إن أحصى أفعل تفضيل واختاره الزجاج والتبريزي ورد بأنه خلاف ما تقرر في علم الإعراب وما ورد من الشاذ لا يقاس عليه كقولهم أفلس من ابن اْلمُذَلَّق (1) وأعدى من الْجَرَب، وقال أبو علي والزمخشري وابن عطية: أن أحصى فعل ماض.
_________
(1) ويروى بالدال وهو رجل من بني عبد شمس لم يكن يجد بيتة ليلة وعرف أبوه وأجداده بالإفلاس قال الشاعر في أبيه: إنك إذ ترجو تميماً ونفعها .. كراجي الندى والعرف عند المذلّق(8/18)
نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى (13)
(نحن نقص عليك نبأهم) هذا شروع في تفضيل ما أجمل في قوله إذ أوى الفتية، والنبأ الخبر الذي له شأن وخطر أي نحن نخبرك بخبرهم (بالحق) أي نقص قصصاً متلبساً بالحق أو نقصه متلبسين به أو نقص نبأهم متلبساً به أو نبأهم المتلبس به (إنهم فتية) أي أحداث وشبان وكان أحدهم وزير الملك دقيانوس وكانوا من أشراف تلك المدينة ومن عظماء أهلها والجملة مستأنفة واقعة في جواب سؤال اقتضاه ما قبلها فكأنه قيل وما نبؤهم؟ والفتية جمع قلة.
(آمنوا بربهم) فيه التفات من التكلم إلى الغيبة إذ لو جاء على نسق الكلام لقيل آمنوا بنا (وزدناهم هدى) بالتثبيت والتوفيق وفيه التفات من(8/18)
الغيبة إلى التكلم، قال الربيع بن أنس: هدى إخلاصاً، وقيل إيماناً وبصيرة، وقيل يقيناً.(8/19)
وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا (14)
(وربطنا على قلوبهم) أي قويناها بالصبر على هجر الأهل والأوطان وفراق الخلان والأخدان؛ والفرار إلى بعض الغيران وجسرناهم على القيام بكلمة الحق والتظاهر بالإسلام حيث قالوا للملك ربنا رب السماوات إلخ ولم يحصل لهم منه رعب في الله، قال قتادة: ربطنا قلوبهم بالإيمان وشددنا عليها بالصبر والتثبيت وفيه استعارة تصريحية تبعية لأن الربط هو الشد بالحبل.
(إذ قاموا) اختلف أهل التفسير في هذا القيام على أقوال فقيل إنهم اجتمعوا وراء المدينة من غير ميعاد فقال رجل منهم هو أكبر القوم: إني لأجد في نفسي شيئاً أن ربي رب السماوات والأرض فقالوا ونحن كذلك نجد في أنفسنا فقاموا جميعاً.
(فقالوا ربنا رب السماوات والأرض) قاله مجاهد: وقال أكثر المفسرين إنه كان لهم ملك جبار يقال له (دقيانوس) وكان يدعو الناس إلى عبادة الطواغيت فثبت الله هؤلاء الفتية وعصمهم حتى قاموا بين يديه، وقد أمرهم بالسجود للأصنام فقالوا ربنا رب السماوات والأرض، أي قالوا جملاً ستاً، ثلاثة بين يدي ملكهم آخرها قوله شططاً، وثلاثة بعد انصرافهم عن مجلسه ذماً لقومهم آخرها قوله كذباً، وقال عطاء ومقاتل: إنهم قالوا ذلك عند قيامهم من النوم.
(لن ندعو من دونه إلهاً) أي لن نعبد معبوداً آخر غير الله لا اشتراكاً ولا استقلالاً (لقد قلنا إذاً شططاً) أي قولاً ذا شطط، أي إفراط في الكفران دعونا إلهاً غير الله فرضاً أو قولاً هو نفس الشطط لقصد المبالغة، والشطط الغلو ومجاوزة الحد المقدر في كل شيء، يقال شَطَّت الدار بعدت، وشَطَّ فلان في حكمه شطوطاً وشططاً جار وظلم، وَشَطَّ في القول أغلظ، وشط في السوم أفرط، والجميع من بابي ضرب وقتل، وقال قتادة: شططاً كذباً. وقال السدي جوراً.(8/19)
هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (15) وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا (16) وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا (17)(8/20)
هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (15)
(هؤلاء) أي أهل بلدهم (قومنا) عطف بيان أو بدل (اتخذوا من دونه) أي من دون الله (آلهة) أصناماً يعبدونها. وفي هذا الإخبار معنى الإنكار وفي الإشارة إليهم تحقير لهم.
(لولا يأتون عليهم بسلطان بين) أي هَلَّا يأتون على عبادتهم لها بحجة نيرة ظاهرة تصلح للتمسك بها، وفيه تبكيت لأن الإتيان بحجة على عبادة الأصنام محال، وهذه جملة طلبية وليست صفة لآلهة لفساده معنى وصناعة.
قال الزمخشري: وفي الآية دليل على فساد التقليد وإنه لا بدّ في الدين من الحجة حتى يتضح ويثبت.
(فمن) أي لا أحد (أظلم ممن افترى على الله كذباً) بنسبة الشريك إليه فزعم أن له شريكاً في العبادة، ثم قال بعضهم لبعض وقت اعتزالهم(8/20)
وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا (16)
(وإذ اعتزلتموهم) أي فارقتموهم في الاعتقاد أو أردتم الاعتزال الجسماني وَتخَّيْتُمْ عنهم جانباً أي عن العابدين للأصنام.
(وما يعبدون إلا الله) عطف على الضمير المنصوب وما موصولة أو مصدرية أي إذا اعتزلتموهم ومعبوديهم إلا الله أو وعبادتهم إلا عبادة الله، وعلى(8/20)
التقديرين فالاستثناء استثناء منقطع على تقدير أنهم لم يعبدوا إلا الأصنام أو متصل على تقدير أنهم شركوهم في العبادة مع الله سبحانه.
وقيل هو كلام معترض إخبار من الله سبحانه عن الفتية أنهم لم يعبدوا غير الله فيكون ما على هذا نافية (فأووا) أي ألجئوا وصيروا (إلى الكهف) واجعلوه مأواكم. قال الفراء: هو جواب إذ ومعناه اذهبوا إليه واجعلوه مأواكم، وقيل هو دليل على جوابه، أي إذا اعتزلتموهم اعتزالاً اعتقادياً فاعتزلوهم اعتزالاً جسمانياً أو إذا أردتم اعتزالهم فافعلوا ذلك بالالتجاء إلى الكهف.
(ينشر) أي يبسط ويوسع (لكم ربكم) مالك أمركم (من رحمته) في الدارين (ويهيئ) أي يسهل وييسر (لكم من أمركم) الذي أنتم بصدده من الفرار بالدين (مرفقاً) بكسر الميم وفتحها لغتان قرئ بهما مأخوذ من الارتفاق وهو الانتفاع وقيل فتح الميم أقيس وكسرها أغلب، وأكثر العرب على كسر الميم من الأمر ومن مرفق الإنسان، وقد تفتح العرب الميم فيهما فَهُما لغتان.
وكأن الذين فتحوا أرادوا أن يفرقوا بين المرفق من الأمر والمرفق من الإنسان .. وقال الكسائي: الكسر في مرفق اليد، وقيل المرفق بالكسر ما ارتفقت به والمرفق بفتح الميم الأمر الرافق، والمراد هنا ما يرتفقون به وينتفعون بحصوله والتقديم (1) في الموضعين يفيد الاختصاص، وإنما قالوا ذلك ثقة بفضل الله وقوة في رجائهم لتوكلهم عليه أو أخبرهم به نبي عصرهم.
_________
(1) أي تقديم الجار والمجرور في ينشر لكم، ويهيئ لكم.(8/21)
وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا (17)
(وترى الشمس إذا طلعت) شرع سبحانه في بيان حالهم بعد أن أووا إلى الكهف (تزاور) مأخوذ من الزور بفتح الواو وهو الميل، ومنه زاره إذا مال إليه، وقيل تَزْوَر بمعنى تنقبض من ازْوَرّ أي انقبض والأول أولى. ومعنى(8/21)
الآية أن الشمس إذا طلعت تميل وتعدل وتتنحى (عن كهفهم ذات اليمين) أي ناحية اليمين وهي الجهة المسماة باليمين.
(وإذا غربت تقرضهم) القرض القطع، قال الكسائي والأخفش والزجاج وأبو عبيدة: تعدل عنهم وتتركهم، قَرَضْتُ المكانَ عَدَلْت عنه، تقول لصاحبك هل وردت مكان كذا؟ فيقول إنما قَرَضْتُه إذا مر به وتجاوز عنه.
وقال الفارسي: معنى تقرضهم تعطيهم من ضوئها شيئاً ثم يزول بسرعة كالقرض يسترد، وقد ضعِّف بأنه كان ينبغي أن يقرأ تقرضهم بضم التاء لأنه من أقرض؛ والمعنى أن الشمس إذا طلعت مالت عن كهفهم ذات اليمين، أي يمين الداخل للكهف وإذا غربت تمر.
(ذات الشمال) أي جهة شمال الكهف لا تصيبه لا في ابتداء النهار ولا في آخر الليل، بل تعدل عن سمته إلى الجهتين (وهم في فجوة منه) الفجوة المكان المتسع، ومما يدل على أن الفجوة المكان الواسع قول الشاعر:
أَلْبَسْتَ قومَكَ مَخزاةً ومنقصةً ... حتى أُبيحُوا وَخَلَّوا فجوَةَ الدار
وقال سعيد بن جبير: الفجوة الخلوة من الأرض، ويعني بالخلوة الناحية منها وللمفسرين في تفسير هذه الجملة قولان:
الأول: أنهم مع كونهم في مكان منفتح انفتاحاً واسعاً في ظل جميع نهارهم لا تصيبهم الشمس في طلوعها ولا في غروبها لأن الله سبحانه حجبها عنهم كرامة.
والثاني: أن باب ذلك الكهف كان مفتوحاً إلى جانب الشمال مستقبلاً(8/22)
لبنات النعش في أرض الروم، فإذا طلعت الشمس كانت عن يمين الكهف وإذا غربت كانت عن يساره ولا تقع عليهم عند الطلوع ولا عند الغروب ولا عند الاستواء فتؤذيهم بِحَرِّها وتغير ألوانهم وتبلي ثيابهم، ولكن اختار الله لهم مضجعاً في متسع ينالهم فيه برد الريح ونسيمها ويدفع عنهم كرب الغار وغمه.
ويؤيد القول الأول قوله (ذلك من آيات الله) فإن صرف الشمس عنهم مع توجه الفجوة إلى مكان تصل إليه عادة أنسب بمعنى كونها آية. ويؤيده أيضاً إطلاق الفجوة وعدم تقييدها بكونها إلى جهة كذا؛ وعلى الثاني يكون المعنى أن شأنهم وحديثهم من آيات الله والأول أولى. وقد قيل إنه كان لكهفهم حاجب من جهة الجنوب وحاجب من جهة الدبور وهم في زاويته.
وذهب الزجاج إلى أن فعل الشمس كان آية من الله تعالى من دون أن يكون باب الكهف إلى جهة توجب ذلك. وعلى الجملة فالآية في ذلك أن الله تعالى آواهم إلى كهف هذه صفته لا إلى كهف آخر يتأذون فيه بانبساط الشمس عليهم في معظم النهار، وعلى هذا فيمكن أن يكون صرف الشمس عنهم بإظلال غمام أو سبب آخر.
والمقصود بيان حفظهم من تطرق البلاء وتغير الأبدان والألوان إليهم والتأذي بحرّ أو برد.
ثم أثنى سبحانه عليهم بقوله: (من يهد الله) إلى الحق مثل أصحاب الكهف (فهو المهتد) الذي ظفر بالهدى وأصاب الرشد والفلاح (ومن يضلل) أي يضلله الله ولم يرشده كدقيانوس وأصحابه (فلن تجد له ولياً مرشداً) أي ناصراً يهديه إلى الحق.(8/23)
وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا (18) وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا (19) إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا (20)
ثم حكى سبحانه طرفاً آخر من غرائب أحوالهم فقال(8/24)
وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا (18)
(وتحسبهم) خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم أو لكل أحد (أيقاظاً) جمع يَقِظ بكسر القاف وفتحها (وهم رقود) أي نيام وهو جمع راقد كقعود في قاعد، قيل وسبب هذا الحسبان أن عيونهم كانت مفتحة وهم نيام. وقال الزجاج: لكثرة تقلبهم.
(ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال) أي نقلبهم في رقدتهم إلى الجهتين لئلا تأكل الأرض أجسادهم ولحومهم، قاله سعيد بن جبير، وتعجب منه الإمام الرازي وقال: أن الله قادر على حفظهم من غير تقليب.
ولقائل أن يقول لا ريب في قدرة الله تعالى ولكن جعل لكل شيء سبباً في أغلب الأحوال، قاله الكرخي، قيل تقلبة واحدة في كل سنة مرة في يوم عاشوراء. وقال ابن عباس: ستة أشهر على ذلك الجنب اليمين وستة أشهر على ذي الجنب الشمال وعلى هذا كان لهم تقلبتان في السنة، وقيل كل تسع سنين. وقالت فرقة إنما قلبوا في التسع الأواخر، وأما في الثلاثمائة فلا، وظاهر كلام المفسرين أن التقليب من فعل الله، ويجوز أن يكون من ملَك بأمر الله فيضاف إلى الله تعالى. قاله القرطبي والأول أولى.(8/24)
(وكلبهم باسط ذراعيه) حكاية حال ماضية لأن اسم الفاعل لا يعمل إذا كان بمعنى المضي كما تقرر في علم النحو، أي ماد يديه. قال أكثر المفسرين: هربوا من ملكهم ليلاً فمروا براع معه كلب فتبعهم، وقيل كان لواحد منهم: قال مجاهد: اسم كلبهم قطمورا. وعن الحسن اسمه قطمير؛ وقيل اسمه ريان، وقيل صهبان قيل كان كلباً أغر. وقيل فوق القلطي ودون الكرزي، والقلطي كلب صيني. وقيل كان أصفر، وقيل كان أسمر اللون، وقيل كان يضرب إلى حمرة، وقيل كلون السماء.
قيل ليس في الجنة دواب سوى كلب أصحاب الكهف وحمار بلعم، ولا أدري أي تعلق لهذا التدقيق والتحقيق بتفسير الكتاب العزيز وما الذي حملهم على هذا الفضول الذي لا مستند له في السمع ولا في العقل.
(بالوصيد) قال أبو عبيد وأبو عبيدة: هو فناء الباب وكذا قال المفسرون، وقيل العتبة، ورد بأن الكهف لا يكون له عتبة ولا باب، وإنما أراد أن الكلب موضع العتبة من البيت.
وقال ابن عباس: بالوصيد بالفناء وبالباب، وقيل بفناء الكهف، وقيل الصعيد والتراب، قال بعضهم كلب أحب قوماً فذكره الله معهم فكيف بنا وعندنا عند الإيمان وكلمة الإسلام وحب النبي وآله وصحبه، وقول الله (ولقد كرمنا بني آدم) الآية، وفي هذا تسلية وأنس للمؤمنين المقصرين عن درجات الكمال المحبين للصالحين والأنبياء والعلماء المخالطين للأولياء والأصفياء.
(لو اطلعت عليهم) أي لو نظرت إليهم وهم على تلك الحالة (لوليت منهم فراراً) أي لفررت منهم هارباً (ولملئت منهم رعباً) أي خوفاً وفزعاً يملأ الصدر قرئ رعباً بسكون العين وضمها وسبب الرعب الهيبة التي ألبسهم الله إياها.(8/25)
وقيل طول أظفارهم وشعورهم وعظم إجرامهم ووحشة مكانهم، ذكره المهدوي والنحاس والزجاج والقشيري، ويدفعه قوله تعالى: (لبثنا يوماً أو بعض يوم) فإن ذلك يدل على أنهم لم ينكروا من حالهم شيئاً ولا وجدوا من أظفارهم وشعورهم ما يدل على طول المدة؛ وقيل لأن أعينهم كانت منفتحة كالمتيقظ. وقيل أن الله منعهم بالرعب حتى لا يراهم أحد.
قال ابن عطية: والصحيح في أمرهم أن الله عز وجل حفظ لهم الحالة التي ماتوا عليها لتكون لهم ولغيرهم فيهم آية، فلم يَبْلَ لهم ثوب ولم تتغير لهم صفة، ولم ينكر الناهض إلى المدينة إلا معالم الأرض والبناء، ولو كانت في نفسه حالة ينكرها لكانت عليهم أهم. ذكره القرطبي.(8/26)
وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا (19)
(وكذلك) أي وكما فعلنا بهم ما فعلنا من الكرامات وأَنمْناهم في الكهف تلك النومة وحفظنا أجسامهم من البلى على طول الزمان (بعثناهم) من نومهم وجعلنا بعثهم آية قاله الزجاج والزمخشري وفيه تذكير بقدرته على الإماتة والبعث جميعاً ثم ذكر الأمر الذي لأجله بعثهم فقال (ليتساءلوا بينهم) أي ليقع التساؤل بينهم والاختلاف والتنازع في مدة اللبث لما يترتب على ذلك من انكشاف الحال وظهور القدرة الباهرة.
