وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (10)
(وما جعله الله) أي الإمداد المدلول عليه بقوله أني ممدكم (إلا بشرى) أي بشارة لكم بنصره وهو استثناء مفرغ أي ما جعل إمدادكم بشيء من الأشياء إلا للبشرى لكم بالنصر (ولتطمئن به) أي بالإمداد (قلوبكم) وفي هذا إشعار بأن الملائكة لم يقاتلوا بل أمد الله المسلمين بهم للبشرى لهم ولتثبت قلوبهم يعني بنزول الملائكة، قال قتادة: وذكر لنا أن عمر قال أما يوم بدر فلا نشك أن الملائكة كانوا معنا، وأما بعد ذلك فالله أعلم.
(وما النصر إلا من عند الله) لا من عند غيره ليس للملائكة في ذلك أثر فهو الناصر على الحقيقة وليسوا إلا سبباً من أسباب النصر التي سببها الله لكم وأمدكم بها، وفيه تنبيه على أن الواجب على المسلم أن لا يتوكل إلا على الله في جميع أحواله ولا يثق بغيره فإن الله تعالى بيده الظفر والإعانة (إن الله عزيز) لا يغالب (حكيم) في كل أفعاله.(5/139)
إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ (11) إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ (12)(5/140)
إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ (11)
(إذ يغشيكم) الفاعل هو الله وفيه ثلاث قراآت سبعية يغشاكم كيلقاكم من غشيه: إذا أتاه وأصابه، ويغشيكم من أغشاه أي أنزله بكم وأوقعه عليكم، ويغشيكم من غشاه تغشية غطاه، وقيل الفاعل (النعاس أمنة منه) وهو النوم الخفيف والأكثر على الأول وهذه الآية تتضمن ذكر نعمة أنعم الله بها عليهم، وهي أنهم مع خوفهم من لقاء العدو والمهابة لجانبه، سكن الله قلوبهم وأمنها حتى ناموا آمنين غير خائفين وكان هذا النوم في الليلة التي كان القتال في غدها.
قيل وفي امتنان الله عليهم بالنوم في هذه الليلة وجهان.
أحدهما: أنه قواهم بالاستراحة على القتال من الغد.
والثاني: أنه أمنهم بزوال الرعب من قلوبهم، وقيل أن النوم غشيهم في حال التقاء الصفين، وقد مضى في يوم أحد نحو من هذا في سورة آل عمران.
عن علي قال: ما كان فينا فارس يوم بدر غير المقداد، ولقد رأيتنا وما فينا إلا نائم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي تحت شجرة حتى أصبح، قال مجاهد: أمنة منه أي أمنا من الله لكم من عدوكم أن يغلبكم.
وقال قتادة: رحمة منه أمنة من العدو، وعنه قال: النعاس في الرأس والنوم في القلب، وعنه قال: كان النعاس أمنة من الله وكان النعاس نعاسين يوم بدر ويوم أحد، وقال ابن مسعود: النعاس في القتال أمنة من الله، وفي الصلاة من الشيطان، وقيل أن ذلك النعاس كان في حكم المعجزة لأنه أمر خارق للعادة.(5/140)
(وينزل عليكم من السماء ماء) هذا المطر كان بعد النعاس وقيل قبله، وحكى الزجاج أن الكفار يوم بدر سبقوا المؤمنين إلى ماء بدر فنزلوا عليه، وبقي المؤمنون لا ماء لهم فأنزل الله المطر ليلة بدر.
والذي في سيرة ابن إسحق وغيره أن المؤمنين هم الذين سبقوا إلى ماء بدر وأنه منع قريشاً من السبق إلى الماء مطر عظيم، ولم يصب المسلمين منه إلا ما شد لهم دهس الوادى وأعانهم على المسير، وقال مجاهد: المطر أنزله الله عليهم قبل النعاس فأطفأ بالمطر الغبار والتبدت به الأرض وطابت به أنفسهم، وثبتت به أقدامهم.
وعن عروة بن الزبير قال: بعث الله السماء وكان الوادي دهساً وأصاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه ما لبد الأرض ولم يمنعهم المسير، وأصاب قريشاً ما لم يقدروا على أن يرتحلوا معه.
(ليطهركم به) أي ليرفع عنكم الأحداث والجنابة، عن ابن عباس: أن المشركين غلبوا المسلمين في أول أمرهم على الماء فظمأ المسلمون وصلوا مجنبين محدثين، وقد قدمنا أن المشهور في كتب السير المعتمدة أن المشركين لم يغلبوا المؤمنين على الماء بل المؤمنون هم الذين غلبوا عليه من الابتداء، وهذا المروي عن ابن عباس في إسناده العوفي وهو ضعيف جداً.
(ويذهب عنكم رجز الشيطان) أي وسوسته لكم بما كان قد سبق إلى قلوبكم من الخواطر التي منها الخوف والفشل حتى كانت حالكم حال من يساق إلى الموت، والرجز في الأصل العذاب الشديد، وأريد به هنا نفس وسوسة الشيطان مجازاً لمشقتها على أهل الإيمان كما قيل كل ما اشتدت مشقته على النفوس فهو رجز.
(وليربط على قلوبكم) بالنصر واليقين فيجعلها صابرة قوية ثابتة في مواطن الحرب، والربط في اللغة الشد، وكل من صبر على أمر فقد ربط نفسه عليه، قيل لفظة على صلة كذا في الوسيط وقيل للإستعلاء أي أن القلوب(5/141)
امتلأت من ذلك الربط حتى كأنه علا عليها وارتفع فوقها ذكره الواحدي.
(ويثبت به) أي بالماء الذي أنزله الله عند الحاجة اليه، وقيل الضمير راجع إلى الربط المدلول عليه بالفعل (الأقدام) أي أقدامكم في مواطن القتال ومعارك الجدال، وقال قتادة: كان الوادي دهاساً فلما مطروا اشتدت الرملة وسهل المشي عليه لأن العادة أن المشي في الرمل عسر فإذا نزل عليه الماء وجمد سهل المشي ولم يبق فيه غبار يشوش على الماشي فيه.(5/142)
إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ (12)
(إذ يوحي ربك) أي اذكر يا محمد وقت إيحاء ربك لأنه لا يقف على ذلك سواه وقيل يثبت الأقدام وقت الوحي، وليس لهذا التقييد معنى، وقيل العامل فيه ليربط، ولا وجه لتقييد الربط على القلوب بوقت الإيحاء (إلى الملائكة) الذين أمد بهم المسلمين (أني معكم) بالنصر والمعونة.
عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف قال: قال لي أبي: يا بني لقد رأيتنا يوم بدر وإن أحدنا ليسير سيفه إلى رأس المشرك فيقع رأسه عن جسده قبل أن يصل إليه السيف وعن الربيع بن أنس قال: كان الناس يوم بدر يعرفون قتلى الملائكة ممن قتلوهم بضرب على الأعناق وعلى البنان مثل سمة النار قد أحترق به.
(فثبتوا الذين آمنوا) أي بشروهم بالنصر والظفر أو ثبتوهم على القتال بالحضور معهم وتكثير سوادهم، أو قووا قلوبهم، وهذا أمر منه سبحانه للملائكة الذين أوحى إليهم بأنه معهم، والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها.
واختلفوا في كيفية هذه التقوية والتثبيت فقيل كما أن الشيطان له قوة في إلقاء الوسوسة في قلب ابن آدم بالشر، فكذلك للملك قوة إلقاء الإلهام في قلب ابن آدم بالخير، ويسمى ما يلقي الشيطان وسوسة، وما يلقي الملك لمة وإلهاماً فهذا هو التثبيت.
(سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب) أي الخوف فلا يكون لهم ثبات، وقد تقدم بيان معنى القاء الرعب في آل عمران، وكان ذلك نعمة من الله على المؤمنين حيث ألقى الرعب في قلوب الكفار، قيل هذه الجملة تفسير(5/142)
لقوله أني معكم وكانت الملائكة لا تعرف قتال بني آدم فعلمهم الله ذلك بقوله: (فاضربوا فوق الأعناق) المراد بها أنفسها، قاله عطية، وفوق زائدة قاله الأخفش وغيره.
وقال محمد بن يزيد: وهذا عند الجمهور خطأ لأن فوق يفيد معنى فلا يجوز زيادتها ولكن المعنى أنه أبيح لهم ضرب الوجوه وما قرب منها، وقيل المراد الرؤوس قال عكرمة: وهذا ليس بجيد لأن فوق لا يتصرف، وزعم بعضهم أنه يتصرف، وأنك تقول فوق رأسك برفع فوق وهو ظاهر قول الزمخشري، وقال أبو عبيدة إنها بمعنى (على) تقديره فاضربوهم على الأعناق وهو قريب من الأول.
وقال ابن قتيبة: هي بمعنى (دون) قال ابن عطية: وهذا خطأ بين، وغلط فاحش وإنما دخل عليه اللبس من قوله تعالى: (بعوضة فما فوقها) أي فما دونها، وليست فوق هنا بمعنى دون، وإنما المراد فما فوقها في القلة والصغر، وعن الضحاك قال: اضربوا الرقاب وقيل المراد بفوق الأعناق أعاليها لأنها المفاصل التي يكون الضرب فيها أسرع إلى القطع، قاله في الكشاف، قيل هذا أمر للملائكة فيكون متصلاً بما قبله، وقيل للمؤمنين فيكون منقطعاً عما قبله، وعلى الأول قيل هو تفسير لقوله فثبتوا الذين آمنوا.
(واضربوا منهم كل بنان) أي كل مفصل، قال الزجاج: واحد البنان بنانة وهي هنا الأصابع وغيرها من الأعضاء، والبنان مشتق من قولهم أبن الرجل بالمكان إذا أقام به لأنه يعمل بها ما يكون للإقامة والحياة، وقيل المراد بالبنان هنا أطراف الأصابع من اليدين والرجلين وهو عبارة عن الثبات في الحرب، فإذا ضربت البنان تعطل من المضروب القتال بخلاف سائر الأعضاء.
قال ابن فارس: البنان الأصابع، وقال عطية: كل مفصل بنانة، وقال ابن عباس: الأطراف، وقال أبو الهيثم: البنان المفاصل قيل أمرهم الله بضرب أعلى الجسد، وهو الرأس وفيه هلاك الإنسان، وبضرب أضعف الأعضاء وهو البنان، وفيه تعطيل حركة الإنسان فيدخل في ذلك كل عضو في الجسد.(5/143)
ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (13) ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ (14) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ (15)(5/144)
ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (13)
(ذلك) إشارة إلى ما وقع عليهم من القتل والأسر ودخل في قلوبهم من الرعب (بأنهم شاقوا الله ورسوله) أي بسبب مشاقتهم، والمشاقة المخالفة وأصلها من المجانبة وكذا الشقاق أصله أن يصير كل واحد من الخصمين في شق كأنهم صاروا في شق وجانب عن شق المؤمنين وجانبهم، وهذا مجاز معناه أنهم شاقوا أولياء الله وهم المؤمنون أو شاقوا دين الله وقد تقدم تحقيق ذلك.
(ومن يشاقق الله) أي يخالفه ويجانبه (ورسوله فإن الله شديد العقاب) له يعاقبه بسبب ما وقع منه من الشقاق يعني أن الذي نزل بهم في ذلك اليوم من القتل والأسر شيء قليل فيما أعد الله لهم من العقاب يوم القيامة، والشرطية تكملة لما قبلها وتكرير لمضمونه وتحقيق للسببية بالطريق البرهاني، كأنه قيل ذلك العقاب الشديد بسبب مشاقتهم لله تعالى ورسوله وكل من يشاقق الله ورسوله كائناً من كان فله بذلك عقاب شديد، فإذا لهم بسبب مشاقتهم عقاب شديد قاله أبو السعود(5/144)
ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ (14)
(ذلكم) إشارة إلى ما تقدم من العقاب والعذاب بالقتل والأسر، وفيه أوجه منها العقاب ذلكم أو الأمر ذلكم (الثاني) ذلكم العقاب (فذوقوه) الخطاب هنا للكافرين، كما أن الخطاب في قوله ذلكم للنبي - صلى الله عليه وسلم - أو لكل من يصلح للخطاب، وأشار بالذوق إلى أن عذاب الدنيا عاجل يسير بالإضافة إلى المؤجل.
(وأنّ للكافرين عذاب النار) معطوفة على ما قبلها فتكون الإشارة على هذا إلى العقاب العاجل الذي أصيبوا به، ويكون ذلك إشارة إلى العقاب(5/144)
الآجل الذي أعده الله لهم في الآخرة، ووضع الظاهر فيه موضع المضمر للدلالة على أن الكفر سبب العذاب الآجل أو الجمع بينهما، وفي (أن) وجوه خمسة ذكرها السمين.(5/145)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ (15)
(يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفاً) الزحف الدنو قليلاً قليلاً وأصله الإندفاع على الآلية ثم سمى كل ماش في الحرب إلى آخر زاحفاً، والتزاحف التداني والتقارب، يقال زحف إلى العدو زحفاً وازدحف القوم أي مشى بعضهم إلى بعض، ويطلق على الجيش الكثير زحف تسمية بالمصدر والجمع زحوف، أي حال كونكم زاحفين إلى الكفار أو حال كون الكفار زاحفين إليكم أو متزاحفين على أدبارهم في بطء السير، وذلك لأن الجيش إذا كثر والتحم بعضهم ببعض يتراءى أن سيره بطيء وإن كان في نفس الأمر سريعاً فالمقصود من هذه الحال بعد كون المراد التشبيه ما يلزم هذه المشابهة وهو الكثرة أي مجتمعين كأنهم لكثرتهم يزحفون.
(فلا تولوهم الأدبار) أي ظهوركم منهزمين منهم، فإن المنهزم يولي ظهره ودبره. نهى الله المؤمنين أن ينهزموا عن الكفار إذا لقوهم وقد دب بعضهم إلى بعض للقتال وظاهر هذه الآية العموم لكل المؤمنين في كل زمن وعلى كل حال إلا في حالة التحريف والتحيز.
وقد روي عن عمر وابن عمر وابن عباس وأبي هريرة وأبي سعيد الخدري وأبي بصرة وعكرمة ونافع والحسن وقتادة وزيد بن أبي حبيب والضحاك أن تحريم الفرار من الزحف في هذه الآية مختص بيوم بدر، وأن أهل بدر لم يكن لهم أن ينحازوا، ولو انحازوا لانحازوا إلى المشركين إذ لم يكن في الأرض يومئذ مسلمون غيرهم ولا لهم فئة إلا النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فأما بعد ذلك فإن بعضهم فئة لبعض، وبه قال أبو حنيفة، قالوا ويؤيده قوله:(5/145)
وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (16)
(ومن يولهم يومئذ دبره) فإنه إشارة إلى يوم بدر، وقيل أن هذه(5/145)
الآية منسوخة بآية الضعف.
وذهب جمهور العلماء إلى أن هذه الآية محكمة عامة غير خاصة وأن الفرار من الزحف محرم، ويؤيد هذا أن هذه الآية نزلت بعد انقضاء الحرب في يوم بدر وأجيب عن قول الأولين بأن الإشارة في (يومئذ) إلى يوم بدر بأن الإشارة إلى يوم الزحف كما يفيده السياق.
ولا منافاة بين هذه الآية وآية الضعف بل هذه الآية مقيدة بها فيكون الفرار من الزحف محرماً بشرط ما بينه الله في آية الضعف.
ولا وجه لما ذكروه من أنه لم يكن في الأرض يوم بدر مسلمون غير من حضرها فقد كان في المدينة إذ ذاك خلق كثير لم يأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالخروج، لأنه صلى الله عليه وسلم ومن خرج معه لم يكونوا يرون في الابتداء أنه سيكون قتال.
ويؤيد هذا ورود الأحاديث الصحيحة المصرحة بأن الفرار من الزحف من جملة الكبائر كما في حديث: اجتنبوا السبع الموبقات وفيه " والتولي يوم الزحف " ونحوه من الأحاديث، وهذا البحث تطول ذيوله وتتشعب طرقه وهو مبين في مواطنه، وورد عن جماعة من الصحابة أن التولي يوم الزحف من الكبائر.
قال ابن عطية: والإدبار جمع دبر، والعبارة بالدبر في هذه الآية متمكنة في الفصاحة لما في ذلك من الشناعة على الفار والذم له.
قلت ويطلق الدبر على مقابل القبل وعلى الظهر وهو المراد هنا، والمقصود ملزوم تولية الظهر وهو الانهزام، وهذا من باب التعريض حيث ذكر لهم حالة تستهجن من فاعلها فأتى بلفظ الدبر دون الظهر لذلك، وبعض أهل علم البيان يسمي هذا النوع كناية وليس بشيء.(5/146)
وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (16)
(ومنِ يولهم يومئذ) أي يوم لقيتموهم (دبره إلا متحرفاً لقتال) أي منعطفاً ومائلاً إليه، والنصب على الحال أو الاستثناء من ضمير المؤمنين أي ومن يولهم إلا رجلاً منهم متحرفاً، واللام للتعليل أي لأجل قتال أي لأجل التمكن منه، والتحرف الزوال عن جهة الاستواء والمراد به هنا التحريف من جانب إلى جانب في المعركة طلباً لمكائد الحرب وخدعاً للعدو، كمن يوهم أنه منهزم ليتبعه العدو، فيكر عليه ويتمكن منه ونحو ذلك من مكائد الحرب، فإن الحرب خدعة.
(أو متحيزاً إلى فئة) أي منضماً وصائراً إلى جماعة من المسلمين غير الجماعة المقابلة للعدو أي رجلاً منهم متحرفاً أو متحيزاً، ووزن متحيز متفيعل لا متفعل لأنه من حاز يحوز فبناء متفعل منه متحوز، والتحيز والتحوز الإنضمام وتحوزت الحية انطوت، وحزت الشيء ضممته والحوزة ما يضم الأشياء.
(فقد باء) أي من ينهزم ويفر من الزحف إلا في هاتين الحالتين فقد رجع (بغضب) كائن (من الله ومأواه جهنم) أي المكان الذي يأوي إليه هو النار ففراره أوقعه إلى ما هو أشد بلاء مما فر منه وأعظم عقوبة، والمأوى ما يأوي إليه الإنسان (وبئس المصير) ما صار إليه من عذاب النار.
وقد اشتملت هذه الآية على هذا الوعيد الشديد لمن يفر عن الزحف وفي ذلك دلالة على أنه من الكبائر الموبقة.(5/147)
فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (17) ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ (18)(5/148)
فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (17)
(فلم تقتلوهم) أي إذا عرفتم ما قصه الله عليكم من إمداده لكم بالملائكة وإيقاع الرعب في قلوبهم فلم تقتلوهم بقوتكم (ولكن الله قتلهم) بما يسره لكم من الأسباب الموجبة للنصر، قال الزمخشري الفاء في (فلم) جواب شرط محذوف أي وإن افتخرتم بقتلهم فلم تقتلوهم أنتم، وقال الشيخ: وليست جواباً بل لربط الكلام بعضه ببعض.
(وما رميت إذ رميت) اختلف المفسرون في هذا الرمي على أقوال فروي عن مالك أن المراد به ما كان منه صلى الله عليه وآله وسلم في يوم حنين فإنه رمى المشركين بقبضة من حصباء الوادي، فأصابت كل واحد منهم، وقيل المراد به الرمية التي رمى رسول الله صلى الله عليه وسلم أبي بن خلف بالحربة في عنقه فانهزم ومات منها، وقيل المراد به السهم الذي رمى به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في حصن خيبر، فسار في الهواء حتى أصاب ابن أبي الحقيق وهو على فراشه.
وهذه الأقوال ضعيفة فإن الآية نزلت عقب وقعة بدر، وأيضاً المشهور في كتب السير والحديث في قتل ابن أبي الحقيق أنه وقع على صورة غير هذه الصورة والصحيح كما قال ابن إسحاق وغيره: أن المراد بالرمي المذكور في هذه الآية هو ما كان منه صلى الله عليه وآله وسلم في يوم بدر، فإنه أخذ قبضة من تراب فرمى بها في وجوه المشركين فأصابت كل واحد منهم، ودخلت في عينيه ومنخريه وأنفه.(5/148)
وقال ثعلب المعنى وما رميت الفزع والرعب في قلوبهم إذ رميت بالحصباء فانهزموا (ولكن الله رمى) أي أعانك وأظفرك، والعرب تقول رمى الله لك أي أعانك وأظفرك وصنع لك، وقد حكى مثل هذا أبو عبيدة في كتاب المجاز، قال محمد بن يزيد المبرد: المعنى وما رميت بقوتك إذ رميت ولكنك بقوة الله رميت.
وقيل المعنى أن الرمية بتلك القبضة من التراب التي رميتها لم ترمها أنت على الحقيقة لأنك لو رميتها ما بلغ أثرها إلا ما يبلغه رمي البشر، ولكنها كانت رمية الله حيث أثرت ذلك الأثر العظيم، فأثبت الرمية لرسول الله صلى الله عليه وسلم لأن صورتها وجدت منه، ونفاها عنه لأن أثرها الذي لا يطيقه البشر فعل الله عز وجل فكأن الله فاعل الرمية على الحقيقة وكأنها لم توجد من رسول الله صلى الله عليه وسلم أصلاً، هكذا في الكشاف.
وفي الآية بيان أن فعل العبد مضاف إليه كسباً وإلى الله خلقاً لا كما تقوله الجبرية والمعتزلة لأنه أثبت الفعل للعبد ثم نفاه عنه وأثبته لنفسه، فصح هذا النفي والإثبات، قال الكرخي: نفى الفعل عنهم وعنه باعتبار الإيجاد إذ الموجد حقيقة هو الله تعالى، وإثباته لهم وله باعتبار الكسب والصورة.
قال مجاهد: هذا لمحمد- صلى الله عليه وسلم - حين حصب الكفار، وقال قتادة: رماهم يوم بدر بالحصباء، وعن حكيم بن حزام قال: لما كان يوم بدر سمعنا صوتاً من السماء إلى الأرض كأنه صوت حصاة وقعت في طست ورمى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بتلك الحصباء وقال: شاهت الوجوه فانهزمنا فذلك قوله تعالى: (وما رميت إذ رميت) الآية وعن جابر نحوه.
وعن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي: ناولني قبضة من حصباء فناوله فرمى بها في وجوه القوم فما بقي أحد من القوم إلا(5/149)
امتلأت عيناه من الحصباء فنزلت هذه الآية، وقال ابن المسيب: أخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حربته في يده فرمى بها أبي بن خلف وكسر ضلعاً من أضلاعه، وفي ذلك أنزل الله (وما رميت إذ رميت) وعن الزهري نحوه وإسناده صحيح إليهما.
قال ابن كثير: وهذا القول عن هذين الإمامين غريب جداً، ولعلهما أرادا أن الآية تتناوله بعمومها وهكذا قال فيما قاله عبد الرحمن بن جبير أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دعا بقوس فرمى بها الحصن فأقبل السهم حتى قتل ابن أبي الحقيق في فراشه فأنزل الله (وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى) (1).
(وليبلي المؤمنين منه بلاء حسناً) البلاء يستعمل في الخير والشر على حد (وبلوناهم بالحسنات والسيئات) والمراد هنا الخير والنعمة، وعليه أجمع المفسرين والمعنى ولينعم على المؤمنين بالغنيمة إنعاماً جميلاً أي للإنعام عليكم بنعمه الجليلة فعل ذلك لا لغيره.
وقيل التقدير لكن الله رمى ليمحق الكافرين وليبلي المؤمنين، وقال عروة ابن الزبير: أي ليعرف المؤمنين من نعمته عليهم في إظهارهم على عدوهم مع كثرة عددهم وقلة هؤلاء ليعرفوا بذلك حقه، ويشكروا بذلك نعمته (إن الله سميع) لدعائهم (عليم) بأحوالهم.
_________
(1) ابن كثير 2/ 296.(5/150)
ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ (18)
(ذلكم) أي البلاء الحسن والقتل والرمي (وأن الله موهن كيد الكافرين) أي إن الغرض منه بما وقع مما حكته الآيات السابقة إبلاء المؤمنين وتوهين كيد الكافرين.(5/150)
إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (19) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (20)(5/151)
إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (19)
(إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح) الاستفتاح طلب النصر، وقد اختلف في المخاطبين بالآية من هم فقيل إنها خطاب للكفار تهكماً بهم لأنهم الذين وقع بهم الهلاك والذلة، والمعنى أن تستنصروا الله على محمد فقد جاءكم النصر وقد كانوا عند خروجهم من مكة سألوا الله أن ينصر أحق الطائفتين وأعلى الجندين وأهدى الفئتين وأكرم الحزبين بالنصر والظفر، وهو في نفس الأمر دعاء عليهم وإن أرادوا به الدعاء على محمد وحزبه - صلى الله عليه وسلم -، فتهكم الله بهم وسمى ما حل بهم من الهلاك نصراً.
ومعنى بقية الآية على هذا القول (وإن تنتهوا) عما كنتم عليه من الكفر والعداوة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - (فهو) أي الانتهاء (خير لكم وإن تعودوا) إلى ما كنتم عليه من الكفر والعداوة (نعد) بتسليط المؤمنين عليكم ونصرهم كما سلطناهم ونصرناهم في يوم بدر، وقال قتادة: نعد لكم بالقتل والأسر.
(ولن تغني عنكم فئتكم) أي جماعتكم (شيئاً ولو كثرت) أي لا تغني عنكم في حال من الأحوال ولو في حال كثرتها، ثم قال (وإن) بالكسر استئنافاً وبفتحها على تقدير اللام (الله مع المؤمنين) أي محمد وأصحابه قاله السدي ومن كان الله معه فهو المنصور ومن كان الله عليه فهو المخذول.
وقيل أن الآية خطاب للمؤمنين والمعنى إن تستنصروا الله فقد جاءكم النصر في يوم بدر، وإن تنتهوا عن مثل ما فعلتموه من أخذ الغنائم وفداء(5/151)
الأسرى قبل الإذن لكم بذلك وعن التكاسل في القتال والرغبة عما يختاره الرسول فهو خير لكم وإن تعودوا إلى مثل ذلك نعد إلى توبيخكم كما في قوله (لولا كتاب من الله سبق) الآية.
ولا يخفى أنه يأبى هذا القول معنى (ولن تغني عنكم فئتكم شيئاً) ويأباه أيضاً أن الله مع المؤمنين وتوجيه ذلك لا يمكن إلا بتكلف وتعسف.
وقيل أن الخطاب في أن تستفتحوا للمؤمنين وفيما بعده للكافرين، ولا يخفى ما في هذا من تفكيك النظم وعود الضمائر الجارية في الكلام على نمط واحد إلى طائفتين مختلفتين.(5/152)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (20)
(يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله ورسوله) أمر الله سبحانه المؤمنين بطاعته وطاعة رسوله في أمر الجهاد لأن فيه بذل المال والنفس، (ولا تولوا) نهاهم عن التولي عن رسوله، فالضمير في (عنه) عائد إلى الرسول لأن طاعة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هي من طاعة الله (ومن يطع الرسول فقد أطاع الله) ويحتمل أن يكون راجعاً إلى الله وإلى رسوله كما في قوله: (والله ورسوله أحق أن يرضوه) وقيل راجع إلى الأمر الذي دل عليه أطيعوا.
هذا تفسير الآية على ظاهر الخطاب للمؤمنين وبه قال الجمهور وقيل أنه خطاب للمنافقين، والمعنى يا أيها الذين آمنوا بألسنتهم فقط قال ابن عطية: وهذا وإن كان محتملاً على بعد فهو ضعيف جداً لأن الله وصف من خاطبه في هذه الآية بالإيمان وهو التصديق، والمنافقون لا يتصفون من التصديق بشيء.
وأبعد من هذا من قال الخطاب لبني إسرائيل فإنه أجنبي من الآية (وأنتم تسمعون) ما يتلى عليكم من الحجج والبراهين والقرآن والمواعظ وتصدقون بها ولستم كالصم البكم.(5/152)
وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (21) إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (22) وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24)(5/153)
وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (21)
(ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا) وهم المشركون أو المنافقون أو اليهود أو الجميع من هؤلاء فإنهم يسمعون بآذانهم من غير فهم ولا عمل (وهم لا يسمعون) سماع تدبر واتعاظ أي فهم كالذي لم يسمع أصلاً لأنه لم ينتفع بما سمعه، وهذه صفة المنافقين أو المشركين(5/153)
إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (22)
(إن شر الدواب) أي ما دب على وجه الأرض وإطلاق الدابة على الإنسان حقيقي لما ذكروه في كتب اللغة من أنها تطلق على كل حيوان ولو آدمياً، وفي المصباح الدابة كل حيوان في الأرض مميزاً أو غير مميز.
(عند الله) أي في حكمه (الصم البكم) أي الذين لا يسمعون ولا ينطقون، وصفوا بذلك مع كونهم ممن يسمع وينطق لعدم انتفاعهم بالسمع والنطق (الذين لا يعقلون) ما فيه النفع لهم فيأتونه وما فيه الضرر عليهم فيجتنبونه فهم شر الدواب عند الله لأنها تميز بعض تمييز، وتفرق بين ما ينفعها ويضرها، قال ابن عباس: هم نفر من قريش من بني عبد الدار، وعن ابن جريج قال: نزلت هذه الآية في النضر بن الحرث وقومه.(5/153)
وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23)
(ولو علم الله فيهم) أي في هؤلاء الصم والبكم (خيراً) أي خير (لأسمعهم) سماعاً ينتفعون به ويتعقلون عنده الحجج والبراهين، قال الزجاج: لأسمعهم جواب كل ما سألوا عنه، وقيل لأسمعهم كلام الموتى(5/153)
الذين طلبوا إحياءهم لأنهم طلبوا إحياء قصي بن كلاب وغيره ليشهدوا بنبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - وقال عروة بن الزبير: لأسمعهم أي لأنفذ لهم قولهم الذي قالوا بألسنتهم ولكن القلوب خالفت ذلك منهم.
(ولو أسمعهم) فرضاً وقد علم أن لا خير لهم (لتولوا) عنه ولم ينتفعوا بما يسمعون من المواعظ والدلائل ولم يستقيموا (وهم معرضون) عن قبوله عناداً وجحوداً لأنه قد سبق في علمه أنهم لا يؤمنون.(5/154)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24)
(يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول) الأمر هنا بالاستجابة مؤكد لما سبق من الأمر بالطاعة والاستجابة الطاعة، قال أبو عبيدة: معنى استجيبوا (أجيبوا) والسين والتاء زائدتان وإن كان استجاب يتعدى باللام وأجاب بنفسه كما في قوله (يا قومنا أجيبوا داعي الله) وقد يتعدى استجاب بنفسه.
(إذا دعاكم) وحد الضمير هنا كما وحده في قوله: (ولا تولوا عنه) لان استجابة الرسول استجابة لله تعالى، وإنما يذكر أحدهما مع الآخر للتوكيد، وقد تقدم وجه ذلك (لما يحيييكم) أي استجيبوا لما يحيييكم إذا دعاكم، ولا مانع من أن تكون اللام متعلقة بدعا أي إذا دعاكم إلى ما فيه حياتكم من علوم الشريعة، لأن العلم حياة، كما أن الجهل موت.
لا تعجبنّ الجهولَ حلّته ... فذاك ميت وثوبه كفن
قال الجمهور من المفسرين: المعنى استجيبوا للطاعة وما تضمنه القرآن من أوامر ونواهي ففيه الحياة الأبدية والنعمة السرمدية، وقيل المراد الجهاد فإنه سبب الحياة في الظاهر لأن العدو إذا لم يغُز غزا، قاله ابن إسحق، وقال السدي: هو الإيمان لأن الكافر ميت فيحيا بالإيمان، وقال مجاهد: هو الحق.
وقيل هو الشهادة لأن الشهداء أحياء عند ربهم يرزقون، وعن قتادة(5/154)
قال: هذا هو القرآن فيه الحياة والثقة والنجاة والعصمة في الدنيا والآخرة، وقال عروة ابن الزبير: للحرب التي أعزكم الله بها بعد الذل، وقواكم بها بَعْد الضعف ومنعكم بها من العذاب بعد القهر منهم لكم.
وقد ثبت في الصحيح من حديث أبي سعيد بن المعلى قال: كنت أصلي في المسجد فدعاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم أجبه ثم أتيته فقلت: يا رسول الله إني كنت أصلي فقال: ألم يقل الله تعالى: (استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم) الحديث (1).
وعن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج على أبي بن كعب وهو يصلي فقال: يا أُبَيّ فالتفت أبي ولم يجبه، الحديث وفيه فقال: إني كنت في الصلاة فقال: أفلم تجد فيما أوحى الله إلى (استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم)؟ قال: بلى ولا أعود إن شاء الله تعالى، أخرجه الترمذي وقال حسن صحيح.
وهذه الإجابة مختصة بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وليس لأحد أن يقطع صلاته لدعاء أحد آخر وقيل لو دعاه أحد لأمر مهم لا يحتمل التأخير فله أن يقطع صلاته والأول أولى.
ويستدل بهذا الأمر بالاستجابة على أنه لا بد من الإجابة في كل ما دعا الله ورسوله إليه، فيجب على كل مسلم إذا بلغه قول الله أو قول رسوله في حكم من الأحكام الشرعية أن يبادر إلى العمل به كائناً ما كان، ويدع ما خالفه من الآراء وأقوال الرجال.
وفي هذه الآية الشريفة أعظم باعث على العمل بنصوص الأدلة وترك التقليد بالمذاهب وعدم الاعتداد بما يخالف ما في الكتاب والسنة كائناً ما كان.
_________
(1) ابن كثير 2/ 297.(5/155)
(واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه) قيل معناه بادروا إلى الاستجابة قبل أن لا تتمكنوا منها بزوال القلوب التي تعقلون بها بالموت الذي كتبه الله عليكم وقيل معناه أنه خاف المسلمون يوم بدر كثرة العدو فأعلمهم الله أنه يحول بين المرء وقلبه بأن يبدلهم بعد الخوف أمناً ويبدل عدوهم من الأمن خوفاً، واختار ابن جرير أن هذا من باب الإخبار من الله عز وجل بأنه أملك لقلوب عباده منهم وأنه يحول بينهم وبينها إذا شاء حتى لا يدرك الإنسان شيئاً إلا بمشيئته عز وجل.
ولا يخفاك أنه لا مانع من حمل الآية على هذه المعاني، وقال ابن عباس: يحول بين المؤمن وبين الكفر ومعاصي الله، ويحول بين الكافر وبين الإيمان وطاعة الله، وبه قال سعيد بن جبير والضحاك ومجاهد، وقال السدي: يحول بين الإنسان وقلبه فلا يستطيع أن يؤمن أو يكفر إلا بإذنه وإرادته.
قيل وهذا القول هو الذي دلت عليه البراهين العقلية لأن أحوال القلوب اعتقادات ودواع وإرادات، وتلك الإرادات لا بد لها من فاعل مختار وهو الله تعالى، فثبت بذلك أن المتصرف في القلب كيف شاء هو الله، فالمعنى أنه يحول بين المرء وخواطر قلبه أو وإدراك قلبه بمعنى أنه يمنعه من حصول مراده أو يمنعه من الإدراك والفهم.
وفي الشهاب أصل الحول كما قال الراغب: تغير الشيء وانفصاله عن غيره وباعتبار التغير قيل حال الشيء يحول، وباعتبار الانفصال قيل حال بينهما كذا، فحقيقة كون الله يحول بين المرء وقلبه أنه يفصل بينهما، ومعناه الحقيقي غير متصور في حقه فهو مجاز عن غاية القرب من العبد لأن من فصل بين شيئين كان أقرب إلى كل منهما من الآخر لاتصاله بهما وانفصال أحدهما عن الآخر، وهو إما استعارة تبعية فمعنى يحول يقرب أو تمثيلية.
وقيل أن الأنسب أن يكون مجازاً مركباً مرسلاً لاستعماله في لازم معناه(5/156)
وهو القرب وليس ببعيد، وقال أبو السعود: تمثيل لغاية قربه من العبد كقوله: (ونحن أقرب إليه من حبل الوريد) وتنبيه على أنه مطلع على مكنونات القلوب ما عسى يغفل عنه صاحبها أو حث على المبادرة إلى إخلاص القلوب وتصفيتها قبل إدراك المنية فإنها حائلة بين المرء وقلبه، أو تصوير وتخييل لتملكه على العبد قلبه بحيث يفسخ عزائمه ويغير نياته ومقاصده ويحول بينه وبين الكفر إن أراد سعادته ويبدله بالأمن خوفاً وبالذكر نسياناً وما أشبه ذلك من الأمور العارضة المفوتة للفرصة اهـ.
وقال الربيع بن أنس: علمه يحول، وقال مجاهد: يحول حتى يتركه لا يعقل، وعن الحسن قال: في القرب منه، وعن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: أن قلوب بني آدم بين أصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفه حيث شاء ثم قال اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك (1) أخرجه مسلم، وفي الباب أحاديث.
(وأنه إليه تحشرون) أي وأنكم محشورون إليه وهو مجازيكم بالخير خيراً وبالشر شراً، قال الفراء: ولو استأنفت فكسرت همزة إنه لكان صواباً، ولعل مراده أن مثل هذا جائز في العربية.
وهذا الحديث من أحاديث الصفات يجب إمراره على ما جاء من غير تأويل ولا تعطيل ولا تشبيه، وكذا هذه الآية وكونه من الصفات يرد تأويلها بالتمثيل.
_________
(1) مسلم 2654.
وروى الترمذي 2/ 36 عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يكثر أن يقول: " يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك " فقلت: يا نبي الله آمنا بك وبما جئت به، فهل تخاف علينا؟ قال: " نعم، إن القلوب بين أصبعين من أصابع الله يقلبها كيف شاء ". قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.(5/157)
وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (25) وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (26)(5/158)
وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (25)
(واتقوا) خطاب للمؤمنين مطلقاً صلحائهم وغيرهم (فتنة) المراد بها العذاب الدنيوي كالقحط والغلاء، وتسلط الظلمة وغير ذلك أي اتقوا سبب فتنة (لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة) أي اتقوا فتنة تتعدى الظالم فتصيب الصالح والطالح، ولا يختص إصابتها بمن يباشر الظلم منكم، وفي (لا) وجهان (أحدهما) أنها ناهية والنهي في الصورة للمصيبة، وفي العنى للمخاطبين (والثاني) أنها نافية والجملة صفة لفتنة.
وهذا واضح من هذه الجهة إلا أنه يشكل عليه توكيد المضارع في غير قسم ولا طلب ولا شرط وفيه خلاف.
وقد اختلف النحاة في هذه النون المؤكدة في تصيبن فقال الفراء: هو جواب الأمر بلفظ النهي، ومثله قوله تعالى: (ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم) أي إن تدخلوا، وقال المبرد: أنه نهي بعد أمر، والمعنى النهي للظالمين أي لا يقربن الظلم ومثله ما روي عن سيبويه لا أريتك ههنا أي لا تكن ههنا فإن من كان ههنا رأيته وقال الجرجاني: نهي في موضع وصف لفتنة.
وقيل (لا تصيبن) جواب قسم محذوف، والجملة القسمية صفة لفتنة أي فتنة والله لا تصيبن ودخول النون أيضاً قليل لأنه منفي، قال الزبير: الفتنة البلاء والأمر الذي هو كائن.
وعن الحسن قال: نزلت في علي وعثمان وطلحة والزبير، وعن الضحاك قال: نزلت في أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم خاصة، وعن السدي(5/158)
قال: نزلت في أهل بدر خاصة فأصابتهم يوم الجمل فاقتتلوا، وكان من المقتولين طلحة والزبير وهما من أهل بدر فتصيب الظالم والصالح عامة، وعن مجاهد والضحاك وقتادة مثله.
روى البغوي بسنده عن عدي بن عدي قال: حدثني مولى لنا أنه سمع جدي يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الله لا يعذب العامة بعمل الخاصة حتى يروا المنكر بين ظهرانيهم وهم قادرون على أن ينكروه فلا ينكروه فإذا فعلوا ذلك عذب الله العامة والخاصة (1).
والذي ذكره ابن الأثير في جامع الأصول عن عدي بن عميرة الكندي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا عملت الخطيئة في الأرض كان من شهدها فأنكرها كمن غاب عنها، ومن غاب عنها فرضيها كان كمن شهدها (2).
وأخرج أبو داود عن جرير بن عبد الله قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ما من رجل يكون في قوم يعمل فيهم بالمعاصي يقدرون أن يغيروا عليه ولم يغيروا إلا أصابهم الله بعقاب قبل أن يموتوا (3).
وقال ابن زيد: أراد بالفتنة افتراق الكلمة ومخالفة بعضهم بعضاً.
وروى الشيخان عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: تكون فتن القاعد فيها خير من القائم والقائم فيها خير من الماشي، والماشي خير من الساعي، من تشرف لها تستشرفه ومن وجد ملجأً أو معاذاً فليعذ به (4).
_________
(1) ضعيف الجامع الصغير 1675.
(2) أبو داوود كتاب الملاحم باب 17.
(3) أبو داوود كتاب الملاحم باب 17.
(4) مسلم 2887.(5/159)
قال الكرخي: واستشكل هذا بقوله تعالى: (ولا تزر وازرة وزر أخرى) وأجيب بأن الناس إذا تظاهروا بالمنكر فالواجب على كل من رآه أن يغيره إذا كان قادراً على ذلك فإذا سكت فكلهم عصاة هذا بفعله وهذا برضاه، وقد جعل الله بحكمته الراضي بمنزلة العامل فانتظم في العقوبة اهـ.
وعلامة الرضا بالمنكر عدم التألم من الخلل الذي يقع في الدين بفعل المعاصي، فلا يتحقق كون الإنسان كارهاً له إلا إذا تألم للخلل الذي يقع في الدين كما يتألم ويتوجع لفقد ماله أو ولده، فكل من لم يكن بهذه الحالة فهو راض بالمنكر فتعمه العقوبة والمصيبة بهذا الاعتبار، هكذا قرره القسطلاني على البخاري.
(واعلموا أن الله شديد العقاب) ومن شدة عقابه أنه يصيب بالعذاب من لم يباشر أسبابه، وقد وردت الآيات القرآنية بأنه لا يصاب أحد إلا بذنبه ولا يعذب إلا بجنايته، فيمكن حمل ما في هذه الآية على العقوبات التي تكون بتسليط العباد بعضهم على بعض، ويمكن أن تكون هذه الآية خاصة بالعقوبات العامة والله أعلم.
وممكن أن يقال إن الذين لم يظلموا قد تسببوا للعقوبة بأسباب كترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فتكون الإصابة المتعدية للظالم إلى غيره مختصة بمن ترك ما يجب عليه عند ظهور الظلم، وعن ابن عباس قال: أمر الله المؤمنين أن لا يقروا المنكر بين أظهرهم فيعمهم الله بعذاب (1).(5/160)
وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (26)
(واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض) الخطاب للنبي وللمهاجرين بتذكير نعمة الله عليهم بالحماية من أعدائهم حيث آواهم في المدينة ونصرهم ببدر وهذه الآية نزلت بعد بدر أي اذكروا وقت قلتكم، والأرض هي أرض مكة وأطلقها في الآية لأنها لعظمها كأنها هي الأرض كلها أو لأن حالهم كان(5/160)
في بقية البلاد كحالهم فيها أو قريباً من ذلك، ولهذا عبر عنهم بالناس في قوله.
(تخافون أن يتخطفكم الناس) والخطف الأخذ بسرعة والمراد بالناس مشركو قريش وكفار مكة، وقال عكرمة: كفار العرب وقيل فارس والروم، قاله وهب (فآواكم) يقال أوى إليه بالمد والقصر بمعنى الضم إليه، والمعنى ضمكم الله إلى المدينة أو إلى الأنصار.
(وأيدكم بنصره) أي وقواكم بالنصر في مواطن الحرب التي منها يوم بدر، أو قواكم بالملائكة يوم بدر (ورزقكم من الطيبات) التي من جملتها الغنائم أحلها لكم ولم يحلها لأحد قبلكم (لعلكم تشكرون) أي إرادة أن تشكروا هذه النعم التي أنعم الله بها عليكم.
وقال قتادة: كان هذا الحي من العرب أذل الناس ذلاً وأشقاه عيشاً وأجوعه بطناً وأعراه جلوداً وأبينه ضلالة، من عاش عاش شقياً، ومن مات منهم ردّي في النار يؤكلون ولا يأكلون، لا والله ما نعلم قبيلاً من حاضري الأرض يومئذ كان أشر منزلاً منهم حتى جاء الله بالإسلام فمكن به في البلاد، ووسع به في الرزق وجعلهم به ملوكاً على رقاب الناس، وبالإسلام أعطى الله ما رأيتم، فاشكروا لله نعمه فإن ربكم منعم يحب الشكر، وأهل الشكر في مزيد من الله عز وجل (1).
_________
(1) روى البخاري 5/ 94 - 216 عن النعمان بن بشير رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " مثل القائم على حدود الله والواقع فيها، كمثل قوم استهموا على سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها، وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً، ولم نؤذ من فوقنا، فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً، وإن أخذوا على أيديههم نجوا ونجوا جميعاً ".(5/161)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (27) وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (28)(5/162)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (27)
(يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم) الخون أصله كما في الكشاف النقص كما أن الوفاء التمام، ثم استعمل في ضد الأمانة والوفاء لأنك إذا خنت الرجل في شيء فقد أدخلت عليه النقصان، وقيل معناه الغدر وإخفاء الشيء ومنه قوله تعالى: (يعلم خائنة الأعين).
نهاهم الله عن أن يخونوه بترك شيء مما افترضه عليهم أو يخونوا رسوله بترك شيء مما آمنهم الله عليه أو بترك شيء مما سنه لهم، أو يخونوا شيئاً من الأمانات التي ائتمنوا عليها، وسميت أمانات لأنه يؤمن معها من منع الحق، مأخوذة من الأمن، قال ابن عباس: لا تخونوا الله بترك فرائضه والرسول بترك سننه وارتكاب معصيته.
وقال المغيرة بن شعبة: نزلت هذه الآية في قتل عثمان، وقال يزيد بن أبي حبيب: هو الإخلال بالسلاح في المغازي، ولعل مرادهما أن هذا مما يندرج تحت عمومها.
قال جابر بن عبد الله: إن أبا سفيان خرج من مكة فأتى جبريل النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال إن أبا سفيان بمكان كذا وكذا فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إنه بمكان كذا فاخرجوا إليه واكتموا فكتب رجل من المنافقين إلى أبي سفيان أن محمداً يريدكم فخذوا حذركم فأنزل الله هذه الآية.
وعن عبد الله بن أبي قتادة قال: نزلت هذه الآية في أبي لبابة بن عبد المنذر سألوه يوم قريظة ما هذا الأمر فأشار إلى حلقه أنه الذبح فنزلت، وعن(5/162)
الزهري: نحوه بأطول منه، وعن الكلبي والسدي نحوه.
ولما اشتد الحصار ببني قريظة أطاعوا وانقادوا أن ينزلوا على ما يحكم به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فحكم فيهم سعد بن معاذ وقال: إني أحكم فيهم أن تقتل الرجال وتقسم الأموال وتسبى الذراري والنساء، فقال صلى الله عليه وسلم: لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة (1).
وفي رواية محمد بن صالح: لقد حكمت اليوم فيهم بحكم الله الذي حكم به من فوق سبع سموات، والقصة بطولها في المواهب اللدنية (وأنتم تعلمون) أن ذلك الفعل خيانة فتفعلون الخيانة عن عمد، أو أنتم من أهل العلم لا من أهل الجهل.
ثم قال:
_________
(1) ذكره القرطبي في 7/ 394 روى أنها نزلت في أبي لُبابة بن عبد المنذر حين أشار إلى بني قُريظة بالذبح. قال أبو لُبابة: والله ما زالت قدماي حتى علمت أني قد خنت الله ورسوله؛ فنزلت هذه الآية. فلما نزلت شدّ نفسه إلى سارية من سواري المسجد، وقال: والله لا أذوق طعاماً ولا شراباً حتى أموت، أو يتوب الله عليّ. الخبر مشهور. مسلم 1768.(5/163)
وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (28)
(واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة) لأنهم سبب الوقوع في كثير من الذنوب وصادة عن أمور الآخرة فصاروا من هذه الحيثية محنة يختبر الله بها عباده وإن كانوا من حيثية أخرى زينة الحياة الدنيا كما في الآية الأخرى.
عن ابن مسعود قال: ما منكم من أحد إلا وهو يشتمل على فتنة، لأن الله يقول: (إنما أموالكم وأولادكم فتنة) فمن استعاذ منكم فليستعذ بالله من مضلات الفتن، وقال ابن زيد: فتنة الاختبار اختبرهم، وقرأ [ونبلوكم بالشر والخير فتنة] (وأن الله عنده أجر عظيم) فآثروا حقه على أموالكم وأولادكم ليحصل لكم ما عنده من الأجر المذكور.(5/163)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29) وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (30) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (31)(5/164)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29)
(يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقاناً) جعل سبحانه التقوى شرطاً في الجعل المذكور مع سبق علمه بأنهم يتقون جرياً على ما يخاطب به الناس بعضهم بعضاً، والتقوى اتقاء مخالفة أوامره والوقوع في مناهيه، والفرقان ما يفرق به بين الحق والباطل، والمعنى أنه يجعل لهم من ثبات القلوب وثقوب البصائر وحسن الهداية ما يفرقون به بينهما عند الالتباس، وقيل الفرقان المخرج من الشبهات والنجاة من كل ما يخافونه، قاله ابن عباس وعكرمة.
وقال الفراء: المراد بالفرقان الفتح والنصر، قال ابن إسحاق الفرقان الفصل بين الحق والباطل وبمثله قال ابن زيد، وقال السدي: الفرقان النجاة ويؤيد تفسير الفرقان بالمخرج والنجاة قوله: (ومن يتق الله يجعل له مخرجاً) وبه قال مجاهد ومالك بن أنس.
(ويكفر عنكم سيئاتكم) أي يسترها حتى تكون غير ظاهرة (ويغفر لكم) ما اقترفتم من الذنوب، وقد قيل إن المراد بالسيئات الصغائر وبالذنوب التي تغفر الكبائر، وقيل المعنى أنه يغفر لهم ما تقدم من الذنوب وما تأخر (والله ذو الفضل العظيم) فهو المتفضل على عباده بتكفير السيئات ومغفرة الذنوب.(5/164)
وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (30)
(وإذ يمكر بك الذين كفروا) أي واذكر يا محمد وقت مكر الكافرين(5/164)
بك، ذكر الله رسوله هذه النعمة العظمى التي أنعم بها عليه وهي نجاته من مكر الكافرين وكيدهم له بمكة لأن هذه الواقعة كانت بمكة قبل أن يهاجر إلى المدينة، والسورة مدنية.
وقال عكرمة: هذه الآية مكية، والمكر الاحتيال في إيصال الضرر للغير.
(ليثبتوك) أي يثخنوك بالجراحات كما قال ثعلب وأبو حاتم وغيرهما، وقيل المعنى ليحبسوك يقال أثبته إذا حبسه، وقيل ليوثقوك لأن كل من شد شيئاً وأوثقه فقد أثبته لأنه لا يقدر على الحركة، وهذا أشار لرأي أبي البختري ومنه فشدوا الوثاق، وقرأ الشعبي: ليبيتوك من البيات.
(أو يقتلوك) أي كلهم قتلة رجل واحد كما أشار عليهم أبو جهل (أو يخرجوك) منفياً من مكة التي هي بلدك وبلد أهلك، وهذا أشار لرأي هشام ابن عمرو، كذا في شرح المواهب، عن ابن عباس قال: تشاورت قريش بمكة ليلة فقال بعضهم إذا أصبح فأثبتوه بالوثاق يريدون النبي صلى الله عليه وسلم، وقال بعضهم اقتلوه، وقال بعضهم: بل أخرجوه، فأطلع الله نبيه صلى الله عليه وسلم على ذلك فبات عليّ على فراش النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى لحق بالغار، فلما أصبحوا ثاروا إليه فلما رأوه علياً رد الله مكرهم فقالوا: أين صاحبك هذا، فقال: لا أدري فاقتصوا أثره فلما بلغوا الجبل اختلط عليهم فصعدوا في الجبل فمروا بالغار فرأوا على بابه نسج العنكبوت، فقالوا: لو دخل هنا لم يكن نسج العنكبوت على بابه، فمكث فيه ثلاث ليال.
وروى البيهقي وغيره عنه بأطول مما هنا وفيها ذكر الشيخ النجدي أي إبليس ومشورته عليهم عند اجتماعهم في دار الندوة للمشاورة في أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - وأن أبا جهل أشار بأن يأخذوا من كل قبيلة من قبائل قريش غلاماً ويعطوا كل واحد منهم سيفاً ثم يضربونه ضربة رجل واحد، فإذا قتلوه تفرق دمه في(5/165)
القبائل، فقال الشيخ النجدي: هذا والله هو الرأي فتفرقوا على ذلك.
(ويمكرون) بك (ويمكر الله) بهم، والمكر التدبير في الأمر في خفية، والمعنى أنهم يخفون ما يعدونه لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - من المكائد فيجازيهم الله على ذلك ويرد كيدهم في نحورهم بأن يخرجهم إلى بدر، ويقلل المسلمين في أعينهم حتى يحملوا عليهم فيقتلوا، وسمى ما يقع منه تعالى مكراً مشاكلة كما في نظائره، والمشاكلة تزيده حسناً، على حسن، وقيل استعارة تبعية وقيل مجاز مرسل بعلاقة السببية، وقيل استعارة تمثيلية.
(والله خير) المجازين لمكر (الماكرين) بمثل فعلهم فهو يعذبهم على مكرهم من حيث لا يشعرون فيكون ذلك أشد ضرراً عليهم وأعظم بلاء من مكرهم، ووضع خير موضع أقوى، فيه تنبيه على أن كل مكر يبطل بفعل الله.(5/166)
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (31)
(وإذا تتلى عليهم آياتنا) التي تأتيهم بها وتتلوها عليهم (قالوا) تعنتاً وتمرداً وبعداً عن الحق (قد سمعنا) ما تتلوه علينا (لو نشاء لقلنا مثل هذا) الذي تلوته علينا أي مثل هذا القرآن وهو التوراة والإنجيل، وقد تنازع هذا العامل مع قوله: (لقلنا) في قوله: (مثل هذا) كما يستفاد من الخازن، قيل إنهم قالوا هذا توهماً منهم أنهم يقدرون على ذلك لأنهم أهل الفصاحة وفرسان البلاغة فلما راموا أن يقولوا مثله عجزوا عنه ثم قالوا عناداً وتمرداً.
(إن هذا إلا أساطير الأولين) أي ما يسطره الوراقون من أخبار الأولين وقد تقدم بيانه مستوفى، وعن السدي أنها نزلت في النضر بن الحرث وكان يختلف إلى أرض فارس والحيرة ويسمع أخبارهم عن رستم واسفنديار، وأحاديث العجم، فلما جاء مكة ووجد النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أوحى إليه قال: (قد سمعنا) الآية.(5/166)
وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (32) وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33)(5/167)
وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (32)
(و) اذكر (إذ قالوا اللهم إن كان هذا) أي القرآن الذي جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - (هو الحق) قرئ بالنصب وهو خبر الكون وبالرفع على الخبر، وبه قرأ الأعمش وزيد ابن علي، وقال ابن عطية: ويجوز في العربية رفع الحق على خبر هو والجملة خبر لكان، قال الأخفش: ولا أعلم أحداً بهذا الجائز (قلت) قد ظهر من قرأ به وهما رجلان جليلان قاله السمين.
(من عندك فأمطر) قال أبو عبيدة: يقال أمطر في العذاب، ومطر في الرحمة وقال في الكشاف: قد كثر الإمطار في معنى العذاب، والإمطار استعارة أو مجاز عن الإنزال أي أنزل (علينا حجارة) فائدة توصيف الحجارة بقوله (من السماء) الدلالة على أن المراد بالحجارة السجيل، وهو حجارة مسومة أي معلمة معدة لتعذيب قوم من العصاة.
(أو ائتنا بعذاب أليم) قالوا هذه المقالة مبالغة في الجحود والإنكار، سألوا أن يعذبوا بالرجم بالحجارة من السماء أو غيرها من أنواع العذاب الشديدة فأجاب الله عليهم بقوله.(5/167)
وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33)
(وما كان الله ليعذبهم وأنت) يا محمد (فيهم) موجود فإنك ما دمت فيهم بأرض مكة فهم في مهلة من العذاب الذي هو الاستئصال، قال السيوطي: لأن العذاب إذا نزل عم، ولم تعذب أمة إلا بعد خروج نبيها والمؤمنين منها.
أخرج البخاري وابن أبي حاتم والبيهقي عن أنس بن مالك قال: قال(5/167)
أبو جهل ابن هشام " اللهم إن كان هذا هو الحق " الآية فنزلت (وما كان الله ليعذبهم) وعن قتادة أنها نزلت في أبي جهل، وعن سعيد بن جبير أنها نزلت في النضر بن الحرث، وعن مجاهد وعطاء نحوه، قال عطاء: لقد نزل في النضر بن الحرث بضع عشرة آية فحاق به ما سأل من العذاب يوم بدر، قال سعيد بن جبير: قتل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم بدر ثلاثة من قريش صبراً طعيمة بن عدي وعقبة بن أبي معيط والنضر بن الحرث، وفيه نزل سأل سائل بعذاب واقع.
(وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون) روي أنهم كانوا يقولون في الطواف غفرانك فنزلت أي (وما كان الله معذبهم) في حال كونهم مستغفرين، قال ابن عباس: كان فيهم أمانان النبي - صلى الله عليه وسلم - والاستغفار، فذهب النبي صلى الله عليه وسلم وبقي الاستغفار.
وأخرج الترمذي وضعفه عن أبي موسى الأشعري قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنزل الله عليّ أمانين لأمتي (وما كان الله ليعذبهم) الآية فإذا مضيت تركت فيهم الاستغفار (1)، وقيل معنى الآية لو كانوا ممن يؤمنون بالله ويستغفرونه لم يعذبهم، وقيل أن الاستغفار راجع إلى المسلمين الذين هم بين أظهرهم أي وما كان الله ليعذبهم وفيهم من يستغفر من المسلمين فلما خرجوا من بين أظهرهم عذبهم بيوم بدر وما بعده.
وقيل المعنى وفي أصلابهم من يستغفر الله، وقيل هذا دعاء لهم إلى الإسلام والاستغفار بهذه الكلمة، وقال مجاهد وعكرمة: وهم يستغفرون أي يسلمون يعني لو أسلموا لما عذبوا، قال أهل المعاني دلت هذه الآية على أن الاستغفار أمان وسلامة من العذاب، والأحاديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مطلق الاستغفار كثيرة جداً معروفة في كتب الحديث.
_________
(1) ضعيف الجامع الصغير 1341.(5/168)
وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (34) وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (35)(5/169)
وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (34)
(وما لهم أن لا يعذبهم الله) لما بين سبحانه أن المانع من تعذيبهم هو الأمران المتقدمان وجود رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين ظهورهم، ووقوع الاستغفار ذكر بعد ذلك أن هؤلاء أعني كفار مكة مستحقون لعذاب الله لما ارتكبوا من القبائح والمعنى أى شيء لهم يمنع من تعذيبهم، قيل هذا العذاب هو القتل والأسر يوم بدر، وقيل عذاب الآخرة.
(وهم) أي والحال أنهم (يصدون) الناس (عن المسجد الحرام) كما وقع منهم عام الحديبية من منع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه من البيت (وما كانوا أولياءه) كما زعموا أي مستحقين ولاية أمره مع شركهم، وهذا كالرد لما كانوا يقولونه من أنهم ولاة البيت والحرم، وأن أمرهم مفوض إليهم، ثم قال مبيناً لمن له ذلك (إن أولياؤه إلا المتقون) أي من كان في عداد المتقين للشرك والمعاصي، وعن مجاهد قال: من كانوا حيث كانوا.
(ولكن أكثرهم) أى أكثر الناس (لا يعلمون) ذلك، والحكم على الأكثرين بالجهل يفيد أن الأقلين يعلمون ولكنهم يعاندون، أو أراد به الكل كما يراد بالقلة العدم.(5/169)
وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (35)
(وما كان صلاتهم عند البيت) أى ما كان شيء مما يعدونه صلاة وعبادة (إلا مُكاء وتصدية) أي إلا هذين الفعلين، والمكاء الصفير من مكأ يمكؤ مكاء ومكوأ، ومنه مكت است الدابة إذا نفخت بالريح، وقيل المكاء هو الصفير على لحن(5/169)
طائر أبيض بالحجاز يقال له المكاء، والتصدية التصفيق يقال صدى يصدي تصدية إذا صفق، وقيل المكاء الضرب بالأيدي والتصدية الصياح، وقيل المكاء أدخالهم أصابعهم في أفواههم والتصدية الصفير. وقيل التصدية صدهم عن البيت.
ومعنى الآية أن المشركين كانوا يصفرون ويصفقون عند البيت الذي هو موضع للصلاة والعبادة، فوضعوا ذلك موضع الصلاة قاصدين به أن يشغلوا المصلين من المسلمين عن الصلاة، وعن عكرمة قال: " كان المشركون يطوفون بالبيت على الشمال فالمكاء مثل نفخ البوق والتصدية طوافهم على الشمال.
وقال السمين: التصدية فيها قولان " أحدهما " أنها من الصدى وهو ما يسمع من رجع الصوت في الأمكنة الخالية الصلبة، يقال منه صدى يصدي تصدية، والمراد بها هنا ما يسمع من صوت التصفيق بإحدى اليدين على الأخرى، وقيل مأخوذ من التصدد وهو الضجيج والصياح والتصفيق، ويدل عليه قراءة [إذا قومك منه يصدون] بالكسر أى يضجون ويلغطون " والثاني " أنها من الصد وهو المنع، ويؤيده قراءة يصدون بالضم أي يمنعون انتهى، والمكاء الصفير وهو الصوت الخالي عن الحروف.
والمعنى أنهم فوتوا ما حقهم أن يشتغلوا به في هذا المكان من الصلاة وشغلوه بهذا اللعب والخراف والهوس، واستثنى المكاء والتصدية مع أنهما ليسا من جنس الصلاة تقريعاً للمشركين بتركهم ما أمروا به في المسجد الحرام، فإن ما لا يدخل تحت الشيء قد يستثنى منه لمصلحة وغرض كقصد المدح والذم؛ فعلى هذا يكون التقدير وما كان موضع صلاتهم أي عوضها إلا مكاء وتصدية.
(فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون) هذا التفات إلى مخاطبة الكفار تهديداً لهم ومبالغة في إدخال الروعة في قلوبهم، والمراد به عذاب الدنيا كيوم بدر، وعذاب الآخرة، قال الضحاك: يعني أهل بدر عذبهم الله بالقتل والأسر.(5/170)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36)(5/171)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36)
(إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله) لما فرغ سبحانه من شرح حال هؤلاء الكفرة في الطاعات البدنية أتبعها شرح أحوالهم في الطاعات المالية، والمعنى أن غرض هؤلاء الكفار في إنفاق أموالهم هو الصد عن سبيل الحق بمحاربة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجمع الجيوش لذلك، وذلك كما وقع من كفار قريش يوم بدر ويوم أحد ويوم الأحزاب فإن الرؤساء كانوا ينفقون أموالهم على الجيش.
وعن ابن عباس قال: نزلت في أبي سفيان بن حرب، وعن مجاهد وسعيد بن جبير نحوه. وعن الحكم بن عتيبة قال: نزلت في أبي سفيان أنفق على مشركي قريش يوم أحد أربعين أوقية من ذهب، وكانت الأوقية يومئذ أربعين واثنين مثقالاً من ذهب.
ثم أخبر الله سبحانه عن الغيب على وجه الإعجاز فقال (فسينفقونها) أى سيقع منهم هذا الإنفاق وسيعلمون عاقبة إنفاقها من الخيبة وعدم الظفر بالمقصود فحصلت المغايرة (ثم تكون) أي عاقبة ذلك أن يكون إنفاقهم (عليهم حسرة) كأن ذات الأموال تنقلب حسرة وتصير ندماً لفوات ما قصدوه بها (ثم) آخر الأمر (يُغلبون) في الدنيا كما وعد الله في مثل قوله (كتب الله لأغلبن أنا ورسلي) ومعنى ثم في الموضعين إما التراخي في الزمان لما بين الإنفاق المذكور وبين ظهور دولة الإسلام من الامتداد، وإما التراخي في الرتبة لما بين بذل الأموال وعدم حصول المقصود من المباينة.
ثم قال (والذين كفروا) أي استمروا على الكفر لأن من هؤلاء الكفار المذكورين سابقاً من أسلم وحسن إسلامه (إلى جهنم يحشرون) أي يساقون إليها لا إلى غيرها.(5/171)
لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (37)
ثم بين العلة التي لأجلها فعل بهم ما فعل فقال:(5/172)
لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (37)
(ليميز الله الخبيث) وهم الكافرون (من الطيب) وهم المؤمنون، قال ابن عباس: يميز أهل السعادة من أهل الشقاوة، وقيل العمل الخبيث من العمل الطيب، وقيل الإنفاق في طريق الشيطان وسبيل الرحمن، وقيل الخبيث والطيب صفة للمال، والتقدير (ليميز المال الخبيث الذي أنفقه المشركون في عداوة النبي صلى الله عليه وسلم، من الطيب الذي أنفقه المسلمون في نصرته صلى الله عليه وسلم، فيضم تلك الأموال الخبيثة بعضها إلى بعض فيلقيها في جهنم ويعذبهم بها، كما في قوله تعالى: (فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم).
قال في الكشاف: واللام على هذا متعلقة بقوله: ثم تكون عليهم حسرة، وعلى الأول بيحشرون، انتهى. وعن شمر بن عطية قال: يميز يوم القيامة ما كان من عمل صالح في الدنيا ثم تؤخذ الدنيا بأسرها فتلقى في جهنم.
(ويجعل الخبيث) أي يجعل فريق الكفار الخبيث (بعضه على بعض) أي فوق بعض (فيركمه) الركوم عبارة عن الجمع والضم، أي يجمع بعضهم إلى بعض ويضم بعضهم إلى بعض حتى يتراكموا لفرط ازدحامهم، يقال ركم الشيء يركمه إذا جمعه وألقى بعضه على بعضه، وبابه نصر، وارتكم الشيء وتراكم اجتمع والركام الرمل المتراكم والسحاب ونحوه.
(جميعاً) حال من الهاء في يركمه أو توكيد لها (فيجعله) أي الخبيث فيه مراعاة اللفظ (في جهنم أولئك) أي الفريق الخبيث (هم الخاسرون) أي الكاملون في الخسران، فيه مراعاة المعنى لأن الضمير راجع على الخبيث.(5/172)
قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ (38) وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (39) وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلَاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (40)(5/173)
قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ (38)
(قل للذين كفروا) كأبي سفيان وأصحابه واللام للتبليغ (إن ينتهوا) الخ أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم هذا المعنى، سواء قاله بهذه العبارة أو غيرها. قال ابن عطية: ولو كان كما قال الكسائي إنه في مصحف ابن مسعود تنتهوا بالتاء لما تأدت الرسالة إلا بتلك الألفاظ بعينها، وقال في الكشاف: هي لام العلة، أي قل لأجلهم هذا القول وهو أن ينتهوا، ولو كان بمعنى خاطبهم به لقيل إن تنتهوا يغفر لكم.
والمعنى إن ينتهوا عما هم عليه من عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقتاله بالدخول في الإسلام (يغفر لهم ما قد سلف) لهم من العداوة اهـ.
وقيل معناه إن ينتهوا عن الكفر، قال ابن عطية: والحامل على ذلك جواب الشرط بيغفر لهم ما قد سلف، ومغفرة ما قد سلف لا يكون إلا لمنته عن الكفر وفي هذه الآية دليل على أن الإسلام يحبّ ما قبله.
وأخرج أحمد ومسلم عن عمرو بن العاص قال: لما جعل الله الإسلام في قلبي أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: ابسط يدك فلأبايعك، فبسط يمينه فقبضت يدي قال: مالك؟ فقلت أردت أن أشترط، قال تشترط ماذا؟ قلت: أن تستغفر لي قال: أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها، وأن الحج يهدم ما كان قبله (1).
_________
(1) مسلم 121.(5/173)
وقد ثبت في الصحيح من حديث ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: الإسلام يجب ما قبله والتوبة تجب ما قبلها (1)، قال يحيى بن معاذ الرازي التوحيد لم يعجز عن هدم ما قبله من كفر، فكيف يعجز عن هدم ما بعده من ذنب.
(وإن يعودوا) إلى القتال والعداوة أو إلى الكفر الذي هم عليه، ويكون العود بمعنى الاستمرار، وفي الجمل العود يشعر بسبق التلبس بالشيء الذي حصل العود اليه، فالمعنى وإن يرتدوا عن الإسلام بعد دخولهم فيه ويرجعوا إلى الكفر وقتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وجواب الشرط محذوف تقديره ننتقم منهم بالعقاب والعذاب.
وقوله: (فقد مضت سنة الأولين) تعليل للمحذوف ولا يصلح للجوابية كما لا يخفي أي سبقت واستقرت سنة الله في إهلاك أعدائه ونصر أوليائه.
وهذه العبارة مشتملة على الوعيد والتهديد والتمثيل بمن أهلك من الأمم في سالف الدهر بعذاب الله، أي قد مضت سنة الله فيمن فعل مثل فعل هؤلاء من الأولين من الأمم أن يصيبه بعذاب فليتوقعوا مثل ذلك.
عن مجاهد قال: فقد مضت سنة الأولين في قريش وغيرها يوم بدر والأمم قبل ذلك، وقد فسر كثير من السلف هذه الآية بما مضى في الأمم المتقدمة من عذاب من قاتل الأنبياء وصمم على الكفر، وقال السدي ومحمد ابن إسحاق: المراد بالآية يوم بدر، وترسم سنت هذه بالتاء المجرورة وكذا الثلاثة التي في فاطر، وكذا التي في آخر غافر والإضافة على معنى في.
_________
(1) الإمام أحمد 4/ 199.(5/174)
وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (39)
(وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة) أي شرك قاله ابن عباس، وقيل بلاء(5/174)
قاله الحسن، وقد فسرها جمهور السلف بالكفر، وقال محمد بن إسحق: بلغني عن الزهري عن عروة بن الزبير وغيره من علمائنا المعنى حتى لا يفتن مسلم عن دينه، وقد تقدم تفسير هذا في البقرة مستوفى، والجملة معطوفة على " قل للذين " لما كان الغرض من الأول التلطف بهم وهو وظيفة النبي وحده جاء بالإفراد ولما كان الغرض من الثاني تحريض المؤمنين على القتال جاء بالجمع فخوطبوا جميعاً.
(ويكون الدين كله) أي الطاعة والعبادة كلها (لله) خالصة دون غيره وقال قتادة: حتى يقال لا إله إلا الله عليه قاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم وإليه دعا، وقيل يضمحل عنهم كل دين باطل، ويبقى فيهم دين الإسلام وحده والمعاني متقاربة.
(فإن انتهَوا) عما ذكر من الشرك وافتتان المؤمنين وإيذائهم (فإن الله بما يعملون) بالتحتية باتفاق السبعة، وقرأ بالفوقية يعقوب من العشرة (بصير) لا يخفى عليه ما وقع منهم من انتهاء فيجازيهم به.(5/175)
وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلَاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (40)
(وإن تولَّوا) عما أمروا به من الانتهاء أو عن الإيمان، وجوابه محذوف أي فلا تخشوا بأسهم (فاعلموا) أيها المؤمنون (إن الله مولاكم) أي ناصركم عليهم ومتولي أموركم (نعم المولى) هو (ونعم النصير) فمن والاه فاز ومن نصره غلب (1).
_________
(1) روى مسلم في " صحيحه " 1/ 111 عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قلنا: يا رسول الله، أنؤاخذ بما عملنا في الجاهلية؟ قال: " من أحسن في الإسلام لم يؤاخذ بما عمل في الجاهلية، ومن أساء في الإسلام أُخذ بالأول والآخر ".
وروى مسلم أيضاً في " صحيحه " 1/ 112 من حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله ".(5/175)
وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (41)(5/176)
وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (41)
(واعلموا أنما) " ما " موصولة وكان القياس فصلها في الرسم من " أن " لكن ثبت وصلها في خط المصحف الإمام، وثبت فصلها أيضاً في بعضها على القياس كما ذكره ابن الجزري في قوله: " وخلف الأنفال ونحل وقعا ".
(غنمتم) لما أمر الله سبحانه بالقتال بقوله وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة وكانت المقاتلة مظنة حصول الغنيمة، ذكر حكم الغنيمة، والغنيمة قد قدمنا أن أصلها إصابة الغنم من العدو، ثم استعملت في كل ما يصاب منهم، وقد يستعمل في كل ما ينال بسعي.
وأما معنى الغنيمة في الشرع فحكى القرطبي الاتفاق على أن المراد بقوله أنما غنمتم مال الكفار إذا ظفر بهم المسلمون على وجه الغلبة والقهر قال: ولا تقتضي اللغة هذا التخصيص، ولكن عرف الشرع قيد هذا اللفظ بهذا النوع.
وقد ادعى ابن عبد البر الإجماع على أن هذه الآية نزلت بعد قوله:
(يسألونك عن الأنفال) وأن أربعة أخماس الغنيمة مقسومة على الغانمين، وأن قوله: (يسألونك عن الأنفال) نزلت حين تشاجر أهل بدر في غنائم بدر وقيل أنها يعني قوله: (يسألونك عن الأنفال) محكمة غير منسوخة، وأن الغنيمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وليست مقسومة بين الغانمين وكذلك لمن بعده من الأئمة حكاه الماوردي عن كثير من المالكية.
وقالوا: وللإمام أن يخرجها عنهم، واحتجوا بفتح مكة وقصة حنين،(5/176)
وكان أبو عبيدة يقول افتتح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مكة عنوة ومنَّ على أهلها فردها عليهم ولم يقسمها ولم يجعلها فيئاً.
وقد حكى الإجماع جماعة من أهل العلم على أن أربعة أخماس الغنيمة للغانمين وممن حكى ذلك ابن المنذر وابن عبد البر والداودي والمازري والقاضي عياض وابن العربي، والأحاديث الواردة في قسمة الغنيمة بين الغانمين وكيفيتها كثيرة جداً.
قال القرطبي: ولم يقل أحد فيما أعلم أن قوله تعالى: (يسألونك عن الأنفال) الآية ناسخ لقوله: (واعلموا أنما غنمتم) الآية بل قال الجمهور أن قوله: (واعلموا أنما غنمتم) ناسخ وهم الذين لا يجوز عليهم التحريف ولا التبديل لكتاب الله.
وأما قصة فتح مكة فلا حجة فيها لاختلاف العلماء في فتحها قال: وأما قصة حنين فقد عوض الأنصار لما قالوا يعطي الغنائم قريشاً ويتركنا وسيوفنا تقطر من دمائهم نفسه، فقال لهم أما ترضون أن يرجع الناس بالدنيا وترجعون برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى بيوتكم (1) كما في مسلم وغيره، وليس لغيره أن يقول هذا القول بل ذلك خاص به، وقوله: (أنما غنمتم) يشمل كل شيء يصدق عليه اسم الغنيمة قليلاً كان أو كثيراً.
و (من شيء) بيان لما الموصولة، وقد خصص الإجماع من عموم الآية الأسارى فإن الخيرة فيها إلى الإمام بلا خلاف، وكذلك سَلَب المقتول إذا نادى به الإمام قيل وكذلك الأرض المغنومة، ورد بأنه لا إجماع على الأرض.
(فأن) أي فحق أو فواجب أن (لله خمسه وللرسول) وقد اختلف
_________
(1) مسلم 1059.(5/177)
العلماء في كيفية قسمة الخمس على أقوال ستة.
القول الأول: قالت طائفة: يقسم الخمس على ستة.
فيجعل السدس للكعبة وهو الذي لله.
والثاني: لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
والثالث: لذوي القربى.
والرابع: لليتامى.
والخامس: للمساكين.
والسادس: لابن السبيل.
القول الثاني: قاله أبو العالية والربيع أنها تقسم الغنيمة على خمسة فيعزل منها سهم واحد، ويقسم أربعة على الغانمين ثم يضرب يده في السهم الذي عزله فما قبضه من شيء جعله للكعبة ثم يقسم بقية السهم الذي عزله على خمسة للرسول ومن بعده في الآية.
القول الثالث: روي عن زين العابدين علي بن الحسين أنه قال: الخمس لنا فقيل له أن الله يقول: (واليتامى والمساكين وابن السبيل) فقال: يتامانا ومساكيننا وأبناء سبيلنا.
والقول الرابع: قول الشافعي: أن الخمس يقسم على خمسة وأن سهم الله وسهم رسوله واحد يصرف في مصالح المؤمنين، والأربعة الأخماس على الأربعة الأصناف المذكورة في الآية.
القول الخامس: قول أبي حنيفة: أنه يقسم الخمس على ثلاثة اليتامى(5/178)
والمساكين وابن السبيل، وقد ارتفع حكم قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم بموته كما ارتفع حكم سهمه قال ويبدأ من الخمس بإصلاح القناطر وبناء المساجد وأرزاق القضاة والجند، وروي نحو هذا عن الشافعي.
القول السادس: قول مالك: أنه موكول إلى نظر الإمام واجتهاده فيأخذ منه بغير تقدير، ويعطي منه الغزاة باجتهاد ويصرف الباقي في مصالح المسلمين.
قال القرطبي: وبه قال الخلفاء الأربعة وبه عملوا، وعليه يدل قوله صلى الله عليه وسلم: مالي مما أفاء الله عليكم إلا الخمس، والخمس مردود عليكم فانه لم يقسمه أخماس ولا أثلاثاً، وإنما ذكر ما في الآية من ذكره على وجه التنبيه عليهم لأنهم من أهم من يدفع إليه.
وقال الزجاج: محتجاً لهذا القول قال الله تعالى: (يسألونك ماذا ينفقون قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين واليتامى والمساكين وابن السبيل) وجائز بإجماع أن ينفق في غير هذه الأصناف إذا رأى ذلك.
أخرج ابن المنذر عن ابن عباس قال: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يجعل سهم الله في السلاح والكراع وفي سبيل الله وفي كسوة الكعبة وطيبها وما تحتاج إليه الكعبة، ويجعل سهم الرسول في الكراع والسلاح ونفقة أهله، وسهم ذي القربى لقرابته يضعه رسول الله فيهم مع سهمهم مع الناس، ولليتامى والمساكين وابن السبيل ثلاثة أسهم يضعها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيمن شاء وحيث شاء ليس لبني عبد المطلب في هذه الثلاثة الأسهم ولرسول الله سهم مع سهام الناس.
وعن ابن بريدة قال: الذي لله لنبيه والذي للرسول لأزواجه، وعن(5/179)
محمد ابن الحنفية في قوله: (فأن لله خمسه) قال: هذا مفتاح كلام لله الدنيا والآخرة وللرسول ولذي القربى، فاختلفوا بعد وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هذين السهمين قال قائل منهم: سهم ذي القربى لقرابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقال قائل: منهم سهم ذي القربى لقرابة الخليفة، وقال قائل منهم سهم النبي - صلى الله عليه وسلم - للخليفة بعده.
واجتمع رأي أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أن يجعلوا هذين السهمين في الخيل والعدة في سبيل الله، فكان ذلك في خلافة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، أخرجه عبد الرزاق وابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ وأبو الحاكم عن قيس بن مسلم الجدلي عن محمد بن الحنفية.
وأخرج ابن جرير والطبراني وأبو الشيخ وابن مردويه عن ابن " عباس قال: (فأن لله خمسه) مفتاح كلام أي على سبيل التبرك، وإنما أضافه لنفسه لأنه هو الحاكم فيه فيقسمه كيف شاء وليس المراد منه أن سهماً منه لله مفرداً لأن لله ما في السموات وما في الأرض، وبه قال الحسن وقتادة وعطاء وإبراهيم النخعي قالوا: سهم الله وسهم رسوله واحد، وذكر الله للتعظيم فجعل هذين السهمين في الخيل والسلاح وجعل سهم اليتامى والمساكين وابن السبيل لا يعطيه غيرهم وجعل الأربعة الأسهم الباقية للفرس سهمين ولراكبه سهماً وللراجل سهماً.
وعنه رضي الله عنه قال: كانت الغنيمة تقسم على خمسة أخماس، فأربعة منها بين من قاتل عليها وخمس واحد يقسم على أربعة أخماس فربع لله وللرسول ولذي القربى يعني قرابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فما كان لله وللرسول فهو لقرابة النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يأخذ النبي- صلى الله عليه وسلم - من الخمس شيئاً، والربع الثاني لليتامى، والربع الثالث للمساكين والربع الرابع لابن السبيل، وهو الضعيف الفقير(5/180)
الذي ينزل بالمسلمين، أخرجه ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(ولذي القربى) قيل إعادة اللام في ذي القربى دون من بعدهم لدفع توهم اشتراكهم في سهم النبي - صلى الله عليه وسلم -، والمعنى أن سهماً من خمس الخمس لذوي القربى، وقد اختلف العلماء فيهم على أقوال الأول أنهم قريش كلها، روي ذلك عن بعض السلف، واستدل بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما صعد الصفا جعل يهتف ببطون قريش كلها قائلاً يا بني فلان يا بني فلان.
وقال الشافعي وأحمد وأبو ثور ومجاهد وقتادة وابن جريج ومسلم بن خالد: هم بنو هاشم وبنو المطلب وليس لبني عبد شمس وبني نوفل منه شيء وإن كانوا أخوة لقوله صلى الله عليه وسلم: إنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد، وشبك بين أصابعه وهو في الصحيح (1).
وأخرج ابن إسحق وابن أبي حاتم عن الزهري وعبد الله بن أبي بكر عن جبير بن مطعم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قسم سهم ذوي القربى من خيبر على بني هاشم وبني المطلب، قال: فمشيت أنا وعثمان بن عفان حتى دخلنا عليه فقلنا: يا رسول الله هؤلاء إخوانك من بني هاشم لا ننكر فضلهم لمكانك منهم أرأيت إخواننا من بني المطلب أعطيتهم دوننا فإنما نحن وهم بمنزلة واحدة في النسب، فقال: إنهم لم يفارقونا في الجاهلية والإسلام (2)، وقد أخرجه مسلم في صحيحه.
وقيل هم بنو هاشم خاصة وبه قال مالك والثوري والأوزاعي وغيرهم وهو مروي عن علي بن الحسين ومجاهد، وأخرج ابن مردويه عن زيد بن أرقم قال: آل محمد الذين أعطوا الخمس آل علي وآل عباس وآل جعفر وآل عقيل.
_________
(1) رواه ابن ماجه كتاب الجهاد باب 46 بلفظ: " إنما أرى بني هاشم بني المطلب شيئاً واحداً ".
(2) روى الإمام أحمد نظيره في مسنده 4/ 81.(5/181)
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: كان للنبي - صلى الله عليه وسلم - شيء واحد من المغنم يصطفيه لنفسه إما خادم وإما فرس، ثم يصيب بعد ذلك من الخمس، وعن علي وصححه الحاكم قال: ولاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خمس الخمس فوضعته مواضعه حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبى بكر وعمر رضي الله عنهما.
واختلفوا في سهمهم هل هو ثابت اليوم أم لا فذهب أكثرهم إلى أنه ثابت فيعطى فقراؤهم وأغنياؤهم من خمس الخمس للذكر مثل حظ الانثيين، وبه قال مالك والشافعي، وقيل إنه غير ثابت وسقط سهمه وسهمهم بوفاته، وصار الكل مصروفاً إلى الثلاثة الباقية وبه قال أبو حنيفة وأصحاب الرأي.
وحجة الجمهور أن الكتاب والسنة يدلان على ثبوت سهم ذوي القربى وكذا الخلفاء بعد الرسول - صلى الله عليه وسلم - كانوا يعطونهم ولا يفضلون فقيراً على غني، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى العباس مع كثرة غناه وكذا الخلفاء بعده، وألحقه الشافعي بالميراث الذي يستحق باسم القرابة غير أنهم يعطون القريب والبعيد.
(واليتامى والمساكين وابن السبيل) قد تقدم بيان سهمهم قريباً والمراد باليتيم هنا هو الصغير المسلم الذي لا أب له فيعطى مع الحاجة إليه، والمساكين هم أهل الفاقة من المسلمين، وابن السبيل هو المسافر البعيد عن ماله المنقطع في سفره، فهذا مصرف خمس الغنيمة، ويقسم أربعة أخماسها الباقية بين الغانمين الحاضرين في الواقعة الحائزين للغنيمة، فيعطى للفارس ثلاثة أسهم: سهم له وسهمان لفرسه، وللراجل سهم واحد لحديث ابن عمر في الصحيح، وبه قال أكثر أهل العلم وإليه ذهب الثوري والأوزاعي ومالك وابن المبارك والشافعي وأحمد وإسحق.
وقال أبو حنيفة: للفارس سهمان وللراجل سهم والحديث يرد عليه، وظاهر الآية يدل على أنه لا فرق بين العقار والمنقول، وعند أبي حنيفة يخير الإمام في العقار بين قسمه ووقفه على المصالح، ومن قتل من المسلمين مشركاً(5/182)
استحق سلبه من رأس الغنيمة لما روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ومن قتل قتيلاً فله سلبه " (1)، أخرجه الشيخان وغيرهما، ويجوز تنفيل بعض الجيش من الغنيمة.
(إن كنتم آمنتم بالله) قال الزجاج: عن فرقة أن المعنى فاعلموا أن الله مولاكم إن كنتم آمنتم بالله وقالت فرقة أخرى أن " إن " متعلقة بقوله: (واعلموا أنما غنمتم) قال ابن عطية: وهذا هو الصحيح لأن قوله واعلموا يتضمن الأمر بالانقياد والتسليم لأمر الله في الغنائم، فعلق إن بقوله واعلموا على هذا المعنى أي إن كنتم مؤمنين بالله فانقادوا وأسلموا الأمر لله فيما أعلمكم به من حال قسمة الغنيمة.
وقال في الكشاف: إنه متعلق بمحذوف يدل عليه واعلموا بمعنى إن كنتم آمنتم بالله فاعلموا أن الخمس من الغنيمة يجب التقرب به فاقطعوا عنه أطماعكم واقنعوا بالأخماس الأربعة، وليس المراد بالعلم العلم المجرد ولكن العلم المضمن بالعمل والطاعة لأمر الله لأن العلم المجرد يستوي فيه المؤمن والكافر اهـ.
(وما أنزلنا على عبدنا) أي إن كنتم آمنتم بالله وبما أنزلنا على محمد صلى الله عليه وسلم، وهذه إضافة تشريف وتعظيم للنبي صلى الله عليه وسلم (يوم الفرقان) يوم بدر، وبدر ماء بين مكة والمدينة وسمي يومه يوم الفرقان لأن الله فرق بين أهل الحق بإظهاره وأهل الباطل بإخماده.
(يوم التقى الجمعان) أي الفريقان من المسلمين والكافرين، عن علي ابن أبي طالب قال: كانت ليلة الفرقان ليلة التقى الجمعان في صبيحتها ليلة الجمعة لسبع عشرة مضت من رمضان، وهو أول مشهد شهده رسول الله صلى الله عليه وسلم (والله على كل شيء قدير) ومن قدرته العظيمة نصر الفريق الأقل على الفريق الأكثر.
_________
(1) مسلم 1715.(5/183)
إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولاً لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (42)(5/184)
إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (42)
(إذ) أي اذكروا أيها المسلمون إذ (أنتم بالعدوة الدنيا وهم بالعدوة القصوى) قرئ بضم العين في الموضعين وكذا بالفتح والكسر وقرئ بهما أيضاً وهي لغات بمعنى واحد، وهذا هو قول جمهور اللغويين، والعدوة شط الوادي وشفيره وحافته سميت بذلك لأنها عدت ما في الوادي من ماء ونحوه أن يتجاوزها أي منعته، وقال أبو عمرو: هي المكان المرتفع، والدنيا تأنيث الأدنى من دنا يدنو أي القربى من المدينة، والقصوى تأنيث الأقصى من قصا يقصو، ويقال القصيا والأصل الواو وهي لغة أهل الحجاز، والمعنى وقت نزولكم بالجانب الأدنى من الوادي إلى جهة المدينة، وعدوكم بالجانب الأقصى منه مما يلي مكة والباء بمعنى في كقولك زيد بمكة.
(والركب أسفل منكم) أي والحال أن الركب في مكان أسفل من المكان الذي أنتم فيه مما يلي البحر، وأجاز الأخفش والكسائي والفراء رفع أسفل على معنى أشد سفلاً منكم، وقيل الواو للعطف، والركب اسم جمع لراكب أو جمع له وهم العشرة فصاعداً، ولا تقول العرب ركب إلا للجماعة الراكبي الإبل، وقد يقال لمن كان على فرس وغيرها ركب والجمع أركب وركوب كذا قال ابن فارس وحكاه ابن السكيت عن أكثر أهل اللغة.
والمراد بالركب هنا ركب أبي سفيان وهي المراد بالعير فإنهم كانوا في موضع أسفل منهم مما يلي ساحل البحر على ثلاثة أميال من بدر، قيل وفائدة ذكر هذه الحالة التي كانوا عليها من كونهم بالعدوة الدنيا وعدوهم بالعدوة(5/184)
القصوى، والركب أسفل منهم، الدلالة على قوة شأن العدو وشوكته وذلك لأن العدوة القصوى التي أناخ بها المشركون كان فيها الماء وكانت أرضاً لا بأس بها، وأما العدوة الدنيا فكانت رخوة تسوخ فيها الأقدام ولا ماء بها وكانت العير وراء ظهر العدو مع كثرة عددهم، فامتن الله على المسلمين بنصرتهم عليهم والحال هذه.
(ولو تواعدتم) أي أنتم والمشركون من أهل مكة على أن تلتقوا في هذا الموضع للقتال وأعلم كل منكم الآخر للخروج له (لاختلفتم في الميعاد) أي لخالف بعضكم بعضاً فثبطكم قلتكم وكثرتهم عن الوفاء بالوعد وثبطهم ما في قلوبهم من المهابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم فالميعاد معناه التواعد والميعاد المواعدة ووقتها ومكانها كما في القاموس.
(ولكن) جمع الله بينكم في هذا الموطن بغير ميعاد (ليقضي الله أمراً كان مفعولاً) أي حقيقاً بأن يفعل من نصر أوليائه وخذلان أعدائه وإعزاز دينه وإذلال الكفر فأخرج المسلمين لأخذ العير وغنيمتها عند أنفسهم، وأخرج الكافرين للمدافعة عنها ولم يكن في حسبان الطائفتين أن يقع هذا الاتفاق على هذه الصفة.
(ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حيّ عن بينة) أي ليموت من يموت عن بينة ويعيش من يعيش عن بينة رآها وعبرة عاينها وحجة قامت عليه، لئلا تبقى لأحد على الله حجة، وقيل الهلاك والحياة مستعاران للكفر والإسلام أي ليصدر إسلام من أسلم عن وضوح بينة ويقين بأنه دين الحق، ويصدر كفر من كفر عن وضوح بينة لا عن مخالجة شبهة، وهو معنى قول ابن إسحق وقتادة (وأن الله لسميع) بكفر الكافرين وإيمان المؤمنين (عليم) بهما لا يخفى عليه خافية.(5/185)
إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (43) وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (44) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (47)(5/186)
إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (43)
(إذ يريكهم الله في منامك قليلاً ولو أراكهم كثيراً لفشلتم ولتنازعتم في الأمر) المعنى أن النبي صلى الله عليه وسلم رآهم في منامه قليلاً فقص ذلك على أصحابه، فكان ذللك سبباً لثباتهم، قاله مجاهد ولو رآهم في منامه كثيراً لفشلوا وجبنوا عن قتالهم وتنازعوا في الأمر هل يلاقونهم أم لا، والمضارع بمعنى الماضي لأن نزول الآية كان بعد الإراءة.
(ولكن الله سلّم) وعصمهم من الفشل والتنازع فقللهم في عين رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام، قال ابن عباس: (سلّم) أي أتم يقول سلم لهم أمرهم حتى أظهرهم على عدوهم، وقيل عنى بالمنام محل النوم وهي العين أي في موضع منامك وهو عينك، روي ذلك عن الحسن، قال الزجاج: هذا مذهب حسن، ولكن الأول أسوغ في العربية لقوله:(5/186)
وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (44)
(وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلاً ويقللكم في أعينهم) فدل بهذا على أن هذه رؤية الالتقاء وتلك رؤية النوم.(5/186)
(إنه عليم بذات الصدور) أي بما يحصل فيها من الجراءة والجبن والصبر والجزع، وقيل بما فيه من الحب لله عز وجل، قاله ابن عباس.
(وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلاً) أي واذكروا وقت إراءتكم إياهم حال كونهم قليلاً حتى قال القائل من المسلمين لآخر أتراهم سبعين قال هم نحو المائة، قال ابن مسعود: حتى أخذنا رجلاً منهم فسألناه قال: كنا ألفاً.
(ويقللكم في أعينهم) أي وقلل المسلمين في أعين المشركين حتى قال قائلهم إنما هم أكلة جزور، وكان هذا قبل القتال والتحام الحرب، فلما شرعوا فيه كثر الله المسلمين في أعين المشركين كما قال في آل عمران (يرونهم مثليهم رأي العين) ووجه تقليل المسلمين في أعين المشركين هو أنهم إذا رأوهم قليلاً أقدموا على القتال غير خائفين ثم يرونهم كثيراً فيفشلون وتكون الدائرة عليهم ويحل بهم عذاب الله وسوط عقابه.
(ليقضي الله أمراً كان مفعولاً) في علمه، وإنما كرره لاختلاف الفعل المعلل به، عن عباد بن عبد الله بن الزبير قال: ليلف بينهم الحرب للنقمة ممن أراد الانتقام منه، والأنعام على من أراد النعمة عليه من أهل ولايته، وقيل المراد بالأمر إعلاء كلمة الإسلام ونصر أهله، وإذلال كلمة الشرك وخذلان أهله، والمعاني متقاربة (وإلى الله ترجع) أي تصير (الأمور) كلها يفعل فيها ما يريد ويقضي في شأنها ما يشاء.(5/187)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45)
(يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة) اللقاء الحرب والفئة الجماعة ولا واحد لها من لفظها ويجمع على فئات، وقد تجمع بالواو والنون جبراً لما نقص منها أي إذا حاربتم جماعة من المشركين (فاثبتوا) لهم ولا تجبنوا عنهم، وهذا(5/187)
لا ينافي الرخصة المتقدمة في قوله: (إلا متحرفاً لقتال أو متحيزاً إلى فئة) فإن الأمر بالثبات هو في حال السعة، والرخصة هي في حال الضرورة، وقد لا يحصل الثبات إلا بالتحرف أو التحيز.
(واذكروا الله كثيراً) عند جزع قلوبكم فإن ذكره يعين على الثبات في الشدائد، وقيل المعنى اثبتوا بقلوبكم واذكروا بألسنتكم فإن القلب قد يسكن عند اللقاء ويضطرب اللسان، فأمرهم بالذكر حتى يجتمع ثبات القلب واللسان.
قيل وينبغي أن يكون الذكر في هذه الحالة بما قاله أصحاب طالوت (ربنا أفرغ علينا صبراً وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين).
وفي الآية دليل على مشروعية الذكر في جميع الأحوال حتى في هذه الحالة التي ترجف فيها القلوب، وتزيغ عندها البصائر.
قال قتادة: افترض الله ذكره عند أشغل ما يكونون عند الضراب بالسيوف وأخرج الحاكم وصححه عن سهل بن سعد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ثنتان لا يردان الدعاء عند النداء وعند البأس حين يلحم بعضهم بعضاً (1)، وأخرج الحاكم وصححه عن أبي موسى أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يكره الصوت عند القتال (2).
(لعلكم تفلحون) أي كونوا على رجاء الفلاح والنصر والظفر
_________
(1) المستدرك كتاب الجهاد 2/ 113.
(2) المستدرك كتاب الجهاد 2/ 116.(5/188)
وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46)
(وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا) أمرهم بطاعة الله فيما يأمرهم به وطاعة رسوله فيما يرشدهم إليه ونهاهم عن التنازع، وهو الاختلاف في الرأي فإن ذلك يتسبب عنه الفشل وهو الجبن في الحرب، وأما المنازعة بالحجة لإظهار الحق فجائزة كما قال (وجادلهم بالتي هي أحسن) بل هي مأمور بها بشروط(5/188)
منها قصد إظهار الحق على لسان أي الخصمين وعلامته أن يفرح لظهوره على لسان خصمه.
(وتذهب ريحكم) الريح القوة والنصر كما يقال الريح لفلان إذا كان غالباً في الأمر، وقيل الريح الدولة شبهت في نفوذ أمرها بالريح في هبوبها، والمختار أن الريح يطلق ويراد به القوة والغلبة والرحمة والنصرة والدولة، قال في الخازن: الريح هنا كناية عن نفاذ الأمر وجريانه على المراد، تقول العرب هبت ريح فلان إذا أقبل أمره على ما يريد، وقال قتادة وابن زيد: هي ريح النصر ولم يكن نصر قط إلا بريح يبعثها الله تضرب وجوه العدو ومنه قوله صلى الله عليه وآله وسلم: نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور (1).
(واصبروا إن الله مع الصابرين) أمرهم بالصبر على شدائد الحرب وأخبرهم بأنه مع الصابرين بالنصر والعون في كل أمر ينبغي الصبر فيه، ويا حبذا هذه المعية التي لا يغلب من رزقها غالب، ولا يؤتى صاحبها من جهة من الجهات وإن كانت كثيرة
_________
(1) مسلم 900.(5/189)
وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (47)
(ولا تكونوا) في البطر والاستكبار (كالذين خرجوا من ديارهم) أي مكة (بطراً) أي فخراً وأشراً (ورئاء الناس) فيصيبكم مثل ما أصابهم نهاهم عن أن تكون حالتهم كحالة هؤلاء وهم قريش فإنهم خرجوا يوم بدر ليحفظوا العير التي مع أبي سفيان ومعهم القيان (1) والمعازف فلما بلغوا الجحفة بلغهم أن العير قد نجت وسلمت فلم يرجعوا بل قالوا لا بد لهم من الوصول إلى بدر ليشربوا الخمر وتغني لهم القيان وتسمع العرب بمخرجهم فكان ذلك منهم بطراً وأشراً وطلباً للثناء من الناس والتمدح إليهم، والفخر عندهم، وهو الرياء.
قيل والبطر في اللغة التقوِّي بنعم الله على معاصيه أي خرجوا بطرين مرائين أو خرجوا للبطر والرياء، قال الزجاج البطر الطغيان في النعمة وترك
_________
(1) المغنيات.(5/189)
شكرها وجعلها وسيلة إلى ما لا يرضاه الله، والرياء إظهار الجميل مع إبطان القبيح، وقيل معناهما الفخر بالنعمة ومقابلتها بالتكبر والخيلاء والفخر بها، والرياء مصدر راءى كقاتل قتالاً.
وظاهر النظم الكريم أن قوله بطراً متعلق بخرجوا وهو لا يوافق الواقع لأن خروجهم كان لغرض مهم، وهو المنع عن عيرهم ولهذا جعله السيوطي متعلقاً بمحذوف وقدر لخرجوا علة أخرى حيث قال خرجوا من ديارهم ليمنعوا عيرهم ولم يرجعوا بعد نجاتها بطراً، فجعله علة لهذا المقدر وهو قوله ولم يرجعوا والمعنى عليه واضح ولم يسلك هذا المسلك غيره ممن رأيناه من المفسرين.
وعن قتادة قال: ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال يومئذ: " اللهم إن قريشاً قد أقبلت بفخرها وخيلائها لتجادل رسولك "، وقال: جاءت من مكة أفلاذها وقد احتج بهذه الآية الشيخ عبد العزيز الدهلوي على أنه لا يجوز طوف البلد للعروس بركوب الخيل وغيرها كما اعتاده أهل الهند في عقود مناكحاتهم.
(ويصدون عن سبيل الله) عطف على بطراً إن جعل مصدراً في موضع الحال وكذا إن جعل مفعولاً له لكن على تأويل المصدر يعني صادين عن دين الله أو للصد عنه، والصد إضلال الناس والحيلولة بينهم وبين طرق الهداية، ويجوز أن يكون ويصدون معطوفاً على يخرجون والمعنى يجمعون بين الخروج على تلك الصفة والصد، ونكتة التعبير بالاسم أولاً ثم الفعل أن البطر والرثاء كانا دأبهم بخلاف الصد فإنه تجدد لهم في زمن النبوة قاله الشهاب (والله بما يعملون محيط) لا يخفى عليه من أعمالهم خافية، فهو مجازيهم عليها.(5/190)
وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (48) إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ(5/191)
وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (48)
(وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم) أي واذكر يا محمد تزيين الشيطان لهم أعمالهم بأن شجعهم وقواهم لما خافوا الخروج من أعدائهم بني بكر وهم قبيلة كنانة قريبة من قريش وبينها وبينهم الحروب الكثيرة، والتزيين التحسين، وقد روي أن الشيطان تمثل لهم يوم بدر في جند من الشياطين معه، قال ابن عباس: رأيته في صورة رجل من رجال بني مدلج سراقة بن مالك بن جعشم سيد تلك الناحية، وكانت قريش تخاف من بني بكر أن يأتوهم من ورائهم.
(وقال) لهم (لا غالب لكم اليوم من الناس) أي كنانة وغيرها (وإني جار) أي مجير ومعين وناصر (لكم) من كل عدو أو من بني كنانة، ومعنى الجار هنا الدافع عن صاحبه أنواع الضرر كما يدفع الجار عن الجار، وقيل المعنى أنه ألقى في روعهم هذه المقالة وخيل إليهم أنهم لا يغلبون ولا يطاقون.
(فلما تراءت) التقت (الفئتان) أي فئة المسلمين والمشركين ورأى الملائكة وكان يده في يد الحرث بن هشام (ونكص) أي رجع (على عقبيه) هارباً أي رجع القهقرى يمشي إلى ظهره، وقيل معنى نكص هاهنا بطل كيده وذهب ما خيله.
(وقال إني بريء منكم) أي من جواركم وحفظكم ونصركم والذب عنكم وتبرأ منهم لما رأى أمارات النصر مع المسلمين بإمداد الله لهم بالملائكة، ثم علل ذلك بقوله: (إني أرى ما لا ترون) من الملائكة ثم علل بعلة أخرى فقال (إني أخاف الله) قيل خاف أن يصاب بمكروه من الملائكة الذين حضروا(5/191)
الوقعة، وقيل أن دعوى الخوف كذب منه ولكنه رأى أنه لا قوة له ولا للمشركين فاعتل بذلك (والله شديد العقاب) يحتمل أن يكون من تمام كلام إبليس بسطاً للعذر ويحتمل أن يكون كلاماً مستأنفاً من جهة الله سبحانه تهديداً لإبليس (1).
_________
(1) قال ابن السائب: كان إبليس في صف المشركين على صورة سراقة، آخذاً بيد الحارث بن هشام؛ فرأى الملائكة فنكص على عقبيه، فقال له الحارث: أفراراً من غير قتال؛ فقال: (إِني أرى ما لا ترون)؛ فلما هُزم المشركون، قالوا: هَزَمَ الناس سراقة؛ فبلغه ذلك، فقال: والله ما شعرت بمسيركم حتى بلغتني هزيمتكم. قال قتادة: صدق عدو الله في قوله: (إني أرى ما لا ترون)، ذُكر لنا أنه رأى جبريل ومعه الملائكة، فعلم أنه لا يد له بالملائكة، وكذب عدو الله في قوله: (إني أخاف الله)، والله ما به مخافة الله، ولكن علم أنه لا قوة له بهم.(5/192)
إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (49)
(إذ يقول المنافقون) قيل هم الذين أظهروا الايمان وأبطنوا الكفر وكانوا بالمدينة وهو ابتداء كلام منقطع عما قبله (والذين في قلوبهم مرض) هم الشاكون من غير نفاق الكائنون بمكة لم يقو إسلامهم لكونهم حديثي عهد بالإسلام، وعن الحسن قال: مرضى القلوب هم قوم لم يشهدوا القتال يوم بدر فسموا منافقين، وقال الكلبي: هم قوم كانوا أقروا بالإسلام وهم بمكة ثم خرجوا مع المشركين يوم بدر فلما رأوا المسلمين وافقوا المنافقين في قولهم.
(غر هؤلاء) المسلمين (دينهم) حتى تكلفوا ما لا طاقة لهم به من قتال قريش، وعن الشعبي نحوه، وقيل هم المشركون ولا يبعد أن يراد بهم اليهود الساكنون في المدينة وما حولها وأنهم هم والمنافقون من أهل المدينة قالوا هذه المقالة عند خروج المسلمين إلى بدر لما رأوهم في قلة من العدد، وضعف من العدد.
فأجاب الله عليهم بقوله: (ومن يتوكل على الله) يثق به (فإن الله عزيز) لا يغلبه غالب ولا يذل من توكل عليه (حكيم) له الحكمة البالغة التي تقصر عندها العقول.(5/192)
وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ(5/193)
وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (50)
(ولو ترى) الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم أو لكل من يصلح له كما تقدم تحقيقه في غير موضع، والرؤية بصرية والمعنى لو رأيت (إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة) لأن لو يقلب المضارع ماضياً) أي ولو ترى الكافرين وقت توفي الملائكة لهم قيل أراد بالذين كفروا من يقتل يوم بدر.
وقيل هي فيمن قتل ببدر، وجواب لو محذوف تقديره لرأيت أمراً عظيماً (يضربون وجوههم) أي جهة الأمام (وأدبارهم) أي جهة الخلف يعني أستاههم كنى عنها بالأدبار، وقيل ظهورهم بمقامع من حديد، وهذا نص في أن ملائكة الموت عند قبضها لروح الكافر تضربه بما ذكر وتقول له ما ذكر وإن كنا محجوبين عن رؤية ذلك وسماعه.
واختلفوا في وقت هذا الضرب، فقيل يكون عند الموت تضرب الملائكة وجوه الكفار وأدبارهم بسياط من نار كما يفيده ذكر التوفي، وقيل هو يوم القيامة حين يسيرون بهم إلى النار، قال ابن جريج: يريد ما أقبل من أجسادهم وأدبر يعني يضربون جميع أجسادهم، قيل كان المشركون إذا أقبلوا بوجوههم على المسلمين ضربت الملائكة وجوههم بالسيوف، وإذا ولوا أدبارهم ضربت الملائكة أدبارهم، قيل كان معهم مقامع من حديد محماة بالنار يضربون بها الكفار فتلتهب النار في جراحاتهم.
(و) يقول لهم خزنة جهنم عند القتل (ذوقوا عذاب الحريق) أي المحرق وقال ابن عباس: تقول لهم الملائكة ذلك بعد الموت، وقال الحسن: هذا يوم القيامة، والذوق قد يكون محسوساً وقد يوضع موضع الابتلاء والاختبار، وأصله من الذوق بالفم.(5/193)
ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (51) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ(5/194)
ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (51)
(ذلك) إشارة إلى ما تقدم من الضرب والحريق والعذاب والقتل (بما قدمت أيديكم) أي واقع بسبب ما كسبتم من المعاصي واقترفتم من الذنوب، هذا من جملة قول الملائكة، عبر بها دون غيرها لأن أكثر الأفعال تزاول بها (وأن الله ليس بظلام للعبيد) أي والأمر انه لا يظلمهم أو ذلك العذاب بسبب المعاصي وبسبب أن الله ليس بذي ظلم لهم فيعذبهم بغير ذنب، لأنه سبحانه قد أرسل إليهم رسله وأنزل عليهم كتبه، وأوضح لهم السبيل وهداهم النجدين كما قال سبحانه: (وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون) والجملة اعتراض تذييلي مقرر لمضمون ما قبلها،(5/194)
كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (52)
(كدأب) لما ذكر سبحانه ما أنزله بأهل بدر أتبعه بما يدل على أن هذه سنته في فرق الكافرين، وأصل الدأب في اللغة إدامة العمل، يقال فلان يدأب في كذا إذا داوم عليه وأتعب نفسه فيه، ثم سميت العادة دأباً لأن الإنسان يداوم على عادته ويواظب عليها، أي دأب هؤلاء في كفرهم مثل دأب (آل فرعون والذين من قبلهم) والمعنى أنه جوزي هؤلاء كما جوزي أولئك فكانت العادة في عذاب هؤلاء كالعادة الماضية لله في تعذيب طوائف الكفر من الأمم الماضية المكذبة فيما فعلوا وفعل بهم.
(كفروا بآيات الله) مفسرة لدأب آل فرعون وبيان لفعلهم أي دأبهم هذا هو أنهم كفروا بها (فأخذهم الله بذنوبهم) هذا بيان لما فعل بهم أي فتسبب عن كفرهم أخذ الله سبحانه لهم، والراد بذنوبهم معاصيهم المترتبة على كفرهم، فالباء للملابسة أي فأخذهم متلبسين بذنوبهم غير تائبين عنها (إن الله قوي) على ما يريده (شديد العقاب) جملة معترضة مقررة لمضمون ما قبلها.(5/194)
ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (53) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ(5/195)
ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (53)
(ذلك) أي العقاب الذي أنزله الله بهم (بأن الله لم يك) مجزوم بسكون النون المحذوفة تخفيفاً أي ما كان (مغيراً نعمة أنعمها على قوم) المراد بالنعمة هو محمد - صلى الله عليه وسلم - أنعم بها على قريش فكفروا به وكذبوه فنقله الله إلى الأنصار، قاله السدي والجملة جارية مجرى التعليل لما حل بهم من عذاب الله أي أن ذلك العقاب بسبب أن عادة الله في عباده عدم تغيير النعمة التي ينعم بها عليهم مبدلاً لها بالنقمة.
(حتى يغيروا ما بأنفسهم) من الأحوال والأخلاق بكفران نعم الله وغمص (1) إحسانه وإهمال أوامره ونواهيه، وهذا يعم الحال المرضية والقبيحة، فكما تغير الحال المرضية إلى المسخوطة كذلك تغير الحال المسخوطة إلى ما هو أسوأ منها، هذا حاصل ما في الكشاف، وذلك كما كان من آل فرعون ومن قبلهم ومن قريش ومن يماثلهم من المشركين، فإن الله فتح لهم أبواب الخيرات في الدنيا ومنّ عليهم بإرسال الرسل وإنزال الكتب، فقابلوا هذه النعم بالكفر فاستحقوا تغيير النعم كما غيروا ما كان يجب عليهم سلوكه والعمل به من شكرها وقبولها.
وجملة (وأن الله سميع عليم) معطوفة على ما قبلها داخلة معها في التعليل، أي ذلك بسبب أن الله لم يك مغيراً وبسبب أن الله سميع يسمع ما
_________
(1) الغمص كفران النعمة إ. هـ منه.(5/195)
يقولونه، وعليم يعلم ما يفعلونه.
ثم كرر ما تقدم فقال:(5/196)
كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ (54)
(كدأب آل فرعون والذين من قبلهم) لقصد التأكيد مع زيادة أنه كالبيان للأخذ بالذنوب بانه كان بالإغراق، وقيل أن الأول باعتبار ما فعله آل فرعون ومن شبه بهم، والثاني باعتبار ما فعل بهم وقيل المراد بالأول كفرهم بالله وبالثاني تكذيبهم الأنبياء، وقيل الأول إخبار عن عذاب لم يمكن الله أحداً من فعله وهو ضرب الملائكة وجوههم وأدبارهم عند نزع أرواحهم والثاني إخبار عن عذاب مكن الله الناس من فعل مثله وهو الإهلاك والإغراق، وقيل غير ذلك مما لا يخلو عن تعسف.
وفي قوله: (كذبوا بآيات ربهم) زيادة دلالة على كفران النعم وجحود الحق والكلام في (فأهلكناهم بذنوبهم) كالكلام المتقدم في (فأخذهم الله بذنوبهم) قيل المعنى أهلكنا بعضهم بالرجفة وبعضهم بالخسف وبعضهم بالحجارة وبعضهم بالريح وبعضهم بالمسخ، فكذلك أهلكنا كفار قريش بالسيف.
(وأغرقنا آل فرعون) أي قومه معه معطوف على أهلكناهم عطف الخاص على العام لفظاعته وكونه من أشد أنواع الإهلاك (وكل كانوا ظالمين) حكم على كلا الطائفتين من آل فرعون والذين من قبلهم ومن كفار قريش بالظلم لأنفسهم بما تسببوا به لعذاب الله من الكفر بالله وآياته ورسله بالظلم لغيرهم كما كان يجري منهم في معاملاتهم للناس بأنواع الظلم وبالتكذيب لأنبيائهم، وجمع الضمير في (كانوا) وفي ظالمين مراعاة لعنى (كل) هو لأن كلاًّ متى قطعت عن الإضافة جاز مراعاة لفظها تارة ومعناها أخرى، وإنما اختير هنا مراعاة المعنى لأجل الفواصل ولو روعي اللفظ فقط فقيل وكل كان ظالماً لم تتفق الفواصل، قاله السمين.(5/196)
إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (55) الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ(5/197)
إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (55)
(إن شر الدواب عند الله الذين كفروا) أي شر ما يدب على وجه الأرض في حكم الله وقضائه المصرون على الكفر المتمادون في الضلال، وجعلهم شر الدواب لا شر الناس إيماء إلى انسلاخهم عن الإنسانية ودخولهم في جنس غير الناس من أنواع الحيوان لعدم تعقلهم لما فيه رشادهم، ومع ذلك هم شر من جميع أفرادها حسبما نطق به قوله تعالى: (إن هم إلا كالانعام بل هم أضل) عن سعيد بن جبير قال: نزلت في ستة رهط من اليهود فيهم ابن تابوت ولهذا قال: (فهم لا يؤمنون) أي هذا شأنهم لا يؤمنون أبداً ولا يرجعون عن الغواية أصلاً،
وهذا حكم مترتب على تماديهم في الكفر ورسوخهم فيه وتسجيل عليهم بكونهم من أهل الطبع لا يلويهم صارف ولا يثنيهم عاطف أصلاً. جيء به على وجه الاعتراض لا أنه عطف على كفروا داخل معه في حيز الصلة التي لا حكم فيها بالفعل، قاله أبو السعود(5/197)
الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ (56)
(الذين عاهدت منهم) أي أخذت منهم عهدهم أن لا يعينوا المشركين أي كفار مكة قيل من في (منهم) هو صلة أي عاهدتهم وقيل للتبعيض أي الذين عاهدتهم، وهم بعض أولئك الكفرة يعني الأشراف منهم.
(ثم ينقضون عهدهم) الذي عاهدتهم، وعطف المستقبل على الماضي للدلالة على استمرار النقض منهم، وهؤلاء هم قريظة عاهدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن لا يعينوا الكفار فلم يفوا بذلك (في كل مرة) من مرات المعاهدة فنقصوا وأعانوهم بالسلاح وقالوا نسينا العهد ثم عاهدهم فنكثوا ومالؤوا الكفار عليه يوم الخندق (وهم) أي والحال أنهم (لا يتقون) الله في النقض والغدر، ولا يخافون عاقبته ولا يتجنبون أسبابه.(5/197)
فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (57) وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ (58) وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ
ثم أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالشدة والغلظة عليهم فقال:(5/198)
فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (57)
(فإما تثقفنهم في الحرب) أي فإما تصادفنهم في ثقاف وتلقاهم في حالة تقدر عليهم فيها وتتمكن من غلبهم وتظفر بهم يقال ثقفت الشيء ثقفاً من باب تعب أخذته، وثقفت الرجل في الحرب أدركته وثقفته ظفرت به، وثقفت الحديث فهمته بسرعة والفاعل ثقيف وبه سمي حي من اليمن، والثقاف في أصل اللغة ما يشد به القناة ونحوها يقال فلان ثقف أي سريع الوجود لما يحاوله.
(فشرِّد بهم) أي ففرق بقتلهم والتنكيل بهم والعقوبة لهم (من خلفهم) من المحاربين لك من أهل الشرك كفار مكة حتى يهابوا جانبك ويكفوا عن حربك مخافة أن ينزل بهم ما نزل بهؤلاء أو يخافك من وراءهم من أهل مكة واليمن والتشريد التفريق مع الاضطراب والإزعاج، وقال أبو عبيدة: شرد بهم سمّع بهم وقال الزجاج: افعل بهم فعلاً من القتل تفرق به من خلفهم، يقال شردت بني فلان قلعتهم عن مواضعهم وطردتهم عنها حتى فارقوها، ومنه شرد البعير إذا فارق صاحبه.
وقرأ ابن مسعود بالذال، قال قطرب: التشريذ هو التنكيل، وبالمهملة هو التفريق، وقال المهدوي: الذال المعجمة لا وجه لها ولا يعرف في اللغة (لعلهم) أي الذين خلفهم (يذكرون) أي يحذرون أن ينكثوا فيصنع بهم مثل ذلك، قاله السدي.(5/198)
وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ (58)
(وإما تخافن من قوم خيانة) أي غشاً ونقضاً للعهد من القوم المعاهدين(5/198)
بأمارة تلوح لك وهم قريظة والنضير (فانبذ) أي فاطرح (إليهم) هو العهد الذي بينك وبينهم، والنبذ الطرح، وهذا مجاز عن إعلامهم بأن لا عهد لهم بعد اليوم فشبه العهد بالشيء الذي يرمى لعدم الرغبة فيه، وأثبت النبذ له تخييلاً ومفعوله محذوف وهو عهدهم، قاله الشهاب.
(على سواء) أي طريقة مستوية والمعنى أنه يخبرهم إخباراً ظاهراً مكشوفاً بالنقض ولا يناجزهم الحرب بغتة، وقيل معنى على سواء على وجه يستوي في العلم بالنقض أقصاهم وأدناهم أو تستوي أنت وهم فيه لئلا يتهموك بالغدر، قال الكسائي: السواء العدل، وقد يكون بمعنى الوسط، ومنه قوله: (في سواء الجحيم).
وقيل معنى على سواء على جهر لا على سر، والظاهر أن هذه الآية عامة في كل معاهد يخاف من وقوع النقض منه، قال ابن عطية: والذي يظهر من ألفاظ القرآن أن أمر بني قريظة انقضى عند قوله: (فشرد بهم من خلفهم) ثم ابتدأ تبارك وتعالى في هذه الآية يأمره بما يصنعه في المستقبل مع من يخاف منه خيانة (إن الله لا يحب الخائنين) تعليل لما قبلها يحتمل أن تكون تحذيراً لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن المناجزة قبل أن ينبذ إليهم على سواء، ويحتمل أن تكون عائدة إلى القوم الذين تخاف منهم الخيانة.(5/199)
وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ (59)
(ولا يحسبن الذين كفروا سبقوا) أي فاتوا عذابه وخلصوا ونجوا منه وانهزموا يوم بدر وأفلتوا من أن يظفر بهم، وعلى القراءة بالفوقية يكون الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهي قراءة واضحة قاله أبو السعود، وقال الخفاجي: وهي ظاهرة، وقد زعم جماعة من النحويين منهم أبو حاتم أن قراءة من قرأ يحسبن بالتحتية لحن لا يحل القراءة بها لأنه لم يات ليحسبن بمفعول وهو يحتاج لمفعولين.(5/199)
قال النحاس: وهذا تحامل شديد، ومعنى هذه القراءة ولا يحسبن من خلفهم الذين كفروا سبقوا فيكون الضمير يعود على ما تقدم إلا أن قراءة التاء أبين، قال الخفاخي: وأما القراءة بالياء للغيبة فضعفها الزمخشري، وقال إنها غير نيرة، وقد ردوا عليه ذلك بوجهين:
الأول: أن حمزة وحفصاً وابن عامر وغيرهم قرأوا بها.
الثاني: أن قوله أنها غير نيرة ليس كما زعم فإنها أنور من الشمس في وسط النهار لأن فاعل يحسبن ضمير أي لا يحسبن هو أي قبيل المؤمنين أو الرسول أو الحاسب أو من خلفهم أو أحد لأنه معلوم من الكلام فلا يرد عليه أنه لم يسبق له ذكر، وأما حذف الفاعل فلا يخطر بالبال كما توهم، وعليه فمفعولاه (الذين كفروا سبقوا) وقيل الفعل مسند إلى الذين كفروا، والمفعول الأول محذوف وسبقوا هو الثاني أي لا يحسبن الذين كفروا أنفسهم سابقين انتهى.
(إنهم لا يعجزون) هو تعليل لما قبلها أي أنهم بهذا السبق لا يفوتون ولا يجدون طالبهم عاجزاً عن إدراكهم والانتقام منهم، وقيل المراد بهذه الآية من أفلت من وقعة بدر من المشركين والمعنى أنهم وإن أفلتوا من هذه الوقعة ونجوا فإنهم لا يعجزون بل هم واقعون في عذاب الله في الدنيا بالقتل وفي الآخرة بعذاب النار، وفيه تسلية للنبي - صلى الله عليه وسلم - فيمن فاته من المشركين ولم ينتقم منهم فأعلمه الله أنهم لا يعجزونه (1).
_________
(1) روى مسلم عن أبي سعيد الخُدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ " لكل غادر لواءٌ يوم القيامة يرفع له بقدر غدره ألا ولا غادر أعظم غدراً من أمير عامة " قال علماؤنا رحمة الله عليهم: إنما كان الغدر في حق الإمام أعظم وأفحش منه في غيره لما في ذلك من المفسدة.(5/200)
وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (60) وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ(5/201)
وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (60)
(وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة) أمر سبحانه بإعداد القوة للأعداء الناقضي العهد كما يقتضيه السياق أو للكفار مطلقاً كما يقتضيه ما بعده، والأعداد اتخاذ الشيء لوقت الحاجة إليه، ومن لبيان الجنس، والقوة كل ما يتقوى به في الحرب على العدو، ومن ذلك السلاح والقسيّ.
وقد ثبت في صحيح مسلم وغيره من حديث عقبة بن عامر قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو على المنبر يقول: " وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ألا إن القوة الرمي قالها ثلاث مرات " (1)، وقيل هي الحصون والمعاقل، والمصير إلى التفسير الثابت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - متعين.
وعن ابن عباس: القوة الرمي والسيوف والسلاح، وقال ابن الزبير: أمرهم بإعداد الخيل، وعن عكرمة قال: القوة ذكور الخيل والرباط الأناث، وعن مجاهد مثله، وعن ابن المسيب قال: القوة السهم إلى الفرس فما دونه، وقال عكرمة: الحصون وقيل كل ما هو آلة يستعان بها في الجهاد فهو من جملة القوة المأمور بإعدادها، وقوله - صلى الله عليه وسلم - ألا إن القوة الرمي لا ينفى كون غير الرمي ليس من القوة فهو كقوله: (الحج عرفة) (2) وقوله: (الندم توبة) (3) فهذا لا
_________
(1) مسلم 1917.
(2) صحيح الجامع الصغير 3167.
(3) الإمام أحمد 1/ 376.(5/201)
ينفي اعتبار غيره بل يدل على أن هذا المذكور من أفضل المقصود وأجله، فكذا هنا بحمل معنى الآية على الاستعداد للقتال في الحرب وجهاد العدو بجميع ما يمكن من الآلات كالرمي بالنبل والنشاب والسيف والدرع وتعليم الفروسية، كل ذلك مأمور به لأنه من فروض الكفايات.
(ومن رباط الخيل) قال أبو حاتم: الرباط من الخيل الخمس فما فوقها وهي الخيل التي ترتبط بإزاء العدو، قال في الكشاف: الرباط اسم للخيل التي ترتبط في سبيل الله، ويجوز أن تسمى بالرباط الذي هو بمعنى المرابطة، ويجوز أن يكون جمع ربيط كفصيل وفصال اهـ والرباط ما تربط به القربة وغيرها والجمع ربط مثل كتاب وكتب ويقال للمصاب ربط الله على قلبه بالصبر كما يقال أفرغ الله عليه الصبر أي ألهمه، والرباط الذي يبنى للفقراء مولد ويجمع في القياس على ربط بضمتين ورباطات والرابطة إقامة المسلمين بالثغور للحراسة فيها.
وربط الخيل للجهاد من أعظم ما يستعان به، قال ابن محيريز: كانت الصحابة يستحبون ذكور الخيل عند الصفوف وإناث الخيل عند الشتات والغارات، وقيل ربط الفحول أولى من الإناث لأنها أقوى على الكر والفر والعدو، وقيل لفظ الخيل عام يتناول الفحول والإناث فأي ذلك ربط بنية الغزاة كان في سبيل الله.
ومن فسر القوة بكل ما يتقوى به في الحرب جعل عطف الخيل من عطف الخاص على العام، وقد ورد في استحباب الرمي وما فيه من الأجر، واستحباب اتخاذ الخيل وإعدادها وكثرة ثواب صاحبها أحاديث كثيرة لا يسع المقام بسطها وقد أفرد ذلك جماعة من العلماء بمصنفات.
(ترهبون به عدو الله وعدوكم) الترهيب التخويف والضمير في به راجع(5/202)
إلى ما في ما استطعتم أو إلى المصدر المفهوم من (وأعدوا) وهو الإعداد فقوله ترهبون إما حال من فاعل (أعدوا) أو من مفعوله أي حصلوا لهم هذا حال كونكم مرهبين أو أعدوه مرهباً به، وجاز نسبته لكل منهما لأن في الجملة ضميريهما، والمراد بعدو الله وعدوهم هم المشركون من أهل مكة وغيرهم من مشركي العرب.
(وآخرين من دونهم) معطوف على عدو الله وعدوكم ومعنى من دونهم من غيرهم، قيل هم اليهود، وقيل فارس والروم، وقيل المنافقون وفيه بعد، وقيل كفار الجن، قاله الحسن ورجحه ابن جرير الطبري وهو أبعد، وقيل المراد كل من لا تعرف عداوته، قاله السهيلي وقيل هم بنو قريظة خاصة، وقيل غير ذلك والأولى الوقف في تعيينهم لقوله.
(لا تعلمونهم) أي لا تعرفونهم بأعيانهم، ومن عينهم قال: أي لا تعلمون بواطنهم وما انطووا عليه من النفاق، والعلم فيه قولان.
أحدهما: أنه متعدّ لواحد لأنه بمعنى المعرفة ولذلك تعدى لواحد.
والثاني: أنه على بابه فيتعدى لاثنين والثاني محذوف أي لا تعلمونهم فازعين أو محاربين.
وهذان القولان لا يجوز أن يجريا في قوله: (والله يعلمهم) بل يجب أن يقال إنه المتعدي إلى اثنين وأن ثانيهما محذوف للفرق بين العلم والمعرفة بوجوه (منها) أن المعرفة تستدعي سبق جهل ومنها أن متعلقها الذوات دون النسب، وقد اتفق العلماء على أنه لا يجوز أن يطلق الوصف بالمعرفة على الله تعالى، وهذا لا يرد لأنه ليس في الآية إطلاق اسم العارف عليه، وإنما فيها إطلاق(5/203)
اسم العلم وإن كان بمعنى العرفان (1).
(وما تنفقوا من شيء في سبيل الله) وأي في الجهاد وإن كان يسيراً حقيراً، وقيل هو أمر عام في كل وجوه الخيرات والطاعات ويدخل فيه نفقة الغزو، دخولاً أولياً (يوف إليكم) أجره وجزاؤه في الآخرة فالحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة كما قررناه سابقاً، ويعجل لكم عوضه في الدنيا (وأنتم لا تظلمون) في شيء من هذه النفقة التي تنفقونها في سبيل الله أي من ثوابها بل يصير ذلك إليكم وافياً وافراً كاملاً وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجراً عظيماً (أني لا أضيع عمل عامل منكم).
والتعبير عنه بالظلم مع أن الأعمال غير موجبة الثواب حتى يكون ترك ترتيبه عليها ظلماً لبيان كمال نزاهته سبحانه عن ذلك بتصويره بصورة ما يستحيل صدوره عنه تعالى من القبائح وإبراز الإثابة في معرض الأمور الواجبة عليه تعالى.
_________
(1) ذكره ابن كثير في " تفسيره " 2/ 322 من رواية ابن أبي حاتم عن يزيد بن عبد الله ابن غريب عن أبيه عن جده أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول في قول الله تعالى: (وآخرين من دونهم لا تعلمونهم). قال: " هم الجن " ثم قال: ورواه الطبراني عن يزيد بن عبد الله بن غريب به وزاد: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " لا يخبل بيت فيه عتيق من الخيل " وقال: وهذا الحديث منكر لا يصح إسناده ولا متنه.(5/204)
وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (61)
(وإن جنحوا للسلم فاجنح لها) أي إن مالوا إلى الصالحة فاقبل منهم الصلح ومل إلى الصالحة، والجنوح اليل، يقال جنح الرجل إلى الرجل مال إليه ومنه قيل للأضالع الجوانح لأنها مالت إلى الحشوة، وجنحت الإبل إذا مالت أعناقها في السير، ويقال جنح الليل أقبل.
قال النضر بن شميل: جنح الرجل إلى فلان ولفلان إذا خضع له، والجنوح الاتباع أيضاً لتضمنه الميل والجناح من ذلك لميلانه إلى الطائر، والسلم(5/204)
الصلح، قرئ بالكسر والفتح وهما قراءتان سبعيتان، وقرئ فاجنح بضم النون وبالفتح والأولى لغة قيس والثانية لغة تميم قال ابن جني: ولغة قيس هي القياس، والسلم يذكر ويؤنث كما يؤنث الحرب إذ هي مؤولة بالخصلة أو الفعلة.
وعن مجاهد قال: وإن جنحوا يعني قريظة وعن ابن عباس قال: السلم الطاعة.
وقد اختلف أهل العلم هل هذه الآية منسوخة أم محكمة، فقيل هي منسوخة بقوله: (فاقتلوا المشركي) قاله ابن عباس. وقيل ليست بمنسوخة لأن المراد بها قبول الجزية وقد قبلها منهم الصحابة فمن بعدهم فتكون خاصة بأهل الكتاب، قاله مجاهد وقيل إن المشركين إن دعوا إلى الصلح جاز أن يجابوا إليه.
وتمسك المانعون من مصالحة المشركين بقوله تعالى: (ولا تهنوا) وتدعوا إلى السلم (وأنتم الأعلون) والله معكم وقيدوا عدم الجواز بما إذا كان المسلمون في عزة وقوة لا إذا لم يكونوا كذلك، فإنه جائز كما وقع منه صلى الله عليه وآله وسلم من مهادنة قريش، وما زالت الخلفاء والصحابة على ذلك، وهذا كله مبني على أن المراد بالصلح هو عقد الجزية، أما لو أريد غيره من العقود التي تفيدهم الأمن وهي الهدنة والأمان فلا نسخ مطلقاً إذ يصح عقدهما لكل كافر، وكلام أهل العلم في هذه المسألة معروف مقرر في مواطنه.
(وتوكل على الله) في جنوحك للسلم ولا تخف من مكرهم وفوض أمرك إليه فيما عقدته معهم ليكون ذلك عوناً لك في جميع أحوالك (إنه) سبحانه (هو السميع) لما يقولون (العليم) بما يفعلون.(5/205)
وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ(5/206)
وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62)
(وإن يريدوا أن يخدعوك) بالصلح وهم مضمرون الغدر والخدع وجواب الشرط محذوف أي فصالحهم ولا تخش. منهم (فإن) أي لأن (حسبك الله) أي كافيك بنصره ومعونته ما تخافه من شرورهم بالنكث والغدر ودفع خديعتهم.
(هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين) تعليلية أي لا تخف من خدعهم ومكرهم، فإن الله الذي قواك عليهم بالنصر فيما مضى وهو يوم بدر، هو الذي سينصرك ويقويك عليهم عند حدوث الخدع والنكث، والمراد بالمؤمنين المهاجرون والأنصار.
فإن قلت: إذا كان الله قد أيده بنصره فأي حاجة إلى نصر المؤمنين حتى يقول وبالمؤمنين؛ قلت التأييد والنصر من الله عز وجل وحده لكنه يكون بأسباب باطنة غير معلومة، وبأسباب ظاهرة معلومة، فأما الذي يكون بالأسباب الباطنة فهو المراد بقوله: (وهو الذي أيدك بنصره) لأن أسبابه باطنة بغير وسائط معلومة وأما الذي يكون بالأسباب الظاهرة فهو المراد بقوله: (وبالمؤمنين) لأن أسبابه ظاهرة بوسائط معلومة وهم المؤمنون، والله تعالى هو مسبب الأسباب، وهو الذي أقامهم لنصره.
ثم بين كيف كان تأييده بالمؤمنين فقال:(5/206)
وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (63)
(وألّف بين قلوبهم) وظاهره العموم وإن ائتلاف قلوب المؤمنين هو من أسباب النصر التي أيد الله بها رسوله.
وقال جمهور المفسرين: المراد الأوس والخزرج، فقد كان بينهم عصبية شديدة وأنفة عظيمة وانطواء على الضغينة من أدق شيء وحروب عظيمة وفتن(5/206)
من منذ مائة وعشرين سنة، لا يكاد يأتلف منهم قلبان، فألف الله بين قلوبهم بالايمان برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وانقلبت تلك الحالة واستجمعت كلمتهم، وزالت حمية الجاهلية، وأبدلت تلك الضغائن بالمحبة لله وفي الله، واتفقوا على الطاعة وصاروا أنصاراً لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأعواناً يقاتلون عنه ويحمونه، وهذا مما لا يقدر عليه إلا الله عز وجل، وصار ذلك معجزة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ظاهرة باهرة دالة على صدقه.
وقيل أراد التأليف بين المهاجرين والأنصار، والحمل على العموم أولى، فقد كانت العرب قبل البعثة المحمدية يأكل بعضهم بعضاً ولا يحترم ماله ولا دمه حتى جاء الإسلام فصاروا يداً واحدة، وذهب ما كان بينهم من العصبية والأنفة والحمية الجاهلية.
(لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم) مقررة لمضمون ما قبلها، والمعنى أن ما كان بينهم من العصبية والعداوة قد بلغ إلى حد لا يمكن دفعه بحال من الأحوال، ولو أنفق الطالب له جمِيع ما في الأرض لم يتم له طلبه من التأليف لأن أمرهم في ذلك قد تفاقم جداً.
(ولكنّ الله ألّف بينهم) بعظيم قدرته وبديع صنعه، وفيه دليل على أن القلوب بيد الله يصرفها كيف يشاء (إنه عزيز) لا يغالبه مغالب ولا يستعصي عليه أمر من الأمور (حكيم) في تدبيره ونفوذ أمره ونهيه.
وعن ابن مسعود قال: إن هذه الآية نزلت في المتحابين في الله، وهذا يدل على أن التأليف المذكور هو بين المؤمنين الذين أيد الله بهم رسوله - صلى الله عليه وسلم - وفيه رد على الرافضة حيث اعتقدوا في الصحابة ما يخالف تأليف الله تعالى بينهم، وأخرج ابن عساكر عن أبي هريرة قال: مكتوب على العرش لا إله إلا الله أنا الله وحدي لا شريك لي محمد عبدي ورسولي أيدته بعلي (1) وذلك قوله هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين والله أعلم.
_________
(1) من أين جاء هذا لأبي هريرة وهو غيب؛ هذا لا يصح.(5/207)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ(5/208)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (64)
(يا أيها النبي حسبك الله) في كل شيء وعند كل مهم، ليس هذا تكريراً لما قبله فإن الأول مقيد بإرادة الخدع وإن يريدوا أن يخدعوك فإن حسبك الله فتلك كفاية خاصة، وفي هذه كفاية عامة غير مقيدة، أي حسبك الله في كل حال فيما بينك وبين الكفرة من الحراب.
والواو في قوله: (ومن اتبعك من المؤمنين) يحتمل أن تكون للعطف على الاسم الجليل والعلم الشريف على أنه في محل الرفع، والمعنى حسبك الله وحسبك المؤمنون أي كافيك الله وكافيك المؤمنون.
قال علي المهايمي في تفسيره تبصير الرحمن: حسبك الله وإن لم يكن معك أحد وإن نظرت إلى السببية حسبك من اتبعك من المؤمنين وإن لم يألفهم من لم يتم اتباعهم لك فإن لمتابعتك أثراً عظيماً في سببية النصر انتهى. وقال أبو السعود والقاضي: الجملة في محل النصب على أنه مفعول معه أي كفاك وكفى اتباعك الله ناصراً كقوله:
إذا كانت الهيجاء وانشقت العصا ... فحسبك والضحاك عضب مهند
انتهى.
واختاره النحاس، وقال الفراء: أنه يقدر نصبه على موضع الكاف واختاره ابن عطية ورده السفاقسي بأن إضافته حقيقية لا لفظية فلا محل له اللهم إلا أن يكون من عطف التوهم وكونه مفعولاً معه، ذكره الزجاج.
وقال أبو حيان: أنه مخالف لكلام سيبويه فإنه جعل زيداً في قولهم حسبك وزيداً درهم منصوباً بفعل مقدر أي وكفى زيداً درهم وهو من عطف الجمل عنده لا يضرنا، وذكره الفراء في تفسيره، وقيل في محل الجر عطفاً على الضمير أي اسم الله تعالى أي كافيك وكافي المؤمنين الله لأن عطف الظاهر على(5/208)
المضمر في مثل هذه الصورة ممتنع عند البصيريين كما تقرر في علم النحو، وأجازه الكوفيون وحجة المانعين أنه كجزء الكلمة فلا يعطف عليه.
قال الفراء: ليس بكثير في كلامهم أن تقول حسبك وأخيك بل المستعمل أن تقول حسبك وحسب أخيك بإعادة الجار، فلو كان قوله: (ومن اتبعك) مجروراً لقيل حسبك الله وحسب من اتبعك، وبه قال الشعبي.
وقال شيخ الإسلام أحمد بن تيمية رضي الله عنه: أي وحده حسبك وحسب المؤمنين الذين اتبعوك، ومن قال أن المعنى أن الله والمؤمنين حسبك فقد ضل بل قوله من جنس الكفر، فإن الله وحيده هو حسب كل عبد مؤمن، والحسب الكافي كما قال تعالى: (أليس الله بكاف عبده) وقال تعالى (وقالوا حسبنا الله) ولم يقل ورسوله وقالوا إنا إلى الله راغبون ولم يقل هنا وإلى رسوله اهـ.
وضعف في الهدي النبوي رفعه عطفاً اسم الله وقال إنما هو عطف على الكاف فإن المعنى عليه، قال الخفاجي: وإلا وجه له فإن الفراء والكسائي رجحاه وما قبله وما بعده يؤيده اهـ. قلت وليس كما ينبغي فتأمل.
وقيل يجوز أن يكون التقدير ومن اتبعك من المؤمنين حسبهم الله فحذف الخبر. وعبارة البغوي في المعالم، اختلفوا في محل (من) فقال أكثر المفسرين محله خفض عطفاً على الكاف في قوله حسبك معناه حسبك الله وحسب من اتبعك اهـ.
قال الزهري: نزلت في الأنصار، وقيم في جميع المهاجرين والأنصار، وقال سعيد بن جبير: لما أسلم مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة وثلاثون رجلاً وست نسوة ثم أسلم عمر نزلت هذه الآية، وعن ابن عباس نحوه.
قال الشيخ معين الدين في جامع البيان: اعترض عليه بأن الأنفال كلها مدنية وإسلام عمر قبل الهجرة فلا يصح هذا اهـ. لكن قال الخازن وسليمان الجمل إن هذه الآية مكية كتبت في سورة مدنية بأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقيل نزلت بالبيداء في غزوة بدر قبل القتال.(5/209)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (65) الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ(5/210)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (65)
(يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال) أي حثهم وحضهم، والتحريض في اللغة المبالغة في الحث على الشيء بكثرة الترغيب وتسهيل الخطب فيه كأنه في الأصل إزالة الحرض وهو الهلاك وهو كالتحضيض مأخوذ من الحرض وهو أن ينهكه المرض ويتبالغ فيه حتى يشفى على الموت كأنه ينسبه إلى الهلاك لو تخلف عن المأمور به.
ثم بشرهم تثبيتاً لقلوبهم وتسكيناً لخواطرهم بأن الصابرين منهم في القتال يغلبون عشرة أمثالهم من الكفار فقال: (إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين) أي فيهم قوة وشجاعة فالمقاومة مدارها على العدد مع مراعاة المعنى لا على العدد وحده كما هو مقرر في الفروع، وفي البحر انظر إلى فصاحة هذا الكلام حيث أثبت في الشرطية الأولى قيد الصبر وحذف نظيره من الثانية وأثبت في الثانية قيد كونهم من الكفرة وحذفه من الأولى وهو غاية الفصاحة.
وقال الخفاجي: ولما كان الصبر شديد المطلوبية أثبت في جملتي التخفيف وحذف من الثانية لدلالة السابقة عليه، ثم ختمت بقوله: (والله مع الصابرين) ومبالغة في شدة المطلوبية ولم يأت في جملتي التخفيف بقيد الكفر اكتفاء بما قبله.(5/210)
قلت هذا نوع من البديع يسمى الاحتباك، وبقي عليه أنه ذكر في التخفيف بإذن الله وهو قيد لهما، وقوله: (والله مع الصابرين) إشارة إلى تأييدهم وأنهم منصورون حتماً لأن من كان الله معه لا يغلب، وبقي فيها لطائف فلله در التنزيل ما أحلى ماء فصاحته وأنضر رونق بلاغته.
ثم زاد هذا إيضاحاً مفيداً لعدم اختصاص هذه البشارة بهذا العدد بل هي جارية في كل عدد فقال: (وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفاً من الذين كفروا) وفي هذا دلالة على أن الجماعة من المؤمنين قليلاً كانوا أو كثيراً لا يغلبهم عشرة أمثالهم من الكفار بحال من الأحوال.
وقد وجد في الخارج ما يخالف ذلك فكم من طائفة من طوائف الكفار يغلبون من هو مثل عشرهم من المسلمين بل مثل نصفهم بل مثلهم، وأجيب عن ذلك بأن وجود هذا في الخارج لا يخالف ما في الآية لاحتمال أن لا تكون الطائفة من المؤمنين متصفة بصفة الصبر عند اللقاء.
وقيل أن هذا الخبر الواقع في الآية هو في معنى الأمر كقوله تعالى: (والوالدات يرضعن أولادهن)، (والمطلقات يتربصن) فالمؤمنون كانوا مأمورين من جهة الله سبحانه بأن يثبت الجماعة منهم لعشرة أمثالهم.
وفي الخطيب حاصل هذه العبارة المطولة أن الواحد يثبت للعشرة فما الفائدة في العدول إلى تلك.
أجيب بأن هذا إيماء ورد على وفق الواقعة فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يبعث السرايا، والغالب أن تلك السرايا ما كان ينقص عددها عن العشرين وما كانت تزيد على المائة، فلهذا المعنى ذكر الله هذين العددين.
(بأنهم قوم لا يفقهون) أي أن هذا الغلب بسبب جهلهم بالله وباليوم(5/211)
الآخر وعدم فقههم، وأنهم يقاتلون على غير بصيرة، ولا يقاتلون احتساباً وامتثالاً لأمر الله تعالى وإعلاء لكلمته وابتغاء لرضوانه كما يفعله المؤمنون، وإنما يقاتلون للحمية الجاهلية واتباع خطوات الشيطان، وإثارة ثائرة البغي والعدوان، ومن كان هكذا فهو مغلوب في الغالب.
ثم لما شق ذلك عليهم واستعظموه خفف عنهم ورخص لهم لما علمه سبحانه من وجود الضعف فيهم فقال:(5/212)
الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (66)
(الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفاً) عن قتال عشرة أمثالكم، قرئ بضم الضاد وفتحها (فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين) منهم (وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين) فأوجب على الواحد أن يثبت لاثنين من الكفار.
قال سفيان وابن شبرمة: وأرى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مثل هذا إن كانا رجلين أمرهما وإن كانوا ثلاثة فهو في سعة من تركهم، وقد قيل في نكتة التنصيص على غلب المائة للمائتين والألف للألفين أنه بشارة للمسلمين بأن عساكر الإسلام سيجاوز عددها العشرات والمئات إلى الألوف.
ثم أخبرهم بأن هذا الغلب هو (بإذن الله) وتسهيله وتيسيره وإرادته لا بقوتهم وجلادتهم، ثم بشرهم بأنه مع الصابرين فقال: (والله مع الصابرين) بعونه، وفيه الترغيب إلى الصبر والتأكيد عليهم بلزومه والتوصية به وأنه من أعظم أسباب النجاح والفلاح والنصر والظفر لأن من كان الله معه لم يستقم لأحد أن يغلبه.
وعن النصر باذى: إن هذا التخفيف كان للأمة دون الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وهو الذي يقول بك أصول وبك أجول، ومن كان كذا لا يثقل عليه شيء حتى يخفف، وقد اختلف أهل العلم هل هذا التخفيف نسخ أم لا ولا يتعلق بذلك كثير فائدة.(5/212)
مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67) لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (68) فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالاً طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ(5/213)
مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67)
(ما كان) أي ما صح وما استقام (لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض) هذا حكم آخر من أحكام الجهاد، والأسرى جمع أسير مثل قتلى وقتيل وجرحى وجريح، ويقال في جمع أسير أسارى وهو مأخوذ من الإسار وهو القيد لأنهم كانوا يشدون به الأسير فسمي كل أخيذ وإن لم يشد بالقيد أسيراً.
وقال أبو عمرو بن العلاء الأسرى هم غير الموثقين عندما يؤخذون، والأسارى هم الموثقون ربطاً، والإثخان كثرة القتل والمبالغة فيه تقول العرب أثخن فلان في هذا الأمر أي بالغ فيه فالمعنى ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يبالغ في قتل الكافرين ويستكثر من ذلك، وقيل معنى الإثخان التمكن وقيل هو القوة، وقيل الثخانة هي الغلظة والصلابة فاستعمل هنا في لازم المعنى الأصلي وهو القوة اللازمة وأثخن في الأرض إثخاناً سار إلى العدو وأوسعهم قتلاً وأثخنته أوهنته بالجراحة وأضعفته.
وعن ابن عباس: حتى يثخن حتى يظهر على الأرض، وعن مجاهد قال: الإثخان هو القتل أخبر الله سبحانه أن قتل المشركين يوم بدر كان أولى من أسرهم وفدائهم ثم لما كثر المسلمون رخص الله في ذلك فقال فإما مناً بعد وإما فداء كما يأتي في سورة القتال.
قال الرازي: أن هذا الكلام يوهم أن قوله فإما مناً بعد وإما فداء يزيل(5/213)
حكم الآية التي نحن في تفسيرها، وليس الأمر كذلك لأن كلتا الآيتين متوافقتان، وكلتاهما تدلان على أنه لا بد من تقديم الإثخان ثم بعده أخذ الفداء انتهى.
وقال غيره: لا تظهر دعوى النسخ من أصلها إذ النهي الضمني كما هنا مقيد بالإثخان أي كثرة القتال اللازمة لها قوة الإسلام وعزته، وما في سورة القتال من التخيير محله بعد ظهور شوكة الإسلام بكثرة القتال، فلا تعارض بين الآيتين إذ ما هناك بيان للغاية التي هنا.
(تريدون عرض الدنيا) الخطاب لأصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمراد بعرض الدنيا نفعها ومتاعها بما قبضوا من الفداء، وسمى عرضاً لأنه سريع الزوال كما تزول الأعراض التي هي مقابلة الجواهر، قال قتادة: أراد أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم يوم بدر الفداء ففادوهم بأربعة آلاف درهم، وقيل كان الفداء لكل أسير أربعين أوقيه والأوقية أربعون درهما فيكون مجموع ذلك ألفاً وستمائة درهم، وعن عكرمة قال عرض الدنيا الخراج.
(والله يريد) لكم (الدار الآخرة) بما يحصل لكم من الثواب في الإثخان بالقتل، والمراد بالارادة هنا الرضاء وعبر بها للمشاكلة فلا يرد أن الآية تدل على عدم وقوع مراد الله وهو خلاف مذهب أهل السنة، قاله الشهاب: (والله عزيز) لا يغالب (حكيم) في أفعاله، وقد استدل بهذه الآية من يقدح في عصمة الأنبياء واشتغل المفسرون برده وجوابه وما أقل فائدة ذلك (1).
_________
(1) سبق لنا تعليق في هذا الموضوع ص 361 ج 2.(5/214)
لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (68)
(لولا كتاب) أي حكم مكتوب ومثبت في اللوح المحفوظ ومن الله سبق هو اختلف المفسرون في هذا الكتاب الذي سبق ما هو على أقوال:
الأول: أنه ما سبق في علم الله من أنه سيحصل لهذه الأمة الغنائم والأسرى بعد أن كانت محرمة على سائر الأمم.(5/214)
والثاني: أنه مغفرة الله لأهل بدر ما تقدم من ذنوبهم وما تأخر كما في الحديث الصحيح " إن الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم " (1).
القول الثالث: هو أنه لا يعذبهم ورسول الله فيهم كما قال تعالى (وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم).
القول الرابع: أنه لا يعذب أحداً بذنب فعله جاهلاً لكونه ذنباً.
القول الخامس: أنه ما قضاه الله من محو الصغائر باجتناب الكبائر.
القول السادس: إنه لا يعذب أحداً إلا بعد تأكيد الحجة وتقديم النهي ولم يتقدم نهي عن ذلك، وذهب ابن جرير الطبري إلى أن هذه المعاني كلها داخلة تحت اللفظ وأنه يعمها.
(لمسكم) أي لحل بكم (فيما) أي لأجل ما (أخذتم) من الفداء (عذاب عظيم) وهذا عتاب له صلى الله عليه وسلم على ترك الأولى إذ كان الأولى له تدارك كثرة القتل فيهم لا الفداء وليس عتاباً على فعل محرم تنزيهاً لمنصب النبوة عن ذلك.
وقد أخرج أحمد عن أنس قال: استشار النبي صلى الله عليه وسلم الناس في الأسارى يوم بدر فقال: " إن الله قد أمكنكم منهم، فقام عمر بن الخطاب فقال: يا رسول الله اضرب أعناقهم فأعرض عنه النبي صلى الفه عليه وآله وسلم ثم عاد فقال: مثل ذلك فقام أبو بكر الصديق فقال: نرى أن تعفو عنهم وإن تقبل منهم الفداء فعفا عنهم وقبل منهم الفداء فأنزل الله ولولا كتاب من الله سبق) الآية "، وفي الباب روايات كثيرة بطرق عديدة بألفاظ مختلفة (2).
_________
(1) مسلم 2494 - البخاري/1429.
(2) الإمام أحمد 3/ 243.(5/215)
وفي بعضها عند أحمد والترمذي وحسنه عن ابن مسعود فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن الله ليلين قلوب رجال فيه حتى تكون ألين من اللبن وإن الله ليشدد قلوب رجال فيه حتى تكون أشد من الحجارة، مثلك يا أبا بكر مثل إبراهيم عليه السلام قال: (من تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم) ومثلك يا أبا بكر مثل عيسى عليه السلام إذ قال: (إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم) ومثلك يا عمر مثل نوح عليه السلام إذ قال: (رب لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً) ومثلك يا عمر مثل موسى عليه السلام إذ قال: (ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم) الحديث (1).
روي أنهم أمسكوا عن الغنائم فنزل
_________
(1) مسند الإمام أحمد 1/ 383.(5/216)
فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (69)
(فكلوا) فالفاء لترتيب ما بعدها على سبب محذوف أي قد أبحت لكم الغنائم فكلوا (مما غنمتم) أو المعنى اتركوا الفداء فكلوا مما غنمتم من غيره، وقيل أن " ما " عبارة عن الفداء أي كلوا من الفداء الذي غنمتم فإنه من جملة الغنائم التي أحلها الله لكم أكلاً، ويأباه سياق النظم الكريم وسباقه.
(حلالاً طيباً) أي أكلاً حلالاً أو النصب على الحال، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ولم تحل الغنائم لأحد قبلنا ثم أحل الله لنا وذلك بأن رأى ضعفنا وعجزنا فأحلها لنا " (1) أخرجه البخاري ومسلم (واتقوا الله) فيما يستقبل فلا تقدموا على شيء لم يأذن الله لكم به (إن الله غفور) لما فرط منكم (رحيم) بكم فلذلك رخص لكم في اخذ الفداء في مستقبل الزمان.
_________
(1) البخاري كتاب الخمس باب 8.(5/216)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (70) وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ(5/217)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (70)
(يا أيها النبي) خاطب الله النبي صلى الله عليه وسلم بهذا أي (قل لمن) أي لهؤلاء الذين (في أيديكم من الأسرى) أسرتموهم يوم بدر وأخذتم منهم الفداء (إن يعلم الله في قلوبكم خيراً) من حسن إيمان وصلاح نية وخلوص طوية (يؤتكم خيراً مما أخذ منكم) من الفداء أي يعوضكم في هذه الدنيا رزقاً خيراً منه وأنفع لكم، أو في الآخرة بما يكتبه لكم من المثوبة بالأعمال الصالحة (ويغفر لكم) ذنوبكم (والله غفور رحيم) شأنه المغفرة لعباده والرحمة بهم.
وقد أخرج الحاكم وصححه والبيهقي في سننه عن عائشة قالت: لما بعث أهل مكة في فداء أسراهم بعثت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في فداء أبي العاص (1) وبعثت فيه بقلادة، فلما رآها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رق رقة شديدة وقال إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها (2).
وقال العباس (3) إني كنت مسلماً يا رسول الله قال: الله أعلم بإسلامك فإن يكن كما تقول فالله يجزيك فافد نفسك وابني أخويك نوفل بن الحرث وعقيل بن أبي طالب وحليفك عتبة بن عمرو، ففدى نفسه وابني أخويه وحليفه ونزلت (قل لمن في أيديكم من الأسرى) الأية (4)، الحديث مختصراً والروايات
_________
(1) زوجها.
(2) المستدرك كتاب زينب بنت خديجة 4/ 45.
(3) عم رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يظهر إسلامه.
(4) الإمام أحمد 1/ 353.(5/217)
في هذا الباب كثيرة (1).
قال العباس: فأبدلني الله خيراً مما أخذ مني، عشرين عبداً كلهم تاجر يضرب بمال كثير أدناهم يضرب بعشرين ألف درهم مكان عشرين أوقية، وأعطاني زمزم وأنا أنتظر المغفرة.
ولما ذكر ما ذكره من العوض لمن علم في قلبه خيراً ذكر من هو على ضد ذلك منهم فقال:
_________
(1) قال مقاتل: إن الله غفور لما أخذتم من الغنيمة قبل حلها، رحيم بكم إذ أحلها لكم. فجعل رسول الله ينهييه عمر بن الخطاب، وخباب بن الأرت يوم بدر على القبض، وقسمها النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة، وانطلق بالأسارى، فيهم العباس، وعقيل، ونوفل بن الحارث ابن عبد المطلب. وكان مع العباس يومئذ عشرون أوقية من ذهب، فلم تحسب له من فدائه، وكلف أن يفدي ابني أخيه، فأدى عنهما ثمانين أوقية من ذهب. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " أضعفوا على العباس الفداء " فأخذوا منه ثمانين) وقية، وكان فداء كل أسير أربعين أوقية. فقال العباس لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لقد تركتني ما حييت أسأل قريشاً بكفي. فقال له: " أين الذهب الذي تركته عند أم الفضل "؟ فقال: أي الذهب؟ فقال: " إنك قلت لها: إني لا أدري ما يصيبني في وجهي هذا، فإن حدث بي حدث، فهو لك ولولدك " فقال: ابن أخي، من أخبرك؟ فقال: " الله أخبرني "، فقال العباس: أشهد أنك صادق، وما علمت أنك رسول الله قبل اليوم؛ وأمر ابني أخيه فأسلما. وفيهم نزلت: (قل لمن في أيديكم من الأسرى) الآية.(5/218)
وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (71)
(وإن يريدوا خيانتك) بما قالوه لك بألسنتهم من أنهم قد آمنوا بك وصدقوك ولم يكن ذلك منهم عن عزيمة صحيحة ونية خالصة، بل هو مماكرة ومخادعة فليس ذلك بمستبعد منهم فإنهم قد فعلوا ما هو أعظم منه (فقد خانوا الله من قبل) أي من قبل أن يظفر بهم فكفروا به وقاتلوا رسوله (فأمكن منهم) بأن نصرك عليهم في يوم بدر فقتلت منهم من قتلت وأسرت من أسرت (والله عليم) بما في ضمائرهم (حكيم) في أفعاله بهم.(5/218)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (72) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ(5/219)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (72)
(إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله) ختم الله سبحانه هذه السورة بذكر الموالاة ليعلم كل فريق وليه الذي يستعين به، وسمى سبحانه المهاجرين إلى المدينة بهذا الاسم لأنهم هجروا أوطانهم وفارقوها طلباً لما عند الله وأجابة لداعيه، وسبقوا للهجرة بأن هاجروا قبل العام السادس عام الحديبية بدليل قوله فيما يأتي (والذين آمنوا من بعد) بأن هاجروا بعد عام الحديبية وقبل الفتح.
(والذين آووا) هم الأنصار آووا رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه من المهاجرين وأسكنوهم منازلهم، وبذلوا لهم أموالهم وآثروهم على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة (ونصروا) رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والإشارة بقوله (أولئك) إلى الموصول الأول والآخر وخبره الجملة المذكورة بعده (بعضهم أولياء بعض) في النصرة والمعونة، وقيل في الميراث وقد كانوا يتوارثون بالهجرة والنصرة ثم نسخ ذلك بقوله سبحانه وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض.
(والذين آمنوا ولم يهاجروا) من مكة بل أقاموا بها (مالكم من ولايتهم) بفتح الواو وكسرها أي من نصرتهم وإعانتهم أو من ميراثهم (من شيء) ولو كانوا من قراباتكم لعدم وقوع الهجرة منهم فلا إرث بينكم وبينهم(5/219)
(حتى يهاجروا) إلى المدينة فيكون لهم ما كان للطائفة الأولى الجامعين بين الإيمان والهجرة.
(وإن استنصروكم في الدين) أي هؤلاء الذين آمنوا ولم يهاجروا إذا طلبوا منكم النصرة لهم على المشركين (فعليكم) أي فواجب عليكم (النصر) قال الزجاج: ويجوز النصر بالنصب على الإغراء أثبت للقسمين الأوّلين النصرة والإرث ونفى عن هذا القسم الإرث وأثبت له النصرة.
(إلا) أن يستنصروكم (على قوم بينكم وبينهم ميثاق) عهد فلا تنصرونهم عليهم ولا تنقضوا العهد الذي بينكم وبين أولئك القوم حتى تنقضي مدته وهي عشر سنين (والله بما تعملون بصير) تحذير عن تعدي حد الشرع الشريف.(5/220)
وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ (73)
(والذين كفروا بعضهم أولياء بعض) أي بعضهم ينصر بعضاً ويتولاه في أموره أو يرثه إذا مات، وفيه تعريض للمسلمين بأنهم لا يناصرون الكفار ولا يتولونهم وهذا بمفهومه مفيد لنفي الموارثة والموازرة بينهم وبين المسلمين وإيجاب المباعدة والمصارمة وإن كانوا أقارب.
(إلا تفعلوه) الضمير يرجع إلى ما أمروا به قبل هذا من موالاة المؤمنين ومناصرتهم على التفصيل المذكور وترك موالاة الكافرين (تكن) أي تقع (فتنة في الأرض) إن لم تفعلوا ذلك وهي قوة الكفار (وفساد كبير) أي مفسدة كبيرة في الدين والدنيا وهو ضعف المسلمين.(5/220)
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (74) وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ
ثم بين سبحانه حكماً آخر يتعلق بالمؤمنين المهاجرين المجاهدين في سبيل الله والمؤمنين الذين آووا من هاجر إليهم ونصروهم وهم الأنصار فقال:(5/221)
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (74)
(والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك هم المؤمنون حقاً) أي صدقاً من غير ريب دون من آمن وسكن دار الشرك، وفي الحديث المتفق على صحته بل المتواتر " المرء مع من أحب " (1) ونصب حقاً على المصدر المؤكد أو تقديره إيماناً حقاً، قاله في جامع البيان.
وقال أبو السعود: كلام مسوق للثناء عليهم والشهادة لهم بفوزهم بالقدح المعلى من الإيمان مع الوعد الكريم اهـ. والحاصل أنهم هم الكاملون في الإيمان لأنهم حققوه بتحصيل مقتضياته من هجرة الوطن ومفارقة الأهل والسكن، والانسلاخ من المال والدنيا لأجل الدين والعقبى، وليس في هذا تكرير لما قبله فإنه وارد في الثناء على هؤلاء، والأول وارد في إيجاب الموالاة والنصرة.
ثم أخبر سبحانه أن (لهم) منه (مغفرة) لذنوبهم في الآخرة (و) لهم في الدنيا (رزق كريم) خالص عن الكدر طيب مستلذ لا تبعة له ولا منة فيه.
ثم ألحق بهم في الأمرين من سيلحق بهم ويتسم بسيمتهم فقال:
_________
(1) مسلم 2640 - البخاري 2357.(5/221)
وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (75)
(والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم) اختلف في قوله: (من بعد) فقيل من بعد الحديبية وبيعة الرضوان.
قال القرطبي: وذلك أن الهجرة من بعد ذلك كانت أقل رتبة من الهجرة الأولى، والهجرة الثانية هي التي وقع فيها الصلح ووضعت الحرب أوزارها نحو عامين ثم كان فتح مكة اهـ. وقيل بعد نزول هذه الآية، وقيل من بعد غزوة بدر، وقال الخازن: الأصح أن المراد بهم أهل الهجرة الثانية لأنها بعد الهجرة الأولى لأن الهجرة قد انقطعت بعد فتح مكة لأنها صارت دار الإسلام بعد الفتح.
(فأولئك منكم) أي مثلكم في استحقاق ما استحقيتموه من الموالاة والمناصرة وكمال الإيمان والمغفرة والرزق الكريم، لكن فيه دليل على أن مرتبة المهاجرين الأولين أشرف وأعظم من مرتبة المهاجرين المتأخرين بالهجرة لأن الله تعالى ألحق المهاجرين المتأخرين بالمهاجرين السابقين وجعلهم معهم، وذلك معرض المدح والشرف، ولولا أن الأولين أفضل وأشرف لما صح هذا الإلحاق.
قال في الجمل: ولم ينبهوا هنا على حكم التوارث بالهجرة الثانية هل هو ثابت كما في الهجرة الأولى أو في ثابت لانحطاط رتبة أهل الهجرة الثانية عن رتبة أهل الهجرة الأولى إلا ما رأيته في الخطيب ونصه فأولئك منكم أي من جملتكم أيها المهاجرون والأنصار فلهم مالكم وعليهم ما عليكم من المواريث والغنائم وغيرهما (وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض) بين سبحانه بأن ذوي القرابات بعضهم أولى ببعض من غيرهم ممن لم يكن بينه وبينهم رحم في الميراث فيتناول كل قرابة، وقيل المراد بهم هنا العصبات قالوا: ومنه قول العرب وصلتك رحم فإنهم لا يريدون قرابة الأم، ولا يخفاك أنه ليس في هذا ما يمنع من إطلاقه على غير العصبات.(5/222)
وقد استدل بهذه الآية من أثبت ميراث ذوي الأرحام وهم من ليس بعصبة ولا ذوي سهم على حسب اصطلاح أهل علم المواريث، وإليه ذهب أصحاب أبي حنيفة والخلاف في ذلك معروف مقرر في مواطنه.
وقد قيل أن هذه الآية ناسخة للميراث بالموالاة والنصرة عند من فسر ما تقدم من قوله: (بعضهم أولياء بعض) وما بعده بالتوارث وأما من فسرها بالنصرة والمعونة فيجعل هذه الآية إخباراً منه سبحانه وتعالى بأن القرابات بعضهم أولى ببعض (في كتاب الله) أي في حكم الله أو في اللوح المحفوظ أو في القرآن وهو أن قسمة المواريث مذكورة في سورة النساء من كتاب الله وهو القرآن، وكذا إعطاء أهل الفروض فروضهم وما بقي للعصبات، وبهذا أجاب الشافعي أصحاب أبي حنيفة رحمه الله، ويدخل في هذه الأولوية الميراث دخولاً أولياً لوجود سببه. أعني القرابة.
(إن الله بكل شيء عليم) لا يخفى عليه شيء من الأشياء كائناً ما كان ومن جملة ذلك ما تضمنته هذه الآيات من التوارث بمقتضى الإيمان والهجرة ولو بدون قرابة الذي قد نسخ، والتوارث بمقتضى القرابة ولو بدون مشاركة في الهجرة أو النصرة والله سبحانه وتعالى أعلم (1).
_________
(1) ورُوي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " الخال وارث ". وروي عن أبي هريرة قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ميراث العمة والخالة فقال: " لا أدري حتى يأتيني جبريل " ثم قال: " أين السائل عن ميراث العمة والخالة "؛ قال: فأتى الرجل فقال: " سارني جبريل أنه لا شيء لهما ". قال الدارقطني: لم يسنده غير مسعدة عن محمد بن عمرو وهو ضعيف، والصواب مرسل. ورُوي عن الشعبي قال قال زياد بن أبي سفيان لجليسه: هل تدري كيف قضى عمر في العمة والخالة؛ قال لا. قال: إني لأعلم خلق الله كيف قضى فيهما عمر، جعل الخالة بمنزلة الأم، والعمة بمنزلة الأب.(5/223)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة براءة
هي مائة وثلاثون آية، وقيل مائة وسبع وعشرون آية، ولها أسماء منها سورة التوبة لأن فيها ذكر التوبة على المؤمنين، وعن حذيفة إنكم تسمونها سورة التوبة وهي سورة العذاب أهـ وتسمى الفاضحة لأنه ما زال ينزل فيها (ومنهم، ومنهم) حتى كادت أن لا تدع أحداً، وتسمى البحوث لأنها تبحث عن أسرار المنافقين وتسمى المبعثرة والبعثرة البحث، وتسمى أيضاً بأسماء أخر كالمقشقشة لأنها تقشقش من النفاق أي تبرئ منه، والمخزية لكونها أخزت المنافقين والمثيرة لأنها تثير أسرارهم، والحافرة لكونها تحفر عنها، والمنكلة لما فيها من التنكيل لهم والمدمدمة لأنها تدمدم عليهم أي تهلكهم، قال الخفاجي: وأسماؤها كلها بصيغة الفاعل إلا البحوث بفتح الباء فإنه صيغة مبالغة بمعنى اسم الفاعل أهـ.(5/225)
قلت: وإلا البراءة والتوبة وسورة العذاب، وهي مدنية، قال القرطبي: باتفاق وعن ابن عباس قال: نزلت بعد فتح مكة، وعنه قال نزلت بالمدينة، وعن ابن الزبير وقتادة نحوه، وعن البراء قال: آخر سورة نزلت تامة براءة، رواه البخاري.
وقد اختلف العلماء في سبب سقوط البسملة من أولها على أقوال منها ما روي عن المبرد وغيره أنه كان من شأن العرب إذا كان بينهم وبين قوم عهد فإذا أرادوا نقضه كتبوا إليهم كتاباً ولم يكتبوا فيه بسمله، فلما نزلت براءة ينقض العهد الذي كان بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمشركين بعث بها النبي صلى الله عليه وآله وسلم علي بن أبي طالب فقرأها عليهم ولم يبسمل في ذلك على ما جرت به عادة العرب في نقض العهد من ترك التسمية.
وعن علي قال: البسملة أمان، وبراءة نزلت بالسيف، أشار إلى وجه ترك كتابة البسملة في هذه السورة والتلفظ بها دون غيرها، قال الخفاجي: وللسلف فيه أقوال ثلاثة أصحها هذا أهـ.
قلت: وروي نحوه عن سفيان بن عيينة، وروي عن مالك بن أنس وابن عجلان وابن جبير أنها كانت تعدل سورة البقرة أو قريباً منها وأنه لما سقط أولها سقطت البسملة.
ومن جملة الأقوال في سقوطها أنهم لما كتبوا المصحف في خلافة عثمان اختلفت الصحابة، فقال بعضهم براءة والأنفال سورة واحدة، وقال بعضهم هما سورتان فتركت بينهما فرجة لقول من قال هما سورتان وتركت البسملة لقول من قال هما سورة واحدة فرضي الفريقان معاً، قاله خارجة وأبو عصمة وغيرهما وقول من جعلهما سورة واحدة أظهر لأنهما جميعاً نزلتا في القتال ومجموعهما مائتان وخمس آيات ويعدان جميعاً سابعة السبع الطوال.
ومنها ما قال السيوطي: أنه لم تكتب فيها البسملة لأنه صلى الله عليه وسلم لم يأمر بذلك كما يؤخذ من حديث رواه الحاكم. اهـ.(5/227)
وعن عثمان: قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبين لنا أنها منها فظننت أنها منها فمن ثم قرنت بينهما ولم أكتب بينهما سطر بسم الله الرحمن الرحيم، أخرجه الترمذي وحسنه.
والصحيح أنها لم تكتب لأن جبريل ما نزل بها في هذه السورة، قاله القشيري قال أبو السعود: واشتهارها بهذه الأسماء يقضي بأنها سورة مستقلة وليست بعضاً من سورة الأنفال، وادعاء اختصاص الاشتهار بالقائلين باستقلالها خلاف الظاهر فيكون حكمة ترك التسمية عند النزول نزولها في رفع الأمان الذي يأبى مقامه التصدير بما يشعر ببقائه من ذكر اسمه تعالى مشفوعاً بوصف الرحمة، كما روي عن ابن عيينة رضي الله عنه: لا الاشتباه في استقلالها وعدمه، كما يحكى عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: ولا رعاية ما وقع بين الصحابة رضي الله عنهم من الاختلاف في ذلك.
على أن ذلك ينزع إلى القول بأن التسمية ليست من القرآن، وإنما كتبت للفصل بين السور كما نقل عن قدماء الحنفية، وإن مناط إثباتها في المصاحف، وتركها إنما هو رأي من تصدى لجمع القرآن دون التوقيف، ولا ريب في أن الصحيح من المذهب أنها آية فذة من القرآن أنزلت للفصل والتبرك بها، وأن لا مدخل لرأي أحد في الإثبات والترك، وإنما المتبع في ذلك هو الوحي والتوقيف ولا مرية في عدم نزولها هاهنا، وإلا لامتنع أن يقع في الاستقلال اشتباه أو اختلاف فهو إما لاتحاد السورتين أو لما ذكرنا، لا سبيل إلى الأول وإلا لبينه عليه الصلاة والسلام لتحقق مزيد الحاجة إلى البيان لتعاضد أدلة الاستقلال من كثرة الآيات وطول المدة فيما بين نزولهما فحيث لم يبينه عليه الصلاة والسلام تعين الثاني لأن عدم البيان من الشارع في موضع البيان بيان للعدم.(5/228)
بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (1) فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ(5/229)
بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (1)
(براءة) أي هذه براءة وتنوينه للتفخيم، وقرئ بالنصب أي اسمعوا براءة قاله عيسى بن عمر، يقال: برئت من الشيء ابرأ براءة وأنا منه بريء إذا أزلته عن نفسك وقطعت سبب ما بينك وبينه، وقيل معناها هنا التباعد مما تكره مجاورته (من الله ورسوله) من ابتدائية أي هذه براءة مبتدأة من جهة الله تعالى ورسوله واصلة (إلى الذين عاهدتم من المشركين) عهداً مطلقاً أو دون أربعة أشهر أو فوقها، والعهد العقد الموثق باليمين، والخطاب للمسلمين ومن بيان للموصول وقد عاهدوا مشركي مكة وغيرهم بإذن من الله واتفاق من الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.
والمعنى الإخبار للمسلمين بأن الله ورسوله قد برئا من تلك المعاهدة بسبب ما وقع من الكفار من النقض فصار النبذ إليهم بعهدهم واجباً على المعاهدين من المسلمين ومعنى براءة الله سبحانه وقوع الإذن منه سبحانه بالنبذ من المسلمين لعهد المشركين بعد وقوع النقض منهم، وفي ذلك من التفخيم لشأن البراءة والتهويل لها والتسجيل على المشركين بالذل والهوان ما لا يخفى.(5/229)
فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ (2)
(فسيحوا) أيها المشركون (في الأرض أربعة أشهر) أمر إباحة منه سبحانه بالسياحة بعد الإخبار بتلك البراءة والسياحة السير، يقال ساح فلان في الأرض يسيح سيحاً وسياحة وسيوحاً وسيحاناً، ومنه سيح الخيل.
قال أبو السعود: السياحة والسيح الذهاب في الأرض والسير فيها بسهولة على مقتضى المشية كسيح الماء على موجب الطبيعة، ففيه من الدلالة على كمال التوسعة والترفيه ما ليس في سيروا ونظائره، وزيادة قوله: (في الأرض) لقصد التعميم لأقطارها من دار الإسلام وغيرها انتهى.(5/229)
ومعنى الآية أن الله سبحانه بعد أن أذن بالنبذ إلى المشركين بعهدهم أباح للمشركين الضرب في الأرض والذهاب إلى حيث يريدون والاستعداد للحرب هذه الأربعة الأشهر، وليس المراد من الأمر بالسياحة تكليفهم بها، وهذا القول كناية عن عقد الأمان لهم أربعة أشهر بعد نقضهم العهد بصوره الثلاث، وإنما اقتصر على الأربعة لقوة المسلمين إذ ذاك بخلاف صلح الحديبية فإنه كان على عشر سنين لضعف المسلمين إذ ذاك.
قال محمد بن إسحاق وغيرهما: إن المشركين صنفان صنف كانت مدة عهده أقل من أربعة أشهر، فأمهل تمام أربعة أشهر، والآخر كانت مدته أكثر من ذلك فقصر على أربعة أشهر ليرتاد لنفسه وهو حرب بعد ذلك لله ولرسوله وللمؤمنين يُقتل حيث يوجد إلا أن يتوب ويرجع إلى الإيمان.
وابتداء هذا الأجل يوم الحج الأكبر وانقضاؤه إلى عشر من ربيع الآخر، فأما من لم يكن له عهد فإنما أجله انسلاخ الأشهر الحرم وذلك خمسون يوماً عشرون من ذي الحجة وشهر محرم.
وقال الكلبى: إنما كانت الأربعة الأشهر لمن كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عهد دون أربعة أشهر فتتم له الأربعة ومن كان عهده أكثر من ذلك فهو الذي أمر الله أن يتم له عهده بقوله: (فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم) كما سيأتي، ورجح هذا ابن جرير وغيره.
وعن الزهري قال: نزلت في شوال فهي أربعة أشهر شوال وذو القعدة وذو الحجة ومحرم، والقول الأول أصوب وعليه الأكثرون، وفي الباب أقوال.
وقيل المقصود من هذا التأجيل أن يتفكروا ويحتاطوا لأنفسهم ويعلموا أنه ليس لهم بعد هذه المدة إلا الإسلام أو القتل، فيصير هذا داعياً لهم إلى(5/230)
الدخول في الإسلام ولئلا ينسب المسلمون إلى الغدر ونكث العهد، وقال ابن الأنباري: التقدير قل لهم فسيحوا، وليس هذا من باب الأمر بل المقصود منه الإباحة والإطلاق والإعلام بحصول الأمان وزوال الخوف يعني سيحوا في الأرض وأنتم آمنون من القتل والقتال.
وقد توهم بعضهم أن بعث علي بن أبي طالب بقراءة أول براءة عزل أبي بكر عن الإمارة، وذلك جهل من هذا المتوهم والبحث مستوفى في موطنه.
(واعلموا أنكم غير معجزي الله) أي اعلموا أن هذا الإمهال ليس لعجز ولكن لمصلحة ليثوب من تاب، وفي ذلك ضرب من التهديد كأنه قيل افعلوا في هذه المدة كلما أمكنكم من إعداد الآلات والأدوات فغنكم لا تفوتون الله ولا تغتروا بعقد الأمان لكم (وإن الله مخزي الكافرين) أي وهو مخزيكم ومذلكم ومهينكم في الدنيا بالقتل والأسر، وفي الآخرة بالعذاب والنار، وفي وضع الظاهر موضع المضمر إشارة إلى أن سبب هذا الإخزاء هو الكفر، ويجوز أن يكون المراد جنس الكافرين فيدخل فيه المخاطبون دخولاً أولياً.
وأخرج الترمذي وحسنه وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث أبا بكر وأمره أن ينادي بهؤلاء الكلمات، ثم أتبعه علياً وأمره أن ينادي بهؤلاء الكلمات فانطلقا وحجا فقام علي في أيام التشريق فنادى أن الله بريء من المشركين ورسوله فسيحوا في الأرض أربعة أشهر، ولا يحجن بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان ولا يدخل الجنة إلا مؤمن، فكان علي ينادي، فإذا أعيا قام أبو بكر ينادي بها (1) وفي الباب أحاديث في الصحيحين وغيرهما بألفاظ.
_________
(1) المستدرك كتاب المغازي 3/ 52.(5/231)
وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (3) إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ(5/232)
وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (3)
(وأذان من الله ورسوله) الأذان بمعنى الإيذان وهو الإعلام كما أن الأمان والعطاء بمعنى الإيمان والإعطاء، ومعنى (إلى الناس) التعميم في هذا أي إنه إيذان من الله إلى كافة الناس غير مختص بقوم دون قوم، فهذه الجملة متضمنة للإخبار بوجوب الإعلام لجميع الناس، والجملة الأولى متضمنة للإخبار بالبراءة إلى المعاهدين خاصة.
(يوم الحج الأكبر) ظرف لقوله وأذان ووصفه بالأكبر لأنه يجتمع فيه الناس أو لكون معظم أفعال الحج فيه أو احترازاً عن العمرة فهي الحج الأصغر، لأن أعمالها أقل من أعمال الحج إذ يزيد عليها بأمور كالرمي والمبيت، فكان أكبر بهذا الاعتبار، وسمي يوم الحج لأن أعمال الحج يتم فيه معظمها.
وقد اختلف العلماء في تعيين هذا اليوم المذكور في الآية فذهب جمع منهم علي بن أبي طالب وابن مسعود وابن أبي أوفى والمغيرة بن شعبة ومجاهد إلى أنه يوم النحر، ورجحه ابن جرير، وذهب آخرون منهم عمر وابن عباس وطاووس إلى أنه يوم عرفة والأول أرجح لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر من بعثه لإبلاغ هذا إلى المشركين أن يبلغهم يوم النحر.
وأخرج الترمذي وابن النذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن علي قال:(5/232)
سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن يوم الحج الأكبر فقال يوم النحر (1). وأخرج أبو داود والنسائي والحاكم وصححه عن عبد الله بن قرط قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أعظم الأيام عند الله يوم النحر ثم يوم القر " (2) وعن أبي أوفى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " يوم الأضحى، هذا يوم الحج الأكبر " (3). أخرجه ابن مردويه.
وعن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقف يوم النحر بين الجمرات في الحجة التي حج فقال: " أي يوم هذا؟ " قالوا يوم النحر، قال: " هذا يوم الحج الأكبر ". أخرجه البخاري وأبو داود وابن ماجة وغيرهم (4).
ولا يخفاك أن الأحاديث الواردة في كون يوم النحر هو يوم الحج الأكبر هي ثابتة في الصحيحين وغيرهما من طرق فلا تقوى لمعارضتها هذه الروايات المصرحة بأنه يوم عرفة، وقيل أيام منى كلها، وبه قال مجاهد وسفيان الثوري هو يوم النحر، وقيل اليوم الذي حج فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبه قال ابن سيرين والأول أولى، وقيل القرآن. قاله مجاهد.
(إن الله بريء من المشركين ورسوله) أي بأن الله بريء ورسوله بريء منهم، وقرئ ورسوله بالجر على أن الواو للقسم وهي ضعيفة جداً، وقرئ شاذاً أيضاً بالنصب على أنه مفعول معه، قاله الزمخشري، والرفع قراءة الجمهور باتفاق السبعة.
(فإن تبتم) من الكفر، وفيه التفات من الغيبة إلى الخطاب، وقيل
_________
(1) الترمذي كتاب التفسير 9/ 4.
(2) المستدرك كتاب الأضاحي 4/ 221.
(3) أبو داوود كتاب المناسك باب 71.
(4) أبو داوود كتاب المناسك باب 66.(5/233)
فائدة هذا الالتفات زيادة التهديد (فهو) أي المتاب أو التوب أو التوبة (خير لكم) أي: أخير وأحسن من بقائكم على الكفر الذي هو خير في زعمكم، أو التفضيل ليس على بابه، والمعنى: هو خير لا شر، وفيه ترغيب في التوبة والإقلاع عن الشرك الموجب لدخول النار.
(وإن توليتم) أي أعرضتم عن التوبة وبقيتم على الكفر (فاعلموا أنكم غير معجزي الله) أي غير فائتين عليه، بل هو مدرككم فمجازيكم بأعمالكم، وفيه وعيد عظيم وتهديد شديد (وبشر الذين كفروا بعذاب أليم) عبر عن الإخبار بالبشارة تهكماً بهم وفيه من التهديد ما لا يخفى.(5/234)
إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (4)
(إلا الذين عاهدتم من المشركين) قال ابن عباس: هم قريش، وقال قتادة: هم مشركو قريش الذين عاهدهم نبي الله زمن الحديبية، وقيل هم بنو ضمرة حي من كنانة، وعن محمد بن عبادة هم بنو جذيمة بن عامر من بني بكر ابن كنانة.
قال أبو السعود (إلا الذين) الخ استدراك من النبذ السابق الذي أخر فيه القتال أربعة أشهر، كأنه قيل لا تمهلوا الناكثين فوق أربعة أشهر، لكن الذين عاهدتموهم ثم لم ينكثوا عهدهم فلا تجروهم مجرى الناكثين في المسارعة إلى قتالهم بل أتموا إليهم عهدهم، ولا يضر في ذلك تخلل الفاصل بقوله تعالى: (وأذان من الله ورسوله) الخ لأنه ليس بأجنبي بالكلية، بل هو أمر بإعلام تلك البراءة، كأنه قيل وأعلموها.
وقيل هو استثناء متصل من المشركين الأول، ويرده بقاء الثاني على العموم مع كونهما عبارة عن فريق واحد، وجعله استثناء من الثاني يأباه بقاء الأول كذلك، وقيل هو استدراك من المقدر في (فسيحوا) أي قولوا لهم سيحوا أربعة أشهر لكن الذين عاهدتم منهم.(5/234)
(ثم لم ينقصوكم شيئاً) من شروط الميثاق ولم يقتلوا منكم أحداً ولم يضروكم قط أي لم يقع منهم أي نقص وإن كان يسيراً، وقرأ عكرمة وعطاء بن يسار بالضاد المعجمة أي لم ينقضوا عهدكم، وفيه دليل على أنه كان من أهل العهد من خاس بعهده ومنهم من ثبت عليه، فأذن الله سبحانه لنبيه - صلى الله عليه وسلم - بنقض عهد من نقض، وبالوفاء لمن لم ينقض إلى مدته.
وقرأ الجمهور بالصاد المهملة، قال الكرماني: قراءة المعجمة مناسبة لذكر العهد فإن من نقض العهد فقد نقص من المدة إلا أن قراءة العامة أوقع لمقابلتها التمام، وكلمة ثم للدلالة على ثباتهم على عهدهم مع تمادي المدة.
(ولم يظاهروا) المظاهرة المعاونة أي لم يعاونوا (عليكم أحداً) من أعدائكم كما عدت بنو بكر على خزاعة في غيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم فظاهرتهم قريش بالسلاح (فأتموا إليهم عهدهم) أي أدوا إليهم عهدهم تاماً غير ناقص (إلى مدتهم) التي عاهدتموهم إليها وإن كانت أكثر من أربعة أشهر، ولا تعاملوهم معاملة الناكثين من القتال بعد مضي المدة المذكورة سابقاً وهي أربعة أشهر أو خمسون يوماً على الخلاف السابق.
(إن الله يحب المتقين) الذين يتقون الله فيما حرم عليهم فيوفون بالعهد، قال السدي: فلم يعاهد النبي صلى الله عليه وسلم بعد هؤلاء الآيات أحداً.(5/235)
فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ(5/236)
فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)
(فإذا انسلخ الأشهر الحرم) انسلاخ الشهر تكامله جزءاً فجزءاً إلى أن ينقضي كانسلاخ الجلد عما يحويه، شبه خروج المتزمن عن زمانه بانفصال المتمكن عن مكانه، وأصله الانسلاخ الواقع بين الحيوان وجلده فاستعير لانقضاء الأشهر، يقال سلخت المرأة درعها نزعته، وفي التنزيل (وآية لهم الليل نسلخ منه النهار) قال الخفاجي: السلخ يستعمل تارة بمعنى الكشط، كسلخت الإهاب عن الشاة، أي نزعته عنها، وأخرى بمعنى الإخراج كسلخت الشاة عن الإهاب أي أخرجتها منه، فإطلاق الانسلاخ على الأشهر استعارة من المعنى الأول فإن الزمان ظرف محيط بالأشياء كالإهاب، والبيضاوي جعله من الثاني، كأنه لما انقضى أخرج من الأشياء الموجودة كذا قيل، ومثل انسلخ انجرد وسنة جرداء تامة اهـ.
واختلف العلماء في تعيين الأشهر الحرم المذكورة هاهنا، فقيل هي الأشهر الحرم المعروفة التي هي ذو القعدة وذو الحجة ومحرم ورجب، ثلاثة سرد، وواحد فرد، ومعنى الآية على هذا وجوب الإمساك عن قتال من لا عهد له من المشركين في هذه الأشهر الحرم.
وقد وقع النداء والنبذ إلى المشركين بعهدهم يوم النحر، فكان الباقي من الأشهر الحرم التي هي الثلاثة المسرودة خمسين يوماً تنقضي بانقضاء شهر المحرم فأمرهم الله بقتل المشركين حيث يوجدون، وبه قال جماعة من أهل العلم منهم الضحاك والباقر، وروي عن ابن عباس واختاره ابن جرير.
وقيل المراد بها شهور العهد المشار إليها بقوله: (فأتموا إليهم عهدهم إلى(5/236)
مدتهم) وسميت حرماً لأن الله سبحانه حرم على المسلمين فيها دماء المشركين والتعرض لهم وإلى هذا ذهب جماعة من أهل العلم منهم مجاهد وابن إسحاق وابن زيد وعمرو بن شعيب، وقيل هي الأشهر المذكورة في قوله: (فسيحوا في الأرض أربعة أشهر) وقد روي ذلك عن ابن عباس وجماعة ورجحه ابن كثير، وحكاه عن مجاهد وعمرو بن شعيب ومحمد بن إسحاق وقتادة والسدي وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وسيأتي بيان حكم القتال في الأشهر الحرم الدائرة في كل سنة في هذه السورة إن شاء اللة تعالى.
(فاقتلوا المشركين حيث) أي في أي مكان وأي وقت (وجدتموهم) من حل أو حرم (وخذوهم) أي إئسروهم فإن الأخيذ هو الأسير (واحصروهم) أي احبسوهم في القلاع والحصون حتى يضطروا ويلجئوا إلى القتل أو الإسلام، ومعنى الحصر منعهم من التصرف في بلاد المسلمين إلا بإذن منهم، وقيل امنعوهم من دخول مكة خاصة والأول أولى.
(واقعدوا لهم كل مرصد) أي طريق يسلكونه ونصب (كل) على نزع الخافض أي على كل طريق، والمرصد الموضع الذي يرقب فيه العدو ويقعد، ويقال رصدت فلاناً أرصده أي رقبته، أي اقعدوا لهم في المواضع التي ترتقبونهم فيها لئلا ينتشروا في البلاد، والمعنى كونوا لهم رصداً حتى تأخذوهم من أي وجه توجهوا، وقيل بكل طريق مكة حتى لا يدخلوها.
وهذه الآية المتضمنة للأمر بقتل المشركين عند انسلاخ الأشهر الحرم عامة لكل مشرك لا يخرج عنها إلا من خصته السنة وهو المرأة والصبي والعاجز الذي لا يقاتل، وكذلك يخصص منها أهل الكتاب الذين يعطون الجزية على فرض تناول لفظ المشركين لهم.
وهذه الأية نسخت كل آية فيها ذكر الإعراض عن المشركين والصبر على(5/237)
أذاهم. وقال الضحاك وعطاء والسدي: هي منسوخة بقوله: (فإما مناً بعد وإما فداء) وإن الأسير لا يقتل صبراً بل يمنّ عليه أو يفادى، وقال مجاهد وقتادة: بل هي ناسخة. لقوله: (فإما مناً بعد وإما فداء) وأنه لا يجوز في الأسارى من المشركين إلا القتل، وقال ابن زيد: الآيتان محكمتان، قال القرطبي: وهو الصحيح لأن المن والقتل والفداء لم يزل من حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم من أول حرب حاربهم وهو يوم بدر، قال الرازي: كلتا الآيتين متوافقتان وكلتاهما تدلان على أنه لا بد من تقديم الأثخان ثم بعده أخذ الفداء اهـ.
(فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة) أي تابوا عن الشرك الذي هو سبب القتل وحققوا التوبة بفعل ما هو من أعظم أركان الإسلام وهو إقامة الصلاة وهذا الركن اكتفى به عن ذكر ما يتعلق بالأبدان من العبادات لكونه رأسها، واكتفى بالركن الآخر المالي، وهو إيتاء الزكاة عن كل ما يتعلق بالأموال من العبادات لأنه أعظمها (1).
(فخلوا سبيلهم) أي اتركوهم وشأنهم فلا تأسروهم ولا تحصروهم ولا تقتلوهم ولا تمنعوهم من الدخول إلى مكة والتصرف في بلادهم ولا تتعرضوا لهم (إن الله غفور) لهم (رحيم) بهم.
_________
(1) ذكره القرطبي 8/ 74: قوله صلى الله عليه وسلم: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالههم إلا بحقها وحسابهم على الله ". وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: والله لأقاتلن من فرّق بين الصلاة والزكاة؛ فإن الزكاة حق المال. وقال ابن عباس: رحم الله أبا بكر ما كان أفقهه. وقال ابن العربي.(5/238)
وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ (6) كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ(5/239)
وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ (6)
(وإن أحد) مرتفع بفعل شرط مضمر يفسره الظاهر لا بالابتداء لأن (إن) لا تدخل إلا على الفعل (من المشركين) الناقضين للعهد الذين أمرت بالتعرض لهم في قوله (فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين).
(استجارك) استأمنك من القتل (فأجره) يقال استجرت فلاناً أي طلبت أن يكون جاراً أي محامياً ومحافظاً من أن يظلمني ظالم أو يتعرض لي متعرض، وفي القاموس جار واستجار طلب أن يجار وأجاره أنقذه وأعاده، وفي المصباح استجاره طلب منه أن يحفظه فأجار والمعنى أمنه.
(حتى) يصح أن تكون للغاية وللتعليل (يسمع كلام الله) منك ويتدبره حق تدبره ويقف على حقيقة ما تدعو إليه، ويتحقق أنه ليس من كلام الخلق، والاقتصار على ذكر السماع لعدم الحاجة إلى شيء آخر في الفهم لكونهم من أهل الفصاحة.
(ثم) إن أراد الانصراف ولم يسلم (أبلغه مأمنه) أي إلى الدار التي يأمن فيها وهو دار قومه لينظر في أمره ويعرف ما له من الثواب أن آمن، وما عليه من العقاب إن أصر على الشرك، ثم بعد أن تبلغه مأمنه قاتلة من غير عذر ولا خيانة فقد خرج من جوارك ورجع إلى ما كان عليه من إباحة دمه ووجوب قتله حيث يوجد.
عن سعيد بن أبي عروبة قال: كان الرجل يجيء إذا سمع كتاب الله وأقر به وأسلم فذاك الذي دعى إليه، وإن أنكر ولم يقر به رد مأمنه ثم نسخ(5/239)
ذلك فقال: (وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة) وعن ابن زيد قال: إن لم يوافقه ما يقص عليه ويخبر به فأبلغه مأمنه، وهذا ليس بمنسوخ، قال الحسن: هذه الآية محكمة إلى يوم القيامة.
(ذلك) أي الأمر بالإجارة وإبلاع المأمن (بأنهم قوم لا يعلمون) ما الإيمان وما حقيقة ما تدعوهم إليه بسبب فقدانهم العلم النافع المميز بين الخير والشر في الجال والمآل، فلا بد لهم من أمان بقدر زمان يسمعون فيه القرآن ويتدبرون.(5/240)
كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (7)
(كيف يكون للمشركين) الاستفهام هنا للتعجب المتضمن للإنكار، ولهذا حسن بعده (إلا) والمراد بالمشركين الناكثون لأن البراءة هي في شأنهم (عهد عند الله) يأمنون به من عذابه (وعند رسوله) وقيل معنى الآية محال أن يثبت لهؤلاء عهد وهم أضداد لكم مضمرون للغدر، فلا تطمعوا في ذلك ولا تحدثوا به أنفسكم، والمعنى ليس لمن لم يف بعهد أن يفي الله ورسوله له بالعهد.
ثم استدرك فقال: (إلا الذين عاهدتم) أي لكن الذين عاهدتم ولم ينقضوا ولم ينكثوا فلا تقاتلوهم، وقيل الاستثناء متصل، وفيه احتمالان. (أحدهما) أنه منصوب على أصل الاستثناء من المشركين.
(والثاني) أنه مجرور على البدل منهم.
(عند المسجد الحرام) أي عند قربه يوم الحديبية، قاله قتادة، والمراد به جميع الحرم كما هي عادته في القرآن إلا ما استثنى (فما استقاموا لكم) أي فما داموا مستقيمين لكم على العهد الذي بينكم وبينهم ولم ينقضوه، وفي (ما) وجهان أحدهما أنها مصدرية زمانية والثاني أنها شرطية (فاستقيموا لهم) على الوفاء به، قيل هم بنو بكر، وقيل بنو كنانة وبنو ضمرة وقال ابن عباس: هم قريش، وعن ابن زيد نحوه، وقال السدي: هم بنو جذيمة، وقال مجاهد: هم أهل العهد من خزاعة.(5/240)
كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ (8)
كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ
(إن الله يحب المتقين) إشارة إلى أن الوفاء بالعهد والاستقامة عليه من أعمال المتقين، فيكون تعليلاً للأمر بالاستقامة، وقد استقام صلى الله عليه وسلم على عهدهم حتى نقضوا بإعانة بني بكر على خزاعة.
(كيف) يكون لهم عهد وهو زيادة ترق في استبعاد بقاء عهد لهم، ولهذا أعاد الاستفهام التعجبي للتأكيد والتقرير (و) الحال أنهم (إن يظهروا عليكم) بالغلبة لكم ويظفروا بكم (لا يرقبوا) أي لا يراعوا أو لا يحفظوا أو لا ينتظروا فيكم (إلا ولا ذمة) قال في الصحاح: الإل العهد والقرابة، قال الزجاج: الإل عندي على ما يوجبه اللغة يدور على معنى الحدة، ومنه الإلة للحربة ومنه أذن مؤللة أي محددة، وقال الفراء: المراد به القرابة، وقيل أن الإل الجؤار وهو رفع الصوت عند التحالف، وذلك أنهم كانوا إذا تحالفوا جاروا بذلك جؤاراً، ويجمع الإل في القلة على آل وفي الكثرة على إلال كقدح وقداح، والأل بالفتح قيل شدة القنوط، قال الهروي في الحديث " عجب ربكم من ألكم وقنوطكم ".
وفي القاموس الإلّ بالكسر العهد والحلف وموضع، والجوار والقرابة والمعدن والحقد والعداوة والربوبية واسم الله تعالى، وكل اسم آخره ال أو إيل فمضاف إلى الله تعالى، والوحي والأمان والجزع عند المصيبة ومنه ما روي عجب ربكم من إلِّكم، فيمن رواه بالكسر ورواية الفتح أكثر اهـ.
وقال ابن زيد والسدي وأبو عبيدة: الإلّ العهد وقيل الذمة والنديم، وقال الأزهري: هو اسم لله بالعبرانية وأصله من الأليل وهو البريق يقال أل(5/241)
لونه يؤل ألاَّ أي صفا ولمع، والذمة العهد وجمعها ذمم فمن فسر الأول بالعهد كان التكرير للتأكيد مع اختلاف اللفظين، وقيل الذمة الضمان يقال هو في ذمتي أي في ضماني وبه سمي أهل الذمة لدخولهم في ضمان المسلمين، ويقال له ذمة وذمام ومذمة وهي الذم قاله ابن عرفة.
وقال الراغب: الذمام ما يذم الرجل على إضاعته من عهد، وكذلك الذمة والمذمة بالفتح والكسر وقيل لي مذمة فلا تهتكها، وقال غيره: سميت ذمة لأن كل حرمة يلزمك من تضييعها الذم يقال لها ذمة، وقال أبو عبيدة والأزهري: الذمة الأمان كما في قوله صلى الله عليه وآله وسلم " ويسعى بذمتهم أدناهم " وروي عنه أيضاً أن الذمة ما يتذمم به أي ما يجتنب فيه الذم، وقال قتادة: الإل الحلف، وقال أبو مجلز: هو الله تعالى، وعن مجاهد وعكرمة مثله، وقال ابن عباس: الإل القرابة. والذمة العهد.
(يرضونكم بأفواههم وتأبى قلوبهم) أي يقولون بألسنتهم ما فيه مجاملة ومحاسنة لكم طلباً لمرضاتكم وتطييب قلوبكم، وقلوبهم تأبى ذلك وتخالفه وتود ما فيه مساءتكم ومضرتكم كما يفعله أهل النفاق وذوو الوجهين، والكلام مستأنف لبيان حالهم عند عدم الظفر فهو مقابل في المعنى لقوله: (وإن يظهروا عليكم) الخ يقال أبى يأبى أي اشتد امتناعه فكل أباء امتناع من غير عكس، ولم يصب من فسره بمطلق الامتناع، ومجيء المضارع منه على يفعل بفتح العين شاذ، ومنه قلى يقلى في لغة قاله السمين، ثم حكم عليهم بالفسق فقال: (وأكثرهم فاسقون) وهو التمرد والتجري والخروج عن الحق لنقضهم العهود وعدم مراعاتهم لها.(5/242)
اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (9) لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (10) فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (11) وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ
ثم وصفهم بقوله:(5/243)
اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (9)
(اشتروا بآيات اللة ثمناً قليلاً) أي استبدلوا بآيات القرآن التي من جملتها ما فيه الأمر بالوفاء بالعهود ثمناً حقيراً، وهو ما آثروه من حطام الدنيا أي تركوا اتباعها للشهوات والهوى وكانت شهواتهم أكلة أطعمها أبو سفيان حملتهم على نقض العهد (فصدوا عن سبيله) أي فعدلوا وأعرضوا عن سبيل الحق، أو صرفوا الناس عنه، وذلك أن أهل الطائف أمدوهم بالأموال ليقوُّوهم على حرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (إنهم ساء ما كانوا يعملون) من الشرك ونقضهم العهد، ومنعهم الناس عن الدخول في دين الإسلام.(5/243)
لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (10)
(لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة) قال النحاس: ليس هذا تكريراً، ولكن الأول لجميع المشركين، والثاني لليهود خاصة، والدليل على هذا اشتروا بآيات الله ثمناً قليلاً يعني اليهود، وقيل هذا فيه مراعاة لحقوق المؤمنين على الإطلاق، وفي الأول المراعاة لحقوق طائفة من المؤمنين خاصة، وقيل الأول وقع جواباً لقوله: (وإن يظهروا) والثاني وقع خبراً عن تقبيح حالهم (وأولئك هم المعتدون) أي المجاوزون للحلال إلى الحرام بنقض العهد أو المبالغون في الشر والتمرد إلى الغاية القصوى.(5/243)
فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (11)
(فإن تابوا) عن الشرك وعن نقض العهد إلى الوفاء به، قال قتادة:(5/243)
يقول إن تركوا اللات والعزى وشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله (وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة) أي التزموا أحكام الإسلام المفروضة (فإخوانكم) أي فهم إخوانكم (في الدين) أي في دين الإسلام لهم ما لكم وعليهم ما عليكم، وكرره لاختلاف جزاء الشرط إذ جزاء الشرط في الأول تخلية سبيلهم في الدنيا، وفي الثاني أخوتهم لنا في الدين، وهي ليست عين تخليتهم بل سببها.
(ونفصل الآيات) أي نبينها ونوضحها (لقوم يعلمون) بما فيها من الأحكام ويفهمونه، وخص أهل العلم لأنهم المنتفعون بها، والمراد بالآيات ما مر من الآيات المتعلقة بأحوال المشركين على اختلاف أنواعهم، وعن ابن عباس قال: حرمت هذه الآية قتال أو دماء أهل الصلاة، وقال ابن مسعود: أمرتم بالصلاة والزكاة فمن لم يزك فلا صلاة له.
وقال ابن زيد: افترضت الصلاة والزكاة جميعاً لم يفرق بينهما، وأبى أن يقبل الصلاة إلا بالزكاة وقال يرحم الله أبا بكر ما كان أفقهه، يريد ما قاله في حق من منع الزكاة والله لا أفرق بين شيئين جمع الله بينهما، يعني الصلاة والزكاة.(5/244)
وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (12)
(وإن نكثوا أيمانهم) مقابل قوله: (فإن تابوا) والنكث النقض وأصله نقض الخيط بعد إبرامه ثم استعمل في كل نقض ومنه نقض الأيمان والعهود على طريق الاستعارة (من بعد عهدهم) أي من بعد أن عاهدوهم والمعنى أن الكفار إن نكثوا العهود التي عاهدوا بها المسلمين ووثقوا لهم بها.
(وطعنوا في دينكم) أي وضموا إلى ذلك الطعن في دين الإسلام والقدح فيه، وأظهروا ما في ضمائرهم من الشر، وأخرجوه من القول إلى الفعل حسبما ينبئ عنه قوله تعالى: (وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا) الآية(5/244)
وثبتوا على ما هم عليه من النكث لا أنهم ارتدوا بعد الإيمان كما قيل، وعطف طعنوا على ما قبله مع أن نقض العهد كاف في إباحة القتل لزيادة تحريض المؤمنين على قتالهم، وقيل عطف تفسير.
(فقاتلوا) أي فقد وجب على المسلمين قتالهم (أئمة الكفر) بهمزتين وبإبدال الثانية ياء صريحة وفيه وضع الظاهر موضع المضمر، وهي جمع إمام، والمراد صناديد المشركين وأهل الرياسة فيهم على العموم، وعن قتادة: قال هم أبو سفيان بن حرب وأمية بن خلف وعتبة بن ربيعة وأبو جهل بن هشام وسهيل ابن عمرو، وهم الذين نكثوا عهد الله وهموا بإخراج الرسول من مكة، وعن مالك ابن أنس مثله، وقال ابن عباس: رؤوس قريش؛ وعن الحسن: إنهم الديلم، وعن حذيفة قال: ما قوتل أهل هذه الآية، ولم يأت أهلها، وعن علي نحوه، وقال مجاهد: هم فارس والروم.
والأولى أن الآية عامة في كل رؤساء الكفر من غير تقييد بزمن معين أو بطائفة معينة اعتباراً بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، ومما يفيد ذلك ما أخرجه ابن أبي حاتم عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير أنه كان في عهد أبي بكر الصديق إلى الناس حين وجههم إلى الشام أنه قال إنكم ستجدون قوماً مجوفة رؤوسهم فاضربوا مقاعد الشيطان منهم بالسيوف، فوالله لأن أقتل رجلاً منهم أحب إلي من أن أقتل سبعين من غيرهم، وذلك بأن الله يقول: (فقاتلوا أئمة الكفر).
(إنهم لا أيمان لهم) قال الزمخشري هذه الجملة تعليل لما قبلها، والأيمان جمع يمين أي لا عهد لهم، وسمي العهد يميناً لاشتماله عليه غالباً، والمعنى لا أيمان بارة لهم وإن وجدت صورة، ويمين الكافر شرعية عندنا والاستدلال به على أن يمين الكافر ليست يميناً ضعفه ظاهر، لأن المراد نفي الوثوق بقرينة (وإن نكثوا أيمانهم) لا يقال الكلام باعتبار اعتقادهم، لأن المخاطب هم(5/245)
المؤمنون، قال حذيفة: لا عهود لهم، وعن عمار مثله.
وقرئ بكسر الهمزة والمعنى أن هؤلاء الناكثين للأيمان الطاعنين في الدين ليسوا من أهل الإيمان بالله حتى يستحقوا العصمة لدمائهم وأموالهم فقتالهم واجب على المسلمين، وقيل لا وفاء لهم بالعهود وقيل هو من الأمان أي لا يعطون أماناً بعد نكثهم وطعنهم، يعني لا تؤمنوهم بل اقتلوهم حيث وجدتموهم.
(لعلهم ينتهون) عن كفرهم ونكثهم وطعنهم في دين الإسلام، والمعنى إن قتالهم يكون إلى غاية هي الانتهاء عن ذلك، وقد استدل بهذه الآية على أن الذمي إذا طعن في الدين لا يقتل حتى ينكث العهد كما قال أبو حنيفة لأن الله إنما أمر بقتلهم بشرطين أحدهما: نقض العهد والثاني: الطعن في الدين، وذهب مالك والشافعي وغيرهما إلى أنه إذا طعن في الدين قتل لأنه ينقض عهده بذلك قالوا وكذلك إذا حصل من الذمي مجرد النكث فقط من دون طعن في الدين فإنه يقتل (1).
_________
(1) وقال سعيد بن جبير: جاء رجل من المشركين إلى عليّ بن أبي طالب فقال: إن أراد الرجل منا أن يأتي محمداً بعد انقضاء الأربعة الأشهر فيسمع كلام الله أو يأتيه بحاجة قتل!.
فقال عليّ بن أبي طالب: لا، لأن الله تبارك وتعالى يقول: " (وإن أحدٌ من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله) " وهذا هو الصحيح. والآية محكمة.(5/246)
أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (13) قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ(5/247)
أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (13)
(ألا تقاتلون قوماً نكثوا أيمانهم) الهمزة الداخلة على حرف النفي للاستفهام التوبيخي مع ما يستفاد منها من التحضيض على القتال والمبالغة في تحققه، والمعنى أن من كان حاله كحال هؤلاء من نقض العهد فهو حقيق بأن لا يترك قتاله وإن يوبخ من فرط في ذلك.
(وهموا بإخراج الرسول) من مكة حين اجتمعوا في دار الندوة لكن لم يخرجوه بل خرج باختياره بإذن الله له في الهجرة، وتقدم أنهم هموا بأحد أمور ثلاثة، قتله وحبسه وإخراجه، وإنما اقتصر هنا على الهم بالإخراج لأنه هو الذي وقع أثره في الخارج بحسب الظاهر، وكانت دار الندوة مكان اجتماع القوم للتحدث وكان قد بناها قصي وقد أدخلت الآن في المسجد فهي مقام الحنفي الآن.
(وهم بدؤوكم) بالقتال (أول مرة) أي يوم بدر، قال مجاهد: قتال قريش حلفاء النبي صلى الله عليه وسلم وهمهم بإخراج الرسول، زعموا أن ذلك عام عمرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في العام التاسع للحديبية نكثت قريش العهد عهد الحديبية وجعلوا في أنفسهم إذا دخلوا مكة أن يخرجوه منها فذلك همهم بإخراجه فلم تتابعهم خزاعة على ذلك، فلما خرج النبي صلى(5/247)
الله عليه وسلم من مكة قالت قريش لخزاعة: عميتمونا عن إخراجه فقاتلوهم فقتلوا منهم رجمالاً.
(أتخشونهم) الاستفهام للتوبيخ والتقريع أي أتخشون أن ينالكم منهم مكروه فتتركون قتالهم لهذه الخشية، ثم بين ما يجب أن يكون الأمر عليه فقال: (فالله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين) أي هو أحق بالخشية منكم فإنه هو الضار النافع في الحقيقة ومن خشيتكم له أن تقاتلوا من أمركم بقتاله، فان قضية الإيمان توجب ذلك عليكم.
ثم زاد في تأكيد الأمر بالقتال فقال:(5/248)
قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14)
(قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين ويذهب غيظ قلوبهم) ورتب على هذا الأمر فوائد:
الأولى: تعذيب الله للكفار بأيدي المؤمنين بالقتل والأسر.
والثانية: إخزاؤهم قيل بالأسر وقيل بما نزل بهم من الذل والهوان.
والثالثة: نصر المسلمين عليهم وغلبتهم لهم.
والرابعة: أن الله يشفي بالقتال صدور قوم مؤمنين ممن لم يشهد القتال ولا حضره.
والخامسة: أنه سبحانه يذهب بالقتال غيظ قلوب المؤمنين الذي نالهم بسبب ما وقع من الكفار من الأمور الجالبة للغيظ وحرج الصدر.
فإن قيل شفاء الصدور وإذهاب غيظ القلوب كلاهما بمعنى فيكون تكراراً.
قيل في الجواب: إن القلب أخص من الصدر، وقيل: إن شفاء الصدور(5/248)
إشارة إلى الوعد بالفتح، ولا ريب أن الانتظار لنجاز الوعد مع الثقة به فيه شفاء للصدور، وأن إذهاب غيظ القلوب إشارة إلى وقوع الفتح، وقد وقعت للمؤمنين ولله الحمد هذه الأمور كلها.
عن عكرمة قال: نزلت هذه الآية في خزاعة، وعن مجاهد والسدي وقتادة نحوه، وقد ساق القصة ابن إسحاق في سيرته وأورد فيها النظم الذي أرسلته خزاعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم أوله.
يا رب إني ناشد محمداً ... حلف أبينا وأبيه الأتلدا
وأخرج القصة البيهقي في الدلائل ثم قال:(5/249)
وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (15)
(ويتوب الله على من يشاء) وهو ابتداء كلام مستأنف يتضمن الإخبار بما سيكون، وهو أن بعض الكافرين يتوب عن كفره كما وقع من بعض أهل مكة يوم الفتح فإنهم أسلموا وحسن إسلامهم كأبي سفيان وعكرمة وسهيل ابن عمرو، فهؤلاء كانوا أئمة الكفر ثم منّ الله عليهم بالإسلام يوم فتح مكة.
فإن قيل (1) كيف تقع التوبة جزاء للمقاتلة؟ أجيب بأن القتال قد يكون سبباً لها إذا كانت من جهة الكفار، وأما إذا كانت من جهة المسلمين فوجهه أن النصر والظفر من جهة الله يكون سبباً لخلوص النية والتوبة عن الذنوب. (والله عليم حكيم).
_________
(1) قوله فإن قيل الخ كذا في أصله ولعله مرتب على قراءة نصب يتوب كما يؤخذ من عبارة الكشاف. اهـ مصححه.(5/249)
أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (16) مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ(5/250)
أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (16)
(أم حسبتم أن تتركوا) أم هذه هي المنقطعة التي بمعنى بل والهمزة والاستفهام للتوبيخ وحرف الإضراب للدلالة على الانتقال من كلام إلى آخر، والمعنى كيف يقع الحسبان منكم بأن تتركوا على ما أنتم عليه. وقوله أن تتركوا في موضع مفعولي الحسبان عند سيبويه، وقال المبرد: أنه حذف الثاني والتقدير أم حسبتم أن تتركوا من غير أن تبتلوا بما يظهر به المؤمن والمنافق الظهور الذي يستحق به الثواب والعقاب يعني: بدون تكليفكم بالقتال الذي سئمتموه.
(ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم) الواو حالية ولما للنفي مع التوقع، والمراد من نفي العلم نفي المعلوم بالطريق البرهاني إذ لو شم رائحة الوجود لعلم قطعاً فلما لم يعلم لزم عدمه قطعاً، والمعنى كيف تحسبون أنكم تتركون ولما يتبين المخلص منكم في جهاده من غير المخلص، و (ما) في (لما) من التوقع منبه على أن ذلك سيكون وفائدة التعبير عما ذكر من عدم التبين بعدم علم الله تعالى أن المقصود هو التبين من حيث كونه متعلقاً للعلم ومداراً للثواب وعدم التعرض لحال المقصرين لما أن ذلك بمعزل من الاندراج تحت إرادة أكرم الأكرمين.
وجملة (ولم يتخذوا من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة) معطوفة على جاهدوا داخلة معه في حكم النفي واقعة في حيز الصلة، والوليجة من(5/250)
الولوج وهو الدخول، ولج يلج ولوجاً إذا دخل، فالوليجة الدخيلة، قال أبو عبيدة: كل شيء أدخلته في شيء ليس منه فهو وليجة، ويكون للمفرد وغيره بلفظ واحد وقد يجمع على ولائج وولج كصحائف وصحف (1).
قال الفراء: الوليجة البطانة من المشركين، وقيل وليجة الرجل من يداخله في باطن أموره، والمعنى واحد، أي كيف تتخذون دخيلة أو بطانة من المشركين تفشون إليهم أسراركم وتعلمونهم أموركم من دون الله، وقال قتادة: وليجة يعني خيانة، وقال الضحاك: خديعة.
وقال الراغب: الوليجة كل ما يتخذه الإنسان معتمداً عليه، وليس من قولهم فلان وليجة في القوم إذا دخل فيهم (والله خبير بما تعملون) أي بجميع أعمالكم.
_________
(1) وقيل أن جماعة من المنافقين جاؤوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألون الخروج معه إلى الجهاد تعزيزاً فنزل هذه الآيات.(5/251)
مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ (17)
(ما كان للمشركين) أي ما ينبغي ولا يصح لهم (أن يعمروا) من عمر يعمر، وقرئ من أعمر يعمر أي يجعلون لها من يعمرها عمارة معتداً بها.
(مساجد الله) قرئ بالجمع واختاره أبو عبيدة، قال النحاس: لأنها أعم، وإلخاص يدخل تحت العام، وقد يحتمل أن يواد بالجمع المسجد الحرام خاصة لقوله وعمارة المسجد الحرام، وهذا جائز فيما كان من أسماء الأجناس، كما يقال فلان يركب الخيل وإن لم يركب إلا فرساً.(5/251)
إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ(5/252)
إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (18)
وقرئ بالإفراد ويراد به جنس المسجد، وعلى هذا يندرج فيه سائر المساجد ويدخل المسجد الحرام دخولاً أولياً، قال النحاس: وقد أجمعوا على الجمع في قوله: (إنما يعمر مساجد الله).
قلت: وهي أيضاً محتملة للأمرين وعن الحسن البصري: إنما قال تعالى مساجد والمراد المسجد الحرام لأنه قبلة المساجد كلها وإمامها فعامره كعامر جميع المساجد أو لأن كل بقعة وناحية من بقاعه ونواحيه المختلفة الجهات مسجد على حياله بخلاف سائر المساجد، إذ ليس في نواحيها اختلاف الجهة، ويؤيده القراءة بالتوحيد.
قال الفراء: العرب قد تضع الواحد مكان الجمع كقولهم فلان كثير الدرهم وبالعكس، كقولهم فلان يجالس الملوك، ولعله لم يجالس إلا ملكاً واحداً، والمراد بالعمارة إما المعنى الحقيقي أو المعنى المجازي وهو ملازمته ودخوله والتعبد والقعود فيه، وكلاهما ليس للمشركين، أما الأول فلأنه يستلزم المنة على المسلمين بعمارة مساجدهم، وأما الثاني فلكون الكفار لا عبادة لهم مع نهيهم عن قربان المسجد الحرام.
قيل لو أوصى كافر ببناء المسجد لم تقبل وصيته، وكذا يمنع من دخول المسجد بغير إذن مسلم حتى لو دخل عزر، وإن داخل بإذن لم يعزر، ولكن لا بد من حاجة فيشترط للجواز الإذن والحاجة، ويدل على جواز دخول الكافر المسجد بالإذن أن النبي - صلى الله عليه وسلم - شد ثمامة بن أثال إلى سارية من سواري المسجد، وهو كافر، والأولى تعظيم المساجد ومنعهم من دخولها.(5/252)
(شاهدين) بإظهار ما هو كفر من نصب الأوثان والعبادة لها وجعلها آلهة، فإن هذا شهادة منهم (على أنفسهم بالكفر) وإن أبوا ذلك بألسنتهم، فكيف يجمعون بين أمرين متنافيين، عمارة المساجد التي هي من شأن المؤمنين، والشهادة على أنفسهم بالكفر التي ليست من شأن من يتقرب إلى الله بعمارة مساجده.
وقيل المراد بهذه الشهادة قولهم في طوافهم: لبيك لا شريك لك إلا شريك هو لك تملكه وما ملك، مع قولهم نحن نعبد اللات والعزى، وقيل أن اليهودي يقول هو يهودي، والنصراني يقول هو نصراني، والصابئ يقول هو صابئ، والمشرك يقول هو مشرك.
وقال ابن عباس: شهادتهم سجودهم للأصنام. وقال الحسن: كلامهم بالكفر، وقيل شاهدين على رسولهم بالكفر، لأنه من أنفسهم وما أبعده عن المقام.
(أولئك حبطت أعمالهم) التي يفتخرون بها ويظنون أنها من أعمال الخير مثل العمارة والحجابة والسقاية، وفك المعاني لأنها مع الكفر لا تأثير لها، أي بطلت ولم يبق لها أثر (وفي النار هم خالدون) في هذه الجملة الاسمية مع تقديم الظرف المتعلق بالخبر تأكيد لمضمونها.
ثم بين سبحانه من هو حقيق بعمارة المساجد فقال: (إنما يعمر مساجد الله) الظاهر أن الجمع هنا حقيقة لأن المراد جميع المؤمنين العامرين لجميع مساجد أقطار الأرض، والتعمير بنحو البناء والتزيين بالفرش والسراج، وبالعبادة وترك حديث الدنيا، يقال عمرت الدار عمراً من باب قتل بنيتها، والاسم العمارة بالكسر وعمرت الخراب عمراً من باب كتب فهو عامر أي معمور.(5/253)
قال أبو السعود: والمراد بالعمارة ما يعم مرمة ما استرم منها وقمها وتنظيفها ودراسة العلوم فيها ونحو ذلك انتهى، وقد تقدم الكلام في وجه جمع المساجد وفي بيان ماهية العمارة، ومن يجوز الجمع بين الحقيقة والمجاز حمل العمارة هنا عليهما قال أبو السعود: إدراج السجد الحرام في ذلك غير مخالف لمقتضى الحال، فإن الإيجاب ليس كالسلب، وقد قرئ بالإفراد أيضاً، والمراد هنا قصر تحقق العمارة ووجودها على المؤمنين لا قصر جوازها ولياقتها، أي إنما يصح ويستقيم أن يعمرها عمارة يعتد بها.
(من آمن بالله) وحده (واليوم الآخر) بما فيه من البعث والحساب والجزاء حسبما نطق به الوحي (وأقام الصلاة وآتى الزكاة) على ما علم من الدين فيندرج فيه الإيمان بنبوة النبي صلى الله عليه وسلم حتماً، وقيل هو مندرج تحت الإيمان بالله خاصة فإن أحد جزأي كلمتي الشهادة علم للكل.
وعن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا رأيتم الرجل يعتاد المساجد فاشهدوا له بالإيمان، قال الله تعالى: (إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر " (1) أخرجه أحمد والدارقطني والترمذي وحسنه وابن ماجة وابن المنذر والبيهقي وعبد بن حميد.
وعن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من بنى لله مسجداً صغيراً كان أو كبيراً بنى الله له بيتاً في الجنة " (2) أخرجه الترمذي.
وعن عثمان بن عفان قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " من بنى مسجداً يبتغي به وجه الله بنى الله له بيتاً في الجنة " (3) وقد
_________
(1) الدارميّ كتاب الصلاة باب 23.
(2) الترمذي كتاب المواقيت باب 120.
(3) مسلم 533 - البخاري 297.(5/254)
وردت أحاديث كثيرة في استحباب ملازمة المساجد وعمارتها والتردد إليها للطاعات.
(ولم يخش) أحداً (إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين) فيه حسم لأطماع الكفار في الانتفاع بأعمالهم. فإن الموصوفين بتلك الصفات الأربع إذا كان اهتداؤهم مرجواً فقط، فكيف بالكفار الذين لم يتصفوا بشيء من تلك الصفات، وقيل عسى من الله واجبة.
وقال ابن عباس: كل عسى في القرآن فهي واجبة، كقوله لنبيه صلى الله عليه وسلم (عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً) وهي الشفاعة.
وقيل هي بمعنى خليق، أي فخليق أن يكونوا من المهتدين، وقيل أن الرجاء راجع إلى العباد.
قال ابن عباس: يقول من وحد الله وآمن بما أنزل الله وأقام الصلوات الخمس ولم يتعبد إلا الله فهو من المهتدين، فمن كان جامعاً بين هذه الأوصاف فهو الحقيق بعمارة المساجد لا من كان خالياً منها أو من بعضها.
واقتصر على ذكر الصلاة والزكاة والخشية تنبيهاً بما هو أعظم أمور الدين على ما عداه مما افترضه الله على عباده لأن كل ذلك من لوازم الإيمان.(5/255)
أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (19) الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ
والاستفهام في قوله:(5/256)
أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (19)
(أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام) للإنكار وهو استئناف خوطب به المشركون التفاتاً عن الغيبة في قوله: (ما كان للمشركين أن يعمروا).
والسقاية والعمارة مصدران كالسعاية والحماية لا يتصور تشبيههما بالأعيان والجثث فلا بد من إضمار تقديره أجعلتم أهل سقاية الحاج أو أجعلتم سقاية الحاج كإيمان من آمن، ويؤيد الأول قراءة من قرأ سقاة الحاج وعمرة المسجد جمع ساق وعامر وفيها تشبيه ذات بذات كما في الوجه الأول، وعلى هذا لا يحتاج إلى تقدير المحذوف.
(كمن) أي كإيمان أو كعمل من (آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله) حتى يتفق الموضوع والمحمول (لا يستوون عند الله) المعنى أن الله أنكر عليهم التسوية بين ما كان تعمله الجاهلية من الأعمال التي صورتها صورة الخير وإن لم ينتفعوا بها، وبين إيمان المؤمنين وجهادهم في سبيل الله.
وقد كان المشركون يفتخرون بالسقاية والعمارة ويفضلونهما على عمل المسلمين فأنكر الله عليهم ذلك، فصرح سبحانه بالمفاضلة بين الفريقين وتفاوتهم وعدم استوائهم أي لا تساوي تلك الطائفة الكافرة الساقية للحجيح العامرة للمسجد الحرام، وهذه الطائفة المؤمنة بالله واليوم الآخر المجاهدة في سبيله.
ودل سبحانه بنفي الاستواء على نفي الفضيلة التي يدعيها المشركون(5/256)
أي إذا لم تبلغ أعمال الكفار إلى أن تكون مساوية لأعمال المسلمين، فكيف تكون فاضلة عليها كما يزعمون، وهذا الكلام استئناف مؤكد لما علم من إبطال المساواة بالتوبيخ المستفاد من الاستفهام أي لا يستوي الفريقان.
ثم حكم عليهم بالظلم فقال: (والله لا يهدي القوم الظالمين) وأي أنهم مع ظلمهم بما هم فيه من الشرك لا يستحقون الهداية من الله سبحانه، وهو تعليل في المعنى لنفي المساواة، وفي هذا إشارة إلى الفريق المفضول ثم صرح بالفريق الفاضل فقال:(5/257)
الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (20)
(الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة) أي الجامعون بين الإيمان والهجرة والجهاد بالأموال والأنفس أحق بما لديه من الخير، من تلك الطائفة المشركة المفتخرة بأعمالها المحبطة الباطلة.
وفي قوله: (عند الله) تشريف عظيم للمؤمنين (وأولئك) أي المتصفون بالصفات الثلاثة المذكورة (هم الفائزون) بسعادة الدارين المختصون بالفوز المحصلون لأصله بالنسبة لكون الغير أهل السقاية والعمارة والمحصلون لأكمله بالنسبة لكون الغير من لم يجمع الأوصاف المذكورة، ثم فسر الفوز بقوله.(5/257)
يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ (21)
(يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات) التنكير في الثلاثة للتعظيم، والمعنى أنها فوق وصف الواصفين وتصور المتصورين، قال أبو حيان: لما وصف الله المؤمنين بثلاث صفات الإيمان والهجرة والجهاد بالنفس والمال، قابلهم على ذلك بالتبشير بثلاث، وبدأ بالرحمة في مقابلة الإيمان لتوقفها عليه، وثنى بالرضوان الذي هو نهاية الإحسان في مقابلة الجهاد الذي فيه بذك الأنفس والأموال، ثم ثلث بالجنات في مقابلة الهجرة وترك الأوطان إشارة إلى أنهم لما آثروا تركها بدلهم داراً عظيمة دائمة وهي الجنات انتهى.
(لهم فيها نعيم مقيم) الدائم المستمر الذي لا يفارق صاحبه.(5/257)
خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (22) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ(5/258)
خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (22)
(خالدين فيها أبداً) ذكر الأبد بعد الخلود تأكيد له (إن الله عنده أجر عظيم) مؤكدة لما قبلها مع تضمنها للتعليل أي أعطاهم الله سبحانه هذه الأجور العظيمة لكون الأجر الذي عنده عظيماً يهب منه ما يشاء لمن يشاء وهو ذو الفضل العظيم، وهذه أعظم البشارات ونهاية المقصودات.(5/258)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (23)
(يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء) يعني بطانة وأصدقاء تفشون إليهم أسراركم وتؤثرون المقام معهم على الهجرة، والخطاب للمؤمنين كافة وهو حكم باق إلى يوم القيامة، يدل على قطع الولاية بين المؤمنين والكافرين والمراد النهي لكل فرد من أفراد المخاطبين عن موالاة فرد من أفراد المشركين بقضية مقابلة الجمع بالجمع الموجب لانقسام الآحاد إلى الآحاد كما في قوله: (وما للظالمين من أنصار) لا عن موالاة طائفة منهم فإن ذلك مفهوم من اللفظ دلالة لا عبارة.
وقالت طائفة من أهل العلم أنها نزلت في الحض على الهجرة ورفض بلاد الكفر، فيكون الخطاب لمن كان من المؤمنين بمكة وغيرها من بلاد العرب، نهوا أن يوالوا الآباء والأخوة فيكونون لهم تبعاً في سكنى بلاد الكفر، وقال بعضهم: حمل هذه الآية على الهجرة مشكل، لأن هذه السورة نزلت بعد الفتح وهي آخر القرآن نزولاً، والأقرب أن يقال أن الله تعالى لما أمر بالتبرئ عن المشركين قالوا: كيف يمكن أن يقاطع الرجل أباه وأخاه وابنه، فذكر الله تعالى أن مقاطعة الرجل أهله وأقاربه في الدين واجبة فالمؤمن لا يوالي الكافر وإن(5/258)
كان أباه أو أخاه أو ابنه.
وقال مجاهد: هذه الآية متصلة بما قبلها نزلت في قصة العباس وطلحة وامتناعهما من الهجرة، وقال ابن عباس: لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم الناس بالهجرة إلى المدينة فمنهم من تعلق به أهله وأولاده يقولون ننشدك بالله أن لا تضيعنا فيرق لهم فيقيم عليهم ويدع الهجرة، فأنزل الله هذه الآية.
وقال مقاتل: نزلت في التسعة الذين ارتدوا عن الإسلام ولحقوا بمكة فنهى الله المؤمنين عن موالاتهم، وأنزل هذه الآية، والعبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب.
(إن استحبوا الكفر) أي أحبوا كما يقال استجاب بمعنى أجاب، وهو في الأصل طلب المحبة أي إن اختاروا الكفر وأقاموا عليه (على الإيمان) وتركوه وقد تقدم تحقيق المقام في سورة المائدة، ثم حكم على من يتولى من استحب الكفر على الإيمان من الآباء والإخوان بالظلم فقال:
(من يتولهم) فيه مراعاة لفظ من (منكم فأولئك) فيه مراعاة معناها (هم الظالمون) فدل ذلك على أن تولي من كان كذلك واختيار المقام معه على الهجرة والجهاد من أعظم الذنوب وأشدها.(5/259)
قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ
ثم أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم قائلاً له:(5/260)
قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (24)
(قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله).
العشيرة الجماعة المجتمعة التي ترجع إلى نسب وعقد واحد أو ود كعقد العشرة وعشيرة الرجل أهله وقرابته الأدنون وهم الذين يعاشرونه ويتكثر بهم سواء بلغوا العشرة أم فوقها وهي اسم جمع، وقرأ السلمي وأبو رجاء عشيراتكم بالجمع ووجهه أن لكل من المخاطبين عشيرة فحسن الجمع قال الأخفش: لا تكاد العرب تجمع عشيرة على عشيرات وإنما يجمعونها على عشائر، وهذه القراءة حجة عليه.
وقرأ الحسن: عشائركم والباقون عشيرتكم، والاقتراف الاكتساب، وأصله اقتطاع الشيء من مكانه، والتركيب يدور على الدنو والكاسب يدني الشيء من نفسه ويدخله تحت ملكه، والتجارة الأمتعة التي يشترونها ليربحوا فيها، والكساد عدم النفاق لفوات وقت بيعها بالهجرة ومفارقة الأوطان.
ومن غرائب التفسير ما روي عن ابن المبارك أنه قال: إن المراد بالتجارة في هذه الآية البنات والأخوات إذا كسدن في البيت لا يجدون لهن خاطباً واستشهد لذلك بقول الشاعر:
كسدن من الفقر في قومهن ... وقد زادهن مقامي كسادا(5/260)
وهذا البيت وإن كان فيه إطلاق الكساد على عدم وجود الخاطب لهن فليس فيه جواز إطلاق اسم التجارة عليهن، والمراد بالمساكن المنازل التي تعجبهم وتميل إليها أنفسهم ويرون الإقامة إليها أحب إليهم من المهاجرة إلى الله ورسوله ومن الجهاد في سبيله فقعدوا لأجل ما ذكر من الأمور الثمانية أو لأجل حبها والتعرض للصفات المذكورة للإيذان بأن اللوم على محبة ما ذكر من زينة الحياة الدنيا ليس لتناسي ما فيها من مبادئ المحبة وموجبات الرغبة فيها، وأنها مع ما لها من فنون المحاسن بمعزل من أن يؤثر حبها على حبه تعالى وحب رسوله صلى الله عليه وآله وسلم كما في قوله عز وجل: (ما غرك بربك الكريم) والمراد بالحب الاختياري دون الطبيعي وهو إيثارهم وتقديم طاعتهم لا ميل الطبع فإنه أمر جبلي لا يمكن تركه ولا يؤاخد عليه ولا يكلف الإنسان بالتحفظ عنه.
(فتربصوا) أي فانتظروا (حتى يأتي الله بأمره) فيكم وما تقتضيه مشيئته من عقوبتكم، وقيل المراد بأمر الله سبحانه القتال، وقيل فتح مكة وفيه بعد، فقد روي أن هذه السورة نزلت بعد الفتح، وقيل هو عقوبة عاجلة أو آجلة، وفي هذا وعيد شديد وتهديد لهم ويؤكده إبهام الأمر وعدم التصريح به لتذهب أنفسهم كل مذهب وتتردد بين أنواع العقوبات.
وإنما كان تهديداً لكوفهم آثروا لذات الدنيا على الآخرة، وهذا قل من يتخلص منه، ولذا قيل أنها أشد آية نعت على الناس كما فصله في الكشاف، وهذه الآية تدل على أنه إذا وقع التعارض بين مصلحة واحدة من مصالح الدين وبين مهمات الدنيا وجب ترجيح الدين على الدنيا ليبقى الدين سليماً (والله لا يهدي القوم الفاسقين) أي الخارجين عن طاعته النافرين عن امتثال أوامره ونواهيه.(5/261)
لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25) ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (26) (ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ(5/262)
لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25)
(لقد نصركم الله في مواطن كثيرة) تذكير للمؤمنين بنعمه عليهم والمواطن جمع موطن، وفي المصباح الوطن مكان الإنسان ومقره، والجمع أوطان مثل سبب وأسباب، والموطن مثل الوطن والجمع مواطن كمسجد ومساجد، والموطن أيضاً المشهد من مشاهد الحرب، والمواطن التي نصر الله المسلمين فيها هي يوم بدر وقريظة والنضير وكانت غزوات رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما ذكر في الصحيحين من حديث زيد بن أرقم تسع عشرة غزوة زاد بريدة في حديثه " قاتل في ثمان منهن " ويقال أن جميع غزواته وسراياه وبعوثه سبعون وقيل ثمانون.
(و) نصركم أيضاً (يوم حنين) وهو واد بين مكة والطائف بينه وبين مكة ثمانية عشر ميلاً كما في الخازن وانصرف على أنه اسم مكان، ومن العرب من يمنعه على أنه اسم للبقعة.
قال قتادة: قاتل بها نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم هوازن وثقيف، وعلى هوازن مالك بن عوف، وعلى ثقيف عبد ياليل بن عمرو، وذلك في شوال سنة ثمان عقيب رمضان الذي وقع فيه الفتح، والقصة مبسوطة في كتب الحديث والسير.
(إذ أعجبتكم كثرتكم) وإنما أعجب من أعجب من المسلمين بكثرتهم(5/262)
لأنهم كانوا أحد عشر ألفاً، وقيل اثني عشر ألفاً، وقيل ستة عشر ألفاً، والكفار أربعة آلاف، قاله السيوطي، والذي في شرح المواهب أنهم كانوا أكثر من عشرين ألفاً، وقتل من المسلمين أربعة ومن المشركين أكثر من سبعين انتهى.
وبالجملة قال بعضهم لن نُغلب اليوم من قلة فوكلوا إلى هذه الكلمة (فلم تغن) أي لم تدفع الكثرة (عنكم شيئاً) بل انهزمتم وثبت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وثبت معه طائفة يسيرة منهم عمه العباس، وكان آخذاً بلجام البغلة، وأبو سفيان آخذ بركابه وهو ابن عمه إذ هو ابن الحرث ابن عبد المطلب وقد أسلم هو والعباس يوم الفتح، ثم تراجع المسلمون فكان النصر والظفر.
وفي سيرة الشامي أن الذين ثبتوا معه في حنين مائة وثلاثة وثلاثون من المهاجرين، وسبعة وستون من الأنصار، والإغناء إعطاء ما يدفع الحاجة أي لم يعطكم الكثرة شيئاً يدفع حاجتكم ولم تفدكم.
(وضاقت عليكم الأرض بما رحبت) الرحب بضم الراء السعة، والرحب بفتحها المكان الواسع والباء بمعنى مع، وما مصدرية والمعنى أن الأرض مع كونها واسعة الأطراف ضاقت عليهم بسبب ما حل بهم من الخوف والوجل، وقيل إن الباء بمعنى على أي على رحبها.
(ثم وليتم) أي انهزمتم حال كونكم (مدبرين) أي مولين أدباركم جاعلين لها إلى جهة عدوكم.
أخرج ابن المنذر عن الحسن قال: لا اجتمع أهل مكة وأهل المدينة قالوا: الآن نقاتل حين اجتمعنا، فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قالوا وما أعجبهم من كثرتهم، فالتقوا فهزموا حتى ما يقوم أحد منهم على(5/263)
أحد، حتى جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ينادي أحياء العرب: إليّ فوالله ما يعرج عليه أحد حتى أعرى موضعه، فالتفت إلى الأنصار وهم ناحية فناداهم: يا أنصار الله وأنصار رسوله إليَّ عباد الله أنا رسول الله، فجثوا يبكون وقالوا: يا رسول الله ورب الكعبة إليك والله فنكسوا، رؤوسهم يبكون وقدموا أسيافهم يضربون بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى فتح الله عليهم.
وقيل ناداهم العباس بإذنه، وكان صيتاً يسمع صوته من نحو ثمانية أميال، فقاتلوا، ووقعة حنين مذكورة في كتب السير والحديث بطولها وتفاصيلها فلا نطول بذلك.(5/264)
ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (26)
(ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين) أي أنزل ما يسكنهم فيذهب خوفهم حتى وقع منهم الاجتراء على قتال المشركين بعد أن ولوا مدبرين، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ثابت لم يفر، والمراد بالمؤمنين هم الذين لم ينهزموا وقيل الذين انهزموا، والظاهر جميع من حضر منهم لأنهم ثبتوا بعد ذلك وقاتلوا وانتصروا.
(وأنزل جنوداً لم تروها) هم الملائكة، واختلف في عددهم على أقوال، قيل كانوا خمسة آلاف، وقيل ثمانية آلاف، وقيل ستة عشر ألفاً، وقيل غير ذلك، وهذا لا يعرف إلا من طريق النبوة. واختلفوا أيضاً هل قاتلت الملائكة في هذا اليوم أم لا، وقد تقدم أن الملائكة لم تقاتل إلا يوم بدر وأنهم إنما حضروا في غير يوم بدر لتقوية قلوب المؤمنين وإدخال الرعب في قلوب المشركين وإن كانوا لا يرونهم، وقيل أن الكفار كانت تراهم.
عن جبير بن مطعم قال: رأيت قبل هزيمة القوم والناس يقتتلون مثل(5/264)
البجاد (1) الأسود أقبل من السماء حتى سقط بين القوم، فنظرت فإذا نمل أسود مبثوث قد ملأ الوادي لم أشك أنها الملائكة، ولم تكن إلا هزيمة للقوم.
وأخرج الطبراني والحاكم وصححه وأبو نعيم والبيهقي في الدلائل عن ابن مسعود قال: كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين فولى عنه الناس وبقيت معه في ثمانين رجلاً من المهاجرين والأنصار، فكنا على أقدامنا نحواً من ثمانين قدماً، ولم نولهم الدبر، وهم الذين أنزل عليهم السكينة ورسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلته البيضاء يمضي قدماً فقال: ناولني كفاً من تراب فناولته فضرب به وجوههم فامتلأت أعينهم تراباً وولى المشركون أدبارهم (2).
(وعذب الذين كفروا) بما وقع عليهم من القتل والأسر وأخذ الأموال وسبي الذرية، وقال السدي: قتلهم بالسيف، قيل أسر ستة آلاف من نسائهم وصبيانهم، ولم تقع غنيمة أعظم من غنيمتهم فقد كان فيها من الإبل اثنا عشر ألفاً ومن الغنم ما لا يحمى عداً ومن الأسرى ما سمعته وكان فيها غير ذلك.
(وذلك) التعذيب المفهوم من عذب (جزاء الكافرين) سمي ما حل بهم من العذاب في هذا اليوم جزاء مع أنه غير كاف، بل لا بد من عذاب الآخرة مبالغة في وصف ما وقع عليهم وتعظيماً له.
_________
(1) بجاد بالكسر كليم مخطط. إهـ صراح.
(2) المستدرك كتاب الجهاد 2/ 117.(5/265)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ(5/266)
ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (27)
(ثم يتوب الله من بعد ذلك) التعذيب (على من يشاء) ممن هداه منهم إلى الإسلام (والله غفور) يغفر لمن أذنب فتاب (رحيم) بعباده متفضل عليهم بالمغفرة لما اقترفوه.(5/266)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (28)
(يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس) أي ذوو نجاسة لأن معهم الشرك الذي هو بمنزلة النجس، والنجس مصدر لا يثنى ولا يجمع، يقال رجل نجس، وامرأة نجس، ورجلان نجس، وامرأتان نجدس، ورجال نجس، ونساء نجس، ويقال نجس ونجس بكسر الجيم وضمها، ويقال نجس بكسر النون وسكون الجيم وهو تخفيف من المحرك، قيل لا يستعمل إلا إذا قيل معه رجس، وقيل ذلك أكثري لا كلي.
والمشركون مبتدأ وخبره المصدر، وصفهم بذلك حتى كأنهم عين النجاسة والقذر لخبث باطنهم مبالغة في وصفهم بها. قال ابن عباس؛ أعيانهم نجسة كالكلاب والخنازير، وقال قتادة ومعمر وغيرهما: إنهم وصفوا بذلك لأنهم لا يتطهرون ولا يغتسلون ولا يتجنبون النجاسات فهي ملابسة لهم، قيل أراد بالمشركين عبدة الأصنام دون غيرهم من أصناف الكفار، وقيل بل جميع أصنافهم من اليهود والنصارى وغيرهم.
وقد استدل بالآية من قال بأن المشرك نجس الذات كما ذهب إليه بعض الظاهرية وروي عن الحسن البصري وهو محكي عن ابن عباس، وقال الحسن ابن صالح: من مس مشركاً فليتوضأ، ويروى هذا عن الزيدية، وذهب(5/266)
الجمهور من السلف والخلف ومنهم أهل المذاهب الأربعة إلى أن الكافر ليس بنجس الذات لأن الله سبحانه أحل طعامهم، وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك من فعله وقوله ما يفيد عدم نجاسة ذواتهم، فأكل في آنيتهم وشرب منها وتوضأ فيها وأنزلهم في مسجده وهو الحق، وعن جابر بن عبد الله في هذه الآية قال: إلا أن يكون عبداً أو أحداً من أهل الذمة.
(فلا يقربوا المسجد الحرام) الفاء للتفريع فعدم قربانهم للمسجد الحرام متفرع على نجاستهم، وإنما نهوا عن الاقتراب للمبالغة في المنع من دخول الحرم، ونهي المشركين أن يقربوا راجع إلى نهي المسلمين عن تمكينهم من ذلك، قاله أبو السعود فهو من باب قولهم لا أرينك هاهنا، والمراد بالمسجد الحرام جميع الحرم، روي ذلك عن عطاء فيمنعون عنده من جميع الحرم، ويؤيد هذا قوله تعالى: (سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام) أراد به الحرم لأنه أسرى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من بيت أم هانئ.
وذهب غيره من أهل العلم إلى أن المراد المسجد الحرام نفسه فلا يمنع المشرك من دخول سائر الحرم، وقد اختلف أهل العلم في دخول المشرك غير المسجد الحرام من المساجد، فذهب أهل المدينة إلى منع كل مشرك عن كل مسجد، وقال الشافعي: الآية عامة في سائر المشركين خاصة في المسجد الحرام فلا يمنعون من دخول غيره من المساجد.
قال ابن العربي وهذا جمود منه على الظاهر لأن قوله تعالى: (إنما المشركون نجس) تنبيه على العلة بالشرك والنجاسة، ويجاب عنه بأن هذا القياس مردود يربطه صلى الله عليه وسلم لثمامة بن أثال في مسجده وإنزال وفد ثقيف فيه.
وروي عن أبي حنيفة مثل قول الشافعي، وزاد أنه يجوز دخول الذمي(5/267)
سائر المساجد من غير حاجة، وقيده الشافعي بالحاجة، وقال قتادة أنه يجوز ذلك للذمي دون المشرك.
والحاصل أن بلاد الإسلام في حق الكفار ثلاثة أنواع (أحدها) الحرم فلا يجوز لكافر أن يدخله بحال، ذمياً كان أو مستأمناً لظاهر هذه الآية، وبه قال الشافعي وأحمد ومالك: وإذا جاء رسول من دار الكفر إلى الإمام والإمام في الحرم لا يأذن له في دخول الحرم، بل يخرج إليه الإمام أو يبعث إليه من يسمع رسالته خارج الحرم.
والثاني الحجاز وحَّده ما بين يمامة واليمن ونجد والمدينة الشريفة، قيل نصفها تهامي ونصفها حجازي، وقيل كلها حجازي، وقال ابن الكلبى: حد الحجاز ما بين جبل طي وطريق العراق.
قال الحربي: وتبوك من الحجاز فيجوز للكفار دخول أرض الحجاز بالإذن ولكن لا يقيمون فيها أكثر من مقام المسافر وهو ثلاثة أيام لأحاديث صحيحة في هذا الباب. منها ما روي عن عمر بن الخطاب أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب حتى لا أدع إلا مسلماً "، وأجلاهم عمر في خلافته وأجل لمن قدم منهم تاجراً ثلاثة، وجزيرة العرب من أقصى عدن إلى ريف العراق في الطول، وأما في العرض فمن جدة وما والاها من ساحل البحر إلى أطراف الشام.
والثالث سائر بلاد الإسلام فيجوز للكافر أن يقيم فيها بعهد أو أمان وذمة لكن لا يدخلون المساجد إلا بإذن مسلم لحاجة.
(بعد عامهم هذا) فيه قولان (أحدهما) أنه سنة تسع وهي التي حج فيها أبو بكر على الموسم وهو عام نزول السورة (الثاني) أنه سنة عشر، قاله(5/268)
قتادة. قال ابن العربي: وهو الصحيح الذي يعطيه مقتضى اللفظ.
وإن من العجب أن يقال أنه سنة تسع وهو العام الذي وقع فيه الأذان، ولو دخل غلام رجل داره يوماً فقال له مولاه: لا تدخل هذه الدار بعد يومك لم يكن المراد اليوم الذي دخل فيه اهـ.
ويجاب عنه بأن الذي يعطيه مقتضى اللفظ هو خلاف ما زعمه، فإن الإشارة بقوله: بعد عامهم هذا إلى العام المذكور قبل اسم الإشارة وهو عام النداء، وهكذا في المثال الذي ذكره، المراد النهي عن دخولها بعد يوم الدخول الذي وقع فيه الخطاب، والأمر طاهر لا يخفى، ولعله أراد تفسير (بعد) المضاف إلى عامهم ولا شك أنه عام عشر.
وأما تفسير العام المشار إليه بهذا فلا شك ولا ريب أنه عام تسع، وعلى هذا يحمل قول قتادة، وقذ استدل من قال بأنه يجوز للمشركين دخول المسجد الحرام وغيره من المساجد بهذا القيد، أعني قوله: (بعد عامهم هذا) قائلاً: إن النهي مختص بوقت الحج والعمرة، فهم ممنوعون عن الحج والعمرة فقط، لا عن مطلق الدخول، ويجاب عنه بأن ظاهر النهي عن القربان بعد هذا العام يفيد المنع من القربان في كل وقت من الأوقات الكائنة بعده، وتخصيص بعضها بالجواز يحتاج إلى نحصص.
(وإن خفتم عيلة) بالفتح الفقر، يقال عال الرجل يعيل إذا افتقر، وقرأ علقمة وغيره عائلة، وهو مصدر كالقائلة، والعافية والعاقبة، وقيل معناه خصلة شاقة، يقال عالني الأمر يعولني أي شق عليّ واشتد. وحكى ابن جرير الطبري أنه يقال عال يعول إذا افتقر، وعيال الرجل من يعولهم، وواحد العيال عيل كجيد والجمع عيائل كجيائد، وأعال الرجل كثرت عياله فهو معيل، والمرأة معيلة قال الأخفش: أي صار ذا عيال.(5/269)
وكأن المسلمون لما منعوا المشركين من الموسم وهم كانوا يجلبون إليه الأطعمة والتجارات قذف في قلوبهم الشيطان الخوف من الفقر بانقطاع تجارتهم عنهم وقالوا من أين نعيش، فوعدهم الله أن يغنيهم وقال: (فسوف يغنيكم الله من فضله) قال الضحاك: ففتح الله عليهم باب الحرب من أهل الذمة بقوله: (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله) الآية.
وقال عكرمة: أغناهم بإدرار المطر والنبات وخصب الأرض وأسلمت العرب فحملوا إلى مكة ما أغناهم الله به، وقيل أغناهم بالفيء، قال مقاتل: أسلم أهل جدة وصنعاء وجرش من اليمن وجلبوا الميرة الكثيرة إلى مكة فكفاهم الله ما كانوا يخافون، وقال الضحاك وقتادة عوضهم الله منها الجزية فأغناهم بها.
(إن شاء) فائدة التقييد بالمشيئة التعليم للعباد بأن يقولوا ذلك في كل ما يتكلمون به مما له تعلق بالزمن المستقبل، ولئلا يفتروا عن الدعاء والتضرع ويعلموا أن الغنى الموعود به يكون لبعض دون بعض، وفي عام دون عام (إن الله عليم) بأحوالكم (حكيم) في إعطائه ومنعه، ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن.(5/270)
قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ(5/271)
قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (29)
(قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله) فيه الأمر بقتال من جمع بين هذه الأوصاف الآتية، ولما فرغ من الكلام على مشركي العرب بقوله: (براءة من الله) إلى هنا أخذ يتكلم على أهل الكتابين وهو نص في أن أهل الكتاب لا يؤمنون بالله تعالى فاليهود كفروا لأنهم ما قدروا الله حق قدره ولا عرفوه بصفات كماله، وفرقوا بين الإيمان بالله ورسوله، وغلوا في عزير فقالوا هو ابن الله، والنصارى كفروا لأنهم غلوا في المسيح وقالوا هو ثالث ثلاثة.
قال مجاهد: نزلت هذه الآية حين أمر محمد وأصحابه بقتال الروم فغزا بعد نزولها غزوة تبوك، وقال الكلبي: نزلت في قريظة والنضير من اليهود فصالحهم فكانت أول جزية أصابها أهل الإسلام وأول ذل أصاب أهل الكتاب بأيدي المسلمين.
(و) نص الله تعالى في الآية بأنهم (لا) يؤمنون (باليوم الآخر) فإن قلت إنهم قد قالوا لن تمسنا النار إلا أياماً معدودة وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى وإثبات الجنة والنار فرع إثبات اليوم الآخر.
قلت: لما كان إثباتهم إياه بغير صفاته ودعوى كاذبة بأنهم أهل الجنة لا غير وأنهم يعذبون أياماً معينة، كان إثباته بهذه الصفة نفياً له فإنه إيمان باطل، وإلا لآمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم، وقيل أنهم يعتقدون بعثة الأرواح دون الأجسام ويعتقدون أن أهل الجنة لا يأكلون فيها ولا يشربون ولا ينكحون، ومن اعتقد ذلك فليس إيمانه كإيمان المؤمنين وإن زعم أنه مؤمن.(5/271)
(ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله) مما ثبت في كتبهم بأن الله حرم الشحوم فأذابوها وباعوها وأكلوا أثمانها وحرم عليهم أشياء كثيرة فأحلوها، قال سعيد ابن جبير في الآية: يعني الذين لا يصدقون بتوحيد الله وما حرم الله من الخمر والخنزير، وقيل معناه لا يحرمون ما حرم الله في القرآن ولا ما حرم رسوله صلى الله عليه وآله وسلم في السنة، والأول أولى وقيل لا يعلمون بما في التوراة والإنجيل بل حرفوهما وأتوا بأحكام من قبل أنفسهم وقلدوا أحبارهم ورهبانهم واتخذوهم أرباباً من دون الله.
(ولا يدينون دين الحق) أي دين الإسلام الثابت الناسخ لسائر الأديان وقيل دين أهل الحق وهم المسلمون، وقيل دين الله، والمعنى واحد وفيه أن دينهم بعد بعثته - صلى الله عليه وسلم - قد صار ديناً باطلاً.
ثم أنه تعالى لما وصل إليهم بهذه الصلات الأربع بينهم بقوله: (من الذين أوتوا الكتاب) فكلمة من بيانية كما في قوله تعالى: (فاجتنبوا الرجس من الأوثان) وإنما أبهم أولاً ثم بين ثانياً زيادة في تمكن العلم في قلب السامع فيعلم المأمور به علمين، علماً إجمالياً ثم علماً تفصيلياً فيكون زيادة في تمكن الخبر عنده، ولما في ذلك من تشويق النفس إلى البيان بعد الإبهام.
فهذا بيان لاسم المبهم الموصول مع ما في حيزه وهم اليهود والنصارى أهل التوراة والإنجيل بالاتفاق، ويدل له قوله تعالى: (قل يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل) فإذا أتى لفظ أهل الكتاب فالمراد به الفريقان وإذا قيل بنو إسرائيل فالمراد بهم اليهود وإذا قيل النصارى فهم الذين أنزل إليهم الإنجيل، والمجوس ليسوا من أهل الكتاب لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " سنوا بهم سنة أهل الكتاب " أخرجه البخاري من حديث عبد الرحمن بن عوف.
ويدل له أيض قوله تعالى: (أن يقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا) وهذا صريح في أنهم ليسوا منهم.(5/272)
قال أبو الوفاء بن عقيل في الآية: أن قوله قاتلوا أمر بالعقوبة ثم قال (لا يؤمنون بالله) فبين الذنب الذي يوجب العقوبة ثم قال: (واليوم الأخر) فأكد الذنب الذي في جانب الاعتقاد ثم قال: (ولا يحرمون) وفيه زيادة للذنب في مخالفة الأعمال ثم قال: (ولا يدينون) وفيه إشارة إلى تأكيد المعصية بالانحراف والمعاندة والأنفة عن الاستسلام ثم قال: (من الذين أوتوا الكتاب) تأكيداً للحجة عليهم لأنهم كانوا يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل ثم قال: (حتى يعطوا الجزية) فبين الغاية التي تمتد إليها العقوبة أهـ.
والجزية وزنها فعلة من جزى يجزي إذا كافى عما أسدي إليه وكأنهم أعطوها جزاء عما منحوا من الأمن، وقيل سميت جزية لأنها طائفة مما على أهل الذمة أن يجزوه أي يقضوه، وهي في الشرع ما يعطيه المعاهد على عهده وهو الخراج المضروب على رقابهم كل عام إذلالاً وصغاراً.
قال أحمد بن تيمية رحمه الله: والأول أصح وهذا يرجع إلى أنها عقوبة أو أجرة فهي غاية للقتال، والمراد بإعطائها التزامها بالعقد وإن لم يجيء وقت دفعها (عن يد) في موضع النصب على الحال أي يعطوها أذلاء مقهورين عن يد متوانية غير ممتنعة، هذا إن أريد به المعطي، وإن أريد به الآخذ فالمراد عن يد قاهرة مستولية وقيل معناه يعطونها بأيديهم غير مستنيبين فيها أحداً، وقيل المعنى نقداً غير نسيئة، وقيل عن إنعام منكم عليهم لأن أخذها منهم نوع من أنواع الإنعام عليهم، قاله في الكشاف، وقيل معناه مذمومون.
وفي زاده " اليد " قد تجعل كناية عن الانقياد أعطى فلان بيده إذا أسلم وانقاد لأن من أبى وامتنع لم يعط يده بخلاف المطيع المنقاد كأنه قيل قاتلهم حتى يعطوا الجزية عن طيب نفس وانقياد، دون أن يكرهوا عليه فإذا احتيج في أخذها منهم إلى الإكراه لا يبقى عقد الذمة أهـ.
وقد ذهب جماعة من أهل العلم منهم الشافعي وأحمد وأبو حنيفة وأصحابه والثوري والأوزاعي وأبو ثور إلى أنها لا تقبل الجزية إلا من أهل(5/273)
الكتاب، وقال الأوزاعي ومالك: إن الجزية تؤخذ من جميع أجناس الكفرة كائناً من كان ويدخل في أهل الكتاب على القول الأول المجوس، قال ابن المنذر لا أعلم خلافاً في أن الجزية تؤخذ منهم.
قال علي بن أبي طالب: أنا أعلم الناس بالمجوس كان لهم علم يعلمونه وكتاب يدرسونه. الحديث ولكن ضعفه جماعة من الحفاظ كما قاله ابن القيم، ويدل له ما في البخاري أن عمر توقف في أخذ الجزية من المجوس. حتى شهد عنده عبد الرحمن بن عوف أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخذها من مجوس هجر.
وفي الصحيحين من حديث عمرو بن عوف الأنصاري أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث أبا عبيدة بن الجراح إلى البحرين يأتي بجزيتها وكان هو - صلى الله عليه وسلم - صالح أهل البحرين وأمرّ عليهم العلاء بن الحضرمي.
وذكر أبو عبيدة في كتاب الأموال عن الزهري قال: قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم الجزية من أهل البحرين وكانوا مجوساً، فالجزية تؤخذ من هذه الطوائف الثلاث اتفاقاً، فاليهود والنصارى تؤخذ منهم بنص القرآن، والمجوس تأخذ منهم بنص السنة لقوله صلى الله عليه وسلم: " سنوا بهم سنة أهل الكتاب " أخرجه البخاري.
ثم اختلف أهل العلم في مقدار الجزية فقال عطاء: لا مقدار لها، وإنما تؤخذ على ما صولحوا عليه، وبه قال يحى بن آدم وأبو عبيد وابن جرير إلا أنه قال: أقلها دينار وأكثرها لا حد له، وقال الشافعي: دينار على الغني والفقير من الأحرار البالغين لا ينقص منه شيء، وبه قال أبو ثور، وقال الشافعي: وإن صولحوا على أكثر من دينار جاز، وإذا زادوا وطابت بذلك أنفسهم قبل منهم.
وقال مالك: إنها أربعة دنانير على أهل الذهب وأربعون درهماً على أهل الورق الغني والفقير سواء ولو كان مجوسياً لا تزيد ولا تنقص، وقال أبو حنيفة وأصحابه ومحمد بن الحسن وأحمد بن حنبل: اثنا عشر وأربعة وعشرون وثمانية(5/274)
وأربعون ولا تجب على صبي ولا مجنون ولا امرأة، وهو اتفاق.
وفي كتابه صلى الله عليه وسلم لمعاذ إلى أهل اليمن أنه يأخذ من كل حالم ديناراً فخص الحالم دون المرأة والصبي، وقد روي في ذلك حالمة، قال الأئمة من المحدثين: أن هذه الزيادة غير محفوظة، ولأن عمر بن الخطاب لما فتح الأمصار لم يأخذ الجزية إلا من الرجال دون النساء وأقره الصحابة واستمروا علية.
وقال أبو محمد بن حزم رحمه الله: تلزم الجزية الأنثى لقوله تعالى: (حتى يعطوا الجزية) ولا شك أن الدين لازم النساء كلزومه للرجال، ولم يأت نص بالفرق بينهما في الجزية، ثم ساق حديث معاذ بلفظ حالم وحالمة، وأسنده إلى ابن جريج وساق حديثاً مرسلاً مثله، ولا يخفى ضعف ما ذهب إليه.
وأما العبد فإن كان سيده مسلماً فلا جزية عليه بالاتفاق، ومن اليهود السامرية وأنهم فرق كثيرة وقد فتح الصحابة الأمصار وأقروهم على تسليم الجزية وكذلك الأئمة والخلفاء بعدهم.
وأما الصابئة فقال ابن القيم: إنهم أمة كثيرة وأكثرهم فلاسفة ولهم مقالات مشهورة، ثم ذكر أنها تؤخذ منهم الجزية فإنهم أحسن حالاً من المجوس، فأخذها من المجوس تنبيه على أخذها من الصابئة بالطريق الأولى، فإن المجوس من أخبث الأمم ديناً ومذهباً، ثم ساق مذاهبهم.
وأما بنو تغلب وهم فرقة انتقلوا في الجاهلية إلى النصرانية فهم من النصارى كانت لها شوكة وقوة، وجاء الإسلام وهم كذلك وأنفوا من الجزية فضوعفت عليهم الصدقة عوضاً عن الجزية، فهذه الطوائف التي تؤخذ منها الجزية أو ما صولحوا عليه.
ويهود خيبر وغيرهم داخلون في عموم الآية، ولم يأت لهم مخصص، وإنما لم يأخذها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من يهود المدينة ولا من يهود خيبر لأنه أجلى يهود المدينة، وقاتل من قاتل منهم قبل نزولها، وأما أهل خيبر(5/275)
فإنه صالحهم قبل نزول فريضة الجزية ولم ينزل فرضها إلا في التاسعة من الهجرة.
واختلف الناس في أخذ الجزية ممن عدا من ذكرناه بعد الاتفاق على أخذها من أهل الكتابين والمجوس، فقالت الحنفية: تؤخذ أيضاً من عبدة الأوثان من العجم، ولا تؤخذ من عبدة الأوثان من العرب، واستدلوا بالحديث الذي أخرجه أحمد والترمذي عن ابن عباس مرفوعاً قال: " أريد منهم كلمة تدين لهم بها العرب وتؤدي الجزية بها إليهم العجم " (1) وذهب مالك وأبو يوسف إلى أنها تقبل الجزية من العربي الوثني مستدلين بحديث بريدة الذي أخرجه مسلم، وهو حديث طويل شريف فيه وصايا لأمراء السرايا، وفيه " إذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال وفيه: فإن هم أبوا فسلهم الجزية فإن هم أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم " فدل على أن الجزية تؤخذ من كل كافر (2).
هذا ظاهر الحديث ولم يستثن منهم كافراً دون كافر، ولا يقال هذا خاص بأهل الكتاب فإن اللفظ يأبى اختصاصه بهم، وأيضاً سرايا رسول الله لمجيمّ وجيوشه أكثر ما كانت تقاتل عبدة الأوثان من العرب، فيؤخذ من عموم الكفار بالسنة، ومن أهل الكتاب بالقرآن، وقد أخذها صلى الله عليه وسلم من المجوس عباد النار. ولا فرق بينهم وبين عباد الأوثان.
فإن قيل إنه لم يأخذها من أحد من عباد الأوثان مع كثرة قتاله لهم، قلنا آية الجزية إنما نزلت عام تبوك في التاسعة بعد إسلام من كان في جزيرة العرب، ولم يبق بها أحد من عبَّاد الأوثان.
قال الحافظ بن القيم: والمسألة مبنية على حرف واحد، وهو أن الجزية هل وضعت عاصمة للدم أو مظهرة لصغار الكفر وإذلال أهله، والثاني راجح،
_________
(1) الإمام أحمد 1/ 227.
(2) مسلم 1731.(5/276)
وقد جاز استرقاق العربي الوثني، فإنه صح ذلك بلا مرية، ويبقى على كفره، والمقصود أنه لا فرق بين الكفار في أخذ الجزية والاسترقاق، وأطال في هذا واختاره.
وأما تقدير الجزية كما تقدم فيرد على الجميع أنه صلى الله عليه وسلم أمر معاذاً يقبض ديناراً من كل حالم، وجعله صنفاً واحداً لا ثلاثة أصناف، وأول من جعلهم ثلاثة عمر بن الخطاب.
وقد اختلف الجواب عن حديث. معاذ.
ثم اعلم أنه لا يتعين في الجزية ذهب ولا فضة بل يجوز أخذها مما تيسر من أموالهم من ثياب وسلاح يعملونه وحديد ونحاس ومواش وحبوب وغير ذلك وهذا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه أخرج أحمد بسند جيد عن معاذ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بعثه إلى اليمن أمره أن يأخذ من كل حالم ديناراً أو عدله معافرياً (1)، ورواه أهل السنن وقال الترمذي حسن. وكذلك أهل نجران لم يأخذ في جزيتهم ذهباً ولا فضة، انما أخذ الحلل والسلاح.
وإذا عرف هذا فقد تبين أن الجزية غير مقدرة بالشرع تقديراً لا يقبل الزيادة والنقصان، ولا معينة في جنس من الأجناس.
وأما وقت قبض الجزية فإنها تجب في آخر الحول ولا يطالبون بها قبل ذلك وبه قال أحمد والشافعي. وقال أبو حنيفة: تجب بأول الحول ويؤخذ منه كل شهر بقسطه، وقال غيرهم وهم الأكثرون: أنه صلى الله عليه وسلم لما ضرب الجزية على أهل الكتاب والمجوس لم يطالبهم بها حين ضربها، ولا ألزمهم بأدائها في الحال وقت نزول الآية بل صالحهم عليها، وكان يبعث رسله
_________
(1) الإمام أحمد 5/ 247.(5/277)
وسعاته فيأتون بالجزية والصدقة عند محلها، واستمرت على ذلك سيرة خلفائه من بعده.
قال الحافظ ابن القيم رحمه الله: وهذا مقتضى قواعد الشريعة وأصولها، فإن الأموال التي تتكرر بتكرر الأعوام إنما تجب في آخر العام لا في أوله.
وأما قوله: (حتى يعطوا الجزية) فليس المراد به العطاء الأول بل العطاء المستمر المتكرر. وهذه كانت سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيهم.
وقال أصحاب الشافعي: تجب بأول السنة دفعة واحدة، ولكن يستقر جزء بعد جزء، وقال بعضهم: إنما يدخل وقت وجوبها عند انقضاء السنة، وتسقط الجزية بالإسلام ولو اجتمعت عليه جزية سنين، فقد قال صلى الله عليه وسلم: " ليس على مسلم جزية " (1).
(وهم صاغرون) أي يعطي الذمي الجزية حال كونه صاغراً والصغار الذل واختلف العلماء في المراد من الصغار فقال عكرمة أن يدفعها وهو قائم، والآخذ جالس، وقيل أن يأتي بها بنفسه ماشياً لا راكباً، ويطال وقوفه عند إتيانه بها ويجر إلى الموضع الذي فيه الآخذ ثم تجر يده ويمتهن.
وفي الكشاف أنه يتلتل تلتلة ويؤخذ بتلابيبه ويقال له أد الجزية وإن كان يؤديها ويزج في قفاه انتهى. وقال ابن عباس: يمشون بها متلتلين، وعنه قال: يلكزون، وقال الكلبى: إذا أعطى يصفع قفاه، وقيل هو أن يؤخذ بلحيته ويضرب في لهزمتيه، ويقال له: أد حق الله يا عدو الله وقال سلمان: معنى صاغرين غير محمودين وقيل غير ذلك مما لم يدل عليه دليل.
قال الحافظ ابن القيم رحمه الله: وهذا كله مما لا دليل عليه ولا هو مقتضى الآية، ولا نقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه، قال: والصواب في الآية أن الصغار هو التزامهم بجريان أحكام الله تعالى عليهم وإعطاء الجزية، فإن ذلك هو الصغار، وبه قال الشافعي.
قلت: ومن الصغار ما أخذه عمر رضي الله عنه في العهد العمري وهو
_________
(1) الترمذي، كتاب الزكاة، باب 11.(5/278)
ما أخرجه عبد الله بن أحمد عن عبد الرحمن بن غنم قال: كتبت لعمر بن الخطاب حين صالح نصارى الشام وشرط عليهم فيه.
أن لا يحدثوا في مدينتهم ولا فيما حولها ديراً ولا كنيسة ولا قلابة ولا صومعة راهب ولا يجددوا ما خرب، ولا يمنعوا كنائسهم أن ينزلها أحد من المسلمين ثلاث ليال يطعمونه، ولا يؤووا جاسوساً ولا يكتموا غشاً للمسلمين، ولا يعلموا أولادهم القرآن ولا يظهروا شركاً ولا يمنعوا ذوي قراباتهم الإسلام إن أرادوه وأن يوقروا المسلمين وأن يقوموا لهم من مجالسهم إذا أرادوا الجلوس، ولا يتشبهوا بالمسلمين في شيء من لباسهم، ولا يتكنوا بكناهم ولا يركبوا سرجاً ولا يتقلدوا سيفاً ولا يبيعوا الخمور، وإن يخروا مقادم راويتهم وأن يلزموا زيهم حيثما كانوا، وأن يشدوا على أوساطهم ولا يظهروا صليباً ولا شيئاً من كتبهم في شيء من طرفي المسلمين، ولا يجاوروا المسلمين بموتاهم ولا يضربوا بالناقوس إلا ضرباً خفيفاً ولا يرفعوا أصواتهم بالقراءة في كنائسهم في شيء من حضرة المسلمين، ولا يخرجوا شعابين ولا يرفعوا مع موتاهم أصواتهم ولا يظهروا النيران معهم، ولا يشتروا من الرقيق ما جرت فيه سهام المسلمين، فإن خالفوا في شيء مما شرطوه فلا ذمة لهم وقد حل للمسلمين ما يحل من ذوي المعاندة والشقاق.
قال الحافظ ابن القيم: وشهرة هذه الشروط تغني عن إسنادها، فإن الأئمة تلقوها بالقبول، وذكروها في كتبهم واحتجوا بها، ولم يزل ذكر الشروط العمرية على ألسنتهم وفي كتبهم، وقد أنفذها بعده الخلفاء وعملوا بموجبها. انتهى.
قلت: الدير للنصارى خاصة يبنونه للرهبان خارج البلد يجتمعون فيه للرهبانية وينفردون عن الناس، وأما القلابة بقاف مكسورة وباء موحدة فيبنيها رهبانهم مرتفعة كالمنارة والفرق بينها وبين الدير أن الدير يجتمعون فيه، والقلابة لا تكون إلا لواحد ينفرد بها بنفسه ولا يكون لها باب بل فيها طاقة يتناول منها شرابه وطعامه وما يحتاج إليه، وأما الصومعة فهي كالقلابة تكون للراهب وحده، والبيع جمع بيعة وهي متعبد النصارى.(5/279)
وعن ابن عباس: أنها مساجد اليهود، والكنائس جمع كنيسة وهي لأهل الكتابين.
ثم اعلم أنه لا يحل تكليفهم بما لا يقدرون عليه ولا حبسهم ولا تعذيبهم على أداء الجزية ولا ضربهم لما أخرج أبو عبيد أن هشام بن حكيم مر على قوم يعذبون في الجزية بفلسطين فقال هشام: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: " إن الله يعذب يوم القيامة الذين يعذبون الناس في الدنيا " (1)، وعن عياض بن غنم مثله رواه الزهري عن عروة بن الزبير.
وقد أخرج عن جبير بن نفير عن أبيه أنه أتى عمر بن الخطاب بمال كثير أحسبه قال: الجزية فقال: إني لأظنكم قد أهلكتم الناس، قالوا: لا والله ما أخذنا إلا عفواً، قال: بلا سوط ولا نوط قالوا: نعم، قال: الحمد لله الذي لم يجعل ذلك على يدي ولا في سلطاني.
وعن علي بن أبي طالب أنه استعمل رجلاً على عكبرى فقال له: لا تبيعن لهم في خراجهم حماراً ولا بقرة ولا كسوة شيئاً ولا صنفاً وارفق بهم، وكان رضي الله عنه يأخذ من صاحب الإبر إبراً، ومن صاحب الحبال حبالاً ونحوه من الأمتعة.
قال أبو عبيد إنما كان يأخذ منهم هذه الأمتعة بقيمتها من الدراهم التي كانت عليهم من جزية رؤوسهم، ولا يحملهم على بيعها إرادة الرفق بهم والتخفيف عليهم ولهذا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم معاذاً بأخذ معافر عدلاً عن الدينار، وإنما يراد بهذا كله الرفق بأهل الذمة لا يباع عليهم من متاعهم شيء، ولكن يؤخذ مما سهل عليهم في القيمة، والكلام في الجزية مقرر في مواطنه، والحق أن هذه الأقوال ما قد قرره الشوكاني في شرحه للمنتقى وفي غيره من مؤلفاته، وفي الباب كتاب إفادة الأمة في أحكام أهل الذمة للسيد محمد بن إسماعيل الأمير اليمني وهو حافل جداً.
_________
(1) مسلم، 2613.(5/280)
وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ(5/281)
وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30)
(وقالت اليهود عزير ابن الله) كلام مبتدأ لبيان شرك أهل الكتابين، وظاهر الآية أن هذه المقالة لجميعهم، وقيل هو لفظ خرج على العموم ومعناه الخصوص، لأنه لم يقل ذلك إلا البعض منهم أو من متقدميهم أو ممن كانوا بالمدينة، وقال النقاش: لم يبق يهودي يقولها بل قد انقرضوا، وقيل أنه قال ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم جماعة منهم، فنزلت الآية متضمنة لحكاية ذلك عن اليهود لأن قول بعضهم لازم لجميعهم.
وقوله: (عزير) بتنوين الصرف وتركه قراءتان سبعيتان فالأولى بناء على أنه عربي وليس فيه إلا علة والثانية بناء على أنه أعجمي ففيه العلتان، وعلى كل هو مبتدأ وابن الله خبر، فلذلك ثبتت الألف في ابن لأنها لا تحذف منه إلا إن كان صفة (وقالت النصارى المسيح ابن الله) قالوا: هذا لما رأوا من إحيائه للموتى مع كونه من غير أب فكان ذلك سبباً لهذه المقالة، والأولى أن يقال أنهم قالوا هذه المقالة لكون وصفه في الإنجيل تارة بابن الله وتارة بابن الإنسان كما رأينا ذلك في مواضع متعددة من الإنجيل، ولم يفهموا أن ذلك لقصد التشريف والتكريم أو لم يظهر لهم أن ذلك من تحريف سلفهم لغرض من الأغراض الفاسدة.
قال الرازي: والأقرب عندي أن يقال لعله ذكر لفظ الابن في الإنجيل على سبيل التشريف كما ورد لفظ الخليل في حق إبراهيم على سبيل التشريف، فبالغوا وفسروا لفظ الإبن بالبنوة الحقيقية، والجهال قبلوا ذلك منهم، وفشا هذا(5/281)
المذهب الفاسد في أتباع عيسى عليه السلام.
(ذلك قولهم) الإشارة إلى ما صدر عنهم من هذه المقالة الباطلة، ووجه قوله (بأفواههم) مع العلم بأن القول لا يكون إلا بالفم، بأن هذا القول لما كان ساذجاً ليس فيه بيان ولا عضده برهان كان مجرد دعوى لا معنى تحتها فارغة صادرة عنهم صدور المهملات التي ليس فيها إلا كونها خارجة من الأفواه غير مفيدة لفائدة يعتد بها.
وقيل لأن إثبات الولد له مع أنه منزه عن الحاجة والشهوة والمضاجعة والمباضعة قول باطل ليس له تأثير في العقل، وقيل أن ذكر الأفواه لقصد التأكيد كما في (كتبت بيدي) ومشيت برجلي، ومنه قوله تعالى: (يكتبون الكتاب بأيديهم) وقوله: (ولا طائر يطير بجناحيه).
وقال بعض أهل العلم: إن الله سبحانه لم يذكر قولاً مقروناً بذكر الأفواه والألسن إلا وكان قولاً زوراً كقوله: (يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم) وقوله: (كبرت كلمة تخرج من أفواههم) وقوله: (يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم).
(يضاهئون قول الذين كفروا من قبل) المضاهاة المشابهة قيل ومنه قول العرب امرأة ضهيأ وهي التي لا تحيض لأنها شابهت الرجال، قال أبو علي الفارسي: هذا خطأ لأن الهمزة في ضاهأ أصلية وفي ضهيأ زائدة كحمراء وأصله يضاهئون، وقيل فيه لغتان ضاهأت وضاهيت، والأولى لغة ثقيف، قال الحسن: يوافقون، وقال مجاهد: يواطئون.
ومعنى مضاهاتهم لقولهم فيه أقوال لأهل العلم.
الأول: أنهم شابهوا بهذه المقالة عبدة الأوثان في قولهم اللات والعزى ومناة بنات الله.(5/282)
الثاني: شابهوا قول من يقول من الكافرين أن الملائكة بنات الله.
الثالث: أنهم شابهوا أسلافهم القائلين بأن عزيراً ابن الله والمسيح ابن الله.
(قاتلهم الله) دعاء عليهم بالهلاك لأن من قاتله الله هلك، وقيل هو تعجب من شناعة قولهم وقيل معناه لعنهم الله، وحكى النقاش أن أصل قاتل الله الدعاء ثم كثر في استعمالهم حتى قالوه على التعجب في الخير والشر وهم لا يريدون الدعاء.
(أنى يؤفكون) أي كيف يصرفون عن الحق إلى الباطل بعد وضوح الدليل وإقامة الحجة بأن الله واحد أحد، فجعلوا له ولداً تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.(5/283)
اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31) يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ(5/284)
اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31)
(اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله) الأحبار جمع حبر، وهو الذي يحسن القول ومنه ثوب محبر، وقيل جمع حبر بكسر الحاء قال يونس: لم أسمعه إلا بكسر الحاء، وقال الفراء: الفتح والكسر لغتان، وقال ابن السكيت: الحبر بالكسر العالم، والحبر بالفتح العالم، قال الأصمعي: لا أدري أهو الحبر أو الحبر وقال أبو الهيثم: هو بالفتح وأنكر الكسر.
وقيل الكسر أفصح لأنه يجمع على أفعال دون فعول، وقال أبو عبيد: هو بالفتح، وقال الليث: الحبر العالم ذمياً كان أو مسلماً بعد أن يكون من أهل الكتاب والحبر الذي يكتب به وموضعه المحبرة بالكسر، والحبر أيضاً الأثر، وفي الحديث " يخرج رجل من النار قد ذهب حبره وسبره " قال الفراء: أي لونه وهيئته، وقال الأصمعي: الجمال والبهاء وأثر النعمة، وتحبير الخط والشعر وغيرهما تحسينه، والحبر بالفتح الحبور، وهو السرور وحبره أي سره وبابه نصر وحبرة أيضا بالفتح، ومنه قوله تعالى: (فهم في روضة يحبرون) أي يسرون وينعمون ويكرمون.
والرهبان جمع راهب مأخوذ من الرهبة وهم علماء النصارى كما أن الأحبار علماء اليهود، وقيل الرهبان أصحاب الصوامع من النصارى، وقيل الرهبان النساك وقيل القراء، ومعنى الآية لما أطاعوهم فيما يأمرونهم به وينهونهم عنه كانوا بمنزلة المثخذين لهم أرباباً لأنهم أطاعوهم كما تطاع الأرباب.(5/284)
وقال الربيع: قلت لأبي العالية: كيف كانت تلك الربوبية في بني إسرائيل قال: أنهم ربما وجدوا في كتاب الله ما يخالف أقوال الأحبار والرهبان فكانوا يأخذون بأقوالهم، وما كانوا يقبلون حكم كتاب الله تعالى.
قال الرازي في تفسيره: قال شيخنا رضي الله عنه: قد شاهدت جماعة من مقلدة الفقهاء قرأت عليهم آيات كثيرة من كتاب الله تعالى في بعض المسائل وكانت مذاهبهم بخلاف تلك الآيات فلم يقبلوا تلك الآيات ولم يلتفتوا إليها، وبقوا ينظرون إلي كالمتعجب، يعني كيف يمكن العمل بظواهر هذه الآيات مع أن الرواية عن سلفنا وردت على خلافها.
ولو تأملت حمتى التأمل وجدت هذا الداء سارياً في عروق الأكثرين من أهل الدنيا. والقول الثاني في تفسير هذه الربوبية أن الجهال والحشوية إذا بالغوا في تعظيم شيخهم وقدوتهم فقد يميل طبعهم إلى الحلول والاتحاد، وذلك الشيخ إذا كان طالباً للدنيا بعيداً عن الدين كان يأمر أتباعه وأصحابه بأن يسجدوا له، وكان يقول لهم أنتم عبيدي فكان يلقي إليهم من حديث الحلول والاتحاد أشياء ولو خلا ببعض الحمقاء من أتباعه فربما ادعى الإلهية، فإذا كان ذلك مشاهداً في هذه الأمة فكيف يبعد ثبوته في الأمم السالفة.
وحاصل الكلام أن تلك الربوبية تحتمل أن يكون المراد منها أنهم أطاعوهم فيما كانوا مخالفين فيه لحكم الله، وأن يكون المراد منها أنهم قبلوا أنواع الكفر فكفروا بالله فصار ذلك جارياً مجرى أنهم اتخذوا أرباباً من دون الله، ويحتمل أنهم أثبتوا في حقهم الحلول والاتحاد، وكل هذه الوجوه الأربعة مشاهد وواقع في هذه الأمة. انتهى.
(والمسيح ابن مريم) أي اتخذه النصارى رباً معبوداً، وفيه إشارة إلى أن(5/285)
اليهود لم يتخذوا عزيراً رباً معبوداً، وانظر لم ثبتت الألف في ابن هنا مع أنه صفة بين علمين لأن المسيح لقب وهو من أقسام العلم.
وفي هذه الآية ما يزجر من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد عن التقليد في دين الله وتأثير ما يقوله الأسلاف على ما في الكتاب العزيز والسنة المطهرة، فإن طاعة المتمذهب لمن يقتدى بقوله ويستن بسنته من علماء هذه الأمة مع مخالفته لما جاءت به النصوص وقامت به حجج الله وبراهينه ونطقت به كتبه وأنبياؤه. هو كاتخاذ اليهود والنصارى للأحبار والرهبان أرباباً من دون الله، للقطع بأنهم لم يعبدوهم بل أطاعوهم وحرموا ما حرموا وحللوا ما حللوا، وهذا هو صنيع المقلدين من هذه الأمة وهو أشبه به من شبه البيضة بالبيضة والتمرة بالتمرة والماء بالماء.
فيا عباد الله ويا أتباع محمد بن عبد الله ما بالكم تركتم الكتاب والسنة جانباً وعمدتم إلى رجال هم مثلكم في تعبد الله لهم بهما وطلبه للعمل منهم بما دلا عليه وأفاداه، فعملتم بما جاءوا به من الآراء التي لم تعمد بعماد الحق ولم تعضد بعضد الدين، ونصوص الكتاب والسنة تنادي بأبلغ نداء وتصوّت بأعلى صوت بما يخالف ذلك ويباينه فأعرتموها آذاناً صماً وقلوباً غلفاً، وأفهاماً مريضة وعقولاً مهيضة وأذهاناً كليلة وخواطر عليلة، وأنشدتم بلسان الحال:
وما أنا إلا من غزية إن غوت ... غويت وإن ترشد غزية أرشد
فدعوا أرشدكم الله وإياي كتباً كتبها لكم الأموات من أسلافكم واستبدلوا بها كتاب الله خالقهم وخالقكم، ومتعبدهم ومتعبدكم، ومعبودهم ومعبودكم، واستبدلوا بأقوال من تدعونهم بأئمتكم وما جاءوكم به من الرأي بأقوال إمامكم وإمامهم وقدوتهم وقدوتكم، وهو الإمام الأول محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم.(5/286)
دعوا كل قول عند قول محمد ... فما آمن في دينه كمخاطر
اللهم هادي الضال مرشد التائه موضح السبيل، اهدنا إلى الحق وأرشدنا إلى الصواب وأوضح لنا منهج الهداية.
(وما أمروا إلا ليعبدوا إلهاً واحداً) أي والحال أنهم ما أمروا في الكتب القديمة المنزلة عليهم على ألسنة أنبيائهم إلا بعبادة الله وحده، أو ما أمر الذين اتخذوهم أرباباً من الأحبار والرهبان إلا بذلك فكيف يصلحون لما أهلوهم له من اتخاذهم أرباباً.
(لا إله إلا هو) صفة ثانية لقوله إلهاً أو استئناف مقرر للتوحيد (سبحانه عما يشركون) أي تنزيهاً له عن الإشراك في طاعته وعبادته.
وقد أخرج ابن سعد وعبد بن حميد والترمذي وحسنه وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه والبيهقي في سننه عن عدي بن حاتم قال: أتيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو يقرأ في سورة براءة (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله) فقال: " أما إنهم لم يكونوا يعبدونهم ولكنهم كانوا إذا أحلوا لهم شيئاً استحلوه، وإذا حرموا عليهم شيئاً حرموه " (1)، وأخرجه أيضا أحمد وابن جرير.
_________
(1) الترمذي تفسير سورة 9/ 10.(5/287)
يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (32)
(يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم) هذا كلام يتضمن ذكر نوع آخر من أنواع ضلالهم وبعدهم عن الحق، وهو ما راموه من إبطال الحق بأقاويلهم الباطلة التي هي مجرد كلمات ساذجة ومجادلات زائفة، وهذا تمثيل لحالهم في محاولة إبطال دين الحق ونبوة نبي الصدق بحال من يريد أن ينفخ في نور عظيم(5/287)
قد أنارت به الدنيا وانقشعت به الظلمة ليطفئه ويذهب أضواءه، قيل المراد بالنور شرائعه وبراهينه، وسميت الدلائل نوراً لأنه يهتدى بها إلى الصواب كما يهتدى بالنور إلى المحسوسات.
وقيل المراد به الدلائل الدالة على صحة نبوته صلى الله عليه وسلم وهي أمور:
أحدها: المعجزات الباهرات الخارقة للعادات.
وثانيها: القرآن العظيم وهو معجزة له باقية على الأبد.
وثالثها: أن دينه الذي أمر به هو دين الإسلام ليس فيه شيء سوى تعظيم الله والثناء عليه والانقياد لأمره ونهيه والتبري من كل معبود سواه: فهذه أمور نيرة ودلائل واضحة في صحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وعلى صدقه، فمن أراد إبطال ذلك بكذب وتزوير فقد خاب سعيه وبطل عمله.
(ويأبى الله إلا أن يتم نوره) أي دينه القويم بإعلاء كلمته، قال في الكشاف أن أبى قد أجري مجرى لم يرد أي ولا يريد إلا أن يتم نوره، وقال علي بن سليمان: إنما جاز هذا في أبى لأنها منع أو امتناع فضارعت النفي. قال النحاس: وهذا أحسن وقال الزجاج: التقدير ويأبى الله كل شيء إلا أن يتم، وقال الفراء: إنما دخلت (إلا) لأن في الكلام طرفاً من الجحد، وإنما صح الاستثناء المفرغ من الموجب لكونه بمعنى النفي، وفيه من المبالغة والدلالة على الامتناع ما ليس في نفي الإرادة، أي لا يريد شيئاً من الأشياء إلا إتمام نوره، فيندرج في المستثنى منه بقاؤه على ما كان عليه فضلاً عن الإطفاء. قاله الكرخي.
(ولو كره الكافرون) أي أبى الله إلا أن يتم نوره ويعلي دينه ويظهر كلمته ويتم الحق الذي بعث الله به رسوله ولو كره ذلك الكافرون، وجواب لو محذوف لدلالة ما قبله عليه، والتقدير ولو كره الكافرون تمام نوره لأتمه ولم يبال بكراهتهم وقيل لو لم يكرهوه أو كرفوه أي على كل حال مفروضة.(5/288)
هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ
ثم أكد هذا بقوله:(5/289)
هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33)
(هو الذي أرسل رسوله) يعني محمداً (بالهدى) أي بما يهدي به الناس من البراهين والمعجزات والأحكام التي شرعها الله لعباده والتوحيد والإسلام والقرآن (ودين الحق) وهو دين الإسلام، وفائدة ذكره مع دخوله في الهدى قبله بيان شرفه وتعظيمه كقوله والصلاة الوسطى (ليظهره) أي ليظهر رسوله أو دين الحق بما يشتمل عليه من الحجج والبراهين.
(على الدين كله) أي على سائر الأديان، وهو أن لا يعبد الله إلا به، فلا دين بخلاف الإسلام إلا وقد قهرهم المسلمون وظهروا عليهم في بعض المواضع وإن لم يكن كذلك في جميع مواضعهم، فقهروا اليهود وأخرجوهم من بلاد العرب، وغلبوا النصارى على بلاد الشام وما والاها إلى ناحية الروم والغرب، وغلبوا الجوس على ملكهم، وغلبوا عباد الأصنام على كثير من بلادهم مما يلي الترك والهند وكذلك سائر الأديان.
فثبت أن الذي أخبر الله عنه في هذه الآية قد وقع وحصل، وكان ذلك إخباراً عن الغيب فكان معجزاً، وقد ذكرنا فتوح الإسلام في كتابنا حجج الكرامة في آثار القيامة الذي حررناه بعد هذا التفسير، وقيل ذلك عند نزول عيسى وخروج المهدي فلا يبقى أهل دين إلا دخلوا في الإسلام، ويدل له بعض الأحاديث، فمنها حديث أبي هريرة: قال النبي صلى الله عليه وسلم:(5/289)
" وتهلك في زمانه الملل كلها إلا الإسلام " (1).
وقال الشافعي: قد أظهر الله دين رسوله على الأديان كلها بأن أبان لكل من سمعه أنه الحق وما خالفه من الأديان باطل، وقيل قهر رسول الله صلى الله عليه وسلم الأميين حتى دانوا بالإسلام طوعاً وكرهاً، وقتل أهل الأصنام وسبى حتى دان بعضهم بالإسلام، وأعطى بعضهم الجزية وجرى عليهم حكمه، فهذا ظهوره على الدين كله.
وقيل المراد ظهوره على الدين كله في جزيرة العزب وقد حصل ذلك، فإنه تعالى ما أبقى فيها أحداً من الكفار، وقيل المراد أن يوقفه على جميع شرائع الدين ويطلعه عليها بالكلية حتى لا يخفى عليه منها شيء، وقيل المراد ظهوره على الدين كله بالحجة والبيان، وفيه ضعف لأن هذا وعد بأنه تعالى سيفعله والتقوية بالحجة والبرهان كان حاصلاً من أول الأمور.
(ولو كره المشركون) الكلام فيه كالكلام في (ولو كره الكافرون) كما قدمنا ذلك ووصفهم بالشرك بعد وصفهم بالكفر للدلالة على أنهم ضموا الكفر بالرسول إلى الكفر بالله تعالى، وهذا آخر الآيات التي أمر علي بالتأذين بها في موسم الحج.
_________
(1) أبو داوود كتاب الملاحم باب 14.(5/290)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34)
(يا أيها الذين آمنوا إن كثيراً من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل) لما فرغ سبحانه من ذكر حال أتباع الأحبار والرهبان المتخذين لهم أرباباً، ذكر حال المتبوعين وبين إغواءهم لأراذلهم، قال الضحاك: يعني علماء اليهود والنصارى.
وفي قوله: (إن كثيراً) دليل على أن الأقل منهم لم يأكلوا أموال الناس بالباطل ولم يتلبسوا بذلك بل بقوا على ما يوجبه دينهم من غير تحريف ولا تبديل ولا ميل إلى حطام الدنيا، ولعلهم الذين كانوا قبل مبعث النبي صلى الله(5/290)
عليه وسلم وعبر عن أخذ الأموال بالأكل لأن المقصود الأعظم من جمع المال الأكل، فسمى الشيء باسم ما هو أعظم مقاصده، والباطل كتب كتبوها لم ينزلها الله فأكلوا بها أموال الناس، وذلك قوله تعالى: (فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله).
وقيل المعنى أنهم يأخذونها بالوجوه الباطلة كالرشوة في تخفيف الأحكام والمسامحة في الشرائع، وقيل أنهم كانوا يدعون عند العوام والحشرات أنه لا سبيل لأحد إلى الفوز بمرضاة الله تعالى إلا بخدمتهم وطاعتهم وبذل الأموال في طلب مرضاتهم، والعوام كانوا يغترون بتلك الأكاذيب.
وقيل التوراة كانت مشتملة على آيات دالة على مبعث محمد صلى الله عليه وسلم فكانوا يذكرون في تأويلها وجوهاً فاسدة ويحملونها على محامل باطلة وكانوا يأخذون الرشوة، وقيل كانوا يقررون عند عوامهم أن الدين الحق هو الذي هم عليه، فإذا قرروا ذلك قالوا وتقوية الدين الحق واجبة، ثم قالوا ولا طريق إلى تقويته إلا إذا كان أولئك الفقهاء أصحاب الأموال الكثيرة والجمع العظيم، فبهذا الطريق يحملون العوام عَلى أن يبذلوا في خدمتهم نفوسهم وأموالهم، فهذا هو الباطل الذي كانوا به يأكلون أموال الناس.
قال الرازي: وهي بأسرها حاضرة في زماننا وهو الطريق لأكثر الجهال والمزورين إلى أخذ أموال العوام والحمقى من الخلق، انتهى.
ولقد اقتدى بهؤلاء الأحبار والرهبان من علماء الإسلام ومشايخه من لا يأتي عليه الحصر في كل زمان، قال الرازي: ولعمري من تأمل في أحوال أهل الناموس والتزوير في زماننا وجد هذه الآيات كأنها ما أنزلت إلا في شأنهم، وفي شرح أحوالهم، فترى الواحد منهم يدعي أنه لا يلتفت إلى الدنيا ولا يتعلق خاطره بجميع المخلوقات، وأنه في الطهارة والعصمة مثل الملائكة المقربين حتى إذا آل الأمر إلى الرغيف الواحد تراه يتهالك عليه ويتحمل نهاية الذل والدناءة في تحصيله انتهى، ولنعم ما قيل:(5/291)
عجبت من شيخي ومن زهده ... وذكره النار وأهوالها
يكره أن يشرب في فضة ... ويسرق الفضة إن نالها
(ويصدون عن سبيل الله) أي عن الطريق إليه وهو دين الإسلام، وعن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم وعما كان حقاً في شريعتهم قبل نسخها بسبب أكلهم لأموال الناس بالباطل.
(والذين يكنزون الذهب والفضة) قيل هم المتقدم ذكرهم من الأحبار والرهبان وأنهم كانوا يصنعون هذا الصنع، قاله معاوية بن أبي سفيان، وقيل هم من يفعل ذلك من المسلمين قاله ابن عباس، وقال السدي: نزلت في مانعي الزكاة من المسلمين، وقال أبو ذر: نزلت في أهل الكتاب وفي المسلمين جميعاً.
والأولى حمل الآية على عموم اللفظ فهو أوسع من ذلك، وأصل الكنز في اللغة الضم والجمع، ولا يختص بالذهب والفضة، قال ابن جرير: الكنز كل شيء مجموع بعضه إلى بعض بطن الأرض كان أو على ظهرها انتهى، ومنه ناقة كناز أي مكتنزة اللحم، يقال كنزت المال كنزاً من باب ضرب جمعته وادخرته، وكنزت التمر في وعائه كنزاً أيضاً وهذا زمن الكناز.
قال ابن السكيت: لم يسمع إلا بالفتح، وحكى الأزهري الفتح والكسر، والكنز المال المدفون معروف تسمية بالمصدر والجمع كنوز، واكتنز الشيء اكتنازاً اجتمع وامتلأ ومال مكنوز أي مجموع.
واختلف أهل العلم في المال الذي أديت زكاته هل يسمى كنزاً أم لا فقال قوم: هو كنز، وقال آخرون: ليس بكنز، ومن القائلين بالأول أبو ذر وقيده بما فضل عن الحاجة، وبالثاني عمر بن الخطاب وابن عمر وابن عباس وجابر وأبو هريرة وعمر بن عبد العزيز وغيرهم وهو الحق لما سيأتي من الأدلة المصرحة بأن ما أديت زكاته فليس بكنز.
أخرج أحمد في الزهد والبخاري وابن مماجة وابن مردويه والبيهقي في(5/292)
سننه عن ابن عمر قال: إنما كان هذا قبل أن تنزل الزكاة، فلما نزلت الزكاة جعلها الله طهرة للأموال ثم قال: ما أبالي لو كان عندي مثل أحد ذهباً أعلم عدده وأزكيه وأعمك فيه بطاعة الله، وعن أم سلمة مرفوعاً نحوه.
ولقد كان كثير من الصحابة كعبد الرحمن بن عوف وطلحة يقتنون الأموال ويتصرفون فيها وما عابهم أحد ممن أعرض عن القنية لأن الإعراض اختيار للأفضل، والاقتناء مباح لا يذم صاحبه.
وعن ابن عباس: لما نزلت هذه الآية انطلق عمر واتبعه ثوبان، فأتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا نبي الله إنه قد كبر على أصحابك هذه الآية فقال: " إن الله لم يفرض الزكاة إلا ليطيب بها ما بقي من أموالكم، وإنما فرض المواريث من أموال تبقى بعدكم "، الحديث مختصراً أخرجه أبو داود والحاكم وصححه والبيهقي وابن أبي شيبة وأبو يعلى وغيرهم (1).
وعن علي قال: أربعة آلاف وما دونها نفقة، وما فوقها كنز، وعن أبي أمامة قال: حلية السيوف من الكنوز ما أحدثكم إلا ما سمعت، وعن عراك ابن مالك وعمر بن عبد العزيز قالا نسختها الآية الأخرى (خذ من أموالهم صدقة) لآية.
وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي زكاتها إلا جعل له يوم القيامة صفائح ثم أحمى عليها في نار جهنم ثم تكوى بها جنباه وجبهته وظهره في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضي بين الناس فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار " (2).
(ولا ينفقونها في سبيل الله) اختلف في وجه إفراد الضمير مع كون
_________
(1) المستدرك كتاب الزكاة 1/ 409.
(2) مسلم 987.(5/293)
المذكور قبله شيئين هما الذهب والفضة فقال ابن الأنباري: أنه قصد إلى الأعم الأغلب وهو الفضة، قال ومثله قوله تعالى: (واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة) رد الكناية إلى الصلاة لأنها أعم، ومثله قوله تعالى: (وإذا رأوا تجارة أو لهواً انفضوا إليها) أعاد الضمير إلى التجارة لأنها الأعم، وقيل أن الضمير راجع إلى الذهب، والفضة معطوفة عليه والعرب تؤنث الذهب وتذكره.
وقيل الضمير راجع إلى الكنوز المدلول عليها بقوله: (يكنزون) لأنه أعم من النقدين وغيرهما، وقيل إلى الأموال، وقيل إلى الزكاة: وقيل إنه اكتفى بضمير أحدهما عن ضمير الآخر مع فهم المعنى وهو كثير في كلام العرب.
وقيل أن إفراد الضمير من باب الذهاب إلى المعنى دون اللفظ، لأن كل واحد من الذهب والفضة جملة وافية وعدة كثيرة ودنانير ودراهم، فهو كقوله: (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا) وإنما خص الذهب والفضة بالذكر دون سائر الأموال لكونهما أثمن الأشياء وغالب ما يكنز وإن كان غيرهما له حكمهما في تحريم الكنز.
(فبشرهم بعذاب أليم) هذا من باب التهكم بهم كما في قوله:
*تحية نبيهم ضرب وجيع*
وقيل أن البشارة هي الخبر الذي يتغير له لون البشرة لتأثيره في القلب سواء كان من الفرح أو من الغم، وعن أبي ذر قال: انتهيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو جالس في ظل الكعبة فلما رآني قال: " هم الأخسرون ورب الكعبة " قال: فقلت: يا رسول الله فداك أبي وأمي من هم قال: " هم الأكثرون أموالاً إلا من قال هكذا وهكذا وهكذا من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله وقليل ما هم " الحديث مختصراً أخرجه مسلم وفرقه البخاري في موضعين (1).
_________
(1) مسلم 990 - البخاري 775.(5/294)
يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (35) إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ(5/295)
يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (35)
(يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم) أي أن النار توقد عليها وهي ذات حمى وحر شديد، ولو قال: يوم تحمى أي الكنوز لم يعط هذا المعنى، فجعل الإحماء للنار مبالغة، ويحمى يجوز أن يكون من حميت وأحميت ثلاثياً ورباعياً، يقال حميت الحديدة وأحميتها أي أوقدت عليها لتحمى، والتقدير يوم تحمى النار عليها وخص الجباه والجنوب والظهور لأن التألم بكيها أشد لما في داخلها من الأعضاء الشريفة.
وقيل ليكون الكي في الجهات الأربع من قدام وخلف وعن يمين ويسار، وقيل لأن الجمال في الوجه والقوة في الظهر والجنبين والإنسان إنما يطلب المال للجمال والقوة، وقيل غير ذلك مما لا يخلو عن تكلف.
(هذا ما كنزتم لأنفسكم) أي كنزتموه لتنتفعوا به هذا نفعه، ويقال لهم ذلك على طريق التهكم والتوبيخ (فذوقوا ما كنتم تكنزون) أي ذوقوا وباله وسوء عاقبته وقبح مغبته وشؤم فائدته، لأن الكنوز لا تذاق، وما بمعنى الذي، والآية عامة، وفي الباب أحاديث صحيحة توافق معنى هذه الآية لا نطول بذكرها.(5/295)
إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (36)
(إن عدة الشهور) هذا كلام مبتدأ يتضمن ذكر نوع آخر من قبائح الكفار وذلك أن الله سبحانه لما حكم في كل وقت بحكم خاص غيروا تلك الأوقات بالنسىء والكبيسة، فأخبرنا الله بما هو حكمه فقال إن عدة الشهور أي عدد الشهور المعتد بها للسنة.
(عند الله) أي في حكمه وقضائه، وحكمته لا بابتداع الناس (اثنا عشر شهراً) هي المحرم وصفر وربيع الأول وربيع الآخر وجمادى الأولى وجمادى الآخرة ورجب وشعبان ورمضان وشوال وذو القعدة وذو الحجة، فهذه شهور السنة القمرية التي تدور على سير القمر في المنازل، وهي شهور العرب التي يعتد بها المسلمون في صياهم ومواقيت حجهم وأعيادهم وسائر أمورهم وأحكامهم، وأيام هذه الشهور ثلثمائة وخمسة وخمسون يوماً، والسنة الشمسية عبارة عن دور الشمس في الفلك دورة تامة وهي ثلثمائة وخمسة وستون يوم وربع يوم فتنقص السنة الهلالية عن السنة الشمسية عشرة أيام، فبسبب هذا النقصان يقع الحج والصوم تارة في الشتاء وتارة في الصيف.
(في كتاب الله) أي فيما أثبته في كتابه أي القرآن لأن فيه آيات تدل على الحساب ومنازل القمر، وقيل الكتاب هو اللوح المحفوظ الذي كتب الله فيه جميع أحوال الخلائق وما يأتون وما يذرون، وقيل المراد بالكتاب الحكم الذي أوجبه وأمر عباده بالأخذ به، وفي هذه الآية بيان أن الله سبحانه وضع هذه الشهور وسماها بأسمائها على هذا الترتيب المعروف.
(يوم خلق السموات والأرض) أي منذ خلق الإجرام والأزمنة وبيان أن هذا هو الذي جاءت به الأنبياء ونزلت به الكتب، وأنه لا اعتبار بما عند العجم والروم والقبط من الشهور التي يصطلحون عليها ويجعلون بعضها ثلاثين وبعضها أكثر وبعضها أقل.(5/296)
(منها أربعة حُرم) أي محترمة قد أخرج البخاري ومسلم وغيرهما من حديث أبي بكرة أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب في حجته فقال: " إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق السموات والأرض، السنة اثنا عشر شهراً منها أربعة حرم ثلاث متواليات ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان " (1) والمعنى رجعت الأشهر إلى ما كانت عليه من الحل والحرمة وعاد الحج إلى ذي الحجة بعد ما كانوا أزالوه عن محله بالنسىء الذي أحدثوه في الجاهلية، وقد وافقت حجة الوداع ذا الحجة، وكانت حجة أبي بكر قبلها في ذي القعدة.
واختلف في ترتيبها فقيل أولها المحرم وآخرها ذو الحجة فهي شهور عام، وقيل أولها رجب فهي من عامين، وقيل أولها ذو القعدة وهو الصحيح لتواليها، قاله النووي، وأورد عليه ابن المنير في تفسيره أنه إنما يتمشى على أن أول السنة المحرم وهو حدث في زمن عمر رضي الله تعالى عنه، وكان يؤرخ قبله بعام الفيل ثم أرخ في صدر الإسلام بربيع الأول فتأمل.
وقال الضحاك: إنما سمين حرماً لئلا يكون فيهن حرب.
قلت: وكانت العرب في الجاهلية تعظمها وتحرم فيها القتال حتى أن أحدهم لو لقي قاتل أبيه أو ابنه أو أخيه في هذه الأربعة الأشهر لم يزعجه، ولما جاء الإسلام لم يزدها إلا حرمة وتعظيماً لأن الحسنات والطاعات فيها تتضاعف، والسيئات فيها أشد من غيرها فلا تنتهك حرمة هذه الأشهر الحرم.
(ذلك الدين القيم) أي كون هذه الشهور كذلك ومنها أربعة حرم هو الدين المستقيم دين إبراهيم وإسماعيل، وكانت العرب قد تمسكت به وراثة منهما وقيل الحساب الصحيح والعدد المستوفى، وقيل الدين القيم هو الحكم
_________
(1) مسلم، 1679 - البخاري، 59.(5/297)
الذي لا يغير ولا يبدل ولا يزول.
(فلا تظلموا فيهن) أي في هذه الأشهر الحرم (أنفسكم) بإيقاع المعاصي فإنها فيها أعظم وزراً، وبإيقاع القتال فيها والهتك لحرمتها، وبه قال أكثر المفسرين، وقيل أن الضمير يرجع إلى الشهور كلها الحرم وغيرها وإن الله نهى عن الظلم فيها والأول أولى.
وقد ذهب جماعة من أهل العلم إلى أن تحريم القتال في الأشهر الحرم ثابت محكم لم ينسخ لهذه الآية ولقوله: (يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام) ولقوله: (فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين) الآية.
وذهب جماعة آخرون إلى أن تحريم القتال في الأشهر الحرم منسوخ بآية السيف، ويجاب عنه بأن الأمر بقتل المشركين ومقاتلتهم مقيد بانسلاخ الأشهر الحرم كما في الآية الذكورة، فتكون سائر الآيات المتضمنة للأمر بالقتال مقيدة بما ورد في تحريم القتال في الأشهر الحرم كما هي مقيدة بتحريم القتال في الحرم للأدلة الواردة في تحريم القتال فيه.
وأما ما استدلوا به من أنه صلى الله عليه وسلم حاصر أهل الطائف في شهر حرام وهو ذو القعدة كما ثبت في الصحيحين وغيرهما فقد أجيب عنه بأنه لم يبتدئ محاصرتهم في ذي القعدة بل في شوال، والمحرم إنما هو ابتداء القتال في الأشهر الحرم لا إتمامه، وبهذا يحصل الجمع.
(وقاتلوا المشركين كافة) أي جميعاً في كل الشهور لأن عموم الأشخاص يستلزم عموم الأحوال والأزمنة والبقاع، وهو مصدر في موضع الحال من ضمير الفاعل في قاتلوا أو من المفعول وهو المشركين، قال الزجاج: مثل هذا من المصادر كعامة وخاصة لا يثنى ولا يجمع ولا تدخله أل ولا يتصرف فيه بغير الحال.(5/298)
إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (37) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ
(كما يقاتلونكم كافة) فيه دليل على وجوب قتال المشركين وأنه فرض على الأعيان إن لم يقم به البعض (واعلموا أن الله مع المتقين) أي ينصرهم ويثبتهم ومن كان الله معه فهو الغالب وله العاقبة.(5/299)
إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (37)
(إنما النسيء) قال الجوهري: النسيء فعيل بمعنى مفعول، من قولك نسأت الشيء فهو منسوء إذا أخرته ثم تحول منسوء إلى نسيء كما تحول مقتول إلى قتيل. وإلى ذلك نحا أبو حاتم، وقيل مصدر على فعيل من أنسأ أي أخر كالنذير من أنذر والنكير من أنكر، وهذا ظاهر قول الزمخشري لأنه يحتاج إلى تقدير بخلاف ما إذا كان صفة فإنه لا يخبر عنه بزيادة إلا بتأويل أي ذو زيادة أو إنساء النسيء زيادة. قال ابن جرير: في النسيء بالهمزة معنى الزيادة، يقال نسأ إذا زاد، ولا يكون بترك الهمزة إلا من النسيان كما قال تعالى: (نسوا الله فنسيهم).
وقرأ الجمهور النسيء بهمزة بعد الياء وغيرهم بإدغام الياء، وقرئ النسء بإسكان السين، والنسؤ بزنة فعول وهو التأخير، وفعول في المصادر قليل، والنسيئة كالفعيلة التأخير، وكذلك النساء بالفتح والمد التأخير، والنسيء في الآية فعيل بمعنى مفعول كما تقدم.(5/299)
وكانت العرب تحرم القتال في الأشهر الحرم المذكورة، فإذا احتاجوا إلى القتال فيها قاتلوا فيها وحرموا غيرها، فإذا قاتلوا في المحرم حرموا بدله شهر صفر وهكذا في غيره، وكان الذي يحملهم على هذا أن كثيراً منهم إنما كانوا يعيشون بإغارة بعضهم على البعض، ونهب ما يمكنهم نهبه من أموال من يغيرون عليه، ويقع بينهم بسبب ذلك القتال، وكانت الأشهر الثلاثة المسرودة يضربهم تواليها وتشتد حاجاتهم وتعظم فاقتهم، فيحلون بعضها ويحرمون مكانه بقدره من غير الأشهر الحرم. فهذا هو معنى النسيء الذي كانوا يفعلونه.