وقيل اللام للصيرورة لأن البعث لم يكن للتساؤل قاله ابن عطية والصحيح أنها على بابها من السببية والاقتصار على علة التساؤل لا ينفي غيرها وإنما أفرده لاستتباعه لسائر الآثار (قال قائل) أي واحد (منهم) وهو كبيرهم ورئيسهم (مكسلمينا) (كم لبثتم) في النوم قالوا ذلك لأنهم رأوا في أنفسهم غير ما يعهدونه في العادة والجملة مبينة لما قبلها من التساؤل.
(قالوا) أي قال بعضهم وقيل قال الستة الباقون جواباً على سؤال من سأل منهم قال المفسرون: إنهم دخلوا الكهف غدوة وبعثهم الله سبحانه آخر(8/26)
النهار فلذلك قالوا (لبثنا يوماً) أي لظنهم أن الشمس قد غربت فلما رأوا الشمس لم تغرب قالوا (أو بعض يوم) وكان قد بقيت بقية من النهار وقد مر مثل هذا الجواب في قصة عزير في البقرة أو للشك، وقيل للتفصيل أي قال بعضهم كذا وبعضهم كذا وفيه دليل على جواز الاجتهاد والقول بالظن الغالب.
(قالوا) متوقفين في قدر مدة لبثهم (ربكم أعلم بما لبثتم) إما على طريق الاستدلال أو كان ذلك إلهاماً لهم من الله سبحانه أي أنكم لا تعلمون مدة لبثكم وإنما يعلمها الله سبحانه وهذا رد منهم على الأولين بأجمل ما يكون من مراعاة حسن الأدب وبه يتحقق التحزب إلى الحزبين المعهودين في قوله سابقاً لنعلم أي الحزبين.
وقد استدل ابن عباس على أن عددهم سبعة بهذه الآية لأنه قد قال في الآية قال قائل منهم وهذا واحد، وقالوا في جوابه لبثنا وهو جمع وأقله ثلاثة ثم قالوا وهذا قول جمع آخرين فصاروا سبعة.
(فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة) كأنه قال القائل منهم يعني يمليخا اتركوا ما أنتم عليه من المحاورة وخذوا في شيء آخر مما يهمكم وفيما تنتفعون به والفاء للسببية أي فأرسلوا واحداً منكم إلى البلد، والورق الفضة مضروبة كانت أو غير مضروبة ويقال لها الرقة وفي الحديث (وفي الرقة ربع العشر) وجمعت شذوذاً جمع المذكر السالم يقال عندي رِقون والباء للمصاحبة والملابسة.
وفي حملهم لهذه الورق معهم دليل على أن إمساك بعض ما يحتاج إليه الإنسان لا ينافي التوكل على الله، والمدينة أفُسوس بضم الهمزة كما قاله النيسابوري وهي مدينتهم التي كانوا فيها من مدائن الروم ويقال لها اليوم(8/27)
في الإسلام طرطوس كذا قال الواحدي، وفي الكشف: أن المدينة التي خرجوا منها غير المدينة التي بعثوا إليها لشراء الطعام، إذ أفسوس من أعمال طرطوس وهي ناحية.
(فلينظر أيها أزكى طعاماً) أي لينظر أي أهلها أطيب طعاماً وأحل كسباً أو أرخص سعراً وأي استفهامية أو موصولة.
قال ابن عباس: أحل وأطهر ذبيحة لأنهم كانوا يذبحون للطواغيت أو أكثر بركة، وقيل يجوز أن يكون الضمير إلى الأطعمة المدلول عليها في المقام كما يقال زيد طيب أبا علي أن الأب هو زيد وفيه بعد:
(فليأتكم برزق منه) أي من الورق أي بَدَلَه أو من قوت وطعام تأكلونه واستدل بالآية على حل ذبائح أهل الكتاب لأن عامة أهل المدينة كانوا كفاراً وفيه قوم يخفون إيمانهم؛ ووجه الاستدلال أن الطعام يتناول اللحم كما يتناول غيره مما يطلق عليه اسم الطعام (وليتلطف) أي يدقق النظر حتى لا يُعْرَف أو لا يُغْبَن والأول أولى ويؤيده (ولا يشعرن بكم أحداً) من الناس أي لا يفعلن ما يؤدي إلى الشعور ويتسبب له فهذا النهي يتضمن التأكيد للأمر بالتلطف.
ثم علل ما سبق من الأمر والنهي فقال(8/28)
إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا (20)
(إنهم) أي أهل المدينة (إن يظهروا عليكم) أي يطلعوا ويعلموا بمكانكم (يرجموكم) يقتلوكم بالرجم وهذه القِتْلة هي أخبث قِتْلة وكأن ذلك كان عادة لهم ولهذا خصه من بين أنواع ما يقع به القتل، وقيل يشتموكم ويؤذوكم بالقول والأول أولى (أو يعيدوكم في ملتهم) أي يردوكم إلى ملتهم التي كنتم عليها قبل أن يهديكم الله أو يصيِّروكم إليها كرهاً والمراد بالعود هنا الصيرورة على تقدير أنهم لم يكونوا على ملتهم وإيثار كلمة " في " على كلمة إلى للدلالة على الاستقرار.
(ولن تفلحوا إذاً أبداً) في إذاً معنى الشرط والجزاء كأنه قال إن رجعتم إى دينهم فلن تفلحوا إذاً أبداً لا في الدنيا ولا في الآخرة.(8/28)
وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا (21) سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا (22)(8/29)
وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا (21)
(وكذلك) أي وكما أنمناهم وبعثناهم (أعثرنا) أي أطلعنا الناس (عليهم) وأظهرناهم وسمي الإعلام إعثاراً لأن من كان غافلاً عن شيء فعثر به نظر إليه وعرفه فكان الإعثار سبباً لحصول العلم (ليعلموا) أي ليعلم الذين أعثرهم الله عليهم (أن وعد الله) بالبعث (حق) قيل وكان ملك زمانهم ممن ينكر البعث فأراه الله هذه الآية.
قيل وسبب الإعثار عليهم أن ذلك الرجل الذي بعثوه بالورق وكانت من ضربة دقيانوس إلى السوق فلما اطلع عليها أهل السوق اتهموه بأنه وجد كنزاً فذهبوا به إلى الملك فقال له من أين وجدت هذه الدراهم؛ قال: بعت بها أمس شيئاً من التمر وخرجنا فراراً من الملك دقيانوس فعرف الملك صدقه ثم قص عليه القصة فركب الملك وركب أصحابه معه حتى وصلوا إلى الكهف.
(و) ليعلموا (أن الساعة) أي القيامة (لا ريب فيها) أي لا شك في حصولها فإن من شاهد حال أهل الكهف علم صحة ما وعد الله به من بعث الأرواح والأجساد جميعاً وحشرها (إذ يتنازعون بينهم أمرهم) أي أعثرنا عليهم وقت التنازع والاختلاف بين أولئك الذين أعثرهم الله في أمر البعث، وقيل في أمر أصحاب الكهف في قدر مكثهم وفي عددهم وفيما يفعلونه بعد أن اطلعوا عليهم، وقيل قال المسلمون: نبني عليهم مسجداً يصلي فيه الناس لأنهم على(8/29)
ديننا، وقال المشركون: نبني عليهم بيعة لأنهم من أهل ملتنا.
(فقالوا ابنوا عليهم بنياناً) لئلا يتطرق الناس إليهم كما حفظت تربة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحظيرة، وذلك أن الملك وأصحابه لما وقفوا عليهم وهم أحياء أمات الله الفتية فقال بعضهم ابنوا عليهم بنياناً يسترهم عن أعين الناس، وقيل يتنازعون متعلق بمحذوف هو اذكر.
ويؤيده أن الإعثار ليس في زمن التنازع بل قبله ويمكن أن يقال إن أولئك القوم مازالوا متنازعين فيما بينهم قرناً بعد قرن منذ أووا إلى الكهف إلى وقت الإعثار ويؤيد ذلك أن خبرهم كان مكتوباً على باب الغار كتبه بعض المعاصرين لهم من المؤمنين الذين كانوا يخفون إيمانهم كما قاله المفسرون.
ثم قال سبحانه حاكياً لقول المتنازعين فيهم وفي عددهم وفي مدة لبثهم وفي نحو ذلك مما يتعلق بهم (ربهم أعلم بهم) من هؤلاء المتنازعين فيهم قالوا ذلك تفويضاً للعلم إلى الله سبحانه، وقيل هو من كلام الله سبحانه رداً لقول المتنازعين فيهم أي دعوا ما أنتم فيه من التنازع فإني أعلم بهم منكم والأول هو الظاهر قاله الكرخي.
(قال الذين غلبوا على أمرهم) يعني يندوسيس وأصحابه قاله الخازن أي كانت الكلمة لهم وكان كلامهم هو النافذ لأن ملك الوقت كان من جملتهم وكان مؤمناً وأما الملك الذي خرجوا هاربين منه فقد مات في مدة نومهم (لنتخذن عليهم مسجداً) يصلي فيه المسلمون ويعتبرون بحالهم. وذكر اتخاذ المسجد يشعر بأن هؤلاء الذين غلبوا على أمرهم هم المسلمون، وقيل هم أهل السلطان والملك من القوم المذكورين فإنهم الذين يغلبون على أمر من عداهم والأول أولى.
قال الزجاج: هذا يدل على أنه لما ظهر أمرهم غلب المؤمنون بالبعث ولنشور لأن المساجد للمؤمنين.(8/30)
سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا (22)
(سيقولون) هؤلاء القائلون بأنهم ثلاثة أو خمسة أو سبعة وهم المتنازعون في عددهم في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل الكتاب والمسلمين، وقيل هم أهل الكتاب خاصة، قال السدي: هم اليهود، وعلى كل تقدير فليس المراد أنهم جميعاً قالوا جميع ذلك بل قال بعضهم بكذا وبعضهم بكذا.
قيل إنما أتى بالسين في هذا لأن في الكلام طياً وإدماجاً تقديره فإذا أجبتهم عن سؤالهم عن قصة أهل الكهف فسلهم عن عددهم فإنهم ليقولون، ولم يأت بها في باقي الأفعال لأنها معطوفة على ما فيه السين فأعطيت حكمه من الاستقبال، والمعنى يقولون لك يا محمد ويخبرونك على ثلاثة أقوال: الأولان: للنصارى. والثالث: للمؤمنين.
(ثلاثة رابعهم كلبهم) أي هم ثلاثة أشخاص حال كون كلبهم جاعلهم أربعة بانضمامه إليهم (ويقولون خمسة سادسهم كلبهم) الكلام فيه كالكلام فيما قبله قاله السدي: هم النصارى، وقيل اليهود كما في البيضاوي.
قال أبو علي الفارسي: قوله رابعهم كلبهم وسادسهم كلبهم جملتان استغني عن حرف العطف فيهما بما تضمنتا من ذكر الجملة الأولى وهي قوله ثلاثة والتقدير هم ثلاثة. هكذا حكاه الواحدي.
(رجماً بالغيب) أي راجمين أو يرجمون رجماً والرجم بالغيب هو القول بالظن والحدس من غير يقين ودليل ولا برهان كما قاله الطيبي وغيره والموصوفون بالرجم بالغيب هم كلا الفريقين القائلون بأنهم ثلاثة والقائلون بأنهم خمسة، قال قتادة: رجماً قذفاً بالظن، ولم يقل هذا في السبعة وتخصيص الشيء بالوصف يدل على أن الحال في الباقي بخلافه، والرجم بمعنى الرمي وهو استعارة للتكلم بما لم يطلع عليه لخفائه عنه تشبيهاً له بالرمي بالحجارة التي لا تصيب غرضاً والباء فيه للتعدية على تشبيه الظن بالحجر الرمي على طريق الكناية.(8/31)
(ويقولون) أي المؤمنون يعني قالوه بإخبار الرسول لهم عن جبريل عليه السلام (سبعة وثامنهم كلبهم) وكان قول هذه الفرقة أقرب إلى الصواب بدليل عدم إدخالهم في سلك الراجمين بالغيب، قيل وإظهار الواو في هذه الجملة يدل على أنها مرادة في الجملتين الأوليين، وعلى رأي الأخفش والكوفيين الواو زائدة لأن وجودها في الكلام كالعدم في عدم إفادة أصل معناها. قاله الكرخي.
وقيل زائدة لتأكيد لصوق الصفة بالموصوف والدلالة على أن اتصافه بها أمر ثابت، وهذا ما جنح إليه الزمخشري وصرح به البيضاوي واختاره ابن هشام، وقيل إنها واو العطف كأنه قيل هم سبعة وثامنهم كلبهم، وقيل واو الحال فيؤول المعنى إلى أنهم يقولون ذلك مع هذا الحال وهو كون ثامنهم كلبهم واقعاً لا محالة ويلزم منه أن يكونوا سبعة.
قال ابن هشام: وقول جماعة الأدباء كالحريري ومن النحوين كابن خالويه ومن المفسرين كالثعلبي أنها واو الثمانية لا يرضاه نحوي لأنه لا يتعلق به حكم إعرابي ولا سر معنوي. قال الكرخي: هي في التحقيق واو العطف، لكن لما اختص استعمالها بمحل مخصوص تضمنت أمراً غريباً واعتباراً لطيفاً ناسب أن تسمى باسم غير جنسها فسميت بواو الثمانية لمناسبة بينها وبين سبعة، وذلك لأن السبعة عندهم عند تام كعقود العشرات لاشتمالها على أكثر مراتب أصول الأعداد، والثمانية عند مستأنف فكان بينهما اتصال من وجه وانفصال من وجه، وهذا هو المقتضي للعطف. وهذا المعنى ليس موجوداً بين السبعة والستة. انتهى ملخصاً من الكرخي.
ثم أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يخبر المختلفين في عددهم بما يقطع التنازع بينهم فقال (قل ربي أعلم) أي أقوى علماً وأزيد في الكيفية (بعدَّتهم) منكم أيها المختلفون؛ فإن مراتب اليقين متفاوتة في القوة، وهذا هو الحق لأن العلم بتفاصيل العالم والكائنات فيه في الماضي والمستقبل لا يكون(8/32)
إلا لله تعالى أو من أخبرهم الله سبحانه.
ثم أثبت العلم على ذلك لقليل من الناس فقال (ما يعلمهم) أي ما يعلم ذواتهم فضلاً عن عددهم، أو ما يعلم عددهم على حذف المضاف (إلا قليل) من الناس عن ابن مسعود قال: أنا من القليل كانوا سبعة. وعن ابن عباس قال السيوطي بسند صحيح أنا من أولئك القليل كانوا سبعة، ثم ذكر أسماءهم.
وذكر بعض المفسرين لأسمائهم خواص ومنافع ليست من التفسير في شيء ثم نهى الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم عن الجدال مع أهل الكتاب في شأن أصحاب الكهف فقال:
(فلا تمار فيهم) أي لا تجادل ولا تقل في عددهم وشأنهم؛ والمراء في اللغة الجدال، يقال مارى يماري مماراة ومراء أي جادل. قال ابن عباس: يقول حسبك ما قصصت عليك؛ ثم استثنى سبحانه من المراء ما كان ظاهراً واضحاً فقال (إلا مراء ظاهراً) أي غير متعمق فيه، وهو أن يقص عليهم ما أوحى الله إليه فحسب من غير تجهيل لهم ومن غير رد عليهم.
وقال الرازي: هو أن لا يكذبهم في تعيين ذلك العدد، بل يقول هذا التعيين لا دليل عليه فوجب التوقف. ثم نهاه سبحانه عن الاستفتاء في شأنهم فقال (ولا تستفت فيهم) أي في شأنهم (منهم) أي من الخائضين فيهم (أحداً) منهم لأن المفتي يجب أن يكون أعلم من المستفتي. وهاهنا الأمر بالعكس ولا سيما في واقعة أهل الكهف، وفيما قص الله عليك في ذلك ما يغنيك عن سؤال من لا علم له.