وقد وقع الخلاف في أول من فعل ذلك، فقيل هو رجل من بني كنانة يقال له حذيفة بن عبيد ويلقب القلمس، وقيل هو عمرو بن لحي، وقيل هو نعيم بن ثعلبة من بني كنانة.
(زيادة في الكفر) أي نوع من أنواع كفرهم ومعصية من معاصيهم المنضمة إلى كفرهم بالله ورسله وكتبه واليوم الآخر، وفي الشهاب يعني أنهم لما توارثوه على أنها شريعة ثم استحلوه كان ذلك مما يعد كفراً.
(يضل به الذين كفروا) قرئ على البناء للمعلوم والمجهول، ومعنى الأولى أن الكفار يضلون بما يفعلون من النسيء، ومعنى الثانية أن الذي سن لهم ذلك يجعلهم ضالين بهذه السنة السيئة، والأولى من طريق العشرة، والثانية سبعية.
(يحلونه) أي النسيء (عاماً ويحرمونه عاماً) أو الشهر الذي يؤخرونه ويقاتلون فيه، أي يحلونه عاماً بإبداله بشهر آخر من شهور الحل ويحرمونه عاماً أي يحافظون عليه فلا يحلون فيه القتال بل يبقونه على حرمته، والجملة تفسيرية للضلال أو حالية.
(ليواطئوا عدة ما حرم الله) أي لكي يواطئوا، والمواطأة الموافقة، يقال(5/300)
تواطأ القوم على كذا أي توافقوا عليه واجتمعوا، والمعنى أنهم لم يحلوا شهراً إلا حرموا شهراً لتبقى الأشهر الحرم أربعة، قال قطرب: معناه عمدوا إلى صفر فزادوه في الأشهر الحرم وقرنوه بالمحرم في التحريم، وكذا قال الطبري.
(فيحلوا ما حرم الله) من الأشهر الحرم التي أبدلوها بغيرها، ولم ينظروا إلى أعيانها (زين لهم سوء أعمالهم) أي زين لهم الشيطان أعمالهم السيئة التي يعملونها ومن جملتها النسيء فظنوه حسناً، وقرئ على البناء للفاعل (والله لا يهدي القوم الكافرين) أي المصرين على كفرهم المستمرين عليه فلا يهديهم هداية توصلهم إلى المطلوب، وأما الهداية بمعنى الدلالة على الحق والإرشاد إليه فقد نصبها الله سبحانه لجميع عباده.(5/301)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (38)
(يا أيها الذين آمنوا مالكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله أثاقلتم إلى الأرض) لما شرح معائب أولئك الكفار عاد إلى ترغيب المؤمنين في قتالهم، والاستفهام في (ما لكم) للإنكار والتوبيخ، أي أيّ شيء يمنعكم عن ذلك، ولا خلاف أن هذه الآية نزلت عتاباً لمن تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، وكانت في رجب سنة تسع من الهجرة بعد رجوعه من الطائف بعد الفتح بعام، وتبوك مكان على طرف الشام بينه وبين المدينة عشرة مراحل، وهو ممنوع من الصرف للعلمية والتأنيث وبعضهم يصرفه على إرادة الموضع، فقد جاء في البخاري مصروفاً وممنوعاً منه، وقصة هذه الغزوة في سيرة الحلبي مفصلة.
والنَّفر هو الانتقال بسرعة من مكان إلى مكان لأمر يحدث، يقال استنفر الإمام الناس إذا حثهم على الخروج إلى الجهاد ودعاهم إليه، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: " إذا استنفرتم فانفروا " (1)، والاسم النفير.
_________
(1) مسلم 1864.(5/301)
واثاقلتم معناه تباطأتم وعدي بإلى لتضمنه معنى الميل والإخلاد، وقيل معناه ملتم إلى الإقامة بأرضكم والبقاء فيها عن الجهاد، وقرئ أثاقلتم على الاستفهام ومعناه التوبيخ مع النفي.
(أرضيتم) استفهام توبيخ وتعجيب (بالحياة الدنيا) أي بخفض العيش وزهرة الدنيا ودعتها ونعيمها بدلاً من الآخرة كقوله تعالى: (ولو نشاء لجعلنا منكم ملائكة) أي بدلاً منكم (فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة) أي محسوباً في جنبها وفي مقابلتها، و (في) هذه تسمى قياسية (إلا قليل) أي إلا متاع حقير لا يعبأ به لأن لذات الدنيا خسيسة في نفسها ومشوبة بالآفات والبليات، ومنقطعة عن قرب لا محالة، ومنافع الآخرة شريفة عالية خالصة عن الآفات دائمة أبدية سرمدية وذلك يوجب القطع بأن متاع الدنيا في جنب متاع الآخرة قليل.
ويجوز أن يراد بالقليل العدم إذ لا نسبة للمتناهي الزائل إلى غير المتناهي الباقي والظاهر أن هذا التثاقل لم يصدر من الكل إذ من البعيد أن يطبقوا جمعاً على التباطؤ والتثاقل، وإنما هو من باب نسبة ما يقع من البعض إلى الكل وهو كثير شائع، وفي الآية دليل على وجوب الجهاد في كل حال وفي كل وقت لأن الله سبحانه نص على أن تثاقلهم عَن الجهاد أمر منكر، فلو لم يكن منكراً لما عاتبهم على ذلك.(5/302)
لَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
ويؤيد هذا قوله:(5/303)
إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39)
(لا تنفروا يعذبكم عذاباً أليماً) أي يهلككم بعذاب شديد مؤلم، قيل في الدنيا فقط باحتباس المطر وغيره، وقيل هو أعم من ذلك لأن العذاب الأليم لا يكون إلا في الآخرة، قال الحسن وعكرمة:
هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: (وما كان المؤمنون لينفروا كافة) وقال الجمهور: هذه الآية محكمة لأنها خطاب لقوم استنفرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم ينفروا كما نقل عن ابن عباس، وعلى هذا التقدير فلا نسخ، وفي الآية تهديد شديد ووعيد مؤكد لمن ترك النفر مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
(ويستبدل قوماً غيركم) أي يجعل لرسله بدلاً منكم ممن لا يتباطأ عند حاجتهم إليهم ويكون خيراً منكم وأطوع، واختلف في هؤلاء القوم من هم فقيل أهل اليمن، وقيل أهل فارس، قاله سعيد بن جبير، ولا وجه للتعيين بدون دليل
(ولا تضروه) أي الله بترك امتثال أمره بالنفير (شيئاً) لأنه غني عن العالمين أو لا تضروا رسول الله بترك نصره والنفير معه شيئاً فان الله ناصره على أعدائه ولا يخذله أبداً نفرتم أو اثاقلتم.
والله على كل شيء قدير ومن جملة مقدوراته تعذيبكم والاستبدال بكم.(5/303)
إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ(5/304)
إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40)
(إلا تنصروه فقد نصره الله) أي إن تركتم نصره فالله متكفل به أعنتموه أو لا فقد نصره في مواطن القلة وأظهره على عدوه بالغلبة والقهر أو فسينصره من نصره حين لم يكن معه إلا رجل واحد (إذ أخرجه الذين كفروا) أي وقت إخراجهم إياه حال كونه (ثاني اثنين) وقرئ بسكون الياء على لغة من يجري الناقص مجرى المقصور في الإعراب أي أحد اثنين وهما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأبو بكر الصديق رضي الله عنه من غير اعتبار كونه - صلى الله عليه وسلم - ثانياً فإن معنى قولهم ثالث ثلاثة ورابع أربعة ونحو ذلك أحد هذه الأعداد مطلقاً لا الثالث والرابع خاصة، ولذلك منع الجمهور أن ينصب ما بعده بأن يقال ثالث ثلاثة ورابع أربعة.
(إذ هما في الغار) هو ثقب عظيم في الجبل المسمى ثوراً، وهو المشهور بغار ثور وهو جبل قريب من مكة وبينهما مسيرة ساعة ويجمع على غيران، والغار أيضاً نبت طيب والجماعة والغاران البطن والفرج، وألف الغار منقلبة عن واو، وقصة خروجه صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة هو وأبو بكر ودخولهما الغار ومكثهما فيه ثلاثاً مشهورة مذكورة في كتب السير والحديث، وسبياق حديث الهجرة من أفراد البخاري وهو طويل جداً.
(إذ يقول لصاحبه) أي وقت قوله لأبي بكر (لا تحزن) أي دع الحزن (إن الله) بنصره وعونه وتأييده وعصمته وحفظه وولايته ومعونته وتسديده(5/304)
(معنا) والمراد بالمعية المعية الدائمة التي لا تحوم حول صاحبها شائبة شيء من الحزن، وما هو المشهور من اختصاص " مع " بالمتبوع فالمراد بما فيه من المتبوعية هو المتبوعية في الأمر المباشر، قاله أبو السعود، وقال الخفاجي: أنها معية مخصوصة وإلا فهو مع كل أحد اهـ.
والمعنى من كان الله معه فلن يغلب ومن لا يغلب فيحق له أن لا يحزن وذلك أن أبا بكر خاف من الطلب (1) أن يعلموا بمكانهم، فجزع من ذلك وكان حزنه على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا على نفسه وقال: إذا أنا مت فأنا رجل واحد وإذا مت أنت هلكت الأمة والدين.
أخرج الشيخان عنه رضي الله عنه قال: نظرت إلى أقدام المشركين ونحن في الغار وهم على رؤوسنا فقلت: يا رسول الله لو أن أحدهم نظر إلى قدميه أبصرنا تحت قدميه فقال: " يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما " (2) وزاد البزار والطبراني والبيهقي في الدلائل عن أنس والمغيرة بن شعبة فأعماهم الله عن الغار فجعلوا يترددون حوله فلم يروه.
قال النووي: هو داخل في قوله سبحانه: (إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون) وفيه بيان عظيم توكل النبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى في هذا المقام وفيه فضيلة لأبي بكر وهي من أجل مناقبه، وقال الشعبي: عاتب الله عز وجل أهل الأرض جميعاً في هذه الآية غير أبي بكر.
وقال الحسن بن الفضل: من قال أن أبا بكر لم يكن صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو كافر لإنكاره نص القرآن، وعن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر: أنت صاحبي على الحوض وصاحبي في الغار (3)، أخرجه الترمذي، وقال حديث صحيح حسن غريب، وعبارة أبي
_________
(1) وهم رجال اقتصوا أثر الرسول يطلبون رده إلى قريش.
(2) مسلم 2381 - البخاري 1716.
(3) الترمذي كتاب المناقب باب 16.(5/305)
السعود وفيه من الدلالة على علو طبقة الصديق رضي الله تعالى عنه وسابقة صحبته ما لا يخفى اهـ.
وفي الكشاف: وقالوا من أنكر صحبة أبي بكر فقد كفر لإنكاره كلام الله، وليس ذلك لسائر الصحابة، وقيل أنه ليس بمنصوص عليه فيها بل المنصوص عليه أن له ثانياً هو صاحبه فيه، فإنكار ذلك يكون كفراً لا إنكار صحبته بخصوصه، ولذا قال قالوا فجعل العهدة فيه على غيره، وفيه نظر، قاله الخفاجي، وقد استنبط أهل العلم من هذه الآية وجوهاً كثيرة على فضل أبي بكر الصديق رضي الله عنه يطول ذكرها.
(فأنزل الله سكينته) هي تسكين جأشه وتأمينه حتى ذهب روعه وحصل له الأمن على أن الضمير في (عليه) لأبي بكر، وبه قال ابن عباس وأكثر المفسرين، وقيل هو للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ويكون المراد بالسكينة النازلة عليه عصمته عن حصول سبب من أسباب الخوف له.
ويؤيد كون الضمير في (عليه) للنبي صلى الله عليه وسلم الضمير في (وأيده بجنود لم تروها) فإنه للنبي صلى الله عليه وآله وسلم لأنه المؤيد بهذه الجنود التي هي الملائكة في الغار يحرسونه ويسكنون روعه ويصرفون أبصار الكفار عنه كما كان في يوم بدر، وقيل أنه لا محذور في رجوع الضمير من (عليه) إلى أبي بكر، ومن (وأيده) إلى النبي صلى الله عليه وسلم فإن ذلك كثير في القرآن وفي كلام العرب.
(وجعل كلمة الذين كفروا) أي كلمة الشرك وهي دعوتهم إليه ونداؤهم للأصنام أو كل ما يدل على الشرك أو المراد بها عقيدة الشرك أي الكفر مطلقاً بسائر أنواعه، أقوال للمفسرين (والسفلى) المغلوبة إلى يوم القيامة (وكلمة الله هي العليا) في ضمير الفصل أعني هي تأكيد لفضل كلمته في العلو، وأنها المختصة به دون غيرها، والمراد بها كلمة التوحيد والدعوة إلى الإسلام، فهي ظاهرة غالبة باقية إلى يوم القيامة عالية والله عزيز حكيم) أي غالب قاهر لا يفعل إلا ما فيه حكمة وصواب.(5/306)
انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (41) لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ
ثم لما توعد من لم ينفر مع الرسول صلى الله عليه وسلم وضرب له من الأمثال ما ذكره، عقبه بالأمر بالجزم فقال: وانفروا حال كونكم(5/307)
انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (41)
(خفافاً وثقالاً) أي على الصفة التي يخف عليكم الجهاد فيها وعلى الصفة التي يثقل عليكم الجهاد فيها وهذان الوصفان يدخل تحتهما أقسام كثيرة فلهذا اختلفت عبارات المفسرين فيهما فقيل المراد منفردين أو مجتمعين، وقيل نشاطاً وغير نشاط، وقيل فقراء وأغنياء وقيل شباباً وشيوخاً، وقيل ركباناً ومشاة رجالاً وفرساناً، وقيل من سبق إلى الحرب كالطلائع ومن يتأخر كالجيش.
وقيل أهل الميسرة وأهل العسرة، وقيل مقلين من السلاح ومستكثرين منه وقيل مشاغيل وغير مشاغيل، وقيل أصحاء ومرضى وقيل عزاباً ومتأهلين، وقيل خفافاً من الحاشية والأتباع وثقالاً مستكثرين منهم، وقيل مسرعين في الخروج إلى الغزو ساعة سماع النفير وبعد التروي فيه والاستعداد له، وقيل غير ذلك.
ولا مانع من حمل الآية على جميع هذه المعاني، لأن معنى الآية انفروا خفت عليكم الحركة أو ثقلت، فالأولى أن هذا عام لكل الأحوال فيهما، والأمر محمول على الوجوب.
قال السدي: وهذه الآية منسوخة بقوله تعالى: وليس على الضعفاء ولا(5/307)
على المرضى) وقيل الناسخ لها قوله: (فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة) الآية. قاله ابن عباس.
وقيل الأمر محمول على الندب وهي محكمة وليست بمنسوخة، ويكون إخراج الأعمى والأعرج بقوله: (ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج) وإخراج الضعيف والمريض بقوله: (ليس على الضعفاء ولا على المرضى) من باب التخصيص لا من باب النسخ على فرض دخول هؤلاء تحت قوله: (خفافاً وثقالاً) والظاهر عدم دخولهم تحت العموم، ويدل عليه أن هذه الآية نزلت في غزوة تبوك وأن النبي صلى الله عليه وسلم خلف في المدينة في تلك الغزوة النساء وبعض الرجال فذلك دل على أن الجهاد من فروض الكفايات ليس على الأعيان.
(وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله) فيه الأمر بالجهاد بالأنفس والأموال وإيجابه على العباد، فالفقراء يجاهدون بأنفسهم، والأغنياء بأموالهم وأنفسهم، والجهاد من أكبر الفرائض وأعظمها، وهو فرض كفاية مهما كان البعض يقوم بجهاد العدو ويدفعه، فإن كان لا يقوم بالعدو إلا جميع المسلمين في قطر من الأرض أو أقطار وجب عليهم ذلك وجوب عين.
(ذلكم) أي ما تقدم من الأمر بالنفير والأمر بالجهاد (خير لكم) عظيم في نفسه وخير من السكون والدعة (إن كنتم تعلمون) ذلك وتعرفون الأشياء الفاضلة وتميزونها عن المفضولة فافعلوه.
ونزل في الذين تخلفوا عن غزوة تبوك(5/308)
لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (42)
(لو كان) المدعو إليه أو ما تدعوهم إليه (عرضاً) هو ما يعرض من منافع الدنيا ومتاعها، يقال الدنيا عرض حاضر يأكل منه البر، والفاجر (قريباً) والعنى غنيمة سهلة قريبة التناول غير بعيدة (وسفراً قاصداً) أي متوسطاً بين القرب والبعد، وكل(5/308)
متوسط بين الإفراط والتفريط فهو قاصد (لاتَّبعوك) أي لوافقوك في الخروج ولخرجوا معك طمعاً في تلك المنافع التي تحصل لهم (ولكن بعدت عليهم الشقة) قال أبو عبيدة وغيره: إن الشقة السفر إلى أرض بعيدة، يقال منه شقة وشاقة، والشقة المسافة التي تقطع بمشقة. قال الجوهري: الشقة بالضم من الثياب والشقة أيضاً السفر البعيد، وربما قالوه بالكسر فهي مشتقة من المشقة كما في السمين، والمراد بها غزوة تبوك فإنها كانت سفرة بعيدة شاقة وكانوا يستعظمون غزو الروم، لا جرم تخلفوا بهذا السبب.
(وسيحلفون) أي المتخلفون عن غزوة تبوك، وأتى بالسين لأنه من قبيل الإخبار بالغيب فإن الله أنزل هذه الآية قبل رجوعه من تبوك أي سيحلفون (بالله) اعتذاراً عنه حال كونهم قائلين (لو استطعنا) أي لو قدرنا على الخروج ووجدنا ما نحتاج إليه فيه مما لا بد منه، وقيل: لو كان لنا استطاعة من جهة العدة أو من جهة الصحة أو من جهتهما حسبما عنَّ لهم من الكذب والتعلل وعلى كلا التقديرين فقوله: (لخرجنا معكم) ساد مسد جوابي القسم والشرط جميعاً وقد وقع حسبما أخبر به وهو من جملة المعجزات الباهرة.
وقوله: (يهلكون أنفسهم) بدل من قوله: (سيحلفون) لأن من حلف كذباً فقد أهلك نفسه، ولذا قال صلى الله عليه وسلم: " اليمين الفاجرة تدع الديار بلاقع " أو يكون حالاً أي مهلكين أنفسهم موقعين لها موقع الهلاك بسبب هذه الأيمان الكاذبة (والله يعلم إنهم لكاذبون) في حلفهم الذي سيحلفون به لك لأنهم كانوا مستطيعين للخروج.(5/309)
عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ (43) لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ(5/310)
عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ (43)
(عفا الله عنك لم أذنت لهم) الاستفهام للإنكار من الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم حيث وقع منه الإذن لمن استأذنه في القعود قبل أن يتبين من هو صادق منهم في عذره الذي أبداه، ومن هو كاذب فيه، وفي ذكر العفو عنه صلى الله عليه وسلم ما يدل على أن هذا الإذن الصادر منه كان خلاف الأولى، وفي هذا عتاب لطيف من الله سبحانه، وقيل أن هذا عتاب له صلى الله عليه وآله وسلم في إذنه للمنافقين بالخروج معه لا في إذنه لهم بالقعود عن الخروج، قاله الطبري والأول أولى.
وقد رخص له سبحانه في سورة النور بقوله: (فإذا استأذنوك لبعض شأنهم فأذن لمن شئت منهم) ويمكن أن يجمع بين الآيتين بأن العتاب هنا متوجه إلى الإذن قبل الاستثبات حتى يتبين الصادق من الكاذب، والإذن هنالك متوجه إلى الإذن بعد الاستثبات والله أعلم.
وقيل إن قوله: (عفا الله عنك) افتتاح كلام كما تقول أصلحك الله وأعزك ورحمك كيف فعلت كذا وكذا، حكاه مكي والنحاس والمهدوي، وعلى هذا التأويل يحسن الوقف على (عفا الله عنك) وعلى التأويل الأول لا يحسن، ولا يخفاك أن التفسير الأول هو المطابق لما يقتضيه اللفظ على حسب اللغة العربية، ولا وجه لإخراجه عن معناه العربي.
وفي الآية دليل على جواز الاجتهاد منه صلى الله عليه وسلم والمسألة(5/310)
مدونة في الأصول، وفيها أيضاً دلالة على مشروعية الاحتراز عن العجلة والاغترار بظواهر الأمور.
وقال عمرو بن ميمون: اثنان فعلهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - باجتهاده لم يؤمر فيهما بشيء: إذنه للمنافقين في التخلف، وأخذه الفداء من أسارى بدر، فعاتبه الله كما تسمعون، قال سفيان بن عيينة: انظر هذا التلطف به، بدأ بالعفو قبل أن يعيره بالذنب.
و (حتى) في قوله: (حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين) للغاية، كأنه قيل لم سارعت إلى الإذن لهم، وهلا تأنيت حتى يتبين لك صدق من هو صادق منهم في العذر الذي أبداه، وكذب من هو كاذب منهم في دعواه، قال ابن عباس: لم يكن يعرف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المنافقين يومئذ حتى نزلت سورة براءة.
ثم ذكر سبحانه أنه ليس من عادة المؤمنين أن يستأذنوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في القعود عن الجهاد، بل كان من عادتهم أنه صلى الله عليه وسلم إذا أذن لواحد منهم بالقعود شق عليه ذلك فقال:(5/311)
لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (44)
(لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم) وهذا على أن معنى الآية أن لا يجاهدوا وقيل المعنى لا يستأذنك في التخلف كراهة الجهاد، وقيل أن معنى الاستئذان في الشيء الكراهة.
وأما على ما يقتضيه ظاهر اللفظ فالمعنى لا يستأذنك المؤمنون في الجهاد بل دأبهم أن يبادروا إليه من غير توقف ولا ارتقاب منهم لوقوع الإذن منك فضلاً أن يستأذنوك في التخلف، فحيث استأذنك هؤلاء في التخلف كان ذلك مظنة للتأني في أمرهم بل دليلاً على نفاقهم (والله عليم بالمتقين) الذين لم يستأذنوا(5/311)
إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ 45) وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ(5/312)
إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (45)
(إنما يستأذنك) في القعود عن الجهاد والتخلف عنه من غير عذر، وكذا يقال فيما بعده (الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر) وهم المنافقون وكانوا تسعة وثلاثين رجلاً، وذكر الإيمان بالله أولاً ثم باليوم الآخر ثانياً في الموضعين لأنهما الباعثان على الجهاد في سبيل الله (وارتابت قلوبهم) جاء بالماضي للدلالة على تحقق الريب في قلوبهم وهو الشك فإذا إدخلها الشك كان ذلك نفاقاً.
(فهم في ريبهم يترددون) أي في شكهم الذي حل بقلوبهم يتحيرون، والتردد التحير، والمعنى فهؤلاء الذين يستأذنونك ليسوا بمؤمنين، بل كانوا مرتابين حائرين لا يهتدون إلى طريق الصواب ولا يعرفون الحق، والآية محكمة كلها، وقال ابن عباس: نسختها الآية التي في سورة النور (إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله) إلى قوله: (غفور رحيم) فجعل الله النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأعلى النظرين في ذلك من غزا غزا في فضيلة، ومن قعد قعد في غير حرج إن شاء الله.(5/312)
وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ (46)
(ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة) أي لو كانوا صادقين فيما يدعونه ويخبرونك به من أنهم يريدون الجهاد معك ولكن لم يكن معهم من العدة للجهاد ما يحتاجون إليه لما تركوا إعداد العدة وتحصيلها قبل وقت الجهاد كما يستعد لذلك المؤمنون، فمعنى هذا الكلام أنهم لم يريدوا الخروج أصلاً ولا استعدوا للغزو، والعدة ما يحتاج إليه المجاهد من الزاد والراحلة والسلاح.
(ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم) الاستدراك هنا يحتاج إلى تأمل،(5/312)
فلذلك قال الزمخشري: ما حاصله ولكن كره الله خروجهم فثبطوا عن الخروج فيكون المعنى ما خرجوا ولكن ثبطوا لأن كراهة الله انبعاثهم تستلزم تثبطهم عن الخروج، والانبعاث الخروج أي حبسهم الله عن الخروج معك وخذلهم وكسلهم لأنهم قالوا إن لم يؤذن لنا في الجلوس أفسدنا وحرضنا على المؤمنين.
وقيل المعنى لو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة ولكن ما أرادوه لكراهة الله له، وعلى هذا فهو استدراك على نفس المقدم على نهج ما في الأقيسة الاستثنائية، وكان في خروجهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مفسدة عظيمة بدليل أنه تعالى أخبر عنها بقوله الآتي (ما زادوكم إلا خبالاً) وأما عتاب الله لرسوله بقوله (لم أذنت لهم) فإنه أذن لهم قبل تمام الفحص وإكمال التأمل والتدبر في حالهم، فلهذا السبب عاتبه، وقيل إنما عاتبه لأجل أنه أذن لهم قبل أن يوحى إليه في أمرهم بالقعود.
(وقيل اقعدوا) والقائل لهم هو الشيطان بما يلقيه إليهم من الوسوسة، وقيل قاله بعضهم لبعض، وقيل قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم غضباً عليهم، وقيل هو عبارة عن الخذلان أي أوقع الله في قلوبهم القعود خذلاناً لهم، وقال السيوطي: أي قدر الله ذلك أي القعود يعني فلا قول بالفعل لا من الله ولا من النبي صلى الله عليه وسلم.
(مع القاعدين) أي مع أولى الضرر من العميان والمرضى والنساء والصبيان وفيه من الذم لهم والإزراء عليهم والتنقص بهم ما لا يخفى.(5/313)
لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (47) لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ(5/314)
لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (47)
(لو خرجوا) شروع في بيان المفاسد التي تترتب على خروجهم، وفيه تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين عن تخلف المنافقين، ومعنى (فيكم) في جيشكم أو (في) بمعنى مع أي معكم (ما زادوكم إلا خبالاً) هو الشر والفساد والنميمة وإيقاع الاختلاف والأراجيف، وأصله اضطراب ومرض يؤثر في العقل كالجنون، قيل هذا الاستثناء منقطع أي ما زادوكم قوة، ولكن طلبوا الخبال وليس بذاك لأنه لا يكون مفرغاً، قاله الزمخشري والبيضاوي وأبو السعود.
قال الخفاجي: وفيه بحث لأنه لا مانع منه إذا دلت القرينة عليه، كما إذا قيل ما أنيسك في البادية؟ فقلت ما لي بها إلا اليعافير، أي ما لي أنيس إلا هذه، انتهى.
وقيل المعنى لا يزيدونكم فيما يترددون فيه من الرأي إلا خبالاً، فيكون متصلاً، وقيل قوله استثناء من أعم العام أي ما زادوكم شيئا إلا خبالاً فيكون الاسثثناء من قسم المتصل لأن الخبال من جملة ما يصدق عليه الشيء.
(ولأوضعوا خلالكم) الإيضاع سرعة السير، يقال أوضع البعير إذا أسرع السير، وقيل هو سير الخبب، وأوضع يستعمل لازماً كما في القاموس ومتعدياً كما في المختار، والخلة الفرجة بين الشيئين والمفرد خلل، والجمع الخلال كجمل وجمال أي الفرج التي تكون بين الصفوف.(5/314)
والمعنى على الأول لسعوا بينكم بالإفساد بما يختلقونه من الأكاذيب المشتملة على الأرجاف والنمائم الموجبة لفساد ذوات البين، وعلى الثاني أسرعوا ركائبكم بينكم بالنميمة، وفيه استعارة تخييلية ومكنية، وقيل إنه استعارة تبعية شبه سرعة إفسادهم لذات البين بالنميمة بسرعة سير الركائب المسماة بالإيضاع وهو إسراع سير البعير، ثم استعير لسرعة الإفساد لفظ الإيضاع وهو للإبل ثم اشتق منه أوضعوا وأصل الاستعارة ولأوضعوا ركائب نمائمهم خلالكم، ثم حذف النمائم وأقيم المضاف إليه مقامها لدلالة سياق الكلام على أن المراد النميمة ثم حذف الركائب، قاله الطيبي كما ذكره زكريا.
(يبغونكم) يقال بغيته كذا طلبته له وأبغيته كذا أعنته على طلبه، والمعنى يطلبون لكم (الفتنة) أي ما يفتنون به في ذات بينكم بما يصنعونه من التحريش والإفساد، وقولهم للمؤمنين لقد جمعوا لكم كذا وكذا ولا طاقة لكم بهم وإنكم ستهزمون منهم وسيظهرون عليكم، ونحو ذلك من الأحاديث الكاذبة التي تورث الجبن والفشل، وقيل الفتنة العيب والشر، وقيل الفتنة هنا الشرك.
(وفيكم سماعون لهم) أي والحال أن فيكم من يستمع ما يقولونه من الكذب فينقله إليكم، فيتأثر من ذلك الاختلاف بينكم والفساد لأحوالكم، قال مجاهد: معناه محدثون لهم بأحاديثكم غير منافقين وهم عيون للمنافقين. انتهى. فعلى هذا يكون المراد فيكم جواسيس منهم يسمعون لهم الأخبار منكم فاللام على الأول للتقوية، وعلى الثاني للتعليل أي لأجلهم (والله عليم بالظالمين) وبما يحدث منهم لو خرجوا معكم فلذلك اقتضت حكمته البالغة أن لا يخرجوا معكم وكره انبعاثهم معكم.
ولا ينافي حالهم هذا لو خرجوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ما تقدم من عتابه على الإذن لهم في التخلف، لأنه سارع إلى الإذن لهم ولم يكن(5/315)
قد علم من أحوالهم لو خرجوا أنهم يفعلون هذه الأفاعيل، فعوتب صلى الله عليه وسلم على تسرعه إلى الإذن لهم قبل أن يتبين له الصادق منهم في عذره من الكاذب، ولهذا قال الله سبحانه فيما يأتي في هذه السورة (فإن رجعك الله إلى طائفة منهم فاستأذنوك للخروج فقل لن تخرجوا معي أبداً) الآية.
وقال في سورة الفتح (سيقول المخلفون إذا انطلقتم إلى مغانم لتأخذوها) إلى قوله: (قل لن تتبعونا) وفي الآية وعيد وتهديد للمنافقين الذين يلقون الفتن والشبهات بين المؤمنين، ووضع المظهر موضع المضمر للتسجيل عليهم بالظلم والتشديد في الوعيد والإشعار بترتبه على الظلم، قال أبو السعود: ولعله شامل للفريقين السماعين والقاعدين.(5/316)
لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ (48)
(لقد ابتغوا الفتنة من قبل) أي لقد طلبوا الإفساد والخبال وتفريق كلمة المؤمنين وتشتت شملهم من قبل هذه الغزوة التي تخلفوا عنك فيها، كما وقع من عبد الله بن أبيّ وغيره يوم أحد حيث انصرف بأصحابه عنك، ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون.
(وقلبوا لك الأمور) أي صرفوها من وجه إلى وجه ودبروا لك الحيل والمكايد، وردوا الآراء في إبطال أمرك وتقليب الأمر تصريفه من أمر إلى أمر وترديده لأجل التدبير والاجتهاد في المكر والحيلة، ومنه قول العرب للرجل حوَّل وقلب إذا كان دائراً حول المكايد والحيل يدبر الوأي فيها ويتدبره، وقرئ بالتخفيف.
(حتى جاء الحق) أي إلى غاية هي مجيء الحق وهو النصر لك والتأييد، وقيل الحق القرآن (وظهر أمر الله) بإعزاز دينه وإعلاء شريعته وقهر أعدائه (وهم كارهون) لمجيء الحق وظهور أمر الله، ولكن كان ذلك على رغم منهم(5/316)
وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (49) إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ(5/317)
وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (49)
(ومنهم) أي من المنافقين (من يقول) لرسول الله صلى الله عليه وسلم (ائذن لي) في التخلف عن الجهاد (ولا تفتني) أي لا توقعني في الفتنة أي المعصية والإثم إذا لم تأذن لي فتخلفت بغير إذنك، وقيل معناه لا توقعني في الهلكة بالخروج.
عن ابن عباس قال: لما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يخرج إلى غزوة تبوك قال للجدّبن قيس: يا جد بن قيس ما تقول في مجاهدة بني الأصفر؟ فقال: يا رسول الله إني امرؤ صاحب نساء، ومتى أرى نساء بني الأصفر أفتتن، فأْذن لي ولا تفتني، فأنزل الله (ومنهم من يقول ائذن لي) الآية (1).
(ألا في الفتنة سقطوا) أي في نفس الفتنة، وهي فتنة التخلف عن الجهاد والاعتذار الباطل، والمعنى أنهم ظنوا أنهم بالخروج أو بترك الإذن لهم يقعون في الفتنة وهم بهذا التخلف سقطوا في الفتنة العظيمة، وفي التعبير بالسقوط ما يشعر بأنهم وقعوا فيها وقوع من يهوي من أعلى إلى أسفل، وذلك أشد من مجرد الدخول في الفتنة.
ثم توعدهم على ذلك فقال: (وإن جهنم لمحيطة بالكافرين) أي مشتملة عليهم من جميع الجوانب لا يجدون عنها مخلصاً، ولا يتمكنون من الخروج منها بحال من الأحوال، وهذا وعيد لهم على ما فعلوا معطوف على
_________
(1) ابن كثير 2/ 361.(5/317)
الجملة السابقة داخل تحت التنبيه، وقصة تبوك مذكورة في كتب الحديث والسير فلا نطول بذكرها.(5/318)
إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ (50)
(إن تصبك حسنة تسؤهم) أي حسنة كانت بأي سبب اتفق كما يفيده وقوعها في حيز الشرط وكذلك القول في المصيبة وتدخل الحسنة والمصيبة الكائنة في القتال كما يفيده السياق دخولاً أولياً.
فمن جملة ما يصدق عليه الحسنة الغنيمة والظفر، ومن جملة ما يصدق عليه المصيبة الخيبة والانهزام، وهذا ذكر نوع آخر من خبث ضمائر المنافقين وسوء أفعالهم والإخبار بعظم عدواتهم لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وللمؤمنين، فإن المساءة بالحسنة، والفرح بالمصيبة من أعظم ما يدل على أنهم قد بلغوا في العداوة إلى الغاية.
(وإن تصبك مصيبة) أي هزيمة أو شدة كما تقدم، وقابل الله هنا الحسنة بالمصيبة ولم يقابلها بالسيئة كما قال في سورة آل عمران (وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها) لأن الخطاب هنا للنبي صلى الله عليه وسلم وهي في حقه مصيبة يثاب عليها لا سيئة يعاتب عليها، والتي هناك خطاب للمؤمنين. قاله الشهاب.
(يقولوا) أي المنافقون حامدين لرأيهم (قد أخذنا أمرنا من قبل) أي احتطنا لأنفسنا وأخذنا بالحزم واعتزلنا عنهم، وقعدنا عن الحرب، فلم نخرج للقتال كما خرج المؤمنون حتى نالهم ما نالهم من المصيبة (ويتولوا وهم فرحون) أي رجعوا إلى أهلهم عن مقامات الاجتماع ومواطن التحدث حال كونهم فرحين بالصيبة التي أصابت المؤمنين وبما صنعوا من أخذ الأمر، وبما أصابه صلى الله عليه وآله وسلم، والجملة حال من الضمير في يقولوا ويتولوا لا من الأخير فقط لمقارنة الفرح ما معاً.(5/318)
قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (51) قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ (52) قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ
ثم لما قالوا هذا القول أمر الله رسوله صلى الله عليه وآله وسلم بأن يجيب عليهم فقال:(5/319)
قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (51)
(قل) لهم بياناً لبطلان ما بنوا عليه مسرتهم من الاعتقاد لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا في اللوح المحفوظ أو في كتابه المنزل علينا، وفائدة هذا الجواب أن الإنسان إذا علم أن ما قدره الله كائن وإن كل ما ناله من خير أو شر إنما هو بقدر الله وقضائه، هانت عليه المصائب ولم يجد مرارة شماتة الأعداء وتشفي الحسدة.
(هو مولانا) أي ناصرنا وجاعل العاقبة لنا ومظهر دينه على جميع الأديان (وعلى الله فليتوكل المؤمنون) الفاء سببية والأصل ليتوكل قدم الظرف على الفعل لإفادة القصر، ثم أدخلت الفاء للدلالة على استيجابه تعالى للتوكل كما في قوله: (وإياي فارهبون) والتوكل على الله تفويض الأمور إليه والمعنى أن من حق المؤمنين أن يجعلوا توكلهم في جميع أمورهم مختصاً بالله سبحانه لا يتوكلون على غيره.(5/319)
قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ (52)
(قل هل تربصون بنا) أي هل تنتظرون أيها المنافقون أن يقع بنا (إلا إحدى) الخصلتين (الحسنيين) إما النصرة والغنيمة أو الشهادة والمغفرة وكلاهما مما يحسن لدينا، والحسنى تأنيث الأحسن ومعنى الاستفهام التقريع والتوبيخ، وهذا إيضاح وكشف لقوله إلا ما كتب الله لنا.(5/319)
(ونحن نتربص بكم) وإحدى المساءتين لكم من العواقب إما (أن يصيبكم الله بعذاب من عنده) أي قارعة نازلة من السماء كما أصاب من قبلكم من الأمم المهلكة فيسحتكم بعذابه (أو) بعذاب لكم (بأيدينا) أي بإظهار الله لنا عليكم بالقتل والأسر والنهب والسبي، والفاء في (فتربصوا) فصيحة والأمر للتهديد كما في قوله: (ذق إنك أنت العزيز الكريم) أي تربصوا بنا ما ذكرنا من عاقبتنا (إنا) أي نحن (معكم متربصون) ما هو عاقبتكم فستنظرون عند ذلك ما يسرنا ويسوءكم.(5/320)
قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ (53)
(قل أنفقوا طوعاً أو كرهاً لن يتقبل منكم) هذا الأمر معناه الشرط والجزاء لأن الله سبحانه لا يأمرهم بما لا يتقبله منهم، والتقدير إن أنفقتم طائعين أو مكرهين فلن يتقبل منكم، وقيل هو أمر في معنى الخبر أي أنفقتم طوعاً أو كرهاً لن يتقبل منكم فهو كقوله: (استغفر لهم أو لا تستغفر لهم) وفيه الإشعار بتساوي الأمرين في عدم القبول.
وانتصاب طوعاً وكرهاً على الحال فهما مصدران في موقع المشتقين أي انفقوا طائعين من غير أمر من الله ورسوله أو مكرهين بأمر منهما، وليس المراد بالطوع الرغبة لقوله الآتي: (إلا وهم كارهون) أي لا رغبة لهم وسمى الأمر منهما إكراهاً لأنهم منافقون لا يأتمرون بالأمر فكانوا بأمرهم الذي لا يأتمرون به كالمكرهين على الإنفاق أو طائعين من غير إكراه من رؤسائكم أو مكرهين منهم، قال الخطيب: وهذه الآية وإن كانت خاصة في إنفاق المنافقين فهي عامة في حق كل من أنفق ماله لغير وجه الله بل أنفقه رياء وسمعة فإنه لا يقبل منه (إنكم كنتم قوماً فاسقين) تعليل لعدم قبول إنفاقهم، والفسق هنا التمرد والعتو وقد سبق بيان الفسق لغة وشرعاً.(5/320)
وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ (54) فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ
ثم بين سبحانه السبب المانع من قبول نفقاتهم فقال:(5/321)
وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ (54)
(وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله) استثناء من أعم الأشياء أي ما منعهم من قبول نفقاتهم شيء من الأشياء إلا كفرهم بهما، جعل المانع من القبول ثلاثة أمور.
الأول: الكفر.
والثاني (ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى) أي أنهم لا يصلون في حال من الأحوال إلا في حال الكسل والتثاقل لأنهم لا يرجون ثواباً ولا يخافون عقاباً فصلاتهم ليست إلا رياء للناس وتظاهراً بالإسلام الذي يبطنون خلافه والثالث أنهم (لا ينفقون) وأموالهم (إلا وهم كارهون) ولا ينفقونها طوعاً لأنهم يعدون إنفاقها وضعاً لها في مضيعة لعدم إيمانهم بما وعد الله ورسوله.
لا يقال أن الكفر سبب مستقل لعدم القبول، فما وجه التعليل بمجموع الأمور الثلاثة وعند حصول السبب المستقل لا يبقى لغيره أثر، لأن هذا إنما يتوجه على قول المعتزلة القائلين بأن العلل مؤثرة في الحكم، وأما أهل السنة فإنهم يقولون هذه الأسباب معرفة غير موجبة للثواب ولا للعقاب، واجتماع المعرفات الكثيرة على الشيء الواحد جائز، قاله الشهاب.(5/321)
فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (55)
(فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم) الإعجاب بالشيء أن تسر به سرور راض به متعجب من حسنه، قيل مع نوع من الافتخار به واعتقاد أنه ليس لغيره ما يساويه، وهذا المعنى إنما يناسب في إعجاب الشخص بمال نفسه، يقال(5/321)
أعجب بماله أو ولده أي فرح به واغتر به، وما هنا في إعجاب المرء بمال غيره، والمعنى عليه لا تستحسن ما معهم من الأموال والأولاد ولا تحمدها ولا تخبر برضاك بها فهي استدراج، وقيل يقال في الاستحسان أعجبني بالألف، وفي الذم والإنكار عجبت، وزان تعبت، وهذا الخطاب وإن كان مختصاً بالنبي صلى الله عليه وسلم لكن يعم جميع المؤمنين.
(إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا) بما يحصل معهم من الغم والحزن عند أن يغنمها المسلمون ويأخذوها قسراً من أيديهم مع كونها زينة حياتهم وقرة أعينهم أو بما يلقون في جمعها من المشقة والمتاعب، وفيها من المصائب، ومنه قول العرب بلوغ الآمال في ركوب الأهوال.
والمؤمن قد علم أنه مخلوق للآخرة، وأنه يثاب بالمصائب الحاصلة في الدنيا فلم يكن المال والولد في حقه عذاباً في الدنيا، وأما المنافق فإنه لا يعتقد كون الآخرة له ولا أن له فيها ثواباً فبقي ما يحصل له في الدنيا من التعب والحزن على المال والولد عذاباً عليه في الدنيا، فثبت بهذا الاعتبار أن المال والولد عذاب على المنافق في الدنيا دون المؤمن، وكذا في الآخرة يعذبهم بعذاب النار بسبب عدم الشكر لربهم الذي أعطاهم ذلك وترك ما يجب عليهم من الزكاة فيها والتصدق بما يحق التصدق به.
وقيل في الكلام تقديم وتأخير والمعنى فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم في الحياة الدنيا إنما يريد الله ليعذبهم بها في الآخرة لأنهم المنافقون فهم ينفقون كارهين فيعذبون بما ينفقون.
(وتزهق أنفسهم وهم كافرون) الزهوق الخروج بصعوبة والمعنى أن الله يريد أن يزهق أنفسهم ويخرج أرواحهم حال كفرهم لعدم قبولهم لما جاءت به الأنبياء وأرسلت به الرسل، وتصميمهم على الكفر وتماديهم في الضلالة، قال الزمخشري: والمراد الاستدراج بالنعم كقوله: (إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً) كأنه قيل ويريد أن يديم عليهم نعمه إلى أن يموتوا وهم كافرون مشغولون بالتمتع عن النظر للعاقبة.(5/322)
وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (56) لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (57) وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ
ثم ذكر الله سبحانه نوعاً آخر من قبائح المنافقين فقال:(5/323)
وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (56)
(ويحلفون بالله إنهم لمنكم) أي من جملتكم في دين الإسلام والانقياد لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولكتاب الله سبحانه (وما هم منكم) في ذلك إلا بمجرد ظواهرهم دون بواطنهم (ولكنهم قوم يفرقون) أي يخافون أن ينزل بهم ما نزل بالمشركين من القتل والسبي فيظهرون لكم الإسلام تقية منهم لا عن حقيقة.(5/323)
لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (57)
(لو يجدون ملجأً) أي مكاناً يلتجئون إليه ويحفظون نفوسهم فيه منكم من حصن أو رأس جبل أو قلعة أو جزيرة، والملجأ يصلح للمصدر والزمان والمكان والظاهر منها هنا المكان، قال ابن عباس: الملجأ الحرز في الجبال وقيل حصناً ومعقلاً (أو مغارات) جمع مغارة من غار يغيز.
قال الأخفش: ويجوز أن يكون من أغار يغير، والمغارات الغيران والسراديب وهي المواضع التي يستتر فيها، ومنه غار الماء وغارت العين، والمغارة هي المكان المنخفض في الأرض أو في الجبل، والغور من كل شيء قعره والغور المطمئن من الأرض، وغار الرجل غوراً أتى الغور وأغار بالألف مثله، والغار والمغار والمغارة كالكهف في الجبل، والكهف كالبيت في الجبل، وقيل المغارة السرب في الأرض كنفق اليربوع، والغار الثقب في الجبل.
وهذا من أبدع النظم، ذكر أولاً الأمر الأعم وهو الملجأ من أي نوع كان، ثم ذكر الغيران التي يختفى فيها في أعلى الأماكن وهي الجبال ثم الأماكن(5/323)
التي يختفى فيها في الأكن السافلة وهي السروب، وهي التي عبر عنها بالمدخل، والمعنى لو وجدوا أمكنة يغيبون فيها أشخاصهم هرباً منكم.
(أو مدخلاً) من الدخول أي مكاناً يدخلون فيه من الأمكنة التي ليست مغارات. قال ابن عباس: المدخل السرب كنفق اليربوع، وقال الحسن: وجهاً يدخلونه على خلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم (لوَلَّوَاْ إليه) أي لالتجأوا إليه وأدخلوا أنفسهم فيه، وقيل المعنى لو كانوا يجدون مهرباً لهربوا إليه أو قوماً يأمنون عندهم على أنفسهم لصاروا إليهم ولفارقوكم.
(وهم يجمحون) أي والحال أنهم يسرعون إسراعاً إلى ذلك المكان لا يردهم شيء، من جمح الفرس براكبه يجمح إذا لم يرده اللجام واستعصى عليه حتى غلبه فهو جموح وجامح يستوي فيه المذكر والمؤنث، وحاصل المعنى لو وجدوا شيئاً من هذه الأشياء المذكورة وهي شر الأمكنة وأضيقها لولوا إليه مسرعين، هرباً من المسلمين لشدة بغضهم إياهم تستراً عنهم واستكراهاً لرؤيتهم.(5/324)
وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ (58)
(ومنهم من يلمزك) هذا ذكر نوع آخر من قبائحهم، واللمز بمعنى العيب كما قال النحاس والجوهري يقال: لمزه يلمزه إذا عابه، وأصله الإشارة بالعين ونحوها، ورجل لماز ولمزة أي عياب فهو أخص من الغمز إذ هو الإشارة بالعين ونحوها، سواء كان على وجه الاستنقاص أو لا، وأما اللمز فهو خاص بكونه على وجه العيب.
وقال الزجاج: لمزت الرجل ألمزه وألمزه بكسر الميم وضمها إذا عبته وكذا همزته وروي عن مجاهد أنه قال: معنى يلمزك يرزؤك ويسألك، والقول عند أهل اللغة هو الأول.(5/324)
وقال الأزهري: أصله الدفع، يقال لمزته أي دفعته، وقال الليث هو الغمز في الوجه، ومنه همزة لمزة أي كثير هذين الفعلين، وقرئ يلمزك بكسر العين مع التشديد وضمها وهما لغتان في المضارع.
ومعنى الآية ومن المنافقين من يعيبك (في الصدقات) أي الزكوات أو الغنائم وتفريقها وقسمتها.
(فإن أعطوا منها) أي من الصدقات بقدر ما يريدون (رضوا) بما وقع من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يعيبوه، وذلك لأنه لا مقصد لهم إلا حطام الدنيا وليسوا من الدين في شيء (وإن لم يعطوا منها) ما يريدونه ويطلبونه (إذا هم يسخطون) أي فاجئوا السخط، وفائدة إذا الفجائية أن الشرط مفاجئ للجزاء وهاجم عليه.(5/325)
وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ(5/326)
وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ (59)
(ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله) أي ما فرضه الله لهم وقسمه وما أعطاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصدقات، وقيل ذكر الله للتّعظيم والتنبيه على أن ما فعله الرسول كان بأمره تعالى، والأصل ما آتاهم الرسول، وجواب لو محذوف أي لكان خيراً لهم، فإن فيما أعطاهم الخير العاجل والآجل.
(وقالوا) عند أن أعطاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما هو لهم (حسبنا) أي كفانا (الله سيؤتينا) أي سيعطينا (الله من فضله و) يعطينا (رسوله) بعد هذا ما نرجوه ونؤمله (إنا إلى الله راغبون) فهاتان الجملتان كالشرح لقولهم (حسبنا الله) فلذلك لم يتعاطفا لأنهما كالشيء الواحد، فشدة الاتصال منعت العطف. قاله الكرخي.
وقد أخرج البخاري والنسائي وابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ وابن مرد عن أبي سعيد الخدري قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم قسماً إذ جاءه ابن ذي الخويصرة التيمي فقال: اعدل يا رسول الله، فقال: ويحك ومن يعدل إذا لم أعدل، فقال عمر بن الخطاب: ائذن لي فأضرب عنقه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " دعه فإن له أصحابا يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية " (1) الحديث حتى قال: وفيهم نزلت هذه الآية.
وأخرج ابن مردويه عن ابن مسعود قال: لما قسم النبي صلى الله عليه وسلم غنائم حنين سمعت رجلاً يقول: إن هذه القسمة ما أريد بها الله، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم وذكرت ذلك له فقال: " رحمة الله على موسى قد أوذي بأكثر من هذا فصبر " ونزل يعني هذه الآية.
_________
(1) البخاري، كتاب المغازي، باب 61.(5/326)
إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ(5/327)
إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60)
(إنما الصدقات للفقراء والمساكين) لما لمز المنافقون رسول الله صلى الله عليه وسلم في قسمة الصدقات، بين الله لهم مصرفها دفعاً لطعنهم وقطعاً لشغبهم (وإنما) من صيغ القصر، وتعريف الصدقات للجنس، أي جنس هذه الصدقات مقصورة على هذه الأصناف الثمانية المذكورة لا يتجاوزها بل هي لهم لا لغيرهم، ولا تعلق لرسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء منها، ولم يأخذ لنفسه منها شيئاً.
وقد اختلف العلماء هل يجب تقسيط الصدقات على هذه الأصناف الثمانية أو يجوز صرفها إلى البعض دون البعض على حسب ما يراه الإمام أو صاحب الصدقة، فذهب إلى الأولى حذيفة والشافعي وجماعة من أهل العلم، وذهب إلى الثاني مالك وأبو حنيفة وبه قال عمر وحذيفة وابن عباس وأبو العالية وسعيد بن جبير وميمون بن مهران.
قال ابن جرير: وهو قال عامة أهل العلم، احتج الأولون بما في الآية من القصر وبحديث زياد بن الحرث الصدائي عند أبي داود والدارقطني قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فبايعته فأتى رجل فقال: أعطني من الصدقة، فقال له: إن الله لم يرض بحكم نبي ولا غيره في الصدقات حتى حكم فيها هو، فجزأها ثمانية أصناف فإن كنت من تلك الأجزاء أعطيتك (1).
وأجاب الآخرون بأن ما في الآية من القصر إنما هو لبيان الصرف
_________
(1) الدارقطني كتاب الزكاة 2/ 137.(5/327)
والمصرف لا لوجوب استيعاب الأصناف، وبان في إسناد الحديث: عبد الرحمن ابن زياد ابن أنعم الإفريقي وهو ضعيف.
ومما يؤيد ما ذهب إليه الآخرون قوله تعالى: (إن تبدو الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم) والصدقة تطلق على الواجبة كما تطلق على المندوبة، وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: أمرت أن آخذ الصدقة من أغنيائكم وأردها في فقرائكم (1).
وقد ادعى مالك الإجماع على القول الآخر. قال ابن عبد البر: يريد إجماع الصحالة فإنه لا يعلم له مخالفاً منهم وقدم الفقراء لأنهم أحوج من البقية على المشهور لشدة فاقتهم وحاجتهم.
وقد اختلف أهل العلم في الفرق بين الفقير والمسكين على أقوال، فقال يعقوب ابن السكيت والقتيبي ويونس بن حبيب: إن الفقير أحسن حالاً من المسكين. قالوا لأن الفقير هو الذي له بعض ما يكفيه ويقيمه، والمسكين الذي لا شيء له، وذهب إلى هذا قوم من أهل الفقه منهم أبو حنيفة.
وقال آخرون بالعكس فجعلوا المسكين أحسن حالاً من الفقير، واحتجوا بقوله تعالى: (أما السفينة فكانت لمساكين) فأخبر أن لهم سفينة من سفن البحر وربما ساوت جملة من المال ويؤيده تعوذ النبي - صلى الله عليه وسلم - من الفقر مع قوله: " اللهم أحيني مسكيناً وأمتني مسكيناً واحشرني في زمرة المساكين " وإلى هذا ذهب الأصمعي وغيره من أهل اللغة وحكاه الطحاوي عن الكوفيين وهو أحد قولي الشافعي وأكثر أصحابه. وقال قوم أن الفقير والمسكين سواء لا فرق بينهما وهو أحد قولي الشافعي وإليه ذهب ابن القاسم وسائر أصحاب مالك وبه قال أبو يوسف.
وقال قوم: الفقير المحتاج المتعفف والمسكين السائل، قاله الأزهري
_________
(1) الإمام أحمد 5/ 369.(5/328)
واختاره ابن شعبان وهو المروي عن ابن عباس والحسن ومجاهد وعكرمة.
وقد قيل غير هذه الأقوال مما لا يأتي الاستكثار منه بفائدة يعتد بها.
والأولى في بيان ماهية المسكين ما ثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند البخاري ومسلم وغيرهما من حديث أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " ليس المسكين بهذا الطوّاف الذي يطوف على الناس فترده اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان قالوا فما المسكين يا رسول الله؟ قال: الذي لا يجد غني يغنيه ولا يفطن له فيتصدق عليه ولا يسأل الناس شيئاً " (1).
(والعاملين عليها) أي السعاة والجباة الذين يبعثهم الإمام لتحصيل الزكاة فإنهم يستحقون منها قسطاً. واختلف في القدر الذي يأخذونه منها فقيل الثمن روي ذلك عن مجاهد والشافعي، وقيل على قدر أعمالهم من الأجرة، روي ذلك عن أبي حنيفة وأصحابه، وقيل يعطون من بيت المال قدر أجرتهم، روي ذلك عن مالك ولا وجه لهذا، فإن الله قد أخبر بأن لهم نصيباً من الصدقة فكيف يمنعون منها ويعطون من غيرها.
واختلفوا هل يجوز أن يكون العامل هاشمياً أم لا؟ فمنعه قوم وأجازه آخرون، قالوا: ويعطى من غير الصدقة ولا ينحصر العامل في الساعي والجابي، إذ منه القاسم والكاتب الذي يكتب ما أعطاه أرباب الأموال، والحاشر الذي يجمع المستحقين والعريف والحاسب.
(والمؤلفة قلوبهم) هم قوم كانوا في صدر الإسلام فقيل هم الكفار الذين كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتألفهم ليسلموا وكانوا لا يدخلون في الإسلام بالقهر والسيف بل بالعطاء، وقيل هم أسلموا في الظاهر ولم يحسن إسلامهم فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتألفهم بالعطاء، وقيل هم من أسلم من اليهود والنصارى.
وقيل هم قوم من عظماء المشركين لهم أتباع أعطاهم النبي صلى الله عليه
_________
(1) مسلم 1039 - البخاري 788.(5/329)
وسلم ليؤلفوا أتباعهم على الإسلام، وقد أعطى النبي صلى الله عليه وآله وسلم جماعة ممن أسلم ظاهراً كأبي سفيان بن حرب والحرث بن هشام وسهيل ابن عمرو، وحويطب بن عبد العزى، أعطى كل واحد منهم مائة من الإبل يؤلفهم بذلك وأعطى آخرين دونهم.
وقد اختلف العلماء هل سهم المؤلفة قلوبهم باق بعد ظهور الإسلام أم لا فقال عمر والحسن والشعبي: قد انقطع هذا الصنف بعزة الإسلام وظهوره، وهذا مشهور من مذهب مالك وأصحاب الرأي، وقد ادعى بعض الحنفية أن الصحابة أجمعت على ذلك وقد صار إليه الروياني وجماعة، وقال جماعة من العلماء منهم الشافعي وهو الموافق لظاهر الآية أن سهمهم باق لأن الإمام ربما احتاج أن يؤلف على الإسلام، وإنما قطعهم عمر لما رأى من إعزاز الدين، وبه أفتى الماوردي في كتابه الأحكام السلطانية، قال يونس: سألت الزهري عنهم فقال: لا أعلم نسخ ذلك وعلى القول الأول يرجع سهمهم لسائر الأصناف.
ومن المؤلفة قلوبهم كفار يخاف شرهم بحيث لو أعطوا لانكف شرهم وهذا لا يعطى من زكاة ولا من غيرها باتفاق ومنهم من يذب عن المسلمين ومنهم من يقاتل من يليهم ويجاورهم من مانعي الزكاة ويقبض زكاتهم، فتلخص أن المؤلفة أقسام، وفي هذه الأقسام أقوال ذكرها في الجمل.
(وفي الرقاب) أي مصروفة في فكها بأن يشتري رقاباً ثم يعتقها، روي ذلك عن ابن عباس وابن عمر، وبه قال مالك وأحمد بن حنبل وإسحاق وأبو عبيد وقال الحسن البصري ومقاتل بن حيان وعمر بن عبد العزيز وسعيد بن جبير والنخعي والزهري وابن زيد: إنهم المكاتبون يعانون من الصدقة على مال الكتابة وهو قول الشافعي وأكثر الفقهاء وأصحاب الرأي، ورواية عن مالك، وبه قال سعيد بن جبير والضحاك والزهري والليث.
ويدل عليه أيضاً قوله تعالى: (وآتوهم من مال الله الذي آتاكم)(5/330)
والأولى حمل ما في الآية على القولين جميعاً لصدق الرقاب على شراء العبد وإعتاقه، وعلى إعانة المكاتب على مال الكتابة.
(والغارمين) هم الذين ركبتهم الديون ولا وفاء عندهم بها، ولا خلاف في ذلك إلا من لزمه دين في سفاهة فإنه لا يعطى منها ولا من غيرها إلا أن يتوب وقد أعان النبي صلى الله عليه وسلم من الصدقة من تحمل حمالة وأرشد إلى إعانته منها، وقال السيوطي: ولإصلاح ذات البين ولو أغنياء إذا استدانوه لذلك، وأصل الغرم في اللغة لزوم ما يشق على النفس وسمي الدين غرماً لكونه شاقاً على الإنسان ومنه قيل للعشق غرام ويعبر به عن الهلاك في قوله تعالى: (إن عذابها كان غراماً) وغرامة المال فيه مشقة عظيمة.
(وفي سبيل الله) هم الغزاة والمرابطون يعطون من الصدقة ما ينفقون في غزوهم ومرابطتهم وإن كانوا أغنياء، وهذا قول أكثر العلماء وقال ابن عمر: هم الحجاج والعمار، وروي عن أحمد وإسحاق أنهما جعلا الحج من سبيل الله، وقال أبو حنيفة وصاحباه: لا يعطى الغازي إلا إذا كان فقيراً منقطعاً به، وقيل أن اللفظ عام فلا يجوز قصره على نوع خاص، ويدخل فيه جميع وجوه الخير من تكفين الموتى وبناء الجسور والحصون وعمارة المساجد وغير ذلك والأول أولى لإجماع الجمهور عليه.
(وابن السبيل) هو المسافر، والسبيل الطريق ونسب إليها المسافر لملازمته إياها، والمراد الذي انقطعت به الأسباب في سفره عن بلده ومستقره فإنه يعطى منها وإن كان غنياً في بلده، وإن وجد من يسلفه، وقال مالك: إذا وجد من يسلفه فلا يعطى، وقال قتادة: هو الضعيف، وقال فقهاء العراق: هو الحاج المنقطع في سفره والأول أولى.
أخرج ابن أبي شيبة وأبو داود وابن ماجة وابن المنذر وابن مردويه عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة العامل عليها أو الرجل اشتراها بماله أو غارم أو غاز(5/331)
في سبيل الله أو مسكين تصدق عليه فأهدى منها لغني (1).
وأخرج ابن أبي شيبة وأبو داود والنسائي عن عبد اللة بن عدي بن الخيار قال: أخبرني رجلان أنهما أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع وهو يقسم الصدقة فسألاه منها فرفع فينا البصر وخفضه فرآنا جلدين فقال: أن شئتما أعطيتكما ولا حظ فيها لغني ولا لقوي مكتسب (2).
(فريضة من الله) مصدر مؤكد لأن قوله: (إنما الصدقات للفقراء) معناه فرض الله الصدقات لهم، والمعنى أن كون الصدقات مقصورة على هذه الأصناف هو حكم لازم فرضه الله على عباده ونهاهم عن مجاوزته، وقيل أنها حال من الفقراء قاله الكرماني وأبو البقاء أي كائنة لهم حال كونها فريضة أي مصروفة أو هي بمعنى مفروضة أو مصدر وقع موقع الحال.
قال في الكشاف: فإن قلت لم عدل عن اللام إلى (في) في الأربعة الأخيرة قلت للإيذان بأنها أرسخ في استحقاق التصدق عليهم ممن سبق ذكره وقيل النكتة في العدول أن الأصناف الأربعة الأول يصرف المال إليهم حتى يتصرفوا به كما شاءوا، وفي الأربعة الأخيرة لا يصرف المال إليهم بل يصرف إلى جهات الحاجات المعتبرة في الصفات التي لأجلها استحقوا سهم الزكاة.
(والله عليم) بمصالح عباده (حكيم) فيما فرض لهم لا يدخل في تدبيره وحكمه نقص ولا خلل، قال السيوطي: فلا يجوز صرفها لغير هؤلاء ولا منع صنف منهم إذا وجد، فيقسمها الإمام عليهم على السواء وله تفضيل بعض آحاد الصنف على بعض، وأفادت اللام وجوب استغراق إفراده اهـ وهو ظاهر الآية.
وقال الرازي: لا دلالة في الآية على قول الشافعي في أنه لا بد من صرفها إلى الأصناف وقد أشار إلى ذلك القاضي ورد عليه بعض الشيوخ، وقال: ظاهر الآية يؤيد قوله، وتمام البحث في الجمل.
_________
(1) أبو داوود، كتاب الزكاة، باب 25.
(2) أبو داوود، كتاب الزكاة، باب 24.(5/332)
وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ(5/333)
وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (61)
(ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذُنٌ) هذا نوع آخر مما حكاه الله من فضائح المنافقين وقبائحهم وذلك أنهم كانوا يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم على وجه الطعن والذم هو أذن.
قال الجوهري: يقال رجل أذن إذا كان يسمع مقال كل أحد، يستوي فيه الواحد والجمع ومرادهم أقمأهم الله أنهم إذا آذوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبسطوا فيه ألسنتهم وبلغه ذلك اعتذروا له وقَبِل ذلك منهم، لأنه يسمع كل ما يقال له فيصدقه، وإنما أطلقت العرب على من يسمع ما يقال له فيصدقه أنه أذن مبالغة لأنهم سموه بالجارحة التي هي آلة السماع حتى كأن جملته أذن سامعة، ونظيره قولهم للربيئة أي الطليعة عين.
وفي إطلاق الأذن عليه مجاز مرسل من إطلاق اسم الجزء على الكل للمبالغة في استماعه وإيذاؤهم له هو قولهم أذن لأنهم نسبوه إلى أنه يصدق كلما يقال له ولا يفرق بين الصحيح والباطل اغتراراً منهم بحلمه عنهم وصفحه عن جناياتهم كرماً وحلماً وتغاضياً.
ثم أجاب الله عن قولهم هذا فقال: (قل) هو (أذن خير) بالإضافة وقرئ بالتنوين كأنه قيل نعم هو أذن ولكن نعم الأذن هو لكونه أذن خير (لكم) وليس بأذن في غير ذلك كقولهم رجل صدق يريدون الجودة والصلاح والمعنى أنه يسمع الخير ولا يسمع الشر.
(يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين) أي يصدق بالله ويصدق المؤمنين لما علم فيهم من خلوص الإيمان ويقبل قولهم ويسلم ويرضى لهم ولا يقبل قول(5/333)
المنافقين، واللام زائدة للفرق بين إيمان الأمان من الخلود في النار وهو الإيمان المقابل للكفر، وحقه أن يعدى بالباء، وبين إيمان التسليم والتصديق فإنه يعدى باللام وإن كان حقه أن يعدى بنفسه كلتصديق.
وهذا موافق لكثير من الآيات كقوله: (وما أنت بمؤمن لنا) وقوله أن ؤمنوا لكم وقوله أنؤمن لك.
وأما قوله: (آمنتم له قبل أن آذن لكم) وقوله: آمنتم به فمشترك الدلالة بين الإيمان بموسى والإيمان بالله لأن من آمن بموسى حقيقة آمن بالله كعكسه.
(ورحمة) أي وإنه رحمة لهم، وقرئ رحمة بالخفض واستبعده النحاس عند أهل العربية، والمعنى أن النبي صلى الله عليه وسلم أذن خير للمنافقين ورحمة لهم حيث لم يكشف أسرارهم ولم يهتك أستارهم ولا فضحهم، فكأنه قال هو أذن كما قلتم لكنه أذن خير لكم لا أذن سوء، فسلم لهم قولهم فيه إلا أنه فسره بما هو مدح له وثناء عليه وإن كانوا قصدوا به المذمة والتقصير بفطنته.
(للذين آمنوا منكم) أي أظهروا الإيمان وإن لم يكونوا مؤمنين حقيقة (والذين يؤذون رسول الله) صلى الله عليه وسلم لما تقدم من قولهم هو أذن ونحو ذلك مما يصدق عليه أنه أذية لرسول الله صلى الله عليه وسلم (لهم عذاب أليم) أي شديد الألم.
عن ابن عباس قال: كان نبتل بن الحرث يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيجلس إليه ويسمع منه ثم ينقل حديثه إلى المنافقين وهو الذي قال لهم إنما محمد أذن من حدثه بشيء صدقه فأنزل الله فيه هذه الآية، وعن عمير بن سعد قال: فيَّ أنزلت هذه الآية؛ وذلك أن عميراً كان يسمع أحاديث أهل المدينة فيأتي النبي صلى الله عليه وسلم فيسارّه حتى كانوا يتأذون بعمير بن سعد وكرهوا مجالسته وقالوا هو أذن فأنزلت فيه.(5/334)
يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ (62) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ(5/335)
يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ (62)
(يحلفون بالله لكم ليرضوكم) الخطاب للمؤمنين وذلك أن المنافقين كانوا في خلواتهم يطعنون على المؤمنين وعلى النبي صلى الله عليه وسلم فإذا بلغ ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى المؤمنين جاء المنافقون فحلفوا على أنهم لم يقولوا ما بلغ عنهم، قاصدين بهذه الأيمان الكاذبة أن يرضوا رسول الله ومن معه من المؤمنين فنعى الله ذلك عليهم فقال: (والله ورسوله أحق أن يرضوه) من إرضاء المؤمنين بالأيمان الكاذبة فإنهم لو اتقوا الله وتركوا النفاق لكان ذلك أولى لهم.
وإفراد الضمير في يرضوه إما للتعظيم للجناب الإلهي بإفراده بالذكر، أو لكونه لا فرق بين إرضاء الله وإرضاء رسوله، فإرضاء الله إرضاء لرسوله أو المراد الله أحق أن يرضوه ورسوله كذلك كما قال سيبويه ورجحه النحاس أو لأن الضمير موضوع موضع الإشارة فإنه يشار به إلى الواحد والمتعدد أو الضمير راجع إلى المذكور وهو يصدق عليهما، وقال الفراء: المعنى ورسوله أحق أن يرضوه، واللة افتتاح كلام كما تقول ما شاء الله وشئت.
وجواب (إن كانوا مؤمنين) محذوف أي فليرضوا الله ورسوله فإنهما أحق بالإرضاء ولا يكون ذلك إلا بالطاعة والمتابعة وإيفاء الحقوق في باب الإجلال والإعظام مشهداً ومغيباً.(5/335)
أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ (63)
(ألم يعلموا) أي أولئك المنافقون والاستفهام للتوبيخ على ما أقدموا عليه من الجريمة العظيمة مع علمهم بسوء عاقبتها، أي ألم يعلموا بما سمعوا(5/335)
من رسول الله صلى الله عليه وسلم من فنون القوارع والإنذارات، وقرئ بالتاء على الالتفات لزيادة التقريع والتوبيخ.
قال الخازن: قال أهل المعاني: ألم تعلم خطاب لمن علم شيئاً ثم نسيه أو أنكره فيقال له ألم تعلم أنه كان كذا وكذا، ولما طال مكث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين أظهر المؤمنين والمنافقين وعلمهم من أحكام الدين ما يحتاجون إليه خاطب المنافقين بقوله: ألم تعلموا، يعني من شرائع الدين التي علمهم رسولنا.
(أنه من يحادد الله) أي يخالفه (و) يخاصم (رسوله) وأصل المحاددة في اللغة وقوع هذا في حد وذلك في حد كالمشاققة، يقال حاد فلان فلاناً أي صار في حد غير حده، وكأن كل واحد من المتخاصمين صار في محل غير محل صاحبه (فَأن له) أي فحق أن له.
وقال الأخفش: المعنى فوجوب النار له، وأنكره المبرد وقال هذا خطأ. (نار جهنم) وجزاء (خالداً فيها) على الدوام (ذلك) أي ما ذكر من العذاب (الخزي العظيم) أي البالغ إلى الغاية التي لا يبلغ إليها غيره وهو الذل والهوان(5/336)
يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ (64) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ(5/337)
يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ (64)
(يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة) قيل هو خبر وليس بأمر، وقال الزجاج: معناه ليحذر، والمعنى على الأول إن المنافقين كانوا يحذرون نزول القرآن فيهم خوفاً من الفضيحة، وعلى الثاني الأمر لهم بأن يحذروا ذلك، ومعنى عليهم على المؤمنين في شأن المنافقين على أن الضمير للمؤمنين ولا يبالي بتفكيك الضمائر عند ظهور الأمر لعود المعنى إليه. قاله الكرخي، والأولى أن يكون الضمير للمنافقين أي في شأنهم.
(تنبئهم) أي المنافقين (بما في قلوبهم) مما يسرونه فضلاً عما يظهرونه، وهم وإن كانوا عالمين بما في قلوبهم فالمراد من أنباء السورة لهم اطلاعهم على أن المؤمنين قد علموا بما في قلوبهم قال قتادة: وهذه السورة كانت تسمى الفاضحة والمبعثرة والمثيرة لأنها فضحت المنافقين وبعثرت عن أخبارهم وإثارتها وأسفرت عن مخازيهم ومثالبهم.
ثم أمر الله رسوله بأن يجيب عليهم فقال: (قل استهزِؤوا) هو أمر تهديد ْأي افعلوا الاستهزاء (إن الله مخرج ما تحذرون) من ظهوره حتى يطلع عليه المؤمنون إما بإنزال سورة أو بإخبار رسوله - صلى الله عليه وسلم - بذلك أو نحو ذلك(5/337)
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65)
(ولئن) لام قسم أي والله لئن (سألتهم) عما قالوه من الطعن في الدين وثلب المؤمنين وهم سائرون معك إلى تبوك بعد أن يبلغ إليك ذلك، ويطلعك الله عليه وليقولن(5/337)
إنما كنا نخوض ونلعب) في الحديث لنقطع به الطريق ولم نقصد ذلك، ولم يكن في شيء من أمرك ولا أمر المؤمنين.
ثم أمره الله أن يجيب عنهم فقال: (قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزِؤون) الاستفهام للتقريع والتوبيخ، وأثبت وقوع ذلك منهم ولم يعبأ بإنكارهم لأنهم كانوا كاذبين في الإنكار، بل جعلهم كالمعترفين بوقوع ذلك منهم حيث جعل المستهزأ به والياً لحرف النفي فإن ذلك إنما يكون بعد وقوع الاستهزاء وثبوته. ثم قال:(5/338)
لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (66)
(لا تعتذروا) نهياً لهم عن الاشتغال بالاعتذارات الباطلة فإن ذلك غير مقبول منهم.
وقد نقل الواقدي عن أئمة اللغة أن معنى الاعتذار محو أثر الذنب وقطعه من قولهم اعتذر المنزل إذا درس، واعتذرت المياه إذا انقطعت (قد كفرتم) أي أظهرتم الكفر بما وقع منكم من الاستهزاء المذكور، وفيه أن محمداً يزعم أنه ترك في أصحابنا قرآناً وإنما هو قوله وكلامه، فأطلع الله نبيه صلى الله عليه وسلم على قولهم (بعد إيمانكم) أي بعد إظهاركم الإيمان مع كونكم تبطنون الكفر.
(إن نعف عن طائفة منكم) وهم من أخلص الإيمان وترك النفاق وتاب عنه كجحش بن حمير.
قال الزجاج: الطائفة في اللغة الجماعة، قال ابن الأنباري: ويطلق لفظ الجمع على الواحد عند العرب (نعذب طائفة بأنهم) أي بسبب أنهم وكانوا مجرمين) مصرين على النفاق لم يتوبوا منه.(5/338)
الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (67) وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ(5/339)
الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (67)
(المنافقون) وكانوا ثلثمائة (والمنافقات) وكن مائة وسبعين (بعضهم من بعض) أي متشابهون في الدين كأبعاض الشيء الواحد، ذكر هاهنا جملة أحوال المنافقين وأن ذكورهم في ذلك كإناثهم وأنهم متناهون في النفاق والبعد عن الإيمان، وفيه إشارة إلى نفي أن يكونوا من المؤمنين ورد لقولهم (ويحلفون بالله إنهم لمنكم).
ثم فصل ذلك المجمل ببيان مضادة حالهم لحال المؤمنين فقال: (يأمرون) أي يأمر بعضهم بعضاً (بالمنكر) هو كل قبيح عقلاً أو شرعاً (وينهون عن المعروف) هو كل حسن عقلاً أو شرعاً، قال الزجاج: هذا متصل بقوله يحلفون بالله إنهم لمنكم وما هم منكم، أي ليسوا من المؤمنين ولكن بعضهم من بعض، أي متشابهون في الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف.
(ويقبضون أيديهم) أي يشحون فيما ينبغي إخراجه من المال في الصدقة والصلة والجهاد، فالقبض كناية عن الشح كما أن البسط كناية عن الكرم (نسوا الله فنسيهم) النسيان الترك، أي تركوا ما أمرهم به فتركهم من رحمته وفضله أو تركوا ذكر الله وعبادتة فترك الله ذكرهم فيمن ذكرهم بالرحمة والإحسان. لأن النسيان الحقيقي لا يصح إطلاقه على الله سبحانه، وإنما أطلق عليه هنا من باب المشاكلة المعروفة في علم البيان، فهو مجاز مرسل.
ثم حكم عليهم بالفسق فقال: (إن المنافقين هم الفاسقون) الفسق(5/339)
الخروج عن طاعة الله إلى معاصيه والانسلاخ من كل خير، وهذا التركيب يفيد أنهم هم الكاملون في الفسق والتمرد والإظهار في موضع الإضمار لزيادة التقرير أو للإهانة والتحقير، فإن الإظهار كما يأتي للتعظيم يأتي للتحقير كما نص عليه بعضهم.(5/340)
وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (68)
(وعد الله المنافقين والمنافقات والكفار) يقال وعده في الخير والشر، والاختلاف إنما هو بالمصدر. فمصدر الأول وعد ومصدر الثاني وعيد، فاستعمل وعد في الشر كما هنا وفي الخير فيما سيأتي في قوله: (وعد الله المؤمنين).
ثم بين مآل حال أهل النفاق والكفر بأن لهم (نار جهنم خالدين) أي يصلونها مقيمين (فيها) مقدرين الخلود (هي) أي النار (حسبهم) أي كافيهم جزاء وعقاباً لا يحتاجون إلى زيادة على عذابها (ولعنهم الله) أي ومع ذلك فقد طردهم عن بابه وأبعدهم عن رحمته (ولهم عذاب مقيم) أي نوع آخر من العذاب غير النار دائم لا ينفك ىم كالزمهرير أو عذاب في الدنيا وهو ما يقاسونه من تعب النفاق إذ هم دائماً في حذر من أن يطلع المسلمون على نفاقهم.(5/340)
كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ(5/341)
كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (69)
(كالذين من قبلكم) شبه حال المنافقين بالكفار الذين كانوا من قبلهم ملتفتاً من الغيبة إلى الخطاب، أي أنتم مثل الناس قبلكم أو المعنى فعلتم مثل فعل الذين مضوا من قبلكم من الأمم.
وقال الزجاج: التقدير وعد الله الكفار نار جهنم وعداً كما وعد الذين من قبلهم وقيل المعنى فعلتم كأفعال الذين من قبلكم في ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وقبض الأيدي.
ثم وصف حال هؤلاء الكفار الذين من قبلهم وبين وجه تشبيههم بهم وتمثيل حالهم بحالهم بأنهم (كانوا أشد منكم قوة) أي بطشاً في الأبدان ومنعة من هؤلاء المنافقين والكفار المعاصرين للنبي صلى الله عليه وآله وسلم (وأكثر أموالاً وأولاداً) منكم.
(فاستمتعوا) أي تمتعوا، وفي صيغة الاستفعال ما ليس في صيغة التفعل من الاستزادة والاستدامة في التمتع (بخلاقهم) أي نصيبهم الذي قدره الله لهم من ملاذ الدنيا وخاضوا في الباطل واشتقاقه من الخلق بمعنى التقدير، فإنه ما قدر لصاحبه (فاستمتعتم) أنتم (بخلاقكم) أي نصيبكم الذي قدره الله لكم (كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم) أي انتفعتم به كما انتفعوا به.
والغرض من هذا التمثيل ذم هؤلاء المنافقين والكفار بسبب مشابهتهم بمن قبلهم من الكفار في الاستمتاع بما رزقهم الله من الشهوات الفانية والتشاغل بها عن السعي في العاقبة والسعي في تحصيل اللذائذ الحقيقية.(5/341)
وقد قيل ما فائدة ذكر الاستمتاع بالخلاق في حق الأولين مرة ثم ذكره في حق المنافقين ثانياً ثم تكريره في حق الأولين ثالثاً، وأجيب بأنه تعالى ذم الأولين بالاستمتاع بما أوتوا من حظوظ الدنيا وشهواتها ورضائهم بها وحرمانهم من سعادة الآخرة بسبب استغراقهم في تلك الحظوظ الفانية، فلما قرر تعالى هذا عاد فشبه حال المنافقين بحالهم، فيكون ذلك نهاية في المبالغة في ذم المخاطبين وتقبيح حالهم. ولم يسلك هذه الطريقة في التشبيه الثاني وهو قوله خضتم حيث لم يقل وخاضوا وخضتم كخوضهم اكتفاء بالتمهيد الأول فاستغنى عن ذكر التمهيد في التشبيه الثاني.
قال ابن عباس: ما أشبه الليلة بالبارحة، هؤلاء بنو إسرائيل أشبهناهم والذي نفسي بيده لتتبعنهم حتى لو دخل رجل جحر ضب لدخلتموه.
(وخضتم) في الباطل وتلبستم به (كالذي خاضوا) أي خوضاً كخوضهم أو كالذين خاضوا، أو كالفوج الذي خاضوا، أو كالخوض الذي خاضوه، يقال: خضت الماء أخوضه خوضاً وخياضاً والموضع مخاضة، وهو ما جاز الناس فيه مشاة وركباناً وجمعها المخاض والمخاوض، ويقال منه خاض القوم في الحديث، والمعنى خضتم في أسباب الدنيا واللهو واللعب، وقيل في أمر محمد صلى الله عليه وسلم بالتكذيب، ودخلتم في ذلك.
(أولئك) إشارة إلى كل من المشبهين والمشبه بهم فهي لمجموع الفريقين (حبطت) بطلت (أعمالهم) أي ما عملوه مما هو في صورة طاعة لا هذه الأعمال المذكورة هنا فإنها من المعاصي وعاقبتها غنية عن البيان (في الدنيا والآخرة) أي إنها باطلة على كل حال، أما بطلانها في الدنيا فلأن ما يترتب على أعمالهم فيها من السعة والصحة وغير ذلك لا يحصل لهم بل يصير ما يرجونه من الغنى فقراً، ومن العز ذلاً ومن القوة ضعفاً، وأما في الآخرة فلأنهم يصيرون إلى عذاب النار، ولا ينتفعون بشيء مما عملوه من الأعمال التي يظنونها طاعة وقربة.(5/342)
أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ
(وأولئك هم الخاسرون) أي المتمكنون في الخسران الكاملون فيه في الدنيا والآخرة.(5/343)
أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (70)
(ألم يأتهم) أي المنافقين، رجوع إلى الغيبة عن الخطاب ففيه التفات وهو استفهام بمعنى التقرير والتحذير، أي قد أتاهم (نبأ الذين من قبلهم) أي خبرهم الذي له شأن، وهو ما فعلوه من التكذيب وما فعل بهم من الإهلاك، ولما شبه حالهم بحالهم فيما سلف على الإجمال في المشبه بهم، ذكر منهم هاهنا ست طوائف قد سمع العرب أخبارهم لأن آثارهم باقية، وبلادهم بالشام والعراق واليمن، وكل ذلك قريب من أرض العرب، فكانوا يمرون عليهم ويعرفون أخبارهم.
(قوم نوح) وقد هلكوا بالإغراق وأهلكوا بالطوفان وهم أولهم (و) ثانيهم قوم (عاد) وقد أهلكوا بالريح العقيم (و) ثالثهم قوم (ثمود) وقد أخذوا بالصيحة وأهلكوا بالرجفة (وقوم إبراهيم) وقد سلط الله عليهم البعوض وقيل أهلكوا بسلب النعمة عنهم وهم رابعهم (وأصحاب مدين) وهم قوم شعيب وقد أخذتهم الرجفة وأهلكوا بعذاب يوم الظلة وهي غمامة أطبقت عليهم وهم خامسهم (و) سادسهم أصحاب (المؤتفكات) وهي قرى قوم لوط وقد أهلكهم الله بما أمطر عليهم من الحجارة، فإن كانت مرادة به فهي على حقيقتها وإن كان المراد مطلق قرى المكذبين وهي لم تخسف بأجمعها فيكون المراد به مجازاً انقلاب حالها من الخير إلى الشر تشبيهاً له بالخسف على(5/343)
طريق الاستعارة كقول ابن الرومي:
وما الخسف أن تلقى أسافل بلدة ... أعاليها بل أن تسود الأراذل
وهي بدل من الذين بدل بعض من كل، فقوله: وعاد إلى آخر المعطوفات كلها على قوم نوح لا على نوح غير أن الأخير وهو المؤتفكات على حذف مضاف كما قدرنا إذ هي القرى، وليست من الذين خلوا حتى تكون من جملة البدل، وسميت مؤتفكات لأنها انقلبت بهم حتى صار عاليها سافلها، والائتفاك الانقلاب يقال أفكه إذا قلبه وبابه ضرب، ويقال أفكته فائتفك أي قلبته فانقلب، والمادة تدل على التحول والصرف، ومنه (يؤفك عنه من أفك) أي يصرف.
(آتتهم) استئناف لبيان نبأهم (رسلهم) أي رسل هذه الطوائف الست، وقيل رسل أصحاب المؤتفكات لأن رسولهم لوط وقد بعث إلى كل قرية من قراهم رسولاً (بالبينات) أي المعجزات الباهرات والحجج الواضحات الدالة على صدقهم فكذبوهم وخالفوا أمرنا، فاحذروا أن يصيبكم مثل ما أصابهم، والفاء في (فما كان الله ليظلمهم) للعطف على مقدر يدل عليه الكلام، أي فكذبوهم فأهلكهم الله فما ظلمهم بذلك ولم يعجل العقوبة لهم، لأنه قد بعث إليهم رسله فأنذروهم وحذروهم.
(ولكن كانوا أنفسهم يظلمون) بسبب ما فعلوه من الكفر بالله وعدم الانقياد لأنبيائه، وهذا التركيب يدل على أن ظلمهم لأنفسهم كان مستمراً. وقيل تقديم المفعول لمجرد الاهتمام به مع مراعاة الفاصلة من غير قصد إلى قصر المظلومية عليهم.(5/344)
وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71) وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ(5/345)
وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71)
(والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض) أي قلوبهم متحدة في التوادد والتحابب والتعاطف واتفاق الكلمة والعون والنصر بسبب ما جمعهم من أمر الدين وضمهم من الإيمان بالله. قال ابن عباس: آخاهم في الله يتحابون بجلال الله والولاية له فظهر الفرق بين الفريقين.
ثم بين أوصافهم الحميدة كما بين أوصاف من قبلهم من المنافقين فقال: (يأمرون بالمعروف) أي بما هو معروف في الشرع غير منكر، ومن ذلك توحيد الله سبحانه وترك عبادة غيره (وينهون عن المنكر) أي عما هو منكر في الدين غير معروف أي جنس المعروف وجنس المنكر الشاملين لكل خير وشر، وقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الأحاديث ما هو معروف.
(ويقيمون الصلاة) المفروضة ويتمون أركانها وحدودها فلا يزالون يذكرون الله سبحانه فهو في مقابلة ما سبق من قوله نسوا الله (ويؤتون الزكاة) الواجبة عليهم وهو في مقابلة قوله: (يقبضون أيديهم) قيل خصصهما بالذكر من جملة العبادات لكونهما الركنين العظيمين فيما يتعلق بالأبدان والأموال، وقد تقدم معنى هذا.
(ويطيعون الله ورسوله) في جميع ما أمرهم بفعله أو نهاهم بتركه، وهذا في(5/345)
مقابلة وصف المنافقين بكمال الفسق والخروج عن الطاعة.
(أولئك) يعني المؤمنين والمؤمنات المتصفين بهذه الأوصاف الفاضلة (سيرحمهم الله) السين للمبالغة في إنجاز الوعد والدلالة على تحقق ذلك وتقرره بمعونة المقام كما هنا إذ السين موضوعة للدلالة على الوقوع مع التأخير، فإذا كان المقام ليس مقام تأخير لكونه بشارة ووعداً تمحضت لتأكيد الوقوع أي وقوع ما وعد به من الرحمة والرضوان وما أعد لهم من النعيم المقيتم في الجنان.
(إن الله عزيز) لا يغالب ولا يعجزه شيء عن إنجاز وعده ووعيده (حكيم) في أفعاله وأقواله لا يضع شيئاً إلا في محله، وفيه ترغيب وترهيب وتعليل لقوله سيرحمهم الله.
ثم ذكر تفصيل ما يدخل تحت آثار الرحمة إجمالاً باعتبار الرحمة في الدار الآخرة فقال:(5/346)
وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72)
(وعد الله المؤمنين والمؤمنات) أي كل مؤمن ومؤمنة (جنات تجري من تحتها الأنهار) الإظهار في موضع الإضمار لزيادة التقرير والإشعار بعلية وصف الإيمان للوعد المذكور، ومعنى جري الأنهار من تحت الجنات أنها تجري تحت أشجارها وغرفها، والمراد البساتين التي يتحير في حسنها الناظر.
(خالدين) أي مقدرين الخلود (فيها) وقد تقدم تحقيق الآية في البقرة (ومساكن) أي منازل يسكنون فيها من الدر والياقوت (طيبة) تستطيبها النفوس ويطيب فيها العيش (في جنات عدن) إقامة، يقال عدن بالمكان إذا أقام به ومنه المعدن أي بساتين خلد، وقيل هي أعلى الجنة، وقيل أوسطها، وقيل قصور من ذهب لا يدخلها إلا نبي أو صديق أو شهيد.
وأخرج ابن أبي حاتم والطبري بسنده عن عمران وابن مردويه عن الحسن قال: سألت عمران بن حصين وأبا هريرة عن تفسير قوله تعالى:(5/346)
(ومساكن طيبة في جنات عدن) وقالا: على الخبير سقطت، سألنا عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: قصر من لؤلؤة في الجنة في ذلك القصر سبعون داراً من ياقوتة حمراء في كل دار سبعون بيتاً من زمردة خضراء في كل بيت سبعون سريراً على كل سرير سبعون فراشاً من كل لون على كل فراش امرأة من الحور العين في كل بيت سبعون مائدة في كل مائدة سبعون لوناً من كل طعام في كل بيت سبعون وصيفاً ووصيفة فيعطى المؤمن من القوة في كل غداة واحدة ما يأتي على ذلك كله أجمع: قلت: ووصف الله الجنة هنا بأوصاف.
الأول: جري الأنهار من تحتها ليميل الطبع إليها.
والثاني: أنهم فيها خالدون لا يعتريهم فيها فناء ولا تغيير.
والثالث: طيب مساكنها الخالية عن الكدورات، والرابع: أنها ذات عدن أي إقامة غير منقطعة، هذا على ما هو معنى عدن لغة وقيل هو علم.
قال الرازي: والحاصل أن في عدن قولين: أحدهما أنه اسم علم لموضع معين في الجنة، والآثار والأخبار تقوي ذلك، وقال الزمخشري: أنه علم بدليل قوله جنات عدن التي وعد الرحمن عباده. والثاني أنه صفة للجنة بمعنى إقامة، فبهذا الاشتقاق قالوا الجنات كلها عدن، والأحاديث في صفة الجنات وأصنافها كثيرة، وقد أوضحت المقام في كتابي مثير ساكن الغرام إلى روضات دار السلام فليرجع إليه.
(ورضوان) يسير (من الله أكبر) من ذلك كله الذي أعطاهم الله إياه إذ عليه يدور فوز كل خير وسعادة، وبه يناط كل شرف وسيادة، ولعل عدم نظمه في سلك الموعود به مع عزته في نفسه لأنّه متحقق في ضمن كل موعود، ولأنه مستمر في الدارين.(5/347)
وفيه دليل على أنه لا شيء من النعم وإن جلت وعظمت يماثل رضوان الله سبحانه، وإن أدنى رضوان الله لا يساويه شيء من اللذات الجسمانية وإن كانت على غاية ليس وراءها غاية، اللهم ارض عنا رضاً لا يشوبه سخط، ولا يكدره نكد يا من بيده الخير دقه وجله.
(ذلك) أي ما تقدم مما وعد الله به المؤمنين والمؤمنات (هو الفوز العظيم) دون كل فوز مما يعده الناس فوزاً من حطام الدنيا، وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما من حديث أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " إن الله يقول لأهل الجنة يا أهل الجنة، فيقولون لبيك ربنا وسعديك والخير في يديك، فيقول هل رضيتم؛ فيقولون ربنا وما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعطه أحداً من خلقك، فيقول ألا أعطيكم أفضل من ذلك، قالوا: يا ربنا وأي شيء أفضل من ذلك، قال: أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبداً " (1).
_________
(1) مسلم 2829 - البخاري 2458.(5/348)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (73) يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ(5/349)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (73)
(يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين) الأمر للنبي صلى الله عليه وسلم بهذا الجهاد أمر لأمته من بعده، وجهاد الكفار يكون بمقاتلتهم بالسيف والسنان حتى يسلموا، وجهاد المنافقين يكون بإقامة الحجة عليهم باللسان والبيان حتى يخرجوا عنه ويؤمنوا بالله، وبه قال ابن مسعود، قال الحسن: إن جهاد المنافقين بإقامة الحدود عليهم، واختاره قتادة، قيل في توجيهه إن المنافقين كانوا أكثر من يفعل موجبات الحدود.
قال ابن العربي: إن هذه دعوى لا برهان عليها وليس العاصي بمنافق، إنما المنافق بما يكون في قلبه من النفاق دائماً لا بما يتلبس به الجوارح ظاهراً، وأخبار المحدودين تشهد سياقتها أنهم لم يكونوا منافقين. وقال الطبري: أولى الأقوال قول ابن مسعود لأن الجهاد عبارة عن بذل الجهد، وقد دلت الآية على وجوب جهاد المنافقين، وليس في الآية ذكر كيفية ذلك الجهاد فلا بد من دليل آخر، وقد دلت الدلائل المنفصلة أن الجهاد مع الكفار إنما يكون بالسيف، ومع المنافقين بإظهار الحجة عليهم تارة، وبترك الرفق بهم تارة، وبالانتهار تارة، وهذا هو قول ابن مسعود.
(واغلظ) أي شدد (عليهم) أي الفريقين بالانتهار والمقت والجهاد، وأصل الغلظ قبض الرأفة وهو شدة القلب وخشونة الجانب، قيل وهذه الآية(5/349)
نسخت كل شيء من العفو والصلح والصفح (ومأواهم) أي مسكنهم (جهنم) قال أبو البقاء: إن قيل كيف حسنت الواو هنا والفاء أشبه بهذا الموضع، ففيه ثلاثة أجوبة.
أحدها: أن الواو واو الحال وتلك الحال حال كفرهم، والتقدير افعل ذلك في حال استحقاقهم جهنم. والثاني تقديره واعلم أن مأواهم جهنم. والثالث أن الكلام قد حمل على المعنى، والمعنى أنه قد اجتمع لهم عذاب الدنيا بالجهاد والغلظة وعذاب الآخرة، فيجعل جهنم مأواهم، قال السمين: ولا حاجة إلى هذا كله بل هذه جملة استئنافية. قال أبو السعود: مستأنفة لبيان مآل أمرهم بعد بيان عاجله (وبئس المصير) مصيرهم إليها.
ثم ذكر من خصال المنافقين أنهم يحلفون الأيمان الكاذبة فقال:(5/350)
يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (74)
(يحلفون بالله ما قالوا) استئناف مسوق لبيان ما صدر عنهم من الجرائم الموجبة للأمر بجهادهم والغلظة عليهم.
وقد اختلف أئمة التفسير في سبب نزول هذه الآية، فقيل نزلت في الجلاس ابن سويد بن الصامت ووديعة بن ثابت، وذلك أنه لما كثر نزول القرآن في غزوة تبوك في شأن المنافقين وذمهم فقالا: لئن كان محمد صادقاً على إخواننا الذين هم سادتنا وخيارنا لنحن شر من الحمير، فقال له عامر بن قيس أجل والله إن محمداً لصادق مصدق، وإنك لشر من الحمار، وأخبر عامر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم، وجاء الجلاس فحلف بالله أن عامراً لكاذب، وحلف عامر لقد قال، وقال: اللهم أنزل على نبيك شيئاً فنزلت. وقيل إن الذي سمع ذلك عاصم بن عدي وقيل حذيفة.
وقيل بل سمعه ولد امرأته -أي امرأة الجلاس- واسطه عمير بن سعد فهمّ الجلاس بقتله لئلا يخبر بخبره.(5/350)
وقيل إن هذه الآية نزلت في عبد الله بن أبيّ رأس المنافقين لما قال ما مثلنا ومثل محمد إلا كما قال القائل سمّن كلبك يأكلك، لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، فجاء عبد الله بن أبيّ فحلف أنه لم يقله.
وقيل أنه قول جميع المنافقين، وإن الآية نزلت فيهم، وعلى تقدير أن القائل واحد أو اثنان فنسبة القول إلى جميعهم هي باعتبار موافقة من لم يقل ولم يحلف من المنافقين لمن قد قال وحلف، وفي الباب أحاديث مختلفة في سبب نزول هذه الآية وفيما ذكرناه كفاية.
ثم رد الله على المنافقين وكذبهم وبين أنهم حلفوا كذباً فقال: (ولقد قالوا كلمة الكفر) وهي ما تقدم بيانه على اختلاف الأقوال السابقة (وكفروا بعد إسلامهم) أي كفروا بهذه الكلمة بعد إظهارهم الإسلام وإن كانوا كفاراً في الباطن، والمعنى أنهم فعلوا ما يوجب كفرهم على تقدير صحة إسلامهم.
(وهموا بما لم ينالوا) قيل هو همهم بقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة في غزوة تبوك وهم بضعة عشر رجلاً فضرب عمار بن ياسر، وفي قول حذيفة بن اليمان وجوه الرواحل لما غشوه فرجعوا، والقصة مبسوطة في سيرة الحلبي وغيرها، وقيل هموا بعقد التاج على رأس عبد الله بن أبيَّ، وقيل هو همَّ الجلاس بقتل من سمعه يقول تلك المقالة فأخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
(وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله) أي ما عابوا وأنكروا وكرهوا إلا ما هو حقيق بالمدح والثناء، وهو إغناء الله لهم من فضله، والاستثناء مفرغ من أعم العام فهو من تأكيد المدح بما يشبه الذم، وقد كان هؤلاء المنافقون في ضيق من العيش فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة اتسعت معيشتهم وكثرت أموالهم، فجعلوا موضع شكر النبي صلى الله عليه(5/351)
وسلم النقمة، وقيل إنهم بطروا النعمة أشراً.
(فإن يتوبوا) أي فإن تحصل منهم التوبة والرجوع إلى الحق (يك) ذلك الذي فعلوه من التوبة (خيراً لهم) في الدين والدنيا، وقد تاب الجلاس ابن سويد وحسن إسلامه، وفي ذلك دليل على قبول التوبة من المنافق والكافر، وقد اختلف العلماء في قبولها من الزنديق، فمنع قبولها مالك وأتباعه لأنه لا يعلم صحة توبته إذ هو في كل حين يظهر التوبة والإسلام.
(وإن يتولوا) أي يعرضوا عن التوبة والإيمان ويصروا على النفاق والكفر (يعذبهم الله عذاباً أليماً في الدنيا) بالقتل والأسر ونهب الأموال عاجلاً فلا ينافي ما سبق من أن قتالهم باللسان والحجة لا بالسيف، لأن ذاك إذا لم يظهروا الكفر بل أظهروا الإيمان (و) في (الآخرة) بعذاب النار آجلاً (وما لهم في الأرض) مع سعتها وتباعد أقطارها وكثرة أهلها (من ولي) يواليهم (ولا نصير) ينصرهم.(5/352)
وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (76) فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ(5/353)
وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75)
(ومنهم من عاهد الله لئن) هي لام قسم أي والله لئن (آتانا من فضله) بأن يوسع علينا في الرزق (لنصدَّقنَّ) هي لام الجواب للقسم وحذف جواب الشرط لدلالة هذا الجواب عليه، ولا يمتنع الجمع بين القسم واللام الموطئة له، أي لنخرج من ذلك المال الصدقة وهي أعم من المفروضة وغيرها (ولنكونن من الصالحين) أي من جملة أهل الصلاح من المؤمنين القائمين بواجبات الدين التاركين لمحرماته، والصلاح ضد الفساد، والمفسد هو الذي يبخل بما يلزمه في حكم الشرع.(5/353)
فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (76)
(فلما آتاهم من فضله بخلوا به) أي لما أعطوهم ما طلبوا من الرزق لم يتصدقوا بشيء منه كما حلفوا به (وتولوا) أي أعرضوا عن طاعة الله وإخراج صدقات ما أعطاهم الله من فضله (وهم) أي والحال أنهم (معرضون) وفي جميع الأوقات قبل أن يعطيهم الله ما أعطاهم من الرزق وبعده.
عن ابن عباس قال: ذلك أن رجلاً كان يقال له ثعلبة من الأنصار أتى مجلساً فأشهدهم فقال: لئن آتاني الله من فضله آتيت كل ذي حق حقه وتصدقت منه، وجعلت منه للقرابة، فابتلاه الله فآتاه من فضله فأخلف ما وعده فأغضب الله بما أخلف ما وعده، فقص الله شأنه في القرآن.
وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وغيرهم هذه القصة بأطول من هذا جداً، وفيه قال: يعني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم له -يا ثعلبة قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه، فقال ادع الله أن يرزقني مالاً، فقال اللهم ارزقه مالاً، فاتخذ غنماً فنمت كما تنمى الدود حتى ضاقت بها(5/353)
المدينة فتنحى بها فكان يشهد الصلاة بالنهار مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يشهدها بالليل، ثم نمت حتى لا يشهد جمعة ولا جنازة. الحديث (1).
_________
(1) ابن كثير 2/ 374 (الحديث بطوله).(5/354)
فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (77)
(فأعقبهم) الله سبحانه (نفاقاً في قلوبهم) بسبب البخل الذي وقع منهم والإعراض نفاقاً كائناً في قلوبهم متمكناً منها مستمراً فيها (إلى يوم يلقونه) أي الله عز وجل، وقيل أن الضمير يرجع إلى البخل، أي فأعقبهم البخل بما عاهدوا الله عليه إلى يوم يلقون البخل أي جزاء بخلهم، يعني أن الله سبحانه جعل النفاق المتمكن في قلوبهم إلى تلك الغاية عاقبة ما وقع منهم من البخل.
(بما أخلفوا الله ما وعدوه) الباء للسببية أي بسبب إخلافهم لما وعدوه من التصدق والصلاح وكذلك الباء في (وبما كانوا يكذبون) أي وبسبب تكذيبهم لما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " آية المنافق ثلاث إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا ائتمن خان " (1)، وعن ابن عمرو ابن العاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كانت فيه خلة كانت فيه خصلة من نفاق حتى يدعها "، الحديث وفيه: " إذا خاصم فجر " (2).
_________
(1) مسلم 59 - البخاري 31.
(2) مسلم 58 - البخاري 32.(5/354)
أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (78) الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
ثم أنكر عليهم فقال:(5/355)
أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (78)
(ألم يعلموا) أي المنافقون (إن الله يعلم سرهم ونجواهم) أي جميع ما يسرونه من النفاق وما يتناجون به فيما بينهم من الطعن على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى أصحابه وعلى دين الإسلام (وأن الله علام الغيوب) أي ما غاب عن العيان فلا يخفى عليه شيء من الأشياء المغيبة كائناً ما كان، ومن جملة ذلك ما يصدر عن المنافقين.(5/355)
الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (79)
(الذين يلمزون) أي يعيبون وقال قتادة يطعنون (المطوّعين) أي المتطوعين والتطوع التبرع والتنفل بما ليس بواجب (من المؤمنين في الصدقات) والمعنى أن المنافقين كانوا يعيبون المسلمين إذا تطوعوا بشيء من أموالهم وأخرجوه للصدقة فكانوا يقولون ما أغنى الله عن هذا ويقولون ما فعلوا هذا إلا رياء ولم يكن لله خالصاً.
أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن مسعود قال: لما نزلت آية الصدقة كنا نتحامل على ظهورنا فجاء رجل فتصدق بشيء كثير فقالوا مراء، وجاء أبو عقيل بنصف صاع فقال المنافقون: إن الله لغني عن صدقة هذا فنزلت هذه الآية، وفي الباب روايات كثيرة.
(والذين لا يجدون إلا جهدهم) بالضم الطاقة وهي لغة أهل الحجاز وبالفتح لغيرهم وهي المشقة، وقيل هما لغتان ومعناهما واحد، وفي القرطبي: الجهد شيء يسير يعيش به المقل، وقد تقدم بيان ذلك، والمعنى أن المنافقين كانوا يعيبون المؤمنين الذين كانوا يتصدقون بما فضل عن كفايتهم.(5/355)
(فيسخرون منهم) أي يستهزئون بهم لحقارة ما يخرجونه في الصدقة مع كون ذلك جهد المقل وغاية ما يقدر عليه ويتمكن منه، يقال سخرت منه سخراً من باب تعب هزئت به، والسخري بالكسر اسم منه وبالضم لغة فيه، والسخرة وزان غرفة ما سخرت من خادم أو جارية أو دابة بلا أجر ولا ثمن، والسخري بالضم بمعناه وسخرته في العمل بالتثقيل استعملته مجاناً، وسخر الله الإبل ذللها وسهلها ومنه سخر لنا هذا وما كنا لَهُ مقرنين.
(سخر الله منهم) أي جازاهم على ما فعلوه من السخرية بالمؤمنين بمثل ذلك فسخر الله منهم بأن أهانهم وأذلهم وعذبهم، والتعبير بذلك من باب المشاكلة كما في غيره، وقيل هو دعاء عليهم بأن يسخر الله بهم كما سخروا بالمسلمين (ولهم عذاب أليم) أي ثابت مستمر شديد الألم في الآخرة.(5/356)
اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ(5/357)
اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (80)
(استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم) أخبر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم بأن صدور الاستغفار منه للمنافقين وعدمه سواء، فهذا كلام خرج مخرج الأمر ومعناه الخبر، وذلك لأنهم ليسوا بأهل الاستغفار منه صلى الله عليه وسلم ولا للمغفرة من الله سبحانه فهو كقوله تعالى (قل أنفقوا طوعاً أو كرهاً لن يتقبل منكم) وفيه بيان لعدم المغفرة من الله سبحانه للمنافقين وإن أكثر النبي صلى الله عليه وسلم من الاستغفار لهم. وليس المراد من هذا أنه لو زاد على السبعين لكان ذلك مقبولاً كما في سائر مفاهيم الأعداد، بل المراد بهذا المبالغة في عدم القبول فقد كانت العرب تجري ذلك مجرى المثل في كلامها عند إرادة التكثير، والمعنى أنه لن يغفر الله لهم وإن استغفرت لهم استغفاراً بالغاً في الكثرة غاية المبالغ.
وقد ذهب بعض الفقهاء إلى أن التقييد بهذا العدد المخصوص يفيد قبول الزيادة عليه، ويدل لذلك ما أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن عروة أن عبد الله ابن أبيَّ قال: لولا أنكم تنفقون على محمد وأصحابه لانفضوا من حوله، وهو القائل (ليخرجن الأعز منها الأذل) فأنزل الله واستغفر لهم أو لا تستغفر (لهم) فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لأزيدن على السبعين، فأنزل الله (سواء عليهم استغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم) وعن مجاهد وابن عباس نحوه.
قال الضحاك: لما نزلت هذه الآية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله قد رخص لي فسأزيد على السبعين، لعل الله أن يغفر لهم فأنزل الله (سواء عليهم) الآية، يعني فبين له حسم المغفرة.(5/357)
ومعلوم أنه لم يخف عليه ذلك وإنما أراد بما قال إظهار كمال رحمته ورأفته بمن بعث إليهم، وفيه لطف بأمته وحث على المراحم وشفقة بعضهم على بعض، وهذا دأب الأنبياء كما قال إبراهيم (ومن عصاني فإنك غفور رحيم).
وذكر بعضهم لتخصيص السبعين وجهاً وليس بشيء فقال أن السبعة عدد شريف لأنها عدد السموات والأرضين والبحار والأقاليم والنجوم السيارة والأعضاء وأيام الأسبوع، فصير كل واحد من السبعة إلى عشرة لأن الحسنة بعشرة أمثالها.
وقيل خصت السبعون بالذكر لأنه صلى الله عليه وسلم كبر على عمه حمزة سبعين تكبيرة فكأنه قال أن تستغفر لهم سبعين مرة بإزاء تكبيراتك على حمزة وهذا كالذي قبله.
ثم علل عدم المغفرة لهم بقوله: (ذلك) الامتناع ليس لعدم الاعتداد باستغفارك بل (بأنهم كفروا بالله ورسوله) ولفظ الكرخي ذلك اليأس من الغفران لهم بسبب أنهم كفروا لا ببخل منا أو قصور فيك، بل لعدم قابليتهم بسبب الكفر الصارف عنه. اهـ.
(والله لا يهدي القوم الفاسقين) أي المتمردين الخارجين عن الطاعة المتجاوزين لحدودها، والمراد هنا الهداية الموصلة إلى المطلوب لا الهداية التي بمعنى الدلالة وإراءة الطريق.(5/358)
فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ (81) فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ
ثم ذكر سبحانه نوعاً آخر من قبائح المنافقين فقال(5/359)
فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ (81)
(فرح المخلفون) وهم المتروكون وهم الذين استأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من المنافقين فأذن لهم وخلفهم بالمدينة في غزوة تبوك أو الذين خلفهم الله وثبطهم أو الشيطان أو نفاقهم أو كسلهم أو المؤمنون (بمقعدهم) أي بقعودهم، يقال قعد قعوداً ومقعداً أي جلس وأقعده غيره، ذكر معناه الجوهري (خلاف رسول الله) فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه منصوب على المصدر أي تخلفوا خلاف رسول الله والثاني: أنه مفعول من أجله أي فرحوا لأجل مخالفتهم رسول الله أو بقعودهم لمخالفتهم له، وإليه ذهب الطبري والزجاج، ويؤيده قراءة خلف بضم الخاء وسكون اللام والثالث أن ينتصب على الظرف أي بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقال أقام زيد خلاف القوم أي تخلف بعد ذهابهم، وخلاف أن يكون ظرفاً، وإليه ذهب أبو عبيدة وعيسى بن عمر.
قال الأخفش ويونس: الخلاف بمعنى الخلف، وذلك أن جهة الأمام التي يقصدها الإنسان تخالفها جهة الخلف، وقال قطرب: معنى خلاف رسول الله مخالفة الرسول. حين سار إلى تبوك وأقاموا أي قعدوا لأجل المخالفة أو مخالفين له (وكرهوا أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله) لكمال شحهم بالأموال والأنفس، وعد وجود باعث الإيمان وداعي الإخلاص، ووجود الصارف عن ذلك وهو ما هم فيه من النفاق، وفيه تعريض بالمؤمنين الباذلين لأموالهم(5/359)
وأنفسهم في سبيل الله لوجود الداعي معهم وانتفاء الصارف عنهم، وفي الخازن وكرهوا الخروج إلى الجهاد، وذلك أن الإنسان يميل بطبعه إلى إيثار الراحة والقعود مع الأهل والولد ويكره إتلاف النفس والمال.
(وقالوا) أي قال المنافقون لإخوانهم (لا تنفروا في الحر) تثبيطاً لهم وكسراً لنشاطهم وتواصياً بينهم بالمخالفة لأمر الله ورسوله، وكانت غزوة تبوك في شدة الحر والقحط، فأمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بقوله: (قل نار جهنم أشد حراً) المعنى أنكم أيها المنافقون كيف تفرون من هذا الحر اليسير، ونار جهنم التي ستدخلونها خالدين فيها أبداً أشد حراً مما فررتم منه، فإنكم إنما فررتم من حر يسير في زمن قصير، ووقعتم في حر كثير في زمن كبير، بل غير متناه أبد الآبدين ودهر الداهرين.
(لو كانوا يفقهون) أنها كذلك لما فعلوا ما فعلوا، وهذا اعتراض تذييلي من جهته تعالى غير داخل تحت القول المأمور به مؤكد لمضمونه.(5/360)
فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82)
(فليضحكوا قليلاً وليبكوا كثيراً) هذان الأمران معناهما الخبر والمعنى فسيضحك هؤلاء الذين تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قليلاً بالنسبة للبكاء في الآخرة وإن كان كثيراً في نفسه لأن الدنيا فانية والآخرة باقية، والمنقطع الفاني بالنسبة إلى الدائم الباقي قليل، ويبكون كثيراً، وإنما جيء بهما على لفظ الأمر للدلالة على أن ذلك أمر محتوم لا يكون غيره، والتقدير ضحكاً قليلاً وبكاء كثيراً أو زماناً قليلاً وزماناً كثيراً.
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً " (1) أخرجه البخاري.
(جزاء بما كانوا يكسبون) من المعاصي، والمعنى يجزون جزاء، أو سبب الأمر بقلة الضحك وكثرة البكاء جزاؤهم بعملهم.
_________
(1) البخاري كتاب الكسوف باب 2.(5/360)
فإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ (83) وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ (84) وَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ(5/361)
فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ (83)
(فإن رجعك الله) الرجع متعد كالرد والرجوع لازم واللازم من باب جلس والمتعدي من باب قطع وفي الكرخي معنى الرجوع تصيير الشيء إلى المكان الذي كان فيه، يقال رجعته رجعاً كقولك رددته رداً والفاء لتفريع ما بعدها على ما قبلها.
وإنما قال (إلى طائفة منهم) لأن جميع من أقام بالمدينة لم يكونوا منافقين بل كان فيهم غيرهم من المؤمنين لهم أعذار صحيحة، وفيهم من المؤمنين من لا عذر له، ثم عفا عنهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتاب الله عليهم كالثلاثة الذين خلفوا، وسيأتي بيان ذلك.
وقيل إنما قال: (إلى طائفة) لأن منهم من تاب عن النفاق وندم على التخلف، وفي البيضاوي أن المتخلفين كانوا اثني عشر رجلاً.
(فاستأذنوك للخروج) معك في غزوة أخرى بعد غزوتك هذه (فقل) لهم إخراجاً لهم عن ديوان الغزاة وإبعاداً لمحلهم عن محفل صحبتك (لن تخرجوا معي أبداً) إلى غزوة ولا إلى سفر، وهذا إخبار في معنى النهي للمبالغة (ولن تقاتلوا معي عدوا) أي قل لهم ذلك عقوبة لهم ولما في استصحابهم من المفاسد كما تقدم في قوله (لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالاً).
(إنكم رضيتم بالقعود) تعليل أي لن تخرجوا معي ولن تقاتلوا لأنكم(5/361)
رضيتم بالقعود والتخلف (أول مرة) وهي غزوة تبوك، والفاء في (فاقعدوا مع الخالفين) لتفريع ما بعدها على ما قبلها، والخالفين جمع خالف كأنهم اخلفوا الخارجين، والمراد بهم من تخلف عن الخروج بعد القوم، وقيل المعنى فاقعدوا مع الفاسدين، من قولهم فلان خالف أهل بيته إذا كان فاسداً فيهم.
ومن ذلك خلف اللبن أي فسد بطول المكث في السقاء، ذكر معناه الأصمعي وقرئ مع الخلفين، قال الفراء: معناه المخالفين، قيل المراد بهم النساء والصبيان والرجال العاجزون، فلذلك جاز جمعه للتغليب.
وقال قتادة: الخالفون النساء وهو مردود لأجل الجمع، قال ابن عباس: الخالفين هم الرجال الذين تخلفوا عن الغزو بغير عذر، وفي الآية دليل على أن الرجل إذا ظهر منه مكروه وخداع وبدعة يجب الانقطاع عنه وترك مصاحبته.(5/362)
وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ (84)
(ولا تصلّ على أحد منهم مات أبداً) يعني صلاة الجنازة (ولا تقم على قبره) قال الزجاج: معناه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا دفن الميت وقف على قبره ودعا له فمنع هاهنا منه، وقيل معناه لا تقم بمهمات إصلاح قبره. ولا تتول دفنه، ولما نزلت هذه الآية ما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على منافق ولا قام على قبره بعدها.
(إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون) تعليل للنهي عن الصلاة والقيام على قبره، وإنما وصفهم بالفسق بعد وصفهم بالكفر لأن الكافر قد يكون عدلاً في دينه بأن يؤدي الأمانة، ولا يضمر لأحد سوءاً، وقد يكون خبيثاً في نفسه كثير الكذب والمكر والنفاق والخداع والجبن وإضمار السوء للغير والخبث وهي مستقبحة في كل دين عند كل أحد.
وقد أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن عمر قال: لما توفي عبد الله(5/362)
بن أبي ابن سلول أتى ابنه عبد الله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله أن يعطيه قميصه ليكفنه فيه فأعطاه ثم سأله أن يصلي عليه فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام عمر فأخذ ثوبه فقال: يا رسول الله أتصلي عليه وقد نهاك الله أن تصلي على المنافقين فقال: " إن الله خيرني وقال (استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم) وسأزيد على السبعين، فقال إنه منافق فصلى عليه فأنزل الله (ولا تصل على أحد منهم مات أبداً) الآية فترك الصلاة عليهم (1)، والحديث له ألفاظ في الصحاح والسنن.
وكان ابن أبيّ رئيس الخزرج وينسب لأبيه وأمه فأبوه أبيّ وأمه سلول وكان اسمه عبد الله.
_________
(1) مسلم 2400 - البخاري 675.(5/363)
وَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (85)
(ولا تعجبك) نهى رسوله أن تعجبه (أموالهم وأولادهم إنما يريد الله أن يعذبهم بها في الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون) هذا تكرير لما سبق في هذه السورة وتقرير لمضمونه وإرادة أن يكون المخاطب به على بال ولا ينساه، وإن يعتقد أن العمل به مهم، وقيل أن الآية المتقدمة في قوم وهذه في آخرين، وقيل هذه في اليهود والأولى في المنافقين وقيل غير ذلك.
وقد تقدم في الآية الأولى جميع ما يحتاج إليه في تفسير هذه الآية، وذكر في الخازن ما حصل من التفاوت في الألفاظ في هاتين الآيتين ولا يأتي بكثير فائدة.(5/363)
وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُو الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ (86) رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (87) لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ
ثم عاد الله سبحانه إلى توبيخ المنافقين فقال:(5/364)
وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُو الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ (86)
(وإذا أنزلت سورة) أي طائفة من القرآن، ويجوز أن يراد بعض السورة وأن يراد تمامها وقيل هي هذه السورة (أن آمنوا بالله وجاهدوا مع رسوله) الخطاب للمنافقين أي أخلصوا في إيمانكم وجهادكم، وإنما قدم الأمر بالإيمان لأن الاشتغال بالجهاد لا يفيد إلا بعد الإيمان.
(استأذنك أولوا الطول منهم) أي ذوو الفضل والسعة والقدرة وأهل الغنى والثروة، من طال عليه طولاً، كذا قال ابن عباس والحسن، وقال الأصم: هم الرؤساء والكبراء المنظور إليهم، وخصهم بالذكر. لأن الذم لهم ألزم إذ لا عذر لهم في القعود، ولأن العاجز عن السفر والجهاد لا يحتاج إلى الاستئذان.
(وقالوا) عطف تفسيري (ذرنا) أي اتركنا (نكن مع القاعدين) أي المتخلفين عن الغزو من المعذورين كالضعفاء والزَّمْنَى.(5/364)
رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (87)
(رضوا بأن يكونوا مع الخوالف) استئناف لبيان سوء صنيعهم، والخوالف جمع خالفة ولذا قيل الخوالف النساء اللاتي يخلفن الرجال في القعود في البيوت، وجوز بعضهم أن يكون جمع خالف وهو من لا خير فيه وهو مردود، فإن فواعل لا يكون جمعاً لفاعل وصفاً لعاقل إلا ما شذ من نحو(5/364)
فوارس ونواكس وهوالك، وقال النحاس: يجوز أن تكون من صفة الرجال بمعنى أنها جمع خالفة يقال رجل خالفة أي لا خير فيه، فعلى هذا يكون جمعاً للذكور باعتبار لفظه.
(وطبع على قلوبهم) كقوله ختم الله على قلوبهم وقد مر تفسيره (فهم لا يفقهون) شيئاً مما فيه نفعهم وضرهم بل هم كالأنعام أي لا يفهمون الخير الذي في الجهاد ولا الشر الذي في التخلف.(5/365)
لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (88)
(لكن الرسول والذين آمنوا معه جاهدوا بأموالهم وأنفسهم) المقصود من الاستدراك الإشعار بأن تخلف هؤلاء غير ضائر فإنه قد قام بفريضة الجهاد من هو خير منهم وأخلص نية كما في قولة: (فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوماً ليسوا بها بكافرين) وقد تقدم بيان الجهاد بالأموال والأنفس.
ثم ذكر منافع الجهاد فقال: (وأولئك لهم الخيرات) جمع خير فيشمل منافع الدنيا والدين من النصر والغنيمة والجنة والكرامة، وقيل المراد بها النساء الحسان أي الحور، قاله الحسن كقوله تعالى: (فيهن خيرات حسان) ومفرده خيرة بالتشديد ثم خففت مثل هينة وهينة (وأولئك هم المفلحون) قد تقدم معنى الفلاح والمراد بهم هنا الفائزون بالمطلوب وتكرير اسم الإشارة لتفخيم شأنهم وتعظيم أمرهم.(5/365)
أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (89) وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ(5/366)
أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (89)
(أعد الله لهم) استئناف لبيان كونهم مفلحين (جنات) أي بساتين (تجري من تحتها الأنهار) قد تقدم بيان جري الأنهار من تحتها (خالدين فيها) قد سبق بيان الخلود والفوز الآتي أيضا (ذلك) أي ما تقدم من الخيرات والفلاح ونيل الكرامة العظمى وإعداد الجنات الموصوفة بتلك الصفة (الفوز العظيم) ووصف الفوز بكونه عظيماً يدل على أنه الفرد الكامل من أنواع الفوز.(5/366)
وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (90)
(وجاء المعذرون من الأعراب) قرئ بالتخفيف من أعذر، وكان ابن عباس يقرؤها مخففة ويقول والله هكذا أنزلت، قال النحاس: إلا أن مدارها على الكلبي يقال أعذر إذا بالغ في العذر، ومنه من أنذر فقد أعذر.
وقرأ الجمهور بالتشديد وفيه وجهان (أحدهما) أن يكون أصله المعتذرون وهم الذين لهم عذر فالمعذرون على هذا هم المحقون في اعتذارهم، وقد روي هذا عن الفراء والزجاج وابن الأنباري وأبي عبيد والأخفش وأبي حاتم، وقيل هو من عذر وهو الذي يعتذر ولا عذر له يقال عذر في الأمر إذا قصر فيه واعتذر بما ليس بعذر، ذكره الجوهري وصاحب الكشاف.
فالمعذرون على هذا هم المبطلون لأنهم اعتذروا بأعذار كاذبة باطلة لا أصل لها، والمعنى أنه جاء هؤلاء من الأعراب بما جاءوا به من الأعذار بحق أو بباطل على كلا التفسيرين، قال الضحاك: هم رهط عامر، وقيل من أسد وغطفان، وقال ابن عباس: هم الذين تخلفوا بعذر.(5/366)
وهذا شروع في بيان أحوال منافقي الأعراب إثر بيان أحوال منافقي أهل المدينة والأعراب سكان البادية وهم أخص من العرب إذ العربي من تكلم باللغة العربية سواء كان يسكن البادية أو الحاضرة، وقد اختلف في أنهم كانوا معتذرين بالتصنع أو بالصحة.
(ليؤذن لهم) أي لأجل أن يأذن لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالتخلف عن الغزو (وقعد) طائفة أخرى لم يعتذروا بل قعدوا عن الغزو بغير عذر وهم منافقو الأعراب (الذين كذبوا الله ورسوله) بالتخفيف أي كذبوا في ادعاء إيمانهم وبالتشديد أي لم يؤمنوا ولا صدقوا ما جاء به الرسول عن ربه ولا امتثلوا أمره.
قال أبو إسحاق: ذكر لي أنهم نفر من بني غفار جاءوا فاعتذروا، منهم خفاف بن إيماء، وقيل هم رهط عامر بن الطفيل قالوا إن غزونا معك أغارت أعراب طي على أهالينا ومواشينا، وقيل منافقو الأعراب قسمان: قسم جاءوا واعتذروا بالأعذار الكاذبة وقسم لم يجىء ولم يعتذر.
ثم توعدهم سبحانه فقال: (سيصيب الذين كفروا منهم) أي من الأعراب وهم الذين اعتذروا بالأعذار الباطلة والذين لم يعتذروا بل كذبوا الله ورسوله. وأتى بمن التبعيضية، لأن منهم من أسلم فلم يصبه العذاب (عذاب أليم) أي كثير الألم فيصدق على عذاب الدنيا بالقتل والأسر، وعذاب الآخرة بالنار المؤبدة.(5/367)
لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (91)
(لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)
ولما ذكر سبحانه المعذرين ذكر بعدهم أهل الأعذار الصحيحة المسقطة للغزو، وبدأ بالعذر في أصل الخلقة فقال: (ليس على الضعفاء) وهم أرباب الزمانة والهرم والعمى والعرج ونحو ذلك كالشيوخ والصبيان والنساء ومن خلق في أصل الخلقة ضعيفاً نحيفاً، والضعفاء جمع ضعيف، وهو الصحيح في بدنه العاجز عن الغزو.
ئم ذكر العذر العارض فقال: (ولا على المرضى) المراد بالمرض كل ما يصدق عليه اسم المرض لغة أو شرعاً، وقيل أنه يدخل في المرضى الأعمى والأعرج ونحوهما. ثم ذكر العذر الراجع إلى المال لا إلى البدن فقال: (ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج) أي ليست لهم أموال ينفقونها فيما يحتاجون إليه من التجهز للجهاد لفقرهم، كجهينة ومزينة وبني عذرة، فنفى سبحانه عن هؤلاء الثلاثة الحرج، وأبان أن الجهاد مع هذه الأعذار ساقط عنهم غير واجب عليهم مقيداً بقوله: (إذا نصحوا لله ورسوله) في حال قعودهم بالطاعة وعدم الأرجاف والتثبيط، وأصل النصح إخلاص العمل من الغش ومنه التوبة النصوح.
قال نفطويه: نصح الشيء إذا خلص ونصح له القول أي أخلصه له، والنصح لله الإيمان به والعمل بشريعته وترك ما يخالفها كائناً ما كان، ويدخل تحته دخولاً أولياً نصح عباده ومحبة المجاهدين في سبيله وبذل النصيحة لهم في أمر الجهاد وترك المعاونة لأعدائهم بوجه من الوجوه، ونصيحة الرسول صلى الله(5/368)
عليه وسلم التصديق بنبوته وبما جاء به، وطاعته في كل ما يأمر به أو ينهي عنه وموالاة من والاه ومعاداة من عاداه، ومحبته وتعظيم سنته وإحياؤها بعد موته بما تبلغ إليه القدرة.
وقد ثبت في الحديث أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: " الدين النصيحة " ثلاثاً، قالوا لمن؟ " قال لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم " (1). وفي الخازن: النصح أن يقيموا في البلد ويحترزوا عن إفشاء الأراجيف وإثارة الفتن ويسمعوا في إيصال الخير إلى أهل الجهاد ويقوموا بمصالح بيوتهم.
(ما على المحسنين من سبيل) جملة مقررة لمضمون ما سبق، أى ليس على المعذورين الناصحين طريق عقاب ومؤاخذة، ومن مزيدة للتأكيد، وعلى هذا فيكون لفظ المحسنين موضوعاً في موضع الضمير الراجع إلى المذكورين سابقاً، وأتى بالظاهر للدلالة على انتظامهم بنصحهم في سلك المحسنين، أو يكون المراد ما على جنس المحسنين من سبيل، وهؤلاء المذكورون سابقاً من جملتهم، فتكون الجملة تعليلية، وقولهم لا سبيل عليه معناه لا حرج ولا عتاب، وأنه بمعنى لا عاتب يمر عليه فضلاً عن العتاب، وإذا تعدى بإلى كقوله:
ألا ليت شعري هل إلى أم سالم ... سبيل فأما الصبر عنها فلا صبر
فبمعنى الوصول كما قال:
هل من سبيل إلى خمر فأشربها ... أم من سبيل إلى نصر بن حجاج
ونحوه، فتنبه لمواطن استعماله فإنه من مهمات الفصاحة (والله غفور
_________
(1) مسلم 55.(5/369)
رحيم) لهم أو للمسيء فكيف للمحسن، والجملة تذييلية.
وفي معنى هذه الآية قوله تعالى (لا يكلف الله نفساً إلا وسعها) وقوله (ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج).
وإسقاط التكليف عن هؤلاء المعذورين لا يستلزم عدم ثبوت ثواب الغزو لهم الذي عذر الله عنه مع رغبتهم إليه لولا حبسهم العذر عنه، ومنه حديث أنس عند أبي داود وأحمد، وأصله في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لقد تركتم بعدكم قوماً ما سرتم من مسير ولا أنفقتم من نفقة ولا قطعتم وادياً إلا وهم فيه " قالوا يا رسول الله وكيف يكونون معنا وهم بالمدينة؟ فقال " حبسهم العذر " (1).
وأخرجه أحمد ومسلم من حديث جابر (2) عن قتادة قال: أنزلت هذه الآية في عائد بن عمر المزني، وقال الضحاك: عذرهم وجعل لهم من العذر ما جعل للمجاهدين.
قال الرازي: ليس في الآية أنه يحرم عليهم الخروج، لأن الواحد لو خرج ليعين المجاهدين بمقدار القدرة إما بحفظ متاعهم أو بتكثير سوادهم، بشرط أن لا يجعل نفسه كلاًّ ووبالاً عليهم لكان ذلك طاعة مقبولة.
_________
(1) البخاري كتاب الجهاد باب 35.
(2) مسلم 1911.(5/370)
وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ (92)
(وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ)
ثم ذكر الله سبحانه من جملة المعذورين من تضمنه قوله (ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه) العطف على جملة ما على المحسنين أو على الضعفاء أى لا عليهم حرج، والمعنى أن من جملة المعذورين هؤلاء الذين أتوك لتحملهم على ما يركبون عليه في الغزو فلم تجد ذلك الذي طلبوه منك قيل هم سبعة من الأنصار وقيل بنو مقرن، وقيل المعنى إذا ما أتوك قائلاً لا أجد وقيل غير ذلك وهذا أولى.
وفي إيثار هذا التعبير على " ليس عندي " لطف في الكلام وتطييب لقلوب السائلين كأنه قال أنا أطلب ما تسألونه وأفتش عنه فلا أجده فأنا معذور، وعن أنس في الآية قال: الماء والزاد. وعن علي بن صالح قال: حدثني مشيخة من جهينة قالوا: أدركنا الذين سألوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الحملان فقالوا ما سألناه إلا الحملان على النعال.
وعن إبراهيم بن أدهم عمن حدثه في الآية قال: ما سألوه الدواب، ما سألوه إلا النعال. وعن الحسن بن صالح قال استحملوه النعال.
(تولوا) أى انصرفوا عنك لما قلت لهم لا أجد ما أحملكم عليه (وأعينهم تفيض) أي تسيل (من الدمع) أي حال كونهم باكين، ومن للبيان، وفي الشهاب أن الفيض انصباب عن امتلاء فوضع موضع الامتلاء للمبالغة، أو جعلت أعينهم من فرط البكاء كأنها تفيض بأنفسها، يعني أن الفيض مجاز عن الامتلاء بعلاقة السببية فإن الثاني سبب للأول، فالمجاز في المسند والدمع هو(5/371)
ذلك الماء أو الفيض على حقيقته، والتجوز في إسناده إلى العين للمبالغة كجرى النهر. ومن التعليل:
(حزناً ألا يجدوا) قال الفراء: أى ليس يجدوا، وقيل حزناً على أن لا يجدوا وقيل المعنى حزناً أنهم لا يجدوا، وقيل لأجل أن لا يجدوا (ما ينفقون) في الجهاد لا عند أنفسهم ولا عندك.
عن محمد بن كعب قال: هم سبعة نفر من بني عمرو بن عوف: سالم ابن عمير ومن بني واقف حرمى بن عمرو، ومن بني مازن بن النجار عبد الرحمن بن كعب يكنى أبا ليلى ومن بني المعلى سلمان بن صخر؛ ومن بني حارثة عبد الرحمن ابن زيد أبو غيلة، ومن بني سلمة عمرو بن غنمة وعبد الله ابن عمرو المزني، من ثَمَّ (1) قيل لهم البكاءون فحمل العباس منهم اثنين وعثمان ثلاثة زيادة على الجيش الذي جهزه وهو ألف. وحمل يامين بن عمرو النضرى اثنين، كذا في مختصر سيرة الحلبى.
وقد اتفق الرواة على بعض هؤلاء السبعة واختلفوا في البعض ولا يأتي التطويل في مثل ذلك بكثير فائدة.
_________
(1) بفتح الثاء أي ومن هنا.(5/372)
إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (93) يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ
ثم ذكر الله سبحانه من عليه السبيل من المتخلفين فقال(5/373)
إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (93)
(إنما السبيل) أى طريق العقوبة والمؤاخذة وهي الأعمال السيئة، وأتى بإنما للمبالغة في التوكيد لا للحصر، قال السفاقسي: وليس ثَمَّ ما يمنع أن تكون للحصر.
(على الذين يستأذنوك) في التخلف عن الغزو (وهم) أي والحال أنهم (أغنياء) يجدون ما يحملهم وما يتجهزون به (رضوا بأن يكونوا مع الخوالف) وهم النساء والصبيان، والجملة مستأنفة كأنه قيل ما بالهم استأذنوا وهم أغنياء، فقيل رضوا أي بالدناءة والضعة والانتظام فيهم وإليه مال الزمخشري وقيل أنه في محل نصب على الحال وقد مقدرة. قاله الكرخي.
(وطبع على قلوبهم) معطوفه على رضوا أي سبب الاستئذان مع الغنى أمران (أحدهما) الرضا بالصفقة الخاسرة وهي أن يكونوا مع الخوالف (والثاني) الطبع من الله على قلوبهم (فهم) وبسبب هذا الطبع (لا يعلمون) ما فيه الربح لهم حتى يختاروه على ما فيه الخسر. عن مجاهد قال: هي في المنافقين، قال السيوطي؛ ؤقد تقدم مثله اهـ.
قال في الجمل: لكن مع نوع اختلاف في الألفاظ كما لا يخفى.(5/373)
يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (94)
(يعتذرون إليكم إذا رجعتم إليهم) وإخبار من الله سبحانه عن المنافقين(5/373)
المعتذرين بالباطل بأنهم يعتذرون إلى المؤمنين إذا رجعوا عن الغزو، وهذا كلام مستأنف وإنما قال إليهم أي إلى المعتذرين بالباطل ولم يقل إلى المدينة لأن مدار الاعتذار هو الرجوع إليهم لا الرجوع إليها، وربما يقع الاعتذار عند الملاقاة قبل الوصول إليها.
ويحتمل أن يكون الضمير في إليكم لرسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) على التأويل المشهور في هذا. روي أن المعتذرين كانوا بضعة وثمانين رجلاً.
ثم أخبر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم بما يجيب به عليهم فقال: (قل لا تعتذروا) فنهاهم أولاً عن الاعتذار بالباطل ثم علله بقوله: (لن نؤمن لكم) أي لن نصدقكم كأنهم ادعوا أنهم صادقون في اعتذارهم، لأن غرض المعتذر أن يصدق فيما يعتذر به؛ فإذا عرف أنه لا يصدق ترك الاعتذار، وإنما خص الرسول صلى الله عليه وسلم بالجواب عليهم مع أن الاعتذار منهم كائن إلى جميع المؤمنين لأنه صلى الله عليه وسلم رأسهم والمتولي لما يرد عليهم من جهة الغير.
وجملة (قد نبأنا الله من أخباركم) تعليلية للتي قبلها أي لا يقع منا تصديق لكم لأن الله لمحد أعلمنا بالوحي ما هو مناف لصدق اعتذاركم (وسيرى الله عملكم) أي ما ستفعلونه من الأعمال فيما بعد هل تقلعون عما أنتم عليه الآن من الشر أم تبقون عليه، وقيل سيعلم عملكم السيء واقعاً أي مستمراً على الوقوع، والظاهر أن الاستقبال في علم الله بالنظر لظهوره لنا.
(ورسوله) معطوف على الاسم الشريف ووسط مفعول الرؤية إيذاناً بأن رؤية الله سبحانه لما سيفعلونه من خير أو شر هي التي تدور عليها الإثابة أو العقوبة. وفي جملة (ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون) تخويف شديد لما هي مشتملة عليه من التهديد ولا سيما ما اشتملت عليه من وضع الظاهر موضع المضمر لإشغار ذلك بإحاطته بكل شيء يقع منهم مما يكتمونه ويتظاهرون به وإخباره لهم به ومجازاتهم عليه.(5/374)
سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (95)
(سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)
(سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم) ذكر أن هؤلاء المعتذرين بالباطل سيؤكدون ما جاءوا به من الأعذار الباطلة بالحلف عند رجوع المؤمنين إليهم من الغزو، وغرضهم من هذا التأكيد (لتعرضوا عنهم) أي يعرض المؤمنون عنهم فلا يوبخونهم ولا يؤاخذونهم بالتخلف ويظهرون الرضا عنهم كما يفيده ذكر الرضا من بعد، وحذف المحلوف عليه لكون الكلام يدل عليه، وهو اعتذارهم الباطل.
(فأعرضوا عنهم) أي دعوهم وما اختاروا لأنفسهم، والمراد به تركهم والمهاجرة لهم لا الرضا عنهم والصفح عن ذنبهم كما تفيده جملة (إنهم رجس) الواقعة علة للأمر بالإعراض، والمعنى أنهم في أنفسهم رجس لكون جميع أعمالهم نجسة فكأنها قد صيرت ذواتهم رجساً أو أنهم ذوو رجس أي ذوو أعمال قبيحة، ومثله (إنما المشركون نجس).
وهؤلاء لما كانوا هكذا كانوا غير متأهلين لقبول الإرشاد إلى الخير والتحذير من الشر فليس لهم إلا الترك، قال أهل المعاني: إن هؤلاء طلبوا إعراض الصفح فأعطوا إعراض المقت.
(ومأواهم جهنم) ومن تمام التعليل فإن من كان من أهل النار لا يجدي فيه الدعاء إلى الخير، أو تعليل مستقل قاله أبو السعود، والمأوى كل مكان يأوي إليه الشيء ليلاً أو نهاراً، وقد أوى فلان إلى منزله يأوي (جزاء) أي يجزون جزاء أو مفعول من أجله (بما كانوا يكسبون) الباء للسببية.(5/375)
يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (96) الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (97) وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ(5/376)
يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (96)
(يحلفون لكم) حذف هنا المحلوف به لكونه معلوماً مما سبق والمحلوف عليه بمثل ما تقدم (لترضوا عنهم) بين سبحانه أن مقصدهم بهذا الحلف هو رضا المؤمنين عنهم، ثم ذكر ما يفيد أنه لا يجوز الرضا عن هؤلاء المعتذرين بالباطل فقال: (فإن ترضوا عنهم) كما هو مطلوبهم مساعدة لهم وقبلتم عذرهم فلا ينفعهم رضاكم (فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين) تعليل للمحذوف المتقدم.
وإذا كان هذا هو ما يريده الله سبحانه من عدم الرضا عن هؤلاء الفسقة العصاة فينبغي لكم أيها المؤمنون أن لا تفعلوا خلاف ذلك، بل واجب عليكم أن لا ترضوا عنهم على أن رضاكم عنهم لو وقع لكان غير معتد به ولا مفيداً لهم.
والمقصود من إخبار الله سبحانه بعدم رضاه عنهم هو نهي المؤمنين عن ذلك لأن الرضا عمن لا يرضى الله عنه مما لا يفعله مؤمن، ونكتة العدول لهذا الظاهر التسجيل عليهم حيث وصفهم بالخروج عن الطاعة المستوجب لما حل بهم من السخط وللإيذان بشمول الحكم لمن شاركهم في ذلك.(5/376)
الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (97)
(الأعراب) أي جنسهم لا كل واحد لما سيأتي (أشد كفراً ونفاقاً) لما ذكر سبحانه أحوال المنافقين بالمدينة ذكر حال من كان خارجاً عنها من الأعراب؛ وبين أن كفرهم ونفاقهم أشد من كفر غيرهم ومن نفاق غيرهم،(5/376)
لأنهم أقسى قلوباً وأغلظ طباعاً وأجفى قولاً وأبعد عن سماع كتب الله وما جاءت به رسله وأوحش فعلاً، ولأن نشأتهم في معزل من مشاهدة العلماء ومفاوضتهم.
وهذا من باب وصف الجنس بوصف بعض أفراده كما في قوله تعالى: (وكان الإنسان كفوراً) إذ ليس كلهم كما ذكر على ما ستحيط به خبراً.
والأعراب هم من سكن البوادي بخلاف العرب فإنه عام لهذا النوع من بني آدم سواء سكنوا البوادي أو القرى، هكذا قال أهل اللغة، ولهذا قال سيبويه: إن الأعراب صيغة جمع وليست بصيغة جمع العرب، لئلا يلزم كون الجمع أخص من مفرده.
قال النيسابوري: قال أهل اللغة رجل عربي إذا كان نسبه إلى العرب ثابتاً وجمعه عرب كالمجوسي والمجوس، واليهودي واليهود، فالأعرابي إذا قيل له يا عربي فرح وإذا قيل للعربي يا أعرابي غضب، وذلك أن من استوطن القرى العربية فهو عربي، ومن نزل البادية فهو أعرابي، ولهذا لا يجوز أن يقال للمهاجرين والأنصار أعراب، وإنما هم عرب.
فإن قيل إنما سمي العرب عرباً لأن أولاد إسماعيل عليه السلام نشؤوا بالعرب وهي من تهامة فنسبوا إلى بلدهم وكل من يسكن جزيرة العرب وينطق بلسانهم فهو منهم.
وقيل. لأن ألسنتهم معربة عما في ضمائرهم ولما في لسانهم من الفصاحة والبلاغة انتهى.
وفي المصباح وأما الأعراب بالفتح فأهل البدو من العرب، الواحد أعرابي بالفتح أيضاً وهو الذي يكون صاحب نجعة وارتياد للكلأ وزاد الأزهري: سواء كان من العرب أو من مواليهم، فمن نزل البادية وجاور البادين وظعن بظعنهم فهم أعراب، ومن نزل بلاد الريف واستوطن المدن والقرى العربية وغيرها ممن ينتمي إلى العرب فهم عرب وإن لم يكونوا فصحاء.(5/377)
(وأجدر) معناه أخلق يقال فلان جدير بكذا أي خليق به وأنت جدير أن تفعل كذا وأصله من جدر الحائط وهو رفعه بالبناء يقال هو جدير وأجدر وحقيق وأحق، وقمن وخليق وأولى بكذا كله بمعنى واحد، قال الليث جدر يجدر جدارة فهو جدير، ويؤنث ويثنى ويجمع.
وقد نبه الراغب على أصل اشتقاق هذه المادة وأنها من الجدار أي الحائط فقال والجدير المنتهي لانتهاء الأمر إليه انتهاء الشيء إلى الجدار، والذي يظهر أن اشتقاقه من الجدر وهو أصل الشجرة فكأنه ثابت كثبوت الجدر في قولك جدير بكذا.
(ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله) من الشرائع والأحكام والفرائض وما أمر به من الجهاد لبعدهم عن مواطن الأنبياء وديار التنزيل، ومشاهدة المعجزات، ومعاينة ما ينزل عليه من تضاعيف الكتاب والسنة.
ووصف العرب بأنهم جاهلون لا ينافي صحة الاحتجاج بألفاظهم وأشعارهم على كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم إذ وصفهم بالجهل إنما هو في أحكام القرآن لا في ألفاظه، ونحن لا نحتج بلغتهم في بيان الأحكام بل في معاني بيان الألفاظ لأن القرآن والسنة جاءا بلغتهم قاله الكرخي.
(والله عليم) بأحوال مخلوقاته على العموم وهؤلاء منهم (حكيم) فيما يجازيهم به من خير وشر، عن الكلبي أن هذه الآية نزلت في أسد وغطفان.
وأخرج أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي والبيهقي في شعب الإيمان عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: " من سكن البادية جفا ومن اتبع الصيد غفل، ومن أتى السلطان افتتن " (1) قال الترمذي هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث الثوري.
وأخرج أبو داود والبيهقي من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من بدا جفا، ومن اتبع الصيد غفل ومن أتى أبواب السلطان افتتن. وما ازداد أحد من سلطانه قرباً إلا ازداد من الله بعداً " (2).
_________
(1) الترمذي، كتاب الفتن، باب 69.
(2) أبو داوود، كتاب الأضاحي، باب 24.(5/378)
وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ(5/379)
وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (98)
(ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق مغرماً) هذا تنويع الجنس إلى نوعين (الأول) هؤلاء (والثاني) ومن الأعراب من يؤمن بالله، والمغرم: الغرم والخسران وهو ثاني مفعولي يتخذ لأنه بمعنى الجعل، والمعنى أنه اعتقد ما ينفقه في سبيل الله غرامة وخسراناً، وأصل الغرم والغرامة ما ينفقه الرجل وليس بلازم له في اعتقاده، ولكنه ينفقه للرياء والتقية، وقيل أصل الغرم اللزوم كأنه اعتقد أنه يلزمه لأمر خارج لا تنبعث له النفس.
قال الضحاك: يعني بالمغرم أنه لا يرجو له ثواباً عند الله ولا مجازاة، وإنما يعطي ما يعطي من الصدقات كرهاً، وعن ابن زيد قال: هؤلاء المنافقون من الأعراب الذين إنما ينفقون رياء اتقاء أن يغزوا، ويحاربوا ويقاتلوا ويرون نفقاتهم مغرماً وهم بنو أسد وغطفان.
(ويتربص) أي ينتظر (بكم الدوائر) جمع دائرة وهي الحالة المتقلبة عن النعمة إلى البلية، وأصلها ما يحيط بالشيء ودوائر الزمان نوبه وتصاريفه ودوله وكأنه لا تستعمل إلا في المكروه، وفي الدائرة مذهبان أظهرهما أنها صفة على فاعلة كقائمة وقال الفارسي: يجوز أن تكون مصدراً كالعاقبة، والمعنى ينتظر بكم تقلب الزمان وصروفها التي تأتي مرة بالخير ومرة بالشر، قال يمان بن رباب: يعني يموت الرسول ويظهر المشركون.
ثم دعا سبحانه عليهم بقوله: (عليهم دائرة السوء) وجعل ما دعا به(5/379)
عليهم مماثلاً لما أرادوه بالمسلمين، والسوء عند الجمهور مصدر أضيف إليه الدائرة للملابسة كقولك رجل صدق؛ وهو مصدر في الحقيقة، قال أبو البقاء: وهو الضرر، وقال مكي: من فتح السين فمعناه الفساد والرداءة، ومن ضمها فمعناه البلاء والضرر، وظاهر هذا أنهما إسمان لما ذكر، ويحتمل أن يكونا مصدرين ثم أطلقا على ما ذكر.
وقال غيره: المضموم العذاب والضرر، والمفتوح الذم، وقرأ ابن كثير وغيره بضم السين وهو المكروه، قال الأخفش: عليهم دائرة الهزيمة والشر، وقال الفراء: دائرة العذاب والبلاء قال: والسوء بالفتح سؤته سؤاً ومساءة وبالضم اسم لا مصدر وهو كقولك دائرة البلاء والمكروه، قال الخفاجي: وبين الفتح والضم شبه طباق، وقال الضحاك: الدوائر الهلكات (والله سميع) لما يقولونه (عليم) بما يضمرونه.(5/380)
وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (99)
(ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر) هذا النوع الثاني من أنواع الأعراب كما تقدم أي منهم من يصدق بهما، عن عبد الرحمن بن معقل قال: كنا عشرة ولد مقرن فنزلت هذه الآية فينا، وقال مجاهد: هم بنو مقرن من مزينة وهم الذين قال الله (ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم) الآية، وقال الكلبي: هم أسلم وغفار وجهينه ومزينة، وفي الباب أحاديث يطول ذكرها.
(ويتخذ ما ينفق قربات) أي سبب قربات (عند الله) وهي جمع قربة بالضم وهي ما يتقرب به إلى الله سبحانه، تقول منه قربت لله قرباناً والجمع قرب وقربات والمعنى أنه يجعل ما ينفقه في سبيل الله سبباً لحصول القربات عند الله (وصلوات الرسول) أي سبباً لدعوات الرسول لهم لأنه صلى الله عليه وسلم كان يدعو للمتصدقين، ومنه قوله: (وصلِّ عليهم إن صلاتك سكن لهم) ومنه قوله: (- صلى الله عليه وسلم -) " اللهم صلّ على آل أبي أوفى " (1).
_________
(1) مسلم 1078 - البخاري 800.(5/380)
وقال ابن عباس: استغفار النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقيل أنها منسوقة على ما ينفق أي ويتخذ ما ينفق وصلوات الرسول قربة، وجوزه ابن عطية ولم يذكر أبو البقاء غيره، وظاهر كلام الزمخشري أنها نسق على قربات كما تقدم.
ثم إنه سبحانه بين بأن ما ينفقه هذا النوع من الأعراب تقرباً إلى الله مقبول واقع على الوجه الذي أرادوه فقال: (ألا إنها قربة لهم) أخبر سبحانه بقبولها خبراً مؤكداً باسمية الجملة وحرفي التنبيه والتحقيق؛ وفي هذا من التطييب لخواطرهم والطمأنينة لقلوبهم ما لا يقادر قدره مع ما يتضمنه من النعي على من يتخذ ما ينفق مغرماً والتوبيخ له بأبلغ وجه، والضمير في (إنها) راجع إلى ما في ما ينفق وتأنيثه باعتبار الخبر وقيل راجع إلى صلوات الرسول صلى الله عليه وسلم والأول أولى. ثم فسر سبحانه القربة بقوله: (سيدخلهم الله في رحمته) السين لتحقيق الوعد. وهذه النعمة هي أقصى مرادهم (إن الله غفور) لأهل طاعته (رحيم) بعباده(5/381)
وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100) وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ(5/382)
وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100)
(والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار) لما ذكر أصناف الأعراف ذكر المهاجرين والأنصار، وبين أن منهم السابقين إلى الهجرة وأن منهم التابعين لهم.
وقرأ عمر بن الخطاب الأنصار بالرفع عطفاً على والسابقون، وقرأ سائر القراء من الصحابة فمن بعدهم بالجر. قال الأخفش: الخفض في الأنصار الوجه لأن السابقين منهم يدخلون في قوله: (والسابقون).
وفي هذه الآية تفضيل السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، وهم الذين صلوا للقبلتين في قول سعيد بن المسيب وطائفة، أو الذين شهدوا بيعة الرضوان وهي بيعة الحديبية في قول الشعبي أو أهل بدر في قول محمد بن كعب وعطاء بن يسار. ولا مانع من حمل الآية على هذه الأصناف كلها. قال محمد بن كعب القرظي: هم جميع الصحابة لأنهم حصل لهم السبق بصحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال أبو منصور البغدادي في أصحابنا مجمعون على أن أفضلهم الخلفاء الأربعة ثم الستة الباقون ثم البدريون ثم أصحاب أحد ثم أهل بيعة الرضوان بالحديبية.
(والذين اتبعوهم) أي اتبعوا السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار وهم المتأخرون عنهم الأميين الصحابة فمن بعدهم إلى يوم القيامة، وليس المراد بهم التابعين اصطلاحاً، وهم كل من أدرك الصحابة ولم يدرك النبي صلى الله(5/382)
عليه وسلم بل هم من جملة من يدخل تحت الآية فتكون (من) في قوله (من المهاجرين) على هذا للتبعيض.
وقيل إنها للبيان فيتناول المدح جميع الصحابة ويكون المراد بالتابعين من بعدهم من الأمة إلى يوم القيامة كما قال ابن زيد هم من بقي من أهل الإسلام إلى أن تقوم الساعة.
قال جماعة من الصحابة. لما نزلت هذه الآية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا لأمتي كلهم وليس بعد الرضا سخط.
عن حميد بن زياد قال: قلت لمحمد بن كعب القرظي: أخبرني عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وإنما أريد الفتن قال: إن الله قد غفر لجميع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وأوجب لهم الجنة في كتابه محسنهم ومسيئهم، قلت له وفي أي موضع أوجب الله لهم الجنة في كتابه؛ قال ألا تقرؤون قوله تعالى: (والسابقون الأولون) الآية، أوجب لجميع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الجنة والرضوان وشرط على التابعين شرطاً لم يشرطه فيهم، قلت وما اشترط عليهم؛ قال اشترط عليهم أن يتبعوهم بإحسان، يقول يقتدون بهم في أعمالهم الحسنة ولا يقتدون بهم في غير ذلك. قال أبو صخر: فوالله لكأني لم أقرأها قبل ذلك ولا عرفت تفسيرها حتى قرأها عليَّ محمد بن كعب.
وقوله: (بإحسان) قيد للتابعين أي والذين اتبعوهم متلبسين بإحسان في الأفعال والأقوال اقتداء منهم بالسابقين الأولين (رضي الله عنهم) أي قبل طاعتهم وتجاوز عنهم ولم يسخط عليهم (ورضوا عنه) بما أعطاهم من فضله ومع رضائه عنهم فقد (أعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار) في الدار الآخرة وفي قراءة بزيادة (من) قاله السيوطي. وفي الجمل أي سبعية لابن كثير،(5/383)
ومعلوم أن قراءته الصلة فليتنبه القارئ إذا قرأ بزيادة من لصلة الميم في المواضع الثلاثة وهي اتبعوهم وعنهم وأعد لهم لئلا يقع في التلفيق، وقد تقدم تفسير جري الأنهار من تحت الجنات وتفسير الخلود.
(خالدين فيها أبداً ذلك الفوز العظيم) اختلفوا في أول الناس إسلاماً بعد اتفاقهم على أن خديجة أول الخلق إسلاماً على أقوال يطول ذكرها. وقال إسحاق ابن إبراهيم: أول من أسلم من الرجال أبو بكر ومن النساء خديجة ومن الصبيان علي بن أبي طالب، ومن العبيد زيد بن حارثة؛ فهؤلاء الأربعة سباق الخلق إلى الإسلام. وأسلم على يد أبي بكر عثمان والزبير وابن عوف وسعد بن أبي وقاص وطلحة، ثم تتابع الناس بعدهم في الدخول في الإسلام، فهؤلاء السابقون الأولون من المهاجرين.
وأما من الأنصار فهم الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة وهي العقبة الأولى، وكانوا خمسة نفر: سعد وعوف ورافع وقطبة وجابر، ثم أصحاب العقبة الثانية وكانوا اثني عشر رجلاً، ثم أصحاب العقبة الثالثة وكانوا سبعين رجلاً، فهؤلاء سابقو الأنصار. وقيل غير ذلك مما ليس في ذكره كثير فائدة(5/384)
وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ (101)
(وممن حولكم من الأعراب منافقون) هذا عود إلى شرح أحوال المنافقون من أهل المدينة ومن يقرب منها من الأعراب، قيل وهؤلاء الذين هم حول المدينة من المنافقين هم جهينة ومزينة وأشجع وغفار وأسلم، ذكره جمع من المفسرين كالبغوي والواحدي وابن الجوزي والنسفي والخازن والسيوطي وغيرهم وفيه إشكال لأن النبي صلى الله عليه وسلم دعا لهؤلاء القبائل، فإن صح هذا النقل فتحمل الآية على القليل منهم، لأن لفظة (من) للتبعيض، ويحمل الدعاء لهم على الأكثر والأغلب، وبهذا يمكن الجمع بينهما.
وأطلق الطبري القول ولم يعين أحداً من القبائل المذكورة بل قال من القوم الذين حول مدينتكم؛ أيها المؤمنون من الأعراب منافقون (ومن أهل(5/384)
المدينة) قوم أو ناس (مردوا على النفاق) قال البغوي: أي من الأوس والخزرج. وقيل المعنى وممن حولكم من الأعراب ومن أهل المدينة منافقون مردوا، وأصل مرد وتمرد اللين والملاسة والتجرد فكأنهم تجردوا للنفاق، ومنه غصن أمرد لا ورق عليه، وفرس أمرد لا شعر فيه، وغلام أمرد لا شعر بوجهه، وأرض مرداء لا نبات فيها وصرح ممرد مجرد مملس، كما قال:
في منزل شيد بنيانه ... يزل عنه ظفرالطائر
فالمعنى أنهم أقاموا على النفاق وثبتوا عليه ولم ينثنواعنه ولم يتوبوا منه،
قال ابن زيد: معناه لجوا فيه وأبوا غيره.
قال الخفاجي: أصل معنى التمرد التمرن أي الاعتياد والتدرب في الأمر حتى يصير ماهراً فيه لاتخاذه صنعة وديدناً له، ولذا خفي نفاقهم عليه صلى الله عليه وسلم مع كمال فطنته وفراسته.
وقال الراغب: أنه من قولهم شجرة مرداء أي لا ورق عليها أي أنهم خلوا من الخير. وروى أهل الجنة جرد مرد وهو محمول على ظاهره، أو المراد أنهم خالصون من الشوائب والقبائح.
وجملة (لا تعلمهم) مبنية للجملة الأولى وهي مردوا على النفاق أي ثبتوا عليه ثبوتاً شديداً ومهروا فيه حتى خفي أمرهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فكيف سائر المؤمنين، والمراد عدم علمه صلى الله عليه وسلم بأعيانهم لا من حيث الجملة، فإن للنفاق دلائل لا تخفى عليه صلى الله عليه وسلم.
ولا ينافي هذا قوله تعالى: (ولتعرفنهم في لحن القول) لأن آية النفي نزلت قبل آية الإثبات، وهذه الجملة صفة المنافقون أو مستأنفة، والعلم هنا إما على بابه فيتعدى لإثنين أي لا تعلمهم منافقين أو عرفاني فيتعدى لواحد. قاله أبو البقاء.
وأما قوله: (نحن نعلمهم) فلا يجوز أن يكون إلا على بابه وهي مقررة(5/385)
لما قبلها لما فيها من الدلالة على مهارتهم في النفاق ورسوخهم فيه على وجه يخفى على البشر، ولا يظهر لغير الله سبحانه لعلمه بما يخفى وما تجنه الضمائر وتنطوي عليه السرائر. ثم توعدهم سبحانه فقال: (سنعذبهم مرتين) قيل المراد بهما عذاب الدنيا بالقتل والسبي وعذاب الآخرة، وقيل الفضيحة بانكشاف نفاقهم والعذاب في الآخرة، وقيل المصائب في أموالهم وأولادهم وعذاب القبر. قال مجاهد مرتين يعني بالجوع والقتل.
وعن أبي مالك قال: بالجوع وعذاب القبر. وعن قتادة قال: عذاب في القبر وعذاب في النار، وقد روي عن جماعة من السلف نحو هذا في تعيين العذابين وقيل غير ذلك مما يطول ذكره مع عدم الدليل على أنه المراد بعينه، والظاهر أن هذا العذاب المكرر هو في الدنيا بما يصدق عليه اسم العذاب وأنهم يعذبون مرة بعد مرة ثم يردون بعد ذلك إلى عذاب الآخرة، وهو المراد بقوله: (ثم يردون إلى عذاب عظيم).
ومن قال أن العذاب في المرة الثانية هو عذاب الآخرة قال معنى قوله (ثم يردون) أنهم يردون بعد عذابهم في النار كسائر الكفار إلى الدرك الأسفل منها أو أنهم يعذبون في النار عذاباً خاصاً بهم دون سائر الكفار ثم يردون بعد ذلك إلى العذاب الشامل لهم ولسائر الكفار.
وفي مسند أحمد عن ابن مسعود: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: " إن منكم منافقين فمن سميته فليقم "، ثم قال: " قم يا فلان حتى سمى ستة وثلاثين (1).
_________
(1) الإمام أحمد 5/ 272.(5/386)
وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (102) خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ
ثم ذكر سبحانه حال طائفة من المسلمين وهم المخلطون في دينهم فقال:(5/387)
وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (102)
(و) ممن حولكم أو من أهل المدينة قوم (آخرون اعترفوا بذنوبهم) المعنى إن هؤلاء الجماعة تخلفوا عن الغزو بغير عذر مسوغ للتخلف ثم ندموا على ذلك ولم يعتذروا بالأعذار الكاذبة كما اعتذر المنافقون، بل تابوا واعترفوا بالذنب ورجوا أن يتوب الله عليهم.
(خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً) المراد بالعمل الصالح ما تقدم من إسلامهم وقيامهم بشرائع الإسلام وخروجهم إلى الجهاد في سائر المواطن، والمراد بالعمل السىء هو تخلفهم عن هذه الغزوة، وقد أتبعوا هذا العمل السيّء عملاً صالحاً وهو الاعتراف به والتوبة عنه. وأصل الاعتراف الإقرار بالشيء ومجرد الإقرار لا يكون توبة إلا إذا اقترن به الندم على الماضي والعزم على تركه في الحال والاستقبال، وقد وقع منهم ما يفيد هذا.
ومعنى الخلطة أنهم خلطوا كل واحد منهما بالآخر كقولك خلطت الماء باللبن واللبن بالماء؛ ذكره غالب المفسرين وأنكره الرازي وقال: الواو لمطلق الجمع، وفيه تنبيه على نفي القول بالمخالطة وأنه بقي كل واحد منهما كما كان من غير أن يتأثر أحدهما بالآخر.
ويجوز أن يكون الواو بمعنى الباء، كقولك بعت الشاء شاة ودرهماً أي بدرهم وقال الواحدي: الواو أحسن من الباء لأنه أريد به معنى الجمع لا حقيقة الخلط ألا ترى أن العمل الصالح لا يختلط بالسىء كما لا يختلط الماء باللبن لكن قد يجمع بينهما؛ وقال التفتازاني: وتحقيقه أن الواو للجمع والباء(5/387)
للإلصاق، والجمع والإلصاق من قبيل واحد فسلك به طريق الاستعارة. وقال الزمخشري: كل واحد مخلوط ومخلوط به وفيه ما ليس في الباء.
وفي قوله: (عسى الله أن يتوب عليهم) دليل على أنه قد وقع منهم مع الاعتراف ما يفيد التوبة أو أن مقدمة التوبة وهي الاعتراف قامت مقام التوبة وحرف الترجي هو (عسى) في كلام الله سبحانه يفيد تحقق الوقوع، لأن الإطماع من الله سبحانه إيجاب لكونه أكرم الأكرمين، وفي المواهب واتفق المفسرون على ذلك، قال القسطلاني: وعبر بعسى للإشعار بأن ما يفعله تعالى ليس إلا على سبيل التفضل منه حتى لا يتكل المرء بل يكون على خوف وحذر (إن الله غفور رحيم) يغفر الذنوب ويتفضل على عباده، وهذا يفيد إنجاز الوعد.
عن ابن عباس قال: كانوا عشرة رهط تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك فلما حضر رجوع رسول الله صلى الله عليه وسلم أوثق سبعة منهم أنفسهم بسواري المسجد، وكان ممر النبي صلى الله عليه وسلم إذا رجع عليهم، فلما رآهم قال: من هؤلاء الموثقون أنفسهم، قالوا: هذا أبو لبابة وأصحاب له تخلفوا عنك يا رسول الله فعاهدوا الله أن لا يطلقوا أنفسهم حتى تطلقهم وتعذرهم قال: وأنا أقسم بالله لا أطلقهم ولا أعذرهم حتى يكون الله هو الذي يطلقهم، رغبوا عني وتخلفوا عن الغزو مع المسلمين، فلما بلغهم ذلك قالوا ونحن لا نطلق أنفسنا حتى يكون الله هو الذي يطلقنا فنزلت (عسى الله أن يتوب عليهم).
وقيل الآية تعم جميع المسلمين، والحمل على العموم أولى وإن كان السبب مخصوصاً بمن تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في غزوة تبوك، وروى الطبراني عن أبي عثمان قال: ما في القرآن آية أرجى عندي لهذه الأمة من هذه الآية.(5/388)
خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103)
(خذ من أموالهم صدقة) اختلف أهل العلم في هذه الصدقة المأمور بها(5/388)
فقيل هي صدقة الفرض، وقيل هي مخصوصة بهذه الطائفة المعترفة بذنوبها لأنهم بعد التوبة عليهم عرضوا أموالهم على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فنزلت هذه الآية كما تقدم، و (من) للتبعيض على التفسيرين والآية مطلقة مبينة بالسنة المطهرة والصدقة مأخوذة من الصدق إذ هي دليل على صدق مخرجها في إيمانه.
(تطهرهم وتزكيهم بها) الضمير المرفوع في الفعلين للنبي صلى الله عليه وسلم أي تطهرهم وتزكيهم يا محمد بما تأخذه من الصدقة منهم، وقيل الضمير في تطهرهم للصدقة والضمير في تزكيهم للنبي صلى الله عليه وآله وسلم والأول أولى لما في الثاني من الاختلاف في الضميرين في الفعلين المتعاطفين، ومعنى التطهير إذهاب ما يتعلق بهم من أثر الذنوب، ومعنى التزكية المبالغة في التطهير.
قاق الزجاج: الأجود أن يكون المخاطبة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم أي فإنك يا محمد تطهرهم وتزكيهم بها على القطع والاستئناف ويجوز الجزم على جواب الأمر والمعنى أن تأخذ من أموالهم صدقة تطهرهم، قال السيوطي: فأخذ ثلث أموالهم وتصدق بها على سبيل الكفارة لذنوبهم فإن كل من أتى ذنباً يسن له التصدق.
(وصل عليهم) أي ادع لهم بعد أخذك لتلك الصدقة من أموالهم، قال النحاس: وحكى أهل اللغة جميعاً فيما علمناه أن الصلاة في كلام العرب الدعاء؛ ثم علل سبحانه أمره لرسوله صلى الله عليه وسلم بالصلاة على من يأخذ منه الصدقة فقال: (إن صلاتك سكن لهم) السكن ما تسكن إليه النفس وتطمئن به وهو فعل بمعنى مفعول كالقبض بمعنى المقبوض والمعنى يسكنون إليها، قال ابن عباس: استغفر لهم من ذنوبهم التي كانوا أصابوها إن صلاتك رحمة لهم.
وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن عبد الله بن أبي أوفى قال كان(5/389)
أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (104) وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ
رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتى بصدقة قال: " اللهم صل على آل فلان فأتاه أبي بصدقته فقال اللهم صل على آل أبي أوفى " (1).
(والله سميع) لاعترافهم بذنوبهم ودعائهم (عليم) بما في ضمائرهم من الندم والغم لا فرط منهم.
ولما تاب الله سبحانه على هؤلاء المذكورين سابقاً قال:
_________
(1) مسلم 1078 - البخاري 800.(5/390)
أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (104)
(ألم يعلموا) أي غير التائبين أو التائبون قبل أن يتوب الله عليهم ويقبل صدقاتهم، والاستفهام للتقرير أو للتحضيض والتأكيد (إن الله هو يقبل التوبة) لاستغنائه عن طاعة المطيعين وعدم مبالاته بمعصية العاصين، وقرئ بالتاء وهو اما خطاب للتائبين أو الجماعة المؤمنين، والمعنى أن ذلك ليس لرسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) إنما الله هو الذي يقبل التوبة ويردها فاقصدوه بها.
(عن عباده) قيل لا فرق بين عن ومن، قال ابن عطية: وكثيراً ما يتوصل في موضع واحد بهذه وهذه نحو لا صدقة إلا عن غني ومن غني وفعل ذلك فلان من أشره وبطره وعن أشره وبطره، وقيل بينهما فرق ولعل (عن) في هذا الموضع أبلغ لأن فيه تبشير القبول للتوبة مع تسهيل سبيلها، وقيل لفظة عن تشعر ببعد ما، تقول جلس عن يمين الأمير أي مع نوع من البعد،(5/390)
والظاهر أن عن هنا للمجاوزة وإذا قلت منه فمعناه ابتداء الغاية.
(ويأخذ الصدقات) أي يتقبلها منهم وفي إسناد الأخذ إليه سبحانه بعد أمره لرسوله (- صلى الله عليه وسلم -) بأخذها تشريف عظيم لهذه الطاعة ولمن فعلها، وفي ذكر لفظ الأخذ ترغيب في بذل الصدقة وإعطائها الفقراء.
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " ما تصدق أحدكم بصدقة من كسب حلال طيب ولا يقبل الله إلا الطيب إلا أخذها الرحمن بيمينه وإن كانت ثمرة فتربو في كف الرحمن حتى تكون أعظم من الجبل كما يربي أحدكم فلوّه أو فصيله " (1) أخرجه الشيخان وفي الباب أحاديث يطول ذكرها.
(وإن الله هو التواب الرحيم) أي أن هذا شأنه سبحانه؛ وفي صيغة المبالغة في التواب مع توسيط ضمير الفصل والتأكيد من التبشير لعباده والترغيب لهم ما لا يخفى.
_________
(1) مسلم 1014 - البخاري 751.(5/391)
وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105)
(وقل) لهم أو للناس وهما قولان للمفسرين (اعملوا) ما شئتم من الأعمال الصالحة والسيئة (فسيرى الله عملكم) خيراً كان أو شراً تعليل لما قبله (ورسوله والمؤمنون) فيه تخويف وتهديد للمذنبين أي إن عملكم لا يخفى على الله ولا على رسوله ولا على المؤمنين، فسارعوا إلى أعمال الخير أو أخلصوا أعمالكم لله عز وجل، وفيه أيضاً ترغيب وتنشيط للمطيعين، فإن من علم أن عمله لا يخفى سواء كان خيراً أو شراً رغب إلى أعمال الخير وتجنب أعمال الشر، وما أحسن قول زهير:
ومهما يكن عند امرئ من خليقة ... وإن خالها تخفى على الناس تعلم(5/391)
فظاهره ترغيب وترهيب، والمراد بالرؤية هنا العلم بما يصدر من الأعمال والاستقبال بالنظر للمجازاة وإلا فالعلم حاصل بالفعل أي فسيجازيكم على عملكم والمجازاة من الله معلومة ومن رسوله والمؤمنين بمعنى الثناء عليهم والدعاء لهم.
قال مجاهد: هذا وعيد من الله عز وجل، وقال أبو السعود: زيادة ترغيب لهم في العمل الصالح، وأخرج أحمد وأبو يعلى وابن حبان والحاكم والبيهقي وغيرهم عن أبي سعيد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لو أن أحدكم يعمل في صخرة صماء ليس لها باب ولا كوة لأخرج الله عمله للناس كائناً ما كان " (1).
ثم جاء سبحانه بوعيد شديد فقال (وستردون) وأي بالبعث بعد الموت (إلى عالم الغيب والشهادة) أي إليه سبحانه الذي يعلم ما تسرونه وما تعلنونه وما تخفونه وما تبدونه. وفي تقديم الغيب على الشهادة إشعار بسعة علمه عز وجل وأنه لا يخفى عليه شيء، ويستوى عنده كل معلوم.
ثم ذكر سبحانه ما سيكون عقب ردهم إليه فقال (فينبئكم) أي يخبركم (بما كنتم تعملون) في الدنيا فيجازي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته ويتفضل على من يشاء من عباده.
_________
(1) المستدرك كتاب الرقاق 4/ 314.(5/392)
وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (106)
(وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)
(وآخرون مرجون لأمر الله) ذكر سبحانه ثلاثة أقسام في المتخلفين (الأول) المنافقون الذين مردوا على النفاق (الثاني) التائبون المعترفون بذنوبهم (الثالث) الذين بقي أمرهم موقوفاً في تلك الحال وهم المرجون لأمر الله من أرجيته وأرجأته إذا أخرته وهما لغتان والقراءتان أي بالهمز ودونه سبعيتان، والمعنى أنهم مؤخرون في تلك الحال لا يقطع لهم بالتوبة ولا بعدمها، بل هم على ما تبين من أمر الله سبحانه في شأنهم.
والفرق بين الثاني والثالث أن الثاني اعتذر للنبي صلى الله عليه وآله وسلمِ بأعذار فقبلها منه فجعلت توبته، وإن الثالث لم يعتذر لأنه فتش فلم يجد عذراً صادقاً فأخر رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره حتى ينزل الله قبول توبته فأخر الله قبولها خمسين يوماً.
(إما يعذبهم) إن بقوا على ما هم عليه ولم يتوبوا (وإما يتوب عليهم) إن تابوا توبة صحيحة وأخلصوا إخلاصاً، والتقدير وآخرون مرجون لأمر الله حال كونهم إما معذبين وإما متوباً عليهم، وإما هنا للشك بالنسبة إلى المخاطب، وإما للإبهام بالنسبة إلى الله تعالى بمعنى أنه تعالى أبهم على المخاطبين أعني هذا الترديد بالنظر لاعتقادنا فيهم، وإلا فالله تعالى عالم بعين ما هو فاعله بهم (والله عليم) بأحوالهم (حكيم) فيما يفعله بهم من خير أو شر.
وعن عكرمة قال: وآخرون مرجون لأمر الله هم الثلاثة الذين خلفوا، وعن مجاهد قال: هم هلال بن أمية ومرارة بن الربيع وكعب بن مالك من الأوس والخزرج تخلفوا كسلاً وميلاً إلى الدعة لا نفاقاً، ولم يعتذروا إلى النبي صلى الله عليه وسلم كغيرهم، فوقف أمرهم خمسين ليلة وهجرهم الناس حتى نزلت توبتهم بعد.(5/393)
وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (107) لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ(5/394)
وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (107)
(والذين اتخذوا مسجداً ضراراً وكفراً وتفريقاً بين المؤمنين) لما ذكر سبحانه أصناف المنافقين وبين طرائقهم المختلفة، عطف على ما سبق هذه الطائفة منهم، وهم الذين اتخذوا مسجداً ضراراً وسيأتي بيان هؤلاء البانين لمسجد الضرار وفي إعرابه وجوه ذكرها في الجمل.
وقد أخبر الله سبحانه أن الباعث لهم على بناء هذا السجد أمور أربعة:
الأول: الضرار لغيرهم وهو المضاررة. الثاني: الكفر بالله والمباهاة لأهل الإسلام لأنهم أرادوا ببنائه تقوية أهل النفاق. الثالث: التفريق بين المؤمنين لأنهم أرادوا أن لا يحضروا مسجد قباء فتقل جماعة المسلمين وفي ذلك من اختلاف الكلمة وبطلان الألفة ما لا يخفى.
الرابع قوله (وإرصاداً لمن حارب الله ورسوله) قال الزجاج: الإرصاد الانتظار. وقال ابن قتيبة: الإرصاد الانتظار مع العداوة، وقال الأكثرون: هو الإعداد، والمعنى متقارب، يقال أرصدت لكذا إذا أعددته مرتقباً له، وبه قال أبو زيد، يقال رصدته وأرصدته في الخير وأرصدت له في الشر، وقال ابن الأعرابي: لا يقال أرصدت ومعناه ارتقبت، والمراد بمن حارب الله ورسوله المنافقون وهم اثنا عشر رجلاً منهم أبو عامر الراهب، أي أعدوه لهؤلاء وارتقبوا به وصولهم وانتظروهم ليصلوا فيه حتى يباهوا بهم المؤمنون.
(من قبل) أي من قبل أن ينافق هؤلاء ويبنوا مسجد الضرار أو المعنى(5/394)
لمن وقع منه الحرب لله ورسوله من قبل بناء مسجد الضرار (وليحلفن) جواب قسم مقدر أي والله (إن أردنا إلا الحسنى) أي ما أردنا ببنائه إلا الخصلة أو الإرادة الحسنى، وهي الرفق بالمسلمين والتوسطة على أهل الضعف والعجز عن الصلاة في مسجد قباء أو مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم في المطر والحر، فرد الله عليهم بقوله (والله يشهد) أي يعلم (إنهم لكاذبون) فيما حلفوا عليه وقالوه.
عن ابن عباس قال: هم أناس من الأنصار ابتنوا مسجداً فقال لهم أبو عامر الراهب والد حنظلة غسيل الملائكة ابنوا مسجدكم واستمدوا ما استطعتم من قوة وسلاح فإني ذاهب إلى قيصر ملك الروم فآتي بجند من الروم فأخرج محمداً وأصحابه، فلما فرغوا من مسجدهم أتوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقالوا قد فرغنا من بناء مسجدنا فنحب أن تصلي فيه وتدعو بالبركة، فأنزل الله(5/395)
لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (108)
(لا تقم فيه أبداً).
وعنه قال: لما بنى رسول الله صلى الله عليه وسلم مسجد قباء خرج رجال من الأنصار فبنوا مسجد النفاق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا بخدج ما أردت إلا ما أرى، قال: ما أردت إلا الحسنى وهو كاذب، فصدقه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأراد أن يعذره، فأنزل الله (والذين اتخذوا مسجداً ضراراً) الآية.
ثم نهى الله سبحانه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصلاة في مسجد الضرار فقال (لا تقم فيه أبداً) أي في وقت من الأوقات، فأرسل رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) جماعة هدموه وأحرقوه وجعلوا مكانه كناسة تلقى فيه الجيف، والنهي عن القيام فيه يستلزم النهي عن الصلاة فيه، وقد يعبر عن الصلاة بالقيام، يقال فلان يقوم الليل أي يصلي، ومنه الحديث الصحيح " من قام(5/395)
رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه " (1)
ثم ذكر الله سبحانه علة النهي عن القيام بقوله (لمسجد أسس على التقوى) اللام في لمسجد لام القسم، وقيل لام الابتداء وفي ذلك تأكيد لمضمون الجملة، وعلى قيل أنها بمعنى مع والأبلغ إبقاؤها على ظاهرها، وجعل التقوى أساساً له وتأسيس البناء تثبيته ورفعه، ومعنى تأسسه على التقوى تأسيسه على الخصال التي لا تبقى بها العقوبة.
واختلف العلماء في هذا المسجد فقالت طائفة هو مسجد قباء كما روى عن ابن عباس والضحاك والحسن والشعبي وغيرهم ورجحه البيضاوي لظاهر قوله تعالى، (من أول يوم) إذ لا يراد أول الأيام طلقاً بل أول أيام الهجرة ودخول المدينة المنورة لأنه بني قبل مسجد المدينة ولقوله (فيه رجال يحبون أن يتطهروا) ولأنه أوفق بالمقام لأنه بقباء كمسجد الضرار.
وذهب آخرون إلى أنه مسجد النبي صلى الله عليه وسلم لما أخرج ابن أبي شيبة وأحمد ومسلم والترمذي والنسائي وأبو يعلى وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن خزيمة وابن حبان وأبو الشيخ والحاكم وابن مردويه والبيهقي عن أبي سعيد الخدري قال: اختلف رجلان، رجل من بني خدرة، وفي لفظ تماريت أنا ورجل من بني عمرو بن عوف في المسجد الذي أسس على التقوى، فقال الخدري هو مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال العمري: هو مسجد قباء، فأتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألاه عن ذلك فقال: " هو هذا المسجد، لمسجد رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) " وقال: " في ذلك خير كثير يعني ": مسجد قباء.
وأخرج أحمد وغيره عن أبيٌّ بن كعب قال: سألت النبي صلى الله عليه
_________
(1) مسلم 759 - البخاري 33.(5/396)
وسلم عن المسجد الذي أسس على التقوى، قال هو مسجدي هذا (1)، وعن زيد بن ثابت مرفوعاً مثله عند الطبراني وغيره وفي الباب أحاديث كثيرة.
وقد جمع الشريف السمهودي بين الأحاديث وقال: كل منهما مراد لأن كلاًّ منهما أسس على التقوى من أول يوم تأسيسه.
والسر في إجابته صلى الله عليه وآله وسلم السؤال عن ذلك مما في الحديث دفع ما يوهمه السائل من اختصاص ذلك بمسجد قباء والتنويه بمزية هذا على ذاك وهو غريب هناك وقد سبقه إليه السهيلي في الروض الأنف.
ولا يخفاك أن النبي صلى الله عليه وسلم قد عين هذا المسجد الذي أسس على التقوى وجزم بأنه مسجده صلى الله عليه وسلم كما تقدم من الأحاديث الصحيحة فلا يقاوم ذلك قول فرد من الصحابة ولا جماعة منهم ولا من غيرهم، ولا يصلح لإيراده في مقابلة ما قد صح عن النبي (- صلى الله عليه وسلم -).
قال الكرخي: والتحقيق إن رواية نزولها في مسجد قباء لا تعارض تنصيصه صلى الله عليه وسلم على أنه مسجد المدينة، فإنها لا تدل على اختصاص أهل قباء بذلك. انتهى.
ولا فائدة في إيراد ما ورد في فضل الصلاة في مسجد قباء فإن ذلك لا يستلزم كونه المسجد الذي أسس على التقوى، على أن ما ورد في فضائل مسجده (- صلى الله عليه وسلم -) أكثر مما ورد في فضل مسجد قباء بلا شك ولا شبهة.
و (من أول يوم) متعلق بأسس، أي أسس على التقوى من أول يوم من أيام تأسيسه؛ قال بعض النحاة: أن من هاهنا بمعنى منذ، أي منذ أول يوم
_________
(1) الإمام أحمد 8/ 3.(5/397)
ابتدئ ببنائه ووضع أساسه.
قال السهيلي نور الله مرقده: في الآية من الفقه صحة ما اتفق عليه الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين مع عمر رضي الله تعالى عنه حين شاورهم في التاريخ، فاتفق رأيهم على أن يكون من عام الهجرة لأنه الوقت الذي عز فيه الإسلام، والحين الذي أمن فيه النبي صلى الله عليه وسلم وبنيت المساجد وعُبد الله كما يحب، فوافق رأيهم هذا ظاهر التنزيل.
وفهمنا الآن بفعلهم أن قوله تعالى (من أول يوم) أن ذلك اليوم هو أول أيام التاريخ الذي يؤرخ به الآن، فإن كان الصحابة رضوان الله عليهم أخذوه من هذه الآية فهو الظن بهم لأنهم أعلم الناس بتأويل كتاب الله وأفهمهم بما في القرآن من الإشارات.
وإن كان ذلك على رأي واجتهاد فقد علمه الله وأشار إلى صحته قبل أن يفعل إذ لا يعقل قول القائل فعلته أول يوم إلا بالإضافة إلى عام معلوم أو شهر معلوم أو تاريخ معلوم. وليس هاهنا إضافة في المعنى إلا إلى هذا التاريخ المعلوم لعدم القرائن الدالة على غيره من قرينه لفظ أو حال، فتدبره ففيه معتبر لمن ادّكر وعلم لمن رأى بعين فؤاد واستبصر.
(أحق أن تقوم فيه) مصلياً وأفعل التفضيل على غير بابه أو المفاضلة باعتبار زعمهم أو بالنظر له في ذاته، فإن المحظور قصدهم ونيتهم، والمعنى لو كان القيام في غيره جائزاً لكان هذا أولى بقيامك فيه للصلاة ولذكر الله لكونه أسس على التقوى من أول يوم ولكونه (فيه رجال يحبون أن يتطهروا) هذه الجملة، مستأنفة لبيان أحقية قيامه صلى الله عليه وسلم فيه أي كما أن هذا المسجد أولى من جهة المحل، فهو أولى من جهة الحال فيه، ومعنى محبتهم للتطهر أنهم يؤثرونه ويحرصون عليه عند عروض موجبه، يعني من الأحداث(5/398)
والجنابات وسائر النجاسات؛ وهذا قول أكثر المفسرين، وقيل معناه يحبون التطهر من الذنوب بالتوبة والاستغفار والأول أولى.
وقال الرازي: المراد بها الطهارة من الذنوب والمعاصي، وعينه بوجوه ثلاثة وقيلِ يحبون أن يتطهروا بالحمى المطهرة للذنوب فحموا جميعاً وهذا ضعيف جداً.
(والله يحب المطهرين) معنى محبة الله لهم الرضا عنهم والإحسان إليهم كما يفعل المحب بمحبوبه.
وأخرج ابن ماجة وابن المنذر وابن أبي حاتم والدارقطني والحاكم عن أبي أيوب وجابر بن عبد الله وأنس بن مالك أن هذه الآية لما نزلت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يا معشر الأنصار إن الله قد أثنى عليكم خيراً في الطهور فما طهوركم هذا؟ قالوا نتوضأ للصلاة ونغتسل من الجنابة؛ قال فهل مع ذلك غيره؟ قالوا لا، غير أن أحدنا إذا خرج إلى الغائط أحط أن يستنجي بالماء، قال هو ذاك فعليكموه " (1).
وفي حديث رواه البزاز قالوا نتبع الحجارة بالماء؟ فقال هو ذاك فعليكموه، وفي الباب روايات بألفاظ، وقد روي عن جماعة من التابعين في ذكر سبب نزول الآية نحو هذا.
ولا يخفاك أن بعض هذه الأحاديث ليس فيه تعيين مسجد قباء وأهله وبعضها ضعيف وبعضها لا تصرح فيه بأن المسجد الذي أسس على التقوى هو مسجد قباء؛ وعلى كل حال لا يقاوم تلك الأحاديث المصرحة بأن المسجد الذي أسس على التقوى هو مسجد النبي (- صلى الله عليه وسلم -) في صحتها وصراحتها.
_________
(1) المستدرك كتاب الطهارة 1/ 155.(5/399)
أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (109) لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ
ثم بين سبحانه أن بين الفريقين بوناً بعيداً فقال(5/400)
أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (109)
(أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير أم من أسس بنيانه على شفا جرف هار) الهمزة للإنكار والجملة مستأنفة مبينة لخيرية الرجال المذكورين على أهل مسجد الضرار، والفاء عاطفة على مقدر أي أبعد ما علم حالهم فمن أسس، والبنيان مصدر كالعمران وأريد به المبنى.
والمعنى أن من أسس بناء دينه على قاعدة قوية محكمة وهي تقوى الله ورضوانه خير ممن أسس دينه على ضد ذلك وهو الباطل والنفاق، قيل أنه استعارة مكنية شبهت التقوى والرضوان بما يعتمد عليه البناء تشبيهاً مضمراً في النفس، وأسس بنيانه تخييل فهو مستعمل في معناه الحقيقي أو مجاز فتأسيس البنيان بمعنى إحكام أمور دينية أو تمثيل لحال من أخلص لله وعمل الأعمال الصالحة بحال من بنى شيئاً محكماً مؤسساً يستوطنه ويتحصن فيه أو البنيان استعارة أصلية والتأسيس ترشيح والشفا الشفير، وشفا كل شيء حرفه وطرفه.
ومنه يقال أشفى على كذا إذا دنا منه وقرب أن يقع فيه، والجرف بضم الراء وسكونها قراءتان سبعيتان، وعلى كل فالجيم مضمومة وهو ما يتجرف بالسيول وهي الجوانب التي تنحفر بالماء وقيل المكان الذي أكل الماء تحته فهو إلى السقوط قريب، وقيل البئر التي لم تطو، وقيل هو الهوة، والاجتراف اقتلاع الشيء من أصله، والهار الساقط يقال هار البناء إذا سقط وأصله هائر كما قالوا شاك السلاح وشائك، كذا قال الزجاج: يقال هار يهور ويهار وهار يهير وتهور(5/400)
البناء وتهير فهو مقلوب بتقديم لامه على عينه، وقيل حذفت عينه اعتباطاً أي لغير موجب.
وقال أبو حاتم: أن أصله هاور أي ساقط متداع منها، قال في شمس العلوم: الجرف ما جرف السيل أصله وأشرف أعلاه فإن انصدع أعلاه فهو الهار انتهى وقيل لا قلب فيه ولا حذف وأن أصله هور أو هير قال السمين وهذا أعدل الوجوه لاستراحته من ادعاء القلب والحذف اللذين هما على خلاف الأصل لولا أنه غير مشهور عند أهل التصريف انتهى.
جعل الله سبحانه هذا مثلاً لما بنوا عليه دينهم الباطل المضمحل بسرعة ثم قال (فانهار) الجرف أو الشفا أو بنيان الباني على شفا جرف هار (به) أي بالبنيان أو المعنى أنه طاح الباطل بالبناء والباني (في نار جهنم) قال ابن عباس: صيرهم نفاقهم إلى النار، روى أنهم رأوا الدخان حين حفروا أساسه، وقال قتادة: والله ما تناهى بناؤهم حتى وقع في النار.
والباء في به للتعدية أو المصاحبة أي فانهار مصاحباً له وجاء بالانهيار الذي هو للجرف ترجيحاً للمجاز، وسبحان الله ما أبلغ هذا الكلام وأقوى تراكيبه وأوقع معناه وأفصح مبناه، عن جابر بن عبد الله قال: لقد رأيت الدخان يخرج من مسجد الضرار حيث انهار على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أخرجه الحاكم ومسدد وابن جرير وغيرهم.
(والله لا يهدي القوم الظالمين) أي لا يوفقهم للخير عقوبة لهم على نفاقهم ثم ذكر سبحانه أن بنيانهم هذا موجب لمزيد ريبهم واستمرار ترددهم وشكهم فقال:(5/401)
لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (110)
(لا يزال بنيانهم) مصدر بمعنى اسم المفعول (الذي بنوا ريبة في قلوبهم) أي شكاً ونفاقاً أي سبب ريبهم كأنه نفس الريبة أما حال بنائه فظاهر وأما حال هدمه فلأنه رسخ به ما كان في قلوبهم من الشر وتضاعفت(5/401)
آثاره وأحكامه، وقيل معنى الريبة الحسرة والندامة لأنهم ندموا على بنيانه، وقال المبرد أي حرارة وغيظاً.
وقد كان هؤلاء الذين بنوا مسجد الضرار منافقين شاكين في دينهم، ولكنهم ازدادوا بهدم رسول الله صلى الله عليهم وسلم له نفاقاً وتصميماً على الكفر ومقتاً للإسلام لما أصابهم من الغيظ الشديد والغضب العظيم بهدمه.
ثم ذكر سبحانه ما يدل على استمرار هذه الريبة ودوامها وهو قوله: (إلا أن تقطع قلوبهم) قطعاً وتتفرق أجزاء إما بالموت أو بالسيف، وقيل في القبور أو في النار، والمقصود أن هذه الريبة دائمة لهم ما داموا أحياء، ويجوز أن يكون ذكر التقطع تصويراً لحال زوال الريبة وقيل معناه إلا أن يتوبوا توبة تتقطع بها قلوبهم ندماً وأسفاً على تفريطهم.
وقرئ تقطع بالتخفيف والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم أي إلا أن تقطع يا محمد قلوبهم وتتمكن منهم كل التمكن، وقرئ ولو تقطعت قلوبهم، وقرئ شاذاً إلى أن تقطع على الغاية أي لا يزالون كذلك إلى أن يموتوا والمستثنى منه محذوف، والتقدير في كل وقت إلا وقت تقطيع قلوبهم، أو في كل حال إلا حال تقطيعها (والله عليم) بعزائمهم (حكيم) في جزاء جرائمهم.(5/402)
إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ(5/403)
إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111)
(إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة) لما شرح الله تعالى فضائح المنافقين وقبائحهم بسبب تخلفهم عن غزوة تبوك، وذكر أقسامهم وفرع على كل قسم منها ما هو لائق به، عاد على بيان فضيلة الجهاد والترغيب فيه وقد بالغ في ذلك على وجه لا مزيد عليه حيث عبر عن قبوله أنفسهم وأموالهم التي بذلوها في سبيله واثابته إياهم بمقابلتها بالجنة بالشراء، فذكر الشراء تمثيل على طريقة الاستعارة التبعية كما في قوله: (أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى).
ثم جعل المبيع الذي هو العمدة والمقصد، أنفس المؤمنين وأموالهم وجعل الثمن الذي هو الوسيلة في الصفقة الجنة، ولم يجعل الأمر على العكس بأن يقال أن الله باع الجنة من المؤمنين بأنفسهم وأموالهم، ليدل على أن المقصود في العقد هو الجنة وما بذله المؤمنون في مقابلتها وسيلة إليها إيذاناً بكمال العناية بهم وبأموالهم.
ثم أنه لم يقل بالجنة بل قال (بأن لهم الجنة) مبالغة في تقرر وصول الثمن إليهم واختصاصه بهم كأنه قيل بالجنة الثابتة لهم المختصة بهم، وأصل الشراء بين العباد هو إخراج الشيء عن الملك بشيء آخر مثله أو دونه أو انفع منه، فهؤلاء المجاهدون باعوا أنفسهم من الله بالجنة التي أعدها الله للمؤمنين أي بأن يكونوا من أهل الجنة وممن يسكنها جادوا يأنفسهم وهي أنفس الاعلاق(5/403)
والجود بها غاية الجود، وجاد الله عليهم بالجنة وهي أعظم ما يطلبه العباد ويتوسلون إليه بالأعمال، والمراد بالأنفس هنا أنفس المجاهدين، وبالأموال ما ينفقونه في الجهاد أو في جميع وجوه البر والطاعات، ويدخل فيها الجهاد دخولاً أولياً.
قال أهل المعاني: لا يجوز أن يشتري الله شيئاً في الحقيقة لأن المشتري إنما يشتري ما لا يملكه والأشياء كلها ملك لله عز وجل، ولهذا قال الحسن: أنفسنا هو خلقها وأموالنا هو رزقنا إياها، لكن جرى هذا مجرى التلطف في الدعاء إلى الطاعة والجهاد وجعل ذلك استبدالاً وشراء، ودخلت الباء هنا على المتروك على بابها وسماها أبو البقاء باء المقابلة كقولهم باء العوض وباء الثمنية.
وقرأ عمر بن الخطاب بالجنة، عن جابر بن عبد الله قال: لما نزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو في المسجد كبر الناس في المسجد فأقبل رجل من الأنصار ثانياً طرفي ردائه على عاتقه فقال: يا رسول الله أنزلت هذه الآية قال: نعم، فقال الأنصاري: بيع ربيح لا نقيل ولا نستقيل.
وقد أخرج ابن سعد عن عبادة بن الصامت أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم اشترط في بيعة العقبة على من بايعه من الأنصار أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأنه رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة والسمع والطاعة ولا ينازعوا في الأمر أهله، ويمنعوه مما يمنعون منه أنفسهم وأهليهم قالوا نعم، قال قائل الأنصار نعم لك هذا يا رسول الله فما لنا قال الجنة، وأخرجه ابن سعد أيضاً من وجه آخر، وليس في قصة العقبة ما يدل على أنها سبب نزول الآية. (يقاتلون في سبيل الله) استئناف لبيان البيِم الذي يقتضيه الاشتراء المذكور لا لبيان نفس الاشتراء، لأن قتالهم في سبيل الله ليس باشتراء من الله أنفسهم وأموالهم كانه قيل كيف يبيعونها بالجنة فقيل يقاتلون، وقيل فيه معنى الأمر أي قاتلوا في سبيله.(5/404)
ْثم بين هذه المقاتلة بقوله: (فيقتلون) أعداء الله (وُيقتلون) في طاعته والمراد أنهم يقدمون على قتل الكفار في الحرب ويبذلون أنفسهم في ذلك، فإن فعلوا فقد استحقوا الجنة، وإن لم يقع القتل عليهم بعد الإبلاء في الجهاد والتعرض للموت بالإقدام على الكفار، وتقديم حالة القاتلية على حالة المقتولية للإيذان بعدم الفرق بينهما في كونهما مصداقاً لكون القتال بذلاً للنفس.
وفي قراءة بتقديم المبنى للمفعول رعاية لكون الشهادة عريقة في الباب، وإيذاناً بعدم مبالاتهم بالموت في سبيل الله بل بكونه أحب إليهم من السلامة أي فيقتل بعضهم، ويقاتل الباقي يعني لا يشترط اجتماع الأمرين في الشخص الواحد بل يتحقق الفضل العظيم وإن لم يوجد واحد من الوصفين كما إذا وجدت المضاربة من غير قتل بل يتحقق الجهاد بمجرد العزم وتكثير السواد.
(وعداً عليه حقاً) مصدران منصوبان بفعلهما المحذوف أي وعدهم وعداً وحق ذلك الوعد حقاً أي تحقق وثبت إخبار من الله سبحانه بأن فريضة الجهاد واستحقاق الجنة بها قد ثبت الوعد بها من الله.
(في التوراة والإنجيل والقرآن) أي كما وقع والقرآن وفيه وجهان (أحدهما) أنه متعلق باشترى وعلى هذا ففيه دليل على أن الأمر بالجهاد موجود في جميع الشرائع ومكتوب على جميع أهل الملل وكل أمة وعدت عليه بالجنة (والثاني) أنه متعلق بمحذوف والمعنى وعداً مذكوراً كائناً في التوراة وعلى هذا فيكون الوعد بالجنة لهذه الأمة مذكوراً في كتب الله المنزلة.
(ومن أوفى بعهده من الله) في هذا من تأكيد الترغيب للمجاهدين في الجهاد والتنشيط لهم على بذل الأنفس والأموال ما لا يخفى، فإنه أولاً أخبر بأنه قد اشترى منهم أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة وجاء بهذه العبارة الفخيمة وهي كون الجنة قد صارت ملكاً لهم، ثم أخبر ثانياً بأنه قد وعد بذلك في كتبه(5/405)
المنزلة ثم أخبر ثالثاً بانه بعد هذا الوعد الصادق لا بد من حصول الموعود به فإنه لا أحد أوفى بعهده من الله سبحانه وهو صادق الوعد لا يخلف الميعاد، فإن إخلاف الوعد مما لا يكاد يصدر عن كرام الخلق مع إمكان صدوره منهم، فكيف بجناب الخلاق الغني عن العالمين جل جلاله، فالجملة اعتراض مقرر لمضمون ما قبله من حقية الوعد على نهج المبالغة في كونه أوفى بالعهد من كل واف.
ثم زادهم سروراً وحبوراً فقال: (فاستبشروا ببيعكم) البشارة هي إظهار السرور وظهوره يكون في بشرة الوجه، ولذا يقال أسارير الوجه أي التي يظهر فيها السرور، والسين ليست للطلب كاستوقد وأوقد بل للمطاوعة وقد تقدم إيضاح هذا والفاء لترتيب الاستبشار أو الأمر به على ما قبله، والمعنى أظهروا السرور وافرحوا غاية الفرح بهذا البيع.
(الذي بايعتم به) الله عز وجل فقد ربحتم فيه ربحاً لم يربحه أحد من الناس إلا من فعل مثل فعلكم، وفيه التفات عن الغيبة تشريفاً لهم على تشريف وزيادة لسرورهم على سرور، وفيه زيادة تقرير بيعهم وإشعار بكونه مغايراً لسائر البياعات، فإنه بيع للفاني بالباقي وكلا البدلين له سبحانه وتعالى.
والإشارة بقوله: (وذلك) إلى الجنة أو إلى نفمس المبيع الذي ربحوا فيه الجنة (هو الفوز العظيم) وصف الفوز وهو الظفر بالمطلوب بالعظيم يدل على أنه فوز لا فوز مثله، قال عمر بن الخطاب: إن الله بايعك وجعل الصفقتين لك، وقال الحسن: اسمعوا إلى بيعة ربيحة بايع الله بها كل مؤمن، وعنه أن الله أعطاك الدنيا فاشتر الجنة ببعضها، وقال قتادة: ثامنهم فأغلى لهم، وقال الصادق: ليس لأبدانكم ثمن إلا الجنة فلا تبيعوها إلا بها.(5/406)
التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ(5/407)
التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (112)
(التائبون) رفع على المدح أي هم التائبون يعني المؤمنين والتائب الراجع أي هم الراجعون إلى طاعة الله عن الحالة المخالفة للطاعة، وقال الزجاج: عندي أن قوله التائبون رفع بالابتداء وخبره مضمر، أي التائبون ومن بعدهم إلى آخر الآية لهم الجنة أيضاً وإن لم يجاهدوا. قال: وهذا أحسن إذ لو كانت هذه أوصافاً للمؤمنين المذكورين لكان الوعد خاصاً بالمجاهدين.
وقد ذهب إلى هذا طائفة من المفسرين، وقيل إن الخبر قوله: (الآمرون) وقيل إن التائبون بدل من الضمير المستتر في يقاتلون، وذهب آخرون إلى أن هذه الأوصاف راجعة إلى المؤمنين في الآية الأولى وإنها على جهة الشرط، أي لا يستحق الجنة بتلك المبايعة إلا من كان من المؤمنين على هذه الأوصاف، وقال ابن عطية وقيل غير ذلك.
وجوز صاحب الكشاف أن يكون التائبون مبتدأ وخبره العابدون وما بعده إخبار كذلك أي التائبون عن الكفر على الحقيقة الجامعون لهذه الخصال، وفيه من البعد ما لا يخفى.
ثم قيل المراد به التوبة عن الشرك والبراءة من النفاق وقيل من كل معصية، وقيل من جميع المعاصي، لأن اللفظ عام يتناول الكل، وحاصل ما ذكر أوصاف تسعة، الستة الأولى تتعلق: لمعاملة الخالق، والسابع والثامن يتعلقان: لمعاملة المخلوق، والتاسع يعم القبيلين. قاله الحفناوي، وأتى بترتيب هذه الصفات في الذكر على أحسن نظم، وهو ظاهر بالتأمل فإنه قدم التوبة(5/407)
أولاً ثم ثنى بالعبادة إلى آخرها.
(العابدون) أي القائمون بما أمروا به من عبادة الله مع الإخلاص (الحامدون) الذين يحمدون الله سبحانه على كل حال في السراء والضراء ويقومون بشكره على جميع نعمه دنيا وأخرى (السائحون) السياحة في اللغة أصلها الذهاب على وجه الأرض كما يسيح الماء وهي مما يعين العبد على الطاعة لانقطاعه عن الخلق ولا يحصل له من الاعتبار بالتفكر في مخلوقات الله سبحانه، فالسياحة لها أثر عظيم في تهذيب النفس وتحسين أخلاقها.
وفي القاموس السياحة بالكسر الذهاب في الأرض للعبادة ومنه المسيح بن مريم، وذكرت في اشتقاقه خمسين قولاً في شرحي لمختصر البخاري، والسائح الصائم الملازم للسياحة، قيل هم الصائمون، وإليه ذهب جمهور المفسرين، وبه قال ابن مسعود ومنه قوله تعالى؛ (عابدات سائحات) وإنما قيل للصائم سائح لأنه يترك اللذات كلها كما يترك السائح في الأرض، قاله سفيان بن عيينة.
وقال الأزهري: سمي الصائم سائحاً لأن الذي يسيح في الأرض متعبداً لا زاد معه فكان ممسكاً عن الأكل، وكذلك الصائم ممسك عنه، قال الزجاج: ومذهب الحسن أن السائحين هنا هم الذين يصومون الفرض، وقيل أنهم الذين يديمون الصيام، وقال عطاء: السائحون هم الغزاة والمجاهدون، وقال عبد الرحمن بن زيد: هم المهاجرون، وقال عكرمة: هم الذين يسافرون لطلب الحديث، وقيل هم الحائرون بأفكارهم في توحيد ربهم وملكوته وما خلق من العبر، وقيل هم طلبة العلم مطلقاً لأنهم ينتقلون من بلد إلى بلد في طلبه ويسيحون في الأرض يطلبونه من مظانه ويدخل فيه طالب الحديث دخولاً أولياً.
(الراكعون الساجدون) معناه المصلون المحافظون على الصلوات، وعبر(5/408)
عنها بهما لأنهما معظم أركانها وبهما يمتاز المصلي من غيره بخلاف غيرهما كالقيام والقعود لأنهما حالتا المصلي وغيره (الآمرون بالمعروف) أي القائمون بأمر الناس بما هو معروف في الشريعة (والناهون عن المنكر) أي القائمون بالإنكار على من فعل منكراً أي شيئاً ينكره الشرع.
قال الحسن: أما أنهم لم يأمروا الناس بالمعروف حتى كانوا من أهله، ولم ينهوا عن المنكر حتى انتهوا عنه، لم يأت بعاطف بين هذه الأوصاف لمناسبتها لبعضها إلا في هذين الوصفين للمضادة بينهما إذ الأول طلب فعل والثاني طلب ترك أو كف (والحافظون لحدود الله) أي القائمون بحفظ شرائعه التي أنزلها الله في كتبه وعلى لسان رسله، وقيل بطاعة الله.
وقال الحسن: بفرائض الله وهم أهل الوفاء ببيعة الله، وقيل بأوامره ونواهيه أو بمعالم الشرع، وقيل إن العطف في الصفات يجيء بالواو وبغيرها، كقوله: (غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب) وقيل إن الواو زائدة، وقيل هى واو الثمانية المعروفة عند النحاة كما في قوله تعالى: (ثيبات وأبكاراً) وقوله: (وفتحت أبوابها) وقوله: (سبعة وثامنهم كلبهم).
وقد أنكر واو الثمانية أبو علي الفارسي وناظره في ذلك ابن خالويه، قال الخفاجي: وقائل هذا القول يعني كون السبع عدداً تاماً هو أبو البقاء تبعاً لغيره ممن أثبت واو الثمانية، وهو قول ضعيف لم يرضه النحاة كما فصله صاحب المغنى اهـ والحافظ ابن القيم في البدائع.
(وبشر المؤمنين) الموصوفين بالصفات السابقة بالجنة، عن ابن عباس قال: من مات على هذه التسع فهو في سبيل الله، ومن مات وفيه تسع فهو شهيد، وفيه إظهار في مقام الإضمار للتنبيه على علة الحكم أي سبب استحقاقهم الجنة هو إيمانهم وحذف المبشر به لخروجه عن حد البيان.(5/409)
مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (113) وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ(5/410)
مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (113)
(ما كان) أي لا يصح ولا ينبغي ولا يجوز (للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين) لما بين الله سبحانه في أول السورة وما بعده أن البراءة من المشركين والمنافقين واجبة، بين سبحانه هنا ما يزيد ذلك تأكيداً وصرح بأن ذلك متحتم (ولو كانوا أولي قربى) فإن القرابة في مثل هذا الحكم لا تأثير لها.
وقد ذكر أهل التفسير أن (ما كان) في القرآن يأتي على وجهين (الأول) على النفي نحو ما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله، والآخر على النهي نحو ما كان لكم أن تؤذوا رسول الله.
(من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم) هذه الجملة تتضمن التعليل للنهي عن الاستغفار، والمعنى أن هذا التبين موجب لقطع الموالاة لمن كان هكذا، وعدم الاعتداد بالقرابة لأنهم ماتوا على الشرك، وقد قال سبحانه (إن الله لا يغفر أن يشرك به) فطلب المغفرة لهم في حكم المخالفة لوعد الله ووعيده.
عن عليّ قال: أخبرت النبي صلى الله عليه وسلم بموت أبي طالب فبكى فقال: اذهب فغسله وكفنه وواره غفر الله له ورحمه، ففعلت وجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستغفر له أياماً ولا يخرج من بيته حتى نزل عليه (ما كان للنبي) الآية.(5/410)
وقد روى في سبب نزول الآية استغفار النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي طالب من طرق كثيرة وأصله في الصحيحين، وما فيهما مقدم على ما لم يكن فيهما على فرض أنه صحيح فكيف وهو ضعيف غالبه، وقيل إن أريد بطلب المغفرة للكافر هدايته للإسلام قبل الموت جاز الاستغفار له، وإن أريد به أن يغفر ذنبه مع بقائه على الكفر لم يجز فمفهوم هذه الآية فيه تفصيل.
وهذه الآية متضمنة لقطع الموالاة للكفار وتحريم الاستغفار لهم والدعاء بما لا يجوز لمن كان كافراً، ولا ينافي هذا ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في الصحيح أنه قال يوم أحد حين كسر المشركون ربامحيته وشجوا وجهه " اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون " لأنه يمكن أن يكون ذلك قبل أن يبلغه تحريم الاستغفار لهم.
وعلى فرض أنه قد كان بلغه كما يفيده سبب النزول فإنه قبل يوم أحد بمدة طويلة فصدور هذا الاستغفار منه لقومه إنما كان على سبيل الحكاية عمن تقدمه من الأنبياء كما في صحيح مسلم عن عبد الله قال: كأني أنظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم يحكي نبياً من الأنبياء ضربه قومه ويمسح الدم عن وجهه ويقول: " رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون " (1).
_________
(1) مسلم 1792 - البخاري 1633.(5/411)
وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (114)
(وما كان استغفار إبراهيم لأبيه) بقوله واغفر لأبي أي بأن توفقه للإيمان وتهديه إليه، وجه تعلق هذه الآية بما قبلها أنه تعالى لما بالغ في وجوب الانقطاع عن المشركين الأحياء منهم والأموات بين أن هذا الحكم غير مختص بدين محمد صلى الله عليه وسلم بل هو مشروع أيضاً في دين إبراهيم فتكون المبالغة في وجوب الانقطاع أكمل وأقوى.(5/411)
(إلا عن موعدة وعدها إياه) ذكر سبحانه السبب في استغفار إبراهيم لأبيه أنه كان لأجل وعد تقدم من إبراهيم لأبيه بالاستغفار له، والاستثناء مفرغ من أعم العلل أي لم يكن استغفاره لأبيه ناشئاً عن شيء ولأجل شيء إلا عن موعدة مبنية على عدم تبين أمره وعدها إياه أي لأجلها.
(فلما تبين له أنه عدو لله) مصر على العداوة والكفر ومستمر عليه، وأنه غير مستحق للاستغفار بموته على الكفر (تبرأ منه) وترك الاستغفار له، وهذا يدل على أنه إنما وعده قبل أن يتبين له أنه من أهل النار ومن أعداء الله، فلا حاجة إلى السؤال الذي يورده كثير من المفسرين أنه كيف خفي ذلك على إبراهيم فإنه لم يخف عليه تحريم الاستغفار لمن أصر على الكفر ومات عليه وهو لم يعلم ذلك إلا بإخبار الله سبحانه له بأنه عدو لله، فإن ثبوت هذه العداوة يدل على الموت على الكفر، وكذلك لم يعلم نبينا صلى الله عليه وآله وسلم بتحريم ذلك إلا بعد أن أخبره الله بهذه الآية، وهذا حكم إنما يثبت بالسمع لا بالعقل.
وقيل المراد من استغفار إبراهيم لأبيه دعاؤه إلى الإسلام وهو ضعيف جداً وقيل المراد به هنا النهي عن الصلاة على جنائز الكفار فهو كقوله تعالى: (ولا تصل على أحد منهم مات أبداً) ولا حاجة إلى تفسير الاستغفار بالصلاة ولا ملجئ إلى ذلك.
ثم ختم الله سبحانه هذه الآية بالثناء العظيم على إبراهيم فقال: (إن إبراهيم) استئناف مسوق لبيان الحامل له علي الاستغفار قبل التبين فليس لغيره أن يقتدي به فيه إذ ليس لغيره ما له من الرأفة والرقة، فلا بد من أن يكون غيره أكثر اجتناباً وتبرياً (لأوّاه) هو كثير التأوه كما تدل على ذلك صيغة المبالغة، وبه قال كعب الأحبار، وهو كناية عن فرط ترحمه ورقة قلبه، والتأوّه أن يقول الرجل عند الشكاية والتوجع آه، وقد أوَّه الرجل تأويها، وتأوه تأوها(5/412)
إذا قال: أوَّه أي أتوجع.
وحكى قطرب: يقال آه يؤه كقام يقوم أوهاً، وأنكر النحويون هذا القول عليه، وقالوا: لا يقال من أوه فعل ثلاثي.
وقد اختلف أهل العلم في معنى الأواه، فقال ابن مسعود وعبيد بن عمير أنه الذي يكثر الدعاء وقال الحسن وقتادة: أنه الرحيم بعباد الله. وروي عن ابن عباس: أنه المؤمن التواب بلغة الحبش، وقال الكلبى: أنه الذي يذكر الله في الأرض القفر، وروي مثله عن ابن المسيب، وقيل الذي يكثر الذكر من غير تقييد، روي ذلك عن عقبة بن عامر.
وقيل هو الذي يكثر التلاوة؛ وقيل أنه الفقيه، قاله مجاهد والنخعي، وقيل المتضرع الخاضع روي ذلك عن عبد الله بن شداد، وقيل الموقن قاله مجاهد، وقيل هو الذي إذا ذكر خطاياه استغفر لها روي ذلك عن أبي أيوب، وقيل هو الشفيق قاله عبد العزيز بن يحيى، وقيل هو المسيح قاله سعيد بن جبير، وقال أبو عبيدة هو المتأوه شفقاً وفرقاً المتضرع إيقاناً ولزوماً للطاعة.
قال الزجاج: انتظم في قول أبي عبيدة جميع ما قيل في الأواه، وقيل أنه المعلم للخير؛ وقيل أنه الراجع عن كل ما يكرهه الله الخائف من النار، قاله عطاء، والمطابق لمعنى الأواه لغة أن يقال إنه الذي يكثر التأوه من ذنوبه فيقول مثلا آه من ذنوبي، آه مما أعاقب به بسببها ونحو ذلك، وبه قال الفراء: وهو مروى عن أبي ذر.
وكان إبراهيم عليه السلام يكثر أن يقول أوّه من النار قبل أن لا ينفع أوه، وأصله من التأوه وهو أن يسمع للصدر صوت من تنفس الصعداء والفعل منه أوه قال في الصحاح وقد أوه الرجل تأويهاً وتأوه تأوها والاسم منه الآهة(5/413)
بالمد، قال المثقب العبدي:
إذا ما قمت أرحلها بليل ... تأوه آهة الرجل الحزين
وعن ابن شداد بن الهاد قال: قال رجل يا رسول الله ما الأواه قال: الخاشع المتضرع في الدعاء، أخرجه ابن جرير وأبو الشيخ وابن أبي حاتم، وفيه شهر بن حوشب فيه الخلاف وهذا إن ثبت وجب المصير إليه وتقديمه على ما ذكره أهل اللغة في معنى الأواه.
(حليم) الكثير الحلم كما تفيده صيغة المبالغة، وهو الذي يصفح عن الذنوب ويصبر على الأذى ثم يقابله بالإحسان واللطف كما فعل إبراهيم مع أبيه حين قال له لئن لم تنته لأرجمنك فأجابه بقوله: (سلام عليك سأستغفر لك ربي) وقيل الذي لا يعاقب أحداً قط إلا لله، قال ابن عباس: كان من حلمه إذا آذاه الرجل من قومه قال له هداك الله، وقيل الحليم السيد.(5/414)
وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ(5/415)
وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (115)
(وما كان الله ليضل قوماً بعد إذ هداهم) لما نزلت الآية المتقدمة في النهي عن الاستغفار للمشركين خاف جماعة ممن كان يستغفر لهم العقوبة من الله بسبب ذلك الاستغفار فأنزل الله الآية أي أن الله سبحانه لا يوقع الضلال على قوم ولا يسميهم ضلالاً بعد أن هداهم إلى الإسلام والقيام بشرائعه ما لم يقدموا على شيء من المحرمات بعد أن تبين لهم أنه محرم، وأما قبل أن يتبين لهم ذلك فلا إثم عليهم ولا يؤاخذون به؛ وهذا مثل قوله في آل عمران [بعد إذ هديتنا] وفيه وجهان أي بعد أن هداهم أو بعد وقت هداهم فيه يعني إذ بمعنى أن أو أنها ظرف بمعنى وقت.
(حتى يبين لهم ما يتقون) أي ما يجب عليهم اتقاؤه من محرمات الشرع وقال الضحاك: ما يأتون وما يذرون، وقال مقاتل والكلبي: هذا قي المنسوخ أي ما كان الله ليبطل عمل قوم قد عملوا بالمنسوخ حتى يبين الناسخ، قال ابن عباس: نزلت حين أخذوا الفداء من المشركين يوم الأسارى قال: لم يكن لكم أن تأخذوه حتى يؤذن لكم ولكن ما كان الله ليعذب قوماً بذنب أذنبوه حتى يبين لهم ما يتقون أي ينهاهم قبل ذلك.
وقال مجاهد: بيان الله للمؤمنين في ترك الاستغفار للمشركين خاصة وبيانه لهم في طاعته ومعصيته عامة فافعلوا أو اتركوا (إن الله بكل شيء عليم) مما يحل لعباده ويحرم عليهم ومن سائر الأشياء التي خلقها ومنه مستحق الإضلال والهداية.(5/415)
إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (116) لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ
ثم بين لهم(5/416)
إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (116)
(إن الله) سبحانه (له ملك السموات والأرض) لا يشاركه في ذلك مشارك، ولا ينازعه منازع يتصرف في ملكه بما يشاء من التصرفات التي من جملتها أنه (يحي ويميت) ومن قضت مشيئته بإحيائه وبإماتته (وما لكم) أي لعباده (من دون الله من ولي) يواليهم (ولا نصير) ينصرهم فلا يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قرب، فإن القرابة لا تنفع شيئاً ولا تؤثر أثراً بل التصرف في جميع الأشياء لله وحده.(5/416)
لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (117)
(لقد تاب الله) أي أدام توبته (على النبي) فيما وقع منه صلى الله عليه وسلم من الإذن في التخلف أو فيما وقع منه من الاستغفار للمشركين، وليس من لازم التوبة أن يسبق الذنب ممن وقعت منه أو له لأن كل العباد محتاج إلى التوبة والاستغفار، وقد يكون التوبة منه على النبي من باب أنه ترك ما هو الأولى والأليق كما في قوله عفا الله عنك لم أذنت لهم.
ويجوز أن يكون ذكر النبي صلى الله عليه وسلم لأجل التعريض للمذنبين بأن يتجنبوا الذنوب ويتوبوا عما قد لابسوه منها، قال أهل المعاني: هو مفتاح كلام للتبرك وفيه تشريف لهم في ضم توبتهم إلى توبة النبي صلى الله عليه وسلم كما ضم اسم الرسول إلى اسم الله في قوله: (فإن لله خمسه وللرسول) فهو تشريف له.
(و) كذلك تاب الله سبحانه على (المهاجرين والأنصار) فيما قد(5/416)
اقترفوه من الذنوب، ومن هذا القبيل ما صح عنه صلى الله عليه وآله وسلم من قوله أن الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم، والإنسان لا يخلو من زلات وتبعات في مدة عمره إما من باب الصغائر وإما من باب ترك الأفضل.
ثم وصف سبحانه المهاجرين والأنصار بأنهم (الذين اتبعوه) أي النبي صلى الله عليه وسلم فلم يتخلفوا عنه (في ساعة العسرة) هي غزوة تبوك فإنهم كانوا فيها في عسرة شديدة، وقد ذكر بعض العلماء أن النبي صلى الله عليه وسلم سار إلى تبوك في سبعين ألفاً ما بين راكب وماش من المهاجرين والأنصار وغيرهم من سائر القبائل، فالمراد بالساعة أوقات جميع تلك الغزاة ولم يرد ساعة بعينها، والعسرة صعوبة الأمر والشدة والضيق.
وقد وقع الاتفاق بين الرواة أن ساعة العسرة هي غزوة تبوك وتسمى غزوة العسرة، والجيش الذي سار يسمى جيش العسرة لأنه كان عليهم عسرة في الزاد والظهر والماء.
وأخرج ابن حبان والحاكم وصححه والبيهقي وغيرهم عن ابن عباس أنه قال لعمر بن الخطاب: حدثنا من شأن ساعة العسرة فقال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك في قيظ شديد فنزلنا منزلاً فأصابنا فيه عطش حتى ظننا أن رقابنا ستنقطع حتى أن الرجل لينحر بعيره فيعصر فرثه فيشربه ويجعل ما بقي على كبده، فقال أبو بكر الصديق: يا رسول الله إن الله قد عودك في الدعاء خيراً فادع لنا فرفع يديه فلم يرجعهما حتى قالت السماء؛ فأهطلت ثم سكبت فملؤوا ما معهم ثم ذهبنا ننظر فلم نجدها جاوزت العسكر.
(من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم) في كاد ضمير الشأن بيان(5/417)
لتناهي الشدة وبلوغها النهاية، ومعنى يزيغ يتلف بالجهد والمشقة والشدة، وقيل معناه يميل عن الحق ويترك المناصرة والممانعة، وقيل معناه يهم بالتخلف عن الغزو لما هم فيه من الشدة العظيمة، وفي قراءة ابن مسعود من بعد ما زاغت وهم المتخلفون على هذه القراءة.
وفي تكرير التوبة عليهم بقوله: (ثم تاب عليهم) تأكيد ظاهر واعتناء بشأنها، هذا إن كان الضمير راجعاً إلى من تقدم ذكر التوبة عنهم وإن كان الضمير إلى الفريق الثاني فلا تكرار، وذكر التوبة أولاً قبل ذكر الذنب تفضلاً منه وتطييباً لقلوبهم، ثم ذكر الذنب بعد ذلك وأردفه بذكر التوبة مرة أخرى تعظيماً لشأنهم، وليعلموا أنه تعالى قد قبل توبتهم وعفا عنهم.
ثم أتبعه بقوله: (إنه بهم رؤوف رحيم) تأكيداً لذلك أي رفيق بعباده لأنه لم يحملهم ما لا يطيقون من العبادات، وبين الرؤوف والرحيم فرق لطيف وإن تقاربا في المعنى، قال الخطابي: قد تكون الرحمة مع الكراهة ولا تكاد الرأفة تكون معها، وقيل الرأفة عبارة عن السعي في إزالة الضرر، والرحمة عبارة عن السعي في إيصال النفع.(5/418)
وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ(5/419)
وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118)
(و) تاب (على الثلاثة الذين خُلفوا) أي أخروا ولم تقبل توبتهم في الحال كما قبلت توبة أولئك المتخلفين المتقدم ذكرهم، قال ابن جرير معنى خلفوا تركوا يقال خلفت فلاناً فارقته، وقرئ خلفوا بالتخفيف أي أقاموا بعد نهوض رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين إلى الغزو، وقرئ خالفوا، وقيل معنى خلفوا فسدوا مأخوذ من خلوف الفم، وهؤلاء الثلاثة هم كعب بن مالك ومرارة بن الربيع أو ابن ربيعة العامري وهلال بن أمية الواقفي، وكلهم من الأنصار لم يقبل النبي صلى الله عليه وآله وسلم توبتهم حتى نزل القرآن بأن الله قد تاب عليهم.
(حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت) كناية عن شدة التحير وعدم الاطمئنان، يعني أخروا عن قبول التوبة إلى هذه الغاية وهي وقت أن ضاقت عليهم الأرض برحبها لإعراض الناس عنهم وعدم مكالمتهم من كل أحد لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى الناس أن يكالموهم، والرحب الواسع يقال منزل رحب ورحيب وراحب والمضموم مصدر والمفتوح مكان، وفي هذه الآية دليل على جواز هجران أهل المعاصي تأديباً لهم لينزجروا عن المعاصي.
(وضاقت عليهم أنفسهم) أي أنها ضاقت صدورهم بما نالهم من الوحشة وبما حصل لهم من الجفوة وشدة الغم والحزن ومجانبة الناس إياهم وترك كلامهم فلا يسعها سرور ولا أنس، وعبر بالظن في قوله: (وظنوا) عن العلم أي علموا وأيقنوا (أن لا ملجأ) يلجؤون إليه قط (من الله) أي من عذابه أو من سخطه (إلا إليه) سبحانه بالتوبة والاستغفار.(5/419)
(ثم تاب) أي رجع (عليهم) بالقبول والرحمة وأنزل في القرآن التوبة عليهم ليستقيموا أو وفقهم للتوبة فيما يستقبل من الزمان إن فرطت منهم خطيئة (ليتوبوا) عنها ويرجعوا فيها إلى الله ويندموا على ما وقع منهم ويحصلوا التوبة وينشؤوها فحصل التغاير وصح التعليل (إن الله هو التواب) أي الكثير القبول لتوبة التائبين (الرحيم) أي الكثير الرحمة لمن طلبها من عباده.
قال أبو بكر الوراق: التوبة النصوح أن تضيق على التائب الأرض بما رحبت وتضيق عليه نفسه كتوبة هؤلاء الثلاثة، وفيه دليل على أن قبول التوبة بمحض الرحمة والكرم والرأفة والإحسان من الله تعالى، وأنه لا يجب عليه شيء.(5/420)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119)
(يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله) في مخالفة أمر الرسول صلى الله عليه وسلم (وكونوا مع الصادقين) هذا الأمر بالكون مع الصادقين بعد قصة الثلاثة يفيد الإشارة إلى أن هؤلاء الثلاثة حصل لهم بالصدق ما حصل من توبة الله، وظاهر الآية الأمر للعباد على العموم، قال نافع: قيل للثلاثة كونوا مع محمد وأصحابه. وقال سعيد بن جبير: كونوا مع أبي بكر وعمر وزاد الضحاك وأصحابهما وعن ابن عباس مع علي بن أبي طالب، وعن جعفر قال: مع الثلاثة الذين خلفوا.
قال ابن جرير: مع المهاجرين وقيل مع الذين خرجوا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى تبوك، وقيل مع الذين صدقوا في الاعتراف بالذنب ولم يعتذروا بالأعذار الباطلة، وهذه الآية تدل على فضيلة الصدق.
روي أن أبا بكر احتج بهذه الآية على الأنصار في يوم السقيفة حين قال الأنصار منا أمير ومنكم أمير، فقال: إن الله يقول في كتابه (للفقراء المهاجرين) إلى قوله: (أولئك هم الصادقون) فمن هؤلاء قال الأنصار أنتم هم؛ فقال إن الله يقول: (اتقوا الله وكونوا مع الصادقين) فأمركم أن تكونوا معنا ولم يأمرنا أن نكون معكم.(5/420)
مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120)
مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ
قيل والآية تدل على أن الإجماع حجة لأنه أمر بالكون مع الصادقين فلزم قبول قولهم، وقيل مع بمعنى من، أي كونوا منهم والله أعلم.
(ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله) زيادة تأكيد لوجوب الغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وتحريم التخلف عنه أي ما صح وما استقام لهم ولمن حولهم كمزينة وجهينة وأشجع وأسلم وغفار أن يتخلفوا عنه صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، وقيل هو عام في كل الأعراب لأن اللفظ عام وحمله على العموم أولى، وإنما خصهم الله سبحانه لأنهم قد استنفروا فلم ينفروا بخلاف غيرهم من العرب فإنهم لم يستنفروا مع كون هؤلاء لقربهم وجوارهم أحق بالنصرة والمتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال ابن زيد: هذا حين كان الإسلام قليلاً لم يكن لأحد أن يتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما كثر الإسلام وفشا قال الله: (وما كان المؤمنون لينفروا كافة).
(ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه) أي وما كان لهم ذلك فيشحون بها ويصونونها ولا يشحون بنفس رسول الله صلى الله عليه وسلم ويصونونها كما شحوا بأنفسهم وصانوها، يقال رغبت عن كذا أي ترفعت عنه وأعرضت.
والمعنى ولا يجعلوا أنفسهم راغبة معرضة عما ألقى فيه نفسه الكريمة، بل(5/421)
واجب عليهم أن يكابدوا معه المشاق ويجاهدوا بين يديه أهل الشقاء، ويبذلوا أنفسهم دون نفسه بأن يصحبوه على البأساء والضراء علما بأنها أعز نفس عند الله وأكرمها عليه، فإذا تعرضت مع عزتها وكرامتها للخوض في شدة وهول، وجب على سائر الأنفس أن تتهافت فيما تعرضت له ولا يكترث بها أصحابها ولا يقيموا لها وزناً وتكون أخف شيء عليهم وأهونه.
وفي هذا الإخبار معنى الأمر لهم مع ما يفيده إيراده على هذه الصيغة من التوبيخ لهم والتقريع الشديد والتهييج لهم والإزراء عليهم.
والإشارة بقوله: (ذلك) إلى ما يفيده السياق من وجوب المتابعة لرسول الله صل الله عليه وسلم أي ذلك الوجوب (بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة) أي بسبب أنهم مثابون على أنواع المتاعب وأصناف الشدائد، والظمأ العطش والنصب التعب، والمخمصة الجاعة الشديدة التي يظهر عندها ضمور البطن، وتوسيط كلمة لا هاهنا للدلالة على استقلال كل واحد منها بالفضيلة والاعتداد به.
ومعنى (في سبيل الله) في طاعة الله (ولا يطأون موطئاً يغيظ) بفتح الياء باتفاق السبعة وإن كان يجوز لغة ضمها إذ يقال لغة غاظه وأغاظه بمعنى واحد، أي يغضب والكفار أي لا يدوسون مكاناً من أمكنة الكفار بأقدامهم، أو بحوافر خيولهم أو بأخفاف رواحلهم، فيحصل بسبب ذلك الغيظ والغم والحزن للكفار، والمَوْطِئ اسم مكان ويجوز أن يكون مصدراً، وفيه أن المدد يشارك الجيش في الغنيمة بعد انقضاء الحرب لأن وطء ديارهم مما يغيظهم.
(ولا ينالون) أي لا يصيون (من عدو نيلاً) أي قتلاً وأسراً أو هزيمة أو غنيمة وأصله من نلت الشيء أنال أي أصبت، قال الكسائي: هو من قولهم أمر منيل منه، وليس هو من التناول إنما التناول من نلته بالعطية، قال(5/422)
غيره نلت أنول من العطية ونلته أناله أدركته.
(إلا كتب لهم به) أي بكل واحد من الأمور الخمسة (عمل صالح) حسنة مقبولة يجازيهم بها وثواب عمل صالح قد ارتضاه لهم وقبله منهم بحكم الوعد الكريم للثواب الجميل ونيل الزلفى.
قال الأوزاعي وجماعة من الأئمة: هذه الآية للمسلمين إلى أن تقوم الساعة، وقال قتادة: هذا الحكم خاص برسول الله صلى الله عليه وسلم والأول أولى، وفي الآية دليل على أن من قصد طاعة الله كان قيامه وقعوده ومشيه وحركته وسكونه كلها حسنات مكتوبة عند الله وكان سعيه مشكوراً.
(إن الله لا يضيع أجر المحسنين) جملة في حكم التعليل لما سبق مع كونه يشمل كل محسن ويصدق على المذكورين هنا صدقاً أولياً، والعدول من الإضمار إلى الإظهار لأجل مدحهم.(5/423)
وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (121) وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ(5/424)
وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (121)
(ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة) أي ولا يقع منهم الإنفاق في الحرب أو في سبيل الله، وإن كان شيئاً حقيراً صغيراً يسيراً، كتمرة فما دونها أو أكثر منها حتى علاقة سوط (ولا يقطعون وادياً) مقبلين أو مدبرين فيه، وهو في الأصل كل منفرج بين جبال وآكام يكون منفذاً للسيل؛ والعرب تقول واد وأودية على غير قياس، قال النحاس: ولا يعرف فيما علمت فاعل وأفعلة، والمراد هنا مطلق الأرض، قاله الحفناوي.
(إلا كتب لهم) ذلك الذي عملوه من النفقة والسفر في الجهاد (ليجزيهم الله) وبه (أحسن) جزاء (ما كانوا يعملون) من الأعمال، وقال الرازي: الأحسن من صفة أفعالهم وفيها الواجب والمندوب والمباح، فالله يجزيهم على الأحسن، وهو الواجب والمندوب دون المباح والأول أولى.
وقيل يجزيهم على كل واحد جزاء أحسن عمل كان لهم فيلحق ما دونه به توفيراً لأجرهم، وفي الآية دليل على فضل الجهاد وأنه من أحسن أعمال العباد.
وقد ذهب جماعة إلى أن هذه الآية منسوخة بالآية المذكورة بعدها وهي قوله(5/424)
وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (122)
(وما كان المؤمنون لينفروا كافة) فإنها تدل على جواز التخلف من البعض مع القيام بالجهاد من البعض، واختلف المفسرون في معنى هذه الآية؛ فذهب جماعة إلى أنه من بقية أحكام الجهاد، لأنه سبحانه لما بالغ في الأمر بالجهاد والانتداب إلى الغزو وكان المسلمون إذا بعق رسول الله صلى الله عليه وسلم(5/424)
سرية إلى الكفار ينفرون جميعاً ويتركون المدينة خالية، فأخبرهم الله سبحانه بأنه ما كان لهم ذلك، أي ما صح ولا استقام أن ينفروا جميعاً.
(فلولا) تحضيضية فالمعنى على الطلب أي فهلا (نفر من كل فرقة منهم طائفة) الطائفة في اللغة الجماعة، أي بل ينفر من كل فرقة منهم طائفة من تلك الفرق، ويبقى من عدا هذه الطائفة النافرة، قالوا ويكون الضمير في قوله: (ليتفقهوا في الدين) عائداً إلى الفرقة الباقية، والمعنى أن طائفة من هذه الفرقة تخرج إلى الغزو ومن بقي من الفرقة يقفون لطلب العلم ويعلمون الغزاة أو يذهبون في طلبه إلى المكان الذي يجدون فيه من يتعلمون منه ليأخذوا عنه الفقه في الدين.
(ولينذروا قومهم) عطف علة ففيه إشارة إلى أنه ينبغي أن يكون غرض المتعلم الاستقامة وتبليغ الشريعة لا الترفع على العباد والتبسط في البلاد كما هو دأب أبناء الزمان (إذا رجعوا) أي وقت رجوعهم (إليهم) من الغزو.
وذهب آخرون إلى أن هذه الآية ليست من بقية أحكام الجهاد، وهي حكم مستقل بنفسه في مشروعية الخروج لطلب العلم والتفقه في الدين، جعله الله سبحانه متصلاً بما دل على إيجاب الخروج إلى الجهاد فيكون السفر نوعين (الأول) سفر الجهاد (والثاني) السفر لطلب العلم، ولا شك أن وجوب الخروج لطلب العلم إنما يكون إذا لم يجد الطالب من يتعلم منه في الحضر من غير سفر.
والفقه هو العلم بالأحكام الشرعية وبما يتوصل به إلى العلم بها من لغة ونحو وصرف وبيان وأصول، وقد جعل الله سبحانه الغرض من هذا هو التفقه في الدين وإنذار من لم يتفقه، فجمع بين المقصدين الصالحين والمطلبين الصحيحين، وهما تعلم العلم وتعليمه، فمن كان غرضه بطلب العلم غير هذين فهو طالب لغرض دنيوي لا لغرض ديني.
(لعلهم يحذرون) الترجي لوقوع الحذر منهم عن التفريط فيما يجب(5/425)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ
فعله فيترك أو فيما يجب تركه فيفعل، واستدل به على أن أخبار الآحاد حجة لأن عموم كل فرقة يقتضي أن ينفر من كل ثلاثة تفردوا بقرية طائفة إلى التفقه لتنذر فرقتها كي يتذكروا ويحذروا فلو لم تعتبر الأخبار ما لم تتواتر لم يفد ذلك.(5/426)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (123)
(يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار) في هذا الفعل لغتان أكثرهما وليه يليه بالكسر فيما والثانية من باب وعد وهي قليلة الاستعمال، وجلست مما يليه أي يقاربه، وكأن الآية جاءت على اللغة الثانية وأصله يليون أي الأقرب فالأقرب منهم.
أمر سبحانه المؤمنين بأن يجتهدوا في مقاتلة من يليهم من الكفار في الدار والبلاد والنسب، قيل مثل قريظة والنضير وخيبر ونحوها، قاله ابن عباس.
وقال ابن عمر: هم الروم لأنهم كانوا سكان الشام والشام أقرب إلى المدينة من العراق، وقيل هم الديلم، وقال ابن زيد: هم العرب فقاتلوهم حتى فرغوا منهم، ثم أمروا بقتال أهل الكتاب وجهادهم حتى يؤمنوا أو يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون، وهكذا المفروض على أهل كل ناحية أن يقاتلوا من وليهم وأن يأخذوا في حربهم بالغلظة والشدة كما قال.
(وليجدوا) أي ليدركوا (فيكم غلظة) أي شدة وقوة وشجاعة، قال الخفاجي: قالوا أنها كلمة جامعة للجرأة والصبر على القتال وشدة العدواة والأنف في القتل والأسر، وظاهرها أمر الكفار بأن يجدوا في المؤمنين غلظة، والمقصود أمر المؤمنين بالاتصاف بصفات كالصبر وما معه حتى يجدهم الكفار المتصفين بها(5/426)
فهي على حد قولهم لا أرينك هاهنا، والغلظة بالكسر ضد الرقة وهي لغة أسد، والفتح لغة أهل الحجاز والضم لغة تميم.
حكى أبو عمرو اللغات الثلاث وبها قرئ لكن السبعة على الكسر، والغلظة أصلها في الإجرام فاستعيرت هنا للشدة والتجلد والصبر، وقال الحسن: صبراً على جهادهم والجهاد واجب لكل الكفار وإن كان الابتداء بمن يلي المجاهدين منهم أهم وأقدم ثم الأقرب فالأقرب.
ونقل عن بعض العلماء أنه قال أنزلت هذه الآية قبل الأمر بقتال المشركين كافة فلما نزلت (وقاتلوا المشركين كافة) صارت ناسخة لهذه الآية.
وقال المحققون من العلماء: ولا وجه للنسخ فإنه تعالى أمرهم بقتالهم كافة وأرشدهم الطريق الأصوب الأصلح وهو أن يبدؤوا بقتال الأقرب فالأقرب قرباً مكانياً لا قرباً نسبياً حتى يصلوا إلى الأبعد فالأبعد، وبهذا الطريق يحصل الغرض من قتال المشركين كافة لأن قتالهم في دفعة واحدة لا يتصور، ولهذا السبب قد قاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم أولاً قومه، ثم انتقل منهم إلى قتال سائر العرب ثم إلى قتال أهل الكتاب، وهم قريظة والنضير وخيبر وفدك، ثم انتقل إلى غزو الروم والشام فكان فتحه في زمن الصحابة ثم أنهم انتقلوا إلى العراق ثم بعد ذلك إلى سائر الأمصار لأنه إذا قاتل الأقرب أولاً تقوى بما ينال منهم من الغنائم على الأبعد.
ثم أخبرهم الله بما يقوي عزائمهم ويثبت أقدامهم فقال: (واعلموا أن الله مع المتقين) بالنصرة لهم وتأييدهم على عدوهم ومن كان الله معه لم يقم له شيء.(5/427)
وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ(5/428)
وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124)
(وإذا ما أنزلت سورة) حكاية منه سبحانه لبقية فضائح المنافقين أي
والحال إذا ما أنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم سورة من كتابه العزيز
(فمنهم) أي فمن المنافقين (من يقول) لإخوانه منهم (أيكم زادته هذه) السورة النازلة (إيماناً) يقولون هذا استهزاء بالمؤمنين، ويجوز أن يقولوه لجماعة من المسلمين قاصدين بذلك صرفهم على الإسلام وتزهيدهم فيه، وقد تقدم بيان معنى السورة (فأما الذين آمنوا فزادتهم إيماناً) حكى الله سبحانه بعد مقالتهم هذه أن المؤمنين زادتهم إيماناً إلى إيمانهم لتصديقهم بها، والزيادة ضم شيء إلى آخر من جنسه مما هو في صفته، وقد تقدم الكلام على زيادة الإيمان (وهم يستبشرون) أي والحال أنهم يفرحون مع هذه الزيادة بنزول الوحي شيئا بعد شيء وما يشتمل عليه من المنافع الدينية والدنيوية.(5/428)
وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ (125)
(وأما الذين في قلوبهم مرض) وهم المنافقون، والمراد بالمرض هنا الشرك والنفاق (فزادتهم) السورة المنزلة (رجساً إلى رجسهم) أي خبثاً مضموماً إلى خبثهم الذي هم عليه من الكفر وفساد الاعتقاد، وإظهار غير ما يضمرونه، ولذا عدى بإلى، وقيل أن إلى بمعنى مع، وسمي الكفر رجساً لأنه أقبح الأشياء وأصل الرجس في اللغة الشيء المستقذر (وماتوا وهم كافرون) أي وثبتوا واستمروا عليه إلى أن ماتوا كفاراً منافقين، وقيل المعنى زادتهم إثماً إلى إثمهم.(5/428)
أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ (126) وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ(5/429)
أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ (126)
(أو لا يرون) قرئ بالتحتية وبالفوقية خطاباً للمؤمنين، وقرأ الأعمش ألم يروا، وقرأ طلحة أو لا ترى خطاباً للرسول صلى الله عليه وآله وسلم والهمزة على القراءة بالياء للإنكار والتوبيخ، وعلى الخطاب للتعجيب والرؤية قلبية أو بصرية (إنهم يفتنون) يختبرون، قاله ابن جرير وغيره أو يبتليهم الله بالقحط والشدة والجوع والسنة قاله مجاهد، وقال ابن عطية: بالأمراض والأوجاع، وقال قتادة: بالغزو والجهاد مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ وقال الحسن: بالعدو.
(في كل عام مرة أو مرتين) عن أبي سعيد قال: كانت لهم في كل عام كذبة. أو كذبتان قال حذيفة: فيضل بها فئام من الناس كثير، وقيل أنهم يفتضحون بإظهار نفاقهم، وقيل ينافقون ثم يؤمنون ثم ينافقون؛ وقيل ينقضون عهدهم في السنة مرة أو مرتين ويرون ما وعد الله من النصر.
(ثم لا يتوبون) بسبب ذلك من النفاق ونقض العهد ولا يرجعون إلى الله مع أن الابتلاء يقتضي الرجوع والتذكر، وثم للعطف على يرون (ولا هم يذكرون) أي لا يرون ولا ينظرون ولا يتعظون، وهذا تعجيب من الله سبحانه للمؤمنين من حال المنافقين وتصلبهم في النفاق وإهمالهم للنظر والاعتبار.
ثم ذكر الله سبحانه ما كانوا يفعلونه عند نزول السورة بعد ذكره لما كانوا يقولونه فقال:(5/429)
وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (127)
(وإذا ما أنزلت سورة) فيها عيب المنافقين وذكرهم وتوبيخهم وقرأها النبي صلى الله عليه وسلم نظر بعضهم وأي بعض المنافقين (إلى(5/429)
بعض) آخر وتغامز بالعيون إنكاراً لها أو سخرية أو غيظاً لما فيها من عيوبهم.
وحكى ابن جرير عن بعض أهل العلم أنه قال: (نظر) في هذه الآية موضوع موضع قال أي قال بعضهم لبعض (هل يراكم من أحد) من المؤمنين لننصرف عن المقام الذي ينزل فيه الوحي فإنه لا صبر لنا على استماعه أو لنتكلم بما بزيد من الطعن والسخرية والضحك، وقيل المعنى وإذا أنزلت سورة ذكر الله فيها فضائح المنافقين ومخازيهم قال بعض من يحضر مجلس النبي صلى الله عليه وآله وسلم للبعض الآخر منهم هل يراكم من أحد.
(ثم انصرفوا) إلى منازلهم عن ذلك المجلس أو عما يقتضي الهداية والإيمان إلى ما يقتضي الكفر والنفاق، والتراخي باعتبار وجدان الفرصة والوقوف على عدم رؤية أحد من المؤمنين.
ثم دعا الله سبحانه عليهم فقال: (صرف الله قلوبهم) وعن الخير وما فيه الرشد لهم والهداية وهو سبحانه مصرف القلوب ومقلبها، وقيل المعنى إنه خذلهم عن قبول الهداية، قال الزجاج: أضلهم الله مجازاة على فعلهم، وقيل هو دعاء لا يراد به وقوع مضمونه كقولهم قاتله الله، وقيل إخبار بحالهم.
ثم ذكر سبحانه السبب الذي لأجله انصرفوا عن مواطن الهداية أو السبب الذي لأجله استحقوا الدعاء عليهم بقوله صرف الله قلوبهم فقال: (بأنهم قوم لا يفقهون) ما يسمعونه لعدم تدبرهم وإنصافهم.
عن ابن عباس: لا تقولوا انصرفنا من الصلاة فإن قوماً انصرفوا فصرف الله قلوبهم ولكن قولوا قضينا الصلاة، وعن ابن عمر نحوه.
وأقول الانصراف يكون عن الخير كما يكون عن الشر وليس في إطلاقه هنا على رجوع المنافقين عن مجلس الخير ما يدل على أنه لا يطلق إلا على نحو ذلك، والإلزم أن كل لفظ يستعمل في لغة العرب في الأمور المتعددة إذا استعمل في القرآن في حكاية ما وقع من الكفار لا يجوز استعماله في حكاية ما وقع عن أهل الخير كالرجوع والذهاب والدخول والخروج والقيام والقعود، واللازم باطل بالإجماع فالملزوم مثله ووجه الملازمة ظاهر لا يخفى.(5/430)
لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128)
لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ
ثم ختم الله سبحانه هذه السورة بما يهون عنده بعض ما اشتملت عليه من التكاليف الشاقة فقال موبخاً (لقد جاءكم) يا معشر العرب، والخطاب لهم عند جمهور المفسرين، وقال الزجاج: هي خطاب لجميع العالم أي لقد جاءكم (رسول) أرسله الله إليكم له شأن عظيم (من أنفسكم) أي من جنسكم في كونه عربياً قرشياً مثلكم تعرفون نسبه وحسبه، وأنه من ولد إسماعيل لا من العجم ولا من الجن ولا من الملك، وقرئ أنفس أفعل تفضيل من النفاسة والمراد الشرف أي أشرفكم وأفضلكم وسيأتي تخريجه.
(عزيز عليه ما عنتم) ما مصدرية والعنت التعب لهم والمشقة عليهم ولقاء المكروه بعذاب الدنيا بالسيف ونحوه أو بعذاب الآخرة بالنار أو بمجموعها والمعنى شاق عليه عنتكم لكونه من جنسكم ومبعوثاً لهدايتكم (حريص) شحيح (عليكم) بأن تدخلوا النار أو حريص على إيمانكم وهدايتكم والأول أولى، وبه قال الفراء.
(بالمؤمنين رؤوف رحيم) قد تقدم بيان معناهما اي هذا الرسول بالمؤمنين الطائعين منكم أيها العرب أو الناس رؤوف رحيم، فسماه الله رؤوفاً رحيماً لم يجمع لأحد من أنبيائه بين اسمين من أسمائه إلا النبي صلى الله عليه وسلم، قاله الحسن ابن الفضل قرئ رؤوف بالمد وبالقصر وهما قراءتان سبعيتان في هذه الكلمة أينما وقعت في القرآن، والرؤوف أخص من الرحيم، وإنما قدم عليه رعاية للفواصل وعن ابن عباس في هذه الآية ليس من العرب قبيلة إلا وقد ولدت النبي " - صلى الله عليه وسلم - " مضريها وربيعيها ويمانيها، وعلى هذا يكون المقصود ترغيب العرب في نصره والإيمان به فإنه تم شرفهم بشرفه وعزهم وفخرهم بفخره، فإنه من عشائرهم.(5/431)
وعن جعفر بن محمد عن أبيه قال: من أنفسكم بفتح الفاء من النفاسة أي من أشرفكم، قال لم يصبه شيء من ولادة الجاهلية، وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلنم " خرجت من نكاح ولم أخرج من سفاح " وهذا فيه انقطاع ولكنه وصله الحافظ الرامهرمزي في كتابه الفاصل بين الراوي والواعي عن علي بن أبي طالب، وزاد " من لدن آدم إلى أن ولدني بني وأمي ".
وقال علي ما معنى من أنفسكم يا رسول الله؛ قال: " نسباً وصهراً وحسباً ليس فيّ ولا في آبائي من لدن آدم سفاح كلنا نكاح ". وعن ابن عباس: أن رسول الله " - صلى الله عليه وسلم - " قرأ من أنفسكم، يعني من أعظمكم قدراً، وبه قرأ الزهري، وفي الباب أحاديث بمعناه. ويؤيده ما في صحيح مسلم وغيره من حديث واثلة بن الأسقع قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " إن الله اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل، واصطفى من ولد إسماعيل بني كنانة، واصطفى من بني كنانة قريشاً، واصطفى من قريش بني هاشم واصطفاني من بني هاشم " (1).
وأخرج أحمد والترمذي وحسنه وابن مردويه وأبو نعيم والبيهقي عن العباس بن عبد المطلب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله حين خلق الخلق جعلني من خير خلقه، ثم حين فرقهم جعلني في خير الفريقين، ثم حين خلق القبائل جعلني من خيرهم قبيلة، وحين خلق الأنفس جعلني من خير أنفسهم ثم حين خلق البيوت جعلني من خير بيوتهم فأنا خيرهم بيتاً وخيرهم نفساً " (2)
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " بعثت من خير قرون بني آدم قرناً فقرناً حتى كنت من القرن الذي كنت فيه " (3) أخرجه البخاري وفي الباب أحاديث.
_________
(1) مسلم 2276.
(2) الإمام أحمد 1/ 210.
(3) البخاري كتاب المناقب باب 23.(5/432)
فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (129)
فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ
ثم قال مخاطباً لرسوله ومسلياً له ومرشداً له إلى ما يقوله عند أن يعصى (فإن تولوا أي أعرضوا عنك ولم يعملوا بما جئت به ولا قبلوه (فقل) يا محمد (حسبي) أي كافي (الله) سبحانه (لا إله إلا الله) أي المتفرد بالألوهية وهذه الجملة الحالية كالدليل لما قبلها (عليه توكلت) أي فوضت جميع أموري إليه لا إلى غيره (وهو رب العرش العظيم) وصفه بالعظيم لأنه أعظم المخلوقات قرأ الجمهور بالجر على أنه صفة العرش وقرئ بالرفع صفة لرب، ورويت هذه القراءة عن ابن كثير. قال أبو بكر الأصم: وهذه القراءة أعجب إليّ لأن جعل العظيم صفة للرب أولى من جعله صفة للعرش.
قال ابن عباس: إنما سمي العرش عرشاً لارتفاعه، وقد رويت أحاديث كثيرة في صفة العرش وماهيته وقدره، وقال السيوطي الكرسي، قال الصاوي: قوله الكرسي مرور على القول باتحاد العرش مع الكرسي، وهو خلاف الصحيح أن العرش غير الكرسي. اهـ
وعبارة الخازن اعترض بعضهم على هذا التفسير بأن العرش غير الكرسي وأن الكرسي أصغر من العرش فكيف يفسر به وهو مدفوع بأن المسألة خلافية والمشهور ما سمعته؛ وقيل إنهما اسمان لشيء واحد فالعرش والكرسي معناهما الجسم العظيم المحيط بجميع المخلوقات المسمى بالعرش على القول المشهور. أ. هـ.
وعن أبي بن كعب رضي الله عنه: أن آخر ما نزل هاتان الآيتان. ذكره القاضي والمفتي وغيرهما. قال السيوطي رواه الحاكم في المستدرك وقال الخفاجي أخرجه أحمد بن حنبل.(5/433)
وقوله آخر ما نزل الخ يعارضه ما رواه الشيخان عن البراء بن عازب رضي الله عنه أن آخر آية نزلت (يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة) وآخر سورة نزلت براءة. وعن ابن عباس رضي الله عنهما: آخر آية نزلت (واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله وكان بينها وبين موته صلى الله عليه وسلم ثمانون يوماً، وقيل تسع ليال، وحاول بعضهم التوفيق بين هذه الروايات بما لا يخلو عن كدر، وفي هذه الآية إشكال مشهور في كتب الحديث.(5/434)
خاتمة الجزء الخامس
تم بعون الله الجزء الخامس من كتاب فتح البيان في مقاصد القرآن ويليه الجزء السادس.
وأوله سورة يونس(5/435)
فتحُ البيان في مقاصد القرآن
تفسِير سَلفي أثري خالٍ منَ الإِسرَائيليّاتِ والجَدليَّاتِ المذهبية والكلامية يغني عَن جميع التفاسِير وَلا تغني جميعُهَا عَنه
تأليف: السيد الإمام العلامة الملك المؤيد من الله الباري آبي الطيب صديق بن حسن بن علي الحسين القنوجي النجاري 1248 - 1307 هـ
عني بطبعهِ وقدّم له وراجعه: خادم العلم عَبد الله بن إبراهيم الأنصَاري
الجزء السادس
المَكتبة العصريَّة
صَيدَا - بَيروت(6/1)
جَمِيع الحُقُوق محفُوظَة
1412 هـ - 1992 م
شركة أبناء شريف الأنصاري للطباعة والنشر والتوزيع
المَكتبة العصريَّة للطبَاعة والنّشْر
الدار النموذجية ــ المكتبة العصرية
بَيروت - صَ. ب 8355 - تلكس LE 20437 SCS
صَيدَا - صَ. ب 221 - تلكس LE 29198(6/2)
فتح البيان في مقاصد القرآن(6/3)
الجزء السادس
بسم الله الرحمن الرحيم
أوله تفسير سورة يونس من قوله تعالى:
الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (1)
- سورة هود
- سورة يوسف إلى آخر السورة(6/5)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة يونس عليه السلام
وهي مائة وتسع آيات وهي مكيّة. قال الحسن وعطاء وعكرمة وجابر: إلا ثلاث آيات (فإن كنت في شك) إلى آخرهن قاله ابن عباس وبه قال قتادة. وقال مقاتل إلا آيتين (فإن كنت في شك) إلى آخرهما أو ثلاث، وقال الكلبى إلا قوله (ومنهم من يؤمن به) الآية فإنها نزلت بالمدينة.
وقالت فرقة من أولها نحو من أربعين آية مكي وباقيها مدني. قاله القرطبي, وقال ابن سيرين: كانت هذه السورة بعد السابعة, وأخرج بن مردويه عن أنس قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: إن الله أعطاني الرائيات أي الطواسين مكان الإنجيل.
وعن الأحنف قال: صليت خلف عمر غداة فقرأ يونس وهود وغيرهما: قال الصاوي: سميت السورة بذلك لذكر اسمه فيها وقصته, وقد جرت عادة الله بتسمية السورة ببعض أجزائها.(6/7)
الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (1)(6/9)
الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (1)
(الر) قال الجلال: الله أعلم بمراده بذلك، قال الصاوي: هذا أحد الأقوال: وهو أتمها واسلمها. اهـ.
وقد تقدم الكلام مستوفى على هذه الحروف الواقعة في أوائل السور في أول سورة البقرة فلا نعيده ففيه ما يغني عن الإعادة.
وقد قيل إن معنى (الر) أنا الله أرى. قال النحاس: ورأيت أبا إسحاق يميل إلى هذا القول لأن سيبويه قد حكى مثله عن العرب، وقال الحسن وعكرمة (الر) قسم، وقال قتادة (الر) اسم للسورة، وقيل غير ذلك مما فيه تكلف لعلم ما استأثر الله بعلمه.
وقد اتفق القراء على أن (آلر) ليس بآية وعلى أن (طه) آية، وفي مقنع أبي عمرو والداني أن العادّين لـ " طه " آية هم الكوفيون فقط، ولعل الفرق أن (الر) لا تشاكل مقاطع الآي التي بعدها.
(تلك) أي ما تضمنته السورة من الآيات والتبعيد للتعظيم، وقيل الآيات المتقدمة على هذه السورة، وقال مجاهد وقتادة: أراد التوارة والإنجيل وسائر الكتب المتقدمة فإن تلك إشارة إلى غائب مؤنث، وقيل تلك بمعنى هذه أي هذه (آيات الكتاب الحكيم) وهو القرآن، ويؤيد كون الإشارة إلى القرآن أنه لم يجر للكتب المتقدمة ذكر وأن الحكيم من صفات القرآن لا من صفات غيره، والإضافة بمعنى من لأن هذه السورة بعض القرآن، والحكيم المحكم بالحلال والحرام والحدود والأحكام، قاله أبو عبيدة وغيره.
وقيل الحكيم معناه الحاكم فهو فعيل بمعنى فاعل، كقوله (وأنزل معهم الكتاب ليحكم بين الناس) وقيل بمعنى المحكوم، أي حكم الله فيه بالعدل والإحسان قال الحسن وغيره. وقيل الحكيم ذو الحكمة لاشتماله عليها، وقيل الحكيم المنظوم نظماً متقناً لا يعتريه خلل بوجه من الوجوه، وقيل الممتنع من الفساد، فيكون المعنى لا تغيره الدهور والمراد براءته من الكذب والتناقض.(6/9)
أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ (2) إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (3)
والاستفهام في قوله(6/10)
أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ (2)
(أكان الناس عجباً أن أوحينا) لإنكار العجب مع ما يفيده من التقريع والتوبيخ، أي أكان إيحاؤنا عجباً للناس، والعجب حالة تعتري الإنسان من رؤية شيء على خلاف العادة، وقيل العجب ما لا يعرف سببه والمراد بالناس هنا أهل مكة، يعني قريشاً.
(إلى رجل منهم) أي من جنسهم، وليس في هذا ما يقتضي العجب فإنه لا يلابس الجنس ويرشده ويخبره عن الله سبحانه إلا من كان من جنسه، ولو كان من غير جنسهم لكان من الملائكة أو من الجن ويتعذر المقصود حينئذ من الإرسال لأنهم لا يأنسون إليه ولا يشاهدونه، ولو فرضنا تشكله لهم وظهوره فإما أن يظهر في غير شكل النوع الإنساني وذلك أوحش لقلوبهم وأبعد من إنسهم أو في الشكل الإنساني فلا بد من إنكارهم لكونه في الأصل غير إنسان.
هذا إن كان العجب منهم لكونه من جنسهم، وإن كان لكونه يتيماً أو فقيراً فذلك لا يمنع من أن يكون من كان كذلك جامعاً من خصال الخير والشرف ما لا يجمعه غيره وبالغاً في كمال الصفات إلى جد يقصر عنه من كان غنياً أو غير يتيم، وقد كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يصطفيه الله بالرسالة من خصال الكمال عند قريش ما هو أشهر من الشمس وأظهر من النهار حتى كانوا يسمون الأمين (أن أنذر الناس) أي خوفهم قيل: أن هي المفسرة لأن في الايحاء معنى القول، وقيل مصدرية والإنذار إخبار مع تخويف كما أن البشارة إخبار مع سرور.(6/10)
(وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم) من إضافة الموصوف إلى الصفة كمسجد الجامع وصلاة الأولى وحب الحصيد، وفائدة هذه الإضافة التنبيه على زيادة الفضل ومدح القدم لأن كل شيء أضيف إلى الصدق فهو ممدوح ومثله مقعد صدق ومدخل صدق.
واختلفت عبارات المفسرين وأهل اللغة في معنى قدم صدق، فقيل منزل صدق، وقال الزجاج: درجة عالية، وقال ابن الأعرابي: القدم المتقدم في الشرف وقال أبو عبيدة والكسائي: كل سابق من خير أو شر فهو عند العرب قدم، يقال لفلان قدم في الإسلام وله عندي قدم صدق وقدم خير وقدم شر.
وقال ثعلب: القدم كل ما قدمت من خير. وقال ابن الأنباري: القدم كناية عن العمل الذي لا يقع فيه تأخير ولا إبطاء، وقال قتادة: سلف صدق، وقال الربيع والضحاك: ثواب صدق، وقال الحسن: هو محمد صلى الله عليه وسلم يشفع لهم، ونحوه عن زيد بن أسلم وهو قول قتادة.
وقال الحكيم الترمذي: قدمه صلى الله عليه وسلم في المقام المحمود، وقال مجاهد: الأعمال الصالحة صلاتهم وصومهم وصدقتهم وتسبيحهم، وقيل عمل صالح أسلفوه يقدمون عليه. قاله الحسن.
وقال الليث وأبو الهيثم: القدم السابقة أي سبق لهم عند الله خير، وقال مقاتل: أعمالاً قدموها واختاره ابن جرير. قال ابن عباس: ما سبق لهم من السعادة في الذكر الأول يعني اللوح المحفوظ. وقال أيضاً: أجراً حسناً بما قدموا من أعمالهم.
وعن ابن مسعود قال: القدم هو العمل الذي قدموه، قال الله سبحانه (سنكتب ما قدموا وآثارهم) والآثار ممشاهم، قال: مشى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين اسطوانتين من مسجده ثم قال: هذا أثر مكتوب، وقيل غير ما تقدم مما لا حاجة إلى التطويل بإيراده والروايات من التابعين وغيرهم في هذا كثيرة وقد قدمنا أكثرها، والسبب في إطلاق لفظ القدم على هذه المعاني أن(6/11)
السعي والسبق لا يحصل إلا بالقدم، فسمي المسبب باسم السبب كما سميت النعمة يداً لأنها تعطي باليد.
(قال الكافرون إن هذا لساحر مبين) قرئ لساحر على أنهم أرادوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم باسم الإشارة وقرئ لسحر على أنهم أرادوا القرآن، وقد تقدم معنى السحر في البقرة، والجملة مستأنفة كأنه قيل ماذا صنعوا بعد التعجب؛ وقال القفال: فيه إضمار والتقدير فلما أنذرهم قال الكافرون ذلك.
ثم إن الله سبحانه جاء بكلام يبطل به العجب الذي حصل للكفار من الإيحاء إلى رجل منهم فقال (إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام) من أيام الدنيا أي في قدرها لأنه لم يكن ثمَّ شمس ولا قمر، ولو شاء لخلقهن في لمحة والعدول عنه لتعليم خلقه التأني والتمهل في الأمور، وتخصيص الستة بالذكر مع أن التثبت يتأتى بأقل منها وبأزيد عليها قد استأثر الله بعلمه.
والمعنى أن من كان له هذا الاقتدار العظيم الذي تضيق العقول عن تصوره كيف يكون إرساله لرسوله إلى الناس من جنسهم محلاًّ للتعجب مع كون الكفار يعترفون بذلك فكيف لا يعترفون بصحة هذه الرسالة لهذا الرسول.
(ثم استوى على العرش) استواء يليق به وهذه طريقة السلف المفوضين وقد تقدم تفسير هذه الآية في الأعراف بما فيه كفاية فلا نعيده هنا، قال الكرخي: إن الاستواء على العرش صفة له سبحانه بلا كيف. انتهى فهذه الصفة يجب الإيمان بها وإمرارها على ظاهرها من غير تأويل ولا تكييف ولا تعطيل ولا تمثيل ليس كمثله شيء وهو السميع البصير.
وطريقة الخلف المؤولين محجوجة بنصوص الكتاب والسنة وأقوال سلف الأمة وأئمتها، وظاهر الآية يدل على أنه تعالى إنما استوى على العرش بعد خلق السموات والأرض لأن كلمة ثم للتراخي وذلك يدل على أنه تعالى كان قبل العرش غنياً عنه، فلما خلقه امتنع أن تنقلب حقيقته وذاته عن الاستغناء إلى(6/12)
الحاجة فوجب أن يبقى بعد خلق العرش غنياً عنه، ولكن لما قال هو سبحانه وتعالى باستوائه عليه وجب الإيمان به على ما يليق لجلاله.
ثم ذكر ما يدل على مزيد قدرته وعظيم شأنه مع ما مر من خلق هاتيك الأجرام العظام فقال (يدبر الأمر) وترك العاطف لأن جملة يدبر كالتفسير والتفصيل لما قبلها، وأصل التدبير النظر في أدبار الأمور وعواقبها لتقع على الوجه المقبول والشكل المحمود، وقال مجاهد: يقضيه ويقدره وحده على الوجه الأتم الأكمل، وقيل يبعث الأمر، وقيل ينزل الأمر، وقيل يأمر به ويمضيه، والمعنى متقارب؛ واشتقاقه من الدبر، والأمر الشأن وهو أحوال ملكوت السموات والأرض والعرش وسائر الخلق من الجزئيات الحادثة شيئاً فشيئاً على أطوار شتى لا تكاد تحصى.
(ما من شفيع) يشفع عنده يوم القيامة (إلا من بعد إذنه) له في الشفاعة لأنه عالم بمصالح عباده في تدبيرهم فلا يجوز لأحد أن يسأله ما ليس له به علم، قال الزجاج: إن الكفار الذين خوطبوا بهذه الآية كانوا يقولون أن الأصنام شفعاؤنا عند الله، فرد الله عليهم بأنه ليس لأحد أن يشفع إليه في شيء إلا بعد إذنه لأنه أعلم بموضع الحكمة والصواب، وله التصرف المطلق في العالم، وقد تقدم معنى الشفاعة في البقرة، وفي هذا بيان لاستبداده بالأمور في كل شيء سبحانه وتعالى.
(ذلكم) أي فاعل هذه الأشياء العظيمة من الخلق والتدبير (الله ربكم) أي سيدكم لا رب لكم سواه، وفي هذه الجملة زيادة تأكيد لقوله(6/13)
إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (3)
(إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض) (فاعبدوه) أمرهم بعبادته بعد أن بين لهم أنه الحقيق بها دون غيره لبديع صنعه وعظيم اقتداره فكيف تعبدون الجمادات التي لا تسمع ولا تبصر، ولا تنفع ولا تضر.
والاستفهام في قوله (أفلا تذكرون) للإنكار والتوبيخ والتقريع لأن من له أدنى تذكر وأقل اعتبار يعلم بهذا ولا يخفى عليه.(6/13)
إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (4) هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (5)
ثم بين لهم ما يكون آخر أمرهم بعد الحياة الدنيا فقال(6/14)
إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (4)
(إليه مرجعكم جميعاً) وفي هذا من التهديد والتخويف ما لا يخفى، والمراد بالمرجع الرجوع إليه سبحانه إما بالموت أو بالبعث أو بكل واحد منهما، وانتصاب (وعد الله) على المصدر أو هو منصوب بفعل مقدر.
ثم أكد ذلك الوعد بقوله (حقاً) فهو تأكيد للتأكيد، فيكون في الكلام من الوكادة ما هو الغاية في ذلك وقرئ وعدُ الله حق على الاستئناف.
ثم علل سبحانه ما تقدم بقوله (إنه) بالكسر استئنافاً (يبدأ الخلق) أي إن هذا شأنه يبتدئ خلقه من التراب (ثم يعيده) إليه والخلق بمعنى المخلوق والمضارع بمعنى الماضي، وعبر به استحضاراً للصورة الغريبة أو معنى الإعادة الجزاء يوم القيامة، قال مجاهد ينشئه ثم يميته ثم يحييه للبعث، وقيل ينشئه من الماء ثم يعيده من حال إلى حال.
وقرئ أنه بالفتح وهي شاذة أي وعدكم الله انه يبدأ الخلق ثم يعيده أو التقدير لأنه يبدأ الخلق، قال أحمد بن يحيي: التقدير حقاً إبداؤه الخلق، وفي الآية دليل على إمكان الحشر والنشر والمعاد وصحة وقوعه، ورد على منكري البعث.
ثم ذكر غاية ما يترتب على الإعادة فقال (ليجزي الذين آمنوا وعملوا(6/14)
الصالحات بالقسط) أي بالعدل الذي لا جور فيه أي يجزيهم متلبساً بالقسط أو متلبسين به أو بسبب قسطهم، والمراد به هنا الإيمان بدليل المقابلة في قوله بما كانوا يكفرون.
(والذين كفروا) يحتمل وجهين أحدهما أن يكون مرفوعاً بالابتداء وجملة (لهم شراب من حميم وعذاب أليم) خبره والثاني أن يكون منصوباً عطفاً على الموصول قبله وتكون الجملة بعده مبينة لجزائهم، وقيل الجملة في محل نصب على الحال أي حال كونهم لهم هذا الشراب وهذا العذاب المؤلم.
ولكن يشكل على ذلك إن هذا الشراب وهذا العذاب الأليم هما من الجزاء والحميم الماء الحار الذي قد انتهى حره، وكل مسخن عند العرب فهو حميم، وتغيير الأسلوب للمبالغة في استحقاقهم للعقاب والتنبيه على أن المقصود بالذات من الإبداء والإعادة هو الإثابة والعذاب وقع بالعرض وأنه تعالى يتولى إثابة المؤمنين بما يليق بلطفه وكرمه، ولذلك لم يعينه، وأما عقاب الكفرة فكأنه داء ساقه إليهم سوء اعتقادهم وسوء أفعالهم (بما كانوا يكفرون) أي بسبب كفرهم.(6/15)
هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (5)
(هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نوراً) ذكر هاهنا بعض نعمه على المكلفين وهو مما يستدل به على وجوده ووحدته وقدرته وعلمه وحكمته باتقان صنعه في هذين النيرين المتعاقبين على الدوام بعد ما ذكر قبل هذا إبداعه للسموات والأرض واستواءه على العرش وغير ذلك.
والضياء قيل جمع ضوء كالسياط والسوط والحياض والحوض والأولى أن يكون ضياء مصدراً لا جمعاً ولا بد من تقدير مضاف أي جعل الشمس ذات ضياء والقمر ذا نور إلا أن يحمل على المبالغة كأنهما جعلا نفس الضياء والنور قيل الضياء أقوى من النور، وقيل هو ما كان بالذات والنور ما كان بالعرض، فما قام(6/15)
بالشمس يقال له ضياء وما قام بالقمر يقال له نور.
ومن هنا قال الحكماء إن نور القمر مستفاد من ضوء الشمس، والشعاع الفائض من الشمس قيل جوهر، وقيل عرض، قال الصاوي: والحق أنه عرض لقيامه بالأجرام، وضياء مفعول ثان إن جعل الجعل بمعنى التصيير، وحال أن جعل بمعنى الخلق، قال السدي: لم يجعل الشمس كهيئة القمر لكي يعرف الليل من النهار وهو قوله (فمحونا آية الليل) الآية، قال ابن عباس: وجوههما إلى السموات وأقفيتهما إلى الأرض، وعن ابن عمرو مثله.
(وقدره) أى قدر مسير القمر في (منازل) أو قدره ذا منازل وبه يعرف انقضاء الشهور والسنين وذلك إن الشهور المعتبرة في الشرع مبنية على رؤية الأهلة والسنة المعتبرة في الشرع هي القمرية لا الشمسية، ومنازله هي المسافة التي يقطعها في يوم وليلة بحركته الخاصة به وجملتها ثمانية وعشرون وهي معروفة منقسمة على اثني عشر برجاً لكل برج منزلان وثلث منزل ينزل القمر في كل ليلة منزلاً منها إلى انقضاء ثمانية وعشرين لا يتخطاه، فيبدو صغيراً في أول منازله ثم يكبر قليلاً قليلاً حتي يبدو كاملاً، وإذا كان في آخر منازله رق واستقوس ثم يستتر ليلتين لا يبصر ولا يرى إذا كان الشهر كاملاً أو ليلة إذا كان الشهر ناقصاً.
والكلام في هذا يطول وقد جمع الشوكاني فيه رسالة مستقلة جواباً عن سؤال أورده عليه بعض الأعلام، وقيل إن الضمير راجع إلى كل واحد من الشمس والقمر كما قيل في قوله تعالى (وإذا رأوا تجارة أو لهواً انفضوا إليها) وقوله (والله ورسوله أحق أن يرضوه) وقد قدمنا تحقيق هذا فيما سبق من هذا التفسير والأولى رجوع الضمير إلى القمر وحده كما في قوله تعالى (والقمر قدرناه منازل).
ثم ذكر بعض المنافع المتعلقة بهذا التقدير فقال (لتعلموا) بذلك التقدير(6/16)
(عدد السنين والحساب) أي حساب الشهور والأيام والساعات ونقصانها وزيادتها ووقت دخولها وانقضائها، فإن في العلم بعدد السنين من المصالح الدينية والدنيوية ما لا يحصى، وفي العلم بحساب الأشهر والأيام والليالي من ذلك ما لا يخفى. ولولا هذا التقدير الذي قدره الله سبحانه لم يعلم الناس بذلك ولا عرفوا ما يتعلق به كثير من مصالحهم، والسنة تتحصل من اثني عشر شهراً، والشهر يتحصل من ثلاثين يوماً إن كان كاملاً، ومن تسع وعشرين يوماً إن كان ناقصاً واليوم يتحصل من ساعات معلومة هي أربع وعشرون ساعة لليل والنهار، وقد يكون لكل واحد منهما اثنتا عشرة ساعة في أيام الاستواء، ويزيد أحدهما على الآخر في أيام الزيادة وأيام النقصان، والاختلاف بين السنة الشمسية والقمرية معروف ذكرناه في لقطة العجلان وحجج الكرامة.
(ما خلق الله ذلك) بين سبحانه أنه ما خلق الشمس والقمر واختلاف تلك الأحوال (إلا بالحق) والصواب دون الباطل والعبث، والإشارة بقوله (ذلك) إلى المذكور قبله من جعل الشمس ضياء والقمر نوراً أو تقديره منازل والاستثناء مفرغ من أعم الأحوال.
(يفصل الآيات لقوم يعلمون) معنى التفصيل تبيينها والمراد بالآيات التكوينية أو التنزيلية أو مجموعهما، ويدخل هذه الآيات التكوينية المذكورة هنا دخولاً أولياً في ذلك، قرئ يفصل بالياء والنون وهما سبعيتان، وعلى الثانية فيه التفات.(6/17)
إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ (6) إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ (7)
ثم ذكر سبحانه المنافع الحاصلة من اختلاف الليل والنهار وما خلق الله في السموات والأرض من تلك المخلوقات فقال(6/18)
إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ (6)
(إن في اختلاف الليل والنهار) أي في تعاقبهما وكون كل منها خلفة للآخر بحسب طلوع الشمس وغروبها أو في تفاوتهما في أنفسهما بازدياد كل منهما وانتقاص الآخر باختلاف حال الشمس بالنسبة إلينا قرباً وبعداً بحسب الأزمنة أو في اختلافهما وتفاوتهما بحسب الأمكنة أما في الطول والقصر فإن البلاد القريبة من القطب الشمالي أيامها الصيفية أطول ولياليها الصيفية أقصر من أيام البلاد البعيدة منه ولياليها، وأما في أنفسها فإن كروية الأرض تقتضي أن يكون بعض الأوقات في بعض الأماكن ليلاً وفي مقابله نهاراً.
(وما خلق الله في السماوات) من ملائكة وشمس وقمر ونجوم وغير ذلك (والأرض) من حيوان وجبال وبحار وأنهار وأشجار وغيرها (لآيات) دلالات على قدرته تعالى (لقوم يتقون) الله سبحانه ويجتنبون معاصيه، خصهم بهذه الآيات لأنهم الذين يمعنون النظر والتفكر في مخلوقات الله سبحانه حذراً منهم عن الوقوع في شيء مما يخالف مراد الله سبحانه، ونظراً لعاقبة أمرهم وما يصلحهم في معادهم.
قال القفال: من تدبر في هذه الأحوال علم أن الدنيا مخلوقة لبقاء الناس فيها وأن خالقها وخالقهم ما أهملهم بل جعلها لهم دار عمل، وإذا كان كذلك فلابد من أمر ونهي.(6/18)
عن خليفة العبدي قال: لو أن الله تبارك وتعالى لم يعبد إلا عن رؤية ما عبده أحد، ولكن المؤمنين تفكروا في مجيء هذا الليل اذا جاء فملأ كل شيء وغطى كل شيء وفي مجيء سلطان النهار اذا جاء فمحا سلطان الليل، وفي السحاب المسخر بين السماء والأرض، وفي النجوم وفي الشتاء والصيف، فو الله ما زال المؤمنون يتفكرون فيما خلق ربهم حتى أيقنت قلوبهم بربهم، وقد تقدم تفسير هذه الآية في نظائرها.(6/19)
إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ (7)
(إن الذين لا يرجون لقاءنا) شرع الله سبحانه في شرح أحوال من لا يؤمن بالمعاد ومن يؤمن به، وقدم الطائفة التي لم تؤمن لأن الكلام في هذه السورة مع الكفار الذين يعجبون مما لا عجب فيه، ويهملون النظر والتفكر فيما لا ينبغي إهماله مما هو مساعد لكل حي طول حياته فيتسبب عن إهمال النظر والتفكر الصادق عدم الإيمان بالمعاد.
ومعنى الرجاء هنا الخوف وقيل الطمع، فالمعنى على الأول لا يخافون عقاباً وعلى الثاني لا يطمعون في ثواب إذا لم يكن المراد باللقاء حقيقته، فإن كان المراد به حقيقته كان المعنى لا يخافون رؤيتنا أو لا يطمعون في رؤيتنا، وقيل المراد بالرجاء هنا التوقع فيدخل تحته الخوف والطمع فيكون المعنى لا يتوقعون لقاءنا فهم لا يخافونه ولا يطمعون فيه.
(ورضوا بالحياة الدنيا) عوضاً عن الآخرة فعملوا لها (واطمأنوا بها) أي وقد سكنت نفوسهم إليها وفرحوا بها (والذين هم عن آياتنا غافلون) العطف إنما هو لتغاير الصفات أي غفلوا عن آياتنا الكونية والشرعية لا يعتبرون بها ولا يتفكرون فيها قيل المراد بالآيات أدلة التوحيد وقيل محمد والقرآن.(6/19)
أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (8) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (9)(6/20)
أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (8)
(أولئك) أي المتصفون بالصفات السابقة من عدم الرجاء وحصول الرضا والاطمئنان والغفلة (مأواهم النار) أي مثواهم ومكان إقامتهم (بما كانوا) أي بسبب ما كانوا (يكسبون) من الكفر والتكذيب بالمعاد، فهذا حال الذين لا يؤمنون بالمعاد.
وأما حال الذين يؤمنون به فقد بينه سبحانه بقوله(6/20)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (9)
(إن الذين آمنوا) أي فعلوا الإيمان الذي طلبه الله منهم بسبب ما وقع منهم من التفكر والاعتبار فيما تقدم ذكره من الآيات (وعملوا الصالحات) التي يقتضيها الإيمان وهي ما شرعه الله لعباده المؤمنين (يهديهم ربهم بإيمانهم) أي يرزقهم الهداية بسبب هذا الايمان المضموم إليه العمل الصالح فيصلون بذلك إلى الجنة.
وعبارة أبي السعود يهديهم بسبب إيمانهم إلى مأواهم ومقصدهم وهي الجنة وإنما لم تذكر تعويلاً على ظهورها وانسياق النفس إليها. قال القاضي: ومفهوم الترتيب وإن دل على أن سبب الهداية هو الإيمان والعمل الصالح، لكن دل منطوق قوله بإيمانهم على استقلال الإيمان بالسببية وأن العمل الصالح كالتتمة والرديف له: انتهى.
وهذا رد لما في الكشاف من أن الآية دلت على أن المعتبر في الهداية إلى الجنة هو المقيد بالعمل الصالح لا المطلق، قال الخفاجي: وقد رد هذا بأن الجمع بين العمل الصالح والإيمان ظاهر في أنهما السبب والتصريح بسببية الإيمان المضاف إلى الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالتنصيص على أنه ذلك الإيمان المقرون بما معه لا المطلق، لكنه ذكر لأصالته وزيادة شرفه فلا استدراك ولا دلالة على استقلاله ثم إن النزاع إنما هو في سبب الهداية إلى طريق الجنة لا إلى(6/20)
الاستقامة على سلوك السبيل المؤدي إلى الثواب وأن من لا يكون مهتدياً إلى الجنة لا يدخل الجنة مطلقاً ومنعه مكابرة فتدبر. اهـ
وعبارة أبي السعود: وفي النظم الكريم إشعار بأن مجرد الإيمان والعمل الصالح لا يكفي في الوصول إلى الجنة، بل لا بد بعد ذلك من الهداية الربانية وأن الكفر والمعاصي كافية في دخول النار، ثم أنه لا نزاع في أن المراد بالإيمان الذي جعل سبباً لتلك الهداية هو إيمانهم الخاص المشفوع بالأعمال الصالحة لا الإيمان المجرد عنها ولا ما هو أعم منهما، إلا أن ذلك بمعزل عن الدلالة، على خلاف ما عليه أهل السنة والجماعة من أن الإيمان الخالي عن العمل الصالح يفضي إلى الجنة في الجملة ولا يخلد صاحبه في النار، فإن منطوق الآية الكريمة أن الإيمان المقرون بالعمل الصالح سبب للهداية إلى الجنة، وأما أن كل ما هو سبب لها يجب أن يكون كذلك فلا دلالة لها ولا لغيرها عليه قطعاً، كيف لا وقوله عز وجل (الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون) مناد بخلافه فإن المراد بالظلم هو الشرك كما أطبق عليه المفسرون، والمعنى لم يخلطوا إيمانهم بشرك.
ولئن حمل على ظاهره أيضاً يدخل في الاهتداء من آمن ولم يعمل صالحاً ثم مات قبل أن يظلم بفعل حرام أو بترك واجب. اهـ
وقال النسفي في المدارك: وهذا دليل على أن الإيمان المجرد منج حيث قال: بإيمانهم ولم يضم إليه العمل الصالح.
ولفظ الخازن والمهايمي بإيمانهم وبأعمالهم، وقال الصاوي: أي وبسبب أعمالهم أيضاً، فالإيمان والأعمال الصالحة سببان موصلان لدار السعادة، أو المراد بالإيمان الكامل ليشمل الأعمال، والمسألة من المعارك ولكل وجهة هو موليها فاستبقوا الخيرات.
(تجري من تحتهم الأنهار) مستأنفة أو خبر ثان لأن أو في محل النصب على الحال والمعنى من تحت بساتينهم أو من بين أيديهم لأنهم على سرر مرفوعة (في جنات النعيم) خبر آخر أو حال أخرى منه أو من الأنهار أو متعلق بتجري.(6/21)
دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (10)
دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (10)
(دعواهم فيها سبحانك اللهم) أي دعاؤهم ونداؤهم وطلبهم لما يشتهونه في الجنة هذا اللفظ وهو من باب الإسناد اللفظي، وقيل هذا من باب الإسناد المعنوي فلا يلزم أن يقولوا هذا اللفظ فقط، بل يقولونه أو ما يؤدي معناه من جميع صفات التنزيه والتقديس.
قيل الدعاء العبادة كقوله (وأعتزلكم وما تدعون من دون الله) وقيل معنى دعواهم هنا الادعاء الكائن بين المتخاصمين، والمعنى أن أهل الجنة يدعون في الدنيا والآخرة تنزيه الله سبحانه من المعائب والإقرار له بالإلهية، وقيل قولهم وكلامهم.
قال القفال: أصله من الدعاء لأن الخصم يدعو خصمه إلى من يحكم بينهما، وقيل معناه طريقتهم وسيرتهم وذلك إن المدعي للشيء مواظب عليه فيمكن أن يجعل الدعوى كناية عن الملازمة وإن لم يكن في قوله سبحانك اللهم دعوى ولا دعاء وقيل معناه تمنيهم كقوله (ولهم ما يدعون) وكان تمنيهم في الجنة ليس إلا تسبيح الله وتقديسه.
وأخرج ابن مردويه عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا قالوا سبحانك اللهم أتاهم ما اشتهوا من الجنة من ربهم، وقد روي نحو هذا عن جماعة من التابعين.
فهذه الكلمة علامة بين أهل الجنة والخدم في إحضار الطعام، فإذا أرادوه قالوا سبحانك اللهم فيأتوهم به في الوقت على حسب ما يشتهون واضعين له على(6/22)
الموائد في كل صحفة لون من الطعام لا يشبه بعضه بعضاً فإذا فرغوا من الطعام حمدوا الله على ما أعطاهم كما يأتي فترفع الموائد عند ذلك ..
قال الزجاج: أعلم الله إن أهل الجنة يبتدئون بتعظيم الله وتنزيهه ويختمون بشكر الله والثناء عليه وقيل أنهم يلهمون ذلك كما ذكر في الحديث والمعنى نسبحك يا الله تسبيحاً.
(وتحيتهم فيها سلام) أي تحية بعضهم للبعض فيكون المصدر مضافاً إلى الفاعل أو تحية الله أو الملائكة لهم فيكون من إضافة المصدر إلى المفعول، والتحية التكرمة بالحالة الجليلة أصلها أحياك الله حياة طيبة، والسلام السلامة من كل مكروه وقد مضى تفسير هذا في سورة النساء.
(وآخر دعواهم) أي وخاتمة دعائهم الذي هو التسبيح في كل مجلس (أن) يقولوا (الحمد لله رب العالمين) وليس معناه انقطاع الحمد فإن أقوال أهل الجنة وأحوالها لا آخر لها والدعوى مشهورة في الادعاء لكنها وردت بمعنى الدعاء أيضاً وهو المراد هنا بقرينة ما بعده لأنه من جنس الدعاء، وتكون أيضاً بمعنى العبادة، وقد جوز إرادته هنا وإن كانت الجنة ليست دار تكليف أي لا عبادة لهم غير هذا القول، والأول أظهر، والثاني أدق أو المراد أنه عبادة لهم تلذذاً لا تكليفاً ذكره الخفاجي؛ قال أبو السعود ولا يساعده تعيين الخاتمة اهـ.
قال النحاس: مذهب الخليل أن (أنْ) هذه مخففة من الثقيلة والمعنى أنه الحمد لله، وقال المبرد يجوز إن تعملها خفيفة عملها ثقيلة والرفع أقيس، ولم يحك أبو عبيد إلا التخفيف، قال أبو الهذيل: الحمد أول الكلام وآخر الكلام ثم تلا هذه الآية.(6/23)
وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (11) وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (12) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (13)
ولما ذكر الله سبحانه الوعيد على عدم الإيمان بالمعاد، ذكر أن هذا العذاب من حقه أن يتأخر عن هذه الحياة الدنيا فقال(6/24)
وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (11)
(ولو يعجل الله للناس الشر) أي إجابة دعائهم بالشر مما لهم فيه مضرة ومكروه في نفس أو مال، والتعجيل تقديم الشيء قبل وقته، وقال القفال: لما وصفهم بالغفلة أكد ذلك بأن من غاية غفلتهم أن الرسول متى أنذرهم استعجلوا العذاب، فبين الله سبحانه أنه لا مصلحة في إيصال الشر إليهم فلعلهم يتوبون أو يخرج من أصلابهم من يؤمن.
قيل ومعناه لو عجل الله للناس العقوبة (استعجالهم بالخير) أي كما
يستعجلون بالثواب والخير أي استعجالاً مثل استعجالهم قال مكي: وهذا مذهب سيبويه أو تعجيلاً مثل استعجالهم، وهذا تقدير أبي البقاء وهو الطاهر، وقال الزمخشري: أصله تعجيله لهم بالخير وهو ضعيف جداً، وقيل منصوب على إسقاط كاف التشبيه أي كاستعجالهم، والاستعجال طلب العجلة.
(لقضي إليهم أجلهم) أي لأهلكهم، وقيل معناه لأميتوا، قال ابن قتيبة: إن الناس عند الغضب والضجر قد يدعون على أنفسهم وأهلهم وأولادهم بالموت وتعجيل البلاء كما يدعون بالرزق والرحمة وإعطاء المسؤول،(6/24)
يقول لو أجابهم الله إذا دعوه بالشر الذي يستعجلون به استعجالهم بالخير لفرغ من إهلاكهم، ولكن الله عز وجل بفضله وكرمه يستجيب للداعي في الخير ولا يستجب له في الشر، وقال مجاهد: في الآية هو قول الإنسان لولده وأهله عند الغضب لعنكم الله لا بارك الله فيكم، وقال سعيد بن جبير: هو قول الرجل للرجل اللهم العنه اللهم اخزه وهو يحب أن يستجاب له، وقال قتادة: هو دعاء الرجل على نفسه وأهله وماله بما يكره أن يستجاب له فيه.
وقيل الآية خاصة بالكفار الذين أنكروا البعث وما يترتب عليه، وقيل نزلت في النضر بن الحرث حين قال: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء الأية.
وقرئ لقضي على البناء للفاعل وهي قراءة حسنة لمناسبة ذلك لقوله (ولو يعجل الله) وصورة القياس هكذا لو يعجل الله الشر للناس لأهلكهم لكنه لم يهلكهم بل أمهلهم فلم يعجل لهم الشر، ويدل على هذا القول قوله (فنذر الذين لا يرجون لقاءنا) أي لا يتوقعونه فالفاء للعطف على مقدر، يدل عليه الكلام فكأنه قيل لكن لا يعجل لهم الشر، ولا يقضي إليهم أجلهم فيذرهم أي فيتركهم ويمهلهم (في طغيانهم) أي الذي هو عدم رجاء اللقاء وإنكار البعث والجزاء وما يتفرع على أعمالهم السيئة ومقالاتهم الشنيعة، والطغيان التطاول وهو العلو والارتفاع (يعمهون) يعني يتركهم يتحيرون في تطاولهم وتكبرهم وعدم قبولهم للحق استدراجاً لهم منه سبحانه وخذلاناً.
ثم بين سبحانه أنهم كاذبون في استعجال الشر ولو أصابهم ما طلبوه لأظهروا العجز والجزع فقال(6/25)
وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (12)
(وإذا مس الإنسان الضر) أي هذا الجنس الصادق على كل ما يحصل التضرر به كالمرض والفقر (دعانا لجنبه) اللام للوقت أو بمعنى على أي دعانا مضطجعاً (أو قاعداً أو قائماً) كأنه قال دعانا في جميع الأحوال المذكورة وغيرها، وخص المذكورة بالذكر لأنها الغالب على(6/25)
الإنسان ولا يخلو عنها عادة وما عداها نادر كالركوع والسجود.
ويجوز أن يراد أنه يدعو الله حال كونه مضطجعاً غير قادر على القعود، وقاعداً غير قادر على القيام وقائماً غير قادر على المشي والأول أولى، قال الزجاج: أن تعديد أحوال الدعاء أبلغ من تعديد أحوال المضرة لأنه إذا كان داعياً على الدوام ثم نسي في وقت الرخاء كان أعجب.
وعن أبي الدرداء قال: ادع الله يوم سرائك يستجاب لك يوم ضرائك.
وأقول أنا أكثر من شكر الله على السراء ليدفع عني الضراء فإن وعده للشاكرين بزيادة النعم مؤذن بدفعه عنهم النقم لذهاب حلاوة النعمة عند وجود مرارة النقمة، اللهم اجمع لنا بين جلب النعم وسلب النقم فإنا نشكرك عدد ما شكرك الشاكرون ونحمدك عدد ما حمدك الحامدون بكل لسان في كل زمان ومكان.
(فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه) أي مضى على طريقته التي كان عليها قبل أن يمسه الضر. ونسي حالة الجهد والبلاء والضيق والفقر، وأهمل جانب الله أو مضى عن موقف الدعاء والتضرع لا يرجع إليه كأنه لا عهد له به كأنه لم يدعنا عند أن مسه الضر إلى كشف ذلك الضر الذي مسه.
وقيل معنى مر، استمر على كفره مشبهاً بمن لم يدعنا ولم يشكر ولم يتعظ، وهذه الحالة التي ذكرها الله سبحانه للداعي لا تختص بأهل الكفر بل تتفق لكثير من المسلمين تلين ألسنتهم بالدعاء وقلوبهم بالخشوع والتذلل عند نزول ما يكرهون بهم، فاذا كشفه الله عنهم غفلوا عن التضرع والدعاء وذهلوا عما يجب عليهم من شكر النعمة التي أنعم الله بها عليهم من إجابة دعائهم ورفع ما نزل بهم من الضر ودفع ما أصابهم من المكروه.(6/26)
وهذا مما يدل على أن الآية تعم المسلم والكافر كما يشعر به لفظ الناس ولفظ الإنسان. اللهم أوزعنا شكر نعمك وأذكرنا الأحوال التي مننت علينا فيها بإجابة الدعاء حتى نستكثر من الشكر الذي لا نطيق سواه ولا نقدر على غيره، وما أغناك عنه وأحوجنا إليه ولئن شكرتم لأزيدنكم.
(كذلك) أي مثل ذلك التزيين العجيب أي كما زين له الدعاء عند الضرر والإعراض عند الرخاء (زين للمسرفين ما كانوا يعملون) أي عملهم، والمسرف في اللغة هو الذي ينفق المال الكثير لأجل الغرض الخسيس، والتزيين هو إما من جهة الله تعالى على طريق التخلية وعدم اللطف بهم أو من طريق الشيطان بالوسوسة أو من طريق النفس الأمارة بالسوء، والمعنى إنه زين لهم الإعراض عن الدعاء والغفلة عن الشكر والاشتغال بالشهوات.
ثم ذكر سبحانه ما يجري مجرى الردع والزجر عما صنعه هؤلاء فقال(6/27)
وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (13)
(ولقد أهلكنا القرون) يعني الأمم الماضية (من قبلكم) أي قبل هؤلاء الكفار المعاصرين للنبي صلى الله عليه وسلم يعني أهلكناهم من قبل زمانكم، وقيل الخطاب لأهل مكة على طريق الالتفات للمبالغة في الزجر.
(لما ظلموا) أي أهلكناهم حين فعلوا الظلم بالتكذيب والتجارؤ على الرسل والتطاول في المعاصي من غير تأخير لإهلاكهم كما أخرنا إهلاككم. وقيل الظلم هنا الشرك أي لما أشركوا.
(وجاءتهم رسلهم) الذين أرسلناهم إليهم (بالبينات) أي بالآيات الواضحات الدالة على صدق الرسل (وما كانوا ليؤمنوا) الجملة اعتراضية واللام لتأكيد النفي، أي وما صح لهذه الأمم وما استقام أن يؤمنوا برسلهم لعدم استعدادهم لذلك وسلب الإلطاف عنهم.
(كذلك نجزي القوم المجرمين) أي مثل ذلك الجزاء وهو الاستئصال الكلي لكل مجرم، وهذا وعيد شديد لمن كان في عصره من الكفار أو لكفار مكة على الخصوص.(6/27)
ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (14) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (16)
ثم خاطب سبحانه الذين بعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال(6/28)
ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (14)
(ثم جعلناكم خلائف) أي استخلفناكم (في الأرض) بعد تلك القرون التي تسمعون أخبارها وتنظرون آثارها، والخلائف جمع خليفة، وقد تقدم الكلام عليه في آخر سورة الأنعام.
(لننظر كيف تعملون) اللام لام كي أي لكي ننظر أي عمل تعملونه من أعمال الخير والشر، أو على أي حالة تعملون الأعمال اللائقة بالاستخلاف وقيل النظر هنا بمعنى العلم أي لنختبر أعمالكم كقوله تعالى (ليبلوكم أيكم أحسن عملاً) ذكره الواحدي والرازي، وقيل لنعامل معاملة من ينظر فهي استعارة تمثيلية والأول أولى.
عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن الدنيا حلوة خضرة وأن الله مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون، فاتقوا الدنيا واحذروا فتنة النساء (1) ". أخرجه مسلم. ثم حكى الله سبحانه نوعاً ثالثاً من تعنتهم وتلاعبهم بآياته فقال
_________
(1) مسلم 2742.(6/28)
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15)
(وإذا تتلى عليهم) فيه التفات عن الخطاب إلى الغيبة إعراضاً عنهم (آياتنا) التي في الكتاب العزيز، أي وإذا تلا التالي عليهم(6/28)
آياتنا الدالة على إثبات التوحيد وإبطال الشرك حال كونها (بينات) أي واضحات الدلالة على المطلوب (قال الذين لا يرجون لقاءنا) أي لا يخافون البعث وهم المنكرون للمعاد. وقال قتادة: هم مشركو مكة، وقد تقدم تفسيره قريباً، أي قالوا لمن يتلوها عليهم وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(ائت بقرآن غير هذا أو بدّله) طلبوا منه صلى الله عليه وسلم لما سمعوا ما غاظهم فيما تلاه عليهم من القرآن من ذم عبادة الأوثان والوعيد الشديد لمن عبدها أحد أمرين: إما الإتيان بقرآن غير هذا القرآن مع بقاء هذا القرآن على حاله؛ وإما تبديل هذا القرآن بنسخ بعض آياته أو كلها ووضع أخرى مكانها مما يطابق إرادتهم ويلائم غرضهم.
قال الرازي: إقدامهم على هذا الالتماس إما على سبيل السخرية والاستهزاء أو على سبيل التجربة والامتحان، حتى أنه لو فعل ذلك علموا أنه كاذب في قوله إن هذا القرآن ينزل عليه من عند الله تعالى.
فأمره الله أن يقول في جوابه (قل ما يكون) أي ما ينبغي ولا يحل (لي أن أبدله من تلقاء نفسي) فنفى عن نفسه أحد القسمين وهو التبديل لأنه الذي يمكنه لو كان ذلك جائزاً بخلاف القسم الآخر وهو الإتيان بقرآن آخر، فإن ذلك ليس بوسعه ولا يقدر عليه.
وقيل أنه صلى الله عليه وسلم نفى عن نفسه أسهل القسمين ليكون دليلاً على نفي أصعبهما بالطريق الأولى، وهذا منه صلى الله عليه وسلم من باب مجازاة السفهاء. إذ لا يصدر مثل هذا الاقتراح عن العقلاء بعد أن أمره الله سبحانه بذلك وهو أعلم بمصالح عباده وبما يدفع الكفار عن هذه الطلبات الساقطة والسؤالات الباردة.
قال الزجاج: سألوه إسقاط ما فيه من ذكر البعث والنشور، وقيل سألوه(6/29)
أن يسقط ما فيه من عيب آلهتهم وتسفيه أحلامهم، وقيل سألوه أن يحول الوعد وعيداً والحرام حلالاً والحلال حراماً.
ثم أمره أن يؤكد ما أجاب به عليهم من أنه ما صح له ولا استقام أن يبدله من تلقاء نفسه بقوله (إن أتبع إلا ما يوحى إليّ) من عند الله سبحانه من غير تبديل ولا تحويل ولا تحريف ولا تصحيف، فقصر حاله صلى الله عليه وسلم على اتباع ما يوحى إليه، وربما كان مقصد الكفار بهذا السؤال التعريض للنبي (- صلى الله عليه وسلم -) بأن القرآن كلامه، وأنه يقدر على الإتيان بغيره والتبديل له.
ثم أمره الله سبحانه أن يقول لهم تكميلاً للجواب عليهم (إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم) فإن هذه الجملة كالتعليل لما قدمه من الجواب قبلها واليوم العظيم هو يوم القيامة، أي إني أخاف إن عصيت ربي بفعل ما تطلبون على تقدير إمكانه عذاب يوم القيامة.
ثم أكد سبحانه كون هذا القرآن من عند الله وإنه صلى الله عليه وسلم إنما يبلغ إليهم منه ما أمره الله بتبليغه لا يقدر على غير ذلك فقال(6/30)
قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (16)
(قل لو شاء الله) أي أن هذا القرآن المتلو عليكم هو بمشيئة الله وإرادته ولو شاء الله أن لا أتلوه عليكم ولا أبلغكم إياه (ما تلوته عليكم) فالأمر كله منوط بمشيئة الله ليس لي في ذلك شيء (ولا أدراكم به) أي ولو شاء الله ما أدراكم بالقرآن أي ما أعلمكم به على لساني، يقال دريت الشيء وأدراني الله به، هكذا قرأ الجمهور بالألف من أدراه يدريه، أعلمه يعلمه، وقرأ ابن كثير: ولأدراكم به بغير ألف بين اللام والهمزة والمعنى لأعلمكم به على لسان غيري من غير أن أتلوه عليكم، فيكون اللام لام تأكيد دخلت على ألف أفعل.
وقد قرئ أدرأكم بالهمزة فقيل هي منقلبة عن الألف لكونهما من واد واحد، ويحتمل أن يكون من درأته إذا دفعته وأدرأته إذا جعلته دارياً، والمعنى لا أجعلكم بتلاوته خصماء تدرءونني بالجدال وتكذبونني، وقرأ ابن عباس(6/30)
والحسن ولا أدرأتكم به قال أبو حاتم: أصله ولا أدريتكم به فأبدل من الياء ألفا، قال النحاس: وهذا غلط، والرواية عن الحسن ولا أدرأتكم به بالهمزة.
(فقد لبثت فيكم عمراً من قبله) تعليل لكون ذلك بمشيئة الله ولم يكن من النبي صلى الله عليه وسلم إلا التبليغ، أي أقمت فيما بينكم زماناً طويلاً من قبل القرآن وهو أربعون سنة تعرفونني بالصدق والأمانة لست ممن يقرأ ولا ممن يكتب (أفلا تعقلون) الهمزة للتقريع والتوبيخ أي أفلا تجرون على ما يقتضيه العقل من عدم تكذيبي لما عرفتم من العادة المستمرة لي المدة الطويلة بالصدق والأمانة وعدم قراءتي للكتب المنزلة على الرسل وتعلمي لما عند أهلها من العلم ولا طلبي لشيء من هذا الشأن ولا حرصي عليه.
ثم جئتكم بهذا الكتاب الذي عجزتم عن الإتيان بسورة منه وقصرتم عن معارضته وأنتم العرب المشهود لهم بكمال الفصاحة، المعترف لهم بأنهم البالغون فيها إلى مبلغ لا يتعلق به غيركم.
أخرج ابن أبي شيبة والبخاري والترمذي عن ابن عباس قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم لأربعين سنة فمكث بمكة ثلاث عشرة يوحى إليه، ثم أمر بالهجرة فهاجر عشر سنين ومات وهو ابن ثلاث وستين سنة (1) وعن السدي نحوه.
قال النووي: ورد في عمره صلى الله عليه وسلم ثلاث روايات: إحداها أنه توفي وهو ابن ستين سنة والثانية خمس وستون سنة والثالثة ثلاث وستون سنة وهي أصحها وأشهرها، رواه مسلم من حديث أنس وعائشة وابن عباس، واتفق العلماء عليها؛ وتأولوا الباقي عليه، فرواية ستين سنة اقتصر فيها على العقود وترك الكسر، ورواية الخمس متأولة أيضا بأنها حصل فيها اشتباه.
_________
(1) البخاري كتاب مناقب الأنصار باب 45.(6/31)
فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ (17) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (18)(6/32)
فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ (17)
(فمن أظلم) استفهام فيه معنى الجحد أي لا أحد أظلم (ممن افترى على الله كذباً) زيادة كذباً مع أن الافتراء لا يكون إلا كذباً لبيان أن هذا مع كونه افتراء على الله هو كذب في نفسه فربما يكون الافتراء كذباً في الإسناد فقط كما إذا أسند ذنب زيد إلى عمرو، وذكر معنى هذا أبو السعود في تفسيره.
قيل وهذا من جملة رده صلى الله عليه وسلم على المشركين لما طلبوا منه أن يأتي بقرآن غير هذا القرآن أو يبدله، فبين لهم أنه لو فعل ذلك لكان من الافتراء على الله ولا ظلم يماثل ذلك، وقيل المفتري على الله الكذب هم المشركون.
(أو كذب بآياته) وهم أهل الكتاب (إنه) أي أن الشأن (لا يفلح المجرمون) تعليل لما قبله، أي لا يظفرون بمطلوب ولا يفوزون بخير، قال عكرمة: قال النضر: إذا كان يوم القيامة شفعت لي اللات والعزى، فأنزل الله هذه الآية.
ثم نعى الله سبحانه عليهم عبادة الأصنام وبين أنها لا تنفع من عبدها ولا تضر من لم يعبدها فقال(6/32)
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (18)
(ويعبدون من دون الله) أي متجاوزين الله سبحانه إلى عبادة غيره لا بمعنى ترك عبادته بالكلية بل بمعنى عدم الاكتفاء بها وضم عبادة الغير إليها للتقرب والشفاعة.(6/32)
(ما لا يضرهم ولا ينفعهم) أي ما ليس من شأنه الضرر ولا النفع، ومن حق المعبود أن يكون مثيباً لمن أطاعه، معاقباً لمن عصاه، ونفي الضر والنفع هنا عن الأصنام باعتبار الذات وإثباتهما لها في الحج في قوله (يدعو لمن ضره أقرب من نفعه) باعتبار السبب فلا منافاة بينهما.
(ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله) أي زعموا أنهم يشفعون في الآخرة فلا يعذبهم الله بذنوبهم؛ قاله ابن جريج، وهذا غاية الجهالة منهم حيث ينتظرون الشفاعة في المآل ممن لا يوجد منه نفع ولا ضر في الحال، وقيل أرادوا بهذه الشفاعة إصلاح أحوال دنياهم، قاله الحسن، أي لإنكارهم البعث وما يترتب عليه. ثم أمر الله سبحانه وتعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يجيب عنهم فقال (قل) لهم تبكيتاً (اتنبئون الله بما لا يعلم في السموات ولا في الأرض) والمعنى أتخبرون الله أن له شركاء في ملكه يعبدون كما يعبد، أو أتخبرونه أن لكم شفعاء بغير إذنه والله سبحانه لا يعلم لنفسه شريكاً ولا شفيعاً بغير إذنه من جميع مخلوقاته الذين هم في سماواته وفي أرضه، وهذا الكلام حاصله عدم وجود من هو كذلك أصلاً وفي هذا من التهكم بالكفار ما لا يخفى.
(سبحانه وتعالى عما يشركون) بالياء والتاء سبعيتان، نزه الله سبحانه نفسه عن إشراكهم، وهو يحتمل أن يكون ابتداء كلام غير داخل في الكلام الذي أمر الله سبحانه رسوله بأن يجيب به عليهم ويحتمل أن يكون من تمام ما أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقوله لهم جواباً عليهم.(6/33)
وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (19) وَيَقُولُونَ لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (20)(6/34)
وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (19)
(وما كان الناس) قد تقدم تفسيره في البقرة والمعنى أن الناس جميعاً ما كانوا (إلا أمة واحدة) موحدة لله سبحانه مؤمنة به من لدن آدم إلى نوح، وقيل من عهد إبراهيم إلى عمرو بن لحي لأن التوحيد والإسلام ملة قديمة اجتمعت عليه الناس قاطبة فطرة وتشريعاً، وأن الشرك وفروعه جهالات ابتدعها الغواة.
(فاختلفوا) أي فصار البعض كافراً، وبقي البعض الآخر مؤمناً فخالف بعضهم بعضاً، وقال الزجاج: هم العرب كانوا على الشرك وقال: كل مولود يولد على الفطرة فاختلفوا عند البلوغ والأول أظهر؛ وليس المراد أن كل طائفة أحدثت ملة من ملل الكفر مخالفة للأخرى بل المراد كفر البعض وبقي البعض على التوحيد كما قدمنا، وقال ابن مسعود: كانوا على هدى، وروي أنه قرأ هكذا.
وعن مجاهد قال: آدم وحده فاختلفوا حين قتل أحد ابني آدم أخاه، وعن السدي قال: أهل دين واحد على دين آدم فكفروا وقيل ليس في الآية ما يدل على أي دين كانوا من إيمان أو كفر فهو موقوف على دليل من خارج، وقيل كانوا في الكفر وهو منقول عن جماعة من المفسرين والأول أولى.
(ولولا كلمة سبقت من ربك) وهي أنه سبحانه لا يقضي بينهم فيما اختلفوا فيه إلا يوم القيامة (لقضي بينهم) في الدنيا بنزول العذاب وتعجيل(6/34)
العقوبة للمكذبين وكان ذلك فصلاً بينهم (فيما فيه يختلفون) لكنه قد امتنع ذلك بالكلمة التي لا تتخلف، وقيل المعنى لقضى بينهم بإقامة الساعة عليهم، وقيل لفرغ من هلاكهم، وقيل: الكلمة أن الله أمهل هذه الأمة فلا يهلكهم بالعذاب في الدنيا قاله الكلبي.
وقيل الكلمة أنه لا يأخذ أحداً إلا بحجة وهي إرسال الرسل كما قال تعالى: (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً) وقيل الكلمة قوله سبقت رحمتي غضبي وعبر بالمضارع عن الماضي حكاية للحال الماضية.(6/35)
وَيَقُولُونَ لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (20)
(ويقولون) ذكر سبحانه هاهنا نوعاً رابعاً من مخازيهم وجاء بالمضارع لاستحضار صورة ما قالوه، قيل والقائلون هم أهل مكة كأنهم لم يعتدوا بما قد نزل على رسوله - صلى الله عليه وسلم - من الآيات الباهرة والمعجزات القاهرة التي لو لم يكن منها إلا القرآن لكفى به دليلاً بيناً ومصدقاً قاطعاً.
(لولا) أي هلا (أنزل عليه آية) من الآيات التي نقترحها عليه ونطلبها منه كإحياء الأموات وجعل الجبال ذهباً ونحو ذلك (من ربه) كما كان للأنبياء من الناقة والعصا واليد؛ ثم أمره الله سبحانه أن يجيب عنهم فقال: (فقل إنما الغيب لله) أي أن نزول الآية غيب والله هو المحيط بعلمه المستأثر به لا علم لي ولا لكم ولا لسائر مخلوقاته وإنما علي التبليغ.
(فانتظروا) نزول ما اقترحتموه من الآيات (إني معكم من المنتظرين) لنزولها وقيل المعنى انتظروا قضاء الله بيني وبينكم بإظهار الحق على الباطل، وقال الربيع: خوفهم عذابه وعقوبته إن لم يؤمنوا.(6/35)
وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ (21) هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (22)(6/36)
وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ (21)
(وإذا أذقنا الناس رحمة من بعد ضراء مستهم إذا لهم مكر في آياتنا) لما بين سبحانه في الآية المتقدمة أنهم طلبوا آية عناداً ومكراً ولجاجاً أكد ذلك بما ذكره هنا من أنه سبحانه إذا أذاقهم رحمة منه من بعد أن مستهم الضراء فعلوا مقابل هذه النعمة العظيمة المكر منهم في آيات الله.