قال ابن عباس: يعني اليهود، وقال القرطبي: النصارى وهو الأولى، قال البيضاوي: لا تسأل سؤال مسترشد ولا سؤال متعنت، يريد فضيحة المسؤول وتزييف ما عنده فإنه يخل بمكارم الأخلاق، وفي الآية دليل على منع المسلمين من مراجعة أهل الكتاب في شيء من العلم.(8/33)
وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا (24) وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا (25) قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا (26) وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (27)(8/34)
وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23)
(وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا(8/34)
إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا (24)
إِلَّا أَنْ يَشَاءَ الله) أي لا تقولن لأجل شيء أو في شأن شيء تعزم عليه فيما يستقبل من الزمان، فعبر عنه بالغد، ولم يرد الغد بعينه، فيدخل فيه الغد دخولاً أولياً، قال الواحدي: قال المفسرون لما سألت اليهود النبي صلى الله عليه وسلم عن خبر الفتية فقال: أخبركم غداً ولم يقل إن شاء الله فاحتبس الوحي عنه حتى شق عليه، فأنزل الله هذه الآية يأمره بالاستثناء بمشيئة الله، يقول إذا قلت لشيء إني فاعل ذلك غداً فقل إن شاء الله.
قيل وهذا الاستثناء مفرغ من أعم الأحوال، أي لا تقولن ذلك في حال من الأحوال إلا في حال ملابسته لمشيئة الله، وهو أن تقول إن شاء الله، أو في وقت من الأوقات إلا وقت أن يشاء الله أن تقوله لا مطلقاً بل بإذن الله، فحذف الوقت وهو مراد، أولا تقولن أفعل غداً إلا قائلاً إن شاء الله، فحذف القول ونقل شاء إلى لفظ الاستقبال حملاً على المعنى. قاله الأخفش والمبرد والكسائي.
وقيل: التقدير إلا بأن يشاء الله، أي متلبساً بقول إن شاء الله، والمعنى إلا أن تذكر مشيئة الله فليس إلا أن يشاء الله من القول الذي نهى عنه، وقيل الاستثناء جار مجرى التأبيد، كأنه قيل لا تقولنه أبداً، كقوله (وما يكون لنا(8/34)
أن نعود فيها إلا أن يشاء الله) لأن عودهم في ملتهم مما لا يشاؤه الله. (واذكر ربك إذا نسيت) الاستثناء بمشيئة الله، أي فقل إن شاء الله سواء كانت المدة قليلة أو كثيرة؛ وقد اختلف أهل العلم في المدة التي يجوز إلحاق الاستثناء فيها بعد المستثنى منه على أقوال معروفة في مواضعها، وقيل: المعنى واذكر ربك بالاستغفار إذا نسيت مبالغة في الحث عليه، أو اذكر ربك عقابه إذا تركت بعض ما أمرك به ليبعثك على التدارك، أو اذكره إذا اعتراك النسيان لتذكر المنسيّ. وعن ابن عباس أنه كان يرى الاستثناء ولو بعد سنة ثم قرأ هذه الآية. وعنه قال: هي خاصة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وليس لأحد أن يستثني إلا في صلة يمين.
وعن ابن عمر قال: كل استثناء موصول فلا حنث على صاحبه وإذا
كان غير موصول فهو حانث.
وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما من حديث أبي هريرة قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " قال سليمان بن داود: لأطوفن الليلة على سبعين امرأة. وفي رواية تسعين تلد كل امرأة منهن غلاماً يقاتل في سبيل الله، فقال له الملك قل إن شاء الله، فلم يقل، فطاف فلم تلد منهن إلا امرأة واحدة نصف إنسان، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " والذي نفسي بيده لو قال إن شاء الله لم يحنث وكان دركاً لحاجته " (1).
وعن عكرمة قال: معنى إذا نسيت إذا غضبت. وعن الحسن قال: إذا نسيت إذا لم تقل إن شاء الله. وقيل الآية في الصلاة ويدل له حديث أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " مَن نسي صلاةً فليُصلِّها إذا ذَكَرَها " (2) أقم الصلاة لذكري متفق عليه. والأول أولى.
_________
(1) مسلم 1654 - البخاري 1347.
(2) مسلم 684 - البخاري 384.(8/35)
(وقل) يا محمد (عسى أن يهدين) أي يوفقني ويدلني (ربي لأقرب) أي لشيء أقرب (من هذا) أي من خبر أهل الكهف من الآيات والدلائل الدالة على نبوتي (رشداً) هداية أو إرشاداً للناس ودلالة على ذلك، وعلى الأول هو مفعول مطلق، وعلى الثاني تمييز لأقرب. قال الزجاج: عسى أن يعطيني ربي من الآيات والدلالات على النبوة ما يكون أقرب في الرشد وأدل من قصة أصحاب الكهف.
وقد فعل الله به ذلك حيث آتاه من علم غيوب المرسلين وخبرهم والحوادث النازلة في الأعصار المستقبلة إلى قيام الساعة ما كان أوضح في الحجة وأقرب إلى الرشد من خبر أصحاب الكهف. وقيل عسى أن يهديني ربي عند هذا النسيان لشيء آخر بدل هذا المنسي، وأقرب من ذلك رشداً وأدنى منه خيراً ومنفعة، والأول أولى.(8/36)
وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا (25)
(ولبثوا) أي أقاموا (في كهفهم ثلثمائة سنين) عطف بيان لثلثمائة وهذه السنون عند أهل الكتاب شمسية وتزيد القمرية عليها عند العرب تسع سنين وقد ذكرت في قوله (وازدادوا تسعاً) أي تسع سنين، فالثلثمائة الشمسية ثلثمائة وتسع قمرية، وقرئ في السبعة بالإضافة، وعليه فسنين تمييز غير أنه قليل، لأن تمييز المائة الكثير فيه الإفراد.
قال الفراء: ومن العرب من يضع سنين موضع سنة. قال أبو علي الفارسي: هذه الأعداد التي تضاف في المشهور إلى الآحاد نحو ثلثمائة رجل وثوب قد تضاف إلى المجموع، وفي مصحف عبد الله ثلثمائة سنة، وقال الأخفش: لا تكاد العرب تقول مائة سنين.
قال ابن جرير: إن بني إسرائيل اختلفوا فيما مضى لهم من المدة بعد الإعثار عليهم، فقال بعضهم إنهم لبثوا ثلثمائة سنة، وقال بعضهم لبثوا ثلثمائة وتسع سنين، فأخبر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن هذه المدة في كونهم نياماً وأن ما بعد ذلك مجهول للبشر، فأمر الله أن يرد علم ذلك إليه فقال:(8/36)
قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا (26)
(قل الله أعلم بما لبثوا) أي بالزمن الذي لبثوا فيه، وقيل: بعد موتهم إلى نزول القرآن فيهم على قول مجاهد أو إلى أن ماتوا على قول الضحاك أو إلى وقت تغيرهم بالبلى على قول بعضهم، قال ابن عطية: فقوله على هذا لبثوا الأول يريد في نوم الكهف، ولبثوا الثاني يريد بعد الإعثار عليهم إلى مدة محمد صلى الله عليه وسلم أو إلى أن ماتوا.
وقال القرطبي: إنه لما قال وازدادوا تسعاً لم يدر الناس أهي ساعات أم أيام أم جمع أم شهور أم أعوام؛ فاختلف بنو إسرائيل بحسب ذلك فأمر الله برد العلم إليه في التسع فهي على هذا مبهمة والأول أولى، لأن الظاهر من كلام العرب المفهوم منه بحسب لغتهم أن التسع أعوام بدليل أن العدد في هذا الكلام للسنين لا للشهور ولا للأيام ولا للساعات.
قال القشيري: لا يفهم من التسع تسع ليال ولا تسع ساعات لوجود لفظ السنين. وعن الزجاج إن المراد بثلثمائة سنة شمسية وثلثمائة وتسع سنين قمرية. وهذا إنما يكون من الزجاج على جهة التقريب، وقال الشهاب: وأما احتمال كون السنين شمسية أو قمرية وكون التسع سنين أو شهوراً أو أياماً فليس بشيء، قال الضحاك عن ابن عباس: لما نزلت ولبثوا في كهفهم ثلثمائة قيل يا رسول الله أياماً أم أشهراً أم سنين، فأنزل الله سنين وازدادوا تسعاً.
وحكى النقاش ما معناه إنهم لبثوا ثلثمائة سنة شمسية بحساب الأمم، فلما كان الإخبار هنا للنبي العربي صلى الله عليه وسلم ذكر التسع إذ المفهوم عنده من السنين القمرية، فهذه الزيادة هي ما بين الحسابين، ونحوه ذكر القونوي أي باختلاف سني الشمس والقمر لأنه يتفاوت في كل ثلاث وثلاثين وثلث، سنة فيكون في ثلثمائة تسع سنين. انتهى.
أقول: هذا يبتنى على حساب الكبس، والكبس عندهم مختلف وقد حققناه في كتابنا لقطة العجلان فراجعه. وعن ابن عباس قال: أن الرجل ليفسر الآية يرى أنها كذلك فيهوى أبعد ما بين السماء والأرض، ثم تلا(8/37)
ولبثوا في كهفهم الآية، ثم قال: كم لبث القوم؟ قالوا ثلثمائة وتسع سنين. قال لو كانوا لبثوا كذلك لم يقل الله: قل الله أعلم بما لبثوا، ولكنه حكى مقالة القوم فقال سيقولون ثلاثة إلى قوله رجماً بالغيب، فأخبر أنهم لا يعلمون، ثم قال سيقولون ولبثوا في كهفهم ثلثمائة سنين وازدادوا تسعاً.
قال القرطبي: اختلف في أصحاب الكهف هل ماتوا وفنوا أو هم نيام وأجسادهم محفوظة، فروي عن ابن عباس أنه قال: أولئك قوم فنوا وعدموا منذ مدة طويلة، ومشى الناس معه في بعض غزوات الشام إلى موضع الكهف فوجدوا عظاماً.
وروت فرقة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال " ليحجن عيسى ابن مريم ومعه أصحاب الكهف فإنهم لم يحجوا بعد "، ذكره ابن عيينة ونحوه في التوراة والإنجيل وقد ذكرنا هذا الخبر بكماله في التذكرة، فعلى هذا هم نيام لم يموتوا ولا يموتون إلى يوم القيامة بل يموتون قبل الساعة، انتهى والله أعلم.
ثم أكد سبحانه اختصاصه بعلم ما لبثوا بقوله (له غيب السماوات والأرض) أي ما خفي فيهما وغاب من أحوالهما ليس لغيره من ذلك شيء، ثم زاد في المبالغة والتأكيد فجاء بما يدل على التعجب من إدراكه للمبصرات والمسموعات فقال (أبصر به وأسمع) فأفاد هذا التعجب على أن شأنه سبحانه في علمه بالمبصرات والمسموعات خارج عما عليه إدراك المدركين وأنه يستوي في علمه الغائب والحاضر والخفي والظاهر والصغير والكبير واللطيف والكثيف.
وكان أصله ما أبصره وما أسمعه، ثم نقل إلى صيغة الأمر للإنشاء على سبيل المجاز والباء زائدة عند سيبويه وخالفه الأخفش، والبحث مقرر في علم النحو، والهاء لله تعالى، وقيل هو أمر حقيقة لا تعجب وأن الهاء تعود على الهدى المفهوم من الكلام أي أبصر بوحيه وإرشاده هداك وحججك والحق من الأمور وأسمع به العالم والأول أولى، وقرئ أبصر وأسمع فعلاً ماضياً(8/38)
والفاعل الله تعالى أي أبصر عباده وأسمعهم.
(ما لهم) أي لأهل السماوات والأرض، وقيل لأهل الكهف؛ وقيل لمعاصري محمد صلى الله عليه وسلم من الكفار (من دونه من ولي) أي من موال يواليهم أو يتولى أمورهم أو ينصرهم وفي هذا بيان لغاية قدرته وأن الكل تحت قهره (ولا يشرك في حكمه أحداً) قرأ الجمهور برفع الكاف على الخبر عن الله سبحانه وقرئ بالفوقية وإسكان الكاف على أنه نهي للنبي صلى الله عليه وسلم أن يجعل لله شريكاً في حكمه والمراد بحكم الله ما يقتضيه أو علم الغيب والأول أولى ويدخل علم الغيب في ذلك دخولاً أولياً فإن علمه سبحانه من جملة قضائه.(8/39)
وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (27)
(واتل ما أوحي إليك) أمره الله سبحانه أن يواظب على تلاوة الكتاب الموحى إليه قيل: يحتمل أن يكون معنى قوله (واتل) واتبع أمراً من التلو لا من التلاوة أي اتبع ما فيه واعمل به ولا تلتفت لقوله ائت بقرآن غير هذا أو بدله (من كتاب ربك) بيان للذي أوحي إليه.
(لا مبدل لكلماته) أي لا قادر على تبديلها وتغييرها وإنما يقدر على ذلك هو وحده؛ قال الزجاج: أي ما أخبر الله به وما أمر به فلا مبدل له وعلى هذا يكون التقدير لا مبدل لحكم كلماته.
(ولن تجد من دونه ملتحداً) أي ملتجأً، وأصل اللحد الميل، وقال أبو عبيدة: ألحد إلحاداً جادل ومارى ولحد جار وظلم وألحد في الحرم استحل حرمته وانتهكها والملتحد اسم الموضع وهو الملجأ، قال الزجاج: لن تجد معدلاً عن أمره ونهيه، والمعنى إنك إن لم تتبع القرآن وتتلوه وتعمل بأحكامه لن تجد معدلاً تعدل إليه ومكاناً تميل إليه. وهذه الآية آخر قصة أهل الكهف.(8/39)
وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا (28) وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا (29)
ثم شرع سبحانه في نوع آخر كما هو دأب الكتاب العزيز فقال(8/40)
وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا (28)
(واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم) أي يعبدونه قد تقدم في (الَأنْعَام) (1) نهيه صلى الله عليه وسلم عن طرد فقراء المؤمنين بقوله (ولا تطرد الذين يدعون ربهم) وأمره سبحانه هاهنا بأن يحبس نفسه معهم فصبر النفس هو حبسها عن الجوع وبابه ضرب، وصبره حبسه. وهذه الآية (2) أبلغ من التي في الأنعام لأن في تلك نهى الرسول عن طردهم وفي هذه أمره بمجالستهم والمصابرة معهم.
(بالغداة والعشي) ذكرهما كناية عن الاستمرار على الدعاء في جميع الأوقات، وقيل في طرفي النهار، وقيل المراد صلاة العصر والفجر. وقرئ غدوة وأنكره النحاس وقال ولا تكاد العرب تقول الغدوة، ومعنى (يريدون وجهه) أنهم يرتقبون بدعائهم رضا الله سبحانه لا عرض الدنيا. وعن سلمان قال: جاءت المؤلفة قلوبهم: عيينة بن بدر والأقرع بن حابس فقالوا: يا رسول الله لو جلست في صدر المجلس وتغيبت عن هؤلاء وأرواح جبابهم يعنون سلمان وأبا ذر وفقراء المسلمين وكانت عليهم جباب
_________
(1) اسم السورة.
(2) الأولى أن يقال: هذه الآية أفادت معنى جديداً هو أمره بمجالستهم والمصابرة معهم. لأن قوله: " وهذه الآية أبلغ " تدل على الموازنة بين الآيات في البلاغة والقرآن الكريم كله في غاية البلاغة.(8/40)
الصوف جالسناك وحادثناك وأخذنا عنك فأنزل الله (واتل ما أوحي إليك) إلى قوله (إنا اعتدنا للظالمين ناراً) أخرجه البيهقي وغيره.
وزاد أبو الشيخ عن سلمان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام يلتمسهم حتى أصابهم في مؤخر المسجد يذكرون الله تعالى فقال " الحمد لله الذي لم يمتني حتى أمرني أن أصبر نفسي مع رجال من أمتي، معكم المحيا والممات ".
وعن عبد الرحمن بن سهل بن حنيف قال: نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في بعض أبياته واصبر نفسك الآية فخرج يلتمسهم فوجد قوماً يذكرون الله منهم ثائر الرأس وحاف الجلد وذو الثوب الخلق فلما رآهم جلس معهم وقال: الحمد لله الذي جعل في أمتي من أمرني أن أصبر نفسي معهم ".
وعن أبي سعيد وأبي هريرة قالا: جاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ورجل يقرأ سورة الحجر أو سورة الكهف فسكت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " هذا المجلس الذي أمرت أن أصبر نفسي معهم ". وفي الباب روايات. وعن ابن عمر قال: إنهم الذين يشهدون الصلوات الخمس وعن ابن عباس مثله وقيل نزلت في صلاة الصبح وصلاة العصر.
ثم أمره سبحانه بالمراقبة لأحوالهم فقال (ولا تعدُ عيناك عنهم) أي لا تتجاوز إلى غيرهم، قال الفراء: معناه لا تصرف عينيك عنهم؛ وقال الزجاج: لا تصرف بصرك إلى غيرهم من ذوي الهيئات والزينة واستعماله بعن لتضمينه معنى النبو، من عدوته عن الأمر أي صرفته عنه، وقال: معناه لا تحتقرهم عيناك عَبَّرَ بهما عن صاحبها.