والمراد بإذاقتهم رحمته سبحانه أنه وسع عليهم في الأرزاق وأدرَّ عليهم النعم بالمطر والخصب وصلاح الثمار بعد أن مسهم الضر بالجدب وضيق المعايش، فما شكروا نعمته ولا قدروها حق قدرها. بل أضافوها إلى أصنامهم التي لا تنفع ولا تضر وطعنوا في آيات الله واحتالوا في دفعها بكل حيلة وهو معنى المكر فيها وإذا الأولى شرطية وجوابها إذا لهم مكر، وهي فجائية ذكر معنى ذلك الخليل وسيبويه، ويستفاد منه السرعة لأن المعنى أنهم فاجؤوا المكر أي أوقعوه على جهة الفجاءة والسرعة، وقال مجاهد: في الآية استهزاء وتكذيب. وهذا تفسير مراد، وإلا فأصل المكر إخفاء الحيل والمكايد، وقال مقاتل: لا يقولون هذا رزق الله إنما يقولون سقينا بنوء كذا وكذا.
ثم أمر الله سبحانه رسوله أن يجيب عنهم فقال: (قل الله أسرع مكراً) أي أعجل عقوبة وأشد أخذاً وأقدر على الجزاء من سرعة مكرهم، وقد دل أفعل التفضيل على أن مكرهم كان سريعاً ولكن مكر الله أسرع منه، وتسمية(6/36)
عقوبة الله سبحانه مكراً من باب المشاكلة كما قرر في مواطن من عبارات الكتاب العزيز.
(إن رسلنا) أي الملائكة (يكتبون ما تمكرون) قرئ بالتاء والياء، والأولى سبعية والثانية عشرية أي لا يخفى ذلك على الملائكة الذين هم الحفظة فكيف يخفى على العليم الخبير؛ وفي هذا وعيد لهم شديد وتحقيق للانتقام منهم.
وهذه الجملة تعليل للتي قبلها فإن مكرهم إذا كان ظاهراً لا يخفى فعقوبة الله كائنة لا محالة ومعنى هذه الآية قريب من معنى الآية المتقدمة وهي إذا مس الإنسان الضر، وفي هذه الآية زيادة وهي أنهم لا يقتصرون على مجرد الإعراض بل يطلبون الغوائل لآيات الله بما يدبرونه من المكر.(6/37)
هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (22)
(هو الذي يسيركم في البر والبحر) ضرب سبحانه لهؤلاء مثلاً حتى ينكشف المراد انكشافاً تاماً، وهو كلام مستأنف ومعنى تسييرهم في البر أنهم يمشون على أقدامهم التي خلقها لينتفعوا بها ويركبون على ما خلقه الله لركوبهم من الدواب ومعنى تسييرهم في البحر أنه ألهمهم لعمل السفائن التي يركبون فيها في لجج البحر، ويسر ذلك لهم ودفع عنهم أسباب الهلاك.
وقد قرأ ابن عامر وهو الذي ينشركم في البر والبحر بالنون من النشر كما في قوله تعالى: (فانتشروا في الأرض) أي ينشرهم سبحانه في البحر فينجي من يشاء ويغرق من يشاء.
(حتى) غاية للسير في البحر والغاية مضمون الجملة الشرطية بكمالها (إذا كنتم في الفلك) يقع على الواحد والجمع ويذكر ويؤنث والحركات فيه بينها تغاير اعتباري (وجرين) أي السفن (بهم) أي بالراكبين عليها والفائدة(6/37)
في صرف الكلام عن الخطاب إلى الغيبة المبالغة كأنه يذكر لغيرهم حالهم ليعجبهم منها ويستدعي منهم مزيد الإنكار والتقبيح، قاله الزمخشري.
وقيل أن مخاطبة الله لعباده على لسان نبيه صلى الله عليه وآله وسلم بمنزلة الخبر عن الغائب وكل من أقام الغائب مقام المخاطب حسن منه أن يرده إلى الغائب، وقيل هذا الالتفات فيه امتنان وإظهار نعمة المخاطبين، والمسيرون في البحر مؤمنون وكفار والخطاب شامل فحسن خطابهم بذلك ليستديم الصالح الشكر، ولعل الطالح يتذكر هذه النعمة.
ولما كان في آخر الآية ما يقتضي أنهم إذا نجوا بغوا في الأرض عدل عن خطابهم بذلك إلى الغيبة لئلا يخاطب المؤمنين بما لا يليق صدوره منهم وهو البغي بغير الحق، قاله السمين، وقيل إن الالتفات في الكلام من الغيبة إلى الحضور وبالعكس من فصيح كلام العرب.
وقال الرازي: الانتقال من مقام الخطاب إلى مقام الغيبة في هذا المقام دليل المقت والتبعيد كما أن عكس ذلك في قوله إياك نعبد دليل الرضا والتقريب.
بريح طيبة أي ساكنة لينة الهبوب إلى جهة المقصد، والباء للسببية أو للحال (وفرحوا بها) أي ريح السفينة فالقيود المعتبرة في الشرط ثلاثة أولها الكون في الفلك والثاني جريها بهم بالريح الطيبة التي ليست بعاصفة وثالثها فرحهم والقيود المعتبرة في الجزاء ثلاثة.
الأول (جاءتها) أي جاءت الفلك وعارضته وقابلته أو جاءت الريح
الطيبة أي تلقتها (ريح عاصف) أي ذات عصف وهو من باب النسب كلابن وتامر وهو مما يستوى فيه المذكر والمؤنث كما صرحوا به والعصوف شدة هبوب(6/38)
الريح وهي الهواء بين السماء والأرض، والجمع أرواح ورياح، وقيل أرياح على لفظ الواحد، وغلطه أبو حاتم وهي مؤنثة على الأكثر، وقد تذكر على معنى الهواء نقله أبو زيد، وقال ابن الأنباري: الريح مؤنثة لا علامة فيها وكذلك سائر أسمائها إلا الإعصار فإنه مذكر، وراح اليوم يروح روحاً من باب قال، وفي لغة من باب خاف إذا اشتدت ريحه فهو رائح.
والثاني (وجاءهم) أي ركبان السفينة (الموج من كل مكان) أي من جميع الجوانب للفلك، والموج ما ارتفع من غوارب الماء وعلا فوق البحر، وقيل هو شدة حركة الماء واختلاطه.
(و) الثالث (ظنوا أنهم أحيط بهم) أي غلب على ظنونهم الهلاك، وأصله من إحاطة العدو بقوم أو ببلد، فجعل هذه الإحاطة مثلاً في الهلاك وإن كان بغير العدو، كما هنا وهو استعارة تبعية، وقيل الظن هنا اليقين أي أيقنوا أنه الهلاك، وقيل بل المراد المقاربة من الهلاك والدنو منه والإشراف عليه.
وقوله (دعوا الله) بدل من ظنوا لكون هذا الدعاء الواقع منهم إنما كان عند ظن الهلاك وهو الباعث عليه فكان بدلاً منه بدل اشتمال لاشتماله عليه، وممكن أن يكون جملة مستأنفة كأنه قيل ماذا صنعوا فقيل دعوا الله.
(مخلصين له الدين) أي لم يشوبوا دعاءهم بشيء من الشوائب كما جرت عادتهم في غير هذا الموطن أنهم يشركون أصنامهم في الدعاء، وليس هذا لأجل الإيمان بالله وحده بل لأجل أن ينجيهم مما شارفوه من الهلاك لعلمهم أنه لا ينجيهم إلا الله سبحانه.
وفي هذا دليل على أن الخلق جبلوا على الرجوع إلى الله في الشدائد وإن المضطر يجاب دعاؤه وإن كان كافراً، وفي هذه الآية بيان أن هؤلاء المشركين كانوا لا يلتفتون إلى أصنامهم في هذه الحالة وما شابهها.(6/39)
فيا عجباً لما حدث في الإسلام من طوائف يعتقدون في الأموات فإذا عرضت لهم في البحر مثل هذه الحالة دعوا الأموات ولم يخلصوا الدعاء لله كما فعله المشركون كما تواتر ذلك إلينا تواتراً يحصل به القطع.
فانظر هداك الله ما فعلت هذه الاعتقادات الشيطانية وأين وصل بها أهلها وإلى أين رمى بهم الشيطان، وكيف اقتادهم وتسلط عليهم حتى انقادوا له انقياداً ما كان يطمع في مثله ولا في بعضه من عباد الأصنام، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
واللام في (لئن أنجيتنا) هي الموطئة للقسم المحذوف على إرادة القول أي دعوا قائلين ذلك، ويجوز أن يجري دعوا الله مجرى قالوا لأن الدعاء بمعنى القول إذ هو نوع من أنواعه فتحكى به الجملة، وهو مذهب كوفي والأول هو الأولى لاستدعاء الثاني لاقتصار دعائهم على ذلك فقط.
(من هذه) أي ما وقعوا فيه من مشارفة الهلاك في البحر من الريح العاصفة والأمواج الشديدة (لنكونن) في كل حال (من الشاكرين) أي ممن يشكر نعمك التي أنعمت بها علينا منها هذه المحنة التي نحن بصدد سؤالك أن تفرجها عنا وتنجينا منها، وهذا جواب القسم وفيه من المبالغة في الدلالة على كونهم ثابتين في الشكر مثابرين عليه منتظمين في سلك المنعوتين بالشكر الراسخين فيه ما ليس في أن يقال لنشكرن.(6/40)
فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (23)
فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (23)
(فلما أنجاهم) الله من هذه المحنة التي وقعوا فيها وأجاب دعاءهم لم يفوا بما وعدوا من أنفسهم، بل فعلوا فعل الجاحدين لا فعل الشاكرين وجعلوا البغي في الأرض بغير الحق مكان الشكر (إذا هم يبغون) أي فأجاؤا البغي والفساد وسارعوا إليه، والبغي هو الفساد من قولهم بغى الجرح إذا ترامى في الفساد، وقيل هو الشرك، وزيادة (في الأرض) للدلالة على أن فسادهم هذا شامل لأقطار الأرض، والبغي وإن كان ينافي أن يكون بحق بل لا يكون إلا بالباطل لكن زيادة.
(بغير الحق) إشارة إلى أنهم فعلوا ذلك بغير شبهة عندهم بل تمرداً وعناداً لأنهم قد يفعلون ذلك لشبهة يعتقدونها مع كونها باطلة.
وقيل البغي: مجاوزة الحد وهو محمود إن كان من العدل إلى الإحسان ومن الفرض إلى التطوع، ومذموم إن كان من الحق إلى الباطل أو إلى الشبهة، وقال الزمخشري: البغي قد يكون بحق وهو استيلاء المسلمين على أرض الكفرة وهدم دورهم وإحراق زروعهم وقلع أشجارهم كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ببني قريظة، وهذا فائدة تقييده بغير الحق.
(يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم متاع الحياة الدنيا) لما ذكر
سبحانه أن هؤلاء المتقدم ذكرهم يبغون في الأرض بغير الحق، ذكر عاقبة البغي وسوء مغبته، قرئ بنصب متاع على أنه مصدر مؤكد لفعل مقدر بطريق الاستئناف، أي بغيكم وبال على أنفسكم تتمتعون متاع الحياة الدنيا؛ وقيل على أنه ظرف زمان نحو مقدم الحاج أي زمن متاع الحياة الدنيا، وقيل على أنه(6/41)
مفعول له، أي لأجل متاع الحياة الدنيا.
وقيل منصوب على نزع الخافض كمتاع، وقيل على الحال على أنه مصدر بمعنى المفعول أي ممتعين، وقيل على أنه مفعول لفعل دل عليه المصدر، أي تبغون متاع الحياة الدنيا.
وقد نوقش غالب هذه الأقوال في توجيه النصب، والحق الذي تقتضيه جزالة التنزيل إنما هو الوجه الأول، أما من قرأ برفع متاع فيجعله خبراً لمبتدأ، أي بغيكم متاع الحياة الدنيا ويكون على أنفسكم متعلقاً بالمصدر، والتقدير إنما بغيكم على أمثالكم والذين جنسهم جنسكم متاع الحياة الدنيا ومنفعتها التي لا بقاء لها، فيكون المراد بأنفسكم على هذا الوجه أبناء جنسهم، وعبر عنهم بالأنفس استعارة لما يدركه الجنس على جنسه من الشفقة.
وقيل ارتفاع متاع على أنه خبر ثان وقيل على أنه خبر لمبتدأ محذوف أي هو متاع كما في قوله تعالى: (إلا ساعة من نهار بلاغ) أي هذا بلاغ.
وقد نوقش أيضاً بعض هذه الوجوه في توجيه الرفع بما يطول به البحث في غير طائل، والحاصل أنه إذا جعل خبر المبتدأ على أنفسكم فالمعنى أن ما يقع من البغي على الغير هو بغي على نفس الباغي باعتبار ما يؤول إليه الأمر من الانتقام منه مجازاة على بغيه، وأن جعل الخبر متاعاً فالمراد أن بغي هذا الجنس الإنساني على بعضه بعضاً هو سريع الزوال قريب الاضمحلال كسائر أمتعة الحياة الدنيا فإنها ذاهبة عن قريب متلاشية بسرعة ليس لذلك كثير فائدة ولا عظيم جدوى.
وأخرج أبو الشيخ وابن مردويه وأبو نعيم والخطيب في تاريخه عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ثلاث هن رواجع على أهلها: المكر والنكث والبغي، ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما بغيكم على(6/42)
أنفسكم ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله، ومن نكث فإنما ينكث على نفسه.
وعن مكحول: ثلاث من كن فيه كن عليه: المكر والبغي والنكث.
أقول أنا: وينبغي أن يلحق بهذه الثلاث التي دل القرآن على أنها تعود على فاعلها " الخدع " فإن الله يقول: (يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم) وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عليه وسلم: " لو بغى جبل على جبل لاندك الباغي منهما " (1).
ثم ذكر سبحانه ما يكون على ذلك البغي من المجازاة يوم القيامة مع وعيد شديد فقال: (ثم إلينا مرجعكم) تقديم الخبر للدلالة على الثبات والقصر، والمعنى أنكم بعد هذه الحياة الدنيا ومتاعها ترجعون إلى الله سبحانه فيجازي المسيء بإساءته والمحسن بإحسانه.
(فننبئكم بما كنتم تعملون) في الدنيا من خير وشر، والمراد بذلك المجازاة كما تقول لمن أساء سأخبرك بما صنعت وفيه أشد وعيد وأفظع تهديد.
ثم لما ذكر سبحانه ما تقدم من متاع الدنيا جاء بكلام مستأنف يتضمن بيان حالها وسرعة تقتضيها وقصر مدة التمتع بها وقرب زمان الرجوع الموعود به، بعد أن تملأ الأعين برونقها وتخلب النفوس ببهجتها، وتحمل أهلها على أن يسفكوا دماء بعضهم بعضاً ويهتكوا حرمهم، حباً لها وعشقاً لجمالها الظاهري، وتكالباً على التمتع بها وتهافتاً على نيل ما تشتهي الأنفس منها بضرب من التشبيه المركب العجيب البديع المثال المنتظم في سلك الأمثال فقال.
_________
(1) ضعيف الجامع الصغير 4813.(6/43)
إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24) وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (25)(6/44)
إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24)
(إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء) أي إن مثلها في سرعة الذهاب والاتصاف بوصف يضاد ما كانت عليه ويباينه، مثل ما على الأرض من أنواع النبات في زوال رونقه وذهاب بهجته وسرعة تقضيه، بعد أن كان غضاً مخضراً طرياً قد تعانقت أغصانه المتمايلة، وزهت أوراقه المتصافحة، وتلألأت أنواع نوره وحاكت الزهر أنواع زهره، وإنما ليست للحصر لأنه تعالى ضرب للحياة الدنيا أمثالاً غير هذا، وليس المشبه به هو ما دخله الكاف في قوله كماء بل ما يفهم من الكلام.
(فاختلط به) أي بسببه (نبات الأرض) بأن اشتبك بعضه ببعض لكثرته حتى بلغ إلى حد الكمال، ويحتمل أن يراد أن النبات كان في أول بروزه ومبدأ حدوثه غير مهتز، ولا مترعرع فإذا نزل الماء عليه اهتز، وربا حتى اختلط بعض الأنواع ببعض (مما يأكل الناس والأنعام) أي كائناً من الحبوب والثمار والكلأ والتبن والعشب.
(حتى إذا أخذت الأرض زخرفها) قال في الصحاح: الزخرف الذهب ثم يشبه به كل مموه مزور. اهـ.
وفي القاموس الزخرف بالضم الذهب وكمال حسن الشيء، ومن القول(6/44)
حسنه، ومن الأرض ألوان نباتها، والمعنى أن الأرض استوفت واستكملت لونها الحسن المشابه بعضه للون الذهب وبعضه للون الفضة وبعضه للون الياقوت وبعضه للون الزمرد وحتى غاية لمحذوف، أي ما زال ينمو ويزهر حتى أخذت حسنها ونضارتها وبهجتها، وأظهرت ألوان زهرها من أبيض وأخضر وأحمر وأصفر وغير ذلك.
(وازينت) أي تزينت به، وقرئ أزينت على وزن أفعلت أي ازينت بالزينة التي عليها، شبهها بالعروس التي تلبس الثياب الجيدة المتلونة ألواناً كثيرة ففي الكلام استعارة مكنية.
(وظن أهلها) أي أهل تلك الأرض الآخذة زخرفها (إنهم قادرون عليها) أي غلب على ظنونهم أو تيقنوا أنهم قادرون على حصادها والانتفاع بها محصلون لثمرتها رافعون لغلتها متمكنون على جدادها وقطافها، والضمير في عليها للأرض والمراد النبات الذي هو عليها.
(أتاها) أي جاءها (أمرنا) بإهلاكها واستئصالها وضربها ببعض العاهات (ليلاً أو نهاراً) أو للتنويع أي تارة يأتي قضاؤنا وعذابنا ليلاً، وتارة يأتي نهارا (فجعلناها حصيداً) أي جعلنا زرعها شبيهاً بالمحصود في قطعه من أصوله، قال أبو عبيدة: الحصيد المستأصل وقيل المقطوع بالمناجل.
(كأن لم تغن بالأمس) أي كأن لم يكن زرعها موجوداً فيها بالأمس مخضراً طرداً، من غني بالمكان بالكسر يغني بالفتح إذا أقام، قال البيضاوي: أي لم تلبث أي لم تقم ولم تمكث.
وقيل لم تكن ولم توجد، وفي القاموس ما يقتضي أن غني يأتي بمعنى كان ووحد كقوله غنيت دارنا بتهامة أي كانت بها.(6/45)
والمراد بالأمس الوقت القريب والزمن الماضي لا خصوص اليوم الذي قبل يومك، قاله الكرخي، والمغاني في اللغة المنازل، وقال قتادة: كأن لم ينعم، وقرأ " لم يَغْنَ " بالتحتية بإرجاع الضمير إلى الزخرف، قرأ من عده " تغن " بالفوقية بإرجاع الضمير إلى الأرض.
(كذلك) أي مثل ذلك التفصيل البديع (نفصل الآيات) القرآنية التي من جملتها هذه الآية المنبهة على أحوال الدنيا، ويجوز أن يراد الآيات التكوينية (لقوم يتفكرون) فيما اشتملت عليه، عن أبي مجلز قال: كان مكتوباً في سورة يونس إلى جنب هذه الآية (ولو أن لابن آدم واديين من مال لتمنى ثالثاً ولا يشبع نفس ابن آدم إلا التراب، ويتوب الله على من تاب) فمحيت.
قال النسفي في الآية: هذا من التشبيه المركب، شبهت حال الدنيا في سرعة تقضيها وانقراض نعيمها بعد الإقبال بحال نبات الأرض في جفافه، وذهابه حطاماً بعد ما التف وتكاثف وزين الأرض بخضرته ورفيفه، والتنبيه على حكمة التشبيه أن الحياة صفوها شبيبتها وكدرها شيبتها، كما أن صفو الماء في أعلى الإناء:
ألم تر أن العمر كأس سلافة ... فأوله صفو وآخره كدر
وحقيقته تزيين جثة الطين بمصالح الدنيا والدين كاختلاط النبات على اختلاف التلوين، فالطينة الطيبة تنبت بساتين الأنس ورياحين الروح وزهرة الزهد وكروم الكرم، وحبوب الحب، وحدائق الحقيقة وشقائق الطريقة.
والخبيثة تخرج خلاف الخلف؛ وثمام الإثم وشوك الشرك، وشيح الشح وحطب العطب ولعاع اللعب.
ثم يدعوه معاده، كما يحين للحرث حصاده، فتزايله الحياة مغتراً كما يهيج(6/46)
النبات مصفراً، فتغيب جثته في الرمس كأن لم تغن بالأمس، إلى أن يعود ربيع البعث وموعد العرض والبحث.
وكذلك حال الدنيا كالماء ينفع قليله، ويهلك كثيره ولا بد من ترك ما زاد، كما لا بد من أخذ الزاد، وأخذ المال لا يخلو من زلة، كما أن خائض الماء لا ينجو من بلة، وجمعه وإمساكه، تلف صاحبه وإهلاكه، فما دون النصاب كضحضاح ماء؛ يجاوز بلا احتماء، والنصاب كنهر حائل بين المجتاز والجواز إلى المفاز لا يمكن إلا بقنطرة وهي الزكاة وعمارتها بذل الصلاة، فمتى اختلت القنطرة غرقته أمواج القناطير المقنطرة. وكذا المال يساعد الأوغاد، دون الأمجاد، كما أن الماء يجتمع في الوهاد دون النجاد، وكذلك المال لا يجتمع إلا بكد البخيل، كما أن الماء لا يجتمع إلا بسد المسيل ثم يفنى ويتلف ولا يبقى كالماء في الكف انتهى.(6/47)
وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (25)
(والله يدعو إلى دار السلام) لما نفر عباده عن الميل إلى الدنيا بما ضربه لهم من المثل السابق، رغبهم في الدار الآخرة بإخبارهم بهذه الدعوة منه عز وجل إلى دار السلام، قال الحسن وقتادة: السلام هو الله تعالى وداره الجنة، وقال الزجاج: والمعنى والله يدعو إلى دار السلامة، ومعنى السلام والسلامة واحد كالرضاع والرضاعة.
وقيل أراد دار السلام الذي هو التحية لأن أهلها ينالون من الله السلام بمعنى التحية كما في قوله: (تحيتهم فيها سلام) وقيل السلام اسم لأحد الجنان السبع (أحدها) دار السلام (والثانية) دار الجلال (والثالثة) جنة عدن (والرابعة) جنة المأوى (والخامسة) جنة الخلد (والسادسة) جنة الفردوس (والسابعة) جنة النعيم.
وقيل المراد دار السلام الواقع من المؤمنين بعضهم على بعض في الجنة،(6/47)
وقد اتفقوا على أن دار السلام هي الجنة، وإنما اختلفوا في سبب التسمية بدار السلام.
(ويهدي من يشاء) هدايته، قال أبو العالية: يهديهم للمخرج من الشبهات والفتن والضلالات (إلى صراط مستقيم) دين الإسلام، جعل سبحانه الدعوة إلى دار السلام عامة والهداية خاصة بمن يشاء أن يهديه تكميلاً للحجة وإظهاراً للاستغناء عن خلقه.
أخرج ابن جرير والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي عن أبي جعفر محمد بن علي قال: حدثني جابر قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوما فقال: " إني رأيت في المنام كأن جبريل عند رأسي وميكائيل عند رجلي يقول أحدهما لصاحبه اضرب له مثلاً، فقال اسمع سمعت أذنك واعقل عقل قلبك، إنما مثلك ومثل أمتك مثل ملك اتخذ داراً ثم بنى فيها بيتاً ثم جعل فيها مأدبة، ثم بعث رسولاً يدعو الناس إلى طعامه، فمنهم من أجاب الرسول، ومنهم من ترك فالله هو الملك والدار الإسلام والبيت الجنة وأنت يا محمد رسول، فمن أجابك دخل الإسلام ومن دخل الإسلام دخل الجنة ومن دخل الجنة أكل منها (1) " وقد روي معنى هذا من طرق.
_________
(1) المستدرك كتاب تجبير الرؤيا 4/ 393. وفي رواية: أكل منها مما فيها ثم تلا -يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم (ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم).(6/48)
لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (26)
لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (26)
ثم قسم سبحانه أهل الدعوة إلى قسمين وبين حال كل طائفة فقال: (للذين أحسنوا) بالقيام بما أوجبه الله عليهم من الإيمان والأعمال والكف عما نهاهم عنه من المعاصي، وقيل للذين شهدوا أن لا إله إلا الله (الحسنى) أي المثوبة الحسنى وإن كان معه ذنوب، فعصاة المؤمنين داخلون في هذا، وقال ابن الأنباري: الحسنى في اللغة تأنيث الأحسن، والعرب توقع هذه اللفظة على الخصلة المحبوبة المرغوب فيها ولذلك ترك موصوفها، وقيل المراد بالحسنى الجنة.
(وزيادة) قيل المراد بها ما يزيد على المثوبة من التفضل كقوله: (ليوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله) وقيل الزيادة النظر إلى وجهه الكريم، وبه قال جماعة من الصحابة منهم أبو بكر الصديق وحذيفة وأبو موسى الأشعري وعبادة بن الصامت، وبه قال الحسن وعكرمة والضحاك ومقاتل والسدي.
وقيل الزيادة هي مضاعفة الحسنة إلى عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، وقيل الزيادة غرفة من لؤلؤة واحدة لها أربعة أبواب، قاله علي بن أبي طالب، وقيل الزيادة مغفرة من الله ورضوان قاله مجاهد، وقيل هي ما يعطيهم سبحانه في الدنيا من فضله لا يحاسبهم عليه يوم القيامة، قاله ابن زيد، وقيل غير ذلك مما لا فائدة في ذكره.
وأخرج أحمد ومسلم والترمذي وابن ماجة وابن خزيمة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وغيرهم عن صهيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا هذه الآية ثم قال: " إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار نادى مناد يا أهل الجنة إن لكم عند الله موعداً يريد أن ينجزكموه فيقولون وما هو؟ ألم يثقل موازيننا ويبيض وجوهنا ويدخلنا الجنة ويزحزحنا عن النار؟ قال(6/49)
فيكشف لهم الحجاب فينظرون إليه فوالله ما أعطاهم الله شيئاً أحب إليهم من النظر إليه، ولا أقر لأعينهم " (1).
وفي لفظ من حديث أبي موسى مرفوعاً: الحسنى الجنة والزيادة النظر إلى وجه الرحمن، أخرجه الدارقطني وابن جرير وغيرهما، وروي مثله عن جماعة من الصحابة مرفوعاً بطرق، وقد روي عن التابعين ومن بعدهم روايات في تفسير الزيادة غالبها أنها النظر إلى وجه الله سبحانه، وقد ثبت التفسير بذلك من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يبق حينئذ لقائل مقال ولا التفات إلى المجادلات الواقعة بين المتمذهبة الذين لا يعرفون من السنة المطهرة ما ينتفعون به، فإنهم لو عرفوا ذلك لكفوا عن كثير من هذيانهم والله المستعان.
(ولا يرهق) الرهق الغشيان، وقيل أصله المقاربة، وقيل معناه يلحق ومنه قيل غلام مراهق إذا لحق بالرجال، وقيل يعلو والمعاني متقاربة والمعنى لا يغشى (وجوههم قتر) هو غبار معه سواد، وقيل سواد الوجه واحده قترة وقيل هو الدخان ومنه غبار القدر، وقيل التقليل ومنه ولم يقتروا، ومنه على المقتر قدره، وقيل الكآبة.
(ولا ذلة) هي ما يظهر على الوجه من الخضوع والانكسار والهوان، يعني لا يعلو وجوههم غبرة ولا يظهر فيها هوان، وقال مجاهد في الآية: خزي، وعن صهيب عنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: هذا بعد نظرهم إليه عز وجل، أخرجه أبو الشيخ، والجملة مستأنفة أو في محل نصب على الحال، قاله أبو البقاء.
وهذا ليس بجائز لأن المضارع متى وقع حالاً منفياً بلا امتنع دخول واو الحال عليه كالمثبت أو في محل الرفع نسقاً على الحسنى، والتقدير وأن لا يرهق أي وعدم رهقهم.
(أولئك أي المتصفون بالصفات السابقة هم (أصحاب الجنة هم فيها خالدون) أي المتنعمون بأنواع نعمها لا يخرجون منها أبداً.
_________
(1) الإمام أحمد، 4/ 333.(6/50)
وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (27) وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ (28)(6/51)
وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (27)
(والذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها) أي يجازى سيئة واحدة بسيئة واحدة لا يزاد عليها كما يزاد في الحسنة؛ وهذا أولى مما عداه وفيه سبعة أوجه قررها السمين لا نطول بذكرها، والمراد بالسيئة إما الشرك أو المعاصي التي ليست بشرك وهي ما يتلبس به العصاة من المعاصي، قال ابن كيسان: الباء زائدة والمعنى جزاء سيئة مثلها وقيل جزاء سيئة كائن بمثلها.
وقيل التقدير فلهم جزاء سيئة، وفيه التنبيه على الفرق بين الحسنات والسيئات لأن الحسنات يضاعف ثوابها لعاملها من الواحدة إلى العشرة إلى السبعمائة إلى أضعاف كثيرة تفضلاً منه سبحانه وتكرماً، وأما السيئات فإنه يجازي فاعلها عليها بمثلها عدلا منه سبحانه.
(وترهقهم) أي تغشاهم (ذلة) أي هوان وخزي، وقال ابن عباس: ذلة وشدة (ما لهم من الله من عاصم) أي لا يعصمهم أحد كائناً من كان من سخط الله وعذابه، أو ما لهم من جهة الله ومن عنده من يعصمهم كما يكون للمؤمنين والأول أولى.
(كأنما أغشيت وجوههم قطعاً من الليل مظلماً) القطع بفتح الطاء جمع قطعة وبإسكانها جزء وهما قراءتان سبعيتان، قال ابن السكيت: القطع طائفة من الليل وقيل ظلمة آخر الليل، وقال الأخفش: سواد الليل، والجملة حالية أو مستأنفة أي أغشيت وألبست وجوههم قطعاً وسواداً من الليل في حال ظلمته.(6/51)
(أولئك) أي الموصوفون بهذه الصفات الذميمة (أصحاب النار هم فيها خالدون) إطلاق الخلود هنا مقيد بما تواتر في السنة من خروج عصاة الموحدين.(6/52)
وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ (28)
(ويوم نحشرهم جميعاً) الحشر الجمع من كل جانب وناحية إلى موضع واحد وقال مجاهد: الحشر الموت، ويوم منصوب على المفعولية بمضمر أي أنذرهم يوم نحشرهم لموقف الحساب، والجملة مستأنفة لبيان بعض أحوالهم القبيحة، والمعنى أن الله سبحانه يحشر العابد والمعبود لسؤالهم يوم القيامة.
(ثم نقول) في حالة الحشر ووقت الجمع (للذين أشركوا) تقريعاً لهم على رؤوس الأشهاد وتوبيخاً لهم مع حضور من يشاركهم في العبادة وحضور معبوداتهم (مكانكم) أي الزموا مكانكم واثبتوا فيه وقفوا في موضعكم، ولا تنفكوا منه ولا تبرحوا عنه حتى تسألوا وتنظروا ما يفعل بكم، ونصب مكانكم على أنه في الأصل ظرف لفعل أقيم مقامه لا على أنه اسم فعل وحركته حركة بناء كما هو رأي الفارسي، قاله أبو السعود.
قال الخفاجى: وهذا كله تكلف، قال الدماميني: لا أدري ما الداعي إلى جعل هذا الظرف اسم فعل إما لازماً وإما متعدياً، وهلا جعلوه ظرفاً على بابه ولم يخرجوه عن أصله أي اثبت مكانك انتهى وفيه بحث.
والضمير في قوله (أنتم) تأكيد للضمير الذي في مكانكم لسده مسد الزموا (وشركاؤكم) عطف عليه وقرىء بالنصب على المفعول معه، وفي هذا وعيد وتهديد للعابدين والمعبودين، والمراد بالشركاء هنا الملائكة وقيل الشياطين وقيل الأصنام وأن الله سبحانه ينطقها في هذا الوقت وقيل المسيح وعزير، والظاهر أنه كل معبود للمشركين كائناً ما كان.(6/52)
(فزيلنا) أي فرقنا وقطعنا ما كان (بينهم) من التواصل في الدنيا يقال زيلته فتزيل أي فرقته فتفرق، والمزايلة المفارقة والتزايل التباين، قال السيوطي: ميزنا بينهم وبين المؤمنين، كما في آية (وامتازوا اليوم أيها المجرمون) انتهى. وفيه مسامحة.
قال القرطبي: هذا التفسير بعيد من سابقه ولاحقه إذ هما في الكلام على المشركين ومعبوداتهم فالأولى القول الآخر الذي جرى عليه غيره كالبيضاوي والخازن ونص الخطيب: بينهم، أي بين المشركين وشركائهم، وذلك حين يتبرأ كل معبود عمن عبده، وهذا أنسب بقوله.
(وقال شركاؤهم) الذين عبدوهم وجعلوهم شركاء لله سبحانه، وإنما أضاف الشركاء إليهم مع أنهم جعلوهم شركاء لله سبحانه لكونهم جعلوا لهم نصيباً من أموالهم، فهم شركاؤهم في أموالهم من هذه الحيثية، وقيل لكونهم شركاءهم في هذا الخطاب والإضافة لأدنى ملابسة.
(ما كنتم إيّانا تعبدون) في الحقيقة ونفس الأمر، وإنما عبدتم هواكم وضلالكم وشياطينكم الذين أغووكم، لأنها الآمرة لكم بالإشراك على حد قوله (قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم) الآية. وهذا الجحد من الشركاء وإن كان مخالفاً لما قد وقع من المشركين من عبادتهم فمعناه إنكار عبادتهم إياهم عن أمرهم لهم بالعبادة وتقديم المفعول للفاصلة.(6/53)
فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ (29) هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (30)(6/54)
فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ (29)
(فكفى بالله شهيداً بيننا وبينكم) إن كنا أمرناكم بعبادتنا أو رضينا ذلك منكم (إن كنا عن عبادتكم لغافلين) القائل لهذا الكلام هم المعبودون قالوا لمن عبدهم من المشركين، والمراد بالغفلة هنا عدم الرضاء بما فعله المشركون من العبادة لهم، أو عدم علمهم بها، أو كل من الأمرين.
وفي هذا دليل على أن هؤلاء المعبودين غير الشياطين لأنهم يرضون بما فعله المشركون من عبادتهم، قال أبو السعود: هذا من كلام الأصنام كما علمت. انتهى.
قلت: ويمكن أن يكونوا من الشياطين ويحمل هذا الجحد منهم على أنهم لم يجيروهم على عبادتهم ولا أكرهوهم عليها.(6/54)
هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (30)
(هنالك) أي في ذلك المكان الدهش أو في ذلك الموقف الدحض أو في ذلك الوقت على استعارة اسم المكان للزمان (تبلو) أي تختبر وتذوق (كل نفس) مؤمنة كانت أو كافرة، سعيدة أو شقية جزاء (ما أسلفت) من العمل وتعاينه بكنهه متتبعة لآثاره من نفع أو ضر، وخير أو شر، فمعنى تبلو تذوق وتختبر، وقيل تعلم وقيل تتبع فهو من التلو، وهذا على القراءة بالفوقية بإسناد الفعل إلى كل نفس.
وأما على القراءة بالنون فالمعنى أن الله يبتلي كل نفس ويختبرها وأنه يعاملها معاملة من يختبرها ويتفقد أحوالها، ويجوز أن يراد يصيب بالبلاء أي(6/54)
العذاب كل نفس عاصية بسبب ما أسلفت من الشر، والبلية والبلاء والبلوى واحد، والجمع البلايا ومعنى الكل الاختبار.
أخرج ابن مردويه عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يمثل لهم يوم القيامة ما كانوا يعبدون من دون الله فيتبعونهم حتى يؤدوهم النار ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم (هنالك تبلو) الآية.
وعن ابن زيد قال: تعاين كل نفس ما عملت، وقرئ تتلو من التلاوة، أي تقرأ كل نفس صحيفة عملها من خير أو شر.
(وردوا) أي الذين أشركوا (إلى الله) أي إلى جزائه وما أعد لهم من عقابه والرد عبارة عن صرف الشيء إلى الموضع الذي جاء منه (مولاهم) ربهم ومالكهم (الحق) صفة له، أي الصادق الربوبية دون ما اتخذوه من المعبودات الباطلة، وقرئ بالنصب على المدح كقولهم الحمد لله أهل الحمد (وضل عنهم) أي ضاع وبطل وذهب في الموقف (ما كانوا يفترون) عليه من أن الآلهة التي لهم حقيقة بالعبادة تشفع لهم إلى الله وتقربهم إليه.
والحاصل أن هؤلاء المشركين يرجعون في ذلك المقام إلى الحق ويعترفون به ويقرون ببطلان ما كانوا يعبدونه ويجعلونه إلهاً، ولكن حين لا ينفعهم ذلك. وعن السدي قال: نسخها قوله (بأن الله مولى الذين آمنوا وأن الكافرين لا مولى لهم).
ثم لما بين الله سبحانه فضائح المشركين أتبعها بإيراد الحجج الدامغة من أحوال الرزق والحواس والموت والحياة والابتداء والإعادة والإرشاد والهدى، وبنى سبحانه الحجج على الاستفهام وتفويض الجواب إلى المسؤولين ليكون أبلغ في إلزام الحجة وأوقع في النفوس فقال:(6/55)
قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (31) فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (32)(6/56)
قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (31)
(قل) يا محمد للمشركين احتجاجاً لحقية التوحيد وبطلان ما هم عليه من الشرك؛ وهذه أسئلة ثمانية، جواب الخمسة الأولى منها منهم، وجواب الاثنين بعدها منه صلى الله عليه وسلم بتعليم الله إياه لعدم قدرتهم عليه، وجواب الأخير لم يذكر لشهرته والعلم به.
(من يرزقكم من السماء) بالمطر (والأرض) بالنبات والمعادن فإن الأرزاق تحصل بأسباب سماوية ومواد أرضية أو من كل واحدة منهما توسعة عليكم، ومن لابتداء الغاية فإن اعترفوا حصل المطلوب وإن لم يعترفوا بأن الله هو الذي خلقهما فقل.
(أم من يملك السمع والأبصار) أم هي المنقطعة بمعنى بل وفي هذا إضراب انتقال، انتقال من سؤال إلى سؤال على القاعدة المقررة في القرآن لا إضراب إبطال، أي من يستطيع خلقهما وتسويتهما أو من يحفظهما من الآفات مع كثرتها وسرعة انفعالهما من أدنى شيء وحقيقة الملك معروفة ويلزمها الاستطاعة لأن المالك لشيء يستطيع التصرف فيه والحفظ له والحماية، لذلك تجوّز به عن كل منهما وخصهما بالذكر لما فيهما من الصنعة العجيبة والخلقة الغريبة حتى ينتفعوا بهما هذا الانتفاع العظيم ويحصلون بهما من الفوائد ما لا يدخل تحت حصر الحاصرين، ثم انتقل إلى حجة ثالثة فقال (ومن يخرج الحي من الميت) أي الإنسان من النطفة والطير من البيضة والنبات من الحبة أو المؤمن من الكافر، والأول أقرب إلى الحقيقة (ويخرج الميت من الحي) أي النطفة من الإنسان أو الكافر من المؤمن، أو البيضة من الطائر الحي، والمراد(6/56)
بهذا الاستفهام عمن يحيي ويميت، وهذه حجة رابعة ثم انتقل إلى حجة خامسة فقال:
(ومن يدبر الأمر) بين الخلائق أي يقدره ويقضيه، وهذا من عطف العام على الخاص لأنه قد عم ما تقدم وغيره (فسيقولون الله) أي سيكون قولهم في جواب هذه الاستفهامات الخمس إن الفاعل لهذه الأمور هو الله سبحانه إن أنصفوا وعملوا على ما يوجبه الفكر الصحيح والعقل السليم، والمعنى الله يفعل ذلك.
(فقل) أمره أن يقول لهم ذلك وعظاً وتذكيراً بعد أن يجيبوا بهذا الجواب (أفلا تتقون) الاستفهام للإنكار والفاء للعطف على مقدر أي تعلمون ذلك أفلا تتقون وتفعلون ما يوجبه هذا العلم من تقوى الله الذي يفعل هذه الأفعال، وتعبدون هذه الأموات والأصنام التي لا تقدر على شيء من هذه الأمور بل ولا تعلم به، وفي البيضاوي أفلا تتقون عقابه بإشراككم إياه ما لا يشاركه في شيء من ذلك.(6/57)
فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (32)
(فذللكم) الذي يفعل هذه الأفعال (الله) وهو (ربكم) المتصف بأنه (الحق) لا ما جعلتموهم شركاء له في الموتى والأصنام، والاستفهام في قوله (فماذا بعد الحق إلا الضلال) للتقريع والتوبيخ إن كانت ما استفهامية لا إن كانت نافية كما يحتمله الكلام، والمعنى أي شيء بعد الحق إلا الضلال فإن ثبوت ربوبية الرب سبحانه حق بإقرارهم وكان غيره باطلاً لأن واجب الوجود يجب أن يكون واحداً في ذاته وصفاته.
(فأنى تصرفون) أي كيف تستجيزون العدول عن الحق الظاهر وتقعون في الضلال إذ لا واسطة بينهما فمن تخطى أحدهما وقع في الآخر، والاستفهام للإنكار والاستبعاد والتعجب.(6/57)
كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (33) قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (34) قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (35) وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (36)(6/58)
كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (33)
(كذلك) أي كما ثبت أن الحق ليس بعده إلا الضلال أو كما حق أنهم مصروفون عن الحق كذلك (حقت كلمة ربك) أي حق حكمه وقضاؤه (على الذين فسقوا) خرجوا من الحق إلى الباطل وتمردوا في كفرهم عناداً ومكابرة، قال الزمخشري: أي مثل ذلك الحق حقت، وقال الزجاج: أي حقت عليهم هذه الكلمة ووجبت وهي (أنهم لا يؤمنون) أي عدم إيمانهم بدل كل من كل، أو المعنى لأنهم لا يؤمنون فيكون تعليلاً لحقيتها عليهم.(6/58)
قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (34)
(قل هل من شركائكم من يبدأ الخلق ثم يعيده) أورد سبحانه في هذا حجة سادسة على المشركين وأمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقولها لهم وهم وإن كانوا لا يعترفون بالمعاد لكنه لما كان أمراً ظاهراً بيّناً وقد أقام الأدلة عليه في هذه السورة على صورة لا يمكن دفعها عند من أنصف ولم يكابر كان كالمسلم عندهم الذي لا جحد له ولا إنكار فيه.
والمعنى هل من هذه الأصنام والأموات التي تزعمون أنها آلهة من يقدر على أن ينشئ الخلق من العدم على غير مثال سبق ثم يعيده بعد الموت في القيامة كهيئته أول مرة للجزاء.
وهذا السؤال استفهام إنكار، وإنما لم يعطف على ما قبله إيذاناً باستقلاله في إثبات المطلوب، وعبارة أبي السعود هذا احتجاج آخر على حقية التوحيد(6/58)
وبطلان الإشراك بإظهار كون شركائهم بمعزل عن استحقاق الألوهية ببيان اختصاص خواصها من بدء الخلق وإعادته به تعالى. اهـ
والحاصل أنه لا يقال إن الكفار ينكرون الإعادة والبعث فكيف يحتج عليهم بها لأن إلزام الخصم كما يصح بما يعترف به يصح أيضاً بما تبينت وثبتت حقيته لقوة برهانه، فلذا جعل الإعادة كالبدء في الإلزام لظهور برهانها وإن لم يعترفوا بها.
ولذلك أمر الرسول أن ينوب عنهم في الجواب كما قال سبحانه (قل الله يبدأ الخلق ثم يعيده) أي هو الذي يفعل ذلك لا غيره، وهذا القول الذي قاله النبي صلى الله عليه وسلم عن أمر الله سبحانه له نيابة عن المشركين في الجواب كما تقدم، إما عن طريق التلقين لهم وتعريفهم كيف يجيبون وإرشادهم إلى ما يقولون، وإما لكون هذا المعنى قد بلغ في الوضوح إلى غاية لا يحتاج معها إلى إقرار الخصم ومعرفة ما لديه، وإما لكون المشركين لا ينطقون بما هو الصواب في هذا الجواب فراراً منهم عن أن تلزمهم الحجة أو أن يسجل عليهم بالمكابرة إن حادوا عن الحق.
(فأنى تؤفكون) أي فكيف تصرفون عن الحق وتنقلبون منه إلى غيره، والمراد التعجب من أحوالهم.
ثم أمره الله سبحانه أن يورد عليهم حجة سابعة فقال(6/59)
قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (35)
(قل هل من شركائكم) الاستفهام هاهنا كالاستفهامات السابقة (من يهدي إلى الحق) الإستدلال بالهداية بعد الاستدلال بالخلق وقع كثيراً في القرآن كقوله (الذي خلقني فهو يهدين) وقوله (الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى) وقوله (الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى) وفعل الهداية يجيء متعدياً باللام وإلى وهما بمعنى واحد، روى ذلك عن الزجاج.
وقيل كما يعدى بإلى لتضمنه معنى الانتهاء باللام للدلالة على أن المنتهى(6/59)
غاية الهداية والمعنى متقارب، وقد يحذف الحرف تخفيفاً وقد جمع بين المتعديين هنا بحرف الجر، فعدى الأول والثالث بإلى والثاني باللام والتعدية بهذين الحرفين من باب التفنن في البلاغة، ولذلك قال الزمخشري هداه للحق وإلى الحق فجمع بين اللغتين: والمراد بالحق في المواضع الثلاثة ضد الباطل.
ولما كانوا جاهلين بالجواب الحق في ذلك أو معاندين أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يجيب بقوله (قل) لهم (الله) الذي له الإحاطة الكاملة (يهدي للحق) من يشاء دون غيره ممن زعمتموهم شركاء، ودليل ذلك ما تقدم من الأدلة الدالة على اختصاصه سبحانه بهذا، وهداية الله سبحانه لعباده إلى الحق هي بما نصبه لهم من الآيات في المخلوقات وإرساله للرسل وإنزاله للكتب، وخلقه لما يتوصل به العباد إلى ذلك من العقول والأفهام والأسماع والأبصار.
والاستفهام في قوله (أفمن) للتقرير وإلزام الحجة والفاء لترتيبه على ما سبق وهو برهان ثامن لم يذكر جوابه في الآية، والمعنى أفمن (يهدي) الناس (إلى الحق) وهو الله سبحانه (أحق أن يتبع) ويقتدي (أم من لا يهدي) أي أم الأحق بأن يتبع ويقتدي به من لا يهتدي بنفسه (إلا أن يهدى) الاستثناء مفرغ من أعم الأحوال أي لا يهتدي في حال من الأحوال إلا في حال هدى الغير إياه، وكان مقتضى المقابلة أن يقال أم من لا يهدي، وإنما خولف إشارة إلى أنه إذا لم يهتد بنفسه لا يهدي غيره.
وقال النحاس: الاستثناء منقطع كما تقول فلان لا يسمع غيره إلا أن يسمع أي لكنه يحتاج أن يسمع، فمعنى إلا أن يهدى أي لكنه يحتاج أن يهدى (فما لكم كيف تحكمون) هذا تعجيب من حالهم باستفهامين متواليين أي أيُّ شيء يثبت لكم في هذه الحالة؟ فهذه جملة مستقلة، وكيف تحكمون لي باتخاذ هؤلاء شركاء لله؟ وهي جملة أخرى مستقلة، وكلا الاستفهامين للتقريع والتوبيخ.(6/60)
ثم بين سبحانه ما هؤلاء عليه في أمر دينهم وعلى أي شيء بنوه وبأي شيء اتبعوا هذا الدين الباطل وهو الشرك فقال(6/61)
وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (36)
(وما يتبع أكثرهم إلا ظناً) هذا كلام مبتدأ غير داخل في الأوامر السابقة، والمعنى ما يتبع هؤلاء المشركون في إشراكهم بالله وجعلهم له أنداداً إلا مجرد الظن والتخمين والتحدس، ولم
يكن ذلك عن بصيرة والتفات إلى فرد من أفراد العلم، فضلاً عن أن يسلكوا مسالك الأدلة الصحيحة الهادية إلى الحق المبنية على المقدمات اليقينية الصادقة فيفهموا مضمونها ويقفوا على مقتضاها وبطلان ما يخالفها، بل ظن من ظن من سلفهم أن هذه المعبودات تقربهم إلى الله وأنها تشفع لهم.
ولم يكن ظنه هذا لمستند قط بل مجرد خيال مختل وحدس باطل فقلدوا فيه آباءهم ولعل تنكير الظن هنا للتحقير، أي إلا ظناً ضعيفاً واهياً لا يستند إلى ما تستند إليه سائر الظنون.
وقيل المراد بالآية أنه ما يتبع أكثرهم في الإيمان بالله والإقرار به إلا ظناً والأول أولى، وقيل المراد بالأكثر الكل لأن جميعهم يتبعون الظن في دعواهم أن الأصنام تشفع لهم، قال الكرخي: وفيه دليل على أن تحصيل العلم في الأصول واجب والاكتفاء بالتقليد والظن غير جائز، وقيل المراد بالأكثر الرؤساء.
ثم أخبرنا الله سبحانه (إن الظن لا يغني من الحق شيئاً) لأن أمر الدين إنما ينبني على العلم وبه يتضح الحق من الباطل، والظن لا يقوم مقام العلم ولا يدرك به الحق ولا يغني عن الحق في شيء من الأشياء، والجملة مستأنفة لبيان شأن الظن وبطلانه ومن بمعنى عن والحق بمعنى العلم (إن الله عليم بما يفعلون) من الأفعال القبيحة الصادرة لا عن برهان فيندرج تحتها ما حكى عنهم من الإعراض عن البراهين القاطعة والاتباع للظنون الفاسدة اندراجاً أولياً.(6/61)
وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (37) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38)(6/62)
وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (37)
(وما كان هذا القرآن أن يفترى) قيل إن بمعنى اللام أي ليفترى، وقيل بمعنى لا أي لا يفترى.
لما فرغ سبحانه من دلائل التوحيد وحججه شرع في تثبيت أمر النبوة أي وما صح وما استقام أن يكون هذا القرآن المشتمل على الحجج البينة والبراهين الواضحة مفترى من الخلق (من دون الله) وإنما هو من عند الله عز وجل، وكيف يصح أن يكون مفترى على سبيل الافتعال والاختلاق وقد عجز عن الإتيان بسورة منه القوم الذين هم أفصح العرب لساناً وأدقهم إذهاناً.
قال الفراء: ومعنى الآية وما ينبغي لهذا القرآن أن يفترى كقوله (وما كان لنبي أن يغل وكقوله: (وما كان المؤمنون لينفروا كافة) يعني ليس وصف القرآن وصف شيء يمكن أن يفترى به على الله لأن المفترى هو الذي يأتي به البشر، وأنه مبرأ عن الافتراء والكذب.
(ولكن) كان هذا القرآن، ووقعت لكن هنا أحسن موقع إذ هي بين نقيضين وهما الكذب والصدق المضمن للتصديق، وفيه أوجه (أحدها) العطف على خبر كان (الثاني) أنه خبر لكان مضمرة وتقدم تقديره وإليه ذهب الكسائي والفراء وابن سعدان والزجاج وهذا كالذي قبله في المعنى (الثالث) تقديره وما كان هذا القرآن أن يفترى ولكن أنزل للتصديق (والرابع) تقديره ولكن يصدق الذي، قاله السمين.
(تصديق الذي بين يديه) أي أمامه من الكتب الإلهية المنزلة على(6/62)
الأنبياء قبله، أي أنها قد بشرت به قبل نزوله فجاء مصدقاً لها، ونفس هذا
التصديق معجزة مستقلة، لأن أقاصيصه موافقة لما في الكتب المتقدمة مع أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يطلع على ذلك ولا تعلمه ولا سأل عنه ولا اتصل بمن له علم بذلك، وقيل المعنى ولكن تصديق النبي الذي بين يدي القرآن وهو محمد (- صلى الله عليه وسلم -) لأنهم شاهدوه قبل أن يسمعوا منه القرآن.
(وتفصيل الكتاب) التفصيل التبيين، أي بين ما في كتب الله المتقدمة، والألف واللام في الكتاب للجنس، وقيل أراد ما بين في القرآن من الأحكام فيكون المراد بالكتاب القرآن وقيل اللوح المحفوظ (لا ريب فيه) الضمير عائد إلى القرآن وهو داخل في حكم الاستدراك وهو خبر ثالث أو حال من الكتاب أي منتفياً عنه الريب أو مستأنف أو معترض بين تصديق وبين (من رب العالمين) أي كائن منه خبر رابع أو حال ثانية أو متعلق بتصديق أو بتفصيل أو التقدير أنزل للتصديق من رب العالمين.(6/63)
أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38)
(أم يقولون افتراه) الاستفهام للإنكار عليهم مع تقرير ثبوت الحجة وأم هي المنقطعة التي بمعنى بل والهمزة أي بل أيقولون افتراه واختلقه. وقال أبو عبيدة: أم بمعنى الواو أي ويقولون، وقيل الميم زائدة أي أيقولون والاستفهام للتقريع والتوبيخ والإنكار والاستبعاد، أي هذا القول منهم في غاية البعد والشناعة، وقيل التقدير أيقرون به أم يقولون.
ثم أمره الله سبحانه أن يتحداهم حتى يظهر عجزهم ويتبين ضعفهم فقال (قل) تبكيتاً لهم وإظهاراً لبطلان مقالتهم الفاسدة (فأتوا) أي إن كان الأمر كما تزعمون من أن محمداً افتراه فأتوا أنتم على جهة الافتراء (بسورة مثله) في البلاغة وجودة الصناعة فأنتم مثله في معرفة لغة العرب وفصاحة الألسن، وحسن النظم وبلاغة الكلام، والمراد مثل هذه السورة لأنها أقرب ما يمكن أن يشار إليه، هكذا قال الرازي وهي مكية والأولى التناول لجميع السور، فإنهم(6/63)
لا يقدرون أن يأتوا بأقصر سورة.
(وادعوا) بمظاهريكم ومعاونيكم (من استطعتم) دعاءه والاستعانة به من قبائل العرب ومن آلهتكم التي تجعلونها شركاء لله (من دون الله) أي من سوى الله من خلقه (إن كنتم صادقين) في دعواكم إن هذا القرآن مفترى، فإن ذلك مستلزم لإمكان الإتيان بمثله، وهو أيضا مستلزم لقدرتكم عليه.
وسبحان الله العظيم ما أقوى هذه الحجة وأوضحها وأظهرها للعقول، فإنهم لما نسبوا الافتراء إلى واحد منهم في البشرية والعربية قال: لهم هذا الذي نسبتموه إليّ وأنا واحد منكم ليس عليكم إلا أن تأتوا وأنتم الجمع الجَمّ بسورة مماثلة لسورة من سوره، واستعينوا بمن شئتم من أهل هذه اللسان العربية على كثرتهم وتباين مساكنهم، أو من غيرهم من بني آدم ومن الجن أو من الأصنام، فإن فعلتم هذا بعد اللتيا والتي فأنتم صادقون فيما نسبتموه إليّ والصقتموه بي.
فلم يأتوا عند سماع هذا الكلام المنصف والتنزل البالغ بكلمة ولا نطقوا ببنت شفة، بل كاعوا عن الجواب وتشبثوا بأذيال العناد البارد والمكابرة المجردة عن الحجة، وذلك مما لا يعجز عنه مبطل.
ومراتب تحدي رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقرآن أربعة: أولها: أنه تحداهم بكل القرآن كما قال تعالى (قل لئن اجتمعت الانس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن)
ثانيها: أنه تحداهم بعشر سور. قال تعالى (قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات).
ثالثها: أنه تحداهم بسورة واحدة كما قال تعالى (فأتوا بسورة مثله)
رابعها: أنه تحداهم بحديث مثله كما قال تعالى (فليأتوا بحديث مثله)
فهذا مجموع الدلائل التي ذكرها الله في إثبات إن القرآن معجز.(6/64)
بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (39) وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ (40)
ثم إن الله تعالى ذكر السبب الذي لأجله كذبوا بالقرآن وأتى به عقب هذا التحدي البالغ فقال(6/65)
بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (39)
(بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه) فأضرب عن الكلام الأول وانتقل إلى بيان أنهم سارعوا إلى تكذيب القرآن قبل أن يتدبروه ويفهموا معانيه وما اشتمل عليه، وهكذا صنع من تصلب في التقليد ولم يبال بما جاء به من دعا إلى الحق وتمسك بذيول الإنصاف، بل يرده بمجرد كونه لم يوافق هواه، ولا جاء على طبق دعواه قبل أن يعرف معناه ويعلم مبناه كما تراه عياناً، وتعلمه وجداناً.
والحاصل أن من كذب بالحجة النيرة والبرهان الواضح قبل أن يحيط بعلمه فهو لم يتمسك بشيء في هذا التكذيب إلا مجرد كونه جاهلاً إنما كذب به غير عالم به، فكان بهذا التكذيب، منادياً على نفسه بالجهل بأعلى صوته ومسجلاً بقصوره عن تعقل الحجج بأبلغ تسجيل، وليس على الحجة ولا على من جاء بها من تكذيبه شيء.
ما يبلغ الأعداء من جاهل ... ما يبلغ الجاهل من نفسه (ولما يأتهم تأويله) أي بل كذبوا بما لم يحييطوا بعلمه ولم يأتهم تأويله، أي كذبوا به حال كونهم لم يفهموا تأويل ما كذبوا به ولا بلغته عقولهم ولا وصلت أذهانهم معانيه الرائقة المُنبئة عن علو شأنه.
والمعنى أن التكذيب وقع منهم قبل الإحاطة بعلمه، وقبل أن يعرفوا ما(6/65)
يؤول إليه من صدق ما اشتمل عليه من حكاية ما سلف من أخبار الرسل المتقدمين، والأمم السابقين، ومن حكايات ما سيحدث من الأمور المستقبلة التي أخبر عنها قبل كونها أو قبل أن يفهموه حق الفهم وتتعقله عقولهم، فإنهم لو تدبروه كل التدبر لفهموه كما ينبغي، وعرفوا ما اشتمل عليه من الأمور الدالة أبلغ دلالة على أنه كلام الله.
وعلى هذا فمعنى تأويله ما يئول إليه لمن تدبره من المعاني الرشيقة واللطائف الأنيقة وكلمة التوقع أظهر في المعنى الأول، والمعنى أن القرآن معجز من جهة النظم ومن جهة المعنى من حيث الإخبار بالغيب.
(كذلك) أي مثل ذلك التكذيب (كذب الذين من قبلهم) من الأمم عند أن جاءتهم الرسل بحجج الله وبراهينه فإنهم كذبوا به قبل أن يحيطوا بعلمه، وقبل أن يأتيهم تأويله (فانظر كيف كان عاقبة الظالمين) من الأمم السالفة من سوء العاقبة بالخسف والمسخ ونحو ذلك من العقوبات التي حلت بهم، كما حكى ذلك القرآن عنهم واشتملت عليه كتب الله المنزلة عليهم، والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم أو لكل فرد من الناس والجملة في قوة فأهلكناهم.(6/66)
وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ (40)
(ومنهم) أي ومن هؤلاء الذين كذبوا بالقرآن (من يؤمن به) في نفسه ويعلم أنه صدق وحق ولكنه كذَّب مكابرة وعناداً، وقيل المراد ومنهم من يؤمن به في المستقبل وإن كذب به في الحال (ومنهم من لا يؤمن به) ولا يصدقه في نفسه بل كذب به جهلاً وتقليداً، أو لا يؤمن به في المستقبل بل يبقى على جحوده وإصراره؛ وقيل الضمير في الموضعين للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقد قيل أن هذا التقسيم خاص بأهل مكة، وقيل عام في جميع الكفار (وربك أعلم بالمفسدين) فيجازيهم بأعمالهم والمراد بهم المصرون المعاندون.(6/66)
وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (41) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ (42) وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لَا يُبْصِرُونَ (43)(6/67)
وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (41)
(وإن كذبوك فقل) أمر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يقول لهم إن أصروا على تكذيبه واستمروا عليه (لي) جزاء (عملي ولكم عملكم) أي جزاؤه فقد أبلغت إليكم ما أمرت بإبلاغه وليس علي غير ذلك، ثم أكد بقوله (أنتم بريئون مما أعمل وأنا بريء مما تعملون) أي لا تؤاخذون بعملي ولا أوخذ بعملكم، وفيه توكيد لما أفادته لام الاختصاص من عدم تعدي أجر العمل إلى غير عامله.
وقد قيل أن هذا منسوخ بآية السيف لما فيه من إيهام الإعراض عنهم وتخلية سبيلهم كما ذهب إليه جماعة من المفسرين منهم مقاتل والكلبي، وعن ابن زيد قال: أمره الله بهذا ثم نسخه فأمره بجهادهم.
قال الرازي: وهو بعيد لأن شرط الناسخ أن يكون رافعاً لحكم المنسوخ، ومدلول الآية اختصاص كل واحد بأفعاله وبثمرات أفعاله من الثواب والعقاب وآية القتال ما رفعت شيئاً من مدلولات هذه الآية، بل هو باق فكان القول بالنسخ باطلاً.(6/67)
وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ (42)
(ومنهم من يستمعون إليك) بين الله سبحانه في هذا إن في أولئك الكفار من بلغت حاله، في النفرة والعداوة إلى هذا الحد وهي أنهم يستمعون إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا قرأ القرآن وعلم الشرائع في الظاهر ولكنهم لا يسمعون في الحقيقة لعدم حصول أثر السماع وهو حصول القبول والعمل بما يسمعونه، وجمع الضمير في يستمعون حملاً على معنى من وأفرده في ومنهم من ينظر حملاً على لفظه، قيل والنكتة كثرة المستمعين بالنسبة إلى الناظرين لان(6/67)
الاستماع لا يتوقف على ما يتوقف عليه النظر من المقابلة وانتفاء الحائل وانفصال الشعاع والنور الموافق لنور البصر، والتقدير في قوله ومنهم من يستمعون ومنهم من ينظر ومنهم ناس يستمعون ومنهم بعض ينظر.
(أفأنت تسمع الصم) الهمزة للإنكار يعني أن هؤلاء وإن استمعوا في الظاهر فهم صم والصمم مانع من سماعهم فكيف يطمع منهم في ذلك مع حصول المانع وهو الصمم، فكيف إذا انضم إلى ذلك (ولو كانوا لا يعقلون) فإن من كان أصمَّ غير عاقل لا يفهم شيئاً ولا يسمع ما يقال له، والفاء عاطفة.
وفيه تنبيه على أن حقيقة استماع الكلام فهم المعنى المقصود منه، ولذلك لا توصف به البهائم، وهو لا يتأتى إلا باستعمال العقل السليم في تدبره، وعقولهم لما كانت مريضة بمعارضة الوهم ومتابعة الإلف والتقليد، تعذر أفهامهم الحكم والمعاني الدقيقة فلم ينتفعوا بسرد الألفاظ عليهم غير ما ينتفع به البهائم من كلام الناعق.
والكلام في(6/68)
وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لَا يُبْصِرُونَ (43)
(ومنهم من ينظر إليك أفأنت تهدي العمي ولو كانوا لا يبصرون) كالكلام فيما تقدم لأن العمى مانع فكيف يطمع من صاحبه في النظر، وقد انضم إلى فقد البصر فقد البصيرة، لأن الأعمى الذي له في قلبه بصيرة قد يكون له من الحدس الصحيح ما يفهم به في بعض الأحوال فهماً يقوم مقام النظر، وكذلك الأصم العاقل قد يتحدس تحدساً يفيده بعض فائدة بخلاف من جمع له بين عمى البصر والبصيرة فقد تعذر عليه الإدراك، وكذا من جمع له بين الصمم وذهاب العقل فقد انسد علبيه باب الهدى.
والمقصود من هذا الكلام تسلية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فإن الطبيب إذا رأى مريضاً لا يقبل العلاج أصلاً أعرض عنه واستراح من الاشتغال به والهمزة للإنكار.(6/68)
إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (44) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (45)(6/69)
إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (44)
(إن الله لا يظلم الناس شيئاً ولكن الناس أنفسهم يظلمون) ذكر هذا عقب ما تقدم من عدم الاهتداء بالأسماع والأبصار لبيان أن ذلك لم يكن لأجل نقص فيما خلقه الله لهم من السمع والعقل والبصر والبصيرة بل لأجل ما صار في طبائعهم من التعصب والمكابرة للحق والمجادلة بالباطل، والإصرار على الكفر فهم الذين ظلموا أنفسهم بذلك، ولم يظلمهم الله شيئاً من الأشياء، بل خلقهم وجعل لهم من المشاعر ما يدركون به أكمل إدراك، وركب فيهم من الحواس ما يصلون به إلى ما يريدون، ووفر مصالحهم الدنيوية عليهم وخلى بينهم وبين مصالحهم الدينية *فعلى نفسها براقش تجني*
قيل والنكتة في وضع الظاهر موضع المضمر زيادة اليقين والتقرير، وتقديم المفعول على الفعل لإفادة القصر أو لمجرد الاهتمام مع مراعاة الفاصلة.(6/69)
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (45)
(و) اذكر (يوم نحشرهم) أي المشركين المنكرين للبعث لموقف الحساب، وأصل الحشر إخراج الجماعة وإزعاجهم من مكانهم أي إحياؤهم من القبور (كأن) أي كأنهم (لم يلبثوا) أي مشبهين بمن لم يلبث (إلا ساعة من النهار) أي شيئاً قليلاً.
والمراد باللبث هو اللبث في الدنيا وقيل في القبور، استقلوا المدة الطويلة إما لأنهم ضيعوا أعمارهم في الدنيا فجعلوا وجودها كالعدم أو استقصروها للدهش والحيرة أو لطول وقوفهم في المحشر أو لشدة ما هم فيه من العذاب، نسوا لذات الدنيا وكأنها لم تكن ومثل هذا قولهم (لبثنا يوماً أو بعض يوم) أو لأن مقامهم في الدنيا في جنب مقامهم في الآخرة قليل جداً.(6/69)
والمقصود من هذا التشبيه كما قاله أبو السعود بيان كمال سهولة الحشر بالنسبة إليه تعالى ولو بعد دهر طويل، وإظهار بطلان استعبادهم وإنكارهم له بقولهم (أئذا متنا وكنا تراباً وعظاماً أئنا لمبعوثون) ونحو ذلك أو بيان تمام الموافقة بين النشأتين في الأشكال والصور فإن اللبث اليسير يلزمه عدم التبدل والتغير.
والمراد بالساعة الزمن القليل فإنها مثل في غاية القلة وتخصيصها بالنهار لأن ساعاته أعرف حالاً من ساعات الليل.
(يتعارفون بينهم) أي يعرف بعضهم بعضاً كأنهم لم يتفارقوا إلا قليلاً، بيان وتقرير لما سبق وذلك يقع في الحشر الذي هو الاجتماع أي في ابتدائه وينقطع في أثنائه وقيل عند خروجهم من القبور ثم ينقطع التعارف بينهم لما بين أيديهم من الأمور المدهشة للعقول المذهلة للأفهام، وأما البعث فلا تعارف فيه لعدم الاجتماع الذي هو لازمه.
وهذا أحد وجهين في المقام ذكره البيضاوي وأبو البقاء، وغالب المفسرين على خلافه وهو تفسير الحشر بالبعث من القبور وجرى على هذا أبو السعود والخازن والقرطبي، وقيل أن هذا التعارف هو تعارف التوبيخ والتقريع يقول بعضهم لبعض أنت أضللتني وأغويتني، لا تعارف شفقة ورأفة كما قال تعالى (ولا يسأل حميم حميماً) وقوله تعالى (فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون) فيجمع بأن المراد بالتعارف هو تعارف التوبيخ، وعليه يحمل قوله (ولو ترى إذ الظالمون موقوفون عند ربهم يرجع بعضهم إلى بعض القول) وقوله تعالى (كلما دخلت أمة) الآية وقوله (ربنا إنا أطعنا سادتنا) الآية، قال القرطبي: وهو الصحيح.
وقد جمع بين الآيات المختلفة في مثل هذا وغيره بأن المواقف يوم القيامة مختلفة فقد يكون في بعض المواقف ما لا يكون في الآخر.
(قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله) هذا تسجيل من الله سبحانه عليهم(6/70)
وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ (46) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (47) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (48) قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (49)
بالخسران وتعجيب منه ولذا أتى بحرف التحقيق، والمراد باللقاء يوم القيامة عند الحساب والجزاء أي من باع آخرته الباقية بدنياه الفانية قد خسر لأنه آثر الفاني على الباقي، والجملة مستأنفة أو في محل نصب بإضمار قول أي قائلين قد خسر (وما كانوا مهتدين) نفى عنهم أن يكونوا من جنس المهتدين لجهلهم وعدم طلبهم لما ينجيهم وينفعهم ويصلحهم.(6/71)
وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ (46)
(وإما نرينك بعض الذي نعدهم) أصله إن نُرِكَ وما مزيدة لتأكيد معنى الشرط ولأجله زيدت نون التأكيد خلافاً لسيبويه، والمعنى أن حصلت منا الإراءة لك بعض الذي وعدناهم من إظهار دينك في حياتك بقتلهم وأسرهم، وجواب الشرط محذوف، والتقدير فتراه أو فذاك.
وجملة (أو نتوفينك) معطوفة على ما قبلها، المعنى أو لا نرينك ذلك في حياتك بل نتوفينك قبل ذلك (فإلينا مرجعهم) فعند ذلك نعذبهم في الآخرة فنريك عذابهم فيها، وجواب أو نتوفينك محذوف أيضاً والتقدير أو نتوفينك قبل الإراءة فنحن نريك ذلك في الآخرة، وقيل أنه جواب للشرط وما عطف عليه إذ معناه صالح لذلك، وإلى هذا ذهب العوفي وابن عطية.
وقيل أن جواب أو نتوفينك هو قوله فإلينا مرجعهم لدلالته على ما هو(6/71)
المراد من إراءة النبي صلى الله عليه وسلم تعذيبهم في الآخرة وقيل العدول في الموضعين إلى صيغة المستقبل لاستحضار الصورة، والأصل أريناك أو توفيناك وفيه نظر فان إراءة صلى الله عليه وسلم ببعض ما وعد المشركين من العذاب لم تكن قد وقعت كالوفاة.
وحاصل معنى هذه الآية: إن لم ننتقم منهم عاجلاً انتقمنا منهم آجلاً، وقد أراد الله قتلهم وأسرهم وذلهم وذهاب عزهم وانكسار سورة كبرهم بما أصابهم به في يوم بدر وما بعده من المواطن فلله الحمد.
(ثم الله شهيد على ما يفعلون) من تكذيبهم وكفرهم فيعذبهم أشد العذاب وجاء بثم الدالة على التبعيد مع كون الله سبحانه شهيدا على ما يفعلونه في الدارين للدلالة على أن المراد بهذه الأفعال ما يترتب عليها من الجزاء أو ما يحصل من إنطاق الجوارح بالشهادة عليهم يوم القيامة، فجعل ذلك بمنزلة شهادة الله عليهم كما ذكره النيسابوري.
وفي السمين (ثم) هنا ليست للترتيب الزماني بل هي لترتيب الأخبار لا لترتيب القصص في نفسها كقولك زيد عالم ثم هو كريم.
قال الزمخشري: ذكرت الشهادة والمراد مقتضاها ونتيجتها وهو العقاب، كأنه قيل ثم الله معاقب على ما يفعلون، وفيه وعيد لهم وتهديد شديد.(6/72)
وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (47)
(ولكل أمة) من الأمم الخالية في وقت من الأوقات (رسول) يرسله الله إليهم يبين لهم ما شرعه الله لهم من الأحكام على حسب ما تقتضيه المصلحة (فإذا جاء رسولهم) إليهم وبلغهم ما أرسله الله به فكذبوه جميعاً (قضى بينهم) أي بين الأمة ورسولها (بالقسط) أي العدل فنجا الرسول وهلك المكذبون له، فيكون ما يعذبون به عدلاً لا ظلماً كما قال سبحانه (وما(6/72)
كنا معذبين حتى نبعث رسولاً) وقوله تعالى (رسلاً مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل)
ويجوز أن يراد بالضمير في (بينهم) الأمة على تقدير أنه كذبه بعضهم وصدقه البعض الآخر فيهلك المكذبون وينجو المصدقون، وفي وقت هذا القضاء قولان أحدهما أنه في الدنيا، والآخر أنه في الأخرة، والأول أولى.
(وهم لا يظلمون) في ذلك القضاء فلا يعذبون بغير ذنب ولا يؤاخذون بغير حجة، ومنه قوله تعالى (وجيء بالنبيين والشهداء وقضي بينهم) وقوله (فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد) والمراد المبالغة في إظهار العدل والنصفة بين العباد.
ثم ذكر سبحانه شبهة أخرى من شبه الكفار(6/73)
وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (48)
(و) ذلك إن النبي صلى الله عليه وسلم كان كلما هددهم بنزول العذاب كانوا (يقولون متى هذا الوعد) والاستفهام منهم للإنكار والاستبعاد، والقدح في النبوة لا طلباً لتعيين وقت مجيئه على وجه الإلزام كما في سورة الملك فإن المطلوب هناك تعيين الوقت.
(إن كنتم صادقين) خطاباً منهم للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وللمؤمنين، ويحتمل أن يراد بالقائلين هذه المقالة جميع الأمم الذين لم يسلموا لرسلهم الذين أرسلهم الله إليهم.
ثم أمر الله سبحانه رسوله أن يجيب عليهم بما يحسم مادة الشبهة ويقطع اللجاج فقال(6/73)
قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (49)
(قل لا أملك لنفسي ضراً ولا نفعاً) أي لا أقدر على جلب نفع لها ولا دفع ضر عنها، فكيف أقدر على أن أملك ذلك لغيري، وقدم الضر لأن السياق لإظهار العجز عن ظهور الوعد الذي استعجلوه واستبعدوه.(6/73)
والاستثناء في قوله (إلا ما شاء الله) منقطع كما ذكره أئمة التفسير، وبه قال الزمخشري أي ولكن ما شاء الله من ذلك كان فكيف اقدر على أن أملك لنفسي ضراً أو نفعاً، وقيل متصل تقديره إلا ما شاء الله أن أملكه وأقدر عليه، والأول أولى.
وفي هذا أعظم واعظ وأبلغ زاجر لمن صار ديدنه وهجيراه المناداة لرسول الله صلى الله عليه وسلم والاستغاثة به عند نزول النوازل التي لا يقدر على دفعها إلا الله سبحانه، وذلك من صار يطلب من الرسول صلى الله عليه وسلم ما لا يقدر على تحصيله إلا الله سبحانه، فإن هذا مقام رب العالمين الذي خلق الأنبياء والصالحين وجميع المخلوقين رزقهم وإحياهم ويميتهم فكيف يطلب من نبي من الأنبياء أو ملك من الملائكة أو صالح من الصالحين ما هو عاجز عنه غير قادر عليه، ويترك الطلب لرب الأرباب القادر على كل شيء الخالق الرازق المعطي المانع.
وحسبك في هذه الآية موعظة فإن هذا سيد ولد آدم وخاتم الرسل يأمره الله بأن يقول لعباده لا أملك لنفسي ضراً ولا نفعاً فكيف يملكه لغيره، وكيف يملكه غيره ممن رتبته دون رتبته، ومنزلته لا تبلغ إلى منزلته لنفسه، فضلاً عن أن يملكه لغيره.
فيا عجباً لقوم يعكفون على قبور الأموات الذين قد صاروا تحت أطباق الثرى، ويطلبون منهم من الحوائج ما لا يقدر عليه إلا الله عز وجل، كيف لا يتيقظون لما وقعوا به من الشرك ولا ينتبهون لما حل بهم من المخالفة لمعنى لا إله إلا الله، ومدلول قل هو الله أحد.
وأعجب من هذا اطلاع أهل العلم على ما يقع من هؤلاء ولا ينكرون عليهم ولا يحولون بينهم وبين الرجوع إلى الجاهلية الأولى بل إلى ما هو أشد(6/74)
منها. فإن أولئك يعترفون بأن الله سبحانه هو الخالق الرازق المحيي المميت الضار النافع، وإنما يجعلون أصنامهم شفعاء لهم عند الله ومقربين إليه، وهؤلاء يجعلون لهم قدرة على الضر والنفع وينادونهم تارة على الاستقلال وتارة مع ذي الجلال وكفاك من شر سماعه، والله ناصر دينه ومظهر شريعته من أوضار الشرك وأدناس الكفر.
ولقد توسل الشيطان أخزاه الله بهذه الذريعة إلى ما تقر به عينه وينثلج به صدره من كفر كثير من هذه الأمة المباركة وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً، إنا لله وإنا إليه راجعون.
ثم بين سبحانه أن لكل طائفة حداً محدوداً لا يتجاوزونه فلا وجه لاستعجال العذاب فقال (لكل أمة) ممن قضى بينهم وبين رسولهم أو بين بعضهم لبعض (أجل) أي وقت خاص ومدة مضروبة يحل بهم ما يريده الله سبحانه لهم عند حلوله والأجل يطلق على مدة العمر، وعلى آخر جزء منه، والمراد هنا الثاني كما يؤخذ من التفاسير.
(فإذا جاء أجلهم) أي أجل كل أمة، قال أبو السعود: أن جعل الأجل عبارة عن حد معين من الزمان فمعنى مجيئه ظاهر، وأن أريد به ما امتد من الزمان فمجيئه عبارة عن انقضائه إذ هناك يتحقق مجيئه بتمامه (فلا يستأخرون) عن ذلك الأجل المعين (ساعة) أي شيئاً قليلاً من الزمان (ولا يستقدمون) منه، ومثله قوله تعالى (ما تسبق من أمة أجلها وما يستأخرون) والسين زائدة فيهما، والكلام على هذه الآية المذكورة هنا قد تقدم في تفسير الآية التي في أول الأعراف فلا نعيده.(6/75)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ (50) أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (51)(6/76)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ (50)
(قل أرأيتم إن أتاكم عذابه) هذا منه سبحانه تزييف لرأي الكفار في استعجال العذاب بعد التزييف الأول، أي أخبروني عن عذاب الله إن أتاكم أي شيء تستعجلون منه وليس شيء من العذاب يستعجله العاقل، إذ العذاب كله مر المذاق، موجب لنفار الطبع منه.
فتكون جملة الاستفهام جاءت على سبيل التلطف بهم، والتنبيه لهم على أن العذاب لا ينبغي أن يستعجل، أو جاءت على سبيل التعجب والتهويل للعذاب، أي أيُّ شيء شديد تستعجلون منه، أي ما أشد وما أهول ما تستعجلون من العذاب. قاله أبو حيان.
(بياتاً) أي وقت بيات، والمراد به الوقت الذي يبيتون فيه وينامون ويغفلون عن التحرز، والبيات بمعنى التبييت اسم مصدر كالسلام بمعنى التسليم، وكذلك قوله (أو نهاراً) أي وقت الاشتغال بطلب المعاش والكسب، والاستفهام في قوله (ماذا يستعجل منه المجرمون) للإنكار المتضمن للنهي كما في قوله (أتى أمر الله فلا تستعجلوه)
ووجه الإنكار عليهم في استعجالهم إن العذاب مكروه تنفر منه القلوب وتأباه الطبائع فما المقتضى لاستعجالهم له، وضمير منه راجع إلى العذاب، وقيل إلى الله، والجملة جواب الشرط بحذف الفاء وقيل أن الجواب محذوف.
والمعنى أن أتاكم عذابه تندموا على الاستعجال أو تعرفوا الخطأ منكم فيه، وقيل أن الجواب قوله(6/76)
أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (51)
(أثُّمَّ إذا ما وقع) ويكون جملة ماذا يستعجل اعتراضاً، والمعنى إن أتاكم عذابه آمنتم به بعد وقوعه حين لا ينفعكم الإيمان، والأول أولى.(6/76)
قال الحفناوي: ولم يقل يستعجلون منه للدلالة على ما يوجب ترك الاستعجال وهو الإجرام لأن من حق المجرم أن يخاف من العذاب على إجرامه وأن يهلك فزعاً من مجيئه وأن ابطأ فكيف يستعجله.
ودخول الهمزة الاستفهامية في (أَثُمَّ إذا ما وقع آمنتم به) لإنكار إيمانهم حيث لا ينفع الإيمان وذلك بعد نزول العذاب، وهو يتضمن معنى التهويل عليهم وتفظيع ما فعلوه في غير وقته مع تركهم له في وقته الذي يحصل به النفع والدفع، وهذه الجملة داخلة تحت القول المأمور به، وجيء بكلمة ثم التي للتراخي دلالة على الاستبعاد، وجيء بإذا مع زيادة ما للتأكيد دلالة على تحقق وقوع الإيمان منهم في غير وقته ليكون في ذلك استجهال لهم.
والمعنى أبعد ما وقع عذاب الله عليكم وحل بكم سخطه وانتقامه آمنتم حين لا ينفعكم هذا الإيمان شيئاً ولا يدفع عنكم ضراً، وقيل أن هذه الجملة ليست داخلة تحت القول المأمور به وأنها من قول الملائكة استهزاء بهم وإزراء عليهم، والأول أولى، وقيل ثم هنا بفتح الثاء بمعنى هناك والأول أولى.
(آلآن) بهمزتين الأولى همزة الاستفهام والثانية همزة ال المعرفة إذا اجتمع هاتان الهمزتان وجب في الثانية أحد أمرين: تسهيلها من غير ألف بينها وبين الأولى وإبدالها مداً بقدر ثلاث ألفات، وقد وقع في القرآن الكريم من هذا القبيل ستة مواضع اثنان في الأنعام وهما (آلذكرين) مرتين، وثلاثة في هذه السورة فقط آلآن هنا وفيما سيأتي ولفظ (آلله أذن لكم) وواحد في النمل (آلله خير) فلا يجوز في هذه المواضع الستة تحقيق الهمزتين، بل يجب أحد الأمرين اللذين قد عرفتهما، قيل هو استئناف بتقدير للقول غير داخل تحت القول الذي أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقوله لهم، أي قيل لهم عند إيمانهم بعد وقوع العذاب آلآن آمنتم به (و) الحال أنكم (قد كنتم به) أي العذاب (تستعجلون) يعني تكذبون لأن استعجالهم كان على جهة التكذيب والاستهزاء ويكون المقصود بأمره صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم هذا القول على سبيل التوبيخ لهم والازراء عليهم.(6/77)
ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (52) وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (53) وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (54)(6/78)
ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (52)
(ثم قيل للذين ظلموا) أنفسهم بالكفر وعدم الإيمان (ذوقوا عذاب الخلد) أي العذاب الدائم الذي لا ينقطع وهو عطف على ما قدر قبل آلآن، والمراد منه التقريع والتوبيخ لهم يوم القيامة على سبيل الإهانة، أي قيل لهم أن هذا الذي تطلبونه ضرر محض عار عن النفع من كل وجه، والعاقل لا يطلب ذلك، والقائل لهم هذه المقالة قيل هم خزنة جهنم، ولا يبعد أن يكون القائل لذلك هم الأنبياء على الخصوص أو المؤمنون على العموم.
(هل تجزون إلا بما كنتم تكسبون) في الحياة الدنيا من الكفر والمعاصي والأعمال والاستفهام للتقرير، والاستثناء مفرغ وكأنه يقال لهم هذا القول عند استغاثتهم من العذاب وحلول النقمة بهم.
ثم حكى الله سبحانه عنهم بعد هذا البيانات البالغة والجوابات عن أقوالهم الباطلة أنهم استفهموا تارة أخرى عن تحقق العذاب فقال(6/78)
وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (53)
(ويستنبئونك) أي يستخبرونك على جهة الاستهزاء منهم والإنكار (أحق هو) أي ما تعدنا به من العذاب في العاجل والآجل، وهذا السؤال منهم جهل محض وظلمات بعضها فوق بعض، فقد تقدم ذكره عنهم مع الجواب عليه، فصنيعهم في هذا التكرير صنيع من لا يعقل ما يقول ولا ما يقال له.
وقيل المراد بهذا الاستخبار منهم هو عن حقية القرآن.
(قل) أمر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم في جواب استفهامهم الخارج مخرج الاستهزاء، أي قل لهم يا محمد غير ملتفت إلى(6/78)
ما هو مقصودهم من الاستهزاء (إي) أي نعم (وربي إنه) أي أن ما أعدكم به من العذاب (لحق) ثابت كائن لا محالة.
ْوفي هذا الجواب تأكيد من وجوه (الأول) القسم مع دخول الحرف الخاص بالقسم الواقع موقع نعم (الثاني) دخول إن المؤكدة (الثالث) اللام في لحق (الرابع) اسمية الجملة وذلك يدل على أنهم قد بلغوا في الإنكار والتمرد إلى الغاية التي ليس وراءها غاية.
ثم توعدهم بأشد توعد ورهبهم بأعظم ترهيب فقال (وما أنتم بمعجزين) أي فائتين العذاب بالهرب والتحيل الذي لا ينفع والمكابرة التي لا تدفع من قضاء الله شيئاً بل هو مدرككم ولا بد، وهذه الجملة إما معطوفة على جملة جواب القسم أو مستأنفة لبيان عدم خلوصهم عن عذاب الله بوجه من الوجوه.
ثم زاد في التأكيد فقال(6/79)
وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (54)
(ولو) امتناعية على ما هو الكثير فيها (أن لكل نفس) من الأنفس المتصفة بأنها (ظلمت) نفسها بالكفر بالله وعدم الإيمان به (ما في الأرض) من كل شيء من الأشياء التي تشتمل عليها من الأموال النفيسة والذخائر الفائقة (لافتدت به) أي جعلته فدية لها من العذاب يوم القيامة لا ينفعها الفداء ولا يقبل منها، ومثله قوله تعالى (إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهباً ولو افتدى به)
ويجوز أن يكون الافتداء متعدياً وأن يكون قاصراً، فإذا كان مطاوعاً لمتعد كان قاصراً، تقول فديته فافتدى وإن لم يكن مطاوعاً يكون بمعنى فدى فيتعدى لواحد، والفعل يحتمل الوجهين فإن جعلناه متعدياً فمفعوله محذوف تقديره لافتدت به نفسها وهو من المجاز كقوله تعالى (يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها).
(وأسروا الندامة) الضمير راجع إلى الكفار الذين سياق الكلام معهم،(6/79)
وقيل راجع إلى الأنفس المدلول عليها بكل نفس وإن كان المراد خصوص الرؤساء منهم.
ومعنى أسروا أخفوا، أي لم يظهروا الندامة على ترك الإيمان بل أخفوها لما قد شاهدوه في ذلك الموطن مما سلب عقولهم وذهب بتجلدهم، ويمكن أنه بقي فيهم وهم على تلك الحالة عرق ينزعهم إلى العصبية التي كانوا عليها في الدنيا فأسروا الندامة لئلا يشمت بهم المؤمنون.
وقيل أسرها الرؤساء فيما بينهم دون اتباعهم خوفاً من توبيخهم لهم لكونهم هم الذين أضلوهم وحالوا بينهم وبين الإسلام، وقيل معنى أسروا أظهروا لأن أسر من الأضداد ومعنى الأول هو الشهور في اللغة وهو في الآية يحتمل الوجهين؛ وقيل وجدوا ألم الحسرة في قلوبهم لأن الندامة لا يمكن إظهارها.
وذكر المبرد في ذلك وجهين: الأول: أنها بدت في وجوهم أسرة الندامة وهي الانكسار واحدها سرار وجمعها أسارير والثاني: ما تقدم وقيل معنى أسروا الندامة أخلصوها لأن إخفاءها إخلاصها، قيل أنه ماض على بابه قد وقع، وقيل بل هو بمعنى المستقبل.
(لما) ظرف بمعنى حين أي حين (رأوا العذاب) أي وقوع هذا منهم كان عند رؤية العذاب ومعاينته، وأما بعد الدخول فيه فهم الذين قالوا ربنا غلبت علينا شقوتنا.
(وقضي بينهم بالقسط) أي العدل مستأنفة وهو الظاهر أو معطوفة على رأوا أي قضى الله بين المؤمنين وبين الكافرين أو بين الرؤساء أو بين الظالمين من الكفار والمظلومين بالعدل، وقيل معنى القضاء بينهم إنزال العقوبة عليهم (وهم لا يظلمون) أي لا يظلمهم الله فيما فعله بهم من العذاب الذي حل بهم فإنه بسبب ما كسبوا.(6/80)
أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَلَا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (55) هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (56)
وجملة(6/81)
أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَلَا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (55)
(ألا إن لله ما في السماوات والأرض) مسوقة لتقرير كمال قدرته لأن من ملك ما في السماوات والأرض يتصرف به كيف يشاء، وغلب غير العقلاء لأنهم أكثر المخلوقات، قيل لما ذكر سبحانه افتداء الكفار بما في الأرض لو كان لهم ذلك بين أن الأشياء كلها لله وليس لهم شيء يتمكنون من الافتداء به.
وقيل لما أقسم على حقية ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، أراد أن يصحب من ذلك بدليل البرهان البين، بأن ما في العالم على اختلاف أنواعه ملكه يتصرف به كيف يشاء وفي تصدير الجملة بحرف التنبيه انتباه للغافلين وإيقاظ للذاهلين.
ثم أكد ما سبق بقوله (ألا إن وعد الله حق) أي كائن لا محالة وهو عام يندرج فيه ما استعجلوه من العذاب اندارجاً أولياً، وتصدير الجملة بحرف التنبيه كما قلنا في التي قبلها مع الدلالة على تحقق مضمون الجملتين وتقرير ما سلف من الآيات الكريمة والتنبيه على وجوب استحضار المحافظة عليه (ولكن أكثرهم) أي أكثر الناس يعني الكفار (لا يعلمون) ما فيه صلاحهم فيعملون به وما فيه فسادهم فيجتنبونه لقصور عقلهم واستيلاء الغفلة عليهم.(6/81)
هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (56)
(هو يحيي ويميت) أي يهب الحياة ويسلبها (وإليه ترجعون) في الدار الآخرة فيجازي كلاًّ بما يستحقه ويتفضل على من يشاء من عباده.(6/81)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57) قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (58) قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ (59)(6/82)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57)
(يا أيها الناس) قيل أراد قريشاً وقيل هو على العموم وهو الأولى واختاره الطبري وفيه التفات ورجوع إلى استمالتهم عقب تحذيرهم من غوائل الضلال وشروع في بيان أدلة الرسالة بعد بيان أدلة التوحيد (قد جاءتكم موعظة) يعني القرآن فيه ما يتعظ به من قرأه وعرف معناه والوعظ في الأصل هو التذكير بالعواقب سواء كان بالترغيب أو الترهيب، والواعظ هو كالطبيب، ينهى المريض عما يضره وقيل الوعظ زجر مقترن بتخويف، وقال الخليل: هو التذكير بالخير فيما يرق له القلب.
(من ربكم) من لابتداء الغاية وهو مجاز، أو للتبعيض أي موعظة كائنة من مواعظ ربكم (وشفاء لما في الصدور) من الشكوك التي تعتري بعض المرتابين لوجود ما يستفاد منه فيه من العقائد الحقة، واشتماله على تزييف العقائد الباطلة.
عن أبي سعيد الخدري قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: إني أشتكي صدري، فقال: اقرأ القرآن، يقول الله: (شفاء لما في الصدور) أخرجه ابن المنذر وابن مردويه.
وأخرج البيهقي في شعب الإيمان عن واثلة بن الأسقع أن رجلاً شكا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وجع حلقه قال: >>عليك بقراءة القرآن والعسل فالقرآن شفاء لما في الصدور، والعسل شفاء من كل داء<< والشفاء في الأصل مصدر جعل وصفاً مبالغة أو هو اسم لما يشفى به أي يتداوى فهو كالدواء لما(6/82)
يداوى به، وإنما خص الصدر بالذكر لأنه موضع القلب وغلافه وهو أعز موضع في بدن الإنسان لمكان القلب فيه، وداء الجهل أضر للقلب من داء المرض للبدن، والقرآن مزيل لأمراض القلب كلها.
(وهدى ورحمة للمؤمنين) بأنجائهم من الضلال، نزل بالعطف تغاير الصفات منزلة تغاير الذات، والهدى والإرشاد لمن اتبع القرآن وتفكر فيه وتدبر معانيه إلى الطريق الموصلة إلى الجنة، والرحمة هي ما يوجد في الكتاب العزيز من الأمور التي يرحم بها عباده فيطلبها من أراد ذلك حتى ينالها فالقرآن العظيم مشتمل على هذه الأمور جامع لهذه الأشياء كلها.
قال الكرخى: والحاصل أن الموعظة إشارة إلى تطهير ظواهر الخلق عما لا ينبغي وهو الشريعة، والشفاء إشارة إلى تطهير الباطن عن العقائد الفاسدة والأخلاق الذميمة وهو الطريقة، والهدى إشارة إلى ظهور نور الحق في قلوب الصديقين وهو الحقيقة، والرحمة إشارة إلى كونها بالغة في الكمال والإشراق إلى حيث تصير مكملة للناقصين، وهي النبوة فهذه درجات عقلية ومراتب برهانية مدلول عليها بهذه الألفاظ القرآنية لا يمكن تأخير ما تقدم ذكره إ-هـ.
ثم أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم، وجعل الخطاب معه بعد خطابه للناس على العموم فقال(6/83)
قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (58)
(قل بفضل الله وبرحمته) المراد بالفضل من الله سبحانه تفضله على عباده في الآجل والعاجل بما لا يحييط به الحصر والرحمة رحمة لهم، وروي عن ابن عباس أنه قال: فضل الله القرآن، ورحمته الإسلام؛ وعن الحسن والضحاك ومجاهد وقتادة إن فضل الله الإيمان ورحمته القرآن.
وعن أنس قال: قال رسول الله صلى الله وسلم: فضل الله القرآن ورحمته: أن جعلكم من أهله. رواه أبو الشيخ وابن مردويه، وقد روي عن جماعة من التابعين نحو هذه الروايات المتقدمة، والأولى حمل الفضل والرحمة على العموم، ولدخل في ذلك ما في القرآن منهما دخولاً أولياً.
وتكرير الباء في برحمته للدلالة على أن كل واحد من الفضل والرحمة(6/83)
سبب مستقل في الفرح، وأصل الكلام قل بفضل الله وبرحمته فيفرحوا ثم حذف هذا الفعل لدلالة الثاني عليه في قوله (فبذلك فليفرحوا) وقيل أن فرحوا بشيء فليخصوا فضل الله ورحمته بالفرح وهو اللذة في القلب بسبب إدراك المطلوب وتقديم الظرف على الفعل لإفادة الحصر والتكرير للتأكيد والتقرير وإيجاب اختصاص الفضل والرحمة بالفرح دون ما عداهما من فوائد الدنيا وفي هاتين الفائين أوجه ذكرها في الجمل.
وقد ذم الله سبحانه الفرح في مواطن كقوله (لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين) وجوَّزه في قوله (فرحين بما آتاهم الله من فضله) وكما في هذه الآية وقيل التقدير جاءتكم موعظة بفضل الله ورحمته فبذلك أي فبمجيئهما فليفرحوا (هو خير) أي إن هذا خير لهم (مما يجمعون) من حطام الدنيا ولذاتها الفانية قرئ بالياء والتاء وهما سبعيتان.
ثمِ أشار سبحانه بقوله(6/84)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ (59)
(قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراماً وحلالاً) إلى طريق أخرى غير ما تقدم في إثبات النبوة وتقرير ذلك ما حاصله أنكم تحكمون بتحليل البعض وتحريم البعض، فإن كان بمجرد التشهي والهوى فهو مهجور باتفاق العقلاء مسلمهم وكافرهم، وإن كان لاعتقادكم أنه حكم الله فيكم وفيما رزقكم فلا تعرفون ذلك إلا بطريق موصلة إلى الله ولا طريق يتبين بها الحلال من الحرام إلا من جهة الرسل الذين أرسلهم الله إلى عباده.
والمعنى أخبروني الذي أنزل الله إليكم من رزق أي زرع وضرع وغيرهما فجعلتم بعضه حراماً كالبحيرة والسائبة وبعضه حلالاً كالميتة وذلك كما كانوا يفعلونه في الأنعام والحرث حسبما سبق حكاية ذلك عنهم في سورة الأنعام من الكتاب العزيز، وقيل ما استفهامية، وإليه ذهب الحوفي والزمخشري والظاهر أنها موصولة كما تقدم لأن فيه إبقاء أرأيت على بابها، ومعنى إنزال الرزق كون المطر ينزل من جهة العلو.(6/84)
وقال الزجاج: أنزل بمعنى خلق كما قال (وأنزل لكم من الأنعام ثمانية ازواج وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد) (قل آلله أَذِنَ لكم) في هذا التحليل والتحريم والهمزة للإنكار (أم على الله تفترون) أم منقطعة بمعنى بل كما في الكشاف، والظاهر أنها متصلة كما قال السفاقسي: أي آلله اذن لكم أم تكذبون عليه في نسبة الإذن إليه.
قال الكرخي: وكفى به زاجراً لمن أفتى بغير إتقان كبعض فقهاء هذا الزمان اهـ. وإظهار الاسم الشريف وتقديمه على الفعل للدلالة على كمال قبح الافتراء.
قلت وفي هذه الآية الشريفة ما يصك مسامع المتصدرين للإفتاء لعباد الله في شريعته بالتحليل والتحريم والجواز وعدمه، مع كونهم من المقلدين الذين لا يعقلون حجج الله ولا يفهمونها ولا يدرون ما هي، ومبلغهم من العلم الحكاية لقول قائل من هذه الأمة قد قلدوه في دينهم وجعلوه شارعاً مستقلاً، ما عمل به من الكتاب والسنة فهو العمول به عندهم وما لم يبلغه أو بلغه ولم يفهمه حق فهمه وأخطأ الصواب في اجتهاده وترجيحه فهو في حكم المنسوخ عندهم، المرفوع حكمه عن العباد، مع كون من قلدوه متعبداً بهذه الشريعة كما هم متعبدون بها ومحكوماً عليه بأحكامها كما هم محكوم عليهم بها، وقد اجتهد رأيه وأدى ما عليه وفاز بأجرين مع الإصابة وأجر مع الخطأ، إنما الشأن في جعلهم لرأيه الذي أخطأ فيه شريعة مستقلة ودليلاً معمولاً به.
وقد أخطأوا في هذا خطأً بيّناً وغلطوا غلطاً فاحشاً فان الترخيص للمجتهد في اجتهاد رأيه يخصه وحده، ولا قائل من أهل الإسلام المعتد بأقوالهم أنه يجوز لغيره أن يعمل به تقليداً له واقتداء به، وما جاء به المقلدة في تقويم هذا الباطل فهو من الجهل العاطل، اللهم كما رزقتنا من العلم ما نميز به الحق والباطل فارزقنا من الإنصاف ما نظفر عنده بما هو الحق عندك يا واهب الخير.
قال النسفي: الآية زاجرة عن التجوز فيما يسئل من الأحكام وباعثة على وجوب الاحتياط فيه وأن لا يقول أحد في شيء جائز أو غير جائز إلا بعد إيقان وإتقان وإلا فهو مفتر على الديّان.(6/85)
وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ (60) وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (61)
ثم قال(6/86)
وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ (60)
(وما ظن الذين يفترون على الله الكذب يوم القيامة) أي أيُّ شيء ظنهم في هذا اليوم وما يصنع بهم فيه، أي لا ينبغي هذا الحسبان ولا صحة له بوجه من الوجوه، وهذه الجملة الاستفهامية المتضمنة لتعظيم الوعيد لهم غير داخلة تحت القول الذي أمر الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم أن يقوله لهم بل مبتدأة مسوقة لبيان ما سيحل بهم من عذاب الله، وذكر الكذب بعد الافتراء مع إن الافتراء لا يكون إلا كذباً لزيادة التأكيد.
(إن الله لذو فضل على الناس) يتفضل عليهم بأنواع النعيم في الدنيا والآخرة ومنه بعثة الرسل وإنزال الكتب لبيان الحلال والحرام وإبقاء الكتاب والسنة إلى آخر الدهر والزمان (ولكن أكثرهم لا يشكرون) الله على نعمه الواصلة إليهم منه سبحانه في كل وقت من الأوقات وطرفة من الطرفات، ولا يصرفون مشاعرهم إلى ما خلقت له.(6/86)
وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (61)
(وما تكون في شأن) الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم وما نافية والشأن الأمر بمعنى القصد وجمعه شئون، قال الأخفش: تقول العرب ما شأنت شأنه أي ما عملت عمله، وما قصدت قصده فهو مصدر بمعنى المفعول.
(وما تتلو منه من قرآن) قال الفراء والزجاج: الضمير يعود على الشأن والجار والمجرور صفة لمصدر محذوف أي تلاوة كائنة منه، إذ التلاوة للقرآن من أعظم شؤونه صلى الله عليه وسلم، والمعنى أنه يتلو من أجل الشأن الذي حدث القرآن فيعلم كيف حكمه أو يتلو القرآن الذي ينزل في ذلك الشأن، وقال ابن(6/86)
جرير الطبري: الضمير في منه عائد إلى الكتاب أي ما يكون من كتاب الله من قرآن وأعاده تفخيماً له كقوله (إني أنا الله) وقيل ما تتلو من الله من قرآن نازل عليك، فمن الثانية زائدة والأولى إما تعليلية أو ابتدائية بحسب الوجهين المتقدمين.
والخطاب في (ولا تعملون من عمل) لرسول الله وللأمة، وقيل الخطاب لكفار قريش (إلا كنا عليكم شهوداً) استثناء مفرغ من أعم الأحوال للمخاطبين بالأفعال الثلاثة أي ما تلابسون بشيء منها في حال من الأحوال إلا في حال كوننا رقباء مطلعين عليه حافظين له، يقال شهدت على الشيء اطلعت عليه فأنا شاهد وشهيد، والجمع أشهاد وشهود.
والضمير في (إذ تفيضون فيه) عائد إلى العمل يقال أفاض فلان في الحديث والعمل إذا اندفع فيه، وقال الضحاك الضمير في (فيه) عائد إلى القرآن والمعنى إذ تشيعون في القرآن الكذب، والإفاضة الدخول في العمل على جهة الانتصاب إليه والانبساط فيه.
قال ابن الأنباري: إذ تدفعون فيه وتبسطون في ذكره، وقيل الإفاضة الدفع بكثرة، وقال الزجاج: تنشرون فيه، وقيل تخوضون فيه، وقيل تأخذون أي تشرعون فيه والمعاني متقاربة.
(وما يعزب) أي يغيب ويخفى، وقيل يبعد، وقال ابن كيسان: يذهب، وهذه المعاني متقاربة، قرئ بضم الزاي وبكسرها سبعيتان وهما لغتان فصيحتان (عن ربك) أي عن علمه، ومن في (من مثقال ذرة) زائدة للتأكيد أي وزن ذرة أي نملة حمراء وهي خفيفة الوزن جداً (في الأرض ولا في السماء) أي في دائرة الوجود والإمكان، وإنما عبر عنها بهما مع أنه سبحانه لا يغيب عنه شيء لا فيهما ولا فيما هو خارج عنهما لأن الناس لا يشاهدون سواهما وسوى ما فيهما من المخلوقات؛ وقدم الأرض على السماء لأنها محل استقرار العالم، فهم يشاهدون ما فيها من قرب.(6/87)
(ولا أصغر من ذلك) أي من مثقال ذرة كلام برأسه مقرر لما قبله، ولا نافية للجنس (ولا أكبر) منها (إلا) وهو (في كتاب مبين) فكيف يغيب عنه وهو الكتاب الذي عند الله، يعني اللوح المحفوظ، قاله السدي. وقد أورد على توجيه النصب والرفع في أصغر وأكبر على العطف على لفظ مثقال ومحله أو على لفظ ذرة إشكال، وهو أنه يصير تقدير الآية لا يعزب عنه شيء في الأرض ولا في السماء إلا في كتاب، ويلزم منه أن يكون ذلك الشيء الذي في الكتاب خارجاً عن علم الله وهو محال.
وقد أجيب عن هذا الإشكال بأن الأشياء المخلوقة قسمان: قسم أوجده الله ابتداء من غير واسطة كخلق الملائكة والسماوات والأرض، وقسم آخر أوجده بواسطة القسم الأول من حوادث عالم الكون والفساد، ولا شك أن هذا القسم الثاني متباعد في السلسلة العلية عن مرتبة الأول.
فالمراد من الآية أنه لا يبعد عن مرتبة وجوده سبحانه شيء في الأرض ولا في السماء إلا وهو في كتاب مبين أثبت فيه صورة تلك المعلومات، والغرض الرد على من يزعم أنه غير عالم بالجزئيات.
وأجيب أيضاً بأن الاستثناء منقطع أي لكن هو في كتاب مبين، وذكر أبو علي الجرجاني أن إلا بمعنى الواو أي وهو أيضا في كتاب مبين، والعرب قد تضع إلا موضع الواو، ومنه قوله تعالى: (إنى لا يخاف لدى المرسلون إلا من ظلم) يعني ومن ظلم، وقوله: (لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا) أي والذين ظلموا، وقدر هو بعد الواو التي جاءت إلا بمعناها كما في قوله (وقولوا حطة) أي هي حطة.
قال الكرخي: وهذا الوجه فيه تعسف، ومثله قوله: (ولا تقولوَا ثلاثة) (وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين).
وجوّز الكواشي كونه متصلاً مستثنى من " يعزب " على أن معناه يبين(6/88)
أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (64)
ويصدر، والمعنى لا يصدر عن الله شيء بعد خلقه له إلا وهو في كتاب؛ وقال الكلبي: قد حاول الرازي جعله متصلاً بعبارة طويلة محصلها أنه جعله استثناء مفرغاً وهو حال من أصغر وأكبر، وهو في قوة المتصل، ولا يقال فيه متصل ولا منقطع.
ثم لما بين سبحانه إحاطته بجميع الأشياء وكان في ذلك تقوية لقلوب المطيعين وكسر لقلوب العاصين ذكر حال المطيعين فقال:(6/89)
أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62)
(ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم) الولي في اللغة ضد العدو فهو المحب، ومحبة العباد لله طاعتهم له، ومحبته لهم إكرامه إياهم، وعلى الأول يكون فعيل بمعنى فاعل، وعلى الثاني بمعنى مفعول فهو مشترك بينهما، وتركيب الواو واللام والياء يدل على معنى القرب، فولي كل شيء هو الذي يكون قريباً منه.
والمراد بالأولياء خُلَّص المؤمنين كأنهم قربوا من الله سبحانه بطاعته واجتناب معصيته، والمراد بنفي الخوف عنهم أنهم لا يخافون أبداً كما يخاف غيرهم، لأنهم قد قاموا بما أوجب الله عليهم وانتهوا عن العاصي التي نهاهم عنها، فهم على ثقة من أنفسهم وحسن ظن بربهم.
وكذلك (ولا هم يحزنون) على فوت مطلب من المطالب لأنهم يعلمون أن ذلك بقضاء الله وقدره فيسلمون للقضاء والقدر، ويريحون قلوبهم عن الهم والكدر، فصدورهم منشرحة وجوارحهم نشطة وقلوبهم مسرورة.(6/89)
وقد فسر سبحانه هؤلاء الأولياء بقوله:(6/90)
الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63)
(الذين آمنوا وكانوا يتقون) أي يؤمنون بما يجب الإيمان به، ويتقون ما يجب عليهم اتقاؤه من معاصي الله سبحانه قال أبو السعود: والمراد بالتقوى المرتبة الثالثة منها الجامعة لما تحتها من مرتبة التوقي عن الشرك التي يفيدها الإيمان أيضاً، ومرتبة التجنب عن كل ما يؤثم من فعل وترك، أعني تنزه الإنسان عن كل ما يشغل سره عن الحق، والتبتل إليه بالكلية وهي التقوى الحقيقي المأمور به في قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته) وبه يحصل الشهود والحضور والقرب الذي عليه يدور إطلاق الاسم عليه فملاك أمر الولاية هو التقوى المذكور فأولياء الله هم المؤمنون المتقون.
وعن سعيد بن جبير قال: هم الذين إذا رُؤوا ذكر الله. وعن ابن عباس قال: إذا رُؤوا يذكر الله لرؤيتهم. وقال أبو حنيفة والشافعي: إذا لم تكن العلماء أولياء الله فليس لله ولي، قال النووي: وذلك في العالم العامل بعلمه.
وقد أكثر أهل العلم من المتكلمين والصوفية وغيرهم في تعريف الولي ووصفه وأطالوا المقالات في ذلك بما لا حاجة إليه، وهذه الآية تغني عنها، فإنه إذا جاء نهر الله بطل نهر معقل.
والحاصل أن ولي الله من كان آتياً بالاعتقاد الصحيح المبني على الدليل، وبالأعمال الصالحة على وفق ما وردت به السنة المطهرة، لأن الإيمان مبني على العقيدة والعمل، ومقام التقوى هو أن يتقي العبد كل ما نهى الله عنه.
وعن عمرو بن الجموح أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: " لا يحق العبد حق صريح الإيمان حتى يحب لله ويبغض لله، فإذا أحب لله وأبغض(6/90)
لله فقد استحق الولاية من الله وأن أوليائي من عبادي وأحبائي من خلقي الذين يذكرون بذكري وأذكر بذكرهم " (1) " أخرجه أحمد وغيره.
وأخرج أحمد عن عبد الرحمن بن غنم يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم " خيار عباد الله الذين إذا رُؤوا ذكر الله، وشرار عباده المشاؤون بالنميمة المفرقون بين الأحبة الباغون البراء العنت " (2).
وعن ابن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " خياركم من ذكركم الله رؤيته وزاد في علمكم منطقه ورغبكم في الآخرة عمله " (3) أخرجه الحكيم الترمذي، وعن ابن عمر مرفوعاً: إن لله عباداً ليسوا بأنبياء ولا شهداء يغبطهم النبيون والشهداء يوم القيامة بقربهم ومجلسهم منه، فجثى أعرابي على ركبتيه فقال: يا رسول الله صفهم لنا، جلهم لنا، قال قوم من أفناء الناس من نزاع القبائل تصافوا في الله وتحابوا في الله، يضع الله لهم يوم القيامة منابر من نور فيجلسهم، يخاف الناس ولا يخافون، هم أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون " (4) أخرجه الحاكم وصححه.
وأخرج أبو داود وابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي في الشعب عن عمر ابن الخطاب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر نحوه، قال ابن كثير: (5) وإسناده جيد، وروي بطريق عن جماعة من الصحابة، وقد ورد في فضل المتحابين في الله أحاديث ليس فيها أنهم المرادون بالآية.
_________
(1) الإمام أحمد 3/ 430.
(2) الإمام أحمد 6/ 459.
(3) ضعيف الجامع الصغير 2873.
(4) المستدرك كتاب البر والصلة 4/ 170.
(5) ابن كثير 2/ 422.(6/91)
لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (64)
(لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة) تفسير لمعنى كونهم أولياء الله(6/91)
أي لهم البشرى من الله ما داموا في الحياة بما يوحيه إلى أنبيائه وينزله في كتبه من كون حال المؤمنين عنده هو إدخالهم الجنة ورضوانه عنهم كما وقع كثير من البشارات للمؤمنين في القرآن الكريم.
وكذلك ما يحصل لهم من الرؤيا الصالحة وما يتفضل الله به عليهم من إجابة دعائهم، وما يشاهدونه من التبشير لهم عند حضور آجالهم بتنزل الملائكة عليهم قائلين لهم لا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة. قاله الزهري وقتادة.
وأما البشرى في الآخرة فتلقى الملائكة لهم مبشرين بالفوز بالنعيم والسلامة من العذاب، والبشرى مصدر أريد به المبشر به، والمراد حال كونهم في الدنيا وحال كونهم في الآخرة.
وأخرج أحمد والترمذي وحسنه وابن جرير والبيهقي وغيرهم عن رجل من أهل مصر قال: سألت أبا الدرداء عن معنى قوله: (لهم البشرى) فقال: ما سألني عنها أحد منذ سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما سألني عنها أحد غيرك منذ أنزلت عليَّ، هي الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو ترى له فهي بشراه في الحياة الدنيا وبشراه في الآخرة الجنة " وفي إسناده هذا الرجل المجهول. وعن عبادة بن الصامت مرفوعاً مثله عند أحمد والدارمي والترمذي وابن ماجة. وأخرج أحمد والبيهقي عن ابن عمر مرفوعاً قال: الرؤيا الصالحة يبشر بها المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة فمن رأى ذلك فليخبر بها " (1) الحديث، وفي الباب أحاديث وقد وردت أحاديث صحيحة بأن الرؤيا الصالحة من المبشرات، وأنها جزء من أجزاء النبوة ولكنها لم تقيد بتفسير هذه الآية.
_________
(1) الإمام أحمد 2/ 219.(6/92)
وقد روي عن ابن عباس أن المراد بالبشرى في الآية هي قوله: (وبشر المؤمنين بأن لهم من الله فضلاً كبيراً) وعنه أنها قوله: (إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا) وقيل البشرى في الحياة الدنيا هي الثناء الحسن وفي الآخرة الجنة.
وعن أبي ذر قال: قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم أرأيت الرجل يعمل العمل من الخير ويحمده الناس عليه، قال: تلك عاجل بشرى المؤمن " (1) أخرجه مسلم، قال أهل العلم وهي دليل للبشرى المؤخرة في الأخرة، وهذه البشرى المعجلة دليل على رضاء الله عنه؛ وقيل غير ذلك واللفظ أوسع من ذلك.
(لا تبديل لكلمات الله) أي لا تغيير لأقواله ولا خلف لمواعيده على العموم فيدخل فيها ما وعد به عباده الصالحين دخولاً أولياً (ذلك) أي المذكور قبله من كونهم مبشرين بالبشارتين في الدارين (هو الفوز العظيم) الذي لا يقادر قدره ولا يماثله غيره، والجملتان اعتراض في آخر الكلام عند من يجوزه وفائدتهما تحقيق المبشر به وتعظيم شأنه، والأولى اعتراضية والثانية تذييلية.
_________
(1) مسلم 2642.(6/93)
وَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (65) أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (66)(6/94)
وَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (65)
(ولا يحزنك قولهم) نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الحزن من قول الكفار المتضمن للطعن عليه وتكذيبه والقدح في دينه، والمقصود تسلية له صلى الله عليه وسلم عما كان يلقاه من جهتهم من الأذية الناشئة عن مقالاتهم الموحشة، وتبشير له بأنه تعالى ينصره.
ثم استأنف سبحانه الكلام مع رسول الله صلى الله عليه وسلم معللاً لما ذكره من النهي فقال: (إن العزة لله جميعاً) أي الغلبة والقدرة والقهر له في مملكته وسلطانه، ليست لأحد من عباده، وإذا كان ذلك كله له فكيف يقدرون عليك حتى تحزن لأقوالهم الكاذبة وهم لا يملكون من الغلبة شيئاً، ولا ينافي هذا ما في سورة المنافقين (ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين) لأن كل عزة بالله فهي كلها لله حقيقة لكن قد يظهرها على يد رسوله صلى الله عليه وسلم وعلى أيدي المؤمنين تكريماً وتعظيماً لهم؛ ومنه قوله: (كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إنّا لننصر رسلنا) (هو السميع) لما يقولون (العليم) بما يدبرون ويعزمون عليه وهو مكافئهم بذلك.(6/94)
أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (66)
(ألا إن لله من في السماوات ومن في الأرض) ومن جملتهم هؤلاء المشركون المعاصرون للنبي صلى الله عليه وسلم، وإذا كانوا في ملكه يتصرف فيهم كيف يشاء فكيف يستطيعون أن يؤذوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بما لا يأذن الله به، و (ألا) كلمة تنبيه معناه أنه لا ملك لأحد فيهما إلا لله عز وجل فهو يملك ما فيهما.(6/94)
وقال في الآية الأولى (ما) وفي هذه (من) فمجموعهما دل على أن الله يملك جميع كل شيء فيهما من العقلاء وغيرهم، أو غلب العقلاء على غيرهم لكونهم أشرف: وفي الآية نعي على عباد البشر والملائكة، والجمادات لأنهم عبدوا المملوك وتركوا المالك وذلك مخالف لما يوجبه العقل، ولهذا عقبه بقوله:
(وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء) ما نافية وشركاء مفعول يتبع وعلى هذا يكون مفعول يدعون محذوفاً، والأصل وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء، شركاء في الحقيقة إنما هي أسماء لا مسميات لها، فحذف أحدهما لدلالة المذكور عليه، ويجوز أن يكون المذكور مفعول يدعون وحذف مفعول يتبع لدلالة المذكور عليه، يعني أنهم وأن سموا معبوداتهم شركاء لله فليس شركاء له على الحقيقة لأن ذلك محال (لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا).
وقيل ما استفهامية أي أيُّ شيء يتبع الذين يدعون؛ وعلى هذا شركاء منصوب بيدعون والكلام خارج مخرج التوبيخ لهم والإزراء عليهم.
وقيل موصولة، والمعنى أن الله مالك لمعبوداتهم لكونها من جملة من في السماوات ومن في الارض.
ثم زاد سبحانه في تأكيد الرد عليهم والدفع لأقوالهم فقال: (إن يتبعون إلا الظن) أي ما يتبعون يقيناً إنما يتبعون ظناً ويظنون أنهم آلهة تشفع لهم، وإن الظن لا يغنى من الحق شيئاً (وإن هم إلا يخرصون) أصل معنى الخرص الحزر بتقديم الزاي على الراء أي التخمين والتقدير، ويستعمل بمعنى الكذب لغلبته في مثله، والاسم الخرص بالكسر أي يقدرون أنهم شركاء تقديراً باطلاً وكذباً بحتاً وقد تقدمت هذه الآية في الأنعام.(6/95)
هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (67) قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (68) قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (69)
ثم ذكر سبحانه طرقاً من آثار قدرته مع الامتنان على عباده ببعض نعمه فقال:(6/96)
هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (67)
(هو الذي جعل لكمٍ الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصراً) الجعل إن كان بمعنى الإبداع والخلق فمبصرًا حال، وإن كان بمعنى التصيير فهو المفعول الثاني أي جعل لعباده الزمان منقسماً إلى قسمين أحدهما مظلم وهو الليل لأجل أن يسكن العباد فيه عن الحركة والتعب ويريحون أنفسهم عن الكد والكسب، والآخر مبصر لأجل أن يسعوا فيه بما يعود على نفعهم وتوفير معايشهم ويحصلون ما يحتاجون إليه في وقت مضيء منير لا يخفى عليهم كبير ولا حقير، وجعله سبحانه للنهار مبصراً مجاز.
والمعنى أنه مبصر صاحبه كقولهم نهاره صائم وقال قطرب: تقول العرب أظلم الليل وأبصر النهار بمعنى صار ذا ظلمة وذا ضياء، وفي الكلام شبه احتباك حيث حذف من كل ما أثبته أو مقابله في الآخر فحذف مظلماً لدلالة مبصراً عليه وحذف لتتحركوا لدلالة لتسكنوا عليه، وهذا أفصح الكلام.
(إن في ذلك) الجعل المذكور (لآيات) عجيبة كثيرة (لقوم يسمعون) ما يتلى عليهم من الآيات التنزيلية المنبهة على الآيات التكوينية مما ذكره الله سبحانه هاهنا منها ومن غيرها مما لم يذكره فعند السماع منهم لذلك يتفكرون ويعتبرون ويعلمون أن الذي خلق هذه الأشياء كلها هو الله المتفرد بالوحدانية في الوجود فيكون ذلك من أعظم أسباب الإيمان.(6/96)
قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (68)
(قالوا اتخذ الله ولداً) هذا نوع آخر من أباطيل المشركين أو أهل الكتاب التي كانوا يتكلمون بها وهو زعمهم بأن الله سبحانه اتخذ وتبنى ولداً فرد ذلك عليهم بقوله: (سبحانه) فتنزه جل وعلا عما نسبوه إليه من هذا الباطل البين وكلمتهم الحمقاء، وبين أنه (هو الغني) عن ذلك، وأن الولد إنما يطلب لأجل الحاجة، والغنى المطلق لا حاجة له حتى يكون له ولد يقضيها، وإذا انتفت الحاجة انتفى الولد، وأيضاً إنما يحتاج إلى الولد من يكون بصدد الانقراض ليقوم الولد مقامه، والأزلي القديم لا يفتقر إلى ذلك، وقد تقدم تفسير الآية في البقرة.
ثم بالغ في الرد عليهم بما هو كالبرهان فقال: (له ما في السماوات وما في الأرض) وإذا كان الكل له وفي ملكه فلا يصح أن يكون شيء مما فيهما ولداً له للمنافاة بين الملك والبنوة والأبوة.
ثم زيف دعواهم الباطلة وبين أنها بلا دليل فقال (إن) أي ما (عندكم من سلطان) حجة وبرهان (بهذا) القول الذي تقولونه ومن زائدة للتأكيد؛ ثم وبخهم على هذا القول العاطل عن الدليل الباطل عند العقلاء (أتقولون على الله ما لا تعلمون) استفهام توبيخ ويستفاد من هذا أن كل قول لا دليل عليه ليس هو من العلم في شيء بل من الجهل المحض.
ثم أمر رسوله صلى الله عليه وآله وسلم أن يقول لهم قولاً يدل على أن ما قالوه كذب، وأن من كذب على الله لا يفلح فقال:(6/97)
قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (69)
(قل إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون) أي كل مفتر هذا شأنه ويدخل فيه قائل هذا القول دخولاً أوّلياً؛ وذكر الكذب مع الافتراء للتأكيد كما سبق في مواضع من الكتاب العزيز والمعنى أن هؤلاء الذين يكذبون على ربهم لا يفوزون بمطلب من المطالب، ولا يسعدون وإن اغتروا بطول السلامة والبقاء في النعمة(6/97)
مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (70) وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ (71)
ثم بين سبحانه أن هذا الافتراء وإن فاز صاحبه بشيء من المطالب العاجلة فهو(6/98)
مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (70)
(متاع) قليل (في الدنيا) ثم يتعقبه الموت والرجوع إلى الله، فيعذب المفتري عذاباً مؤبداً، والجملة مستأنفة لبيان إن ما يحصل للمفتري بافترائه وما يتراءى فيه بحسب الظاهر من نيل المطالب والحظوظ الدنيوية بمعزل أن يكون من جنس الفلاح وليس بفائدة يعتد بها، بل هو متاع يسير في الدنيا يتعقبه الموت والعذاب الشديد بسبب الكفر الحاصل بأسباب من جملتها الكذب على الله، وليس بنافع في الآخرة، وقال الأخفش: إن التقدير لهم متاع في الدنيا، وقال الكسائي: ذلك متاع أو هو متاع.
(ثم إلينا مرجعهم) بعد الموت (ثم نذيقهم العذاب الشديد بما) أي بسبب ما (كانوا يكفرون) أي يجحدون في الدنيا من نعمة الله عليهم ويصفونه بما لا يليق بجلاله.
ولما بالغ سبحانه في تقرير البراهين الواضحة ودفع الشبه المنهارة شرع في ذكر قصص الأنبياء وما جرى لهم مع أممهم، لما في ذلك من التسلية لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والأسوة بمن سلف من الأنبياء، ولما كان قوم نوح أول الأمم هلاكاً وأعظمهم كفراً وجحوداً ذكر الله قصتهم وأنه أهلكهم بالغرق ليصير ذلك موعظة وعبرة لكفار قريش فقال:(6/98)
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ (71)
(واتل عليهم) أي على الكفار المعاصرين لك المعارضين لما جئت به بأقوالهم الباطلة (نبأ نوح) أي خبره، والنبأ هو الخبر الذي له خطر وشأن؛(6/98)
والمراد بعض ما جرى له مع قومه الذين كفروا بما جاء به كما فعله كفار قريش وأمثالهم.
(إذ) أي وقت أن (قال لقومه) اللام لام التبليغ (يا قوم إن كان كبر) أي عظم وثقل (عليكم مقامي) من باب الإسناد المجازي كقولهم ثقل عليّ ظله، والمقام بفتح الميم الموضع الذي يقام فيه، وبالضم مكان الإقامة أو الإقامة نفسها، وقد اتفق القراء هنا على الفتح.
وقرأ أبو رجاء وأبو مجلز وابن الجوزي بالضم، قال ابن عطية: ولم يقرأ هنا بالضم، وكأنه لم يطلع على قراءة هؤلاء، وكنى بالمقام عن نفسه كما يقال فعلته لمكان فلان أي لأجله، ومنه (ولمن خاف مقام ربه) أي خاف ربه، ويجوز أن يراد بالمقام المكث أي شق عليكم مكثي بين أظهركم لأنه مكث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً، ويجوز أن يراد بالمقام القيام لأن الواعظ يقوم حال وعظه.
والمعنى أن كان كبر عليكم قيامي بالوعظ في مواطن اجتماعكم (و) كبر عليكم (تذكيري) لكم (بآيات الله) التكوينية والتنزيلية (فعلى الله توكلت) أي دمت على تخصيص التوكل به تعالى، وهذه الجملة جواب الشرط، والمعنى أني لا أقابل ذلك منكم إلا بالتوكل على الله، فإن ذلك دأبي الذي أنا عليه قديماً وحديثاً، ويجوز أن يريد إحداث مرتبة مخصوصة من مراتب التوكل، ويجوز أن يكرن جواب الشرط فأجمعوا كما يأتي، قاله الأكثرون، والجملة اعتراض كقولك إن كنت أنكرت عليّ شيئاً فالله حسبي وثقتي.
وقيل (فأجمعوا أمركم) عطف على الجواب، وجزم السفاقسي بأن جوابه محذوف أي فافعلوا ما شئتم، والمعنى اعزموا عليه، من أجمع الأمر إذا نواه وعزم عليه قاله الفراء، وروي عنه أجمع الشيء أعده وقال مؤرج السدوسي: أجمع الأمر أفصح من أجمع عليه، وقال أبو الهيثم: أجمع أمره جعله جميعاً بعدما كان متفرقاً، وتفرقه أن يقول مرة أفعل كذا ومرة أفعل كذا فلما عزم على أمر واحد فقد جمعه أي جعله جميعاً.(6/99)
فهذا هو الأصل في الإجماع ثم صار بمعنى العزم والتصميم، يقال أجمع في المعاني وجمع في الأعيان وقد يستعمل كل واحد مكان الآخر، وفي التنزيل (فجمع كيده) قال ابن الأنباري: المراد من الأمر هنا وجوه كيدهم ومكرهم فالتقدير لا تدعو من أمركم شيئاً إلا أحضرتموه.
(وشركاءكم) أي ادعوهم لنصرتكم، قاله الكسائي والفراء، وقال الزجاج والفارسي: والمعنى مع شركائكم، ولم يذكر الزمخشري غير هذا، وقيل أجمعوا شركاءكم، وفي مصحف أُبَي: وادعوا شركاءكم، قال النحاس وغيره: وقراءة الرفع بعيدة، وقال المهدوي: يجوز رفع الشركاء بالابتداء والخبر محذوف أي وشركاؤكم ليجمعوا أمرهم، ونسبة ذلك إلى الشركاء مع كون الأصنام لا تعقل لقصد التوبيخ والتقريع لمن عبدها.
(ثم لا يكن أمركم عليكم غمة) أي خفياً، والغمة التغطية من قولهم غم الهلال إذا استتر أي ليكن أمركم ظاهراً منكشفاً قاله الزجاج، وقال الهيثم: معناه لا يكن أمركم مبهماً، وقيل أن الغمة ضيق الأمر، كذا روي عن أبي عبيدة.
والمعنى لا يكن أمركم عليكم بمصاحبتي والمجاملة لي ضيقاً شديداً بل ادفعوا هذا الضيق والشدة بما شئتم وقدرتم عليه، وعلى الوجهين الأولين يكون المراد بالأمر الثاني هو الأمر الأول، وعلى الثالث يكون المراد غيره، وإنما نسب عدم الستر الذي هو عدم الغمة إلى الأمر مبالغة.
(ثم اقضوا إليّ) ذلك الأمر الذي تريدونه بي؛ وأصل اقضوا من القضاء وهو الأحكام، والمعنى احكموا ذلك الأمر.
قال الأخفش والكسائي: هو مثل " وقضينا إليه ذلك الأمر " أي أنهيناه إليه وأبلغناه إياه. وقيل معناه ثم امضوا إليّ، قال النحاس: هذا قول صحيح في اللغة ومنه قضى الميت مضى. وعن بعض القراء ثم افضوا بالفاء أي توجهوا (ولا تنظرون) أي ثم لا تمهلوني ولا تؤخروني، بل عجلوا أمركم ونفذوا واصنعوا ما بدا لكم.(6/100)
فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (72) فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلَائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73) ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ (74)
وفي هذا الكلام من نوح عليه السلام ما يدل على وثوقه بنصر ربه وعدم مبالاته بما يتوعده به قومه، ثم بين لهم أن كل ما أتى به إليهم من الأعذار والإنذار وتبليغ الشريعة عن الله ليس هو لطمع دنيوي ولا لغرض خسيس فقال(6/101)
فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (72)
(فإن توليتم) أي إن أعرضتم عن العمل بنصحي لكم وتذكيري إياكم، والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها.
(فما سألتكم) في مقابلة ذلك عليه (من أجر) تؤدونه إليّ حتى تتهموني فيما جئت به والفاء جزائية (إن أجري) أي ما ثوابي في النصح والتذكير (إلا على الله) سبحانه فهو يثيبني آمنتم أو توليتم (وأمرت أن أكون من المسلمين) المنقادين لحكم الله الذين يجعلون أعمالهم خالصة لله سبحانه لا يأخذون عليها أجراً ولا يطمعون في عاجل أو من المستسلمين لكل ما يصعب من البلاء.(6/101)
فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلَائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73)
(فكذبوه) أي استمروا على تكذيبه وأصروا على ذلك. وليس المراد أحدثوا تكذيبه بعد أن لم يكن.
(فنجيناه) أي نوحاً عليه السلام (ومن معه) أي من قد أجابه وصار على دينه، وكانوا ثمانين: أربعين رجلاً وأربعين امرأة (في الفلك) أي السفينة، والمفرد على وزن قفل والجمع على وزن أسد والمراد هنا المفرد.
(وجعلناهم) أي الذين نجاهم معه في الفلك حملاً على معنى من (خلائف) جمع خليفة، والمعنى أنه سبحانه جعلهم خلفاء يسكنون الأرض(6/101)
التي كانت للمهلكين بالغرق ويخلفونهم فيها (وأغرقنا) بالطوفان (الذين كذبوا بآياتنا) من الكفار المعاندين لنوح الذين لم يؤمنوا به، تأخيره عن ذكر الإنجاء والاستخلاف حسبما وقع في قوله تعالى: (ولما جاء أمرنا نجينا شعيباً) الآية لإظهار كمال العناية بشأن المقدم ولتعجيل المسرة للسامعين وللإيذان بسبق الرحمة التي هي من مقتضيات الربوبية على الغضب الذي هو من مستتبعات جرائم المجرمين (فانظر كيف كان عاقبة المنذرين) من إهلاكهم، فكذلك نفعل بمن كذبك، فيه تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتهديد للمشركين وتهويل عليهم.(6/102)
ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ (74)
(ثم بعثنا من بعده) أي من بعد نوح عليه السلام (رسلاً إلى قومهم) لم يسم هنا من كان بعد نوح من الرسل، وقد كان بعده هود وصالح وإبراهيم ولوط وشعيب (فجاؤوهم بالبينات) أي بالمعجزات الباهرات والدلالات الواضحات وبما أرسلهم الله به من الشرائع التي شرعها لقوم كل نبي (فما كانوا ليؤمنوا) أي فما أحدثوا الإيمان بل استمروا على الكفر وأصروا عليه.
والمعنى أنه ما صح ولا استقام لقوم من أولئك الأقوام الذين أرسل الله إليهم رسله أن يؤمنوا في وقت من الأوقات (بما كذبوا به من قبل) أي من قبل تكذيبهم الواقع منهم عند مجئ الرسل إليهم، والمعنى أن كل قوم من العالم لم يؤمنوا عند أن أرسل الله إليهم الرسول المبعوث إليهم على الخصوص بما كانوا مكذبين به من قبل مجيئه إليهم، لأنهم كانوا غير مؤمنين بل مكذبين بالدين، ولو كانوا مؤمنين لم يبعث إليهم رسولاً، وهذا مبني على أن الضمير في (كانوا) و (كذبوا) راجع إلى القوم المذكورين في قوله (إلى قومهم) وقيل ضمير كذبوا راجع إلى قوم نوح، أي فما كان قوم الرسل ليؤمنوا بما كذب به قوم نوح، وقيل المعنى بما كذبوا به من قبل أي في عالم الذر.
(كذلك) أي مثل ذلك الطبع العظيم المحكم (نطبع) بنون العظمة، وقرئ بالياء على أن الضمير لله (على قلوب المعتدين) أي المتجاوزين للحدود(6/102)
ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ (75) فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ (76)
المعهودة في الكفر والعناد المتجافين عن قبول الحق وسلوك طريق الرشاد، وذلك بخذلانهم وتخليتهم وشأنهم، لانهماكهم في الغي والضلال، وقد تقدم تفسير هذا في غير موضع.(6/103)
ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ (75)
(ثم بعثنا من بعدهم) أي بعد الرسل المتقدم ذكرهم وخص (موسى وهارون) بالذكر مع دخولهما تحت الرسل لمزيد شرفهما وخطر شأن ما جرى بينهما وبين فرعون (إلى فرعون وملئه) المراد بالملأ الأشراف، هكذا قرره بعض المفسرين؛ وقرر بعضهم أن المراد بالملأ هنا مطلق القوم من استعمال الخاص في العام وهو ظاهر صنيع السيوطي في الجلالين.
(بآياتنا) أي مصحوبين بالمعجزات وهي التسع المذكورة في الكتاب العزيز (فاستكبروا) عن قبولها ولم يتواضعوا لها ولم يذعنوا لما اشتملت عليه من المعجزات الموجبة لتصديق من جاء بها، والاستكبار ادعاء الكبر من غير استحقاق، والفاء فصيحة، وقيل عن الإيمان بموسى وهارون، والأول أولى.
(وكانوا قوماً مجرمين) أي كانوا ذوي إجرام عظام وآثام كبيرة، فبسبب ذلك اجترؤوا على ردها لأن الذنوب تحول بين صاحبها وبين إدراك الحق وإبصار الصواب، قيل وهذه الجملة معترضة مقررة لمضمون ما قبلها.(6/103)
فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ (76)
(فلما جاءهم) أي فرعون وملأه (الحق) أي المعجزات التسع (من عندنا قالوا إن هذا لسحر مبين) أي لم يؤمنوا بها، بل حملوها على السحر مكابرة منهم.(6/103)
قَالَ مُوسَى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ (77) قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ (78) وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (79) فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ (80)(6/104)
قَالَ مُوسَى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ (77)
(قال موسى) أي جملاً ثلاثاً: الأولى (أتقولون للحق لما جاءكم) قيل في الكلام حذف والتقدير أتقولون للحق سحر، فلا تقولوا ذلك.
ثم استأنف إنكاراً آخر من جهة نفسه فقال: (أسحر هذا) وهي الثانية والملجئ إلى هذا أنهم لم يستفهموه عن السحر حتى يحكي ما قالوه بقوله أسحر هذا بل هم قوم قاطعون بأنه سحر لأنهم قالوا إن هذا إلا سحر مبين، فحينئذ لا يكون قوله (أسحر هذا) من قولهم. وقال الأخفش: هو قولهم، وفيه نظر لما قدمنا.
وقيل معنى أتقولون أتعيبون الحق وتطعنون فيه وكان عليكم أن تذعنوا له ثم قال (أسحر هذا) منكراً لما قالوه؛ والاستفهام للتقريع والتوبيخ بعد الجملة الأولى المستأنفة، والمعنى أتقولون للحق لما جاءكم إن هذا لسحر مبين، وهو أبعد شيء من السحر.
ثم أنكر عليهم وقرعهم ووبخهم فقال: (أسحر هذا) فجاء موسى عليه السلام بإنكار بعد إنكار وتوبيخ بعد توبيخ وتجهيل بعد تجهيل. والثالثة (ولا يفلح الساحرون) أي والحال كذا فلا يظفرون بمطلوب ولا يفوزون بخير ولا ينجون من مكروه، فكيف يقع في هذا من هو مرسل من عند الله، وقد أيده بالمعجزات والبراهين الواضحة، وحاصل السحر تمويه وتخييل وصاحب ذلك لا يفلح أبداً.(6/104)
قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ (78)
(قالوا أجئتنا لتلفتنا عما وجدنا عليه آباءنا) مستأنفة، قال مجاهد:(6/104)
لتلوينا وتصرفنا، وقال السدي: لتصدنا عن آلهتنا، وفي هذا ما يدل على أنهم انقطعوا عن الدليل وعجزوا عن إبراز الحجة، ولم يجدوا ما يجيبون به عما أورده عليهم، بل لجؤوا إلى ما يلجأ إليه أهل الجهل والبلادة، وهو الاحتجاج بما كان عليه آباؤهم من الكفر، وضموا إلى ذلك ما هو غرضهم وغاية مطلبهم وسبب مكابرتهم للحق وجحودهم للآيات البينة وهو الرياسة الدنيوية التي خافوا عليها وظنوا أنها ستذهب عنهم إن آمنوا.
وكم بقي على الباطل وهو يعلم أنه باطل بهذه الذريعة من طوائف هذا العالم في سابق الدهر ولاحقه، فمنهم من حبسه ذلك عن الخروج من الكفر، ومنهم من حبسه عن الخروج إلى السنة من البدعة وإلى الرواية الصحيحة من الرأي البحت. قال أبو السعود: استئناف بياني مسوق لبيان أنه عليه السلام ألقمهم الحجر فانقطعوا عن الإتيان بكلام له تعلق بكلامه صلى الله عليه وسلم فضلاً عن الجواب الصحيح، واضطروا إلى التشبث بذيل التقليد الذي هو دأب كل عاجز محجوج وديدن كل عاند لدود. انتهى.
واللفت والفتل أخوان وكلاهما من باب ضرب، يقال لفته لفتاً إذا صرفه عن الشيء ولواه عنه، وفي السمين: اللفت الليَّ والصرف، يقال لفته عن رأيه إذا صرفه، ولواه عنه إلى ذات اليمين أو الشمال.
وقال الأزهري: لفت الشيء وفتله لواه وهذا من المقلوب.
قلت ولا يدعي فيه قلب حتى يرجح أحد اللفظين في الاستعمال على الآخر. أي تريد أن تصرفنا عن الشيء الذي وجدنا عليه آباءنا وهو عبادة الأصنام.
(وتكون لكما) أي لموسى وهارون (الكبرياء) مصدر على وزن فعلياء ومعناها العظمة والملك والسلطان (في الأرض) أي مصر، وفيه خمسة أوجه جوزها أبو البقاء.(6/105)
" أحدها " أن يكون متعلقاً بنفس الكبرياء " الثاني " أن يتعلق بنفس تكون " الثالث " أن يتعلق بالاستقرار في لكما لوقوعه خبراً " الرابع " أن يكون حالاً من الكبرياء " الخامس " أن يكون حالاً من الضمير في لكما لتحمله إياه.
قال الزجاج: سمي الملك كبرياء لأنه أكبر ما يطلب من أمور الدنيا، وقيل سمي بذلك لأن الملك يتكبر، والحاصل أنهم عللوا عدم قبولهم دعوة موسى بأمرين: التمسك بالتقليد للآباء والحرص على الرياسة الدنيوية، لأنهم إذا أجابوا النبي وصدقوه صارت مقاليد أمر أمته إليه، ولم يبق للملك رياسة تامة لأن التدبير للناس بالدين يرفع تدبير الملوك لهم بالسياسات والعادات.
ثم قالوا (وما نحن لكما بمؤمنين) تصريحاً منهم بالتكذيب وقطعاً للطمع في إيمانهم، وقد أفردوا الخطاب لموسى في قولهم أجئتنا لتلفتنا ثم جمعوا بينه وبين هارون في الخطابين الأخيرين، ووجه ذلك أنهم أسندوا المجيء والصرف عن طريق آبائهم إلى موسى لكونه المقصود بالرسالة المبلغ عن الله ما شرعه لهم، وجمعوا بينهما في الضميرين الآخرين لأن الكبرياء شامل لهما في زعمهم، ولكن ترك الإيمان بموسى يستلزم ترك الإيمان بهارون، وقد مرت القصة في الأعراف.(6/106)
وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (79)
(وقال فرعون) لما رأى اليد البيضاء والعصا (ائتوني بكل ساحر عليم) لأنه اعتقد أنهما من السحرة فأمر قومه بأن يأتوا بكل ساحر، أراد أن يعارض معجزة موسى بأنواع من التلبيس ليظهر أن ما أتى به موسى سحر، وقد تقدم الكلام على هذا في الأعراف، وقرئ " سحَّار " على صيغة المبالغة أي كثير السحر كثير العلم بعمله وأنواعه.(6/106)
فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ (80)
(فلما جاء السحرة) في الكلام حذف أي فأتوا بهم إليه، فلما جاء السحرة (قال لهم موسى) بعد أن قالوا له اما أن تلقى وإما أن نكون نحن الملقين (ألقوا ما أنتم ملقون) أي اطرحوا على الأرض ما معكم من حبالكم وعصيكم ليظهر الحق ويبطل الباطل ويتبين أن ما أتوا به فاسد زاهق.(6/106)
فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (81) وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (82)(6/107)
فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (81)
(فلما ألقوا) ما ألقوه من ذلك الحبال والعمى (قال) لهم (موسى ما جئتم به) ما موصولة مبتدأ و (السحر) خبره، والمعنى أنه سحر لا أنه آية من آيات الله كما سماه فرعون وقومه أو هو من جنس السحر، يريهم أن حاله بين لا يعبأ به كأنه قال: ما جئتم به مما لا ينبغي أن يجاء به، وقرىء السحر على الاستفهام فما استفهامية أي شيء جئتم به أهو السحر الذي يعرف حاله كل أحد، ولا يتصدى له عاقل، وقرئ ما جئتم به سحر، وقرئ ما أتيتم به سحر، ودلالتهما على المعنى الثاني في القراءة المشهورة أظهر، وأجاز الفراء وغيره نصب السحر بجئتم وما شرطية والجزاء:
(إن الله سيبطله) على تقدير الفاء أي سيمحقه بالكلية ويهلكه فيصير باطلاً بما يظهره على يديَّ من الآيات والمعجزة فلا يبقى له أثر والسين للتأكيد: (إن الله لا يصلح عمل المفسدين) أي عمل هذا الجنس فيشمل كل من يصدق عليه أنه مفسد، ويدخل فيه السحر والسحرة دخولاً أولياً، والجملة تعليل لما قبلها أو عملكم فيكون من باب وضع المظهر موضع المضمر للتسجيل عليهم بالإفساد والإشعار بعلة الحكم.(6/107)
وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (82)
(ويحق الله الحق) أي يبينه ويوضحه (بكلماته) التي أنزلها في كتبه على أنبيائه لاشتمالها على الحجج والبراهين أو بوعده الصادق لموسى أنه يظهره أو بما سبق من قضائه وقدره لموسى أنه يغلب السحرة، أو بأوامره وأحكامه، والأول أولى.
(ولو كره المجرمون) من آل فرعون أو المجرمون على العموم ويدخل تحتهم آل فرعون دخولاً أوليا والإجرام الآثام.(6/107)
فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ (83)
فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ (83)
(فما آمن لموسى إلا ذرية) اسم يقع على القليل من القوم، وقيل المراد به التصغير وقلة العدد (من قومه) أي من قوم موسى، وهم طائفة من ذراري بني إسرائيل، وقيل المراد طائفة من ذراري فرعون فيكون الضمير عائداً على فرعون. قيل ومنهم مؤمن آل فرعون وامرأته وماشطة ابنته وامرأة خازنه. وقيل هم قوم آباؤهم من القبط وأمهاتهم من بني إسرائيل.
روي هذا عن الفراء، كما يقال لأولاد فارس الذين نقلوا إلى اليمن الأبناء لأن أمهاتهم من غير جنس الآباء.
(على) أي مع (خوف من فرعون وملئهم) الضمير لفرعون وجمع لأنه لما كان جباراً جمعوا ضميره تعظيماً له.
وقيل أن قوم فرعون سموا فرعون مثل ثمود فرجع الضمير إليهم بهذا الاعتبار، وقيل أنه عائد على مضاف محذوف أي على خوف من آل فرعون روي هذا عن الفراء ومنعه الخليل وسيبويه، وروي عن الأخفش أن الضمير يعود على الذرية وقواه النحاس.
(أن يفتنهم) أي يصرفهم عن دينهم بالعذاب الذي كان ينزله بهم وهو بدل اشتمال أو مفعول للمصدر أو مفعول له بعد حذف اللام والضمير عائد لفرعون وأفرد، ولم يقل أن يفتنوهم أي فرعون والملأ للدلالة على أن الخوف من الملأ كان بسبب فرعون وتجبره من حيث استعانتهم به.
(وإن فرعون لعال في الأرض) أي عات متكبر متغلب على أرض مصر اعتراض تذييلي مؤكد لمضمون ما سبق (وإنه لمن المسرفين) المجاوزين للحد في الكفر وما يفعله من القتل والصلب وتنويع العقوبات أو لأنه كان عبداً فادعى الربوبية.(6/108)
وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (84) فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (85) وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (86)(6/109)
وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (84)
(وقال موسى يا قوم) تطميناً لقلوبهم وإزالة للخوف عنهم، وسماهم قومه من حيث إيمانهم به وإلا فهم من قوم فرعون أو المراد به بنو إسرائيل أو مطلق من آمن به ولو من القبط (إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين) قيل أن هذا من باب التكرير للشرط فشرط في التوكل على الله الإيمان به والإسلام أي الاستسلام لقضائه وقدره، وبه قال الكرخي.
وقيل أن هذا ليس من تعليق الحكم بشرطين بل المعلق بالإيمان هو وجوب التوكل والمشروط بالإسلام حصوله ووجوده فإنه لا يوجد مع التخليط، والمعنى أن يسلموا أنفسهم لله أي يجعلوها له سالمة خالصة لا حظ للشيطان فيها لأن التوكل لا يكون مع التخليط، قال الكازروني: المعنى إن كنتم آمنتم وجب عليكم التوكل وإن كنتم مسلمين توكلتم عليه.(6/109)
فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (85)
(فقالوا) أي قوم موسى مجيبين له (على الله توكلنا) أي اعتمدنا لا على غيره ثم دعوا الله مخلصين فقالوا (ربنا لا تجعلنا فتنة) أي موضع فتنة (للقوم الظالمين) والمعنى لا تسلطهم علينا فيعذبونا حتى يفتنونا عن ديننا، قاله مجاهد أو لا تجعلنا فتنة لهم يفتنون بنا غيرنا فيقولون لهم لو كان هؤلاء على حق لما سلطنا عليهم وعذبناهم، قاله مجاهد أيضاً وعلى المعنى الأول تكون الفتنة بمعنى المفتون.
ولما قدموا التضرع إلى الله سبحانه أن يصون دينهم عن الفساد أتبعوه بسؤال عصمة أنفسهم فقالوا:(6/109)
وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (86)
(ونجنا برحمتك من القوم الكافرين) أي من أيديهم، وفي هذا دليل على أنه كان لهم اهتمام بأمر الدين فوق اهتمامهم بسلامة أنفسهم.(6/109)
وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (87) وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (88)(6/110)
وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (87)
(وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تبَوءا لقومكما بمصر بيوتاً) قيل هي الإسكندرية، وقيل هي مصر المعروفة لا الإسكندرية، وأن هي المفسرة لأن في الإيحاء معنى القول أي اتخذوا لقومكما يقال بوأت زيداً مكاناً وبوأت لزيد مكاناً، والمبوأ المنزل الملزوم، ومنه بَوَّأَهُ الله منزلاً أي ألزمه إياه وأسكنه فيه، ومنه حديث " من كذب عليّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار " (1) والتبوء النزول والرجوع؛ واللام زائدة أي بوآ قومكما، وقيل غير زائدة.
(واجعلوا بيوتكم قبلة) أي متوجهة إلى جهة القبلة، قال قتادة: ذلك حين منعهم فرعون الصلاة فأمروا أن يجعلوا مساجدهم في بيوتهم وأن يوجهوها نحو القبلة، وعن مجاهد قال: كانوا لا يصلون إلا في البيع حتى خافوا من آل فرعون فأمروا أن يصلوا في بيوتهم، وعن ابن عباس نحوه، وقيل المراد بالبيوت هنا المساجد، وإليه ذهب جماعة من السلف، وقيل التي يسكنون فيها أمروا بأن يجعلوها مقابلة بعضها بعضاً.
والمراد بالقبلة على القول الأول هي جهة بيت المقدس وهو قبلة اليهود إلى اليوم، وقيل جهة الكعبة وأنها كانت قبلة موسى ومن معه، قال أبو سنان: إن آدم فمن بعده كانوا يصلون قبل الكعبة، وظاهر القرآن لا يدل على
_________
(1) مسلم 3 - البخاري 94.(6/110)
تعيينها، وقيل أنهم يجعلون بيوتهم مستقبلة للقبلة ليصلوا فيها سراً لئلا يصيبهم من الكفار معرة بسبب الصلاة.
ومما يؤيد هذا قوله (وأقيموا الصلاة) أي التي أمركم الله بإقامتها فإنه يفيد أن القبله هي قبلة الصلاة إما في الساجد أو في البيوت لا جعل البيوت متقابلة وقيل أمر الله موسى وهارون وقومهما باتخاذ الساجد على رغم الأعداء وتكفل بأن يصونهم عن شر الأعداء، ذكره الخطيب، وإنما جعل الخطاب في أول الكلام مع موسى وهارون ثم جعله لهما ولقومهما في قوله (واجعلوا) و (أقيموا) ثم أفرد موسى بالخطاب بعد ذلك فقال (وبشر المؤمنين) أي بالنصر والجنة لأن اختيار المكان مفوض إلى الأنبياء، ثم جعل عاماً في استقبال القبلة وإقامة الصلاة لأن ذلك واجب على الجميع لا يختص بالأنبياء ثم جعل خاصاً بموسى لأنه الأصل في الرسالة وهارون تابع له فكان ذلك تعظيماً للبشارة وللمبشر بها.
وقيل أن الخطاب في (وبشر المؤمنين) لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم على طريقة الالتفات والاعتراض والأول أولى.(6/111)
وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (88)
(و) لما بالغ موسى عليه السلام في إظهار المعجزات وإقامة الحجج البينات ولم يكن لذلك تأثير فيمن أرسل إليهم، دعا عليهم بعد أن بين سبب إصرارهم على الكفر وتمسكهم بالجحود والعناد (قال موسى) مبيناً للسبب أولاً (ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالاً في الحياة الدنيا) قد تقدم أن الملأ هم الأشراف، والزينة اسم لكل ما يتزين به من ملبوس ومركوب وحلية وفراش وسلاح وغير ذلك، والمال ما زاد على هذه الأشياء من الصامت ونحوه.
ثم كرر النداء للتأكيد فقال (ربنا ليضلوا عن سبيلك) قال الخليل(6/111)
وسيبويه: أنها لام العاقبة والصيرورة، والمعنى أنه لما كان عاقبة أمرهم الضلال صار كأنه سبحانه أعطاهم ما أعطاهم من النعم ليضلوا، وقيل أنها لام كي؛ قاله الفراء: أي أعطيتهم لكي يضلوا، وقال قوم أن المعنى أعطيتهم ذلك لئلا يضلوا فحذفت لا، كما قال سبحانه (يبين الله لكم أن تضلوا).
قال النحاس: ظاهر هذا الجواب حسن إلا أن العرب لا تحذف لا إلا مع أن فموَّه صاحب هذا التأويل بالاستدلال بقوله تعالى المتقدم، وقيل اللام للدعاء عليهم، والمعنى إِبتلهِمْ بالهلاك عن سبيلك، قاله ابن الأنباري واستدل بقوله سبحانه بعد هذا (اطمس) و (اشدد) وإليه ذهب الحسن البصري، وقيل أنها لام العلة والمعنى إنك آتيتهم ما آتيتهم على سبيل الاستدراج فكان الإيتاء لهذه العلة.
وقد أطال صاحب الكشاف في تقرير هذا بما لا طائل تحته، والقول الأول هو الأولى، وقرئ ليضلوا بضم الياء أي يوقعوا الإضلال على غيرهم، وقرأ الباقون بالفتح أي يضلون في أنفسهم.
(ربنا اطمس على أموالهم) أي امسخها وأزل صورها، قال الزجاج: طمس الشيء إذهابه عن صورته وإزالة أثر الشيء بالمحو. قال مجاهد: أهلكها، وقال أكثر المفسرين أمسخها وغيرها عن هيئاتها، والمعنى الدعاء عليهم بأن يمحق الله أموالهم ويهلكها.
وقرئ بضم الميم من (اطمُس) وقد روي عن قتادة أن أموالهم وحروثهم وزروعهم وجواهرهم ودراهمهم ودنانيرهم تحولت حجارة منقوشة كهيئتها صحاحاً وأنصافاً وأثلاثاً. قيل أن عمر بن عبد العزيز دعا بخريطة فيها شيء من بقايا آل فرعون فأخرج منها البيضة منقوشة والجوزة مشقوقة وهي حجارة.(6/112)
قال السدي: مسخ الله أموالهم حجارة والنخل والثمار والدقيق والأطعمة، وقال القرظي: صارت صورهم حجارة، وفيه ضعف لأن موسى دعا على أموالهم ولم يدع على أنفسهم بالمسخ، وهذا الطمس هو أحد الآيات التسع التي أوتيها موسى عليه السلام.
(واشدد على قلوبهم) أي اربط عليها واجعلها قاسية مطبوعة حتى لا تقبل الحق ولا تنشرح للإيمان ولا تلين، قال الواحدي: وهذا دليل على أن الله تعالى يفعل ذلك لمن يشاء، ولولا ذلك لما جسر موسى على هذا السؤال.
(فلا يؤمنوا) أي آتيتهم النعم ليضلوا ولا يؤمنوا، قاله المبرد والزجاج، وقال الفراء والكسائي وأبو عبيدة: هو دعاء بلفظ النهي والتقدير، اللهم فلا يؤمنوا. وقال الأخفش: أنه جواب الأمر أي اطمس واشدد فلا يؤمنوا (حتى يروا العذاب الأليم) أي فلا يحصل منهم الإيمان إلا مع المعاينة لما يعذبهم الله به وعند ذلك لا ينفع إيمانهم، قال ابن عباس العذاب هو الغرق.
وقد استشكل بعض أهل العلم ما في هذه الآية من الدعاء على هؤلاء وقال: إن الرسل إنما تطلب هداية قومهم وإيمانهم، وأجيب بأنه لا يجوز لنبي أن يدعو على قومه إلا بإذن الله سبحانه، وإنما يأذن الله بذلك لعلمه بأنه ليس فيهم من يؤمن، ولهذا لما أعلم الله نوحاً عليه السلام بأنه لن يؤمن من قومه إلا من قد آمن قال: (رب لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً).(6/113)
قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (89) وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90) آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91)(6/114)
قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (89)
(قال) الله تعالى (قد أجيبت دعوتكما) جعل الدعوة هاهنا مضافة إلى موسى وهارون، وفيما تقدم أضافها إلى موسى وحده، فقيل إن هارون كان يؤمِّن على دعاء موسى فسمى هاهنا داعياً وإن كان الداعي موسى وحده، ففي أول الكلام أضاف الدعاء إلى موسى لكونه الداعي، وهاهنا أضافه إليهما تنزيلاً للمؤمن منزلة الداعي.
ويجوز أن يكونا جميعاً داعيين، ولكن أضاف الدعاء إلى موسى في أول الكلام لإصالته في الرسالة. قال النحاس: سمعت علي بن سليمان يقول: الدليل على أن الدعاء لهما قول موسى ربنا ولم يقل رب، وقرئ دعاؤكما ودعواكما. قال ابن عباس: فاستجاب له وحال بين فرعون وبين الإيمان، ويزعمون أن فرعون مكث بعد هذه الدعوة أربعين سنة لحكمة يعلمها هو، وعن ابن جريج ومجاهد نحوه (فاستقيما) أي امضيا لأمري ودوما على الاستقامة، قاله ابن عباس، والاستقامة الثبات على ما هما عليه من الدعاء إلى الله.
قال الفراء وغيره: أمرا بالاستقامة على أمرهما والثبات عليه وعلى دعاء فرعون وقومه إلى الإيمان إلى أن يأتيهما تأويل الإجابة أربعين سنة ثم أهلكوا، وقيل معنى الاستقامة ترك الاستعجال ولزوم السكينة والرضاء والتسليم لما يقضي الله به سبحانه.
(ولا تتبعان) قرئ بتشديد النون للتأكيد وبتخفيفها على النفي لا على(6/114)
النهي أو أنه نفي في معنى النهي أي لا تسلكا (سبيل الذين لا يعلمون) حكمة تأخير المطلوب، نهاهما عن سلوك طريقة من لا يعلم بعبادة الله سبحانه في إجراء الأمور على ما تقتضيه المصالح تعجيلاً وتأجيلاً، وقيل أنه خبر محض مستأنف لا تعلق له بما قبله، والمعنى أنهما أخبرا بأنهما لا يتبعان، وأما تشديد التاء وتخفيفها فلغتان من أتبع يتبع، وتبع يتبع وهما بمعنى واحد، يقال تبعه أي مشى خلفه واتبعه كذلك إلا أنه حاذاه في المشي واتبعه لحقه.
قال الرازي: وهذا النهي لا يدل على أن ذلك قد صدر من موسى وهارون كما أن قوله (لئن أشركت ليحبطن عملك) لا يدل على صدور الشرك منه.(6/115)
وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90)
(وجاوزنا ببني إسرائيل البحر) هو من جاوز المكان إذا خلفه وتخطاه، والباء للتعدية أي جعلناهم مجاوزين البحر حتى بلغوا الشط، لأن الله سبحانه جعل البحر يبساً فمروا فيه حتى خرجوا منه إلى البر، والمراد بحر القلزم وهو بحر السويس وكانوا ستمائة ألف، قاله الخطيب.
وفي الخازن قال أهل التفسير: اجتمع يعقوب وبنوه إلى يوسف وهم اثنان وتسعون وخرج بنوه مع موسى من مصر في الوقت المعلوم وهم ستمائة ألف، وقد تقدم تفسير هذا في سورة البقرة في قوله سبحانه (وإذ فرقنا بكم البحر) وقرأ الحسن وجوزنا وهما لغتان والآية دليل على خلق الأفعال.
(فأتبعهم فرعون وجنوده) يقال تبع وأتبع بمعنى واحد إذا لحقه. قال الأصمعي: يقال تبعه بقطع الألف إذا لحقه وأدركه، واتبعه بوصل الألف إذا اتبع أثره أدركه أو لم يدركه، وكذا قال أبو زيد، وقال أبو عمرو: اتبعه بالوصل اقتدى به، وفي المختار تبعه من باب طرب إذا مشى خلفه أو مر به فمضى معه، وكذا اتبعه وهو افتعل، واتبعه على افعل إذا كان قد سبقه فلحقه؛ وقال الأخفش: تبعه وأتبعه بمعنى مثل ردفه وأردفه.
(بغياً) ظلماً (وعدوا) اعتداء، أي لأجلهما أو باغين معتدين، وقرأ(6/115)
الحسن عدواً بضم العين والدال وتشديد الواو، وقيل أن البغي الاستعلاء في القول بغير حق، والعدو في الفعل، قال عكرمة: العدو والعتو والعلو في كتاب الله التجبر.
(حتى إذا أدركه الغرق) أي ناله ووصله وألجمه غاية لاتباعه، وذلك أن موسى خرج ببني إسرائيل على حين غفلة من فرعون، فلما سمع فرعون بذلك لحقهم بجنوده ففرق الله البحر لموسى وبني إسرائيل فمشوا فيه حتى خرجوا من الجانب الآخر، وتبعهم فرعون والبحر باق على الحالة التي كان عليها عند مضي موسى ومن معه، فلما تكامل دخول جنود فرعون وكادوا أن يخرجوا من الجانب الآخر انطبق عليهم فغرقوا كما حكى الله سبحانه ذلك.
(قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل) أي صدقت، ولم ينفعه هذا الإيمان لأنه وقع منه بعد إدراك الغرق له كما تقدم في النساء، ولم يقل اللعين آمنت بالله أو برب العالمين، بل قال ما تقدم لأنه بقي فيه عرق من دعوى الإلهية (وأنا من المسلمين) أي المستسلمين لأمر الله المنقادين له الذين يوحدونه وينفون ما سواه.
فإن قيل إنه آمن ثلاث مرات كما في هذه الآية فما السبب في عدم القبول؟.
قيل إنه آمن عند نزول العذاب، والإيمان والتوبة عنده غير مقبول، ويدل عليه قوله تعالى: (فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا) وأن الإيمان إنما يتم بالإقرار بالتوحيد والنبوة، وفرعون لم يقر بالنبوة فلم يصح إيمانه، وقيل غير ذلك، ذكره الخطيب.
أخرج أحمد والترمذي وحسنه وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم(6/116)
والطبراني وابن مردويه عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أغرق الله فرعون فقال: آمنت. الآية. قال جبريل: يا محمد لو رأيتني وأنا آخذ من حال البحر فأدسه في فيه مخافة أن تدركه الرحمة " (1) والمعنى دس جبريل في فيه بأمر الله فلا اعتراض عليه.
وقد روى هذا الحديث الترمذي من غير وجه وقال صحيح حسن غريب، وصححه أيضا الحاكم عن ابن عباس من طرق أخرى وإسناده على شرط البخاري، وليس في رواتهما متهم وإن كان فيهم من هو سيء الحفظ فقد تابعه عليه غيره. وقد أطال الخازن في جواب ما اعترض به الرازي وأشكله في هذا الحديث بما يطول ذكره.
وأخرج الطبراني في الأوسط عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال لي جبريل: ما كان على الأرض -يعني أبغض إليّ- من فرعون فلما آمن جعلت أحشو فاه حمأة وأنا أعطه خشية أن تدركه الرحمة.
وأخرج ابن مردويه عن ابن عمر مرفوعاً نحوه، وأبو الشيخ عن أبي أمامة نحوه أيضاً، وفي إسناد حديث أبي هريرة رجل مجهول وباقي رجاله ثقات. والعجب كل العجب ممن لا علم له بفن الرواية من المفسرين، ولا يكاد يميز بين أصح الصحيح من الحديث وأكذب الكذب منه، كيف يتجارى على الكلام في أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، والحكم ببطلان ما صح منها؛ ويرسل لسانه وقلمه بالجهل البحت، والقصور الفاضح الذي يضحك منه كل من له أدنى ممارسة بفن الحديث. فيا مسكين ما لك ولهذا الشأن الذي لست فيه في شيء، ألا تستر نفسك وتربع على ضلعك وتعرف بأنك بهذا العلم من أجهل الجاهلين، وتشتغل بما هو علمك الذي لا تجاوزه وحاصلك الذي ليس لك غيره، وهو علم اللغة وتوابعه من العلوم الآلية.
_________
(1) الإمام أحمد 1/ 245.(6/117)
ولقد صار صاحب الكشاف عفا الله عنه بسبب ما يتعرض له في تفسيره من علم الحديث الذي ليس هو منه في ورد ولا صدر سخرة للساخرين، وعبرة للمعتبرين، فتارة يروي في كتابه الموضوعات وهو لا يدري أنه منها، وتارة يتعرض لرد ما صح ويجزم بأنه من الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم والبهت عليه، وقد يكون في الصحيحين وغيرهما مما يلتحق بهما من رواية جماعة من الصحابة بأسانيد كلها أئمة ثقات حجج إثبات.
وأدنى نصيب من عقل يحجر صاحبه عن التكلم في علم لا يعلمه ولا يدري به أقل دراية، وإن كان ذلك العلم من علوم الاصطلاح التي يتواضع عليها طائفة من الناس، ويصطلحون على أمور فيما بينهم، فما بالك بعلم السنة الذي هو قسم كتاب الله، وقائله رسول الله صلى الله عليه وسلم وراويه عنه خير القرون ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، وكل حرف من حروفه وكلمة من كلماته يثبت بها شرع عام لجميع أهل الإسلام.(6/118)
آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91)
(آلآن) أي فقيل له أتؤمن من الآن، وقد اختلف من القائل لفرعون بهذه المقالة، فقيل هي من قول الله سبحانه، وقيل من قول جبريل، وقيل من قول ميكائيل وقيل من قول فرعون قال ذلك في نفسه لنفسه، والمعنى إنكار الإيمان منه عند أن ألجمه الغرق، والمقصود التقريع والتوبيخ له، قال ابن عباس: لم يقبل الله إيمانه عند نزول العذاب به وقد كان في مهل، والإيمان والتوبة عند اليأس لا يقبل (وقد عصيت قبل) تأكيد لهذا المقصود، والجملة حالية أي وقد أيست من نفسك ولم يبق لك اختيار، والإيمان في هذه الحالة لا يفيد، يعني آلآن تتوب وقد ضيعت التوبة في وقتها وآثرت دنياك الفانية على الآحمرة الباقية (وكنت من المفسدين) في الأرض بضلالك عن الحق وإضلالك لغيرك.(6/118)
فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ (92) وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (93)(6/119)
فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ (92)
(فاليوم ننجيك) أي نخرجك من البحر ونلقيك على الشط، وذلك أن بني إسرائيل لم يصدقوا أن فرعون غرق وقالوا هو أعظم شأناً من ذلك فألقاه الله على نجوة من الأرض أي مكان مرتفع حتى شاهدوه أحمر قصيراً كأنه ثور، ثم أعاده إلى البحر ثانياً، فمن ذلك الوقت لا يقبل الماء ميتاً أبداً، قاله الخازن، وقيل المعنى نخرجك مما وقع فيه قومك من الرسوب في قعر البحر ونجعلك طافياً ليشاهدوك ميتاً بالغرق، وقرئ بالحاء المهملة من التنحية، أي نطرحك على ناحية من الأرض.
وقد اختلف المفسرون في معنى (ببدنك) فقيل معناه بجسدك بعد سلب الروح منه لا كما هو مطلوبك فهو تخييب له وحسم لطمعه، والباء للمصاحبة، وقيل معناه بدرعك والدرع تسمى بدناً، والأبدان الدروع، قاله أبو عبيدة، ورجح الأخفش الأول. وقرأ أبو حنيفة رحمه الله بأبدانك وهو مثل قولهم هو بأجرامه أي ببدنك كله وافياً بأجزائه، وقيل عرياناً لا شيء عليه، وقيل الباء سببية لأن بدنه سبب في تنجيته.
(لتكون لمن خلفك آية) هذا تعليل لتنجيته ببدنه، وفي ذلك دليل على أنه لم يظهر جسده دون قومه إلا لهذه العلّة لا سوى، والمراد بالآية العلامة، أي لتكون علامة يعرفون بها هلاكك وإنك لست كما تدعي ويندفع عنهم الشك في كونك قد صرت ميتاً بالغرق.
وقيل المراد ليكون طرحك على الساحل وحدك دون المغرقين من قومك(6/119)
آية من آيات الله يعتبر بها الناس أو يعتبر بها من سيأتي من الأمم إذا سمعوا ذلك حتى يحذروا من التكبر والتجبّر والتمرد على الله سبحانه فإن هذا الذي بلغ إلى ما بلغ إليه من دعوى الإلهية واستمر على ذلك دهراً طويلاً كانت له هذه العاقبة القبيحة.
وقرئ لمن خلفك على صيغة الماضي، أي لمن يأتي بعدك من القرون أو من خلفك في الرياسة أو في السكون في المسكن الذي كنت تسكنه، وهذا آخر مقول جبريل عليه السلام.
(وإن كثيراً من الناس عن آياتنا) التي توجب الاعتبار والتفكر وتوقظ من سنة الغفلة (لغافلون) عما توجبه تلك الآيات، وهذه الجملة تذييلية جيء بها عقب الحكاية تقرير الكلام المحكى.(6/120)
وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (93)
(ولقد بوأنا بني إسرائيل مبوأ صدق) هذا من جملة ما عدده الله سبحانه من النعم التي أنعمها عليهم، ومعنى بوأنا أسكنا يقال بوأت زيداً منزلاً أسكنته فيه، والمبوأ اسم مكان أو مصدر، وإضافته إلى الصدق على ما جرت عليه قاعدة العرب فإنهم كانوا إذا مدحوا شيئاً أضافوه إلى الصدق، والمراد به هنا المنزل المحمود الصالح المختار المرضي، قيل هو أرض مصر، قاله الضحاك، وقيل جميع ما كان تحت أيدي فرعون وقومه من ناطق وصامت وزرع وغيره، وقيل الأردن وفلسطين، وقيل الشام قاله قتادة، وقيل بيت المقدس لأنها بلاد الخصب والخير والبركة.
(ورزقناهم من الطيبات) أي المستلذات من الرزق (فما اختلفوا) في أمر دينهم وتشعبوا فيه شعباً بعدما كانوا على طريقة واحدة غير مختلفة (حتى جاءهم العلم) أي لم يقم منهم هذا الاختلاف في الدين إلا بعد ما جاءهم(6/120)
العلم بقراءتهم التوراة وعلمهم بأحكامها وما اشتملت عليه من الأخبار بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم.
وقيل العلم هو القرآن المنزل على نبينا صلى الله عليه وآله وسلم فاختلفوا فيه وفي صفته وآمن به من آمن منهم، وكفر به من كفر، قال ابن زيد: يعني كتاب الله الذي أنزله وأمره الذي أمرهم به، وإنما سمي القرآن علماً لأنه سبب العلم، فيكون المراد بالمختلفين على القول الأول هم اليهود بعد أن أنزلت عليهم التوراة وعلموا بها، وعلى القول الثاني هم اليهود المعاصرون لمحمد صلى الله عليه وسلم، وقد روي في الحديث أن اليهود اختلفوا على إحدى وسبعين فرقة وأن النصارى اختلفوا على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة (1) وهو في السنن والمسانيد، والكلام فيه يطول.
(إن ربك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون) من أمر الدين بإنجاء المؤمنين وتعذيب الكافرين فيجازي المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته، والحق بعمله بالحق، والمبطل بعمله بالباطل.
_________
(1) الإمام أحمد، 2/ 332 نحوه. وقد ألف العلماء الكثير من الكتب حول ماهية هذه الفرق وبعضهم كتب وعَدَّ الفرق الضالة، انظر مثلاً كتاب (الفَرْقُ بين الفِرقْ) للبغدادي.(6/121)
فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (94) وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (95)(6/122)
فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (94)
(فإن كنت) يا محمد (في شك) هو في أصل اللغة ضم الشيء بعضه إلى بعض، ومنه شك الجوهر في العقد والشاك كأنه يضم إلى ما يتوهمه شيئاً آخر خلافه فيتردد ويتحير، والخطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، والمراد غيره كما ورد في القرآن في غير موضع.
وعن ابن عباس قال: لم يشك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولم يسأل ونحوه عن سعيد بن جبير والحسن البصري وعن قتادة قال: ذكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا أشك ولا أسأل وهو مرسل.
(مما) أي في شك ناشئ مما (أنزلنا اليك) بأن تشك فيه، ومن للابتداء أو أنها بمعنى في من أول الأمر، قال القاضي عياض في الشفاء: احذر ثبت الله قلبك أن يخطر ببالك ما ذكره بعض المفسرين من إثبات شك النبي (- صلى الله عليه وسلم -) فيما أوحى إليه فمثل هذا لا يجوز عليه اهـ.
وقال ثعلب والمبرد: أي قل يا محمد للكافر فإن كنت في شك (فاسأل الذين يقرأون الكتاب من قبلك) يعني مسلمي أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وأمثاله وقد كان عبدة الأوثان يعترفون لليهود بالعلم ويقرون بأنهم اعلم منهم، فأمر الله سبحانه نبيه أن يرشد الشاكين فيما أنزله الله إليه من القرآن أن يسألوا أهل الكتاب الذين قد أسلموا فإنهم سيخبرونهم بأنه كتاب الله حقا، وأن هذا رسوله وأن التوراة شاهدة بذلك ناطقة به فإن ذلك محقق عندهم ثابت في كتبهم، والمراد إظهار نبوته عليه السلام بشهادة الأخبار، وفي هذا الوجه مع حسنه مخالفة للظاهر.(6/122)
قال الزجاج: إن الله خاطب الرسول وهو شامل للخلق، وهذا وجه حسن أيضاً لكن فيه بعد لأن الرسول متى كان داخلاً في هذا الخطاب كان الإيراد موجوداً، والاعتراض وارداً.
ْوقيل أن في قوله (فإن) للنفى أي ما أنت في شك حتى تسأل وهذا أبعد.
وقال القتيبي: المراد بهذه الآية من كان من الكفار غير قاطع بتكذيب النبي صلى الله عليه وسلم ولا بتصديقه بل كان في شك، وقيل المراد بالخطاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا غيره والمعنى لو كنت ممن يلحقه الشك فيما أخبرناك به فسألت أهل الكتاب لأزالوا عنك الشك، وقيل الشك هو ضيق الصدر أي إن ضاق صدرك بكفر هؤلاء فاصبر واسأل يخبرونك بصبر من قبلك من الأنبياء على أذى قومهم.
وقيل معنى الآية الفرض والتقدير كأنه قال له فإن وقع لك شك مثلاً وخيل لك الشيطان خيالاً منه تقديراً، فاسأل فإنهم سخبرونك عن نبوءتك وما نزل عليك، ويعترفون بذلك لأنهم يجدونه مكتوباً عندهم، وقد زال فيمن أسلم منهم ما كان مقتضياً للكتم عندهم.
(لقد) أي اقسم لقد (جاءك الحق من ربك) وفي هذا بيان ما يقلع الشك من أصله ويذهب به بجملته، وهو شهادة الله سبحانه بأن هذا الذي وقع الشك فيه على اختلاف التفاسير في الشاك هو الحق الذي لا يخالطه باطل ولا تشوبه شبهة.
ثم عقبه بالنهي للنبي صلى الله عليه وسلم عن الامتراء فقال (فلا تكونن من الممترين) فيما أنزل الله عليه بل تستمر على ما أنت عليه من اليقين وانتفاء الشك، ويمكن أن يكون هذا النهي له تعريضاً لغيره كما في مواطن من الكتاب العزيز، وهكذا القول في نهيه صلى الله عليه وسلم عن التكذيب في قوله تعالى(6/123)
وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (95)
(ولا تكونن من الذين كذبوا بآيات الله) فإن الظاهر فيه التعريض(6/123)
إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ (96) وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (97) فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (98) وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99)
ولا سيما بعد تعقيبه بقوله (فتكون من الخاسرين) وفي هذا التعريض من الزجر للممترين والمكذبين ما هو أبلغ وأوقع من النهي لهم أنفسهم، لأنه إذا كان ينهى عنه من لا يتصور صدوره عنه فكيف بمن يمكن منه ذلك.(6/124)
إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ (96)
(إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون) قد تقدم مثله في هذه الصورة والمعنى أنه حق عليهم قضاء الله وقدره بأنهم يصرون على الكفر ويموتون عليه، لا يقع منهم الإيمان بحال من الأحوال وإن وقع منهم ما صورته صورة الإيمان كمن يؤمن منهم عند معاينة العذاب فهو في حكم العدم، قال مجاهد: حق عليهم سخط الله بما عصوه، وقيل لعنة الله، وقيل الكلمة هي قوله " خلقت هؤلاء للنار ولا أبالي "(6/124)
وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (97)
(ولو جاءتهم كل آية) من الآيات التكوينية والتنزيلية فإن ذلك لا ينفعهم لأن الله سبحانه قد طبع على قلوبهم وحق منه القول عليهم (حتى يروا العذاب الأليم) فيقع منهم ما صورته صورة الإيمان وليس بإيمان، ولا يترتب عليه شيء من أحكامه.(6/124)
فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (98)
(فلولا كانت قرية آمنت) لولا هذه هي التحضيضية التي بمعنى هلا، كما قال الأخفش والكسائي وغيرهما، ويدل على ذلك ما في مصحف أبَيّ وابن(6/124)
مسعود (فهلا قرية) وفي هذا التحضيض معنى التوبيخ والنفي فوبخ الله أهل القرى المهلكة قبل يونس على عدم إيمانهم قبل نزول العذاب بهم، والمعنى فهلا قرية واحدة من هذه القرى التي أهلكناها آمنت إيماناً معتداً به نافعاً وذلك بأن يكون خالصاً لله قبل معاينة عذابه ولم تؤخره كما أخره فرعون.
(فنفعها إيمانها) في حال اليأس (إلا قوم يونس) استثناء منقطع من القرى لأن المراد أهلها، والمعنى لكن قوم يونس، وقد قال بأن هذا الاستثناء منقطع جماعة من الأئمة منهم الكسائي والأخفش والفراء، وقيل متصل، والجملة في معنى النفي، كأنه قيل ما آمنت قرية من القرى الهالكة إلا قوم يونس، قال ابن جرير: خص قوم يونس من بين الأمم بأن تيب عليهم من بعد معاينة العذاب، وحكى ذلك عن جماعة من المفسرين.
وقال الزجاج: أنه لم يقع العذاب وإنما رأوا العلامة التي تدل على العذاب، ولو رأوا عين العذاب لما نفعهم الإيمان، وهذا أولى من قول ابن جرير.
(لما آمنوا) إيماناً معتداً به قبل معاينة العذاب حين رؤية أَماراته أو عند أول المعاينة قبل حلوله بهم (كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا) هو العذاب الذي كان قد وعدهم يونس أنه سينزل عليهم ولم يروه أو الذي قد رأوا علاماته دون عينه (ومتعناهم إلى حين) أي بعد كشف العذاب عنهم متعهم الله في الدنيا إلى حين معلوم قدره لهم أي إلى وقت انقضاء آجالهم.
قال قتادة: لم يكن هذا في الأمم قبل قوم يونس لم ينفع قرية كفرت ثم آمنت حين عاينت العذاب إلا قوم يونس، وذكر لنا أن قومه كانوا بنينوى من أرض الموصل فلما فقدوا نبيهم قذف الله في قلوبهم التوبة، وبحث في ذلك الزجاج فقال: أنه لم يقع بهم العذاب وإنما رأوا علامته ولو رأوا عين العذاب لما نفعهم الإيمان.(6/125)
قال القرطبي: وهو كلام حسن فإن المعاينة التي لا ينفع معها الإيمان هي التلبس بالعذاب كقصة فرعون.
وأخرج ابن مردويه عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن يونس دعا قومه فلما أبوا أن يجيبوه وعدهم العذاب فقال: إنه يأتيكم يوم كذا وكذا ثم خرج عنهم، وكانت الأنبياء إذا وعدت قومها العذاب خرجت، فلما أظلهم العذاب خرجوا ففرقوا بين المرأة وولدها والسخلة وولدها، وخرجوا يعجون إلى الله، وعلم الله منهم الصدق فتاب عليهم وصرف عنهم العذاب وقعد يونس في الطريق يسأل عن الخبر فمر به رجل فقال: ما فعل قوم يونس؟ فحلله بما صنعوا فقال: لا أرجع إلى قوم قد كذبتهم، وانطلق مغاضباً، يعني مراغماً. وعن سعيد بن جبير قال: غشي قوم يونس العذاب كما يغشى القبر، بالثوب إذا دخل فيه صاحبه ومطرت السماء دماً.
وعن ابن عباس: إن العذاب كان هبط على قوم يونس لم يكن بينهم وبينه إلا قدر ثلثي ميل فلما دعوا كشفه الله عنهم، وقال قتادة: قدر ميل.
وقال وهب: غامت السماء غيماً أسود هائلاً يدخن دخاناً شديداً، فهبط حتى غشى مدينتهم واسودت أسطحتهم فتابوا وأخلصوا النية فرحمهم ربهم وكشف ما نزل بهم من العذاب بعدما أظلهم، وكان ذلك اليوم يوم عاشوراء، وكان يوم الجمعة، قيل أنهم قالوا: يا حي حين لا حي، ويا حي يحيي الموتى، ويا حي لا إله إلا أنت. وقيل قالوا: اللهم إن ذنوبنا قد عظمت وجلَّت وأنت أعظم وأجل، فافعل بنا ما أنت أهله ولا تفعل بنا ما نحن أهله، قاله الفضيل بن عياض، والله أعلم ما قالوه.
ثم بيّن سبحانه إن الإيمان وضده كلاهما بمشيئة الله وتقديره فقال(6/126)
وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99)
(ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم) بحيث لا يخرج عنهم أحد (جميعاً)(6/126)
مجتمعين على الإيمان لا يتفرقون فيه ويختلفون، ولكنه لم يشأ ذلك لكونه مخالفاً للمصلحة التي أرادها الله سبحانه.
قال الأخفش: جاء بقوله جميعاً بعد كلهم للتأكيد كقوله (لا تتخذوا إلهين اثنين) وقيل أتى به مع إن كُلاًّ منهما يفيد الإحاطة والشمول للدلالة على أن وجود الإيمان منهم بصفة الاجتماع الذي لا يدل عليه كلهم، ذكره الكرخي.
ولما كان النبي صلى الله عليه وسلم حريصاً على إيمان جميع الناس أخبره الله بأن ذلك لا يكون لأن مشيئته الجارية على الحكمة البالغة والمصالح الراجحة لا تقتضي ذلك فقال (أفأنت تكره الناس) استفهام تأديب للنبي صلى الله عليه وسلم أي أتكرههم بما لم يشأه الله منهم.
(حتى يكونوا مؤمنين) فإن ذلك ليس في وسعك يا محمد ولا داخل تحت قدرتك، وفي هذا تسلية له صلى الله عليه وسلم ودفع لما يضيق به صدره من طلب صلاح الكل الذي لو كان لم يكن صلاحاً محققاً بل يكون إلى الفساد أقرب، ولله الحكمة البالغة وإيلاء الاسم حرف الاستفهام للإعلام بأن الإكراه ممكن مقدور عليه، وإنما الشأن في المكره من هو وما هو إلا هو وحده لا يشارك فيه لأنه هو القادر على أن يخلق في قلوبهم ما يضطرون عنده إلى الإيمان وذلك غير مستطاع للبشر.(6/127)
وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (100) قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (101) فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (102) ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ (103)
ثم بيّن سبحانه ما تقدم بقوله(6/128)
وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (100)
(وما كان) أي ما صحّ وما استقام (لنفس) من الأنفس (أن تؤمن إلا بإذن الله) أي بتسهيله وتيسيره ومشيئته لذلك فلا يقع غير ما يشاؤه كائناً ما كان (ويجعل الرجس) بكسر الراء وضمنها لغتان، أي العذاب أو السخط أو الكفر أو الخذلان الذي هو سبب العذاب، وهذا معطوف على محذوف، كأنه قيل فيأذن لبعضهم في الإيمان ويجعل الخ، والمضارع في المعطوف والمعطوف عليه بمعنى الماضي.
والمراد بقوله (على الذين لا يعقلون) هم الكفار الذين لا يتعقلون حجج الله ولا يتفكرون في آياته ولا يتدبرون فيما نصبه لهم من الأدلة.(6/128)
قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (101)
(قل انظروا) بضم اللام وكسرها سبعيتان (ماذا في السماوات والأرض) لما بين سبحانه أن الإيمان لا يحصل إلا بمشيئة الله أمر بالنظر والاستدلال بالدلائل السماوية والأرضية، والمراد بالنظر التفكر والاعتبار، أي قل يا محمد للكفار تفكروا واعتبروا بما فيهما من المصنوعات الدالة على الصانع ووحدته وكمال قدرته.
ثم ذكر سبحانه أن التفكر والتدبر في هذه الدلائل لا ينفع في حق من استحكمت شقاوته فقال (وما تغني) أي ما تنفع على أن (ما) نافية وهذا هو الظاهر ويجوز أن تكون استفهامية أي أيُّ غنى تغني (الآيات) هي التي عبَّر عنها بقوله ماذا في السماوات والأرض، ففي الكلام إظهار في مقام الإضمار،(6/128)
والجملة إما حالية أو اعتراضية بنوع إيضاح (والنذر) جمع نذير وهم الرسل أو جمع إنذار وهو المصدر (عن قوم لا يؤمنون) في علم الله سبحانه، والمعنى أن من كان هكذا لا يجدى فيه شيء ولا يدفعه عن الكفر دافع.(6/129)
فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (102)
(فهل ينتظرون إلا مثل أيام الذين خلوا من قبلهم) أي فهل ينتظر هؤلاء الكفار المعاصرون لمحمد صلى الله عليه وسلم بتكذيبه إلا مثل وقائع الله سبحانه بالكفار الذين خلوا من قبل هؤلاء قوم نوح وعاد وثمود، فقد كان الأنبياء المتقدمون يتوعدون كفار زمانهم بأيام مشتملة على أنواع العذاب، وهم يكذبونهم ويصممون على الكفر حتى ينزل الله عليهم عذابه ويحل بهم انتقامه، والعرب تسمي العذاب أياماً والنعم أياماً، كقوله تعالى (وذكرهم بأيام الله).
ثم قال: (قل) يا محمد لهؤلاء الكفار المعاصرين لك (فانتظروا) أي تربصوا لوعد ربكم (إني معكم من المنتظرين) لوعد ربي، وفي هذا تهديد شديد ووعيد بالغ بأنه سينزل بهؤلاء ما نزل بأولئك من الإهلاك.(6/129)
ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ (103)
(ثم ننجي) بالتشديد باتفاق العشرة وقرئ بالتخفيف وهما لغتان فصيحتان أنجى ينجي إنجاء، ونجى ينجي تنجية بمعنى واحد، وثم للعطف على مقدر يدل عليه ما قبله، كأنه قيل أهلكنا الأمم ثم نجينا (رسلنا) المرسلين إليهم (و) نجينا (الذين آمنوا) والتعبير بلفظ الفعل المستقبل لاستحضار صورة الحال الماضية تهويلاً لأمرها.
(كذلك) صفة لمصدر محذوف أي إنجاء مثل ذلك الإنجاء، وقوله (حقاً علينا) اعتراض، أي حق ذلك علينا حقاً أي وجب وتحتم بمقتضى الفضل والكرم (ننجي) بالتخفيف والتشديد قراءتان سبعيتان (المؤمنين) من عذابنا للكفار والمراد بالمؤمنين الجنس فيدخل في ذلك الرسل واتباعهم أو يكون خاصاً بالمؤمنين وهم أتباع الرسل لأن الرسل داخلون في ذلك بالأولى، وقال السيوطي: النبي صلى الله عليه وسلم واصحابه حين تعذيب المشركين لهم.(6/129)
قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (104) وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (105)(6/130)
قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (104)
(قل يا أيها الناس) أمر سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يظهر التباين بين طريقته وطريقة المشركين مخاطباً لجميع الناس أو للكفار منهم أو لأهل مكة على الخصوص بقوله (إن كنتم في شك من ديني) الذي أنا عليه وهو عبادة الله وحده لا شريك له ولم تعلموا بحقيقته ولا عرفتم صحته، وأنه الدين الحق الذي لا دين غيره فاعلموا أني بريء من أديانكم التي أنتم عليها.
(فلا أعبد الذين تعبدون من دون الله) في حال من الأحوال (ولكن أعبد الله الذي يتوفاكم) أي أخصه بالعبادة لا أعبد غيره من معبوداتكم من الأصنام وغيرها، وخص صفة التوفي من بين الصفات لما في ذلك من التهديد لهم، أي أعبد الله الذي يتوفاكم فيفعل بكم ما يفعل من العذاب الشديد، ولكونه يدل على الخلق أولاً وعلى الإعادة ثانياً، ولكونه أشد الأحوال مهابة في القلوب ولكونه قد تقدم ذكر الإهلاك والوقائع النازلة بالكفار من الأمم السابقة فكأنه قال أعبد الله الذي وعدني بإهلاككم.
ولما ذكر أنه لا يعبد إلا الله بيَّن أنه مأمور بالإيمان فقال (وأمرت أن أكون من المؤمنين) أي بأن أكون من جنس من آمن بالله وأخلص له الدين(6/130)
وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (105)
(وأن أقم وجهك للدين) المعنى أن الله سبحانه أمره بالاستقامة في الدين والثبات فيه وعدم التزلزل عنه بحال من الأحوال وخص الوجه لأنه أشرف الأعضاء، أو أمره باستقبال القبلة في الصلاة وعدم التحول عنها (حنيفاً) أي مائلاً عن كل دين من الأديان إلى دين الإسلام مستقيماً عليه غير معوج عنه إلى دين آخر، ثم أكد الأمر المتقدم بالنهي عن ضده فقال: (ولا تكونن من المشركين) عطف على أقم داخل تحت الأمر، وهو من باب التعريض لغيره صلى الله عليه وسلم.(6/130)
وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ (106) وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (107)(6/131)
وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ (106)
(ولا تدع من دون الله) على حال من الأحوال (ما لا ينفعك ولا يضرك) بشيء من النفع والضر إن دعوته، ودعاء من كان هكذا لا يجلب نفعاً ولا يقدر على ضر، ضائع لا يفعله عاقل على تقدير أنه لا يوجد من يقدر على النفع والضر غيره فكيف إذا كان موجوداً فإن العدول عن دعاء القادر إلى دعاء غير القادر أقبح وأقبح.
(فإن فعلت) أي فإن دعوت ولكنه كنى عن القول بالفعل (فإنك إذاً من الظالمين) هذا جزاء الشرط، أي فإنك في عداد الظالمين لأنفسهم، والمقصود من هذا الخطاب التعريض لغيره صلى الله عليه وسلم.(6/131)
وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (107)
(و) جملة (إن يَمْسَسْك الله بضر فلا كاشف له إلا هو) مقررة لمضمون ما قبلها، والمعنى أن الله سبحانه هو الضار النافع، فإن أنزل بعبده ضراً لم يستطع أحد أن يكشفه كائناً من كان بل هو المختص بكشفه كما هو اختص بإنزاله.
(وإن يردك بخير) أيَّ خير كان لم يستطع أحد أن يدفعه عنك ويحول بينك وبينه كائناً من كان، هو من القلب وأصله أن يرد بك الخير، ولكن لما تعلق كل واحد منهما بالآخر جاز أن يكون كل واحد منهما مكان الآخر.
قال النيسابوري: وفي تخصيص الإرادة بجانب الخير والمس بجانب الشر دليل على أن الخير يصدر عنه سبحانه بالذات والشر بالعرض.(6/131)
قلت: وفي هذا نظر فإن المس هو أمر وراء الإرادة فهو مستلزم لها، وقيل أن الضر إنما مسهم لا بالقصد الأول والمعنى متقارب.
(فلا راد لفضله) أي لا دافع لما أرادك به من الخير ووضع الفضل موضع الضمير للدلالة على أنه متفضل بما يريد بهم من الخير لا استحقاق لهم عليه، ولم يستثن لأن مراد الله تعالى لا يمكن رده وإرادة الله قديمة لا تتغير بخلاف مس الضر فإنه صفة فعل.
(يصيب به) أي بفضله أو بكل واحد من الخير والضر (من يشاء من عباده) وجملة (وهو الغفور الرحيم) تذييلية.
عن عامر بن قيس قال: ثلاث آيات في كتاب الله اكتفيت بهن عن جميع الخلائق أولهن (إن يَمْسَسْك الله) الآية، والثانية (ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له) والثالثة (وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها) أخرجه البيهقي في الشعب، وأخرج أبو الشيخ عن الحسن نحوه.(6/132)
قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (108) وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (109)
ثم ختم هذه السورة بما يستدل به على قضائه وقدره فقال(6/133)
قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (108)
(قل يا أيها الناس) لأجل أن تنقطع معذرتهم فهذا نهاية الأمر (قد جاءكم الحق من ربكم) أي القرآن أو الإسلام أو محمد صلى الله عليه وسلم (فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه) أي منفعة اهتدائه مختصة به (ومن ضل فإنما يضل عليها) أي ضرر كفره مقصور عليه لا يتعداه، وليس لله حاجة في شيء من ذلك ولا غرض يعود إليه ومن في الموضعين يجوز أن تكون شرطية والفاء واجبة الدخول وأن تكون موصولة والفاء جائزته (وما أنا عليكم بوكيل) أي بحفيظ يحفظ أموركم وتوكل إليه، إنما أنا بشير ونذير.
ثم أمره الله سبحانه أن يتبع ما أوحاه من الأوامر والنواهي التي شرعها الله له ولأمته فقال(6/133)
وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (109)
(واتبع ما يوحى إليك) ثم أمره بالصبر على أذى الكفار وما يلاقيه من مشاق التبليغ وما يعانيه من تلون أخلاق المشركين وتعجرفهم فقال (واصبر) وجعل ذلك الصبر ممتداً إلى غاية هي قوله (حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين) أي يحكم الله بينه وبينهم في الدنيا بالنصر له عليهم وفي الآخرة بعذابهم بالنار وهم يشاهدونه صلى الله عليه وسلم هو وأمته المتبعون له المؤمنون به العاملون بما يأمرهم به المنتهون عما ينهاهم عنه، ينقلبون في نعيم الجنة الذي لا ينفد ولا يمكن وصفه ولا يوقف على أدنى مزاياه.
وقال مجاهد: هذا منسوخ بأمره بجهادهم والغلظة عليهم وبه قال ابن عباس، قال السيوطي: وقد صبر حتى حكم على المشركين بالقتال وأهل الكتاب بالجزية اهـ؛ وأشار بهذا إلى قول مجاهد، قاله الكرخي.(6/133)
سورة هود عليه السلام
وهي مائة وثلاث وعشرون آية، وهي مكيّة في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر ومجاهد وابن زيد، وقال ابن عباس وقتادة: إلا آية وهي قوله: (وأقم الصلاة طرفي النهار) وقال مقاتل: أو إلا (فلعلك تارك) الآية (وأولئك يؤمنون به) الآية.
والحاصل أن المدني عند ابن عباس آية واحدة وعند مقاتل آيتان.
وعن كعب قال: قال رسول الله صلى لله عليه وآله وسلم: " اقرؤا هود يوم الجمعة " (1). أخرجه الدارمي وأبو داود والبيهقي وغيرهم، وعن أبي بكر الصديق قال: قلت يا رسول الله لقد أسرع إليك الشيب فقال: " شيبتني هود والواقعة والمرسلات وعم يتساءلون وإذا الشمس كورت " (2) أخرجه الطبراني والترمذي وحسنه. وعن أنس مرفوعاً وهل أتاك حديث الغاشية رواه البزار، وقد روي بطرق عن جمع من الصحابة.
قال بعض العلماء: سبب شيبه من هذه السور ما فيها من ذكر القيامة والبعث والحساب والجنة والنار والله أعلم بمراد رسوله صلى الله عليه وسلم.
_________
(1) ضعيف الجامع الصغير 1168.
(2) الترمذي تفسير سورة 56/ 6.(6/135)
بسم الله الرحمن الرحيم(6/136)
الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1) أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (2) وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (3)(6/137)
الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1)
(الر) إن كان مسروداً على سبيل التعديد كما في سائر فواتح السور فلا محل له، وإن كان اسماً للسورة فهو في محل الرفع على أنه مبتدأ وما بعده خبره أو خبر مبتدأ محذوف وهو الأظهر، أو في محل النصب بتقدير فعل يناسب المقام نحو اذكر أو اقرأ.
وقوله (كتاب) خبر لمبتدأ محذوف أي هذا كتاب، ويدل على ذلك قوله في آية أخرى (ذلك الكتاب) والإشارة إما إلى بعض القرآن أو إلى مجموعه.
ومعنى (أحكمت آياته) صارت محكمة متقنة لا نقص فيها ولا نقض لها كالبناء المحكم المرصف، وقيل معناه أنها لم تنسخ بخلاف التوراة والإنجيل، وعلى هذا فيكون هذا الوصف للكتاب باعتبار الغالب وهو المحكم الذي لم ينسخ، وقيل معناه أحكمت آياته بالأمر والنهي، والآيات المراد بها حقيقتها وهي الجمل من السور المنفصل بعضها عن بعض أي نظمت نظماً متقناً لا يعتريه خلل بوجه من الوجوه، وقيل معنى أحكامها إن لا فساد فيها أخذاً من قولهم أحكمت الدابة إذا وضعت عليها الحكمة لتمنعها من الجماح.
(ثم فصلت) بالوعد والوعيد والثواب والعقاب، وقيل أحكمها الله من الباطل ثم فصلها بالحلال والحرام، وقيل أحكمت جملته ثم فصلت آياته، وقيل جُمعت في اللوح المحفوظ ثم فُصلت بالوحي، وقيل أيدت بالحجج القاطعة الدالّة على كونها من عند الله، والتراخي المستفاد من ثم إما زماني إن فسر التفصيل بالتنجيم على حسب المصالح، وإما رتبي إن فسر بغيره مما تقدم، وإليه ذهب الزمخشري، وقال: هي محكمة أحسن الأحكام ثم مفصلة أحسن(6/137)
التفصيل كما يقال فلان كريم الأصل ثم كريم الفعل.
(من لدن حكيم خبير) فيه طباق حسن، لأن المعنى أحكمها حكيم وفصلها خبير عالم بواقع الأمور، وقيل صفة ثانية لكتاب خبر ثان وإليه نحا الزمخشري وقيل غير ذلك(6/138)
أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (2)
(أن لا تعبدوا إلا الله) قال الكسائي والفراء: التقدير أحكمت بأن، وقال الزجاج: أحكمت ثم فصلت لئلا تعبدوا، وقيل تعليل للفعلين قبله أي لأجل إن تتركوا عبادة غير الله وتعبدوا الله فأخذ الترك من لا النافية والإثبات من الاستثناء.
وقيل تقديره هي أن لا تعبدوا، وقيل أن مفسرة لما في التفصيل من معنى القول أي قال لا تعبدوا أو أمركم أن لا تعبدوا، وهذا أظهر الأقوال لأنه لا يحوج إلى إضمار، ولما ذكر شؤون الكتاب ذكر أن من جاء به مرسل من عند الله لتبليغ احكامه فقال (إنني لكم منه نذير وبشير) أي ينذرهم ويخوفهم من عذابه لمن عصاه ويبشرهم بالجنة والرضوان لمن أطاعه، والضمير في منه راجع إلى الله سبحانه أي كائن من جهة الله.
وهذا على ظاهره ليس بجيد لأن الصفة لا تتقدم على الموصوف فكيف تجعل صفة لنذير وكأنه يريد أنه صفة في الأصل لو تأخر، ولكن لما تقدم صار حالاً، صرح به أبو البقاء فصوابه كائناً من جهته، وقيل يعود على الكتاب أي نذير لكم من مخالفته وبشير منه لمن آمن وعمل صالحاً، وقدم الإنذار لأن التخويف أهم إذ يحصل به الانزجار، وقيل هو من كلام الله سبحانه كقوله (ويحذركم الله نفسه)(6/138)
وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (3)
(وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه) قدم الإرشاد إلى الاستغفار على التوبة لكونه وسيلة إليها وقيل أن التوبة عن متممات الاستغفار وقيل معنى استغفروا توبوا، ومعنى توبوا أخلصوا التوبة واستقيموا عليها، وقيل استغفروا من سالف الذنوب ثم توبوا من لاحقها.(6/138)
وقيل استغفروا من الشرك ثم ارجعوا إليه بالطاعة؛ قال الفراء: ثم هاهنا بمعنى الواو أي وتوبوا إليه لأن الاستغفار هو التوبة والتوبة هي الاستغفار فذكرهما للتأكيد، وقيل إنما قدم ذكر الاستغفار لأن المغفرة هي الغرض المطلوب والتوبة هي السبب إليها، وما كان آخراً في الحصول كان أولاً في الطلب، وقيل استغفروا في الصغائر وتوبوا إليه في الكبائر.
ثم رتب على ما تقدم أمرين: الأول (يمتعكم متاعاً حسناً) أصل الامتاع الإطالة ومنه امتع الله بك، فمعنى الآية يطول نفعكم في الدنيا بمنافع حسنة مرضية موسعة للرزق ورغد العيش، وقيل هو الرضاء بالميسور والصبر على المقدور (إلى أجل مسمى) إلى وقت مقدر عند الله وهو الموت، وقيل القيامة، وقيل دخول الجنة والأول أولى.
والأمر الثاني قوله (ويؤت كل ذي فضل) في الطاعة والعمل (فضله) أي جزاء فضله إما في الدنيا أو في الآخرة أو فيهما جميعاً، والضمير راجع إلى كل ذي فضل، وقيل راجع إلى الله سبحانه على معنى إن الله يعطي كل من فضلت حسناته الذي يتفضل به على عباده.
عن ابن مسعود قال: من عمل سيئة كتبت عليه سيئة، ومن عمل حسنة كتبت له عشر حسنات، فإن عوقب بالسيئة التي عملها في الدنيا بقيت له عشر حسنات وإن لم يعاقب بها في الدنيا أخذ من الحسنات العشر واحدة وبقيت له تسع حسنات ثم يقول هلك من غلب آحاده إعشاره، وقال أبو العالية من كثرت طاعاته في الدنيا زادت حسناته ودرجاته في الجنة.
ثم توعدهم على مخالفة الأمر فقال (وإن تولوا) أي تعرضوا عن الإخلاص في العبادة والاستغفار والتوبة (فإني أخاف عليكم عذاب يوم كبير) هو يوم القيامة، ووصفه بالكبر لما فيه من الأهوال، وقيل اليوم الكبير يوم بدر، وقيل صفة لعذاب فهو منصوب وإنما خفض على الجوار.(6/139)
إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (4) أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (5)
ثم بينَّ سبحانه عذاب اليوم الكبير بقوله(6/140)
إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (4)
(إلى الله مرجعكم) أي رجوعكم إليه بالموت ثم البعث ثم الجزاء لا إلى غيره.
(وهو على كل شيء قدير) ومن ذلك عذابكم على عدم الامتثال, وهذه الجملة مقررة لما قبلها.
ثم أخبر الله سبحانه بأن هذا الإنذار والتحذير والتوعد لم ينجع فيهم، ولا لانت له قلوبهم، بل هم مصرون على العناد مصممون على الكفر، فقال مصدراً لهذا الإخبار بكلمة التنبيه الدالة على التعجيب من حالهم، وأنه أمر ينبغي أن يتنبه له العقلاء ويفهموه(6/140)
أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (5)
(ألا إنهم يثنون صدورهم) يقال ثنى صدره عن الشيء إذا ازور وانحرف عنه، فيكون في الكلام كناية عن الإعراض لأن من عارض عن الشيء ثنى عنه صدره وطوى عنه كشحه.
وقيل معناه يعطفون صدورهم على ما فيها من الكفر والإعراض عن الحق وعداوة النبي صلى الله عليه وسلم بحيث يكون ذلك مخفياً مستوراً فيها كما تعطف الثياب على ما فيها من الأشياء المستورة، فيكون في الكلام كناية عن الإخفاء لما يعتقدونه من الكف كما كان دأب المنافقين، والوجه الثاني أولى، ويؤيده قوله (ليستخفوا منه) أي من الله فلا يطلع عليه رسوله والمؤمنين أو من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم كرر كلمة التنبيه مبيناً للوقت الذي يثنون فيه صدورهم فقال (ألا حين يستغشون ثيابهم) أي يستخفون في وقت استغشاء الثياب وهو التغطي(6/140)
بها، وقد كانوا يقولون: إذا أغلقنا أبوابنا واستغشينا ثيابنا وثنينا صدورنا على عداوة محمد صلى الله عليه وسلم فمن يعلم بنا.
وقيل معناه يأوون إلى فراشهم ويتدثرون بثيابهم، وقيل أنه حقيقة، وذلك أن بعض الكفار كان إذا مر به رسول الله صلى الله عليه وسلم ثنى صدره وولى ظهره واستغشى ثيابه لئلا يسمع كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال البخاري عن ابن عباس: يغطون رؤوسهم، وروى عنه أيضاً قال: يعني به الشك في الله وعمل السيئات، وكذا روي عن مجاهد والحسن وغيرهما، أي إنهم كانوا يثنون صدورهم إذا قالوا شيئاً أو عملوه فيظنون إنهم سيخفون من الله بذلك، فأعلمهم سبحانه أنه حين يستغشون ثيابهم عند منامهم في ظلمة الليل يعلم سرهم وعلانيتهم.
وعن عبد الله بن شداد قال: كان المنافقون إذا مر أحدهم بالنبي (- صلى الله عليه وسلم -) ثنى صدره وتغشى ثوبه لكيلا يراه فنزلت، وعن الحسن قال: في ظلمة الليل في أجواف بيوتهم، وعن قتادة قال: كانوا يحنون صدورهم لكيلا يسمعوا كتاب الله.
وجملة (يعلم ما يسرون وما يعلنون) مستأنفة لبيان أنه لا فائدة لهم في الاستخفاء لأن الله سبحانه يعلم ما يسرونه في أنفسهم أو في ذات بينهم وما يظهرونه فالظاهر والباطن عنده سواء والسر والجهر سيان (إنه عليم بذات الصدور) تعليل لما قبله وتقرير له، وذات الصدور هي الضمائر التي تشتمل عليها الصدور وقيل هي القلوب.
والمعنى أنه عليم بجميع الضمائر أو عليم بالقلوب وأحوالها في الأسرار والإظهار فلا يخفى عليه شيء من ذلك.(6/141)
وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (6) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (7)
ثم أكد كونه عالماً بكل المعلومات بما فيه غاية الامتنان ونهاية الإحسان فقال(6/142)
وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (6)
(وما من دابة) هي كل حيوان يدب على وجه الأرض، وتطلق على كل ذي أربع من الحيوان على سبيل العرف، والمراد منه الإطلاق فيدخل فيه الآدمي وغيره من جميع الحيوان، وفي المصباح دب منه الصغير يدب من باب ضرب إذا مشى ودب الجيش دبيباً أيضاً سار، ومن زائدة للتأكيد أي ما من حيوان وغيره.
(في الأرض إلا على الله رزقها) أي الرزق الذي يحتاج إليه من الغذاء اللائق بالحيوان على اختلاف أنواعه تفضلاً منه وإحساناً، وإنما جيء به على طريق الوجوب كما تشعر به كلمة (على) اعتباراً بسبق الوعد به منه، وقيل أن (على) على بابها وأنه عليه من باب الفضل لا الوجوب لأنه لا يجب عليه شيء.
والحاصل أن المراد بالوجوب وجوب اختيار لا وجوب إلزام، فهو موكول إلى مشيئته، إن شاء رزقها وإن شاء لم يرزقها. وقيل أن على بمعنى " من " أي من الله رزقها، أي ما يقوم به رمقها وتعيش به، قال مجاهد: ما جاءها من رزق فمن الله، وربما لم يرزقها فتموت جوعاً.
ووجه اتصال هذا الكلام بما قبله إن الله سبحانه لما كان لا يغفل عن كل حيوان باعتبار ما قسمه له من الرزق، فكيف يغفل عن أحواله وأقواله وأفعاله (ويعلم مستقرها) أي محل استقرارها في الأرض أو محل قرارها في(6/142)
الأصلاب (ومستودعها) موضعها في الأرحام وما يجري مجراها كالبيضة ونحوها، وقال الفراء: مستقرها حيث تأوى إليه ليلاً أو نهاراً، ومستودعها موضعها الذي تموت فيه، وقد مر تمام الأقوال في سورة الأنعام.
ووجه تقديم المستقر على المستودع على قول الفراء ظاهر، وأما على القول الأول فلعل وجه ذلك أن المستقر أنسب باعتبار ما هي عليه حال كونها دابة، والمعنى وما من دابة إلا يرزقها الله حيث كانت من إماكنها بعد كونها دابة، وقبل كونها دابة، وذلك حين تكون في الرحم ونحوه.
وفي البيضاوي أماكنها في الحياة وفي الممات أو الأصلاب والأرحام أو مساكنها من الأرض حين وجدت بالفعل ومودعها من المواد والمقار حين كانت بعد بالقوة. اهـ
والمراد كالمني والعلقة، والمقار كالصلب والرحم، وعن ابن مسعود قال: مستقرها في الأرحام ومستودعها حيث تموت، ويؤيد هذا التفسير ما أخرجه الحاكم وصححه عن ابن مسعود عن النبي (- صلى الله عليه وسلم -) قال: إذا كان أجل أحدكم بأرض أتيحت له إليها حاجة حتى إذا بلغ أقصى أثره منها فيقبض، فتقول الأرض يوم القيامة: هذا ما استودعتني (1)
ثم ختم الآية بقوله (كل في كتاب مبين) أي كل مما تقدم ذكره من الدواب ومستقرها ومستودعها ورزقها في اللوح المحفوظ أي مثبت فيه قبل خلقها.
ثم أكد دلائل قدرته بالتعرض لذكر خلق السماوات والأرض وكيف كان الحال قبل خلقها فقال
_________
(1) المستدرك كتاب الإيمان 1/ 41.(6/143)
وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (7)
(وهو الذي خلق السماوات والأرض) وما بينهما (في ستة أيام) الكلام على التوزيع، فكان خلق السماوات في يومين والأرضين في يومين، وما عليها من أنواع الحيوان والنبات والأقوات والجمادات في يومين،(6/143)
والمراد بالأيام هنا الأوقات، أي في ستة أوقات، كما في قوله (ومن يولهم يومئذ دبره) وقيل مقدار ستة أيام.
وقيل المراد هنا الأيام المعروفة وهي المقابلة لليالي أولها الأحد وآخرها الجمعة ولا يستقيم ذلك لأنه لم تكن حينئذ أرض ولا سماء، وليس اليوم إلا عبارة عن مدة كون الشمس فوق الأرض؛ وفي الجمل وهذا مشكل جداً إذ لا يتعين الأحد ولا غيره من الأيام إلا عند وجودها بالفعل، وفي تلك الحال لم يكن زمان قط فضلاً عن تفضيله أياماً فضلاً عن تخصيص كل يوم باسم.
والجواب عن هذا الإشكال بأن المراد مقدار ستة أيام لا يدفع هذا الإشكال إنما يدفع الإشكال الآخر وهو أنه لم يكن ثم زمان اهـ.
(وكان عرشه) قبل خلقهما (على الماء) ليس تحته شيء غيره، سواء كان بينهما فرجة أو كان موضوعاً على متنه فلا دلالة فيه على إمكان الخلاء، كيف لا ولو دل لدل على وجوده لا على إمكانه فقط ولا على كون الماء أول ما حدث في العالم بعد العرش، وإنما يدل على أن خلقهما أقدم من خلق السماوات والأرض من غير تعرض للنسبة بينهما.
قلت: وكونه قبل خلقهما مأخوذ من كان لأن المعنى المستفاد منها بالنسبة للحكم لا للتكلم وهو خلق السماوات والأرض، وهذا ظاهر سواء كانت الجملة معطوفة أو حالية بتقدير قد. ونقل عن السلف أنه كان على الماء وهو الآن على ما كان عليه وعبارة سليمان الجمل: بل هو في مكانه الذي هو فيه الآن وهو ما فوق السماوات السبع والماء في المكان الذي هو فيه الآن وهو ما تحت الأرضين السبع. انتهى
عن ابن عباس أنه سئل على أي شيء كان الماء؟ قال على متن الريح، وعن أبي رزين العقيلي قال: قلت يا رسول الله أين كان ربنا قبل أن يخلق خلقه؟ قال كان في عماء ما فوقه هواء وما تحته هواء وخلق عرشه على الماء (1)
_________
(1) الترمذي تفسير سورة 11/ 1.(6/144)
أخرجه الترمذي. قال أحمد: يريد. بالعماء أنه ليس معه شيء. قال البيهقي: العماء إن كان ممدوداً فمعناه سحاب رقيق والمعنى فوق سحاب مدبراً له وعالياً عليه، وإن كان مقصوراً فمعناه لا شيء ثابت لأنه مما عمي عن الخلق لكونه غير شيء، ونحوه قال جمع من أهل العلم.
قال الأزهري: فنحن نؤمن به ولا نكيف صفته، وقد وردت أحاديث كثيرة في صفة العرش، وفي كيفية خلق السماوات والأرض ليس هذا موضع ذكرها. (ليبلوكم) أي خلق هذه المخلوقات ليبتلي عباده بالاعتبار والتفكر والاستدلال على كمال قدرته على البعث والجزاء (أيكم أحسن عملاً) فيما أمر به ونهى عنه من غيره، ويدخل في العمل الاعتقاد لأنه من أعمال القلب، وقيل المراد بالأحسن عملاً الأتم عقلاً، وقيل الأزهد في الدنيا وقيل الأكثر شكراً، وقيل الأتقى لله، وجاز تعليق فعل البلوى لما في الاختبار من معنى العلم لأنه طريق إليه فهو ملابس له.
(ولئن قلت) اللام موطئة للقسم فقد اجتمع في الكلام شرط وقسم، والقاعدة أن يحذف جواب المتأخر ويذكر جواب المتقدم، فقوله ليقولن جواب القسم وجواب الشرط محذوف، وكذا في قوله (ولئن أخرنا) وقوله (ولئن أذقنا الإنسان) وقوله (ولئن أذقناه) فالمواضع أربعة.
ولما كان الابتلاء يتضمن حديث البعث أتبع ذلك بذكره، والمعنى لئن قلت لهم يا محمد على ما توجبه قضية الابتلاء (إنكم مبعوثون من بعد الموت) فيجازى المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته، قيل أنكم بمعنى لعلكم على أن الرجاء باعتبار حال المخاطبين، أي توقعوا ذلك ولا تبثوا القول بإنكاره (ليقولن الذين كفروا) من الناس (إن هذا) الذي تقوله يا محمد (إلا سحر مبين) أي كالسحر أو باطل كبطلان السحر وخدع كخدعه فالكلام من باب التشبيه البليغ.
ويجوز أن تكون الإشارة بهذا إلى القرآن لأنه المشتمل على الأخبار بالبعث وقرئ ساحر يعني النبي صلى الله عليه وسلم.(6/145)
وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (8) وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ (9)(6/146)
وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (8)
(ولئن أخرنا عنهم العذاب) أي الذي يستعجلونه استهزاء، وهو ما تقدم ذكره في قوله (عذاب يوم كبير) وقيل عذاب يوم القيامة وما بعده، وقيل عذاب يوم بدر (إلى أمة معدودة) أي إلى طائفة من الأيام قليلة لأن ما يحصره العد قليل والأمة اشتقاقها من الأم وهو القصد وأراد بها الوقت المقصود لإيقاع العذاب، وقيل هي في الأصل الجماعة من الناس، وقد يسمى الحين باسم ما يحصل فيه، كقولك كنت عند فلان صلاة العصر، أي في ذلك الحين، فالمراد على هذا إلى حين تنقضي أمة معدودة من الناس (ليقولن ما يحبسه) أي أيُّ شيء يمنعه من النزول استعجالاً له على جهة الاستهزاء والتكذيب والسخرية.
فأجابهم الله بقوله (ألا) أداة استفتاح داخلة على ليس في المعنى (يوم يأتيهم) أي العذاب (ليس مصروفاً) أي محبوساً (عنهم) بل واقع بهم لا محالة، ويوم منصوب بخبر (ليس) مقدماً عليه وهو دليل البصريين على جواز تقديم خبرها عليها إذ المعمول تابع للعامل فلا يقع إلا حيث يقع متبوعه وإلا يلزم تقديم الفرع على أصله.
ورد بأن الظرف يجوز فيه ما لا يجوز في غيره توسعاً، ويبنى الأمر فيه على التسامح فيه، وبأنه قد يقدم المعمول حيث لا مجال لتقدم العامل كما في قوله تعالى (فأما اليتيم فلا تقهر * وأما السائل فلا تنهر) فإن اليتيم والسائل مع كونهما منصوبين بالفعلين المجزومين قد تقدما على لا الناهية مع امتناع تقدم الفعلين عليها.(6/146)
قال أبو حيان: وقد تتبعت جملة من دواوين العرب فلم أظفر بتقديم خبر (ليس) عليها ولا بتقديم معموله إلا ما دل عليه ظاهر هذه الآية، وقول الشاعر:
فيأبى فما يزاد إلا لجاجة ... وكنت أبياً في الخنا لست أقدم
قلت وهذا الخلاف بينهم في تقديم الخبر على (ليس) لا على اسمها فإنه جائز بلا خلاف والكلام فيه وفي أدلته مفصل في كتب النحو.
(وحاق) أي أحاط (بهم ما كانوا به يستهزءون) أي العذاب الذي كانوا يستعجلونه استهزاء منهم، ووضع هذا مكان يستعجلون لأن استعجالهم كان استهزاء منهم، وعبر بلفظ الماضي تنبيهاً على تحقق وقوعه فكأنه قد حاق بهم(6/147)
وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ (9)
(ولئن أذقنا الإنسان) أي الجنس فيشمل المؤمن والكافر، ويدل على ذلك الاستثناء الآتي، قيل المراد به جنس الكفار، ويؤيده أن اليأس والكفران والفرح والفخر هي أوصاف أهل الكفر لا أهل الإسلام في الغالب، وقيل المراد بالإنسان الوليد بن المغيرة، وقيل عبد الله بن أمية المخزومي (منا رحمة) أي نعمة من توفير الرزق والصحة والسلامة من المحن وسعة العيش والرخاء.
(ثم نزعناها منه) أي سلبناه إياها وأخذناها قهراً عليه، وإيراد النزع للإشعار بشدة تعلقه بها وحرصه عليها (إنه ليؤوس) أي آيس من الرحمة شديد القنوط من عودها وأمثالها لقلة صبره وعدم ثقته بالله (كفور) عظيم الكفران وهو الجحود لها. قاله ابن الأعرابي
وفي إيراد صيغتي المبالغة ما يدل على أن الإنسان كثير اليأس وكثير الجحد عند أن يسلبه الله بعض نعمه فلا يرجو عودها ولا يشكر ما قد سلف له منها. وفي التعبير بالذوق ما يدل على أنه يكون منه ذلك عند سلب أدنى نعمة ينعم الله بها عليه لأن الإذاقة والذوق أقل ما يوجد به الطعم.(6/147)
وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (10) إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (11)(6/148)
وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (10)
(ولئن أذقناه نعماء بعد ضراء مسته) والنعماء إنعام يظهر أثره على صاحبه؛ والضراء ظهور أثر الإضرار على من أصيب به، والمعنى أنه إن أذاق الله سبحانه العبد نعماءه من الصحة والسلامة والغنى بعد أن كان في ضر من فقر أو مرض أو خوف، لم يقابل ذلك بما يليق به من الشكر لله سبحانه، وفي اختلاف الفعلين نكتة لا تخفى.
(ليقولن) أي بل يقول (ذهب السيئات عني) أي المصائب التي ساءته من الضر والفقر والخوف والمرض عنه وزال أثرها غير شاكر لله ولا مثن عليه بنعمه (إنه لفرح فخور) أي كثير الفرح بطراً أو أشراً كثير الفخر على الناس بتعديد المناقب والتطاول عليهم بما يتفضل الله به عليه من النعم، والفرح لذة تحصل في القلب بنيل المراد والمشتهى.
وفي التعبير عن ملابسة الضر له بالمس مناسبة للتعبير في جانب النعماء بالإذاقة فإن كليهما لأدنى ما يطلق عليه اسم الملاقاة كما تقدم.(6/148)
إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (11)
(إلا الذين صبروا) فإن عادتهم الصبر عند نزول المحن، والشكر عند حصول المنن، قال الأخفش: هو استثناء منقطع، يعني ولكن الذين صبروا فإنهم ليسوا كذلك، وقيل متصل إذ المراد بالإنسان الجنس لا واحد بعينه قاله الفراء (وعملوا الصالحات) في حالة النعمة والنقمة.
(أولئك) إشارة إلى الموصول باعتبار اتصافه بالصبر وعمل الصالحات (لهم مغفرة) لذنوبهم وإن جمت (وأجر) يؤجرون به على أعمالهم الحسنة (كبير) متناه في الكبر، وهو الجنة، ووصف الأجر به لما احتوى عليه من النعيم السرمدي ودفع التكاليف والأمن من عذاب الله والنظر إلى وجهه الكريم، واختياره على العظيم لعله لرعاية الفواصل.(6/148)
فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (12) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (13)
ثم سلى الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم فقال(6/149)
فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (12)
(فلعلك) لعظم ما تراه منهم من الكفر والتكذيب واقتراح الآيات التي يقترحونها عليك على حسب هواهم وتعنتهم (تارك بعض ما يوحى إليك) مما أنزله الله عليك وأمرك بتبليغه مما يشق عليهم سماعه أو يستشقون العمل به كسب آلهتم، وأمرهم بالإيمان بالله وحده. وقيل هذا الكلام خارج مخرج الاستفهام أي هل أنت تارك، وقيل هو في معنى النفي مع الاستبعاد أي لا يكون منك ذلك بل تبلغهم جميع ما أنزل الله عليك أحبوا ذلك أم كرهوا، شاءوا أم أبوا.
(وضائق به صدرك) الضمير راجع إلى " ما " أو إلى بعض وعبر بضائق دون ضيق لأن اسم الفاعل فيه معنى الحدوث والعروض والصفة المشبهة فيها معنى اللزوم (أن يقولوا) أي كراهة أو مخافة، أو لأجل أن أو بأن لا. وقال أبو البقاء: لأن يقولوا (لولا) أي هلا (أنزل عليه كنز) أي مال مكنوز مخزون ينتفع به ويستغني به (أو جاء معه ملك) يصدقه ويبين لنا صحة رسالته.
ثم بيَّن سبحانه أن حاله صلى الله عليه وسلم مقصور على النذارة فقال (إنما أنت نذير) أي ليس عليك إلا الإنذار بما أوحى إليك، وليس عليك حصول مطلوبهم وإيجاد مقترحاتهم (والله على كل شيء وكيل) يحفظ ما يقولون وهو فاعل بهم ما يجب أن يفعل.(6/149)
أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (13)
(أم يقولون افتراه) أم هي المنقطعة بمعنى بل والهمزة، أضرب عما تقدم من تهاونهم بالوحي وعدم قنوعهم بما جاء به من المعجزات الظاهرة، وشرع في ذكر ارتكابهم لما هو أشد من ذلك وهو افتراؤهم عليه بأنه افتراء، والاستفهام للتقريع والتوبيخ والضمير المستتر للنبي صلى الله عليه وآله وسلم والبارز لما يوحى.
ثم أمره الله سبحانه أن يجيب عليهم بما يقطعهم ويبيَّن كذبهم ويظهر به عجزهم فقال (قل فأتوا بعشر سور مثله) أي مماثلة له في البلاغة وحسن النظم، وجزالة اللفظ، وفخامة المعنى، ووصف السور بما يوصف به المفرد فقال مثله ولم يقل أمثاله لأن المراد مماثله كل واحدة من السور أو لقصد الإيماء إلى أن وجه الشبه ومداره المماثلة في شيء واحد وهو البلاغة البالغة إلى حد الإعجاز.
وهذا إنما هو على القول بأن المطابقة في الجمع والتثنية والإفراد شرط، وقيل لفظة مثل وإن كانت بلفظ الإفراد فإنها يوصف بها المثنى والمجموع والمؤنث كقوله تعالى (أنؤمن لبشرين مثلنا) وتجوز المطابقة قال تعالى (وحور عين كأمثال اللؤلؤ) وقال تعالى: (ثم لا يكونوا أمثالكم) والهاء في مثله تعود لما يوحى.
ثم وصف السور بصفة أخرى فقال (مفتريات) جمع مفتراة كمصطفيات في مصطفاة فانقلبت الألف ياء كالتثنية، قاله السمين أي مختلفات حيث قالوا له افتريت هذا القرآن من عند نفسك وليس من عند الله، فتحداهم وأرخى لهم العنان وفاوضهم على مثل دعواهم وقال مفتريات في مقابلة قولهم افتراه.
ولما تحداهم بهذا الكلام أمره بأن يقول لهم (وادعوا) للاستظهار على المعارضة بالعشر السور (من استطعتم) دعاءه وقدرتم على الاستعانة به من هذا النوع الإنساني و (من دون الله) أي ممن تعبدونه وتجعلونه شريكاً لله سبحانه أي ادعوا من استطعتم متجاوزين الله سبحانه (إن كنتم صادقين) فيما تزعمون من افترائي له.(6/150)
فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (14) مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ (15)(6/151)
فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (14)
(فإلَّم) تكتب بغير نون كما في خط المصحف وهذا في خصوص هذا الموضع (يستجيبوا لكم) أي فإن لم يفعلوا ما طلبته منهم وتحديتهم به من الإتيان بعشر سور مثله، ولا استجابوا إلى المعارضة المطلوبة منهم، ويكون الضمير في لكم لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين أو للنبي (- صلى الله عليه وسلم -) وحده وجمع تعظيماً وتفخيماً.
(فاعلموا) أمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين أو للرسول وحده على التأويل الذي سلف قريباً ومعنى أمرهم بالعلم أمرهم بالثبات عليه لأنهم عالمون بذلك من قبل عجز الكفار عن الإتيان بعشر سور مثله أو المراد بالأمر بالعلم الأمر بالازدياد منه إلى حد لا يشوبه شك، ولا تخالطه شبهة، وهو علم اليقين، والأول أولى.
(إنما أنزل) متلبساً (بعلم الله) المختص به الذي لا تطلع على كنهه العقول ولا تستوضح معناه الأفهام لما اشتمل عليه من الإعجاز الخارج عن طوق البشر، وليس مفترى على الله، وإنما أداة حصر ويجوز في ما أن تكون موصولة اسمية أو حرفية تقديره فاعلموا أن تنزيله أو أن الذي أنزله متلبس بعلم الله (وأن لا إله إلا هو) أي واعلموا أن الله هو المتفرد بالألوهية لا شريك له ولا يقدر غيره على ما يقدر عليه، ثم ختم الآية بقوله (فهل أنتم مسلمون) أي ثابتون على الإسلام راسخون فيه مخلصون له إذا تحقق عندكم إعجازه.(6/151)
عن مجاهد قال: الخطاب لأصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم أي هل أنتم مزدادون من الطاعات لأنه قد حصل لكم بعجز الكفار عن الإتيان بمثل عشر سور من هذا الكتاب طمأنينة فوق ما كنتم وبصيرة زائدة وإن كنتم مسلمين من قبل هذا فإن الثبوت عليه وزيادة البصيرة فيه والطمأنينة به مطلوب منكم.
وقيل المعنى فإن لم يستجب لكم من دعوتموهم للمعاضدة والمناصرة على الإتيان بعشر سور من سائر الكفار ومن تعبدونهم وتزعمون أنهم يضرون وينفعون فاعلموا أن هذا القرآن الذي أنزله الله على هذا الرسول خارج عن قدرة غيره سبحانه وتعالى لما اشتمل عليه من الإعجاز الذي يتقاصر دونه قوة المخلوقين وأنه أنزل الله الذي لا تحيط به العقول ولا تبلغه الأفهام.
واعلموا أنه المتفرد بالألوهية لا شريك له فهل أنتم بعد هذا مسلمون أي داخلون في الإسلام متبعون لأحكامه مقتدون بشرائعه بعد قيام الحجة القاطعة.
وفي مثل هذا الاستفهام إيجاب بليغ لما فيه من معنى الطلب والتنبيه على قيام الموجب وزوال العذر، وهذا الوجه أقوى من الوجه الأول من جهة، وأضعف منه من جهة.
فأما جهة قوته فلاتّساق الضمائر وتناسبها وعدم احتياج بعضها إلى تأويل، وأما ضعفه في ترتيب الأمر بالعلم على عدم الاستجابة ممن دعوهم واستعانوا بهم من الخفاء واحتياجه إلى تكلف، وهو أن يقال إن عدم استجابة من دعوهم واستعانوا بهم من الكفار والآلهة مع حرصهم، على نصرهم ومعاضدتهم ومبالغتهم في عدم إيمانهم واستمرارهم على الكفر، يفيد حصول العلم لهؤلاء(6/152)
الكفار بأن هذا القرآن من عند الله وأن الله سبحانه هو الإله وحده لا شريك له وذلك يوجب دخولهم في الإسلام.
واعلم أنه قد اختلف التحدث للكفار بمعارضة القرآن فتارة وقع بمجموع القرآن كقوله: (لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله) وبعشر سور كما في هذه الآية وذلك لأن العشرة أول عقد من العقود، وبسورة منه كما تقدم في البقرة ويونس، وذلك لأن السورة أقل طائفة منه.
ثم إن الله سبحانه توعد من كان مقصور الهمة على الدنيا لا يطلب غيرها ولا يريد سواها فقال:(6/153)
مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ (15)
(من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها) واختلف أهل التفسير في هذه الآية فقال الضحاك: نزلت في الكفار وأهل الشرك واختاره النحاس بدليل الآية التي بعدها (أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار) وقال أنس: نزلت في اليهود والنصارى، وعن الحسن مثله، وقيل نزلت في المنافقين، وقيل الآية واردة في الناس على العموم كافرهم ومسلمهم والحمل على العموم أولى.
والمعنى أن من كان يريد بعمله حظ الدنيا يكافأ بذلك وليس المراد مجرد الإرادة والمراد بزينتها ما يزينها ويحسنها من الصحة والأمن والسعة في الرزق وارتفاع الحظ ونفاذ القول وكثرة الأولاد والرياسة ونحو ذلك، وإدخال كان في الآية يفيد أنهم مستمرون على إرادة الدنيا بأعمالهم لا يكادون يريدون الآخرة ولهذا قيل أنهم مع إعطائهم حظوظ الدنيا يعذبون في الآخرة لأنهم جردوا قصدهم إلى الدنيا ولم يعملوا للآخرة.
وظاهر قوله: (نوف إليهم أعمالهم فيها) أن من أراد بعمله الدنيا حصل له الجزاء الدنيوي لا محالة، ولكن الواقع في الخارج يخالف ذلك فليس كل متمن ينال من الدنيا أمنيته وإن عمل لها وأرادها فلا بدّ من تقييد ذلك(6/153)
بمشيئة الله سبحانه، عن ابن عباس قال: يعني من عمل صالحاً التماس الدنيا صوماً أو صلاة أو تهجداً بالليل لا يعمله إلا لذلك.
قال القرطبي: ذهب أكثر العلماء إلى أن هذه الآية مطلقة وكذلك الآية التي في الشورى (من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها) (ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها) كذلك (ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها) وقيدتها وفسرتها التي في سبحان (من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد).
(وهم فيها لا يبخسون) أي وهؤلاء المريدون بأعمالهم الدنيا هم في الدنيا لا ينقصون من جزائهم فيها بحسب أعمالهم لها وذلك في الغالب، وليس بمطرد بل إن قضت به مشيئته سبحانه ورجحته حكمته البالغة.
وقال القاضي: معنى الآية من كان يريد بعمل الخير الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم وافية كاملة من غير بخس في الدنيا وهو ما ينالون من الصحة والكفاف وسائر اللذات والطيبات والمنافع، فخص الجزاء بمثل ما ذكره وهو حاصل لكل عامل للدنيا ولو كان قليلاً يسيراً. أهـ.
وإنما عبر عن عدم نقص أعمالهم بنفي البخس الذي هو نقص الحق مع أنه ليس لهم شائبة حق فيما أوتوه كما عبر عن إعطائه بالتوفية التي هي إعطاء الحقوق مع أن أعمالهم بمعزل عن كونها مستوجبة لذلك، بناء للأمر على ظاهر الحال ومحافظة على صور الأعمال ومبالغة في نفي النقص، كأن ذلك نقص لحقوقهم فلا يدخل تحت الوقوع والصدور عن الكريم أصلاً.(6/154)
أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (16)
أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (16)
(أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار) الإشارة إلى المريدين المذكورين ولا بدّ من تقييد هذا بأنهم لم يريدوا الآخرة بشيء من الأعمال المعتد بها الموجبة للجزاء الحسن في الدار الآخرة أو تكون الآية خاصة بالكفار كما تقدم.
(وحبط ما صنعوا فيها) أي ظهر في الدار الآخرة حبوط ما صنعوه من الأعمال التي كانت صورتها صورة الطاعات الموجبة للجزاء الأخروي لولا أنهم أفسدوها بفساد مقاصدهم وعدم الخلوص وإرادة ما عند الله في دار الجزاء، بل قصروا ذلك على الدنيا وزينتها.
ثم حكم سبحانه ببطلان عملهم فقال: (وباطل ما كانوا يعملون) أي إنه كان عملهم في نفسه باطلاً غير معتد به، لأنه لم يعمل لوجه صحيح يوجب الجزاء ويترتب عليه ما يترتب على العمل الصحيح.
عن مجاهد قال: هم أهل الرياء، وهذا مشكل لأن قوله أولئك الذين، الآية لا يليق بحال المؤمن إلا إذا قلنا إن تلك الأعمال الفاسدة والأفعال الباطلة لما كانت لغير الله استحق فاعلها الوعيد الشديد وهو عذاب النار.
ويدل له ما روي عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من تعلم علماً لغير الله أو أراد به غير الله فليتبوأ مقعده من النار (1) أخرجه الترمذي.
_________
(1) الترمذي، كتاب العلم باب 6.(6/155)
وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: قال الله تعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه (1) أخرجه مسلم. وفي الباب أحاديث بمعناه والرياء هو الشرك الأصغر كما ورد في الحديث، وهذا هو أحد الأقوال.
والذي تقتضيه جزالة النظم الكريم أن المراد به مطلق الكفرة بحيث يندرج فيهم القادحون في القرآن العظيم اندراجاً أولياً، فإنه عز وعلا لما أمر نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بأن يزدادوا علماً ويقيناً بأن القرآن مُنزل بعلم الله وبأن لا قدرة لغيره على شيء أصلاً، وهيجهم على الثبات على الإسلام والرسوخ فيه عند ظهور عجز الكفرة وما يدعون من دون الله عن المعارضة، وتبين أنهم ليسوا على شيء أصلاً، اقتضى الحال أن يتعرض لبعض شئونهم الموهمة لكونهم على شيء في الجملة ممن نيلهم الحظوظ العاجلة واستيلائهم على المطالب الدنيوية، وبيان أن ذلك بمعزل عن الدلالة عليه، ولقد بينَّ ذلك أي بيان.
_________
(1) مسلم 2985.(6/156)
أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (17)
أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (17)
ثم بيَّن سبحانه أن بين من كان طالباً للدنيا فقط ومن كان طالباً للآخرة تفاوتاً وتبايناً بعيداً فقال: (أفمن كان على بيّنة) برهان يدل على الحق (من ربه) في اتباع النبي صلى الله عليه وسلم والإيمان بالله كغيره، ممن يريد الحياة الدنيا وزينتها، وقيل المراد به النبي صلى الله عليه وسلم، أي أفمن كان معه بيان من الله ومعجزة كالقرآن ومعه شاهد كجبريل، وقد بشرت به الكتب السابقة كمن كان يريد الحياة الدنيا وزينتها.
والضمير في (ويتلوه شاهد) راجع إلى البيّنة باعتبار تأويلها بالبرهان أي يؤيده ويشدّده ويقويه، والضمير في (منه) راجع إلى القرآن لأنه تقدم ذكره في قوله أم يقولون افتراه أو راجع إلى الله تعالى. والمعنى ويتلو البرهان الذي هو البيّنة شاهد يشهد بصحته من القرآن أو من الله سبحانه، والشاهد هو الإعجاز الكائن في القرآن أو المعجزات التي ظهرت لرسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) فإن ذلك من الشواهد التابعة للقرآن.
وقال الفراء: قال بعضهم: ويتلوه شاهد منه الإنجيل وإن كان قبله فهو يتلو القرآن في التصديق، والهاء في منه لله عز وجل. وقيل المراد بمن كان على بيّنة من ربه هم مؤمنو أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وإضرابه.
وعن علي بن أبي طالب قال: ما من رجل من قريش إلا نزل فيه طائفة من القرآن، فقال له رجل: ما نزل فيك؟ قال: أما تقرأ سورة هود (أفمن كان على بيّنة من ربه ويتلوه شاهد منه) فرسول الله صلى الله عليه وسلم بيّنة(6/157)
من ربه وأنا شاهد منه، أخرجه أبو نعيم وابن أبي حاتم.
وعنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ويتلوه شاهد منه، علي (1) أخرجه ابن عساكر. وعنه وددت أني أنا هو ولكنه لسان محمد. وعن ابن عباس أن الشاهد جبريل، ووافقه سعيد بن جبير وعلقمة وإبراهيم ومجاهد والضحاك وأكثر المفسرين. وقال الحسن وقتادة: هو لسان النبي صلى الله عليه وسلم.
ووجه ذلك أن اللسان لما كان يعرب عما في الجنان، ويظهره جعل كالشاهد له لأنه آية الفصل والبيان وبه يتلى القرآن. وقال مجاهد: الشاهد هو ملك يحفظ النبي (- صلى الله عليه وسلم -) ويسدده والأول أولى.
(ومن قبله) أي القرآن (كتاب موسى) عطف على شاهد والتقدير ويتلوه الشاهد وشاهد آخر وهو كتاب موسى، فهو إن كان متقدماً في النزول فهو يتلو الشاهد في الشهادة، وإنما قدم الشاهد على كتاب موسى مع كونه متأخراً في الوجود لكونه وصفاً لازماً غير مفارق فكان أعرق في الوصفية من كتاب موسى.
ومعنى شهادة كتاب موسى وهو التوراة أنه بشر بمحمد صلى الله عليه وسلم وأخبر بأنه رسول من الله.
قال الزجاج: والمعنى ويتلوه من قبله كتاب موسى لأن النبي صلى الله عليه وسلم موصوف في كتاب موسى يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل، وقرئ كتاب موسى بالنصب أي يتلو كتاب موسى جبريل.
(إماماً ورحمة) الإمام هو الذي يؤتم به في أمور الدين ويقتدى به في الأحكام والشرائع، والرحمة النعمة العظيمة التي أنعم الله بها على من أنزله
_________
(1) فيه رائحة التشيع.(6/158)
عليهم وعلى من بعدهم إلى يوم القيامة باعتبار ما اشتمل عليه من الأحكام الشرعية الموافقة لحكم القرآن.
(أولئك) أي المتصفون بتلك الصفة الفاضلة وهو الكون على البينة من الله (يؤمنون به) أي يصدقون بالنبي صلى الله عليه وسلم أو بالقرآن (ومن يكفر به) أي بالنبي أو بالقرآن (من الأحزاب) وهم المتحزبون على رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل مكة وغيرهم أو المتحزبون من أهل الأديان كلها قال قتادة: الكفار أحزاب كلهم على الكفر.
(فالنار موعده) أي هو من أهل النار لا محالة وفي جعل النار موعداً إشعار بأن فيها ما لا يحيط بها الوصف من أفانين العذاب.
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة لا يهودي ولا نصراني ومات ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار (1) أخرجه البغوي بسنده، قال سعيد بن جبير: ما بلغني حديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على وجهه إلا وجدت مصداقه في كتاب الله حتى بلغني هذا الحديث، فقلت أين هذا في كتاب الله حتى أتيت على هذه الآية.
(فلا تك في مرية منه) أي في شك من كون القرآن نازلاً من عند الله وفيه تعريض بغيره صلى الله عليه وسلم لأنه معصوم عن الشك في القرآن أو في شك من الموعد. والمرية بالكسر والضم والأولى لغة الحجاز، وبها قرأ جماهير الناس، والثانية لغة أسد وتميم وبها قرأ السلمي وغيره (إنه الحق من ربك) فلا مدخل للشك منه بحال من الأحوال (ولكن أكثر الناس لا يؤمنون) بذلك مع وجوب الإيمان به وظهور الدلائل الموجبة له، ولكنهم يعاندون مع علمهم بكونه حقاً أو قد طبع على قلوبهم فلا يفهمون أنه الحق أصلاً.
_________
(1) شرح السنة 1/ 104.(6/159)
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (18) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (19)(6/160)
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (18)
(ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً) أي لا أحد أظلم منهم لأنفسهم لأنهم افتروا عليه سبحانه كذباً بقولهم لأصنامهم هؤلاء شفعاؤنا عند الله. وقولهم الملائكة بنات الله، وأضافوا كلامه سبحانه إلى غيره، واللفظ وإن كان لا يقتضي إلا نفي وجود من هو أظلم منهم كما يفيده الاستفهام الإنكاري فالمقام يفيد نفي المساوي لهم في الظلم، فالمعنى على هذا لا أحد مثلهم في الظلم فضلاً عن أن يوجد من هو أظلم منهم، وذكر لهم هنا من أوصافهم أربعة عشر وصفاً، أولها افتراء الكذب وآخرها كونهم في الآخرة أخسر من غيرهم
(أولئك) أي الموصوفون بالظلم المتبالغ (يعرضون على ربهم) يوم القيامة فيحاسبهم على أعمالهم أو المراد بعرضهم عرض أعمالهم عرضاً تظهر به فضيحتهم (ويقول الأشهاد) جمع شهيد، ورجحه أبو علي بكثرة ورود شهيد في القرآن كقوله (ويكون الرسول عليكم شهيداً، فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً).
وقيل هو جمع شاهد كأصحاب وصاحب. قال مجاهد: هم الملائكة الحفظة وقيل المرسلون. قاله ابن عباس، وقيل الملائكة والمرسلون والعلماء الذين بلغوا ما أمرهم الله بإبلاغه، وقيل جميع الخلائق، قاله قتادة. والمعنى أنه يقول هؤلاء الأشهاد عند العرض
(هؤلاء) المعرضون أو المعروضة أعمالهم (الذين كذبوا على ربهم) في(6/160)
الدنيا بما نسبوه إليه ولم يصرحوا بما كذبوا به، كأنه كان أمراً معلوماً عند أهل ذلك الموقف (ألا لعنة الله على الظالمين) الذين ظلموا أنفسهم بالافتراء، هذا من تمام كلام الأشهاد، أي يقولون ألا لعنة الله الخ، ويجوز أن يكون من كلام الله سبحانه. قاله بعدما قال الأشهاد.
وفي الصحيحين وغيرهما عن ابن عمر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الله يدني المؤمن حتى يضع كنفه ويستره من الناس ويقرره بذنوبه ويقول له: أتعرف ذنب كذا؟ أتعرف ذنب كذا؟ فيقول رب أعرف، حتى إذا قرره بذنوبه ورأى في نفسه أنه قد هلك قال فإني سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم. ثم يعطى كتاب حسناته وأما الكافر والمنافق فيقول الأشهاد إلى قوله الظالمين (1).
والفائدة في قول الأشهاد بهذه المقالة المبالغة في فضيحة الكفار والتقريع لهم على رؤوس الأشهاد.
ثم وصف هؤلاء الظالمين الذين لعنوا بأنهم
_________
(1) البخاري كتاب التوحيد باب 36 بلفظ: " يدنو أحدكم من ربه حتى ... ".(6/161)
الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (19)
(الذين يصدون عن سبيل الله) أي يمنعون من قدروا على منعه عن دين الله والدخول فيه، وقال السدي عن محمد صدت قريش عنه الناس.
(ويبغونها عوجاً) أي يصفونها بالاعوجاج تنفيراً للناس عنها أو يبغون أهلها أن يكونوا معوجين بالخروج عنها إلى الكفر، يقال بغيتك شراً أي طلبته لك. وقال أبو مالك: يعني يرجون بمكة غير الإسلام ديناً.
(وهم) أي والحال أنهم هم بالآخرة (كافرون) أي غير مصدقين فكيف يصدون الناس عن طريق الحق وهم على الباطل البحت، وتكرير الضمير لتأكيد كفرهم واختصاصهم به، حتى كأن كفر غيرهم غير معتد به بالنسبة إلى عظيم كفرهم.(6/161)
أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ (20) أُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (21)(6/162)
أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ (20)
(أولئك) الموصوفون بتلك الصفات (لم يكونوا معجزين في الأرض) أي ما كانوا يعجزون الله في الدنيا إن أراد عقوبتهم، وقيل معناه سابقين، وقيل فائتين، وقيل مفلتين أنفسهم من أخذه لو أرادوا ذلك في الأرض مع سعتها وإن هربوا فيها كل مهرب
(وما كان لهم من دون الله من أولياء) يدفعون عنهم ما يريده الله سبحانه من عقوبتهم وإنزال بأسه بهم؛ ومن زائدة
(يضاعف) وقرئ يضعَّف بالتشديد (لهم العذاب) في الآخرة مستأنفة لبيان أن تأخير العذاب والتراخي عن تعجيله لهم ليكون عذاباً مضاعفاً بسبب صدهم عن سبيل الله وإنكارهم البعث، بعد الموت
وقال السيوطي: بإضلالهم غيرهم قال الصاوي: حاصله (1) إن المضاعفة مخصوصة بالحسنات، وأما السيئات فلا تضاعف قال تعالى (ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها) فمعنى المضاعفة الشدة لأنهم يعذبون عذابين عذاباً على ضلالهم في أنفسهم وعذاباً على إضلالهم غيرهم.
(ما كانوا يستطيعون السمع) أي أفرطوا في إعراضهم عن الحق وبغضهم له حتى كأنهم لا يقدرون على السمع للحق وهذا تعليل لمضاعفة
_________
(1) قوله حاصله أي حاصل قول السيوطي إهـ منه.(6/162)
العذاب (وما كانوا يبصرون) أي ولا يقدرون على الإبصار لفرط تعاميهم عن الصواب.
ويجوز أن يراد بقوله (وما كان لهم من دون الله من أولياء) أنهم جعلوا آلهتهم أولياء من دون الله ولا ينفعهم ذلك، فما كان هؤلاء الأولياء يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون فكيف ينفعونهم فيجلبون لهم نفعاً ويدفعون عنهم ضراً.
وقوله: (يضاعف لهم العذاب) اعتراض وسط بينهما نعياً عليهم من أول الأمر سوء العاقبة ويجوز أن يكون ما هي المدة، والمعنى أنه يضاعف لهم العذاب مدة استطاعتهم السمع والبصر، وقال الفراء: لا يستطيعون السمع لأن الله أضلهم في اللوح المحفوظ.
وقال الزجاج: لبغضهم النبي صلى الله عليه وسلم وعداوتهم له لا يستطيعون أن يسمعوا منه ولا يفهموا عنه.
قال النحاس: هذا معروف في كلام العرب يقال فلان لا يستطيع أن ينظر إلى فلان، إذا كان ثقيلاً عليه.(6/163)
أُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (21)
(أولئك) المتصفون بتلك الصفات (الذين خسروا أنفسهم) بعبادة غير الله، والمعنى اشتروا عبادة الآلهة بعبادة الله فكان خسرانهم في تجارتهم أعظم خسران (وضل) أي ذهب وضاع (عنهم ما كانوا يفترون) من الآلهة التي يدعون أنها تشفع لهم ولم يبق بأيديهم إلا الخسران.(6/163)
لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (22) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (23) مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (24)(6/164)
لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (22)
(لا جرم أنهم في الآخرة هم الأخسرون) قال الخليل وسيبويه: لا جرم بمعنى حق فهي عندهما بمنزلة كلمة واحدة وبه قال الفراء، وروي عن الخليل والفراء أنها بمنزلة قولك لا بد ولا محالة، ثم كثر استعمالها حتى صارت بمنزلة حقًا.
وقال الزجاج: أن جرم بمعنى كسب وفاعله مضمر أي كسب ذلك الفعل لهم الخسران، وأن منصوبة بجرم.
قال الأزهري: وهذا من أحسن ما نقل في هذه اللغة، وقال الكسائي: معنى لا جرم لا صد ولا منع، وقال جماعة من النحويين: أن معنى لا جرم لا قطع قاطع قالوا والجرم القطع وقد جرم النخل واجترمه أي قطعه.
ووردت هذه اللفظة في القرآن في خمسة مواضع متلوة بأن واسمها ولم يجيء بعدها فعل ويقال في كل واحد منها ما قيل هنا، وفيه لغات بكسر الجيم وبضمها ولا جر بحذف الميم، ولا أن ذا جرم ولا ذو جرم وغير ذلك:
وفي هذه الآية بيان أنهم قد بلغوا في الخسران إلى حد يتقاصر عنه غيرهم ولا يبلغ إليه، وهذه الآيات مقررة لما سبق من نفي المماثلة بين من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها وبين من كان على بينة من ربه.(6/164)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (23)
(إن الذين آمنوا) أي صدقوا بكل ما يجب عليهم التصديق به من(6/164)
كون القرآن من عند الله وغير ذلك من خصال الإيمان (وعملوا الصالحات) أراد بها جميع أعمال الجوارح (وأخبتوا إلى ربهم) أي أنابوا إليه وسكنوا، وقيل خشعوا وقيل خضعوا وقيل خافوا، قاله ابن عباس وقيل اطمأنوا قاله مجاهد، وهذا إشارة إلى أعمال القلوب، وقيل وأصل الإخبات الاستواء في الخبت وهو الأرض المستوية الواسعة فيناسب معنى الخشوع والاطمئنان.
قال الفراء: إلى ربهم ولربهم واحد، وقيل لفظ الإخبات يتعدى باللام وإلى فإذا قلت أخبت فلان إلى كذا فمعناه اطمأن إليه، وإذا قلت له فمعناه خشع وخضع (أولئك) الموصوفون بتلك الصفات الصالحة (أصحاب الجنة هم فيها خالدون) لا انقطاع لنعيمها ولا زوال لأهلها.(6/165)
مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (24)
(مثل الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع) ضرب للفريقين مثلاً وهو تشبيه فريق الكافرين بالأعمى والأصم وتشبيه فريق المؤمنين بالبصير والسميع على أن كل فريق شبه بشيئين أو شبه بمن جمع بين الشيئين، فالكافر شبه بمن جمع بين العمى والصمم، والمؤمن شبه بمن جمع بين السمع والبصر، وعلى هذا يكون الواو في والأصم وفي والسميع لعطف الصفة على الصفة.
(هل يستويان مثلاً) أي حالاً وصفة (أفلا تذكرون) في عدم استوائهما وفيما بينهما من التفاوت الظاهر لا يخفى على من له تذكر وعنده تفكر وتأمل. والهمزة لإنكار عدم التذكر واستبعاد صدوره عن المخاطبين.
ولما أورد سبحانه على الكفار المعاصرين لمحمد صلى الله عليه وسلم أنواع الدلائل التي هي أوضح من الشمس أكد ذلك بذكر القصص على طريقة الافتنان في الكلام، ونقله من أسلوب إلى أسلوب لتكون الموعظة أظهر والحجة أبين والقبول أتم فقال.(6/165)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (25) أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (26) فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ (27)(6/166)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (25)
(ولقد) الواو للابتداء واللام هي الموطئة للقسم (أرسلنا نوحاً إلى قومه إني لكم نذير مبين) بالكسر على إرادة القول أي فقال أو قائلا، وقرئ بالفتح على إضمار حرف الجر أي أرسلناه متلبساً بذلك الكلام وهو إني لكم، واقتصر على النذارة دون البشارة لأن دعوته كانت لمجرد الإنذار أو لكونهم لم يعملوا بما بشرهم به.
وفي هذه السورة ذكر أنواع من القصص، الأولى قصة نوح، الثانية قصة هود، الثالثة قصة صالح، الرابعة قصة إبراهيم؛ الخامسة قصة لوط، السادسة قصة شعيب، السابعة قصة موسى وهي آخر القصص على الترتيب الزماني.(6/166)
أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (26)
(أن لا تعبدوا إلا الله) أن مصدرية أو مفسرة متعلقة بأرسلنا أو بنذير أو بمبين ولا ناهية (إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم) تعليلية والمعنى نهيتكم عن عبادة غير الله لأني أخاف عليكم، وفيها تحقيق لمعنى الإنذار، واليوم هو يوم القيامة أو يوم الطوفان، ووصفه بالأليم من باب الإسناد المجازي مبالغة.
ثم ذكر ما أجاب به قومه عليه، وهذا الجواب يتضمن الطعن منهم في نبوته من ثلاث جهات(6/166)
فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ (27)
(فقال الملأ الذين كفروا من قومه) الملأ الأشراف كما تقدم غير مرة، ووصفهم بالكفر ذماً لهم وفيه دليل على أن بعض أشراف قومه لم يكونوا كفرة (ما نراك إلا بشراً مثلنا) هذه الجهة الأولى من جهات طعنهم في نبوته، أي نحن وأنت مشتركون في البشرية فلم تكن لك علينا مزية تستحق بها النبوة دوننا.(6/166)
والجهة الثانية (وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا) أي ولم يتبعك أحد من الأشراف فليس لك مزية علينا باتباع هؤلاء الأراذل لك، والأراذل جمع أرذل بضم الذال وأرذل جمع رذل بسكونها مثل أكالب واكلب وكلب فهو جمع الجمع، وقيل الأراذل جمع أرذل كالأساود جمع أسود، وهم السفلة كالحاكة والأساكفة، والأرذل الأدون من كل شيء فقال النحاس الأراذل الفقراء والذين لا حسب لهم والحسب الصناعات.
وقال الزجاج: نسبوهم إلى الحياكة ولم يعلموا أن الصناعات لا أثر لها في الديانة لأن الرفعة في الدين ومتابعة الرسل لا تكون بالشرف والمال والمناصب العلية بل للفقراء الخاملين وهم أتباع الرسل ولا تضرهم خسة صنائعهم إذا حسنت سيرتهم في الدين، وهذه عادة الله في الأنبياء والأولياء أن أول من يتبعهم ضعفاء الناس لذلهم فلا يتكبرون عن الاتباع بمال ولا جاه.
وقال ثعلب عن ابن الأعرابي: السفلة هو الذي يصلح الدنيا بدينه قيل له فمن سفلة السفله، قال: الذي يصلح دنيا غيره بفساد دينه.
والظاهر من كلام أهل اللغة أن السفلة هو الذي يدخل في الحرف الدنية، والرؤية في الموضعين أن كانت القلبية فبشراً في الأول واتبعك في الثاني هما المفعول الثاني، وإن كانت البصرية فهما منتصبان على الحال.
(بادي الرأي) أي في ظاهر الرأي من غير تعمق، يقال بدا يبدو إذا ظهر قال الأزهري: معناه فيما يبدو لنا من الرأي، وقيل أول الرأي قرئ بالهمز وتركه وهما سبعيتان ونصبه على الظرف أي وقت حدوث أول رأيهم.
والوجه الثالث من جهات قدحهم في نبوته (وما نرى لكم علينا من فضل) بالمال والشرف والجاه والرأي خاطبوه في الوجهين الأولين منفرداً، وفي هذا الوجه خاطبوه مع متبعيه، ثم أضربوا عن الثلاثة المطاعن وانتقلوا إلى ظنهم المجرد عن البرهان الذي لا مستند له إلا مجرد العصبية والحسد واستبقاء ما هم فيه من الرياسة الدنيوية فقالوا (بل نظنكم كاذبين) فيما تدعونه، ويجوز(6/167)
قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ (28)
وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (29)
أن يكون هذا خطاباً للأراذل وحدهم، والأول أولى لأن الكلام مع نوح لا معهم إلا بطريق التبعية له.
ثم ذكر سبحانه ما أجاب به نوح عليه السلام عليهم إجمالاً فقال(6/168)
قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ (28)
(قال يا قوم أرأيتم) أي أخبروني (إن كنت على بينة) برهان (من ربي) في النبوة يدل على صحتها ويوجب عليكم قبولها مع كون ما جعلتموه قادحاً ليس بقادح في الحقيقة فإن المساواة في صفة البشرية لا تمنع المفارقة في صفة النبوة واتباع الأراذل كما تزعمون ليس مما يمنع من النبوة فإنهم مثلكم في البشرية والعقل والفهم فاتباعهم لي حجة عليكم لا لكم، ويجوز أن يريد بالبينة المعجزة، وفي هذا الخطاب غاية التلطف بهم.
(وآتاني رحمة من عنده) وهي النبوة وقيل الرحمة المعجزة والبينة النبوة قيل ويجوز أن يكون الرحمة هي البينة نفسها والأولى تفسير الرحمة بغير ما فسرت به البينة وقيل الرحمة هي على الحق، وقيل هي الهداية إلى معرفة البرهان، وقيل الإيمان والإفراد في (فعميت) على إرادة كل واحدة منهما أو على إرادة البينة لأنها هي التي تظهر لمن تفكر وتخفى على من لم يتفكر، ومعنى عميت خفيت يقال عميت عن كذا وعمي عليّ كذا إذا لم أفهمه.
قيل وهو من باب القلب لأن البينة أو الرحمة لا تعمي، وإنما يعمى عنها(6/168)
فهو كقولهم أدخلت القلنسوة رأسي، وقيل أن عمى الدليل بمعنى خفائه مجازاً فيقال حجة عمياء كما يقال مبصرة للواضحة وهو استعارة تبعية، شبه خفاء الدليل بالعمى في إن كُلاًّ يمنع الوصول إلى المقاصد وقرئ فعميت بضم العين وتشديد الميم على البناء للمفعول أي فعماها الله.
(عليكم) فلم تهدكم كما لو عمي على القوم دليلهم في المفازة بقوا بغيرها وفي قراءة أُبيّ فعماها عليكم.
والاستفهام في (أنلزمكموها) للإنكار أي لا يمكنني أن أضطركم إلى المعرفة بها أي بالرحمة والمراد إلزام الجبر بالقتل ونحوه لا إلزام الإيجاب إذ هو حاصل ولذا فسره السيوطي بقوله أنجبركم على قبولها (وأنتم) أي والحال أنكم (لها كارهون) أي منكرون ونافون لها، والمعنى أخبروني إن كنت على حجة ظاهرة الدلالة على صحة النبوة إلا أنها خافية عليكم أيمكننا أن نضطركم إلى العلم بها والحال أنكم لها كارهون غير متدبرين فيها فإن ذلك لا يقدر عليه إلا الله عز وجل.
وعن قتادة قال: أما والله لو استطاع نبي الله لألزمها قومه، ولكنه لم يستطع ذلك ولم يمكنه.(6/169)
وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (29)
(ويا قوم لا أسالكم عليه مالاً إن أجري إلا على الله) فيه التصريح منه عليه السلام بأنه لا يطلب على تبليغ الرسالة مالاً حتى يكون بذلك محلاً للتهمة، ويكون لقول الكافرين مجال بأنه ادعى طلباً للدنيا، والضمير في عليه راجع إلى ما قاله لهم فيما قبل هذا.
(و) قوله (ما أنا بطارد الذين آمنوا) كالجواب عما يفهم من قولهم (وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا) من التلميح منهم إلى إبعاد الأراذل(6/169)
عنه وقيل إنهم سألوه طردهم تصريحاً لا تلميحاً، وهذا كما قالت قريش لمحمد (- صلى الله عليه وسلم -) كما تقدم في سورة الأنعام (ولا تطرد الذين يدعون ربهم) الآية
ثم علل ذلك بقوله (إنهم ملاقوا ربهم) أي لا أطردهم فإنهم ملاقون يوم القيامة ربهم فهو يجازيهم على إيمانهم لأنهم طلبوا بإيمانهم ما عنده سبحانه، وكأنه قال هذا على وجه الإعظام لهم، ويحتمل أنه قاله خوفاً من مخاصمتهم له عند ربهم بسبب طرده لهم.
ثم بين لهم ما هم عليه في هذه المطالب التي طلبوها منه والعلل التي اعتلوا بها عن إجابته فقال (ولكني أراكم قوماً تجهلون) كل ما ينبغي أن يعلم، ومن ذلك استرذالهم للذين اتبعوه وسؤالهم له أن يطردهم.(6/170)
وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (30) وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (31) قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (32)
ثم أكد عدم جواز طردهم بقوله(6/171)
وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (30)
(ويا قوم من ينصرني من الله) أي من يمنعني من عذاب الله وانتقامه (إن طردتهم) فإن طردهم بسبب سبقهم إلى الإيمان والإجابة إلى الدعوة التي أرسل الله رسوله لأجلها ظلم عظيم لا يقع من الأنبياء المؤيدين بالعصمة، ولو وقع ذلك منهم فرضاً وتقديراً لكان فيه من الظلم ما لا يكون لو فعله غيرهم من سائر الناس.
(أفلا تذكرون) معطوف على مقدر كأنه قيل أتستمرون على ما أنتم عليه من الجهل بما ذكر فلا تذكرون من أحوالهم ما ينبغي تذكره وتتفكرون فيه حتى تعرفوا ما أنتم عليه من الخطأ، وماءهم عليه الصواب، وقيل تقديره أتأمروني بطردهم فلا تذكرون، وقيل الأصل فلا تذكرون، وقيل أفلا بمعنى هلا التحضيضية كما ذكره الكرخي.(6/171)
وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (31)
(ولا أقول لكم عندي خزائن الله) أعطيكم منها، بين لهم أنه كما لا يطلب منهم شيئاً من أموالهم على تبليغ الرسالة، كذلك لا يدعي أن عنده خزائن الله حتى تستدلوا بعدمها على كذبه كما قالوا (وما نرى لكم علينا من فضل) والمراد بخزائن الله خزائن رزقه، وقال ابن الأنباري: الخزائن هنا بمعنى غيوب الله وما هو منطو عن الخلق والأول أولى لقوله (ولا أعلم الغيب) أي ولا أدعي أني أعلم بغيب الله بل لم أقل لكم إلا إني نذير مبين إني أخاف(6/171)
عليكم عذاب يوم أليم وهذا رد لقولهم (وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي) أي في ظاهر حالهم وأول فكرهم، وفي الباطن لم يتبعوك، فقال لهم إني إنما أعوّل على الظاهر لأني لا أعلم الغيب فأحكم به.
(ولا أقول) لكم (إني ملك) حتى تقولوا ما نراك إلا بشراً مثلنا، فإن البشرية ليست من موانع النبوة بل من مباديها، وقد استدل بهذا من قال إن الملائكة أفضل من الأنبياء، والأدلة نفي هذه المسألة مختلفة وليس لطالب الحق إلى تحقيقها حاجة، فليست هي مما كلفنا الله بعلمه
(ولا أقول للذين) أي في شأن الذين (تزدري أعينكم) أي تحتقر وتستصغر، والإزدراء مأخوذ من أزرى عليه إذا عابه وزرى عليه إذا احتقره، والمعنى أني لا أقول لهؤلاء المتبعين لي المؤمنين بالله الذين تعيبونهم وتحتقرونهم (لن يؤتيهم الله خيراً) أي توفيقاً وهداية وإيماناً وأجراً بل قد آتاهم الخير العظيم بالإيمان به واتباع نبيه، فهو مجازيهم بالجزاء العظيم في الآخرة ورافعهم في الدنيا إلى أعلى محل، ولا يضرهم احتقاركم لهم شيئاً.
(الله أعلم بما في أنفسهم) من الإيمان به والإخلاص له فمجازيهم على ذلك ليس لي ولا لكم من أمرهم شيء (إني إذاً لمن الظالمين) لهم أن فعلت ما تريدونه بهم أو من الظالمين لأنفسهم إن فعلت ذلك بهم
ثم جاوبوه بغير ما تقدم من كلامهم وكلامه(6/172)
قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (32)
(قالوا) عجزاً عن القيام بالحجة وقصوراً عن رتبة المناظرة وانقطاعاً عن المباراة بقولهم (يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا) أي خاصمتنا بأنواع الخصام ودفعتنا بكل حجة لها مدخل في المقام، ولم يبق لنا في هذا الباب مجال فقد ضاقت علينا المسالك وانسدت أبواب الحيل (فائتنا بما تعدنا) من العذاب الذي تخوفنا منه وتخافه علينا (إن كنت من الصادقين) فيما تقوله لنا.(6/172)
قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (33) وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (34)
فأجاب بأن ذلك ليس إليه وإنما هو بمشيئة الله وإرادته و(6/173)
قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (33)
(قال إنما يأتيكم به الله إن شاء) فإن قضت مشيئته وحكمته بتعجيله عجله لكم، وإن قضت مشيئته وحكمته بتأخيره أخره (وما أنتم بمعجزين) بفائتين عما أراده الله بكم بهرب أو مدافعة(6/173)
وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (34)
(ولا ينفعكم نصحي) الذي أبذله لكم وأستكثر منه قياماً مني بحق النصيحة لله بإبلاغ رسالته لكم بإيضاح الحق؛ وبيان بطلان ما أنتم عليه (إن أردت أن أنصح لكم) وجواب هذا الشرط محذوف والتقدير لا ينفعكم نصحي كما يدل عليه ما قبله
(إن كان الله يريد أن يغويكم) أي إغواءكم فلا ينفعكم النصح مني، وكان جواب هذا الشرط محذوفاً كالأول وتقديره ما ذكرنا، وهذا التقدير إنما هو على مذهب من يمنع من تقدم الجزاء على الشرط، وأما على مذهب من يجيزه فجزاء الشرط الأول ولا ينفعكم نصحي، والجملة جزاء للشرط الثاني.
قال ابن جرير: معنى يغويكم يهلككم بعذابه؛ وظاهر لغة العرب أن الإغواء الإضلال، فمعنى الآية لا ينفعكم نصحي إن كان الله يريد أن يضلكم عن سبيل الرشاد، ويخذلكم عن طريق الحق. وحكى عن طي أصبح فلان غاوياً أي مريضاً وليس هذا العنى هو المراد في الآية، وقد ورد الأغواء بمعنى الإهلاك، ومنه فسوف يلقون غياً، وهو غير ما في الآية هذه.
(هو ربكم) فإليه الإغواء وإليه الهداية (وإليه ترجعون) فيجازيكم بأعمالكم إن خيراً فخير، وأن شراً فشر(6/173)
أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ (35) وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36) وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (37) وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ (38)(6/174)
أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ (35)
(أم يقولون افتراه) أنكر سبحانه عليهم قولهم إن ما أوحى إلى نوح مفترى ثم أمره أن يجيب بكلام منصف فقال (قل إن افتريته فعليَّ إجرامي) بكسر الهمزة مصدر أجرم أي فعل ما يوجب الإثم وجرم وأجرم بمعنى، قاله النحاس أي اكتسب الذنب وافتعله، والمعنى فعلّي إثمي أو جزاء كسبي، ومن قرأ بفتح الهمزة قال هو جمع جرم ذكره النحاس أيضاً.
قال قتادة: إجرامي أي عملي، والإجرام اكتساب السيئة واقترافها، يقال جرم جرماً أذنب والاسم منه الجرم بالضم والجريمة مثله، وأجرم هو الفاشي في الاستعمال، ويجوز جرم ثلاثياً، والمعنى إن كنت افتريته فعليّ عقاب جرمي، وإن كنت صادقاً وكذبتموني فعليكم عقاب ذلك التكذيب إلا أنه حذفت هذه البقية لدلالة الكلام عليها، ولا يدل ذلك على أنه كان شاكاً لأنه قول يقال على وجه الإنكار عند اليأس من القبول (وأنا بريء مما تجرمون) أي من إجرامكم بسبب ما تنسبون إلى من الافتراء، قيل وفي الكلام حذف والتقدير لكن ما افتريته فالإجرام وعقابه ليس إلا عليكم وأنا بريء منه.
وقد اختلف المفسرون في هذه الآية فقيل أنها حكاية عن نوح وما قاله لقومه، وقيل هي حكاية عن المحاورة الواقعة بين نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وكفار مكة قاله مقاتل، فعلى هذا تكون الآية معترضة في قصة نوح والأول أولى، لأن الكلام قبلها وبعدها مع نوح عليه السلام.(6/174)
وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36)
(وأوحي إلى نوح أنه) في محل رفع على أنه نائب الفاعل الذي لم يسم، ويجوز أن يكون في محل نصب بتقدير الباء أي بأنة (لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن) وفي الكلام تأييس له من إيمانهم وإنهم مستمرون على كفرهم مصممون عليه لا يؤمن أحد منهم إلا من قد سبق إيمانه، أو المراد إلا من استعد للإيمان وتوقع منه ولا يراد ظاهره، وإلا كان المعنى إلا من آمن فإنه يؤمن
وقيل أن الاستثناء منقطع وهو على طريقة قوله (إلا ما قد سلف) قال قتادة: وذلك حين دعا عليهم نوح قال (لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً) وعن الحسن قال: إن نوحاً لم يدع على قومه حتى نزلت الآية هذه فانقطع عند ذلك رجاؤه منهم فدعا عليهم (فلا تبتئس بما كانوا يفعلون) البؤس الحزن أي فلا تحزن عليهم، قاله ابن عباس والبائس المستكين، فنهاه الله سبحانه عن أن يحزن حزن مستكين لأن الابتئاس حزن في استكانة، يقال ابتأس فلان إذا بلغه ما يكره والمبتئس الكاره الحزين.
ثم إن الله سبحانه لما أخبره أنهم لا يؤمنون البتة عرفه الله هلاكهم وألهمه الأمر الذي يكون به خلاصة وخلاص من آمن معه فقال(6/175)
وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (37)
(واصنع الفلك) الظاهر أنه أمر إيجاب لأنه لا سبيل إلى صون روح نفسه وأرواح غيره من الهلاك إلا بهذا الطريق وصون النفس من الهلاك واجب، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، أي اعمل السفينة متلبساً (بأعيننا) أي بمرأى منا وبأبصارنا لك وهو مجاز عن كلاء الله له بالحفظ وعبر بالأعين عن ذلك لأنها آلة الرؤية وهي التي تكون بها الحراسة والحفظ في الغالب.
وقيل بعلمنا لك وجمع الأعين للمبالغة والتعظيم لا للتكثير، وقيل معناها بأعين ملائكتنا الذين جعلناهم عيوناً على حفظك، وقيل بأمرنا، والحق أن العين صفة من صفاته لا ندري كيفيتها فيجب إمرارها على ظاهرها من دون(6/175)
تأويل ولا تعطيل ولا تشبيه ولا تمثيل ولا تقدير.
ومعنى (ووحينا) بما أوحينا إليك من كيفية صنعتها، وقال ابن عباس: بعين الله ووجهه ولم يعلم نوح كيف يصنع الفلك فأوحى الله إليه أن يصنعها مثل جؤجؤ الطائر.
(ولا تخاطبني في الذين ظلموا) قيل هم امرأته وابنه أي لا تطلب إمهالهم وترك إهلاكهم أي لا تراجعني ولا تدني باستدفاع العذاب عنهم فقد حان وقت الانتقام منهم (إنهم مغرقون) تعليل لما قبله أي فإنهم محكوم منا عليهم بالغرق وقد مضى به القضاء فلا سبيل إلى دفعه ولا تأخيره، وقيل العنى ولا تخاطبني في تعجيل عقابهم فإنهم مغرقون في الوقت الضروب لذلك لا يتأخر إغراقهم عنه.(6/176)
وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ (38)
(و) طفق (يصنع الفلك) أو أخذ أو أقبل يصنعها فاقتصر على يصنع وقيل هو حكاية حال ماضية لاستحضار صورتها العجيبة، وأياً ما كان ففيه ملاءمة للاستمرار المفهوم من الجملة الآتية الواقعة حالاً من ضميره، ومكث في صنع السفينة مائتي سنة ذكره الصاوي وقيل أربعمائة سنة ذكره أبو السعود، وقال ابن عباس: اتخذ نوح السفينة في سنتين وقيل ثلاثين سنة.
وكان طولها ثلثمائة ذراع وسمكها في السماء ثلاثين ذراعاً وعرضها خمسين ذراعاً والذراع إلى المنكب، وكانت من خشب الساج لها ثلاثة بطون وأطباق سفلى ووسطى وعليا، وكان بابها في عرضها فحمل في أسفلها الدواب والوحش، وفي أوسطها الإنس وفي أعلاها الطير، وقيل السفلى للوحش والوسطى للطعام والعليا له ولمن آمن، قال الخفاجي: والساج شجر عظيم يكثر بالهند، وقيل إنه ورد في التوراة أنها من الصنوبر وقيل غير ذلك (1).
(وكلما مر عليه ملأ) أي جماعة (من قومه سخروا منه) كل ظرفية وما
_________
(1) ليس على ما أورده المفسر من دليل صريح عن المعصوم فلا داعي إلى مثله.(6/176)
مصدرية ظرفية أي كل وقت مرور قوم استهزؤوا به لعمله السفينة، والجملة في محل نصب على الحال، قال الأخفش والكسائي: يقال سخرت به ومنه.
وفي وجه سخريتهم منه قولان (أحدهما) أنهم كانوا يرونه يعمل السفينة فيقولون: يا نوح صرت بعد النبوة نجاراً، وكان يصنعها في برية في أبعد موضع من الماء وفي وقت عزته عزة شديدة (والثاني) أنهم لما شاهدوه يعمل السفينة وكانوا لا يعرفونها قبل ذلك ولا كيفية استعمالها والانتفاع بها فتعجبوا من ذلك وقالوا: يا نوح ما تصنع بها.
(قال) أمشي بها على الماء فعجبوا من قوله وسخروا به ثم أجاب عليهم بقوله (إن تسخروا منا) وهذا الكلام مستأنف على تقدير سؤال كأنه قيل فماذا قال لهم فقيل قال والمعنى أن تسخروا منا بسبب عملنا السفينة اليوم.
(فإنا نسخر منكم) غداً عند الغرق، ومعنى السخرية هنا الاستجهال أي إن تستجهلونا فإنا نستجهلكم، وهذا على سبيل المشاكلة إذ السخرية لا تليق بمقام الأنبياء، وقيل أنه لجزائهم من جنس صنيعهم فلا يقبح (كما تسخرون) أي تستجهلون واستجهاله لهم باعتبار إظهاره لهم ومشافهتهم وإلا فهم عنده جهال قبل هذا وبعده والتشبيه لمجرد التحقيق والوقوع أو التجدد والتكرر.
والمعنى إنا نسخر منكم سخرية متحققة واقعة كما تسخرون منا كذلك أو متجددة متكررة كما تسخرون منا كذلك، وقيل معناه نسخر منكم في المستقبل سخرية مثل سخريتكم إذا وقع عليكم الغرق وفيه نظر فإن حالهم إذ ذاك لا تناسبه السخرية إذ هم في شغل شاغل عنها ثم هددهم بقوله.(6/177)
فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ (39)
فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ (39)
(فسوف تعلمون من) موصولة في محل نصب أو استفهامية في محل رفع أي أينا (يأتيه عذاب يخزيه) أي يهينه وهو عذاب الغرق في الدنيا، قاله ابن عباس: والمراد بعذاب الخزي العذاب الذي يخزي صاحبه ويحل عليه العار (ويحل) التلاوة بكسر الحاء ويجوز لغة ضمها كما في المصباح أي ينزل (عليه عذاب مقيم) في الآخرة وهو عذاب النار الدائم والخلود فيها.
وقيل معنى يحل يجعل المؤجل حالاً مأخوذ من حلول الدين المؤجل. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والحاكم عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كان نوح مكث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً يدعوهم حتى كان آخر زمانه غرس شجرة فعظمت وذهبت كل مذهب، ثم قطعها ثم جعل يعمل منها سفينة ويمرون فيسألونه فيقول اعملها سفينة فيسخرون منه ويقولون تعمل سفينة في البر وكيف تجري، قال سوف تعلمون، فلما فرغ منها وفار التنور وكثر الماء في السكك خشيت أم الصبي عليه وكانت تحبه حباً شديداً فخرجت إلى الجبل حتى بلغت ثلثه فلما بلغها الماء خرجت حتى استوت على الجبل فلما بلغ الماء رقبته رفعته بين يديها حتى ذهب الماء بها، فلو رحم الله منهم أحداً لرحم أم الصبي (1)، وقد ضعفه الذهبي في مستدركه على مستدرك الحاكم، وقد روي في صفة السفينة وقدرها أحاديث وآثار ليس في ذكرها هنا كثير فائدة.
_________
(1) المستدرك كتاب التفسير/هود 21/ 342.(6/178)
حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ (40) وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (41)(6/179)
حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ (40)
(حتى إذا جاء أمرنا) حتى هي الابتدائية دخلت على الجملة الشرطية وجعلت غاية لقوله (واصنع الفلك بأعيننا) وما بينهما اعتراض والمراد بالأمر العذاب أو وقته وهو واحد الأمور لا الأوامر ويصح أن يراد الثاني على معنى جاء أمرنا بركوب السفينة.
(وفار التنور) أي غلى، واختلف في تفسير التنور على أقوال (الأول) أنه وجه الأرض والعرب تسمي وجه الأرض تنوراً أو اشرف موضع فيها؛ روى ذلك عن ابن عباس وعكرمة والزهري وابن عيينة.
(الثاني) أنه تنور الخبز الذي يخبزون فيه ابتدئ منه النبع على خلاف العادة وبه قال مجاهد وعطية والحسن وهو قول أكثر المفسرين، قيل وهذا أولى لأن اللفظ إذا دار بين الحقيقة والمجاز كان حمله على الحقيقة أولى، ولفظ التنور حقيقة في اسم الموضع الذي يخبز فيه (الثالث) أنه موضع اجتماع الماء في السفينة وروى هذا عن الحسن. (الرابع) أنه طلوع الفجر من قولهم تنور الفجر، روي ذلك عن علي بن أبي طالب (الخامس) أنه مسجد الكوفة، روي ذلك عن علي أيضاً ومجاهد، وقال مجاهد: كان ناحية التنور بالكوفة على يمين الداخل مما يلي باب كندة وكان الشعبي يحلف بالله أنه ما فار إلا من ناحية الكوفة. (السادس) أنه أعالي الأرض والمواضع المرتفعة قاله قتادة (السابع) أنه العين التي بالجزيرة المسماة عين الوردة وهي بالشام، روي ذلك عن عكرمة، وبه قال مقاتل (الثامن) أنه موضع بالهند، قال ابن عباس: كان تنور آدم(6/179)
بالهند وكانت حواء تخبز فيه وصار إلى نوح.
قال النحاس: وهذه الأقوال ليست بمتناقضة لأن الله سبحانه قد أخبر بأن الماء قد جاء من السماء والأرض قال (ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر وفجرنا الأرض عيوناً) فهذه الأقوال تجتمع في إن ذلك كان علامة هكذا، قال: وفيه نظر فإن القول الرابع ينافي هذا الجمع ولا يستقيم عليه التفسير بنبع الماء إلا إذا كان المراد مجرد العلامة كما ذكره آخراً.
وقد ذكر أهل اللغة أن الفوز الغليان، يقال فار الماء يفور فوراً نبع وجرى وفارت القدر فوراً من باب قال وفوراناً غلت، وعلى هذا لا تجوز في الآية إلا من حيث نسبة الفوران إلى التنور، وهو اسم أعجمي عربته العرب، وعلى هذا فلا اشتقاق له.
وقيل فارسي لا تعرف له العرب اسماً غير هذا فلذلك جاء في القرآن بهذا اللفظ فخوطبوا بما يعرفون، وقيل جاء هكذا بكل لفظ عربي وعجمي، وأنه مما اتفق عليه لغة العرب والعجم كالصابون ووزنه تفعول ويعزى هذا لثعلب، وقيل فعول ويعزى لأبي على الفارسي، وقيل معنى فار التنور التمثيل بحضور العذاب كقولهم حمي الوطيس إذا اشتد الحرب، وعلى هذا فهو كناية عن اشتداد الأمر.
وقيل كان من حجر لحواء فصار إلى نوح، وقد روى في تفسير التنور غير هذا. ذكر ابن جرير وغيره إن الطوفان كان في ثالث عشر من أبيب رجب في شدة القيظ وكان الفوران علامة لنوح على مجيئه وركوب السفينة.
(قلنا) يا نوح (احمل فيها) أي في السفينة (من كل زوجين) مما في الأرض من الحيوانات (اثنين) ذكراً وأنثى، وقرئ من كل بالتنوين أي من كل شيء زوجين، والزوجان للاثنين اللذين لا يستغني أحدهما عن الآخر،(6/180)
ويطلق على كل واحد منهما زوج كما تقول للرجل زوجٍ وللمرأة زوجٍ؛ وهو المراد هنا أي من كل فردين متزاوجين اثنين بأن تحمل من الطير ذكراً وأنثى ومن الغنم ذكراً وأنثى، وهكذا وتترك الباقي، والمراد من الحيوانات التي تنفع والتي تلد أو تبيض ليخرج المضرات، والتي تتوالد من العفونة والتراب كالدود والقمل والبق والبعوض فلم يحمل منه شيئاً.
ويطلق الزوج على الاثنين إذا استعمل مقابلاً للفرد، ويطلق الزوج على الضرب والصنف ومنه قوله تعالى (وأنبتت من كل زوج بهيج).
قال الرازي: وأما ما يروى أن إبليس دخل السفينة فبعيد لأنه من الجن، وهو جسم ناري أو هوائي فكيف يفر من الغرق، وأيضاً فإن كتاب الله لم يدل على ذلك ولم يرد فيه خبر صحيح، فالأولى ترك الخوض فيه اهـ.
(و) احمل (أهلك) والمراد امرأته المؤمنة وبنوه ونساؤهم (إلا من سبق عليه القول) أي من تقدم الحكم عليه بأنه من المغرقين في علمه أو في قوله (ولا تخاطبنى في الذين ظلموا أنهم مغرقون) على الاختلاف الشائع فيهم، فمن جعلهم جميع الكفار من أهله وغيرهم كان هذا الاستثناء من جملة احمل فيها وأهلك ومن قال المراد بهم ولده كنعان وامرأته الكافرة واعلة أم كنعان جعل الاستثناء من أهلك ويكون متصلاً إن أريد بالأهل ما هو أعم من المسلم والكافر منهم، ومنقطعاً إن أريد بالأهل المسلمون منهم فقط.
(و) احمل (من آمن) من قومك في السفينة، وأفرد الأهل منهم لمزيد العناية بهم أو للاستثناء منهم على القول الآخر.
ثم وصف الله سبحانه قلة المؤمنين مع نوح بالنسبة إلى من كفر به فقال (وما آمن معه إلا قليل) واعتبار المعية في إيمانهم للإيماء إلى المعية في مقر الأمان والنجاة، قيل كانوا ثمانية: نوح وأهله وبنوه الثلاثة ونساؤهم، وبه قال(6/181)
قتادة وابن جرير ومحمد بن كعب القرظي، وقيل كانوا ثمانين رجلاً أحدهم جرهم، قاله ابن عباس. قال الخفاجي: وهي الرواية الصحيحة. اهـ.
ولما خرجوا من السفينة بنوا قرية يقال لها قرية الثمانين وهي موجودة بناحية الموصل، وقيل سبعة نوح وبنوه وثلاث كنائن له، قاله الأعمش، قال الخفاجي: ويرده عطف من آمن إلا أن يكون الأهل بمعنى الزوجة فإنه ثبت بهذا المعنى، وهو خلاف الظاهر، وقيل كانوا تسعة وسبعين: زوجته المسلمة وبنوه الثلاثة سام وحام ويافث ونساؤهم واثنان وسبعون رجلاً وامرأة من غيرهم.
وعن ابن إسحاق كانوا عشرة خمسة رجال وخمس نسوة، وقيل غير ذلك، قال الطبري: والصواب من القول في ذلك أن يقال كما قال عز وجل (وما آمن معه إلا قليل) ولم يحد عدداً بمقدار، فلا ينبغي أن يجاوز في ذلك حد الله سبحانه وتعالى إذ لم يرد ذلك في كتاب ولا خبر صحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.(6/182)
وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (41)
(وقال اركبوا فيها) القائل نوح، وقيل الله سبحانه، والأول أولى لقوله: (إن ربي لغفور رحيم) والركوب العلو على ظهر الشيء المتحرك حقيقة نحو ركب الدابة أو مجازاً نحو ركبه الدين؛ وفي الكلام حذف أي اركبوا الماء في السفينة فلا يرد إن ركب يتعدى بنفسه.
وقيل أن الفائدة في زيادة " في " أنه أمرهم بأن يكونوا في جوف السفينة لا على ظهرها، وقيل بل أنها زيدت لرعاية جانب المحلية والمكانية في السفينة كما في قوله (فإذا ركبوا في الفلك) وقوله (حتى إذا ركبا في السفينة).
قيل ولعل نوحاً قال هذه المقالة بعد إدخال ما أمر بحمله في الفلك من الأزواج كأنه قيل فحمل الأزواج وأدخلها في الفلك وقال للمؤمنين اركبوا فيها، ويمكن أن يقال أنه أمر بالركوب كل من أمر بحمله من الأزواج والأهل(6/182)
والمؤمنين، ولا يمتنع أن يفهم خطابه من لا يعقل من الحيوانات، أو يكون هذا على طريقة التغليب، وقد روى صفة القصة وما حمله نوح في السفينة وكيف كان الغرق. وكم بقيت السفينة على ظهر الماء روايات كثيرة لا مدخل لها في تفسير كلام الله سبحانه (بسم الله) متعلق باركبوا أو حال من فاعله أي اركبوا مسمين الله أو قائلين بسم الله (مجريها ومرساها) بضم الميم فيهما من أجريت وأرسيت على إنهما اسماً زمان وهما في موضع نصب على الظرفية أي وقت إجرائها وإرسائها أو مصدران كالإجراء والإرساء بحذف الوقت كقولك آتيك خفوق النجم أو اسما مكان انتصبا بما في بسم الله من معنى الفعل أو إرادة القول.
وقرئ الأول بفتح الميم والثاني بضمها وهاتان القراءتان سبعيتان، وقرئ بفتحها فيهما من جرى ورسى، وهذه شاذة، وقرئ مجريها ومرسيها بلفظ اسم الفاعل مجروري المحل على أنهما وصفان لله، ويجوز أن يكونا في موضع رفع بإضمار مبتدأ أي هو مجريها ومرسيها، والرسو الثبات والاستقرار. قال مجاهد في الآية: أي حين تركبون وتجرون وترسون.
وعن الضحاك قال: كان إذا أراد أن ترسى قال: بسم الله فرست، وإذا أراد أن تجري قال: بسم الله فجرت.
(إن ربي لغفور) للذنوب (رحيم) بعباده ومن رحمته إنجاء هذه الطائفة تفضلاً منه لبقاء هذا الجنس الحيواني وعدم استئصاله بالغرق.
أخرج أبو يعلى والطبراني وابن السني وغيرهم عن الحسن بن علي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أمان لأمتي من الغرق إذا ركبوا الفلك أن يقولوا بسم الله الملك الرحمن بسم الله مجراها الآية (وما قدروا الله حق قدره) الآية (1).
_________
(1) ضعيف الجامع الصغير 1346 - تخريج الكلم 175 - الأحاديث الضعيفة 2932.(6/183)
وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (41) وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ (42) قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (43)(6/184)
وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ (42)
(وهي تجري بهم) أي فركبوا مسمين والسفينة تجري، والجملة مستأنفة أو حالية ولذلك فسره الزمخشري بقوله أي تجرى وهم فيها (في موج) جمع موجة وهي ما ارتفع عن جملة الماء الكثير عند اشتداد الريح واضطرابه في خلاله (كالجبال) شبهها بالجبال المرتفعة على الأرض، أي كل موجة منه كالجبل في تراكمها وارتفاعها وعظمها.
قال أهل السير: ارتفع الماء على أعلى جبل وأطوله أربعين ذراعاً، وقيل خمسة عشر ذراعاً حتى أغرق كل شيء وعم العباد وشمل كل البلاد، وما قيل من أن الماء طبق ما بين السماء والأرض وكانت السفينة تجري في جوفه كالحوت فغير ثابت.
(ونادى نوح ابنه) هو كنعان وقيل يام وكان كافراً؛ واستبعد كون نوح ينادي من كان كافراً مع قوله (رب لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً) وأجيب بأنه كان منافقاً فظن نوح أنه مؤمن، وقيل حملته شفقة الأبوه على ذلك وكان من صلبه على المعتمد.
وقال ابن عباس: هو ابنه غير أنه خالفه في النية والعمل، وقيل أنه كان ابن امرأته ولم يكن ابنه. ويؤيده ما روي أن علياً قرأ (ونادى نوح ابنها) وقيل أنه كان لغير رشدة وولد على فراش نوح، ورد بأن قوله هذا وقوله (إن ابني من أهلي) يدفع ذلك مع ما فيه من عدم صيانة منصب النبوة فإن جناب الأنبياء أرفع من أن يشار إليه بأصبع الطعن.(6/184)
(وكان في معزل) أي في مكان عزل فيه نفسه عن قومه وقرابته بحيث لم يبلغه قول نوح (اركبوا فيها) وقيل في معزل من دين الله وقيل من السفينة. قيل وكان هذا النداء قبل أن يستيقن الناس الغرق، بل كان في أول فور التنور قبل سير السفينة.
(يا بني) أصله بثلاث ياءات ياء التصغير ولام الكلمة وياء المتكلم (اركب معنا) في السفينة أي أسلم واركب، قال ملا عليّ الجيلاني: الظاهر أن معنى الآية أسلم لتستحق الركوب معنا.
(ولا تكن مع الكافرين) في البعد عنا فتهلك معهم، نهاه عن الكون معهم خارج السفينة، ويمكن أن يراد بالكون معهم الكون على دينهم في الكفر، والأول أولى لأنه عليه السلام بصدد التحذير عن الهلكة فلا يلائمه النهي عن الكفر.
ثم حكى الله سبحانه ما أجاب به ابن نوح على أبيه فقال(6/185)
قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (43)
(قال سآوي) أي سألتجئ وأصير (إلى جبل يعصمني) أي يمنعني بارتفاعه وعلوه (من) وصول (الماء) إليّ زعماً منه أن ذلك كسائر المياه في أزمنة السيول المعتادة التي ربما يتقي منها بالصعود إلى الربى، وأنى له ذلك وقد بلغ السيل الزبى، وجهلاً بأن ذلك إنما كان لإهلاك الكفرة، وأن لا محيص من ذلك سوى الالتجاء إلى ملجأ المؤمنين، فلذلك أراد عليه السلام أن يبين له حقيقة الحال، وأن يصرفه عن ذلك الفكر المحال.
(قال) أي فأجاب عنه نوح بقوله (لا عاصم) من الجبال أي لا مانع (اليوم من أمر الله) فإنه يوم قد حق فيه العذاب وجف القلم بما هو كائن، فيه نفي جنس العاصم فيندرج تحته العاصم من الغرق في ذلك اليوم اندراجاً أولياً، وعبر عن الماء أو عن الغرق بأمر الله سبحانه تفخيماً لشأنه وتهويلاً لأمره (إلا من رحم) وقرئ على البناء للمفعول والاستثناء منقطع قاله الزجاج أي لكن من رحمه فهو يعصمه واستظهره السفاقسي أو متصل على أن يكون عاصم(6/185)
بمعنى معصوم أي لا معصوم اليوم من أمر الله إلا من رحمه الله مثل ماء دافق وعيشة راضية، واختار هذا الوجه ابن جرير والزمخشري وتبعه القاضي.
وقيل العاصم بمعنى ذي العصمة كلابن وتامر، والتقدير لا عاصم قط إلا مكان من رحم الله وهو السفينة وحينئذ فلا يرد ما يقال أن معنى من رحم من رحمه الله ومن رحمه الله فهو معصوم، فكيف يصح استثناؤه عن العاصم لأن في كل وجه من هذه الوجوه دفعاً للإشكال.
وذكر صاحب الانتصاف إن الاحتمالات الممكنة هنا أربعة لا عاصم إلا راحم، لا معصوم إلا مرحوم، لا عاصم إلا مرحوم، لا معصوم إلا راحم، فالأولان استثناء من الجنس، والآخران استثناء من غير الجنس فيكون منقطعاً أي لكن المرحوم يعصم على الأول؛ ولكن الراحم يعصم من أراد على الثاني قال عكرمة: لا ناج إلا أهل السفينة.
(وحال بينهما الموج) أي حال بين نوح وابنه فتعذر خلاصه من الغرق وقيل بين ابن نوح وبين الجبل والأول أولى لأن تفرع (فكان من المغرقين) عليه يدل على الأول لا على الثاني لأن الجبل ليس بعاصم والمعنى فصار أو فكان كنعان من المغرقين في علم الله بالفعل والمهلكين بالماء.
(وقيل) أي بعد ما تناهى الطوفان وأغرق الله قوم نوح والقيل كما قيل في هذين الموضعين عبارة عن تعلق القدرة التنجيزي بزوال الماء وبهلاكهم كما قيل في قوله تعالى (أن يقول له كن فيكون) وعلى هذا فالآية على الاستعارة المكنية والتخييلية وقيل تمثيلية، كما فصل ذلك الخفاجي في العناية تفصيلاً بسيطاً مع ما يصحبه من لطائف البلاغة.
ولكن الحق الذي لا تردد فيه عند أولي البصيرة أن الآية على حقيقتها من النداء والأمر وهو المختار في قوله سبحانه (كن فيكون) وأمثاله أيضاً.(6/186)
وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (44) وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ (45)(6/187)
وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (44)
(يا أرض ابلعي) يقال بلع الماء يبلعه مثل منع يمنع وبلع يبلع مثل حمد يحمد لغتان حكاهما الكسائي والفراء: والبلع الشرب وتغوير الماء ومنه البالوعة وهي الموضع الذي يشرب الماء والازدراد يقال بلع ما في فمه من الطعام إذا ازدرده، واستعير البلع الذي هو من فعل الحيوان للنشف دلالة على أن ذلك ليس كالنشف المعتاد الكائن على سبيل التدريج.
قال الخفاجي: النشف من نشف الثوب العرق كسمع وبصر إذا شربه، قال المدقق: هذا أولى من جعل السكاكي البلع مستعاراً لغور الماء في الأرض لدلالته على جذب الأرض ما عليها كالبلع بالنسبة إلى الحيوان ولأن النشف فعل الأرض والغور فعل الماء. فالله دره ما أكثر اطلاعه على حقائق المعاني اهـ.
وقال عكرمة: ابلعي هو بالحبشية ازدرديه وعن ابن منبه نحوه وعن جعفر بن محمد عن أبيه قال: معناه اشربي بلغة الهند وعن ابن عباس مثله.
أقول وثبوت لفظ البلع وما يشتق منه في لغة العرب ظاهر مكشوف فمالنا وللحبشة والهند والمعنى انشفي وتشربي (ماءك) أي ما على وجهك من ماء الطوفان دون المياه المعهودة فيها من العيون والأنهار. وعبر عنه بالماء بعد ما عبر عنه بأمر الله، لأن المقام مقام النقص والتقليل لا مقام التفخيم والتهويل.
(ويا سماء أقلعي) الإقلاع الإمساك يقال اقلع المطر إذا انقطع وأقلع عن(6/187)
الشي إذا تركه وهو قريب من الأول، والمعنى أمر السماء بإمساك الماء عن الإرسال، ولفظ أحمد المهايمي في تفسيره: أي اجذبي إلى جهة الفوق ما نزل منك اهـ. وقيل ميز الله بين الماءين فما كان من ماء الأرض أمرها فبلعته وصار ماء السماء بحاراً، وخوطبت الأرض أولاً بالبلع لأن الماء نبع منها أولاً قبل إن تمطر السماء.
(وغيض الماء) أي نقص ونضب ما بين السماء والأرض من الماء يقال غاض الماء وغضته أنا وهو لازم ومتعد، فمن اللازم قوله تعالى (وما تغيض الأرحام) أي تنقص، وقيل بل هو هنا متعد أيضاً وسيأتي، ومن المتعدي هذه الآية لأنه لا يبنى للمفعول من غير واسطة حرف الجر إلا المتعدي بنفسه وهو إخبار عن حصور المأمورية من السماء والأرض معاً أي فامتثلا ما أمرا به ونقص الماء، ولا يخص غيض الماء بطوفان السماء كما توهم، وفيه كلام طويل في الكشف، قال الصاوي: أي ولم يذهب بالكلية لما علمت من بقاء ماء السماء.
(وقضي الأمر) أي أحكم وفرغ منه يعني أهلك الله قوم نوح على تمام وإحكام وأنجز ما كان وعده، قاله القرطبي (واستوت على الجودي) أي استقرت السفينة على الجبل المعروف بالجودي، روى أنه عليه السلام ركب في الفلك في عاشر رجب ونزل عنها في عاشر المحرم فصام ذلك اليوم شكراً فصار سنة، والجودي جبل بقرب الموصل.
وقيل أن الجودي اسم لكل جبل وقيل هو بالشام، وقيل بآمل وفي الحديث لقد بقي منها شيء أدركه أوائل هذه الأمة ويقال أنه من جبال الجنة فلذا استوت عليه بعد أن طافت الأرض كلها ستة أشهر.
(وقيل بعداً للقوم الظالمين) القائل هو الله سبحانه ليناسب صدر الآية، وقيل هو نوح وأصحابه والمعنى وقيل هلاكاً لهم وهو من الكلمات التي تختص(6/188)
بدعاء السوء، ووصفهم بالظلم للإشعار بأنه علة الهلاك وللإيماء إلى قوله (ولا تخاطبني في الذين ظلموا).
قال عبد الرحمن بن خلدون: اتفقوا على أن الطوفان الذي كان في زمن نوح وبدعوته ذهب بعمران الأرض أجمع وبما كان من خراب المعمور وهلك الذين ركبوا معه في السفينة ولم يعقبوا فصار أهل الأرض كلهم من نسله وعاد أباً ثانيا للخليقة انتهى.
وقال ابن الأثير في الكامل: وأما المجوس فلا يعرفون الطوفان وكان بعضهم يقر به ويزعم أنه كان في إقليم بابل وما قرب منه، وأن مساكن ولد خومرت كانت بالمشرق فلم يصل ذلك إليهم، وكذلك جميع الأمم المشرقية من الهند والفرس والصين لا يعترفون بالطوفان، وبعض الفرس يعترف به ويقول لم يكن عاماً ولم يتعد عقبة حلون.
والصحيح أن جميع أهل الأرض من ولد نوح عليه السلام لقوله تعالى (وجعلنا ذريته هم الباقين) فجميع الناس من ولد سام وحام ويافث أولاد نوح انتهى.
وقال المقريزي في الخطط: أن جميع أهل الشرائع أتباع الأنبياء من المسلمين واليهود والنصارى قد أجمعوا على أن نوحاً هو الأب الثاني للبشر، وأن العقب من آدم عليه السلام انحصر فيه ومنه ذرأ الله جميع أولاد آدم، فليس أحد من بني آدم إلا وهو من أولاد نوح، وخالفت القبط والمجوس وأهل الهند والصين ذلك فأنكروا الطوفان.
وزعم بعضهم أن الطوفان إنما حدث في إقليم بابل وما وراءه من البلاد الغربية فقط وأن أولاد كيومرت الذي هو عندهم الإنسان الأول كانوا بالبلاد الشرقية من بابل فلم يصل الطوفان إليهم ولا إلى الهند والصين.(6/189)
والحق ما عليه أهل الشرائع وأن نوحاً عليه السلام لما أنجاه الله ومن معه بالسفينة نزل بهم وهم ثمانون رجلاً سوى أولاده فماتوا بعد ذلك ولم يعقبوا، وصار العقب من نوح في أولاده الثلاثة، ويؤيد هذا قول الله تعالى عن نوح. (وجعلنا ذريته هم الباقين) انتهى.
وقد أطبق علماء البلاغة على أن هذه الآية الشريفة بالغه من الفصاحة والبلاغة إلى محل يتقاصر عن الوصف وتضعف عن الإتيان بما يقاربه قدرة القادرين على فنون البلاغة الثابتين الأقدام في علم البيان، الراسخين في اللغة المطلعين على ما هو مدون من خطب مصاقع خطباء العرب وأشعار بواقع شعرائهم المرتاضين بدقائق علوم العربية وأسرارها.
قال الصاوي وسليمان الجمل: قال بعضهم: هذه الآية أبلغ آية في القرآن باحتوائها على أحد وعشرين نوعاً من أنواع البديع، والحال أن كلماتها تسعة عشر انتهى.
قلت: وقد تعرض لبيان ما اشتملت عليه من ذلك جماعة فأطالوا وأطابوا رحمنا الله وإياهم برحمته الواسعة منهم أبو حيان محمد بن يوسف الإمام الأندلسي في تفسيره المسمى بالنهر الماد من المحيط ذكر فيه أحداً وعشرين نوعاً من البديع وكذا السيد محمد بن أسماعيل بن صلاح الأمير في رسالته المسماة بالنهر المورود، في تفسير آية هود، وهو المناسبة والمطابقة، والمجاز، والاستعارة، والإشارة والتمثيل، والأرداف، والتعليل، وصحة التقسيم، والاحتراس، والإيضاح، والمساواة، وحسن النسق، والإيجاز، والتسهيم والتهذيب، وحسن البيان، والتمكين، والتجنيس، والمقابلة، والذم، والوصف.
وبسط في بيان هذه الأنواع أتم بسط وقال هذا كله نظراً في الآية من(6/190)
جانب البلاغة، وأما النظر فيها من جانب الفصاحة المعنوية فهى كما ترى نظم للمعاني لطيف سديد وتأدية لها ملخصة مبينة، لا تعقيد يعثر الفكر في طلب المراد ولا التواء يشيك الطريق على المرتاد، بل ألفاظها تسابق معانيها، ومعانيها تسابق ألفاظها.
وأما النظر فيها من جانب الفصاحة اللفظية فألفاظها على ما ترى عربية أصلية مستعملة جارية على قانون اللغة سليمة عن التنافر، بعيدة عن البشاعة عذبة على العذبات سلسة على الاسلات، كل منها كالماء في السلاسة وكالعسل في الحلاوة وكالنسيم في الرقة. انتهى.
قلت: النظر في هذه الآية من أربع جهات:
(الأول) من جهة علم البيان وهو النظر فيما فيها من المجاز وغيره كما تقدمت الإشارة إليه (والثاني) من جهة علم المعاني، وهو النظر في فائدة كل كلمة فيها وجهة كل تقديم وتأخير فيما بين جملها (والثالث والرابع) من جهة الفصاحة المعنوية واللفظية كما تقدم.
وقد ذكر طرفاً من هذه الجهات الأربع النسفي في المدارك، ثم قال: ومن ثم أطبق المعاندون، على أن طوق البشر قاصر عن الإتيان بمثل هذه الآية، ولله در شأن التنزيل لا يتأمل العالم آية من آياته إلا أدرك لطائف لا تسع الحصر.
ولا تظنن الآية مقصورة على المذكور فلعل المتروك أكثر من المسطور. اهـ.
قال القاضي: والآية في غاية الفصاحة لفخامة لفظها وحس نظمها(6/191)
والدلالة على كنه الحال مع الإيجاز الخالي عن الإخلال. قال الخفاجي: هذه الآية حوت من البلاغة أمراً عجيباً ترقص الرؤوس له طرباً وما اشتملت عليه من الفصاحة والنكات مفصل في شرح المفتاح.
وقال أبو السعود: ولقد بلغت الآية الكريمة من مراتب الإعجاز قاصيتها، وملكت من غرر المزايا ناصيتها، وقد تصدى لتفصيلها المهرة المتقنون، ولعمري إن ذلك فوق ما يصفه الواصفون، فحري بنا أن نوجز الكلام في هذا الباب ونفوّض الأمر إلى تأمل أولي الألباب والله عنده علم الكتاب.(6/192)
وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ (45)
(ونادى نوح ربه) أي دعاه، والظاهر أن هذا النداء كان قبل سيرها لأنه سؤال في تجاه ابنه ولا معنى للسؤال إلا عند إمكان النجاة، والمراد أنه أراد دعاءه بدليل الفاء في قوله (فقال رب إن ابني من أهلي) وعطف الشيء على نفسه غير سائغ فلابد من التقدير المذكور قاله الزمخشري. وقيل عطف تفسير أو تفصيل إذ القول المذكور هو عين النداء فهو مرتبط في المعنى بقوله (ونادى نوح ابنه) والمعنى أنه من الأهل الذين وعدتني بتنجيتهم بقولك وأهلك.
فإن قيل كيف طلب نوح عليه السلام إنجاز ما وعده الله بقوله (وأهلك) وهو المستثنى منه وترك ما يفيده الاستثناء وهو إلا من سبق عليه القول فيجاب بأنه لم يعلم إذ ذاك أنه ممن سبق عليه القول فإنه كان يظنه من المؤمنين.
(وإن وعدك الحق) الصدق الذي لا خلف فيه وهذا منه (وأنت أحكم الحاكمين) أي أتقن المتقنين لما يكون به الحكم فلا يتطرق إلى حكمك نقض، وقيل أراد به أعلمهم وأعدلهم أي أنت أكثر علماً وعدلاً من ذوي الحكم، وقيل أن الحاكم بمعنى ذي الحكمة كدراع.(6/192)
قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (46)
قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (46)
ثم أجاب الله سبحانه عن نوح ببيان أن ابنه غير داخل في عموم الأهل وأنه خارج بقيد الاستثناء (قال يا نوح إنه) يعنى هذا الابن الذي سألتني نجاته (ليس من أهلك) الذين آمنوا بك وتابعوك ومن أهل دينك، وإن كان من أهلك باعتبار القرابة، قال عكرمة وسعيد بن جبير والضحاك وأكثر المفسرين: أنه ابن نوح من صلبه وهو الصحيح.
وعن ابن عباس قال: ما بغت امرأة نبي قط، وأن الله نص عليه بقوله (ونادى نوح ابنه) ونوح أيضاً نص عليه بقوله (يا بني) ولا يجوز صرف الكلام عن الحق إلى المجاز من غير ضرورة.
وقيل المعنى إنه ليس من الذين وعدتك أن أنجيهم معك، وإنما خالف هذا الظاهر من خالفه لأنه استبعد أن يكون ولد نبي كافراً، وهذا خطأ ممن قاله لأن الله يخرج الكافر من المؤمن، والمؤمن من الكافر، ولا فرق في ذلك بين الأنبياء وغيرهم، فإن الله سبحانه قد أخرج قابيل من صلب آدم وهو نبي وكان كافراً. وأخرج إبراهيم: وهو نبي من صلب آزر وكان كافرآ، فكذلك أخرج كنعان من صلب نوح وهو كافر، فهو المتصرف في خلقه كيف شاء لا يسأل عما يفعل وهم يسألون.
ثم صرح بالعلة الموجبة لخروجه من عموم الأهل المبينة له بأن المراد بالقرابة قرابة الدين لا قرابة النسب وحده فقال (إنه عمل غير صالح) قرأ الجمهور (عمل) على لفظ المصدر وقرئ على لفظ الفعل، ومعنى الأولى المبالغة في ذمه كأنه جعل نفس العمل وأصله ذو عمل غير صالح، كذا قال أبو(6/193)
إسحق الزجاجي وأبو علي الفارسي وابن الأنباري والواحدي، وعبارة الصاوي إن الضمير عائد إلى الولد، ويقال في الإخبار عنه بعمل ما قيل في زيد عدل وهو الراجح. اهـ.
ومعنى الثانية ظاهر، أي أنه عمل عملاً غير صالح، وهو كفره وعدم متابعته لأبيه. قاله أبو علي.
قال الصاوي: أشار السيوطي إلى أن الضمير في (أنه) عائد إلى نوح على حذف مضاف، والمعنى قال الله له: يا نوح إن سؤالك عمل غير مقبول. انتهى. ويؤيده ما قال ابن عباس: يقول مسألتك اياي يا نوح عمل غير صالح لا أرضاه لك.