(تريد زينة الحياة الدنيا) أي مجالسة أهل الترف والشرف والغنى وصحبة أهل الدنيا والمعنى حال كونك مريداً لذلك، هذا إذا كان فاعل تريد(8/41)
هو النبي صلى الله عليه وسلم وإن كان الفاعل ضميراً يعود إلى العينين فالتقدير مريدة زينة الحياة الدنيا وإسناد الإرادة إلى العينين مجاز وتوحيد الضمير للتلازم والأول أولى، وهو نهي له صلى الله عليه وسلم وإن لم يًرده وليس هو أكبر من قوله (لئن أشركت ليحبطن عملك) وإن كان أعاذه من الشرك وإنما هو على فرض المحال.
(ولا تطع من أغفلنا قلبه) أي جعلناه غافلاً (عن ذكرنا) بالختم عليه نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن طاعة من جعل الله قلبه غافلاً عن ذكره كأولئك الذين طلبوا منه أن ينحي الفقراء عن مجلسه فإنهم طالبوا تنحية الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه وهم غافلون عن ذكر الله.
(و) مع هذا فهم ممن (اتبع هواه) وآثره على الحق فاختار الشرك على التوحيد (وكان أمره فرطاً) أي متجاوزاً عن حد الاعتدال من قولهم فرس فرط إذا كان متقدماً على الخيل فهو على هذا من الإفراط، وقيل هو من التفريط وهو التقصير والتضييع والأول أظهر.
قال الزجاج: ومن قدم العجز في أمره أضاعه وأهلكه. وعن ابن عباس قال: نزلت في أمية بن خلف وذلك أنه دعا النبي صلى الله عليه وسلم إلى أمر كرهه الله من طرد الفقراء عنه وتقريب صناديد أهل مكة فأنزل الله هذه الآية يعني من ختمنا على قلبه يعني التوحيد واتبع هواه يعني الشرك وكان أمره فرطاً يعني فرطاً في أمر الله وجهالة به.
وعن ابن بريدة قال: دخل عيينة بن حصن على النبي صلى الله عليه وآله وسلم في يوم حار وعنده سلمان عليه جبة صوف فثار منه ريح العرق في الصوف فقال عيينة: يا محمد إذا نحن أتيناك فَأَخْرِج هذا وضرباءه من عندك لا يؤذينا فإذا خرجنا فأنت وهم أعلم فأنزل الله (ولا تطع) الآية.
وقد ثبت في صحيح مسلم في سبب نزول الآية المتضمنة لمعنى هذه الآية وهي قوله (ولا تطرد الذين) الآية عن سعد بن أبي وقاص قال: كنا مع(8/42)
النبي صلى الله عليه وسلم ستة نفر فقال المشركون للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: اطرد هؤلاء لا يجترئون علينا قال: وكنت أنا وابن مسعود ورجل من هذيل وبلال ورجلان نسيت اسمهما فوقع في نفس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما شاء الله أن يقع فحدث نفسه فأنزل الله (ولا تطرد الذين) الآية (1).
ثم بيَنّ سبحانه لنبيه صلى الله عليه وسلم ما يقوله لأولئك الغافلين فقال
_________
(1) مسلم 2413.(8/43)
وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا (29)
(وقل الحق من ربكم) أي قل لهم: إن ما أوحي إليَّ وأمرت بتلاوته هو الحق الكائن من جهة الله لا من جهة غيره حتى يمكن فيه التبديل والتغيير، وقيل المراد بالحق الصبر مع الفقراء، قال الزجاج: أي الذي أتيتكم به هو الحق من ربكم يعني لم آتكم به من قبل نفسي إنما أتيتكم به من الله، وعن قتادة قال: الحق هو القرآن.
(فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر) قيل هو من تمام القول الذي أمر رسوله أن يقوله، والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها، ويجوز أن يكون من كلام الله سبحانه لا من القول الذي أمر به رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وفيه تهديد شديد وتخويف وردع لا تخيير وإباحة، ويكون المعنى قل يا محمد الحق من ربكم، وبعد أن تقول لهم هذا القول من شاء أن يؤمن بالله ويصدقك فليؤمن، ومن شاء أن يكفر به ويكذبك فليكفر.
وقال ابن عباس: يقول من شاء الله له الإيمان آمن ومن شاء له الكفر كفر وهو قوله (وما تشاؤون إلا أن يشاء الله رب العالمين).
ثم أكد الوعيد وشدده فقال (إنا أعتدنا) أي أعددنا وهيأنا (للظالمين) الذين اختاروا الكفر بالله والجحد له والإنكار لأنبيائه (ناراً) عظيمة (أحاط بهم) أي اشتمل عليهم (سرادقها) واحد السرادقات، قال الجوهري وهي(8/43)
التي تمد فوق صحن الدار وكل بيت من كرسف أي قطن فهو سرادق، وقيل للحائط المشتمل على شيء سرادق قاله الهروي.
وقال الراغب: السرادق فارسي معرب وليس في كلامهم اسم مفرد ثالث حروفه ألف بعدها حرفان إلا هذا يقال بيت مسردق، وقال ابن الأعرابي: سرادقها سورها؛ وقال القتيبي: السرادق الحجرة التي تكون حول الفسطاط والمعنى أنه أحاط بالكفار سرادق النار على تشبيه ما يحيط بهم من النار بالسرادق المحيط بمن فيه، وعن ابن عباس قال: حائط من نار.
وأخرج أحمد والترمذي والحاكم وصححه وغيرهم عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " سرادق النار أربعة جدر كثافة كل جدار منها مسيرة أربعين سنة " (1) وأخرج أحمد والبخاري والحاكم وصححه عن يعلى ابن أمية قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن البحر هو من جهنم ثم تلا (ناراً أحاط جهم سرادقها) " (2).
(وإن يستغيثوا) من حر النار أي يطلبوا الإنقاذ من شدة العطش (يغاثوا) فيه مشاكلة إذ لا إغاثة لهم بالماء الآتي ذكره بل إتيانهم به وإلجاؤهم بشربه غاية الإضرار، والإغاثة هي الانقاذ من الشدة فكأنه قال يضروا ويعذبوا (بماء كالمهل) وهو الحديد المُذاب.
قال الزجاج: إنهم يغاثون بماء كالرصاص المُذاب أو الصفر، وقيل هو دردي الزيت أي ما بقي في أسفل الإناء ووجه المشابهة الثخن والرداءة في كل.
وقال أبو عبيدة والأخفش: العكر وهو كل ما أذيب من جواهر الأرض من حديد ورصاص ونحاس، وقيل هو ضرب من القطران، أخرج أحمد
_________
(1) المستدرك كتاب الأهوال 4/ 601 - الإمام أحمد 3/ 29.
(2) المستدرك كتاب الأهوال 4/ 596.(8/44)
والترمذي وأبو يعلى وابن جرير وابن حبان والبيهقي في البعث عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " كعكر الزيت فإذا قرب إليه سقطت فروة وجهه فيه " (1) عن ابن عباس قال: أسود كعكر الزيت وعنه قال: ماء غليظ كدردي الزيت.
وعن ابن مسعود أنه سئل عن المهل فدعا بذهب أو فضة فأذابه فلما ذاب قال: هذا أشبه شيء بالمهل الذي هو شراب أهل النار ولونه لون السماء غير أن شراب أهل النار أشد حراً من هذا. وعن ابن عمر: هل تدرون ما المهل؛ المهل مهل الزيت، يعني آخره.
ثم وصف هذا الماء الذي يغاثون به بأنه (يشوي الوجوه) إذا قدم عليهم صارت وجوههم مشوية لحرارته، والشيّ الإنضاج بالنار من غير إحراق (بئس الشراب) شرابهم هذا الذي يغاثون به (وساءت) النار (مرتفقاً) متكأً، يقال ارتفقت أي اتكأت، وأصل الارتفاق نصب المرفق تحت الخد، ويقال ارتفق الرجل إذا نام على مرفقه.
وقال القتيبي: هو المجلس والمنزل، وقيل المجتمع، وبه قال مجاهد، وإنما جاء كذلك لمشاكلة قوله (وحسنت مرتفقاً) وإلا فأي ارتفاق لأهل النار وأي متكأ.
_________
(1) الترمذي كتاب جهنم باب 4 - الإمام أحمد 3/ 71.(8/45)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا (30) أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا (31) وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا (32) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا (33) وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا (34)(8/46)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا (30)
(إن الذين آمنوا) هذا شروع في وعد المؤمنين بعد الفراغ من وعيد الكافرين والمعنى أن الذين آمنوا بالحق الذي أوحي إليك (وعملوا الصالحات) من الأعمال (إنا لا نضيع أجر من أحسن) منهم (عملاً) وفيها إقامة الظاهر مقام المضمر، والمعنى أجرهم أي نثيبهم بما تضمنه قوله(8/46)
أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا (31)
(أولئك لهم جنات عدن) أي إقامة مستأنفة لبيان الأجر، والإشارة إلى من تقدم ذكره، وقيل أولئك خبر إن الذين آمنوا، وجملة انا لا نضيع اعتراض وقيل غير ذلك.
(تجري من تحتهم الأنهار) لأن أفضل المساكن ما كان يجري فيه الماء، وقد تقدم الكلام في كيفية جري الأنهار من تحتها (يحلون فيها من أساور من ذهب).
قال الزجاج: أساور جمع أَسْوِرَة وهي جمع سوَار وهي زينة تلبس في الزند من اليد وهي من زينة الملوك، وظاهر الآية أنها جميعها من ذهب، وجاء في آية أخرى من فضة، وفي أخرى من ذهب ولؤلؤ، فيلبسون الأساور الثلاثة، فيكون في يد الواحد منهم سوار من ذهب وآخر من فضة وآخر من لؤلؤ. فعلم من هذا أن كُلاًّ من هذه الآية ومن آية هل أتى على الإنسان، ومن(8/46)
آية الحج ومن آية فاطر فيه الإخبار ببعض ما يحلون به، و (من) في من أساور للابتداء وقيل زائدة بدليل سقوطها في سورة هل أتى، (وحلوا أساور من فضة) و (من) في من ذهب للبيان، وحكى الفراء يَحْلَوْن بفتح الياء وسكون الحاء وفتح اللام يقال: حليت المرأة تحلى فهي حالية إذا لبست الحلي.
أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء " (1).
(ويلبسون ثياباً خضراً من سندس واستبرق) عطف على يحلون وبني الفعل في التحلية للمفعول إيذاناً بكرامتهم وأن غيرهم يفعل بهم ذلك ويزيّنهم به بخلاف اللبس فإن الإنسان يتعاطاه بنفسه. وقدم التحلي على اللباس لأنه أشهى للنفس، وخص الأخضر لأنه الموافق للبصر، ولكونه أحسن الألوان.
قال الكسائي: السندس الرقيق واحده سندسة، والإستبرق ما ثخن واحده استبرقة، وكذا قال المفسرون، وقيل ليسا جمعين، وقيل الاستبرق هو الديباج، وقيل هو المنسوج بالذهب، قال القتيبي: وهو فارسي معرب، قال الجوهري: وتصغيره أبيرق قال السمين: وهل استبرق عربي الأصل مشتق من البريق أو معرب أصله استبره، خلاف بين اللغويين.
قال مرثد بن عبد الله: في الجنة شجرة تنبت السندس منه تكون ثياب أهل الجنة، وعن عكرمة قال: الاستبرق الديباج الغليظ، وعن مجاهد مثله، وفي آية الرحمن (بطائنها من استبرق) أي الفرش فيقاس عليها اللباس الذي الكلام فيه فظهارة الكل من سندس وبطانته من استبرق قال المحلى في سورة " هل أتى " فالاستبرق بطانة ثيابهم والسندس ظهارتها.
(متكئين فيها على الأرائك) أصل اتكأ أو تكأ وأصل متكئين موتكئين والاتكاء التحامل على الشيء أي يجلسون متربعين ومضطجعين. أخرج ابن
_________
(1) مسلم 250.(8/47)
أبي حاتم عن الهيثم بن مالك الطائي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن الرجل ليتكئ مقدار أربعين سنة لا يتحول منه ولا يمله يأتيه ما اشتهت نفسه ولذت عينه ".
قال الزجاج: الأرائك جمع أريكة وهي السرر في الحجال وقيل هي أسرة من ذهب مكللة بالدر والياقوت، وعن ابن عباس قال: الأرائك السرر في جوف الحجال عليها الفرش منضود في السماء فرسخ، وعنه قال لا يكون أريكة حتى يكون السرير في الحجلة وعن عكرمة: الأرائك هي الحجال على السرر، وفي القاموس الأريكة كسفينة سرير في حجلة، أو كل ما يتكأ عليه من سرير ومنصة وفراش، أو سرير متخذ مزين في قبة أو بيت فإن لم يكن فيه سرير فهو حجلة والجمع أرائك.
(نعم الثواب) ذلك الذي أثابهم الله به وهو الجنة (وحسنت) تلك الأرائك في الجنات (مرتفقاً) أي متكأً ومقراً ومجلساً ومنتفعاً ومسكناً ومنزلاً وقد تقدم قريباً. وقد اشتمل هذا القول على خمسة أنواع من الثواب: الأول: لهم جنات عدن، الثاني: تجري من تحتهم الخ، الثالث: يحلون فيها، الرابع: ويلبسون، الخامس: متكئين.(8/48)
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا (32)
(واضرب لهم مثلاً رجلين) هذا المثل ضربه الله سبحانه لمن يتغرر بالدنيا ويستنكف عن مجالسة الفقراء فهو على هذا متصل بقوله (واصبر نفسك) وقد اختلف في الرجلين هل هما مقدران أو محققان فقال بالأول بعض المفسرين وقال بالآخر بعض آخر، واختلفوا في تعيينهما فقيل هما أخوان من بني إسرائيل أحدهما مؤمن واسمه يهوذا في قول ابن عباس، وقيل تمليخا والآخر كافر واسمه قيطوس وهما اللذان وصفهما الله في سورة (والصافات) بقوله (قال قائل منهم إني كان لي قرين).
وقيل هما أخوان مخزوميان من أهل مكة أحدهما مؤمن وهو أبو سلمة عبد الله بن عبد الأسد بن عبد ياليل والآخر كافر وهو الأسود بن عبد الأسد،(8/48)
وقيل هذا مثل لعيينة بن حصن وأصحابه مع سلمان وأصحابه وانتصاب مثلاً ورجلين على أنهما مفعولا اضرب، قيل والأول هو الثاني والثاني هو الأول.
(جعلنا لأحدهما) هو الكافر (جنتين) قال السدي: الجنة البستان فكان له بستان واحد وجدار واحد وكان بينهما نهر فلذلك كانا جنتين ولذلك سماه جنة من قبل الجدار الذي عليها، وعن يحيى بن أبي عمرو الشيباني قال: نهر أبي فرطس نهر الجنتين، قال ابن أبي حاتم: وهو نهر مشهور بالرملة.
(من أعناب) بيان لما في الجنتين أي من كروم متنوعة جمع عنب والعنبة الحبة (وحففناهما بنخل) الحف الإحاطة ومنه (حافين من حول العرش) ويقال حيف القوم بفلان يحفون حفاً أي أطافوا به فمعنى الآية وجعل النخل مطيفاً بالجنتين من جميع جوانبهما وهذا مما يوثره الدهاقين في كرومهم أن يجعلوها مُوزَرَة بالأشجار المثمرة (وجعلنا بينهما) أي بين الجنتين وهو وسطهما (زرعاً) يقتات به ليكون كل واحد منهما جامعاً للأقوات والفواكه متواصل العمارة على الشكل الحسن والتركيب الأنيق.
ثم أخبر الله سبحانه عن الجنتين بأن كل واحدة منهما كانت تؤدي حملها وما فيها فقال(8/49)
كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا (33)
(كلتا الجنتين آتت أكلها) أخبر عن كلتا بآتت لأن لفظه مفرد يدل على التثنية فراعى جانب اللفظ. وقد ذهب البصريون إلى أن كلا وكلتا اسم مفرد غير مثنى. وقال الفراء: هو مثنى وهو مأخوذ من كل فخففت اللام وزيدت الألف للتثنية، وروعيت التثنية المعنوية في قوله الآتي، (وفجرنا خلالهما نهراً)، وأُكُلْها بضم الكاف وسكونها سبعيتان.