ثم نهاه عن مثل هذا السؤال فقال (فلا تسألن ما ليس لك به علم) أي ما لا تعلم أصواب هو فتسأل عنه أم ليس كذلك فتتركه، وهو وإن كان نهياً عاماً بحيث يشمل كل سؤال لا يعلم صاحبه إن حصول مطلوبه منه صواب فهو يدخل تحته سؤاله هذا دخولاً أولياً. وفيه عدم جواز الدعاء بما لا يعلم الإنسان مطابقته للشرع وسمى دعاءه سؤالاً لتضمنه معنى السؤال باعتبار استنجازه في شأن ولده.
(إني أعظك) من (أن تكون من الجاهلين) أي أحذرك وأنهاك أن تكون جاهلاً فتسأل مثل ما يسألون كقوله يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبداً، وسمى سؤاله جهلاً لأن حب الولد شغله عن تذكر استثناء من سبق عليه القول منهم بالإهلاك قاله الكرخي.(6/194)
قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (47) قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (48)
وقيل المعنى أرفعك أن تكون منهم، قال ابن العربي: وهذه زيادة من الله وموعظة يرفع بها نوحاً عن مقام الجاهلين، ويعليه بها إلى مقام العلماء العاملين. ثم لما علم نوح بأن سؤاله لم يطابق الواقع وأن دعاءه ناشئ عن وهم كان يتوهم بادر إلى الاعتراف بالخطأ وطلب المغفرة والرحمة و(6/195)
قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (47)
(قال رب إني أعوذ بك) أي ألجأ إليك وأعتذر من (أن أسألك ما ليس لي به علم) أي أطلب منك بعد ذلك ما لا علم لي بصحته وجوازه (وإلا تغفر لي) ذنب ما دعوت به على غير علم مني وجهلي وإقدامي عليه (وترحمني) برحمتك التي وسعت كل شيء فتقبل توبتي (أكن من الخاسرين) في أعمالي فلا أربح فيها.
وليس في الآية ما يقتضي صدور ذنب ومعصية من نوح سوى تأويله وإقدامه على سؤال ما لم يؤذن له فيه. وهذا ليس بذنب ولا معصية.
وقال الخطيب: أخطأ في ذلك الاجتهاد كما وقع لآدم في الأكل من الشجرة فلم يصدر منه إلا هذه الزلة.(6/195)
قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (48)
(قيل يا نوح) القائل هو الله أو الملائكة (اهبط) أي أنزل من السفينة إلى الأرض أو من الجبل إلى المنخفض منها فقد بلعت الأرض ماءها وجفت (بسلام منا) أي بسلامة وأمن.
وقيل بتحية وعظمة كما قال (سلام على نوح في العالمين) وذلك أن الغرق لما كان عاماً في جميع الأرض فعندما خرج من السفينة علم أنه ليس في(6/195)
الأرض شيء ينتفع به من النبات والحيوان فكان كالخائف في أنه كيف يعيش وكيف يدفع جهات الحاجات عن نفسه من المأكول والمشروب، فلما قال الله ذلك زال عنه الخوف لأن السلامة لا تكون إلا مع الأمن وسعة الرزق.
ثم أردفه الله تعالى بالبركة بقوله (وبركات) أي خيرات نامية ونعم ثابتة باقية دائمة في نسلك وما يقوم به معاشك ومعاشهم من أنواع الأرزاق والبركة مشتق من بروك الجمل وهو ثبوته ومنه البركة لثبوت الماء فيها (عليك) وفي هذا الخطاب دليل على قبول توبته ومغفرة زلته وخلاصه من الخسران وإعلام وبشارة من الله تعالى بفيضان أنواع الخيرات عليه في كل ما يأتي وما يذر.
(وعلى أمم) ناشئة وهم المُتَشَعّبُونَ (ممن معك) أي من ذرية من كان معك في السفينة وهي الأمم إلى آخر الدهر؛ قيل الذين كانوا معه في السفينة لم يعقب أحد منهم إلا أولاد نوح الثلاثة، فانحصر النوع الإنساني بعد نوح في ذريته ولذلك يقال أنه آدم الصغير وقد كان بينه وبين آدم ألف سنة وثمانية أجداد.
فالمراد من هذه الآية تقسيم ذرية أولاد نوح إلى فريق مؤمن وفريق كافر لا تقسيم من كان معه في السفينة إذ كانوا كلهم مؤمنين، قال أبو السعود: ويجوز أن تكون من بيانية أي وعلى أمم هم الذين معك، وإنما سموا أمماً لأنهم أمم متحزبة وجماعات متفرقة أو لأن جميع الأمم إنما تشعبت منهم، فحينئذ يكون المراد بالأمم المشار إليهم في قوله (وأمم سنمتعهم) بعض الأمم المتشعبة منهم وهي الأمم الكافرة المتناسلة منهم إلى يوم القيامة، ويبقى أمر الأمم المؤمنة الناشئة منهم مبهماً غير متعرض له ولا مدلول عليه ومع ذلك ففي دلالة المذكور على خبره المحذوف خفاء، لأن من المذكورة بيانية والمحذوفة تبعيضية أو ابتدائية فتأمل اهـ.(6/196)
قيل أراد الله سبحانه بهذا الأمم الذين كانوا معه من صار مؤمناً من ذريتهم وأراد بقوله وأمم سنمتعهم من صار كافراً من ذريتهم إلى يوم القيامة، والتقدير ومنهم أمم أو يكون أمم، والمعنى سنمتعهم في الدنيا بما فيها من المتاع ونعطيهم منها ما يعيشون به (ثم يمسهم منا) في الآخرة أو في الدنيا (عذاب أليم) وعن الضحاك قال: وعلى أمم ممن معك يعني ممن لم يولد أوجب الله لهم البركات لما سبق لهم في علم الله من السعادة، وأمم سنمتعهم يعني متاع الحياة الدنيا لما سبق لهم في علم الله من الشقاوة.
قال محمد بن كعب القرظي: دخل في ذلك السلام والبركات كل مؤمن ومؤمنة إلى يوم القيامة، ودخل في ذلك العذاب الأليم كل كافر وكافرة إلى يوم القيامه وعن ابن زيد: هبطوا والله راض عنهم، ثم أخرج منهم نسلاً منهم من رحم الله ومنهم من عذب، وقيل المراد بالأمم الممتعة قوم هود وصالح ولوط وشعيب وبالعذاب ما نزل بهم، وإلى هنا انتهت قصة نوح عليه السلام.(6/197)
تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (49) وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ (50) يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلَا تَعْقِلُونَ (51)(6/198)
تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (49)
(تلك) أي قصة نوح وهو مبتدأ (من أنباء الغيب) خبره أي من جنسها والأنباء جمع نبأ وهو الخبر أي أخبار الغيب التي مرت بك في هذه السورة (نوحيها) أي القصة (إليك) خبر ثانٍ والمجيء بالمضارع لاستحضار الصورة.
(ما كنت) يا محمد (تعلمها أنت) تفصيلاً خبر ثالث وإلا كانت مشهورة عند كل القرون لكن إجمالاً (ولا) يعلمها (قومك) يعني العرب بل هي مجهولة عندكم وفي ذكرهم تنبيه على أنه لم يتعلمه إذا لم يخالط غيرهم وإنهم مع كثرتهم لما لم يسمعوه فكيف بواحد منهم (من قبل هذا) أي الوحي أو القرآن أو من قبل هذا الوقت، (فاصبر) على ما تلاقيه من كفار زمانك كما صبر نوح على أذى قومه والفاء لتفريع ما بعدها على ما قبلها (إن العاقبة) المحمودة في الدنيا والآخرة (للمتقين) لله المؤمنين بما جاءت به رسله؛ وفي هذا تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتبشير له بأن الظفر للمتقين في عاقبة الأمر ولا اعتبار بمباديه.(6/198)
وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ (50)
(و) أرسلنا (إلى عاد أخاهم هوداً) أي واحداً منهم النسب لا في الدين، وهود عطف بيان وقوم عاد كانوا عبدة أوثان وقد تقدم مثل هذا في الأعراف، وقيل هم عادان الأولى والأخرى، فهؤلاء هم عاد الأولى من ذرية سام(6/198)
ابن نوح، وعاد الأخرى هم شداد ولقمان وقومهما المذكورون في قوله (إرم ذات العماد) وأصل عاد اسم رجل ثم صار اسماً للقبيلة كتميم وبكر ونحوهما وبين هود ونوح ثمانمائة سنة وعاش أربعمائة سنة وأربعاً وستين سنة.
(قال يا قوم اعبدوا الله) وحدوه ولا تشركوا معه شيئاً في العبادة (ما لكم من إله غيره) في معنى العلة لما قبله قرئ غيره بالجر على اللفظ، وبالرفع على محل من إله، وبالنصب على الاستثناء (إذ أنتم) أي ما أنتم باتخاذ إله غير الله وجعله شفيعاً (إلا مفترون) أي كاذبون على الله عزّ وجل.
ثم خاطبهم فقال(6/199)
يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلَا تَعْقِلُونَ (51)
(يا قوم لا أسألكم عليه أجراً) أي لا أطلب منكم أجراً على الذي أبلغكم وأنصحكم به من الإرشاد إلى عبادة الله وحده وأنه لا إله لكم سواه، فالضمير راجع إلى مضمون هذا الكلام وخاطب بهذا كل نبي قومه إزاحة لما عسى أن يتوهموه وإمحاضاً للنصحية، فإنها ما دامت مشوبة بالمطامع فهي بمعزل عن التأثير، وقد تقدم معنى هذا في قصة نوح وقال هنا أجراً وهناك ما لا تفنناً أو لذكر الخزائن بعده هناك ولفظ المال بها أليق.
(إن أجري إلا على الذي فطرني) أي ما أجري الذي أطلب إلا ممن خلقني فهو الذي يثيبني على ذلك (أفلا تعقلون) إن أجر الناصحين إنما هو من رب العالمين.(6/199)
وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ (52) قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (53) إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (55)
ثم أرشدهم إلى الاستغفار والتوبة فقال(6/200)
وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ (52)
(ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه) أي اطلبوا مغفرته لما سلف من ذنوبكم بفعل الطاعة ثم توسلوا إليه بالتوبة وقد تقدم زيادة بيان لمثل هذا في قصة نوح ثم رغبهم في الإيمان بالخير العاجل فقال (يرسل السماء عليكم مدراراً) أي كثير الدرور أي السيلان والنزول والتتابع، والسماء المطر يقال درت السماء تدر فهي مدرار، ولم يؤنثه لأن المراد بالسماء المؤنثة السحاب أو المطر كما تقدم فذكر على المعنى أو أن مفعالاً للمبالغة فيستوي فيه المذكر والمؤنث أو أن الهاء حذفت من مفعال على طريق النسب قاله مكي.
وكان قوم هود أهل بساتين وزروع وعمارة وكانت مساكنهم الرمال التي بين الشام واليمن، عن الضحاك قال: أمسك الله القطر عن عاد ثلاث سنين فأجدبت بلادهم وقحطت بسبب كفرهم فقال لهم هود (استغفروا) الآية فأبوا إلا تمادياً.
(ويزدكم قوة إلى قوتكم) أي شدة مضافه إلى شدتكم أو خصباً إلى خصبكم أو عزاً إلى عزكم، قال الزجاج: قوة في النعم، وقال عكرمة: القوة إلى القوة ولد الولد، وقيل كانت قد عقمت نساؤهم ثلاثين سنة لم تلد؛ وقيل قوة في الدين إلى قوة الأبدان.(6/200)
(ولا تتولوا مجرمين) أي لا تعرضوا عما أدعوكم إليه وتقيموا على الكفر مصرين عليه والإجرام الآثام كما تقدم ثم أجابه قومه بما يدل على فرط جهالتهم وعظيم غباوتهم.(6/201)
قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (53)
(قالوا يا هود ما جئتنا ببينة) أي بحجة واضحة نعمل عليها ونؤمن لك بها غير معترفين بما جاءهم به من حجج الله وبراهينه عناداً وبعداً عن الحق والباء للتعدية أو للمصاحبة (وما نحن بتاركي آلهتنا) التي نعبدها من دون الله (عن قولك) أي لأجله أو تركاً صادراً عنه، فعن على الأول للتعليل كما أشار إليه ابن عطية ولكن المختار الثاني ولم يذكر الزمخشري غيره.
(وما نحن لك بمؤمنين) أي بمصدقين في شيء مما جئت به(6/201)
إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54)
(إن نقول إلا اعتراك) يقال عراه الأمر واعتراه إذا ألم به أي ما نقول إلا أنه أصابك (بعض آلهتنا) التي تعيبها وتسفه رأينا في عبادتها (بسوء) بجنون حتى نشأ عنه ما تقوله لنا وتكرره علينا من التنفير عنها والاستثناء مفرغ كما قال الزمخشري.
فأجابهم بما يدل على عدم مبالاته بهم وعلى وثوقه بربه وتوكله عليه وأنهم لا يقدرون على شيء مما يريده به الكفار، بل الله سبحانه هو الضار النافع (قال إني أشهد الله) على نفسي (واشهدوا) أنتم أيضاً عليها (أني بريء مما تشركون) به(6/201)
مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (55)
(من دونه) أي من إشراككم من دون الله من غير أن ينزل به سلطاناً (فكيدوني جميعاً) أنتم وآلهتكم إن كانت كما تزعمون من أنها تقدر على الإضرار بي وإنها اعترتني بسوء (ثم لا تنظرون) أي لا تمهلوني بل عاجلوني واصنعوا ما بدا لكم واحتالوا في هلاكي.
وفي هذا من إظهار عدم المبالاة بهم وبأصنامهم التي يعبدونها ما يصك مسامعهم ويوضح عجزهم وعدم قدرتهم على شيء وهذا من معجزاته الباهرة.(6/201)
إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (57) وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (58) وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (59)(6/202)
إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56)
(إني توكلت على الله ربي وربكم) فهو يعصمني من كيدكم وإن بلغتم في تطلب وجوه الإضرار بي كل مبلغ فمن توكل على الله كفاه.
ثم لما بين لهم توكله على الله وثقته بحفظه وكلاءته وصفه بما يوجب التوكل عليه والتفويض إليه من اشتمال ربوبيته عليه وعليهم وأنه مالك للجميع فقال (ما من دابة) تدب على الأرض (الا هو آخذ بناصيتها) أي أن ناصية كل دابة.
قال الرازي وهو بعيد لأن شرط الناسخ أن يكون رافعاً لحكم المنسوخ، ومدلول الآية اختصاص كل واحد بأفعاله وبثمرات أفعاله من الثواب والعقاب وآية القتال ما رفعت شيئاً من مدلولات هذه الآية، بل هو باق فكان القول بالنسخ باطلاً.
(ومنهم من يستمعون إليك) بين الله سبحانه في هذا أن في أولئك الكفار من بلغت حاله في النفرة والعداوة إلى هذا الحد وهي أنهم يستمعون إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا قرأ القرآن وعلم الشرائع في الظاهر ولكنهم لا يسمعون في الحقيقة لعدم حصول أثر السماع وهو حصول القبول والعمل بما يسمعونه، وجمع الضمير في يستمعون حملاً على معنى من وأفرده في ومنهم من ينظر حملاً على لفظه، قيل والنكتة كثرة المستمعين بالنسبة إلى الناظرين لأن الاستماع لا يتوقف على ما يتوقف عليه النظر من المقابلة وانتفاء الحائل(6/202)
وانفصال الشعاع والنور الموافق لنور البصر، والتقدير في قوله ومنهم من يستمعون ومنهم من ينظر ومنهم ناس يستمعون ومنهم بعض ينظر.
(أفأنت تسمع الصم) الهمزة للإنكار يعني أن هؤلاء وإن استمعوا في الظاهر فهم صم والصمم مانع من سماعهم فكيف يطمع منهم في ذلك مع حصول المانع وهو الصمم، فكيف إذا انضم إلى ذلك (لو كانوا لا يعقلون) فإن من كان أصم غير عاقل لا يفهم شيئاً ولا يسمع ما يقال له، والفاء عاطفة.
وفيه تنبيه على أن حقيقة استماع الكلام فهم المعنى المقصود منه ولذلك لا توصف به البهائم وهو لا يتأتى إلا باستعمال العقل السليم في تدبره، وعقولهم لما كانت مريضة بمعارضة الوهم ومتابعة الإلف والتقليد، تعذر إفهامهم الحكم والمعاني الدقيقة فلم ينتفعوا بسرد الألفاظ عليهم غير ما ينتفع به البهائم من كلام الناعق.
والكلام في (ومنهم من ينظر إليك أفأنت تهدي العمي ولو كانوا لا يبصرون) كالكلام فيما تقدم لأن العمى مانع فكيف يطمع من صاحبه في النظر، وقد انضم إلى فقد البصر فقد البصيرة لأن الأعمى الذي له في قلبه بصيرة قد يكون له من الحدس الصحيح ما يفهم به في بعض الأحوال فهما يقوم مقام النظر، وكذلك الأصم (وعصوا) أي رؤساؤهم وسفلتهم (رسله) أي هوداً وحده لأنه لم يكن في عصره رسول سواه، وإنما جمع هنا للتعظيم أو لأن من كذب رسولاً فقد كذب جميع الرسل.
وقيل إنهم عصوا هوداً ومن كان قبله من الرسل أو كانوا بحيث لو بعث الله إليهم رسلاً متعددين لكذبوهم (واتبعوا أمر كل جبار عنيد) الجبار المتكبر والعنيد الطاغي الذي لا يقبل الحق ولا يذعن له ويتجاوز في الظلم.
قال أبو عبيدة: العنيد والعنود والعاند والمعاند هو المعارض بالخلاف منه، ومنه قيل للعرق الذي يتفجر بالدم عاند، وعن قتادة قال: عنيد مشرك، وقال السدي: العنيد المشاق.(6/203)
وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ (60) وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ (61) قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (62)(6/204)
وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ (60)
(واتبعوا) أي جميعهم أو السفلة والرؤساء (في هذه الدنيا لعنة) أي ألحقوها على لسان الأنبياء، واللعنة هي الإبعاد من الرحمة والطرد من الخير، والمعنى أنها لازمة لهم لا تفارقهم ما داموا في الدنيا (و) اتبعوها (يوم القيامة) فلعنوا هنالك كما لعنوا في الدنيا.
قال السدي: لم يبعث نبي بعد عاد ألا لعنت على لسانه، وقال قتادة: تتابعت عليهم لعنتان من الله، لعنة في الدنيا ولعنة في الآخرة.
(ألا إن عاداً كفروا ربهم) قال الفراء: أي بنعمة ربهم، يقال كفرته وكفرت به مثل شكرته وشكرت له (ألا بعداً لعاد قوم هود) أي لا زالوا مبعدين من رحمة الله، والبعد الهلاك والتباعد عن الخير، يقال بعد يبعد بعدًا إذا تأخر وتباعد، وبعد يبعد بعداً إذا هلك، والمبالغة في التنصيص والتكرير بعبارتين مختلفتين تدل على تقوية التأكيد ونهاية التحقيق، وقد تقدم إن العرب تستعمله في الدعاء بالهلاك.(6/204)
وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ (61)
(و) أرسلنا (إلى ثمود أخاهم صالحاً) وهم سكان الحجر، فقوم هود عاد الأولى وقوم صالح عاد الثانية كما قال المحلي في سورة النجم، وقرأ الحسن ثمود بالتنوين في جميع المواضع، واختلف سائر القراء فيه فصرفوه في موضع ولم يصرفوه في موضع، فالصرف باعتبار التأويل بالحي والمنع بالقبيلة، وهكذا سائر ما يصح فيه التأويلان، وبين صالح وهود مائة سنة، وعاش صالح مائتي سنة(6/204)
وثمانين سنة ومكانهم بين الشام والمدينة، وتقدم في الأعراف بسط قصتهم وقصة الناقة بأكثر مما هنا.
والكلام فيه وفي قوله (قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره) كما تقدم في قصة هود (هو أنشأكم من الأرض) أي ابتدأ خلقكم لأن كل بني آدم من صلب آدم وهو مخلوق منها فمن لابتداء الغاية، وقيل هي بمعنى في (واستعمركم فيها) أي جعلكم عمارها وسكانها من قولهم أعمر فلان فلاناً داره فهي له عمرى فيكون استفعل بمعنى افعل مثل استجاب بمعنى أجاب والسين والتاء زائدتان.
وقال الضحاك: معناه أطال عمركم، وكانت أعمارهم ثلثمائة إلى ألف سنة، وقيل معناه أمركم بعمارتها من بناء المساكن وغرس الأشجار. وقال ابن زيد: استخلفكم فيها.
(فاستغفروه) أي سلوه المغفرة لكم من عبادة الأصنام (ثم توبوا إليه) أي ارجعوا إلى عبادته (إن ربي قريب مجيب) أي قريب الإجابة لمن دعاه، وقد تقدم القول فيه في البقرة عند قوله تعالى (فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان).(6/205)
قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (62)
(قالوا يا صالح قد كنت فينا مرجواً) أي كنا نرجو أن تكون فينا سيداً مطاعاً ننتفع برأيك ونسعد بسيادتك لما نرى فيك من مخايل الرشد والسداد لأنه كان من قبيلتهم، وكان يعين ضعيفهم ويغني فقيرهم (قبل هذا) الذي أظهرته من ادعائك النبوة ودعوتك إلى التوحيد، وقيل كان صالح يعيب آلهتهم وكانوا يرجون رجوعه إلى دينهم فلما دعاهم إلى الله قالوا انقطع رجاؤنا منك.
والاستفهام في قوله: (أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا) للإنكار، أنكروا عليه هذا النهي، والمعنى ما كان يعبد آباؤنا فهو حكاية حال ماضية لاستحضار الصورة (وإننا لفي شك مما تدعونا إليه) من عبادة الله (مريب) موقع في الريبة من أربته فأنا أريبه إذا فعلت به فعلاً يوجب له الريبة، وهي قلق النفس وانتفاء(6/205)
قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ (63)
قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ (63)
الطمأنينة أو من أراب الرجل إذا كان ذا ريبة، فالإسناد مجازى للمبالغة كجد جده، والظاهر أنه على الأول مجازى أيضاً، والمعنى أننا مرتابون في عبادة الله وحده وترك عبادة الأوثان، والتنوين فيه وفي شك للتفخيم.
(قال يا قوم أرأيتم) قال ابن عطية: هي من رؤية القلب، والشرط الذي بعده وجوابه يسد مسد مفعولين لأرأيتم. قال الشيخ: والذي تقرر أن أرأيت ضمن معنى أخبرني، وعلى تقدير أن لا يضمن فجعله الشرط والجواب لا تسد مسد مفعولي علمت.
(إن كنت على بينة من ربي) أي حجة ظاهرة وبرهان صحيح (وآتاني منه) أي من جهته (رحمة) أي نبوة، وهذه الأمور وإن كانت متحققة الوقوع لكنها صدرت بكلمة الشك اعتباراً بحال المخاطبين لأنهم في شك من ذلك كما وصفوه عن أنفسهم، وعبارة الشهاب أنه من باب إرخاء العنان.
(فمن ينصرني من الله) استفهام معناه النفي أي لا ناصر لي يمنعني من عذاب الله والنصرة مستعملة في لازم معناها وهو المنع ولذا عدي بمن (إن عصيته) في تبليغ الرسالة وراقبتكم وفترت عما يجب علي من البلاغ (فما تزيدونني) بتثبيطكم إياي (غير تخسير) بأن تجعلوني خاسراً بإبطال عملي وما منحني الله والتعرض لعقوبة الله لي، قال الفراء: أي تضليل وإبعاد من الخير.
وقيل المعنى فما تزيدونني باحتجاجكم بدين آبائكم غير بصيرة بخسارتكم، وقال مجاهد وعطاء الخراساني: ما تزدادون أنتم إلا خساراً.(6/206)
وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ (64) فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ (65)(6/207)
وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ (64)
(ويا قوم هذه ناقة الله لكم آية) أي معجزة ظاهرة، وقد مر تفسير هذه الآية في الأعراف، وإنما قال هذه ناقة الله لأنه أخرجها لهم من جبل على حسب اقتراحهم. وقيل من صخرة صماء، والإضافة للتشريف كبيت الله وعبد الله (فذروها) أي فدعوها (تأكل في أرض الله) مما فيها من المراعي التي تأكلها الحيوانات وليس عليكم كلفة في مؤنتها، وهذا من تتمة إلزامهم.
قال الكرخي: أي ترع نباتها وتشرب ماءها فهو من قبيل الاكتفاء نحو (تقيكم الحر) وجعل تأكل من عموم المجاز يحتاج إلى قرينة صارفة.
(ولا تمسوها بسوء) قال الفراء: بعقر، والظاهر أن النهي عما هو أعم من ذلك (فيأخذكم) إن قتلتموها (عذاب قريب) في الدنيا، جواب النهي أي قريب من عقرها وذلك ثلاثة أيام.(6/207)
فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ (65)
(فعقروها) أي فلم يمتثلوا الأمر من صالح ولا النهي بل خالفوا كل ذلك فوقع منهم العقر لها وعقرها قدار وهو من اشقى الأشقياء (فقال) لهم صالح (تمتعوا في داركم) أي بالعيش في منازلكم أو بلادكم ومساكنكم فإن العقاب نازل عليكم وعبر عن الحياة بالتمتع لأن الحي يكون متمتعاً بالحواس (ثلاثة أيام) ثم تهلكون قيل عقروها يوم الأربعاء فأقاموا الخميس والجمعة والسبت وأتاهم العذاب يوم الأحد.
(ذلك) أي التمتع ثلاثة أيام (وعد غير مكذوب) فيه، فحذف الجار اتساعاً أو من باب المجاز كأن الوعد إذا وفي به صدق ولم يكذب، ويجوز أن يكون مصدراً أي وعد غير كذب.(6/207)
فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (66) وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (67)(6/208)
فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (66)
(فلما جاء أمرنا) أي عذابنا أو أمرنا بوقوع العذاب (نجينا صالحاً والذين آمنوا معه برحمة) عظيمة (منا) قد تقدم تفسير هذا في قصة هود، والباء للسببية أو للمصاحبة وهي بالنسبة إلى صالح النبوة وبالنسبة إلى المؤمنين الإيمان (و) نجيناهم (من خزي يومئذ) وهو هلاكهم بالصيحة، وسمي خزياً لأن فيه خزياً للكفار والخزي الذل والمهانة، وقيل من عذاب يوم القيامة والأول أولى ويومئذ بكسر الميم إعراباً وفتحها بناء لإضافته إلى مبنى، قال السيوطي: وهو الأكثر أي في الاستعمال وإلا فهما قراءتان سبعيتان على السواء (إن ربك هو القوي العزيز) القادر الغالب الذي لا يعجزه شيء والخطاب لرسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) والقصة تمت عند قوله يومئذ.(6/208)
وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (67)
(وأخذ الذين ظلموا الصيحة) أي في اليوم الرابع من عقر الناقة صيح بهم فماتوا وذكر الفعل لأن الصيحة والصياح واحد مع كون التأنيث غير حقيقي والصيحة فعلة تدل على المرة من الصباح وهو الصوت الشديد يقال صاح يصيح صياحاً أي صوت بقوة قيل صيحة جبريل وقيل صيحة من السماء فتقطعت قلوبهم وماتوا وتقدم في الأعراف فأخذتهم الرجفة قيل ولعلها وقعت عقب الصيحة.
(فأصبحوا في ديارهم جاثمين) ميتين صرعى هلكى ساقطين على وجوههم موتى قد لصقوا بالتراب كالطير إذا جثمت، والجثوم كالركوب من البعير والفاعل جاثم وجثام مبالغ يقال جثم الطائر والأرنب يجثم.(6/208)
كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِثَمُودَ (68) وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (69) فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ (70)(6/209)
كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِثَمُودَ (68)
(كان لم يغنوا فيها) أي كأنهم لم يقيموا في بلادهم أو ديارهم ولم يعيشوا فيها ولم يعمروا ولم ينعموا، والتقدير مماثلين لمن لم يوجد ولم يقم في مقام قط، يقال غنيت بالمكان إذا أتيته وأقمت فيه.
(ألا إن ثمود كفروا ربهم) وضع الظاهر موضع المضمر لزيادة البيان وصرح بكفرهم مع كونه معلوماً تعليلاً للدعاء عليهم بقوله (ألا بعداً لثمود) بالصرف وتركه قراءتان سبعيتان على معنى الحي والقبيلة وقد تقدم تفسير هذه القصة في الأعراف بما يحتاج إلى مراجعته ليضم ما في إحدى القصتين من الفوائد إلى الأخرى.(6/209)
وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (69)
(ولقد جاءت رسلنا إبراهيم) بسكون السين وضمها حيثما وقع مضافاً إلى الضمير بخلاف ما إذا أضيف إلى مظهر فليس فيه إلا ضمها، وهذا شروع في قصة إبراهيم لكنها مذكورة هنا توطئة لقصة لوط لا استقلالاً ولذا لم يذكرها على أسلوب ما قبلها وما بعدها فلم يقل وأرسلنا إبراهيم إلى كذا، وعاش إبراهيم من العمر مائة وخمساً وسبعين سنة وبينه وبين نوح ألفا سنة وستمائة سنة وأربعون سنة، وابنه إسحاق عاش مائة وثمانين سنة ويعقوب بن إسحاق عاش مائة وخمساً وأربعين سنة، ولوط عليه السلام هو ابن أخي إبراهيم عليه السلام.
وكانت قرى قوم لوط بنواحي الشام وإبراهيم ببلاد فلسطين فلما أنزل الله الملائكة بعذاب قوم لوط مروا بإبراهيم ونزلوا عنده وكان كل من نزل عنده(6/209)
يحسن قِراه وكان مرورهم عليه لتبشيره بهذا البشارة الآتية فظنهم أضيافاً وهم جبريل وميكائيل وإسرافيل، قاله عطاء، وقيل كانوا تسعة قاله الضحاك، وقيل أحد عشر قاله السدي، وقيل اثني عشر قاله مقاتل، وقيل كان جبريل ومعه سبعة أملاك، قاله محمد بن كعب القرظي والأول أولى لأن أقل الجمع ثلاثة.
(بالبشرى) التي بشروه بها هي بشارته بالولد وقيل بإهلاك قوم لوط، والأول أولى (قالوا سلاماً) أي سلمنا عليك سلاماً وهذه تحيتهم التي وقعت منهم وهي لفظ سلاماً (قال) لهم إبراهيم (سلام) أي أمركم سلام أو عليكم سلام وهذه التحية الواقعة منه جواباً وهي لفظ سلام وحياهم بالجملة الاسمية في جواب تحيتهم بالفعلية ومن المعلوم أن الأولى أبلغ من الثانية فكانت تحيته أحسن من تحيتهم كما قال تعالى (فحيوا بأحسن منها).
(فما لبث) أي إبراهيم (أن جاء بعجل حنيذ) قال أكثر النحاة " أن " هنا بمعنى حتى، وقيل التقدير فما لبث عن أن جاء أي ما أبطأ إبراهيم عن مجيئه بعجل، وما نافية قاله سيبويه، وقال الفراء: فما لبث مجيئه أي ما أبطأ مجيئه، وقيل أن ما موصولة والتقدير فالذي لبث إبراهيم هو مجيئه والحنيذ المشوي مطلقاً.
وقيل المشوي بحرِّ الحجارة من غير أن تمسه النار، وهذا من فعل أهل البادية يقال حنذ الشاة يحنذها جعلها فوق حجارة محماة لينضجها فهي حنيذ وقيل هو سمين وقيل هو السميط، وقيل النضيج وهو فعيل بمعنى مفعول وإنما جاءهم بعجل لأن البقر كانت أكثر أمواله.(6/210)
فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ (70)
(فلما رأى) الرؤية بصريه أي أبصر (أيديهم لا تصل إليه) أي لا يمدونها إلى العجل المشوي كما يمد يده من يريد الأكل (نكرهم) يقال نكرته وأنكرته واستنكرته إذا وجدته على غير ما تعهد، ويقال أنكرت لما تراه بعينك(6/210)
ونكرت لما تراه بقلبك، قيل وإنما استنكر منهم ذلك لأن عادتهم إن الضيف إذا نزل بهم ولم يأكل من طعامهم ظنوا أنه قد جاء بشر، ولم يأت بخير قاله قتادة.
وفي الذاريات (قوم منكرون) أي غرباء لا أعرفهم قال ذلك في نفسه كما قاله ابن عباس، وقيل إنما أنكر أمرهم لأنهم دخلوا عليه من غير استئذان، وقال أبو العالية: أنكر سلامهم في ذلك الزمان وفي تلك الأرض.
(وأوجس منهم) أي أحس في نفسه (خيفة) أي خوفاً وفزعاً، وقيل معنى أوجس أضمر في نفسه، والأول ألصق بالمعنى اللغوي، والوجس هو رعب القلب والإيجاس الإدراك وقيل الإضمار، وفي السمين الإيجاس حديث النفس وأصله من الدخول كأن الخوف داخله والوجيس ما يعتري النفس أو أن الفزع ووجس في نفسه كذا أي خطر بها يجس وجساً ووجيساً وكأنه ظن أنهم قد نزلوا به لأمر ينكره أو لتعذيب قومه.
(قالوا لا تخف) قالوا له ذلك مع كونه لم يتكلم بما يدل على الخوف بل أوجس ذلك في نفسه فلعلهم استدلوا على خوفه بأمارات كظهور أثره على وجهه أو قالوه له بعد ما قال عقب ما أوجس في نفسه من الخيفة قولاً يدل على الخوف كما في قوله في سورة الحجر (قال إنا منكم وجلون) ولم يذكر ذلك هاهنا اكتفاء بما هنالك.
ثم عللوا نهيه عن الخوف بقولهم (إنا أرسلنا إلى قوم لوط) خاصة ولوط أول من آمن بإبراهيم وأبوه هاران أخو إبراهيم، ويمكن أن يكون إبراهيم عليه السلام قد قال قولاً يكون هذا جواباً عنه كما قال: (فما خطبكم أيها المرسلون * قالوا إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين).(6/211)
وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ (71)
وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ (71)
(وامرأته) أي سارَّة زوجة إبراهيم وهي ابنة هارون بن ناحورا وهي ابنة عمّ إبراهيم (قائمة) قيل كانت قائمة عند تحاورهم وراء الستر تسمع كلامهم وقيل كانت واقفة قائمة تخدم الملائكة وهو جالس؛ والجملة مستأنفة أو حالية (فضحكت) الضحك هنا هو الضحك المعروف الذي يكون للتعجب أو للسرور كما قاله الجمهور، وأصل الضحك انبساط الوجه من سرور يحصل للنفس ولظهور الأسنان عنده سميت مقدمات الأسنان الضواحك ويستعمل في السرور المجرد وفي التعجب المجرد أيضا وعليه أكثر المفسرين.
وقال مجاهد وعكرمة أنه الحيض، والعرب تقول ضحكت الأرنب إذا حاضت وقد أنكر بعض اللغويين أن يكون في كلام العرب ضحكت بمعنى حاضت، قال الراغب: وقول من قال حاضت ليس تفسيراً لقوله فضحكت كما تصوره بعض المفسرين وإنما ذكر ذلك تنصيصاً لحالها فإن ذلك أمارة لما بشرت به فحيضها في الوقت ليعلم أن حملها ليس بمنكر لأن المرأة ما دامت تحيض فإنها تحمل.
قال الفراء: ضحكت بمعنى حاضت لم نسمعه من ثقة، وقال الزجاج: ليس بشيء ضحكت بمعنى حاضت، وقال ابن الأنباري: قد أنكر الفراء وأبو عبيده أن يكون ضحكت بمعنى حاضت، وقال في المحكم: ضحكت المرأة حاضت والأول أولى ولا مصير إلى المجاز إلا عند تعذر الحقيقة، وظاهر النص أنها ضحكت.
قال قتادة: ضحكت تعجباً مما فيه قوم لوط من الغفلة ومما أتاهم من العذاب، وقال السدي: ضحكت تعجباً من عدم أكلهم، وقال مقاتل والكلبي: ضحكت من خوف إبراهيم من ثلاثة وهو فيما بين خدمه وحشمه(6/212)
وخواصه. وقيل ضحكت من زوال الخوف عنها وعن إبراهم، حين قالوا لا تخف. وقيل ضحكت سررواً من البشارة.
وقال وهب: ضحكت تعجباً من أن يكون لها ولد على كبر سنها وسن زوجها. وقيل غير ذلك مما ليس في ذكره كثير فائدة والله أعلم مما ضحكت.
وقال ابن عباس: حاضت وهي بنت ثمان وتسعين سنة. وعن مجاهد قال: وكان إبراهيم ابن مائة سنة.
(فبشرناها بإسحاق) ظاهره أن التبشير كان بعد الضحك، وقال الفراء: فيه تقديم وتأخير، والمعنى فبشرناها فضحكت سروراً بالولد وولد إسحق بعد البشارة بسنة وكانت ولادته بعد إسماعيل بأربعة عشر سنة (ومن وراء) أي وهبنا لها من وراء (إسحاق يعقوب) وقرئ بجر يعقوب ومنعه الفراء وقرئ بالرفع على الابتداء وخبره الظرف الذي قبله وبالنصب وهما سبعيتان.
وقد وقع التبشير هنا لها ووقع لإبراهيم في قوله تعالى (وبشرناه بغلام حليم) وبشروه بغلام عليم لأن كل واحد منهما مستحق للبشارة به لكونه منهما، قال ابن عباس: هو ولد الولد أي فبشرت بأنها تعيش حتى ترى ولد الولد وقد رأته.(6/213)
قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (72)
قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (72)
(قالت يا ويلتا) مستأنفة كأنه قيل فماذا قالت وهي لم ترد الدعاء على نفسها بالويل، ولكنها كلمة تقع كثيراً على أفواه النساء إذا طرأ عليهن ما يعجبن منه، وأصل الويل الخزي، ثم شاع في كل أمر فظيع، والألف مبدلة من ياء الإضافة والاستفهام في قولها.
(أألد وأنا عجوز) للتعجب، أي كيف ألد وأنا شيخة قد طعنت في السن يقال عجزت تعجز مخففاً ومثقلاً عجزاً وتعجيزاً أي طعنت في السن، ويقال عجوز وعجوزة، وأما عجزت بكسر الجيم فمعناه عظمت عجيزتها (وهذا بعلي) أي زوجي إبراهيم (شيخاً) لا تحبل من مثله النساء ونصبه على الحال والعامل فيه معنى اسم الإشارة.
ومثل هذه الحال من غوامض العربية إذ لا تجوز إلا حيث يعرف الخبر، وقرئ بالرفع على أنه خبر محذوف أي هو شيخ أو خبر بعد خبر أو هو الخبر، وبعلي بدل؛ وجوَّز كونه عطف بيان، وكون شيخ تابعاً لبعلي أيضاً والبعل هو المستعلي على غيره، والزوج مستعل على المرأة قائم بأمرها فسمي بعلاً لذلك. قيل كان إبراهيم ابن مائة وعشرين سنة وهي بنت تسع وتسعين وقيل بنت تسعين وهذه المبشرة هي سارة امرأة إبراهيم، وقد كان ولد لإبراهيم من هاجر أمته إسماعيل فتمنت سارة أن يكون لها ابن وأيست منه لكبر سنها فبشرها الله به على لسان ملائكته، وكانت بين الولادة والبشارة سنة.
(إن هذا لشيء عجيب) أي ما ذكرته الملائكة من التبشير بحصول الولد مع كونها في هذه السن العالية التي لا يولد لمن كان في مثلها شيء يقضى منه العجب ولم تنكر قدرة الله.(6/214)
قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (73)
قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (73)
(قالوا أتعجين من أمر الله) مستأنفة جواب سؤال مقدر والاستفهام فيها للإنكار، أي كيف تعجبين من قضاء الله وقدره وهو لا يستحيل عليه شيء.
وقيل المعنى لا تعجبي من ذلك، وإنما أنكروا عليها مع كون ما تعجبت منه من خوارق العادة لأنها من بيت النبوة، ولا يخفى على مثلها أن هذا من مقدوراته سبحانه، ولهذا قالوا.
(رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت) أي الرحمة التي وسعت كل شيء واستتبعت كل خير، وإنما وضع المطهر موضع المضمر لزيادة تشريفها، والبركات الخيرات النامية المتكاثرة في كل باب، التي من جملتها هبة الأولاد، والبركة هى النمو والزيادة؛ وقيل الرحمة النبوة والبركات الأسباط من بني إسرائيل لما فيهم من الأنبياء وكلهم من ولد إبراهيم.
وانتصاب أهل البيت على المدح أو الاختصاص وبين النصبين فرق ذكره السمين، وصرف الخطاب من صيغة الواحدة إلى الجمع لقصد التعميم، وقيل خطاب لها وله، وهذا على مهى الدعاء من الملائكة بالخير والبركة، وفيه دليل على أن أزواج الرجل من أهل بيته عن ابن عباس أنه كان ينهي عن أن يزاد في جواب التحية على قولهم عليكم السلام ورحمة الله وبركاته ويتلو هذه الآية. وعن ابن عمر نحوه (إنه حميد) أي يفعل موجبات الحمد من عباده على سبيل الكثرة (مجيد) كثير الإحسان إلى عباده بما يفيضه إليهم من الخيرات. وقيل المجيد المنيع الذي لا يرام.
وقال الخطابي: المجيد الواسع الكريم وأصل المجد في كلامهم السعة، وقيل هو ذو الشرف والكرم والجملة تعليل لقوله رحمة الله وبركاته الخ.(6/215)
فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ (74)
فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ (74)
(فلما ذهب عن إبراهيم الروع) أي الخيفة التي أوجسها في نفسه، يقال ارتاع من كذا إذا خاف. قال مجاهد: الروع الفرق وهو الخوف وقيل الفزع (وجاءته البشرى) أي بالولد أو بقولهم لا تخف (يجادلنا في قوم لوط) قال الأخفش والكسائي: إن يجادلنا في موضع جادلنا فيكون هو جواب لما، لما تقرر من أن جوابها يكون بالماضي لا بالمستقبل.
قال النحاس: جعل المستقبل مكانه كما يجعل الماضي مكان المستقبل في الشرط وقيل أن الجواب محذوف ويجادلنا في محل نصب على الحال قاله الفراء وتقديره فلما ذهب عنه الروح وجاءته البشرى اجترأ على خطابنا حال كونه يجادلنا، أي يجادل رسلنا.
وقيل أن المعنى أخذ أو جعل يجادلنا ومجادلته لهم، قيل أنه لما سمع قولهم إنا مهلكو أهل هذه القرية، قال: أرأيتم إن كان فيهم خمسون من المسلمين أتهلكونهم قالوا: لا، قال: فأربعون، قالوا: لا، قال فعشرون: قالوا: لا، قال: فعشرة فخمسة، قالوا: لا، قال: فواحد؛ قالوا: لا، قال: إن فيها لوطاً، قالوا: نحن أعلم بمن فيها لننجينه وأهله. الآية.
وعن ابن عباس قال: لا جاءت الملائكة إلى إبراهيم قالوا لإبراهيم إن كان فيها خمسة يصلون رفع عنهم العذاب، فهذا معنى مجادلته في قوم لوط، أي في شأنهم وأمرهم، وقيل معناه يكلمنا ويسألنا، لأن العبد لا يقدر أن يخاصم ربه وإن كان نبياً؛ ولهذا قال جمهور المفسرين معناه يجادل رسلنا.(6/216)
إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ (75) يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ (76) وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ (77)
ثم أثنوا على إبراهيم أو أثنى الله عليه فقال(6/217)
إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ (75)
(إن إبراهيم لحليم) أي ليس بعجول في الأمور ولا بموقع لها على غير ما ينبغي (أوّاه) أي كثير التأوه أو الرحيم (منيب) أي راجع إلى الله، وقد تقدم في براءة الكلام على الأوّاه والمنيب هو المقبل إلى طاعة الله. وقال قتادة: المنيب المخلص. وفي الآية ما يشير إلى أن المراد بالمجادلة فيما تقدم مجادلة الرسل لا مجادلة الرب كما قاله الجمهور، والمقصود من ذلك بيان الحامل له على المجادلة، وهو رقة قلبه وفرط رحمته، فطلب تأخير العذاب عنهم لعلهم يؤمنون، ويرجعون عما هم فيه من الكفر والمعاصي.(6/217)
يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ (76)
(يا إبراهيم أعرض عن هذا) هذا قول الملائكة له أي أعرض عن هذا المقال واترك هذا الجدال في أمر قد فرغ منه وجف به القلم وحق به القضاء (إنه قد جاء أمر ربك) الضمير للشأن والمعنى مجيء عذابه الذي قدره عليهم وسبق به قضاؤه في أزله (وإنهم آتيهم عذاب غير مردود) أي لا يرده دعاء ولا جدال بل هو واقع بهم لا محالة ونازل بهم على كل حال ليس بمصروف ولا مدفوع.(6/217)
وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ (77)
(ولما جاءت رسلنا لوطاً) أي لما خرجت الملائكة من عند إبراهيم وكان بين إبراهيم وقرية لوط أربعة فراسخ، جاءوا إلى لوط فلما رآهم لوط وكانوا في صورة غلمان حسان مرد (سيء بهم) أي ساءه مجيئهم إليه، يقال ساءه يسوؤه لأنهم جاءوه في صورة غلمان حسان مرد، فظن أنهم أناس، فخاف عليهم أن(6/217)
يقصدهم قومه فيعجز عن مدافعتهم.
(وضاق بهم ذرعاً) قال الأزهري: الذرع يوضع موضع الطاقة، وأصله أن البعير يذرع بيده في سيره على قدر سعة خطوة أي يبسطها فإذا حمل عليه أكثر من طاقته ضاق ذرعه عن ذلك فجعل ضيق الذرع كناية عن قلة الوسع والطاقة وشدة الأمر.
وقيل هو من ذرعه القيء إذا غلبه وضاق عن حبسه، والمعنى أنه ضاق صدره لما رأى الملائكة في تلك الصورة خوفاً عليهم من قومه لما يعلم من فسقهم وارتكابهم لفاحشة اللواط ولم يجد مخلصاً.
قال ابن عباس. ساء ظناً بقومه وضاق ذرعاً بأضيافه، وقيل ضاق بهم قلباً وصدراً ولا يعرف أصله، ويقال ضاق فلان ذرعاً بكذا إذا وقع في مكروه ولا يطيق الخروج منه (وقال هذا يوم عصيب) أي شديد كأنه قد عصب به الشر والبلاء أي شد به مأخوذ من العصابة التي يشد بها الرأس، يقال عصيب وعصيصب وعصوصب على التكثير أي يوم مكروه يجتمع فيه الشر، ومنه عصبة وعصابة أي مجتمعو الكلمة، ورجل معصوب أي مجتمع الخلق.(6/218)
وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (78) قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ (79) قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ (80)(6/219)
وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (78)
(وجاءه قومه يهرعون إليه) أي جاءوا لوطاً يسرعون إليه قاله قتادة، وقال الكسائي والفراء وغيرهما من أهل اللغة: لا يكون الإهراع إلا إسراعاً مع رعدة يقال أهرع الرجل إهراعاً أي أسرع في رعدة من برد أو غضب أو حمى وقيل يهرولون قاله مجاهد، وقيل هو مشي بين الهرولة والعدو، قاله الحسن وقال شمر: هو بين الهرولة والخبب والجمز.
والمعنى أن قوم لوط لما بلغهم مجيء الملائكة في تلك الصورة أسرعوا إليه كأنما يدفعون دفعاً لطلب الفاحشة من أضيافه (ومن قبل) أي ومن قبل مجيء الرسل (كانوا يعملون السيئات) أي يأتون الرجال في أدبارهم وكانت ذلك عادتهم، فلا حياء عندهم منها فلما جاؤوا إلى لوط وقصدوا أضيافه لذلك العمل قام إليهم لوط مدافعاً.
(قال يا قوم) خاطبهم بهذا الخطاب وهم من وراء الباب خارجه (هؤلاء بناتي) أي تزوجوهن ودعوا ما تطلبونه من الفاحشة بأضيافي، وقد كان له ثلاث بنات وقيل ابنتان وكانوا يطلبون منه أن يزوجهم بهن فيمتنع لخبثهم لا لعدم كفاءتهم، وكان لهم سيدان مطاعان فأراد أن يزوجهما بنتيه والمراد بالجمع ما فوق الواحد.
وقيل أراد بقوله هؤلاء بناتي النساء جملة، لأن نبي القوم أب لهم قاله ابن عباس وهو قول مجاهد وسعيد بن جبير، قال الكرخي: وهذا القول أولى لأن(6/219)
إقدام الإنسان على عرض بناته على الأوباش والفجار مستبعد لا يليق بأهل المروءة فكيف بالأنبياء. وأيضاً فبناته لا تكفي الجمع العظيم أما بنات أمته ففيهن كفاية للكل انتهى.
لكن فيه مخالفة لظاهر النظم، وقيل كان في ملته يجوز تزوج الكافر بالمسلمة قال قتادة: المراد بناته لصلبه، وفي أضيافه ببناته، وقال الحسين بن الفضل: عرض بناته عليهم بشرط الإسلام، وقالت طائفة: أما كان هذا القول منه على طريق المدافعة ولم يرد الحقيقة، وعن حذيفة بن اليمان قال: عرض عليهم بناته تزويجاً وأراد أن يقي أضيافه بتزويج بناته.
(هن أطهر لكم) أي أحل وأنزه والتطهر التنزه عما لا يحل، وليس في صيغة أطهر دلالة على التفضيل، بل هي مثل (الله أكبر) وقرأ الحسن وعيسى ابن عمر بنصب أطهر، وقرأ الباقون بالرفع، ووجه النصب أن يكون اسم إشارة مبتدأ وخبره بناتي. وهن ضمير فصل، وأطهر حال، وقد منع الخليل وسيبويه والأخفش مثل هذا، لأن ضمير الفصل الذي يسمى عماداً إنما يكون بين كلامين بحيث لا يتم الكلام إلا بما بعدها، نحو كان زيد هو أخاك (فاتقوا الله ولا تخزون في ضيفي) أي اتقوا الله بترك ما تريدون من الفاحشة بهم، ولا تذلوني وتجلبوا عليَّ العار في ضيفي، والضيف يطلق على الواحد والاثنين والجماعة، لأنه في الأصل مصدر، ومنه قول الشاعر:
لا تعدمي الدهر شفار الجازر ... للضيف والضيف أحق زائر
ويجوز فيه التثنية والجمع، والأول أكثر، يقال خزي الرجل خزاية: أي استحيا أو ذلّ أو هان. وخزي خزياً: إذا افتضح، ومعنى في ضيفي: في حق ضيفي، فخزي الضيف خزي للمضيف، ثم وبخهم فقال (أليس منكم رجل رشيد) يرشدكم إلى ترك هذا العمل القبيح ويمنعكم منه، فأجابوا عليه معرضين عما نصحهم به،(6/220)
وأرشدهم إليه بقولهم(6/221)
قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ (79)
(ما لنا في بناتك من حق) أي ما لنا فيهم من شهوة ولا حاجة لأن من احتاج إلى شيء فكأنه حصل له فيه نوع حق، ومعنى ما نسبوه إليه من العلم أنه قد علم منهم المكالبة على إتيان المذكور وشدة الشهوة إليهم، فهم من هذه الحيثية كأنهم لا حاجة لهم إلى النساء، ويمكن أن يريدوا: أنهم لا حق لنا في نكاحهنّ، لأنه لا ينكحهنّ ولا يتزوجهنّ إلّا مؤمن ونحن لا نؤمن أبداً، وقيل إنهم كانوا قد خطبوا بناته من قبل فردهم، وكان من سنتهم أن من خطب فردّ فلا تحل المخطوبة أبداً؛ (وإنك لتعلم ما نريد) من إتيان المذكور، ثم إنه لما علم تصميمهم على الفاحشة وأنهم لا يتركون ما قد طلبوه(6/221)
قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ (80)
(قال لو أن لي بكم قوة) وجواب لو محذوف، والتقدير لدافعتكم عنهم ومنعتكم منهم، وهذا منه عليه السلام على طريق التمني: أي لو وجدت معيناً وناصراً، فسمي ما يتقوى به قوة (أو آوي إلى ركن شديد) عطف على ما بعد لوطاً فيه من معنى الفعل، والتقدير: لو قويت على دفعكم أو آويت إلى ركن شديد. وَقرئ (أو آويَ) بالنصب عطفاً على قوة كأنه قال: لو أن لي بكم قوة أو إيواء إلى ركن شديد، ومراده بالركن الرشيد: العشيرة، وما يمنع به عنهم هو ومن معه لأنه كان أولاً بالعراق مع إبراهيم فلما هاجر إلى الشام أرسله الله إلى أهل سدوم وهي قرية عند حمص.
قال أبو هريرة: ما بعث الله نبياً بعده إلا في منعة من عشيرته، وقيل أراد بالقوة الولد وبالركن من ينصره من غير ولده، وقيل أراد بالقوة قوته في نفسه قال السدي: إلى جند شديد لقاتلتكم.
وقد ثبت في البخاري وغيره من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: يغفر الله للوط إن كان يأوي إلى ركن شديد، وهو مروي في غير الصحيح من طريق غيره من الصحابة، وقال النووي: المراد بالركن الشديد هو الله عز وجل فإنه أشد الأركان وأقواها وأمنعها اهـ. وهو يخالف ظاهر الآية والحديث المتقدم.(6/221)
قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (81) فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (82)
ولما سمعته الملائكة يقول هذه المقالة ووجدوا قومه قد غلبوه وعجز عن مدافعتهم(6/222)
قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (81)
(قالوا يا لوط إنا رسل ربك) أخبروه أولاً أنهم رسل ربه ثم بشروه بقولهم (لن يصلوا إليك) وهذه الجملة موضحة لما قبلها لأنهم إذا كانوا مرسلين من عند الله إليه لم يصل عدوه إليه بسوء ولم يقدروا عليه ثم أمروه أن يخرج عنهم فقالوا له.
(فأسر بأهلك) قرئ بالوصل وبالقطع من أسرى وسرى وهما لغتان سبعيتان فصيحتان، قال تعالى (والليل إذا يسر) وقال (سبحان الذي أسرى) وهل هما بمعنى واحد أو بينهما فرق.
خلاف مشهور فقيل هما بمعنى واحد وهو قول أبي عبيد. وقيل أن أسرى للمسير من أول الليل وسرى للمسير من آخره وهو قول الليث، وأما سار فمختص بالنهار، وليس مقلوباً من سرى والباء للتعدية أو للمصاحبة والأهل هم بنتاه فلم يخرج من القرية إلا هو وبنتاه فقط، وفي القرطبي: خرج لوط وطوى الله له الأرض في وقته حتى نجا ووصل إلى إبراهيم.
(بقطع) أي مصاحبين بقطع (من الليل) القطع الطائفة منه، قال ابن الأعرابي: بساعة منه؛ وقال الأخفش: بجنح من الليل، وقال الضحاك: ببقية الليل وقال قتادة: بعد مضي أوله " وقيل أنه السحر الأول، وقيل بنصف منه لأنه قطعة منه مساوية لباقيه، وقيل بظلمة منه، وقيل بعد هدو من الليل، وقال(6/222)
ابن عباس: بجوف الليل وبسواده.
وقيل أن الباء بمعنى في؛ وقد تقدم الكلام على القطع في يونس بأشبع من هذا وقيل أن السرى لا يكون إلا في الليل فما وجه زيادة بقطع من الليل؟ قيل لو لم يقله لجاز أن يكون في أوله قبل اجتماع الظلمة وليس ذلك بمراد.
(ولا يلتفت منكم أحد) أي بقلبه إلى ما خلف أو لا ينظر إلى ما وراءه أو لا يشتغل بما خلفه من مال أو غيره، قيل وجه النهي عن الالتفات أن لا يروا عذاب قومهم وهول ما نزل بهم فيرحموهم ويرقوا لهم، أو لئلا ينقطعوا عن السير المطلوب منهم بما يقع من الالتفات فإنه لا بد للملتفت من فترة في سيره، وقع فيه ضمير منكم للأهل فهو التفات فقوله لا يلتفت من تسمية النوع.
وهذا من بديع النكات وهو عند المتأخرين من أهل البديع أن يؤتى بشيء من البديع ويذكر اسمه على سبيل التورية، وتبجحوا باختراعه وأنه قد وقع في القرآن في هذه الآية.
قال الخفاجي: ثم أني وجدت منه قوله تعالى (من وجد في رحله فهو جزاؤه) في سورة يوسف فإن (فهو جزاؤه) جزاء من الشرطية وقد ذكر أنه جزاء ومنه قوله تعالى (أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها) إلى قوله: (كذلك يضرب الله الأمثال) اهـ.
(إلا امرأتك) بالنصب سبعية والاستثناء من قوله فأسر بأهلك أي أسر بأهلك جميعاً إلا امرأتك فلا تسر بها لكونها كافرة، وأنكر قراءة الرفع جماعة منهم أبو عبيدة، قال النحاس: الرفع على البدل له معنى صحيح أي لا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك فإنها تلتفت وتهلك، وقيل أن الرفع على البدل من أحد ويكون الالتفات بمعنى التخلف لا بمعنى النظر إلى الخلف، فكأنه قال ولا(6/223)
يتخلف منكم أحد إلا امرأتك فإنها تتخلف، والملجئ إلى هذا التأويل البعيد الفرار من تناقض القراءتين.
(إنه مصيبها ما أصابهم) من العذاب وهو رميهم بالحجارة، والجملة تعليل للاستثناء (إن موعدهم الصبح) هذه الجملة تعليل لما تقدم من الأمر بالإسراء والنهي عن الالتفات، والمعنى أن موعد عذابهم أي وقت هلاكهم الصبح المسفر عن تلك الليلة، روي أنه قال لهم متى موعد هلاكهم فقالوا هذه المقالة فقال أريد أسرع من ذلك فقالوا (أليس الصبح بقريب) الهمزة للإنكار التقريري على حد (ألم نشرح لك صدرك) والجملة تأكيد للتعليل ولعل جعل الصبح ميقاتاً لهلاكهم لكون النفوس فيه أسكن، والناس فيه مجتمعون لم يتفرقوا إلى أعمالهم.(6/224)
فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (82)
(فلما جاء أمرنا) أي الوقت المضروب لوقوع العذاب فيه أو المراد بالأمر نفس العذاب والأول أولى (جعلنا عاليها) أي عالي قرى قوم لوط (سافلها) والمعنى أنه قلبها على هذه الهيئة وهي كون عاليها صار سافلها وسافلها صار عاليها وذلك لأن جبريل أدخل جناحه تحتها فرفعها من تخوم الأرض حتى أدناها من السماء ثم قلبها عليهم:
قال مجاهد: لما أصبحوا غدا جبريل على قريتهم وقطعها من أركانها ثم أدخل جناحه ثم حملها على خوافي جناحه بما فيها ثم صعد بها إلى السماء، حتى سمع أهل السماء صياحٍ ديكهم ونباح كلابهم ثم قلبها فكان أول ما سقط منها سرادقها فلم يصب قوما ما أصابهم.
ثم إن الله طمس على أعينهم ثم قلبت قريتهم وهي خمس مدائن أكبرها سدوم وهي المؤتفكات المذكورة في سورة براءة يقال كان فيها أربعة آلاف ألف.
(وأمطرنا عليها) أي على المدن حين رفعها جبريل أو على شذاذها وعلى من كان خارجاً عنها من مسافريها أو من بعد قلبها، قيل أنه يقال أمطرنا في(6/224)
العذاب ومطرنا في الرحمة وقيل هما لغتان يقال مطرت السماء وأمطرت حكى ذلك الهروي.
(حجارة من سجيل) هو الطين المتحجر بطبخ أو غيره، وقيل هو الشديد الصلب من الحجارة، وقيل هو الكثير، وقيل أن السجيل لفظة غير عربية أصله سنج وجيل وهما بالفارسية حجر وطين عربتهما العرب فجعلتهما اسماً واحداً.
قال سعيد: معناه سنك كل فارسي معرب لأن العرب إذا تكلمت بشيء من الفارسي صار لغة للعرب ولا يضاف إلى الفارسي مثل قوله سندس وإستبرق، فكل هذه ألفاظ فارسية تكلمت بها العرب واستعملتها في ألفاظهم فصارت عربية.
قال قتادة وعكرمة: هو الحجر والطين، دليله قوله تعالى في موضع آخر (حجارة من طين) وقال مجاهد: أولها حجر وآخرها طين. وقال الحسن: أصل الحجارة طين فشدت، وقال الضحاك: يعني الآجر. وقيل هو من لغة العرب. وذكر الهروي إن السجيل اسم لسماء الدنيا.
قال ابن عطية: وهذا ضعيف يرده وصفه بمنضود، وقيل هو بحر معلق في الهواء بين السماء والأرض، وقيل هي جبال في السماء الدنيا. وقال الزجاج: هو من التسجيل لهم أي ما كتب لهم من العذاب فهو في معنى سجين، ومنه قوله تعالى (وما أدراك ما سجين كتاب مرقوم) وقيل هو من أسجلته إذا أعطيته فكأنه عذاب أعطوه والأول أولى.
(منضود) أي نضد بعضه فوق بعض، ومنه (وطلح منضود) أي متراكب والمراد وصف الحجارة بالكثرة. وقيل بعضه في إثر بعض، يقال نضدت المتاع إذا جعلت بعضه على بعض فهو منضود ونضيد أي متتابع أو مجموع معه العذاب نعت لسجيل.(6/225)
مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (83)
مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (83)
(مسوَّمة) معلمة أي التي لها علامة حال من حجارة، وسوغ مجيئها من النكرة تخصيص النكرة بالوصف، والتسويم العلامة، قيل كان عليها أمثال الخواتيم. قاله الحسن والسدي، وقيل مكتوب على كل حجر اسم من رمى به، وقال الفراء: زعموا أنها كانت مخططة بحمرة وسواد في بياض فذلك تسويمها. قال ابن جريج: عليها سيماء لا تشاكل حجارة الأرض، وقال قتادة وعكرمة: عليها خطوط حمر على هيئة الجزع.
(عند ربك) أي في خزائنه أو في حكمه والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم (وما هي) أي الحجارة الموصوفة، وقيل العقوبة المفهومة من السياق والأول أولى لأنه أقرب مذكور (من الظالمين) وهم قوم لوط (ببعيد) فإنهم بظلمهم حقيق بأن تمطر عليهم، وفيه وعيد لكل ظالم من الظلمة، ومنهم كفار قريش ومن عاضدهم على الكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم.
وقيل الضمير للقرى، أي هي قريبة من ظالمي مكة ممن كفر بالنبي (- صلى الله عليه وسلم -) فإنها بين الشام والمدينة يمرون بها في أسفارهم وتذكير البعيد على تأويل الحجارة بالحجر أو إجراء له على موصوف مذكر أي شيء بعيد أو مكان بعيد أو لكونه مصدراً كالزفير والصهيل، والمصادر يستوي في الوصف بها المذكر والمؤنث.
وعن مجاهد قال: يرهب بها قريشاً أن يصيبهم ما أصابهم. وعن السدي قال: من ظلمة العرب إن لم يؤمنوا فيعذبوا بها، وعن قتادة قال: من ظالمي هذه الأمة. وقد ذكر المفسرون روايات وقصصاً في كيفية هلاك قوم لوط طويلة متخالفة وليس في ذكرها فائدة ولا سيما وبين من قال بشيء من ذلك وبين هلاك قوم لوط دهر طويل لا يتيسر له في مثله إسناد صحيح. وغالب ذلك مأخوذ عن أهل الكتاب وحالهم في الرواية معروف، وقد أمرنا بأن لا نصدقهم(6/226)
وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (84)
وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (84)
ولا نكذبهم فاعرف هذا فهو الوجه لحذفنا كثيراً من هذه الروايات الكائنة في قصص الأنبياء وقومهم (و) أرسلنا (إلى مدين) هو اسم ابن إبراهيم الخليل ثم صار اسماً للقبيلة من أولاده وهو المراد هنا.
وقيل هو في الأصل اسم مدينة بناها مدين المذكور والتقدير إلى أهل مدين قال المقريزي في الخطط: أن مدين أمة شعيب هم بنو مديان بن إبراهيم وأمهم قنطورا ابنة يقطان الكنعانية ولدت له ثمانية من الولد تناسلت منهم أمم، ومدين على بحر القلزم تحاذي تبوك على نحو ست مراحل، وهي أكبر من تبوك وبها البئر التي استقى منها موسى لسائمة شعيب وعمل عليها بيت.
قال الفراء: مدين اسم بلد وقطر والجمهور على أن مدين أعجمي، وقيل عربي، فإن كان عربياً فإنه يحتمل أن يكون فعيلاً من مدن بالمكان أقام به وهو بناء نادر، وقيل مهمل أو مفعلاً من دان فتصحيحه شاذ وهو ممنوع الصرف على كل حال، سواء كان اسم الأرض أو اسم القبيلة عجمياً أو عربياً اهـ. وبه قال النحاس وقد تقدم الكلام على هذا في الأعراف بأبسط مما هنا وهم قوم شعيب.
(أخاهم) في النسب لأن (شعيباً) بن ميكائيل بن يشجر بن مدين بن إبراهيم عليه السلام، وقد تقدم تفسير قوله (قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره) في أول السورة، وهذه الجملة مستأنفة كأنه قيل ماذا قال لهم(6/227)
شعيب عليه السلام لما أرسله الله تعالى إليهم.
وقد كان شعيب عليه السلام يسمى خطيب الأنبياء لحسن مراجعته لقومه، وهذه عادة الأنبياء عليه السلام يبدؤون بالأهم فالأهم.
ولما كان الدعوة إلى توحيد الله وعبادته أهم الأشياء دعاهم إليه ثم نهاهم عن أن ينقصوا المكيال والميزان لأنهم كانوا مع كفرهم أهل تطفيف، وكان المعتاد منهم البخس في الكيل والوزن، وكانوا إذا جاءهم البائع بالطعام أخذوا بكيل زائد، وكذلك إذا وصل إليهم الموزون أخذوا بوزن زائد، وإذا باعوا باعوا بكيل ناقص ووزن ناقص فقال:
ْ (ولا تنقصوا المكيال والميزان) أي لا عند الأخذ ولا عند الدفع، والنقص فيهما على وجهين كما قدمنا الإشارة إليه، والمراد بالمكيال المكيل به وبالميزان الموزون به، وهذا أبلغ في الأمر بوفائهما (إني أراكم لخير) أي بثروة وسعة في الرزق تغنيكم عن البخس فلا تغيروا نعمة الله عليكم بمعصيته والإضرار بعباده، وهذه النعمة حقها أن تتفضلوا على الناس شكراً عليها لا أن تنقصوا حقوقهم، وهو في الجملة علة النهي.
ثم ذكر بعد هذه العلة علة أخرى فقال (وإني أخاف عليكم عذاب يوم محيط) فهذه العلة فيها الاذكار لهم بعذاب الآخرة كما أن العلة الأولى فيها الإذكار لهم بنعيم الدنيا، ووصف اليوم بالإحاطة والمراد العذاب لأن العذاب واقع في اليوم، فهو مجاز في الإسناد كقولهم نهاره صائم، ومعنى إحاطة عذاب اليوم بهم أنه لا يشذ منهم أحد عنه ولا يجدون منه ملجأً ولا مهرباً، واليوم هو يوم القيامة، وقيل هو يوم الانتقام منهم في الدنيا بالصيحة. قال ابن عباس: الخير رخص السعر والعذاب غلاء السعر.(6/228)
وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (85) بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (86) قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (87)
ثم أكد النهي عن نقص الكيل والوزن بقوله:(6/229)
وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (85)
(ويا قوم أوفوا المكيال والميزان بالقسط) الإيفاء هو التمام والقسط العدل وهو عدم الزيادة والنقص، وإن كانت الزيادة على الإيفاء فضل وخير ولكنها فوق ما يفيده اسم العدل والنهي عن النقص وإن كان يستلزم الإيفاء ففي تعاضد الدلالتين مبالغة بليغة وتأكيد حسن وشدة اهتمام فلذا كرر ليقوي الزجر والمنع من ذلك الفعل، والمعنى أتموهما ولا تطففوا فيهما، وقيل القسط تقويم لسان الميزان وتعديل المكيال. ثم زاد ذلك تأكيداً ثالثاً فقال (ولا تبخسوا الناس أشياءهم) قد مر تفسير هذا في الأعراف وفيه النهي عن البخس على العموم والأشياء أعم مما يكال ويوزن فيدخل البخس بتطفيف الكيل والوزن في هذا دخولاً أولياً، فظهر بهذا البيان فائدة هذا التكرير، وقيل البخس الكسر خاصة.
ثم قال (ولا تعثوا في الأرض) بتطفيف الكيل والوزن ومنع الناس حقوقهم، وقد مر أيضاً تفسيره في البقرة. والعثي في الأرض يشمل كل ما يقع فيها من الإضرار بالناس فيدخل فيه كل ما في السياق من نقص المكيال والميزان، وعثى مصدر قياسي وعثو سماعي وقيده بالحال وهو قوله (مفسدين) ليخرج ما كان صورته من العثي في الأرض، والمراد به الإصلاح كما وقع من الخضر في السفينة.(6/229)
بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (86)
(بقية الله) أي ما يبقيه لكم من الحلال بعد إيفاء الحقوق بالقسط(6/229)
(خير لكم) أي أكثر خيراً وبركة مما تبقونه لأنفسكم من التطفيف والبخس والفساد في الأرض، ذكر معناه ابن جرير وغيره من المفسرين، وقال مجاهد: بقية الله طاعته.
وقال الربيع: وصيته، وقال الفراء: مراقبته، وقال قتادة: حظكم من ربكم. وقال ابن عباس: رزق الله، وقيل ثوابه في الآخرة.
وبقيت ترسم التاء المجرورة؛ وإذا وقف عليه اضطراراً يصح الوقف بالمجرورة والمربوطة، وليس في القرآن غيرها.
وإنما قيد ذلك بقوله (إن كنتم مؤمنين) لأن ذلك إنما ينتفع به المؤمن لا الكافر، والمراد بالمؤمنين هنا المصدقون لشعيب عليه السلام، وفي البيضاوي: بشرط أن تؤمنوا فإن خيريتها باستتباع الثواب مع النجاة وذلك مشروط بالإيمان (وما أنا عليكم بحفيظ) أحفظكم من الوقوع في المعاصي من التطفيف والبخس وغيرهما وأحفظ عليكم أعمالكم وأحاسبكم بها وأجازيكم عليها، وإنما أنا ناصح مبلغ، وقد أعذرت حين أنذرت؛ أو لست بحافظ عليكم نعم الله لو لم تتركوا سوء صنيعكم.(6/230)
قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (87)
(قالوا يا شعيب أصلاتك تأمرك) مستأنفة كأنه قيل فماذا قالوا لشعيب عليه السلام والاستفهام للإنكار عليه والاستهزاء به لأن الصلاة عندهم ليست من الخير الذي يقال لفاعله عند إرادة تليين قلبه وتذليل صعوبته كما يقال لمن كان كثير الصدقة إذا فعل مما لا يناسب الصواب أصدقتك أمرتك بهذا، وقيل المراد بالصلاة هنا القراءة قاله الأعمش، وقيل المراد بها الدين، وقيل المراد بها اتباعه، ومنه المصلي الذي يتلو السابق، قال الأحنف: أن شعيباً كان أكثر الأنبياء صلاة فلذلك قالوا هذه المقالة وإنما ذكر الصلاة لأنها من أعظم شعائر الدين.
(أن نترك ما يعبد آباؤنا) أي عبادة الأوثان وفيه أن الترك فعلهم لا فعل شعيب وهو المأمور والإنسان يؤمر بفعل نفسه فالمضاف محذوف وهو التكليف(6/230)
وهذا فعله أي هل هي تأمرك بتكليفك إيانا ترك عبادة الأصنام، وهذا منهم جواب لشعيب عن أمره لهم بعبادة الله وحده.
وقولهم (أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء) جواب له عن أمرهم بإيفاء الكيل والوزن ونهيهم عن نقصهما وعن بخس الناس، وعن العثي في الأرض معطوف على ما يعبد، فالترك مسلط عليه، وأو بمعنى الواو، والمعنى هل تأمرك بتكليفك لنا ترك إن نفعل في أموالنا ما نشاء من الأخذ والإعطاء والزيادة والنقص، وهذا لف ونشر مرتب.
وقرئ بالتاء في الفعلين عطفاً على مفعول تأمرك أي أصلاتك تأمرك أن تفعل أنت في أموالنا ما تشاء، وقرئ نفعل بالنون وما تشاء بالفوقية أي نفعل فيها ما تشاء أنت وندع ما نشاء نحن وما يجري به التراضي بيننا.
وعن ابن زيد في الآية قال: نهاهم عن قطع هذه الدنانير والدراهم فقالوا إنما هي أموالنا نفعل فيها ما نشاء إن شئنا قطعناها وإن شئنا أحرقناها وإن شئنا طرحناها، وعن محمد بن كعب وزيد بن أسلم وابن المسيب نحوه.
ثم وصفوه بوصفين عظيمين فقالوا (إنك لأنت الحليم الرشيد) عند نفسك وفي اعتقادك ومعناه أن هذا الذي نهيتنا عنه وأمرتنا به يخالف ما نعتقده في نفسك من الحلم والرشد، وقيل أنهم قالوا ذلك لا على طريق الاستهزاء بل هو عندهم كذلك، وأنكروا عليه الأمر والنهي منه لهم بما يخالف الحلم والرشد في اعتقادهم والمعنى إنك فينا حليم رشيد فلا يحمد بك شق عصا قومك ومخالفتهم في دينهم.
وقال ابن عباس: يقولون إنك لست بحليم ولا رشيد أي أرادوا السفيه الغاوي لأن العرب قد تصف الشيء بضده فيقولون للديغ سليم وللفلاة المهلكة مفازة؛ وقيل هو على حقيقته وإنما قالوا ذلك على سبيل السخرية قال قتادة: استهزاء به.(6/231)
قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88) وَيَا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (89)(6/232)
قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88)
(قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي) مستأنفة كالجمل التي قبلها، والمعنى أخبروني إن كنت على بيان وحجة واضحة وبصيرة وهداية من عند ربي فيما أمرتكم به ونهيتكم عنه (ورزقني منه) أي من فضله وخزائن ملكه ومن عنده وبإعانته بلا كد مني ولا تعب في تحصيله (رزقاً حسناً) أي كثيراً واسعاً حلالاً طيباً وقد كان عليه السلام كثير المال والنعمة، وقيل أراد بالرزق النبوة وقيل الحكمة وقيل العلم وقيل التوفيق وقيل المعرفة وقيل الهداية.
وجواب الشرط محذوف يدل عليه سياق الكلام تقديره أأترك أمركم ونهيكم أو تقولون في شأني ما تقولون مما تريدون به السخرية والاستهزاء أو هل يسعني مع هذه النعمة أن أخون في وحيه، وهذا الجواب شديد المطابقة بقولهم إنك لأنت الحليم الرشيد أي كيف يليق بالحليم الرشيد أن يخالف أمر ربه وله عليه نعم كثيرة (وما أريد) بنهي لكم عن التطفيف والبخس (أن أخالفكم إلى ما أنهاكم) نهيتكم (عنه) فأفعله دونكم يقال خالفه إلى كذا إذا قصده وهو مول عنه وخالفته عن كذا في عكس ذلك، قال الزجاج: معناه لست أنهاكم عن شيء وأدخل فيه إنما أختار لكم ما أختار لنفسي، قال ابن الأنباري: بين أن الذي يدعوهم إليه من اتباع طاعة الله وترك البخس والتطفيف هو ما يرتضيه لنفسه ولا(6/232)
ينطوي إلا عليه، فكان هذا محض النصح لهم، وقال قتادة: لم أكن لأنهاكم عن أمر وأرتكبه.
(إن أريد) أى ما أريد بالأمر والنهي (إلا الإصلاح) لكم ودفع الفساد عن دينكم ومعاملاتكم (ما استطعت) ما بلغت إليه استطاعتي وتمكنت منه طاقتي (وما توفيقي إلا بالله) أى ما صرت موفقاً هادياً نبياً مرشداً إلا بتأييد الله سبحانه وإقداري عليه ومنحي إياه (عليه توكلت) في جميع أموري التي منها أمركم ونهيكم (وإليه أنيب) أي إليه أرجع في كل ما نابني من الأمور وأفوض جميع أموري إلى ما يختاره لي من قضائه وقدره وقيل معناه إليه أرجع في الآخرة وقيل أن الإنابة الدعاء ومعناه وله أدعو.
وعن علي قال: قلت يا رسول الله أوصني قال: قل الله ربي ثم استقم قلت ربي الله وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب، قال؛ ليهنك العلم يا أبا الحسن لقد شربت العلم شرباً ونهلته نهلاً، أخرجه أبو نعيم في الحلية وفي إسناده محمد بن يوسف الكديمي.(6/233)
وَيَا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (89)
(ويا قوم لا يجرمنكم شقاقي) قال الزجاج: معناه لا يكسبنكم والشقاق العداوة، وقال قتادة: لا يحملنكم فراقي، وعن السدي: لا يحملنكم عداوتي، وعن مجاهد نحوه (أن يصيبكم) مفعول ثان ليجرمنكم أي أن لا يكسبنكم معاداتكم لي أن لا يصيبكم (مثل ما أصاب قوم نوح) من الغرق (أو قوم هود) من الريح (أو قوم صالح) من الحجارة وغيرها.
(وما قوم لوط منكم ببعيد) يحتمل أن يريد ليس مكانهم ببعيد من مكانكم أو ليس زمانهم ببعيد من زمانكم أو ليسوا منكم ببعيد في السبب الموجب لعقوبتهم وهو مطلق الكفر وأفرد لفظ بعيد لمثل ما سبق، وقيل بشيء بعيد كذا قدره الزمخشري وتبعه الشيخ، وقال الزمخشري يجوز أن يستوي في بعيد وقريب وقليل وكثير بين المذكر والمؤنث لورودها على زنة المصادر التي هي كالصهيل والنهيق ونحوهما، وقال قتادة: إنما كانوا حديثي عهد قريب بهلاكهم بعد نوح وثمود.(6/233)
وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (90) قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ (91)
ثم بعد ترهيبهم بالعذاب أمرهم بالاستغفار والتوبة فقال(6/234)
وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (90)
(واستغفروا ربكم) من عبادة الأوثان (ثم توبوا إليه) من البخس والنقصان في المكيال والميزان وقد تقدم تفسير الاستغفار مع ترتيب التوبة عليه في أول السورة (إن ربي رحيم) بالمؤمنين (ودود) للتائبين، وتقدم تفسير الرحيم والمراد هنا أنه عظيم الرحمة، والودود المحب صيغة مبالغة من ود الشيء يود وداً ووداد أو ودادة أي أحبه وآثره.
قال في الصحاح: وددت الرجل أوده وداً إذا أحببته والود المحبة والمشهور وددت بكسر العين وسمع بفتحها والودود بمعنى فاعل أى يود عباده ويرحمهم، وقيل بمعنى مفعول بمعنى أن عباده يحبونه ويوادون أولياءه فهم بمنزلة المواد مجازاً، والأول أولى، والمعنى هنا أنه يفعل بعباده فعل من هو بليغ المودة بمن يوده من اللطف به وسوق الخير إليه ودفع الشر عنه وفي هذا تعليل لما قبله من الأمر بالاستغفار والتوبة.
وجملة(6/234)
قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ (91)
(قالوا يا شعيب ما نفقه كثيراً مما تقول) مستأنفة كالجمل السابقة والمعنى أنك تأتينا بما لا عهد لنا به من الإخبار بالأمور الغيبية كالبعث والنشور ولا نفهم ذلك كما نفهم الأمور الحاضرة المشاهدة فيكون نفي الفقه على هذا حقيقة لا مجازاً.
وقيل قالوا ذلك إعراضاً عن سماعه وإيذاناً بقلة المبالاة به واحتقاراً لكلامه مع كونه مفهوماً لديهم معلوماً عندهم، فلا يكون نفي الفقه حقيقة بل مجازاً، يقال فقه يفقه إذا فهم فقهاً وفقهاً وحكى الكسائي فقهاناً ويقال فقه فقهاً إذا صار فقيهاً.(6/234)
(وإنا لنراك فينا ضعيفاً) أى لا قوة لك تقدر بها على أن تمنع نفسك منا وتتمكن بها من مخالفتنا أو مهيناً لا عز لك، وهذا قريب من الأول، وقيل المراد أنه ضعيف في بدنه قاله علي بن عيسى وقيل أنه كان مصاباً ببصره، قال النحاس وحكى أهل اللغة أن حمير تقول للأعمى ضعيف أى قد ضعف بذهاب بصره كما يقال له ضرير أى ضر بذهاب بصره، وقال الزجاج: الأعمى يسمى ضعيفاً.
عن سعيد بن جبير قال: كان أعمى، وإنما عمي من بكائه من حب الله عز وجل وعن شداد بن أوس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " بكى شعيب عليه السلام من حب الله حتى عمي "، أخرجه ابن عساكر والواحدي، قال السدي: معناه إنما أنت واحد، وقال علي: كان مكفوفاً فنسبوه إلى الضعف، وقيل الضعيف العاجز عن الكسب والتصرف؛ وقال الحسن ومقاتل: يعني ذليلاً والأول أولى ويدل لصحته قوله.
(ولولا رهطك) رهط الرجل جماعته وعشيرته الذين يستند إليهم ويتقوى بهم، ومنه الراهط لحجر اليربوع لأنه يتوثق به ويخبأ فيه ولده، والرهط والراهط يقع على الثلاثة إلى العشرة، وقيل إلى السبعة، قاله الزمخشري ولا يقع الرهط والعصبة والنفر إلا على الرجال ويجمع على أرهط وأرهط على أراهط وإنما جعلوا رهطه مانعاً من إيقاع الضرر به مع كونهم في قلة، والكفار ألوف مؤلفة لأنهم كانوا على دينهم فتركوه احتراماً لهم لا خوفاً منهم وقال علي: فوالله الذي لا إله غيره ما هابوا جلال ربهم. ما هابوا إلا العشيرة.
(لرجمناك) أى لقتلناك بالحجارة، والرجم بالحجارة أسوأ القتلات وأشرها وقيل معناه لشتمناك وأغلظنا لك القول والأول أظهر.
ثم أكدوا ما وصفوه به من الضعف بقولهم (وما أنت علينا بعزيز) أي كريم مكرم معظم حتى نكف عنك لأجل عزتك ومنعتك عندنا بل تركنا رجمك لعزة رهطك علينا لموافقتهم لنا في الدين لا لقوة شوكتهم.(6/235)
قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (92)
قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (92)
(قال يا قوم أرهطي أعز عليكم من الله) مستأنفة وإنما قال من الله ولم يقل مني لأن نفي العزة عنه وإثباتها لقومه كما يدل عليه إيلاء الضمير حرف النفي استهانة به والاستهانة بأنبياء الله استهانة بالله عز وجل، فقد تضمن كلامهم أن رهطه أعز عليهم من الله، فاستنكر ذلك عليهم وتعجب منه وألزمهم مما لا مخلص لهم عنه ولا مخرج لهم منه بصورة الاستفهام وفي هذا من قوة المحاجة ووضوح المجادلة وإلقام الخصم الحجر ما لا يخفى.
والضمير في (واتخذتموه) راجع إلى الله سبحانه والمعنى واتخذتم الله عز وجل بسبب عدم اعتدادكم بنبيه الذي أرسله إليكم (وراءكم ظهرياً) أي منبوذاً وراء الظهر لا تبالون به، وقيل المعنى واتخذتم أمر الله الذي أمرني بإبلاغه إليكم وهو ما جئتكم به وراء ظهوركم كالشيء الملقى الذي لا يلتفت إليه.
يقال جعلت أمره بظهر إذا قصرت فيه، وظهرياً منسوب إلى الظهر والكسر من تغييرات النسب، والقياس فتح الظاء كما قالوا في أمس إمسى بكسر الهمزة وفي دهر دهري بضم الدال، قال مجاهد: نبذتم أمره، وقال قتادة: لا تخافونه، وقال الضحاك: تهاونتم به، وقيل أن الضمير يعود إلى العصيان أي واتخذتم العصيان عوناً على عداوتي فالظهري على هذا بمعنى المعين المقوي (إن ربي بما تعلمون محيط) لا يخفى عليه شيء من أقوالكم، ولا أفعالكم فيجازيكم بها يوم القيامة.(6/236)
وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ (93)
وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ (93)
(ويا قوم اعملوا على مكانتكم) لما رأى إصرارهم على الكفر وتصميمهم على دين آبائهم وعدم تأثير الموعظة فيهم توعدهم بأن يعملوا على غاية تمكنهم ونهاية استطاعتهم يقال مكن مكانة إذا تمكن أبلغ تمكن.
(إني عامل) على حسب ما يمكنني ويقدره الله لي ثم بالغ في التهديد والوعيد بقوله (سوف تعلمون) أينا الجاني على نفسه المخطئ في فعله وتعلمون عاقبة ما أنتم عليه من عبادة غير الله والإضرار بعباده، وقد تقدم مثله في الأنعام.
قال الزمخشري: وصل سوف تارة بالفاء وتارة بالاستئناف كما هو عادة البلغاء من العرب، وأقوى الوصلين وأبلغهما الاستئناف لأنه أكمل في باب الفصاحة والتهويل اهـ. يعني حذف الفاء هنا لأنه جواب سائل هو المسمى في علم البيان بالاستئناف البياني كأن كان قائلاً قال: فماذا يكون بعد ذلك فهو أبلغ في التهويل.
(من يأتيه عذاب يخزيه) أي سوف تعلمون من هو الذي يأتيه العذاب المخزي الذي يتأثر عنه الذل والفضيحة والعار (ومن هو كاذب) في زعمكم ومن هو المعذب، وفيه تعريض بكذبهم في قولهم لولا رهطك لرجمناك وما أنت علينا بعزيز.
وقيل التقدير من هو كاذب فسيعلم كذبه ويذوق وبال أمره (وارتقبوا إني معكم رقيب) أي انتظروا إني معكم منتظر لما يقضي به الله بيننا.(6/237)
وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (94) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ (95)(6/238)
وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (94)
(ولما جاء أمرنا) بعذابهم أو عذابنا (نجينا شعيباً والذين آمنوا معه برحمة منا) لهم بسبب إيمانهم أو بهدايتهم للإيمان (وأخذت الذين ظلموا) غيرهم بما أخذوا من أموالهم بغير وجه وظلموا أنفسهم بالتصميم على الكفر (الصيحة) التي صاح بها جبريل حتى خرجت أرواحهم من أجسادهم، وفي الأعراف (فأخذتهم الرجفة) وكذا في العنكبوت وقد قدمنا أن الرجفة الزلزلة وأنها تكون تابعة للصيحة لتموج الهواء المفضى إليها، وهذا في أهل قريته وأما أصحاب الأيكة فأهلكوا بعذاب الظلة وهو نار نزلت من السماء أحرقتهم.
(فأصبحوا في ديارهم جاثمين) ميتين باركين على الركب وقد تقدم تفسيره وتفسير(6/238)
كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ (95)
(كأن لم يغنوا فيها) قريباً وكذا تفسير (ألا بعداً لمدين كما بعدت ثمود)
قال المهدوي: من ضم العين من بعدت فهي لغة تستعمل في الخير والشر، وبعدت بالكسر على قراءة الجمهور تستعمل في الشر خاصة وهي هنا بمعنى اللعنة وقيل بكسر العين بمعنى الهلاك وبضمها ضد القرب والمصدر البعد بفتح العين، والمعنى هلاكاً لهم كما هلكت ثمود والتشبيه من حيث إن هلاك كل بالصيحة.
قال ابن الأنباري: من العرب من يسوي بين الهلاك والبعد الذي هو ضد القرب قيل لم يعذب أمتان قط بعذاب واحد إلا قوم شعيب وقوم صالح، فأما قوم صالح فأخذتهم الصيحة من تحتهم، وأما قوم شعيب فأخذتهم الصيحة من فوقهم.(6/238)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (96) إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (97) يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (98)(6/239)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (96)
(ولقد أرسلنا موسى) هذه سابعة قصص ذكرت في هذه السورة فتقدم قصة نوح وهود وصالح وإبراهيم ولوط ومدين على هذا الترتيب وهذه قصة موسى (بآياتنا) أي بالتوراة حال كونه متلبساً بها (وسلطان مبين) أي المعجزات الباهرات.
وقيل المراد بالآيات هي التسع المذكورة في غير هذا الموضع منها ثمانية في الأعراف، والتاسعة في يونس.
وليس من الآيات المرادة هنا التوراة لأنها أنزلت بعد إغراق فرعون وقومه والسلطان العصا وهي وإن كانت من التسع لكنها لما كانت أعظم الآيات وأبهرها للعقول وأشدها خرقاً للعادة أفردت بالذكر.
وقيل المراد بالآيات ما يفيد الظن، والسلطان ما يفيد القطع مما جاء به موسى وقيل هما جميعاً عبارة عن شيء واحد أي أرسلناه بما يجمع وصف كونه آية وكونه سلطاناً بيناً، وقيل أن السلطان المبين ما أورده موسى على فرعون في المحاورة بينهما.(6/239)
إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (97)
(إلى فرعون وملئه) أي أرسلناه بذلك إلى هؤلاء، وقد تقدم أن الملأ أشراف القوم وإنما خصهم بالذكر دون سائر القوم لأنهم أتباع لهم في الإصدار والإيراد وخص هؤلاء الملأ دون فرعون بقوله (فاتبعوا أمر فرعون) أي أمره لهم بالكفر لأن حال فرعون في الكفر أمر واضح إذ كفر قومه من الأشراف وغيرهم إنما هو مستند إلى كفره.(6/239)
ويحوز أن يراد بأمر فرعون شأنه وطريقه فيعم الكفر وغيره (وما أمر فرعون برشيد) أي ليس فيه رشد قط، بل هو غي وضلال، والرشيد بمعنى المرشد والإسناد مجازي، أو بمعنى ذي رشد، وفيه تعريض بأن الرشد في أمر موسى.(6/240)
يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (98)
(يقدم قومه) تعليل للنفي قبله من قدمه بمعنى تقدمه أي يصير متقدماً لهم (يوم القيامة) وسابقاً لهم إلى عذاب النار كما كان يتقدمهم في الدنيا (فأوردهم النار) أي أنه لا يزال متقدماً لهم وهم يتبعونه حتى يوردهم النار في الآخرة. والورود الدخول وأورد ماض لفظاً مستقبل معنى لأنه عطف على ما هو نص في الاستقبال.
وعبر بالماضي تنبيهاً على تحقق وقوعه والهمزة في أورد للتعدية لأنه قبلها يتعدى لواحد، قال تعالى (ولما ورد ماء مدين).
وقيل بل هو ماض على حقيقته وهذا قد وقع وانفصل، وذلك أنه أوردهم في الدنيا النار، قال تعالى (النار يعرضون عليها)
وقيل أوردهم موجباتها وأسبابها، وفيه بعد لأجل العطف بالفاء قال قتادة: يمضي فرعون بين أيدي قومه حتى يهجم بهم على النار. قال الخفاجي: وأنزل لهم النار منزلة الماء فسمى إتيانها وروداً فالنار استعارة مكنية تهكمية للضد وهو الماء وإثبات الورود لها تخييل.
ثم ذم الورد الذي أوردهم إليه فقال (وبئس الورد المورود) أي المدخل المدخول فيه الذي وردوه لأن الوارد إلى الماء الذي يقال له الورد إنما يرده ليطفئ حر العطش ويذهب ظمأه، والنار على ضد ذلك، والورد يكون مصدراً بمعنى الورود فلابد من حذف مضاف تقديره وبئس مكان الورد المورود وهو النار، وإنما احتيج إلى هذا التقدير، لأن تصادق فاعل نعم وبئس ومخصوصهما شرط، فلا يقال نعم الرجل الفرس.(6/240)
وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ (99) ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ (100) وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (101)
ثم ذمهم بعد ذم المكان الذي يردونه فقال(6/241)
وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ (99)
(وأتبعوا) أي أتبع قوم فرعون مطلقاً أو الملأ خاصة أو هم وفرعون (في هذه) الدنيا (لعنة) عظيمة أي طرداً وإبعاداً من الأمم بعدهم (و) أتبعوا لعنة (يوم القيامة) يلعنهم أهل المحشر جميعاً، ثم أنه جعل اللعنة رفداً لهم على طريقة التهكم فقال (بئس الرفد المرفود) أي العون المعان أو العطاء المعطى.
قال الكسائي وأبو عبيدة: رفدته أرفده رفداً أعنته وأعطيته، واسم العطية الرفد أي بئس العطاء والإعانة ما أعطوهم إياه وأعانوهم به والمخصوص بالذم محذوف أي رفدهم وهو اللعنة التي اتبعوها في الدنيا والآخرة كأنها لعنة بعد لعنة تمد الأخرى وتؤيدها.
وسميت اللعنة عوناً لأنها إذا تبعتهم في الدنيا أبعدتهم عن رحمة الله وأعانتهم على ما هم فيه من الضلال، وسميت رفداً أي عوداً لهذا المعنى على التهكم، وإلا فاللعنة إذلال لهم وإنزال بهم إلى الحضيض الأسفل، وسميت معاناً لأنها أرفدت في الآخرة بلعنة أخرى لتكونا هاديتين إلى طريق الجحيم.
وذكر الماوردي حكاية عن الأصمعي أن الرفد بالفتح القدح وبالكسر ما فيه من الشراب فكأنه ذم ما يستقونه في النار وهذا أنسب بالمقام، وقيل أن الرفد الزيادة، أي بئسما يرفدونه به بعد الغرق وهو الزيادة، قاله الكلبي: وأصل الرفد العون والعطاء والصلة، والإرفاد أيضاً الإعطاء والإعانة. قال أبو السعود: وقد فسر الرفد بالعطاء ولا يلائمه المقام، وأصله ما يضاف إلى غيره ليعمده.(6/241)
ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ (100)
(ذلك) أي ما قصه الله سبحانه في هذه السورة من القصص السبعة (من أنباء القرى) أي من أخبار الأمم السالفة والقرون الماضية وما فعلوه بأنبيائهم (نقصه عليك) أي هو مقصوص عليك لتخبر به قومك لعلهم يعتبروا، وقد تقدم تحقيق معنى القصص (منها) أي من القرى التي أهلكنا أهلها (قائم وحصيد) القائم ما كان قائماً على عروشه والحصيد ما لا أثر له.
وقيل القائم العامر والحصيد الخراب، وقيل القائم القرى الخاوية على عروشها والحصيد المستأصل بمعنى محصود، شبه ما بقي من آثار القرى بالزرع القائم على ساقه وشبه المقطوع والمعفو منها بالحصيد.
قال ابن عباس: يعني قرى عامرة وقرى خامدة، وقال قتادة: قائم يرى مكانه وحصيد لا يرى له أثر، وقال ابن جريج: قائم خاو على عروشه وحصيد ملصق بالأرض، والمعنى بعضها باق وبعضها عاف، والجملة مستأنفة استئنافاً بيانياً لأنه لما ذكر أنباء القرى اتجه لسائل أن يقول ما حال هذه القرى أباقية آثارها أم لا؟(6/242)
وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (101)
(وما ظلمناهم) بما فعلنا بهم من العذاب والإهلاك (ولكن ظلموا أنفسهم) بأن جعلوها عرضة للهلاك باقتراف ما يوجبه من الكفر والمعاصي.
(فما أغنت عنهم آلهتهم) أي فما دفعت عنهم أصنامهم أو ما نفعت، قاله أبو عاصم (التي يدعون) يعبدونها (من دون الله) أي غيره (من شيء) أي شيئاً من العذاب، وبأس الله، ومن زائدة (لما جاء) أي حين جاء (أمر ربك) أي عذابه (وما زادوهم غير تتبيب) أي هلاك وخسران. قال ابن عمر: أي هلكة وقال ابن زيد: أي تخسير، وقيل تدمير، والتتبيب اسم من تببه بالتشديد، وتبت يده تتب بالكسر خسرت كناية عن الهلاك وتباً له أي هلاكاً واستتب الأمر تهيأ ويستعمل لازماً ومتعدياً، يقال تببه غيره وتب هو بنفسه، والمعنى ما زادتهم أصنامهم التي يعبدونها إلا هلاكاً وخسراناً، وقد كانوا يعتقدون أنها تعينهم على تحصيل المنافع ودفع المضار.(6/242)
وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (102) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (103)(6/243)
وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (102)
(وكذلك) أي مثل ذلك الأخذ (أخذ ربك) قرئ على أنه فعل وعلى أنه مصدر (إذا أخذ القرى وهي ظالمة) أي أهلها وهم ظالمون بالذنوب فلا يغني عنهم من أخذه شيء (إن أخذه) عقوبته للكافرين (أليم شديد) أي موجع غليظ على المأخوذ وهو مبالغة في التهديد والتحذير.
أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله سبحانه وتعالى ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته "، ثم قرأ (وكذلك أخذ ربك) الآية (1) ولا تظنن أن الآية حكمها مختص بظالمي الأمم الماضية بل هو عام في كل ظالم ويعضده الحديث.
_________
(1) مسلم 2583 - البخاري 2013.(6/243)
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (103)
(إن في ذلك) أي أخذ الله سبحانه لأهل القرى أو في القصص السبعة التي قصها الله على رسوله (لآية) لعبرة وموعظة لأن القصص المذكورة فيها عذاب الدنيا وعذاب الآخرة وقد حصل الأول فيعلم العاقل أن القادر على إنزال الأول قادر على إنزال الثاني (لمن خاف عذاب الآخرة) لأنهم الذين يعتبرون بالعبر ويتعظون بالمواعظ. قال ابن زيد: يقول إنا سوف نفي لهم بما وعدناهم في الآخرة كما وفينا للأنبياء إنا لننصرهم.
(ذلك) أي يوم القيامة المدلول عليه بذكر الآخرة (يوم مجموع له) صفة ليوم جرت على غير من هي له فلذلك رفعت الظاهر وهو (الناس) من الأولين والآخرين للمحاسبة والمجازاة (وذلك) أي يوم القيامة (يوم مشهود) يشهده أهل المحشر، أو مشهود فيها الخلائق، أو يشهده أهل السماء والأرض فاتسع في الظرف بإجرائه مجرى المفعول.(6/243)
وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ (104) يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (105) فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106)(6/244)
وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ (104)
(وما نؤخره) أي ذلك اليوم (إلا لأجل) اللام للتعليل أي لانتهاء أجل أي وقت (معدود) معلوم بالعدد لا يعلمه إلا الله وهو مدة الدنيا وقد عين سبحانه وقوع الجزاء بعده، وعبارة أبي السعود: إلا لانقضاء مدة قليلة مضروبة حسبما تقتضيه الحكمة.(6/244)
يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (105)
(يوم) حين (يأت) يوم القيامة وقيل الضمير لله تعالى كقوله إلا أن يأتيهم الله أو يأتي ربك (لا تكلم) أي لا تتكلم فيه (نفس) بما ينفع وينجى من جواب (إلا بإذنه) أي بما أذن لها من الكلام، وقيل لا تكلم بحجة ولا شفاعة إلا بإذنه سبحانه لها في التكلم بذلك كقوله لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن، وقوله تعالى (من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه).
وقد جمع بين هذا وبين قوله (يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها) وقوله إخباراً عن محاجة الكفار (ربنا ما كنا مشركين) وقوله (هذا يوم لا ينطقون * ولا يؤذن لهم فيعتذرون) باختلاف أحوالهم باختلاف مواقف القيامة وقد تكرر مثل هذا الجمع في مواضع.
وقد اشتملت هذه الآية على ثلاثة أنواع من البديع. الجمع في قوله لا تكلم نفس والتفريق في قوله فمنهم شقي وسعيد والتقسيم في قوله فأما الذين شقوا.
(فمنهم) أي من الأنفس أو من أهل الموقف وإن لم يذكروا قال الزمخشري: لأن ذلك معلوم ولأن قوله لا تكلم نفس يدل عليه وكذا قال ابن عطية (شقي) هو من كتبت عليه الشقاوة (وسعيد) أي من كتبت له السعادة وتقديم الشقي على السعيد لأن المقام مقام تحذير.
أخرج الترمذي وحسنه وأبو يعلى وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم(6/244)
وأبو الشيخ وابن مردويه عن عمر بن الخطاب قال: لما نزلت فمنهم شقي وسعيد قلت يا رسول الله فعلام نعمل على شيء قد فرغ منه أو على شيء لم يفرغ منه قال: بل على شيء قد فرغ منه وجرت به الأقلام يا عمر ولكن كل ميسر لما خلق له (1)
وقد استدل بهذه الآية على أن أهل الموقف قسمان لا ثالث لهما وظاهر الآية والحديث يدل على ذلك لكن بقي قسم آخر مسكوت عنه وهو من استوت حسناته وسيآته أو لا حسنات لهم ولا سيآت كالمجانين والأطفال فهم تحت مشيئته يحكم فيهم بما شاء وتخصيص القسمين لا ينفي القسم الثالث.
_________
(1) الترمذي كتاب القدر الباب الثالث.(6/245)
فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106)
(فأما الذين شقوا) أي الذين سبقت لهم الشقاوة في علمه تعالى وهم الذين يموتون على الكفر وأن تقدم منهم إيمان (ففي النار) أي فمستقرون فيها (لهم فيها زفير وشهيق) قال الزجاج: الزفير من شدة الأنين وهو المرتفع جداً.
قال: وزعم أهل اللغة من البصريين والكوفيين أن الزفير بمنزلة ابتداء صوت الحمير والشهيق بمنزلة آخره، وقيل الزفير للحمار والشهيق للبغل، وقيل الزفير الصوت الشديد والشهيق الصوت الضعيف، وقيل الزفير إخراج النفس والشهيق ردها، وقيل الزفير من الصدر والشهيق من الحلق.
وقيل الزفير ترديد النفس في الصدر من شدة الخوف حتى تنتفخ منه الأضلاع والشهيق النفس الطويل الممتد أو رد النفس إلى الصدر والمراد بهما الدلالة على شدة كربهم وغمهم وتشبيه حالهم بمن استولت الحرارة على قلبه وانحصر فيه روحه
وقال الليث: الزفير أن يملأ الرجل صدره حال كونه في الغم الشديد من النفس ويخرجه والشهيق أن يخرج ذلك النفس وهو قريب من قولهم تنفس الصعداء، والجملة إما مستأنفة أو حالية.(6/245)
خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (107)
خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (107)
(خالدين) لابثين (فيها) أي في النار (ما دامت السماوات والأرض) ما مصدرية أي مدة دوامهما في الدنيا وهذه المدة غير ما يزيده الله مما لا نهاية له ودامت هنا تامة لأنها بمعنى بقيت.
وقد اختلف العلماء في بيان معنى هذا التوقيت لأنه قد علم بالأدلة القطعية تأبيد عذاب الكفار في النار وعدم انقطاعه عنهم.
وثبت أيضاً إن السماوات والأرض تذهب عند انقضاء أيام الدنيا فقالت طائفة: أن هذا الإخبار جار على ما كانت العرب تعتاده إذا أرادوا المبالغة في دوام الشيء قالوا هو دائم ما دامت السماوات الأرض ومنه قولهم لا آتيك ما جن الليل وما اختلف الليل والنهار وما ناح الحمام ونحو ذلك فيكون المعنى أنهم خالدون فيها أبداً لا انقطاع لذلك ولا انتهاء له.
وقيل أن المراد سماوات الآخرة وأرضها فقد ورد ما يدل على أن للآخرة سماوات وأرضاً غير هذه الموجودة في الدنيا وهي دائمة بدوام دار الآخرة، وأيضاً لا بد لهم من موضع يقلهم وآخر يظلهم وهما أرض وسماء؛ قال ابن عباس: لكل جنة أرض وسماء؛ وروى نحوه عن السدي والحسن
(إلا ما شاء ربك) قد اختلف أهل العلم في معنى هذا الاستثناء على أقوال.
الأول: أنه من قوله ففي النار كأنه قال: إلا ما شاء ربك من تأخير قوم عن ذلك روى هذا عن أبي سعيد الخدري.
الثاني: أن الاستثناء إنما هو للعصاة من الموحدين وأنهم يخرجون بعد مدة من النار وعلى هذا يكون قوله سبحانه (فأما الذين شقوا) عاماً في الكفرة(6/246)
والعصاة ويكون الاستثناء من خالدين ويكون ما بمعنى من، وبهذا قال قتادة والضحاك وأبو سنان وغيرهم.
قال البيضاوي: هو استثناء من الخلود في النار لأن بعضهم وهم فساق الموحدين يخرجون منها وذلك كاف في صحة الاستثناء، لأن زوال الحكم عن الكل يكفيه زواله عن البعض؛ وهم المرادون بالاستثناء الثاني فإنهم مفارقون عن الجنة أيام عذابهم، فإن التأبيد من مبدأ معين ينتقص باعتبار الابتداء كما ينتقص باعتبار الانتهاء، وهؤلاء وإن شقوا بعصيانهم فقد سعدوا بإيمانهم اهـ.
وقد ثبت بالأحاديث المتواترة تواتراً يفيد العلم الضروري بأنه يخرج من النار أهل التوحيد فكان ذلك مخصصاً لكل عموم.
الثالث: أن الاستثناء من الزفير والشهيق أي لهم فيها ذلك إلا ما شاء ربك من أنواع العذاب غير الزفير والشهيق، قاله ابن الأنباري.
الرابع: أن معنى الاستثناء أنهم خالدون فيها ما دامت السماوات والأرض لا يموتون فيها إلا ما شاء ربك، فإنه يأمر النار فتأكلهم حتى يفنوا ثم يجدد الله خلقهم، روي ذلك عن ابن مسعود.
الخامس: أن إلا بمعنى سوى ولكن والاستثناء منقطع والمعنى ما دامت السماوات والأرض سوى ما يتجاوز ذلك من الخلود كأنه ذكر في خلودهم ما ليس عند العرب أطول منه ثم زاد عليه الدوام الذي لا آخر له حكاه الزجاج.
السادس: ما روي عن الفراء وابن الأنباري وابن قتيبة من أن هذا لا ينافي عدم المشيئة كقولك والله لأضربنه إلا أن أرى غير ذلك، ونوقش هذا بأن معنى الآية الحكم بخلودهم إلا المدة التي شاء الله فالمشيئة قد حصلت جزماً، وقد حكى هذا القول الزجاج أيضاً.
السابع: أن المعنى خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك من مقدار موقفهم في قبورهم وللحساب حكاه الزجاج أيضاً.(6/247)
الثامن: أن المعنى خالدين فيها إلا ما شاء ربك من زيادة النعيم لأهل النعيم وزيادة العذاب لأهل الجحيم حكاه الزجاج أيضاً واختاره الحكيم الترمذي.
التاسع: أن إلا بمعنى الواو قاله الفراء والمعنى وما شاء ربك من الزيادة، قال مكي: وهذا القول بعيد عند البصريين أن يكون إلا بمعنى الواو.
العاشر: أن إلا بمعنى الكاف، والتقدير كما شاء ربك ومنه قوله تعالى (ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف) أي كما قد سلف.
الحادي عشر: أن هذا الاستثناء إنما هو على سبيل الاستثناء الذي ندب إليه الشارع في كل كلام فهو على حد قوله (لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين) قاله ابن عطية، وروى نحو هذا عن أبي عبيد، ولا يحتاج إلى أن يوصف بمتصل ولا منقطع.
وهذه الأقوال هي جملة ما وقفنا عليه من أقوال أهل العلم، وقد نوقش بعضها بمناقشات ودفعت بدفوعات، وقد أوضح الشوكاني ذلك في رسالة مستقلة جمعها في جواب سؤال ورد من بعض الأعلام، قال السيوطي: وما تقدم من التأويل هو الذي ظهر وهو خال من التكلف، والله أعلم بمراده انتهى.
قال في الجمل: أي التفسير للاستثناء وحاصله أن إلا في المعنى بمعنى حرف العطف والاستثناء منقطع، فكأنه قيل (خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض) وزيادة على هذه المدة لا منتهى لها؛ وقوله هو الذي ظهر أي ظهر له اختياره من ثلاثة عشر وجهاً للمفسرين في هذا المقام وهو وجه حسن لأن فيه التأبيد بما يعلمه المخاطبون بالمشاهدة ويعترفون به وهو دوام الدنيا.
وأما التأبيد بدوام سموات الآخرة وأرضها كما قيل ففيه أنه غير معلوم(6/248)
للمخاطبين خصوصاً من ينكر البعث، وقد استوفى السمين الوجوه المذكورة، ولنقتصر على نقل بعضها لكونه أقرب من غيره انتهى.
ثم ذكر الوجه الثاني والخامس والحادي عشر كما مر.
وقال ابن حجر الهيتمي المكي في الزواجر عن اقتراف الكبائر: دلت الآيات والأحاديث على أن عذاب الكفار في جهنم دائم مؤبد، وما ورد مما يخالف ذلك يجب تأويله، فمن ذلك قوله تعالى (خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك إن ربك فعال لما يريد) فظاهره أن مدة عقابهم مساوية لمدة بقاء السماوات والأرض إلا ما شاء الله من هذه المدة فلا يكونون فيه خالدين فيها.
وقد أوله العلماء بنحو عشرين وجهاً يرجع بعضها إلى حكمة التقييد بمدة دوام السماوات والأرض، وبعضها إلى حكمة الاستثناء ومعناه، فمن الأول أن المراد سماوات الجنة وأرضها إذ السماء كل ما علاك، والأرض كل ما استقررت عليه، وكون الجنة والنار لهما سماء وأرض بهذا الاعتبار أمر قطعي لا يخفى على أحد، فاندفع التنظير في هذا القول بأنه لا يجوز حمل ما في الآية عليه لأنه غير معروف للمخاطبين أو سماوات الدنيا وأرضها وأجرى ذلك على عادة العرب في الإخبار عن دوام الشيء وتأييده بذلك ونحوه كقولهم لا آتيك ما سال سيل وما جن ليل وما طما البحر، وما قام جبل، لأنه تعالى يخاطب العرب على عرفهم في كلامهم وهذه الألفاظ في عرفهم تفيد الأبد والدوام.
وعن ابن عباس أن جميع الأشياء المخلوقة أصلها من نور العرش وأن السماوات والأرض في الآخرة تردان إلى النور الذي خلقنا منه وهما دائمتان أبداً من نور العرش.
ثم هذا الجواب إنما يحتاج إليه بناء على أن مفهوم التقييد بدوام السماوات والأرض أنهم لا يبقون في النار إلا بقدر مدة دوامهما من حين(6/249)
إيجادها إلى إعدامهما، ومنع بعضهم ذلك بأن المفهوم من الآية أنهما متى كانتا دائمتين كان كونهم في النار باقياً، وقضية ذلك أنه كلما حصل الشرط وهو دوامهما حصل المشروط وهو بقاؤهم في النار، ولا يقتضي أنه إذا عدم الشرط يعدم المشروط.
فإذا قلنا ما دامتا بقي عقابهم، ثم قلنا لكنهما دائمتان لزم دوام عقابهم أو لكنهما ما بقيتا لم يلزم عدم دوام عقابهم، لا يقال إذا دام عقابهم بقيتا أو عدمتا فلا فائدة للتقييد بدوامهما لأنا نقول بل فيه أعظم الفوائد وهو دلالته على بقاء ذلك العذاب دهراً دائماً طويلاً لا يحيط العقل بقدر طوله وامتداده.
فأما أنه هل لذلك العذاب آخِر أم لا فذلك يحصل من أدلة أخرى، وهي الآيات المصرحة بتأييد خلودهم المستلزم أنه لا آخر له، ومن الثاني أنه استثناء من فيها لأنهم يخرجون من النار إلى الزمهرير وإلى شرب الحميم ثم يعودون فيها فهم خالدون فيها أبداً إلا في تلك الأوقات فإنها وإن كانت أوقات عذاب أيضاً إلا أنهم ليسوا حينئذ فيها حقيقة أو أن ما لمن يعقل كانكحوا ما طاب لكم من النساء وحينئذ فيكون استثناء لعصاة المؤمنين من ضمير خالدين متصلاً بناء على شمول شقوا لهم أو منقطعاً بناء على عدم شموله لهم وهو الأظهر، أو أنه منقطع وإلا بمعنى سوى أي ما دامتا سوى ما شاء ربك زيادة على ذلك.
وبقيت أجوبة كثيرة أعرضت عنها لبعدها، ولا ينافي ذلك ما رواه أحمد عن عبد الله بن عمر وليأتين على جهنم يوم تصفق فيه أبوابها ليس فيها أحد، وذلك بعد ما يلبثون فيها أحقاباً، لأن في سنده من قالوا فيه أنه غير ثقة وصاحب أكاذيب كثيرة عظيمة.
نعم نقل غير واحد هذه المقالة عن ابن مسعود وأبي هريرة، قال شيخ الإسلام ابن تيمية وهو قول عمر بن الخطاب وابن عباس وابن مسعود وأبي(6/250)
هريرة وأنس وإليه ذهب الحسن البصري وحماد بن سلمة، وبه قال علي بن طلحة الوالي وجماعة من المفسرين انتهى.
ويرد ما نقله عن الحسن قول غيره، قال العلماء: قال ثابت: سألت الحسن عن هذا فأنكره، والظاهر أن هؤلاء الذين ذكرهم لم يصح عنهم من ذلك شيء، وعلى التنزل فمعنى كلامهم كما قاله العلماء ليس فيها أحد من عصاة المؤمنين، أما مواضع الكفار فهى ممتلئة بهم لا يخرجون عنها أبداً كما ذكره الله في آيات كثيرة.
وفي تفسير الرازي قال قوم: أن عذاب الكفار منقطع وله نهاية، واستدلوا بهذه الآية وبـ " لابثين فيها أحقاباً "، وبأن معصية الظالم متناهية فالعقاب عليها بما لا يتناهى ظلم انتهى.
والجواب عن الآية وقوله تعالى أحقاباً لا يقتضى أن له نهاية لما مر أن العرب يعبرون به وبنحوه عن الدوام، ولا ظلم في ذلك لأن الكافر كان عازماً على الكفر ما دام حياً فعوقب دائماً فهو لم يعاقب بالدائم إلا على دائم، فلم يكن عذابه إلا جزاء وفاقاً.
واعلم أن التقييد والاستثناء في أهل الجنة ليس المراد بهما ظاهرهما باتفاق الكل لقوله تعالى (غير مجذوذ) فيؤول بنظير ما مر ويكون المراد بما إذا جعلناها بمعنى (من) أهل الأعراف عصاة المؤمنين الذين لم يدخلوها بعد.
قال ابن زيد: أخبرنا الله تعالى بالذي يشاء لأهل الجنة فقال: عطاء غير مجذوذ أي غير مقطوع ولم يخبرنا بالذي يشاء لأهل النار. انتهى كلام ابن حجر.
وفي الذي تحامل به على ابن تيمية نظر فقد أوضح البحث الحافظ ابن القيم رحمه الله في حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح مستوفياً بما له وعليه فمن شاء فليرجع إليه.(6/251)
أخرج أبو الشيخ عن قتادة أنه تلا هذه الآية فقال حدثنا أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " يخرج قوم من النار " ولا نقول كما قال أهل حروراء أن من دخلها بقى فيها.
وعن جابر قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية فقال: " إن شاء آلله أن يخرج أناساً من الذين شقوا من النار فيدخلهم الجنة فعل "، أخرجه ابن مردويه. وعن خالد بن معدان في الآية قال: إنها في ذوي التوحيد من أهل القبلة وعن جابر بن عبد الله أو أبي سعيد الخدري قال: هذه الآية قاضية على القرآن كله يقول حيث كان في القرآن خالدين فيها تأتي عليه، وعن ابن عباس في قوله (إلا ما شاء ربك) قال: فقد شاء ربك أن يخلد هؤلاء في النار، وأن يخلد هؤلاء في الجنة.
وعنه قال: استثنى الله من النار أن تأكلهم، وعن السدي في الآية قال: فجاء بعد ذلك من مشيئة الله ما نسخها، فأنزل بالمدينة (إن الذين كفروا وظلموا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم طريقاً) إلى آخر الآية، فذهب الرجاء لأهل النار أن يخرجوا منها وأوجب لهم خلود الأبد.
وقوله: وأما الذين سعدوا؛ الآية، فجاء بعد ذلك من مشيئة الله ما نسخها، فأنزل بالمدينة (والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات) -إلى قوله- (ظلاًّ ظليلاًّ)، فأوجب لهم خلود الأبد.
وعن أبي نضرة قال: ينتهي القرآن كله إلى هذه الآية، يعني (إن ربك فعال لما يريد) وفي المناوي الكبير على الجامع الصغير ما نصه:
تنبيه: ما ذكرته آنفا من أن عذاب الكفار في جهنم دائم أبداً هو ما دلت عليه الآيات والأخبار وأطبق عليه جمهور الأمة سلفاً وخلفاً، ووراء ذلك أقوال يجب تأويلها، فمنها ما ذهب إليه الشيخ محيي الدين بن عربي أنهم(6/252)
يعذبون فيها مدة ثم تنقلب عليهم وتبقى طبيعة نارية لهم يتلذذون بها لموافقتها لطبيعتهم، فإن الثناء بصدق الوعد لا بصدق الوعيد بل بالتجاوز، وقال (فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله)، ولم يقل وعيده، بل قال ويتجاوز عن سيئاتهم مع أنه توعد على ذلك وأثنى على إسماعيل بأنه كان صادق الوعد.
وقال في موضع آخر: أن أهل النار إذا أدخلوها لا يزالون خائفين مترقبين أن يخرجوا منها فإذا أغلقت عليهم أبوابها اطمأنوا لأنها خلقت على وفق طباعهم قال الحافظ آبن القيم: وهذا في طرف أي جهة، والمعتزلة القائلون بأنه يجب على الله تعذيب من توعده بالعذاب في طرف آخر، فأولئك عندهم لا ينجو من النار من دخلها أبداً، والقولان مخالفان لما علم بالاضطرار أن الرسول جاء به وأخبر به عن الله.
ومنها قولُ جمع: النارُ تفنى فإنه تعالى جعل لها أمداً تنتهي إليه ثم يزول عذابها لهذه الآية، وقوله تعالى (لابثين فيها أحقاباً) قال هؤلاء: وليس في القرآن دلالة على بقاء النار وعدم فنائها، إنما الذي فيه أن الكفار خالدون فيها وأنهم غير خارجين منها وأنه لا يفتر عنهم عذابها وأنهم لا يموتون، وأن عذابهم فيها مقيم وأنه غرام لازم، وهذا لا نزاع فيه من الصحابة والتابعين، إنما النزاع في أمر آخر وهو أن النار أبدية أو مما كتب عليه الفناء، وأما كون الكفار لا يخرجون منها ولا يدخلون الجنة فلم يختلف فيه أحد من أهل السنة.
وقد نقل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله القول بفنائها عن جمع من الصحابة والتابعين، وقد نصر هذا القول ابن القيم كشيخه ابن تيمية وهو مذهب متروك وقول مهجور لا يصار إليه ولا يعول عليه، وقد أول ذلك كله الجمهور، وأجابوا عن الآيات المذكورة بنحو عشرين وجهاً وعما نقل أولئك الصحب بأن معناه ليس فيها أحد من عصاة المؤمنين، أما مواضع الكفار فهي ممتلئة منهم لا يخرجون عنها أبداً كما ذكر الله في آيات كثيرة، انتهى كلامه.(6/253)
قلت وبالله التوفيق: أخرج ابن المنذر عن عمر قال: لو لبث أهل النار في النار كقدر رمل عالج لكان لهم على ذلك يوم يخرجون فيه، وروى عبد بن حميد بإسناد رجالة ثقات عن عمر نحوه. وأخرج بن راهويه عن أبي هريرة قال: سيأتي على جهنم يوم لا يبقى فيها أحد، وقرأ (فأما الذين شقوا).
وأخرج ابن المنذر وأبو الشيخ عن إبراهيم قال: ما في القرآن آية أرجى لأهل النار من هذه الآية (خالدين فيها) الخ. قال: وقال ابن مسعود: ليأتين عليها زمان تخفق أبوابها، وروى أحمد عن ابن عمرو بن العاص: ليأتين على جهنم يوم تصفق فيه أبوابها ليس فيها أحد، وحكاه البغوى وغيره عن أبي هريرة وغيره وأخرج ابن جرير عن الشعبي قال: جهنم أسرع الدارين عمراناً وأسرعهما خراباً، وعن قتادة قال: الله أعلم بتثنيته على ما وقعت. وقد روى عن جماعة من السلف مثل ما ذكره ابن مسعود وعمر وأبو هريرة كابن عباس وابن عمر وجابر وأبي سعيد من الصحابة. وعن أبي مجلز وعبد الرحمن بن زيد ابن أسلم وغيرهما من التابعين، وورد في ذلك حديث في معجم الطبراني الكبير عن أبي أمامة صدى بن عجلان الباهلي وإسناده ضعيف.
وقد ثبت بذلك صحة ما نقله شيخ الإسلام ابن تيمية عن هؤلاء وانتصره الحافظ ابن القيم، ووضح وهن ما قاله ابن حجر والمناوي عليهما وإن كان لا شك في أن الراجح هو الأول. ولقد تكلم صاحب الكشاف في هذا الموضع بما كان له في تركه سعة وفي السكوت: عنه غنى فقال:
ولا يخدعنك قول المجبرة أن المراد بالاستثناء خروج أهل الكبائر من النار، فإن الاستثناء الثاني ينادي على تكذيبهم ويسجل بافترائهم، وما ظنك بقوم نبذوا كتاب الله لما روى لهم بعض النوابت عن ابن عمرو: ليأتين على جهنم يوم تصفق فيه أبوابها ليس فيها أحد.
ثم قال: وأقول ما كان لابن عمرو في سيفيه ومقاتلته بهما علي بن أبي(6/254)
طالب رضي الله عنه ما يشغله عن تسيير هذا الحديث. ا. هـ.
قال الشوكاني: وأقول أما الطعن على من قال بخروج أهل الكبائر من النار فالقائل بذلك يا مسكين رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) كما صح عنه في دواوين الإسلام التي هي دفاتر السنة المطهرة وكما صح عنه في غيرها من طريق جماعة من الصحابة يبلغون عدد التواتر، فما لك والطعن على قوم عرفوا ما جهلته وعملوا بما أنت عنه في مسافة بعيدة، وأي مانع من حمل الاستثناء على هذا الذي جاءت به الأدلة الصحيحة الكثيرة كما ذهب إلى ذلك وقال به جمهور العلماء من السلف والخلف.
وأما ما ظننته من أن الاستثناء الثاني ينادي على تكذيبهم ويسجل بافترائهم فلا مناداة ولا مخالفة، وأي مانع من حمل الاستثناء في الموضعين على العصاة من هذه الأمة فالاستثناء الأول يحمل على معنى إلا ما شاء ربك من خروج العصاة من هذه الأمة من النار والاستثناء الثاني يحمل على معنى إلا ما شاء ربك من عدم خلودهم في الجنة كما يخلد غيرهم، وذلك لتأخر دخولهم إليها مقدار المدة التي لبثوا فيها في النار وقد قال بهذا من أهل العلم من قدمنا ذكره، وبه قال ابن عباس حبر الأمة.
وأما الطعن على صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وحافظ سنته وعابد الصحابة عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنه فإلى أين يا محمود أتدري. ما صنعت، وفي أي واد وقعت، وعلى أي جنب سقطت، ومن أنت حتى تصعد إلى هذا المكان وتتناول نجوم السماء بيدك القصيرة ورجلك العرجاء، أما كان لك في مِكسَرَي طِلبَتك من أهل النحو واللغة ما يردك عن الدخول فيما لا تعرف والتكلم بما لا تدري، فيالله العجب ما يفعل القصور في علم الرواية والبعد عن معرفتها إلى أبعد مكان من الفضيحة لمن لم يعرف قدر نفسه ولا أوقفها حيث أوقفها الله سبحانه.(6/255)
وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (108) فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلَاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ (109)(6/256)
وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (108)
(وأما الذين سعدوا) أي في علمه تعالى وهم الذين يموتون على الإيمان وإن تقدم منهم كفر أو غيره من المعاصي قرأ الكسائي وغيره سعدوا بضم السين وقرأ الباقون بفتحها، قال سيبويه: لا يقال سعد فلان كما لا يقال شقي فلان لكونه مما لا يتعدى، قال النحاس: ورأيت علي بن سليمان يتعجب من قراءة الكسائي بضم السين مع علمه بالعربية وهذا لحن لا يجوز.
قال السمين: قرأ الأخوان وحفص بضم السين والباقون بفتحها فالأولى من قولهم سعده الله أي أسعده حكى الفراء عن هذيل أنها تقول كذلك، قال الأزهري: سعد فهو سعيد كسلم فهو سليم وسعد فهو مسعود، وقال أبو عمرو بن العلاء: يقال سعد الرجل كما يقال حسن، وقيل سعده لغة مهجورة وقد ضعف جماعة قراءة الأخوين، وفي المصباح: سعد فلان يسعد من باب تعب في دين أو دنيا سعداً وبالمصدر سمى ومنه سعد بن عبادة والفاعل سعيد والجمع سعداء ويعدى بالحركة في لغة فيقال سعده الله يسعده بفتحتين فهو مسعود، وقرئ في السبعة بهذه اللغة في هذه الآية بالبناء للمفعول والأكثر أن يتعدى بالهمزة فيقال أسعده الله وسعد بالضم خلاف شقي.
(ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض) معنى الآية كما مر في قوله، وأما الذين شقوا (إلا ما شاء ربك) من الزيادة التي لا منتهى لها فالمعنى خالدين فيها أبداً وقد عرف من الأقوال المتقدمة ما يصلح لحمل هذا الاستثناء عليه ولا يستقيم إلا على التأويل المذكور في الوجه الخامس والسابع وما بعده (عطاء) اسم مصدر والمصدر في الحقيقة الإعطاء أو يكون مصدراً(6/256)
على حذف الزوائد كقوله أنبتكم من الأرض نباتاً أو منصوب بمقدر يقال عطوت بمعنى ناولت (غير مجذوذ) من جذه يجذه إذا قطعه وكسره والجذاذ بكسر الجيم ما تكسر منه والضم أفصح والجذاذات القراضات، والمعنى يعطيهم الله عطاء غير مقطوع يعني أنه ممتد إلى غير نهاية.
قال القاضي: وهو تصريح بأن الثواب لا ينقطع وتنبيه على أن المراد من الاستثناء في الثواب ليس الانقطاع ولأجله فرق بين الثواب والعقاب في التأبيد انتهى، قال الخفاجي: وقع لبعضهم هنا أن النار ينقطع عذابها بخلاف نعيم أهل الجنة وأورد فيه حديثاً عن عبد الله بن عمرو بن العاص، وقد تقدم، قال ابن الجوزي: أنه موضوع وأشار لنحو منه الزمخشري إلا أنه تكلم في ابن عمرو كلاماً لا ينبغي ذكره انتهى.
وقد ثبت بالنصوص القاطعة أن لا وجود لذلك فيقدر الخلود، ولا يتوهم جواز التعارض بين هذه وبين النصوص الدالة على عدم الخلود لأن المحتمل لا يعارض القطعي.
ولما فرغ الله سبحانه من أقاصيص الكفرة وبيان حال السعداء والأشقياء سلّى رسول الله صلى الله عليه وسلم بشرح أحوال الكفرة من قومه في ضمن النهي عن الامتراء فقال(6/257)
فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلَاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ (109)
(فلا تك) حذف النون لكثرة الاستعمال ولأن النون إذا وقعت طرف الكلام لم يبق عند التلفظ بها إلا مجرد الغنة فلا جرم أسقطوها قاله الكرخي (في مرية مما يعبد هؤلاء) أي ما يعبدونه غير نافع لهم ولا ضار ولا تأثير له في شيء والمرية الشك والإشارة بهؤلاء إلى كفار عصره صلى الله عليه وآله وسلم من قريش.
وقيل المعنى لا تك في شك من بطلان ما يعبد هؤلاء من الأصنام، وقيل لا تك في شك من سوء عاقبتهم ولا مانع من الحمل على جميع هذه المعاني(6/257)
وهذا النهي له صلى الله عليه وسلم هو تعريض لغيره ممن يداخله شيء من الشك فإنه صلى الله عليه وسلم لا يشك في ذلك أبداً.
ثم بين له سبحانه بقوله (ما يعبدون إلا كما يعبد آباؤهم) أن معبودات هؤلاء كمعبودات آبائهم وأن عبادتهم كعبادة آبائهم (من قبل) وفي هذا الاستئناف تعليل للنهي عن الشك والمعنى أنهم سواء في الشرك بالله وعبادة غيره فلا يكن في صدرك حرج مما تراه من قومك فهم كمن قبلهم من طوائف البشر وفي الخازن يعني أنه ليس لهم في عبادة هذه الأصنام مستند إلا تقليد آبائهم انتهى. وجاء بالمضارع في كما يعبد لاستحضار الصورة.
ثم بين له أنه مجازيهم بأعمالهم فقال (وإنا لموفوهم نصيبهم) من العذاب (غير منقوص) لا ينقص ذلك شيء وانتصاب غير على الحالى والتوفية لا تستلزم عدم النقص فقد يجوز أن يوفى وهو ناقص كما يجوز أن يوفى وهو كامل، قال القاضي كالزمخشري: فإنك تقول وفيته حقه وتريد به وفاء بعضه ولو مجازاً انتهى.
وأنت خبير بأنه إذا لم تكن قرينة المجاز قائمة كما في هذا المقام لا تكون الحال إلا للتأكيد لأن التوفية تقتضي الإكمال فقد استفيد معناها من عاملها وهو شأن المؤكدة وفائدته دفع توهم التجوز، قال بعضهم: وجعلها مقيدة له لدفع احتمال كونه منقوصاً في حد نفسه مبني على الذهول عن كون العامل هو التوفية تأمل قاله الكرخي، وقيل المراد نصيبهم من الرزق وقيل ما هو أعم من الخير والشر.(6/258)
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (110) وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (111) فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112)(6/259)
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (110)
(ولقد آتينا موسى الكتاب) أي التوراة (فاختلف فيه) أي في شأنه وتفاصيل أحكامه فآمن به قوم وكفر به آخرون وعمل بأحكامه قوم وترك العمل ببعضها آخرون فلا يضيق صدرك يا محمد بما وقع من هؤلاء في القرآن، وقيل في سببية أي هو سبب اختلافهم وقيل بمعنى على.
(ولولا كلمة) الإنظار إلى يوم القيامة أي الحكم الأزلي بتأخير عذابهم (سبقت من ربك) لما علم في ذلك من الصلاح (لقضي بينهم) أي بين قومك أو بين قوم موسى فيما كانوا فيه مختلفين فأثيب المحق وعذب المبطل وعذبوا في الحال وفرغ من عذابهم وإهلاكهم والكلمة هي أن رحمته سبحانه سبقت غضبه فأمهلهم ولم يعاجلهم لذلك وقيل أن الكلمة هي أنهم لا يعذبون بعذاب الاستئصال وهذا من جملة التسلية له صلى الله عليه وسلم.
ثم وصفهم بأنهم في شك من الكتاب فقال (وإنهم لفي شك منه) أي من القرآن أن حمل على قوم محمد صلى الله عليه وسلم أو من التوراة أن حمل على قوم موسى (مريب) موقع في الريبة من أراب إذا حصل الريب لغيره أو صار هو في نفسه ذا ريب ثم جمع الأولين والآخرين في حكم توفية العذاب لهم أو هو والثواب فقال:(6/259)
وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (111)
(وإن كُلاًّ) أي كل الخلائق (لما ليوفينهم ربك أعمالهم) أي جزاءها وفي إن وكُلاًّ ولما أقوال متخالفة هل إن مخففة أم مثقلة والتنوين في كُلاًّ مع النصب عوض عن المضاف إليه ونصبه بأن ولما خفيفة أم ثقيلة وهي بمعنى إلا أم لا.(6/259)
وأحسن هذه الأقوال أنها بمعنى الاستثنائية، وقد روي ذلك عن الخليل وسيبويه ورجحه الزجاج، وقرأ أبيّ أن كُلاًّ إلا ليوفينهم وقرئ بالتنوين بمعنى جميعاً وبسط الكلام في ذلك في جمل، قال السمين: هذه الآية الكريمة مما تكلم الناس فيها قديماً وحديثاً وعسر على أكثرهم تلخيصها قراءة وتخريجاً وقد سهل الله تعالى ذلك فذكرت أقاويلهم وما هو الراجح منها فأقول:
قرأ بعضهم إن ولما مخففتين وبعضهم خفف إن وثقل لما وبعضهم شددهما وبعضهم شدد إن وخفف لما فهذه أربع قراءات في هذين الحرفين وكلها متواترة سبعية قال: والرابعة وهي تشديد إن وتخفيف لما فواضحة جداً وقرئ شاذاً وإن كل بتخفيف إن ورفع كل ولما بالتشديد، وهي قراءة الحسن البصري وعليها فلما بمعنى إلا انتهى ملخصاً وقرئ أيضاً شاذاً قراءات أخر فلتراجع في السمين وغيره.
(إنه بما تعملون) أيها المختلفون (خبير) لا يخفي عليه منه شيء والجملة تعليل لما قبلها وفيه وعد للمحسنين المصدقين ووعيد للمكذبين الكافرين.
ثم أمر سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم بكلمة جامعة لأنواع الطاعة له سبحانه فقال(6/260)
فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112)
(فاستقم كما أمرت) أي كما أمرك الله فيدخل في ذلك جميع ما أمره به وجميع ما نهاه عنه لأنه قد أمره بتجنب ما نهاه عنه كما أمره بفعل ما تعبده بفعله. وأمته اسوته في ذلك.
قال قتادة: أمره أن يستقيم على أمره ولا يطغى في نعمته، وقال سفيان: استقم على القرآن، وعن الحسن قال: لما نزلت هذه الآية قال: شمروا شمروا فما رئي ضاحكاً قال أبو السعود: وبالجملة فهذا الأمر منتظم لجميع محاسن الأحكام الأصلية والفرعية والكمالات النظرية والعملية والخروج عن عهدته في غاية ما يكون من الصعوبة ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: شيبتني سورة هود (1).
(و) ليستقم (من تاب معك) أي آمن ورجع عن الكفر إلى الإسلام
_________
(1) الترمذي، تفسير سورة، 56/ 6.(6/260)
وشاركك في الإيمان وما أعظم موقع هذه الآية وأشد أمرها فإن الاستقامة كما أمر الله لا تقوم بها إلا الأنفس المطهرة والذوات المقدسة ولهذا يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم شيبتني هود كما تقدم.
وعن سفيان الثقفي قال: قلت يا رسول الله قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً بعدك قال: قل آمنت بالله ثم استقم (1) أخرجه مسلم أقول هي تشمل العقائد والأعمال والأخلاق فإنها في العقائد اجتناب التشبيه والتأويل والتعطيل والصرف عن الظاهر وفي الأعمال الاحتراز عن الزيادة والنقصان والبدع والمحدثات والتغيير للكتاب والتبديل للسنن والتقليد للرجال وللآراء وفي الأخلاق التباعد عن طرفي الإفراط والتفريط وهذا في غاية العسر وبالله التوفيق وهو المستعان.
(ولا تطغوا) الطغيان مجاوزة الحد لما أمر الله سبحانه بالاستقامة المذكورة بين أن الغلو في العبادة والإفراط في الطاعة على وجه يخرج به عن الحد الذي حده والمقدار الذي قدره ممنوع منه منهى عنه وذلك كمن يصوم ولا يفطر ويقوم الليل ولا ينام ويترك الحلال الذي أذن الله به ورغب فيه ولهذا يقول الصادق المصدوق فيما صح عنه: " أما أنا فأصوم وأفطر وأقوم وأنام وأنكح النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني " (2)، والخطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ولأمته تغليباً لحالهم على حاله أو النهي عن الطغيان خاص بالأمة.
قال ابن عباس: لا تطغوا لا تظلموا، وقال العلاء بن عبد الله: لم يرد أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إنما عنى الذين يجيئون من بعدهم، وعن ابن زيد الطغيان خلاف أمره وارتكاب معصيته (إنه بما تعملون بصير) يجازيكم على حسب ما تستحقون، والجملة تعليل لما قبلها، قيل ما نزلت آية على رسول الله صلّى الله عليه وسلم هي أشد عليه من هذه الآية.
_________
(1) مسلم، 38.
(2) النسائي، كتاب النكاح، باب 4.(6/261)
وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (113)
وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (113)
(ولا تركنوا إلى الذين ظلموا) قرئ بفتح الكاف وضمها وهي لغة تميم وقيس والأول لغة أهل الحجاز، قال أبو عمرو: ولغة تميم بكسر التاء وفتح الكاف، وهم يكسرون حرف المضارعة في كل ما كان من باب علم يعلم، قال الأزهري: وليست بالفصيحة وركن يركن بفتحتين وليست بالأصل، بل من تداخل اللغتين.
وقال الراغب: والصحيح إنه يقال بالفتح فيهما وبالكسر في الماضي والفتح في المضارع؛ وبالفتح في الماضي والضم في المضارع، وقرئ على البناء للمفعول من أركنه، وقال في الصحاح: ركن إليه يركن بالضم، وحكى أبو زيد: ركن إليه بالكسر يركن ركوناً فيهما، أي مال إليه وسكن، قال الله تعالى (ولا تركنوا إلى الذين ظلموا) وأما بالفتح فيهما فإنما هو على الجمع بين اللغتين. اهـ.
وقال في شمس العلوم: الركون السكون، وقال في القاموس: ركن إليه كنصر وعلم ومنع ركوناً مال وسكن. اهـ، فهؤلاء الأئمة من رواة اللغة فسروا الركون بمطلق الميل والسكون من غير تقييد بما فيده به صاحب الكشاف حيث قال: فإن الركون هو الميل اليسير.
وهكذا فسره المفسرون بمطلق الميل والسكون من غير تقييد إلا من كان من المتقيدين بما ينقله صاحب الكشاف، ومن المفسرين من ذكر في تفسير الركون قيوداً لم يذكرها أئمة اللغة.
قال القرطبي في تفسيره: الركون حقيقة الاستناد والاعتماد والسكون إلى الشيء والرضا به، ومن أئمة التابعين من فسر الركون بما هو أخص من معناه(6/262)
اللغوي، فروي عن قتادة وعكرمة أن معناها لا تودوهم ولا تطيعوهم.
وقال عبد الرحمن بن زيد: الركون هنا الادهان، وذلك أن لا ينكر عليهم كفرهم، وقال أبو العالية: معناه لا ترضوا أعمالهم، وقال ابن عباس: الركون إلى الشرك ولا تركنوا لا تميلوا ولا تدهنوا. وعن عكرمة: لا تصطنعوهم.
وقد اختلف أيضا الأئمة من المفسرين في هذه الآية هل هي خاصة بالمشركين أو عامة، فقيل خاصة وإن معنى الآية النهي عن الركون إلى المشركين وإنهم المرادون بالذين ظلموا. وقد روي ذلك عن ابن عباس، وقيل إنها عامة في الظلمة من غير فرق بين كافر ومسلم، وهذا هو الظاهر من الآية، ولو فرضنا أن سبب النزول هم المشركون لكان الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
فإن قلت وقد وردت الأدلة الصحيحة البالغة عدد التواتر الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثبوتاً لا يخفى على من له أدنى تمسك بالسنة المطهرة بوجوب طاعة الأئمة والسلاطين والأمراء حتى ورد في بعض ألفاظ الصحيح أطيعوا السلطان وإن كان عبداً حبشياً رأسه كالزبيبة، وورد وجوب طاعتهم ما أقاموا الصلاة وما لم يظهر منهم الكفر البواح وما لم يأمروا بمعصية الله.
وظاهر ذلك أنهم وإن بلغوا في الظلم إلى أعلى مراتبه وفعلوا أعظم أنواعه مما لم يخرجوا به إلى الكفر البواح فإن طاعتهم واجبة حيث لم يكن ما أمروا به من معصية الله، ومن جملة ما يأمرون به تولي الأعمال لهم والدخول في المناصب الدينية التي ليس الدخول فيها من معصية الله، ومن جملة ما يأمرون به الجهاد وأخذ الحقوق الواجبة من الرعايا، وإقامة الشريعة بين المتخاصمين منهم وإقامة الحدود على من وجبت عليه.(6/263)
وبالجملة فطاعتهم واجبة على كل من صار تحت أمرهم ونهيهم في كل ما يأمرون به مما لم يكن من معصية الله، ولا بد في مثل ذلك من المخالطة لهم والدخول عليهم ونحو ذلك مما لا بد منه ولا محيص عن هذا الذي ذكرنا من وجوب طاعتهم بالقيود المذكورة لتواتر الأدلة الواردة به، بل قد ورد به الكتاب العزيز أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم.
بل ورد أنهم يعطون الذي لهم من الطاعة وإن منعوا ما هو عليهم للرعايا، كما في بعض الأحاديث الصحيحة: " أعطوهم الذي لهم واسألوا الله الذي لكم " بل ورد الأمر بطاعة السلطان وبالغ في ذلك النبي (- صلى الله عليه وسلم -) حتى قال: " وإن أخذ مالك وضرب ظهرك " (1).
فإن اعتبرنا مطلق الميل والسكون فمجرد هذه الطاعة المأمور بها مع ما تستلزمه من المخالطة هي ميل وسكون، وإن اعتبرنا الميل والسكون ظاهراً وباطناً فلا يتناول النهي في هذه الآية من مال إليهم في الظاهر لأمر يقتضى ذلك شرعاً كالطاعة أو للتقية ومخافة الضرر منهم، أو لجلب مصلحة عامة أو خاصة أو دفع مفسدة عامة أو خاصة إذا لم يكن له ميل إليهم في الباطن ولا محبة ولا رضى بأفعالهم.
قلت: أما الطاعة على عمومها بجميع أقسامها حيث لم تكن في معصية الله فهي على فرض صدق مسمى الركون عليها مخصصة لعموم النهي عنه بأدلتها التي قدمنا الإشارة إليها ولا شك في هذا ولا ريب، فكل من أمروه ابتداء أن يدخل في شيء من الأعمال التي أمرها إليهم مما لم يكن من معصية الله كالمناصب الدينية ونحوها إذا وثق من نفسه بالقيام بما وكل إليه فذلك واجب عليه، فضلاً عن أن يقال جائز له.
وأما ما ورد من النهي عن الدخول في الإمارة فذلك مقيد بعدم وقوع الأمر ممن تجب طاعته من الأئمة والسلاطين والأمراء جمعاً بين الأدلة أو مع
_________
(1) مسلم 1847 بلفظ: " تسمع وتطيع للأمير. وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك فاسمع واطع ".(6/264)
ضعف المأمور عن القيام بما أمر به، كما ورد تعليل النهي عن الدخول في الإمارة بذلك في بعض الأحاديث الصحيحة.
وأما مخالطتهم والدخول عليهم لجلب مصلحة عامة أو خاصة أو دفع مفسدة عامة أو خاصة مع كراهة ما هم عليه من الظلم وعدم ميل النفس إليهم ومحبتها لهم وكراهة المواصلة لهم لولا جلب تلك المصلحة أو دفع تلك المفسدة، فعلى فرض صدق مسمى الركون على هذا فهو مخصص بالأدلة الدالة على مشروعية جلب المصالح ودفع المفاسد، والأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى، ولا تخفى على الله خافية.
وبالجملة فمن ابتلى بمخالطة من فيه ظلم فعليه أن يزن أقواله وأفعاله وما يأتي وما يذر بميزان الشرع، فإن زاغ عن ذلك فعلى نفسها براقش تجني، ومن قدر على الفرار منهم قبل أن يؤمر من جهتهم بأمر يجب عليه طاعته فهو الأولى له والأليق به. يا مالك يوم الدين إياك نعبد وإياك نستعين اجعلنا من عبادك الصالحين الأمرين بالمعروف والناهين عن المنكر الذين لا يخافون فيك لومة لائم وقونا على ذلك ويسره لنا وأعنا عليه.
قال القرطبي في تفسيره: وصحبة الظالم على التقية مستثناة من النهي بحال الاضطرار انتهى. وقال النيسابوري في تفسيره: قال المحققون: الركون المنهي، عنه هو الرضا بما عليه الظلمة أو تحسين الطريقة وتزيينها عند غيرهم ومشاركتهم في شيء من تلك الأبواب، فأما مداخلتهم لدفع شيء من الضرر واجتلاب منفعة عاجلة فغير داخلة في الركون.
قال: وأقول هذا من طريق المعاش والرخصة ومقتضى التقوى هو الاجتناب عنهم بالكلية، أليس الله بكاف عبده. اهـ.
(فتمسكم النار) بحرها بسبب الركون إليهم، وفيه إشارة إلى أن(6/265)
الظلمة أهل النار أو كالنار، ومصاحبة النار توجب لا محالة مس النار، قيل هذا فيمن ركن إلى من ظلم فكيف بالظالم. والجملة حالية أو مستأنفة. قال أبو السعود: وإذا كان حال الميل في الجملة إلى من وجد منه ظلم ما في الإفضاء إلى مساس النار هكذا، فما ظنك بمن يميل إلى الراسخين في الظلم والعدوان ميلاً عظيماً ويتهالك على مصاحبتهم ومنادمتهم ويلقي شراشره على مؤانستهم ومعاشرتهم ويبتهج بالتزيي بزيهم؛ ويمد عينيه إلى زهرتهم الفانية، ويغبطهم بما أوتوا من القطوف الدانية، وهو في الحقيقة من الحبة طفيف، ومن جناح البعوض خفيف، بمعزل عن أن تميل إليه القلوب، ضعف الطالب والمطلوب.
والآية أبلغ ما يتصور في النهي عن الظلم والتهديد عليه، وخطاب الرسول صلى الله عليه وسلم ومن معه من المؤمنين تثبيت على الاستقامة التي هي العدل، فإن الميل إلى أحد طرفي الإفراط والتفريط ظلم على نفسه أو غيره انتهى.
(وما لكم من دون الله من أولياء) إن ركنتم إليهم، والمعنى أنها تمسكم النار حال عدم وجود من ينصركم وينقذكم منها، ونفى الأولياء ليس بطريق نفي أن يكون لكل واحد منهم أولياء حتى يصدق أن يكون له ولي بل لمكان لكم بطريق انقسام الآحاد على الأحاد لكن لا على معنى نفي استقلال كل منهم بنصير بل على معنى نفي أن يكون لواحد منهم نصير بقرينة المقام.
(ثم لا تنصرون) من جهة الله سبحانه إذ قد سبق في علمه أنه يعذبكم بسبب ركونكم الذي نهيتم عنه فلم تنتهوا عناداً وتمرداً والجملة حالية أو مستأنفة معترضة وأتى بثم هنا تنبيهاً على تراخي رتبة كونهم غير منصورين من جهة الله بعدما أوعدهم بالعذاب وأوجبه عليهم، ويجوز أن يكون منزلاً منزلة الفاء بمعنى الاستبعاد فإنه لما بين أن الله تعالى معذبهم وأن غيره لا ينقذهم أنتج أنهم لا ينصرون أصلاً.(6/266)
وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ (114) وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (115) فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ (116) وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ (117)(6/267)
وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ (114)
(وأقم الصلاة طرفي النهار) لما ذكر الله سبحانه الاستقامة خص من أنواعها إقامة الصلاة لكونها رأس الإيمان، والمراد صلاة الغداة والعشي وهما الفجر والعصر، قاله الحسن، وقيل الظهر موضع العصر، وقيل الطرفان الصبح والمغرب، قاله ابن عباس. وقيل هما الظهر والعصر، وقال مجاهد: صلاة الفجر وصلاتي العشي يعني الظهر والعصر، ورجح ابن جرير أنهما الصبح والمغرب.
قال: والدليل عليه إجماع الجميع على أن أحد الطرفين الصبح، فدل على أن الطرف الآخر المغرب.
قال الرازي: كثرت المذاهب في تفسير طرفي النهار والأشهر أنهما الفجر والعصر لأن أحد طرفي النهار هو طلوع الشمس والثاني هو غروبها، فالطرف الأول هو صلاة الفجر، والطرف الثاني لا يجوز أن يكون صلاة المغرب لأنها داخلة تحت قوله وزلفاً من الليل فوجب حمل الطرف الثاني على صلاة العصر. (وزلفاً) أي في زلف (من الليل) والزلف الساعات القريبة بعضها من بعض ومنه سميت المزدلفة لأنها منزل بعد عرفة بقرب مكة، وقرئ زلفاً بضم اللام جمع زليف، ويجوز أن يكون واحده زلفة، وقرئ بإسكان اللام، وقرأ مجاهد: زلفى على وزن فعلى، وقرأ الباقون: زلفا بفتح اللام كغرفة وغرف، قال ابن الأعرابي: الزلف الساعات واحدتها زلفة.(6/267)
وقال قوم: الزلفة أول ساعة من الليل بعد مغيب الشمس، وفي القاموس الزلفة الطائفة من الليل والجمع زلف وزلفات والزلف ساعات الليل الآخذة من النهار وساعات النهار الأخذة من الليل. قال الأخفش: معنى زلفاً من الليل صلاة الليل، قال ابن عباس: صلاة العتمة، وقال الحسن: هما زلفتان صلاة المغرب وصلاة العشاء، وعن مجاهد والحسن نحوه، وقال أيضاً: ساعة بعد ساعة يعني صلاة العشاء الآخرة.
(إن الحسنات) أي الواجبة والمندوبة وغيرها على العموم ومن جملتها بل عمادها الصلوات. عن ابن مسعود قال: هي الصلوات الخمس. وزاد ابن عباس والباقيات الصالحات (يذهبن السيئات) على العموم، وقيل المراد بها الصغائر ومعنى يذهبن يكفرنها حتى كأنها لم تكن.
أخرج البخاري ومسلم وأهل السنن وغيرهم عن ابن مسعود أن رجلاً أصاب من امرأة قبلة، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له كأنه يسأل عن كفارتها، فأنزلت عليه (وأقم الصلاة طرفي النهار) الآية، فقال الرجل يا رسول الله ألي هذه؟ قال: هي لمن عمل بها من أمتي.
وأخرج أحمد ومسلم وأبو داود وغيرهم عن أبي أمامة أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال يا رسول الله أقم في حد الله، مرة أو مرتين، فأعرض عنه؛ ثم أقيمت الصلاة فلما فرغ قال أين الرجل؟ قال أنا ذا، قال أتممت الوضوء وصليت معنا آنفا؟ قال نعم، قال فإنك من خطيئتك كيوم ولدتك أمك فلا تعد وأنزل الله حينئذ على رسوله (وأقم الصلاة طرفي النهار) وفي الباب أحاديث كثيرة بألفاظ مختلفة.
ووردت أحاديث صحيحة أيضاً أن الصلوات الخمس كفارات لما بينهن. وقال مجاهد: الحسنات قول سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، والأول أولى، وبه قال ابن المسيب والقرطبي والضحاك وجمهور المفسرين: أي الصلوات الخمس وله تدل الأحاديث.(6/268)
(ذلك) إشارة إلى قوله فاستقم وما بعده، وقيل إلى القرآن (ذكرى للذاكرين) أي موعظة للمتعظين. عن الحسن قال: هم الذين يذكرون الله في السراء والضراء والشدة والرخاء والعافية والبلاء. وعن ابن جريج قال: لما نزع الذي قبَّل المرأة تذكر فذلك قوله ذلك ذكرى للذاكرين.(6/269)
وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (115)
(واصبر) على ما أمرت به من الاستقامة وعدم الطغيان والركون إلى الذين ظلموا، وقيل أن المراد الصبر على ما أمر به دون ما نهى عنه لأنه لا مشقة في اجتنابه وفيه نظر فإن المشقة في اجتناب المنهى عنه كائنة وعلى فرض كونها دون مشقة امتثال الأمر فذلك لا يخرجها عن مطلق المشقة (فإن الله لا يضيع أجر المحسنين) أي يوفيهم أجورهم ولا يضيع منها شيئاً فلا يهمله ولا يبخسه بنقص قيل المحسنون المصلون.(6/269)
فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ (116)
(فلولا كان) هذا عود إلى أحوال الأمم الخالية لبيان أن سبب حلول عذاب الاستئصال بهم أنه ما كان فيهم من ينهي عن الفساد ويأمر بالرشاد فقال (فلولا) أي فهلا كان (من القرون) الماضية المهلكة بالعذاب الكائنة (من قبلكم أولوا بقية) من الرأي والعقل والدين، والبقية في الأصل اسم لما يستبقيه الرجل مما يخرجه وهو لا يستبقي إلا أجوده وأفضله فصار لفظ البقية مثلاً في الجودة يقال فلان ذو بقية إذا كان فيه خير، والمراد بها حينئذ جيد الشيء وخياره، من قولهم فلان بقية الناس وبقية الكرام وإنها صفة على فعيلة للمبالغة بمعنى فاعلة ولذلك دخلت التاء فيها.
وقيل معناه أولو بقية من خير يقال فلان على بقية من الخير إذا كان على خصلة محمودة ومنه قولهم في الزوايا خبايا وفي الرجال بقايا؛ وقيل أنها مصدر بمعنى البقوى، كالتقية بمعنى التقوى أي فهلا كان منهم ذووا بقاء على أنفسهم وصيانة لها من سخط الله وعقابه، وقرئ بتخفيف الياء وهي اسم فاعل من بقي، والتقدير أولو طائفة بقية أي باقية.(6/269)
وقرئ بضم الباء وسكون القاف، أخرج ابن مردويه عن أبي بن كعب قال: أقرأني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أولو بقية وأحلام.