(ولم تظلم منه شيئاً) أي لم تنقص من أكلها شيئا في بعض السنين بل في كل سنة يأتي ثمرها وافياً؛ يقال ظلمه حقه أي أنقصه، ووصف الجنتين بهذه الصفة للإشعار بأنهما على خلاف ما يعتاد في سائر البساتين فإنها في الغالب تكثر في عام وتقل في عام، قال ابن عباس: لم ينقص كل شجر الجنة أطعمة.(8/49)
(وفجرنا) أي أجرينا وشققنا (خلالهما) أي وسط الجنتين (نهراً) يجري بينهما يسقيهما دائماً من غير انقطاع(8/50)
وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا (34)
(وكان له) أي لأحدهما أو لصاحب الجنتين (ثمر) بفتح الثاء والميم وكذا قرأوا في قوله أحيط بثمره، وقرئ ثُمْر بضم الثاء وإسكان الميم في الموضعين، وبه قرأ ابن عباس وقال: هي أنواع المال.
قال الجوهري: الثمرة واحدة الثمر وجمع الثمر ثمار مثل جبل وجبال. قال الفراء: وجمع الثمار ثمر مثل كتاب وكتب، وجمع الثمر (1) أثمار مثل عنق وأعناق. انتهى. والثمرة مؤنث والجمع ثمرات مثل قصبة وقصبات، والثمر هو الحمل الذي تخرجه الشجرة سواء أكل أو لا، فيقال ثمر الأراك وثمر العوسج وثمر الدوم وهو المقل، كما يقال ثمر النخل وثمر العنب.
قال الأزهري: أثمر الشجر أطلع ثمره أول ما يخرجه فهو مثمر؛ ومن هنا قيل لما لا نفع فيه ليس له ثمرة؛ وقيل الثمر جميع المال من الذهب والفضة والحيوان وغير ذلك، سمي ثمراً لأنه يثمر ويزيد مأخوذ من ثمَّر ماله بالتشديد إذا كثَّره، وقيل الثمر هو الذهب والفضة خاصة. قاله مجاهد.
(فقال) الكافر (لصاحبه) المؤمن (وهو يحاوره) أي والكافر يحاور المؤمن والمعنى يراجعه الكلام ويجاوبه، والمحاورة المراجعة والتحاور التجاوب وحاصل ما قاله من القول الشنيع ثلاث مقالات الأولى (أنا أكثر منك مالاً وأعز نفراً) النفر الرهط وهو ما دون العشرة وأراد هاهنا الأتباع. والخدم والأولاد والعشيرة.
_________
(1) هناك فرق بين ثمر وعنق لأن " ثمر " جمع ثمار، وأما عنق فمفرد.(8/50)
وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا (35) وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا (36) قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا (37) لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا (38) وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا (39) فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا (40) أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا (41)(8/51)
وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا (35)
(ودخل جنته) أي دخل الكافر جنة نفسه، قال المفسرون: أخذ بيد أخيه المسلم فأدخله جنته يطوف به فيها ويريه آثارها وعجائبها وبهجتها وحسنها وأثمارها، ويفاخر بما ملك من المال دونه، وإفراد الجنة هنا يحتمل أن وجهه كونه لم يدخل أخاه إلا واحدة منهما أو لكونهما لما اتصلتا كانتا كواحدة أو لأنه أدخله في واحدة ثم واحدة أو لعدم تعلق الغرض بذكرهما أو اكتفاء بالواحدة.
وقال المحلي: لم يقل جنتيه إرادة: للروضة. وعبارة الشهاب أفرد الجنة مع أن له جنتين لنكتة وهي أن الإضافة تأتي لما تأتي له اللام فالمراد بها العموم والاستغراق أي كل ما هو جنة له ينتفع بها فيفيد ما إفادته التثنية مع زيادة وهي الإشارة إلى أنه لا جنة له غير هذه انتهى؛ وما أبعد ما قاله صاحب الكشاف أنه وحد الجنة للدلالة على أنه لا نصيب له في الجنة التي وعد المؤمنون.
(وهو) أي ذلك الكافر (ظالم لنفسه) بكفره وعُجْبه قال قتادة: كفور لنعمة ربه مستأنف بياني لسبب الظلم (قال) أي الكافر لفرط غفلته وطول أمله (ما أظن أن تبيد) أي تفنى وتنعدم (هذه) الجنة التي تشاهدها (أبداً)(8/51)
وهذه هي الثانية من مقالاته والثالثة قوله(8/52)
وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا (36)
(وما أظن الساعة قائمة) أنكر البعث بعد إنكاره لفناء جنته.
قال الزجاج: أخبر أخاه بكفره بفناء الدنيا وقيام الساعة (ولئن رددت إلى ربي) اللام هي الموطئة للقسم والمعنى أنه والله أن يرد إلى ربه فرضاً وتقديراً كما زعم صاحبه واللام في (لأجدن) جواب القسم والشرط أي لأجدن يومئذ (خيراً منها) على الإفراد على ما في مصاحف أهل البصرة والكوفة أي من هذه الجنة، وفي مصاحف مكة والمدينة والشام منهما (منقلباً) هو المرجع والعاقبة لأنها فانية وتلك باقية قال هذا قياساً للغائب على الحاضر، وأنه كما كان غنياً في الدنيا سيكون غنياً في الآخرة اغتراراً منه بما صار فيه من الغنى الذي هو الاستدراج له من الله(8/52)
قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا (37)
(قال له) أي للكافر (صاحبه) المؤمن وقد تعقبه في الثلاثة على سبيل اللف والنشر المشوش (وهو يحاوره) أي حال محاورته له منكراً عليه ما قاله (أكفرت) بقولك (ما أظن الساعة قائمة) استفهام توبيخ وتقريع أي لا ينبغي ولا يليق منك الكفر (بالذي خلقك) أي جعل أصل خلقك (من تراب) حيث خلق أباك آدم منه وهو أصلك وأصل مادة البشر، فلكل فرد حظ من ذلك، وقيل يحتمل أنه كان كافراً بالله فأنكر عليه ما هو عليه من الكفر ولم يقصد أن الكفر حدث له بسبب هذه المقالة.
(ثم من نطفة) وهي المادة القريبة (ثم سواك رجلاً) أي صيرك
وجعلك إنساناً ذكراً بالغاً مبلغ الرجال، وعدل أعضاءك وَكَلَّمك، وهو ظاهر
كلام الحوفي، وقيل إنه حال، ومن الجائز أن يسويه غير رجل، وهو كقولهم: خلق الله الزرافة يديها أطول من رجليها، والأول أولى، وإنما جعل كفره بالبعث كفراً بالله، لأن منشأه الشك في كمال قدرة الله، فلذلك رتب الإنكار على خلقه إياه من التراب، وفي هذا تلويح بالدليل على البعث، وأن القادر على الابتداء قادر على الإعادة.(8/52)
لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا (38)
(لكنا) أصله لكن أنا وضمير (هو) للشأن، والمعنى أنا أقول (الله ربي) قال أهل العربية: إثبات ألف أنا في الوصل ضعيف، وعن الكسائي:(8/52)
الأصل لكن الله هو ربي أنا، وقال الزجاج: إثبات الألف في لكنا في الإدراج جيد لأنها قد حذفت الألف من أنا فجاءوا بها عوضاً، قال: وفي قراءة أُبي لكن أنا هو الله ربي، ولا خلاف في إثباتها في الوقف، وتكلم في الجمل على هذا الألف بأطول من هذا.
ثم نفى عن نفسه الشرك بالله تعالى فقال (ولا أشرك بربي أحداً) فيه إشارة إلى أن أخاه كان مشركاً ثم أقبل عليه يلومه على الثانية فقال:(8/53)
وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا (39)
(ولولا إذ دخلت جنتك قلت) لولا للتحضيض أي هَلَّا قلت عندما دخلتها (ما شاء الله) قال الفراء والزجاج: هلا قلت حين دخلتها الأمر بمشيئة الله وما شاء الله كان، وقيل كائن أي أَيُّ شيء شاء الله كان فترد أمر جنتك من الحسن والنضارة لخالقه ولا تفتخر به لأنه ليس من صنعك.
وِقوله (لا قوة إلا بالله) من جملة مقول، أي هلا قلت هاتين الجملتين تحضيضاً له على الاعتراف بأنها وما فيها بمشيئة الله تعالى، إن شاء أبقاها وإن شاء أفناها، وعلى الاعتراف بالعجز، وأن ما تيسر له من عمارتها وحسنها ونضارتها إنما هو بمعونة الله لا بقوته وقدرته.
وهذا نصح من المؤمن للكافر وتوبيخ له على قوله (ما أظن أن تبيد هذه أبدًا) قال الزجاج: لا يقوي أحد على ما في يده من ملك ونعمة إلا بالله ولا يكون إلا ما شاء الله.
أخرج ابن أبي حاتم عن أسماء بنت عميس قالت: علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمات أقولهن عند الكرب: الله الله ربي لا أشرك به شيئاً، وأخرج أبو يعلى وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما أنعم الله على عبد نعمة في أهل أو مال أو ولد فيقول ما شاء الله لا قوة إلا بالله إلا دفع الله عنه كل آفة حتى تأتيه منيته "، وقرأ هذه الآية (1) وفي إسنادهِ عيسى بن عون. وروي عن أنس نحوه موقوفاً.
_________
(1) ضعيف الجامع الصغير 5028 - سلسلة الأحاديث الضعيفة 2012.(8/53)
وأخرج أحمد من حديث أبي هريرة قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم " ألا أدلك على كنز من كنوز الجنة تحت العرش؟ قلت نعم، قال أن تقول لا حول ولا قوة إلا بالله " (1).
وقد ثبت في الصحيح من حديث أبي موسى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له " ألا أدلك على كنز من كنوز الجنة؟ لا حول ولا قوة إلا بالله " (2)، وقد وردت أحاديث وآثار عن السلف في فضل هذه الكلمة.
ثم لما علمه الإيمان وتفويض الأمور إلى الله سبحانه أجابه عن افتخاره بالمال والنفر فقال (إن ترن) الرؤية علمية أو بصرية (أنا أقل منك مالاً وولداً) أي لأجل ذلك تكبرت وتعظمت عليَّ ويجوز في أنا وجهان أحدهما: أن يكون مؤكد الياء المتكلم، والثاني: أنه ضمير الفصل بين المفعولين، وأقل مفعول ثان أو حال بحسب الوجهين في الرؤية، إلا أنك إذا جعلتها بصرية تعين في أنا أن يكون توكيداً لا فصلاً، لأن شرطه أن يقع بين مبتدأ وخبر، أو ما أصله المبتدأ والخبر.
وقرأ عيسى بن عمر أقلُّ بالرفع ويتعين أنا مبتدأ وأقل خبره، والجملة إما في موضع المفعول الثاني وإما في موضع الحال على ما تقدم في الرؤية، ومالاً وولداً تمييزان وجواب الشرط قوله:
_________
(1) الإمام أحمد 5/ 172 بلفظ: " هل لك بكنز من كنوز الجنة؟ ".
(2) مسلم 2704 - البخاري 1423.(8/54)
فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا (40)
(فعسى ربي أن يؤتين) أي إن ترني أفقر منك فأنا أرجو أن يرزقني الله سبحانه جنة (خيراً من جنتك) في الدنيا أو في الآخرة أو فيهما، وفي الأول يكون الكافر أشد غيظاً وحسرة، وهذا رجاء من المؤمن وقرع على مقالة الكافر الأولى (ويرسل عليها) أي على جنتك (حُسباناً) هو مصدر بمعنى الحساب كالغفران، أي مقداراً قدره الله عليها ووقع في حسابه سبحانه وهو الْحَكَم بتخريبها قال الزجاج الحسبان من الحساب، أي يرسل عليها عذاب الحساب، وهو حساب ما كسبت يداك وهو حسن.(8/54)
وقال الأخفش (حسباناً) أي مرامي وقيل ناراً (من السماء) وأحدها حسبانة، وكذا قال أبو عبيدة والقتيبي والكرخي.
وقال ابن الأعرابي: الحسبانة السحابة والوسادة والصاعقة وقال قتادة: حسباناً عذاباً، وقال النضر بن شميل: الحسبان سهام يرمى بها الرجل في جوف قصبة تنزع من قوس ثم يرمى بعشرين منها دفعة، والمعنى يرسل عليها مرامي من عذابه إما برد وإما حجارة أو غيرهما مما يشاء من أنواع العذاب.
(فتصبح صعيداً زلقاً) مثل الجرز، قاله ابن عباس، أي فتصبح جنة الكافر بعد إرسال الله سبحانه عليها حسباناً أرضاً جرداء ملساء لا نبات فيها ولا يثبت عليها قدم.
وقال قتادة: أي قد حصد ما فيها فلم يترك فيها شيء، وفي اللغة من جملة معاني الصعيد وجه الأرض، وزلقاً أي تزل فيه الأقدام لملامستها، يقال مكان زلق بالتحريك أي دحض، وقيل رملاً هائلاً، وهو في الأصل مصدر قولك زَلَقَت رجله تَزْلُقُ زلقاً وأزْلَقَها غيره، والمَزْلَقَةَ الموضع الذي لا تثبت عليه قدم وكذا الزلاقة، وصف الصعيد بالمصدر مبالغة أو أريد به المفعول وصيرورتها كذلك لاستئصال نباتها وأشجارها بالذهاب والإهلاك فلم يبق له أثر.(8/55)
أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا (41)
(أو يصبح ماؤها غوراً) أي ذاهباً في الأرض لا تناله الأيدي ولا الدلاء ولا سبيل إليه، والغور والغائر، وصف الماء بالمصدر مبالغة والمعنى أنها تصير عادمة للماء بعد أن كانت واجدة له وكان خلالها ذلك النهر يسقيها دائماً، ويجيء الغور بمعنى الغروب، والعطفُ على يرسل دون تصبح لأن غور الماء لا يتسبب عن الصواعق والرامي قال أبو حيان إلا أن عنى بالحسبان القضاء الإلهي فحينئذ يتسبب عنه إصباح الجنة صعيداً زلقاً أو إصباح مائها غوراً.
(فلن تستطيع له طلباً) أي لن تستطيع لطلب الماء الغائر فضلاً عن وجوده ورده ولا تقدر عليه بحيلة من الحيل تدركه بها، وقيل المعنى فلن تستطيع طلب غيره عوضاً عنه.(8/55)
وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا (42) وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا (43) هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا (44) وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا (45)
ثم أخبر سبحانه عن وقوع ما رجاه ذلك المؤمن وتوقعه من إهلاك جنة الكافر فقال(8/56)
وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا (42)
(وأحيط بثمره) أي أمواله كالنقد والمواشي وهذا راجع لقوله (وكان له ثمر) وأصل الإحاطة من إحاطة العدو بالشخص كما تقدم في قوله (إلا أن يحاط بكم) وهي عبارة عن إهلاكه وإفنائه وهو معطوف على مقدر كأنه قيل فوقع ما توقعه المؤمن فهلكت جنته بالصواعق وغور الماء وأحيط بثمره أي أحاط العذاب والهلاك بثمره.
(فأصبح) أي صار صاحبها الكافر (يقلب كفيه) أي يضرب إحدى يديه على الأخرى ويصفق بكف على كف وهو كناية عن الندم والتحسر كأنه قيل فأصبح يتندم (على ما أنفق فيها) أي في عمارتها وإصلاحها من الأموال، وقيل المعنى يقلب ملكه فلا يرى فيه عوض ما أنفق لأن الملك قد يعبر عنه باليد من قولهم في يده مال، وهو بعيد جداً، قال قتادة: يصفق على ما أنفق فيها متلهفاً على ما فاته.
(وهي خاوية على عروشها) أي والحال أن تلك الجنة ساقطة على دعائمها التي تعمد بها الكروم أو ساقط بعض تلك الجنة على بعض مأخوذ من خوت النجوم تخوى إذا سقطت ولم تمطر في نوئها ومنه قوله تعالى: (فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا) قيل وتخصيص ماله عروش بالذكر دون النخل والزرع لأنه الأصل وأيضاً ذكر إهلاكها مغن عن ذكر إهلاك الباقي. والعرش شبه بيت من جريد(8/56)
يجعل فوقه التمام (1)، الجمع عروش والعريش مثله وجمعه عُرُش بضمتين كبريد وَبُرُد، وعريش الكرم ما يُعْمل مرتفعاً يمتد عليها الكرم؛ والجمع عرائش أيضاً، وقال الشهاب: جمع عرش وهو ما يصنع ليوضع عليها الكرم فإذا سقط سقط ما عليه.