(ينهون) قومهم (عن الفساد في الأرض) ويمنعونهم من ذلك لكونهم ممن جمع الله له بين جودة العقل وقوة الدين، وفي هذا من التوبيخ للكفار ما لا يخفى والاستثناء في قوله (إلا قليلاً) منقطع أي لكن قليلاً (ممن أنجبنا منهم) أي من الأمم الماضية وهم أتباع الأنبياء نهوا عن الفساد في الأرض وسائرهم تركوا النهي، وقيل هو متصل لأن في حرف التحضيض معنى النفي فكأنه قال ما كان في القرون أولو بقية ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلاً ممن أنجينا منهم إلا أنه يؤدي إلى النصب في غير الموجب وإن كان غير النصب أولى.
قال الزمخشري: إن جعلته متصلاً كان المعنى فاسداً لأن الكلام يؤول إلى أن الناجين لا يحضون على النهي ومن في ممن بيانية لأنه لم ينج إلا الناهون قيل هؤلاء القليل هم قوم يونس لقوله فيما مر إلا قوم يونس، وقيل هم أتباع الأنبياء أهل الحق من الأمم على العموم.
(واتبع الذين ظلموا) أنفسهم بسبب مباشرتهم للفساد وتركهم للنهي عنه (ما أترفوا فيه) أي أنعموا من الشهوات فاهتموا بتحصيل أسبابها وأعرضوا عما وراء ذلك والمترف الذي أبطرته النعمة يقال صبي مترف منعم البدن.
وفي القاموس الترفة بالضم النعمة والطعام والشيء الظريف تخص به صاحبك وترف كفرح تنعم وأترفته النعمة أطغته وأترف فلان أصر على المكر والمترف كمكرم المتروك يصنع ما يشاء ولا يمنع والمتنعم لا يمنع من تنعمه أي صاروا تابعين للنعم التي صاروا بها مترفين من خصب العيش ورفاهية الحال(6/270)
وسعة الرزق، وآثروا ذلك على الاشتغال بأعمال الآخرة واستغرقوا بأعمارهم في الشهوات النفسانية.
وقبل المراد بالذين ظلموا، تاركوا النهي ورد بأنه يستلزم خروج مباشري الفساد عن الذين ظلموا وهم أشد ظلماً ممن لم يباشر وكان ذنبه ترك النهي وقرئ واتبع على البناء للمفعول ومعناه اتبعوا جزاء ما أترفوا فيه، قال مجاهد: واتبع الذين ظلموا أي في ملكهم وتجبرهم وتركهم للحق، وقال ابن عباس: أترفوا وأبطروا.
وجملة (وكانوا مجرمين) متضمنة لبيان سبب إهلاكهم أي وكان هؤلاء الذين اتبعوا ما أترفوا فيه مجرمين كافرين والإجرام الآثام والمعنى أنهم أهل إجرام بسبب اتباعهم للشهوات واشتغالهم بها عن الأمور التي يحق الاشتغال بها ويجوز أن تكون معطوفة على واتبع الذين أي اتبعوا شهواتهم وكانوا بسبب ذلك الاتباع مجرمين.(6/271)
وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ (117)
(وما كان ربك ليهلك القرى) أي ما صح ولا استقام بل استحال في الحكمة أن يهلك القرى التي أهلكها حسب ما بلغك انباؤها ويعلم من ذلك حال باقيها من القرى الظالمة واللام لتأكيد النفي (بظلم) أي متلبساً به قيل هو حال من الفاعل أي ظالماً لها والتنكير للتفخيم والإيذان بأن إهلاك المصلحين ظلم عظيم والمراد تنزيه الله تعالى عن ذلك بالكلية بتصويره بصورة ما يستحيل صدوره عنه تعالى وإلا فلا ظلم فيما فعله الله تعالى بعباده كائناً ما كان لما تقرر من قاعدة أهل السنة.
قال الزجاج: يجوز أن يكون المعنى وما كان ربك ليهلك أحداً وهو يظلمه وإن كان على نهاية الصلاح لأن تصرفه في ملكه دليله قوله تعالى (إن الله لا يظلم الناس شيئاً) وقوله: وإن الله ليس بظلام للعبيد (وأهلها(6/271)
مصلحون) حال من المفعول والعامل عامله ولكن لا باعتبار تقييده بما وقع حالاً من فاعله أعني بظلم لدلالته على تقييد نفي الإهلاك ظلماً بحال كون أهلها مصلحين ولا ريب في فساده بل مطلقاً عن ذلك.
وقيل المراد بالظلم الشرك والباء للسببية أي لا يهلك القرى بسبب إشراك أهلها أي بمجرد الشرك وحده حتى ينضم إليه الفساد في الأرض ومتابعة الهوى كما أهلك قوم شعيب بنقص المكيال والميزان وبخس الناس أشياءهم وأهلك قوم لوط بسبب ارتكابهم للفاحشة الشنعاء وهم مصلحون يتعاطون الحق فيما بينهم لا يظلمون الناس شيئاً وذلك لفرط رحمته ومسامحته في حقوقه تعالى.
ومن ذلك قدم الفقهاء عند تزاحم الحقوق حقوق العباد الفقراء على حقوق الله الغني الحميد وقيل الملك يبقى مع الكفر ولا يبقى مع الظلم وأنت تدري أن مقام النهي عن المنكرات التي أقبحها الإشراك بالله لا يلائمه فإن الشرك داخل في الفساد في الأرض دخولاً أولياً ولذلك ينهى كل من الرسل الذين قصت أنباؤهم أمته أولاً عن الإشراك ثم عن سائر المعاصي التي كانوا يتعاطونها فالوجه حمل الظلم على مطلق الفساد الشامل للشرك وغيره من أصناف المعاصي وحمل الإصلاح على إصلاحه والإقلاع عنه يكون بعضهم متصدين للنهي عنه وبصنعهم متوجهين إلى الاتعاظ غير مصرين على ما هم عليه من الشرك وغيره من أنواع الفساد.
وقيل المعنى وما كان يهلكهم بذنوبهم وهم مخلصون في الإيمان فالظلم المعاصي على هذا، أخرج الطبراني وأبو الشيخ وابن مردويه والديلمي عن جرير قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل عن تفسير هذه الآية فقال: وأهلها ينصف بعضهم بعضاً، وروي موقوفاً على جرير، قيل والمراد بالهلاك عذاب الاستئصال في الدنيا وأما عذاب الآخرة فهو لازم لهم.(6/272)
وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118)
وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118)
(ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة) أي أهل دين واحد إما أهل ضلالة أو أهل هدى، وقيل معناه جعلهم مجتمعين على الحق غير مختلفين فيه أو مجتمعين على دين الإسلام دون سائر الأديان ولكنه لم يشأ ذلك فلم يكن ولهذا قال:
(ولا يزالون مختلفين) في ذات بينهم على أديان شتى ما بين يهودي ونصراني ومجوسي ومشرك ومسلم فكل هؤلاء قد اختلفوا في أديانهم اختلافاً كثيراً لا ينضبط، وقيل مختلفين في الحق أو دين الإسلام وقيل مختلفين في الرزق فهذا غني وهذا فقير، وعن ابن عباس في الآية قال: أهل الحق وأهل الباطل. عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة أو اثنتين وسبعين والنصارى كذلك وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة " (1).
أخرجه أبو داود والترمذي بنحوه عن معاوية قال: قام فينا رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) فقال: " ألا إن من قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على اثتتين وسبعين فرقة وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين اثنتان وسبعون في النار وواحدة في الجنة وهي الجماعة " (2)، أخرجه أبو داود.
قال الخطابي: فيه دلالة على أن هذه الفرق غير خارجة عن الملة والدين إذ جعلهم من أمته، وقال غيره: المراد بها أهل البدع والأهواء الذين تفرقوا واختلفوا وظهروا بعده كالخوارج والقدرية والمعتزلة والرافضة وغيرهم والمراد بالواحدة هي فرقة السنة والجماعة الذين اتبعوا الرسول في قوله وفعله ولم يقلدوا أحداً في خلافه.
_________
(1) أبو داود كتاب السنة باب 1.
(2) أبو داود كتاب السنة باب 1.(6/273)
إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119)
إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119)
(إلا من رحم ربك) أي إلا أهل رحمته فإنهم لا يختلفون وعن عطاء ابن أبي رباح قال: لا يزالون مختلفين أي اليهود والنصارى والمجوس والحنيفية وهم الذين رحم ربك. وقال الحسن: الناس مختلفون على أديان شتى إلا من رحم ربك فمن رحم ربك غير مختلف.
وعن مجاهد قال: من اختلف أهل الباطل ومن رحم أهل الحق فمن الله عليهم بالتوفيق والهداية إلى الدين الحق، فإنهم لم يختلفوا أو إلا من رحم ربك من المختلفين في الحق أو دين الإسلام بهدايته إلى الصواب الذي هو حكم الله وهو الحق الذي لا حق غيره أو إلا من رحم ربك بالقناعة والأولى تفسير لجعل الناس أمة واحدة بالمجتمعة على الحق حتى يكون معنى الاستثناء في إلا من رحم واضحاً غير محتاج إلى تكلف.
(ولذلك) أي ولما ذكر من الاختلاف أو ولرحمته وصح تذكير الإشارة إلى الرحمة لكون تأنيثها غير حقيقي، والضمير في (خلقهم) إن كان راجعاً إلى الناس فالإشارة إلى الاختلاف واللام للعاقبة أو إليه وإلى الرحمة، وإن كان إلى من فإلى الرحمة، وقيل الإشارة بذلك إلى مجموع الاختلاف والرحمة ولا مانع من الإشارة بها إلى شيئين كما في قوله (عوان بين ذلك) وقوله (وابتغ بين ذلك سبيلاً) وقوله (فبذلك فليفرحوا) قال مجاهد: خلقهم للرحمة وعن عكرمة نحوه وقال ابن عباس: خلقهم فريقين، فريقاً يرحم فلا يختلف، وفريقاً لا يرحم فيختلف فذلك قوله فمنهم شقي وسعيد.
وقال الحسن وعطاء: خلقهم للاختلاف، وقال أشهب: سألت مالك بن أنس عن هذه الآية فقال: خلقهم ليكون فريق في الجنة وفريق في السعير. وقال الفراء: خلق أهل الرحمة للرحمة وأهل الاختلاف للاختلاف.(6/274)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في كتاب الرد على المنطقين: أن القوم كلما بعدوا عن اتباع الرسل والكتب المنزلة كان أعظم في تفرقهم واختلافهم فإنهم يكونوا أضل، وقد أمر الله بالجماعة والائتلاف، ونهى عن الفرقة والاختلاف فقال تعالى (واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا) وقال تعالى (إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم في شيء) وقال (ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات).
وقد أخبر أن أهل الرحمة لا يختلفون فقال تعالى (ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك) ولذلك يوجد أتبع الناس للرسول أقلهم اختلافاً كأهل الحديث والسنة فإنهم أقل اختلافاً من جميع الطوائف، ثم من كان إليهم أقرب كان من الاختلاف أبعد، فأما من بعد عن السنة كالمعتزلة والرافضة فتجدهم أكثر الطوائف اختلافاً، وأما اختلاف الفلاسفة فلا يحصره أحد.
وقد ذكر أبو الحسن الأشعري في كتاب المقالات مقالات غير الإسلاميين عنهم من المقالات ما لم يذكره الفارابي وابن سينا وأمثالهما، وكذلك القاضي أبو بكر بن الطيب في كتاب الدقائق الذي رد فيه على الفلاسفة والمنجمين، ورجح فيه منطق المتكلمين من العرب على منطق اليونان.
وكذلك متكلمة المعتزلة والشيعة وغيرهم في ردهم على الفلاسفة ذكروا أنواعاً من المقالات وردوها ولكن مذهب الفلاسفة الذي نصره الفارابي وابن سينا وأمثالهما كالسهروردي المقتول على الزندقة وكأبي بكر بن الصائغ وابن رشد الحفيد هو مذهب المشائين أتباع ارسطو صاحب المنطق وهو الذي يذكره الغزالي في كتاب مقاصد الفلاسفة، وعليه رد في التهافت، وهو الذي يذكره الرازي في الملخص والمباحث المشرقية ويذكره الآمدي في دقائق الحقائق ورموز الكنوز وغير ذلك.
وعلى طريقتهم مشى أبو البركات صاحب المعتبر لكن لم يقلدهم تقليد غيره بل اعتبر ما ذكروه بحسب نظره وعقله، وكذلك الرازي والآمدي(6/275)
يعترضان عليهم في كثير مما يذكرونه بحسب ما يسنح لهم، وابن سينا أيضاً قد يخالف الأولين في بعض ما ذكروه.
والفلاسفة طوائف كثيرون وبينهم اختلاف كثير في الطبيعيات والإلهيات وفي الهيئة أيضاً وأول من خلط منطقهم بأصول المسلمين أبو حامد الغزالي وتكلم فيه علماء المسلمين بما يطول ذكره، وهذا الرد عليهم مذكور في كثير من كتب أهل الكلام.
والفلاسفة ليسو أمة واحدة لها مقالة في العلم الآلهي والطبيعي وغيرهما بل هم أصناف متفرقون وبينهم من التفرق والاختلاف ما لا يحصيه إلا الله أعظم مما بين الملة الواحدة كاليهود والنصارى أضعافا مضاعفة.
والمقصود أن نظار المسلمين ما زالوا يصنفون في الرد عليهم في المنطق وغير المنطق ويثبتون خطأهم فيما ذكروه جميعاً إذ لا يحكم بين الناس فيما تنازعوا فيه إلا كتاب منزل ونبي مرسل كما قال تعالى (وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغياً بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم) ولهذا قال تعالى (فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلاً) انتهى المقصود بتصرف في العبارة.
وحاصل الآية إن الله خلق أهل الباطل وجعلهم مختلفين، وخلق أهل الحق وجعلهم متفقين وحكم على بعضهم بالاختلاف ومصيرهم إلى النار وحكم على بعضهم بالرحمة ومصيرهم إلى الجنة وهم أهل الاتفاق.
ويدل لصحة هذا قوله (وتمت كلمة ربك) أي ثبتت كما قدره في أزله وإذا تمت وحقت ووجبت وامتنعت من التغيير والتبديل وقيل الكلمة هي قوله للملائكة (لأملأن جهنم من الجنة) أي الجن والتاء للمبالغة (والناس أجمعين) أي ممن يستحقها من الطائفتين.(6/276)
وَكُلاًّ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (120) وَقُلْ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ (121) وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (122) وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (123)(6/277)
وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (120)
(وكُلاًّ) أي وكل نبأ فالتنوين عوض عن المضاف إليه (نقص عليك) أي نخبرك به مما يحتاج إليه وقوله (من أنباء الرسل) بيان لكُلاًّ، وقوله (ما نثبت به فؤادك) بدل منه والأظهر أن يكون المضاف إليه المحذوف في (كُلاًّ) المفعول المطلق لنقص أي كل اقتصاص أي كل أسلوب من أساليبه نقص عليك من أنباء الرسل، وقوله (ما نثبت) مفعول نقص وفائدته التنبيه على أن المقصود بالاقتصاص زيادة يقينه عليه السلام وطمأنينة قلبه وثبات نفسه على أداء الرسالة واحتمال أذية الكفار بالوقوف على تفاصيل أحوال الأمم السالفة في تماديهم في الضلال وما لقي الرسل من جهتهم من مكابدة المشاق لأن تكاثر الأدلة أثبت للقلب وأرسخ في النفس وأقوى للعلم.
(وجاءك في هذه) أي السورة قاله ابن عباس وأبو موسى الأشعري وسعيد بن جبير والحسن وعليه الأكثر: أو في هذه الدنيا قاله قتادة وفيه بعد لأنه لم يجر للدنيا ذكر، وقيل في هذه الآية أو في هذه الأنباء (الحق) أي البراهين القاطعة الدالة على صحة المبدأ والمعاد.
وقيل النبوة وعلى الأول يكون تخصيص هذه السورة بمجيء الحق فيها مع كونه قد جاء في غيرها من السور لقصد بيان اشتمالها على ذلك لا بيان كونه موجوداً فيها دون غيرها.
وقيل لأنها جمعت من إهلاك الأمم وشرح حالهم ما لم يجمع غيرها، وقيل خصها بالذكر تشريفاً لها والتعريف في الحق اما للجنس أو للعهد وإنما عرفه(6/277)
ونكر تالييه تفخيماً له لكونه يطلق على الله بخلاف تالييه.
(وموعظة) يتعظ بها الواقف عليها إذا تذكر أحوال الأمم الماضية (وذكرى للمؤمنين) أي يتذكر بها من تفكر فيها منهم، وخص المؤمنين لكونهم المتأهلين للاتعاظ والتذكر.(6/278)
وَقُلْ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ (121)
(وقُل للذين لا يؤمنون) بهذا الحق ولا يتعظون ولا يتذكرون (اعملوا) حال كونكم قارين وثابتين (على مكانتكم) على تمكنكم وحالكم وجهتكم من الكفر وقد تقدم تحقيقه.
وقال قتادة: على منازلكم (إنا عاملون) على مكانتنا وحالنا وجهتنا من الإيمان بالحق والاتعاظ والتذكر وفي هذا تشديد للوعيد وتهديد لهم.(6/278)
وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (122)
(وانتظروا) عاقبة أمرنا، وقال ابن جريج: انتظروا مواعيد الشيطان إياكم على ما يزين لكم (إنا منتظرون) عاقبة أمركم وما يحل بكم من عذاب الله وعقوبته وفيه من الوعيد والتهديد ما لا يخفى.(6/278)
وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (123)
(ولله غيب السماوات والأرض) أي علم جميع ما هو غائب عن العباد فيهما وخص الغيب مع كونه يعلم، بما هو مشهود كما يعلم بما هو مغيب لكونه من العلم الذي لا يشاركه فيه غيره.
وقيل أن غيب السماوات والأرض نزول العذاب من السماء وطلوعه من الأرض، والأول أولى؛ وبه قال أبو علي الفارسي وغيره وأضاف الغيب إلى المفعول توسعاً.
(وإليه يرجع) بالبناء للفاعل يعود وللمفعول يرد (الأمر كله) أي أمر الخلق كلهم في الدنيا والآخرة فيجازي كُلاًّ بعمله فينتقم ممن عصى ويثيب من أطاع.
وقال ابن جريج: فيقضي بينهم بحكم العدل (فاعبده وتوكل عليه) فإنه كافيك كل ما تكره ومعطيك كل ما تحب والفاء لترتيب الأمر بالعبادة(6/278)
والتوكل على كون مرجع الأمور كلها إلى الله سبحانه قيل هذا الخطاب له ولجميع الخلق مؤمنهم وكافرهم وفي تأخير الأمر بالتوكل عن الأمر بالعبادة إشعار بأنه لا ينفع دونها.
(وما ربك بغافل عما تعملون) بل عالم بجميع ذلك ومجاز عليه إن خيراً فخيراً وإن شراً فشراً، وقرأ أهل المدينة والشام وحفص بالفوقية على الخطاب وهي سبعية والباقون بالتحتية وهم الجمهور:
وأخرج عبد الله بن أحمد وابن الدريس وابن جرير وأبو الشيخ عن كعب الأحبار قال: فاتحة التوراة فاتحة الأنعام وخاتمة التوراة خاتمة هود (ولله غيب السماوات والأرض) إلى آخر الآية.(6/279)
استدراك
فاتنا أن نعلق على الآيات التي مرت في سورة هود الواردة في بيان وظيفة الرسل بأوسع مما كتبه المؤلف فرأينا أن نستدركه هنا:
وظيفة الرسل الأساسية هي ما بعثهم الله لأجله من تبليغ رسالته بإنذار من تولى عن الإيمان وعمى، وتبشير من أجاب الدعوة فآمن واهتدى، والشواهد عليها من هذه السورة قوله تعالى في دعوة رسوله خاتم النبيين (إنني لكم منه نذير مبين) وقوله حكاية عن رسوله هود صلى الله عليه وسلم فإن تولوا فقد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم.
وموضوع التبليغ هو الدعوة إلى أركان الدين، وعليها مدار سعادة المكلفين في الدنيا والآخرة، وكلها مبطلة لما كان عليه أقوامهم المشركون من أن بينهم وبين الله تعالى وسائط منهم أو من غيرهم من خلقه يقربونهم إليه بجاههم الشخصي ويقضون حوائجهم من جلب نفع أو دفع ضر بشفاعتهم لهم عنده، أو بتصرفهم في خلقه بما خصهم به من خوارق العادات، إلا ما جعله من آياته دليلاً على صدقهم في دعوى الرسالة.
والرسل بشر بمعنى أنهم لا يملكون من أمور العالم شيئاً مما هو فوق كسب البشر، غير ما خصهم الله به من الرسالة دون شؤون ربوبيته، حتى أنهم لا يملكون هداية أحد إلى الدين بالفعل لأن هدايتهم خاصة بالتبليغ والتعليم، وحكاية نوح مع ابنه الكافر حجة في هذا الموضوع واضحة.
والشواهد على هذا في القرآن كثيرة، ومنها في هذه السورة ما علمت من آيات توحيد الربوبية، والرد على مشركي مكه في اقتراحهم مجيء الملك بقوله تعالى (فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك وضائق به صدرك أن يقولوا لولا أنزل عليه كنز أو جاء معه ملك إنما أنت نذير والله على كل شيء وكيل)(6/280)
وقوله حكاية عن نوح (ولا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول إني ملك) وفي معناه آيات كثيرة في السور الأخرى.
ومنها في احتجاج المشركين على رسلهم بأنهم بشر في قصة نوح (فقال الملأ الذين كفروا من قومه: ما نراك إلا بشراً مثلنا) وقد قال مثل هذا سائر أقوام الرسل بعده إلى خاتمهم محمد صلوات الله عليهم أجمعين.
ولو كان أولئك الرسل في عصرهم على غير ما يعهد أقوامهم من البشر بأن كانوا يتصرفون في الكون بالضر والنفع وعلم الغيب لما احتجوا عليهم بأنهم بشر مثلهم كما يدير الذين ضلوا من أقوامهم من بعدهم عما جاءوا به مع دعوى اتباعهم فزعموا أنهم وبعض من وصفوا بالصلاح والولاية من أتباعهم يضرون وينفعون: أحياؤهم وأمواتهم في هذا سواء.
بل يزعمون أنهم أحياء في قبورهم حياة مادية بدنية، يأكلون فيها ويشربون ويسمعون كلام من يدعوهم ويستغيث بهم، ويستجيبون دعاءهم فيها: يخالفون بهذه الدعاوي مئات من آيات القرآن المحكمات في صفات الأنبياء، وكونهم بشراً لا يقدرون على شيء مما لا يقدر عليه البشر.
وقد يحتجون بما ورد فيه من بعض أنباء الغيب في حياة الشهداء البرزخية فيقيسون عليها بأهوائهم حياة أوليائهم رجماً بالغيب وافتراء على الله.(6/281)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة يوسف علية السلام
قيل هي مائة وإحدى عشرة آية وهي مكية كلها وقيل نزلت ما بين مكة والمدنية وقت الهجرة وقال ابن عباس وقتادة: إلا أربع آيات قال القرطبي: قال العلماء: ذكر الله أقاصيص الأنبياء في القرآن وكررها بمعنى واحد في وجوه مختلفة بألفاظ متباينة على درجات البلاغة وقد ذكر قصة يوسف ولم يكررها فلم يقدر فخالف على معارضة ما تكرر ولا على معارضة ما لم يتكرر.(6/283)
بسم الله الرحمن الرحيم(6/284)
الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ (3)(6/285)
الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (1)
(آلر) قد تقدم الكلام فيه في فاتحة سورة يونس (تلك آيات الكتاب المبين) أي تلك الآيات التي أنزلت إليك في هذه السورة الظاهر أمرها في إعجاز العرب وتبكيتهم، والمبين من أبان بمعنى بأن أي الظاهر أمره في كونه من عند الله، وفي إعجازه بنوعيه لا سيما الإخبار عن الغيب، أو الواضح معانيه للعرب بحيث لا يلتبس على قارئه وسامعه لنزوله على لغتهم، أو بمعنى بين أي المبين لما فيه من الأحكام والشرائع وخفاء الملك والملكوت وأسرار النشأتين في الدارين، أو المبين فيه قصص الأولين وشرح أحوال المتقدمين، أو قد أبين فيها ما سألت عنه اليهود من قصة يوسف.
قال قتادة: مبين بينه الله ببركته ورشده فهذا من بأن أي ظهر، وقال الزجاج: مبين للحق من الباطل والحلال من الحرام فهذا من أبان بمعنى أظهر، قال مجاهد: بين الله حلاله وحرامه، وعن معاذ قال: بين الله الحروف التي سقطت عن ألسن الأعاجم وهي ستة أحرف.(6/285)
إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2)
(إنا أنزلناه) أي الكتاب المبين حال كونه (قرآنا) فعلى تقدير أن الكتاب السورة يكون تسميتها قرآنا باعتبار أن القرآن اسم جنس يقع على الكل وعلى البعض وعلى تقدير أن المراد به كل القرآن فتكون تسميته قرآنا واضحة و (عربياً) صفة لقرآن أي لغة العرب وفيه من غير لسان العرب مثل سجيل ومشكاة وأليم واستبرق ونحو ذلك، قاله ابن عباس ومجاهد وعكرمة وهذا هو الصحيح وأنكرها أبو عبيدة محتجاً بهذه الآية والجمع أنها لما تكلمت بها العرب نسبت إليهم وصارت لهم لغة (لعلكم تعقلون) أي لكي تعلموا معانيه وتفهموا ما فيه لأنه نازل بلغتكم.(6/285)
أخرج الحاكم عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا (قرآناً عربياً) ثم قال: ألهم إسماعيل هذا اللسان العربي إلهاماً (1)، وعن مجاهد قال: نزل القرآن بلسان قريش وهو كلامهم.
_________
(1) المستدرك، كتاب التفسير، 2/ 441.(6/286)
نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ (3)
(نحن نقص عليك أحسن القصص) هو تتبع الشيء ومنه قوله تعالى (وقالت لأخته قصيه) أي تتبعي أثره وهو مصدر وسميت الحكاية قصة لأن الذي يقص الحديث يذكر تلك القصة شيئاً فشيئاً، والتقدير نقص عليك قصصاً أحسن القصص فيكون بمعنى الاقتصاص، أو هو بمعنى المفعول أي المقصوص، والظاهر أنه أحسن ما يقتص في بابه، قال ابن عباس: قالوا يا رسول الله لو قصصت علينا فنزلت هذه الآية.
وعن ابن مسعود مثله وقال قتادة: نقص عليك من الكتب الماضية والقرون الخالية وأمور الله السابقة في الأمم أحسن البيان، واختلف في وجه كون هذه السورة أو القرآن هو أحسن القصص فقيل لأن ما في هذه السورة من القصص يتضمن من العبر والمواعظ والحكم ما لم يكن في غيرها وقيل لما فيها من حسن المحاورة وما كان من يوسف عليه السلام من الصبر على أذاهم وعفوه عنهم، وقيل لأن فيها ذكر الأنبياء والصالحين والملائكة والشياطين والجن والإنس والأنعام والطير وسير الملوك والمماليك والتجار العلماء والجهال والرجال والنساء وحيلهن ومكرهن.
وقيل لأن فيها ذكر الحبيب والمحبوب وما دار بينهما وقيل أن أحسن هنا بمعنى أعجب، وقيل أن كل من ذكر فيها كان مآله السعادة، قال خالد بن معد: أن سورة يوسف وسورة مريم يتفكه بهما أهل الجنة في الجنة، وقال عطاء: لا يسمع سورة يوسف محزون إلا استراح إليها.
(بما أوحينا) بإيحائنا (إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله) أي من قبل إيحائنا إليك (لمن الغافلين) عن هذه القصة لم تخطر ببالك ولم تقرع سمعك،(6/286)
إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ (4) قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ (5)(6/287)
إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ (4)
(إذ) أي اذكر وقت أن (قال يوسف لأبيه) قرأ الجمهور يوسف بضم السين وقرئ بكسرها مع الهمز مكان الواو وحكي الهمز وفتح السين وهو اسم عبراني غير منصرف للعلمية والعجمة وقيل هو عربي والأول أولى بدليل عدم صرفه وأبوه يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم وعاش يوسف من العمر مائة وعشرين سنة ذكره السيوطي في التحبير.
(يا أبت) بكسر تاء التأنيث اللفظي التي هي عوض عن ياء المتكلم المحذوفة وأصله يا أبي وهذا التعويض مختص بلفظين يا أبت ويا أمت ولا يجوز في غيرهما من الأسماء وممن نص على كونها للتأنيث سيبويه والخليل ويدل عليه كتبهم إياها هاء وقياس من وقف بالتاء أن يكتبها تاء كبنت وأخت وجاز إلحاقها المذكر كما جاز حمامة ذكر وشاة ذكر ورجل ربعة وغلام يفعة
(إني رأيت) من الرؤيا النومية لا من الرؤية البصرية كما يدل عليه لا تقصص رؤياك على إخوتك قال ابن عباس: رؤيا الأنبياء حق وكانت هذه الرؤيا ليلة الجمعة وكانت ليلة القدر فرأى أن أحد عشر كوكباً نزلت من السماء ومعها الشمس والقمر فسجدوا له وكان يوسف إذ ذاك ابن اثنتي عشرة سنة وقيل سبع عشرة وقيل سبع سنين.
(أحد عشر كوكباً) وهي جريان والطارق والذيال وقابس وعمودان والفلق والمصبح والصروخ والفرع ووثاب وذو الكتفين قاله البيضاوي وهذه نجوم غير مرصودة خصت بالرؤيا لغيبتهم عنه قاله الشهاب وورد في حديث أسماؤها هكذا ساقه السيوطي في الدر المنثور وفيه الضعفاء والمتروكون وقال ابن(6/287)
الجوزي: هو موضوع، قال ابن عباس: أحد عشر كوكباً إخوته والشمس أمه والقمر أبوه وعن قتادة والسدي وابن زيد نحوه.
(والشمس والقمر) أخرهما عن الكواكب لإظهار مزيتهما وشرفهما كما في عطف جبريل وميكائيل على الملائكة وقيل أن الواو بمعنى مع (رأيتهم لي ساجدين) مستأنفة لبيان الحالة التي رآهم عليها كأن سائلاً سأل فقال كيف رأيتهم فأجاب بذلك.
وإنما أجريت مجرى العقلاء في الضمير المختص بهم لوصفها بوصف العقلاء وهو كونها ساجدة كذا قال الخليل وسيبويه والعرب تجمع ما لا يعقل جمع من يعقل إذا نزلوا منزلته وقيل كررت للتأكيد لما طال الفصل بالمفاعيل والأول أولى وإليه نحا الزمخشري لأنه متى دار الكلام بين الحمل على التأكيد والتأسيس فحمله على الثاني أولى، والمراد حقيقة السجود لأنه كان التحية فيما بينهم السجود، وقيل المراد بالسجود تواضعهم له ودخولهم تحت أمره والأول أولى.
ولم تظهر رؤية يوسف إلا بعد أربعين سنة وهو قول أكثر المفسرين وقال الحسن البصري: كان بينهما ثمانون سنة حين اجتمع عليه أبواه وإخوته وخروا له ساجدين.(6/288)
قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ (5)
(قال يا بني لا تقصص رؤياك على إخوتك) الرؤيا مصدر رأي في المنام رؤيا على وزن فعلى كالسقيا والبشرى وألفه للتأنيث ولذلك لم يصرف نهى يعقوب ابنه يوسف عن أن يقص رؤياه على أخوته لأنه قد علم تأويلها وخاف أن يقصها عليهم فيفهمون تأويلها ويحصل منهم الحسد له ولهذا قال.
(فيكيدوا لك كيداً) وهذا جواب النهي أي فيفعلوا لأجلك كيداً مثبتاً(6/288)
راسخاً لا تقدر على الخلوص منه أو كيداً خفياً عن فهمك وهذا المعنى الحاصل بزيادة اللام آكد من أن يقال فيكيدوا كيداً وقيل إنما جيء باللام لتضمنه معنى الاحتيال المتعدي باللام فيفيد هذا التضمن معنى الفعلين جميعاً الكيد والاحتيال كما هو القاعدة في التضمين أن يقدر أحدهما أصلاً والآخر حالاً.
(إن الشيطان للإنسان عدو مبين) مستأنفة كأن يوسف قال: كيف يقع ذلك منهم فنبه بأن الشيطان يحملهم على ذلك لأنه عدو للإنسان مظهر للعداوة مجاهر بها وقد وردت أحاديث صحيحة في بيان الرؤيا الصالحة وأنها من الله والسوء وأنها من الشيطان وفي أن رؤيا المؤمن جزء من أربعين جزءاً من النبوة وليس لها تعلق بهذه الآية بل هي تعم.(6/289)
وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (6) لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ (7)(6/290)
وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (6)
(وكذلك) أي ومثل ذلك الاجتباء البديع الذي رأيته في المنام وشاهدت آثاره في عالم المثال من سجود تلك الأجرام العلوية النيرة لك الدال على شرف وعز وكمال نفس وبحسبه وعلى وفقه (يجتبيك ربك) ويحقق فيك تأويل تلك الرؤيا فيجعلك نبياً ويصطفيك على سائر العباد ويسخرهم لك كما تسخرت لك تلك الأجرام التي رأيتها في منامك فصارت ساجدة لك.
قال النحاس: الاجتباء أصله من جبيت الشيء إذا حصلته لنفسك ومنه جبيت الماء في الحوض جمعته ومعنى الاجتباء الاصطفاء واجتباء الله العبد تخصيصه إياه بفيض إلهي تحصل منه أنواع المكرمات بلا سعي من العبد وذلك مختص بالأنبياء وببعض من يقاربهم من الصديقين والشهداء والصالحين وهذا يتضمن الثناء على يوسف وتعديد نعم الله عليه ومنها.
(ويعلمك من تأويل الأحاديث) أي تأويل الرؤيا قال مجاهد: عبارة الرؤيا، وقال ابن زيد: تأويل العلم والحلم وكان يوسف من أعبر الناس وسمى الرؤيا أحاديث لأنها أحاديث الملك إن كانت صادقة وأحاديث الشيطان إن كانت كاذبة، قال القرطبي: وأجمعوا أن ذلك في تأويل الرؤيا وقد كان يوسف أعلم الناس بتأويلها.
وقيل المراد تأويل أحاديث الأمم السالفة والكتب المنزلة قاله الزجاج وقيل المراد به إحواج أخوته إليه وقيل إنجاؤه من كل مكروه وقيل إنجاؤه من القتل خاصة والأحاديث جمع تكسير فقيل لواحد ملفوظ به وهو حديث ولكنه شذ جمعه(6/290)
على أحاديث وله نظائر في الشذوذ كأباطيل وأفاظيع وأعاريض في باطل وفظيع وعريض وزعم أبو زيد أن لها واحداً مقدراً وهو أحدوثة ونحوه وليس باسم جمع لأن هذه الصيغة مختصة بالتكسير وإذا كانوا قد التزموا ذلك فيما لو يصرح له بمفرد من لفظه نحو عباديد وشماطيط وأبابيل، ففي أحاديث أولى قاله السمين.
(ويتم نعمته عليك) فيجمع لك بين النبوة والملك كما تدل عليه هذه الرؤيا التي أراك الله أو يجمع لك بين خيري الدنيا والآخرة (وعلى آل يعقوب) وهم قرابته من إخوته وأولاده ومن بعدهم وذلك أن الله سبحانه أعطاهم النبوة كما قاله جماعة من المفسرين ولا يبعد أن يكون إشارة إلى ما حصل لهم بعد دخولهم مصر من النعم التي من جملتها كون الملك فيهم مع كونهم أنبياء وبه قال أكثر المفسرين.
(كما أتمها على أبويك) أي إتماما مثل إتمامها عليهما وهي نعمة النبوة عليهما مع كون إبراهيم اتخذه الله خليلاً ومع كون اسحق نجاه الله سبحانه من الذبح قاله عكرمة وصار لهما الذرية الطيبة وهم يعقوب ويوسف وسائر الأسباط (من قبل) أي من قبل هذا الوقت الذي أنت فيه أو من قبلك (إبراهيم وإسحاق) عطف بيان لأبويك أو بدل منه أو على إضمار أعني وعبر عنهما بالأبوين مع كونهما أبا جده وأبا أبيه للإشعار بكمال ارتباطه بالأنبياء الكرام (إن ربك عليم) بمصالح خلقه (حكيم) في أفعاله والجملة مستأتفة مقررة لمضمون ما قبلها تعليلاً له أي فعل ذلك لأنه عليم حكيم إشارة إلى قوله تعالى الله أعلم حيث يجعل رسالته وأنه لا يضع النبوة إلا في نفس قدسية.
وكان هذا الكلام من يعقوب مع ولده يوسف تعبيراً لرؤياه على طريق الإجمال أو علم ذلك من طريق الوحي، أو عرفه بطريق الفراسة وما تقتضيه المخايل اليوسفية.(6/291)
لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ (7)
(لقد كان في يوسف وإخوته آيات للسائلين) أي لقد كان في قصتهم(6/291)
علامات دالة على عظيم قدرة الله وبديع صنعه للسائلين من الناس عنها وغيرهم ففيه اكتفاء، وقرأ أهل مكة أية على التوحيد، قال النحاس: وآية هاهنا قراءة حسنة، وقيل المعنى لقد كان في يوسف وأخوته آيات دالة على نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - للسائلين له من اليهود فإنه روي أنه قال جماعة منهم وهو بمكة أخبرنا عن رجل من الأنبياء كان بالشام أخرج ابنه إلى مصر فبكى عليه حتى عمي، ولم يكن بمكة أحد من أهل الكتاب ولا من يعرف خبر الأنبياء، وإنما وجهوا إليه من أهل المدينة من يسأله عن هذا فأنزل الله سورة يوسف جملة واحدة كما في التوراة.
وقيل معنى آيات للسائلين عجب لهم، وقيل بصيرة وقيل عبرة للمعتبرين، فإن هذه القصة تشتمل على أنواع من العبر والمواعظ والحكم منها رؤيا يوسف وما حقق الله فيها، ومنها حسد أخوته له وما آل إليه أمرهم، ومنها صبر يوسف على ما فعلوا به وما آل إليه أمره من الملك، ومنها حزن يعقوب وصبره على فقد ولده وما آل إليه أمره من بلوغ المراد وغير ذلك من الآيات.
قال القرطبي: وأسماؤهم يعني أخوة يوسف وهم أحد عشر: روبيل وهو أكبرهم وشمعون ولاوي ويهوذا وزبولون ويشجر وأمهم ليا بنت ليان وهي بنت خال يعقوب وولد له من سريتين زلفة وبلهة أربعة وهم دان وتفتونا وجاد وأوشير، ثم ماتت ليا فتزوج يعقوب أختها راحيل فولدت له يوسف وبنيامين، فهؤلاء بنو يعقوب وهم الأسباط وعددهم اثنا عشر نفراً ...
وقال السهيلي: أن أم يوسف اسمها وفقا وراحيل ماتت من نفاس بنيامين وهو أكبر من يوسف وعن قتادة في الآية يقول: من سأل عن ذلك فهو هكذا ما قص الله عليكم وأنبأكم به وعن الضحاك نحوه وعن ابن إسحاق قال: إنما قص الله على محمد صلى الله عليه وآله وسلم خبر يوسف وبغي أخوته عليه وحسدهم إياه حين ذكر رؤياه لما رأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من بغي قومه عليه وحسدهم إياه حين أكرمه الله بنبوته ليأتسي به.(6/292)
إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (8)
إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (8)
(إذ) أي وقت أن (قالوا ليوسف وأخوه) هو بنيامين بكسر الباء وصحح بعضهم فتحها ففيه الوجهان وهو أصغر من يوسف وخصوه بكونه أخاه مع أنهم جميعاً أخوته لأنه أخوه لأبويه كما تقدم واللام لام القسم أي والله ليوسف ووجد الخبر فقال (أحب إلى أبينا منا) مع تعدد المبتدأ لأن أفعل التفضيل يستوي فيه الواحد وما فوقه إذا لم يعرف وهو مبني من حب المبني للمفعول وهو شاذ قياساً فصيح استعمالاً لوروده في أفصح الفصيح وإذا بنيت أفعل التفضيل من مادة الحب والبغض تعدى إلى الفاعل المعنوي بإلى وإلى المفعول المعنوي باللام أو بفي وعلى هذا جاءت الآية الكريمة.
وإنما قالوا هذا لأنه بلغهم خبر الرؤيا فأجمع رأيهم على كيده.
(ونحن عصبة) الواو للحال والعصبة الجماعة قيل وهي ما بين الواحد إلى العشرة وقيل ما بين الثلاثة إلى العشرة وقيل هي العشرة فما زاد وقيل من العشرة إلى خمسة عشر وقيل ستة وقيل تسعة وقيل من العشرة إلى الأربعين قاله قتادة. والمادة تدل على الإحاطة من العصابة لإحاطتها بالرأس وقيل الأصل فيه إن كل جماعة يتعصب بعضهم لبعض يسمون عصبة والعصبة لا واحد لها من لفظها بل هي كالنفر والرهط وقد كانوا عشرة.
(إن أبانا لفي ضلال مبين) أي لفي ذهاب عن وجه التدبير بالترجيح لهما علينا وإيثارهما دوننا مع استوائنا في الإنتساب إليه ولا يصح أن يكون مرادهم أنه في دينه في ضلال إذ لو أرادوا ذلك لكفروا به قال ابن زيد: أي لفي خطأ من رأيه.(6/293)
اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ (9) قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (10) قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ (11)(6/294)
اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ (9)
(اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضاً) أي في أرض وإليه ذهب الحوفي وابن عطية وقال الزمخشري: أي أرضاً منكورة مجهولة بعيدة من العمران وهو معنى تنكيرها وإخلائها من الناس ولأنها من هذا الوجه نصبت نصب الظروف المبهمة وقيل أنها مفعول ثان والمعنى أنزلوه أرضاً والطرح الرمي ويعبر به عن الاقتحام في المخاوف يعني قالوا: افعلوا به أحد الأمرين إما القتل أو الطرح في أرض أو المشير بالقتل بعضهم، والمشير بالطرح البعض الآخر أو كان المتكلم بذلك واحداً منهم فوافقه الباقون، فكانوا كالقاتل في نسبة هذا المقول إليهم وجواب الأمر.
(يخل لكم وجه أبيكم) أي يصف ويخلص فيقبل عليكم ويحبكم حباً كاملاً لأن الرجل إذا أقبل على الشيء أقبل بوجهه (وتكونوا من بعده) أي بعد يوسف والمراد بعد الفراغ من قتله أو طرحه وقيل من بعد الذنب الذي اقترفتموه في يوسف (قوماً صالحين) في أمور دينكم وطاعة أبيكم أو صالحين في أمور دنياكم بذهاب ما كان يشغلكم عن ذلك وهو الحسد ليوسف وتكدر خواطركم بتأثيره عليكم هو وأخوه، أو صالحين مع أبيكم بعذر تمهدونه أو المراد بالصالحين التائبون من الذنب في المستقبل.(6/294)
قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (10)
(قال قائل منهم) أي من الإخوة قيل هو يهوذا وقيل روبيل وقيل شمعون والأول أولى قيل وجه الإظهار في (لا تقتلوا يوسف) استجلاب شفقتهم عليه فلم ير هذا القائل القتل ولا طرحه في أرض خالية قفراء بل قال (وألقوه في(6/294)
غيابة الجب) أي في بئر يشرب منها الماء فإنه أقرب لخلاصه، فمحصل ذلك أنه أختار خصلة ثالثة هي أرفق بيوسف من تينك الخصلتين.
قرأ جماعة غيابة بالإفراد وغيرهم بالجمع، وأنكر أبو عبيد الجمع لأن الموضع الذي ألقوه فيه واحد، قال النحاس: وهذا تضييق في اللغة والجمع يجوز والغيابة كل شيء غيب عنك شيئاً وقيل للقبر غيابة والمراد بها هنا غور البئر الذي لا يقع عليه البصر أو طاقة فيه.
قال الهروي: الغيابة سد أو طاق في البئر قريب الماء يغيب ما فيه من العيون وقال الكلبي: الغيابة تكون في قعر الجب لأن أسفله واسع ورأسه ضيق فلا يكاد الناظر يرى ما في جوانبه وقال الزمخشري: هي غورة وما غاب منه من عين الناظر وأظلم من أسفله والمعاني متقاربة والجب البئر التي لم تطو ويقال لها قبل الطي ركية فإذا طويت قيل لها بئر وسميت جباً لأنها قطعت في الأرض قطعاً أو لكونه محفوراً في جبوب الأرض أي ما غلظ منها.
وجمع الجب جبب وجباب وأجباب وجمع بين الغيابة والجب مبالغة في أن يلقوه في مكان أسفل من الجب شديد الظلمة حتى لا يدركه نظر الناظرين قيل وهذه البئر ببيت المقدس قاله قتادة وقيل ببعض نواحي إيلياء، وقيل بالأردن، قاله وهب وقيل بالشام، وعن ابن زيد قال: بحذاء طبرية بينه وبينها أميال وقال مقاتل: هو على ثلاثة فراسخ من منزل يعقوب، وجواب الأمر.
(يلتقطه بعض السيارة) قرئ بالتحيتة والفوقية ووجهه أن بعض السيارة سيارة وهي الجمع الذي يسير في الطريق جمع سيار أي المبالغ في السير والالتقاط هو أخذ شيء مشرف على الضياع من الطريق أهـ من حيث لا يحتسب ومنه اللقطة كأنهم أرادوا أن بعض السيارة إذا التقطه حمله إلى مكان بعيد بحيث يخفى عن أبيه ومن يعرفه ولا يحتاجون إلى الحركة بأنفسهم إلى المكان البعيد فربما أن(6/295)
والدهم لا يأذن لهم بذلك وكان هذا الجب معروفاً يرد عليه كثير من المسافرين.
(إن كنتم فاعلين) أي عاملين بما أشرت به عليكم في أمره كأنه لم يجزم بالأمر بل وكله إلى ما يجمعون عليه كما يفعله المشير مع من استشاره، وفي هذا دليل على أن إخوة يوسف ما كانوا أنبياء فإن الأنبياء لا يجوز عليهم التواطؤ على القتل لمسلم ظلماً وبغياً، وقيل كانوا أنبياء وكان ذلك منهم زلة قدم أوقعهم فيها التهاب نار الحسد في صدورهم واضطرام جمرات الغيظ في قلوبهم.
ورد بأن الأنبياء معصومون عن مثل هذه المعصية الكبيرة المتبالغة في الكبر مع ما في ذلك من قطع الرحم وعقوق الوالد وافتراء الكذب، وقلة الرأفة بالصغيرَ الذي لا ذنب له والغدر بالأمانة وترك العهد، وقيل عزموا على قتله وعصمهم الله رحمة بهم، ولو فعلوا ذلك لهلكوا جميعاً، وقيل أنهم لم يكونوا في ذلك الوقت أنبياء بل صاروا أنبياء من بعد وكان كل ذلك قبل أن ينهاهم الله.
ولما أجمع رأيهم على أن يلقوه في غيابات الجب جاءوا إلى أبيهم وخاطبوه بلفظ الأبوة استعطافاً له وتحريكاً للحنو الذي جبلت عليه طبائع الآباء للأبناء وتوسلاً بذلك إلى تمام ما يريدونه من الكيد الذي دبروه واستفهموه استفهام المنكر لأمر ينبغي أن يكون الواقع على خلافه.(6/296)
قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ (11)
(قالوا يا أبانا ما لك لا تأمنا على يوسف) أي أي شيء لك لا تجعلنا أمناء عليه وكأنهم قد كانوا سألوه قبل ذلك أن يخرج معهم يوسف، فأبى قرئ تأمناً بالإظهار وبالإدغام من غير إشمام واتفق الجمهور على الإخفاء أو الإشمام (وإنا له لناصحون) في حفظه وحيطته عاطفون عليه قائمون بمصلحته حتى نرده إليك.(6/296)
أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (12) قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ (13) قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ (14)(6/297)
أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (12)
(أرسله معنا غداً) أي في غد إلى الصحراء التي أرادوا الخروج إليها وغداً ظرف والأصل عند سيبويه غدوة وقال النضر بن شميل ما بين الفجر وطلوع الشمس يقال له غدوة وكذا يقال له بكرة والغد اليوم الذي بعد يومك الذي أنت فيه (يرتع) هذا جواب الأمر، قرئ بالنون وإسكان العين وبها وكسر العين إسناداً للكل والأولى مأخوذ من قول العرب رتع الإنسان أو البعير إذا أكل كيف شاء.
والمعنى يتسع في الخصب، وكل مخصب راتع والرتع التمتع في أكل الفواكه ونحوها والثانية مأخوذة من رعي الغنم وقرئ بالتحتية فيهما ورفع يلعب على الاستئناف والضمير ليوسف وقال القتيبي: معنى نرتع نتحارس ونتحافظ ويرعى بعضنا بعضاً من قولهم رعاك الله أي حفظك.
(ويلعب) من اللعب قيل لأبي عمرو بن العلاء: كيف قالوا نلعب وهم أنبياء فقال: لم يكونوا يومئذ أنبياء وقيل المراد به اللعب المباح وهو مجرد الانبساط لانشراح الصدر وقيل هو اللعب الذي يتعلمون به الحرب ويتقوون به عليه، وكان اللعب بالاستباق والانتضال تجرينا لقتال الأعداء كما في قولهم إنا ذهبنا نستبق لا اللعب المحظور الذي هو ضد الحق، وسماه لعباً لشبهه به، ولذلك لم ينكر عليهم يعقوب لما قالوا ونلعب، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم لجابر: " فهلا بكراً تلاعبها وتلاعبك ". (1) وقال ابن عباس: نرتع ونلعب نسعى وننشط ونلهو (و) الحال (إنا له لحافظون) من أن يناله مكروه.
_________
(1) مسلم 715 - البخاري 292.(6/297)
قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ (13)
(قال) أي فأجابهم يعقوب بقوله (إني ليحزنني أن تذهبوا به) أي ذهابكم به واللام لام الابتداء للتأكيد ولتخصيص المضارع بالحال أخبرهم بأنه يحزن لغيبة يوسف عنه لفرط محبته له وحنوه عليه والحزن هنا الم القلب بفراق المحبوب (و) مع ذلك (أخاف أن يأكله الذئب) قال هذا يعقوب تخوفاً عليه منهم فكنى عن ذلك بالذئب وقيل إنه خاف أن يأكله الذئب حقيقة لأن ذلك المكان كان كثير الذئاب. ولو خاف منهم أن يقتلوه لأرسل معهم من يحفظه.
قال ثعلب: الذئب مأخوذ من تذأبت الريح إذا هاجت من كل وجه، قال: والذئب مهموز لأنه يجئ من كل وجه (وأنتم عنه غافلون) لاشتغالكم بالرتع واللعب أو لكونكم غير مهتمين بحفظه.
أخرج أبو الشيخ وابن مردويه والسلفي عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " لا تلقنوا الناس فيكذبون فإن بني يعقوب لم يعلموا أن الذئب يأكل الناس، فلما لقنهم أبوهم كذبوا فقالوا أكله الذئب ".(6/298)
قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ (14)
(قالوا) جواباً عن عذره الثاني وهو قوله أخاف أن يأكله الذئب، وأما عذره الأول وهو قوله إني ليحزنني فلم يجيبوا عنه إما لكون الحزن زمنه قصيراً لانقضائه برجوعهم، وإما لأنه ليس غرضهم إزالة الحزن عنه بل إيقاعه فيه والثاني هو المتعين (لئن أكله الذئب) اللام هي الموطئة للقسم والمعنى والله لئن أكله الذئب (و) الحال إنا (نحن عصبة) جماعة كثيرة عشرة رجال.
(إنا إذاً) أي في ذلك الوقت وهو أكل الذئب له (لخاسرون) لهالكون ضعفاً وعجزا أو مستحقون للهلاك لعدم الاعتداد بنا وانتفاء القدرة عن أيسر شيء وأقله أو مستحقون لأن يدعى علينا بالخسار والدمار، وقيل معناه لجاهلون حقه وهذه الجملة جواب القسم المقدر في الجملة التي قبلها.(6/298)
فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (15) وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ (16) قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ (17)(6/299)
فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (15)
(فلما ذهبوا به) من عند يعقوب (وأجمعوا) أمرهم أي عزموا لأن أصل معنى الإجماع العزم المصمم (أن يجعلوه في غيابة الجب) قد تقدم تفسيرهما قريباً وجواب لما محذوف لظهوره ودلالة المقام عليه أي فعلوا به ما فعلوا من الأذى وقيل جوابه (قالوا يا أبانا إنا ذهبنا نستبق) وقيل الجواب المقدر جعلوه فيها وقيل الجواب أوحينا والواو مقحمة ومثله قوله تعالى (فلما أسلما وتله للجبين وناديناه) أي ناديناه، قال ابن عباس: كان يوسف في الجب ثلاثة أيام.
(وأوحينا إليه) أي إلى يوسف تبشيراً له وتأنيساً لوحشته مع كونه صغيراً اجتمع على إنزال الضرر به عشرة رجال من إخوته بقلوب غليظة قد نزعت عنها الرحمة، وسلبت منها الرأفة فإن الطبع البشري دع عنك الدين يتجاوز عن ذنب الصغير ويغتفره لضعفه عن الدفع وعجزه عن أيسر شيء يراد منه، فكيف بصغير لا ذنب له بل كيف بصغير هو أخ وله ولهم أب مثل يعقوب.
فلقد أبعد من قال إنهم كانوا أنبياء في ذلك الوقت، فما هكذا عمل الأنبياء ولا فعل الصالحين، وفي هذا دليل على أنه يجوز أن يوحي الله إلى من كان صغيراً ويعطيه النبوة حينئذ كما وقع في عيسى ويحيي بن زكريا وقيل معنى الوحي هنا الإلهام كقوله تعالى (وأوحى ربك إلى النحل) (وأوحينا إلى أم موسى) والأول أولى، وقد قيل أنه كان في ذلك الوقت قد بلغ مبلغ الرجال وهو بعيد جداً، فإن من كان قد بلغ مبلغهم لا يخاف عليه أن يأكله الذئب.
(لتنبئنهم) أي لتخبرن أخوتك (بأمرهم هذا) الذي فعلوه معك بعد(6/299)
خلوصك مما أرادوه بك من الكيد وأنزلوه عليك من الضرر (و) الحال أن (هم لا يشعرون) بأنك أخوهم يوسف لاعتقادهم هلاكك بإلقائهم لك في غيابة الجب ولبعد عهدهم بك ولكونك قد صرت عند ذلك في حال غير ما كنت عليه وخلاف ما عهدوه منك وسيأتي ما قاله لهم عند دخولهم عليه بعد أن صار إليه ملك مصر.
وقال مجاهد: وهم لا يشعرون بذلك الوحي، وقال قتادة فهون ذلك الوحي عليه ما صنع به وعن ابن عباس قال: وهم لم يعملوا بوحي الله إليه.(6/300)
وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ (16)
(وجاءوا أباهم عشاء يبكون) وهو آخر النهار وقيل في الليل ليكونوا في الظلمة أجرأ على الاعتذار بالكذب أي جاءوا باكين أو متباكين لأنهم لم يبكوا حقيقة، بل فعلوا فعل من يبكي ترويجاً لكذبهم وتنفيقاً لمكرهم وغدرهم فلما وصلوا إلى أبيهم(6/300)
قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ (17)
(قالوا يا أبانا إنا ذهبنا نستبق) أي نتسابق في العدو أو في الرمي، وقيل ننتضل بالسهام، ويؤيده قراءة ابن مسعود ننتضل، قال الزجاج: وهو نوع من المسابقة، وقال الأزهري: النضال في السهام والرهان في الخيل والمسابقة تجمعهما.
قال القشيري: نستبق أي في الرمي أو على الفرس أو على الأقدام والغرض من المسابقة التدرب بذلك في القتال، وقال السدي: يعني نشتد ونعدو وقال مقاتل: نتصيد أي نستبق إلى الصيد (وتركنا يوسف عند متاعنا) أي ثيابنا ليحرسها (فأكله الذئب) الفاء للتعقيب أي أكله عقب ذلك وقد اعتذروا إليه بما خافه سابقاً عليه ورب كلمة تقول لصاحبها دعني.
(وما أنت بمؤمن) أي بمصدق (لنا) في هذا العذر الذي أبدينا والكلمة التي قلناها، وفي هذا الكلام منهم فتح باب اتهامهم كما لا يخفى على صاحب الذوق (ولو كنا) عندك أو في الواقع (صادقين) لما قد علق بقلبك من التهمة لنا في ذلك مع شدة محبتك له، قال الزجاج: والمعنى ولو كنا عندك من أهل الثقة والصدق ما صدقتنا في هذه القصة لشدة محبتك ليوسف وكذا ذكره ابن جرير وغيره.(6/300)
وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (18) وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلَامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (19)(6/301)
وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (18)
(وجاءوا على) فوق (قميصه بدم كذب) وصف الدم بأنه كذب مبالغة كما هو المعروف في وصف اسم العين باسم المعنى فكأنه نفسه صار كذباً أو قيل المعنى بدم ذي كذب أو بدم مكذوب فيه، قال ابن عباس ومجاهد: كان دم سخلة، وقرأ الحسن وعائشة: بدم كدب بالدال المهملة أي بدم طرى يقال للدم الطري كدب، وقال الشعبي: أنه المتغير والكذب أيضاً البياض الذي يخرج في اظفار الأحداث فيجوز أن يكون شبه الدم في القميص بالبياض الذي يخرج في الظفر من جهة اللونين.
وقد استدل يعقوب على كذبهم بصحة القميص وقال لهم متى كان هذا الذئب حكيماً يأكل يوسف ولا يخرق القميص.
ثم ذكر الله سبحانه ما أجاب به يعقوب عليه السلام فقال (قال بل سولت) أي زينت وسهلت وأمرت (لكم أنفسكم أمراً) قال النيسابوري: التسويل تقرير معنى في النفس مع الطمع في اتمامه وهو تفعيل من السول وهو الأمنية قال الأزهري: وأصله مهموز غير أن العرب استثقلوا فيه الهمزة وفي الشهاب من السول بفتحتين وهو استرخاء العصب ونحوه فكأن المسول بذله فيما حرص عليه.
(فصبر جميل) قال الزجاج: أي فشأني أو الذي اعتقده صبر جميل وقال قطرب: أي فصبري صبر جميل وقيل فصبر جميل أولى بي قيل الصبر الجميل هو الذي لا شكوى فيه لأحد غير الله وعنه - صلى الله عليه وسلم - قال: " لا شكوى فيه من بث لم يصبر " أخرجه ابن جرير وهو مرسل وقال مجاهد: ليس فيه جزع وقرئ فصبراً جميلاً وكذا في(6/301)
مصحف أنس. قال المبرد: بالرفع أولى من النصب لأن المعنى رب عندي صبر جميل وإنما النصب على المصدر أي فلأصبرن صبراً جميلاً.
(والله المستعان) أي المطلوب منه العون والجملة إنشائية دعائية لا إخبار منه (على) أي على إظهار حال أو احتمال (ما تصفون) أي تذكرون من أمر يوسف عليه السلام، وقال قتادة على ما تكذبون.(6/302)
وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلَامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (19)
(وجاءت سيارة فأرسلوا) ذكر على المعنى مكان أرسلت (واردهم) هذا شروع في حكاية خلاص يوسف وما كان بعد ذلك من خبره، وقد تقدم تفسير السيارة أي جماعة مسافرون سموا سيارة لسيرهم في الأرض، والمراد بها هنا رفقة مارة تسير من الشام أو من مدين إلى مصر فأخطأوا الطريق وهاموا حتى نزلوا قريباً من الجب، وكان في قفرة بعيدة من العمران ترده المارة والرعاة وكان ماؤه ملحاً والوارد الذي يرد الماء ليستقي للقوم وكان اسمه فيما ذكر المفسرون مالك ابن ذعر الخزاعي من العرب العاربة.
(فأدلى دلوه) يقال أدلى دلوه إذا أرسلها ليملأها ودلاها إذا أخرجها قال الأصمعي والدلو مؤنث وقد يذكر والدالو الذي يستقى بها فتعلق يوسف بالحبل فلما خرج الدلو من البئر أبصره الوارد (قال يا بشرى) ومعنى مناداته للبشرى أنه أراد حضورها في ذلك الوقت فكأنه. قال هذا وقت مجيئك وأوان حضورك.
وقيل أنه نادى رجلاً اسمه بشرى وهذا على ما فيه من البعد لا يتم إلا على قراءة من قرأ يا بشرى وقد قرئ يا بشراي وعليه أهل المدينة وأهل البصرة وأهل الشام قرأوا بإضافة البشرى إلى الضمير فالأول أولى، قال النحاس: والمعنى من نداء البشرى التبشير لمن حضر وهو أوكد من قولك بشرته كما تقول يا عجباً أي يا عجب هذا من أيامك فاحضر قال: وهذا مذهب سيبويه.
(هذا غلام) وكان يوسف أحسن ما يكون من الغلمان، وقد أعطى شطر الحسن وقيل ورثه من جدته سارة وكانت قد أعطيت سدس الحسن، فكان حسن الوجه جعد الشعر ضخم العينين مستوي الخلق أبيض اللون غليظ الساعدين والعضدين والساقين خميص البطن صغير السرة وكان إذا تبسم ظهر النور من(6/302)
ضواحكه وإذا تكلم ظهر من ثناياه ولا يستطيع أحد وصفه.
قال الضحاك: فاستبشروا بأنهم أصابوا غلاماً لا يعلمون علمه ولا منزلته من ربه وقال قتادة: تباشروا به حين استخرجوه من البئر وهي ببيت المقدس معلوم مكانها.
(وأسروه) أي أسر الوارد وأصحابه الذين كانوا معه يوسف عن بقية الرفقة فلم يظهروه لهم وقيل أنهم لم يخفوه ولكن أخفوا وجدانهم له في الجب وزعموا أنه دفعه إليهم أهل الماء ليبيعوه لهم بمصر. وقال مجاهد: أسره التجار بعضهم من بعض وقيل ضمير الفاعل في أسروه لإخوة يوسف وضمير المفعول ليوسف وذلك أنه كان يأتيه أخوه يهوذا كل يوم بطعام فأتاه يوم خروجه من البئر فلم يجده فأخبر إخوته فأتوا الرفقة وقالوا هذا غلام أبق منا فاشتروه منهم وسكت يوسف مخافة أن يأخذوه فيقتلوه.
وعن ابن عباس: يعني إخوة يوسف أسروا شأنه وكتموا أن يكون أخاهم وكتم يوسف شأنه مخافة أن يقتله إخوته، واختار البيع فباعه إخوته بثمن بخس والأول أولى.
(بضاعة) أي أخفوه حال كونه بضاعة أي متاعاً للتجارة والبضاعة ما يبضع من المال أي يقطع منه لأنها قطعة من المال الذي يتجر به قيل قاله لهم الوارد وأصحابه أنه بضاعة استبضعناها من الشام مخافة أن يشاركوهم فيه.
(والله عليم بما يعملون) أي بما يترتب على عملهم القبيح بحسب الظاهر من الأسرار والفوائد المنطوية تحت باطنه، فإن هذا البلاء الذي فعلوه به كان سبباً لوصوله إلى مصر، وتنقله في أطوار حتى صار ملكها، فرحم الله به العباد والبلاد خصوصاً في سني القحط الذي وقع بها كما سيأتي، قيل وفيه وعيد شديد لمن كان فعله سبباً لما وقع فيه يوسف من المحن وما صار فيه من الابتذال يجري البيع والشراء فيه وهو الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم كما قال نبينا صلّى الله عليه وسلم في وصفه بذلك.(6/303)
وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ (20)
وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ (20)
(وشروه) يقال شراه بمعنى اشتراه وشراه بمعنى باعه والمراد هنا الثاني أي باعه الوارد وأصحابه أو اشتراه السيارة من إخوته (بثمن بخس) ناقص أو زيف وقيل ظلم وقيل حرام لأن ثمن الحر حرام والحرام يسمى بخساً لأنه مبخوس البركة أي منقوصها فلم يحل لهم بيعه ولا أكل ثمنه قاله ابن عباس وقيل قليل (دراهم) بدل من ثمن أي لا دنانير (معدودة) قيل باعوه بعشرين درهماً، وقيل بأربعين درهماً وفيه إشارة إلى أنها قليلة تعد ولا توزن لأنهم كانوا لا يزنون ما دون أوقية وهي أربعون درهماً.
أخرج الطبراني والحاكم وصححه عن ابن مسعود قال: إنما اشتري يوسف بعشرين درهماً وكان أهله حين أرسل إليهم بمصر ثلثمائة وتسعين إنساناً رجالهم أنبياء ونساؤهم صديقات والله ما خرجوا مع موسى حتى كانوا ستمائة ألف وسبعين ألفاً (1). وقد روي في مقدار ثمن يوسف غير هذا المقدار مما لا حاجة إلى التطويل بذكره.
(وكانوا) الضمير يرجع إلى ما قبله على حسب اختلاف الأقوال (فيه) أي في يوسف (من الزاهدين) أصل الزهد قلة الرغبة يقال زهدت وزهدت بفتح الهاء وكسرها، قال سيبويه والكسائي: قال أهل اللغة: زهد فيه أي رغب عنه وزهد عنه أي رغب فيه، والمعنى أنهم كانوا فيه من الراغبين عنه الذين لا يبالون به فلذلك باعوه بذلك الثمن البخس لأن غرضهم إبعاده عنهم لا تحصيل ثمنه، وقيل ذلك لأنهم التقطوه والملتقط للشيء متهاون به، ولما دخلوا مصر وعرضوه للبيع ترافع الناس في ثمنه.
_________
(1) رواه مسلم في كتاب الإيمان باب الإسراء وفرض الصلوات رقم 162 من حديث طويل فيه: " فإذا أنا بيوسف (ص) إذا هو قد أعطى شطر الحسن. وأخرجه الإمام أحمد 3/ 148، 286 ".(6/304)
وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (21)
وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (21)
(وقال الذي اشتراه من مصر) هو العزيز الذي كان على خزائن مصر وكان وزيراً لملك مصر وهو الريان بن الوليد من العمالقة وقيل أن الملك هو فرعون موسى، وقال ابن عباس: كان اسم المشتري قطفير وعن محمد بن إسحاق أطفير بن روحب وكان اسم امرأته راعيل بنت رعابيل، واسم الذي باعه من العزيز مالك بن ذعر قيل اشتراه بعشرين ديناراً، وقيل تزايدوا في ثمنه فبلغ أضعاف وزنه مسكاً وعنبراً وحريراً وورقاً وذهباً ولآلئ وجواهر. وكان وزنه أربعمائة رطل.
روي أنه اشتراه العزيز وهو ابن سبع عشرة سنة ولبث في منزله ثلاث عشرة سنة واستوزره الريان وهو ابن ثلاثين سنة وآتاه الله الحكمة والعلم وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة، وتوفي وهو ابن مائة وعشرين سنة.
فلما اشتراه العزيز قال (لامرأته) عن شعيب الجبائي أن اسم امرأة العزيز زليخا بفتح الزاي وكسر اللام والمد كما في القاموس أو بضم الزاء وفتح اللام على هيئة المصغر كما قال الشهاب وقيل اسمها راعيل بوزن هابيل وقيل أحدهما لقبها والآخر اسمها (أكرمي مثواه) أي منزله الذي يثوي فيه بالطعام الطيب واللباس الحسن يعني أحسني تعهده حتى تكون نفسه طيبة في صحبتنا وساكنة في كنفنا، ويقال للرجل كيف أبو مثواك وأم مثواك لمن ينزل به من رجل أو امرأة يراد هل تطيب نفسه بثوائك عنده وهل يراعي حق نزولك.
وقال ابن عباس وقتادة: أكرمي منزلته والمثوى محل الثوى وهو الإقامة(6/305)
وإكرام مثواه كناية عن إكرامه على أبلغ وجه وأتمه لأن من أكرم المحل بإحسان الأسرة واتخاذ الفراش ونحوه فقد أكرم ضيفه بسائر ما يكرم به أو المقام مقحم كما يقال المجلس العالي والمقام السامي ومنه قول آزاد:
قلبي الذي يهواك طال نواه ... آت إليك فأكرمي مثواه وعن ابن مسعود قال: أفرس الناس ثلاثة العزيز حين تفرس في يوسف فقال لامرأته (أكرمي مثواه) الآية والمرأة التي أتت موسى فقالت لأبيها (يا أبت استأجره) وأبو بكر رضي الله تعالى عنه حين استخلف عمر.
(عسى أن ينفعنا) أي يكفينا بعض المهمات مما نحتاج فيه إلى مثله أو إن أردنا بيعه بعناه بربح (أو نتخذه ولداً) أي نتبناه فنجعله ولداً لنا قيل كان العزيز حصوراً لا يأتي النساء أو كان عقيماً لا يولد له كما جرى عليه القاضي والأصفهاني تبعاً للكشاف وقد كان تفرس فيه أنه ينوب عنه فيما إليه من أمر المملكة.
(وكذلك) إشارة إلى ما تقدم من إنجائه من إخوته وإخراجه من الجب وعطف قلب العزيز عليه أي مثل ذلك التمكين البديع (مكنا ليوسف) يقال مكنه فيه أي أثبته فيه ومكن له فيه أي جعل له فيه مكاناً ولتقارب المعنيين يستعمل كل واحد منهما مكان الآخر يعني أعطيناه مكانة ورتبة عالية (في الأرض) أي في أرض مصر حتى صار متمكناً من الأمر والنهي وبلغ ما بلغ من السلطنة.
(ولنعلمه) هو علة معلل محذوف كأنه قيل فعلنا ذلك التمكين لنعلمه؛ أو كان ذلك الإنجاء لهذه العلة أو معطوف على مقدر وهو أن يقال مكنا ليوسف ليترتب على ذلك ما يترتب مما جرى بينه وبين امرأة العزيز ولنعلمه (من تأويل(6/306)
الأحاديث) أي عبارة الرؤيا وتفسيرها قاله مجاهد والتأويل قيل فهم أسرار الكتب الإلهية وسنن من قبله من الأنبياء ولا مانع من حمل ذلك على الجميع.
(والله غالب على أمره) أي على أمر نفسه لا يمتنع منه شيء ولا يغالبه عليه غيره من مخلوقاته إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون يحكم ما يشاء ويفعل ما يريد لا دافع لأمره ولا راد لقضائه ومن جملة ما يدخل تحت هذا العام كما يفيد ذلك إضافة اسم الجنس إلى الضمير ما يتعلق بيوسف من الأمور التي أرادها الله سبحانه في شأنه وقيل المعنى إنه كان من أمر يعقوب أن لا يقص رؤياه على إخوته فغلب أمر الله سبحانه حتى قصت عليهم حتى وقع منهم ما وقع وهذا بعيد جداً.
(ولكن أكثر الناس لا يعلمون) أي لا يطلعون على غيب الله وما في طيه من الأسرار العظيمة والحكم النافعة وقيل المراد بالأكثر الجميع لأنه لا يعلم الغيب إلا الله وقيل أن الله سبحانه قد يطلع بعض عبيده على بعض غيبه كما في قوله (فلا يظهر على غيبه أحداً إلا من ارتضى من رسول) وقيل المعنى لا يعلمون أن الله غالب على أمره وهم المشركون ومن لا يؤمن بالقدر وقيل ما هو صانع بيوسف وما يريد منه.(6/307)
وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (22) وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23)(6/308)
وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (22)
(ولما بلغ أشده) قال سيبويه: الأشد جمع واحده شدة نحو نعمة وأنعم وقال الكسائي: واحده شد بزنة قفل وقال أبو عبيد: أنه جمع لا واحد له من لفظه عند العرب وخالفه الناس في ذلك وهو من الشد وهو الربط على الشيء والعقد عليه والأشد هو وقت استكمال القوة ثم يكون بعده النقصان قيل هو ثلاث وثلاثون سنة قاله ابن عباس وقيل ثماني عشرة سنة قاله سعيد بن جبير وقيل خمس وعشرون سنة قاله عكرمة وقيل أربعون سنة قاله الحسن وقيل ثلاثون سنة قاله السدي وقيل بلوغ الحلم وبه قال ربيعة والشعبي وقيل عشرون سنة قاله الضحاك وقيل غير ذلك مما قد قدمنا في النساء والأنعام.
قال الراغب: وفيه تنبيه على أن الإنسان إذا بلغ هذا القدر يتقوى خلقه الذي هو عليه فلا يكاد يزايله ولم يقل هنا واستوى كما قال في شأن موسى في سورة القصص لأن موسى كان قد بلغ أربعين سنة وهي مدة النبوة فقد استوى وتهيأ لحمل أعباء الرسالة وأسرار النبوة وأما يوسف فلم يكن إذ ذاك بلغ هذا السن.
(آتيناه حكماً) هو ما كان يقع منه من الأحكام في سلطان ملك مصر (وعلماً) هو العلم بالحكم الذي كان يحكمه وقيل العقل والفهم والنبوة والفقه قاله مجاهد وقيل الحكم هو النبوة والعلم هو العلم بالدين وقيل علم الرؤيا ومن قال أنه أوتي النبوة صبياً قال المراد بهذا الحكم والعلم اللذين آتاهما الله هو الزيادة فيهما.(6/308)
(وكذلك) أي مثل ذلك الجزاء العجيب (نجزي المحسنين) فكل من أحسن في عمله أحسن الله جزاءه وجعل عاقبته الخير من جملة ما يجزيه به، وهذا عام يدخل تحته جزاء يوسف على صبره الحسن دخولاً أولياً.
قال الطبري: هذا وإن كان مخرجه ظاهراً على كل محسن فالمراد به محمد صلى الله عليه وآله وسلم يقول الله كما فعل هذا بيوسف ثم أعطيته ما أعطيته كذلك أنجيك من مشركي قومك الذين يقصدونك بالعداوة وأمكن لك في الأرض والأولى ما ذكرناه من حمل العموم على ظاهره فيدخل تحته ما ذكره ابن جرير الطبري، وقيل معنى المحسنين المؤمنين، وقيل الصابرين على النوائب قاله الضحاك وقيل المهتدين.(6/309)
وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23)
(وراودته) أي حين بلغ مبلغ الرجال قاله ابن زيد وهذا رجوع إلى شرح ما جرى عليه في منزل العزيز بعد ما أمر امرأته بإكرام مثواه وقوله (وكذلك مكنا ليوسف) إلى هنا اعتراض جيء به انموذجاً للقصة ليعلم السامع من أول الأمر أن ما لقيه يوسف من الفتن التي ستحكى بتفاصيلها له غاية جميلة وعاقبة حميدة وأنه محسن في جميع أحواله، لم يصدر عنه في حالتي السراء والضراء ما يخل بنزاهته، ولا يخفى أن مدار حسن التخلص إلى هذا الاعتراض قبل تمام الآية الكريمة إنما هو التمكين البالغ المفهوم من كلام العزيز.
والمراودة الإرادة والطلب برفق ولين، وقيل هي مأخوذة من الرود أي الرفق والتأني يقال أرودني أي أمهلني وقيل مأخوذة من راد يرود إذا جاء وذهب لطلب شيء كأن المعنى أنها فعلت في مراودتها له فعل المخادع ومنه الرائد لمن يطلب الماء والكلأ وقد يخص بمحاولة الوقاع فيقال راود فلان جاريته عن نفسها وراودته هي عن نفسه إذا حاول كل واحد منهما الوطء والجماع وهي عبارة عن التمحل في مواقعته إياها، وهي مفاعلة من واحد نحو مطالبة الدائن ومماطلة(6/309)
المديون ومداواة الطبيب ونظائرها مما يكون من أحد الجانبين الفعل، ومن الآخر سببه.
وهذا باب لطيف المسلك مبني على اعتبار دقيق تحقيقه أن سبب الشيء يقام مقامه ويطلق عليه اسمه كما في قولهم كما تدين تدان أي كما تجزي تجزى، فإن فعل البادئ وإن لم يكن جزاء أطلق عليه اسمه لكونه سبباً للجزاء، وهذه قاعدة مطردة مستمرة فكأن يوسف عليه السلام لما كان ما أعطيه من كمال الخلق والزيادة في الحسن والجمال سبباً لراودة امرأة العزيز له مراوداً والمراد بالمفاعلة مجرد المبالغة وقيل الصيغة على بابها بمعنى أنها طلبت منه الفعل وهو طلب منها الترك.
وإنما قال (التي هو في بيتها عن نفسه) ولم يقل امرأة العزيز أو زليخا قصداً إلى زيادة التقرير، فإن كونه في بيتها مما يدعو إلى ذلك، قيل لواحدة ما حملك على ما أنت عليه مما لا خير فيه: قالت قرب الوساد وطول السواد، ولإظهار كمال نزاهته عليه الصلاة والسلام فإن عدم ميله إليها مع دوام مشاهدته لمحاسنها واستعصائه عليها مع كونه تحت ملكها ينادى بكونه في أعلى معارج العفة والنزاهة، والعدول عن اسمها للمحافظة على الستر أو للاستهجان بذكرها قال قتادة: هي امرأة العزيز.
(وغلقت الأبواب) أي أطبقتها قيل في هذه الصيغة ما يدل على التكثير لتعدد الحال وهي الأبواب فيقال غلق الأبواب ولا يقال غلق الباب بل يقال أغلق الباب وقد يقال أغلق الأبواب قيل وكانت الأبواب سبعة كما في البيضاوي وغيره وأنها أغلقتها لشدة خوفها.
(وقالت هيت لك) قرأ أبو عمر وعاصم والأعمش والكسائي بفتح الهاء وسكون الياء وفتح التاء وبها قرأ ابن عباس وابن جبير والحسن ومجاهد وعكرمة(6/310)
ككيف وليت قال ابن مسعود: لا تنطعوا في القراءة فإنما هو مثل قول أحدكم هلم وتعال.
وقرأ أبو اسحق النحوي بكسر التاء وقرأ ابن كثير وغيره بضم التاء مع فتح الهاء وقرأ أبو جعفر ونافع بكسر الهاء وفتح التاء بوزن قيل وغيض وهذه القراءات سبعية وقرأ علي وابن عباس بكسر الهاء وبعدها همزة ساكنة وضم التاء وقرأ ابن عامر وأهل الشام بكسر الهاء وبالهمزة وفتح التاء وهذه كلها لغات في هذه الكلمة وهي في كلها اسم فعل بمعنى هلم وتعال أي اقبل إلا في قراءة كسر الهاء بعدها همزة وتاء مضمومة فإنها بمعنى تهيأت لك وأنكرها أبو عمرو وقال: باطل جعلها بمعنى تهيأت اذهب فاستعرض العرب حتى تنتهي إلى اليمن هل تعرف أحداً يقول هكذا، وأنكرها أيضاً الكسائي.
وقال النحاس: هي جيدة عند البصريين لأنه يقال هاء الرجل ويهيء هيأة ورجح الزجاج القراءة الأولى وتكون اللام في لك، على القراءة الأولى التي هي فيها بمعنى اسم الفعل للبيان أي لك أقول هذا كما في هلم لك قال النحويون: هيت جاء بالحركات الثلاث فالفتح للخفة والكسر لالتقاء الساكنين والضم تشبيهاً بحيث، وإذا بين باللام نحو هيت لك فهو صوت قائم مقام المصدر كأف له أي لك، أقول هذا وإن لم يبين باللام فهو صوت قائم مقام مصدر الفعل فيكون اسم فعل إما خبر أي تهيأت وإما أمر أي أقبل.
وقال في الصحاح: يقال هوت به وهيت به إذا صاح به ودعاه، وقد روي عن ابن عباس والحسن: أنها كلمة سريانية معناها أنها تدعوه إلى نفسها وقال الكسائي: هي لغة لأهل حوران وقعت إلى أهل الحجاز معناها تعال قال أبو عبيدة: فسألت شيخاً عالماً من حوران فذكر أنها لغتهم وعن ابن عَباس معناه: هلم لك بالقبطية.
وقال الحسن: أي عليك بالسريانية وقيل هي بالعبرانية ومن قال أنها بغير(6/311)
لغة العرب يقول أن العرب وافقت أصحاب هذه اللغة فتكلمت بها على وفق لغات غيرهم كما وافقت لغة العرب الروم في القسطاس ولغة العرب الفرس في التنور ولغة العرب الترك في الغساق ولغة العرب الحبشة في ناشئة الليل وبالجملة فإن العرب إذا تكلمت بكلمة صارت لغة لها وعن مجاهد أنها لغة عربية تدعوه بها إلى نفسها.
(قال معاذ الله) أي أعوذ بالله معاذا مما دعوتني إليه يقال عاذ يعوذ عياذاً ومعاذاً وعوذاً مصدر بمعنى الفعل (إنه) أي الذي اشتراني (ربي) تعليل للإمتناع الكائن منه ببعض الأسباب التي هي أقرب إلى فهم امرأة العزيز وقيل الضمير للشأن فكأنه قيل أن الشأن الخطير هذا وهو ربي أي سيدي الذي رباني العزيز (أحسن مثواي) حيث أمرك بقوله أكرمي مثواه فكيف أخونه في أهله وأجيبك إلى ما تريدين من ذلك وقال الزجاج: أن الضمير لله سبحانه أي إن الله ربي تولاني بلطفه فلا أركب ما حرمه.
قال مجاهد والسدي وابن اسحق: يبعد جداً أن يطلق نبي كريم على مخلوق أنه ربه ولو بمعنى السيد لأنه ليس مملوكاً في الحقيقة والأول فيه إرشادها إلى رعاية حق العزيز بألطف وجه (إنه لا يفلح الظالمون) تعليل آخر للامتناع منه عن إجابتها، والفلاح الظفر والمعنى أنه لا يظفر الظالمون بمطالبهم ومن جملة الظالمين الواقعون في مثل هذه المعصية التي تطلبها امرأة العزيز من يوسف وقيل معناه أنه لا يسعد الزناة.(6/312)
وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24)
وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24)
(ولقد) لام قسم (همت به وهم بها) يقال هم بالأمر إذا قصده وعزم عليه والمعنى أنه هم بمخالطتها كما همت بمخالطته ومال كل واحد منهما إلى الآخر بمقتضى الطبيعة البشرية والجبلة الخلقية ولم يكن من يوسف عليه الصلاة والسلام القصد إلى ذلك اختياراً كما يفيده ما تقدم من استعاذته بالله وإن ذلك نوع من الظلم بل قصد من غير رضا ولا عزم ولا تصميم، والقصد على هذا الوجه لا مؤاخذة فيه فلا خلاف في أن يوسف لم يأت بفاحشة وإنما الخلاف في وقوع الهم.
ولما كان الأنبياء معصومين عن الهم بالمعصية والقصد إليها أيضاً تكلم أهل العلم في تفسير هذه الآية بما فيه نوع تكلف فمن ذلك ما قاله أبو حاتم قال: كنت أقرأ على أبي عبيدة غريب القرآن فلما أتيت على قوله: (ولقد همت به وهم بها) قال: هذا على التقديم والتأخير كأنه قال ولقد همت به ولولا أن رأى برهان ربه لهم بها، وقال أحمد بن يحيى ثعلب: أي همت زليخاً بالمعصية وكانت مصرة وهم يوسف ولم يوقع ما هم به فبين الهمين فرق ومن هذا قول الشاعر:
هممت بهم من ثنية لؤلؤ ... شفيت غليلات الهوى من فؤاديا
فهذا إنما هو حديث نفس من غير عزم، وقيل هم بها أي هم بضربها وقيل هم بمعنى تمنى أن يتزوجها وقد ذهب جمهور المفسرين من السلف والخلف إلى ما قدمنا من حمل اللفظ على معناه اللغوي.
ويدل على هذا قوله الآتي (ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب) وقوله: (وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء) ومجرد الهم لا ينافي العصمة فإنها قد وقعت العصمة عن الوقوع في المعصية وذلك المطلوب.(6/313)
قال الشهاب: قال الإمام: المراد بالهم في الآية خطور الشيء بالبال أو ميل الطبع كالصائم في الصيف يرى الماء البارد فتحمله نفسه على الميل إليه وطلب شربه ولكن يمنعه دينه عنه وكالمرأة الفائقة حسناً وجمالاً تتهيأ للشاب النامي القوي فتقع بين الشهوة والعفة وبين النفس والعقل مجاذبة ومنازعة، فالهم هنا عبارة عن جواذب الطبيعة ورؤية البرهان جواذب الحكمة وهذا لا يدل على حصول الذنب بل كلما كان هذه الحال أشد كانت القوة على لوازم العبودية أكمل انتهى.
ويؤيده ما في البيضاوي المراد بهمه عليه الصلاة والسلام ميل الطبع ومنازعة الشهوة لا القصد الاختياري وذلك مما لا يدخل تحت التكليف بل الحقيق بالمدح والأجر الجزيل من الله تعالى من يكف نفسه عن الفعل عند قيام هذا الهم أو مشارفة الهم كقولك قتلته لو لم أخف الله انتهى. وقيل أنه هم بالفاحشة وأتى ببعض مقدماتها وقد أفرط الزمخشري في التشنيع عليه والصحيح نزاهته عن الهم المحرم أيضاً وقد أطنب الرازي في هذا المقام فليراجعه وقيل معنى الهم أنها اشتهته واشتهاها قال الخفاجي: وأنه أحسن الوجوه.
وجواب لو في (لولا أن رأى برهان ربه) محذوف أي لفعل ما هم به واختلف في هذا البرهان الذي رآه ما هو فقيل أن زليخا قامت عند أن همت به وهم بها إلى صنم لها في زاوية البيت فسترته بثوب فقال ما تصنعين قالت استحي من إلهي هذا أن يراني على هذه الصورة فقال يوسف أنا أولى إن استحي من الله تعالى، روي معنى هذا عن علي بن أبي طالب وفي رواية عن علي بن الحسين، وقيل أنه رأى في سقف البيت مكتوباً ولا تقربوا الزنا أنه كان فاحشة، وقيل رأى كفاً مكتوباً عليها وإن عليكم لحافظين كراماً كاتبين، وقيل أن البرهان هو تذكرة عهد الله وميثاقه وما أخذه على عباده.
وقيل نودي يا يوسف أنت مكتوب في الأنبياء وتعمل عمل السفهاء، وقيل(6/314)
رأى صورة يعقوب على الجدار عاضاً على أنملته يتوعده، وبه قال قتادة وأكثر المفسرين والحسن وسعيد بن جبير ومجاهد وعكرمة والضحاك، وقيل رأى جبريل في صورة يعقوب قاله ابن عباس وقيل مثل له يعقوب فضرب بيده في صدره فخرجت شهوته من أنامله، وقيل رأى جبريل قاله البيضاوي.
قال الخفاجي: هذا مع ما في القصص ونحوه مما لا يليق ذكره وتركه أحسن منه كله مما لا أصل له والنص ناطق بخلافه والبرهان ما عنده من العلم الدال على تحريم ما همت به وإنه لا يمكن الهم فضلاً عن الوقوع فيه هذا هو الذي يجب اعتقاده والحمل عليه ا. هـ.
وعلى الجملة إن كل ذلك إلا خرافات وأباطيل تمجها الآذان وتردها العقول والأذهان ويل لمن لاكها ولفقها أو سمعها وصدقها، والحاصل أنه رأى شيئاً حال بينه وبين ما هم به والله أعلم بما هو وقد أطال المفسرون في تعيين البرهان الذي رآه بلا دليل يدل عليه من السنة المطهرة واختلفت أقوالهم في ذلك اختلافاً كثيراً.
(كذلك) إشارة إلى الآراء المدلول عليها بقوله رأى برهان ربه أو إلى التثبيت المفهوم من ذلك أي مثل تلك الآراء أريناه أو مثل ذلك التثبيت ثبتناه (لنصرف عنه السوء) أي كل ما يسوؤه (والفحشاء) هو كل أمر مفرط القبح وقيل السوء الخيانة للعزيز في أهله والفحشاء الزنا وقيل السوء الشهوة والفحشاء المباشرة وقيل السوء الثناء القبيح والأولى الحمل على العموم فيدخل فيه ما يدل عليه السياق دخولاً أولياً قال أبو السعود: وفيه آية بينة وحجة قاطعة على أنه عليه الصلاة والسلام لم يقع منه هم بالمعصية ولا توجه إليها قط وإلا لقيل لنصرفه عن السوء والفحشاء وإنما توجه إليه ذلك من خارج فصرفه الله تعالى عنه بما فيه من موجبات العفة والعصمة فتأمل.
(إنه من عبادنا المخلصين) تعليل لما قبله قرئ بكسر اللام وفتحها وهي(6/315)
سبعية والمعنى على الأولى أن يوسف كان ممن أخلص طاعته لله وعلى الثانية أنه كان ممن استخلصه الله للرسالة وقد بان عليه السلام مخلصاً مستخلصاً وعلى كلا المعنيين فهو منتظم في سلكهم داخل في زمرتهم من أول أمره بقضية الجملة الاسمية لا أن ذلك حدث له بعد أن لم يكن كذلك فانحسم مادة احتمال صدور الهم بالسوء منه عليه السلام بالكلية.
قال الخفاجي: قيل فيه إن كل من له دخل في هذه القصة شهد ببراءته فشهد الله بقوله لنصرف الخ وشهد هو على نفسه بقوله هي راودتني ونحوه وشهدت زليخاً بقولها ولقد راودته عن نفسه فاستعصم، وسيدها بقوله إنك كنت من الخاطئين وإبليس بقوله لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين فتضمن إخباره بأنه لم يغوه ومع هذا كله لم يبرئه أهل القصص كما قيل:
وكنت فتى من جند إبليس فارتقى ... بي الحال حتى صار إبليس من جندي(6/316)
وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (25) قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (26) وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (27)(6/317)
وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (25)
(واستبقا الباب) أي تسابقا إليه وهذا كلام متصل بقوله (ولقد همت به وهم بها) الآية وما بينهما اعتراض جيء به بين المعطوفين تقريراً لنزاهته عليه السلام ووجه تسايقهما أن يوسف يريد الفرار والخروج من الباب وامرأة العزيز تريد أن تسبقه إليه لتمنعه عن الفتح والخروج ووحد الباب هنا وجمعه فيما تقدم لأن تسابقهما كان إلى الباب البراني الذي يخلص منه إلى خارج الدار قال السيوطي: بادرا إليه يوسف للفرار وهي للتشبث به فأمسكت ثوبه.
(وقدّت) أي جذبت (قميصه من دبر) من ورائه فانشق إلى أسفله والقد القطع وأكثر ما يستعمل فيما كان طولاً والقط بالطاء يستعمل فيما كان عرضا قال الشهاب في الريحانة: القد والقط متقاربان معنى وهما نوعان من القطع وفيه لطيفة اتفاقية لأن القد قطع الشيء من نصفه أو قطعه نصفين والقط قطع الطرف كما في الشمع والقلم فكأنه لكونه قليلاً من القطع نقص منه للعين انتهى.
وإسناد القد إليها خاصة مع أن لقوة يوسف أيضاً دخلاً فيه إما لأنها الجزء الأخير للعلة التامة وإما للإيذان بمبالغتها في منعه عن الخروج وبذل مجهودها في ذلك لفوت المحبوب أو لخوف الافتضاح.
(وألفيا سيدها لدى الباب) أي وجدا العزيز هنالك وعني بالسيد الزوج لأن القبط يسمون الزوج سيداً وإنما لم يقل سيدهما لأن ملكه ليوسف لم يكن صحيحاً فلم يكن سيداً له.(6/317)
(قالت ما جزاء من أراد بأهلك سوءاً) من الزنا ونحوه والجملة مستأنفة كأنه قيل فما كان منهما عند أن ألفيا سيدها لدى الباب قالت هذه المقالة طلباً منها للحيلة وللستر على نفسها فنسبت ما كان منها إلى يوسف أي أي جزاء يستحقه من فعل مثل فعل هذا ثم أجابت عن استفهامها بقولها (إلا أن يسجن) أي ما جزاؤه إلا أن يسجن، ويحتمل أن تكون ما نافية أي ليس جزاؤه إلا السجن وإنما بدأت بذكر السجن لأن المحب لا يشتهي إيلام المحبوب، وإنما أرادت أن يسجن عندها يوماً أو يومين ولم ترد السجن الطويل.
قال الخازن: وهذه لطيفة فافهمها، وقال ابن الخطيب: وأما الحبس الدائم فإنه لا يعبر عنه بهذه العبارة بل يقال يجب أن يجعل من المسجونين كما قال فرعون لأجعلنك من المسجونين ذكره الكرخي (أو عذاب أليم) قيل هو الضرب بالسياط والظاهر أنه ما يصدق عليه العذاب الأليم من ضرب أو غيره وفي الإبهام للعذاب زيادة تهويل لشأن الجزاء المذكور بكونه قانوناً مطرداً في حق كل أحد كائناً من كان.
وفي ذكر نفسها بعنوان أهلية العزيز إعظام للخطب وإغراء له على تحقيق ما تتوخاه بحكم الغضب والحمية قاله أبو السعود، ولم تقل أن يوسف يجب أن يقابل بأحد هذين الأمرين بل ذكرت ذلك ذكراً كلياً صوناً للمحبوب عن الذكر الشر.
فلما سمع يوسف مقالتها أراد أن يبرهن عن نفسه(6/318)
قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (26)
(قال هي راودتني عن نفسي) يعني طلبت مني الفحشاء فأبيت وفررت، والجملة مستأنفة كالجملة الأولى وقد تقدم بيان معنى المراودة أي هي التي طلبت مني ذلك ولم أرد بها سوءاً، ولم يقل هذه ولا تلك لفرط استحيائه وهو أدب حسن حيث أتى بلفظ الغيبة دون الحضور، ولم يكن يريد أن يذكر هذا القول ولا يهتك سترها ولكن لما قالت هي ما قالت ولطخت عرضه احتاج إلى إزالة هذه التهمة عن نفسه فقال ما قال.(6/318)
(وشهد شاهد من أهلها) أي من قرابتها وسمي الحكم بينهما شهادة لما يحتاج فيه من التثبت والتأمل، قيل لما التبس الأمر على العزيز احتاج إلى حاكم يحكم بينهما ليتبين له الصادق من الكاذب قيل كان ابن عم لها واقفاً مع العزيز في الباب، وقيل ابن خال لها وقيل أنه الطفل في المهد تكلم قال السهيلي: وهو الصحيح للحديث الوارد في ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذكر من تكلم في المهد وذكر من جملتهم شاهد يوسف.
وقيل أنه رجل حكيم كان العزيز يستشيره في أموره وكان من قرابة المرأة قال ابن عباس: ظبي أنطقه الله كان في الدار وعنه قال: كان رجل ذا لحية من خاصة الملك وعن الحسن قال: هو رجل له فهم وعلم وعن مجاهد قال: إنه ليس بإنسي ولا جني هو خلق من خلق الله، قلت ولعله لم يحضر قوله تعالى من أهلها وإنما كان الشاهد من أهل المرأة وقرابتها ليكون أقوى في نفي التهمة عن يوسف مع ما وجد من كثرة العلامات الدالة على صدقه.
(إن كان قميصه قدّ من قبل) أي من قدام فقال الشاهد هذه المقالة مستدلاً على بيان صدق الصادق منهما وكذب الكاذب بأن قميص يوسف إن كان مقطوعاً من قبل أي من جهة القبل (فصدقت) أي فقد صدقت بأنه أراد بها سوءًا (وهو من الكاذبين) في قوله أنها راودته عن نفسه وقرئ من قبل بضم اللام وكذا من دبر قال الزجاج جعلاهما غايتين.(6/319)
وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (27)
(وإن كان قميصه قد من دبر) أي من ورائه (فكذبت) في دعواها عليه (وهو من الصادقين) في دعواه عليها ولا يخفى أن هاتين الجملتين الشرطيتين لا تلازم بين مقدميهما وتاليهما لا عقلاً ولا عادة وليستا من الشهادة في شيء وإنما ذكرتا توسيعاً للدائرة وإرخاء للعنان إلى جانب المرأة باجراء ما عسى أن يحتمله الحال في الجملة مجرى الظاهر الغالب الوقوع فليس هاهنا إلا مجرد إمارة غير مطردة إذ من الجائز أن يجذبه إليها وهو مقبل عليها فينقد القميص من دبر وأن تجذبه وهو مدبر عنها فينقد القميص من قبل.(6/319)
فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (28) يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ (29) وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (30)(6/320)
فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (28)
(فلما رأى) العزيز (قميصه) أي قميص يوسف (قدّ من دبر) كأنه لم يكن رأى ذلك أو قد لم يتدبره فلما تنبه له وعلم حقيقة الحال وعرف خيانة امرأته وبراءة يوسف عليه السلام (قال) أي العزيز وقيل هذا من قول الشاهد والأول أولى (إنه) أي الأمر الذي وقع فيه الاختلاف بينكما أو أن قولك ما جزاء من أراد بأهلك سوءاً (من) جنس (كيدكن) ومكركن وحيلكن يا معشر النساء (إن كيدكن عظيم) خاطب الجنس لأن الحيل والمكايد لا تختص بها، وإنما وصف الكيد بالعظيم لأن كيدهن أعظم من كيد جميع البشر في إتمام مرادهن لا يقدر عليه الرجال في هذا الباب فإنه ألطف وأعلق بالقلب وأشد تأثيراً في النفس.
وعن بعض العلماء إني أخاف من النساء ما لا أخاف من الشيطان فإنه تعالى يقول (إن كيد الشيطان كان ضعيفاً) وقال للنساء (إن كيدكن عظيم) ولأن الشيطان يوسوس مسارقة وهن يواجهن به الرجال.
وفي حاشية الخفاجي: وقيل عليه إن ضعف كيد الشيطان في مقابلة كيد الله وعظم كيدهن بالنسبة للرجال وهو ليس بشيء لأنه استدل بظاهر إطلاقهما ومثله مما تنقبض له النفس وتنبسط يكفي فيه ذلك القدر انتهى.
قال الحفناوي: هذا فيما يتعلق بأمر الجماع والشهوة لا عظيمٌ على الإطلاق إذ الرجال أعظم منهن في الحيل والمكايد في غير ما يتعلق بالشهوة.
ثم خاطب العزيز يوسف عليه السلام بقوله(6/320)
يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ (29)
(يوسف أعرض عن هذا)(6/320)
الأمر الذي جرى واكتمه ولا تتحدث به حتى لا يفشو ويشيع بين الناس وقيل ْمعناه لا تكترث به ولا تهتم به فقد بأن عذرك ثم أقبل عليها بالخطاب فقال (واستغفري) يا زليخا (لذنبك) الذي وقع منك، قال الكرخي: كان العزيز قليل الغيرة، بل قال في البحر إن قرية تربة إقليم قطفير مصر تقتضي هذا، ولهذا لا ينشأ فيها الأسد ولو دخل فيها لا يبقى.
(إنك كنت) بسبب ذلك (من الخاطئين) أي من جنسهم برمي يوسف بالخطيئة، والجملة تعليل لا قبلها من الأمر بالاستغفار ولم يقل من الخاطئات تغليباً للمذكر على المؤنث كما في قوله (كانت من القانتين) ومعنى من الخاطئين من المتعمدين يقال خطأ إذا أذنب متعمداً وقيل التقدير من القوم الخاطئين وقيل أن القائل ليوسف ولامرأة العزيز بهذه المقالة هو الشاهد الذي حكم بينهما.(6/321)
وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (30)
(وقال نسوة) قرئ نسوة بضم النون قاله أبو البقاء وبكسرها والمراد جماعة من النساء ويجوز التذكير في الفعل المسند إليهن كما يجوز التأنيث ولا واحد له من لفظه بل من معناه وهو امرأة والنساء جمع كثرة أيضاً ولا واحد له من لفظه قيل وكن خمساً وهن امرأة ساقي العزيز وامرأة خبازه وامرأة صاحب دوابه وامرأة صاحب سجنه وامرأة حاجبه (في المدينة) هي مصر وقيل مدينة الشمس.
(امرأة العزيز) يعني زليخا (تراود فتاها) الفتى في كلام العرب الشاب الحديث السن والفتاة الشابة والمراد هنا غلامها يقال فتاي وفتاتي أي غلامي وجاريتي وجيء بالمضارع تنبيهاً على أن الراودة صارت مهنة لها وديدناً دون الماضي فلم يقلن وأودت (عن نفسه) وهو يمتنع منها (قد شغفها حباً) أي غلبها حبه وقيل دخل حبه في شغافها قال أبو عبيدة: شغاف القلب غلافه وهو جلدة عليه، وقيل هو وسط القلب.
وعلى هذا يكون المعنى دخل حبه إلى شغافها فغلب عليه وقرئ شعفها(6/321)
بالعين المهملة قال ابن الأعرابي: معناه أجرى حبه عليها قال الجوهري: شغفه الحب أحرق قلبه وقال أبو زيد: أمرضه وقال النحاس: معناه عند أكثر أهل اللغة قد ذهب بها كل مذهب لأن شغاف الجبال أعاليها وقد شغف بذلك شغفاً بإسكان الغين المعجمة إذا ولع به.
وقرأ الحسن: قد شغفها بضم الغين وحكى بكسرها قال النحاس: ولا يعرف ذلك في كلام العرب إلا شغفاً بفتح الغين، ويقال إن الشغاف الجلدة اللاصقة بالكبد التي لا ترى وهي الجلدة البيضاء فكأنه لصق حبه بقلبها كلصوق الجلدة بالكبد وقيل المعنى أن حبه دخل الجلدة حتى أصاب القلب وقيل أن حبه قد أحاط بقلبها كإحاطة الشغاف بالقلب. قال الكلبي: حجب حبه قلبها حتى صارت لا تتعقل شيئاً سواه.
وقال السمين: خرق شغاف قلبها أي حجاب القلب وهو جلدة رقيقة وقيل سويداء القلب، وقيل داء يصل إلى القلب من أجل الحب وقيل جلدة رقيقة يقال لها لسان القلب ليس محيطة به. والمعنى خرق حجابه وأصابه فأحرقه بحرارة الحب، يقال شغف الهوى قلبه شغفاً وشغفه المال زين له فأحبه فهو مشغوف به.
وعن ابن عباس: شغفها غلبها وقال قتلها حب يوسف وقال قد علقها قال آزاد في سبحة المرجان: ولا استبعاد في إظهار العشق من جانب المرأة أما ترى في القرآن الكريم غرام امرأة العزيز بيوسف عليه السلام، والأهاند يذكرون العشق في تغزلاتهم من جانب المرأة بالنسبة إلى الرجل خلاف العرب، وسببه إن المرأة في دينهم لا تنكح إلا زوجاً واحداً فحظ عيشتها منوط بحياة الزوج وإذا مات تحرق نفسها معه، والعشق بين الرجل والمرأة وضع إلهي فتارة يكون من الطرفين وتارة يكون من أحدهما وإذا لوحظ الوضع الإلهي فالمرأة معشوقة عاشقة والرجل عاشق معشوق.(6/322)
وأهل الهند (1) وافقوا العرب في التغزل بالنساء بخلاف الفرس والترك فإن تغزلهم بالأمارد فقط، ولا ذكر من المرأة في غزلهم، ولعمر المحبة أنهم لظالمون حيث يضعون الشيء في غير موضعه كما قال سبحانه وتعالى في قوم لوط (فلما جاء أمرنا جعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليها حجارة من سجيل منضود مسومة عند ربك وما هي من الظالمين ببعيد).
والعرب في التغزل بالأمارد مقلدون لهم والأصل فيهم التغزل بالنساء ومعناه التحدث بهن، وأما الأهاند فلا يعرفون التغزل بالأمارد قطعاً انتهى. هذا وقد عند رحمه الله الفصل الرابع من كتابه المذكور في بيان أقسام المعشوقات والعشاق وأورد لكل قسم منهما أشعاراً عجيبة وأبياتاً غريبة. باعتبار الجهات المتنوعة والحيثيات المتلونة إن رآها السالي تذوب طبيعته الجامدة أو العاذل تشعل ناره الخامدة.
(إنا لنراها) جملة مقررة لمضمون ما قبلها أي نعلمها في فعلها هذا وهو المراودة لفتاها (في ضلال) عن طريق الرشد والصواب (مبين) واضح لا يلتبس على من نظر فيه حيث تركت ما يجب على أمثالها من العفاف والستر
_________
(1) هذا الكلام ينبغي أن تُنَزّه كتب التفسير منه وقد تركناه للمحافظة على أسلوب المفسّر وعباراته، أ. هـ مصححه.(6/323)
فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ (31)
فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ (31)
(فلما سمعت) امرأة العزيز (بمكرهن) أي بغيبتهن إياها سميت الغيبة مكراً لاشتراكهما في الإخفاء وقيل أردن أن يتوسلن بذلك إلى رؤية يوسف فلهذا سمي قولهن مكراً، وقيل أنها أسرت إليهن فأفشين سرها فسمي ذلك مكراً، عن سفيان قال: أي بعملهن، وكل مكر في القرآن فهو العمل.
(أرسلت إليهن) أي تدعوهن إليها لتقيم عذرها عندهن ولينظرن إلى يوسف حتى يقعن فيما وقعت فيه قيل دعت أربعين امرأة من أشراف مدينتها فيهن هؤلاء اللاتي عيرنها (وأعتدت لهن متكئاً) أي أعدت وأحضرت وهيأت لهن مجالس يتكئن عليها من نمارق ومسانيد وأعتدت من الاعتداد، وهو كل ما جعلته عدة لشيء وقرئ متكاً مخففاً غير مهموز والمتك هو الأترنج بلغة القبط، قاله مجاهد، وعن عكرمة قال: هو كل شيء يقطع بالسكين وعن الضحاك مثله وقيل أن ذلك هو لغة أزد شنوأة وقيل حكي ذلك عن الأخفش قال الفراء: إنه ماء الورد.
وقرأ الجمهور متكئاً بالهمز والتشديد وأصح ما قيل فيه أنه المجلس وقيل هو الطعام وبه قال ابن جبير والحسن وقتادة: وسمي متكئاً على الاستعارة قاله الخازن أي للاتكاء عنده على عادة المتكبرين في أكل الفواكه فهو مجاز مرسل وعلاقته المجاورة، وقيل المتكأ كل ما اتكئ عليه عند طعام أو شراب أو حديث، وحكى القتيبي أنه يقال اتكأنا عند فلان أي أكلنا.
ويؤيد هذا قوله (وآتت كل واحدة منهن سكيناً) فإن ذلك، إنما يكون لشيء يأكلنه بعد أن يقطعنه والسكين تذكر وتؤنث قاله الكسائي والفراء قال الجوهري: والغالب عليه التذكير والمراد من إعطائها لكل واحدة سكيناً أن(6/324)
يقطعن ما يحتاج إلى التقطيع من الأطعمة قيل وكان من عادتهن أن يأكلن اللحم والفواكه بالسكين وكانت تلك السكاكين خناجر وممكن أنها أرادت بذلك ما سيقع منهن من تقطيع أيديهن.
(وقالت) ليوسف (أخرج عليهن) أي في تلك الحالة التي هن عليها من الاتكاء والأكل وتقطيع ما يحتاج إلى التقطيع من الطعام (فلما رأينه أكبرنه) أي أعظمنه قال مجاهد: واحترمنه وهبنه ودهشن عند رؤيته من شدة جماله، وقيل أمنين وقيل أمذين ومنه قول الشاعر:
إذا ما رأين الفحل من فوق قلة ... صهلن وأكبرن المني المقطرا وقال الأزهري: أكبرن بمعنى حضن، والهاء للسكت يقال أكبرت المرأة أي دخلت في الكبر بالحيض وقال ابن عباس: حضن من الفرح ووقع منهن ذلك دهشاً وفزعاً لما شاهدنه من جماله الفائق وحسنه الرائق، وأنكر ذلك أبو عبيدة وغيره، وقالوا ليس ذلك في كلام العرب، قال الزجاج: يقال أكبرنه ولا يقال حضنه فليس الإكبار بمعنى الحيض وأجاب الأزهري فقال: يجوز أن يكون هاء الوقف لا هاء الكناية.
وقد زيف هذا بأن هاء الوقف تسقط في الوصل، قاله ابن الأنباري: أن الهاء كناية عن مصدر الفعل أي أكبرن إكباراً بمعنى حضن حيضاً وسمي الحيض إكباراً لكون البلوغ يعرف به كأنه يدخلهم سن الكبر فيكون في الأصل كناية أو مجازاً، وهذا منقول عن قتادة والسدي.
قال الرازي: وعندي أنه يحتمل وجهاً آخر هو أنهن إنما أكبرنه لأنهن رأين عليه نور النبوة وسيما الرسالة وشاهدن فيه مهابة ملكية، وهي عدم الالتفات إلى المطعوم والمنكوح وعدم الاعتداد بهن فتعجبن من تلك الحالة فلا جرم أكبرنه وأعظمنه، وحمل الآية على هذا أولى اهـ.
(وقطعن أيديهن) أي جرحنها حتى سال الدم وليس المراد به القطع الذي تبين من اليد بل المراد به الخدش والحز وذلك معروف في اللغة كما قال النحاس:(6/325)
يقال قطع يد صاحبه إذا خدشها وقيل المراد بالأيدي هنا أناملهن وقيل أكمامهن والمعنى أنه لما خرج يوسف عليهن أعظمنه ودهشن وراعهن حسنه حتى اضطربت أيديهن فوقع القطع عليها وهن في شغل عن ذلك بما دهمهن مما تطيش عنده الأحلام وتضطرب له الأبدان وتزول العقول، قال مجاهد: فما أحسن إلا بالدم وقال قتادة: أبنَّ أيديهن حتى ألقينها والأصح أنه كان قطعاً من غير إبانة وعن منبه عن أبيه قال: مات من النسوة اللاتي قطعن أيديهن تسع عشرة امرأة كمداً.
(وقلن حاش الله) قرئ بإثبات الألف وبحذفها وبإسكان الشين حاش لله وقرئ حاش الإله وحاشا الله، قلت إثبات الألف وحذفها قراءتان سبعيتان وهذا بالنظر للنطق وأما رسم المصحف فلا تكتب فيه ألف بعد الشين وأن نطق بها قال الزجاج: أصل الكلمة من الحاشية بمعنى الناحية يقال كنت في حاشية فلان أي في ناحيته فقولك حاشا لزيد من هذا أي تباعد منه وقال أبو علي: هو من المحاشاة وقيل أن حاش حرف وحاشا فعل.
وكلام أهل النحو في هذه الكلمة معروف ومعناها هنا التنزيه كما تقول آسى القوم حاشا زيداً فمعنى حاشا لله براءة لله وتنزيه له أي صفة العجز عن خلق هذا وأمثاله قال مجاهد: حاشا لله معاذ الله.
(ما هذا بشراً) إعمال " ما " عمل " ليس " هي في لغة أهل الحجاز وبهذا نزل القرآن كهذه وكقوله سبحانه (ما هن أمهاتهم) وأما بنو تميم فلا يعملونها عمل ليس وقال الكوفيون: أصله ما هذا ببشر فلما حذفت الباء انتصب قال أحمد ابن يحيى ثعلب: إذا قلت ما زيد بمنطلق فموضع الباء موضع نصب وهكذا سائر حروف الخفض.
وأما الخليل وسيبويه وجمهور النحويين فقد أعملوها عمل ليس وبه قال البصريون والبحث مقرر في كتب النحو بشواهده وحججه وقرأ الحسن وما هذا بشراً على أن الباء حرف جر والشين مكسورة أي ما هذا بعبد يشترى وهذه قراءة ضعيفة لا تناسب ما بعدها من قوله إن هذا إلا ملك كريم.(6/326)
قال الخفاجي: ورد بأنها صحيحة رواية ودراية أما الأول فلأنها رواها في المبهج عن عبد الوارث بسند صحيح، وأما الثاني فلأن من قرأ بهذه قرأ ملك بكسر اللام فتصح المقابلة أي ما هذا عبد لئيم بملك بل سيد كريم مالك. انتهى
وإنما نفين عنه البشرية لما شاهدن فيه من الجمال العبقري ولأنه قد برز في صورة قد لبست من الحسن البديع ما لم يعهد على أحد من البشر ولا أبصر المبصرون ما يقاربه في جميع النسمة البشرية ثم لما نفين عنه البشرية لهذه العلة أثبتن له الملكية وإن كن لا يعرفن الملائكة وقلن:
(إن هذا إلا ملك كريم) على الله لأنه قد تقرر في الطباع وركز في النفوس أنهم على شكل فوق شكل البشر في الذوات والصفات وأن لا شيء أحسن من الملك وأنهم فائقون في كل شيء كما تقرر فيها أن الشياطين على العكس من ذلك ولا أقبح منهم والمقصود من هذا إثبات الحسن العظيم المفرط ليوسف.
واعلم أنه لا يلزم من قول النسوة هذا أن الملائكة صورهم أحسن من صور بني آدم فإنهن لم يقلنه لدليل بل حكمن على الغيب بمجرد الاعتقاد المرتكز في طباعهن وذلك ممنوع، فإن الله سبحانه يقول (لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم) وظاهر هذا أنه لم يكن شيء مثله من أنواع المخلوقات في حسن تقويمه وكمال صورته فما قاله صاحب الكشاف في هذا المقام هو من جملة تعصباته لما رسخ في عقله من أقوال المعتزلة.
على أن هذه المسألة أعني مسألة المفاضلة بين الملائكة والبشر ليست من مسائل الدين في ورد ولا صدر فما أغنى عباد الله عنها وأحوجهم إلى غيرها من مسائل التكاليف قال قتادة: قلن ملك من الملائكة من حسنه وغرابة جماله، وأخرج أحمد وغيره عن أنس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: " أعطي يوسف وأمه شطر الحسن " (1) وقد وردت روايات عن جماعة من السلف في وصف
_________
(1) رواه مسلم في كتاب الإيمان، باب الإسراء وفرض الصلوات، رقم 162 من حديث طويل فيه: " فإذا أنا بيوسف (عليه السلام) إذا هو قد أعطى شطر الحسن ". وأخرجه الإمام أحمد 3/ 148، 286.(6/327)
قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ (32) قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ (33)
حسن يوسف والمبالغة في ذلك ففي بعضها أنه أعطى نصف الحسن وفي بعضها ثلثه وفي بعضها ثلثيه.(6/328)
قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ (32)
(قالت فذلكن الذي لمتنني فيه) الإشارة إلى يوسف والخطاب للنسوة أي عيرتنني فيه قالت لهن هذا لما رأت افتتانهن بيوسف إظهاراً لعذر نفسها ومعنى فيه في حبه وقيل الإشارة إلى الحب فالضمير له والمعنى فذلك الحب الذي لمتنني فيه هو ذلك الحب والأول أولى ورجحه ابن جرير.
ويجوز أن يكون إشارة إلى المعنى بقولهن عشقت عبدها الكنعاني تقول هو ذاك العبد الذي صورتن في أنفسكن ثم لمتنني فيه، قال الزمخشري: قالت فذلكن ولم تقل هذا وهو حاضر رفعاً لنزلته في الحسن واستحقاق أن يحب ويفتتن به فلام البعد هنا لتعظيم رتبته أو لبعد رتبته وحالته عن رتبة البشر وأصل اللوم الوصف بالقبيح وما أحسن اقتباس السيد غلام علي آزاد رحمه الله تعالى من هذه الآية في قوله:
أيا صواحب أكباد مقطعة ... فذلكن الذي لمتنني فيه
ثم لا أظهرت عذر نفسها عند النسوة بما شاهدنه مما وقعن فيه عند ظهوره لهن ضاق صدرها عن كتم ما تجده في قلبها من حبه فأقرت بذلك وصرحت بما وقع منها من الراودة له فقالت.
(ولقد) اللام لام قسم (راودته عن نفسه فاستعصم) أي استعف وامتنع واستعصى مما أريده طالباً لعصمة نفسه عن ذلك وإنما صرحت بذلك لأنها علمت أنه لا ملامة عليها منهن وأنهن قد أصابهن ما أصابها عند رؤيته ثم توعدته إن لم(6/328)
يفعل ما تريده منه كاشفة لجلباب الحياء هاتكة لستر العفاف فقالت.
(ولئن) لامُ قسم (لم يفعل ما آمره) أي ما قد أمرته فيما تقدم ذكره عند أن أغلقت الأبواب وقالت هيت لك (ليسجنن) أي ليعتقل في السجن (وليكوناً من الصاغرين) من صغر بكسر الغين يصغر صغراً وصغاراً والصغير من صغر بالضم صغراً أي من الأذلاء لما يناله من الإهانة ويسلب عنه النعمة والعزة في زعمها فلما سمع يوسف مقالتها هذه عرف أنها عزمة منها مع ما قد علمه من نفاذ قولها عند زوجها العزيز.(6/329)
قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ (33)
(قال) مناجياً لربه سبحانه يا (رب السجن) أي دخوله الذي أوعدتني به هذه وقرأ عثمان السجن بفتح السين وهو مصدر سجنه سجناً (أحب إليّ) أي آثر عندي لأنه مشقة قليلة نافدة أثرها راحات جليلة أبدية (مما يدعونني إليه) من مؤاتاتها التي تؤدي إلى الشقاء والوقوع في المعصية العظيمة التي تذهب بخيري الدنيا والآخرة.
وهذا الكلام منه عليه السلام مبني على ما مر من انكشاف الحقائق لديه وبروز كل منها بصورتها اللائقة بها فصيغة التفضيل ليست على بابها إذ ليس له شائبة محبة لما دعته إليه وإنما هو والسجن شران أهونهما وأقربهما إلى الإيثار السجن وإن كان في أحدهما مشقة وفي الآخر لذة.
قال بعضهم: لو لم يقل هذا لم يبتل به فالأولى للعبد أن يسأل الله العافية ولذلك رد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على من كان يسأل الصبر، والتعبير عن الإيثار بالمحبة لحسم مادة طمعها عن المساعدة خوفاً من الحبس والاقتصار على ذكر السجن من حيث أن الصغار من فروعه ومستتبعاته وإسناد الدعوة إليهن جميعاً لأن النسوة رغبنه في مطاوعتها وخوفنه من مخالفتها.
وقيل أنهن جميعاً دعونه إلى أنفسهن أو لأنه كان بحضرتهن والأول أولى ثم جرى على هذا في نسبة الكيد إليهن جميعاً فقال:(6/329)
(وإن لا تصرف عني كيدهن) في تحبيب ذلك إليّ وتحسينه لديّ بأن تثبتني على ما أنا عليه من العصمة والعفة، وأما الكيد من امرأة العزيز فما قد قصه الله سبحانه في هذه السورة وأما كيد سائر النسوة فهو ما تقدم من الترغيب له في المطاوعة والتخويف من المخالفة وقيل أنها كانت كل واحدة تخلو به وحدها وتقول له يا يوسف اقض لي حاجتي فأنا خير لك من امرأة العزيز.
وقيل أنه خاطب امرأة العزيز بما يصلح لخطاب جماعة النساء تعظيماً لها أو عدولاً عن التصريح إلى التعريض، والكيد الاحتيال وجزم (أصب إليهن) على أنه جواب الشرط أي أمل إليهن وأتبعهن وأطاوعهن من صبا يصبو إذا مال واشتاق ومنه قول الشاعر؛
إلى هند صبا قلبي ... وهند حبها يصبي
والصبوة الميل إلى الهوى ومنه ريح الصبا لأن النفس تستطيبها وتميل إليها لطيب نسيمها وروحها.
(وأكن من الجاهلين) أي ممن يجهل ما يحرم ارتكابه ويقدم عليه أو ممن يعمل عمل الجهال أو ممن يستحق صفة الذم بالجهل وفيه أن من ارتكب ذنباً إنما يرتكبه عن جهالة قال أبو السعود: وهذا فزع منه عليه السلام والتجاء إلى ألطاف الله جرياً على سنن الأنبياء والصالحين في قصر نيل الخيرات والنجاة عن الشرور على جناب الله عز وجل وسلب القوى والقدر عن أنفسهم مبالغة في استدعاء لطفه في صرف كيدهن بإظهار أن لا طاقة له بالمدافعة كقول المستغيث أدركني وإلا هلكت لا أنه يطلب الإجبار والإلجاء إلى العصمة والعفة وفي نفسه داعية تدعوه إلى هواهن.(6/330)
فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (34) ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (35) وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (36)(6/331)
فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (34)
(فاستجاب له ربه) لما قال وإن لا تصرف عني كيدهن كان ذلك منه تعرضاً للدعاء وكأنه قال اللهم اصرف عني كيدهن فالاستجابة من الله تعالى هي بهذا الاعتبار لأنه لم يتقدم دعاء صريح منه عليه السلام وفي إسناد الاستجابة إلى الرب مضافاً إليه عليه السلام ما لا يخفى من إظهار اللطف.
(فصرف عنه كيدهن) حسب دعائه والمعنى أنه لطف به وعصمه عن الوقوع في المعصية لأنه إذا صرف عنه كيدهن لم يقع شيء مما رمنه، ووجه إسناد الكيد قد تقدم (إنه هو السميع العليم) تعليل لما قبلها من صرف الكيد أي أنه هو السميع لدعوات الداعين له العليم بأحوال الملتجئين إليه وفيه أنه لا يقدر أحد على الانصراف عن المعصية إلا بعصمة الله ولطفه به وهو معنى قوله لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.(6/331)
ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (35)
(ثم بدا لهم) أي ظهر للعزيز وأصحابه الذين يدبرون الأمر معه ويشيرون عليه في الرأي وأما فاعل بدا فقال سيبويه: هو ليسجننه أي ظهر لهم أن يسجنوه قال المبرد: وهذا غلط لأن الفاعل لا يكون جملة ولكن الفاعل ما دل عليه بدا وهو المصدر فحذف الفاعل لدلالة الفعل عليه وقيل الفاعل المحذوف هو رأي أي وظهر لهم رأي لم يكونوا يعرفونه من قبل وهذا الفاعل حذف لدلالة ليسجننه عليه.
(من بعد ما رأوا الآيات) قيل هي القميص وشهادة الشاهد وقطع(6/331)
الأيدي وقيل هي البركات التي فتحها الله عليهم بعد وصول يوسف إليهم ولم يجد ذلك فيهم بل كانت امرأته هي الغالبة على رأيه الفاعلة لما يطابق هواها في يوسف، وإنفاذ ما تقدم منها من الوعيد له بقولها ولئن لم يفعل ما آمره ليسجنن وليكونن من الصاغرين قال ابن عباس: الآيات قد القميص وأثرها في جسده وأثر السكين وقالت امرأة العزيز إن أنت لم تسجنه ليصدقنه الناس.
وعن ابن زيد قال: من الآيات كلام الصبي وقال قتادة: والآيات حزهن أيديهن وقد القميص، وأقول: أن كان المراد بالآيات الآيات الدالة على براءته فلا يصح عد قطع أيدي النسوة منها لأنه وقع منهن ذلك لما حصل لهن من الدهشة عند ظهوره لهن ما ألبسه الله سبحانه من الجمال الذي ينقطع عند مشاهدته عرى الصبر ويضعف عند رؤيته قوى التجلد وإن كان المراد الأيات الدالة على أنه قد أعطى من الحسن ما يسلب عقول المبصرين ويذهب بإدراك الناظرين فنعم يصح عد قطع الأيدي من جملة الآيات ولكن ليس هذه الآيات هي المرادة هنا.
(ليسجننه) اللام جواب قسم محذوف على تقدير القول أي قائلين والله ليسجننه وقرئ بالفوقية على الخطاب إما للعزيز ومن معه أو له وحده على طريق التعظيم وفي الخطط للمقريزي قال القضاعي سجن يوسف ببو صير من عمل الجيزة أجمع أهل المعرفة من أهل مصر على صحة هذا المكان وفيه أثر نبيين أحدهما يوسف سجن به المدة التي ذكر أن مبلغها سبع سنين والآخر موسى وقد بني على أثره بمسجد يعرف بمسجد موسى انتهى.
ثم أطال بيان حال ذلك السجن وموضعه وما يصنع هناك قيل وسبب ظهور هذا الرأي لهم في سجن يوسف أنهم أرادوا ستر القالة وكتم ما شاع في الناس من قصة امرأة العزيز معه، وقيل أن العزيز قصد بسجنه الحيلولة بينه وبين امرأته لما علم أنها قد صارت بمكان من حبه لا تبالي معه تحمل نفسها(6/332)
عليه على أي صفة كانت (حتى حين) أي إلى مدة غير معلومة كما قاله أكثر المفسرين وقيل إلى انقطاع ما شاع في المدينة.
وقال سعيد بن جبير: إلى سبع سنين وقبل إلى خمس وقيل إلى ستة أشهر وقد تقدم في البقرة الكلام في تفسير الحين وحتى بمعنى إلى، قال السدي: جعل الله ذلك الحبس تطهيراً ليوسف من همه بالمرأة وعن ابن عباس قال: عوقب يوسف ثلاث مرات: أما أول مرة فبالحبس لما كان من همه بها والثانية لقوله (أذكرني عند ربك فلبث في السجن بضع سنين) عوقب بطول الحبس، والثالثة حيث قال (أيتها العير إنكم لسارقون) فاستقبل في وجهه (إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل)(6/333)
وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (36)
(ودخل معه السجن فتيان) التقدير فسجنوه ودخل معه، ومع للمصاحبة وفتيان تثنية فتى وذلك يدل على أنهما عبدان له ويحتمل أن يكون الفتى اسماً للخادم وإن لم يكن مملوكاً قال ابن عباس: أحدهما خازن الملك على طعامه والآخر ساقيه وقد كانا وضعا للملك سماً لما ضمن لهما أهل مصر مالاً في مقابلة ذلك ثم إن الساقي رجع من ذلك وقال للملك لا تأكل الطعام فإنه مسموم وقال الخباز: لا تشرب فإن الشراب مسموم فقال الملك للساقي: إشرب فشرب فلم يضره وقال للخباز: كل فأبى فجرب الطعام على حيوان فهلك مكانه فحبسهما وكان دخولهما السجن مع دخول يوسف وقيل قبله وقيل بعده قال ابن جرير: أنهما سألا يوسف عن علمه فقال: إني أعبر الرؤيا فسألاه عن رؤياهما كما قص الله سبحانه.
(قال أحدهما إني أراني أعصر خمراً) أي رأيتني والتعبير بالمضارع لاستحضار الصورة والمعنى إني أراني أعصر عنباً فسماه باسم ما يُؤَوّل إليه لكونه المقصود من العصر وقراءة ابن مسعود وإني أعصر عنباً لا تدل على الترادف، قال الأصمعى: أخبرني المعتمر بن سليمان أنه لقي أعرابياً ومعه عنب فقال له(6/333)
ما معك قال خمر وقيل معناه أعصر عنب خمر فهو على حذف مضاف وقيل الخمر هو العنب حقيقة بلغة غسان وعمان وهذا الذي رأى هذه الرؤيا هو الساقي وكان بين دخوله السجن وبين الرؤيا خمس سنين وهذه الجملة مستأنفة بتقدير سؤال وكذلك الجملة التي بعدها وهي:
(وقال الآخر) أي الخباز (إني أراني أحمل فوق رأسي خبزاً) ثم وصف الخبز هذا بقوله (تأكل) أي تنهش (الطير منه) ثم قالا ليوسف جميعاً بعد أن قصا رؤياهما عليه (نبئنا بتأويله) أي بتأويل ما قصصناه عليك من مجموح المرئيين أو بتأويل المذكور لك من كلامنا وقيل أن كل واحد منهما قال له عقب قص رؤياه عليه فيكون الضمير راجعاً إلى ما رآه كل واحد منهما وقيل أن الضمير في بتأويله موضوع موضع اسم الإشارة بطريق الاستعارة فإن الإشارة يشار به إلى متعدد والتقدير بتأويل ذلك
(إنا نراك من المحسنين) أي من الذين يحسنون عبارة الرؤيا وكذا قال الفراء: أن معناه من العالمين الذين أحسنوا العلم وقال ابن إسحاق من المحسنين إلينا إن فسرت ذلك أو من المحسنين إلى أهل السجن قد روي أنه كان كذلك قال قتادة: وكان يعزي حزنتهم ويداوي مرضاهم ورأوا منه عبادة واجتهاداً فأحبوه وعن الضحاك قال: كان إحسانه إذا مرض إنسان في السجن قام عليه وإذا ضاق عليه المكان أوسع له وإذا احتاج جمع له وعن ابن عباس قال: دعا يوسف لأهل السجن فقال اللهم لا تعم عليهم الأخبار وهون عليهم مر الأيام.(6/334)
قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (37) وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (38) يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (39)(6/335)
قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (37)
(قال لا يأتيكما طعام ترزقانه) من جهة الله أو الملك والجملة صفة لطعام (إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما) مستأنفة جواب سؤال مقدر ومعنى ذلك أنه يعلم شيئاً من الغيب بإلهام الله تعالى وأنه لا يأتيهما إلى السجن طعام في اليقظة إلا أخبرهما بماهيته قبل أن يأتيهما وقيل أراد به في النوم والأول هو الأظهر وهذا ليس من جواب سؤالهما تعبير ما قصاه عليه بل جعل عليه السلام مقدمة قبل تعبيره لرؤياهما بياناً لعلو مرتبته في العلم وأنه ليس من المعبرين الذين يعبرون الرؤيا عن ظن وتخمين فهو كقول عيسى عليه السلام وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم.
وإنما قال يوسف لهما بهذا ليحصل الانقياد له منهما فيما يدعوهما إليه بعد ذلك من الإيمان بالله والخروج من الكفر والاستثناء مفرغ من أعم الأحوال أي لا يأتيكما في حال من الأحوال إلا حال ما نبأتكما أي بينت لكما ماهيته وكيفيته وسماه تأويلاً بطريق المشاكلة لأن الكلام في الرؤيا أو المعنى إلا نبأتكما بما يؤول إليه الكلام من مطابقة ما أخبركما به للواقع.
(ذلكما) أي التأويل والخطاب للسائلين له عن تعبير رؤياهما (مما علمني ربي) مما أوحاه إليّ وألهمني إياه لا من قبيل الكهانة والتنجيم ونحو ذلك مما يكثر فيه الخطأ، ثم بين لهما أن ذلك الذي ناله من هذه الرتبة العلية والعلوم(6/335)
الجمة هو سبب ترك الملة التي لا يؤمن أهلها بالله ولا بالآخرة واتباعه لملة الأنبياء من آبائه فقال.
(إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله) وهو كلام مستأنف يتضمن التعليل لما قبله والمراد بالترك هو عدم التلبس بذلك من الأصل وعدم الالتفات إليه بالكلية لا أنه قد كان تلبس به ثم تركه كما يدل عليه قوله ما كان لنا أن نشرك بالله ثم وصف هؤلاء القوم بما يدل على تصلبهم في الكفر وتهالكهم عليه فقال (وهم بالآخرة هم كافرون) أي هم يختصون بذلك دون غيرهم لإفراطهم في الكفر بالله.(6/336)
وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (38)
(واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب) وسماهم آباء جميعاً لأن الأجداد آباء وقدم الجد الأعلى ثم الجد الأقرب ثم الأب لكون إبراهيم هو أصل هذه الملة التي كان عليها أولاده ثم تلقاها عنه إسحاق ثم يعقوب وإنما قاله عليه السلام ترغيباً لصاحبيه في الإيمان وتنفيراً لهما عما كانا عليه من الشرك والضلال وقدم ذكر تركه لملتهم على ذكر اتباعه لملة آبائه لأن التخلية متقدمة على التحلية.
(ما كان) أي ما صح وما استقام فضلاً عن الوقوع (لنا) معاشر الأنبياء لقوة نفوسنا ووفور علومنا (أن نشرك بالله من شيء) أي شيء كان من ملك أو جني أو إنسي فضلاً أن نشرك به صنماً لا يسمع ولا يبصر قال الواحدي: لفظة من زائدة مؤكدة كقولك ما جاءني من أحد.
(ذلك) أي الإيمان والتوحيد وعدم الإشراك والعلم الذي رزقنا (من فضل الله) أي ناشئ من تفضلاته (علينا) ولطفه بنا بما جعله لنا من النبوة المتضمنة للعصمة عن معاصيه (و) من فضل الله (على الناس) كافة ببعثه الأنبياء إليهم وهدايتهم إلى ربهم وتبين طرائق الحق لهم (ولكن أكثر الناس)(6/336)
وهم الكفار (لا يشكرون) الله سبحانه على نعمه التي أنعم بها عليهم فيؤمنون به ويوحدون ويعملون بما شرعه لهم أو لا يستدلون بما نصب لهم من الدلائل وإنزال الآيات فيلغونها كمن يكفر النعمة ولا يشكرها أو لا يصرفون تلك القوى والمشاعر إلى ما خلقت هي له ولا يستعملونها فيما ذكر من أدلة التوحيد الأفاقية والأنفسية والعقلية والنقلية.
قال قتادة: إن المؤمن ليشكر ما به من نعمة الله ويشكر ما بالناس من نعمة، ذكر لنا أن أبا الدرداء كان يقول يا رُبَّ شاكر نعمة غير منعم عليه لا يدري ويا رب حامل فقه غير فقيه ثم دعاهم إلى الإسلام صريحاً فقال:(6/337)
يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (39)
(يا صاحبي السجن) جعلهما مصاحبين للسجن لطول مقامهما فيه وقيل المراد يا صاحبي في السجن لأن السجن ليس بمصحوب بل مصحوب فيه وأن ذلك من باب يا سارق الليلة وعلى الأول يكون من باب الإضافة إلى الشبيه بالمفعول به والمعنى يا ساكني السجن كقوله أصحاب الجنة وأصحاب النار قال قتادة: لما عرف يوسف أن أحدهما مقتول دعاهما إلى حظهما من ربهما وإلى نصيبهما من آخرتهما فقال:
(أأرباب متفرقون) الاستفهام للإنكار مع التوبيخ والتقريع ومعنى التفرق هنا هو التفرق في الذوات والصفات والعدد أي هل الأرباب المتفرقون في ذواتهم المختلفون في صفاتهم المتنافون في عددهم (خير) لكما يا صاحبي السجن (أم الله الواحد) أي المعبود بحق المتفرد في ذاته وصفاته الذي لا ضد له ولا ند ولا شريك (القهار) الذي لا يغالبه مغالب ولا يعانده معاند وقيل استفهام تقرير أي طلب الإقرار بجواب الاستفهام أي أقروا واعلموا أن الله هو الخير والأول أولى.(6/337)
مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (40) يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ (41)
أورد يوسف عليهما هذه الحجة القاهرة على طريق الاستفهام لأنهما كانا ممن يعبد الأصنام وقد قيل أنه كان بين أيديهما أصنام يعبدونها عند أن خاطبهما بهذا الخطاب ولهذا قال لهما(6/338)
مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (40)
(ما تعبدون من دونه إلا أسماء) فارغة لا مسميات لها وإن كنتم تزعمون أن لها مسميات وهي الآلهة التي تعبدونها لكنها لما كانت لا تستحق التسمية بذلك صارت الأسماء كأنها لا مسميات لها.
وقيل المعنى ما تعبدون من دون الله إلا مسمياته أسماء وقيل خطاب لأهل السجن جميعاً لا لخصوص الصاحبين، وهذا هو الأظهر وكذلك ما بعده من الضمائر لأنه قصد خطاب صاحبي السجن ومن كان على دينهم.
(سميتموها أنتم وآباؤكم) من تلقائكم بمحض جهلكم وضلالتكم وليس لها من الإلهية شيء إلا مجرد الأسماء لكونها جمادات لا تسمع ولا تبصر ولا تنفع ولا تضر والتقدير سميتموها آلهة من عند أنفسكم (ما أنزل الله بها) أي بتلك التسمية المستتبعة للعبادة (من سلطان) من حجة تدل على صحتها (إن) أي ما (الحكم) في أمر العبادة المتفرعة على تلك التسمية (إلا لله) عز سلطانه لأنه المستحق لها بالذات إذ هو الذي خلقكم وخلق هذه الأصنام التي جعلتموها معبودة بدون حجة ولا برهان (أمر أن لا) أي بأن لا (تعبدوا إلا إياه) حسبما تقضي به قضية العقل أيضاً والجملة مستأنفة أو حالية والأول هو الظاهر.(6/338)
والمعنى أنه أمركم بتخصيصه بالعبادة دون غيره مما تزعمون أنه معبود، ثم بين لهم إن عبادته وحده دون غيره هي دين الله الذي لا دين غيره فقال:
(ذلك) أي تخصيصه تعالى بالعبادة (الدين القيم) أي المستقيم الثابت العدل الذي تعاضدت عليه البراهين عقلاً ونقلاً (ولكن أكثر الناس لا يعلمون) إن ذلك هو دينه القويم وصراطه المستقيم لجهلهم وبعدهم عن الحقائق أو لا يعلمون ما يصيرون إليه من العذاب فيشركون وهذا يدل على أن العقوبة تلزم العبد وإن جهل إذا أمكن له العلم بطريقه.
ثم بعد تحقيق الحق ودعوتهما إليه وبيانه لهما مقداره الرفيع ومرتبة علمه الواسع شرع في تفسير ما استفسراه ولكونه بحثاً مغايراً لما سبق فصله عنه بتكرير الخطاب فقال.(6/339)
يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ (41)
(يا صاحبي السجن أما أحدكما) أي الساقي وإنما أبهمه لكونه مفهوماً أو لكراهة التصريح للخباز بأنه الذي سيصلب (فيسقي ربه) أي مالكه (خمراً) وهي عهدته التي كان قائماً بها في خدمة الملك فكأنه قال أما أنت أيها الساقي فستعود بعد ثلاث من الأيام إلى ما كنت عليه ويدعوك الملك ويطلقك من الحبس.
(وأما الآخر) وهو الخباز فيخرج بعد ثلاث (فيصلب فتأكل الطير من رأسه) تعبيراً لما رآه من أنه حمل فوق رأسه خبزاً فتأكل الطير منه (قضي الأمر الذي فيه تستفتيان) وهو ما رأياه وقصاه عليه يقال استفتاه إذا طلب منه بيان حكم شيء سأله عنه مما أشكل عليه وهما قد سألاه تعبير ما أشكل عليهما من الرؤيا والمراد بالأمر ما يؤول إليه أمرهما ولذلك وحده قاله البيضاوي.
وقال الزمخشري: المراد بالأمر ما اتهما به من سم الملك وما سجنا من(6/339)
أجله عن ابن مسعود قال: ما رأى صاحبا يوسف شيئاً إنما تحالما ليجربا علمه فلما أول رؤياهما قالا إنما كنا نلعب ولم نر شيئاً فقال قضي الأمر، الآية يعني وقعت العبارة فصار الأمر على ما عبر يوسف وقال قوم بل كانا قد رأيا رؤيا حقيقة وعن أبي مجلز قال: كان أحد اللذين قصا على يوسف الرؤيا كاذباً وكان هذا التعبير بالوحي كما ينبئ عنه قوله قضي الأمر وقيل هو بالاجتهاد.(6/340)
وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (42) وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ (43)(6/341)
وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (42)
(وقال للذي ظن أنه ناج منهما) أي قال يوسف عليه السلام والظان هو أيضاً يوسف عليه السلام والمراد بالظن العلم لأنه قد علم من الرؤيا نجاة الشرابيّ وهلاك الخباز، هكذا قال جمهور المفسرين.
وقيل الظاهر أنه على معناه لأن عابر الرؤيا إنما يظن ظناً، والأول أولى وأنسب بحال الأنبياء، ولا سيما وقد أخبر عن نفسه عليه السلام بأنه قد أطلعه الله على شيء من علم الغيب كما تقدم.
(اذكرني عند ربك) هي معقول القول، أمره بأن يذكره عند سيده ويقول له إن في السجن غلاماً محبوساً ظلماً منذ خمس سنين ويصفه بما شاهده منه من جودة التعبير والاطلاع على شيء من علم الغيب فخرج.
(فأنساه الشيطان ذكر ربه) وكانت هذه المقالة منه صادرة عن ذهول ونسيان عن ذكر الله بسبب الشيطان.، فيكون ضمير المفعول في أنساه عائداً إلى يوسف عليه السلام، هكذا قال أكثر المفسرين، ويكون المراد بربه في قوله ذكر ربه هو الله سبحانه، أي أنسى الشيطان يوسف عليه السلام ذكر الله تعالى في تلك الحال. فقال للذي ظن أنه ناجٍ منهما يذكره عند سيده ليكون ذلك سبباً لانتباهه على ما أوقعه من الظلم البين عليه بسجنه بعد أن رأى من الآيات ما يدل على براءته، وذلك غفلة عرضت له عليه السلام فإن الإستعانة(6/341)
بالمخلوق في دفع الضرر وإن كانت جائزة إلا أنه لما كان مقام يوسف عليه السلام أعلى المقامات ورتبته أعلى الرتب وهي منصب النبوة والرسالة لا جرم صار مؤاخذاً بهذا القدر، فإن حسنات الأبرار سيئات المقربين.
وذهب جماعة من المفسرين إلى أن الذي أنساه الشيطان ذكر ربه وهو الذي نجا من الغلامين وهو الشرابي، والمعنى أنسى الشرابي الشيطان ذكر سيده، أي ذكره لسيده فلم يبلغ إليه ما أوصاه به يوسف عليه السلام من ذكره عند سيده، ويكون المعنى فأنساه الشيطان ذكر إخباره بما أمره به يوسف عليه السلام مع خلوصه من السجن ورجوعه إلى ما كان عليه من القيام بسقي الملك.
وقد رجح هذا بكون الشيطان لا سبيل له على الأنبياء. وأجيب بأن النسيان وقع من يوسف عليه السلام ونسبته إلى الشيطان على طريق المجاز، والأنبياء غير معصومين عن النسيان إلا فيما يخبرون به عن الله سبحانه.
وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون فإذا نسيت فذكروني (1). ورجح أيضاً بأن النسيان ليس بذنب، فلو كان الذي أنساه الشيطان ذكر ربه هو يوسف عليه السلام لم يستحق العقوبة على ذلك بلبثه في السجن بضع سنين، وأجيب بأن النسيان بمعنى الترك وأنه عوقب بسبب استعانته بغير الله سبحانه، ويؤيد رجوع الضمير إلى يوسف عليه السلام ما بعده من قوله (فلبث في السجن بضع سنين) ويؤيد رجوعه إلى الذي نجا من الغلامين قوله فيما سيأتي (الذي نجا منهما وادَّكر بعد أمة).
_________
(1) مسلم 572.(6/342)
(فلبث) يوسف عليه السلام (في السجن) بسبب ذلك القول الذي قاله للذي نجا من الغلامين أو بسبب ذلك الإنساء، أخرج ابن أبي الدنيا وابن جرير والطبراني عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لو لم يقل يوسف عليه السلام الكلمة التي قال ما لبث في السجن طول ما لبث حيث يبتغي الفرج من عند غير الله " (1). وعن عكرمة مرفوعاً نحوه وهو مرسل (بضع سنين) البضع ما بين الثلاث إلى التسع كما حكاه الهروي عن العرب وبه قال قتادة.
وحكى عن أبي عبيدة أن البضع ما دون نصف العقد، يعني ما بين واحد إلى أربعة، وقيل ما بين ثلاث إلى سبع قاله مجاهد، وقيل هو ما دون العشرة. وحكى الزجاج أنه ما بين الثلاث إلى الخمس، وقد اختلف السلف في تعيين قدر المدة التي لبث فيها يوسف عليه السلام في السجن، فقيل سبع سنين، قاله ابن جريج وقتادة ووهب بن منبه، وقيل اثنتي عشرة سنة، قاله ابن عباس، وقيل أربع عشرة سنة قاله الضحاك، وقيل خمس سنين.
وعن أنس قال: أوحي إلى يوسف عليه السلام من استنقذك من القتل حين هم إخوتك أن يقتلونك؟ قال: أنت يا رب، قال: فمن استنقذك من الجب إذ ألقوك فيه؟ قال: أنت يا رب، قال: فمن استنقذك من المرأة إذ همت بك؟ قال: أنت يا رب، قال: فما لك نسيتني وذكرت آدمياً؟ قال: جزعاً وكلمة تكلم بها لساني، قال: فوعزتي لأخلدنك في السجن بضع سنين، فلبث فيه سبع سنين، أخرجه ابن أبي شيبة وعبد الله بن أحمد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ، فالبضع مدة العقوبة لا مدة الحبس كله.
_________
(1) ابن كثير 2/ 479.(6/343)
وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ (43)
(و) لما دنا فرج يوسف عليه السلام (قال الملك) أي الملك الأكبر وهو الريان ابن الوليد الذي كان العزيز وزيراً له (إني أرى) أي رأيت في منامي (سبع بقرات سمان) خرجن من نهر يابس (يأكلهن سبع عجاف) أي مهازيل في غاية الضعف، والتعبير في الموضعين بالمضارع لاستحضار الصورة والسمان جمع سمين وسمينة، يقال رجال سمان كما يقال نساء كرام، والعجاف جمع عجفاء سماعي وقياس جمعه عجف لأن فعلى وافعل لا تجمع على فعال ولكنه عدل عن القياس حملاً على السمان لأنه نقيضه.
(و) رأيت (سبع سنبلات خضر) قد انعقد حبها (و) رأيت سبعاً (أخر يابسات) وهي التي قد بلغت حد الحصاد، وإنما حذف اسم العدد لأن التقسيم في البقرات يقتضي التقسيم في السنبلات وكان قد رأى إن السبع السنبلات اليابسات قد أدركت الخضر والْتَوَتْ عليها حتى غلبتها ولم يبق من خضرتهن شيء ولعل عدم التعرض لذكر هذا في النظم القرآني للاكتفاء بما ذكر من حال البقرات، ولما شاهد الناقص الضعيف قد استولى على القوي الكامل حتى غلبه وقهره أراد أن يعرف ذلك فقال:
(يا أيها الملأ أفتوني في رؤياي) الخطاب للأشراف منَ قومه، وقيل هم السحرة والكهنة والمعبرون للرؤيا، والمعنى أخبروني بحكم هذه الرؤيا (إن كنتم للرؤيا تعبرون) أي تعلمون عبارة الرؤيا وهي الانتقال من الصور الخيالية إلى المعاني النفسانية التي هي مثالها، وأصل العبارة مشتقة من عبور النهر وهو المجاوزة، فمعنى عبرت النهر بلغت شاطئه، فعابر الرؤيا يخبر بما يؤول إليه أمرها.
قال الزجاج: اللام في للرؤيا للبيان، وقيل هو لتقوية العامل وتأخير الفعل العامل فيه لرعاية الفواصل.(6/344)
قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ (44) وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (45) يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (46) قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ (47) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ (48)(6/345)
قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ (44)
(قالوا) هذه (أضغاث أحلام) أي تخاليطها وهي جمع ضغث وهو في الأصل كل مختلط من أخلاط من بقل أو حشيش أو غيرهما فاستعير للرؤيا الكاذبة، والأحلام جمع حلم وهي الرؤيا الكاذبة التي لا حقيقة لها كما يكون من حديث النفس ووسواس الشيطان، والإضافة بمعنى من أي هي أضغاث من أحلام أخرجوها من جنس الرؤيا التي لها عاقبة تؤول إليها ويعتني بأمرها وجمعوها وهي رؤيا واحدة مبالغة في وصفها بالبطلان كما في قولهم فلان يركب الخيل ويلبس العمائم لمن لا يملك إلا فرساً واحداً وعمامة فردة، أو لتضمنها أشياء مختلفة من البقرات السبع السمان والسبع العجاف، والسنابل السبع الخضر والأخر اليابسات.
فتأمل حسن موقع الأضغاث مع السنابل، فللَّه در شأن التنزيل، ويجوز أن يكون رأى مع هذه الرؤيا غيرها مما لم يقصه الله علينا. قال ابن عباس: أضغاث أحلام يقول مشتبهة، وعنه قال الكاذبة؛ وعن الضحاك مثله.
(وما نحن بتأويل الأحلام) المختلطة (بعالمين) يريدون بالأحلام المنامات الباطلة خاصة، أي ليس لها تأويل عندنا وإنما التأويل للمنامات(6/345)
الصادقة كأنه مقدمة ثانية للعذر لجهلهم بتأويله؛ نفوا عن أنفسهم علم ما لا تأويل له لا مطلق العلم بالتأويل.
وقيل إنهم نفوا عن أنفسهم علم التأويل مطلقاً ولم يدعوا أنه لا تعبير لهذه الرؤيا، وقيل إنهم قصدوا محوها من صدر الملك حتى لا يشتغل بها ولم يكن ما ذكروه من نفي العلم حقيقة.(6/346)
وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (45)
(وقال الذي نجا منهما) أي من الغلامين، وهو الساقي الذي قال له يوسف عليه السلام: اذكرني عند ربك (وادَّكر) بالدال المهملة على قراءة الجمهور وهي الفصيحة، وقرئ بالمعجمة أي تذكر الساقي يوسف عليه السلام وما شاهده منه من العلم بتعبير الرؤيا (بعد أمة) مدة طويلة وحين بعيد، ومنه إلى أمة معدودة إلى وقت قال ابن درستويه: والأمة لا تكون على الحين إلا على حذف مضاف وإقامة المضاف إليه مقامه، كأنه قال: والله أعلم وادكر بعد حين أمة أو بعد زمن أمة.
قيل وسمى الحين من الزمان أمة لأنه جماعة أيام، والأمة الجماعة الكثيرة من الناس. قال الأخفش: هو في اللفظ واحد وفي المعنى جمع، وكل جنس من الحيوان أمة، وقرئ بعد أمة أي بعد نسيان، وإمة بكسر الهمزة أي بعد نعمة، وهي نعمة النجاة. وعن الحسن: بعد أمة من الناس. وقال ابن عباس: بعد سبع سنين وقيل تسع سنين وقيل سنتين.
(أنا أنبئكم بتأويله) أي أخبركم به بسؤالي عنه من له علم بتأويله، وهو يوسف عليه السلام أو أدلكم عليه أو أخبركم بمن عنده تأويله (فأرسلون) خاطب الملك بلفظ الجمع للتعظيم، أو خاطبه ومن كان معه من الملأ، طلب منهم أن يرسلوه إلى يوسف عليه السلام ليقص عليه رؤيا الملك حتى يخبره بتأويلها فيعود بذلك إلى الملك أو إلى السجن.(6/346)
فأتى السجن فقال يا(6/347)
يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (46)
(يوسف أيها الصديق) إنما سماه صديقاً لأنه لم يجرب عليه كذباً قط والصديق الكثير الصدق والذي لم يكذب قط، وقيل لأنه صدق في تعبير رؤياه التي رآها في السجن، وجملة مجيء الرسول ليوسف عليه السلام في السجن أربع مرات هذه أولاها.
(أفتنا) أي أخبرنا وبيِّن لنا (في سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات) وترك ذكر الرؤيا اكتفاء بما هو واثق به من فهم يوسف عليه السلام بأن ذلك رؤيا وأن المطلوب منه تعبيرها.
ولما عاين علو رتبته عليه السلام في الفضل عبر عن ذلك بالإفتاء ولم يقل كما قال هو وصاحبه أولاً نبئنا بتأويله، وفي قوله أفتنا مع أنه المستفتى وحده إشعار بأن الرؤيا ليست له بل لغيره ممن له ملابسة بأمور العامة، وأنه في ذلك معبر وسفير كما آذن بذلك حيث قال (لعلي أرجع إلى الناس) أي إلى الملك ومن عنده من الملأ بتأويل هذه الرؤيا أو إلى أهل البلد إذ قيل أن السجن لم يكن فيه.
(لعلهم يعلمون) ما تأتي به من تأويل هذه الرؤيا أو يعلمون فضلك ومنزلتك ومعرفتك لفن الرؤيا، وإنما لم يبت الكلام فيها لأنه لم يكن جازماً بالرجوع فربما اخترمته المنية دونه ولا يعلمهم.(6/347)
قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ (47)
(قال تزرعون) مستأنفة كغيرها مما يرد هذا المورد (سبع سنين دأباً) أي متوالية متتابعة، قرئ بفتح الهمزة وسكونها وهما لغتان في مصدر دأب في العمل إذا جد فيه وتعب، قال الفراء: حرك لأن فيه حرفاً من حروف الحلق، وكذلك كل حرف فتح أوله وسكن ثانيه فتثقيله جائز في كلمات معروفة.
وأصل معنى الدأب التعب ويكنى به عن العادة المستمرة لأنها تنشأ عن(6/347)
مداومة العمل اللازم له التعب وانتصابه بفعل مقدر أي تدأبون دأباً، قاله سيبويه، أو على أنه مصدر واقع موقع الحال فيكون فيه الأوجه المعروفة إما المبالغة وإما وقوعه موقع الصفة وإما على حذف مضاف أي دائبين أو ذوي دأب، أو جعلهم نفس الدأب مبالغة، فعبر يوسف عليه السلام السبع البقرات السمان والسنبلات الخضر بسبع سنين فيها خصب، والعجاف واليابسات بسبع سنين فيها جدب وأوَّلَ ابتلاع العجاف السمان بأكل ما جمع في السنين المخصبة في السنين المجدبة، واستدل بالسبع الخضر على ما ذكره في التعبير من قوله:
(فما حصدتم) في كل سنة من السنين المخصبة (فذروه) أي ذلك المحصود (في سنبله) وقصبه ليكون القصب علفا للدواب ولا تفصلوه عنها لئلا يأكله السوس كما هو شأن غلال مصر ونواحيها، قيل وهذه نصيحة منه لهم خارجة عن التعبير وما شرطية أو موصولة وسنبل فنعل بضم الفاء والعين الواحدة سنبلة، يقال سنبل الزرع أي أخرج سنبله.
(إلا قليلاً مما تأكلون) في هذه السنين المخصبة فإنه لا بد لكم من فصله عن سنبله وإخراجه عنها، واقتصر على استثناء المأكول دون ما يحتاجون إليه من البذر الذي يبذرونه في أموالهم لأنه قد علم من قوله تزرعون.(6/348)