(ويقول يا ليتني لم أشرك بربي أحداً) هذه الجملة معطوفة على جملة يقلب كفيه أو حال من ضميره أي وهو يقول يعني أنه تذكر موعظة أخيه المؤمن فعلم أنه أتى من جهة شركه وطغيانه فتمنى عند مشاهدته الهلاك لجنته بأنه لم يشرك بالله حتى تسلم جنته من الهلاك، أو كان هذا القول منه على حقيقته لا لما فاته من الغرض الدنيوي بل لقصد التوبة من الشرك والندم على ما فرط منه، والأول هو الأقرب إذ يؤيده قوله:
_________
(1) الثُّمامَ: عشب من الفصيلة النجيلية يسمو إلى مائة وخمسين سنتيمتراً.(8/57)
وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا (43)
(ولم تكن) بالتاء والياء سبعيتان (له) خبر كان (فئة) اسمها (ينصرونه من دون الله) صفة لفئة أي فئة ناصرة بدفع الهلاك عنها أو بردّ الهالك منها، أو بردّ مثله عليه، وقيل هو الخبر، ورجح الأول سيبويه والثاني المبرد واحتج بقوله (ولم يكن له كفواً أحد) والمعنى: أنها لم تكن له فرقة وجماعة يلتجئ إليها وينتصر بها ولا نفعه النفر الذين افتخر بهم فيما سبق.
(وما كان) في نفسه (منتصراً) أي ممتنعاً بقوته عن إهلاك الله لجنته وانتقامه منه وقادراً على واحد من هذه الأمور.(8/57)
هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا (44)
(هنالك) أي في ذلك المقام؛ وقيل يوم القيامة (الولاية) بفتح الواو النصرة وبكسرها الملك أي القهر والسلطنة (لله) وحده لا يقدر عليها غيره (الحق) بالجر صفة الجلالة وبالرفع صفة الولاية وكل منهما راجع لفتح الواو وكسرها فالقراءات أربعة وكلها سبعية، قال الزجاج: ويجوز النصب على المصدر والتوكيد كما تقول هذا لك حقاً، وقيل هو على التقديم والتأخير أي الولاية لله الحق هنالك.(8/57)
(هو) سبحانه (خير ثواباً) أي إثابة لأوليائه أي إعطاء للثواب في الدنيا والآخرة من غيره لو كان يثيب (وخير عقباً) أي عاقبة قرئ عقباً بسكون القاف وضمها وهما سبعيتان بمعنى واحد أي هو خير عاقبة لمن رجاه وآمن به يقال هذا عاقبة أمر فلان، وعقباه أي أخراه؛ ثم ضرب سبحانه مثلاً آخر لجبابرة قريش فقال:(8/58)
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا (45)
(واضرب) أي اذكر وقرر (لهم) أي لقومك (مثل الحياة الدنيا) أي ما يشبه الحياة الدنيا في حسنها ونضارتها وسرعة زوالها لئلا يركنوا إليها وقد تقدم هذا المثل في سورة يونس. ثم بين سبحانه هذا المثل فقال (كماء) أي كصفة وحال وهيئة ماء، فالمشبه هيئة الدنيا بهيئة ماء.
(أنزلناه من السماء فاختلط) أي تكاثف وغلظ (به) أي بسبب نزول الماء (نبات الأرض) حتى استوى والتف بعضه على بعض أو امتزج الماء بالنبات فَرَوَى وحسن.
وعلى هذا كان حق التركيب أن يقال فاختلط بنبات الأرض، لكن لما
كان كل من المختلطين موصوفاً بصفة صاحبه عكس للمبالغة في كثرته.
(فأصبح) أي صار النبات عن قريب (هشيماً) يابساً والهشيم الكسير واحده هشيمة وهو اليابس وهو من النبات ما تكسر بسبب انقطاع الماء عنه وَتَفتت، ورجل هشيم ضعيف البدن وتهشم عليه فلان إذا تعطف، واهتشم ما في ضرع الناقة إذا احتلبه، وهشم الثريد كسره وثرده. قال ابن قتيبة: كل ما كان رطباً فيبس فهو هشيم.
(تذروه) تفرقه وتنثره، قال أبو عبيدة وابن قتيبة: تذروه تنسفه (الرياح) قال ابن كيسان: أي تذهب به وتجيء والمعنى متقارب، وقرئ تذريه، يقال ذرته الريح تذروه وأذرته تذريه. وحكى الفراء: أذريت الرجل عن فرسه أي قلبته (وكان الله على كل شيء) من الأشياء (مقتدراً) أي كامل القدرة يحييه ويفنيه بقدرته لا يعجز عن شيء.(8/58)
الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا (46) وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا (47) وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا (48) وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (49)(8/59)
الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا (46)
(المال والبنون زينة الحياة الدنيا) يتجمل بهما فيها، وهذا رد على الرؤساء الذين كانوا يفتخرون بالمال والغنى والأبناء فأخبرهم الله سبحانه أن ذلك مما يتزين به في الدنيا لا مما ينتفع به في الآخرة كما قال في الآية الأخرى (إنما أموالكم وأولادكم فتنة) وقال (إن من أزواجكم وأولادكم عدواً لكم فاحذروهم) وقال (لا ينفع مال ولا بنون) الآية.
وهذا إشارة إلى قياس حذفت كبراه ونتيجته. ونظمه هكذا: المال والبنون زينة الحياة الدنيا، وكل ما هو زينتها فهو هالك غير باق ينتج المال والبنون هالكان، ثم يقال وكل ما هو هالك فلا يفتخر به، فالمال والبنون لا يفتخر بهما، ولهذا عقب هذه الزينة الدنيوية بقوله:
(والباقيات الصالحات) أي أعمال الخيرات التي تبقى له ثمرتها أبد الأبد، وهي ما كان يفعله فقراء المسلمين من الطاعات (خير) أي أفضل من هذه الزينة بالمال والبنين (عند ربك ثواباً) وأكثر عائدة ومنفعة لأهلها (وخير أملاً) يعني أن الأعمال الصالحة لأهلها من الأمل أفضل مما يؤمله أهل المال والبنين لأنهم ينالون بها في الآخرة أفضل مما كان يؤمله هؤلاء الأغنياء في الدنيا.(8/59)
وليس في زينة الدنيا خير حتى تفضل عليها الآخرة، ولكن هذا التفضيل خرج مخرج قوله تعالى (أصحاب الجنة يومئذ خير مستقراً) والظاهر أن الباقيات الصالحات كل عمل خير فلا وجه قصرها على الصلاة كما قال بعض، ولا لقصرها على نوع من أنواع الذكر كما قاله بعض آخر، ولا على ما كان يفعله فقراء المهاجرين باعتبار السبب، لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
وبهذا يعرف أن تفسير الباقيات الصالحات في الأحاديث بما سيأتي لا ينافي إطلاق هذا اللفظ على ما هو عمل صالح من غيرها.
عن عليّ قال: المال والبنون حَرْثُ الدنيا والعمل الصالح حَرْثُ الآخرة، وقد جمعهما الله لأقوام. عن ابن عباس قال: الباقيات الصالحات سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر.
وأخرج سعيد بن منصور وأحمد وأبو يعلى وابن جرير وابن أبي حاتم وابن حبان والحاكم وصححه وابن مردويه عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: " استكثروا من الباقيات الصالحات. قيل وما هن يا رسول الله؟ قال: التكبير والتهليل والتسبيح والتحميد ولا حول ولا قوة إلا بالله " (1).
وأخرج الطبراني وغيره عن أبي الدرداء مرفوعاً بلفظ " سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله هن الباقيات الصالحات ". وأخرج النسائي والطبراني في الصغير والبيهقي وغيرهم عن أبي هريرة مرفوعاً: خذوا جُنَّتَكم. قيل يا رسول الله من أي عدو قد حضر؟ قال: " بل جُنَّتُكم من النار قول سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله
_________
(1) المستدرك كتاب الدعاء 1/ 512.(8/60)
أكبر، فإنهن يأتين يوم القيامة مقدمات معقبات ومجنبات، وهي الباقيات الصالحات (1). وعن عائشة مرفوعاً وزادت ولا حول ولا قوة إلا بالله ". أخرجه ابن أبي شيبة وابن المنذر.
وكل هذه الأحاديث مصرحة بأنها الباقيات الصالحات. وأما ما ورد في فضل هذه الكلمات من غير تقييد بكونها المرادة في الآية فأحاديث كثيرة ولا فائدة في ذكرها هاهنا.
وعن قتادة: كل شيء من طاعة الله فهو من الباقيات الصالحات، فيندرج فيها ما فسرت به من الصلوات الخمس وأعمال الحج والعمرة وصيام رمضان والكلام الطيب وغير ذلك اندراجاً أولياً.
_________
(1) صحيح الجامع الصغير 3209 - الروض النضير 1092.(8/61)
وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا (47)
(ويوم نسير الجبال) بالنون على أن فاعله هو الله سبحانه، وقرئ بالتحتية وبالفوقية على أن الجبال فاعل، ويناسب الأولى قوله تعالى (وإذا الجبال سيرت) ويناسب الثانية قوله تعالى (وتسير الجبال سيراً) ومعنى تسيير الجبال إزالتها من أماكنها، وتسييرها كما تسير السحاب، ومنه قوله تعالى (وهي تمر مر السحاب) ثم تعود إلى الأرض بعد أن جعلها الله كما قال (وبست الجبال بسا فكانت هباء منبثاً) والمعنى نذهب بها عن وجه الأرض ونجعلها هباء منثوراً كما يسير السحاب.
والخطاب في قوله (وترى الأرض بارزة) لرسول الله صلى الله عليه وسلم أو لكل من يصلح للرؤية، والرؤية بصرية، ومعنى بروزها ظهورها وزوال ما يسترها من الجبال والشجر والبنيان.
وقيل المراد ببروزها بروز ما فيها من الكنوز والأموات كما قال سبحانه (وألقت ما فيها وتخلت) وقال (وأخرجت الأرض أثقالها) فيكون المعنى وترى(8/61)
الأرض بارزاً ما في جوفها. قال قتادة: ليس عليها بناء ولا شجر ولا بحر ولا حيوان وعن مجاهد نحوه.
(وحشرناهم) أي الخلائق، ومعنى الحشر الجمع أي جمعناهم إلى الموقف من كل مكان وفيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنه ماض مراد به المستقبل أي ونحشرهم، وكذلك وعرضوا ووضع الكتاب الآتيان. والثاني: أن الواو للحال أي نفعل التسيير في حال حشرهم ليشاهدوا تلك الأهوال، والثالث: للدلالة على أن حشرهم قبل التسيير وقبل البروز ليعاينوا تلك الأهوال، قاله الزمخشري. قال الشيخ: والأولى أن تكون الواو للحال.
(فلم نغادر) فلم نترك (منهم أحداً) والمفاعلة هنا ليس فيها مشاركة، يقال غادره وأغدره إذا تركه، ومنه الغدر، لأن الغادر يترك الوفاء للمغدور؛ قالوا: وإنما سمي الغدير غديراً لأن الماء ذهب وتركه والسيل غادره، ومنه غدائر المرأة لأنها تجعلها خلفها، والغديرة الشعر الذي نزل حتى طال.(8/62)
وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا (48)
(وعرضوا علِى ربك صفاً) أي مصفوفين كل أمة وزمرة صف، وقيل عرضوا صفاً واحداً كما في قوله (ثم ائتوا صفاً) أي جميعاً وهو أبلغ في القدرة؛ وقيل قياماً وفي الآية تشبيه حالهم بحال الجيش الذي يعرض على السلطان ليقضي بينهم لا ليعرفهم قاله الكرخي. وخرج الحافظ أبو القاسم عبد الرحمن بن منده في كتاب التوحيد عن معاذ بن جبل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله تبارك وتعالى ينادي بصوت رفيع غير فظيع: يا عبادي أنا الله لا إله إلا أنا أرحم الراحمين وأحكم الحاكمين وأسرع الحاسبين، يا عبادي لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون، أحضروا حجتكم وشروا جوابكم فإنكم مسؤولون محاسبون، يا ملائكتي أقيموا عبادي على أطراف أنامل أقدامهم للحساب ".(8/62)
قال القرطبي: هذا حديث غاية في البيان في تفسير الآية ولم يذكره كثير من المفسرين، وقد كتبناه في كتاب التذكرة. أهـ.
ويقال لهم على سبيل التقريع والتوبيخ أو قلنا لهم (لقد جئتمونا كما خلقناكم) أي مجيئاً كائناً كمجيئكم عند أن خلقناكم (أول مرة) أو كائنين كما خلقناكم أول مرة، أي حفاة عراة غرلاً لا مال ولا ولد، كما ورد ذلك في الحديث. قال الزجاج: أي بعثناكم واعدناكم كما خلقناكم، لأن قوله (لقد جئتمونا) معناه بعثناكم وبه قال الزمخشري.
(بل زعمتم) هذا ضرب وانتقال من كلام إلى كلام للتقريع والتوبيخ، وهو خطاب لمنكري البعث، أي زعمتم في الدنيا (أن لن نجعل لكم موعداً) نجازيكم بأعمالكم وننجز ما وعدناكم به من البعث والعذاب.(8/63)
وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (49)
(ووضع) العامة على بنائه للمفعول، وزيدُ بنُ عليّ على بنائه للفاعل وهو الله أو الملك وقوله (الكتاب) مرفوع على الأول ومنصوب على الثاني، والمراد به صحائف الأعمال، وإفراده لكون التعريف فيه للجنس والوضع إما حسي بأن توضع صحيفة كل واحد في يده، السعيد في يمينه والشقي في شماله أو في الميزان وإما عقلي أي أظهر عمل كل واحد من خير أو شر بالحساب الكائن في ذلك اليوم وقيل: توضع بين يدي الله تعالى.
(فترى المجرمين مشفقين مما فيه) أي خائفين وجلين مما في الكتاب الموضوع من الأعمال السيئة لما يتعقب ذلك من الافتضاح في ذلك الجمع والمجازاة بالعذاب الأليم (ويقولون) إذا رأوها (يا ويلتنا) يدعون على أنفسهم بالويل لوقوعهم في الهلاك وهو مصدر لا فعل له من لفظه ونداؤها على تشبيهها بشخص يطلب إقباله كأنه قيل يا هلاكنا أقبل فهذا أوانك ففيه استعارة مكنية وتخييلية، وفيه تقريع لهم وإشارة إلى أنه لا صاحب لهم غير الهلاك وطلبوا هلاكهم لئلا يروا ما هم فيه وقد تقدم تحقيقه في المائدة.(8/63)
(ما) أي شيء ثبت (لهذا الكتاب) حال كونه (لا يغادر) لا يترك معصية (صغيرة ولا) معصية (كبيرة إلا أحصاها) أي عدها وحواها وضبطها وأثبتها، قال ابن عباس: الصغيرة التبسم والكبيرة الضحك، وفي لفظ عنه الصغيرة التبسم بالاستهزاء بالمؤمنين والكبيرة القهقهة بذلك، وقال سعيد بن جبير الصغيرة الهم والمس والقبلة والكبيرة الزنا.
وأقول صغيرة وكبيرة نكرتان في سياق النفي فيدخل تحت ذلك كل ذنب يتصف بالصغر وكل ذنب يتصف بالكبر فلا يبقى شيء من الذنوب إلا أحصاه الله وما كان من الذنوب ملتبساً بين كونه صغيراً أو كبيراً فذلك إنما هو بالنسبة إلى العباد لا بالنسبة إلى الله سبحانه، وهذا لا ينافي قوله تعالى (إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه) الآية. إذ لا يلزم من العد عدم التكفير إذ يجوز أن تكتب الكبائر ليشاهدها العبد يوم القيامة ثم تكفر عنه فعلم قدر نعمة العفو عليه، قاله الكرخي والاستفهام للتعجب منه في ذلك.
(ووجدوا ما عملوا) في الدنيا من المعاصي الموجبة للعقوبة أو وجدوا جزاء ما عملوا (حاضراً) مكتوباً مثبتاً في كتابهم (ولا يظلم ربك أحداً) أي لا يعاقب أحداً من عباده بغير ذنب وجرم ولا ينقص فاعل الطاعة من أجره الذي يستحقه وإنما سمي هذا ظلماً بحسب عقولنا لو خليت ونفسها ولو فعله الله لم يكن ظلماً في حقه لأنه لا يسئل عما يفعل.
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " يعرض الناس يوم القيامة ثلاث عرضات: فأما عرضتان فجدال ومعاذير، وأما العرضة الثالثة فعند ذلك تطير الصحف في الأيدي فآخذ بيمينه وآخذ بشماله " (1) أخرجه الترمذي وقال: لا يصح من قبل أن الحسن لم يسمع من أبي هريرة وقد رواه بعضهم عن الحسن عن أبي موسى.
_________
(1) الترمذي كتاب القيامة باب 4 - الإمام أحمد 4/ 414.(8/64)
وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا (50) مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا (51) وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا (52) وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا (53)
ثم إنه سبحانه عاد إلى الرد على أرباب الخيلاء من قريش فذكر قصة آدم واستكبار إبليس عليه فقال(8/65)
وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا (50)
(وإذ قلنا للملائكة) أي واذكر وقت قولنا لهم (اسجدوا لآدم) سجود تحية وتكريم بالخرور كما مر تحقيقه (فسجدوا) طاعة لأمر الله وامتثالاً لطلبه السجود.
(إلا إبليس) فإنه أبى واستكبر ولم يسجد (كان من الجن) مستأنفة لبيان سبب عصيانه وأنه لم يكن من الملائكة فلهذا عمى، والاستثناء منقطع وإبليس هو أبو الجن وأصلهم كما أن آدم أصل الإنس وله ذرية ذكرت معه بعد، والملائكة لا ذرية لهم، وقيل كان من حي من الملائكة يقال لهم الجن خلقوا من نار السموم.
وعلى هذا القول فقد نقل عن ابن عباس أن هذا النوع يتوالد وليس
معصوماً والاستثناء متصل وكونه، من الملائكة لا ينافي كونه من الجن بدليل قوله
سبحانه (وجعلوا بينه وبين الجنة نسباً) وذلك أن قريشاً قالت: إن الملائكة بنات الله فهذا يدل على أن الملك يسمى جناً وتعضده اللغة لأن الجن من الاجتنان وهو الستر فتدخل الملائكة فيه، فكل ملائكة جن لاستتارهم وليس كل جن ملائكة.(8/65)
ووجه كونه من الملائكة أن الله سبحانه استثناه من الملائكة والاستثناء يفيد إخراج ما لولاه لدخل أو يصح دخوله وذلك يوجب كونه من الملائكة، ووجه من قال إنه من الجن هذه الآية. والجن جنس مخالف للملائكة. وأجيب عن الاستثناء بأنه منقطع كما تقدم وهو مشهور في كلام العرب قال تعالى (وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إنني براء مما تعبدون إلا الذي فطرني) وقال تعالى (لا يسمعون فيها لغواً إلا سلاماً).
(ففسق عن أمر ربه) أي خرج عن طاعته بترك السجود لأدم عليه السلام قال الفراء: تقول العرب فسقت الرطبة عن قشرها لخروجهما منه، قال النحاس: اختلف في معناه على قولين: الأول مذهب الخليل وسيبويه أن المعنى أتاه الفسق لما أمر فعمى فكان سبب الفسق أمر ربه كما تقول أطعمه من جوع، والقول الآخر قول قطرب أن المعنى على حذف المضاف أي فسق عن ترك أمره.
وعن ابن عباس قال: إن من الملائكة قبيلة يقال لهم الجن فكان إبليس منهم وكان يوسوس ما بين السماء والأرض فعصى فسخط الله عليه فمسخه شيطاناً رجيماً وعنه قال: كان خازن الجنان فسمي بالجان، وعن الحسن قال: قاتل الله أقواماً زعموا أن إبليس كان من الملائكة والله يقول كان من الجن وعنه قال: ما كان من الملائكة طرفة عين إنه لأصل الجن كما أن آدم أصل الإنس.
ثم إنه سبحانه عجب من حال من أطاع إبليس في الكفر والمعاصي وخالف أمر الله فقال (أفتتخذونه) كأنه قال أعقيب ما وجد منه من الإباء والفسق تتخذونه (و) تتخذون (ذريته) أي أولاده، وقيل أتباعه مجازاً، قال قتادة: يتوالدون كما يتوالد بنو آدم، وقال مجاهد: من ذرية إبليس لاقس وولهان وهما صاحبا الطهارة والصلاة اللذان يوسوسان فيهما ومن ذريته مرة وبه(8/66)
يكنى وزلنبور وبتر الأعور ومطروس وداسم.
(أولياء من دوني) فتطيعونهم بدل طاعتي وتستبدلونهم بي (و) الحال أن (هم) أي إبليس وذريته (لكم عدو) أي أعداء وأفرده لكونه اسم جنس أو لتشبيهه بالمصادر كما في قوله: (فإنهم عدو لي إلا رب العالمين) وقوله هم العدو أي كيف تصنعون هذا الصنيع وتستبدلون بمن خلقكم وأنعم عليكم بجميع ما أنتم فيه من النعم بمن لم يكن لكم منه منفعة قط بل هو عدو لكم يترقب حصول ما يضركم في كل وقت.
(بئس للظالمين) الواضعين للشيء في غير موضعه المستبدلين بطاعة ربهم طاعة الشيطان فبئس ذلك البدل الذي استبدلوه (بدلاً) عن الله سبحانه والتقدير بئس البدل إبليس وذريته.(8/67)
مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا (51)
(ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم) قال أكثر المفسرين: الضمير للشركاء؛ والمعنى أنهم لو كانوا شركاء لي في خلقهما وفي خلق أنفسهم لكانوا مشاهدين خلق ذلك مشاركين لي فيه ولكنهم لم يشاهدوا ذلك ولا أشهدتهم إياه أنا فليسوا لي بشركاء وهذا استدلال بانتفاء اللازم المساوي على انتفاء الملزوم.
وقيل الضمير للمشركين الذين التمسوا طرد فقراء المؤمنين والمراد أنهم ما كانوا شركاء لي في تدبير العالم بدليل أني ما أشهدتهم خلق ذلك، وقيل المعنى أن هؤلاء الظالمين جاهلون بما جرى به القلم في الأزل لأنهم لم يكونوا مشاهدين خلق العالم فكيف يمكنهم أن يحكموا بحسن حالهم عند الله، وقيل ما أشهدت الملائكة فكيف يعبدونهم، وقيل جميع الخلائق والأول من هذه الوجوه أولى لما يلزم في الوجهين الأخرين من تفكيك الضميرين وهذه الجملة مستأنفة لبيان عدم استحقاقهم للاتخاذ المذكور.(8/67)
وقرئ ما أشهدناهم، ويؤيد الأولى (وما كنت متخذ المضلين عضداً) أي ما اعتضدت بهم بل هم كسائر الخلق، وفيه وضع الظاهر موضع المضمر إذ المراد بالمضلين من انتفى عنهم إشهاد خلق السماوات والأرض، والعضد يستعمل كثيراً في معنى العون، وذلك أن العضد قوام اليد ومنه قوله سنشد عضدك بأخيك أي سنعينك ونقويك به، ويقال لم عضدت بفلان إذا استعنت به وذكر العضد على جهة المثل وأصله العضو الذي هو من المرفق إلى الكتف ففي الكلام استعارة.
وخص المضلين بالذكر لزيادة الذم والتوبيخ والمعنى ما استعنت بهم على خلقهما ولا شاورتهم وما كنت متخذ الشياطين أو الكافرين أعواناً، ووحد العضد لموافقة الفواصل. وقرئ ما كنت على أن الخطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم أي ما كنت يا محمد متخذاً لهم عضداً ولا صح لك ذلك، وفي عضد لغات أفصحها فتح العين وضم الضاد وبها قرأ الجمهور.
ثم عاد سبحانه إلى ترهيبهم بأحوال القيامة فقال(8/68)
وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا (52)
(و) اذكر (يوم يقول) الله عز وجل للكفار توبيخاً لهم وتقريعاً (نادوا شركائي الذين زعمتم) أنهم ينفعونكم ويشفعون لكم، وأضافهم سبحانه إلى نفسه جرياً على ما يعتقده المشركون تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً (فدعوهم) أي فعلوا ما أمرهم الله به من دعاء الشركاء واستغاثوا بهم والمعنى على الاستقبال كما هو ظاهر (فلم يستجيبوا لهم) ذلك ولم ينصروهم أي لم يقع منهم مجرد الاستجابة لهم فضلاً عن أن ينفعوهم أو يدفعوا عنهم.
(وجعلنا بينهم) أي بين هؤلاء المشركين وبين من جعلوهم شركاء لله أو بين المؤمنين والكفار (موبقاً) ذكر جماعة من المفسرين أنه اسم واد عميق في جهنم فرق الله تعالى به بينهم؛ وبه قال أنس وزاد: من قيح ودم.(8/68)
وقال ابن عمر: فرق الله به يوم القيامة بين أهل الهدى وأهل الضلاله، وقيل: هو نهر تسيل منه نار وعلى حافتيه حيات مثل البغال الدهم، وقيل: الموبق البرزخ البعيد لأنهم في قعر جهنم وهم في أعلى الجنان، وعلى هذا فهو اسم مكان.
قال ابن الأعرابي: كل حاجز بين الشيئين فهو موبق، وقال الفراء: الموبق المهلك، وبه قال مجاهد وابن عباس، والمعنى جعلنا تواصلهم في الدنيا مهلكاً لهم في الآخرة يقال وَبِق يَوْبَق فهو وَبِقٌ هكذا ذكره الفراء في المصادر، وحكى الكسائي وَبِق يَبِق وبوقاً فهو وابق، والمراد بالمهلك على هذا هو عذاب النار يشتركون فيه، والأول أولى لأن من جملة من زعموا أنهم شركاء لله الملائكة وعزير والمسيح فالموبق هو المكان الحائل بينهم، وقال أبو عبيدة: الموبق هنا الموعد للهلاك، وقد ثبت في اللغة أَوْبَقَهُم بمعنى أهلكهم ولكن المناسب لمعنى الآية هو المعنى الأول.(8/69)
وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا (53)
(ورأى المجرمون النار) أي عاينوها من مسيرة أربعين عاماً وهو موضوع موضع الضمير للإشارة إلى زيادة الذم لهم بهذا الوصف المسجل عليهم به (فظنوا) أي أيقنوا (أنهم مواقعوها) أي داخلوها وواقعون فيها، والمواقعة المخالطة بالوقوع فيها، وقيل: أن الكفار يرون النار من مكان بعيد فيظنون ذلك ظناً (ولم يجدوا عنها مصرفاً) أي معدلاً يعدلون إليه أو انصرافاً لأن النار قد أحاطت بهم من كل جانب.
قال الواحدي: اْلمَصْرِف الموضع الذي ينصرف إليه. وقال القتيبي: أي معدلاً ينصرفون إليه، وقيل ملجأً يلجأون إليه، والمعنى متقارب في الجميع.(8/69)
وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا (54) وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا (55) وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا (56) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا (57)
ولما ذكر سبحانه افتخار الكفرة على فقراء المسلمين بأموالهم وعشائرهم وأجابهم عن ذلك وضرب لهم الأمثال الواضحة، حكى بعض أهوال الآخرة فقال(8/70)
وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا (54)
(ولقد صرفنا) أي كررنا ورددنا وبينا (في هذا القرآن للناس) أي لأجلهم ولرعاية مصلحتهم ومنفعتهم (من كل مثل) من الأمثال التي من جملتها الأمثال المذكورة في هذه السورة ليتذكروا ويتعظوا، وقد تقدم تفسير هذه الآية في سورة بني إسرائيل وحين لم يترك الكفار ما هم فيه من الجدل بالباطل ختم الآية بقوله (وكان الإنسان أكثر شئ جدلاً) أي خصومة في الباطل.
قال الزجاج: المراد بالإنسان الكافر، واستدل عليه بقوله تعالى (ويجادل الذين كفروا بالباطل).
وقيل المراد به في الآية النضر بن الحرث؛ وقيل أراد أبي بن خلف، والظاهر العموم وأن هذا النوع أكثر شيء يتأتى منه الجدل جدلاً، ويؤيد هذا ما ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث عليّ أن النبي صلى الله عليه وسلم طرقه وفاطمة ليلاً فقال ألا تصليان، فقلت يا رسول الله إن أنفسنا بيد الله إن شاء أن يبعثنا بعثنا، فانصرف حين قلت ذلك ولم يرجع إليّ شيئاً، ثم سمعته يضرب فخذه ويقول (وكان الإنسان أكثر شيء جدلاً) (1).
_________
(1) مسلم 775 - البخاري 616.(8/70)
وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا (55)
(وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى) قد تقدم الكلام على مثل هذا في سورة بني إسرائيل، والناس هنا أهل مكة، والهدى القرآن أو محمد صلى الله عليه وسلم (ويستغفروا ربهم إلا أن تأتيهم سنة الأولين) المعنى على حذف مضاف؛ أي ما منع الناس من الإيمان والاستغفار إلا طلب أو انتظار إتيان سنة الأولين، وإنما احتيج إلى حذف المضاف إذ لا يمكن جعل إتيان سنة الأولين مانعاً عن إيمانهم، فإن المانع يقارن المنوع، وإتيان العذاب متأخر عن عدم إيمانهم بمدة كثيرة.
وزاد الاستغفار في هذه السورة لأنه قد ذكر هنا ما فرط منهم من الذنوب التي من جملتها جدالهم بالباطل، وسنة الأولين هو أنهم إذا لم يؤمنوا عذبوا عذاب الاستئصال. قال قتادة: عقوبة الأولين، وقال الزجاج: سنتهم هو قولهم (إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء) الآية.
(أو يأتيهم العذاب) أي عذاب الآخرة (قبلاً) جمع قبيل، قاله الفراء أي متفرقاً يتلو بعضه بعضاً، وقيل عياناً وجهاراً، قاله الأعمش، وقيل فجاءة. قاله مجاهد.
ويناسب ما قاله الفراء قراءة قُبُلاً بضمتين فإنه جمع قبيل نحو سبيل وسبل، والمراد أصناف العذاب ويناسب التفسير الثاني، أي عياناً قراءة قبَلاً بكسر القاف وفتح الباء أي مقابلة ومعاينة، وقرئ بفتحتين على معنى أو يأتيهم العذاب مستقبلاً، فحاصل معنى الآية أنهم لا يؤمنون ولا يستغفرون إلا عند نزول عذاب الدنيا المستأصل لهم أو عند إتيان أصناف عذاب الآخرة أو معاينته.(8/71)
وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا (56)
(وما نرسل المرسلين) من رسلنا إلى الأمم (إلا) حال كونهم (مبشرين) للمؤمنين (ومنذرين) للكافرين؛ فالاستثناء مفرغ من أعم العام وقد تقدم تفسير هذا.
(ويجادل الذين كفروا بالباطل) مستأنف (ليدحضوا به) أي ليزيلوا(8/71)
بالجدال الباطل (الحق) ويبطلوه، وأصل الدحض الزَّلْقَ، يقال دحضت رجله أي زلقت تدحض دحضاً، ودحضت الشمس عن كبد السماء أي زالت، ودحضت حجته دحوضاً بطلت، والدحض الطين لأنه يزلق فيه.
ومن مجادلة هؤلاء الكفار بالباطل قولهم للرسل: ما أنتم إلا بشر مثلنا، وقولهم: أبعث الله بشراً رسولاً ونحو ذلك (واتخذوا آياتي) أي القرآن (و) اتخذوا (ما أنذروا) به من الوعيد والتهديد، وما بمعنى الذي أو مصدرية، قاله أبو حيان (هزوا) أي لعباً وباطلاً، وقد تقدم هذا في البقرة.(8/72)
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا (57)
(ومن) أي لا أحد (أظلم) لنفسه (ممن ذكر) وعظ، وقد روعي لفظ من في خمسة ضمائر هذا أولها؛ وروعي معناها في خمسة أولها على قلوبهم بآيات ربه التنزيلية أو التكوينية أو مجموعهما.
(فأعرض عنها) أي عن قبولها فتهاون بها ولم يتدبرها حق التدبير ولم يتفكر فيها حق التفكر وتركها ولم يؤمن بها، وأتى بالفاء الدالة على التعقيب لأن ما هنا في الأحياء من الكفار فإنهم ذكروا فأعرضوا عقيب ما ذكروا، وقاله في السجدة بثم الدالة على التراخي، لأن ما هناك في الأموات من الكفار فإنهم ذكروا مرة بعد أخرى ثم أعرضوا بالموت فلم يؤمنوا.
(ونسي ما قدمت يداه) من الكفر والمعاصي فلم يتب عنها. وقال قتادة: ما سلف من الذنوب الكثيرة. قيل والنسيان هنا بمعنى الترك والتشاغل والتغافل عن كفره المتقدم، وقيل هو على حقيقته.
(إنا جعلنا على قلوبهم أكنة) أي أغطية جمع كنان، وفي القاموس إنه جمع كِنَ أيضاً؛ ونصه والكِن وقاء كل شيء وستره كَالْكِنَّة والْكِنان بكسرهما والجمع أكنان وأكنة والجملة تعليل لإعراضهم ونسيانهم. قال الزجاج: أخبر الله سبحانه أن هؤلاء طبع على قلوبهم (أن يفقهوه) أي لئلا يفقهوه (و) جعلنا (في آذانهم وقراً) أي ثقلاً وصمماً يمنع من استماعه سماع انتفاع، وقد تقدم تفسير هذا في الأنعام (وإن تدعهم إلى الهدى فلن يهتدوا إذاً أبداً) لأن الله تعالى قد طبع على قلوبهم بسبب كفرهم ومعاصيهم.(8/72)
وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا (58) وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا (59) وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا (60) فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا (61)(8/73)
وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا (58)
(وربك الغفور ذو الرحمة) أي كثير الرحمة بليغها وصاحب الرحمة التي وسعت كل شيء فلم يعاجلهم بالعقوبة، ولهذا قال (لو يؤاخذهم) الله (بما كسبوا) أي بسبب ما كسبوه من المعاصي التي من جملتها الكفر والمجادلة والإعراض. وقال ابن عباس بما عملوا (لعجل لهم العذاب) أي عذاب الاستئصال في الدنيا لاستحقاقهم لذلك (بل) جُعِلَ (لهم موعد) مصدر أو مكان أو زمان، أي أجل مقدر لعذابهم. قيل هو عذاب الآخرة؛ وقيل يوم بدر. وعن السدي يوم القيامة.
(لن يجدوا من دونه) أي من دون الله أو العذاب، والثاني أولى وأبلغ لدلالته على أنهم لا ملجأ لهم، فإن من يكون ملجأه العذاب كيف يرى وجه الخلاص (موئلاً) أي ملجأً يلجأون إليه ومرجعاً، وبه قال ابن عباس: وقال أبو عبيدة: منجأَ وبه قال ابن قتيبة وقيل محيصاً، وعن مجاهد قال محرزاً.(8/73)
وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا (59)
(وتلك القرى) أي قرى عاد وثمود ولوط وأمثالها (أهلكناهم) هذا خبر اسم الإشارة، والمعنى أهل القرى أهلكناهم في الدنيا (لما ظلموا) أي وقت وقوع الظلم منهم بالكفر والمعاصي.
(وجعلنا لمهلكهم) في الآخرة، الهلك هو مصدر هلك وقال(8/73)
الزجاج: اسم للزمان والتقدير لوقت مهلكهم (موعداً) أي وقتاً معيناً وهو يوم القيامة فليعتبروا بهم ولا يغتروا بتأخير العذاب عنهم.(8/74)
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا (60)
(و) اذكر (إذ قال موسى لفتاه) قيل ووجه ذكر هذه القصة في هذه السورة أن اليهود لما سألوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن قصة أصحاب الكهف وقالوا: إن أخبركم فهو نبي وإلا فلا. ذكر الله قصة موسى والخضر تنبيهاً على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يلزمه أن يكون عالماً بجميع القصص والأخبار، وقد اتفق أهل العلم على أن موسى المذكور هاهنا هو موسى ابن عمران من سبط لاوى بن يعقوب، قال الكرخي: هذا هو الأصح كما قاله ابن عباس وعليه الجمهور من العلماء وأهل التاريخ وليس في القرآن موسى غيره.
وقالت فرقة منهم نوف البكالي: إنه ليس موسى بن عمران وإنما موسى ابن ميشى بن يوسف بن يعقوب وكان نبياً قبل موسى بن عمران، وهذا باطل قد رده السلف الصالح من الصحابة فمن بعدهم، منهم ابن عباس كما في صحيح البخاري وغيره، كيف ولو أراد شخصاً آخر لوجب تعريفه بصفة توجب الامتياز بينهما وتزيل الشبهة، فلما لم يميزه بصفة علمنا أنه موسى بن عمران، والمراد بفتاه هو يوشع بن نون بن افرائيم بن يوسف. وقيل إنه أخو يوشع وقيل إنه عبده، بدليل قوله صلى الله عليه وسلم: " لا يقل أحدكم عبدي وأمتي وليقل فتاي وفتاتي " (1) والأول أولى وأصح، وقد نبأه الله بعد موسى.
قال الواحدي: أجمعوا على أنه يوشع بن نون وقد مضى ذكره في المائدة وفي آخر سورة يوسف. ومن قال إنه موسى بن ميشى قال: أن هذا الفتى لم يكن يوشع بن نون. قال الفراء: وإنما سمي فتى موسى لأنه كان ملازماً له
_________
(1) مسلم 2249 - البخاري 1251.(8/74)
يأخذ عنه العلم ويخدمه ويتبعه، وهذا بيان وجه إضافته لموسى وكان ابن أخته.
ومعنى (لا أبرح) لا أزال سائراً، ومنه قوله (لن نبرح عليه عاكفين)، وبرح إذا كان بمعنى زال يزال فهو من الأفعال الناقصة وخبره محذوف لدلالة ما بعده وهو (حتى أبلغ) أي أنتهي، قاله ابن زيد (مجمع البحرين) أي ملتقاهما. قال الزجاج: لا أبرح بمعنى لا أزال، وقد حذف الخبر لدلالة حال السفر عليه، ولأن قوله حتى أبلغ غاية مضروبة فلا بد لها من ذي غاية، فالمعنى لا أزال أسير إلى أن أبلغ، ويجوز أن يراد لا يبرح مسيري حتى أبلغ، وقيل معناه: لا أفارقك حتى أبلغ، وقيل: يجوز أن يكون من برح التام بمعنى زال يزول فلا تستدعي خبراً بمعنى لا أزول عما أنا عليه من السير والطلب ولا أفارقه.
قيل: المراد بالبحرين بحر فارس والروم وهما نحو المشرق والمغرب، قاله قتادة وقيل: بحر الأردن وبحر القلزم، ومجمع البحرين عند طنجة، قاله محمد ابن كعب، وقيل بإفريقية، قاله أبي بن كعب؛ وقيل: أن ملتقاهما عند البحر المحيط. وقالت طائفة؛ المراد بالبحرين موسى والخضر، وهو من الضعف بمكان. وقد حكى عن ابن عباس ولا يصح.
(أو أمضي) أي أسير (حقباً) أي زماناً طويلاً، قال الجوهري: الحقب بالضم ثمانون سنة. وقال مجاهد: سبعون خريفاً، وقيل سنة واحدة بلغة قريش، وفي معناه الحقبة بالكسر والضم وتجمع الأولى على حقب بكسر الحاء كَقِرْبَة وقِرَب والثانية على حُقَب بضم الحاء كَغُرْفَة وَغُرَف.
وقال النحاس: الذي يعرفه أهل اللغة أن الحقب والحقبة زمان من الدهر مبهم غير محدود، كما أن رهطاً وقوماً مبهمان غير محدودين وجمعه أحقاب، وسبب هذه العزمة على السير من موسى عليه السلام ما روي أنه سئل موسى من أعلم الناس؛ فقال أنا، فأوحى الله إليه أن عبداً لي بمجمع(8/75)
البحرين هو أعلم منك(8/76)
فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا (61)
(فلما بلغا) أي موسى وفتاه (مجمع بينهما) أي بين البحرين وأضيف مجمع إلى الظرف توسعاً.
وقيل: البين بمعنى الافتراق، أي البحران المفترقان يجتمعان هناك. وقيل الضمير لموسى وخضر، أي وصلا الموضع الذي يكون فيه اجتماع شملهما ويكون البين على هذا بمعنى الوصل لأنه من الأضداد والأول أولى (نسيا حوتهما) قال المفسرون: إنهما تزوَّدا حوتاً مملحاً مشقوق البطن في زنبيل، وكانا يصيبان منه عند حاجتهما إلى الطعام، وكان قد جعل الله فقْدَانه أمارة لهما على وجدان المطلوب، والمعنى أنهما نسيا تَفَقُّدَ أمره.
وقيل: الذي نسي إنما هو فتى موسى لأنه وكل أمر الحوت إليه وأمره أن يخبره إذا فقده، وإنما أضاف النسيان إليهما لأنهما تزوّداه لسفرهما، والثاني أولى لقوله (فإنى نسيت الحوت) وهو كقولهم نسوا زادهم وإنما ينساه متعهد الزاد، فلما انتهيا إلى ساحل البحر وضع فتاه المكتل الذي فيه الحوت فأحياه الله فتحرك واضطرب في المكتل ثم انسرب في البحر، ولهذا قال:
(فاتخذ سبيله في البحر سرباً) أي اتخذ الحوت سبيلاً سرباً، وهو النفق الذي يكون في الأرض للضب ونحوه من الحيوانات. قال سعيد بن جبير: أثره يابس في البحر كأنه في جحر، وذلك أن الله سبحانه أمسك جرية الماء على الموضع الذي انسرب فيه الحوت فصار كالطاق، فشبه مسلك الحوت في البحر مع بقائه وانجباب الماء عنه بالسرب الذي هو الكوة المحفورة في الأرض.
قال الفراء: لما وقع في الماء جمد مذهبه في البحر فكان كالسرب، فلما جاوزا ذلك المكان الذي كان عند الصخرة وذهب الحوت فيه انطلقا فأصابهما ما يصيب المسافر من النصب والكلال ولم يجد النصب حتى جاوزا الموضع الذي فيه الخضر ولهذا قال سبحانه:(8/76)
فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا (62) قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا (63) قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا (64) فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا (65) قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا (66) قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (67) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا (68)(8/77)
فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا (62)
(فلما جاوزا) مجمع البحرين الذي جعل موعداً للملاقاة (قال لفتاه آتنا غداءنا) هو ما يؤكل بالغداة، وأراد موسى أن يأتيه بالحوت الذي حملاه معهما (لقد لقينا من سفرنا هذا نصباً) أي تعباً وإعياء وإشارة هذا إلى السفر الكائن منهما بعد مجاوزة الوعد فإنهما لم يجدا النصب إلا في ذلك دون ما قبله، والنَّص بفتح النون والصاد وبضمهما وهما لغتان من لغات أربع في هذه اللفظة، قاله أبو الفضل الدارمي في لوامحه.(8/77)
قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا (63)
(قال) لموسى فتاه (أرأيت) معنى الاستفهام تعجيبة لموسى مما وقع له من النسيان هناك مع كون ذلك مما لا يكاد ينسى لأنه قد شاهد أمراً عظيماً من قدرة الله المباهرة (إذ أوينا إلى الصخرة) وكانت عند مجمع البحرين الذي هو الوعد وإنما ذكرها دون أن يذكر مجمع البحرين لكونها متضمنة لزيادة تعيين المكان لاحتمال أن يكون المجمع مكاناً متسعاً يتناول مكان الصخرة وغيره.
(فإني نسيت الحوت) أي نسيت أن أذكر لك أمره، وما شاهدت منه من الأمور العجيبة وأوقع النسيان على الحوت دون الغداء الذي تقدم ذكره لبيان أن ذلك الغداء المطلوب هو ذلك الحوت الذي جعلاه زاداً لهما وأمارة لوجدان مطلوبهما، ثم ذكر ما يجري مجرى السبب في وقوع ذلك النسيان فقال:(8/77)
(وما أنسانيه إلا الشيطان) بما يقع منه من الوسوسة (أن أذكره) بدل اشتمال من الضمير في (أنسانيه) وفي مصحف عبد الله (وما أنسانيه أن أذكره إلا الشيطان) (واتخذ سبيله في البحر عجباً) يحتمل أن يكون هذا من كلام يوشع، أخبر موسى أن الحوت اتخذ سبيله عجباً للناس، وموضع التعجب أن يحيا حوت قد مات وأكل شقه ثم يثب إلى البحر ويبقى أثر جريته في الماء لا يمحو أثرها جريان الماء.
ويحتمل أن يكون من كلام الله سبحانه لبيان طرف آخر من أمر الحوت فيكون ما بين الكلامين اعتراضاً، وقال أبو الشجاع في كتاب الطبري: أتيت به فرأيته فإذا هو شقة حوت بعين واحدة وشق آخر ليس فيه شيء من اللحم عليه قشرة رقيقة تحتها الشوك.(8/78)
قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا (64)
(قال) موسى لفتاه (ذلك) الذي ذكرت من فقد الحوت في ذلك الموضع (ما كنا نبغ) ونطلبه فإن الرجل الذي نريده هو هنالك، وياء نبغ من يا آت الزوائد فلا تثبت رسماً وقفا لا وصلاً وابن كثير أثبتها في الحالين (فارتدا على آثارهما قصصاً) أي رجعا على الطريق الذي جاءا منها يقصان أثرهما لئلا يخطئا طريقهما أي قاصين أو مقتصين والقصص في اللغة اتباع الأثر؛ قال قتادة: عودهما على بدئهما.(8/78)
فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا (65)
(فوجدا عبداً من عبادنا) هو الخضر في قول جمهور المفسرين وعلى ذلك دلت الأحاديث الصحيحة وخالف في ذلك من لا يعتدّ بقوله فقال ليس هو الخضر بل عالم آخر، وقيل كان ملكاً من الملائكة قيل سمي الخضر لأنه كان إذا صلى اخضر ما حوله، قاله مجاهد قيل: واسمه بليا بن ملكان وهو من نسل نوح.
عن ابن عباس: قال الخضر بن آدم لصلبه ونسىء له في أجله حتى(8/78)
يكذب الدجال وفيه نظر، وقيل كان من بني إسرائيل أو من أبناء الملوك تزهد وترك الدنيا، وأخرج البخاري وغيره عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: " إنما سمي الخضر لأنه جلس على فروة بيضاء فإذا هي تهتز من خلفه خضراء " (1) والخضر بكسر الخاء مع سكون الضاد وبفتح الخاء مع سكون الضاد وكسرها ففيه لغات ثلاثة، وهذا لقبه وكنيته أبو العباس.
ثم وصفه الله سبحانه فقال (آتيناه رحمة من عندنا) قيل الرحمة هي النبوة والهداية قاله ابن عباس، وقيل؛ النعمة التي أنعم الله بها عليه وهي الولاية وعليه الأكثر والجمهور من العلماء على أنه حي إلى يوم القيامة لشربه من ماء الحياة، والأصح ما ذهب إليه أهل الحديث من عدم حياته والله أعلم.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في كتاب الرد على المنطقيين:
ومن ملاحدة المتصوفة من يزعم أن أرسطو كان هو الخضر خضر موسى وقولهم هذا من أظهر الكذب البارد، والخضر على الصواب مات قبل ذلك بزمان طويل، والذين يقولون إنه حي كبعض العباد وبعض العامة وكثير من اليهود والنصارى غالطون في ذلك غلطاً لا ريب فيه، وسبب غلطهم أنهم يرون في الأماكن المنقطعة وغيرها من يظن أنه من الزهاد ويقول إنه الخضر، ويكون ذلك شيطاناً قد تمثل بصورة آدمي.
وهذا مما علمناه في وقائع كثيرة حتى في المكان الذي كتبت فيه هذا عند الربوة بدمشق رأى شخص بين الجبلين صورة رجل قد سد ما بين الجبلين وبلغ رأسه رأس الجبل وقال أنا الخضر وأنا نقيب الأولياء وقال للرجل الرائي أنت رجل صالح وأنت وليّ الله ومدَّ يده إلى فأس كان الرجل نسيه في مكان وهو ذاهب إليه فناوله إِياه وكان بينه وبين ذلك المكان نحو ميل؛ ومثل هذه الحكاية كثيرة.
_________
(1) البخاري كتاب الأنبياء باب 27 - الترمذي تفسير سورة 18/ 3.(8/79)
وكل من قال أنه رأى الخضر وهو صادق فإما أن يتخيل له في نفسه أنه رآه ويظن ما في نفسه كان في الخارج كما يقع لكثير من أرباب الرياضات، وإما أن يكون جنياً يتصور له بصورة إنسان ليضله وهذا كثير جداً قد علمنا منه ما يطول وصفه، وإما أن يكون رأى إنسياً ظن أنه الخضر وهو غالط في ظنه فإن قال له ذلك الجني أو الإنسي أنه الخضر فيكون قد كذب عليه، لا يخرج الصدق في هذا الباب عن هذه الأقسام الثلاثة.
وأما الأحاديث فكثيرة ولهذا لم ينقل عن أحد من الصحابة أنه رأى الخضر ولا اجتمع به لأنهم كانوا أكمل علماً وإيماناً من غيرهم فلم يكن يمكن شيطان التلبيس عليهم كما لبس على كثير من العباد، ولهذا كثير من الكفار اليهود والنصارى يأتيهم من يظنون أنه الخضر ويحضر في كنائسهم وربما حدثهم بأشياء وإنما هو شيطان جاء إليهم يضلهم، ولو كان الخضر حياً لوجب عليه أن يأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيؤمن به ويجاهد معه كما أخذ الله الميثاق على الأنبياء واتباعهم بقوله: (وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه).
والخضر قد أصلح السفينة لقوم من عرض الناس فكيف لا يكون بين محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وهو إن كان نبياً فنبينا أفضل منه، وإن لم يكن نبياً فأبو بكر وعمر أفضل منه، وهذا مبسوط في موضعه انتهى وسيأتي الكلام على ذلك في آخر هذه القصة إن شاء الله تعالي.
(وعلمناه) من علم الغيب الذي استأثرنا به، وفي قوله (من لدنا علماً) تفخيم لشأن ذلك العلم وتعظيم له، قال الزجاج: وفيما فعل موسى وهو من أجله الأنبياء من طلب العلم والرحلة في ذلك ما يدل على أنه لا ينبغي لأحد أن يترك طلب العلم وإن كان قد بلغ نهايته وأن يتواضع لمن هو أعلم منه.(8/80)